شرح أصول الكافي للمازندراني

اشارة

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

المجلد 1

اشارة

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

حياة المؤلف

هو المولى محمد صالح السّرّوي المازندراني - قدَّس سرُّه - كان رحمه الله - من أعاظم العلم، ونقدة الحديث، وفطاحل العرفان، جامعاً للمعقول والمنقول، ماهراً في الأُصول والفروع، أزهد أهل زمانه وأعبدهم وأروع أهل أوانه وأورعهم، قل من يساويه أو يدانيه في الزهد من أهل دهره. وقد يعبر عنه بفخر المحققين الصالح الزاهد المجاهد.

ورد محروسة إصبهان في حلمه، وسكن بها، وتتلمذ لعلمائها الأعيان منهم المولى عبد الله التستري. وولده المولى حسنعلى، والمولى محمد تقي المجلسي، وتزوج بابنته الكبرى (آمنة بيكم) التي هي معروفة بالفضل والعلم والدين، ورزقه الله تعالى منها بنات وبنين، ومن جملة بناتها زوجة مولينا محمد أكمل الأصبهاني والدة الأستاذ الأكبر المولى محمد باقر البهبهاني.

توفي - قدس سره - بأصبهان سنة 1081 أو 1086. والظاهر أن الاختلاف نشأ مما كتب على مزاره الشريف في تاريخ وفاته في مرثية طويلة بالفارسية حيث قال:

هاتفى گفت بتاريخ كه آه *** صالح دين محمد شده فوت

فإذا حسبنا مادة التاريخ من لفظه (آه) الواقعة في المصراع الأول يكون 1086 وإن لم نحسبها يكون 1081.

ودفن بأصبهان في مقبرة أستاذه العلامة المجلسي حنب المسجد الجامع مما يلي رجله - رحمهما الله.

وهو مزار معروف يزار.

وأما شرحه هذا فهو كتاب علمي كبير قل مثله، شرح الكافي مزجيا وفسر غريبه، وأبلج معضله، وشرح غامضه في مجلدات ضخمة فخمة. وهو من أحسن شروح الكافي وضعا، وأتمها نفعا، وأبعدها عن الافراط والتفريط، يطفح بالفضيلة، ويمتاز عما سواه من الشروح بجودة السرد ورصانة البيان، ويعرب عن طول باع مؤلفه الفذ في التحقيق وسعة اطلاعه، ولا غنى عنه لأي باحث متضلع في الحديث لما أودعه من العلم الغزير والدقائق والرقائق.

ألا وهي بشرى نزفها إلى العلماء ورواد الفضل ومعتنقي الحديث والرواية من المثقفين الذين يرجون أن تخدم تراثنا العلمي الديني سيما كتب الحديث على النحو الذي يقرب منالها وييسر الانتفاع بها.

فبذلنا غاية الوسع في تصحيح الكتاب على أوسع مدى مستطاع ولم نأل جهدا في تنميقه ومقابلته وعرضه على النسخ المصححة المقروءة على العلماء وتخريج أحاديثه، وتوضيح مشكله.

ص: 3

هذا ولأستاذنا العلامة الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني خطوات واسعة ويد ناصعة في إعانتنا بإحياء هذا التراث العلمي فأفاد بأثارة علمه الغزير وفضله الجم وعلق على الكتاب تعليقات راقية وشروحا وافية، حافلة بآرائه العملية التي لا غنى عنه لأي بحاثة منقب ديني تروقه دراية الحديث فضلا عن روايته، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين آمين رب العالمين، ونرمز إلى تعاليقه ب (ش).

علي أكبر الغفاري * واعتمدنا في التصحيح والمقابلة على نسخ عدة:

1 - نسخة كاملة مصححة مقروءة على بعض العلماء في ثلاث مجلدات، تفضل بها الفاضل الألمعي السيد أبو الحسن الكتابي الأصبهاني أدام الله تعالى عمره.

2 - نسخة نفيسة ثمينة مصححة جدا، كتبها السيد محمد بن السيد زين العابدين وأرخها 1088 لخزانة كتب سماحة الحجة آية الله السيد شهاب الدين النجفي المرعشي نزيل قم المشرفة لاضحى ظله. وقد وعدنا بإرسال نسخ أخرى.

3 - نسخة مصححة (من أول الكتاب إلى تمام كتاب الحجة) لخزانة كتب المحقق المدقق البارع، سيدنا الحجة السيد موسى المازندراني دام ظله العالي.

4 - نسخ; مصححة (شرح كتاب الحجة) لمكتبة البحاثة، الاستاد السيد محمد مشكاة. وللمعظم له نسخة أخرى (شرح كتاب الروضة) تفضل بإرسالها أدام الله إفضاله.

5 - نسخة (من كتاب الإيمان والكفر) مصححة لخزانة كتب أستاذنا العلامة الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني أبقاه الله منارا للحق.

6 - نسخة مصححة مؤرخة 1202 كتبها محمد علي بن شاه مراد التنكابني لمكتبة العلم الحجة المهذب البارع السيد محي الدين العلوي الطالقاني دام ظله.

7 - نسخة نفيسة ثمينة موشحة بالحواشي (شرح كتاب التوحيد فقط) لخزانة كتب المحقق، الأستاذ السيد محمد باقر السبزواري أدام الله عمره.

8 - نسخة نفيسة من أول الكتاب إلى آخر كتاب التوحيد تاريخها سنة 1124 تفضل بإرسالها السيد الجليل والحبر النبيل السيد صدر الدين الجزائري أدام الله إفضاله.

ص: 4

تقدمة للمحشي

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله الذي ألهم قلوب العارفين وجوب حمده، وأنطق لسان المتكلمين بشكر رفده، والصلاة على النبي الهادي إلى سبيل الرشاد والداعي إلى طريق الخير والسداد، وآله أمناء الدين وحجج رب العالمين.

وبعد فإن كتاب الكافي أجمع الكتب المصنفة في فنون علوم الإسلام وأحسنها ضبطا، وأضبطها لفظا، وأتقنها معنى، وأكثرها فائدة، وأعظمها عائدة، حائز ميراث أهل البيت وقمطر علومهم، فهو بعد القرآن الكريم أشرف الكتب وهو أحد الثقلين اللذين أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بهما وبأنا لو تمسكنا بهما لن نضل. وتصدى جماعة من أعاظم العلماء لشرحه خصوصا لقسم الأصول ومن جملتها هذا الشرح وهو للمولى العظيم العارف الحكيم المحقق الجامع للفضائل العملية والفنون العقلية والشرعية المولى محمد صالح بن أحمد بن شمس الدين السروي المازندراني المتوفى سنة 1086 وهو شرح مزجي حسن العبارة خال من التكلف لم يترك شيئا يحتاج إلى بيان إلا أتى به وسنذكر إن شاء الله ترجمة الشارح ومزايا شرحه ليكون الناظر فيه على بصيرة وهذا الشرح مع كمال جودته وكثرة فوائده لم يطبع إلى أن قيض الله في زماننا أناسا شمروا عن ساق الاجتهاد لنشر الكتب الدينية وطبع الآثار النبوية وعلوم أهل بيت الرسالة، ومنها هذا الشرح فقوبل بنسخ مخطوطة كثيرة وصحح بغاية الدقة وخرج صديقنا الفاضل الخريت (علي أكبر الغفاري) مصحح الكتاب أسناد الأحاديث الواردة في الشرح وذكر المأخذ في ذيل الصفحات وعلقت أنا عليه بعض ما ورد في خاطري الفاتر وفكري القاصر أثناء المطالعة مما يوضح كلام الشارح أو يسد ثلمة فيه أو يرفع ما يوهم التناقض منه وغير ذلك، من الفوائد، والمرجو من القارئين أن يعذرونا إن وقفوا على خطأ وسهو ويقيلونا من عثرة أو زلة فإنا معترفون بالقصور ونسئلهم لنا الدعاء وطلب المغفرة ولهم من الله التوفيق والهداية إن شاء الله.

والفضل في عمل هذا الخير للسيد القدوة الموفق لكل سعادة (الحاج سيد إسماعيل الكتابچي) وإخوانه الغر، أصحاب المكتبة الإسلامية المقدمين على نشر آثار الائمة الطاهرين نرجو لهم ولنا التوفيق لإتمام هذا الغرض.

ص: 5

ص: 6

ترجمة الشارح ووصف شرحه

قال في الروضات بعد ذكر الألقاب على ما هو دأبه: محمد صالح بن مولينا أحمد السروي المازندراني ثم الأصفهاني، كان من العلماء المحدثين والعرفاء المقدسين، ماهرا في المعقول والمنقول، جامعا للفروع والأصول ورد ماء مدين إصفهان وتلمذ عند علمائها الأعيان مثل المولى عبد الله التستري أو ولده المولى حسن علي والمولى محمد تقي المجلسي وتزوج بابنته الكبرى المعروفة بسمة الفضل والعلم والدين ورزقه الله منها بنات وبنين ومن جملة بناتها زوجة مولانا محمد أكمل الأصفهاني التي هي والدة سمينا المروج البهبهاني رحمة الله عليهم أجمعين إلى أن قال: توفي بأصفهان سنة إحدى وثمانين بعد الألف ودفن مما يلي رجل صهره المجلسي في قبته المشهورة ثمة ونظموا في تاريخ وفاته بالفارسية من جملة مرثية طويلة كتبت على لوح مزاره الشريف (صالح دين محمد شده فوت) انتهى ما أردنا نقله.

وأقول: كان وفاة المجلسي الأول أبي زوجته سنة ألف وسبعين قبل ما ذكر في تاريخ وفاة صاحب الترجمة بإحدى عشرة سنة، فكان هو والمجلسي أبو زوجته متقاربي السن وكان وفاة المجلسي الثاني بعد وفاة صاحب الترجمة بثلاثين سنة والحق ما ذكرناه أولا من أن وفاته سنة 1086 بزيادة كلمة آه على المصراع وأورده المحدث النوري في خاتمة المستدرك حكايات لا فائدة فيها في تراجم الرجال ولعله أخذها من أفواه الناس لا من مأخذ يعتمد عليه. وفي بعض ما حكاه شك قال: كان - رحمه الله - يقول أنا حجة على الطلاب من جانب رب الأرباب; لأنه لم يكن في الفقر أحد أفقر مني وقد مضى علي برهة لم أقدر على ضوء غير ضوء المستراح، وأما في الحافظة والذهن فلم يكن أسوء مني إذا خرجت من الدار كنت أضل عنها وكنت أنسى أسامي ولدي وابتدأت بتعلم حروف التهجي بعد ثلاثين من عمري فبذلت مجهودي حتى من الله تعالى علي بما قسمه لي. وهذا نصح حسن، لكن روى عن الوحيد البهبهاني أنه شرح معالم الأصول في صغر سنه قال: ومن لاحظ شرح معالم الأصول علم مهارته في قواعد المجتهدين في ذلك السن انتهى. وهذا ينافي شروعه في تعلم حروف التهجي بعد الثلاثين، وروى أيضا أنه بعد فراغه من شرح أصول الكافي أراد أن يشرح فروعه أيضا فقيل له يحتمل أن لا يكون لك رتبة

ص: 7

الاجتهاد فترك لأجل ذلك شرح الفروع.

وقال شيخنا المحقق الحفظة وارث آثار العلماء صاحب الذريعة أطال الله بقاءه خرج منه أي من شرح الكافي للمولى صالح شرح كتاب العقل والجهل والتوحيد والحجة والايمان والكفر والدعاء والزكاة والخمس وجميع كتاب الروضة. وقال المحدث النوري إن السيد حامد حسين الهندي طاب ثراه ذكر في بعض مكاتيبه إلي من بلدة لكهنو أنه عثر على مجلد من مجلدات شرحه على الفروع وعزم على استنساخه وإرساله إلي فلم يمهله الأجل. وهذا يناقض ما ذكر من امتناعه عن شرح الفروع وليس الاجتهاد في الفروع أصعب حصولا وأمنع وصولا من التمهر في الأصول حتى يقتحم في الأصول من يحترز عن الفروع والخطأ في الفروع سهل، بخلاف الأصول ومن قدر على شرح أحاديث الأصول وبيان الأدلة فيها وتأويل ما يخالف أصول المذهب ببيان شاف فهو قادر على حل مسائل الفقه وفهم معاني أخبار الفروع بطريق أولى، والذي يظهر من بعض عبارات الشارح أن علم الفروع عنده لم يكن بمثابة المعارف في الشرف والأهمية ولذا لم ينظر إليه إلا بالقصد الثاني وصرح بذلك في بعض كلامه قال: إن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع في نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدل عليه قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فقد جعل العلة الغائية من الفقه الانذار والتخويف ومعلوم أن ذلك لا يترتب إلا على هذه المعارف لا على معرفة فروع الطلاق والمساقاة والسلم وأمثال ذلك.

ثم إن الشارح - رحمه الله - كان راغبا في التصوف شديد التمسك به لكن تصوفه وتصوف أمثاله من علماء ذلك العصر كان خاليا من البدع والأهواء وكانوا مرتاضين متشرعين عاملين في السلوك والرياضة بما يوافق الشرع المبين البتة، قال في بعض كلامه: فيه أي في الحديث دلالة على أنه لا بد للناس من أستاذ مرشد عالم ليحصل به نجاتهم. وفي كلام آخر له: " وبين أهل السلوك خلاف في أنه هل يضطر السالك إلى الشيخ العارف أم لا، وأكثرهم يرى وجوبه ويفهم ذلك من كلامه (عليه السلام) وبه يتمسك الموجبون له ويؤيده أن طريق المريد مع شيخه العارف بالله أقرب إلى الهداية وبدونه أقرب إلى الضلالة فلذلك قال (عليه السلام) " فنجا " أي النجاة متعلقة به ودلائل الفريقين مذكورة في مصباح العارفين " انتهى ثم إن الشارح مع تبحره في الحديث والنقليات كان عارفا بالعلوم المتداولة في عصره كالعلوم الرياضية والطب والكلام والحكمة الإلهية والمفهوم من تحقيقاته أنه كان خبيرا متضلعا بها وكان في الأكثر معتقدا لأصول صدر المتألهين والفيض - قدس سرهما - وكان يعترف بتشكيك الوجود وأنه ذو مراتب وأن وجود الممكن بالنسبة إلى الواجب وجود

ص: 8

ربطي تعلقي وكان معتقدا للحركة الجوهرية والأجسام المثالية وبتجسم الأعمال في الآخرة وأنها نشأة أخرى، وكان معتقدا بتجرد النفوس وإمكان إتحادها بالعقول المجردة وغير ذلك من أصول صدر المتألهين، ولم يكن مقلدا يقبل مجازفات قدماء المشائين التي لا دليل لهم عليها على ما هو دأب بعض المتفلسفة كحصر العقول في العشرة وأن الله تعالى خلق كل عقل مع فلك إلى العقل العاشر، ولم يكن ينكر وجود العقول الجوهرية ولكن كان ينكر ما يوهم ظاهر كلامهم أن الله تعالى فوض أمر العالم إلى العقول ووساطة العقول عند أهل الحق نظير سببية الشمس والريح والماء في النبات، وبالجملة كانت فلسفته حكمة شرعية أو شريعة مستدلة بالعقل; ومع ذلك كان في التعبير بحيث لا يشمئز منه طبع الجاهل، وأذكر في ذلك مثالا من واعظ خبير باصطلاح الحكماء - وكان يخطب في المشهد الرضوي عليه آلاف التحية والثناء ورزقنا الفوز بسعادة زيارته أبدا دائما - فقال الواعظ في ضمن كلامه في تحقيق الوجود وأن الوجود الحق هو عين ذات الله تعالى ولذلك يجب أن يقال: هو وجود ولا يقال هو موجود بمعنى أنه ذات له الوجود، توهم بعض الحاضرين أنه يريد إنكار وجود الواجب فاستشاط وقام وخرج.

وبالجملة فالشارح حسن التعبير ولا يتكلم على اصطلاحات خاصة بهم لا يتبادر معناها إلى ذهن الأكثر ومع ذلك فإنه يأتي بجمل متعاطفة متأكدة وقرائن متكررة يوجب التطويل. وقد يعترض على السيد المحقق الداماد في اختياره الغريب من الكلمات مثل كلمة «الحرص» في الحديث الثاني عشر «التوكل وضده الحرص» قال السيد: ضده الحرض بالضاد المعجمة وكذلك «الفهم وضده الحمق» قال الصحيح «القهم» بالقاف وقد يعترض على الحكيم المحقق المدقق استاد العلماء صدر المتألهين (قدس سره) في تعبيراته العويصة البعيدة عن أذهان الأكثرين ولكن اعتراضاته غالبا مناقشات لفظية ومؤاخذات تافهة والحق أن الصدر لم يكتب شرحه للأكثرين ولا يرد عليه شئ مما أورده، ولا يجب على العلماء أن يقتصروا على ما يفهمه جميع الناس، بل لأهل الدقة والذوق حق على العلماء يجب الإيفاء به ولا يعبؤ بما يعتقده كثير من أن ما لا يفهمه العامة من دقائق الحكمة ورقائق المعرفة فهو باطل فإن الناس مختلفون وما يعرفه المدقق الخبير يعسر على غيره، ويجب على من لا يفهم معنى أن لا يسرع إلى رده وإبطاله.

ثم إن من أهم ما يجب أن يعلم أن الاعتماد في الأصول على العقل والكتاب والأخبار المتواترة وبالجملة ما يوجب اليقين دون أخبار الآحاد، والأحاديث الواردة في أبواب الأصول إنما يعتمد عليها إذا كانت موافقة لاعتقاد الشيعة الإمامية المعلوم بالقطع واليقين مما صرف العلماء عمرهم واستفرغوا جهدهم في استخراجها من الأدلة اليقينية، وأما ما خالفه فمأول أو مردود فلذلك ترى أن أكثر أحاديث الأصول في الكافي غير صحيحة الإسناد ومع ذلك أورده الكليني - رحمه الله - معتمدا عليها لاعتبار

ص: 9

متونها وموافقتها للعقائد الحقة ولا ينظر في مثلها إلى الإسناد.

ورأيت أن أشير إشارة مختصرة إلى عقائد الطائفة هنا وأذكر ما ذكره أعلم علمائنا وأوثقهم أعني العلامة الحلي - قدس سره - في الباب الحادي عشر ونبذة من غيره ليكون الناظر في الشرح على بصيرة تحفظه من التحير وتشتت الفكر عند اختلاف التأويلات ووجوه التفاسير، ويجعل العقيدة المعلومة أصلا يرجع ما يخالفه ظاهرا إليه إن شاء الله.

فأقول: «اعتقادنا في الايمان أنه يجب فيه اليقين ولا يكتفي فيه بالظن إذ لم يعهد من أحد من المسلمين أن يكتفي في الحكم بإسلام الكافر بأن يقول: أظن أن لا إله إلا الله وأظن أن محمدا رسول الله، بل صيغة الإسلام «أشهد» وهي أدل على اليقين من «أعلم» وأمثاله ونسب ذلك العلامة إجماع المسلمين وهو حق. واعتقادنا فيه أنه يجب أن يكون بالدليل لا بالتقليد لأن الاعتقاد التقليدي ليس علما ولأن الله تعالى ذم أقواما بتقليد آبائهم، ولأن التقليد لو كان إيمانا كان الكفار أيضا معذورين ولأن من يقلده الإنسان إن ثبت عصمته بالدليل اليقين فقوله يفيد العلم وليس ذلك تقليدا وإن لم يثبت عصمته يحتمل الخطأ عليه في قوله واعتقاده ولا يفيد قوله شيئا، واعتقادنا في الايمان أنه التصديق بالجنان فقط وأما الاقرار باللسان فهو علامة عليه فلو علم إيمان رجل من علامة أخرى كفى وليس العمل بالأركان أيضا جزء من الايمان لأن الإخلال بالواجبات وارتكاب المناهي لا يوجب الكفر بالاتفاق، وأيضا اعتقادنا فيه أنه لا يزيد ولا ينقص بنفسه لأن اليقين هو عدم احتمال الخلاف فإن احتمل الخلاف لم يكن إيمان، وإن لم يحتمل كان اليقين حاصلا وليس لعدم احتمال الخلاف مراتب كمراتب الظن، وإنما يكون الزيادة في الأدلة والمعتقدات والآثار، مثلا يعرف أحدنا إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بدليل واحد ولا يحتمل الخلاف، ويعرفها آخر بألف دليل ولا يحتمل الخلاف فهذا الاختلاف في الأدلة لا في نفس اليقين، وأيضا يعرف أحد أن الله تعالى واحد لا شريك له ويعلم ذلك يقينا لا يشك فيه أصلا، ويعرف آخر أسمائه وصفاته ومعاني كل واحد وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بالأدلة وغير ذلك مما لا حصر له، فهذه الكثرة في المعتقدات، ثم إن بعض الناس يؤثر يقينه في العمل أكثر من تأثيره في الآخر فيخاف من عذاب الله أشد من آخر فهذا الاختلاف في الخوف، وهو من آثار الايمان بالمعاد لا نفس الايمان، والمؤمن لا يشك في المعاد ولا يتصور أن يكون أحد منهم يحتمل الخلاف والآخر لا يحتمله أو أحد يحتمل احتمالا ضعيفا والآخر احتمالا قويا. واعتقادنا في الله وصفاته ما هو معروف من أنه عالم بكل شئ جزئي وكلي من غير أن يكون له جارحة وعضو، وعلمه بالجزئيات علم حضوري على ما حققه المتأخرون من الحكماء كالمحقق الطوسي - قدس سره - وقال بعض المتكلمين: إن بصره بمعنى العلم

ص: 10

بالمبصرات وسمعه بمعنى العلم بالمسموعات ولا يطلق عليه اللامس والذائق والشام مع علمه بالملموسات والمذوقات والمشمومات تعبدا شرعيا أو لغويا، وأيضا أنه تعالى قادر حي مريد كاره مدرك قديم أزلي باق أبدي متكلم وكلامه مخلوق حادث ليس قديما كما يقول به الأشاعرة، وأنه صادق لقبح الكذب عليه واعتقادنا في هذه الصفات أنه لا تشبه صفات الإنسان فهو موجود قائم بذاته وليس بجسم ولا حالا في جسم ولا محل له ولا جهة ولا يصح عليه التأثرات النفسانية كاللذة والألم والشهوة والغضب والأسف والحزن وأنه لا يتحد بغيره كما يقول به النصارى والغلاة من الشيعة، وأما الاتحاد في عرف المتصوفة فتصور معناه أشكل من التصديق بصحته وبطلانه، والحق السكوت عنه، ونعم ما قال شارح الباب الحادي عشر بعد ابطال الاتحاد بمعناه المتبادر: فإن عنوا غير ما ذكرناه فلا بد من تصوره أولا ثم يحكم عليه وإن عنوا ما ذكرناه فهو باطل قطعا. واعتقادنا في الله تعالى أنه لا يرى بالبصر وأنه لا شريك له، وليست صفاته معاني زائدة على ذاته مثلا ليست حياته بنفس أو روح حيواني كما في أبداننا وليس صفاته منحصرة فيما ذكر بل لا يحيط بصفاته وأسمائه إلا هو، واعتقادنا أن حسن الأفعال أو قبحها ذاتي يعرفان بالعقل ولذا يحكم بهما من لا يعترف بشرع أصلا واعتقادنا أنا فاعلون بالاختيار ولذلك يصح من الله تكليفنا ولو كنا مجبورين قبح أن يخلق الفعل فينا ثم يعذبنا عليه.

واعتقادنا أن القبيح محال عليه تعالى فلا يصدر منه وإن قدر عليه. واعتقادنا أن فعل الله تعالى لغاية ومصالح ولا يجوز أن يصدر منه فعل عبثا بل لا يمكن صدوره من غيره ولا يجوز أن يكون غاية فعله تعالى تكميل ذاته لأنه فوق كل كمال ولا أن يكون حاله بعد الفعل أولى به مما قبله، بل مقتضى حكمته ورحمته ولطفه إفاضة الخيرات وبذلك الاعتبار يصح أن يقال: هو ذاته غاية فعل نفسه فمنه المبدء وإليه المصير، فإذا قيل: لم فعل الله تعالى العالم أجيب بأن ذلك لرحمته وحكمته وهما عين ذاته، ولو قيل: لم فعل الإنسان بيتا له؟ أجيب لأن يسكن فيه ويأمن الحر والبرد وهذه الغاية ليست عين ذات الإنسان بخلاف غاية فعله تعالى. واعتقادنا أن التكليف من الشارع حسن إذ خلق الشهوة والميل إلىالقبيح والتكليف زاجر عنه وكل شئ يقرب العبد إلى ارتكاب المحاسن ويبعده عن المكاره كبعث الأنبياء وتأييدهم بالمعجزات والأمر والنهي والتخويف من العقاب والترغيب في الثواب لطف كما قيل: التكاليف الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية. واعتقادنا أن اللطف واجب في حكمته ورحمته كما قال: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) وشرط اللطف أن لا يبلغ الإلجاء بأن يسبب الأسباب بحيث لا يتمكن العبد من المعصية مثلا لا يجب على الله أن لا يخلق الخمر حتى لا يشربها أحد أو لا يخلق فيه الشهوة حتى لا يزني فإن ذلك وإن كان يقرب العبد إلى الطاعة لكن يبلغ حد الإلجاء وهو ينافي التكليف كما قال: (لو شاء ربك لآمن

ص: 11

من في الأرض كلهم جميعا) يعني بالإلجاء لكن خيرهم ولم يجبرهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. ويجب أيضا عليه إقدار العبد وتمكينه من الفعل المكلف به وهذا شرط التكليف ولا يسمى لطفا فإن قيل: نرى كثيرا مما يقرب العبد إلى الطاعة يقينا لم يحصل مثلا لو رأى الفاسق في كل يوم معجزة من ولي ربما يرتدع ولو ابتلى كل فاسق ببلاء بعد عمله ربما انزجر، وأمثال ذلك.

قلنا جميع ما يتوهم من ذلك إما أمور غير ممكنة في حكمة الله تعالى وإما يصير إلى حد الالجاء وإن لم نعلم تفصيله.

واعتقادنا في أفعال الله تعالى أنه ليس فيه شر وأن الآلام الصادرة عنه تعالى معوض في الآخرة أو الدنيا بحيث يرضى به المبتلى ونظير ذلك من يموت بالزلازل والصواعق والأوبئة ومن يتضرر بذلك وهذا مقتضى عدل الله.

واعتقادنا في القضاء والقدر أنهما علم الله بما سيقع وأن علمه لا يوجب جبر العباد.

واعتقادنا في الفطرة التي خلق الله الناس عليها أنها فطرة التوحيد والتصديق ولم يخلق أحدا على فطرة خبيثة بحيث يستلزم جبره على الكفر والشر أو أقربيته إلى الشر ثم يعاقبه عليه، وقد سوى أولا التوفيق في الوضيع والشريف.

واعتقادنا في البداء على الله تعالى أنه محال لأن البداء ندامة والندامة من الجهل صرح بذلك علماؤنا في التفاسير والأصول كالشيخ الطبرسي والطوسي والسيد المرتضى والعلامة الحلي وقال السيد عميد الدين في شرح التهذيب في قصة أمر إبراهيم بذبح ولده أنه لو كان أمرا حقيقة لزم منه البداء وهو باطل بالاتفاق، ومن أقر به لفظا فقد أوله معنى بحيث أخرجه من حقيقته كصدر المتألهين والمجلسي والسيد الداماد - رحمهم الله - وتأويل البداء نظير تأويل الغضب والرضا والأسف والترجي، فان جميع ذلك محال على الله تعالى بمعناها الحقيقي.

واعتقادنا في أفعال الله تعالى أيضا أن كل شئ مخلوق له يحتاج إليه حدوثا وبقاء ولا يستغنى عنه شئ بعد الحدوث. ولا قديم ذاتا غيره تعالى ولا المادة ولا الخلاء على ما كان يقول به بعض قدماء الفلاسفة، ولم يرد التعبد باعتقاد شئ من المكونات كعدد السماوات وطبقات الأرض وأبعاد الكواكب وعظام بدن الإنسان وشكل العرش والكرسي. والعلم المتعلق بهذه الأمور ليس من الدين إلا من جهة دلالتها على حكمة الله وقدرته، نعم يجب الاعتقاد بوجود الملائكة والجن والشياطين من الموجودات الروحانية.

واعتقادنا في النبوة أنها واجبة في الحكمة لأنها لطف في الواجب العقلي. واعتقادنا أن الأنبياء

ص: 12

معصومون من المعصية عمدا وخطأ وإلا لارتفع الوثوق بهم، ولم يكن قولهم وفعلهم حجة وأنهم منزهون من كل ما ينفر الطباع ويسقط محلهم من القلوب كدناءة الآباء وعهر الامهات والرذائل الخلقية والعيوب الخلقية. وأنهم أفضل أهل زمانهم لأن تقديم غير الأفضل قبيح. واعتقادنا فيهم أنهم أفضل من الملائكة لأن الإنسان الكامل أشرف من كل موجود مجرد أو مادي، وربما خالف في ذلك بعض العلماء فجعل الملائكة أفضل. وليس في عدد الأنبياء وكتبهم وقصصهم ونسبهم واممهم شئ موظف يجب الاعتقاد به إلا ما ورد في نص القرآن، إذ ليس في ذلك أخبار متواترة غالبا.

واعتقادنا في نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) معروف وأنه أفضل الأنبياء وخاتم النبيين، وكتابه وهو القرآن أفضل الكتب فمن اعتقد أن هنا حكما أحسن من حكمه وقانونا أفضل من شرعه أو أنه كان نبيا لقوم خاص كالعرب أو في زمان خاص، ولا يناسب شرعه جميع الأزمنة فهو كافر ليس بمسلم البتة.

واعتقادنا في الإمامة أنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأنها لطف إذ يقرب العباد إلى الطاعة ويبعدهم من المعصية، فهي واجبة ويجب أن يكون الإمام معصوما حتى يجب طاعته ويحرم عصيانه، ولو احتمل في قوله وفعله خطأ خرجا من أن يكونا حجة ولذلك يجب أن يكون منصوصا من الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام السابق لان العصمة أمر خفي لا يطلع عليه إلا من قبل الله تعالى، ويجب أن يكون الإمام أفضل الناس لقبح إطاعة الفاضل المفضول. واعتقادنا في الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أنهم اثنا عشر معروفون، أجمع المسلمون على طهارتهم وفضلهم وقال النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتفق عليه بين الفريقين «أن الأئمة بعده اثنا عشر» روي بألفاظ مختلفة عن جابر بن سمرة وأورده البخاري والمسلم في الصحيحين وغيرهما في كتب كثيرة.

واعتقادنا في المعاد أنه حق واجب «لتجزى كل نفس بما تسعى» ولو لم يكن معاد لزم العبث في التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجميع ما ورد في القرآن أو الروايات المتواترة من الصراط والميزان وإنطاق الجوارح وغير ذلك حق والثواب والعقاب لأهل الاستحقاق، والأعواض لأصحاب الضر والبلاء واجب، والتفضل لمن لا يستحق شيئا كالموتى بعمل الأحياء لهم حق واقع أيضا.

واعتقادنا أن الاحباط باطل، وهو أن يقع العمل بشرائط الصحة ثم يبطل ثوابه بوقوع معصية فان ورد لفظ الاحباط في القرآن والروايات فهو بمعنى آخر غير معناه الاصطلاحي كعدم الثواب لعدم وجود شرائطه لئلا يخالف ما دل على وجود الجزاء. واعتقادنا أن الملكف معذور في الفروع إذا خالف مودى اجتهاده أو فتوى مجتهده الحكم الواقعي; إذ لا يقدر على غيره وما ورد في ذم الاجتهاد ليس بمعنى الاجتهاد المصطلح في زماننا. واعتقادنا أن قبول التوبة تفضل من الله تعالى وغير واجب ولذلك يمكن أن

ص: 13

يؤخر عن التوبة.

واعتقادنا أن كل مشقة تحملها لمكلف في سبيل أمر الشارع فقد وقع أجره على الله سواء في ذلك مقدمات الواجب أو نفسه وإن لم يوفق لاتمامه لعذر من جانب الله كمجاهد أو حاج مات في الطريق; لأن ترك إثابته بعد المشقة ظلم قبيح.

ثم إن هذه الأصول وأمثالها المستفادة من القرآن الكريم المؤيدة بالعقول والاخبار المتواترة التي استخرجها علماؤنا منها بفكرهم الدقيق وجمعوها في كتبهم الكلامية وغيرها وإن وجد شئ في بعض الأخبار مخالف لها في الظاهر يجب تأويلها إن ثبتت صحتها بحيث يرفع التنافي. وذكر العلماء أن إنكار الضروري دليل على إنكار الرسالة وعلامة للخروج عن ربقة الإسلام. ومعنى الضروري أن يكون ثبوته في دين الإسلام بديهيا لا يقبل الشك كالصلاة والحج بحيث لا يمكن أن يعتقد أحد رسالة نبينا (صلى الله عليه وآله) ولا يعتقد وجوب الحج في شرعه إلا أن يدعى شبهة ممكنة في حقه مثل أن يكون في بلاد بعيدة عن الإسلام أو يكون قريب العهد به بحيث يمكن أن يتصور جهله به. ومثل المجسم والقائل بالجهة إذا كان بليدا جدا لا يعقل الأدلة على بساطة الواجب وتركب الجسم ويزعم أن غير الجسم موهوم، ولكن في اعتقادات المجلسي - رحمه الله - في تعداد الضروريات ما يوهم التناقض، فإنه عرف الضروري بما لا يخفى على أحد من المسلمين إلا ما شذ، ثم عد منه اشتمال الصلاة على تكبيرة الاحرام والقيام على الأظهر. وقوله «على الأظهر» يدل على عدم كونه ضروريا. وعد من الضروري غسل النفاس على الأظهر، وكون الريح ناقضا للوضوء على احتمال، يعني يحتمل كونه ضروريا، وهذا تناقض ظاهر لأن الضروري ما لا يحتمل الخلاف. قال: اشتمال الحج على الرمي ضروري على احتمال، والجمع بين الزوجة واختها وامها ضروري على الأظهر، وحرمة الربا في الجملة على احتمال. والعجب أنه عد حرمة الربا ضرورية على احتمال مع أنه حرام من غير شبهة يعرف ذلك غير المسلمين أيضا من مذهب الإسلام. وعد من الضروريات رجحان السلام ورده على الأظهر ورجحان صلة الأرحام على احتمال. قال: وغير ذلك مما اشتهر بينهم بحيث لا يشك فيه إلا من شذ منهم. وأقول: وهذا عجيب ولا يبعد أن يكون هذه الرسالة منحولة وإذا كان الضروري ما لا يشك فيه كيف يوصف بالاحتمال والأظهر، ومعنى الاحتمال والأظهر أن فيه شكا وكلام المجلسي - رحمه الله - مثل أن يقول أحد أظن أني عالم بمجيء زيد ثم يجعل ذلك علما.

ثم اعلم أن لفظ القرآن والحديث يحمل على ظاهره إلا أن يدل قرينة نقلية أو عقلية على خلافه ويختلف الناس في فهم القرآن ومثاله ما روي أن شاعرا مدح النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لبعض أصحابه: إقطع لسانه.

ص: 14

والظاهر منه قطع اللسان بالسكين لكن القرينة العقلية تدل على عدم كونه مرادا ولم يفهمه الصحابي حتى دله غيره بأن المراد الإحسان إلى الشاعر فان الإحسان يقطع اللسان إذ لا يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقطع اللسان من غير تقصير وما من أحد إلا ويأول الحديث في الجملة حتى الحنابلة مع أنهم أبعد الناس من التأويل ويبالغون في حمل الألفاظ على الظواهر حتى مثل قوله وجه الله ويد الله والرحمن على العرش استوى بل المجددون منهم أيضا مصرون على ذلك ورأيت في كتاب بعضهم حديثا في شمائل النبي (صلى الله عليه وآله) أن سبابته كان أطول من الوسطى والظاهر منه سبابة اليد ولا يستحيل ذلك وجعله بعض أصحاب القيافة دليلا على العزم والصبر وعلو الهمة ولكن هذا العالم الحنبلي أوله بسبابة الرجل لاستبعاده ذلك في اليد ولو كان المراد الرجل لم يستحق الذكر فان جميع الناس سبابة رجلهم أطول من وسطاها. وأورد الصدوق (رحمه الله) في اعتقاداته بابا في الأخبار الواردة في الطب وأولها على خلاف ظاهرها بل رد بعضها بقرائن عقلية مثل الحديث الدال على أن العسل شفاء من كل داء حمله على الشفاء من كل داء بارد مع أن الصدوق كان شديد الاحتراز من الرد والتأويل حتى أنه لم يأول ولم يرد رواية سهو النبي (صلى الله عليه وآله) ولا رواية طهارة الخمر المخالفة لاجماع المسلمين إلا أهل الظاهر، ولا رواية أن شهر رمضان لا ينقص أبدا وذلك لأنه عرف باليقين بعض مسائل الطب وخواص الأدوية ورأى بعض الروايات مخالفا له فحمل بعضها على خلاف الظاهر، وبعضها على سهو الناقل وبعضها على تدليس المخالفين في الكتب، وأما كون شهر رمضان ناقصا ووجوب عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يتضح عنده كما اتضح مسائل الطب فلم يحمله على سهو الرواة ولا على خلاف ظاهره، والعلامة المجلسي - رحمه الله - أيضا كان أبعد الناس في المتأخرين من التأويل بالقرينة العقلية ومع ذلك أول جميع الروايات الواردة في تجسم الأعمال ووزنها في الآخرة على خلاف ظاهرها بأن ذلك محال عقلا وقال: لا يتصور أن يتجسم العمل ويكون له وزن ونسب جميع من حملها على ظاهرها إلى الضلال ووافق العلماء في تأويل آيات الجبر والتفويض ورواياتهما ونسبة السهو والعصيان إلى الأنبياء: إذ علم استحالتهما ولم يوافقهم في إنكار البداء والحبط وغير ذلك وبالجملة الناس مختلفون في إدراك القرائن العقلية مع اتفاقهم على التأويل فيما يعتقدون استحالته فبعضهم لم يعرف استحالة كون الله تعالى جسما وفي جهة وعلى العرش ولم يأولها مع أنه أول حديث طول سبابة النبي (صلى الله عليه وآله). وبعضهم لم يأول رواية عدم نقص شهر رمضان وسهو النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن أول أحاديث الطب لأنه اعتقد استحالة هذا ولم يعرف استحالة ذاك، والأشاعرة لم يأولوا الروايات والآيات الدالة على الجبر إذ لم يعرفوا استحالة القبيح على الله تعالى. أولوا آيات التجسيم إلى غير ذلك.

وإياك أن تظن أن مثل هذا الاختلاف بين علمائنا الإمامية قدح فيهم أو أن تتعصب لواحد وتتبرأ من

ص: 15

الآخر فإن هذا من موبقات الآثام. وأول ما يشقى ظان السوء بهم الحرمان من بركاتهم، وليس غير الأئمة المعصومين خاليا عن السهو والخطأ، ولو لا محبة الحق وحرصهم على إظهاره لم يخالف أحدهم أحدا فكلهم صلحاء أمناء مرضيون مجاهدون مأجورون عند الله. وهذه العلوم الشرعية كلها واجبة وقوام الدين بكل واحد منها كقوامه بالآخر وسواء في ذلك علم التجويد والقراءات والفقه والنحو والكلام والتفسير والحديث والرجال، ولا يمكن التمهر للكل في الجميع إلا للأوحدي وليس للمحدث أن يبغض المتكلم ولا للمتكلم أن يسفه المحدث ولا للاصولي أن يستحقر المجود وهكذا، هدانا الله وأياكم إلى طريق السداد ويوفقنا لتحصيل الزاد ليوم المعاد بحق محمد وآله الأمجاد.

(كتبه الفقير إلى الله أبو الحسن المدعو بالشعراني عفا الله عنه).

ص: 16

شرح المقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم.

نحمدك يا مروج عقول العارفين بمظاهر كمالك ليلا ونهارا، ونشكرك يا مفرج قلوب السالكين بظواهر جلالك سرا وجهارا، ونشهد أن لا إله إلا أنت شهادة توجب لنا في مقام قربك مستقرا وقرارا. ونصلي على سيد أنبيائك وأشرف أوليائك صلاة دائمة ما دامت الأرض ساكنة والفلك دوارا (1).

وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني حسام الدين محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد رسمت على جميع أبواب الكافي تعليقات، ورقمت على جميع فنونه تحقيقات، مع قلة البضاعة في هذه الصناعة وتشتت البال وتفرق الحال فلما أردت جمعها وتدوينها خطر ببالي أن أشرح جميع أحاديث هذا الكتاب شرحا متوسطا بين الايجاز والاطناب; لأن الأحاديث وإن كان بعضها ظاهر الدلالة على المعنى المراد واضح الإشارة على المفهوم المستفاد، لكن قد يوجد فيه من الفرائد النفيسة والفوائد الشريفة ما لا يدركه بدء النظر، ولا يبلغه أول الفكر، كم من لئالي فريدة تؤخذ في الساحل لغفلة الواردين عنها، وعدم التفات الطالبين إليها، فها أنا أشرع في المقصود بعون الله الملك المعبود مبتدئا بشرح الخطبة لما فيها من منافع الحكمة.

* الأصل

بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كل منظر، الذي لا بدء لأوليته، ولا غاية لأزليته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها،والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه،

ص: 17


1- - هذا على اعتقاد أن الأرض ساكنة وعليه جل القدماء، لكن في عصرنا هذا لا نعرف من جزم بسكون الأرض بل أثبتوا لها حركة محورية تدور حول نفسها، تحدث منها الليل تسمى بالحركة الوضعية، وحركة انتقالية تدور حول مركز الشمس تحصل منها الفصول الأربعة.

اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء (1) بقدرته وحكمته لا من شئ فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداء، خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته، وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير روية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال»

* الشرح:

أبتدأ باسمه الحميد مقتديا بالسلف وبالقرآن المجيد ومعتمدا بما قاله سيد البشر «كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو أبتر» وفي ذكر الاسم إيماء إلى أن المراد بهذه الأسماء الشريفة المسميات وأن الاستعانة في الاستفاضة وقعت بأسمائها، لأن لتلك الأسماء من الشرف والكمال ما لا يعرف قدره الغواصون في بحار آثارها والوصافون بشرح منافعها وأسرارها، على أن الاستعانة بالاسم تدل على الاستعانة بالمسمى قطعا دون العكس، وإنما خص هذه الأسماء بالذكر لأنها أصل لأصول الفيض عاجلا وآجلا. ومبدئا بحصول الرجاء ظاهرا وباطنا.

(الحمد لله) اختلفوا في تحديد الحمد والأحسن ما ذهب إليه بعض المحققين من الصوفية ومال إليه المحقق الشريف العلامة الدواني، وهو أن الحمد إظهار صفات الكمال بالقول أو بالفعل، والثاني أقوى من الأول; لأن الأفعال التي هي آثار السخاوة مثلا تدل عليها دلالة عقلية قطعية لا يتصور فيها التخلف بخلاف الأقوال فان دلالتها عليها وضعية وقد يتخلف عنها مدلولها، وعلى هذا كان حمده تعالى على ذاته حمدا على سبيل الحقيقة، بل هو من أفضل أفراده لأنه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى، إذ كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات. وما اشتهر من أن الحمد في اللغة الثناء باللسان على الجميل، وفي العرف أعم منه ومن عقد الجنان وفعل الأركان، فهو باعتبار أن هذه الأمور من الأفراد الشايعة لذلك المفهوم، لا أن الحمد مختص بها كما فهمه الأكثر وحكموا بأن حمده تعالى على ذاته مجاز، واللام في «الحمد» للجنس أو الاستغراق وفي «لله» للاختصاص يعني أن جنس الحمد أو جميع أفراده مختص به سبحانه وبينهما تلازم، وصح ذلك لأنه تعالى مبدء كل كمال ومرجع كل جلال.

(المحمود بنعمته) للحمد أركان أربعة: الحامد، والمحمود، والمحمود به والمحمود عليه. والأولان قد يتحدان بالذات كحمده تعالى على ذاته، وقد يتغايران كحمدنا له تعالى، وكذا الأخيران كحمده تعالى

ص: 18


1- - كذا في جميع النسخ وسيأتي في باب النهي عن الجسم والصورة من كتاب التوحيد تحت رقم 3 عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) هذه الجملة إلى قوله «الكبير المتعال» وفيه هكذا «فاطر الأشياء انشاء ومبتدعها ابتداعا»بالعين المهملة.

بالنعمة لأجلها. وحمده بالعلم لأجل إنعامه. إذا عرفت هذا فنقول: النعمة في قوله: «بنعمته» إما محمود عليها إن كانت الباء سببا للحمد أو محمود بها إن كانت صلة له، ولا يلزم من الحمد بها أن يكون الحمد لأجلها; لجواز أن يكون لأجل غيرها، كما إذا حمدت زيدا بالشجاعة لأجل سخاوته. وفي بعض النسخ «لنعمته» باللام وهو يؤيد الأول كما يؤيده نظيره في القرينة الثالثة.

لا يقال: لا يصح جعل الحمد للنعمة علة للحمد على ما يقتضيه قاعدة التعليق بالوصف; لأنه من باب تعليل الشئ بنفسه.

لأنا نقول: على تقدير اطراد تلك القاعدة الحمد لأجل النعمة بمنزلة العلة الغائية لجنس الحمد فيصح أن يجعل علة له. وإنما ابتدأ بعد التسمية بالحمد لحفظ ما أدرك من آلائه، وجلب ما يترقب من نعمائه، مع أنه من أفضل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جماله وجلاله ويراعي إحسانه وإفضاله فيكون ذلك سببا لمزيد امتنانه حالا ورضوانه مآلا.

(المعبود لقدرته) قدم الحمد للنعمة على الحمد للقدرة مع أن القدرة من الصفات الذاتية التي هي أجدر بالثناء عليها; لأن النعمة قد وصلت إلى الحامد بخلاف القدرة فان الواصل إليه إنما هو أثره، فالنعمة أولى بالحمد لها بهذا الاعتبار ولقد أحسن في جعل النعمة سببا لمحموديته والقدرة سببا لمعبوديته، لأن نعمته الواصلة إلى الغير توجب الحمد من حيث هو وقدرته على جميع الممكنات توجب العبادة والتذلل لله تعالى.

(المطاع في سلطانه) السلطان التسلط والقهر أو الحجة والبرهان، وقد فسر بهما قوله تعالى:

«فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا » (1)والله سبحانه مطاع بالمعنيين لكونه قاهرا على جميع الممكنات فيطيعه كل ما كان في عنقه ربقة الامكان، وينقاد له كل من احتجب عن الحس أو يشار إليه بالبنان، لا يقدر شئ أن يتجاوز عن حده المقدر وكماله المقرر بالأمر المبرم والقضاء المحكم، وغالبا على جميع المخلوقات بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، فلا يتمكن أحد أن يرد حجته وبرهانه ويمنع دليله وفرقانه، ولفظ «في» إما للظرفية أو للسببية والثاني أولى بالنظر إلى السابق واللاحق، واستعمالها فيه شايع حتى قيل: إنها حقيقة فيه.

(المرهوب لجلاله) قال في المغرب رهبه: خافه رهبة، والله مرهوب، ومنه «لبيك مرهوب ومرغوب إليك» ويفهم منه أن مرهوبا متعد بنفسه، والذي يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية أنه متعد بمن، وعلى هذا حذف «من» للاقتصار كما هو المتعارف، واللام لأن من عرف عظمته وجلاله ولاحظ غناه عن

ص: 19


1- -سورةالأسراء:33.

الخلق وكماله وعلم أن كل موجود بأسره مقهور تحت حكمه وأمره، وهو يتصرف فيه ما يشاء كيف يشاء، ويحكم ما يريد كيف يريد، ولا يسئل، حصلت له بذلك رهبة وخوف يتحير فيه العقول حيث رأى نفسه عارية عن الاختيار في الرد والقبول كما هو المعروف من أحوال الأنبياء والصلحاء وبه يظهر سر قوله تعالى: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».(1) (المرغوب إليه فيما عنده) من النعم الدنيوية والاخروية جليها وخفيها يقال: رغب فيه وإليه إذا أراده وطمع فيه وحرص عليه. الرغبة السؤال والطلب، وإنما عقب بالرهبة الرغبة للتنبيه على وجوب مقارنتهما في التحقق، إذ لا خير في رهبة بلا رغبة، ولا رغبة بلا رهبة، بل وجب تقارنهما وتساويهما كما دل عليه بعض الأخبار ويرشد إليه قوله تعالى في وصف الأنبياء والأولياء «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ »(2)وقوله تعالى: «وادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » وإنما ترك سبب الرغبة للإشارة إلى أن ذاته بذاته هو الجواد المطلق، فلا حاجة في بسط الرجاء إلى ملاحظة شئ آخر غير ذاته أو لاندراج سببها تحت سبب الرهبة لأن جلالته المطلقة كما يكون بالقهر والغلبة على ما عداه ممن اتصف بسمة الامكان كذلك يكون بالرحمة واللطف والاحسان; إذ لولا الثاني لكانت عظمته وجلالته مقيدة بوجه من الوجوه فحينئذ نقول من ملاحظة الأول تحصل الرهبة ومن ملاحظة الثاني تحصل الرغبة، ولا يجوز ملاحظة أحدهما وحده، لأنه يستلزم القنوط أو الجرأة وكلاهما مذموم، أو نقول في كل واحد من الأول والثاني تحصل الرهبة والرغبة جميعا، أما في الأول فلأن لطفه مستور في قهره فمن حيث القهر تحصل الرهبة ومن حيث اللطف تحصل الرغبة، واليه يشير قوله تعالى:«وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. »(3)وأما في الثاني فلان قهره مستور في لطفه وإحسانه لاحتمال أن يكون ذلك على سبيل الاستدراج، وإليه يشير قوله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام)« لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ»(4) وقوله تعالى:«لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »(5) وبالجملة هو مرهوب ومرغوب إليه دائما، والعبد راغب وراهب في جميع الأحوال واليه يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «هو المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم» (6).

(النافذ أمره في جميع خلقه) أي أمر التكوين، أو أمر الافناء والإعدام، أو حكم القضاء، أو أمر التشريع بإرادة لازمة من الثواب والعقاب دون ظاهره بأنه متعلق بالثقلين منهم من أطاعه ومنهم من عصاه.

ص: 20


1- -سورة فاطر:28.
2- -سورةالأنبیاء:90.
3- -سورة الإسراء:67.
4- -النمل:40.
5- -إبراهیم:7.
6- - هذا الكلام مروي عنه (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة في خطبة له (عليه السلام) تحت رقم 62 أوله «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا» وفيه هكذا «المأمول مع النقم والمرجو من النعم».

(علا فاستعلى) الاستعلاء هنا لزيادة المبالغة أي علا في رتبته عن رتبة المخلوقين، فاستعلى عن التشبه بصفاتهم، والتفريع ظاهر لأن الأول مستلزم للثاني، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: العلو يطلق بالاشتراك على معان ثلاثة: الأول الحسي كالعلو بحسب المكان. الثاني التخيلي كعلو الملك على رعيته. والثالث العقلي كعلو السبب على المسبب، والأول محال في حقه تعالى لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزهه عن الكمالات الخيالية إذ هي إضافية تتغير وتدرك بحسب الأشخاص والأوقات، ولا شئ من كماله كذلك فبقي أن يكون عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة تساوي رتبته.

بيان ذلك: أن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كان ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور فيها النقصان بوجه من الوجوه لاجرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية على الاطلاق وله العلو في الوجود العاري عن الإضافة إلى شئ، وعن إمكان أن يكون في مرتبته أو فوق مرتبته شئ ومن كان كذلك فهو منزه عن التشبه بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(دنا فتعالى) أي قرب من كل شئ من كل وجه بحيث لا يكون شئ أقرب منه فتعالى أن يكون في مكان أو زمان أو مدركا بالبصر أو بغيره من الحواس، والتفريع أيضا ظاهر لأن الزماني والمكاني والمدرك بالحواس يمتنع أن يكون قريبا من كل شئ لظهور أن قربه من أحد مستلزم لبعده عن الآخر، ثم الدنو يطلق على معان ثلاثة ومقابلة لمعاني العلو ولا يجوز أن يراد هنا شئ منها، ويطلق على معنى رابع في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان إذا كان مطلعا على أحواله أكثر من غيره، وهو المراد هنا، فدنوه في قربه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو أدنى من كل دان، وأقرب من كل قريب بهذا الاعتبار، كما قال سبحانه:«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ».(1) (وارتفع فوق كل منظر) الظرف حال من فاعل «ارتفع». ويجوز أن يراد بالمنظر العلة لأن نظر المعلول إليها، يعني أنه فوق كل علة لأن تاليه نظر جميع الكائنات وانتهاء سلسلة جميع الممكنات، وأن يراد به المدرك بالعقل يعني أنه فوق كل ما أدرك العقل لأن كل ما أدركه العقل فهو صورة ومثال يمتنع أن يقال: إنه هو، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل التمثيل والله أعلم.

(لا بدأ لأوليته) لاستحالة الحدوث عليه. (ولا غاية لأزليته) لاستحالة العدم عليه. (القائم قبل

ص: 21


1- -سورة ق :16.

الأشياء) أي قبل كل واحد منها، لأنه كان ولم يكن معه شئ ثم أحدثه بمجرد حكمته فهو متفرد بالقدم، وفيه رد على بعض الفلاسفة، وليس المراد بالقبلية القبلية الزمانية حتى يلزم أن يكون في زمان وأن لا يكون متقدما عليه، لأن القبلية الزمانية إنما يكون في الزمانيات كما بين في موضعه والله سبحانه ليس بزماني.

(والدائم الذي به قوامها) قوام الشئ - بالكسر -: نظامه، وتقديم الظرف للحصر; وفيه رد على من أسند نظام هذا العالم إلى غيره كالدهرية والمبتدعة من الفلاسفة وأضرابهم.

(والقاهر الذي لا يؤوده حفظها) آدني الحمل يؤودني أودا، أي أثقلني، وأنا مؤود مثال مقول.

يعني لا يثقله ولا يتعبه حفظه للأشياء مثل السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما لأن فعله سبحانه بمجرد الإرادة والمشيئة ولا يحتاج فيه إلى استعمال الآلات وتحريك الجوارح كما يحتاج إليهما أصحاب الصنايع فلا مدافع له في فعله أصلا فلا يلحقه الانفعال، ولا يعرض له الثقل والتعب والكلال. تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت) القادر من أسمائه تعالى ومعناه المتمكن من جميع الأشياء بحيث لا تطيق شئ منها الامتناع عن مراده ولا يستطيع الإباء عن إصداره وإيراده. وله في هذا النحو من التمكن وصفان: الأول الكبرياء والعظمة، والثاني القدرة التامة، و «الملكوت» فعلوت من الملك - بالكسر - وهو الموضع كالمملكة وخص بعد الزيادة بملك الله تعالى سواء كان من عالم المجردات والمفارقات أو من عالم الجسمانيات والمقارنات، ولو اجتمع الملك والملكوت كما في قولهم «يا ذا الملك والملكوت» يراد بالملك الجسمانيات وبالملكوت المجردات.

«والجبروت» من الجبر وهو إغناء رجل من فقر ونحوه أو إصلاح عظمه من كسر ونحوه، ومنه الجبار من أسمائه تعالى لأنه يغنى من يشاء متى يشاء ويجبر مفاقر الخلق ويكفيهم أسباب المعاش والرزق ويصلح نقائص حقائق الممكنات بإفاضة الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات وهو أيضا خص بعد الزيادة بالله سبحانه. والمقصود أنه تعالى شأنه بالوصف الأول تفرد بمالكية جميع الأشياء من الممكنات المجردة والمادية، لأن العظمة المطلقة مقتضية لعدم المشاركة، وأما المالك غيره فانما هو مالك بالإضافة وله عظمة بالإضافة، وهي عند ذاتها بذاتها ليست عظمة بل هي عجز وقصور. وبالوصف الثاني تفرد بايجاد الممكنات وإصلاحها وتكميلها بإفاضة ما يليق بها من الكمالات وإفنائها متى يشاء، من غير معارض ولا مدافع لأن القدرة الكاملة الإلهية توجب عدم مشاركة الغير معه في شئ من ذلك فكل شئ مملوك له منقاد لأمره، وكل كامل مستكمل به مفتقر إليه، وهو الغني الحميد.

(وبحكمته أظهر حججه على خلقه) الحكمة العلم والاتقان; والله سبحانه حكيم لأنه عالم بحقائق

ص: 22

الأشياء متقن بخلقها بلطف التدبير وحسن التصوير والتقدير. و «الحجج» جمع الحجة والمراد بها هنا البرهان، يعني أنه سبحانه بحكمته البالغة أظهر براهين وجوده ووحدته وقدرته وساير كماله على خلقه بايجاد الممكنات وتصوير المخلوقات على النظام المشاهد، ويحتمل أن يراد باظهار الحجج نصب الأنبياء والأوصياء إلا أنه يوجب التكرار فيما سيأتي.

(اخترع الأشياء إنشاء وابتدعها ابتداء بقدرته وحكمته) لا أجد لأهل اللغة فرقا بين الاختراع والابتداء. قال الجوهري: «ابتدعت الشئ اخترعته لاعلى مثال» ولا بين الانشاء والابتداء قال:

«أنشأ يفعل كذا ابتدأه» لكن الظاهر من كلام المصنف أن الاختراع هو الايجاد لا من شئ والابتداء هو الايجاد لا من علة كما ستعرفه. وقيل: الانشاء هو الايجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله، والابتداء هو الايجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله. وقوله: «إنشاء» و «ابتداء» مفعول مطلق من باب جلست قعودا لتأكيد الفعلين. أو تمييز لنسبتهما إليه، وقوله: «بقدرته وحكمته» متعلق بالفعلين على الترتيب المذكور أو بكل واحد منهما.

(لا من شئ فيبطل الاختراع) يعني اخترع الأشياء بقدرته لا عن أصل ومثال، إذ لو أوجدها عن مثال لبطل الاختراع لأنه في إيجاد ذلك المثال يحتاج إلى مثال آخر وهكذا، وبطلان الاختراع يستلزم عدم القدرة على وجه الكمال كما يشاهد في الكاتب المحتاج في كتابته إلى أصل منتسخ فإنه بدون ذلك الأصل عاجز عن الكتابة.

(ولا لعلة فلا يصح الابتداع) يعني ابتدع الأشياء لا لعلة مادية أو لا لعلة فاعلية متوسطة بينه وبينها وإلا لبطل معنى الابتداع، لأنا ننقل الكلام إليهما فيتسلسل، أو لا لعلة غائية تعود إليه وإلا لكان ناقصا في ذاته وصفاته والناقص لا يخترع شيئا من غير حاجة إلى شئ أصلا. وقيل: لا لعلة غائية (1)، ويكون هذا إشارة إلى نفي الغرض والعلة الغائية عن فعله تعالى بالكلية كما ذهب إليه طائفة وإلا لكان ناقصا في فاعليته مستكملا فيها بذلك الغرض، والناقص لا يصلح للاختراع، أما الشرطية فلأن الغرض يجب أن يكون أصلح للفاعل من عدمه إذ ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إليه أو كان عدمه راجحا لا يكون باعثا على الفعل بالضرورة، فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به وهو معنى الكمال، فإذن يكون الفاعل مستكملا به ناقصا بدونه.

ص: 23


1- 1 - لا يخفى ان الغرض في اصطلاح الحكماء شئ، والعلة الغائية شئ آخر وانهم نفوا الغرض في فعله تعالى ولم ينفوا العلة الغائية والشارح - رحمه الله - خلط بينهما وزعم انهما واحد وما يأتي من قوله «خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته وحقيقة ربوبيته» يدل على ان غايته في فعله اظهار الحكمة فلا يناسبه نفي العلة الغائية هنا مطلقا، فإن كمال ذاته غاية لأفعاله تعالى.

أقول: الغرض عائد إلى الغير ووجوده وعدمه سواء بالنظر إليه سبحانه لتنزهه عن عود المنفعة أو المضرة إليه، وعدم كونه حينئذ باعثا على الفعل ممنوع، ودعوى الضرورة في محل النزاع لا يجدي نفعا، والمسألة محلها علم الكلام.

(خلق ما يشاء كيف شاء) يعني أنه خلق الأشياء على الوزن والتقدير والأحوال اللائقة بها لمشيئته وإرادته، لا بالايجاب، ولا بتحريك الآلة والجوارح، ولا بتوسط اللفظ والصوت لأن ذلك من خواص الجسم والجسمانيات.

(متوحدا بذلك) بالنصب على أنه حال من فاعل خلق، يعني خلق ما شاء حال كونه متوحدا بالذات والصفات بخلقه وإيجاده، غير مستعين أصلا لا بذات آخر ولا بصفات زائدة عليه وإلا لكان ناقصا لاحتياجه في الايجاد إلى الغير.

(لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته) يعني خلق ما شاء على النظام العجيب والصنع الغريب الذي يتحير فيه عقول العقلاء وفحول العلماء; لاظهار علمه وحكمته وحقيقة ربوبيته التي كانت في مكمن الخفاء كما قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف» (1).

(لا تضبطه العقول) أي لا تضبط شرح حقيقة ذاته ولا ماله من كمال صفاته عقول العارفين، لأنه تعالى في علو الذات وارتفاع الصفات إلى حيث يقف دون بلوغه عقول أهل العرفان وأذهان أهل الايقان; وإنما يعرفونه بنحو خاص من المعرفة اليقينية التي هي غاية الوسع للعقول البشرية، ولأنه لا حد لحقيقته لأنه بريء عن أنحاء التركيب الخارجية والعقلية فهي منزهة (2) عن اطلاع العقول عليها، ولا نهاية لصفاته يقف عنده تقدر بها، فلا يكون العقول محيطة ضابطة إياها.

(ولا تبلغه الأوهام) لأنه تعالى ليس بمحسوس والوهم لا ينال إلا المحسوسات.

(ولا تدركه الأبصار) لأن البصر إنما يدرك اللون والضوء وما تتبعها من الجسمانيات والله سبحانه منزه عن الجسمية ولواحقها.

(ولا يحيط به مقدار) لأن المقدار من لواحق الجسمية وأيضا ما يقبله يقبل التحيز والقسمة والزيادة والنقصان ولا يجري شئ من ذلك عليه سبحانه.

(عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار) «دون» ظرف نقيض «فوق» وهو يقصر عن الغاية، والكلال الأعياء يقال: كلت العين إذا أعيت عن الادراك وعجزت عنه، و «الأبصار» بالفتح جمع البصر يعني عجزت قبل بلوغ صفاته عبارة الواصفين، وأعيت قبل بلوغ ذاته أبصار الناظرين، كما أشار إليهما

ص: 24


1- - هذا ينافي ما سبق من كون أفعاله تعالى غير معللة بالعلة الغائية مطلقا أو كونها معللة بأغراض تعود إلى الغير كما لا يخفى.
2- - الضمير راجع إلى «حقيقته».

في الصحيفة السجادية على صاحبها أفضل الصلوات وأكمل التحيات «الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».

(وضل فيه تصاريف الصفات) ضل الشئ يضل: ضاع، والضلال ضد الرشاد، والمعنى ضل في طريق صفاته الحقة تصاريف صفات الواصفين، وأنحاء تعبيرات العارفين، يعني أنهم وإن بالغوا في التوصيف (1) وانتقلوا من صفة إلى ما هو أشرف وأعظم عندهم، لم يصفوه بما هو وصفه، ولم ينعتوه بما هو حقه، ولم ينالوا حقيقة صفاته على وجه يليق بذاته. وذلك لأن تصاريف الصفات والنقل من بعضها إلى بعض إنما هو من خواص الممكنات التي يتصور فيها الزيادة والنقصان والله سبحانه منزه عنها. وأيضا لسان التعبير إينما يخبر عما في الضمير، وكل ما هو في الضمير مخلوق مثله كما دل عليه قوله: «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم»، وقال بعض العارفين: هر چه پيش تو بيش از آن ره نيست * غايت وهم تو است الله نيست لا يقال: إذا كان الأمر كذلك لم يكن ثناؤه مقدورا لنا فكيف وقع التكليف به؟ لأنا نقول: لم يقع التكليف بمعرفة كنه الصفات الكمالية والثناء بها لأن ذلك محال، بل التكليف إنما وقع بالثناء عليها بمفهومات كلية حاصلة في الذهن صادقة عيها، فتلك الصفات الكمالية إنما هي معقولة بعنوانات هي مفهوماتها ومعبر عنهما بهذه المفهومات والعنوانات لا بالكنه، وإدراكها بالكنه مختص به سبحانه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (2)» أو المعنى ضل في الوصول منتهى بسيط بساط ثنائه وإحصائه أقدام تصاريف صفات الواصفين لأنها كلما بلغت مرتبة من مراتب المدح والتكريم كان وراءها أطوار من استحقاق الثناء والتعظيم. وانطباق الحديث المذكور عليه ظاهر.

(احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور) أي: احتجب عن العقول واستتر عن الأبصار والحجب لغة: المنع، ومنه حاجب العين لأنه يمنعها من الأذى، وحاجب الملك لأنه يمتنع من الناس والخلق ممنوعون من إدراك ذاته سبحانه عينا وعقلا، ويسمى ذلك المنع حجابا مستورا، ثم الحجاب والستر بهذا المعنى ليسا وصفين لأمر حائل بين العقول والأبصار وبين ذات الباري لأن ذلك الحائل إما حسي كالأجسام الحائلة بين الرائي والمرئي أو عقلي كالعوائق الواسطة بين الصور العقلية والعقول، والحجب الحسية إنما تحجب الجسم والجسمانيات المحدودة المستترة بها، والحجب العقلية إنما تحجب الصور; والله تعالى شأنه ليس بجسم ولا جسماني ولا صورة، وإلى نفي هذين النوعين من الحجاب أشار بقوله «بغير حجاب محجوب» و «بغير ستر مستور» لدفع توهم أن الاحتجاب والاستتار

ص: 25


1- - لم يجئ في اللغة وصفه من باب التفعيل والظاهر أنه غلط مشهور.
2- - رواه مسلم في صحيحة ج 2 ص 51 وأبو داود ج 1 ص 203.

هنا كما في أكثر الموجودات بالحجاب والساتر ة وهذا التركيب يحتمل وجهين: الأول أن يكون «محجوب» خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق به أي هو محجوب بغير حجاب بالمعنى المتعارف في أكثر الموجودات، والجملة مستأنفة لدفع ذلك التوهم الناشئ من قوله: «احتجب». الثاني أن يكون مضافا إليه والإضافة بتقدير اللام والنفي راجع الحجاب والمقصود أن حجابه ليس بالمعنى المتعارف بل لتعاليه عن إدراك القوة البشرية إياه وهذا الاحتمال بعيد جدا، ويخطر بالبال أيضا معنى آخر لهذا الكلام وظني أنه أولى بالإرادة منه وهو أنه لما قال: «احتجب» توهم منه أن حجابه غليظ ثخين كثيف مانع من إدراك وجوده وصفاته تعالى شأنه بالكلية فدفع ذلك التوهم بقوله: «بغير حجاب محجوب» صفة لحجاب والمقصود أن احتجابه ليس بحجاب محجوب بحجاب آخر بأن يكون غليظا أو يكون بعضه فوق بعض آخر مانعا من مشاهدته. نظير ذلك قوله تعالى: (حجابا مستورا) قال الجوهري في تفسيره أي حجابا على حجاب، والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب. وهذا المعنى رقمته سالف الزمان ورأيت الآن حين التحرير أنه سبقني إليه سيد الحكماء الإلهيين (1) حيث قال: هذا من باب «حِجَابًا مَسْتُورًا » أي حجابا على حجاب.

(عرف بغير روية) «عرف» مبني للمفعول، الروية - بفتح الراء وكسر الواو وشد الياء - التفكر والنظر يعني عرف وجوده من غير نظر واستدلال لأنه بديهي كما صرح به بعض المحققين، أو لأن الاستدلال لا يفيد معرفته بخصوصه; لأن اللمي غير ممكن أو ليس له علة والإني لا يفيد لأنه استدلال من الأثر والأثر لا يفيد إلا مؤثرا ما على وجه كلي لا مؤثرا معينا، فمعرفته بالحقيقة ليس إلا بالمشاهدة الحضورية كما هي لبعض الكاملين. وفي بعض النسخ «رؤية» بضم الراء والهمزة الساكنة يعني عرف بغير إبصار كما قال سبحانه: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ »(2)وهو تأكيد للسابق.

(ووصف بغير صورة) أي وصف بغير صفة فإنه وصف بأنه قادر بغير قدرة قائمة بذاته وكذلك وصف بأنه سميع بصير عالم حكيم لطيف خبير إلى غير ذلك، وليس هناك صورة وصفات زائدة على الذات وإطلاق الصورة على الصفة شايع أو وصف بغير حد، إذ كل ما وصف بحد لا بد أن يكون له مهية كلية مركبة من جنس وفصل وإذ ليس له تعالى شأنه شئ من أنحاء التركيب لا يجوز أن يوصف بالحد.

(ونعت بغير جسم) أي نعت بأنه مغاير بجسم وجسماني أي بأمر مغاير لهما بحدوثهما وتحيزهما وهو منزه عنهما، ولما ذكر حمده تعالى على وجه يشعر بالاختصاص وكان ذلك مفيدا لتفرده بالالهية وذكر أيضا تفرده بالملكوت والجبروت وبخلق الأشياء إلى غير ذلك من صفات المدح والتكريم المفيدة

ص: 26


1- - يعني السيد الداماد - رحمه الله -.
2- -سورة الأنعام:103.

لتفرده بالثناء والتعظيم أراد أن يصرح بالمقصود لأنه كالنتيجة لما مر فقال:

(لا إله إلا الله الكبير المتعال) أي العظيم لا بالكم والمقدار، بل بالرتبة والرفعة، لأن ذاته المقدسة مبدء كل موجود، ومنتهى كل مقصود، المتعال عن التشابه بالخلق. هذه الكلمة الطيبة أشرف كلمة وحد بها الخالق عز اسمه وهي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، وقد سميت فاتحة الإسلام.

ونقل عن بعض العلماء أن الله سبحانه جعل عذابه نوعين أحدهما السيف في يد المسلمين والثاني عذاب الآخرة، فالسيف غلاف يرى والنار في غلاف لا يرى فقال تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) من أخرج لسانه من الغلاف المرئي وهو الفم فقال «لا إله إلا الله» أدخلنا السيف في الغمد المرئي، ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى وهو غلاف الشرك فقال: «لا إله إلا الله» أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة واحدة بواحدة جزاء ولا ظلم اليوم.

* الأصل:

«ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته لا يبلغه حد وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العلم، احتج على خلقه برسله، وأوضح الأمور بدلائله، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه، ويوحدوه بالالهية بعد ما أضدوه، أحمده حمدا يشفي النفوس; ويبلغ رضاه، ويؤدي شكر ما وصل إلينا من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء».

* الشرح:

(ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه) إشارة إلى نفي الحد عنه لانه تعالى ليس بمركب وكل ما ليس بمركب لا يمكن إدراك كنه حقيقته بالحد. أما الصغرى فلان كل مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره، وكل محتاج إلى الغير ممكن لأن ذاته بذاته من دون ملاحظة الغير لا يكون كافيا في وجوده وإن لم يكن فاعلا له خارجا عنه، وأما الكبرى فلأن إدراك كنه الحقيقة إنما يكون من الحد المؤلف من أجزائها كما بين في موضعه والله سبحانه منزه عن أن يكون لكنهه أجزاء.

(و ذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته) يمكن أن يراد بالغاية المسافة ونهاية الشئ آخره، فالإضافة لامية ويمكن أن يراد بها النهاية. قال الجوهري: «النهاية: الغاية» فالإضافة بيانية. وإنما لا تبلغ العقول غاية نهايته لأنه لا نهاية له، إذ ليس له طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية، وأيضا لا يطرء عليه العدم، «فهذا الكلام مثل قول العرب «لا يرى بها ضب ينجحر» أي ليس بها ضب فضلا عن أنه ينجحر.

لا يقال: ذهول العقول عن البلوغ أي نسيانها عنه يشعر بإمكان البلوغ في نفسه.

لأنا نقول: الذهول عن الشئ يستلزم عدم حصول ذلك الشئ والمراد هنا هذا اللازم على سبيل الكناية على أن ذلك الاشعار ممنوع ألا ترى أن غفلتنا عن وجود شريك البارىء لا يستلزم وجوده.

ص: 27

(ولا يبلغه حد وهم) أي منتهاه لأن كل ما بلغه الوهم فهو ممكن ولا سبيل للإمكان في ساحة جنابه، وأيضا الوهم إنما يلحق بالمادي ويتعلق بأمور محسوسة ذات صور وأحيان حتى أنه لا يقدر نفسه ولا يدركها إلا ذات مقدار وجسم، والله سبحانه منزه عن المادة.

(ولا يدركه نفاذ بصر) قال الجوهري: «نفذ السهم من الرمية (1) ونفذ الكتاب إلى فلان، ورجل نافذ في أمره أي ماض» ونفاذ البصر بكل واحد من هذه المعاني محال على الله سبحانه، أما الأول فلأن شعاع البصر إنما ينفذ في جسم شفاف، وهو سبحانه ليس بجسم ولا شفاف، وأما الأخيران فلاستحالة أن يدرك سبحانه بحاسة البصر لأنه غير ذي وضع وكل غير ذي وضع يمتنع رؤيته، والمقدمة الأولى استدلالي والثانية ضرورية، وربما استدل عليها والمسألة مستقصاة في علم الكلام، ثم الظاهر من هذه المعاني هو الأول لأن الأخيرين قد ذكرهما سابقا.

(وهو السميع العليم) يعنى أنه السميع لا بآلة السمع، والعليم لا بعلم زائد عليه، لأنهما من صفات خلقه، بل هما عبارتان عن عدم خفاء المسموعات والمعلومات وإن كانت خفية دقيقة عند ذاته بذاته حتى يعلم كفر من كفر وإيمان من آمن. (و هو عليم بذات الصدور) والجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.

(احتج على خلقه برسله) ليهدوهم إلى معرفة ذاته وصفاته، وحشره ونشره وثوابه عقابه وربوبيته، ومعرفة ما به يتم نظامهم في الدين وكمالهم في النشأتين; ويجذبوهم عن مقتضيات نفوسهم من اتباع الشهوات الباطلة واقتفاء اللذات الزائلة بتذكيرهم لما في الدار الباقية وتنفيرهم عن خسائس هذه الدار الفانية لئلا يكون لهم على الله حجة بعد الرسل.

(و أوضح الأمور بدلائله) أي أوضح أمور الرسل وحقية رسالتهم وشرايعهم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة لتقريب الخلق إلى التصديق وتبعيدهم عن التكذيب أو أوضح الشرايع بالرسل وأوصيائهم (عليهم السلام) أو أوضح وجود ذاته وكمال صفاته مثل العلم والقدرة وغيرهما بنصب سماء ذات أبراج وأرض ذات مهاد غير ذلك من الآثار الدالة على صدورها من العزيز الجبار، ولما كان الرسل علماء وحكماء يحملون الخلق على الطريقة الإلهية من معرفة أحوال المبدء أو المعاد وما يتبعهما من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة على حسبما يقتضيه الحكمة، وذلك قد يكون بالتذكير والتنبيه كما أشرنا إليه، وقد يكون بالتبشير والتهديد وهذا مما يحتاج إليه أكثر الناس لأن طبايعهم مثل طبايع الأطفال في الميل إلى الظاهر من الحياة الدنيا وزهراتها فيحتاجون في الميل إلى الخيرات والزجر عن المنهيات إلى

ص: 28


1- 1 - بكسر الميم وشد الياء.

الوعد الوعيد، أشار إليهما بقوله:

(وابتعث الرسل) بعثهم وابتعثهم بمعنى أرسلهم (مبشرين) للخلق بما أعد الله للمطيع من الثواب العظيم (ومنذرين) لهم بما أعد الله للعاصي من العذاب الأليم وبذلك يجذبونهم عن طريق الغواية ويرشدونهم إلى سبيل الهداية، وأما من أخذت يده العناية الأزلية وتنور قلبه من المشكاة النبوية فإنه يعلم أنه لولا الثواب والعقاب لاستحق سبحانه التوصل إليه بذاته والتذلل له طلبا لمرضاته (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) تضمين للآية الكريمة وإشارة إلى غاية الاحتجاج والإبتعاث قال القاضي (1): والمعنى ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة. فإن الاحتجاج بالرسل ابتعاثهم وتصديقهم بالمعجزات من البينات الواضحة، أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام. المراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه، وقيل: يحتمل أن يكون هذا من باب المجاز المرسل لأن الكفر سبب للهلكة الحقيقية الأخروية، والايمان سبب للحياة الحقيقية الأبدية فأطلق المسبب على السبب مجازا.

(وليعقل العباد عن ربهم) بتذكير الرسل وتعليمهم (ما جهلوه) من أحوال المبدء والمعاد (فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه) لغفلتهم عن العهود الإلهية والمواثيق الربانية ونبذ طاعته وترك عبادته كأن لم يكن شيئا مذكورا.

(و يوحده بالالهية بعد ما أضدوه) بالتشريك وعبادة الأصنام. للوساوس الشيطانية وتخيلات الأوهام.

توضيح ذلك: أن المعرفة هي إدراك الشئ، ثانيا بعد توسط الجهل، والعباد قد أقروا له بالربوبية وهم في صورة الذر حين قال: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى »(2)لشهادة عقولهم الخالصة عليها. ثم جهلوا ذلك وأنكروه لتعلقهم بالعلائق الجسمانية، وتشبثهم بالتسويلات النفسانية، وتمسكهم بالتخيلات الشيطانية; فبعث الله تعالى رسله رحمة منه وتفضلا لتعليمهم وتذكيرهم، فمن ضل بعد ذلك فقد غوى ومن آمن فقد اهتدى، ولما حمد سابقا ذاته تعالى لأجل نعمته وقدرته وغيرهما من الصفات المذكورة أراد أن يحمده ثانيا على نعمائه المتجددة آنا فآنا على سبيل الاستمرار التجددي فأتى بالجملة الفعلية رعاية للتناسب فقال: (أحمده) أي أحمده آنا فآنا وساعة فساعة، ولما كان الحمد من أجل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جلالا وجمالا ومنعما، وإطاعة دواء الأمراض النفسانية على حسب تفاوت مراتبها في

ص: 29


1- 1 - يعني البيضاوي صاحب التفسير المعروف بمعالم التنزيل.
2- -سورة الأعراف: 172.

الاخلاص كما قال سبحانه:«ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »والدافعة لجميع الأمراض هي المرتبة القصوى من مراتب الاخلاص قيده بقوله: (حمدا يشفي النفوس) طلبا لتلك المرتبة ورجاء لحصولها، ثم لما كان شفاء النفس من جميع الأمراض سببا لرضاه حالا ومآلا عقبه بقوله (و يبلغ رضاه) الموجب لمزيد امتنانه في الدنيا ورضوانه في الآخرة، ثم مفهوم الحمد وإن كان مغايرا لمفهوم الشكر لكنهما قد يصدقان على فرد ما، فوصف الحمد بقوله: (و يؤدي شكر ما وصل إلينا) حصرا للحمد هنا في ذلك الفرد لأنه أفضل أفراده وأكملها ثم بين الموصول بقوله: (من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء) هذه التراكيب من باب جرد قطيفة، والمراد بسوابغ النعماء: النعماء الكاملة الوافية الواسعة; قال الجوهري: «شئ سابغ أي كامل واف وسبقت النعمة تسبغ بالضم سبوغا اتسعت وأسبغ الله عليه النعمة أي أتمها» والجزيل: الكثير العظيم. والآلاء بالمد النعم واحدتها الألاء بالفتح ويجوز القراءة هنا بالجمع والافراد، والبلاء الاختبار بالخير والشر، يقال: بلوته بلوا جربته اختبرته، ولا يبعد أن يراد بالفقرة الأولى النعم الباطنة كالعقل والحواس المستورة وملائماتها، وبالثانية النعم الظاهرة، وبالثالثة الاحتجاج بالرسل وابتعاثهم لأن أعظم الاختبار هو الاختبار بما جاء به الرسل: وهذه وإن كانت من النعم الظاهرة المندرجة في الثانية لكن خصها بالذكر لشدة الاهتمام بها; ثم لما كان أفضل أفراد الحمد هو الشهادة بالتوحيد وبرسالة رسولنا بخصوصه (صلى الله عليه وآله) إذ هي أصل للبواقي أشار إليهما بقوله:

(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) «وحده» تأكيد للحصر وتقرير له وحال بتأويل منفردا (إلها واحدا) دل الأول على جميع صفات الكمال والثاني على جميع صفات الجلال إذ الواحد الحقيقي منزه عن أنحاء التركيب الخارجية والذهنية والتعدد وعما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز وأمثالهما (صمدا) الصمد السيد لأنه يصمد إليه في الحوائج من صمد إذا قصد، والله سبحانه هو الموصوف به على الاطلاق لاستغنائه عن غيره مطلقا واحتياج غيره إليه من جميع الجهات (لم يتخذ صاحبة) لاستحالة الشهوة والحركة عنه تعالى، ولأن اتخاذها يقتضي المجانسة بينه وبينها ولا يجانسه أحد (ولا ولدا) لأن الولد يجانس الوالد ولا يجانسه شئ، ولأنه تعالى لا يلتذ بشئ لأن اللذة من لواحق الجسمية ولا يفتقر إلى ما يعنيه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه. (وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبد انتجبه) أي اختاره واصطفاه وإنما قرنت هذه الكلمة بكلمة التوحيد لأن كلمة التوحيد يعتبر فيها الاخلاص ولا يحصل الاخلاص الا بسلوك مراتبه ودرجاته ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة كيفية السلوك ولا تحصل تلك المعرفة إلا بالبيان النبوي فكانت الشهادة بصدق النبيين أجل كلمة بعد كلمة الاخلاص وأنها بمنزلة الباب لها فلذلك قرنت بها وصارتا كلمتين مقارنتين لا يصح انفكاك إحديهما عن الأخرى (و رسول ابتعثه)

ص: 30

وارشاد العباد وهدايتهم، وفي تقديم العبودية على الرسالة إشارة إلى تقدمها في التحقق (1) كما دل عليه بعض الاخبار (على حين فترة من الرسل) الفترة الضعف والانكسار وما بين الرسولين من رسل الله تعالى، يعني ابتعثه على حين فتور من الارسال وانقطاع من الوحي. وذلك الابتعاث نعمة عظيمة لا يدانيها شئ من النعماء لظهور أن خلو الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور بمقتضى النفوس البشرية ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذم بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول من المدح، ولذلك ذكر من خبث أحوال ذلك الزمان وذم الخلائق فيه ما يدل على عظمة نعمة بعثته (صلى الله عليه وآله) ما استلزمه من الخيرات ليعتبروا ويعرفوا قدر تلك النعمة ويحصل لهم التوجه إلى الله ويشكروا له.

(وطول هجعة من الأمم) الهجع والهجعة والهجيع بالفتح في الجميع طائفة من الليل، الهجوع النوم ليلا كذا في النهاية. وقال الجوهري: «أتيت بعد هجعة من الليل أي بعد نومة خفيفة» وهي ههنا كناية عن غفلة الأمم في ظلمات الجهالة عن أمر المبدء والمعاد وسائر المصالح التي ينبغي التوجه إليها.

(و انبساط من الجهل) أي انتشاره في الربع المسكون وإحاطته بالامم أجميعن لفقدهم من يهديهم إلى المعارف الالهية والمصالح الدينية والدنيوية (و اعتراض من الفتنة) أي عروضها في الأقاليم وإحاطتها بأهلها طولا وعرضا، أو وقوعها على غير قانون شرعي ومشيها في غير طريق عقلي ونقلي، من اعترض الشئ صار عارضا كالخشبة المعترضة في عرض النهر، والفرس الماشي في عرض الطريق من غير استقامة بتشبيهها بالفرس المتصف بهذه الصفة واستعارة لفظ الاعتراض لها.

(و انتقاض من المبرم) المبرم المحكم من أبرمت الشئ أحكمته، والمراد به نظام أحوالهم وإبرام أمورهم أي استحكامها بالشرائع السالفة، والمراد بانتقاضه انقطاع ذلك النظام وانهدام بناء ذلك الاستحكام بتغيير تلك الشرائع وفسادها، فان الخلائق كلهم في زمان الفترة حرفوا الطريقة الربانية، وخرجوا عن الشريعة الالهية وأرقدتهم نقمات وساوس الشياطين في مهاد المراقد الطبيعية إلا من عصمه الله بلطفه الخفي وقليل ما هم.

(و عمى عن الحق) العمى يطلق على معنيين أحدهما عدم البصر وثانيها عدم البصيرة وهو المراد هنا. والحق هو الأمور الثابتة بالشرائع السابقة من التوحيد وصفات الكمال والجلال وغير ذلك من الأمور المتعلقة بصلاح النشأتين، والعمى عن الحق عبارة عن بطلان بصيرتهم القلبية باستيلاء الأمراض النفسانية عن إدراك هذه الأمور.

ص: 31


1- 1 - قيل: ولها تقدم في الرتبة والشرف أيضا إذ العبودية حقيقة التفات إلى الحق وانتقال إليه والرسالة بالعكس فإنه انتقال إلى عالم الخلق.

(و اعتساف من الجور) العسف الأخذ على غير الطريق وكذلك التعسف والاعتساف، والجور الميل عن طريق الحق، والظلم; قال في المغرب «جار عن طريق مال جار ظلم» والمعنى الثاني أنسب يعني ابتعثه (صلى الله عليه وآله) حين مالوا عن طريق الهداية وسلكوا طريق الغواية وظلموا بذلك أنفسهم، فبعضهم كانوا من عبدة الأوثان (1) وبعضهم كانوا من عبدة النيران، و بعضهم كانوا من عبدة الشمس والقمر، وبعضهم كانوا من عبدة الشجر والبقر، وبعضهم: قالوا عزير ابن الله، وبعضهم قالوا: المسيح ابن الله، وبعضهم قالوا: الملائكة بنات الله، وبعضهم قالوا: الله جسم، وبعضهم قالوا: هو نور مثل سائر الأنوار، وبعضهم قالوا: يجوز رؤيته - إلى غير ذلك من الملل الفاسدة والمذاهب الباطلة.

(و امتحاق من الدين) محقه أبطله ومحاه وتمحق الشئ وامتحق أي بطل. والدين في اللغة: الطاعة والجزاء. وفي العرف: الشرائع الصادرة بواسطة الرسل. وبطلانه كناية عن تركهم العمل بما فيه من صلاح معاشهم ومعادهم فإنهم غيروا وبدلوا وشرعوا لهم ما سولت لهم أنفسهم فحللوا حراما وحرموا حلالا فبعثه الله الرؤف الرحيم ليهديهم إلى الصراط المستقيم.

* الأصل:

«و أنزل إليه الكتاب فيه البيان والتبيان، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه، فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به، وصدع بما أمر، وأدى ما حمل من أثقال النبوة، وصبر لربه، وجاهد في سبيله، ونصح لامته، ودعاهم إلى النجاة، وحثهم على الذكر، ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع، أسس للعباد أساسها، ومنائر رفع لهم أعلامها، لكيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفا رحيما».

* الشرح:

(و أنزل إليه الكتاب) الكتاب في الأصل الفرض والحكم والقدر كما يظهر من الصحاح والمغرب; ثم المتبادر منه عند الاطلاق هو القرآن العزيز لاشتماله على هذه الأمور على الوجه الأتم والأكمل.

(فيه البيان والتبيان) أي بيان كل شئ وتبيانه وهو البيان مع البرهان، وقدم الظرف للحصر أو لقرب المرجع أو الاهتمام لاشتماله على ضمير «الكتاب» أو لربط الحال على صاحبها ابتداء.

(قرآنا) حال بعد حال عن «الكتاب» (عربيا) صفة للتخصيص أو للمدح واشتماله على غير العربي نادرا على تقدير ثبوته لا يقدح في عربيته (غير ذي عوج) لا اختلال ولا اختلاف ولا شك فيه أصلا لا من جهة المباني ولا من جهة المعاني (لعلهم يتقون) من العقوبات الأخروية والمشتهيات الدنيوية،باتباع

ص: 32


1- 1 - في بعض النسخ (عبدة الأصنام).

أوامره ونصايحه واستماع زواجره ومواعظه.

(قد بينه للناس) ضمير المفعول للقرآن وضمير الفاعل لله تعالى أو للرسول (صلى الله عليه وآله) وكذا الفاعل في الأفعال الآتية والأول أولى وأرجح (و نهجه) بالتخفيف أي أوضحه وأبانه من نهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته، أو سلكه من نهجت الطريق إذا سلكته (بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وامور قد كشفها لخلقه وأعلنها) الظاهر أن القرائن الأربعة أحوال متعاقبة للقرآن، يعني أوضحه حال كونه متلبسا بعلم عظيم من التأويل والتفسير والمحكم والمتشابه والعام والخاص وغير ذلك قد فصله الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) أو الرسول للناس، وبدين يعني بشرايع نبوية ونواميس إلهية قد أوضحه لهم، وبفرائض مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد ونحوها قد أوجبها عليهم، و بأمور من أحوال الأمم الماضية والقرون السالفة قد كشفها وأعلنها لهم، وبالجملة في القرآن علم ما كان وما يكون وما هو كائن وما يحتاج إليه الخلائق وقد بينه الله تعالى لرسوله وبينه الرسول لامته وهو مخزون عند أهله.

(فيها دلالة إلى النجاة) أي في الأمور المذكورة دلالة إلى نجاة الخلق من الخزي والنكال عاجلا، و من الحرمان عن الثواب والخذلان بالعقاب آجلا. (و معالم تدعو إلى هداه) معالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطرق والحدود، والمراد بها هنا مواضع العلوم ومرابطها من الكلمات الرائقة والعبارات الراشقة والدلائل الواضحة، هي بالرفع عطف على «دلالة»، وبالجر عطف على «النجاة» والجملة الفعلية صفة لها، والضمير المجرور بالإضافة يعود إلى الله أو إلى الرسول أو إلى الكتاب، والهدى ضد الضلالة وإضافته من باب إضافة المصدر إلى الفاعل ومفعول «تدعو» محذوف وهو الخلق وقيل:

الهدى المهتدى به وهو الدين والكتاب والرسول. والإضافة على تقدير رجوع الضمير إلى الله لامية، وعلى الاحتمالين الأخيرين بيانية. وقيل: الهاء في «هداه» ساكنة زائدة للوقف كما في كتابيه ويا رباه ويا سيداه، وفيه نظر يعرف بالتأمل.

(فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما ارسل به) من أحوال المبدء والمعاد وجميع ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة (وصدع بما أمر) أي أجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أظهره من صدعه إذا أظهره وبينه أو فرق به بين الحق والباطل من صدعه إذا شقه على سبيل الاستعارة، وتشبيه الفرق بينهما بصدع الزجاجة ونحوها في عدم الالتيام من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الايضاح، والباء على الأخيرين زائدة أو للتعدية بها على طريق التجوز، و «ما» مصدرية أو موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي بما أمر به (و أدى ما حمل من أثقال النبوة) الأثقال إما جمع ثقل وهو ضد الخفة أو جمع ثقل بالتحريك وهو متاع البيت والمسافر على سبيل الاستعارة، وقد أدى كلها عند الامامية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يكن أحد غيره حاملا بجميعها باتفاق الأمة وقالت العامة لم يخص (صلى الله عليه وآله) أحدا من الأمة بجميعها وإنما أدى

ص: 33

جميعها إلى جميع الأمة بأن أخذ كل واحد منهم ما يليق بفهمه، ثم أدوا إلى التابعين كذلك، وهكذا إلى انقراض العالم. وأنت تعلم ما في هذا القول ولكن من أضله الله فلا هادي له.

(و صبر لربه) أي صبر لرضا ربه وطلب التقرب منه في تبليغ الرسالة وأداء أثقال النبوة على تحمل المشاق وأذى المعاندين وطعن الطاعنين من كفرة قريش وفسقة العرب (و جاهد في سبيله) الذي هو التوحيد ودين الحق مع قلة العدد وضعف العدد (1) (و نصح لامته) النصح في اللغة الخلوص،يقال: نصحه ونصح له، فتعديته إلى المنصوح إما بنفسه أو باللام، والمراد بنصحه لهم إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم وتعليمه إياها وعونهم عليها والذب عنهم وعن أعراضهم، وبالجملة جلب خير الدنيا والآخرة إليهم خالصا مخلصا لوجه الله، ومن ثم قيل: النصيحة في وجازة لفظها وجمع معانيها كلفظ «الفلاح» الجامع لخير الدنيا والآخرة (و دعاهم إلى النجاة) النجاة مصدر نجوت من كذا إذا تخلصت منه وتنحيت عنه، يعني دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى نجاتهم من العقوبات والشدايد أو إلى ما به نجاتهم من المصالح وخلوص العقايد (وحثهم على الذكر) حث يتعدى بعلى، يقال: حثه على كذا إذا حضه عليه، وتعديته هنا بالى إما باعتبار أن حروف الجر قد يجيء بعضها في موضع بعض أو بتضمين معنى الدعاء ونحوه، والمراد بالذكر ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في جميع الأحوال وله شرف عظيم قال الله تعالى «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً »(2)قال («يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا »(3) وقال «اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ »(4)وقال الصادق (عليه السلام): «و قال الله تعالى من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء من الملائكة» (5) المراد به ذكر آلاء الله ونعمائه أو الصلاة والدعاء لأنهما نوعان كاملان من الذكر والقرآن العزيز. (و دلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها) المناهج جمع المنهج وهو الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه. والدواعي جمع داعية التي تدعوهم إلى اتباع سبيل الهدى. والأساس جمع أس بالضم وهو أصل الحائط وضمير التأنيث يعود إلى المناهج والدواعي، والمراد بتأسيس الأساس: وضعها وإحكامها، وبسبيل الهدى: الطريقة الشرعية، وبالمناهج، الأوصياء الطاهرين. ويجوز أن يراد بالأول الأوصياء وبالأخير الأدلة الدالة على خلافتهم (ومنائر رفع له أعلامها) عطف على «سبيل الهدى» والمنائر جمع المنارة على القياس لأن وزنها مفعلة إذ أصلها نورة موضع النور وهي ما يوضع فوقه السراج وقياسها في الجمع مفاعل كمناور ومنائر بقلب الواو همزة تشبيها للأصلي بالزائد

ص: 34


1- - العدد - بكسر العين وفتح الدال - جمع عدة - بالضم - وهي الاستعداد.
2- -سورة الأعراف :205.
3- -سورة الأحزاب:41،42.
4- -سورة البقره: 152.
5- - رواه الكليني في كتاب الدعاء من الكافي باب ما يجب من ذكر الله في كل مجلس.

كما قالوا مصائب في مصاوب. وفي بعض النسخ «منار» وهي جمع منارة أيضا على غير القياس، ثم استعير للأوصياء (عليهم السلام) لأنهم محال للأنوار العقلية، وبهم يستبين حقائق الدين ويستنير قلوب العارفين كما أن المشبه به للأنوار الحسية، ورفع الأعلام عبارة عن نصب الأدلة الدالة على خلافتهم وإمامتهم: (لكيلا يضلوا من بعده) أي دلهم على كذا وكذا لكيلا يضلوا من بعده على طريق الحق بالاقتداء بآثارهم والاهتداء بأنوارهم (وكان به رؤفا رحيما) الرأفة أشد الرحمة والواو للعطف على الأفعال المتقدمة، أو للحال عن المستكن فيها أو عن البارز في «يضلوا».

* الأصل:

«فلما انقضت مدته، واستكملت أيامه، توفاه الله وقبضه إليه وهو عند الله مرضي عمله، وافر حظه، عظيم خطره، فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمن وإمام المتقين صلوات الله عليه، صاحبين مؤتلفين، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق، ينطق الإمام عن الله في الكتاب بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته، وطاعة الإمام وولايته، وواجب حقه الذي أراد من استكمال دينه، وإظهار أمره، والاحتجاج بحججه، والاستضاءة بنوره في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته، فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) عن دينه وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه وجعلهم مسالك لمعرفته ومعالم لدينه حجابا بينه وبين خلقه والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره».

* الشرح:

(فلما انقضت مدته واستكملت أيامه توفاه الله وقبضه إليه) تفصيل لقوله: «ودلهم - آخره -» والعطف للتفسير، قال الجوهري: «توفاه الله أي قبض روحه، والوفاة الموت» (وهو عند الله مرضي عمله وافر حظه عظيم خطره) أي قدره ومنزلته، والواو للحال عن مفعول «توفاه» (فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين وإمام المتقين صلوات الله عليه) تصريح لما علم سابقا ولذلك صح التفريع، قال الجوهري: «خلف فلان فلانا إذا كان خليفته في قومه ومنه قوله تعالى:

«هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» (1)وقال المطرزي في المغرب: «خلفته خلافة كنت خليفته» وقال القاضي: الخليفة من يخلف عيره وينوب منابه; والهاء للمبالغة، والأنسب بالنظر هذه المعاني أن مفعول خلف محذوف وهو الضمير العائد إليه (صلى الله عليه وآله) والواو للحال بتقدير «قد» و «كتاب الله» وما عطف عليه فاعله، ويجوز أن يقرأ «خلف» بتشديد اللام ويجعل الواو للعطف; أي وجعلهما خليفته في أمته ليقطع أعذارهم في ترك دين الحق ورفض العمل بما فيه بفقدهم من يرجعون إليه من التوقيف على الأسرار الشرعية، فإن

ص: 35


1- -سورة الأعراف:142.

المرجع إذا كان موجودا بينهم بعده (صلى الله عليه وآله) لم يبق لهم معذرة لاتباع الأهواء الباطلة، واقتفاء الآراء الفاسدة.

(صاحبين مؤتلفين) حال عن الكتاب والوصي، أي لا يفارق أحدهما الآخر أصلا، الائتلاف مطاوع التأليف; يقال: ألفت بين الشيئين تأليفا فتألفا وائتلفا، وفيه إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي الحديث» (يشهد كل واحد لصاحبه بالتصديق) أي بسبب تصديق كل واحد ما يقول وينطق; فالقرآن يصدقه (عليه السلام) في كل ما يقول باعتبار اشتماله عليه ومن جملة ما يقوله (عليه السلام) تقدمه في خلافته، ووجوب إطاعته، والقرآن يشهد له بقوله (إنما وليكم الله - الآية) وبقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) إلى غير ذلك وهو (عليه السلام) يصدق القرآن فيما ينادي من اشتماله على كل ما كان وما يكون وما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة لأنه عالم بظاهره وباطنه ومفهومه ومنطوقه وعامه وخاصه وناسخه ومنسوخه وأسراره كما يرشد إليه قوله تعالى (ومن عنده علم الكتاب) قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

(ينطق الإمام عن الله في كتاب الله بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته) خلق الله تعالى عباده للطاعة والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه في الكتاب، وظاهر أن كل أحد لا يقدر على استنباط المقصود مه لكونه ظاهرا وباطنا، ورمزا وإشارة ومجملا ومفصلا، ومحكما ومتشابها، وعاما وخاصا، ومطلقا ومقيدا، ومفهوما ومنطوقا، وناسخا ومنسوخا; فلذلك وجب في الحكمة ثبوت إمام ينطق عن الله بما أوجب عليهم وما يحتاجون إليه لئلا يضلوا، ولا يبقى لهم حجة ولا معذرة وهو لسان الحق والناطق عن كتابه والمبين لخطابه. ووجب عليهم الانقياد له واتباع آثاره، واستماع أخباره، واقتفاء أفعاله وأطواره (وطاعة الإمام وولايته) لدلالة الآيات القرآنية والبينات الربانية على ثبوت الإمامة والولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد لأولاده الطاهرين، وبينها الرسول وأهل الذكر (عليهم السلام) وعينوها وعينوا مواضعها وكيفية دلالتها، والمنكرون لفضل آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين أولوها بما سولت لهم أنفسهم فضلوا وأضلوا كثيرا وأوردوهم النار وبئست مصيرا. (وواجب حقه) ليس عطفا «على ولايته» والضمير للامام، بل على الموصول أو على طاعته والضمير لله تعالى وإدراج الواجب على الأخير للمبالغة والإضافة على التقديرين من باب جرد قطيفة. (الذي أراد) أي أراده من الإمام أو العباد والموصول مع صلته صفة لحقه. (من استكمال دينه) بالعلم والعمل (وإظهار أمره) لحفظ الطريقة الالهية عن الانطماس والعلوم النبوية عن الاندراس سيما عند ظهور البدعة وبروز الخدعة فإنه يجب على العالم حينئذ إبطالها باظهار

ص: 36

الحق. ومن ثم وجب وجود معصوم في كل عصر ليكون مفزعا في كل مصيبة وملجأ في كل بلية.

(والاحتجاج بحججه) إذ لكل حق حقيقة، ولكل حقيقة دليل وحجة من الله سبحانه فوجب على العاقل التمسك في إثباتها بتلك الحجة لا بما سولت له نفسه فان إيصاله إلى المفاسد أولى من إيصاله إلى المقاصد. ويجوز أن يراد بالحجج الأئمة المعصومين إذ من حق الله تعالى على العباد أن يحتجوا في العلوم الدينية والمعارف اليقينية بقولهم (عليهم السلام) لأنهم حفظة لسره وخزنة لعلمه (والاستضاءة بنوره) الذي أودعه (في معادن أهل صفوته) المراد بالنور العلم على سبيل الاستعارة وتشبيه المعقول بالمحسوس لجامع عقلي وهو الايصال إلى المطلوب إذ بالعلم يدرك الحق ويفرق بينه وبين الباطل كما أن بالنور يدرك المحسوس ويفصل بين الأشياء المرئية، والاستيضاء ترشيح، وصفوة الشئ خالصه، ونبينا (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرين (عليهم السلام) صفوة الله من خلقه، والإضافة الأولى بيانية أو لامية إن أريد بالمعادن القلوب والثانية بيانية والثالثة لامية، وتتابع الإضافات لا يوجب ثقلا مخلا بالفصاحة (ومصطفى أهل خيرته) عطف على المعادن، الاصطفاء الاختيار يقال: اصطفيته أي اخترته، والمصطفى بصيغة الافراد أو الجمع باسقاط النون للإضافة، والإضافة إما بيانية أو بتقدير «من» والخيرة مثال العنبة والسيرة إما بمعنى المختار أو بمعنى الاختيار وقد استعملت فيهما كما في قولهم محمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله وقوله تعالى: (ما كان لهم الخيرة).

(فأوضح الله بأئمة الهدى من هل بيت نبينا) حال عن الأئمة أو بيان لها. (عن دينه) الذي هو عبارة عن مجموع ما جاء به نبينا من القوانين. والايضاح الاظهار والإبانة. يقال: وضح الشئ أي ظهر وبان; وأوضحته أي أظهرته وتعديته بعن للمبالغة (وأبلج بهم عن سبيل مناهجه) بلج الصبح يبلج بالضم بلوجا إذا أشرق وأضاء وكذا الحق إذا اتضح، وأبلجه إذا أظهره وأوضحه و «عن» زائدة للمبالغة في الربط والايصال ومناهجه كل ما يتقرب به إليه سبحانه من العلوم الكاملة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وسبيلها دلائلها، يعني أضاء بأنوار أئمة الهدى وإشراقاتهم سبيل هذه الأمور الموصلة إلى جناب الحق الموجبة للتقرب به، وأوضح دلائلها (وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه) الينابيع جميع ينبوع وهي عين الماء، وهذا الكلام إما على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية.

بتشبيه العلم بالماء، وإثبات الينابيع له، أو من قبيل لجين الماء، وفي لفظ الباطن إشارة إلى علمهم بالأسرار الالهية والعلوم الغيبية اللدنية المشار إليها بقوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) أو إلى علمهم بباطن القرآن ومتشابهاته على أن يكون المراد بالينابيع الآيات القرآنية.

ص: 37

(وجعلهم مسالك لمعرفته) لكل مطلوب طريق ومسلك من سلكه وصل إليه وهم (عليهم السلام) طرق معرفة الله بما يليق به ومسالكها بأمر الله عز شأنه ومن رجع إليهم يتنور ذهنه بنور المعرفة وضوء الايمان ومن أعرض عنهم يتحير قلبه في تيه الجهالة وظلمة الكفران. (ومعالم لدينه) الناس بتعليمهم يعلمون أطوار الطريقة وبتفهيمهم يفهمون أسرار الشريعة (وحجابا بينه وبين خلقه) الحجاب بالضم والتشديد جمع حاجب السلطان وهو الذي يمنع من شاء من الدخول عليه ويأذن من شاء ولا يمكن الوصول إلا بالرجوع إليه والتمسك به وهم (عليهم السلام) كذلك بالنسبة إلى السلطان الأعظم جل شأنه (والباب المؤدي إلى معرفة حقه) الباب جنس يصدق على الكثير وبهذا الإعتبار صح حمله على الجمع.

وتوضيح المرام في هذا المقام: أن حقوق الله على عباده كثيرة وهي مدينة ليس فيها إلا الحق ولا يدخلها إلا أهل الحق، وتلك الحقوق أشرف وأعظم من أن ينالها العقول البشرية بذاتها ويدركها باستقلالها; لخفاء طرقها ودقة مسالكها فربما يقع في الخيال مثلا التماثل بينه تعالى وبين المخلوقات ويجري عليه أحكام الأجسام والجسمانيات كما ترى في كثير من المبتدعة، ولذلك جعل الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) مدينة تلك الحقوق وعليا وأوصياءه (عليهم السلام) بابها كما يدل عليه «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وهو في الحقيقة باب الجنة وباب الرحمة وباب السعادة، فمن عكف على سدنته فقد رشد، ومن أعرض عنه فقد هلك وقد فسد.

(أطلعهم على المكنون من غيب سره) أطلعهم إما بتخفيف الطاء من قولك أطلعت على سري إذا أظهرته له ووقفته عليه، وإما بتشديدها من قولك اطلعت على باطن أمره بمعنى أشرفت عليه، فلا يناسب المقام لأنه لازم والمقصود أنهم (عليهم السلام) لم يكونوا مقصورين على العلم بظاهر الشريعة بل أطلعهم الله سبحانه على أسرار مكنونه في لوح التصوير مكتوبة بقلم التقدير، غايبة عن بصائر الخلائق، مستورة عن ضمائر أرباب العلائق والعوائق وهم قد كانوا يظهرون بعضها لبعض إن وجدوه أهلا ويخفونها من غير أهله إذ كانوا أطباء النفوس يتكلمون الناس بقدر عقولهم ومن ثم قال سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أشار بيده إلى صدره «إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها أهلا».

* الأصل:

«كلما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما بينا، وهاديا نيرا. وإماما قيما، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، ويستهل بنورهم البلاد، وجعلهم الله حياة للأنام ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ودعائم للاسلام وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم والرد إليهم فيما جهل، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون ومنعهم جحد ما لا يعلمون، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه، من ملمات الظلم ومغشيات البهم

ص: 38

وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس [أهل البيت] وطهرهم تطهيرا».

* الشرح:

(كلما مضى منهم إمام نصب) فاعله ضمير يعود إلى الله أو إلى الإمام، ولا تفاوت في المعنى لأن الإمامة عهد من الله ورسوله لرجل بعد رجل حتى ينتهى الأمر إلى صاحبه (لخلقه من عقبه إماما) «من» جارة أو موصولة «وإماما» على الأول مفعول «نصب» وعلى الثاني حال عن الموصول وذلك لاستحالة خلو الأرض من حجة وإلا لساخت بأهلها (بينا) في العلم والحلم والإمامة لظهور الآيات والكرامات منه مقرونا بدعوى الإمامة (وهاديا) للقرن الذي هو فيهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم (نيرا) كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، إذ بنوره يضيء قلوب المؤمنين ويرتفع عنها ظلمة الجهالة والغواية، كما أن بنور الشمس يضيء وجوه الأرضين ويرتفع عن الأبصار ظلمة الغطاء والغشاوة (وإماما قيما) أي مستقيما في أفعاله وأعماله وسائر الحالات الكاملة المطلوبة من الإنسان، من قومت الشئ فهو قويم أي مستقيم أو قيما بأمر الإمامة من قام بأمر كذا (يهدون بالحق) «يهدون» حال عن الأئمة و «بالحق» ظرف مستقر حال عن ضمير الجمع أي يهدون الناس حال كونهم متلبسين بالحق، أو ظرف لغو أي يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم إليها (وبه يعدلون) بينهم في الأحكام.

(حجج الله) أي هم حجج الله على خلقه والجملة حال عن ضمير الجمع (ودعاته ورعاته) جمع الداعي والراعي، وهو إما من رعى الأمير رعيته رعاية إذا حفظهم عن المكاره أو من رعيت الأغنام أرعاها رعيا إذا أرسلتها إلى المرعى، وكفلت مصالحها بتشبيه الخلق بالأغنام لأنهم قبل الاستكمال بالشريعة بمنزلتها في الحيرة وعدم علمهم بمصالحهم ومضارهم أو لاحتياجهم إلى من يحبسهم على مرعى الشريعة ويمنعهم عن الخروج عنها، كما أن الأغنام تحتاج إلى من يحبسها على مرعاها وما فيه مصالحها (على خلقه) متعلق بالثلاثة المذكورة على سبيل التنازع إذ بهم يحتج الله على خلقه استكمال الدين فلا يكون لهم عليه حجة وهم دعاته على خلقه يدعونهم إلى معرفة ذاته وصفاته وشريعته، ورعاته عليهم يحفظونهم عن المكاره والمقابح ويرشدونهم إلى المحاسن والمصالح (يدين بهديهم العباد) أي العباد يطيعون الله ورسوله في الأمر والنهي وغيرهما مما يجب التقرب والرضوان بسبب هدايتهم وإرشادهم ولولا ذلك لهلكوا جميعا (ويستهل بنورهم البلاد) أي يستضي بعلمهم البلاد أو أهلها على سبيل الاستعارة بتشبيه العلم بالنور في الهداية (جعلهم الله حياة للأنام) أي سببا لحيوتهم وبقائهم في الدنيا إلى أجل معدود إذ لولا وجودهم لمات الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يراد بالحياة الإيمان بالله وباليوم الآخر والتصديق بما جاء به الشرع من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن هذه الأمور سبب للحيوة الأبدية (ومصابيح للظلام) شبه البدعة والجهالة بالظلمة في المنع من الاهتداء للطريق واستعمل

ص: 39

في المشبّه لفظ المشبه به ولزم من ذلك تشبيههم (عليهم السلام) بالمصابيح إذ بنورهم يرتفع غشاوة البدعة والجهالة عن بصائر المؤمنين فيهتدون سبيل الحق ويجتنبون عن طريق المفاسد كما أن بنور المصباح يرتفع غشاوة الظلمة عن أبصار الناظرين فيبصرون المطالب ويرشدون إلى المقاصد.

(ومفاتيح للكلام) تشبيه الكلام بالبيت المخزون فيها الجواهر استعارة مكنية وإثبات المفاتيح له تخييلية. والمراد بالكلام الكلام الحق مطلقا أو القرآن العزيز ولا يفتح باب حقايقه وأسراره على قلوب العارفين ولا يشاهدها بصائر الطالبين إلا بتفسيرهم وتعليمهم (عليهم السلام) (ودعائهم للاسلام) تشبيه الإسلام بالبيت مكنية، وإثبات الدعائم له تخييلية، فكما أن بقاء البيت يحتاج إلى دعائم متناوبة يقوم الآخر مقام الأول عند زواله كذلك بقاء الإسلام وعدم اندراسه بتوارد صواعق المحن وتواتر سيول الفتن يحتاج إلى ناصر ومعين يقوم واحد بعد واحد إلى قيام الساعة. (وجعل نظام طاعته) أي ما ينتظم به طاعته. والنظام - بالكسر - الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية (وتمام فرضه) على العباد من غير أن يكون فيه نقص وعيب (التسليم لهم فيما علم) أي فيما علمه العبد أو فيما هو معلوم ومعنى التسليم الاخبات والخضوع، وتصديق قولهم فيما أسروا وما أعلنوا سواء علمت المصلحة أو لم تعلم، ومن التسليم نقل حديثهم كما سمعوه من غير زيادة ونقصان كما دل عليه رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (1) (والرد إليهم فيما جهل) أي فيما جهله العبد أو فيما هو مجهول يعني الرجوع إليهم في استعلام المجهولات لا إلى غيرهم قال الله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وبالجملة أوجب الله تعالى علينا التسليم لهم في كل ما علمناه من تعليمهم والرجوع إليهم في كل ما جهلناه لأنهم أستاذنا وهادينا (2) في ظلمات الطبايع البشرية.

(وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون) الحظر المنع ومنه قوله تعالى (وما كان عطاء ربك محظورا) وكثيرا ما يرد في الحديث ذكر المحظور ويراد به الحرام، قد حظرت الشئ إذا حرمته وهو راجع إلى المنع، والهجوم الاتيان بغتة والدخول من غير استيذان من باب طلب يعني حرم على غيرهم الدخول على القول بما يجهلون ومنعهم عن الاقدام عليه بمجرد الظن والرأي والقياس بقوله تعالى (و لا تقف ما ليس لك به علم) وقوله تعالى (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا

ص: 40


1- 1 - سيأتي في باب التسليم وفضل المسلمين تحت رقم 8 حديث عن أحمد بن مهران عن عبد العظيم الحسني عن علي بن أسباط عن علي بن عقبة عن الحكم بن أيمن عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إلى آخر الآية) قال: «هم المسلمون لآل محمد الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤوا به كما سمعوه».
2- 2 - كذا في جميع النسخ التي كانت عندنا.

على الله إلا الحق) ومثله ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون» (1) وما روي عنه (عليه السلام) أيضا قال لسدير: «يا سدير أفاريكم الصادين عن دين الله ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري وهم حلق في المسجد يعني في مسجد الحرام فقال هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (صلى الله عليه وآله)» (2).

(ومنعهم جحد ما لا يعلمون) لأن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه ولا مستلزما له فإنكاره لا يجوز عقلا ولا نقلا لقوله تعالى: (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) (لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه من ملمات الظلم ومغشيات البهم) (3) اللام لتعليل ما تقدم في حقهم: من لطف الله تعالى بهم وإكرامه عليهم وما موصولة والعائد إليه محذوف والملمات جمع الملمة وهي النازلة من نوازل الدنيا وحوادثها، والظلم جمع الظلمة والمراد بها البدعة والفتنة على سبيل الاستعارة وملمات الظلم من باب جرد قطيفة، والغشاوة الغطاء والإغشاء التغطية ومنه قوله تعالى (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) والبهم جمع البهمة بالضم وهي ما يوقع في الحيرة لعدم معرفة وجهه من قولهم كلام مبهم إذا لم يعرف له وجه، والتركيب أيضا من باب جرد قطيفة يعني فعل الله تعالى في شأن الأئمة ما فعل وأكرمهم بما ذكر وجعلهم هادي الأمة لما أراده الله تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه برحمته ورأفته ونجاتهم بسبب هداية الأئمة وإشراقات أنوارهم من ظلمات البدع والفتن إذا نزلت بهم ومن البهم الموجبة لحيرة عقولهم المغطية لبصائر قلوبهم إذا وردت عليهم ولما حمد الله تعالى على صفاته الذاتية والفعلية التي من جملتها بعث الرسول ونصب الخلفاء، أراد أن يدعو لهم أستعانة بأرواحهم المقدسة المطهرة فيما هو بصدده وامتثالا لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه).

فقال (وصلى الله) عطف على قوله «الحمد لله» لأنه في قوة الجملة الفعلية أو على قوله «أحمد» (على

ص: 41


1- 1 - سيأتي في باب النهي عن القول بغير علم تحت رقم 7 من كتاب فرض العلم.
2- 2 - رواه الكليني في كتاب الحجة باب أن الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام.
3- 3 - المراد بالمغشيات هنا الشبهات من باب الاستعارة كما أن الغطاء والغشاء مانع من رؤية ما وراه كذلك الشبهات حاجب عن رؤية الحق والطريق المحقق من مرضات الله.

محمد وأهل بيته) الطاهرين المعصومين جميعا وإن كان أهل البيت يطلق تارة على علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (الأخيار) جمع الخير بالتشديد إذ الخير بالتخفيف اسم تفضيل لا يثنى ولا يجمع كما بين في موضعه (الذين أذهب الله عنهم الرجس) اللام إما للجنس أو للاستغراق (وطهره تطهيرا) اقتباس لقوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

* الأصل:

«أما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأرز كله وينقطع مواده; لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ويضيعوا العلم وأهله. وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم إذ كانوا داخلين في الدين مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان والنشوء عليه والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها؟ فعلم يا أخي رحمك الله إن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم، محتملة للأمر والنهي وجعلهم جل ذكره صنفين: صنفا منهم أهل الصحة السلامة وصنفا منهم أهل الضرر والزمانة، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي بعدما أكمل لهم آلة التكليف ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يحض من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي لئلا يكونوا سدى مهملين، وليعظموه يوحدوه ويقروا له بالربوبية وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة و حججه نيرة واضحة وأعلامه لائحة، تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والالهية، لما فيها من آثار صنعه وعجائب تدبيره، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه لأن الحكيم لا يبيح الجهل به والانكار لدينه، فقال جل ثناؤه: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق) وقال (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فكانوا محصورين بالأمر والنهي، مأمورين بقول الحق، غير مرخص لهم في المقام على الجهل، أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين فقال (لولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) وقال

ص: 42

(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل، لما أمرهم بالسؤال ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ومنزلة أهل الضرر والزمانة. ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين، فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة كامل الآلة، من مؤدب ودليل ومشير وآمر وناه وأدب وتعليم وسؤال ومسألة».

* الشرح:

ولما فرغ عن التحميد والصلاة أراد أن يشير إلى سبب تأليف هذا الكتاب وسببه بطريق الاجمال أن رجلا من المؤمنين شكى إليه الخلائق بسوء عقايدهم وأفعالهم من اتفاقهم على الجهل بأمر الدين وتعظيمهم لأهله لعله ينزعه عن شكايته ويزيله عما يشكوه وسأله هل يسعهم المقام على الجهل والتقليد بالآباء والأسلاف أم لا، فأجاب بأن الناس على صنفين: صنف أهل الضرر والزمانة، وصنف أهل الصحة والسلامة، وهذا الصنف لا يجوز لهم المقام على الجهل بل وجب عليهم التعلم والتعليم وبينه في كلام طويل، ثم لما علم وجوب التعلم على هذا الصنف شكى إليه اختلاف الروايات وأنه ليس بحضرته من يسأله ويعتمد بقوله، وسأله أن يصنف له كتابا جامعا للروايات الواردة في أصول الدين وفروعه فأجاب سؤاله، وصنف هذا الكتاب ليكون مرجعا له ولسائر المؤمنين إلى يوم الدين فأشار إلى ما ذكرناه إجمالا بقوله:

(اما بعد فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة) أي من تراضيهم وتوافق آرائهم عليها ومحبتهم لأهلها واجتماع كلمتهم فيها واستحسانهم إياها; لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والاصطلاح من الصلي وهو اسم بمعنى المصالحة والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم (وتوازرهم) أي تعاونهم من الأزر وهو القوة يقال: آزرت فلانا أي عاونته والعامة تقول وازرته (وسعيهم في عمارة طرقها) بتزيينها وتحسينها وترويج آثارها من اكتساب الخطيئات واقتراف السيئات ومودة الأنذال ومعاشرة الأرذال لأن كل ذلك سبب لشهرتها واتضاح أمرها وميل أهل الطبع إليها. (ومباينتهم العلم وأهله) في لفظ المباينة إشعار بأن الفعل من الطرفين ذلك لأن العلم ضد الجهل فمن اتصف بأحدهما وحسنه لنفسه يجتنب عن الآخر وأهله، فكما أن الجاهل يستنكف عن التحلي بالعلم والاستكمال بصحبة العلماء ومجالستهم كذلك العالم يستنكف عن التدنس بالجهل والاسترذال بصحبة الجهال ومجالستهم مما ينبهك على ذلك وإن لم يكن من هذا الباب حكاية الخضر وموسى على نبينا وآله عليهما الصلاة والسلام فإذا كان الحال بين النبيين المقربين الكاملين في القوة العلمية والعلية ما قد تعلم فالحال بين غيرهما أظهر ولزوم الافتراق أبين وأجدر (حتى كاد العلم معهم) أي مع سوء معاملتهم وقبح أفعالهم وشدة معاندتهم (أن يأرز كله) بتقديم الراء المهملة على المنقوطة أي يجتمع كله في زاوية النسيان من

ص: 43

أرزت الحية إلى جحرها إذا انضمت إليها واجتمع بعضها إلى بعض فيها، أو يتقبض ويهزل من الهم الغم من أرز فلان يأرز أرزا فهو أروز إذا تقبض من بخله ولم ينبسط للمعروف، وعلى التقديرين في الكلام استعارة تبعية، ويأزر بتقديم المنقوطة على المهملة بمعنى يضعف غير بعيد، والأرز مشترك بين الضدين أي القوة والضعف (و ينقطع مواده) بالكلية وهي الأخبار والآثار المروية عن المعصوم (عليه السلام) (لما قد رضوا أن يستندوا) في أعمالهم وعقايدهم (إلى الجهل) ويعتمدوا عليه ويركنوا إليه وهو إشارة إلى الاصطلاح والتوازر المذكورين كما أن قوله (و يضيعوا العلم وأهله) إشارة إلى المباينة المذكورة لأنهم بسبب تلك المباينة يلبسون الحق بالباطل وهم عن الحق معرضون، ويدرسون كتاب الجهل وهم به موقنون ويروجون مسائله وهم بذلك مبتهجون، ويتبعون آثاره من الخطيئات وهم على ذلك مفرطون، ويمدحون الدنيا وأهلها وهم إليهم متقربون، ويذمون العلم وأهله وهم عنهم يجتنبون، ويوحون إلى أقرانهم زخرف القول في ذم العلماء وهم بذلك مستبشرون، ويكرهون مجالسة الحكماء الذين هم ورثة الأنبياء وهم بهم مستهزؤون، كذلك طبع الله على قلوبهم وهم عن إدراك الحق مبعدون، فلذلك كاد العلم أن يأرز وينقطع مواده وينهزم عن عساكر الجهل لفقده من ينصره إلا قليلا من المؤمنين.

(و سألت هل يسع الناس المقام) بنصب الأول على المفعولية ورفع الثاني على الفاعلية (على الجهالة) في المعارف الحقيقية والأمور الشرعية. و «يسع» من وسعة المكان إذا لم يضيق عليه ويستعمل كثيرا في معنى الجواز يقال: يسعه أن يفعل كذا أي يجوز لأن الجائز موسع غير مضيق.

والمقام بفتح الميم وضمها لأنه إن كان من قام يقوم فمفتوح، وإن كان من أقام يقيم فمضموم، وهو على التقديرين قد يكون مصدرا بمعنى القيام أو الإقامة، وقد يكون إسما لموضع القيام ويجوز حمله هنا على كلا المعنيين; لأن الأول يناسب الوسع بمعنى الجواز والثاني يناسبه بمعنى الضيق (و التدين بغير العلم) يستند إلى معصوم شفاها أو بواسطة رواة ثقات (إذ كانوا داخلين في الدين، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان) من غير حجة وبرهان، والظرف متعلق بالدخول والاقرار على سبيل التنازع. (و النشوء عليه) نشأ الصبي ينشأ نشا على فعل بتسكين العين ونشوء على فعول بضمتين وهمز اللام: إذا كبر وشب ولم يتكامل، قيل: في بعض النسخ «والنشق» قال الجوهري: «يقال رجل نشق إذا كان يدخل في أمور لا يكاد يتخلص منها» (و التقليد) القلادة هي التي في العنق وقلدت المرأة فتقلدت هي، ومنه التقليد في الدين وتقليد الولاة الأعمال وتقليد الهدي وهو أن يعلق في عنقه شئ ليعلم أنه هدي (للآباء والأسلاف والكبراء) فقبلوا ما قبلوه وردوا ما ردوه من غير أن يتمسكوا في ذلك بمتمسك صحيح ومستند صريح كما هو المشاهد في أكثر هذه الأمة. ولو سئلتهم عن وجه ذلك لسكتوا بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (و الاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها) يعني في أصول العقائد

ص: 44

وفروعها كما هو شأن بعض الحكماء والمتكلمين وتابعيهما وبعض الفقهاء المتمسكين بالأدلة العقلية مثل الاستحسان والاستصحاب والمفهومات وغيرها.

(فاعلم يا أخي) شرع في الجواب عما سئله السائل بقوله: «هل يسع الناس» وما أشكاه عن شكايته لم يأت بما يزيلها لأن تلك الخصال الذميمة قد صارت في أكثر الناس كالطبيعة الثانية فلا بد للعاقل اللبيب أن يتجرع كأس الغصص ويصبر صبرا جميلا (إن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة) بكسر الخاء للنوع والحالة (منفصلة) أي متميزة (عن البهائم في الفطن) جمع الفطنة وهي الفهم والذكاء رجل فطن وفطن ذكي فهيم، وفي بعض النسخ «في الفطر» بالراء جمع الفطرة وهي الخلقة من الفطر بمعنى الايجاد كالخلقة من الخلق في أنها اسم للحالة ثم جعلت إسما للخلقة القابلة لدين الحق على الخصوص، وعليه الحديث المشهور «كل مولود يولد على الفطرة» إسما لملة الإسلام نفسها لأنها حالة من أحوال صاحبها وعليه قوله (عليه السلام) «قص الأظفار من الفطرة» كذا في المغرب، وقد يرجح هذا على ما في الأصل بأن الكلام في أصل الخلقة والفطنة من الأمور العارضة. (والعقول المركبة فيهم) بالجر عطف على الفطن يحتمل الرفع بالابتداء قال الجوهري: «تقول في تركيب الفص في الخاتم والنصل في السهم ركبته فتركب فهو مركب» (محتملة) بالنصب حال عن العقول على الأول وبالرفع خبر لها على الثاني (للأمر والنهي) بخلاف البهائم، إذ ليست لها فطانة وذكاء ولا عقول بل يتعلق بها نفوس حيوانية لحفظ التركيب والاغتذاء والنمو وتوليد المثل والاحساس والحركات الارادية.

(وجعلهم) بعد اشتراكهم في الفطن والعقول (صنفين صنفا منهم) بدل أو عطف بيان للمفعول الأول (أهل الصحة والسلامة) مفعول ثان، ومن قال: إن «صنفا منهم» منصوب على أنه بدل عن مفعول ثان لجعل وأورد على قوله «أهل الصحة والسلامة» بأنه لا محل له من الأعراب فقد أخطأ (وصنفا منهم أهل الضرر) الضر خلاف النفع والاسم الضرر وهو المشقة والضرير ذاهب البصر (والزمانة) هي آفة في الحيوانات ورجل زمن أي مبتلى بين الزمانة قيل: المراد أنهم ضراير وزمناء في الجوهر الباطني والأول إشارة إلى قصور القوة النظرية التي يقال لها العقل النظري، والثاني اختلال القوة العلمية التي يقال لها العقل العملي.

وأقول الأولى حملهما على كل ما يمنع من توجه خطاب التكليف بالأدب والتعليم لأن المقصود بيان من يجوز له التقليد ومن لا يجوز. وأهل الضرر في العقل النظري وأهل الزمانة في العقل العملي قد لا يكونون من أهل التقليد أيضا، ولا يشتبه حالهم على أحد فلا يكون التقسيم كثير فائدة. وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم لم يخلقهم سواء؟ وما الباعث على هذا التفاوت وما المصلحة فيه؟ فأجاب عنه الأشاعرة بأنه فاعل مختار يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وأجاب بعض الحكماء بأن هذا التفاوت للتفاوت في القابلية، والقابلية شرط في الإفاضة وهذا إلى

ص: 45

الإيجاب أقرب ومن ظاهر الشريعة أبعد. وأجاب بعض آخر منهم بأنه لمصلحة نظام الكل الذي لا نظام أكمل منه; لأنه لو خلق كل فرد على الوجه الأكمل بالنسبة إليه وحده لفات نظام الكل من حيث هو كل بل فات نظام كل فرد أيضا، مثلا لو جعل كل فرد فاضلا عاملا لما انتظم المصالح الجزئية التي لا بد في مزوالتها خسة. والحق أن لهذا التفاوت بواعث ومصالح جمة والعقول الناقصة قاصرة عن معرفة تفاصيلها.

و قد سأل المفضل بن عمر في توحيده عن الصادق (عليه السلام) حين ذكر (عليه السلام) منافع الإنسان من العقل والقوى الظاهرة والباطنة وغير ذلك من الأعضاء وذكر مضار عدمها، فقال المفضل: قلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال (عليه السلام): ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه، كما قد يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوب من تدبيرهم، ثم إن الذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت أن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينلهم منها حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب، (فخص أهل الصحة السلامة) القابلة عقولهم للأدب والتعليم. وخص بالخاء المعجمة والصاد المهملة (بالأمر والنهي) في المعارف الالهية والفروع الشرعية، وطلب منهم معرفة ذلك بالاستدلال على الوجه المعتبر وتعليمهم لغيرهم كما يشعر به قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (بعد ما أكمل لهم آلة التكليف) يعني القوى الباطنة والظاهرة مع صحتها عن الآفات وخلوها عن الموانع (ووضع التكليف عن أهل الضرر والزمانة إذ خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم) في المعارف اليقينية والقوانين الشرعية بالنظر والاستدلال. ولبعض ههنا كلام لا يخلو من مناقشة لأنه فسر آلة التكليف بالعقل الذي لم يعرضه الجنون والإغماء وشبههما وفسر الضرر والزمانة بالاختلال في العقل وهذا صريح بقرينة المقابلة في أن أوضع التكليف عن أهلهما عنده لفقد العقل بالجنون ونحوه، ثم خص الأدب والتعليم بالمعارف الإلهية حيث قال: أي غير محتملة للتأدب بالآداب العقلية والنسك الإلهية والتعلم بالعلوم الحقيقية والمعارف اليقينية العلمية، والا فالقسمان مكلفان بالأوامر والنواهي الشرعية والأعمال من الصلاة والطواف والزكاة والصيام وغيرها من الأعمال البدنية. هذه عبارته، وفيه: أن القسم الثاني إذا فقد العقل كيف يكون مكلفا بهذه الأمور فتأمل.

(وجعل عز وجل سبب بقائهم) في الدنيا (أهل الصحة والسلامة وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم) إذ لولا الأدب والتعليم لكانوا كلهم بمنزلة البهائم ولفات الغرض من الايجاد ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين; لأن الله تعالى لا يدع الأرض بغير عالم يعرف به الحق من الباطل (فلو كانت

ص: 46

الجهالة جايزة) الظاهر أن الفاء للتعليل (لأهل الصحة والسلامة) ولم يجب عليهم الأدب والتعليم كما لم يجب على أهل الضرر والزمانة (لجاز وضع التكليف عنهم) كما جاز وضعه عن أهل الضرر الزمانة (وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب) لأن الغرض من إنزال الكتب وإرسال الرسل وتقرير الآداب هو التلقي بما تضمنه الأول والتصديق بما جاء به الثاني وتزيين النفس وتكميلها بالثالث; ليحصل لهم بذلك نظام الدنيا وكمال الآخرة، وإذا لم يجب عليهم ذلك بطل الغرض من هذه الأمور وإذا بطل الغرض بطل هذه الأمور ولزم العبث (و في رفع الكتب والرسل والآداب) والقول ببطلانها وفسادها (فساد التدبير) أي: القول بأن ليس لهذا العالم صانع عالم مدبر يصنعه بتقدير وتدبير وعلم بعواقب الأمور من تدبر الأمر إذا نظر في إدباره أي في عواقبه (والرجوع إلى قول أهل الدهر) المنكرين للحشر والنشر وبعث الأنبياء، والقائلين بأن وجود هذا العالم وأجزائه منفعل الطبيعة بإهمال لا بعلم ولا بتدبير، ولا صنعة فيه ولا تقدير بل الأشياء تتكون من ذاتها وكانت الدنيا لم تزل ولا تزال ويقولون (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) وإن شئت أن تعرف جملة من تقديرات ربك وتدبيرات إلهك فعليك بمطالعة توحيد المفضل المنقول عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وقد سمعت عمن أثق به أن السيد الجليل ابن طاووس رضي الله عنه أوصى إلى بعض أحبائه وأمره أن يطالعه ويمارسه (1) والحق أنه مع قلة حجمه كتاب يظهر لمن مارسه من العلم بالحكم الإلهية والتدبيرات الربوبية ما يكل اللسان عن وصفه، ويعجز البيان عن شرحه.

(فوجب في عدل الله وحكمته أن يحض) بالحاء المهملة والضاد المعجمة أو بالخاء المعجمة والصاد المهملة وقيل: في بعض النسخ «أن يحصر» بالحاء والصاد المهملتين والراء أخيرا أي يضيق ويحبس. ويؤيد الأخيرين قوله فيما بعد «فكانوا محصورين بالأمر والنهي» (من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي) وهو من كان من أهل الصحة والسلامة كاملا فيه آلة الكليف (بالأمر والنهي) في الأحكام والمعارف والظرف متعلق بيحض (لئلا يكونوا سدى) السدى بضم السين وقد يفتح وكلاهما للواحد والجمع بمعنى المهمل يقال إبل سدى أي مهملة، وأسديتها أي أهملتها وذلك إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهارا بلا راع، فقوله (مهملين) بدل أو بيان أو صفة للتوضيح والتفسير، وفي إهمالهم والتخلية بينهم وبين نفسوهم غير ما ذكر من المفاسد ما لا يخفى (وليعظموه) بتحميده وتمجيده وتوصيفه بما يليق به من صفات الكمال ونعوت الجلال (ويوحدوه) بنفي الشريك والتجزية ذهنا وخارجا (ويقروا له بالربوبية) أي بأنه رب كل شئ ومالكه ومدبره ولا رب سواه. والرب من أسمائه تعالى ولا يطلق على

ص: 47


1- 1 - قد أوصى السيد - رحمه الله - ولده وثمرة مهجته «محمد» بقراءة هذا الكتاب الفصل السادس عشر من كتاب كشف المحجة.

غيره إلا بالإضافة (وليعلموا أنه خالقهم) منه بدء وجودهم وبقاؤهم (ورازقهم) في كل ما ينتفعون به ويحتاجون إليه في التعيش والبقاء، والرزق في اللغة ما ينتفع به وعند الأشاعرة كل ما ينتفع به حي، غذاء كان أو غيره، مباحا كان أو حراما، وخصه بعضهم بالأغذية والأشربة وعند المعتزلة هو كل ما صح انتفاع الحيوان به بالتغذي وغيره وليس لأحد المنع منه فليس الحرام رزقا عندهم.

(إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة وحججه نيرة واضحة وأعلامه لائحة) العطف فيهما للتفسير ويحتمل أن يراد بالشواهد طبائع الممكنات القابلة للتربية الموصلة لها إلى كمالاتها، بالحجج نفس تلك الكمالات، وبالأعلام مجموع ذلك من حيث المجموع أو وضع كل ممكن في حده ومرتبته التي يليق به.

(تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل) وعلمه قدرته وتدبيره وساير صفاته وكمالاته وتبعثهم على التصديق بذلك، والجملة في محل النصب على أنها حال من فاعل الأخبار المذكورة وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتبرك بذكر الله والإشارة إجمالا إلى دلالة الأمور المذكورة على جميع كمالاته أيضا كما أشرنا إليه. (وتشهد) أي تلك الشواهد والحجج والأعلام (على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية لما فيها من آثار صنعه وعجايب تدبيره) فان من نظر بقلب سليم وعقل صحيح إلى أحوال هذا العالم وكيفية نضدها ومنافعها وأحوال الأفلاك وكيفية حركتها حول الأرض من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق وأحوال الشمس في طلوعها وغروبها وانتقالها من برج إلى برج لإقامة دور السنة والفصول ومنافعها التي من جملتها نشو النبات ونموها وإدراك الثمار والغلات وضبط الأوقات للديون والمعاملات وأحوال القمر في إنارته ونقصانه وزيادته وحركته في منازله ومنافع هذه الأمور وأحواله المتحيرة في اختلاف حركاتها كما وكيفا وجهة وانتقالاتها واقتراناتها واستقامتها ووقوفها، ورجوعها وما يترتب على هذه الأمور من المنافع وأحوال السفليات مثل الأرض والماء والنار والهواء والسحاب المسخر بين الأرض والسماء وانتقاله من موضع إلى موضع، و إفاضة الماء في وقت وفي محل دون وقت ومحل آخر وأحوال المعدنيات مثل الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والزمرد والفيروزج والحديد والنحاس والرصاص والزرنيخ والكبريت والقار والموميا، وغيرها مما يشتد حاجة الناس إليه وتكثر منافعه، وأحوال الحيوانات ومنافعها وفوائدها وخواصها واهتدائها إلى مصالحها في معاشها وبقائها وفرارها عما يضرها وميلها إلى ما ينفعها، ومن جملتها الذرة الحقيرة وهي مع حقارتها وصغرها يجتمعن في جمع القوت وإعداده بالمعاونة في نقله إلى بيوتهن ثم يعمدن ويقطعن الحب لكيلا ينبت ولا يفسد، ومنها الزنبور فإنه يعمل بيوتات مسدسات ومخمسات متجاورات من غير فرجة وقد يعجز عن مثلها المهرة من أرباب الهندسة. وأحوال الإنسان وما فيه من القوى والحواس والأعضاء والجوارح والعروق الساكنة والمتحركة والنفوس القابلة للعروج إلى أعلى عليين والنزول أسفل السافلين، وأحوال الجنين واحتجابه في

ص: 48

ظلمات; ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة حيث لا حيلة له في طلب الغذاء ولا دفع الضرر ولا جلب النفع كيف يجري إليه في تلك الأحوال جميع ما يحتاج إليه وكيف يجعل له ثدي الام بمنزلة الأداوتين وكيف يجعل له الدم لبنا خالصا وكيف يحرك هو شفتيه طلبا لغذائه، عرف أن كل هذه الأمور وغيرها مما لا يعد ولا يحصى بأمر صانع عليم خبير قدير مدبرا أوجد كل ذرة من ذرات هذا العالم بعلم وقدرة وتدبير لا إله إلا هو تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.

(وندبهم) أي دعاهم (إلى معرفته) أي معرفة ذاته وصفاته وشرايعه وأحكامه كما يرشد إليه قوله (لئلا يبيح لهم أن يجهلوا دينه) الذي شرعه لنظام أحوالهم وانقيادهم بالعبودية (وأحكامه) الخمسة المعروفة (لأن الحكيم لا يبيح الجهل به والانكار لدينه) لأرباب الاستعداد وأهل الصحة والسلامة، ولعل المراد بالانكار الجهل بناء على أن إنكار الشئ مستلزم للجهل به، فيطبق الدليل على المدعى (فقال جل ثناؤه) الفاء تفصيل لقوله «ندبهم» أو تعليل له، أو لقوله «لأن الحكيم لا يبيح الجهل والإنكار لدينه» (ألم يؤخذ عليهم) إنكار للنفي أي أخذ على أهل الكتاب (ميثاق الكتاب) أي الميثاق المذكور في الكتاب وهو التورية، والميثاق العهد (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) وهو القول باشتراط التوبة في غفران الذنوب حتما، و فيه أن ما ذهب إليه اليهود من إثبات المغفرة بغير توبة والبت عليها نقض لميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه بما ليس بحق «وأن لا يقولوا» عطف بيان للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا، وقيل المراد بميثاق الكتاب قوله تعالى في التورية «من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر إلا بالتوبة» وحينئذ قوله «أن لا يقولوا» مفعول له ومعناه لئلا يقولوا، ثم الآية وإن نزلت لسبب مخصوص كما ذكره المفسرون إلا أنا قد بينا في الأصول أن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم، وعلى هذا دلت الآية على أنه يجب على هذه الأمة أيضا أن يقولوا الحق ويحرم عليهم أن يقولوا في صفاته وأفعاله وأحكامه وشرائعه ما ليس بحق، وأن يثبوا له ما هو منزه عنه من الولد والصاحبة والتجسم والتحديد والتشبيه وغير ذلك.

(وقال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) قال القاضي وصاحب الكشاف: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن أول ما سمعوه وفي بديهة السماع قبل أن يفقهوا ويتدبروا آياته ويعلموا كنه أمره ويفقهوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم على مخالفة دينهم ومفارقة دين آبائهم كالناشي على التقليد إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه وإن كانت أضوء من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها أول وهلة واشمئز منها قبل أن يحسن إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب، ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على الندب إلى معرفة الحق والقول به وذم الجهل والمنكرين لدين الحق (فكانوا) أي أهل الصحة والسلامة (محصورين بالأمر والنهي) في المعارف والأحكام أي محبوسين بهما لا يجوز لهم التفارق عنهما أو

ص: 49

أنهما يتوجهان إليهم لا غيرهم من أهل الضرر والزمانة (مأمورين بقول الحق) فيهما، والإضافة بيانية أو من إضافة المصدر إلى المفعول (غير مرخص لهم) بفتح الخاء والظرف قائم مقام الفاعل أو بكسرها والفاعل هو الله تعالى (في المقام) بالفتح والضم مصدر (على الجهل) بدين الحق وأحكامه (أمرهم بالسؤال والتفقه في الدين) بمنزلة التعلى لما مر فلذلك ترك العاطف (فقال فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) قال القاضي وصاحب الكشاف: فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة ليتكلفوا الفقاهة في الدين، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، و ليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إرشاد القوم وإنذارهم والنصيحة لهم; وتخصيصه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليل على أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم في نفسه ويقيم غيره، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم كما هو شأن بعض المتفقهين.

وأورد عليهما بعض الأفاضل وتبعه بعض آخر بأنهما جعلا الانذار والنصيحة آخر القصد ومرمى الهمة في التفقه ولم يتفطنا بأنه مما لا يساعده اللفظ لوجود العاطف في التعليل فيكون «لينذروا» عطفا على «ليتفقهوا» بإعادة لام العلة ولو لم يكن الواو كان لما ذكره وجه.

أقول: نسبة عدم التفطن بالعاطف إلى مثلهما سيما إلى صاحب الكشاف المبرز في علم العربية والمقنن لقوانينها في غاية البعد وإنما نشأ ذلك من عدم التفطن بمقصودهما لأن مقصودهما أن مجموع التفقه في الدين وتعلم الأحكام وأصول القواعد على اليقين وإنذار القوم وإرشادهم إليهما وإن كان غاية السعي والنفر لكن الظاهر أن الانذار غاية النفر بواسطة التفقه إذ لا يمكن حصوله بدونه فهو بحسب الحقيقة والمعنى غاية التفقه وإن كان في العبارة بظاهر العطف غاية النفر فهما جعلا الانذار غاية التفقه رعاية لجانب المعنى وتنبيها على ما ذكرنا.

(وقال فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أمرهم بالسؤال على تقدير عدم العلم ولم يجوز لهم البقاء على الجهالة. والمقدم هنا جزاء للشرط عند من جوز تقديمه عليه، ودليل على جزاء محذوف بعده عند طائفة، والشرط حال لا يحتاج إلى جزاء عند آخرين (فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة المقام على الجهل لما أمرهم بالسؤال) فيه دلالة على أن الأمر للوجوب إذ استحباب السؤال لا ينافي جواز المقام على الجهل (ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب) لأن البعثة على هذا التقدير عبث; إذ الغرض منها تكميل الخلائق وتهذيبهم فإذا لم يجب عليهم قبول ذلك وجاز لهم المقام على الجهل بطل الغرض، وإذا بطل الغرض لزم العبث وإذا لزم العبث لزم عدم الإحتياج إلى ما ذكر، ولكن عدم الإحتياج باطل إما لما مر من نفي التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر، وإما لما أشار إليه بقوله (فكانوا) أي أهل السلامة (يكونون عند ذلك) أي عدم بعثة الرسل بالكتب والآداب (بمنزلة البهائم ومنزلة أهل

ص: 50

الضرر والزمانة) عدم الفرق بين الحق والباطل وعدم التمييز بين المعارف وغيرها، وقيل: إلا أن بين الفريقين فرقا لأن أهل الصحة والسلامة لهم عذاب أليم في القيامة لأنهم أبطلوا استعدادهم وأفسدوا قوة مرآة بصيرتهم دون الطائفة الأخيرة لأنهم مختوم على قلوبهم في الأزل. وفيه نظر لأن المفروض عدم وقوع التكليف بشئ أصلا فكيف يكونون معذبين في القيامة والعذاب إنما يكون بترك التكاليف (ولو كانوا كذلك) أي بمنزلة البهائم وأهل الضرر والزمانة (لما بقوا طرفة عين) وهلكوا دفعة واحدة من غير مهلة لأن حكمة الله تعالى تقتضي عدم بقاء الأرض ومن عليها بدون أهل شريعة ودين وأصحاب معرفة ويقين.

(فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالآداب والتعليم وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة كامل الآلة من مؤدب ودليل مشير) ليحصل التأدب بالآداب بإعانته وإرفاده والاهتداء إلى الحق بدلالته وإرشاده (وآمر وناه) ليسلك سبيل الخيرات بزواهر أمره ويسد سبيل المنهيات بزواجر نهيه (وأدب وتعليم) ليكتسب الذهن من نورهما جلاء ويقترف العقل من ضوئهما صفاء (وسؤال ومسئلة) ليرفع عن وجه القلب نقاب الجهالة ويزيل عن ساحة العقل حجاب الضلالة، لأن شفاء العي هو السؤال، كل ذلك ليستكمل القوة النظرية والعملية على مراتبهما وتتخلى النفس عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتخرج إلى حد الكمال من حد النقصان; وتشاهد الصور الإدراكية مشاهدة العيان، وتدرك جلال الحق في مرآة ذاته، ولا تغفل طرفة عين عن أفعاله، وصفاته; ففي كل وقت يحصل لها الشوق والسرور، والله وليها يخرجها من الظلمات إلى النور.

* الأصل:

«فأحق ما اقتبسه العاقل والتسمه المتدبر الفطن وسعى له الموفق، المصيب العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه: من توحيده وشرايعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه، إذ كانت الحجة ثابتة والتكليف لازما والعمر يسيرا والتسويف غير مقبول والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا به جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدي ولا يدري إلى من يؤدي. وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى، و لا مصدقا. لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن وقد قال الله عز وجل: «الا من شهد بالحق وهم يعلمون» فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة إلى لله جل ذكره إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي

ص: 51

المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين) لأنه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين وقد قال العالم (عليه السلام): «من دخل في الإيمان بعلم، ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه». وقال (عليه السلام): «من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال». وقال (عليه السلام) «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن».

* الشرح:

(فأحق ما اقتبسه) العاقل من المؤدب والدليل، يقال: اقتبست منه علما أي استفدته (و التمسه) أي طلبه بالمسئلة والسؤال (المتدبر الفطن وسعى له الموفق المصيب العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه) إذ بهذين العلمين يخرج الخلق من ظلمات الجهالة ويعلمون كيفية الخروج عن غشاوة الغواية والضلالة، وبذلك يحصل لهم إصابة قرب رب العالمين ورفاقة من أنعم الله عليه من الأنبياء والملائكة المقربين وحسن أولئك رفيقا. (من توحيده) بيان للدين أي العلم بالدين هو التصديق بوحدانيته وصفاته اللايقة به ويندرج فيه التصديق بملائكته وكتبه ورسله وأوصياء رسله، وبما أخبر به الرسل من أحوال الآخرة مثل الحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك من أحوال القيامة (وشرايعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه) بيان لما استعبد الله به خلقه (إذ كانت الحجة ثابتة) على صحيح الخلقة كامل الآلة وهذا مع ما عطف عليه دليل على أن العلم بالدين ومعرفة ما استعبد الله به خلقه أحق بالاقتباس وأولى بالالتماس (والتكليف لازما) لما عرفت من الدلايل (والعمر يسيرا) مع ما فيه من الضروريات التي لا يمكن البقاء بدونه كالنوم وتحصيل الغذاء واللباس ونحوها فلا يسع العمر إلا للأهم والأحق وهو الأمور المذكورة (والتسويف غير مقبول) لأن العمر لا يفي بذلك ولأن التكليف ثابت في وقت التسويف أيضا (والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة) لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقوله (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) وقوله (فلولا نفر - الآية -) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اشتراط العلم والبصيرة في العمل.

(ليكون المؤدي لها محمودا عند ربه) من ألطافه الخفية وعناياته الجلية أنه تعالى مع كمال استغنائه عن الخلق يقابل حمدهم بالحمد وشكرهم بالشكر وذكرهم بالذكر كما قال: (اذكروني أذكركم) وفي الحديث «قال الله تعالى من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء خير من ملائه (1)» (مستوجبا لثوابه

ص: 52


1- 1 - تقدم في ص 25 نحوه.

وعظيم جزائه) لأن الثواب والجزاء إنما يترتب على فعل المأمور به وترك المنهي عنه ولا يتصور ذلك إلا بالعلم والبصيرة بهما (لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدي ولا يدري إلى من يؤدي) لظهور أن من لم يعرف ربه ولم يعلم أوامره نواهيه لا يدري ما يفعل، ولا لمن يفعل، ولا من يتقرب إليه فلو فعل شيئا لم يكن ذلك عبادة لأن العلم أصل العبادة والتقرب روحه فإذا لم يتحققا لم يتحقق العبادة (وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة مما أدى ولا مصدقا) بأن ما أداه هو المطلوب منه ويترتب عليه الثواب والجزاء (لأن المصدق لا يكون مصدقا حتى يكون عارفا بما صدق به من غير شك ولا شبهة) إن لم يكن للطالب بعد الشعور بالمطلوب رجحان بأحد طرفيه كان له شك فلا يكون عارفا ومصدقا به وإن كان له رجحان فإن لم يكن ذلك الرجحان مستندا إلى دليل كان له تقليد وإن كان مستندا إلى دليل فإن كان ذلك الدليل ظنيا كان له ظن وهذان قد اشتركا في أن تصديقهما قابل للشبهة فليس تصديقهما في الحقيقة تصديقا، لزواله بسهولة عند توارد الشبهات، فلا يكون لهما معرفة وتصديق بحسب الحقيقة، وإن كان ذلك الدليل برهانا مفيدا لليقين كان له تصديق قطعي وعلم يقيني غير قابل للشبهة وهو مصدق بحسب الحقيقة وعارف بما صدق به، وهذا التصديق هو المطلوب في دين الحق ومعارفه (لأن الشاك) بدين الحق الغير الثابت الذي يمكن زوال معرفته بتوارد الشبهات (لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن) بالله وصفاته وبدينه الذي شرعه للتقرب إليه ولصلاح الخلق عاجلا وآجلا كما قال عز شأنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). (وقد قال الله عز وجل (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) قيد الشهادة بالعلم وهو يفيد اشتراط قبولها (فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة) أي بالأمر المشهود ولولا العلم بالشهادة (لم يكن الشهادة مقبولة ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه ولا شبهة في أن الشهادة بالأمور الدينية والمعارف اليقينية داخلة تحت هذا الحكم بل هي من أعظم الشهادات فهي مشروطة بالعلم قطعا (والأمر في الشاك) الظاهر أن المراد بالشاك من ليس له رجحان وتصديق أصلا ومن كان لد رجحان مستند إلى تقليد أو إلى دليل ظني بقرينة تقييد العلم فيما سيأتي باليقين، إذ يفهم منه أن الشاك يشمل الأخيرين لقبول رجحانهما تشكيكا وشبهة (المؤدي) لفرائض الله تعالى (بغير علم وبصيرة) قلبية بتلك الفرائض (إلى الله جل ذكره) أي إلى مشيته من غير أن يكون قبوله واجبا عليه كما هو الواجب في صورة العلم (إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه) هذا إن اتفق إصابته في العمل.

إن قلت: أصحاب التقليد مع تحقق الإصابة مؤمنون من أهل الجنة، غايته أن إيمانهم دون إيمان أصحاب اليقين من أرباب المكاشفة والبراهين ودرجاتهم دون درجاتهم فكيف يصح الرد عليهم؟

ص: 53

قلت: أولا كون اعتقادهم إيمانا يوجب ترتب القبول والثواب والجزاء عليه غير معلوم، وثانيا، أن الايمان التقليدي قابل للزوال بطريان أدنى شبهة خصوصا عند حضور الموت واضطراب النفس وإلقاء الشياطين شبهات متكاثرة فربما ينهدم اعتقاده بتلك الشبهات لعدم ابتنائه على أصل ثابت وأساس قائم، ولقد سمعت من أثق به أنه قال: كانت لعجوزة دعوى على أحد بمال جزيل فمرضت مرضا شديدا وحضرتها في حال الاحتضار وكررت الشهادتين عليها وهي لم تتكلم بهما، فلما بالغت في ذلك قالت: إن هذا الذي حاضر يقول لا تتكلمي بهما فانهما تمنعانك من أخذ حقوقك من فلان فماتت، وربما يظهر عنده خلاف بعض عقائده وبطلانه فيصير ذلك سببا لعدم وثوقه بساير اعتقاداته فيتردد، وربما يميل قلبه إلى حب زهرات الدنيا وشهواتها فيشتغل بها ويغفل عن أمور الآخرة لعدم كونه واثقا بها ثابتا عليها فيزهق روحه وهو على تلك الحالة مسلوب الايمان نعوذ بالله من هذه المفاسد وهذا هو المراد بقوله «إن شاء تطول عليه فقبل عمله وإن شاء رد عليه» يعنى أن مشية الله تعالى في شأنه لكون متزلزلا غير ثابت غير معلومة لنا إن شاء أبقاه على ما كان عليه بفضله وإن شاء وكله إلى نفسه. وهذا بخلاف العالم الثابت المنور قلبه بنور ربه فإنه لما كان مستيقنا مشاهدا لما في عالم الملك والملكوت بعين البصيرة عارفا بالمطالب عالما بالمفاسد وبحقارة الدنيا وزينتها كان له قدرة له تامة على أن يدفع عن نفسه جميع هذه المفاسد بعون الله تبارك وتعالى، وقد نقل عن بعض المشايخ العارف الكامل: أنه قال في حال الاحتضار حضرني ذلك اللعين وألقى علي شبهات كثيرة وأنا أجبت عن كل واحدة واحدة منها ببراهين قاطعة فأفحم فعلمت أن علمي نفعني في الدنيا والآخرة، و الله الموفق والمعين. و إلى ما ذكرناه أشار بقوله: (لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكون ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)) قال القاضي أي على طرف من الدين لاثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ((فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) قال أيضا، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا وانقلب، وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصايب فتشأم بالإسلام فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أقلني فقال: إن الإسلام لا يقال. فنزلت (خسر الدنيا والآخرة) أما خسران الدنيا فلابتلائه بالمصايب والفتن وذهاب الأموال والأولاد، وأما خسران الآخرة فلذهاب عصمته وحبوط عمله وفساد دينه بالارتداد (ذلك هو الخسران

ص: 54

المبين) لفوات رأس ماله الذي هو حياته الدنيا وحياته في الآخرة ولا خسران أظهر من ذلك وإنما كان شأنه ذلك.

(لأنه كان داخلا فيه) أي في الدين (بغير علم ولا يقين فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين) فخرج منه كما دخل فيه (وقد قال العالم (عليه السلام)) المراد به هنا موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وقيل: هو المراد من العالم إذا أطلق، ويقال له الكاظم وأبو الحسن على الاطلاق وأبو الحسن الأول والعبد الصالح وأبو إبراهيم، ويقال أبو الحسن الثاني للرضا (عليه السلام). وأبو الحسن الثالث للهادي (عليه السلام) وأبو عبد الله الصادق (عليه السلام). وأبو جعفر على الاطلاق وأبو جعفر الأول للباقر (عليه السلام). وأبو جعفر الثاني للجواد (عليه السلام) والماضي وأبو محمد للعسكري (عليه السلام) (من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه) أي خرج منه بغير علم إما لشبهة أو لغرض من أغراض نفسانية وفيه أيماء إلى تساوي الايمان وعدمه عنده فليس استقراره فيه أولى من خروجه عنه.

(و قال (عليه السلام) من أخذ دينه) أي فرائضه أو طريقه وسبيله إلى الحق وثوابه (من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) بفهم وبصيرة (زالت الجبال قبل أن يزول) الضمير المستكن راجع إلى «من» أو إلى «دينه» وفيه على التقديرين مبالغة في استقراره على الدين وعدم اهتزازه بصرصر الشبهات وهبوب رياح الأغراض والبليات، لحصول اعتقاده بعلم ويقين وابتنائه على أصل متين (و من أخذ دينه من أفواه الرجال) تقليدا لهم واتباعا لآثارهم واقتفاء لأفعالهم وأطوارهم (ردته الرجال) عنه بإلقاء أدنى الشبهات وأضعف التدليسات لعدم تمسكه بمستند شديد وأصل سديد فهو كنبات يابس تكسره حوادث الزمن، وتقلبه رياح الفتن، وفيه إيماء لطيف إلى أن المقلد لا بد من أن ينقل من حال إلى حال لأن متابعته للأول ليس بأولى من متابعته للآخر، فإذا اختلفا يبقى هو مترددا في قبول قول أحدهما دون صاحبه فيرجع من الظن إلى الشك (و قال (عليه السلام) من لم يعرف أمرنا) أي شأننا في الإمامة ورتبتنا في الخلافة والوراثة (من القرآن) بل أخذه بمجرد التقليد أو الاستحسان (لم يتنكب الفتن) تنكبها تجنبها وتباعد عنها، يعني لا يقدر على العدول عنها ولا يأمن الوقوع فيها لأن فتنة الشبهة والشكوك قد تزيله عن عقايده، وفيه دلالة على وجوب الاستدلال في الأصول.

* الأصل:

«و لهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها; وذلك بتوفيق الله تعالى خذلانه فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا، سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم

ص: 55

وبصيرة. فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه وإن شاء سلبه إياه ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء مال معه وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله، وقد قال العالم (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلا أوصياء، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه. وقال: وفيهم جرى قوله: (فمستقر ومستودع).

وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها، وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهما السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله تعالى - بمعونته وتوفيقه - إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم».

* الشرح:

(ولهذه العلة) بعينها وهي أن من أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال ومن لم يعرف أمرنا من القرآن يقع في الفتنة (انبثقت على أهل دهرنا) أي جرت عليهم. وفي النهاية انبثق الماء انفجر وجرى.

وفي المغرب بثق الماء بثقا: فتحه بأن خرق الشط أو السكر وانبثق هو إذا جرى بنفسه من غير فجر.

والبثق بالفتح والكسر الاسم. (بثوق هذه الأديان الفاسدة) فاعل انبثقت شبه الأديان الفاسدة بالسيول وأثبت لها البثوق أي الشقوق جمع البثق بمعنى الشق ففيه استعارة مكنية وتخييلية وأقحم البثوق وأسند الفعل إليها مع أن إسناده إلى هذه الأديان الشبيهة بالسيول أولى; للتنبيه على أن هذه الأديان قد أحدثت في دين الحق ثلما متكثرة وخللا متفاحشة متعددة لا يمكن تدراكها وإصلاحها، وفي بعض النسخ «انبسق» بالسين المهملة ومعناه طالت عليهم فروع هذه الأديان وأغصانها من انبسق النخل إذا طالت باسقاتها وبواسقها وفيه أيضا استعارة مكنية وتخييلية وما في الأصل أحسن وأتقن (والمذاهب المستشنعة) هي اثنان وسبعون لقوله (صلى الله عليه وآله) «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة» (التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها) لأن أصحاب هذه المذاهب مخلدون في النار كما يقتضيه الحديث المذكور وغيره ولا معنى للكفر والشرك إلا ما يوجب الخلود فيها (وذلك) المذكور يعنى أخذ الدين من كتاب الله تعالى وسنة نبيه أخذه من أفواه الرجال (بتوفيق الله عز وجل وخذلانه) التوفيق: توجيه الأسباب نحو المطلوب الخير وهو يرجع إلى نصرة الطالب وإعانته على طلبته. ولا بد من وقوع ذلك لكل من تمسك بذيل رحمته لقوله تعالى (والذين جاهدوا فيها لنهدينهم

ص: 56

سبلنا إن الله لمع المحسنين) والخذلان: عدم الإعانة لمن أعرض عنه.

والحاصل: أنه تعالى هدى عباده أجمعين طريق الخير وطريق الشر فمن اختار طريق الخير أعانه عليه، ومن اختار طريق الشر وكله إلى نفسه فلا جبر ولا ظلم والله ليس بظلام للعبيد (فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا) في لفظ الاستقرار إيماء إلى أن لفعل العبد مدخلا في ثبوت إيمانه (سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله) وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التعظيم والتكريم (وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) بعلم ويقين وبصيرة) قلبية بها يسلك سبيل المعارف ويشاهد كمال الله وجماله وجلاله (فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي) أي الثوابت لأن زوال الاعتقادات إنما يكون بتطرق الشبهات وتصادم التدليسات ولا سبيل لها إليه.

(و من أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان) أي خلا بينه وبينها ويعمل بعقله ما رآه حسنا مثل القياس وأصالة البراءة ومفهوم اللقب ومفهوم الصفة (1) إلى غير ذلك من المحسنات العقلية في أصول العقائد وفروعها (والتقليد للآباء) والكبراء (و التأويل) في المجمل المتشابه وغيرهما بمجرد رأيه (من غير علم وبصيرة) ناشية من الكتاب والسنة، وقول أهل البيت (عليهم السلام) (فذاك في المشية إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه) ووفقه لسلوك سبيل النجاة (وإن شاء سلبه إياه) ووكله إلى نفسه، والنفس أمارة بالسوء فتورده موارد الهلكات (ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا) مثله كمثل المسافر لا بصيرة له وقد صادفه طريقان: أحدهما يوصله إلى المطلوب والآخر يبعده عنه، فان سلك الأول فقد اهتدى وإن سلك الآخر فقد ضل، أو كمثل مسافر سلك طريقا مخوفا قد كثر فيه السباع وقطاع الطريق فإن سلم منهم فقد رشد وإلا فقد هلك (لأنه كلما رأى كبيرا من الكبراء مال معه) من غير علم بأن ذلك حق أو باطل وقد ذمهم سبحانه بقوله (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وحكى عنهم بقوله (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا)) (وكلما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله) لاستيناس قلبه بظواهر المحسوسات واستيحاش عقله عن بواطن المعقولات; إذ المعقولات إنما تدرك بعلوم برهانية وأنوار

ص: 57


1- 1 - ليس هذه الأمور مما يوجب الخذلان غير القياس والتفصيل في علم أصول الفقه ولكن الشارح جارى مع معاصريه من الأخباريين. والظاهر من حاشيته على المعالم وشرحه الزبدة أنه ناهج منهج أهل الاجتهاد ويتبع الدليل في الأصول والمفاهيم غيرها. (ش)

ربانية وهي مفقودة فيه (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) فلذلك أفلس قلبه عن معرفة الأشياء على ما هي عليه وعن معرفة الأحكام وأحوال الآخرة التي بها قوام الايمان وثباته (وقد قال العالم (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء) ولا يتزايلون عن وصف النبوة أصلا (وخلق الأوصياء على الوصية فلا يكونون إلا أوصياء) ولا يتفارقون عن معنى الوصاية والخلافة أبدا (وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرى قوله فمستقر ومستودع) مستقر بفتح القاف أو كسرها على اختلاف القراءة جار في النبي والوصي فبالفتح اسم مفعول يعني مثبت في الايمان، أو اسم مكان يعنى له موضع استقرار وثبات فيه وبالكسر اسم فاعل يعني مستقر ثابت فيه. و مستودع بفتح الدال اسم مفعول أو اسم مكان جار في المعار، واعلم أن الايمان والكفر طريقان متقابلان ولكل منهما سالك والسالك على طبقات متفاوتة. فالطبقة الأولى للايمان من وضع القوانين الشرعية بأمر الله تعالى وهم الأنبياء الذين أيدهم الله بروح النبوة وروح القدس. والثانية أوصياؤهم الذين أيدهم الله بروح الإمامة وإذا قبض الأنبياء انتقل روح القدس إلى أوصيائهم وهو لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، وبه يعرفون ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، ويشاهدون ما كان وما هو كائن وما يكون في الدنيا والآخرة. والثالثة التابعون لهم في الأقوال والأعمال والعقائد والمسلمون لهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه. والرابعة أصحاب التقليد والاستحسان الذين ينظرون ظواهر الأشياء ويأخذون ما رأوا حسنا ويتركون ما عدوه قبيحا. والطبقة الأولى للكفر من وضع القوانين الفاسدة لشبهات شيطانية وتسويلات نفسانية كواضعي الدين من الملاحدة والمجسمة ونحوهما من الأديان الفاسدة، والثانية المتعلمون لتلك الشبهات بتعليمهم والمروجون لتلك الأديان بأمرهم وتفهيمهم وهم بمنزلة أوصيائهم مقابل أوصياء الأنبياء (عليهم السلام). والثالثة التابعون لهم وأهل التسليم لعقائدهم وأفعالهم وأعمالهم. والرابعة أصحاب التقليد والاستحسان وحال الكل في الهداية والضلالة والرسوخ وعدمه ظاهرة إلا أصحاب التقليد والاستحسان من الفريقين فان الايمان والكفر فيهما معاران مستودعان فإن شاء الله تممها لهم وإن شاء سلبهم إياهما ومن ههنا ترى المؤمن قد يرتد فيصير كافرا بعدما كان مؤمنا أو الكافر يرجع ويصير مؤمنا بعدما كان كافرا، نعوذ بالله من سوء العاقبة.

(وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقايقها لاختلاف الرواية فيها) اختلافا يوجب الأخذ ببعضها طرح البواقي لعدم إمكان الجمع بينها بوجه (وإنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها) من جملتها أغراض نفسانية وتقربات سلطانية وتخيلات شيطانية لقوم سولت لهم أنفسهم فوضعوا الأحاديث لخبث عقائدهم على وفق مقاصدهم كما حكي أن غياث بن إبراهيم دخل على المهدي العباسي وكان المهدي يحب المسابقة بالحمام فروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لا سبق إلا في خف أو

ص: 58

حافر أو نصل أو جناح فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم فلما خرج قال المهدي أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو جناح ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا وأمر بذبح الحمام وقال: أنا حملته على ذلك. وقد وضع المنافقون والزنادقة والغلات والخوارج أحاديث كثيرة، وحكي أن بعضهم كان يقول بعد ما رجع عن ضلالته: انظروا إلى هذه الأحاديث عمن تأخذونها فانا كنا إذا رأينا رأيا وضعنا له حديثا، ومنها توهم الراوي فربما سمع حديثا ولم يحفظه على وجهه ووهم فيه فلم يتعمد كذبا وهو في يده يقول ويعمل به ولو علم أنه وهمه لرفضه ولو علم المسلمون أنه وهم لرفضوه. ومنها: التقية إذ كثيرا ما كانوا (عليهم السلام) يفتون على سبيل التقية والخوف من النهب والقتل. ومنها: عدم علم الراوي بالناسخ فربما سمع الأمر بالشيء ثم نهوا عنه وهو لا يعلم، أو سمع النهي عن الشئ ثم أمروا به وهو لا يعلم فعلم المنسوخ ولم يعلم الناسخ فيروي المنسوخ ويعمل به، ولو علم هو أو المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.

(وذكرت أنك لا تجد بحضرتك) حضرة الرجل قربه وفناؤه (من تذاكره وتفاوضه) فاوضه في الأمر أي جاراه ومفاوضة العلماء أن يعطي كل واحد منهم ما عنده من العلم صاحبه ويأخذ ما عند صاحبه وهي المساواة والمشاركة مفاعلة من التفويض وهو رد الأمور إلى الغير (ممن تثق بعلمه فيها) أي في الروايات حتى يكشف لك عن وجهها حجاب الاختلاف (وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين) الفنون الأنواع والأفانين الأساليبت وهي أجناس الكلام وطرقه، المراد بها هنا أصول المعارف وفروعها على اختلاف أنواعها (ما يكتفى به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به) ليكون تبصرة للطالبين وتذكرة للعالمين وتكملة للعاملين (بالآثار الصحيحة) متعلق بيجمع أو بيأخذ أو بعلم الدين أو ظرف مستقر حال عن «كتاب» (عن الصادقين (عليهما السلام) والسنن القائمة) المراد بالسنة هنا الطريقة النبوية الشاملة للمندوبات والمفروضات غيرها، والمراد بقيامها دوامها واستمرارها واتصال العمل بها إلى يوم القيامة (التي عليها العمل وبها يؤدي فرض الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) تقديم الظرف في الموضعين للحصر، والمراد بالسنة هنا خلاف الفرض بقرينة المقابلة أو الأعم من الندب والفرض بتخصيص الفرض المذكور بما ثبت بالقرآن فقد طلب منه كتابا يكون العامل به مؤديا جميع ما عليه من معرفة أحوال المبدء والمعاد ومعرفة الفروع كلها.

(وقلت لو كان ذلك) أي لو وجد الكتاب المذكور (رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله) استدركت ما فات وتداركته بمعنى، وفيه إشارة إلى ما مر صريحا من اضمحلال أهل الملة المستقيمة وتفرق نظامهم وتشتت أحوالهم (بمعونته وتوفيقه) المعونة والإعانة بمعنى وفي بعض النسخ «بمعرفته» والمصدران مضافان إلى الفاعل الضمير عايد إلى قوله «سببا» وإرجاعه إلى الله تعالى يوجب خلو الجملة الوصفية

ص: 59

عن ضمير الموصوف (إخواننا وأهل ملتنا) من الفرقة الامامية فينتظم به أحوالهم بعد تشتتها ويجتمع كلمتهم بعد تفرقها (ويقبل بهم) أي يجعلهم مقبلين (إلى مراشدهم) الرشد خلاف الغي والمراشد الطرق الموصلة إلى الحق لأنها محال الرشد والهداية.

* الأصل:

«فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلف الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليه السلام): اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه وقوله (عليه السلام) دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم.

وقوله (عليه السلام) خذوا بالمجمع عليه، فان المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقلة ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام) بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا إذ الرب جل وعز واحد والرسول محمد خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليه وآله - واحد والشريعة واحدة وحلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة. ووسعنا قليلا كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها وأرجو أن يسهل الله جل وعز إمضاء ما قدمنا من النية إن تأخر الأجل صنعنا كتابا أوسع وأكمل منه نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق. والصلاة على سيدنا محمد النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين الأخيار. وأول ما أبدأ به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل وفضائل العلم وارتفاع درجة أهله وعلو قدرهم ونقص الجهل وخساسة أهله وسقوط منزلتهم، إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار، وبه يحتج وله الثواب وعليه العقاب والله الموفق».

* الشرح:

(فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ) أي لا يجوز من وسعه الشئ إذا جاز له أن يفعله ولم يضق عنه (مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام)) «فيه» متعلق بالاختلاف، «وعن» بالرواية، والمراد بالاختلاف ما ذكرنا من الاختلاف التام الذي يوجب عليه العمل ببعضها طرح البواقي، وحمله على مطلق الاختلاف بين الروايات التي يصلح أن يكون بعضها مفسرا لبعض بعيد جدا (برأيه) متعلق بالتمييز أي لا يجوز التمييز بما يقتضيه رأيه بنحو من أنحاء الاستحسان لأن دين الله لا يدرك بالرأي والقياس (الا على ما أطلقه العالم) أي أحله وجوزه من الطلق بالكسر وهو الحلال (بقوله (عليه السلام) اعرضوها) أي الروايات المختلفة (على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله جل وعز

ص: 60

فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه) لأن كل حكم من الأحكام وكل حق من الحقوق موجود في الكتاب كما قال سبحانه (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (1) فما لم يوجد فيه ليس بحكم ولا حق وكل ما ليس بحكم ولا حق فهو مردود.

(وقوله (عليه السلام) دعوا) من الروايات المختلفة بعد موافقة الجميع كتاب الله (ما وافق القوم) يعني العامة فان الرشد أي الهداية إلى الحق (في خلافهم) لأنهم سالكون مسالك الطبايع راغبون عن مراشد الشرايع غالبا وهذه قرينة واضحة على أن الحق في خلافهم (وقوله (عليه السلام) خذوا) من الروايات المختلفة (بالمجمع عليه) عند العصابة المحقة (فان المجمع عليه) عندهم (لا ريب فيه) وقد يستدل بهذا على حجية الإجماع وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى (و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله) أي أقل ذلك الجميع يعني إنا لا نعرف من أفراد التمييز الحاصل من جهة تلك القوانين المذكورة إلا الأقل أو إنا لا نعرف من جميع ذلك المذكور من القوانين الثلاثة إلا الأقل فان ذلك متوقف على معرفة الأحكام الجزئية واستنباطها من الكتاب ومعرفة مذاهب العامة فيها ومعرفة إجماع الفرقة الناجية عليها، وتحصيل هذه المعارف متعسر جدا، وقيل: المقصود أنا لا نعرف للاعتماد والتعويل لكل أحد من المتعلمين من جميع ما ذكرنا إلا ما هو أقله إتعابا وأسهله عليهم مأخذا، وهو المفسر بقوله «ولا نجد» وهذا مستبعد جدا لعدم فهمه من العبارة (ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم) من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) فان فيه التحرز عن القول في الدين بغير علم والتخلص عن التعب والتجنب من عذاب الآخرة كما قال العالم (عليه السلام) «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» وقيل: يجوز أن يراد بالعالم العالم من علماء الامامية الذي علم أصول المذهب وفروعه ببصيرة وبرهان، وهذا بعيد أما أولا فلأن المعهود من كلام المصنف أنه كلما أطلق العالم أراد به المعصوم (عليه السلام) وأما ثانيا فلوجود (عليه السلام) بعد العالم في بعض النسخ، وأما ثالثا فلأنه لا يناسب العبارات الآتية إلا بتكلف كما ستعرفه (وقبول ما وسع من الأمر فيه) أي فيما اختلفت الرواية فيه عنهم (عليهم السلام) وفاعل «وسع» بالتشديد ضمير العالم (بقوله) متعلق بوسع (بأيما أخذتم من باب التسليم) للعالم والانقياد له (وسعكم) أي جاز لكم، وفيه دلالة على أن المكلف مخير في العمل بالروايات المختلفة في زمان الغيبة كما هو مذهب أرباب أصول الفقه وعلى ما جوزه ذلك القائل لا يرتبط هذا الكلام بما قبله إلا بتكلف وهو أن يجعل قوله: «بقوله» متعلقا بالقبول، ومعناه قبول ما وسع ذلك العالم من علماء الامامية وصح له من التحقيق والتوفيق بين الروايات المختلفة بقوله أي بمجرد

ص: 61


1- 1 - قوله (في كتاب مبين) ليس المراد بكتاب مبين هنا القرآن لكن ورد هذا المضمون في آي كثيرة مثل (تبيانا لكل شئ) (ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ) إلى غير ذلك. (ش)

قوله ورأيه للاعتماد عليه فيما صححه أو رده من الروايات والفتاوي والأحكام ويجعل قوله «بأيما أخذتم - إلى آخره -» مبتدءا وخبرا على سبيل الاستيناف لا مقول القول، يعنى أيما أخذتم به من أقوال ذلك العالم تسليما له وقبولا لقوله جاز لكم العمل به، وهذا التكلف بعينه من غير تفاوت أشار إليه ذلك القائل وهو أعلم بما قال وبما حداه على ذلك.

(وقد يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت) من الكتاب الكافي الشامل لجميع فنون علم الدين (وأرجو أن يكون بحيث توخيت) أي تحريت وقصدت فمهما كان فيه من تقصير في الجمع والتأليف وذكر ما يحتاج إليه (فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة) التقصير في الأمر التواني فيه وعدم الاتيان به على وجه الكمال والاهداء الابلاغ والإرسال. والنصيحة فعل شئ الذي به الصلاح كارشاد الجاهل وتنبيه الغافل والإعانة على مصالح الدنيا والدين، يعني لو كان فيه تقصير ما لم يكن ذلك لقصور في النية وتوانيها بل بالغت في إبلاغ النصيحة بقدر الوسع والطاقة (إذ كانت) أي النصيحة (واجبة لإخواننا وأهل ملتنا) لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) «لينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه» (1) وقول الصادق (عليه السلام): «يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة» (2) (مع ما رجونا) «ما» مصدرية والظرف حال من فاعل أرجو يعني أن ذلك الرجاء مقرون مع رجاء (أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه) أي استفاد منه علما وهداية (وعمل بما فيه) من الأحكام (في دهرنا) متعلق باقتبس وعمل أو حال عن فاعلهما (وفي غابره) الغابر الماضي والمستقبل وهو من الأضداد والمراد هنا الثاني (إلى انقضاء الدنيا) متعلق بالغابر وغاية للاقتباس والعمل فلا ينافي رجاء مشاركة الثواب في الآخرة ولم يذكره لأنه تابع لذلك الرجاء; ثم علل بقاء الاقتباس والعمل إلى انقضاء الدنيا بثلاثة أمور، الأول: ما أشار إليه بقوله (إذ الرب عز وجل واحد) لا شريك له فلا يتطرق التغير في تدبيره من جهة الشركة والتنازع، والثاني: ما أشار إليه بقوله (والرسول محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) واحد) لا شريك له في تبليغ الرسالة فلا يتصور فساد الدين من جهة الشركة في الرسالة أيضا.

والثالث: ما أشار إليه بقوله (والشريعة واحدة) إذ لا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته فلا يتصور زوال الدين من جهة النسخ أيضا، وبالجملة زوال الدين إما من جهة التنازع التابع للشركة في الرب أو في الرسول أو من جهة النسخ وإذا انتفت هذه الأمور بقي الدين إلى قيام الساعة كما أشار بقوله (وحلال محمد حلال، وحرامه حرام إلى يوم القيامة) فإذن كان الاقتباس والعمل بما في هذا الكتاب المشتمل على حلاله وحرامه باقيا إلى يوم القيامة (ووسعنا قليلا) التوسيع خلاف التضييق، تقول وسعت الشئ فاتسع أي صار واسعا و «قليلا»

ص: 62


1- 1 - ورواه الكليني - رحمه الله - في باب نصيحة المؤمن من كتاب الايمان والكفر من الكافي تحت رقم 4.
2- 2 - رواه الكليني - رحمه الله - أيضا في الباب المذكور تحت رقم 3.

منصوب على المصدر أي توسيعا قليلا (كتاب الحجة) وهو الكتاب الثالث (1) من كتب الكافي سمي به لاشتماله على بيان لزوم الحجة وعدم خلو الأرض منها ما دامت السماوات والأرض (وإن لم نكمله) أي كتاب الحجة (على استحقاقه) لأنا لم نذكر جميع ما يتعلق به الأحاديث والأخبار (لأنا كرهنا) تعليل للتوسيع في الحجة (أن نبخس) أي ننقص ونترك (حظوظه كلها) الحظوظ جمع كثرة للحظ وهو النصيب (وأرجو أن يسهل الله عز وجل امضاء ما قدمنا من النية) أي القصد إلى تأليف كتاب الكافي أو إلى توسيع كتاب الحجة قليلا هذا إن كان وضع الخطبة قبل التأليف وإلا فالمراد بالنية القصد إلى توسيع كتاب الحجة منفردا على وجه الكمال وذكر جميع ما يتعلق به من الأخبار كما أشار إليه بقوله (إن تأخر الأجل) أي الوقت المضروب المحدود من العمر (صنعنا) من الصنع أو من التصنيف (كتابا) في الحجة (أوسع وأكمل منه) أي من كتاب الحجة الذي ذكرناه في هذا الكتاب (نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى) أوفاه حقه ووفاه بمعنى أي أعطاه وافيا كاملا غير ناقص، والجملة حال عن فاعل «صنعنا» (وبه الحول والقوة) الحول الحركة يقال: حال الشخص يحول إذا تحرك، والقوة الطاقة، يقال: قوي على الأمر إذا طاقه، أي به الحركة إلى المقاصد والمطالب مطلقا والقوة على تحصيلها والطاقة، على تحملها أو به الحركات الفكرية والأنظار العقلية مطلقا أو في تأليف هذا الكتاب والقوة عليها. وتقديم الجار للاختصاص مع الاهتمام ومراعاة قرب المرجع (وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة) أي في الإعانة على الخيرات مطلقا أو على تأليف هذا الكتاب (والتوفيق) أي تكميل الأسباب لتحصيل المطالب (والصلاة) أي الرحمة التامة الربانية بمعنى إفاضة الإحسان دائما (على سيدنا محمد النبي) أي المرتفع على جميع الخلائق من النبوة وهي الارتفاع أو المخبر عن الله من النبأ وهو الخبر (وآله الطيبين الأخيار).

(وأول ما أبدء به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل والجهل وفضايل العلم وارتفاع درجة أهله وعلو قدرهم) في الدنيا والآخرة (ونقص الجهل وخساسة أهله وسقوط منزلتهم) عند رب العالمين والملائكة المقربين والأنبياء المرسلين وعباد الله الصالحين، ثم أشار إلى وجه تقديم كتاب العقل على سائر الكتب بقوله (إذا كان العقل هو القطب الذي عليه المدار) أي مدار التكليف والحكم بين الحق والباطل من الأفكار وبين الصحيح والسقيم من الأنظار وسائر القوى تابعة له منقادة لأمره ونهيه وهو الحاكم على جميعها، وقطب الرحى بحركات القاف والضم أشهر: الحديدة المركبة في وسط حجر الرحى السفلى التي تدور حولها العليا، وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم كصاحب الجيش ونحوه (وبه يحتج) على العباد في تصويب أعمالهم وتخطئة أفعالهم (و له الثواب وعليه العقاب) اللام في «له» إما للتعليل

ص: 63


1- 3 - هذا سهو من الشارح أو تصحيف من النساخ فإن كتاب الحجة هو الكتاب الرابع من الكافي.

أي لأجله أو للاختصاص وحصر الثواب والعقاب باعتبار أنه منشأ وأهل لهما سواء حصلا له عند تجرده عن البدن كما في البرزخ أو عند اقترانه به كما في الآخرة.

ص: 64

كتاب العقل والجهل

* الأصل:

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما أني إياك آمر وإياك أنهي وإياك اعاقب وإياك اثيب».

* الشرح:

الغرض من الفصل بين أنواع المسائل بالترجمة بالكتاب وبين مسائل النوع بالفصول والأبواب هو التسهيل على الناظر وتنشيط المتعلم فان المتعلم إذا ختم كتابا اعتقد أنه كاف في ذلك النوع فينشط إلى قراءة غيره، بخلاف ما لو كان التصنيف كله جملة واحدة. والأولى بالقاري أن يصرح بالترجمة ويقول مثلا كتاب كذا لأنها جزء من التصنيف، وكتاب العقل والجهل اسم لجملة من الأحاديث المتضمنة لأحكامها.

(أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب) كان هذا كلام الرواة عنه أو كلامه بلسانهم أو إخبار عن نفسه بطريق الغيبة (قال حدثني عدة من أصحابنا) قال المصنف رحمه الله في هذا الكتاب في كثير من الأخبار «عدة من أصحابنا» قال العلامة وغيره أنه رحمه الله قال: «كل ما قلت في هذا الكتاب عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى فهم محمد بن يحيى العطار، وعلي بن موسى الكميذاني وداود بن كورة وأحمد بن إدريس وعلي بن إبراهيم بن هاشم. وكل ما قلت فيه عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد فهم علي بن إبراهيم، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أذينة، وأحمد ابن عبد الله ابن أذينة، وعلي بن الحسن. وكل ما ذكرت فيه عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد فهم علي بن محمد بن علان، ومحمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن الحسن، ومحمد بن عقيل الكليني إنتهى» والظاهر أن محمد بن أبي عبد الله هو محمد بن جعفر الأسدي الثقة، والعدة على هذا في جميع الموارد مشتملة على العدول والثقاة فهذا

ص: 65

الحديث صحيح لأن بواقي الرجال ثقات وعدول.

(منهم محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن زرين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما خلق الله العقل) أي النفس الناطقة وهي الجوهر المجرد عن المادة في ذاته دون فعله في الأبدان بالتصرف والتدبير وهذا الجوهر يسمى نفسا باعتبار تعلقه بالبدن وعقلا باعتبار تجرده ونسبته إلى عالم القدس، إذ هو بهذا الاعتبار يعقل نفسه أي يحبسها ويمنعها عما يقتضيه الاعتبار الأول من الشرور والمفاسد المانعة من الرجوع إلى هذا العالم وله مراتب متفاوتة وحالات مختلفة في القوة والضعف. وهي ستة، أولها: حالة الاستعداد الصرف للكمالات (1).

وثانيهما: حالة بها يشاهد الأوليات (2). وثالثها: حالة بها يشاهد النظريات من مرآت الأوليات (3).

ورابعها:حالة بها يشاهد تلك النظريات بعد زوالها من هذه المرآة واختزانها من غير كسب جديد وهذه الحالة حالة علم اليقين، وهي حالة بها يشاهد الصور العلمية والمطالب اليقينية في ذاته، وخامسها: حالة عين اليقين وهي حالة بها يشاهد تلك الصور والمطالب في ذات المفيض (4). وسادسها: حالة حق اليقين وهي حالة بها يتصل بالمفيض اتصالا معنويا وتلاقي به تلاقيا روحانيا (5) وهذه الحالة هي أعظم الحالات للقوة

ص: 66


1- 1 - قوله «الاستعداد الصرف» وهذه الحالة تسمى عند الفلاسفة بالعقل الهيولاني (ش).
2- 2 - قوله: «الأوليات» أراد بذلك البديهيات لأنه جعلها مقابلة النظريات، والبديهيات أعم من الأوليات والمشاهدات والمتواترات والحدسيات والتجربيات وقضايا قياساتها معها، وهذه المرتبة تسمى عند الحكماء بالعقل بالملكة (ش).
3- 3 - قوله: «من مرآة الأوليات» القوة التي بها تدرك الأوليات مرآة لادراك النظريات أيضا إذ ينتقل الذهن منها إليها وأدراك النظريات على وجهين: الأول ما يدركها بالبرهان والاستدلال لأول مرة وهي العقل بالفعل في اصطلاحهم، والثاني أن يكون بحيث يراجعها بعد الغفلة عنها لكونها حاضرة في الحافظة فيرجع إليه مهما أراد وهذا هو العقل المستفاد في اصطلاحهم وهي الحالة الرابعة (ش).
4- 4 - قوله: «في ذات المفيض» وهذا المفيض هو العقل الفعال في اصطلاح الحكماء إذ لا بد لزيادة الصور في أذهان المتفكرين من علة فاعلة ولا بد أن تكون العلة الفاعلة للمعقولات عاقلة تدرك الكليات إذ لا يكون الموجد للشيء فاقدا له ولا بد أن يكون جوهرا مجردا، ثم إن ملاحظة الصور في العقل الفعال أعلى وأكمل من ملاحظتها في النفس فان ما في العقل الفعال بريئة عن شوائب الوهم ومحفوظة عن الخطأ، مصونة عن الغلط بخلاف ما يأخذه النفس عن العقل فيدركه في لوح نفسه فإنه يحتمل اختلاطه بمدركات الوهم والحواس فيدخل فيه الخطأ، وإذا وصل النفس إلى مقام يدرك عين الصور الحاصلة في العقل الفعال وتحقق لديه أنه ادركها فيه لا في نفسه، فهذه الحالة الخامسة التي تكون مدركات الانسان عين الحق ولا تحصل الا للكمل من الأولياء (ش).
5- 5 - قوله: «روحانيا» هذا نحو من الاتحاد حققه الحكماء الإلهيون والعرفاء الشامخون وللتفصيل فيه محل آخر وهو آخر سير البشر في السلوك إلى الله وعد بعض العرفاء اللطائف سبعة، «وللناس فيما يعشقون مذاهب» (ش).

البشرية، وقد تسمى هذه الحالات التي للنفس فيها عقلا أيضا. ومن ههنا ظهر وجه تفاوت العقول في البشر ووجه قبولها للكمال والنقصان. وقد يطلق العقل على الجوهر المفارق عن المادة في ذاته وفعله (1) ويقال إنه أول خلق من الروحانيين، وإنه كثير العدد كثرة لا مثل كثرة الأشخاص المندرجة تحت نوع واحد، ولا مثل كثرة الأنواع المندرجة تحت جنس واحد لأن تلك الكثرة من توابع المادة (2) والعالم القدسي منزه عنها بل هي مراتب وجودية نورانية بسيطة مختلفة في الشدة والضعف في النورية متفاوتة في الكمال والقرب إلى نور الأنوار، وأنه روح النفس الناطقة وحالة لها ومتعلق بها كتعلق النفس بالبدن وباضاءاته وإشراقاته تضيء النفس وتشرق وتبصر ما في عالم الملك والملكوت وتعرف منافعها ومضارها فتطلب الأول وتجتنب عن الثاني، وأنه لا بعد في ذلك التعلق لأنه إذا جاز تعلق النفس بالبدن مع المباينة بينهما في التجرد والمادية جاز تعلق ذلك الجوهر بالنفس (3) مع المناسبة بينهما في التجرد بالطريق الأولى. والحق أن وجود ذلك الجوهر أمر ممكن دل عليه ظاهر كثير من الروايات لكن لا على الوجه الذي ذهب إليه طائفة من الفلاسفة من أنه موجد للأفلاك (4) وما فيها وما تحتها من الأجسام

ص: 67


1- 6 - قوله: «في ذاته وفعله» هذا تعريف للعقل المجرد في اصطلاح الحكماء وقال المشاؤن: إن العقول عشرة أي نعلم هذا العدد ولا تنكر الزيادة، وقال الاشراقيون: ان عدتهم لا تحصى كثرة ويقال إن العقل أول خلق من الروحانيون، وقد ورد في الحديث كما يأتي ان شاء الله وقال الحكماء: انه أول صادر عن المبدء كما ورد في الحديث وذلك لأن الأشرف مقدم في الوجود ولا ريب أن الموجود العاقل بذاته أشرف من الجماد والحيوان الذي لا عقل له. واعلم ان المجلسي رحمه الله جعل في كتاب الأربعين وغيره من كتبه القول بوجود العقل المجرد مستلزما لانكار كثير من ضروريات الدين وأنكر وجود مجرد سوى الله تعالى (ش).
2- 1 - قوله: «لان الكثرة من توابع المادة» الكثرة للعدد ويتكثر الشئ اما بالماهية كالحديد فإنه غير الذهب ماهية، واما بالتشخص مثل هذا الحديد في المسحاة وذلك الحديد في القدوم وكلاهما حديد متحدا الماهية. وليس تكثر العقول مثل هذا ولا مثل ذاك بل جميعها متحدة الحقيقة كالنور وذو مراتب مثله، والعقول في اعتقاد بعضهم مختلفة الماهية ولا يشترك نوعا ولا جنسا وللبحث في ذلك محل آخر (ش).
3- 2 - قوله: «تعلق ذلك الجوهر بالنفس» تعلق العقل بالنفوس المجردة الانسانية نظير تعلق النفس بالبدن وبالجملة العقل الفعال له اشراقات على النفوس وبتلك الاشراقات متحد بالنفس فمثل العقل الفعال والنفوس مثل الشمس وأشعتها. والمجلسي رحمه الله عد أكثر ما حققه الشارح هنا واعترف بامكانه وصحته مخالفا لضروريات الدين (ش).
4- 3 - قوله: «موجد للافلاك» وحاصل كلام الشارح اثبات وجود العقل المجرد الذي يقول به الحكماء واختار في ذلك مذهب صدر المتألهين صاحب الاسفار الأربعة واعترف بامكان اتحاد العقول الجزئية بالعقل الفعال وبأن الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب وغير ذلك من دقائق هذا العلم، واما ما نسبه إلى طائفة من الفلاسفة فكأنه أراد المتفلسفين الجاهلين الذين غاية همهم حفظ الاصطلاحات وسماهم الفارابي الفيلسوف البهرج وإلا فإن تأثير العقل نظير تأثير الدواء في دفع المرض وتأثير الرياح في إثارة السحاب في قوله تعالى (يرسل الرياح فتثير سحابا فكما أن الاعتقاد بتأثير هذا باذن الله ليس كفرا كذلك الاعتقاد بتأثير العقول باذن الله ليس كفرا وتأثيرهم نظير تأثير الملائكة الموكلين بالعقول هم الملائكة والفرق بالاصطلاح (ش).

والعناصر وغيرها فان وجوده على هذا الوجه غير ثابت لا عقلا ولا نقلا، بل باطل بالنظر إلى الآيات والروايات الدالة على أن موجد ما ذكر ليس إلا الله جل شأنه وأن تكثره وتعلقه بالنفس على الوجه المذكور أيضا أمر ممكن، وأن انتساب الحالات والمراتب المذكورة للنفس إليه باعتبار تفاوت إشراقاته عليها أيضا جايز، وأن انتساب الثواب والعقاب إليه غير بعيد إذ كما أن ثواب البدن وعقابه باعتبار متعلقه وروحه الذي هو النفس كذلك يجوز أن يكون ثواب النفس وعقابها باعتبار متعلقها وروحها الذي هو ذلك الجوهر، إذا عرفت هذا فلا يبعد أن يراد بالعقل في الروايات الدالة على أنه أول خلق من الروحانيين وأنه حالة من أحوال النفس كما في حديث الجنود وغيره ذلك الجوهر (1) ثم معاني العقل على تباينها يجمعها أمر واحد يشترك الكل فيه وهو أنه ليس بجسم ولا جسماني ولهذا صح أن يجعل موضوعا لفن واحد كما في هذا الكتاب ويبحث عن العوارض الذاتية له ولأقسامه وللرأي الصائب أن يحمله في كل حديث على ما يناسبه من المعاني المذكورة.

وإذا عرفت العقل فاعرف الجهل بالمقابلة فهو إما النفس باعتبار تعلقها بالبدن والحالات المقابلة للحالات المذكورة لأن ذلك التعلق وتلك الحالات منشأ لظلمة النفس وانكسافها وميلها إلى الشرور، أو أمر مقابل لذلك الجوهر النوراني متعلق بالنفس وروح خبيث لها يدعوه إلى الشر والفساد، ولا يبعد أن يكون ما في بعض الروايات «من أن المؤمن مؤيد بروح الايمان» (2) و «أن لكل قلب اذنين على أحدهما ملك يهديه وعلى الآخر شيطان يضله» (2) إشارة إلى العقل والجهل بهذا المعنى والله أعلم بحقائق الأمور (استنطقه) ناطقة واستنطقه أي كلمه وفي استنطاقه إخراج له عن الوحشة وتأنيس له بالقربة وتكريم له

ص: 68


1- 1 - قوله: «ذلك الجوهر» أي العقل المفارق هو الذي خلقه تعالى أولا ومع ذلك يعد حالة من حالات النفس باعتبار اشراقاته واضاءاته وجنوده التي في النفوس وهذا عين مذهب الفلاسفة إلا أن الشارح تبرأ من طائفة منهم حتى لا يوهم أنه يقلد الفلاسفة تقليدا أعمى فلو كان صرح بأن مذهب الفلاسفة هنا حق لذهب الأوهام إلى تجويز تقليد ملاحدتهم وصار سببا لضلال جماعة عظيمة ولكن صرح بالمعنى وتبرأ من اللفظ، والحق أن أقرب الأقوال إلى قول الملاحدة الماديين قول المجسمة فإنهم لا يعترفون بوجود شئ غير جسم ولا جسماني حتى أن الله تعالى عندهم جسم، وبعد ذلك قول من لا يعترف بوجود مجرد سوى الله تعالى وأبعد الأقوال عنهم قول من أنكر الوجود المستقل للمكن وجعل وجوده كالمعنى الحرفي، وبعد ذلك من أنكر وجود الجسم وجعله مركبا من قوى متحركة كما ذهب إليه أكثر أهل عصرنا وبعدهم من اعترف بوجود الجسم والموجودات المجردة معا (ش).
2- 2 - و (2) رواهما الكليني في كتاب الايمان والكفر من الكافي ج 2 ص 268 و 266.

بالعزة كما يقع مثل ذلك كثيرا ما بين المحب والمحبوب ومن هذا القبيل قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى) مع علمه تعالى بخفيات الأمور (ثم قال له:

أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر) كأن المراد إقباله إلى ما يصلح أن يؤمر به من الطاعة وإدباره عما ينهى عنه من المعصية أو إقباله إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة التي يمكنه الوصول إليها، وإدباره عن تلك المقامات ونزوله في منازل الطبيعة الجسمانية وهبوطه مواطن الظلمة البشرية، ولعل الغرض من الأمر بالاقبال إراءه مقاماته وإظهار درجاته ليستيقظ في العالم السفلي من نوم الجهالة وسنة البطالة ويتذكر بأن له سوى هذه النشأة الدنية نشأة أخرى أحسن وأفضل منها بل لا نسبة بينهما، أو إقباله إلى الدنيا وإدباره عنها وعدم ركونه إليها، وقيل: المراد بالأمر بالاقبال والادبار هو الأمر التكويني الايجادي لا التكليفي والاقبال والادبار التزيد والتنقص في كل مرتبة من مراتب القوة العاملة بالقياس إلى العلوم والأخلاق كما وكيفا بحسب كل من الاستعداد الأولي الجبلي في الفطرة الأولى والاستعداد الثاني المكتسب في الفطرة الثانية، فان بالإعمال والتعطيل في الفطرة الثانية يربو ويطف ما في الفطرة الأولى والذي من لوازم الذات هو القدر المشترك السيال بين حدي الربو والطفافة وهو متحفظ غير متبدل ما دامت الذات في مراتب التزيد والتنقص. وفيه: أن تكوينه على قبول الزيادة والنقصان إنما هو في مرتبة تكوين ذاته لا بعده كما يشعر به لفظة «ثم» (ثم قال وعزتي) أي وغلبتي على جميع الممكنات يقال: عزه يعزه بالفتح عزا إذا غلبه والاسم العزة ومنه العزيز من أسمائه تعالى بمعنى القوي الغالب الذي لا يغلب وبمعنى الملك مثل قول إخوة يوسف (يا أيها العزيز) (وجلالي) أي وعظمة شأني وارتفاع قدري ومكاني، ومنه الجليل من أسمائه تعالى بمعنى العظيم المطلق، والواو للقسم وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف وهو قسمي (ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك) دل على أن العقل ليس هو أول المجعولات (1) كما زعم. قيل: المحبة ميل القلب إلى ما يوافقه وهي بين الطرفين لما روي عن الصادق (عليه السلام) حين سأله رجل عن رجل يقول: أودك فكيف أعلم أنه يودني فقال: امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك» (2) سيما إذا أخبر أحدهما الآخر بحبه له فإنه يوجب حب الآخر للمخبر أيضا كما ورد في بعض الأخبار، ومن ههنا يعلم أن العقل كما كان أحب المخلوقات إلى الله سبحانه كذلك كان سبحانه أحب الموجودات إلى العقل وسبب محبة الشئ إما كونه حسنا في ذاته، أو في الحس كالصور الجميلة. أو في العقل كمحبة الصالحين، أو كونه محسنا يجلب نفعا أو يدفع ضرا، وثمرة محبة الله لخلقه إرادة الخير له وإفاضة رحمته عليه والاحسان إليه بكشف الحجاب عنه وتمكينه من أن يطأ بساط قربه وثمرة محبة الخلق له تعالى وقوفه عند حدوده وحبه لمن أحبه وبغضه لمن أبغضه

ص: 69


1- 1 - قوله «ليس هو أول المجعولات» سيجيء تحقيقه عند قوله (عليه السلام) «هو أول خلق من الروحانيين» ان شاء الله تعالى (ش).
2- 2 - الكافي كتاب العشرة باب نادر ج 2.

واستيناسه واستيحاشه عما سواه، وتجافيه عن دار الغرور وترقيه إلى عالم النور، وكأن من أنكر المحبة بينه وبين خلقه وزعم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته تعالى أنكر المحبة بمعنى الميل لأن الله تعالى منزه عن أن يميل أو يمال إليه وليس هذا المعنى مرادا هنا بل المراد هنا هي الغايات والثمرات المذكورة لأن ما نسب إليه تعالى مما يمتنع أخذه باعتبار المبادي والحقائق وجب أخذه باعتبار الغايات وقد شاع أمثال ذلك في القرآن العزيز. على أنه قد يقال محبة الخلق له بمعنى ميل العقل ليس بممتنع لأن الميل العقلي إدراك ولا يمتنع ذلك كما لا يمنع العلم به، وإنما الممتنع هو الميل الحسي لاستلزامه أن يكون في جهة والوجه العقلي في كونه أحب المخلوقات إليه أن الطاعة والانقياد مع القدرة على المخالفة أشد من الطاعة بدونها وأدخل في التقرب واستفاضة الرحمة والاحسان منه تعالى. وقيل: الوجه فيه أن المحبة تابعة لادراك الوجود لأنه خير محض، فكل ما كان وجوده أتم كانت خيريته أعظم والإدراك المتعلق به أقوى والابتهاج به أشد فأجل مبتهج بذاته هو الحق الأول، لأن إدراكه لذاته أشد إدراكا لأعظم مدرك له الشرف الأكمل والنور الأنور والجلال الأرفع، فذاته سبحانه أحب الأشياء إليه وهو أشد مبتهج به، ومحبته لعباده راجعة إلى محبته لذاته لأن كل من أحب شخصا أحب جميع حركاته وأفعاله وآثاره لأجل ذلك المحبوب; فكل ما هو أقرب إليه فهو أحب إليه وجميع الممكنات على مراتبها آثار الحق وأفعاله فالله يحبها لأجل ذاته وأقرب المجعولات إليه هو العقل، فثبت أنه أحب المخلوقات إليه. ومن المتكلمين من أنكر محبة الله لعباده زعما منهم أن ذلك يوجب نقصا في ذاته ولم يعلموا أن محبة الله لخلقه راجعة إلى محبته لذاته إنتهى. وفيه نظر من وجوه أما أولا فلان قوله «المحبة تابعة لادراك الوجود، ممنوع وما ذكرناه لاثباته من أن الوجود خير محض مدخول (1) والبحث عنه مشهور مذكور في موضعه، وأما ثانيا فلأن كون العقل المبحوث عنه أقرب المجعولات كلها إليه سبحانه ممنوع (2) وأما ثالثا فلأن المحبة والبغض متقابلان وقد نسب البغض لبعض المخلوقات إليه سبحانه ولا شك أن بغضه له ليس لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر فلم لا يجوز أن لا يكون محبته لخلقه لا لأجل أنه من آثاره بل لأجل شئ آخر (3) وأما رابعا فلأن قوله تعالى (إن الله يحب المحسنين) (إن الله يحب التوابين

ص: 70


1- 1 - قوله: «خير محض مدخول» هذا شئ مبني على التتبع والاستقراء فانا لا نجد شيئا يسمى شرا إلا لأن العدم دخل فيه بوجه وحقق ذلك نصير الدين الطويي في موضعه (ش).
2- 2 - قوله: «ممنوع» لا ريب أن الله تعالى عالم بكل شئ والعلم كمال لا كمال فوقه كل موجد يكون علمه أكمل من غيره فهو أقرب إلى الله تعالى، ولا يتصور أن يعتقد أحد أن الجاهل أقرب إليه من عالم ومنع الشارح هنا في غير محله نعم جعل بعضهم رتبة الإنسان الكامل فوق العقل لأنه جامع بين كمال العقل وكمالات أخرى يختص به ولذلك قال العقل المبحوث عنه أي الذي هو بشرط لا عن كمال غيره (ش).
3- 3 - قوله: «لأجل شئ آخر» لا ينكر أحد محبة الله لأوليائه لأجل عبادتهم تقربهم إليه ولكن له تعالى محبة عامة لجميع خلقه بالرحمة الرحمانية، ومحبة خاصة لخصوص المؤمنين بالرحمة الرحيمية واثبات شئ لا ينفي غيره كما أن غضبه تعالى على الكفار لأجل كفرهم لا ينافي شمول الرحمة العامة لهم في الدنيا بسعة الرزق والدولة وساير النعم وبهذا يدفع المناقشة المذكور بقوله رابعا (ش).

ويحب المتطهرين) صريح في أن محبته لهم لأجل إحسانهم وتوبتهم وطهارتهم لا لأجل أنهم من آثاره، ولو أريد أن الاحسان والتوبة والطهارة من فعله وآثاره لرجع هذا إلى قول الأشاعرة ويتسع دائرة المناقشة فليتأمل.

(و لا أكملتك إلا فيمن أحب) دل على أن كمال العقل كأصله حباء من الله جل شأنه ولكن لكسب العبد وعنايته مدخل فيه كما يدل عليه قول موسى بن جعفر (عليه السلام): «من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عز وجل في مسئلته بأن يكمل عقله (1)» ويرشد إليه التجربة فإن من نشأ في التعلم وطهارة النفس وصرف القوة العلمية والعملية في تحصيل العلوم والأعمال والأخلاق المرضية ازداد عقله ضوءا ونفسه نورا يكاد يبصر ما تحت العرش وما تحت الثرى، وتلك العناية التي هي من التوفيقات الربانية إنما يتوقف على وجود أصل العقل لا على كماله فلا يلزم الدور.

(أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك اعاقب وإياك اثيب) «أما» حرف تنبيه يصدر بها الكلام الذي لمضمونه خطر وعناية لتنبيه المخاطب وإيقاظه طلبا لاصغائه، وتقديم المفعول للاختصاص فإن العقل وإن استشعر من الأمر بالاقبال والإدبار أنه مخلوق يتوجه إليه الأمر والنهي لكنه استشعر أيضا بأنه مقارن مع مخلوق آخر فكأنه غفل عن ذلك لشدة شغفه بمخاطبة ربه جل ذكره وتوهم أن الأمر والنهي والثواب والعقاب يتوجه إليه مع مشاركة الغير أو يتوجه إلى الغير وحده لا إليه، فأتى الله سبحانه بحرف التنبيه إيقاظا له عن تلك الغفلة وإظهارا بأن الكامل لا بد من أن لا يصير مغرورا بكماله بل هو دائما يحتاج إلى تنبيه وتذكير وبطريق الحصر دفعا لما عرض له من التوهم وإشعارا بأن القابل للخطاب هو دون غيره وحصر الثواب والعقاب فيه باعتبار أنه بذاته، أو بواسطة قوة وروية فيه منشأ للطاعة والعرفان ومبدء للمعصية والطغيان في مواد الإنسان ومستحق لهما في ضمن تلك المواد. فلا يدل الحديث على ثبوتهما له مجردا عنها أصلا فضلا عن أن يدل على نفي المعاد الجسماني.

وانطباق معنى الحديث على العقل بالمعنى الأول وهو النفس باعتبار التجرد ظاهر، وبالمعنى الثاني وهو حالة النفس وقوتها الداعية إلى الخيرات في المراتب المذكورة يحتاج في قوله «إياك أعاقب وإياك اثيب» إلى تكلف بأن يقال معناه بك أعاقب وبك اثيبت على سبيل التوسع، لأن المعاقب والمثاب هو النفس، أو يقال لما كانت تلك القوة

ص: 71


1- 1 - جزء من الخبر الذي يأتي في هذا الباب تحت رقم 12.

منشأ تكليف النفس نسب الثواب والعقاب إليها على سبيل التجوز والمعنى الأخير وهوا لجوهر النوراني المفارق عن المادة في ذاته وفعله يحتاج في هذا القول وفي قوله: «ولا أكملتك إلا فيمن أحب» إلى تكلف بأن يقال المراد بإكماله أكمال إشراقاته على النفس، وبثوابه وعقابه ثواب النفس وعقابها باعتبار الاستضاءة من مشكاته وعدمها. وقيل:

المراد بالعقل هنا العقل النبوي والحقيقة المحمدية وهو الروح الأعظم المشار بقوله تعالى (قل الروح من أمر ربي) وأحب الخلق إليه استنطقه الله تعالى بعد ما خلقه وجعله ذا نطق وكلام يليق بذلك المقام ثم قال له: أقبل إلى الدنيا واهبط إلى الأرض رحمة للعاملين فأقبل فكان روحه مع كل نبي باطنا ومع شخصه المبعوث ظاهرا، ثم قال له: أدبر يعني أدبر عن الدنيا وارجع إلى ربك، فأدبر عنها ورجع إليه ليلة المعراج وعند المفارقة عن دار الدنيا ثم أعلمه تشريفا وتكريما له بأنه أحب الخلق إليه وآكد ذلك بالقسم، ثم قال: «إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك اثيب» والمراد بك آمر وبك أنهى وبك أعاقب من جحدني وجحدك من الأولين والآخرين وبك اثيب من عرفني وعرفك منهم كل ذلك لأنك سبب للايجاد ولولاك لما خلقت الأفلاك، أو المراد إياك آمر إياك أنهى لأنك ملاك التكليف وإياك اعاقب بحبسك في الدنيا مدة ودخولك في المنزل الرفيع من الجنة وإياك اثيب باعتبار غاية كمالك وكمال قربك ومنزلتك لدينا، ولدينا مزيد والله أعلم بحقيقة كلامه.

* الأصل:

اشارة

2 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن مفضل بن صالح، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته، عن علي (عليه السلام) قال: هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام) فقال: يا آدم إني امرت أن اخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم (عليه السلام) إني قد ا خترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين:

انصرفا ودعاه فقالا: يا جبرئيل إنا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان قال: فشأنكما وعرج».

* الشرح:

(علي بن محمد) يروي المصنف في هذا الكتاب كثيرا عن علي بن محمد وهو علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلان ثقة عين (عن سهل بن زياد) ضعيف في الحديث (عن عمر بن عثمان) كوفي ثقة نقي الحديث (عن مفضل بن صالح) ضعيف كذاب (عن سعد بن طريف) قيل:

هو صحيح الحديث ونقل العلامة عن النجاشي أن يعرف وينكر، وعن ابن الغضائري أنه ضعيف وقال الكشي عن حمدويه أنه كان ناو وسيا وقف على أبي عبد الله (عليه السلام) (عن الأصبغ ابن نباته) بضم النون قال العلامة والنجاشي الشيخ في فهرست: إنه كان من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال العلامة: إنه

ص: 72

مشكور.

(عن علي (عليه السلام) قال هبط جبرئيل (عليه السلام) على آدم (عليه السلام)) الظاهر أن ذلك كان بعد هبوط آدم من الجنة وبعد قبول توبته (فقال يا آدم إني امرت أن أخيرك واحدة من ثلاث أي خصلة واحدة من ثلاث خصال فاخترها ودع اثنتين فقال: آدم يا جبرئيل وما الثلاث) الظاهر أن الواو لمجرد حسن الارتباط وزيادة الاتصال لا للعطف (فقال: العقل والحياء والدين) العقل هنا قوة نفسانية وحالة نورانية بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء ويميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، ويعرف أحوال المبدء والمعاد وبالجملة هو نور إذا لمع في آفاق النفوس يكشف عنها غواشي الحجب فتتجلى فيها صور المعقولات كما يتجلى في العين صور المحسوسات. والحياء خلق يمنع من ارتكاب القبيح وتقصير في الحقوق، وقال الزمخشري هو تغير وانكسار يلحق من فعل ما يمدح به أو ترك ما يذم به وهو غريزة وقد يتخلق به من يجبل عليه فيلتزم منه ما يوافق الشرع وسيجئ تحقيقه وتحقيق أن ما في بعض الإنسان من الكيفية المانعة له عن القيام بحقوق الله تعالى من الحياء إن شاء الله تعالى. والدين هو الصراط المستقيم الذي يكون سالكه قريبا من الخيرات بعيدا عن المنهيات (1) وهو عبارة عن معرفة مجموع ما يوجب القرب من الرب والعمل بما يتعلق به الأمر ومعرفة مجموع ما يوجب البعد عنه وترك العمل بما يتعلق به النهي (فقال آدم إني اخترت العقل) لا يقال: اختياره للعقل لم يكن إلا لملاحظة أن حسن عواقب أموره في الدارين يتوقف عليه وإن نظام أحواله في النشأتين لا يتم إلا به ولا يكون ذلك إلا لكونه عاقلا متفكرا متأملا فيما ينفعه عاجلا وآجلا، لأنا نقول: المراد بهذا العقل العقل الكامل الذي يكون للأنبياء والأوصياء واختياره يتوقف على عقل سابق يكون درجته دون هذا وللعقل درجات ومراتب. وقد يقال هذه الأمور الثلاثة كانت حاصلة له (عليه السلام) على وجه الكمال والتخيير فيها لا ينافي حصولها والغرض منه إظهار قدر نعمة العقل والحث على الشكر عليها (فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه) أي انصرفا عن آدم ودعاه مع العقل معه (فقال يا جبرئيل) الظاهر أن هذا القول حقيقة بلسان المقال بحياة خلقها الله تعالى فيهما ولا يبعد ذلك عن القدرة الكاملة وقد ثبت نطق اليد والرجل على صاحبهما ونطق الكعبة والحجر وغيرهما. ويحتمل أن يكون ذلك مجازا بلسان الحال أو يخلق الله سبحانه فيهما كلاما أسمعه جبرئيل وآدم (عليه السلام) كما قد خلق ذلك في بعض الأجسام الجمادية وأسمعه من شاء من خلقه (إنا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان) أي حيث وجد أو حيث كان موجودا، يفهم منه أن العقل مستلزم لهما وهما تابعان له، والأمر كذلك لأن بالعقل يعرف الله سبحانه وجلاله وجماله وكماله وتنزهه عن النقايص وإحسانه وإنعامه وقهره

ص: 73


1- 1 - في بعض النسخ [عن السيئات].

وغلبته بحيث يرى كل جلال وجمال وكمال وإحسان وإنعام وقهر وغلبة مقهورا تحت قدرته مغلوبا تحت قهره وغلبته بل لا يرى في الوجود إلا هو فيحصل له بذلك خوف وخشية يرتعد به جوانحه كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ويحصل له بذلك قوة وملكة تمنعه عن مخالفته طرفة عين وهذه القوة هي المسماة بالحياء، ثم بتلك القوة يسلك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، ومن ههنا ظهر أن الحياء مستلزم للدين والدين تابع له، ثم جبرئيل (عليه السلام) إن كان عالما بكونهما مأمورين بذلك كان قوله: «انصرفا ودعاه» محمولا على نوع من الامتحان لاظهار شرف العقل ونباهة قدره وإن لم يكن عالما كان ذلك القول محمولا على الطلب (قال فشأنكما وعرج) الشأن بالهمزة الأمر والحال والقصد أي فشأنكما معكما أو ألزما شأنكما، وهذا الحديث وإن كان ضعيفا بحسب السند لكن صحيح المضمون، وكذا الحديث الآتي مع ضعفه بالارسال أيضا لاعتماده بالبرهان العقلي وكذلك كثير من الأحاديث الواردة في الأحكام العقلية من أصول المعارف ومسائل التوحيد.

* الأصل:

اشارة

3 - «أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قلت له: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل»

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له: ما العقل قال ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان).

سأل سائل عن معرفة العقل مطلقا سواء كان حقيقيا أو رسميا أو لفظيا أو عن حقيقته وأجاب (عليه السلام) ببعض خواصه وأغراضه المقصودة منه للتنبيه على أن معرفة هذا هو الأهم والأسهل له دون معرفة حقيقته وإشعارا بأن عرفان حقيقته متعسر جدا فلا يحصل له بسهولة، ولهذا اختلف العلماء فيها وتحيرت عقول الحكماء في تحديدها وهذا التعريف إشارة إلى القوة النظرية المسماة بالعقل النظري وإلى القوة العملية المسماة بالعقل العملي إذ بالأولى يعلم المعارف الإلهية والأحكام الشرعية والأخلاق الحسنة النفسانية، وبالثانية يعمل بها ويهذب الظاهر والباطن وبالعلم والعمل يتم نظام عبادة الرحمن واكتساب الجنان، ويمكن أن يكون إشارة إلى العقل بالمعنى الأول والأخير أيضا لأن مقتضى النفس من حيث التجرد وعدم معارضة الأوهام وسائر القوى البدنية ومقتضى الجوهر النوراني المجرد عن شوائب المادة من جهة إشراقاته على النفس عبادة الرحمن واكتساب الجنان كما يشهد به الذوق السليم، ولما

ص: 74

كان هذا الجواب من الخواص الشاملة للعقل من شأنها عدم تخلفها عما هي خاصة له وقد تخلفت ههنا عما في بعض الأشخاص مثل معاوية من مناط التدبير والتصرف في الأمور الدنيوية الموجبة لبعده عن عبادة الرحمن واكتساب الجنان، والناس يسمونه عقلا وصاحبه عاقلا، سأل ثانيا حيث (قال: قلت: فالذي كان في معاوية) الموصول مبتدأ خبره محذوف وهو ما هو (فقال) كشفا لغمته وتوضيحا لمسألته (تلك النكراء) النكراء بالفتح والسكون والنكر بالضم وبضمتين: المنكر والأمر الشديد وكل ما قبحه وكرهه العقل أو الشرع فهو منكر أي تلك القوة التي كانت في معاوية وكانت سببا لتحصيله المصالح الدنيوية واكتساب الأمور الشرية، وانحرافه عن الله وعن أمر الآخرة قوة منكرة شنيعة قبيحة (تلك الشيطنة) فيعلة من شطن عنه إذا بعد، ومنه الشيطان لبعده عن رحمة الله سبحانه والمراد بها روية نفسانية تكتسب بها أعمال الجاهلين وملكة شيطانية يقترف بها أفعال الشياطين، وقوة داعية إلى الأغراض الفاسدة والشرور وتحصيل المطالب بالحيل والمكر وقول الزور (وهي شبيهة بالعقل) في أنها حالة للنفس وقوة محركة لها منافعها كما أن العقل كذلك. توضيح ذلك: أن العقل نورانية شريف الذات نقي الجوهر يدعو إلى ملازمة العلم والعمل واكتساب المنافع الاخروية الموجبة للسعادة الأبدية وكلما زاد العلم والعمل زادت نورانيته وصفاؤه حتى يصير نورا محضا وضوءا صرفا يضيء به سماء القلوب وأرض النفوس، والشيطنة قوة ظلمانية خسيس الذات مكدر الجوهر تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدنيوية الموجبة للشقاوة السرمدية واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانية وكلما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة، ولكن لما كان التمايز بينهما ومنافع العقل من الأمور المعنوية ومنافع الشيطنة ورويتها من الأمور الحسية صارت الشيطنة شبيهة بالعقل بل عقلا عند الجهال (وليست بالعقل) ولا شبيهة به عند أهل الفضل والكمال، فالجهال لفقدان بصيرتهم عن تلك القوة النوارنية وعميان سريرتهم عن مشاهدة تلك الروية الربانية مع سماعهم بأن للانسان عقلا هو مبدء الفطانة والروية يغصبون اسم العقل عن موضعه ويسمون هذه الروية النكراء وهذه الفطانة العمياء عقلا ويعدون معاوية من جملة العقلاء، وأما أهل الفضل والكمال فإنهم يعرفون بنور البصيرة أن بين تينك القوتين تباينا بحسب الذات والصفات لأن إحداهما نور والأخرى ظلمة، وبين الحركتين تغايرا في الجهات لأن جهة إحداهما التقرب بالحق والنتعم وجهة الأخرى التقرب بالشيطان والدخول في الجحيم وبين المغرضين تفاوتا في الحالات لأن غرض إحداهما التلذذ باللذة الروحانية وغرض الأخرى التلذذ باللذة الجسمانية، ويمكن أن يقال: العقل على أي معنى كان يقع الاشتباه بينه وبين الشيطنة عند الجهلة لأن في كل واحد منهما جودة الروية وسرعة التفطن بما ينفع ويضر وعزم الانتقال إلى النافع والاجتناب عن الضار سواء كان

ص: 75

متعلقا بأمر الدنيا بأمر الآخرة تحقيق ذلك أن للعقل على الإطلاق بداءة ونهاية وكلتهاهما تسميان عقلا أما الأولى فهي جوهر مبدء للعلوم والأعمال والخيرات كلها ومنشأ للروية والتفطن بها والتمييز بينها وبين غيرها من أضدادها وأما الثانية فهي العلوم والمعارف التي بها يعبد الرحمن ويكتسب الجنان وهي ثمرة الأولى فإذا استعمل ذلك الجوهر مع ما فيه من الروية والتفطن فيما خلق لأجله من اتخاذ الزاد ليوم المعاد واقتباس العلم والحكمة غير ذلك مما هو نافع في الآخرة زادت رويته وتفطنه وعظمت قوتهما، وتسمى تلك القوة أيضا عقلا إما حقيقة أو مجازا، وتتفاوت بحسب التفاوت في القوة والضعف وكثرة جنود العقل وقلتها وشدة معارضة الأوهام والقوى وعدمها وإن ترك مهملا ولم يستعمل فيما ذكر، بل استعمل في أضداده وصرف رويته وفاطنته بجميع أنحاء الحيل والمكر إلى جمع متفرقات الدنيا وزهراتها وتحصيل جزئياتها وضبط من خرافاتها حتى يكون أبدا في الحزن والأسف في فوات ما فات وفي الخوف من ذهاب ما حصل وفي الحرص على جمع ما لم يحصل، وعاونته جنود الجهل صارت قوة تلك الروية والفطانة شيطنة وروية من الشيطان وهو عقل عند الجهلة دون الكملة كما عرفت.

* الأصل:

اشارة

4 - «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال:

سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: صديق كل امرء عقله وعدوه جهله».(1)

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال) وهو الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الرضا (عليه السلام) وكان خصيصا به. وكان جليل القدر عظيم المنزلة ورعا ثقة وكان فطحيا يقول بإمامة عبد الله بن جعفر في جميع عمره حتى حضره الموت فرجع إلى الحق (جش) (عن الحسن بن الجهم قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: صديق كل امرء عقله وعدوه جهله) كما أن صديق كل رجل يجلب له الخير، ويدفع عنه الشر وعدوه بالعكس كذلك عقله يجلب له المنافع ويدفع عنه المضار، وجهله بالعكس إذ بالعقل يعرف الحلال والحرام وأحوال المبدء والمعاد، ويسلك سبيل الهداية والرشاد، ويميز بين الحق والباطل، ويعبد الرحمن ويكتسب الجنان فهو أجدر باطلاق الصديق عليه وأولى; إذ كل صديق غيره لا ينفع بدونه وبالجهل يغفل عن جميع ذلك ويسلك سبيل الغي والجهالة ويسعي في طريق الشر والضلالة ويعبد الشيطان ويكتسب غضب الرحمن فهو أليق باطلاق العدو عليه وأحرى; إذ كل عدو غيره لا يضره بدونه، وفيه إيماء إلى أنه ينبغي أن لا يتخذ الجاهل صديقا والعاقل عدوا; لأن الجاهل إذا كان عدوا لنفسه فكيف يكون صديقا لغيره والعاقل كما يكون صديقا لنفسه يكون صديقا لأخيه ويعينه

ص: 76


1- -الکافی:11/1.

فيما يعينه فمن اتخذه عدوا كان أثر عدواته خزيا بين يديه ومانعا من وصول الخير إليه، ولذلك كثر الأمر في الأحاديث بملازمة العالم ومفارقة الجاهل. وكما أن صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء متفاوتة في الناس كذلك صداقة العقل وعداوة الجهل متفاوتة بحسب تفاوت مراتب العقل والجهل في الشدة والضعف لكثرة جنودهما وقلتها على ما سيأتي تفصيل ذلك في الحديث المتضمن لذكر الجنود إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

اشارة

5 - «وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):

إن عندنا قوما لهم محبة وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول؟ فقال: ليس أولئك ممن عاتب الله إنما قال الله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)».

* الشرح:

(وعنه) أي محمد بن يحيى (عن أحمد بن محمد) الظاهر أنه أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ويحتمل أحمد بن محمد بن خالد البرقي لأن محمد بن يحيى يروي عنهما إلا أن روايته عن الأول أكثر ورواية الأول عن ابن فضال أشهر وكلاهما عدلان ثقتان (عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال:

قلت لأبي الحسن (عليه السلام)) الظاهر أنه أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ويحتمل أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) لأن الحسن بن الجهم يروي عنهما (إن عندنا قوما) من الشيعة والتنكير للتكثير (لهم محبة) لكم أهل البيت والتنكير للتحقير (وليست لهم تلك العزيمة) الواو للعطف أو للحال والعزم إرادة الفعل والقطع عليه والجد فيه يعني ليس لهم القطع واليقين بمحبتكم كما يكون لخلص شيعتكم; وذلك لعدم كمالهم في العقل والتمييز وعدم تمسكهم في الدين بالبرهان (يقولون بهذا القول) بمجرد التقليد والنشوء عليه لا بالبصيرة والبرهان وهو تأكيد للسابق ولذا ترك العطف (فقال ليس أولئك ممن عاتب الله) للتقليد وترك الاستدلال لأن الاستدلال متوقف على إدراك مقدمات مناسبة للمطلوب واعتبار الحدود فيها وترتيبها على نهج الصواب واعتبار الشرايط المعتبرة في الانتاج وقوة الانتقال منها. ولا يتصور ذلك إلا فيمن له قوة استعدادية وبصيرة عقلية ومكنة ذهنية (1) وليس أولئك بهذه الصفة فلا يتعلق بهم الخطاب بالاستدلال والعتاب بتركه (إنما قال الله فاعتبروا يا أولي الابصار) خص الأمر بالاعتبار باولي الابصار والحث على الاستدلال بذوي الأفكار إذ لهم أذهان ثاقبة وعقول كاملة وبصائر نافذة تمكنوا بها من معرفة غوامض الأمور من مباديها، فأولئك مكلفون بمعرفتنا والتصديق بولايتنا والاقرار بإمامتنا والبلوغ إلى أعلى مراتب محبتنا بمناهج البرهان ومعارج التبيان، فإن فعلوا اتصفوا بحقايق الأيمان وصاروا رفقاءنا في

ص: 77


1- 1 - في بعض النسخ [سمة ذهنية].

الجنان وإن أهملوا تمسكوا بعروة الكفران واستحقوا عذاب النيران ومذلة الخذلان. وهذا الحديث كما ترى صريح في أن تكليف عاجلا وتحصيل كمال الرضا والقرب عاجلا وآجلا متوجه إلى العاقل الكامل، وأن الضعفاء من الشيعة غير مؤاخذين بالتقليد في أصول الدين، وأن هذا الصنف دون الصنف الأول في الثواب والعقاب كما قال سبحانه (ورفع بعضهم فوق بعض درجات).

* الأصل:

اشارة

6 - «أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من كان عاقلا كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة».(1)

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان) ضعيف (عن أبي محمد الرازي) قيل هو جعفر بن محمد بن يحيى القاضي بالري ويحتمل أحمد بن إسحاق الرازي (عن سيف بن عميرة) بفتح العين ثقة عند الأكثر، وقال محمد بن شهر آشوب: هو واقفي، وقال الشهيد في شرح الارشاد - في نكاح الأمة باذن المولى -: وربما ضعف بعضهم سيفا والصحيح أنه ثقة (عن إسحاق بن عمار) ثقة عند الكل شيخ من أصحابنا عند بعض وفطحي عند بعض، وقال العلامة: الأولى عندي التوقف فيما ينفرد به.

(قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة) هذا ضرب أول من الشكل الأول (2) مركب من متصلين والنتيجة من كان عاقلا دخل الجنة; أما بيان الصغرى فلما مر في حديث عقل آدم (عليه السلام) من أن الدين لازم للعقل وذلك لأن العاقل يعرف أحوال المبدء والمعاد وما هو خير له في الدنيا والآخرة فيحصل له بذلك قوة تمنعه من الخروج عن الصراط المستقيم، والدين عبارة عنه، وبعبارة أخرى العاقل من كان له علم بالمصالح وعمل بها إذ لو لم يكن الأول كان جاهلا ولو لم يكن الثاني كان سفيها وهو أيضا جاهلا، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه (عليه السلام) في الحديث السابق من «أن العقل ما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان» فثبت أن من كان له عقل كان له دين. وأما الكبرى فلأن الدين كما عرفت عبارة عن الصراط المستقيم وهو طريق الجنة، فمن سلكه كان لا محالة غايته دخول الجنة ولأن سالكه استحق دخولها ومحال على فضل الله وإحسانه أن يمنعه من دخولها مع الاستحقاق، ويلزم من مفهوم الشرط أن من كان جاهلا لا دين له ولا يدخل الجنة ولكن لا بد من القول بأن هذا المفهوم غير معتبر لأن الجاهل قد يكون له دين وإن كان ضعيفا وقد يدخل الجنة بالتفضل، أو القول بأن المراد بدخول العاقل الدخول بلا تعذيب بعذاب يوم القيامة أو بلا حساب لأن العاقل يؤدي حسابه في دار الدنيا ويلزم أيضا من قاعدة انتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم أن لا يكون أحد من فرق الكفار والمخالفين عاقلا، وأن

ص: 78


1- -الکافی:11/1.
2- 1 - الضرب الأول ان يكون الصغرى والكبرى موجبتين كليتين (ش).

لا يكون ما فيهم من قوة التصرف والتفكر والتدبير عقلا وقد مر أنها شيطنة ونكراء.

* الأصل:

اشارة

7 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما يداق الله العباد الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».(1)

* الشرح:

(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد) ثقة (عن الحسن بن علي بن يقطين) ثقة فقيه متكلم (عن محمد بن سنان) ثقة عند المفيد ضعيف عند الشيخ الطوسي والنجاشي وابن الغضايري، ممدوح بمدح عظيم عند الكشي ولأجل ذلك قال العلامة والوجه عندي التوقف فيما يرويه (عن أبي الجارود) اسمه زياد بن المنذر زيدي أعمى مذموم بذم عظيم (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما يداق الله العباد في الحساب) المداقة مفاعلة من الدقة يعني أن مناقشتهم في الحساب وأخذهم على جليله ودقيقه (يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا) للعقل مراتب متفاوتة في القوة والضعف والكمال والنقصان المرتبة العليا للأنبياء والأوصياء والمرتبة السفلى لمن يتميز به عن ساير الحيوانات الخارجة عن رتبة التكليف والمتوسطات على كثرتها متوسطات والمداقة في الحساب بحسب تلك المراتب فحساب من في الدرجة الثانية أشق وأدق من حساب من الدرجة الأولى وأخف من حساب من في الدرجة الثالثة هكذا وذلك لأن الحساب على حسب التكاليف والتكاليف متفاوتة على حسب تفاوت العقول إذ الأقوى عقلا أشد تكليفا من الأضعف هذا، وقال سيد الحكماء الإلهيين (2): «إنما يداف الله العباد» بالدال المهملة والفاء المشددة ويروى بالذال المعجمة. وفي بعض النسخ «يدافي» بإبدال إحدى الفائين ياء يقال: دف عليه دفيفا أي وفد وقدم، وداففت الرجل مدافة ودفافا أجهزت عليه، وفي النهاية الأثيرية في حديث ابن مسعود «انه داف أبا جهل يوم بدر» أي أجهز عليه وجز رقبته، ويذاف بالذال المعجمة بمعنى يداف، وأما يداق بالقاف فتصحيف تحريفي وتحريف تسقيمي هذا ملخص كلامه. وإنما كلامه مطول مبسوط كله لبيان معنى هذا اللفظ بحسب اللغة كما هو دأبه في تصحيح اللغات وأسماء الرجال ولا أدري ما الباعث له على الحكم بتحريف «يداق» بالقاف وتسقيمه وترجيح يداف بالفاء عليه.

* الأصل:

اشارة

8 - علي بن محمد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن

ص: 79


1- -الکافی11/1.
2- 1 - يعني السيد محمد باقر الداماد - رحمه الله -.

أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إن الثواب على قدر العقل إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر ظاهرة الماء وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه: أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له:

وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فان هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربك حمار، فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله».(1)

* الشرح:

(علي بن محمد بن عبد الله) (2) أبو الحسن القزويني وجه من أصحابنا ثقة في الحديث (عن إبراهيم ابن إسحاق الأحمر) النهاوندي ضعيف في حديثه متهم في دينه، وفي مذهبه إرتفاع وأمره مختلط لا أعتمد على شئ مما يرويه (صه) (3) (عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه) سليمان بن زكريا الديلمي كذاب غال كذا نقل عن ابن الغضايري. وكذا ابنه ضعيف في حديثه مرتفع في مذهبه (صه) والحديث معتبر لأن الكذوب قد يصدق (قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فلان) بمكان رفيع (من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله) في القوة والضعف (قلت: لا أدري) حال عقله فيهما (فقال: إن الثواب) المترتب على العبادة والدين والفضل (على قدر العقل) فإن كان كاملا كان الثواب كاملا وإن كان ناقصا كان الثواب ناقصا لأن زيادة الثواب بكمال العبادة وكمال العبادة بمعرفة المعبود وصفاته واستحقاقه للعبادة دون غيره، ومعرفة حقيقة العبادة وأحكامها وشرايطها وكيفية فعلها وبصدورها على الخوف والخشية ولا يحصل ذلك إلا بزيادة العقل والعلم فإذن زيادة الثواب على قدر العقل كما أن زيادة العقاب على قدره لقول الصادق (عليه السلام): «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (4)» ولا يقال:

ص: 80


1- -الکافی:11/1
2- - قال الفيض القاشاني - رحمه الله -: كأنه ابن أذينة الذي هو من مشايخ الكليني ويحتمل ابن عمران البرقي انتهى. أقول: كونه القاضي القزويني في غاية البعد لأنه كما نص عليه النجاشي قدم بغداد سنة ست وخمسين وثلاثمائة وتوفي الكليني 328 والمشهور أنه رتب الكافي في عشرين سنة ولازم ذلك أن يكون علي بن محمد بن عبد الله أبو الحسن القزويني أجاز الكليني قبل خمسين عام وهذا بعيد جدا، والظاهر أنه ابن بندار أو على بن محمد بن عبد الله القمي كما أن الظاهر اتحاد الرجلين.
3- - رمز لخلاصة الأقوال للعلامة الحلي قدس سره.
4- - سيأتي في كتاب فضل العلم باب لزوم الحجة على العالم تحت رقم 1.

مجاهدة قليل العقل مع نفسه ودفعه للمخاطرات الشيطانية واللذات النفسانية أشق وأعظم لضعف الآلة من مجاهدة العاقل الكامل العالم الماهر فينبغي أن يكون ثواب عبادته أكثر وأعظم كما ورد «ان الذي يعالج القرآن بمشقة وقلة حفظه له اجران (1)» لأنا نقول:

ذلك ممنوع بل الظاهر الحق الذي لا ريب فيه أن مجاهدة العاقل العالم أعظم لأن اللذات النفسانية مشتركة والمخاطرات الشيطانية فيه أكثر وأعظم، وسيره في طرق تفاصيل المقامات العالية الدقيقة وتركه لأضدادها مع كثرة قطاع الطريق والمختلس فيها أشد وأشق بخلاف قليل العقل فإنه إنما يسمع أن هناك طرقا ومقامات وهي معارك النفوس ولم يقع فيها ولم ير مشقتها ولا صولة الأعادي فيها، أما تضعيف أجر من له قلة حفظ على أجر من له قوة حفظ فانما هو بعد تساويهما في العلم بالقراءة وأحكامها فليس هذا من قبيل ما نحن فيه. (إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزاير البحر) قال المطرزي في المغرب: الجزر انقطاع المد، ويقال جزر الماء إذا انفرج عن الأرض أي انكشف حين غار ونقص، منه الجزيرة. وقال الجوهري: الجزيرة واحدة جزاير البحر سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأرض (خضراء) بفتح الخاء وسكون الضاد أي فيها الفواكه والتفاح والكمثرى وغيرها أو البقول كالكراث والكرفس والسداب ونحوها أو النبات والكلاء الأخضر أو جميع ذلك (نضرة) صفة بعد صفة، والنضرة الحسن والرونق، وقد نضر وجهه أي حسن ونضره الله يتعدى ولا يتعدى (كثيرة الشجر، ظاهرة الماء) بالظاء المعجمة يعنى أن ماءها كان جاريا على وجه الأرض وقد يقرأ بالطاء المهملة، وكان طهارة مائها كناية عن صفائه ولطافته وخلوه عما يغير لونه أو طعمه، والظاهر «ظاهر الماء» بلا تاء، لأن الوصف بحال المتعلق في التأنيث والتذكير تابع لفاعله دون الموصوف، والفاعل هنا مذكر (وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا) دل هذا وغيره من الأخبار على أن الملائكة لا يعلمون ثواب أعمال العباد كما وكيفا بل لا يعلمون نفس الأعمال أيضا إلا ما شاء الله (فأراه الله تعالى ذلك فاستقله الملك) أي عدة قليلا بالنظر إلى عبادته (فأوحى الله تعالى إليه أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي) تلبس الملائكة والشياطين والأجنة الذين هم أجسام شفافة بل الأعراض أيضا كالأعمال والعقايد بالصور الجسمانية الكثيفة مما لا ينكره العقل وقد ثبت ذلك من طرق العامة والخاصة بأخبار معتبرة متكثرة، ولا يستلزم ذلك تبدل الحقايق ولا عبرة بانكار بعض أهل الظواهر (2) إذ الحقيقة الواحدة يختلف صورها باختلاف المواطن فيتحلّى في

ص: 81


1- 2 - رواه الكليني في كتاب فضل القرآن باب من يتعلم القرآن بمشقة تحت رقم 1.
2- - «بانكار بعض أهل الظواهر» هذا الكلام من الشارح تصريح بعدم كون ما يرى من الملائكة في الصورة الجسمية عين صورتهم بل يتلبسون بها وكذلك تصريح بتجسم الأعمال، وقال الفاضل العلامة المجلسي رحمه الله في حق اليقين ما معناه بعضهم قائلون بتجسم الأعمال ويقولون يجوز تبدل الصور باختلاف النشآت والعوالم كما يتمثل العلم في الرؤيا باللبن أو الماء وهذا شئ بعيد في العقل ولا يوافق المعاد الذي يعتقده المسلمون - إلى آخر ما قال - والحق ما قاله الشارح، إنه ليس بعيدا في العقل (ش).

كل موطن بحلية ويتزيا في كل نشأة بزي، وهو مذهب الخواص من أهل التحقيق وتوضيحه ما أشار إليه الشيخ في الأربعين من أن سنخ الشئ وأصله أمر مغاير لصورته التي يتجلى بها على المشاعر الظاهرة ويلبسها لدى المدارك الباطنة وأنه يختلف في تلك الصور بحسب المواطن والنشآت فيلبس في كل موطن لباسا ويتجلبب في كل نشأة بجلباب كما قالوا: إن لون الماء لون إنائه وأما الأصل الذي يتوارد عليه هذه الصور ويعبرون عنه تارة بالسنخ وتارة بالوجه ومرة بالروح فلا يعلمه إلا علام الغيوب، فلا بعد في كونه متلبسا في موطن بالصورة الملكية أو العرضية وفي آخر بالصورة الإنسانية أو الجوهرية، وأيده بمؤيدات لا يليق المقام ذكرها وإنما أتاه بصورة إنسي لا بصورة ملكية ليعرف ذلك العابد أنه من جنسه ولا يعلم أنه ملك لأنه أدخل في الامتحان، أو لعدم استعداد العابد لرؤية الملك بصورته الأصلية أو لعدم قدرته على تحمل هيبة الصورة الملكية، وفيه دلالة على تحقق المكاشفة وظهور الأشياء الملكوتية والآثار الربوبية التي حجبتها الشواغل الجسمية والعوايق البدنية والعلائق البشرية من مشاهدتها على بعض النفوس العارية عن هذه الشواغل، الخالية عن تلك المواضع، المرتاضة بأنحاء الرياضة، الممتازة بأنواع العبادة. والشواهد عليها من القرآن والأخبار كثيرة فلا عبرة بانكار المنكرين (فقال) أي العابد (له) أي للملك (من أنت؟ قال:

أنا رجل عباد) لم يرد أنه رجل بحسب الحقيقة حتى يلزم انقلاب المهية بل أراد أنه رجل بحسب الصورة ويصدق عليه مفهومه بحسب الرؤية وفائدة الاخبار باعتبار الوصف (بلغني مكانك) أي نزاهة مكانك أو منزلتك أو موضعك (وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك) فيه ترغيب في الميل إلى الصالحين والرفاقة معهم في العبادة (فكان معه يومه ذلك فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه) بالغ في التأكيد (1) مع أن نزاهة المكان أمر محسوس غير قابل للإنكار لأنه رأى العابد مشتغلا بعبادة ربه معرضا عما سواه بحيث لا يخطر بباله المكان والمكانيات أصلا بل كأنه ينكر وجود غيره بالكلية فهو بهذا الاعتبار صار منكرا مصرا فناسب الخطاب معه تأكيدا بليغا (وما يصلح إلا للعبادة) دل على أن مكان العبادة ينبغي أن يكون طاهرا نزها لأنه يوجب نشاط النفس وسرورها ويدفع عنها أنقباضها وكل ذلك يعدها للحركة إلى المقامات العالية الموجبة لتحمل مشاق العبادة ورياضاتها (فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة) أي في الوجود أو في هذا الموضع والأول أولى وأنسب وإنما عد هذا عيبا للمكان باعتبار أنه سبب لعيبه وهو ضياع حشيشه كما

ص: 82


1- 2 - يعني «أن» و «اللام» في قوله «ان مكانك لنزه» مشتمل على التأكيد وانما يؤكد الكلام إذا كان المخاطب منكرا مع كون النزاهة محسوسة لا يقبل الانكار فأجاب الشارح (ش).

أشار إليه بقوله (فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع) بيان للملازمة (فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار) «ما» للاستفهام ويحتمل أن يكون للنفي أيضا أي ليس لربك حمار لأنه أجل وأرفع من أن يكون له حمار، وفيه أن النفي على تقدير صحته لا يناسب قوله (فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش) هذا قياس استثنائي أنتج برفع التالي رفع المقدم والملازمة ممنوعة لأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون للحمار ونحوه إذ له منافع كثيرة ومصالح جمة لا يعلمها إلا هو، فهذا الكلام من جملة ما دل على قلة عقله (فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) فكما كان عقله قليلا كان ثواب عمله أيضا قليلا، وأما عقله فلعدم علمه بأنه ما يفعل ربه بالحمار وأي احتياج له إليه وأن العيب الذي نسبه إلى المكان راجع بزعمه إلى عيب ربه واعتراض عليه بضعف تدبيره لخلق الحشيش عبثا بلا منفعة ولا مصلحة، وأن خلق كل حشيش لا يجب أن يكون لأجل حمار وأن لكل شئ منافع وأغراضا لا يعلمها إلا هو وأن ليس لأحد أن يقوله لربه: لم خلقت هذا؟ ولم تخلق ذاك، وأن المقامات العلية والدرجات الرفيعة إنما هي للعابدين المعرضين عما سواه حتى علق قلبه بأخس المخلوقات وصرف همته إلى أن يكون راعيا لئلا يضيع النباتات.

و فيه دلالة على أن أمثال هذه الاعتقادات الفاسدة والاعتراضات الباطلة والاقتراحات الكاسدة لا يضر في أصل الايمان ولا في الإثابة على الأعمال الصالحة إذا كان مستندة إلى قلة العقل وضعف البصيرة كيف وقد دل الأحاديث الكثيرة على أن أكثر أهل الجنة النساء وضعفاء العقول، لا يقال: ترتب الثواب على العبادة مشروط بصحتها وصحتها مشروطة بنية التقرب إلى الله تعالى ونية التقرب إليه متوقفة على معرفته ومعرفته بهذا النحو وهو أنه خالق الأشياء عبثا بلا مصلحة ولا منفعة ليست بمعرفة حقيقة فكيف يترتب الثواب على عبادة هذا الرجل في الآخرة، لأنه يقال: أدنى المعرفة مع نفي الشريك يكفي في ترتب أدنى الثواب على العمل وذلك أن العبد إذا عرف ربه بقدر عقله ووسعه ولم يعتقد الشريك له ولا مشابهته لخلقه في الجسمية والمقدار وما يتبعهما كان قابلا لرحمته الواسعة مع رجحان الرحمة فإذا ضم معها عبادة عارية من الكبر والعجب والرياء وغيرها من الآفات والمفسدات للعبادة صار جانب الرحمة أرجح واستحقاق الثواب أقوى فوجب تحقق الثواب ولو كان حصول أصل الثواب موقوفا على كمال المعرفة فظاهر أن ذلك لا يتيسر إلا للعاقل الكامل الذي هو فريد في العقل والكمال لزم أن لا يكون من هو دونه من الضعفاء من أهل الرحمة. وهو خلاف ما نطقت به الروايات ودلت عليه الآيات والظاهر أنه لم يذهب إليه أحد أيضا.

* الأصل:

اشارة

9 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول

ص: 83

الله (صلى الله عليه وآله): إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فانما يجازى بعقله».(1)

* الشرح:

(علي بن إبراهيم) ثقة معتمد صحيح المذهب له كتب (عن أبيه) إبراهيم بن هاشم أبي إسحاق القمي ولم يصرحوا بجرحه وتعديله والأرجح قبول قوله (صه) (عن النوفلي) الحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك وكان شاعرا أديبا وقال قوم من الكوفيين إنه غلا في آخر عمره (عن السكوني) إسماعيل بن أبي زياد الشعيري له كتاب وكان عاميا (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)) صرح (عليه السلام) بهذه النسبة مع أن جميع ما روي عنه أخذه من مشكاة النبوة للتشرف بذكره (صلى الله عليه وآله) وللتأكيد والمبالغة في قبول مضمون الحديث ولاحتمال أن يكون السامع عاميا لا يقبل منه بدون ذلك (إذا بلغكم عن رجل حسن حال) من فعل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقات وغيرها من الأعمال الدينية والدنيوية (فانظروا في حسن عقله) فإن وجدتم عقله على وجه الكمال فاعلموا أن أعماله أيضا على وجه الكمال وأن الثواب المترتب عليها على وجه الكمال. وإن وجدتم عقله ناقصا فاعلموا أن جميع ذلك ناقص فلا تغتروا بحسن أعماله وأفعاله واستقامة أحواله ظاهرا ولا تحكموا بمجرد ذلك على صحة عقيدته وسلامة قلبه وكمال عمله وثوابه بل انظروا أولا في حسن عقله وكمال جوهره (فانما يجازى بعقله) أي بقدر عقله وللعقل مراتب متفاوتة تفاوتا فاحشا وهو أصل العبادة وأساسها كما قال الصادق (عليه السلام): «العبادة حسن النية من الوجوه التي يطاع الله منها) (2) وظاهر أن ذلك لا يحصل بدون العقل ففضل العبادة وكمال ثوابها بقدر فضل العقل وكماله، وفيه دلالة على أن ثواب العالم أفضل من ثواب الجاهل وإن كان الجاهل أعبد منه، وعلى اختبار حال الشاهد والراوي وكل مخبر وإن كانت أحوالهم حسنة بحسب الظاهر.

* الأصل:

اشارة

10 - «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): وأي عقل له

ص: 84


1- -الکافی:12/1.
2- 1 - رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر باب العبادة تحت رقم 4.

وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شئ هو، فإنه يقول لك: من عمل الشيطان».(1)

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة) أي بالوسواس في نيتهما أو فعلهما أو بالمخاطرات التي تشغل القلب عنها (وقلت هو رجل عاقل) التنكير للتعظيم والتفخيم (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وأي عقل له

ص:86

وهو يطيع الشيطان) إنكار لذلك القول على سبيل المبالغة، فان من يطيع الشيطان كأنه لا عقل له فضلا عن أن يكون عقله كاملا، ويحتمل أن يكون نفيا لعقله حين الإطاعة فيكون ردا لذلك القول على أن يكون قضية دائمة، واعلم أن للشيطان تصرفا عجيبا في الإنسان وعملا غريبا معه. فإنه إذا يئس من كفر من صح إيمانه قصده بالوسوسة ليشغل سره بحديث النفس يكرر عليه أفعاله ويؤذيه فربما يتصرف فيه بأمر النية وهي القصد إلى الفعل المأمور به تقربا إلى الله تعالى فيقول له: إنك لم تقصد قصدا معتبرا ويقول الملك الموكل بقلبه لتسديده إنك قصدت ويقع بينهما تعارض يوجب تردده فعند ذلك يقول له الشيطان: كيف قصدت مع هذا التردد فيبطله ويستأنف، وهكذا دائما وقد يقول له: لا يكفيك هذا القصد الإجمالي بل يجب عليك القصد إلى ما ينحل به تفصيلا، فيشرع في تفصيل معنى القصد والفعل والأمر والقربة وغير ذلك، وكلما خطر معنى من هذه المعاني بالبال غفل عن الآخر لأن مشرب القلب ضيق فيقول له حينئذ لا بد لك من تدارك ذلك الآخر فيأمره بذلك دائما فيبقى مترددا بحيث لا يدري ما يفعل فيصير ذلك سببا لقلقه واضطرابه حتى كأنه مجنون. وقد نقل عن ابن الباقلاني أنه قال يجب على المصلي في نية الصلاة أن يستحضر العلم بالصانع وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز له من بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات ووجه دلالتها على صدقهم ويستحضر مع ذلك الطرق التي وصل بها التكليف، ويستحضر حدوث العالم وما يتوقف عليه العلم بحدوثه من إثبات الأعراض واستحالة خلو الجوهر عنها وإبطال حوادث لا أول لها، ويستحضر الصلاة بجميع أجزائها وأفعالها وشرايطها. وقال المازري: إني أردت اتباع الباقلاني في ذلك القول فرأيت في منامي كأني أخوض بحرا من ظلام فقلت: هذه والله قول ابن الباقلاني. وربما يتصرف في قلبه ويشغله عن ذكر ربه وعن أفعال العبادة وأجزائها ويقول له: أذكر كذا وكذا وافعل كذا وكذا إلى غير ذلك من المخاطرات الردية، فيصير بحيث لا يعلم ما فعل وكم صلى. وقد قيل: إن رجلا شكا إلى بعض أهل العلم أنه خبأ شيئا فلم يدر أين هو فأمر أن يصلي ركعتين ويجتهد أن لا يحدث فيهما نفسه ففعل فجاءه الخبيث فذكره أين خبأه.

ولا يخفى أن سرعة قبول القلب لتلك المخاطرات وتأثره بتلك التصرفات إنما هو لضعف العقل، فان العاقل اللبيب يعلم أن العبادة ومقدماتها معراج العارفين وكلما يمنعه ويشغله عن التذكر فهو من تدليسات ذلك اللعين فيسد طرق تصرفاته بالبصيرة واليقين وأن النية إنما هي القصد بالشيء ولا معنى لإنكاره بعد حصوله وأن التردد إنما ينشأ من العدو المبين وأن ملاحظة تفاصيلها وتمييز بعضها عن بعض خارجة عن الدين وأن امتثال أمر الله سبحانه كامتثال العبد أمر سيده وأن تعظيمه كتعظيمه فلو أمره سيده بفعل معين في وقت معين فقام امتثالا لأمره وفعله في ذلك الوقت كان ممتثلا لأمره عرفا وشرعا ولو شرع في القيام وقال: أقوم امتثالا لأمر مولاي قياما مقارنا لتعظيمه وأمشي إلى ذلك المكان مشيا مطلوبا

ص: 85


1- -الکافی:12/1.

له وأفعل فيه في وقت كذا الفعل الذي أجزاؤه كذا وكذا، ويكرر ذلك لينتقش في قلبه صور هذه المعاني لعد ضعيفا في عقله وسخيفا في رأيه لأن هذه الصور مخطورة بالبال مندرجة تحت الامتثال على سبيل الإجمال كاندراج أجزاء العالم وعلة حدوثها في قولك: «العالم حادث» فكما أن القصد إلى الأجزاء مثل الأرض والسماء إلى غير ذلك مما لا يحيطه العد والإحصاء خارج عن إفادة هذا القول بل زايد، كذلك القصد إلى الصور المذكورة فيما نحن فيه (فقلت له كيف يطيع الشيطان) مع اشتغاله بالعبادة واهتمامه بها و «كيف» للاستفهام عن وجه ذلك إلا للإنكار (فقال سله هذا الذي يأتيه) من الوسواس في الوضوء والصلاة والابتلاء بهما (من أي شئ هو) إنما أحال البيان إليه للتنبيه على أن كون ذلك من الشيطان أمر بين يعرفه كل أحد حتى صاحبه وذلك لأن كل أحد يعلم أن الزيادة في الدين إنما هو من عمل الشيطان اللعين (فإنه يقول لك من عمل الشيطان) لعلمه بأنه الباعث لهذا العمل دون الشرع أو العقل وتصديقه بذلك لا يوجب كونه عاقلا كاملا كشارب الخمر والزاني والسارق وإنما العاقل من ترك عمل الشيطان ولم يعمل بقوله، وقيل قوله «من عمل الشيطان» قوله بلسانه ولم يؤمن به قلبه إذ لو عرف أنه من عمل الشيطان لكان عاقلا ولا موصوفا وإنما يقوله ذلك تقليدا أو اضطرارا وذلك مثل ما حكى الله سبحانه عن الكفار بقوله «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ »(1)فان هذا قولهم بأفواههم ولم تؤمن به قلوبهم إذ لو علموا ذلك لم يكونوا كفارا وإنما قالوا ذلك تقليدا وسماعا من الناس على الرسم والعادة لا تحقيقا وعرفانا فلذلك لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن علمه بأن ذلك من عمل الشيطان يستلزم أن يكون عاقلا لما عرفت، ولا نسلم به أن علم الكفار بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض يسلتزم عدم كفرهم لجواز أن يكون كفرهم مع علمهم بذلك لأجل أمر آخر كاعتقادهم باستحقاق الأصنام للعبادة ونحوه فليتأمل.

* الأصل:

اشارة

11 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولو الألباب، الذين قال الله تعالى: (وما يتذكر إلا أولو الألباب)».(2)

ص: 86


1- -لقمان:25.
2- -الکافی12/1.
* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل) كما قال بالفارسية: «الهى آنرا كه عقل دادي چه ندادي وآنرا كه عقل ندادي چه دادى؟» والمقصود أن العقل أفضل من جميع ما قسمه الله تعالى للعباد وهذا المعنى يفهم من هذه العبارة بحسب العرف فإن المقصود من قولنا ليس في البلد أفضل من زيد هو أن زيدا أفضل من غيره وسر ذلك أن العقل مناط لجميع الفيوضات الدنيوية والاخروية وليس شئ من الأغيار بهذه المثابة، والجهل بحكم المقابلة أخس من جميع الأشياء فيظهر وجه التفريع في قوله (فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل) يعني للعبادة وذلك لأن حقيقة السهر وإن كان أفضل من حقيقة النوم إلا أن النوم المقارن للعقل أفضل وأشرف من السهر المقارن للجهل بحكم المقابلة للملابسة والمجاورة ففيه زيادة مبالغة على شرافة العقل وخساسة الجهل، أو لأن العاقل لا ينام إلا بطهارة ودعاء والملائكة يستغفرون له ويكتبون له الصلاة ما دام نائما، كما نطقت به الأخبار وظاهر أن استغفار الملائكة والصلاة المكتوبة له أفضل من عبادة الجاهل، أو لأن نوم العاقل قلما ينفك عن رؤيا صالحة وهي جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة كما دلت عليه الروايات، فنوم العاقل في الحقيقة معراج له بخلاف سهر الجاهل، أو لأن العاقل لا ينام إلا بقدر الضرورة ويجعل نومه وسيلة إلى عبادة أخرى ولا شك أن نومه على هذا الوجه عبادة مستندة إلى العقل وسهر الجاهل لأجل العبادة وعبادة غير مستندة إليه وظاهر أن العبادة المستندة إلى العقل أفضل من العبادة الغير المستندة إليه، وقد سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا من الحرورية أي الخوارج يتهجد ويقرء فقال: «نوم على يقين خير من صلاة في شك» (1) والوجه فيه ظاهر لأن صلاة الشاك فيما يجب الاعتقاد فيه لا ينفعه ونوم المؤمن له فوائد كثيرة (وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل) أي انتقاله من بلد إلى بلد في طاعة الله تعالى كالحج والجهاد ونحوهما مع أن في الشخوص مشقة زائدة على الإقامة وذلك لأن عقل العاقل وإن كان جسمه مقيما سائر في المقامات العالية التي لا تخطر ببال الجاهل أبدا وله في كل آن سفر روحاني وشهود رباني ولا شبهة في أن سير الروح في معارج العرفان مع سكون الجسم أفضل من سير الجسم في البلدان مع سكون الروح أو لأن، إقامة العاقل وسكونه عبادة كشخوص الجاهل ولا ريب في أن عبادة العاقل وأشرف من عبادة الجاهل أو لأن روح الطاعة واعتبارها هو النية وقصد القرية ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة واليقين والجاهل بمعزل عنهما (ولا بعث الله نبيا ولا رسولا) من باب ذكر الخاص بعد العام لأن النبي أعم من الرسول كما سيجيء في الباب الثالث من كتاب الحجة.

ص: 87


1- 1 - أورده الشريف الرضي - رحمه الله - في النهج باب المختار من حكم أمير المؤمنين (ع) تحت رقم 97.

(حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته) لأنه واسطة بينهم وبين الله تعالى فيستحيل أن يكون في أمته من هو أفضل منه عقلا أو مساويا; لاستحالة ترجيح المفضول على الأفضل وترجيح أحد المساويين على الآخر وفيه مدح عظيم للعقل والعقلاء حيث حكم بأن التفاضل في الدرجة والتشريف بشرف النبوة والرسالة إنما حصل به ولذلك صار خاتم المرسلين أشرف المخلوقات أجمعين ولولاه لما خلق الله السماوات والأرضين ولا الملائكة المقربين لأن عقله نور رب العالمين به أخذ النور كل نبي وكل وصي في ديجور الإمكان كما أن الكواكب تستضئ بنور الشمس في ظلمة الليالي وإن كانت غائبة في الحس، فإذا طلعت قهر نورها على أنوار الكواكب ومنه يظهر سر نسخ شريعته الغراء لشرايع الأنبياء (وما يضمر النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين) لكون عقله أفضل وأرفع من عقولهم لأن عقله لشدة اتصاله بنور الحق جل شأنه كمال محض لا نقص فيه قطعا ونور صرف لا يشوبه ظلمة أصلا وذلك الاتصال بمنزلة اتصال الحديد بالنار وتأثره منها بحيث يصير نارا صرفا يمحو هويته حتى يؤثر في غيره مثل تأثيرها، وبه يشعر قوله تعالى ليلة المعراج خطابا له (صلى الله عليه وآله) «وما يتقرب عبدي إلي بشئ أحب مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته (1)» ولأجل ذلك الاتصال التام يظن من ليس له معرفة وتمييز أنهما متحدان. وأما أرباب المعرفة فيعرفون أن بينهما مغايرة وأن هذا مخلوق اتصل بكمالات الخالق كما أن ذلك حديد اتصف بصفات النار، وهذه المرتبة هي المرتبة العظمى والدرجة العليا من مراتب العقل ودرجاته وهي مرتبة حق اليقين، وهو فيما دون تلك المرتبة أعني مرتبة علم اليقين، مرتبة عين اليقين يشاهد المعقولات كلها مشاهدة عيان بحيث لا يعزب عنه شئ إلا ما شاء الله، هذا حال عقله (صلى الله عليه وآله) وعقل أوصيائه (عليهم السلام) إلا أن بين عقله وعقلهم تفاوتا دقيقا لا يعرفه إلا الله سبحانه، وأما عقل غيرهم ممن تمسك بذيل عصمتهم فهو وإن كان كمالا ونورا في حد ذاته لكنه استعداد محض، وظلمة صرف بالنطر إلى عقلهم إذ غاية جهده ونهاية سعيه تحصيل تلك المعقولات على قدر الوسع من مباديها بالاجتهاد وهو في هذه المتربة بمنزلة من استدل على وجود النار بمشاهدة الدخان، وبين هاتين المرتبتين مسافة بعيدة كما لا يخفى على العارفين.

وإذا كان عقله (صلى الله عليه وآله) أكمل وأفضل من عقول المجتهدين كان إدراكاته وتعقلاته أفضل وأتم من اجتهادات المجتهدين وتعقلاتهم ولهذا يحكم بأن عقل الأعلم وإدراكاته أتم وأفضل من عقل العالم

ص: 88


1- 1 - رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر باب من اذى المسلمين واحتقرهم تحت رقم 8.

وإدراكاته، وكذا عقل العالم وإدراكاته أتم وأفضل من عقل الجاهل وإدراكاته، بل لا نسبة هنا، ويرشد إلى التفاوت المذكور قول الصادق (عليه السلام) «اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنا (1)» (وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه) أي عقل عن الله وعرفه حق معرفته وعلم ما يصح عنه وما يمتنع عليه وحق أمره فيما أراده من الفرائض والأحكام وذلك ظاهر لأن أداء الفرائض لا يتصور بدون معرفتها المتوقفة على معرفته تعالى ومعرفته لا يتصور بدون العقل هو الأصل لجميع ذلك (ولا بلغ جميع العابدين) أي مجموعهم من حيث المجموع أو كل واحد منهم (في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل) أي في فضل عبادته أو في عقله عن الله وأحكامه وعلمه بهما لأن العقل أصل للعبادة وروح لها إذ به يحصل الخوف والخشية والخضوع الموجبة لصعودها إلى محل القبول، وانحطاط الفرع عن الأصل وعدم صعود العبادة الفاقدة لروحها بين لا سترة فيه (والعقلاء هم أولو الألباب) في تعريف الخبر باللام وتوسيطه بضمير الفصل تنبيه على التخصيص والتأكيد أي على قصر المسند على المسند إليه كما هو الشايع في مثل زيد هو الأمير، أو على قصر المسند إليه على المسند، فإنه قد يجيء لهذا المعنى أيضا كما في قولهم: الكرم هو التقوى أي لا كرم إلا التقوى، وهذا أنسب بالمقام لأن الظاهر أن المقصود حصر العقلاء بأنهم ليسوا إلا أولو الألباب الذين مدحهم الله تعالى في الكتاب، ويحتمل أن يكون المراد بيان اتحاد المفهومين يعني إذا حصلت مفهوم أولو الألباب وتقرر ذلك في ذهنك وتصورته حق تصوره فقد عرفت مفهوم العقلاء وحقيقتهم، فإنه لا مفهوم لهم وراء ذلك فليس هناك حمل بحسب المعنى ولا قصر، وقد صرح أئمة العربية بجواز إرادة هذا المعنى في مثل هذا التركيب منهم الشيخ في دلائل الإعجاز. (الذين قال الله تعالى) في مدحهم والجملة صفة لاولي الألباب أو للعقلاء (وما يتذكر إلا أولو الألباب) وهم الذين اتصفوا بنور البصائر وجودة الأذهان وشاهدوا المعارف مشاهدة العيان واهتدوا إليها لتجرد عقولهم عن غواشي الحواس وعلايق الأبدان وصعدوا لسلامة عقولهم معارج اليقين فصاورا أهل الذكر ومنبع العرفان الذين فرض الله سبحانه رجوع العباد إليهم بقوله: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فالمتمسكون بهم متمسكون بحبل الله وهم مهتدون.

* الأصل:

اشارة

12 - «أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا، رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال:(فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوالألباب).

ص: 89


1- 1 - سيأتي في كتاب فضل العلم باب النوادر تحت رقم 13.

«يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون).

«يا هشام قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا، فقال: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) وقال: (إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيى به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح [ والسحاب المسخر بين السماء والأرض] لآيات لقوم يعقلون) وقال: (يحيي الأرض بعد موتها، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) وقال: (وجنات من أعناب وزرع ونخيل، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال:

(ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقال: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). وقال:

(هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).

«يا هشام: ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة للذين يتقون أفلا تعقلون).

«يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون). وقال: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما

ص: 90

كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون).

«يا هشام: إن العقل مع العلم فقال: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها العالمون).

«يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وقال: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وقال: (ومنهم من يستمع إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) وقال: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). وقال: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) وقال: (وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).

«يا هشام: ثم ذم الله الكثرة فقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

وقال: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).

وقال: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون).

«يا هشام ثم مدح القلة فقال: (وقليل من عبادي الشكور) وقال: (وقليل ما هم) وقال:

(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله). وقال: (ومن آمن وما آمن معه إلا قليل). وقال: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقال: (وأكثرهم لا يعقلون). وقال:

(وأكثرهم لا يشعرون).

«يا هشام ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب) وقال: (الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). وقال: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب). وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب). وقال: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو

ص: 91

رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب). وقال: (لقد آتينا موسى الهدى، وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لاولي الألباب). وقال: (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين).

«يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) يعني: عقل:

وقال: (ولقد آتينا لقمان الحكمة). قال: الفهم والعقل».

* الشرح:

(بعض أصحابنا رفعه) النسخ هنا مختلفة ففي بعضها هذا وفي بعضها «أبو عبد الله الأشعري، عن بعض أصحابنا رفعه» واسمه الحسين بن محمد وفي بعضها أبو عبد الله الاشعري رفعه» وفي بعضها «أبو علي الأشعري رفعه (1) وضعف الخبر بحسب الاسناد لا يضر بصحته مضمونه لاشتماله على علوم عقلية، وحكم برهانية وآثار إلهية، ودلائل وحدانية وشواهد ربوبية، ومواعظ لقمانية، هي مناهج الايمان، ومعارج العرفان; كما سيظهر ذلك من مطالع البيان ومشارق التبيان (عن هشام بن الحكم) يروي عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (عليهما السلام) وكان ثقة محققا متكلما حاضر الجواب وله مدائح كثيرة جليلة عنهما (عليهما السلام) وسيجئ في كتاب الحجة بعض مدايحه ومهارته في صناعة الكلام وما روي في ذمه أجابوا عنه في موضعه، وقال العلامة هو عندي عظيم الشأن رفيع المنزلة (قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): يا هشام إن الله تعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه) لما كان الغرض من خلق الإنسان معرفته تعالى والعبادة كما قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف» وقال: (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) وذلك الغرض لا يتصور حصوله إلا باستعمال العقل والفهم خص الله سبحانه أهلهما بالبشارة تعظيما وتكريما لهم وأما غيرهم فلكونهم بمنزلة همج رعاع غير قابلين للبشارة والخطاب لأنهم من أهل الضرر والزمانة كما مر في صدر الكتاب (فقال فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) في إضافة العباد سبحانه تشريف لهم بشرف الاختصاص والتكريم، وفي عدم ذكر المبشر به دلالة على التفخيم والتعظيم، وفيه مدح للسالكين في

ص: 92


1- 1 - وفي بعضها «أبو علي الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه» والأصح «أبو عبد الله الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه» وهو الحسين بن محمد بن عمران بن أبي بكر الأشعري القمي المعروف بابن عامر وهو ثقة له كتاب يروي عنه الكليني بلا واسطة كما نص عليه النجاشي وغيره.

منهج الصواب التابعين للحق في كل باب وقد سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام): «هم المسلمون لآل محمد الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤوا به كما سمعوه (1)» ويمكن التعميم بحيث يندرج فيه المترددون بين الفريقين والناصحون بين المتخاصمين يسمعون من أحد الطرفين أقوالا ينقلون إلى أحسنها يرفع التخالف عنهم ويوقع التوافق بينهم ويندرج فيه الناظرون إلى جمال الحقايق بنور البصر والطامحون إلى قعر المعارف بغوص الفكر والمجتهدون في سبيل الحق بالاستدلال والنظر فان كل قول صدق وعقد حق له ضد ومعاند، فإن القول بأن الله تعالى موجود، عالم قادر حكيم مثلا ضد أنه ليس بموجود كما يقول الملاحدة، وأنه ليس بعالم على الإطلاق كما يقوله من نفى عنه العلم بالجزئيات وأنه ليس بقادر على إعادة الأجسام كما يقوله من نفى المعاد الجسماني أو أنه ليس بحكيم كما يقوله من نفى التدبير عنه، وقس عليه غير ذلك مما يتعلق بالأصول والفروع، ومن البين أن التمييز بين الصحيح والسقيم من هذه الأمور وغيرها لا يمكن بمجرد الاستماع وإلا لما وقع الخلاف فيها وإنما يمكن بما هو حجة الله تعالى على عباده وهو العقل الصحيح السليم عن غواشي الأجسام ولوابس الأوهام وذلك التمييز يتصور بوجهين، أحدهما: أن العقل الصحيح إذا لاحظ الضدين يجد منهما ما هو أحسن كما هو شأن المجردين من لواحق الأبدان مثل الأنبياء والأولياء.

وثانيهما: أن يدرك الأحسن من المبادي المتعلقة به كما هو شأن المجتهدين والبشارة تشمل الجميع (أولئك الذين هداهم الله) يعني أولئك الموصوفون بالصفة المذكورة هداهم الله إلى خير الدنيا والآخرة من أجل تلك الصفة ويحتمل أن يكون جواب سؤال عن سبب تبشيرهم دون غيرهم كأنه قيل: ما لهؤلاء العباد الموصوفين بالصفة المذكورة اتصفوا بالتبشير لهم دون غيرهم؟ فأجيب بأن السبب هو اختصاصهم بالهداية واللطف والتوفيق لسلوك سبيل الخيرات من الله سبحانه، وعلى التقديرين لا محل لهذه الجملة من الاعراب، وفيه دلالة على أن الهداية أمر حادث من الله تعالى للعقول القابلة المستعدة لها (وأولئك هم أولو الألباب) أي ذوو العقول السليمة عن التأثر بخبايث العلائق ومفاسد العادات، وأما غيرهم ممن لم يفرق بين الأقوال والعقائد الحسنة والقبيحة أو فرق واتبع القبيحة بحكم النفس الأمارة فهو من أهل الضلالة والجهالة بحكم المقابلة وإن كان له ما يحيل به في اقتناص الدنيا وزهراتها فإن ذلك عقل عند الجهلاء وشيطنة عند العقلاء.

(يا هشام: إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول) الحج القصد ومنه الحجة أي البرهان وولاة أمر الله سبحانه لأنهما يقصدان ويعتمدان وبهما يقصد الحق المطلوب. وقد تطلق على العقل أيضا

ص: 93


1- - سيأتي في كتاب الحجة باب فضل المسلمين.

كما في بعض الروايات: لله على الناس حجتان إحداهما العقل وأخراهما الرسول (1). ولا يجوز إرادته هنا بخلاف الأولين، فإنه يجوز إرادة الأول على أن يكون الباء للسببية يعني أكمل للناس براهين وجوده ووجوبه وقدرته إلى غير ذلك من الصفات بسبب العقول وخلقها وتركيبها فيهم ويجوز إرادة الثاني على أن يكون الباء للتعدية أو للسببية أيضا يعني أكمل للناس حججه من الأنبياء والأوصياء المرضيين بعقولهم الصافية وأذهانهم الثاقبة أو بسبب أن منحهم عقولا زكية عارية عن شوائب النقصان مدركة لشواهد الربوبية بحقايق الإيمان (ونصر النبيين بالبيان) البيان الفصاحة لأن نبي كل قوم أفصح منهم لسانا ويجوز أن يراد به ما يتبين به الشئ من الكلام والآيات وغيرهما يعني نصرهم بالكلمات الفائقة والمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة الدالة على ثبوت نبوتهم ليكمل بهم أحوال عباده وينور بهدايتهم أطراف بلاده ويخرج الناس من ظلمة الجهالة والغواية وينجيهم من حيرة الندامة والضلالة (ودلهم على) طريق (ربوبيته) عود ضمير الجمع إلى «النبيين» قريب وإلى «الناس» بعيد (بالأدلة) الدالة على وجود ذاته، والآيات الكاشفة عن جمال صفاته، وتلك الأدلة من آثاره العجيبة وأفعاله الغريبة; لأن معرفة الشئ إما بمشاهدته وحضوره عند العارف كمعرفة هذا الرجل وهذا الجبل، وإما بمعرفة علته وهذا الطريق يقال له برها لمي، وإما بمعرفة معلوله ويقال له: برهان إني. ولا طريق للمعرفة غير هذه الثلاثة لأن ما لا يكون نفس الشئ ولا علته ولا معلوله لا تعلق له بذلك الشئ فلا دخل له في معرفته، ثم الطريق الأول لا يتيسر الوصول إليه إلا للمقربين المخصوصين بزيادة اللطف والتوفيق وهم الذين أخذت أيديهم العناية الأزلية وأزالت عنهم الهويات البشرية وقطعت عنهم العوائق البدنية وأنزلتهم في أعلى منازل القدس وأرفع مقامات الانس، فصاروا بحيث يشاهدونه بلا حجاب ويكالمونه بلا سؤال ولا جواب، كما هو وصف نبينا وأوصيائه (عليهم السلام). والطريق الثاني لا أثر له في ساحة قدسه جل شأنه لأنه بسيط صرف لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا ولاخارجا، واجب لذاته مبدء لجميع ما سواه وإليه ينتهي الآثار كلها فلا فاعل له خارجا عن ذاته ولا سبب له داخلا في ذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والطريق الثالث يشترك فيه الكل فلذا خصه بالذكر وهو طريق يسلكه كل من له عقل سليم وطبع مستقيم ولكن سلوكهم ووصولهم وإيمانهم وإيقانهم على حسب تفاوت مراتب عقولهم أما ترى أنك تستدل بملكوت السماوات وحركات الكواكب وبزوغها وافولها على وجود صانعها ومدبرها كما استدل بها خليل الرحمن وإن كان استدلاله بها للتعليم وقد حصل لك علم ضعيف شبيه بالجهل حتى لو وقعت في أدنى بلية تلوذ بكل من زعمت أنه ينجيك منها، وحصل له علم ثابت ويقين جازم حتى قال له الروح الأمين حين رمي بالمنجنيق وكان في

ص: 94


1- 1 - سيأتي مضمونها في هذا الباب تحت رقم 22.

الهواء مايلا إلى النار: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا فإعراضه عنه في تلك الحالة والتجاؤه إلى ربه ليس إلا لأنه رأى أن كل ما سواه محتاج إليه خاشع لديه خاضع بين يديه مقهور لعزته مغلوب لقدرته بل لم ير موجودا سواه وملجأ إلا أياه، ولو عاد ضمير الجمع في «دلهم» إلى الناس أمكن أن يراد بالأدلة معصومون المطهرون (عليهم السلام).

(فقال وإلهكم إله واحد) أي مستحق العبادة منكم واحد لا شريك له يصلح أن يعبد ويسمى إلها. قيل: وحدة الشئ ما يوجب عدم انقسامه من جهة اتصافه بها، فكل موجود متصف بها فإن الرجل الواحد مثلا يستحيل أن ينقسم إلى رجلين وإن أمكن أن ينقسم من وجوه أخر وقيل: هي وجوده الخاص الذي به يوجد، ووحدته تعالى لما لم تكن مقيدة بجهة دون أخرى بل هو متصف بها من جميع الجهات كانت وحدته راجعة إلى أنه بسيط في الذات يعني أن ذاته غير مؤلفة من الأجزاء أصلا; وإلى إنه فرد لا شريك له في الوجود الذاتي والالهية، وإلى أنه واحد في أفعاله لا شريك له في المبدئية وفي انتساب جميع الكائنات إليه إما بلا واسطة أو بواسطة، وإلى أنه واحد في صفاته لان صفاته عين ذاته، وبالجملة عالم الالهية والوجوب الذاتي يتأبى عن تحقق الكثرة فيه ذاتا وصفة والشركة والكثرة إنما يتحقق في عالم الأمكان فمن قال بوقوع الكثرة في ذلك العالم كان ذلك لقصور بصيرته وعدم تميزه بين عالم الأمكان وعالم الوجوب (لا إله إلا هو) قال القاضي وغيره: هذا تقرير للوحدانية وإن أحدا لا يتوهم أن في الوجود إلها ولكن لا يستحق منهم العبادة، وتوضيحه أنه لما قال «وإلهكم إله واحد» ومعناه أن مستحق العبادة منكم واحد أمكن أن يتوهم أحد ويقول: إلهنا إله واحد يستحق العبادة منا فلعل في الوجود إلها غير إلهنا لا يستحق العبادة منا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق حيث نفى مهية الإله وأثبت فردا منها فعلم أنه لا وجود لها إلا في هذا الفرد وهو التوحيد التام (الرحمن الرحيم) أي المعطي لجميع النعم الدنيوية والاخروية، فهذا كالبرهان لما مر من أنه يستحق العبادة دون غيره; لأنه لما كان هو المعطي للنعم كلها أصولها وفروعها في الدنيا والآخرة وما سواه إما نعمة أو منعم كانت الالهية واستحقاق العباة منحصرة فيه لا توجد في غيره أصلا. قيل:

كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فلما سمعوا بهذه الآية تعجبوا وقالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت (إن في خلق السماوات) على مقادير متفاوتة وأبعاد مشاهدة في البعد البعيد لما في قربها من تحير الأبصار بمشاهدة شعاع الكواكب وسرعة دورانها كما يشاهد ذلك من البروق المتوالية المضطربة في الجو ومن المصابيح المتكثرة التي تدور حول أحد دورانا حثيثا فإنها تحير بصره حتى يتحير لوجهه، وعلى إدارتها مثل الدولاب مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم الثوابت والسيارات على بسيط الأرض دائما بهذا التقدير المشهود والتأثير المعلوم لصلاح الأرض ومن عليها، من غير انثلام ولا انكسار مع كمال لطافتها وانشفافها وعلى حركات

ص: 95

مختلفة في الكم والكيف والجهة فبعضها سريع وبعضها بطيء وبعضها شرقي وبعضها غربي وبعضها ذاتي وبعضها عرضي وعلى تجزئتها بممثلات ومتممات وحوامل، وخوارج المراكز والتداوير كل ذلك على أنحاء مخصوصة وأوضاع معلومة لأغراض مقصودة بعضها جلي وبعضها خفي (والأرض) على حجمها وثقلها ورسوبها في الماء وانكشاف بعضها ليكون مسكنا للحيوانات البرية وعلى سعتها وسكونها وتوسطها بين الصلابة والرخاوة لتكون مأوى أنواع الوحوش ومسكن أصناف الناس ومزارعهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم ولا يكونوا بمنزلة المتحصنين في حصار ضيق. وليتمكنوا من السعي فيها في مآربهم والجلوس فيها والنوم عليها والاتقان لأعمالهم فإنها لو كانت متحركة رجراجة (1) لم يتمكنوا التعيش فيها كما نشاهد ذلك فيما يصيبهم حين الزلازل على قلة مكثها وليتمكنوا من الزرع فيها والبناء عليها والمشي فيها ويسهل خروج النبات والأشجار. فإنها لو كانت شديدة الصلابة مثل الحجر أو شديدة الرخاوة مثل الماء لما أمكن شئ من ذلك، وعلى ما فيها وما عليها من المياه والجبال والمعادن مثل الياقوت والزبرجد والفيروزج والذهب والنحاس والحديد وغيرها كل ذلك لمنافع الخلق التي يعجز الوصافون عن توصيفها وتحديدها وعلى كرويتها الموجبة لاختلاف الآفاق والطوالع والمطالع والتعديلات والطلوع والغروب مستويا ومعكوسا واختلاف أهوية الأقاليم الموجبة لاختلاف أمزجة سكانها واختلاف أحوالهم وأخلاقهم وألوانهم، وقيل: إنما جمع السماء وأفرد الأرض لأن كل سماء جنس آخر بخلاف الأرض فانها جنس واحد.

كتاب العقل والجهل (واختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما على النظام المشاهد من الخلقة بالكسر وهي أن يذهب أحدهما ويجيء الآخر خلفه وبه فسر قوله تعالى «وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة» ومنه قولهم:

واختلفا ضربة أي ضرب كل واحد منهما صاحبه على التعاقب، أو اختلافهما في النور والظلمة، أو في الزيادة والنقصان ودخول أحدهما في الآخر على سبيل التدريج حتى يبلغ كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان وهي خمس عشر ساعة تقريبا أو في الطول والقصر والحر والبرد باعتبار العروض وأهويتها فان العروض الشمالية كلما كانت أكثر كان قوس النهار أطول وقوس الليل أقصر فيكون النهار أطول من الليل بقدر ضعف تعديل النهار، والعروض الجنوبية بعكس ذلك واختلاف كل واحد منهما بحسب الأمكنة فان الأرض لما كانت كروية فأية ساعة فرضت من النهار فهي صبح لموضع وظهر لآخر وعصر لثالث ومغرب لرابع، وقس على هذا ولاختلافهما فوائد ومنافع للخلق فإنه لو كان الليل أو النهار سرمدا إلى يوم القيامة أو كان مقدار النهار مائة ساعة أو مائتي ساعة أو أكثر كما في عرض تسعين - فان

ص: 96


1- 1 - الرجرجة: الاضطراب.

هناك مدة كل منها ستة أشهر كان في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات ولو كان دخول أحدهما في الآخر دفعيا لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها كما يضر الخروج من الحمام إلى موضع بارد دفعة، ولو كانت العروض متساوية في الحر والبر والأهوية لضاق الأمر على العباد بخلاف ما إذا كانت متفاوتة فإنه ينتقل منهم من أراد من موضع إلى موضع وجده موافقا لمزاجه فهي كالخوان الموضوع بين يدي جماعة فيه ألوان مختلفة من الأطعمة والأشربة في الكمية والكيفية يأكل منها كل واحد منهم ما أراد ووافق مزاجه، وبالجملة آثار صنع الله تعالى وحسن تدبيره في اختلافهما ومصالحه ومنافعه أعظم من أن يحيط بها علم الإنسان أو يكتب في الدفاتر ويذكر باللسان ولذلك ذكره الله تعالى في القرآن المجيد في مواضع عديدة وموارد كثيرة تنبيها لهم عن الغفلة وتذكرا لهم بالحكمة.

(و الفلك التي تجري في البحر) الفلك بضم الفاء وسكون اللام واحد وجمع فإذا كان واحدا فالضمة بمنزلة ضمة قفل، وإذا كان جمعا فالضمة بمنزلة اسد، فالضمتان متفقتان لفظا ومختلفتان معنى أما الجمع فكما في قوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) وأما الواحد فقد يأتي للمذكر بمعنى المركب كما في قوله تعالى (في الفلك المشحون) وقد يأتي للمؤنث بمعنى السفينة كما في قوله تعالى (والفلك التي تجري في البحر) ويحتمل أن يكون فيه جمعا (بما ينفع الناس) «ما» إما مصدرية أي بنفعهم، أو موصولة أي بالذي ينفعهم من المحمولات والمجلوبات وغوص اللآلي، وضمير «ينفع» على الأول يعود إلى «الفلك» بمعنى المركب ففيه استخدام أو إلى الجري أو البحر، وعلى الثاني إلى الموصول وفي موضع هذا المركوب المشكل بالشكل المخصوص الداخل فيه الهواء وحمله للأمتعة الكثيرة وأصناف من الحيوان وجريه في الماء بسياق الرياح، وعدم رسوبه فيه وتقوية القلوب على ركوبه، وجعل البحر متوسطا بين الكثيف واللطيف القابل لجريانه من لطايف الصنع وحسن التدبير في مصالح الناس ومعاشهم ما لا يخفى على ذوي البصائر الثاقبة، ومن جملتها أنه لولا هذا المركوب لعطلت التجارات التي تجلب من البلاد البعيدة مثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصين، وبقيت الأمتعة في بلدانها في أيدي صاحبها لأن أجر حملها على ظهور الدواب كان يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها على أن بعض المسافات كالبحر مما لا يمكن قطعه بالدواب، فتفقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها فينقطع المعاش ويتضيق طرقه على الناس، فلأجل هذه الحكمة جعل الفلك بحيث يحمل ما لا يحصى من الحمولة والأفراس والأفيال وهي تجري بعنايته في موج كالجبال وجعل الريح سايقها ومحركها ولولا الريح لركدت كما قال سبحانه (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ

ص: 97

يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) ومن جملتها أنه لو جعل البحر لطيفا محضا مثل الهواء لما استقر الفلك على ظهره بل غاص فيه، ولو جعله كثيفا محضا مثل الأرض لما أمكن من قطعه وشقه فجعل متوسطا بينهما لتكميل مصالحهم، قال القاضي: القصد من هذه الآية إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وقيل: الحكمة في عدم رسوب السفينة إلى الماء وإن كان بعض أجزائه أو كلها أثقل منه كالحديد هي أن الأجسام المتداخلة بعضها في بعض بمنزلة جسم واحد والمعتبر في الرسوب في الماء وعدمه ثقل المجموع بالقياس إليه وعدمه; ولذلك لو كثرت الحمولة وقل الهواء الداخل بحيث يكون المجموع أثقل من الماء لرسب فيه وغرق أهلها، والضابطة فيه أنه إذا فرض مع الماء جسم آخر فإن كان نسبة حجمه إلى حجم الماء كنسبة ثقله إلى ثقل الماء فلا يرسب فيه أصلا بل يكون سطحه العالي مساويا لسطح الماء في العلو والسفل وإن كانت نسبة حجمه إلى حجم الماء أقل منها فيرسب فيه البتة وبقدر تفاوت ثقله يكون سرعة حركته وبطؤها في النزول إلى القعر، وإن كانت أكثر فلا يرسب على الطريق الأولى لكن يخرج منه شئ من الماء ثم بقدر أكثرية هذه النسبة يكون خروج أبعاضه حتى يستوفي جميع النسبة التي يتصور بينهما وإن لم يبق بينهما نسبة أصلا وذلك بأن لا يكون لذلك الشئ ثقل وميل إلى المركز أصلا وعند ذلك يكون مماسا له بنقطة إن كان كرة أو بخط أو سطح إن كان غيرها من الاشكال كل ذلك إذا كان غير طالب للعلو وإلا فيرفع منفصلا على الماء ذلك تقدير العزيز العليم.

(وما أنزل الله من السماء من ماء) «من» الأولى للابتداء والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب المعلق وهذه من آيات وجوده سبحانه وقدرته وحكمته وحسن تدبيره من جهة كيفية نزو المطر ومبدء نزوله وفوائده. أما الأول فإنه ينزل متقاطرا متعاقبا ولو نزل متصلا دفعة واحدة مثل البحر لأضر كل ما تصيبه وينزل في وقت دون وقت آخر على تعاقب بينه وبن الصحو لما في دوام أحدهما من فساد العالم وبطلان نظامه، إذ لو دام المطر عفنت البقول والنباتات واسترخت أبدان الإنسان وساير الحيوانات وحسر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض والوباء وأفسد الطرق والمسالك والبلاد وأخرب البناء إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يحيط بها العد والإحصاء، ولو دام الصحو جفت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية وغلب اليبس وحدث القحط والجدب وضروب من الأمراض، وفيه هلاك الأرض ومن عليها وما فيها جميعا، ففي هذا التعاقب على النحو المشاهد الذي يوجب اعتدال

ص: 98

الهواء ونظام الأشياء وصلاحها واستقامتها ودفع كل منهما عادية الآخر دلالة على اللطيف الخبير، وأما الثاني فقال بعض الطبيعيين أن الشمس وغيرهما إذا أثرت في الأرض يخرج منها أبخرة متصاعدة إلى الطبقة الزمهريرية التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس المنعكس من وجه الأرض وهي منشأ السحب والصواعق والرعد والبرق، فإذا وصلت تلك الأبخرة إلى هذه الطبقة تتكاثف بالبرد وتصير سحابا، فإما أن لا يكون البرد قويا فيتقاطر وهو المطر أو يكون قويا بأن أثر في الأجزاء المائية قبل اجتماعها يحصل الثلج وإن أثر بعده يحصل البرد، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أن تحت العرش بحرا فإذا أراد الله أن ينبت به ما يشاء أوحى إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى يصير إلى السماء الدنيا فيلقيه إلى السحاب والسحاب بمنزلة الغربال فيمطر على النحو الذي أمر به، وليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك حتى يضعها موضعها» (1) والحديث طويل نقلنا بعض مضمونه.

شرح أصول الكافي: 1 ويؤيده ما روي عنه (عليه السلام) قال: قال «رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل جعل السحاب غرابيل للمطر حتى يذيب البرد حتى يصير ماء كيلا يضر شيئا يصيبه» (2) وهذا وإن كان مما يستبعده الغافلون لكن وجب قبوله وإذعانه إذا أخبر به المخبر الصادق كما في سائر الأسرار الالهية (3) وروي عنه (عليه السلام) أيضا أنه سئل عن السحاب أين يكون قال: «يكون على شجر على كثيب (4) على شاطئ البحر يأوي إليه فإذا أراد الله عز وجل أن يرسله أرسل ريحا وأتارته ووكل به ملائكة يضربونه بالمخاريق وهو البرق ويرتفع ثم قرأ هذه الآية (هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) واللمك اسمه رعد (5)» وفيه دلالة على أن السحاب تحمل الماء من بحار الأرض ويتصاعد بأمر الله تعالى ويمطر في كل مكان تعلق به إرادته ومشيئته ويدل عليه أيضا ظاهر ما نقله العامة والخاصة كما صرح به الشيخ في مفتاح الفلاح من أن المأمون خرج يوما من بغداد فأرسل صقره فارتفع في الهواء ولم يسقط على الأرض حتى رجع

ص: 99

في منقاره سمكة فتعجب المأمون من ذلك فلما رجع بغداد رأى في بعض طريقه محمد بن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وله في ذلك الوقت إحدى عشرة سنة وقيل عشرة فتقدم إليه المأمون وهو ضام كفه على السمكة وقال له قل أي شئ في يدي فقال (عليه السلام): إن الغيم حين يأخذ من ماء البحر يداخله سمك صغار فتسقط منه فيصيدها صقور الملك فيمتحنون بها سلالة النبوة، فأدهش ذلك المأمون فنزل عن فرسه وقبل رأسه وتذلل له ثم زوجه ابنته (1).

والظاهر أن جميع ذلك حق لأن الشئ الواحد قد يكون له أسباب متعددة وفي جميع ذلك دلالة على الحكيم القدير المدبر للأشياء على أحسن ما ينبغي.

فان قال قائل: إنما ينزل المطر من السحاب بطبعه لأنه ثقيل فأي دلالة فيه على ما ذكرتم؟ قلنا: أولا: هذا الطبع له ليس من قبل نفسه بالضرورة فمن أعطاه إياه دون غيره من الأجسام الخفيفة مع اشتراكهما في الجمسية؟ ومن أسكنه في جو السماء وكبد السحاب بحيث ينزل تارة دون أخرى مع اقتضاء طبعه نزوله وعدم استقراره؟ ومن ساقه من جو إلى جو مع اقتضاء طبعه الحركة إلى المركز؟ وثانيا: أنه إذا نزل بطبعه لثقله فلم يتصاعد إلى أعالي الشجر والأوراق والنباتات من المسامات الضيقة والعروق الدقيقة ليصل منافعه إلى كل جزء من أجزائها؟ ولو قال: صعود لجذب قواها الجاذبة إياه، قلنا له: من أعطاها تلك القوى التي تفسره إلى الصعود المخالف لمقتضى طبعه فيرجع الكلام بالآخرة إلى وجود واجب الوجود الذي بأمره وتدبيره يتحرك الماء فيما بين الأرض والسماء، من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق، ومن شمال إلى جنوب ومن جنوب إلى شمال، ومن علو إلى سفل، ومن سفل إلى علو، ذلك تقدير العزيز العليم، وأما الثالث: فهو أشار إليه سبحانه بقوله (فأحيا به الأرض بعد موتها) أي بسبب ما يتبعه من النباتات والحيوانات والكلام هنا في ثلاثة أمور، الأول: في كون النبات والحيوان حياة الأرض، ومجمل القول فيه أن نسبة النبات والحيوان الأرض كنسبة النفس إلى الحيوان فكما أن الحيوان بلا نفس ميت عديم المنفعة، كذلك الأرض بلا نبات ولا حيوان، ومن ثم قيل: الأرض بما فيه من النبات والحيوان بمنزلة حيوان واحد تموت عند الجدب والشتاء ويحيى عند الخصب والربيع. والثاني: في أن الماء سبب لحياة النبات والحيوان وهما يحتاجان إليه احتياجا شديدا، ووجهه ظاهر لأن القوى النباتية والحيوانية في جذب الغذاء والإلصاق والتنمية تحتاج إلى ماء يرطب ذلك الغذاء ويعده للنفوذ في المنافذ الضيقة ويعين تلك القوى في أعمالها، وإذا فقد الماء بطلت أعمالها وإذا بطلت أعمالها عدم الحيوان والنبات وبالجملة الإنسان وسائر الحيوانات والزروع وساير النبات يحتاجون إليه في

ص: 100


1- 1 - مطالب السئول ص 87، كشف الغمة ص 282.

الوجود والنمو والبقاء احتياجا شديدا. وقال صاحب العدة روي أن بعض الوعاظ دخل على هارون الرشيد فقال له هارون عظني،فقال: أراك لو منعت شربة ماء عند عطشك بم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: أتراها لو حبست عنك عند خروجها بم كنت تشتريها؟ قال: بالنصف الباقي، قال: لا يغرنك ملك قيمته شربة ماء.

الثالث: في دلالة إحياء الأرض بالمطر على وجود الصانع المدبر للعالم وذلك أن البرد في الشتاء يوجب كثافة الهواء والأرض والشجر ويبس ظاهرها فتعود القوى النباتية والحرارة الغريزية في الشجر والنبات، وتستقر في بطونها وأصولها وتهيء فيهما مواد الثمار وتولد الأمثال فإذا نزل الماء وقت الربيع الذي هو وقت بروز ما في البطون وظهور ما في الكمون انتفخت الأرض واهتزت وتحركت القوى والحرارة وتتولد المواد الكامنة في الشتاء فيطلع النبات ويتنور الأشجار والأزهار ويخرج أصناف مختلفة مونقة رايقة من الثمار التي يتمتع بها الإنسان وغيره من أنواع الحيوان، كما قال سبحانه: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) وقال: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا) فالعاقل اللبيب إذا نظر هذه الحركات والانقلابات وفي صنوف مختلفة من النباتات والأشجار والأزهار والأثمار من حب وعنب وقضب وزيتون ونخل ورمان وفواكه كثيرة على اختلاف أنواعها وأصنافها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروايح يفضل بعضها على بعض في الاكل والمنافع مع أن جميعها يخرج من أرض واحدة ويسقى من ماء واحد، وتفكر ما في النباتات من ضروب المنافع وصنوف المآرب فالثمار للغذاء والنبات للعلف والحطب للوقود والخشب لكل شئ من أنواع التجارة وغيرها واللحاء والورق والأصول والعروق والصموغ وغيرها لضروب المنافع فبعضها يقوي وبعضها يغذي، وبعضها يقتل وبعضها يحيى، وبعضها يسخن وبعضها يبرد، وبعضها يدفع السوداء وبعضها يسهل للصفراء، وبعضها يقمع البلغم إلى غير ذلك من الفوائد الغير المحصورة، ورأى ما في الأوراق من شبه العروق مبثوثة في جرمها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها لامساكها وحفظها عن التمزق والاضطرب ولإيصال الماء إلى أطرافها بمنزلة الجداول ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ لإيصال الماء والغذاء إلى كل جزء من أجزائها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن. علم أن جميع ذلك من فاعل قادر مختار عليم حكيم يوجد الأشياء بمجرد إرادته لمصالح أو منافع غير محصورة (وبث) عطف على أنزل فهو صلة على حدة لموصول مقدرة بحكم العطف ويجوز عطفه على «أحياء» لأن الحيوان أيضا ينمو بالماء ويعيش بالخصب والحب (فيها من كل دابة)

ص: 101

مختلفة في الطبايع والأخلاق والأشكال والادراك والحواس والحركات والمنافع والاهتداء إلى طرق المعاش. فمنها ما يمشي على بطنه كالحيات، ومنها ما يمشي على رجلين كالإنسان، ومنها ما يمشي على أربع كالفرس، ومنها ما يمشي على أكثر كبعض الحشرات، ومنها ما يمشي تارة ويطير أخرى كالطيور، ومنها ما يدخر قوته بحيلة وتدبير كالذرة والعنكبوت، ومنها ما يطلب قوته عند الحاجة كالطير فإنه يروح جايعا ويرجع شبعانا، ومنها ما في خلقه صنعة عجيبة كالبعوضة فإنها مع صغرها على هيئة الفيل مع زيادة الجناحين تطير بهما.

ومنها ما لا يحتاج إلى بيت بل يبيت حيث كان من الأرض، ومنها ما يحتاج إليه ويبنيه على شكل عجيب غريب لا يهتدى إليه المهرة من المهندسين كالنحل; وكل ذلك وغيره مما يتعذر عده وإحصاؤه دل على أن في الوجود موجودا عالما حكيما يفعل ما يشاء كيف يشاء، وإليه ينتهي الموجودات على تفاوت طبايعهم ومراتبهم التي أرفعها وأعلاها وأشرفها وأسناها المرتبة الانسانية; لأن الإنسان على تفاوت الطبقات في العقل والأدراك خلق له أكثر هذه الموجودات فبعضها لمأكله ومشربه وسائر منافعه وبعضها يستدل به على وجود صانعه وقدرته وعلمه وحكمته بل لو لم يكن في هذا العالم موجود سواه وتأمل في مبدء نشؤه وصورته وأعضائه ومنافع قواه الظاهرة والباطنة وفي أحوال نفسه وعقله وعلمه بالمعلومات الكلية والجزئية وإحاطته بالمدركات العقلية والحسية علم أنه مخلوق مغلوب مقهور له خالق غالب قاهر مصور عليم حكيم، فإنه إذا اعتبر مثلا حاله حين كونه نطفة في الرحم وصيرورته جنينا حيث لا تراه عين ولا تناوله يد مع اشتماله على جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح وسائر الأعضاء من العظام واللحم والشحم والمخ والعصب والعروق والغضروف وهو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ولا حيلة له في طلب غذائه، ولا دفع أذاه، ولا استجلاب منفعته، ولا دفع مضرته، وقد جرى إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاه حتى إذا كمل خلقته واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق (1) بأمه فأزعجه أشد إزعاج واعنفه حتى يولد وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه في الرحم إلى ثديي أمه وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشد موافقة له من الدم فيوافيه في وقت حاجة إليه وحين تولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للغذاء فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن دقيق ا لامعاء لين الأعضاء حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ بها الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته،

ص: 102


1- 1 - الطلق وجع الولادة والمخاض.

فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكل ذلك علامة الذكر وعزه الذي يخرج به من حد الصبى وشبه النساء، وإن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر ليبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه،واعتبر أنه لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو الرحم لزوى وجف كما يجف النبات إذا فقد الماء ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه لبقي في الرحم كالموؤد في الأرض; وفي ذلك هلاكه وهلاك أمه، ولو لم يوافقه اللبن بعد الولادة لمات جوعا، ولو لم يطلع عليه الأسنان في وقتها لامتنع عليه مضغ الطعام وإساغته أو يقيم على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح للعمل مع أن ذلك يمنع أمه عن تربية غيره من الأولاد بل عن امورها مطلقا، ولو لم يخرج الشعر من وجهه في وقته لبقي شبيها بالصبيان والنساء فلم يكن له جلالة ولا وقار، وكذا إذا اعتبر في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير، وفكر في أن الطعام يصير إلى المعدة فتطحنه وتبعث بصفوه إلى الكبد منه في عروق دقاق قد جعلت كالمصفاة للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شئ فينكأها (1) وذلك أن الكبد رقيقه لا يحتمل العنف ثم إن الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما وينفذ إلى البدن كله في مجاري مهياة لذلك بمنزلة المجاري التي للماء حتى يطرد في الأرض كلها، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفايض قد اعدت لذلك، فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة، وما كان من جنس السوداء جرى الطحال، وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة، وتأمل في حكمة التدبير في تركيب البدن، ووضع هذه الأعضاء منه في مواضعها، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه، وفكر في أعضاء البدن أجمع وتدبير كل منها للإرب والحاجة، فاليدان للعلاج، والرجلان للسعى، والعينان للاهتداء، والفم للاغتذاء، واللسان للتكلم.

والحنجرة لتقطيع الصوت وتحصيل الحروف، والمعدة للهضم، والكبد للتخليص والمنافذ لتنفيذ الفضول، والأوعية لحملها، والفرج لإقامة النسل، وفكر في سائر الأعضاء والقوى ومنافعها وأعمل فكره فيها ووجد كل شئ قد قدر لشئ على صواب وحكمة وتقدير وتدبير يعجز العقل عن معرفة تفاصيلها، علم أن له خالقا عالما قديرا عليما حكيما يوجد الأشياء بمجرد إرادته بلا كلام ولا حركة ولا آلة لأغراض ومصالح لا يعرف تفاصيلها إلا هو وهو اللطيف الخبير.

(وتصريف الرياح) الرياح جمع كثرة للريح وهي الهواء المتموج المتحرك بسبب مقدر من الله العزيز العليم، والعين فيهما واو قلبت ياء لكسرة ما قبلها وجمع القلة أرواح بالواو إذ لم يوجد فيه ما يوجب الإعلال، والمراد بتصريفها في مهابها صباء ودبورا وشمالا وجنوبا، أو في أحوالها حارة وباردة وعاصفة

ص: 103


1- 1 - أي يقرحها ويثخنها.

ولينة وعقما ولواقح، أو جعلها تارة للرحمة يرحم بها من أطاعه وتارة للعذاب يعذب بها من عصاه ولكل واحدة من الرياح الأربع المذكورة ملك يهيجها ويحركها بأمر الله سبحانه كما ورد في الرواية الصحيحة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) «إن الرياح الأربع الشمال والجنوب والصبا والدبور إنما هي أسماء الملائكة الموكلين بها فإذا أراد الله أن يهب شمالا أمر الملك الذي اسمه الشمال فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد الله من البر والبحر، وإذا أراد الله أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الجنوب في البر والبحر حيث يريد الله، فإذا أراد الله أن يبعث ريح الصبا أمر الملك الذي اسمه الصبا فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الصبا حيث يريد الله في البر والبحر، وإذا أراد الله أن يبعث دبورا أمر الملك الذي اسمه دبور فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الدبور حيث يريد الله من البر والبحر، ثم قال (عليه السلام) أما تسمع لقوله (2) ريح الشمال. وريح الجنوب; وريح الدبور، وريح الصبا. إنما تضاف إلى الملائكة: الموكلين بها».

إذا عرفت هذا فنقول: في تصريف الرياح ومنافعها دلالة واضحة على أن مبدعا حكيم قادر عليم بمصالح العباد أما الأول فلأن حركة الهواء إلى الجوانب المختلفة إرادية بالضرورة ولا طبيعية لأن الحركة الطبيعية إلى جهة واحدة هي العلو والسفل. وحركة الهواء إلى جهات متعددة فينبغي أن يكون لأمر خارج فإن كان ذلك الخارج إرادة الواجب بالذات ثبت المطلوب، وإن كان غيرها ننقل الكلام إلى ذلك الغير فيرجع بالآخرة إلى المطلوب، وأما الثاني فلان الريح تحيي الأبدان وتمسكها من داخل بما تستنشق منها ومن خارج بما تباشر بها من روحها وتبلغ الأصوات وتؤديها إلى المسامع من البعد والبعيد ولولا ذلك لبطل نظام العالم، وتحمل الأراييح التي تقوي القلب والدماغ من موضع إلى موضع، ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح وتروح عن الأجسام وتدخل في فرجها وتصير مادة لنشوء النباتات التي يحتاج إليها جميع الحيوانات في الاغتذاء والدواء وغيرهما فلولا الريح لتعفنت وفسدت، وتعفنها وفسادها يؤدي إلى فساد الحيوان والإنسان جميعا، وتزجي السحاب من موضع إلى من موضع ليعم نفعه ثم تعصره حتى يستكثف فيمطر ثم تنفضه حتى يتخلخل ويستخف فيتفشى وينتشر، وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخى الأطعمة، وتبرد الماء وتشب النار، وتجفف الأشياء الندية، وتعين في تصفية

ص: 104


1- 2 - رواه الكليني في الكافي ج 8 (كتاب الروضة) رقم 63 في حديث بهذا الاسناد محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي ابن رئاب، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام).
2- 1 - أي لقول القائل.

الغلات ولو ركدت دائما لفاتت هذه المصالح الجليلة والمنافع العظيمة، وحدث الكرب في النفوس، ومرض الأصحاء ونهك المرضى (1) وفسد الثمار، وعفنت البقول، وحدث الوباء في الأبدان، والآفة في الغلات، وركدت السفن، وتحير التجار، وبالجملة بطل نظام العالم بالكلية، ففيها من تدبير الحكيم ومصالح الخلق ما لا يحصيه اللسان ولا يحيط به العبارة والبيان، وكل هذا شواهد صادقة وآيات ناطقة بلسان حالها، مفصحة عن جلالة باريها وقدرته، ومعربة عن كمال صانعها وحكمته.

(والسحاب المسخر بين السماء والأرض) وهو يحمل مع ما فيه من الصواعق الصادعة والبروق اللامعة والرعود القارعة ثقل الماء وكثره مستقلا في الهواء ويجمع بعد تفرقه وينفجر بعد تمسكه ويرفع مرة ويدنو أخرى فتصفقه الرياح وتسوقه وتفرقه بأمر مدبره وخالقه فيما بين الأرض والسماء إلى البلدان النائية فيخرج الوقد من خلاله بقدر معلوم لمعاش ورزق مقسوم، ويرسل قطرة بعد قطرة وشيئا بعد شئ على رسله حتى يغمر البرك ويملأ الفجاج، ويعتلي الأودية وتحيى به الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مقبرة وتعود معشبة بعد أن كانت مجدبة وتكسو ألوانا من نبات ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس والأنعام ولو احتبس عن أزمنته وتخلف عن وقته هلكت الخليقة ويبست الحديقة، ثم إذا صب ما فيه أقلع وتفرق وذهب حتى لا يعاين ولا يدري أين يتوارى، فعرف العاقل حيت تفكر في ذلك أن له مدبرا حكيما عالما حيا قيوما وأن السحاب لو تحرك بنفسه وصب ما فيه بمقتضى طبعه لما مضى به ألف فرسخ وأكثر وأقرب من ذلك وأبعد ليرسل قطرة بعد قطرة بلا هدم ولا فساد ولا سارية إلى بلدة متجاوزا عن الأخرى. (لآيات لقوم يعقلون) أي في كل واحد من الأمور الثمانية آية ظاهرة ودلالة واضحة على وجود الصانع وقدرته وحكمته ووحدته واستحقاقه للعباد لقوم ينظرون إليه بعيون عقولهم الصحيحة ويعتبرونه ببصاير أذهانهم السليمة، أو في كل واحد منها آيات كثيرة كما يظهر لمن تأمل فيها تأملا عاريا عن الأوهام الفاسدة وقد يوجه بأن كل واحد منها يدل من حيث وجوده على وجود الصانع، ومن حيث حدوثه في وقت معين على إرادته وعلمه بالجزئيات، ومن حيث منافعه على حكمته واتقان صنعه وحسن تدبيره، ومن حيث ارتباط بعضه ببعض على وجه الانتظام والتعاون على وحدانيته.

وقال القاضي دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلا، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة مثلا إذا كان من الجائز أن لا تتحرك السماوات أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها وبحيث تصبر المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلا وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها فلا بد لها

ص: 105


1- 2 - نهك الحصى فلانا: أضنته وهزلته وجهدته.

من موجد قادر حكيم يوجدها على ما يستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وإن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وعجز الآخر المنافي لالهيته وإن اختلفت لزم التمانع والتطارد كما أشار إليه بقوله تعالى (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه. اه. وقيل:

الأحق بذلك هو العلم الذي فوق الطبيعة وهو الحكمة الالهية الحقة.

(يا هشام قد جعل الله ذلك) أي المذكور من الآيات ومثلها أو مضمونها فان مضمونها مذكور تفصيلا في الآيات الآتية (دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا) لأنهم إذا تأملوا فيها ونظروا إليها بعين البصاير واعتبار الضمائر علموا أن لهم خالقا خبيرا وصانعا بصيرا خلقهم بعمد وتقدير، وصنعهم بقصد وتدبير، وخلق لهم جميع ما يصلح لانتفاعهم وينفعهم في وجودهم وبقائهم كما يظهر بعض ذلك مما ذكرناه آنفا. (فقال: وسخر لكم الليل والنهار) بأن قدرهما لمنافعكم وهيأهما مخصوصا لمصالحكم، وجزء الزمان بهما لصلاح بالكم ونظام حالكم فصارا يتعاقبان تعاقبا مخصوصا ويتبادلان تبادلا معلوما، لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، ومتى نظر فيه اللبيب البصير دله إلى وجود الصانع العليم الخبير، وقيل: وجه دلالتهما عليه أنهما أجزاء الزمان الواحد المتصل، والزمان مقدار حركة دورية غير مستقيمة، فالحافظ لها لا بد أن يكون جسما كرويا إبداعيا وهو السماء فدل وجودهما على وجود السماء، والسماء دل على وجود خالق الأشياء لأن السماء ممكنة مفتقرة العلة وعلتها ليست مادتها ولا صورتها ولا نفسها ولا جسم آخر حاويا أو محويا فتتعين أن يكون خارجا عن الكون والمكان وهو المطلوب. وفيه: أن هذا على تقدير تمامه مبني على مقدمات كثيرة كلامية وليس هذا المقام موضع ذكر أمثال هذا الكلام (والشمس والقمر) سخر الشمس بأن جعلها ضياء وأمرها بالارتفاع والانحطاط والسير في البروج لإقامة الفصول وتربية البقول وتنمية الحيوان والأشجار وتقوية الفواكه والأثمار إلى غير ذلك من المنافع التي يعجز عن ذكرها القلم واللسان ولا يحيط بها الوصف والبيان ولو سارت دائما على مدار واحد لأحرقت ما تحته وما يليه وفات أثرها فيما لا يدانيه، ولم يتحقق الفصول الأربعة، ومنافعها المذكورة في الكتب مع أن المذكور منها ليس إلا قليل من كثير. وسخر القمر بأن جعله نورا يستضيء به المسافرون في قطع المفاوز، ويستعين به العاملون في حرث الزرع وضرب اللبن وقطع الخشب ونحو ذلك. وسائرا في منازله المعروفة ليكون أثره في أقطار الأرض وفيضه على أهاليها على السواء ولغير ذلك من المنافع الغير

ص: 106

المحصورة ومختلفا في أحواله من الزيادة والنقصان والمحق والخسوف والوجود غالبا في بعض الليل دون بعض ليعلموا به عدد الشهور والسنين والحساب ولئلا ينبسطوا في العمل والسير لشدة الشره والحرص مثل انبساطهم بالنهار ويمتنعوا من الهدء والقرار فيهلكهم ذلك، ولغير ذلك من المنافع التي يعلمها أرباب البصائر الثاقبة وأصحاب الضمائر النافذة، ويحكمون بأنها من لدن حكيم خبير فسبحان من نور بهما الظلم، وأوضح بهما البهم، وجعلهما آيتين من آيات ملكه، وعلامتين من علامات سلطانه (والنجوم مسخرات بأمره) قرأهما حفص بالرفع على الابتداء والخبر فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه، ونصب ما قبلهما على المفعولية. وقرئ «الشمس والقمر» بالرفع أيضا ونصب الليل والنهار وحدهما.

والقراءة المشهورة عند الأكثر: نصب جميع الأسماء الستة، وأورد على هذه القراءة بأنه ما الحاجة إلى مسخرات بعد قوله «وسخر لكم» وأجيب عنه بأن نصب الأخيرين بفعل مقدر يعني وجعل النجوم مسخرات بأمره خلقها ودبرها كيف شاء، أو نصب «مسخرات» على الحالية للمفاعيل الخمسة على أن سخر بمعنى صير يعني صير هذه الأشياء الخمسة نافعة لكم، ونفعكم بها حال كونها مسخرات بأمره لما خلقن له أو على المصدرية يعني سخرها لكم أنواعا من التسخير على أن يكون مسخر بمعنى تسخير، كما في قولك سخره مسخرا مثل سرحه مسرحا فجمع لاختلاف الأنواع. وتلك التسخيرات في النجوم اختلاف أشكالها وصورها ونورها ومقاديرها ومواقعها وحركتها كما وكيفا وجهة وتقارنها وتفارقها وتثليثها وتربيعها وتسديسها واستقامتها ورجعتها ووقوفها وظهور بعضها دائما وخفاء بعضها كذلك وظهور بعضها في بعض السنة واحتجابها في بعضها (1) كل ذلك لمصالح كثيرة بعضها معلوم بالضرورة وبعضها بالنظر الصادق، وبعضها لا يعلمه إلا هو. أما ترى أن الثريا والجوزاء والشعريين والسهيل كل ذلك يطلع حينا ويغيب حينا لمصالح معروفة ومنافع مشهورة وفوائد مذكورة ولو كانت بأسرها تظهر في وقت لم يكن لواحد منها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم بما يكون من طلوع الثريا والجوزاء إذا طلعتا ومن احتجابها إذا اجتجبتا فصار ظهور كل واحد منهما في وقت واجتجابه في وقت آخر لينتفع الناس بما يدل كل واحد منهما على حدته وكما جعلت الثريا وأشباهها

ص: 107


1- - التسديس هو أن يكون بين الكوكبين سدس الدور برجان، والتربيع ان يكون بينهما ربع الدور ثلاثة بروج، والتثليث ثلث الدور أربعة بروج، والاستقامة أن يسير الكوكب من المغرب إلى المشرق أي على التوالي، والرجعة ان يسير من المشرق إلى المغرب على خلاف التوالي وهي خاصة للخمسة المتحيرة، والوقوف أن يتوقف في موضع لا يتحرك منه أياما، وخفاؤها لكونها قريبة من الشمس مختفية بضوئها وظهورها لبعدها عن الشمس فيظهر ليلا. (ش)

تظهر حينا وتحجب حينا لضرب من المصلحة، كذلك جعلت بنات النعش ظاهرة لا يغيب لضرب آخر من المصلحة; فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة وذلك أنها لا تغيب أبدا فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث توجهوا وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة وفيهما مآرب أخرى مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة ومغربة من العبرة لاولي الألباب، وبالجملة خلق الله جل شأنه الإنسان لمعرفته وعبادته وخلق لهم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كلها بل هذا العالم كله، وقد قال إمامنا ومولانا الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) في كتاب التوحيد للمفضل: أول العبر والأدلة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائها ونظمها على ما هي عليه، فانك إذا تأملته بفكرك وميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر وكل شئ فيها لشأنه معد والإنسان كالمملك ذلك البيت، والمحول فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون وجل وعظم عما ينتحله الملحدون لقصور أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأه الباري فخرجوا بقصر علومهم الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى أنكروا خلق الأشياء وادعوا أن كونها بالاهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبر ولا صانع تعالى الله عما يصفون وقاتلهم الله أنى يؤفكون. (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون).

تأمل أيها اللبيب كيف جعل الله سبحانه هذه الأمور أدلة على معرفته ودل العقلاء الراسخين في علم على ربوبيته ومدحهم بذلك الفضل والروية، ومنحهم بتلك النعمة والعطية فأولئك هم المقربون يوم التناد، وأولئك هم المقصودون من الغرض في الإيجاد (وقال: هو الذي خلقكم من تراب) نسب خلق هذا النوع إلى التراب لأن خلق أول أفراده منه، ويحتمل أن يراد بالتراب الغذاء الذي يتكون منه المني (ثم من نطفة) النطفة الماء القليل ومنه سمي نطفة لقلته وجمعها نطف (ثم من علقة) هي قطعة جامدة منعقدة من الدم يتغير بالتدريج إلى أن تصير مضغة هي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ وهي تنتهي بالتدريج إلى العظام المكسوة باللحم المنتهية بالتدريج إلى خلق آخر وهو صورة البدن المشتملة على القوى والروح الإنساني، ولم يذكر بعض هذه المراتب هنا لذكره قبل ذلك في مواضع أخر، وللإنسان في انتقالاته

ص: 108

واستحالاته إلى أوان خروجه من بطن الأم الذي هو العالم الأول والعالم الأصغر منازل غير محصورة والمعروف منها هذه الستة التي أولها التراب يعني الغذاء، وثانيها العلقة،ورابعها المضغة، وخامسها العظام الكاسية باللحم. (1) وسادسها الصورة الانسانية التي فيها الروح والقوى، ثم له بعد خروجه منه ودخوله في بطن اللام الكبرى الذي هو العالم الأوسط إلى دخوله في العالم الأكبر وهو عالم الآخرة وعالم لقاء الله تعالى أيضا مراحل غير معدودة إلا أن المعروف منها أولها منزل الصبا والطفولية، وثانيها منزل تمام النمو وكمال القوة وهو منزل الشباب، وثالثها منزل الشيخوخة، فأشار جل شأنه إلى الأول من هذه الثلاثة بقوله (ثم يخرجكم طفلا) أي أطفالا وإنما أفرد لإرادة الجنس والجنس يصدق على الكثير; أو على تأويل ويخرج كل واحد منكم، أو لأنه في الأصل مصدر وهو في هذا المنزل في التزايد والنمو وكما، فيكمل قواه ويزيد مقداره شيئا فشيئا بحسبما يقتضيه الطبيعة فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا وشيئا بعد شئ حتى يألف الأشياء ويتمرن عليها ويصل إلى غايته ويخرج من حد الحيرة فيها إلى التصرف في المعاش بعقله والى الاعتبار والطاعة والسهو والمعصية وذلك من تدبير الحكيم العليم، إذ لو كان النمو دائما لعظمت الأبدان واشتبهت المقادير حتى لا يكون لشئ منها حد يعرف، ولو ولد فهما عاقلا كاملا لأنكر العالم عند ولادته ولبقي حيران تائه العقل إذ رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله ولم يأنس به من اختلاف صور العالم والطيور والبهائم غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، ولوجد في نفسه غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد، لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد ولذهبت حلاوة تربية الأولاد للأب والأم وما يوجبه التربية من البر والعطف ولفاتت الالفة بين الأبوين والأولاد لأنهم يستغنون عن تربيتهما فيتفرقون عنهما قريبا من الولادة، فلا يعرف الرجل أباه وأمه، ولا يمتنع من نكاح أمه وأخته وذوات المحارم إذ كان لا يعرفهن ولأنه يرى ويعقل حين الولادة من أمه ما لا يحل له أن يراه، فمن تفكر في هذه الأمور وغيرها علم أن ذلك من تدبير اللطيف الخير الذي أقام كل شئ من الخلقة

ص: 109


1- 1 - جعل العظم واللحم في منزل واحد إذ لا يتقدم العظم على اللحم زمانا بان يكون الجنين في وقت عظاما غير مكسوة باللحم ثم تكسى به كما يتوهم من ظاهر قوله تعالى: «ثم كسونا العظام لحما» بل تقدم العظام تقدم طبعي إذ يحتاج اللحم في قوامه إلى العظم واللحم موخر عن العظم بهذا الاعتبار كتأخر الكل عن الجزء والمشروط عن الشرط وان اتحدا زمانا، فإن قيل ظاهر التقدم والتأخر هو الزمانيان قلنا: نعم ولكن الظاهر معتبر حيث لا يكون قرينة على خلافه وهنا نعلم يقينا بالقرينة العقلية ان الجنين لا يكون في زمان عظما مجردا ثم يكسى لحما في زمان آخر بعده ومثاله العرف تحرك المفتاح بعد تحرك اليد. (ش)

على غاية الصواب وأشار إلى الثاني بقوله (ثم لتبلغوا) قيل: متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا (أشدكم) أي كمالكم في القوة والعقل، جمع الشدة كالأنعم جمع النعمة وهو حد التكليف ووقت الشباب وكمال النشوء الذي يكون القوي فيه أقوى من ساير أوقات العمر ويستمر إلى أوان شروع تلك القوى في الانحطاط.

وأشار إلى الثالث بقوله ثم (لتكونوا شيوخا) وهو حد ينتهي إليه الشباب ويتوجه الباطن بسبب حدوث قوة أخرى من نوع آخر فيه إلى عالم الآخرة فيظهر أثر من آثار الضعف فيه ويتزايد على التدريج إلى أوان الفراغ من هذه الدار الفانية (ومنكم من يتوفى من قبل) أي من قبل الشيخوخة أو الأشد، ومنشأ الموت عند الأطباء والطبيعيين أن الحرارة الغريزية التي هي آلة للطبيعة في أفعالها كالجذب والدفع والهضم وغير ذلك، ولذلك قيل: إنها كدخداء البدن تفنى الرطوبة الغريزية شيئا فشيئا ثم تفنى هي بفناء الرطوبة كما أن النار تفني الدهن، ثم تنطفي بانتفائه.

وقيل: منشأه أن النطفة التي هي مادة البدن جسم مركب ذو نضج تام إذ وقع هضمه في خمس مراتب: أربعة منها لأن يصير الغذاء جزء من بدن المتغذي (1) والخامسة لأن يصير مادة لتكون المثل فإن المادة المنوية فضلة الهضم الرابع، وإذا وقعت في أوعية التوليد كالخصية استحالت نطفة بهضم خامس، ثم يزيد مقدارها بورود الغذاء عليها بدلا مما يتحلل منها، وليس حكم هذا الوارد في الاعتدال والنضج حكم ما ينقص منها بالتحليل فما دام شئ منها باقيا في البدن كانت الحياة باقية ونسبة القوة والضعف على نسبة ما بقي منها زيادة ونقصانا وإذا تحللت بالكلية تحقق الموت وهذا قريب مما قيل من أن الموت طبيعي

ص: 110


1- 1 - للهضم عند الأطباء مراتب أربع: الأول الهضم في المعدة فيصير الأغذية به كيلوسا أي مادة شبيهة بماء الكشك الثخين. والهضم الثاني في الكبد وبه ينتقل الكيلوس من طريق وريد الباب والعروق الماسار يقاوية إلى الكبد فينطبخ فيه ويصير كيموسا. والهضم الثالث في الأوردة، لأن الدم الحامل للغذاء إذا خرج من الكبد إلى الوريد المسمى بالاجوف وانشعب إلى العروق الصغار والرواضع والعروق الشعرية ينطبخ فيها ويتبدل ماهيته بخروج مالا يناسب التغذية منه. والهضم الرابع في نفس الأعضاء، لأن الدم له طبيعة واحدة يجرى إلى كل عضو من لحم وعظم وشحم وعصب ويحمل إليها غذائها فيتصرف كل عضو في هذا الدم ويغيره إلى صورته وطبيعته فيصير الدم في العظم عظما وفي اللحم لحما إلى غير ذلك ولكل هضم من هذه الهضوم الأربعة فضلات يضر وجوده في بدن الإنسان فوكل الله تعالى بعظيم حكمته قوة دافعة تخرجها عنفا فنخرج فضلة الهضم الأول من طريق الأمعاء وفضلة الهضم الثاني من طريق الكلى والمثانة بالبول والمرارة والطحال وفضلة الهضمين الثالث والرابع من طريق مسام البدن بالعرق والأوساخ وبالتنفس ومثل ذلك والنطفة من فضلات الهضم الرابع الا انها ليست مما يضر اجتماعه في البدن بل يمكن ان تحتبس في وعائه وتنجذب في البدن ولا يتضرر البدن بها بخلاف البول مثلا. (ش)

ومعناه أن الإنسان عند نشأة منه تعالى يتوجه بحسب الغريزة الفطرية والأشواق الإلهية نحو النشأة الآخرة ويسلك سبيله تعالى ليرجع إليه كما نزل منه فهو متحرك دائما على منازل ومراحل من طور إلى طور في دار البلية ودار الفراق إلى أن يبلغ تلك النشأة التي هي منتهى حركته في هذه الدار، فإذا بلغها انتقل إليها وأوائلها القبر والبرزخ والحشر والنشر والعرض والحساب إلى غير ذلك، ثم بعد ذلك يرجع إما إلى نعيم مقيم أو إلى عذاب أليم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد (ولتبلغوا) متعلق بمحذوف أي يفعل ذلك لتبلغوا (أجلا مسمى) قيل: هو وقت الموت أو يوم القيامة، وقيل: يحتمل أن يراد به وقت لقاء الله تعالى في الجنة الذي هو الغاية الأخيرة لخلق الإنسان (ولعلكم تعقلون) ما في هذه الأحوال العجيبة والأطوار الغريبة من العبر والحجج الدالة على أنه سبحانه هو الذي خلقكم على أطوار مختلفة وخلق مادتكم وأصولكم من الأشياء المذكورة وأودع الحياة فيها وأبدعها، ثم أبقاكم إلى أجل مقدر، وإن من كان قادرا على ذلك فهو قادر على جميع تلك المواد وإحيائها ثانيا فالآية الكريمة دليل على التوحيد والبعث جميعا. وقيل:

معناه لعلكم تصيرون بعد هذه الأحوال عاقلا كاملا بالفعل فيكون إشارة إلى أن غاية الخلقة وآخر النشأة والأطوار هي صيرورة الإنسان جوهرا عقليا (1).

والحاصل أنه إشارة إلى أن غاية هذه الأكوان وجود العقل وذات العاقل مع قطع النظر عن تعقله وقال: (إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق) أي من ماء وإطلاق الرزق على الماء من باب الحقيقة بالنظر تفسيره لغة وعرفا قال الجوهري: الرزق ما ينتفع به. وقالت الأشاعرة: هو كل ما ينتفع به حي غذاء كان أو غيره حلالا كان أو حراما ومنهم من خصه بالأغذية والأشربة فيخرج نحو اللباس والهواء الذي ينتفع به المتنفس. وقالت المعتزلة: هو كل ما صح أن ينتفع به حي بالتغذي وغيره وليس لأحد منعه منه فيخرج الحرام فالماء رزق على هذه التفاسير لأنه مما ينتفع به. ويحتمل أن يكون من باب المجاز تسمية السبب باسم المسبب، ويؤيده قول الجوهري وقد يسمى المطر رزقا، وذلك قوله عز وجل: (وما أنزل لكم من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) (وفي السماء رزقكم) وهو اتساع في اللغة كما يقال: التمر في قعر القليب يعنى به سقى النخل (فأحيا به الأرض بعد موتها) الظاهر أن المراد بالأرض والرزق معناهما الحقيقي ويحتمل أن يراد بالأرض القلب لاشتراكهما في قبول الحياة وبالرزق العلم لاشتراكهما في السببية للحياة. قال ابن الأثير في النهاية: الأرزاق نوعان ظاهرة للأبدان كالأقوات وباطنة للنفوس والقلوب كالمعارف والعلوم وقد شاع في

ص: 111


1- 1 - قوله «جوهرا عقليا» هذا تصديق منه بوجود العقل الجوهري كما سبق منه أيضا وأنه غاية الإنسان ولا ينافيه ما مر منه آنفا بأن غايته أن يرجع إلى نعيم مقيم أو عذاب اليم. (ش).

القرآن العزيز وكلام الحكماء نسبة الحياة بالعلم، والموت بالجهل القلب (وتصريف الرياح (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (1) لآيات لقوم يعقلون) أي يفهمون تلك الأيات بعقولهم الصافية ويستدلون بها علي وجوده جل شأنه ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته، وقد ذكرنا سابقا ما يناسب هذا المقام.

وقال (يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون وقال (وجنات) جمع جنة وهي البستان سمي بها لاجتنانه واستتاره بالأشجار والأغصان والأوراق وهذا التركيب دل على الأستتار ومنه الجن لاستتاره من الانس والجنون لأنه يستر العقل والجنين لأنه مستور في الرحم والمجنة والجنة بمعنى الترس لانه يستر صاحبه وهي بالرفع عطف على «قطع» في قوله تعالى (وفي الأرض قطع متجاورات) أي بعضها طيبة وبعضها سبخة وبعضها رخوة وبعضها صلبة وبعضها حجر وبعضها رمل وبعضها أبيض وبعضها أسود وبعضها أحمر وبعضها أصفر وبعضها معدن للجواهر المختلفة مثل الياقوت والعقيق والزبرجد والفيروزج والزمرد والذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وغيرها مما يستعمله الناس في مآربهم وفي هذا أيضا دلالة على المطلوب لأن انقسام الأرض إلى هذه الأقسام واتصافها بهذه الأوصاف مع اتحاد الطبيعة الأرضية في تلك الأقسام وتساوي الأجرام العلوية وأوضاعها بالنسبة إليها دل علي وجود قادر مختار يوجد الأشياء الممكنة على وجه دون وجه (2) بلا ضد ولا ند له وحده لا شريك له (من أعناب وزرع ونخيل) أفرد الزرع لأنه في الأصل مصدر، والنخيل

ص: 112


1- 2 - ما بين القوسين زائدة من الناسخ.
2- 1 - قوله «على وجه دون وجه» من تدبر في خلق العالم والحكم والمصالح فيه واتقان الصنع في كل شي يراه منهذه المواليد، علم أن الامر ليس على ما يظنه المعطلة والملاحدة وأصحاب الطبايع وليس هذا الاحكام والاتقان في الصنع حاصلا بالبخت والاتفاق كما كان عليه ذيمقراطيس من القدماء وكثير من الإفرنج والمتفرنجة في عصرنا فإن هذه المواد والعناصر التي يتركب منها الإنسان والحيوان والنبات وسائر الأجسام ذوات الخواص يمكن أن ئتركب على أنحاء كثيرة يلحق بغير المتناهى لكثرتها والمفيد الموجود منها واحد من آلاف الملائين، مثلا كل واحد من اللحم والعظم في كل عضو من بدن الإنسان والحيوان مركب من عناصر خاصة على نسبة خاصة لا يحصل من أقل منها ولا من أكثر وليس اختيار واحد من انحاء التراكيب الغير المتناهية إلا من فاعل حكيم عالم بكل شئ لو ادعى صاحب مطبعة أراد طبع كتاب من الحروف المصنوعة أنه ملاء بيتا معينا من ألف ألف حرف من الهمزة إلى الياء غير مرتبة بل ممزوجة مختلفة وأمر عاملا أعمى ودخل البيت وجمع من الحروف ورتبها كما يريد صاحب المطبعة وطبع كتابا خاصا فقبول دعواه مع كونه محالا أسهل من قبول دعوى الفيلسوف الطبيعي الذي يرى تركب أعضاء حيوان من الطبقة السفلى كالخراطين والبراغيث من عناصر كيف اتفق بيد طبيعة عمياء فكيف بسائر المواليد والإنسان خاصة ولا يلزم من ذلك القول بالإرادة الجزافية الحادثة في ذات المبدء بتأثير العلل الممكنة كما يدعيه قدماء المتكلمين وللبحث في ذلك محل آخر (ش).

اسم جمع وهما إما مرفوعان معطوفان «على» «جنات» أي في الأرض قطع متجاورات وجنات من أنواع الاعناب وفيها زروع ونخيل أو مجروران معطوفان على «أعناب» أي في الأرض بساتين مشتملة على أنواع الاعناب والزروع والنخيل و (صنوان) أي نخلات أصلها واحد، جمع صنو وهو أو تطلع نخلتان من عرق واحد ومنه الصنو بمعنى المثل كما في قولهم عم الرجل صنو أبيه أي مثله لأنهما خرجا من أصل واحد (وغير صنوان) أي نخلات متفرقات مختلفة أصولها وعروقها، وقرأ حفص بضم الصاد فيهما وهي لغة تميم (يسقى بماء واحد) في الطبيعة والصورة والغرض من ذلك دفع توهم إسناد هذا الأمور والاختلاف إلى الماء، ويسقى بالتذكير في قراءة عاصم ويعقوب وابن عامر على تأويل ما ذكر (ونفضل) بالنون في القراءة المشهورة وبالياء في قراءة حمزة والكسائي (بعضها على بعض في الأكل) أي في الثمر شكلا وقدرا ورايحة وطعما كما هو المشاهد (إن في ذلك) المذكور (لايات لقوم يعقلون) أي يستعملون عقولهم السليمة عن شوائب النقص بالتفكر فيها ويستدلون بها على وجود الصانع الحكيم القادر المختار، فان من تفكر في تلك الأشجار المختلفة في الهيئة والمقدار وخروجها من الأرض واغتذائها من أجزاء أرضية ونموها وفي أوراقها المشتملة على العروق الصغار والكبار لاستقامة الحجم ووصول الغذاء إلى جميع الأجزاء وفي أثمارها حين كونها بمنزلة الأجنة في بطونها ثم خروجها بعد استكمال المواد واستقرارها على رؤس الأغصان وانضياف ما ينميها آنا فآنا إليها من المنافذ الضيقة إلى وقت بلوغها حد الكمال لمنافع الناس وغيرهم وفي اختلاف أنواعها وأصنافها وأشكالها وأقدارها وروايحها وطعومها وفي أن الطبيعة الأرضية مع اتحادها وعدم شعورها لا يمكن اسناد هذه الأمور إليها وكذا الطبيعة المائية، وفي الأوضاع الفلكية والاتصالات الكوكبية وتأثيرات الأجرام السماوية نسبتها إليها متساوية متشابهة سيما القطعات المتجاورات علم أن ذلك من تدبير عليم بصير وقدير حكيم خبير يتعلق قدرته بجميع الممكنات ويحيط علمه بكيفية نظام جميع الكائنات فيوجب كلا منها على أحسن وجه وأكمله على حسب الإرادة والاختيار وقال (ومن آياته يريكم البرق) الفعل مصدر بتقدير «أن» أو صفة لمحذوف أي آية يريكم بها البرق (خوفا) من الصاعقة أو تخريب المنازل والزروع أو من المسافرة ونحوها (وطمعا) في الغيث والنبات وسقي الزروع وغير ذلك ونصبهما على العلة لفعل لازم للفعل المذكور فإن إرائتهم يستلزم رؤيتهم أو لفعل مذكور بتقدير مضاف أي إرإة خوف وطمع أو بتأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع، وعلى التقادير يتحد فاعلهما وفاعل عاملهما أو على الحال مثل كلمته شفاها. وأما البرق آية من آياته فإما لأن البخار الممتزج مع الدخان إذا وصل إلى الكرة الزمهريرية يحتبس فيما بين السحاب فيميل إلى السفل للثقل وغلبة البرد أو العلو لبقاء سخونته وزيادة لطافته فيمزق السحاب تمزيقا عنيفا

ص: 113

فيحصل الرعد ويشتعل الدخان بالتسخين الحاصل من المصاكة العنيفة فأن كان لطيفا ينطفي سريعا وهو البرق وإن كان كثيفا لا ينطفي حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة أو لأن السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء والماء وإذا هبت ريح قوية تخرقه بعنف فيحدث صوت الرعد ويخرج منه النار للمصادمة بينهما كما تخرج من ضرب الحديد على الحجر ولا خفاء في أن خروج البرق الذي هو نار محرقة من السحاب الرطب المشتمل على الماء لأي سبب كان دل على وجود الصانع الذي رتب المسببات على أسبابها وآية من آياته. ونقل عن العترة الطاهرة «أن الرعد صوت ملك يزجر السحاب ويسوقه والبرق نار تحدث من حركة سوطه (1)».

وقال بعض العارفين: من سمع هذا الصوت ورأى هذه النار وكان له رؤية قلبية وبصيرة ذهنية علم أن ما نقل عنهم (عليه السلام) حق وصدق (2) (وينزل) قرئ بالتشديد (من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها) بأنواع النباتات والحيوانات (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أي يفهمونها ويتدبرون بها في استنباط أسبابها وتكونها، وكيفية ربطها بتلك الأسباب ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته وعلمه بحقائق الأمور خفيها وجليها. وقال (قل تعالوا) أمر من تعالون قال القاضي وصاحب الكشاف: هو من الخاص الذي صار عاما فإن أصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم (أتل) مجزوم بشرط مقدر بعد الأمر (ما حرم ربكم) منصوب بأتل «وما» إما موصولة والعايد محذوف أو مصدرية، ويحتمل أن يكون استفهامية منصوبة بحرم بمعنى أتل أي شئ حرم (عليكم) متعلق بأتل أو حرم على سبيل التنازع (أن لا تشركوا به شيئا) «أن» ناصبة «ولا» للنفي والجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى بدلا من «ما حرم» أو من العائد المحذوف، ويحتمل أن يكون مفسرة لما حرم ولا للنهي (وبالوالدين إحسانا) أي وأن تحسنوا بمعنى أحسنوا أو أحسنوا بالوالدين إحسانا، فالجملتان المتعاطفتان إنشائيتان معنى فقط، أو لفظا ومعنى جميعا، أو الأولى معنى فقط والثانية لفظا ومعنى، أو بالعكس ويكونان في بعض الوجوه مثل قوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا) فإن لا

ص: 114


1- - راجع بحار الأنوار ج 14 ص 275 إلى 280.
2- - «قوله حق وصدق» ويقول أهل عصرنا ان الرعد والبرق من القوة الكهربائية في طبقات السحاب والشارح جمع بين السبب المادي والعلة الفاعلية الروحانية إذ لا يخالف أحدهما الاخر والسبب المادي معد نظير تأثير الحرارة في ذوب الحديد والعلة الفاعلية هو الله تعالى والملائكة المقربون مأمورون نظير الصانع الماهر الذي يصنع من الحديد المذاب بالحرارة آلات الصنعة والمكائن وغيرها والحرارة علة معدة والفاعل للآلات هو الصانع (ش).

تعبدون بمعنى لا تعبدوا وبالوالدين بتقدير وتحسنون بهما بمعنى أحسنوا أو بتقدير وأحسنوا بهما. وفي جعلهما خبريتين لفظا وإنشائيتين معنى فائدة لطيفة وهي المبالغة باعتبار أن المخاطب كأنه شرع في الامتثال وهو يخبر عنه، ورد صاحب الكشاف أن يكون «أن» ناصبة «ولا» للنفي بأنه وجب أن يكون «لا تشركوا» نهيا لعطف الأمر عليه وهو قوله تعالى (وبالوالدين إحسانا) لأن التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا. والجواب عنه يظهر بالتأمل فيما ذكرناه.

بقي ههنا شئ وهو «أن لا تشركوا» وما عطف عليه لا يصح أن يجعل تفسيرا لما حرم لأن كلا من ترك الشرك والاحسان بالوالدين واجب لا محرم، والجواب أن ايجاب ترك الشرك مستلزم لتحريم الشرك وإيجاب الاحسان بالوالدين مستلزم لتحريم إلا ساءة إليهما مع ما فيه الإشارة إلى أن ترك إساءتهما غير كاف بل لابد من الاحسان بهما والتفسير باعتبار اللازم. وفي ذكر الإحسان بهما عقيب النهي عن الشرك بالله دلالة واضحة على جلالة حق الوالدين على الولد لأن أعظم النعم على الإنسان نعمة الايجاد ونعمة التربية وللوالدين مدخل في كل واحد منهما كما يقتضيان عدم الشرك بالله كذلك يقتضيان عدم إساءتهما والاحسان بهما ولذلك قال الله سبحانه: «وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا - الآية» (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) أي من أجل فقر (نحن نرزقكم وإياهم) فوجب على الوالدين تبقية الأولاد وتربيتهم والاتكال في رزقهم على الله. لا يقال:

يلزم جواز قتلهم عند عدم خوف الفقر لما تقرر من أن النفي والإثبات في الكلام راجعان إلى القيد لأنا نقول إذا لم يجز مع الفقر فعدم جوازه بدونه أولى فهذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى على أن للتقييد فائدة أخرى هي زجرهم عما كانوا عليه من الخصلة الذميمة (ولا تقربوا الفواحش) في النهي عن قربها مبالغة في المنع منها (ما ظهر منها وما بطن) بدل من الفواحش، قيل: المراد بها الزنى سرا وعلانية: وقيل الكبائر مطلقا (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) لما نهى أولا عن قتل الأولاد لعلة مذكورة نهى ههنا عن القتل مطلقا دفعا لتوهم الاختصاص. إن قلت: قتل النفس المحرمة داخل تحت الفواحش على تقدير عمومها فما الفائدة في ذكره على حدة؟ قلت: الفائدة هي الإشارة إلى تعظيمه وزيادة فظاعة عقوبته كما قال سبحانه (ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (إلا بالحق) كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن وغيرها مما ثبت جوازه بدليل منفصل، والاستثناء متصل إن كان عن القتل المطلق ومنقطع إن كان عن القتل المقيد بالتحريم، هذا وقال سيد الحكماء لعل معناه: ولا تميتوا النفس المجردة التي حرم الله موت ذاتها بالجهل.

ص: 115

وهو أعظم داهية من موت بدنها بهلاك الروح الحيواني إماتة الجهالة والغواية والإضلال والإبعاد عن سمت الرشد وسبيل القدس، ولا تخرجوها عن حياة جوهرها الحقيقية بالعلم والمعرفة إلا بحق سوء استعدادها الفطري ونقص جبلتها الغريزي (ذلكم) إشارة إلى ما مر ذكره مفصلا (وصاكم به) أي بحفظه ورعايته ولا يخفى ما في التعبير عن التكليف بالتوصية من اللطف المقرب إلى القبول (لعلكم تعقلون) فوايد هذه التكاليف وتبصرون بعيون البصائر منافعها المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، فانظر أيها اللبيب كيف مدح الله سبحانه العقل والعقلاء الذين هم الغايات الذاتية للإيجاد بما لهم من الحكمة النظرية (1) التي هي إدراك السماوات والأرض وما بينهما من الأمور المذكورة والتصديق بأحوالها والانتقال منها إلى مبدعها، وفي هذه الآية بمالهم من الحكمة العملية التي هي العلم بأصول الشرايع وقوانينها والعمل بها للإشارة إلى أن كمال الإنسان إنما يحصل بتكميل القوة النظرية بصور الحقائق وتحليها بنور العرفان وتكميل القوة العملية بمعرفة الشرايع وتخليها عن الرذايل والنقصان ليحصل له بذلك البهجة والسرور الدنيوية والفوز بالسعادات الأبدية الأخروية (وقال:

هل لكم) هذا بعض آية صدرها (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم) أي منتزعا ذلك المثل من أحوال أنفسكم التي هي أقرب الأمور إليكم فالاعتبار بحالها أولى و أقرب من الاعتبار بحال غيرها.

وإنما لم يذكره (عليه السلام) لأن ما ذكره لكونه مثلا لا يحتاج إليه ويتم المقصود بدونه وفيه دلالة على جواز الاستشهاد ببعض آية أو بعض حديث إذا كان تام الفائدة والمطلوب نفي شريك البارىء وهو كما يثبت بدلائل عقلية ونقلية توجب انتقال النفس من معقول صرف إلى معقول، وإذعانها بها كما مر من الآيات والبينات الظاهرة; كذلك يثبت بالأمثال الجزئية المحسوسة لأنها تكشف الممثل له وترفع الحجاب عنه وتبرزه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم والعقل ويتفقا عليه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة الوهم لأن الوهم من طبعه الميل إلى المحسوس وحكاية المعقول به، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء وكتب المصنفين مشحونة بذكر الأمثلة الجزئية لأن أكثر الافهام قاصرة عن إدراك حقيقة الشئ إلا في مادة مخصوصة محسوسة (مما ملكت إيمانكم) يعنى

ص: 116


1- - الحكمة هي العلم بأحوال الوجود بقدر الطاقة البشرية وقسموها إلى ما يبحث عن الموجودات التي ليست بقدرتنا واختيارنا، والى ما يبحث عن الموجودات التي هي بقدرتنا وهى أعمالنا والأولى هي الحكمة النظرية والثانية الحكمة العملية. والحكمة النظرية تنقسم إلى الرياضي والطبيعي والإلهي، والرياضي آلة أو مقدمة لساير العلوم والعملية تنقسم إلى الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن، والوجه الذي يرغب به في تعلم العلوم الطبيعة التوسل بها إلى معرفة الله تعالى فالطبيعي أيضا مقدمة للعلم الإلهي وبالجملة فالطبيعي ينقسم إلى سمع الكيان وعلم العناصر والمواليد الثلاثة وكائنات الجو وعلم الأفلاك وعلم النفس وأشار جميعها فيما مر من الآيات الكريمة وان الحكمة علم مرغوب فيه ونبه عليه الشارح - رحمه الله - (ش).

عبيدكم وإمائكم (من شركاء) «من» زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي (فيما رزقناكم) من الأموال (فأنتم فيه سواء) متفرع على الشركة وحمله على الاستفهام الإنكاري محتمل أيضا (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) حال عن «أنتم» أو عن ضمير المخاطبين في «رزقناكم» أي والحال أنكم تخافون من شركة مماليككم في أموالكم واستبدادهم بالتصرف فيها، كما يخاف الأحرار بعضها من بعض في ذلك، والاستفهام ليس محمولا على الحقيقة لأنه على الله سبحانه محال فوجب صرفه إلى المجاز وهو إما إنكار أن يكون مماليكهم شركاؤهم في ملكهم لينتقلوا من ذلك إلى أنه لا ينبغي أن يكون مملوكه سبحانه شريكا له بالطريق الأولى أو تقريرهم وحملهم على الاقرار بما يعرفونه من عدم شركة المماليك لأن الاستفهام عن أمر معلوم للمخاطب يستلزم حمله على الإقرار بما هو معلوم له أو استبعاد أن يكون مماليكهم شركاؤهم لأن الاستفهام عن الشئ يستلزم به وهو يناسب استبعاد وقوعه، لأن ما هو قريب الوقوع شانه أن يكون معلوما والمقصود على التقادير كلها هو أنه إذا لم يكن مماليككم مع نقصانكم وشدة حاجتكم شركاءكم فيما لكم من أموالكم، مع أنهم مثلكم في الصورة والسيرة وقابلية التصرف لا يكون مماليك الحق جل شأنه مع شدة ضعفهم وكمال نقصهم شركاءه في الإلهية واستحقاق العبادة مع كمال قدرته ونهاية عظمته وعدم المشابهة بينه وبينهم بالطريق الأولى.

(كذلك) أي مثل ذلك التفصيل التمثيل الذي يرفع الحجاب ويكشف المعاني ويوضحها (نفصل الآيات) الدالة على وحدة الصانع واستحقاقه للعبادة دون غيره (لقوم يعقلون) أي يستعملون عقولهم الصحيحة في تدبر الأمثال ومعرفة حسن موقعها ومضربها والانتقال منها إلى المقصود، وفيه دلالة واضحة على شرف العقل وتعظيم العقلاء حيث جعل العقل باعثا لتفصيل الآيات في الكتاب والعاقل مقصودا من التكلم والخطاب لأنه ينتفع به دون غيره فلو لم يكن عقل ولا عاقل لم يكن تفصيل ولا خطاب بل لم يكن كون ولامكان ولا إيجاد ولا زمان.

(يا هشام ثم وعظ أهل العقل) وزهدهم عن الدنيا (ورغبهم في الآخرة) بعد دلالتهم على توحيد الذات والصفات بالآيات والبينات (فقال: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) شبه التقلب في الدنيا والأعمال المختصة بها باللعب واللهو وساعة قليلة لاشتراكهما في الأتعاب بلا منفعة وفي المنع عما يورث منفعة أبدية ولذة حقيقية من الأعمال للآخرة (وللدار الآخرة) خير من الدار الدنيا لعد زوالها ودوام منافعها ولذاتها بخلاف الدنيا. وذلك لأن الحقير الدايم خير من العظيم المنقطع فكيف إذا كان الأمر بالعكس (للذين يتقون) من الشرك والمعاصي، أو من الدنيا وزهرتها وأعمالها الشبيهة باللهو واللعب (أفلا تعقلون) التفاوت بين الدنيا والآخرة ولا تعلمون أن الآخرة خير من الأولى أو التفاوت بين أعمالها ولا تعلمون أن أعمال الأولى بمنزلة اللهو تعب بلا منفعة، وأعمال الثانية تورث منفعة دائمة غير

ص: 117

منقطعة، والهمزة للإنكار وإنكار النفي إثبات والمعنى أنتم تعقلون هذا التفاوت فوجب عليكم أن لا تستبد لوا الذي هو أدنى بالذي هو خير والغرض من الآية ذكر فضيلة العقل، ونحن نقدم قبل بيانها الكلام في شيئين.

الأول:

في الزهد في الدنيا وهو ضد الرغبة فيها وقد فسر الزهد في بعض الأحاديث بأنه الحب في الله والبغض في الله وترك طول الأمل وترك حطام الدنيا وزينتها وعدم الالتفات إلى حرامها وهو يوجب معرفة القلب بحلاوة الإيمان وتفرغه للآخرة، كما قال الصادق (عليه السلام) «حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا» (1) وقال: «ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا» (2) وقال: «كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة» (3) ومن ادعى رغبته في ثواب الآخرة وهو حريص على الدنيا فهو كاذب لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقص مما قسم الله عز وجل فيها وإن زهد، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الآخرة» (4) إن الزهد بالمعنى المذكور عمل يتوقف على العلم بأحوال الدنيا وانقلابها وعدم ثباتها ودوامها والعلم بأحوال الآخرة ودوامها ودوام سعادتها وشقاوتها فإذا حصل هذا العلم وصار ملكة أمكن الوصول إلى مقام الزهد بتوفيق الله تعالى.

الثاني:

في التقوى وقد فسره الصادق (عليه السلام): بأن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك (5)، وبعبارة أخرى ذكر الله عندما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها فهو عبارة عن فعل الطاعات وترك المنهيات والثاني أهم من الأول لأن الثاني يفيد في نفسه وينمو معه الأول وإن قل، والأول بدون الثاني لا ينفع كما صرح به صاحب العدة (2)، وفي خبر معاذ دلالة عليه ودل عليه أيضا روايات أخر، ثم التقوى خصلة عظيمة أوصى الله سبحانه بها الأولين والآخرين كما قال (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) وأثنى عليها كما قال: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) وهي توجب حفظ النفس والمال من الأعداء كما قال:

(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) وتوجب النصر من الله تعالى كما قال: (إن الله مع المتقين) وتوجب محبته كما قال: (إن الله يحب المتقين) وتوجب إكرامه كما قال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وتوجب إصلاح العمل كم قال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم) وتوجب قبول

ص: 118


1- 1 - (1 و 2 و 3 و 4) الكافي كتاب الايمان والكفر باب ذم الدنيا والحرص فيها تحت رقم 2 و 10 و 5 و 6 على الترتيب. 5 - المجلد الخامس عشر من بحار الأنوار ج 15 ص 95 من القسم الثاني.
2- - أي عدة الداعي لابن فهد الحلى - رحمه الله -.

العبادة كما قال: (إنما يتقبل الله من المتقين) وتوجب البشارة عند الموت كما قال: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وتوجب النجاة من شدايد الدنيا والرزق الحلال، كمال قال: (ومن يتق الله جعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) وتوجب تيسير الحساب كما قال: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ) وتوجب النجاة من النار كما قال: (ثم ننجى الذين اتقوا) وتوجب الخلود في الجنة كما قال:

(اعدت للمتقين) وبالجملة هي حكمة عملية مركبة من العلم والعمل توجب محبة صاحبها لله تعالى ومحبة الله تعالى لصاحبها ولا تحصل إلا بمعرفة مصالح الجوارح والأعضاء ومفاسدها واكتساب الأول وترك الثاني وذلك بأن يعرف مثلا مصالح القلب ومفاسدها ويكتسب العقائد الصحيحة ويجتنب عن العقائد الذميمة ويعرف مصالح اللسان ومفاسده ويكتسب الأقوال الصحيحة ويجتنب عن الأقوال الباطلة وعلى هذا القياس في ساير الأعضاء ولا يكفي العمل بدون العلم لأنه يوجب الخطأ والبعد عن الحق كثيرا ما، ولا العلم بدون عمل فإن من به داء وعلم أن هذا الدواء ينفعه وذاك يضره واستعمل الثاني وترك الأول لا ينفعه علمه بل يصير سببا لذمه ولومه عرفا وشرعا بل اللوم عليه أشد وأعظم من لوم الجاهل بمنافع الدواء ومضاره، كما يرشد إليه قول مولانا الصادق (عليه السلام): يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد (1).

إذا عرفت هذا فانظر إلى العقل كيف فضله الله تعالى وشرفه حيث جعله حاكما على أفعال جميع الجوارح والأعضاء يميز بين صحيحها وسقيمها وحسنها وقبيحها، ويقبل الصحيح والحسن ويرد السقيم والقبيح حتى يحصل له بذلك السلطنة العظمى والفضيلة الكبرى وهي الوصول إلى غاية مدارج الزهد ونهاية مناهج التقوى، فيمشى على بساط الحق في الآخرة والأولى. وإلى العاقل كيف عظمه وكرمه حيث جعله مخاصبا بهذا الوعظ الشريف والخطاب المنيف تنبيها على تمامه وكماله وإنافة رتبته وحاله وعلى أنه ينتفع به دون غيره ممن صار لقوة جهله وضعف عقله ذليلا وفي عدم صلاحية الخطاب كالأنعام بل هو أضل سبيلا.

(يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون) أي خوف الذين لا يستعملون عقولهم في الاتعاظ بأحوال الماضين والاعتبار من استيصالهم للشرك وارتكاب المعاصي والقبايح ولا يتبعون الرسول فيما جاء به من التوحيد والصفات وغيرهما من المعارف والشرايع.

(عقابه) بتدمير أمثالهم وإنزال الرجز عليهم من السماء ليمتنعوا عن الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة فقال عز وجل (ثم دمرنا الآخرين) بعد تنجية لوط وأهله إلا امرأته فإنها كانت من الغابرين، وكيفية

ص: 119


1- 1 - سيأتي في كتاب العلم ان شاء الله تعالى.

تدميرهم أنه اقتلع جبرئيل (عليه السلام) قريتهم لسوء صنيعتهم بجناحه من سبع أرضين ومعه من الملائكة ميكائيل وإسرافيل وكروبيل، ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها وأمطر عليها وعلى من حولها حجارة من سجيل (وإنكم) يا أهل مكنة أو أهل الضلالة (لتمرون) في متاجرتكم ومسافرتكم إلى الشام (عليهم) أي على منازلهم فإن قريتهم وهي سدوم بفتح السين في طريقه بين القدس والكرك (مصبحين) أي داخلين في الصباح (وبالليل) أي بالمساء يعنى داخلين في هذا الوقت أو نهارا وليلا. قال القاضي وغيره: لعلها وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساء (أفلا تعقلون) أي أفليس لكم عقل تعتبرون به وتعلمون أن تدميرهم وإهلاكهم لمعصية ربهم ومخالفة رسولهم لكي تطيعوا ربكم وتتبعوا رسولكم فيما جاء به من التوحيد والشرايع وتتركوا الشرك والمعصية وتنجوا من وبال الدنيا ونكال الآخرة، والإنكار للتوبيخ على عدم استعمالهم العقول في الاعتبار والاستبصار بمثل هذه الآية الجلية الدالة على وخامة حال أهل المعصية وقال (إنا منزلون) من الانزال على القراءة المشهورة وقرأ ابن عامر بالتشديد (على أهل هذه القرية) هي سدوم قرية قوم لوط (عليه السلام) وهذا خطاب الملائكة معه بدليل قوله تعالى قبله (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين) وإنما قدم التنجية على التعذيب لوجوه سنحت لي، الأول: أن التنجية من آثار الرحمة والتعذيب من آثار الغضب وقد سبقت رحمته غضبه.

الثاني: أن بشارة أحد بالنفع العايد إليه أدخل في السرور من بشارته بالضرر العايد إلى عدوه.

الثالث: أن في التنجية إشارة إجمالية إلى العذاب فإذا وقع العذاب بعده وقع بعد الطلب والواقع بعد الطلب أهم وأوقع في النفس وأدخل في التعظيم. الرابع: أن لا يتطرق الحزن إلى خاطره (عليه السلام) إذ لو قدم تعذيب أهل القرية على تنجية المؤمنين كان ذلك موهما ابتداء لتعميم العذاب وشموله كل من فيها (رجزا من السماء) أي عذابا واختلفوا فيه فقيل: هو حجارة من سجيل، وقيل: هو نار، وقيل: هو تقليب الأرض وجعل عاليها سافلها. والمراد بإنزاله إنزال مبدئه والقضاء به من السماء لاعينه (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم. وفيه دلالة على استمرارهم فيه وعدم انزجارهم عنه أصلا، وإنما علل التعذيب بالفسق دون التنجية بالايمان ونحوه; لأن الرحمة بالذات فلا يحتاج التعليل بخلاف الغضب فإنه أمر عرضي نشأ لعلة (ولقد تركنا منها) أي من القرية (آية بينة) دالة على سوء عاقبة الفاسقين، قيل: هي حكايتها الشايعة، وقيل: هي آثار الديار الخربة، وقيل: هي الحجارة الممطورة بعد

ص: 120

تقليب الأرض فإنها كانت باقية بعده، وقيل: هي الماء الأسود فإن أنهارها صارت مسودة (لقوم يعقلون) أي لقوم لهم عقل وبصيرة فيستبصرون ويعتبرون أن الفسق يوجب خراب الديار وعقوبة الدنيا والآخرة.

(يا هشام إن العقل مع العلم) المراد بالعقل هنا نور يعرف به حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وهو العقل بالفعل أو العقل المستفاد، والعلم هو هذه المعرفة ولا خفاء في التلازم بينهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وإنما آكده مع ظهوره دفعا لتوهم ما هو المتعارف عند الجمهور حيث يقولون لمن له روية وكياسة في أمور الدنيا أنه عاقل فإن تلك الروية ليست بعقل بل هي شيطنة ونكراء، وما هو المتعارف عندهم أيضا حيث يطلقون العقل على الغريزة التي يتميز الإنسان بها عن البهائم فإن ذلك يتحقق في الصبيان والجهال مع أنهم معزولون عن المدح والكمال بل المراد به ذلك النور الذي لا يفارق العلم والعرفان والعقلاء هم العلماء الربانيون والحكماء الإلهيون (1) الذين قال الله تعالى في شأنهم (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) فقال (وتلك الأمثال) لما مثل سبحانه حال الذين اتخذوا من دون الله أولياء واتكلوا عليهم واعتمدوا بهم بحال العنكبوت اتخذت بيتا في الوهن والضعف فكما أن الثاني لا يقي الحر والبرد وينهدم بورود أدنى شئ عليه كذلك الأول لا يدفع حر العذاب عنهم يوم القيامة ولا يقيهم شر ذلك اليوم ولا ينهدم أساسه بالكلية بورود صرصر غضب الله عليهم عقبه بقوله وتلك الأمثال إشارة إلى المثل المذكور ونظايره من الأمثال المذكورة في القرآن المجيد (نضربها للناس) تقريبا لما بعد من أفهامهم وتفهيما لما شرد عن أذهانهم إذ المثل يبرز المعقول بصورة المحسوس وذلك أسهل في التفهيم وأجدر في التعليم لمن ألف طبعه بالمحسوسات واشمأز عقله عن المعقولات. ولذلك قال سيد المرسلين (نحن معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) (2) (وما يعقلها إلا العالمون) لأنهم يعرفون بنور بصيرتهم وضياء سريرتهم حسن مبانيها ولطف معانيها وكيفية ارتباطها بالمقصود وطريق دلالتها على المطلوب وينتقلون من ظاهرها إلى باطنها ومن محسوسها إلى معقولها بل يجدون عالم المحسوس كله مثالا لعالم المعقول ويعلمون أن كل صورة محسوسة في هذا العالم لها صورة حقيقية وحقيقة عقلية في العالم المعقول يرشد إلى ذلك ما نقل عن أبي

ص: 121


1- 1 - قوله: «والحكماء الإلهيون» مدح الحكماء وتعظيم الحكمة لا ينافي ما تقدم منه وما يأتي في بعض عباراته من تخطئة الفلاسفة، لأن الغرض من ذم الفلاسفة المقلدة منهم كما ذكرنا لا الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه. والحكماء أنفسهم يتبرمون ممن يتناول الحكمة وليس له بأهل وليس له هم إلا حفظ الاصطلاح وسماهم الفارابي الفيلسوف البهرج. (ش)
2- - الكافي كتاب العقل والجهل - ح 15.

جعفر (عليه السلام) حين سأله النصراني فقال له: أخبرني عن أهل الجنة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوطون أعطني مثلهم في الدنيا فقال (عليه السلام): «هذا الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوط» (1) وما نقل عن بعض أئمتنا (عليه السلام) حين سئل عن الأجساد المعادة يوم القيامة هل هي عين الأول أو غيره قال: لاعينه ولا غيره، فقيل: أخبرني عن مثله في الدنيا فقال مثل اللبنة المضروبة بقالب مخصوصة فإنها إذا كسرت وضربت تارة أخرى بذلك القالب ليست عين الأولى ولا غيرها» (2) وبالجملة ما من صورة في الدنيا إلا وله حقيقة في عالم العقول والآخرة (3) وما من معنى حقيقي فيهما إلا وله مثال وصورة في الدنيا ولا يعلم ذلك إلا العلماء الراسخون في العلم الناظرون إليها بنور العقل، وأما الجهال فهم الغافلون عن ذلك ولا يعلمون إلا ما هو ظاهر محسوس بل لا يدر كون من الظواهر إلا ما يدركه سائر البهائم فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

(يا هشام ثم الذين لا يعقلون) مدارك أصول العقايد ولا يفهمون ما نطقت به الشريعة من فروع القواعد (فقال: إذا قيل لهم) الضمير للناس في قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان) على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على بعدهم عن رتبة

ص: 122


1- 3 - رواه الراوندي في الخرائج والجرائح ص 197 في حيث طويل.
2- - راجع بحار الأنوار المجلد الثالث باب اثبات الحشر وكيفيته ص 190 إلى 200.
3- - قوله «في عالم العقول والآخرة» ما في عالم العقول وعالم الآخرة حقيقة وما في الدنيا صورة لها وتلك الحكم والمصالح والجمال التي نراها في الموجودات الدنيوية ليست إلا ظلا لوجود حقايقها في ذلك العالم ترى أن الخاتم إذا كانت كتابته حسنة جيدة كان النقش الذي يرتسم به على القرطاس خطا حسنا وظل الجسم مثله في الشكل كذلك كل موجود في الدنيا كالنقش في القرطاس من خاتم روحاني ولا يعرف ذلك إلا الراسخون في العلم وسائر الناس يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وأين الطبيعة من نقش ألوان ريش الطاووس لولا أن ذلك عكس لعاكس جميل روحاني بدا صورته فيه كنقش الخاتم ولذلك نقول لا قبيح ولا شر في الوجود كما مر، ويتبادر إلى الذهن من هذه العبارة ان عالم العقول وعالم الآخرة واحد في مقابل الدنيا وأن حقيقة واحدة تكون في الدنيا مثالا وصورة، وفي الآخرة أو عالم العقول معنى حقيقيا وربما يتوهم الجاهل من اتال هذه العبارات أن قائلها معتقد للمعاد الروحاني فقط دون الجسماني إذ جعل عالم الآخرة عالما عقليا وأن عالم الأجسام عنده هو الدنيا دون الآخرة وليس مرادهم نفى المعاد الجسماني قطعا بل الشارح وأترابه قائلون بتجسم الأعمال والمعاني المجردة والاعتقادات في الآخرة كما مر التصريح به منه وسيصرح به أيضا وتعبيراتهم هنا مبنية على ذلك فأجسام عالم الآخرة باعتبار ان منشأ وجودها هو الأعمال الصالحة والملكات الحسنة أمر حقيقي معنوي وباعتبار أنفسها أجسام أخروية أيضا والأجسام الدنيوية تحفظ حقيقتها وماهيتها في الآخرة وتبطل عنها صورتها ومثالها الدنيوي كما مثل باللبنة المضروبة بقالب فإنها إذا كسرت بطلت عنها صورتها الأولى ويبقى حقيقتها وهي الطين فيضرب بصورة أخرى غير الصورة الدنيوية (ش).

الخطاب بسبب سلوكهم طريق التقليد الذي هو خارج عن منهج الصواب وإنما عقب الآية المذكورة بهذا الذم للتنبيه على التقليد من جملة خطوات الشيطان (اتبعوا ما أنزل الله) قيل المأمورون بالاتباع هم المشركون فالموصول حينئذ عبارة عن القرآن وما اشتمل عليه من أصول الشرايع وفروعها ومواعظها ونصائحها مما ينتظم به نظام الدنيا والآخرة.

وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام فالموصول على هذا يشمل التورية أيضا لأن التورية أيضا تدعو إلى الإسلام والاقرار بنبينا (صلى الله عليه وآله) وبما أنزل الله سبحانه إليه (قالوا: بل نتبع ما ألفينا) أي ما وجدنا (عليه آباؤنا) قدم الظرف على المفعول به لقرب المرجع أو لقصد الحصر أو للاهتمام لاشتماله على ضمير دينهم الذي هو مستحسن عندهم (أولو كان آباؤهم) الهمزة لانكار فعل مقدر والتعجب منه والواو للحال ومعناه أيتبعون آباءهم والحال أن آباءهم (لا يعقلون شيئا) من الحق مثل صفات الواجب وأفعاله وكتبه ورسله وما جاء به رسله مما يكمل به نظام الخلق عاجلا وآجلا (ولا يهتدون) إليه لعميان بصيرتهم وفقدان ضياء سريرتهم ويجوز أن يكون الواو للعطف على ذلك المقدر وجزاء الشرط محذوف ومعناه لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون لا تبعوهم.

والآية تدل على وجوب النظر والمنع من التقليد أعني الرجوع إلى الغير والأخذ منه بغير بصيرة مطلقا، خرجت الفروع بالإجماع كما قيل، فبقيت الأصول مندرجة تحت المنع هذا إذا لم يعلم ذلك الغير صادقا محقا وإما إذا علم كالأنبياء والأوصياء فاتباعه واجب ولا يسمى ذلك تقليدا في العرف بل هو اتباع لما أنزل الله. قيل: وجوب النظر شرعا محال لأنه لو وجب النظر فأما على العارف وهو تحصيل الحاصل، أو على غيره وهو دور لتوقف وجوب النظر على معرفة إيجاب الله إياه وهي متوقفة على معرفة ذاته وهي متوقفة على معرفة وجوب النظر. وأجيب بأن معرفة إيجابه متوقفة على معرفة ذاته باعتبار ما وبوجه من الوجوه والمتوقف على وجوب النظر هو معرفة ذاته بوجه أتم.

أقول: هذا لو تم فإنما يتم في وجوب النظر على صفاته وأفعاله وآثاره وأما على أصل وجوده فلا لأن معرفة إيجابه متوقفة على معرفة ذاته والتصديق بوجوده كما لا يخفى والأحسن أن يقال معرفة ذاته لا يتوقف على وجوب النظر لجواز حصولها بالنظر وإن لم يجب. ومنهم من أوجب التقليد في الأصول وحرم النظر لأن الشبهات في الأنظار كثيرة والنظر مظنة الوقوع (1) في الضلالة وهي في الأصول كفر

ص: 123


1- - قوله: «مظنة الوقوع في الظلالة» قال العلامة المجلسي في كتاب حق اليقين ما معناه «اختلفوا في أنه يشترط في الإيمان اليقين أو يكفي الظن القوي وأيضا في انه يجب ان يكون بالدليل أو يجوز فيه التقليد وهذان الخلافان متقاربان وظاهر كلام العلامة وأكثر العلماء أنه يجب تحصيل اليقين بالبرهان وبعضهم ادعى الإجماع عليه إلى أن قال في صدر الإسلام كانوا يكلفون الناس باظهار العقائد ويأمرونهم بالطاعات والعبادات ولا يعرضون عليهم دليل الدور والتسلسل لأنه مادة التشكيك ولذلك نرى بعض العباد والزهاد الذين لم يمارسوا تلك العلوم يقينهم أكمل من أكثر المدققين من العلماء الذين صرفوا أكثر عمرهم في الشكوك والشبهات» إلى آخر ما قال. أقول: ولا ريب أن الصحيح ما ذكره الشارح مع إنا لم نر أحدا نقل في كتاب حديث أو تاريخ أو سيرة ان رجلا من المسلمين في صدر الإسلام اكتفى في ايمان الكافر بالظن على ما ادعاه المجلسي رحمه الله وشعار المسلمين أشهد ان لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ولفظ أشهد يدل على اليقين ولو قال الكافر أظن ظن قويا أن الله واحد وأظن أن محمدا (صلى الله عليه وآله) نبي لم يعد مسلما في عهد ووقت، فالاجماع على وجوب تحصيل اليقين حق والناس مفطورون على بطلان الدور والتسلسل وان لم يعرفوا اسمهما ولم يقدروا على تقرير دليل بطلانهما لفظا وان قال رجل ولدني ابني ضحك منه الناس لأنهم يبطلون الدور ولو قال انا املح الأطعمة كلا من الاخر من غير ان يكون لي ملح ضحكوا منه أيضا والعالم الذي ايمانه أضعف من العوام ليس عالما البتة بل هو حافظ للاصطلاحات من غير ان يفهم معناها وقد بين الشارح ذلك في شرح المقدمة أتم بيان (فليراجع صفحة 52 وما بعدها) (ش).

بخلاف التقليد فإنه أسلم لعدم مشاهدة المقلد تلك الشبهات فوجب لوجوب الاحتراز عن مظنة الضلالة إتفاقا. والجواب أنه إن أريد بالتقليد تقليد أهل العصمة (عليهم السلام) فلا ينبغي النزاع فيه إلا أن ذلك لا يسمى تقليدا ولكن لا مشاحة في الاصطلاح. وإن أريد به مطلقا ففيه أن المظنة أي مظنة الضلالة تجري في التقليد أيضا لأن المقلد إما يقلد ناظرا أو مقلدا آخر فعلى الأول يلزم المحذور المذكور وهو الوقوع في الضلالة مع زيادة وهي احتمال كذب الناظر في صدور النظر منه، وعلى الثاني فاما أن لا ينتهي سلسلة التقليد إلى ناظر فيلزم التسلسل وهو باطل أو ينتهى فيلزم ذلك المحذور مع احتمال كذب ذلك الناظر بخلاف ما إذا كان هو ناظرا بنفسه فإنه لا يجرى فيه هذا الاحتمال لأن الإنسان عالم بما أدى إليه نظره فالتقليد أولى وأجدر بأن يكون حراما (وقال مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) هذه الآية في القرآن متصلة بالآية السابقة ولما ذم الكفرة في الآية السابقة بسبب التقليد لآبائهم وعدم متابعتهم لما أنزل الله وعدم التدبر والنظر فيه ضرب لهم مثلا متضمنا لتشبيههم بالبهائم في عدم فهم المقصود من الخطاب توضيحا لسوء حالهم.

فإن قلت: الذين كفروا هم المدعوون إلى دين الحق والذي ينعق هو الداعي للبهائم فلا مطابقة بين المشبه والمشبه به؟ قلت: للناظرين في هذه الآية اختلاف في تفسيرها وحلها، فمنهم من قدر مضافا ومنهم من حملها على ظاهرها، فأما الذين قدروا مضافا فمنهم من قدره في جانب المشبه وقال تقديره ومثل داعي الذين كفروا وهو الرسول ومن يحذو حذوه في إلقاء الخطاب إليهم وعدم فهمهم لما هو المقصود منه وعدم استبصارهم به لانهماكهم في التقليد واستحسانهم دين آبائهم كمثل داعي البهائم

ص: 124

الذي ينعق بها وهي لا تسمع إلا دعاءه ونداءه الذي هو تصويت بها ولا تقف على شئ آخر فقد شبه الكفرة المقلدين في عدم فهمهم لما يسمعون من الرسول بالبهائم التي تسمع الصوت من الراعي ولا تفهم معناه، ومنهم من قدره في جانب المشبه به وقال: تقديره كمثل بهائم الذي ينعق، ومعناه مثل الذين كفروا في عدم فهم ما ألقى إليهم من الخطاب كمثل بهائم الراعي الذي يتصوت بها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه والمعنيان متقاربان أو معناه ومثلهم في اتباعهم آباءهم والتقليد لهم على ظاهر حالهم وعدم فهمهم أهم على حق أم على باطل كمثل بهائم الراعي التي لا تسمع ألا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته.

وأما الذين حملوها على ظاهرها فقيل: معناها مثل الذين كفروا في دعائهم أصنامهم التي لا شعور لها بدعائهم وخطابهم كمثل الراعي الذي يتصوت بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء ونداء، فقد شبه الأصنام بالبهائم في عدم الفهم المتحقق في الطرفين; وتحققه فيهما وإن لم يكن متوقفا على قوله إلا دعاء ونداء، لكن الغرض من ذكره زيادة المبالغة في التوبيخ والذم إذ لا شبهة في أن من دعى بهيمة لا تسمع إلا دعاء ونداء عد جاهلا ضعيف العقل سخيف الرأي، فمن دعا صنما لا يسمع شيئا كان أولى بالذم والسخافة وبما قررنا ظهر اندفاع ما أورده القاضي وصاحب الكشاف من أن هذا التفسير لا يساعده قوله ألا دعاء ونداء لأن الأصنام لا تسمع شيئا. وأجاب عنه القاضي بأن التشبيه من باب التمثيل المركب والتشبيه غير معتبر في مفرداته وهذا مدفوع بأن التشبيه وإن كان مركبا لكن المذكور في الجانبين لا بد أن يكون له مدخل في التشبيه وإن يكون ما اعتبر في أحد الجانبين مما له مناسبة في الجانب الآخر، وقيل: معناها مثل الذين كفروا في قلة عقلهم وضعف حالهم في عبادة الأصنام كمثل الراعي الذي ينعق بالبهائم فكما أن هذا يقضى على الراعي بقلة العقل فكذا ذاك، فوجه التشبيه قلة العقل وقيل: معناها مثلهم في اتباعهم آباءهم والرسوخ في دينهم بالتقليد لهم كمثل الراعي الذي ينعق بالبهائم فكما أن الكلام مع البهائم عديم الفائدة كذلك التقليد، ثم بالغ في ذمهم على التقليد وعدم النظر فيما أنزل الله إليهم.

بقوله (صم بكم عمى) رفع على الذم من باب التشبيه البليغ أي هم بمنزلة الصم حيث تركوا العمل بما سمعوه فكأنهم لم يسمعوه لفوات الغرض الأصلي منه وهذا كما يقال لعالم لم يعمل بعلمه: إنه ليس بعالم، وبمنزلة البكم حيث لم يتكلموا بالحق ولم يستجيبوا لما دعوا إليه وقالوا: (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) وبمنزلة العمى حيث أعرضوا عن الدلائل الساطعة والبراهين القاطعة فكأنهم لم يشاهدوها. وبالجملة لما فات منهم الغرض من السماع والتكلم والإبصار فكأنه فقد عنهم تلك الآلات، ويمكن حمل الكلام على الحقيقة وذلك لأنه كما يكون للإنسان مؤمنا كان أو كافرا سمع ظاهري به يدرك المسموعات ونطق ظاهري به يتكلم بالكلمات وبصر ظاهري به يدرك المبصرات كذلك يكون للمؤمن

ص: 125

قوة باطنية بها يفرق بين الحق والباطل وهي من حيث إنها الحاكمة في المسموعات فارقة بين صحيحها وسقيمها تسمى سمعا عقليا ومن حيث إنها فارقة بين الأقوال الصادقة والكاذبة تسمى نطقا عقليا، ومن حيث أنها فارقة بين المبصرات تسمى بصرا عقليا، وقد يطلق البصيرة على قوة بها تدرك النفس صور الحقايق الكلية بلا آلة وأما الذين كفروا واتبعوا أقوال آبائهم، وتركوا ما سمعوه من كلام داعي الحق ولم ينظروا فيما شاهدوه من الدلائل فهم فاقدون لتلك القوة العقلية فهم صم بكم عمي حقيقة حيث لم يكن لهم سمع ونطق وبصيرة عقلية أصلا، ونسبة العمى إلى القلب أولى من نسبته إلى العين كما يشعر به قوله تعالى (لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدر) (فهم لا يعقلون) أي لا يعقلون فرقا بين الحق والباطل ولا يتفكرون فيما أنزل الله ولا ينظرون إليه بعيون عقولهم ليعلموا أنه الحق من ربهم.

(وقال: ومنهم) أي ومن المكذبين الذين سارعوا إلى تكذيب القرآن وما اشتمل عليه من الحشر والنشر والثواب والعقاب، وسائر ما يخالف دينهم ودين آبائهم قبل أن يقفوا على معانيه وينظروا إلى مبانيه حتى يتبين لهم أنه صدق (من يستمع إليك) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرايع ولكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا لغلبة الشقاوة عليهم وإحاطة الغواية بهم بسبب التقليد والإلف بالباطل ومعارضة الوهم (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) أي أفأنت تقدر على إسماعهم ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم شيئا من الحق لقساوة قلوبهم وجمود طبايعهم وخمود أذهانهم حتى صاروا بمنزلة البهائم، فيه تنبيه على أن الإعراض عن نصح أمثالهم أولى لأن من شرائط النصيحة أن يكون للمنصوح قوة سامعة وبصيرة قلبية فإذا انتفت إحداهما أو كلاهما فالإعراض عنها حري ولذلك ترى الطبيب الحاذق إذا علم استيلاء المرض وعدم قبوله للعلاج يعرض عنه، قيل: هذه الآية تدل على أن السمع أفضل من البصر لأنه قرن ذهاب العقل بذهاب السمع لا بذهاب البصر فالسمع أفضل ويرشد إليه تقديمه فيما قبل أيضا ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع) فجعل السمع قرينا للقلب، والمراد به العقل دل على أنه أفضل، وقوله تعالى:

(لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) فإنهم جعلوا السمع مثل العقل سببا للخلاص عن السعير، وقيل: البصر أفضل من السمع لأن آلة القوة الباصرة هي النور وآلة القوة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء فالبصر أفضل من السمع، ولأن البصر يرى ما فوق سبع سماوات والسمع لا يدرك ما بعد عنه على فرسخ فكان البصر أقوى، ولأن محله الوجه وهو أشرف الأعضاء وللطرفين مؤيدات وتزئيفات لا يناسب المقام ذكرها.

ص: 126

(وقال أم تحسب) «أم» حرف عطف في الاستفهام ولها موضعان، أحدهما: أن يكون متصلة بما قبلها وهي تقع دائما معادلة لألف الاستفهام ولا تستعمل بدونها تقول: أزيد في الدار أم عمرو وتعلم أن الكائن فيها أحدهما وتطلب التعين والمعنى أيهما فيها، وشرطها أن يكون أحد المستويين يليها والآخر يلي الهمزة بلا فصل، والثاني: أن يكون منقطعة عما قبلها خبرا كان أو استفهاما تقول في الخبر أنها لابل أم شاة يا فتى، وذلك إذا نظرت إلى شخص فتوهمته إبلا فقلت ما سبق إلى وهمك، ثم أدركك الظن أنه شاة فانصرفت عن الأول وقلت أم شاة بمعنى بل أشاة إلا أن ما يقع بعد «بل» يقين، وما بعد «أم» مظنون، وتقول في الاستفهام: هل زيد منطلق أم عمرو يا فتى، إنما أضربت عن سؤالك عن انطلاق زيد وجعلته عن عمرو والمعنى بل عمرو منطلق، إذا عرفت هذا فنقول: «أم تحسب» عطف على قوله تعالى «أفأنت» في الآية المتصلة به في القرآن العزيز وهي قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) والاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني لإنكار الفاعل، والثالث لإنكار الفعل و «أم» ههنا ليست متصلة لانتفاء الشرط المذكور، بل هي منفصلة إضراب عن الأول إلى ما هو أشد مذمة منه حتى حق بالاضراب عنه إليه، والمعنى بل أتحسب (أن أكثرهم يسمعون) آيات القرآن والحجج المنزلة للتحدي بها (أو يعقلون) معانيها الدقيقة ولطائفها الخفية وحقايقها الجلية وفيه قطع لاهتمامه بشأنهم وطمعه بايمانهم وخص الأكثر بالذكر لأن منهم من عرف الحق وآمن به، ومنهم من عرفه وأنكره عنادا أو استكبارا أو خوفا على فوات الرياسة (إن هم إلا كالأنعام) وفي عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من الآيات وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات. وفيه تنبيه على أن تميز الإنسان في الحقيقة عن غيره من الحيوانات ليس بحسب الصورة المحسوسة بل بحسب الحقيقة الإنسانية التي بها يدرك المعقولات المفصلة ويميز بين الحق والباطل فإذا فسدت تلك الحقيقة وبطل فعلها ارتفع التميز وحصل التشابه (بل أضل سبيلا) من الأنعام لأنها تنقاد لصاحبها وتميز المحسن إليها من المسئ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب عما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يميزون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع، ولا يجتنبون عن عذابه الذي هو أشد المضار ولأنها لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا ولم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا باطلا واكتسبوا شرا، ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تهيج الفتن وتصد الناس عن الحق، ولأنها تتخلص بالموت ونفوسهم الشريرة باقية أبدا متألمة محزونة منكوسة إلى أسفل السافلين، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون مستحقون للبعد عن حضرة القدس.

وتوضيح ذلك: أن للأنعام صورة ظاهرية محسوسة وحقيقة باطنية معدة لأفعال مخصوصة وآثار معلومة وتلك الصورة دائما مطابقة لهذه الحقيقة لا تتعداها إلى غيرها، مثلا الأسد أسد بحسب الصورة

ص: 127

وبحسب الحقيقة الباطنية السبعية، والذئب ذئب بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الضارية، والحمار حمار بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الناهقية، وتلك الحقيقة لا تقدر أن تبطل آثارها وخواصها بخلاف الإنسان فإنه إنسان بحسب الصورة والحقيقة الروحانية القلبية وهي مستعدة لاكتساب الضدين اكتساب الخير والشر وقابلة للتحلي بالفضائل والتدنس بالرذايل، فإذا اعتقد شيئا أو فعل فعلا واستمر فيه صار ذلك ملكة يصدر منها الأفعال بسهولة وتلك الملكة صورة باطنية فإن كانت ملكة الفضايل طابقت الصورة الظاهرة تلك الصورة الباطنة ويترقي بذلك الإنسان إلى أن يتصل بملاء الروحانيين ويصير من أصحاب اليمين ويعد من السابقين، وإن كانت ملكة الرذايل والكفر والزندقة خالفت الصورة الظاهرة تلك الصورة الباطنة ويتنزل الإنسان بذلك إلى أسفل السافلين ويصير من أصحاب الشمال ويعد من الخاسرين، فصورته الظاهرة صورة إنسان وصورته الباطنة صورة كلب أو خنزير أو سبع أو شيطان أو أخس منها ولكن لا ترى هذه الصورة في الدار الدنيا لكونها دار التباس ودار تدليس ودار تكليف إلا من منحه الله سبحانه وتعالى بزيادة بصيرة قلبية بمجاهدات نفسانية ورياضات جسمانية ومكاشفات روحانية، فإنه قد يظهر له هذه الصورة على ما هي عليه في نفس الأمر لكن لامن حيث إنه في هذا العالم بل كأنه في عالم آخر بين العالمين (1) ولقد رأى بعض الصالحين - ممن اصدقه في عقايده وأعماله - جماعة من الناس في جنب كل واحد منهم كلب بحقيقة الكلبية وصورته، له ذنب واذن وعينان ورأس وفم وشعر مثل الكلب المشاهد. وأما دار الآخرة فلما كان موطن بروز الحقايق بصورها الذاتية بلا التباس يحشر بعض الناس على صورة القردة والخنازير أو الكلاب أو الذر، فأولئك لعدم المطابقة بين ظاهرهم وباطنهم وإبطالهم الحقيقة الانسانية وإفسادهم قوة الاستعداد للسعادة الاخروية أضل من الأنعام للمطابقة بين ظاهرها وباطنها وعدم إبطالها الحقيقة الحيوانية والقوة الاستعدادية.

(وقال لا يقاتلونكم) ضمير الخطاب للرسول ومن معه من المؤمنين وضمير الغائب لليهود والمنافقين إذ وعد المنافقون اليهود بالنصرة على قتال المؤمنين (جميعا) أي مجتمعين في محاربتكم (إلا في قرى محصنة) بالحصون والقلاع والدروب والخنادق (أو من وراء جدر) لشدة رهبتهم منكم، ولما توهم منه أن يكون ذلك لضعف حالهم وقلة عدتهم وعدتهم دفعه على سبيل التكميل بقوله (بأسهم بينهم شديد) يعني ليس ذلك لضعف حالهم وقلة شوكتهم إذ يشد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لأن الله تعالى قذف الرعب في قلوبهم والرهبة في صدورهم (تحسبهم جميعا) أي مجتمعين في الحاربة متفقين على الالفة والمحبة (وقلوبهم شتى) أي متفرقة غير متفقة في الأمر لاختلاف عقايدهم وافتراق مقاصدهم، وذلك

ص: 128


1- 1 - وهو عالم البرزخ المتوسط بين العالم المادي المحسوس وعالم الآخرة وصور عالم البرزخ ذات مقدار مجرد عن المادة بخلاف صور هذا العالم فإنها مادية وبخلاف صور العالم الروحاني المجرد عن كل شئ (ش).

يوجب اختلافهم في الأمور وفيه تقوية للمؤمنين وتحريضهم على القتال (ذلك) أي تشتت قلوبهم وهذا وإن كان معنى غير محسوس لكن لظهور آثاره أعني تباين كلمتهم وافتراق شملهم صار بمنزلة المحسوس فاستحق الإشارة إليه (بأنهم) أي بسبب أنهم (قوم لا يعقلون) إذ العقلاء متوافقون في أمر ظاهرا وباطنا وقلوبهم غير متفرقة فيه; لأن دينهم واحد بخلاف الجهلاء، لأن طرق الجهل متعددة فلا جرم قلوبهم متفرقة متفاوتة بحسب تفاوت أغراضهم، ولذلك قيل: العقل فن واحد والجنون فنون، ويحتمل أن يكون المراد أنهم قوم لا يفقهون ما فيه صلاحهم وبقاء شملهم وإن تشتت قلوبهم يوجب وهنهم وافتراقهم، ففي الأول إشارة إلى علة التشتت وفي الثاني إلى عدم علمهم بغايته، ولك أن تجعل ذلك إشارة إلى شدة بأسهم بينهم واختيارهم قرى محصنة خوفا من المؤمنين يعني أن كل ذلك لعدم عقلهم إذ العقلاء لا بأس بينهم بل هم كنفس واحدة ولا يخافون إلا الله ولا يرهبون إلا منه، وهؤلاء أشد رهبة في صدرو المؤمنين من الله عز شأنه.

(وقال وتنسون أنفسكم) الواو للعطف على تأمرون في قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر) أو للحال عن ضمير الجمع والهمزة للتنبيه على الضلال أو للانكار والتوبيخ بمعنى لا ينبغي أن يكون ذلك أو للتعجب أو للتقرير والتثبيت، والبر الصلاح. وقيل الخير، وقيل التوسع في الخير من البر وهو الفضاء الواسع، وبالجملة هو يتناول كل خير والآية نزلت في جماعة كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وهم كانوا يتركونها ويقدمون على المعاصي، وقيل: كانوا يأمرونهم بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما، وقيل: نزلت في أحبار اليهود كانوا يأمرون من نصحوه في السر من الأقارب وغيرهم باتباع محمد (صلى الله عليه وآله) وهم لا يتبعونه، وقيل: كانوا يأمرون الناس قبل بعثة الرسول باتباعه فلما بعث أنكروه، وعلى التقادير لا يختص الذم بمن نزلت الآية فيهم بل يجري فيمن يقتفى أثرهم إلى يوم القيامة; لأنا قد بينا في أصول الفقه أن خصوص السبب لا يخصص الحكم، والمعنى أتأمرون الناس بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة وتتركون أنفسكم منه كالمنسيات وتفعلون ما فيه فسادها فيهما (وأنتم تتلون الكتاب) أي القرآن على أن يكون الخطاب لطائفة من المسلمين فإن فيه وعيدا على ترك البر والصلاح ومخالفة القول للعمل مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) أو التورية على تقدير أن يكون الخطاب لأحبار اليهود فإن الوعيد المذكور موجود في التورية أيضا; إذ الكتب الإلهية كلها نازلة لتكميل الخلق ومشتملة على ما فيه صلاحهم في الدارين. وأما تعميم الكتاب بحيث يشتمل الكتب المدونة في الأحكام كما زعم فغير مناسب إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكتاب

ص: 129

عليها (أفلا تعقلون) أي أتصنعون ذلك فلا تعقلون قبحه وشناعته حتى يمنعكم عنه فكأنه لا عقل لكم إذ العقل يمنع عن الاقدام به.

ولقبح ذلك وجوه، الأول: أن من ارتكب ذلك كان قوله مناقضا لفعله وهو مستقبح من العاقل.

الثاني: أن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير والاحسان إليه والاحسان إلى نفسه أولى من الاحسان إلى الغير فمن أمر ولم يأتمر ونهى ولم ينته فقد ترك ما هو الأحسن بالنسبة إليه ولا يليق ذلك بالعاقل. الثالث: الغرض من الأمر والنهي ترويج الدين وهو بفعله يريد عدم ترويجه فقد جمع بين المتناقضين وهو غير واقع من العاقل. الرابع: الآمر لا محالة يريد نفاذ أمره في القلوب وفعله يوجب عدم نفاذه لأنه ينفر القلوب عن القبول فقد نقض مراده بفعله والعاقل لا يفعل ذلك ولذلك ورد «أن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا» (1). الخامس: أنه إذا أمر بشئ أظهر للناس علمه بذلك الشئ فإذا تركه كان لومهم به أشد وذمهم به أبلغ من لوم من تركه تجاهلا أو بلا علم، ولذلك ورد أن عقوبة العالم إذا لم يعمل أعظم من عقوبة الجاهل (2).

السادس: أنه بقوله يقول لهم افعلوا وبفعله يقول لهم لا تفعلوا فقد أتى بالمتناقضين والعقل يأباه. ثم المراد بالآية حث الواعظ على تزكية نفسه وتهذيبها والاقبال عليها بتقديسها وتكميلها ليقيمها أولا ثم يقيم غيره ولذلك كان بعث الأنبياء بعد تكميل نفوسهم القدسية، لأمنع الفاسق عن الوعظ كما زعم، لأنه مأمور بشيئين أحدهما ترك المعصية والثاني منع الغير منها والاخلال بأحد التكليفين لا يوجب الاخلال بالآخر، ودلالة الآية على النهي عن الجمع بينهما وتحريمه غير مسلمة لجواز أن يكون النهي راجعا إلى نسيان النفس مطلقا لا إلى نسيانها منضما إلى الأمر بالمعروف ويشعر بذلك قوله (عليه السلام) وقال: «وتنسون أنفسكم» حيث رتب الذم عليه ولم يذكر صدر الآية، وفيه دلالة أيضا على جواز الاستشهاد ببعض الآية إذا كان تام الفائدة فيفهم جواز ذلك في الحديث بالطريق الأولى.

(يا هشام ثم ذم الله الكثرة فقال: وإن تطع أكثر من في الأرض) في عقايدهم وأقوالهم وأعمالهم (يضلوك عن سبيل الله) إذ الحق له سبيل واحد لا يسلكه إلا العارف العالم الراسخ في علمه وورعه وهو قليل جدا وأما الباطل فله طرق متكثرة يسلكها أكثر من في الأرض على مطايا الغواية والجهالة ومراكب الغباوة والضلالة ويدعون إليها من اقتفى آثارهم وتتبع أطوارهم ولا يأمرونه إلا بما فيه هواهم ولا يرشدونه إلا إلى مقاصدهم ومناهم، كما دل عليه قوله تعالى (كل حزب بما لديهم فرحون) والآية كما دلت على أن إطاعة الأكثر سبب للضلالة كذلك دلت على أن مخالفتهم سبب للهداية وعلى هذا لا

ص: 130


1- 1 - سيأتي في كتاب العلم باب استعمال العلم تحت رقم 3.
2- 2 - راجع باب «لزوم الحجة على العالم وتشديد الامر عليه» فيما يأتي من كتاب العلم.

يجوز متابعة الأكثر إلا إذا كان هناك دليل على حقيتهم فالمتبع حينئذ هو الدليل دون الكثرة من حيث هي ولا يجور التمسك في الأحكام بمجرد الشهرة وكثرة القائلين بها ولا تأييدها به والله أعلم.

(وقال ولئن سألتهم) أي الذين يعبدون غير الله سبحانه (من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي ليقولن خلقهن الله فحذف المسند بقرينة سؤال محقق. والدليل على أن المرفوع فاعل والمحذوف فعله أنه جاء عند عدم الحذف في مثل هذا الكلام كذلك كقوله تعالى (ولئن سئلتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله تعالى (قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) ويحتمل أن يكون المرفوع مبتدأ والمحذوف خبره أي الله خلقهن ليطابق السؤال في الاسمية ولأن السؤال عن الفاعل لا عن الفعل وتقديم المسؤول عنه أولى وأهم، وإقرارهم بذلك على سبيل الالجاء والاضطرار لوضوح الدليل المانع من اسناد خلقهن غير الله تعالى (قل الحمد لله) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان عقائدهم وأعمالهم في باب الشريك أو على حفظك وعصمتك من مثل هذه الضلالة (بل أكثرهم لا يعلمون) أي لا يعلمون أن ذلك يلزمهم، أو لا يعلمون ما اعترفوا به ببرهان عقلي ودليل قطعي لأن كونه تعالى خالق السماوات والأرض نظري لا يعلم إلا بالبرهان وهم معزولون عن العلم به وإنما اعترفوا به اضطرارا وكل من ادعى علما نظريا بلا نظر استحق أن يلام بالسفاهة ويذم بالجهاله، أو لا يعلمون ما تريد بتحميدك عند مقالتهم، أو يعلمون أنهم يتناقضون حيث يقرون بأنه خالق السماوات والأرض ثم يشركون به غيره، أو لا علم لهم أصلا حتى يقروا بالتوحيد بعد ما أقروا بما يوجبه، وفيه ذم عظيم للجهلة الذين انصرفوا عن طريق الحق وسلكوا طريق الضلالة، ومدح بليغ للعلماء الذين يميزون بين الحق والباطل ويسلكون سبيل الهداية، وإرشاد إلى كيفية الاستدلال على التوحيد.

(يا هشام ثم مدح القلة) يعنى أن الممدوح من الناس وهو المؤمن الحقيقي العالم العامل المهذب للظاهر والباطن قليل نادر جدا وقد دلت على قلته الآيات المتكثرة والروايات المعتبرة المتواترة كما يظهر ذلك لمن تأمل في أحاديث الكفر والايمان ودلت عليه التجربة أيضا (فقال وقليل من عبادي الشكور) قيل: الشكر في اللغة فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه، وفي العرف صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما أنعمه لأجله.

أقول: الظاهر أن النسبة بينهما عموم من وجه لتحقق الأول في صرف اللسان وحده مثلا في مقابلة النعمة دون الثاني إذ قد اعتبر فيه صرف جميع الجوارح، وتحقق الثاني في صرف الجميع لا في مقابلة النعمة بل لأجل كمالاته الذاتية وتحققهما جميعا في صرف الجميع بإزاء النعمة ولكن القوم صرحوا بأن الأول أعم مطلقا من الثاني لأنه كلما يتحقق صرف الجميع بإزاء النعمة يتحقق صرف واحد بإزائها أيضا

ص: 131

من غير عكس، وأورد عليه بأن هذه النسبة إنما يتم لو اعتبر في الثاني كونه في مقابل النعمة ولا إشعار به في التعريف: وأجيب عنه تارة بأن هذا القيد يستنبط من تعليق الحكم بوصف الانعام الصالح للعلية، ورد ذلك بأنه يلزم منه أن لا يكون الخلص شاكرين ولا واسطة بين الشكر والكفران، وتارة بأن المراد بكونه في مقابل النعمة أن يكون بإزائها وإن لم تكن ملحوظة للشاكر ومحصله أن إنعامه هنا عرفية لا حقيقية، ويمكن دفعه أيضا بأن مفهوم التعريف مطلق والايراد المذكور وارد بالنظر إلى ظاهره، إذا عرفت هذا فنقول: الشكر بكلا المعنيين منزلة عظيمة ومرتبة جليلة والمانع فيه قليل جدا، وبالمعنى الثاني أعظم لأن حصوله يتوقف على العلم بالله وصفاته وأفعاله والتصديق بالرسول وخواصه وكمالاته وبجميع ما جاء به من الشرايع والآداب مع العمل بها وتهذيب الظاهر والباطن عن الأخلاق الرذيلة ورداها، ومجاهدة النفس الأمارة بدفع متمنياتها وهواها، وقال الشريف في حاشية المطالع قيل: وبهذا المعنى يعني بالمعنى الثاني ورد قوله تعالى (وقليل من عبادي الشكور) وقال بعض المحققين: بل الظاهر أنه بالمعنى الأول وتكون القلة ناشئة عن المبالغة المستفادة من الشكور كما هو المعروف من أن النفي والاثبات في الكلام راجعان إلى القيد، وأما المعنى الثاني فلا يتصور فيه المبالغة، لأن المراد به صرف الجميع في الجميع فيكون الشكور بهذا المعنى ممتنع الوجود لا قليلا، ولو سلم استقامة حمله على هذا المعنى فلا يتعين لجواز حمله على المعنى الأول أيضا، وأجاب عنه المحقق الداوني بأن صرف الجميع في الجميع يتفاوت بحسب استغراق الأوقات وعدمه وتحقق المبالغة في استغراق الأوقات بأن يتحقق صرف الجميع في الجميع في أكثر الأوقات أو في جميعها، ثم أورد على نفسه بأن صرف الجميع في الجميع في أكثر الاوقات أو في جميعها مما لا يتصور ضرورة أنه لا يمكن صرف جارحة اللسان مثلا في وقت من الأوقات في جميع ما خلق لأجله كالذكر والنصيحة وإنذار الأعمى من البئر إلى غيرها، وأجاب بأن جميع ما خلق لأجله هو جميع ما كلف به وفي ذلك الوقت فهو شاكر بالمعنى الثاني وإذا استمر على ذلك الوصف في جميع الأوقات أو في أكثرها فهو شكور، وأجاب عن المنع المذكور بأن المعنى اللغوي غير محتمل لأن المبالغة فيه ليس قليلا لصدور البسملة والشهادتين وغيرها من الأفعال والأقوال المنبئة عن تعظيمه سبحانه عن كثير من العباد.

أقول: كما أن صرف الجميع في الجميع يتفاوت بحسب استغراق الأوقات وعدمه كذلك صرف البعض فيتحقق المبالغة فيه أيضا بأن يصرف البعض في أكثر الأوقات أو في جميعها ولا شبهة في أن الصارف بهذا الوصف قليل بالنسبة إلى الصارف في وقت ما; نعم هو كثير في حد ذاته وبالنسبة صارف الجميع في الجميع في معظم الأوقات ولا يقدح شئ من ذلك كونه قليلا بالنسبة إلى الصارف في وقت ما فكما يجوز إرادة المعنى الثاني في الآية يجوز إرادة المعنى الأول أيضا فليتأمل.

(وقال: وقليل

ص: 132

ما هم) الضمير راجع إلى الموصول في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي المؤمنون العاملون للصالحات قليلون جدا، و «ما» مزيدة للابهام والتعجب من قلتهم وسبب القلة أن الله سبحانه خلق أعضاء الإنسان على مقتضى حكمته البالغة بحيث تصلح أن تناول الخير والشر فإن اليد تتناول الضرب والبطش والاعطاء والمنع وغيرها من الأفعال الصادرة منها، والرجل يتناول المشي إلى سبيل الحق والباطل، والبصر يقدر أن يدرك المصنوعات العجيبة والمبدعات الغريبة التي دلت على وجود صانعها وقدرته وحكمته. وأن يدرك المحرمات من الصور وغيرها والسمع يصلح أن يسمع الآيات والبينات المحركة للسير إلى الله تعالى، وأن يسمع الهزل واللغو والأقوال الكاذبة الموجبة للبعد منه ومن رحمته، وقس عليها البواقي وجعل النفس واسطة بين القوة الشهوية والغضبية وغيرهما من القوى الطبيعية الحيوانية وبين القوة العاقلة والملكية، وهي بالأولى تحرص على تناول اللذات البهيمية الفانية كالقهر والغلبة والشره والشبق (1) والعداوة، والتهجم على الغير بالضرب والشتم وتستعمل الأعضاء والجوارح في وجوه الشر والضلالة وإذا استمرت على ذلك صارت شيطانا ولحقت بزمرة الشياطين وترجع إلى أسفل السافلين، وبالثانية تتناول اللذات الملكية الباقية مثل العلوم الحقيقية والخصال الحميدة المؤدية إلى السعادات الأبدية وتستعمل الأعضاء والجوارح في وجوه الخير وتستكمل السياسة البدنية وإذا استمرت على ذلك شاركت الملائكة المقربين في فضائلهم، وزاحمت الأنبياء والمرسلين في منازلهم، وتستحق أن تخاطب بيا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية - وإلى هذين الطريقين أشار سبحانه بقوله (وهديناه النجدين) وبقوله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) ولكن النفس بالذات لما كانت مايلة إلى اللذات آنسة بالمحسوسات، واللذات الفانية الدنيوية لذات حاضرة محسوسة ظاهرة واللذات الاخروية لذات غائبة عقلية مخفية صارت النفوس كلها مايلة إلى الدنيا وزخارفها باغواء الشياطين وغلبة الشقاوة والهوى عليها حتى خرجوا عن الدين، واندرجوا في سلك الشياطين، واتصفوا بالخسران المبين، أو خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وصاروا من المذنبين إلا من عصمه الله وأخذت بيده العناية الأزلية ونور قلبه بنور الحكمة والايمان وأفاض عليه مياه الكرامة والاحسان وطهر ظاهره بالأعمال الصالحة وحلى باطنه بالأخلاق الفاضلة وهذا القليل الوجود جدا كما أشار إليه مولانا الصادق (عليه السلام) بقوله: «المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر» (2).

ص: 133


1- 1 - اي الشهوة الفاسدة.
2- 2 - رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر باب قلة عدد المؤمنين تحت رقم 1.

(قال: وقال رجل مؤمن من آل فرعون) من أقاربه، قيل: هو ابن عمه، وقيل: كان قبطيا من قومه، وقيل: كان من بني إسرائيل ويرجح الأول لفظ الآل لأنه يطلق على القريب كما قال سبحانه:

(إلا آل لوط نجيناهم بسحر) وهو صفة ثانية لرجل، وقيل: هو متعلق بقوله (يكتم إيمانه) هذا صفة ثالثة على ما قلنا، وصفة ثانية على ما قيل، وهذا القول بعيد لأنه يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، اللهم إلا أن يجعل (يكتم إيمانه) حالا وهو بعيد جدا.

ولأنه لو كان كذلك لكانت تأخيره أولى إذ لاوجه لتقديمه إلا الحصر وهو غير مناسب للمقام ولأن كتمان الايمان دل على ثبوت الايمان مثل مؤمن، فكان الأنسب أن يذكر بعده بلا فصل، فإن قلت:

فعلى هذا لو كان صفة كان الأنسب أيضا تأخيره عن الصفة الثالثة، قلت: نعم ولكن في تأخيره إخلال بيان المعنى المقصود لأنه يتوهم حينئذ أنه من صلة (يكتم) فلم يفهم أن ذلك الرجل كان من آل فرعون فقدم لدفع هذا التوهم على أن تقديمه أهم لأن إيمانه مع كونه من آل فرعون كان مستبعدا (أتقتلون رجلا) وهو موسى (عليه السلام) والهمزة للانكار إما للتوبيخ أو للتعجب وحملها على حقيقة الاستفهام بعيد (أن يقول) أي لأن يقول أو وقت أن يقول (ربي الله) وحده لا شريك له وهو يفيد قصر الربوبية على الله ردا لقول فرعون (أنا ربكم الأعلى) فهو من قبيل صديقي زيد والغرض من ذكر الآية الكريمة أن الله سبحانه وصف رجلين من بين كثيرين لا يعلم عددهم إلا هو بالايمان ومدحهما به (وقال ومن آمن) عطف على أهلك في قوله تعالى (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول) ولما أوحى إلى نوح (عليه السلام) أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وأمره بعمل السفينة وأخبره بإهلاك قومه بالغرق شرع (عليه السلام) في عمل السفينة، فلما تم عمله وجآء أمر الله تعالى وفار التنور أمره بأن يحمل معه في السفينة من كل نوع من الحيوان ذكرا وأنثى وأهله إلا ابنه كنعان وامه وأن يحمل فيها المؤمنين فحمل (عليه السلام) فيها زوجين من كل حيوان وكل من آمن (وما آمن معه إلا قليل) قيل: كانوا ثمانين مقاتلا وفي ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بها لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها وهذا القول بعيد وقال في الكشاف روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساءهم والجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء وقال:

(ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي لا يوجد لهم حقيقة العلم ولا يعلمون استقامة هذا الدين لعدم

ص: 134

تدبرهم فيه حتى يحصل لهم العلم باستقامته وبما يتبعها من نظام أحوالهم في الدنيا والآخرة وقال (أكثرهم لا يعقلون) أي ليس لهم فضيلة العقل أو لا يعقلون الحلال والحرام وما جاء به رسولهم من المصالح والأحكام ليهذبوا ظاهرهم وباطنهم ويتصفوا بكمال الإنسان ويتركوا ما سولت لهم أنفسهم وزينه لهم الشيطان وقال (أكثرهم لا يشعرون) (1) بما فيه صلاحهم في الدارين وكمالهم في النشأتين وهذه الآيات الثلاث يستلزم مدح القليل وهو المقصود في هذا المقام.

واعلم أن الآيات والروايات الدالة على ذم الكثير ومدح القليل أكثر من أن تحصى، والغرض من ذكر بعضها هنا أمران: أحدهما بيان أن الضلالة والطغيان صارتا كالطبيعة الثانية للانسان إلا من عصمه الله من سلوك سبيل الشيطان ونور قلبه بنور المعرفة والايمان وهذا الصنف قليل جدا بل ينحصر في بعض الأعصار في فرد كما قيل في تفسير قوله تعالى (إن إبراهيم كان أمة) إنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا، الثاني التنبيه على أن ما وقع بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) من ارتداد أكثر الناس وخروجهم عن الدين وبقاء قليل منهم مثل عمار وسلمان وأبي ذر وأضرابهم غير مستبعد (يا هشام ثم ذكر اولى الألباب) أي ذوي العقول الخالصة عن لواحق الوهم والفشل، الكاملة بفضيلتى العلم والعمل (بأحسن الذكر) الذكر نقيض النسيان ويطلق أيضا على الصيت والثناء والشرف كما في قوله تعالى (والقرآن ذي الذكر) أي ذي الشرف (وحلاهم بأحسن الحلية) أي زينهم بأحسن الزينة، أو وصفهم بأحسن الصفة، والحلية بكسر الحاء المهملة وسكون اللام تطلق على الصفة مثل العلم والشجاعة والسخاوة ونحوها وعلى الزينة من ذهب أو فضة أو لؤلؤ أو نحوها وفي التنزيل (وتستخرجون حلية تلبسونها) ومن حلي بضم الحاء وكسر اللام وشد الياء جمع حلى بفتح الحاء وسكون اللام وهي ما يتحلى به المرأة، جمع الحلية حلى مثل اللحية ولحى وربما ضم (فقال يؤتى الحكمة) قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): «هي طاعة الله ومعرفة الإمام» (2) وهذا القول منه (عليه السلام) إشارة إلى الحكمة النظرية والعملية (3) وهما خروج النفس من القوة الاستعدادية إلى حقيقة العلم والعمل لأن معرفة الإمام إشارة اجمالية إلى معرفته على ما ينبغي ومعرفة الرسول وما جاء به ومعرفة الله وما يليق به، وهذه المعارف عبارة عن الحكمة النظرية.

وطاعة الله إشارة إلى تخلية الظاهر والباطن عن الرذائل وتحليتهما بالفضائل وهذه هي الحكمة

ص: 135


1- 1 - ليس في القران بلفظ لا يشعرون ولعله مصحف.
2- 2 - راجع تفسير البرهان ذيل الآية.
3- 3 - هذه الحكمة هي التي آتاها الله لقمان ولم يكن لقمان نبيا ولم ينزل إليه وحى بل كان يعرف الأمور بعقله وروى أنه لم يقبل الوحي والنبوة واختار الحكمة وليست الحكمة أيضا أخذ علوم الشريعة من نقل رواة الاحكام عن النبي المعصوم إذ لم يختص ذلك بلقمان بل هو حاصل لكل أحد «ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا» خاص ببعض عباد الله «ش».

العملية ويرجع إلى هذا التفسير قول القاضي: هي تحقيق العلم والعمل.

وقول صاحب الكشاف: هي العلم والعمل به والحكيم عند الله هو العالم العامل وقول المازري:

هي العلم النافع المصحوب بإنارة البصيرة وتهذيب النفس.

وقول ابن دريد: هي كل ما يؤدي إلى مكرمة ويمنع من قبيح.

وقال شيخ العارفين بهاء الملة والدين: هي ما يتضمن صلاح النشأتين أو صلاح النشأة الأخرى من العلوم والمعارف وأما ما تضمن صلاح الحال في الدنيا فقط فليس من الحكمة في شئ.

وقال مالك: الحكمة في الفقه في الدين (1) وهذان التعريفان لا يصدقان على الحكمة العملية كما لا يصدق تعريف من قال: هي الإصابة في القول ومن قال: هي طاعة الله تعالى على الحكمة النظرية.

(من يشاء) مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وللدلالة على تعظيمه في أول الأمر (ومن يؤت الحكمة) بفتح التاء في القراءة المشهورة على البناء للمفعول لأن المقصود بيان حال المفعولين بخلاف الأول لأن المقصود هنا تعلق الفعل بالفاعل أيضا ليتبين أن الحكمة فضيلة إلهية وموهبة ربانية للنفوس المستعدة لها ولا تحصل بمجرد الاكتساب وإن كان للاكتساب مدخل فيها (فقد أوتى خيرا كثيرا) التنكير للتعظيم والتكثير جميعا والوصف بالكثرة للمبالغة والتأكيد وكثرته باعتبار اشتماله على خير الدنيا والآخرة، وفيه دلالة على كمال العلم وعلو منزلته وعموم فوائده.

لا يقال هذا ينافي قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) لأن قلته بالإضافة إلى علم الواجب لا ينافي كثرته بالنظر إلى ذاته ومدة بقائه وبقاء السعادة اللازمة له (وما يذكر) أي وما يعلم الحكمة التي أعطاها للنفوس القابلة ولا يعرف قدر تلك النعمة، أو وما يتفكر في القرآن وما فيه من حقايق العلوم ودقايقها (إلا أولو الألباب) أي ذوو العقول الكاملة المائلة عن الدنيا وزهراتها، الآمنة من مكايد النفس ومتمنياتها، وقد نقل في هذا الكتاب عن الرضا (عليه السلام) في فضل الإمام وصفاته في حديث طويل: «إن الأنبياء (عليهم السلام) يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم

ص: 136


1- 1 - بعض مسائل الفقه يتضمن صلاح الحال في الدنيا فقط وروعي فيه المصالح الدنيوية كالقضاء بالشاهد واليمين فإنه لا يحرم حلال الله ولا يحلل حرامه بل المصلحة فيه قطع التنازع ومثله التمسك بأصالة الصحة والسلامة وعدم الغفلة في العقود والمعاوضات والأنكحة فإنه لا يغير الاحكام فإذا أوقع البيع والنكاح غافلا عن معناهما أو سهوا ونسيانا لم يحل به شئ واقعا ويحكم بصحة المعاملة ظاهرا، ومنه الحدود والتعزيرات للمصالح الدنيوية ولذلك إذا أسر المعصية لم يكن عليه حد وكذلك الصلاة وأنواع العبادات، فان الفقيه يحكم بصحتها ونظره إلى اسقاط القضاء وهو أمر دنيوي والمتكلم نظره إلى ترتب الثواب عليه وهو أمر أخروي وهكذا وبين ذلك الغزالي في الاحياء أتم بيان «ش».

أهل زمانهم ثم قرأ هذه الآية (1) وقال: (والراسخون في العلم) رسخ الشئ رسوخا ثبت كل ثابت راسخ ومنه الراسخون في العلم أي الذين ثبتوا فيه واستقروا بحيث لا يؤزهم شئ من مكايد الشيطان ومتمنيات النفوس وزهرات الدنيا على الخروج عن سبيل الحق بوجه من الوجوه (يقولون آمنا به) أي بالكتاب الذي منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات أو بالمتشابه وهو كلام يحتمل وجوها متعددة لا يتضح المقصود منه لإجمال أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص الشديد والنظر الدقيق.

والمحكم كلام لا يحتمل إلا وجها واحدا (كل من عند ربنا) أي كل واحد من المحكم والمتشابه نزل من عند ربنا وهذا كالتأكيد للسابق فلذا فصل عنه (وما يذكر إلا أولو الألباب) أي وما يعلم المتشابه إلا الكاملون في العقول وهم الراسخون في العلم أو وما يعلم الراسخين في العلم وهم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) وما يذكر أحوالهم إلا اولو الألباب الذين هم شيعتهم.

روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» (2) وروى عبد الله بن بكير عنه (عليه السلام) قال: «الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة» (عليهم السلام) (3) وروى بريد بن معاوية عن أحدهما (عليهما السلام) «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم قد علمه الله جميع ما أنزله عليه من التنزيل والتأويل وما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله وأوصياؤء من بعده يعلمونه كله الحديث (4)» روى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله الله تعالى (هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) (5) قال أبو جعفر (عليه السلام) (إنما نحن الذين يعلمون والذين لا يعلمون عدونا وشيعتنا أولو الألباب).

وقال (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات) أي لعلامات ظاهرة وأدلة واضحة على وجود الصانع ووحدته وقدرته وحكمته وتدبيره (لاولى الألباب) أي لذوي العقول الثاقبة والبصاير النافذة لأنهم لصفاء ضمايرهم ونور بصايرهم هم القادرون على التفكر في خلق السماوات وما فيها من الثوابت والسيارات وحركاتها شرقا وغربا جنوبا وشمالا إجتماعا وافتراقا إلى غير ذلك من أحوال السماء والسماويات وما يترتب عليها من المنافع والمصالح، وفي خلق الأرض وما فيها وما عليها من أنواع المعادن والنباتان والحيوانات ومنافعها وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما وتفاوتهما في الزيادة والنقصان وفوايدها وعلى الاستدلال بهذه الأمور وأمثالها مما لا يحصى على أن

ص: 137


1- 2 - الكافي كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته تحت رقم 1.
2- 1 - (1 و 2 و 3) الكافي كتاب الحجة باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام.
3- 2 -
4- 3 -
5- 4 - رواه البرقي في المحاسن ص 169، وسيأتي في كتاب الحجة باب من وصفه الله بالعلم.

لها صانعا لطيفا عليما خبيرا حكيما قادرا موجدا لها بمجرد إرادته ومشيته بلا مشاركة ولا معاونة وأما غيرهم ممن ضعف ضمائرهم وعمت بصايرهم فهم إنما ينظرون إليها نظر البهائم ويدركون منها ما يدركه المعلوفة والسوائم، ذاهلين عما فيها من عجائب الفطر ولطائف التقدير وغرائب الصنع وبديع التدبير. قال القاضي ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، والتغير إما أن يكون في ذات الشئ كتغير الليل والنهار، أو في جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو في الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، وقال بعض أهل الإشارة: وخلق السماوات (1) إشارة إلى خلق الأرواح وأطوارها العالية وخلق الأرض إشارة إلى خلق النفوس البشرية وقرارها وتسفلها في مراكز الأبدان، واختلاف الليل والنهار إشارة إلى اختلاف ظلمة النفوس البشرية والأنوار الروحانية فإن هذه الأمور أدلة واضحة على وجود الصانع لاولى الألباب، وهم الذين عبروا بقدم الذكر والفكر عن قشر الوجود الظلماني الفاني إلى لب الوجود الروحاني الباقي فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم إلها قيوما قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما حكيما له الأسماء الحسنى والصفات العليا وقال: (أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) لما ضرب الله سبحانه مثلا للذين استجابوا لربهم استجابة حسنة وهم المؤمنون العالمون العاملون والذين لم يستجيبوا له وهم الكافرون والجاهلون تارة بالماء وزبده وهو وضره ودرنه، وتارة بالفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وزبدها وهو خبثها ورديها.

وأوضح الفرق بين الفريقين بأن الأول بمنزلة الماء والفلزات الخالصة التي تبقى في الأرض وينتفع بها انتفاعا عظيما والثاني بمنزلة زبدها ودرنها يرمى به الماء والفلزات المذابة الخالصة أنكر على من زعم التساوي بينهما بعد ضرب المثل والايضاح وبين أنه لا مساواة بين من يعلم أن ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن وما اشتمل عليه من التوحيد وصفات الواجب والأحكام وأحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب والأمثال وغيرها حق وصدق ويذعن به إذعانا جازما ثابتا، وبين من هو أعمى القلب فاقد البصيرة لا يهتدي إلى الحق منكرا له أو جاهلا به بل بينهما مباينة تامة وبعد مفرط كبعد ما بين الماء والزبد والفلزات الخالصة وأخبائها (إنما يتذكر) أي ما يعلم ذلك أولا يتفكر فيه إلا (اولو الألباب) وأما الكفرة والجهلة الفاقدون للبصاير الذهنية والأنوار العقلية والسالكون سبيل الغي والضلالة فهم بمنزلة البهائم، بل هم أضل فطمع التذكر والتفكر منهم في المطالب العالية كطمعه من البهائم.

وقال (أمن هو قانت) أي قائم بوظايف الطاعات من القنوت وهي الطاعة والدعاء والقيام في قوله (عليه السلام): «أفضل الصلاة طول القنوت» (2) والمشهور الدعاء وقولهم دعاء القنوت إضافة بيان كذا في

ص: 138


1- 1 - السماء قد يطلق على العالم الروحاني والمجردات في القرآن والاخبار كما هو ظاهر للمتتبع (ش).
2- 2 - رواه احمد ج 3 ص 302، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة.

المغرب، وقال الجوهري: «القنوت الطاعة هذا هو الأصل; ومنه قوله تعالى (والقانتين والقانتات) ثم سمي القيام في الصلاة قنوتا وفي الحديث «أفضل الصلاة طول القنوت» ومنه قنوت الوتر.

وقال ابن الأثير في النهاية: «قد تكرر ذكر القنوت في الحديث ويرد بمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام والسكون فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه» قرأ حمزة (أمن) بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت كمن هو ليس بقانت، والمقصود نفي المساواة بينهما وإثبات الفضل للأول، وقرأ الباقون بتشديد الميم أصله أم من أدغمت الميم في الميم (أم) متصلة معطوفة على محذوف دخل عليه حرف الاستفهام تقديره أتارك القنوت خير أمن هو قانت مثل قولك أزيد أفضل أم عمر وأم منقطعة بمعنى بل والمعنى بل أمن هو قانت كمن ليس كذلك قيل: فيه دلالة على أن العمل الذي يتصف بسببه الإنسان بالكمال هو ما كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما عليه من الطاعات فما لا مواظبة فيه من الأعمال ليس فيه كثير فائدة (آناء الليل) أي ساعاته خصها بالذكر مع أن العبادة في كل وقت فضيلة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، ويتميز بها عن غيره، لوجوه:

أولها: أن القلب في الليل فارغ عن المحسوسات المانعة عن السير إلى الله سبحانه، فيتوجه إلى ذكره مشاهدا له ولصفاته الذاتية والفعلية، وكمال قدرته وغلبته على جميع الممكنات فيحصل له بذلك خوف وخشية بحيث لا يغفل عنه طرفة عين وهذه الحالة أفضل الحالات الواقعة والطاعة فيها أفضل الطاعات لأن التفاوت في مراتب الطاعات بحسب تفاوت مراتب القلب في القرب والبعد.

وثانيها: أن الليل وقت النوم والاستراحة فيكون القيام أشق فيكون الطاعة فيه أفضل وقد دل على هذين الوجهين قوله تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا).

وثالثها: أن القيام في الليل لكونه أقرب من الخلوص وأبعد من الرياء أفضل من القيام في النهار.

ورابعها: أن النهوض في الليل للعبادة لما كان غير مدافع بطلب المعاش ونحوه كان أكمل من النهوض في النهار وأفضل. (ساجدا وقائما) حالان من فاعل «قانت» ونقل أيضا قراءتهما بالرفع والخبرية وتعدد الخبر بدون العطف جائز والواو للجمع بين الصفتين، وتقديم السجود على القيام للاهتمام به لأن السجود أرفع منازل العارفين وأعلى معارج العابدين كما نطق به الأخبار عن الأئمة الطاهرين (يحذر الآخرة) أي عذابها (ويرجو رحمة ربه) استيناف للتعليل كأنه قيل ما سبب قنوته وسجوده وقيامه؟ فأجيب ببيان سببها أو في موضع النصب على الحال ولابد من نكتة في إيراد بعض الأحوال مفردا وبعضها جملة فعلية ولعل النكتة فيه هو التنبيه على اعتبار استمرار الحذر والرجاء ووجود كل واحد منهما في زمان وجود الأخرى بخلاف السجود والقيام.

ص: 139

وإنما أثر الحذر على الخوف مع أن الخوف في مقابل الرجاء على ما هو المتعارف لأن الحذر أبلغ من الخوف لأنه خوف مع الاحتراز عن المعاصي وإنما أضاف الحذر إلى الآخرة لا إلى عذابه وأضاف الرجا إلى رحمته للتنبيه على أن الرجاء أفضل وبحضرة الربوبية أليق ولذلك أيضا أضاف الرحمة إلى الرب والرب إلى الضمير مع ما فيه من الدلالة على الاستعطاف والاختصاص ورجحان الرحمة على العذاب (قل هل يستوي الذين يعلمون) وهم القانتون الموصوفون بالصفات المحمودة المذكورة (والذين لا يعلمون) وهم التاركون للقنوت، وهذه الآية على هذا التفسير بيان للسابق وإشارة إلى أن منشأ تلك الصفات هو العلم ومنشأ عدمها هو الجهل وتنبيه على شرف العلم والفضيلة وفضل العلماء على الجهال ونفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية كما أنا السابق نفي لاستوائهما باعتبار القوة العملية للاشعار بأن الحقيقة الإنسانية إنما تتسم بالنباهة والجلال وتتصف بالفضيلة والكمال باعتبار العلم والعمل فمن لم يتصف بهما ليس له من وصف الإنسانية إلا اسم ولا من حقيقتها إلا اسم، وإنما أخر العلم عن العمل مع أن العمل تابع له، متوقف عليه للتنبيه على أن العمل هو الغرض الأصلي من العلم حتى أن العالم إذا لم يعمل بعلمه كانت الحجية عليه أعظم والحسرة عليه أدوم، أو للدلالة باختلاف الآثار الظاهرة أعني العبادة وعدمها على اختلاف مباديها الباطنة أعني العلم والجهل فكان من قبيل اثبات معقول بمحسوس، وقيل: وجه الترتيب بين الأوصاف المذكورة أن الإنسان عند قيامه بوظايف الطاعات ومواظبته عليها ينكشف له في أول الامر مقام القهر المقتضى للخوف والحذر ثم ينكشف له بعده مقام الرحمة الباعث للرجاء ثم يحصل له بعده أنواع العلوم والمكاشفات فالعلم على هذا تابع للأوصاف المتقدمة ولذلك أخره عنها (إنما يتذكر أولو الألباب) يعني أن هذا التفاوت العظيم بين العالم والجاهل وبين القانت وغيره لا يعرفه إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن غواشي الأوهام لأنهم القادرون على التمييز بين الحق والباطل بما لهم من بصيرة عقلية وقوة روحانية دون غيرهم ممن كان على بصائر عقولهم غشاوة وفي صفحات قلوبهم قساوة وقد روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: (نحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا اولو الألباب) (1) وعن الصادق (عليه السلام) «أن الآية نزلت في وصف علي (عليه السلام) وذم أبي الفصيل» (2) يعني أن عليا (عليه السلام) لكونه قانتا بالأوصاف المذكورة وعالما بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله ليس مثله، وهو لا يقنت ولا يعلم ذلك ويقول باطنا أنه ساحر كذاب وما نقلناه معنى الحديث والحديث المذكور في كتاب الروضة قبل حديث الصيحة.

وقال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك) مبارك بالرفع على القراءة المشهورة صفة للكتاب أو خبر بعد

ص: 140


1- 1 - رواه البرقي في المحاسن كما تقدم.
2- 2 - روضة الكافي تحت رقم 246.

خبر، وبالنصب على الحالية في بعض القراءة ومعناه نفاع من البركة وهي في الأصل الزيادة والنمو (ليدبروا آياته) فيعرفوا ما فيه من الشرايع والأحكام والمواعظ والنصائح والعبر التي بها يتم نظامهم في الدارين ويصلح حالهم في النشأتين (وليتذكر اولو الألباب) أي وليعلم ما فيه من الأسرار الإلهية الربانية التي لا يهتدي إليها إلا ذوو العقول الكاملة والأذهان الثاقبة وهم أهل العصمة (عليهم السلام) فإن علوم الكتاب بعضها ظاهر سهل المأخذ يعرفه أكثر العلماء بالتدبر والتأمل فيه، وبعضها خفي لا يصل إليه إلا اولو الألباب وذوو العقول الكاملة العارية عن شوايب النقصان، وقيل:

الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا بالشرع وإرشاد إلى ما يستقل به العقل والتدبر للأول والتذكر للثاني، وقيل: الكتاب مشتمل على أسرار عظيمة ومعارف لطيفة وفائدة إنزاله أن يتدبر المتدبرون ويتفكر المتفكرون آياته، والغرض الأصلي من التدبر والتفكر وهو النظر والتأمل أن يحصل لهم الذكر أي المعرفة اليقينية بتلك الأسرار والمعارف، والتدبر لا يستلزم التفكر إذ رب متفكر لا ينتهي بفكره إلى المطلوب فالتدبر غير مختص باولي الألباب، بل يعمهم وغيرهم بخلاف التذكر فإنه مختص بهم، فقد ثبت أن غاية إنزاله ليس إلا التذكر المختص باولى الألباب، وهذا غاية المدح والتعظيم لهم، وفيه أن ظاهر العطف يقتضي أن كلا من التدبر والتذكر غاية مستقلة لانزاله (قال: (ولقد أتينا موسى الهدى) أي الدلالة على الدين أو ما يهتدي به إليه من المعجزات والصحف والشرايع (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) أي التوراة يعني تركناه بعده عليهم يتوارثونه ويأخذونه بعضهم من بعض ويحملونه ويحفظون ألفاظه ومدلولاته اللفظية ومعانيه الأولية وأحكامه الظاهرية (هدى وذكرى) مفعول له لقوله أورثنا أو حال عن فاعله أو عن الكتاب أي أورثناه لأجل الهداية والتذكير أو هاديا ومذكرا (لاولى الألباب) أي لذوي العقول الصحيحة السليمة وهم الراسخون في العلم العارفون بالله وصفاته وأفعاله العالمون بأحوال المبدء والمعاد المشاهدون لها بعيون البصائر المهذبون لأخلاقهم الظاهرة والباطنة: وملخصه: أن غير اولى الألباب من أهل الكتاب بمنزلة الخدمة لهم يحفظون الكتاب لئلا يندرس بطول الأزمنة فيبقي محفوظا لهؤلاء الكاملين في العقول وهم أوصياء موسى (عليه السلام) وعلماء امته فهم الممدوحون غاية المدح والتعظيم المقصودون من الثناء والتكريم، وفيه تنبيه على أن سبحانه أورث القرآن في هذه الامة بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) هدى وذكرى لأولي الألباب وهم العلماء الراسخون من امته الأوصياء المرضيون من عترته لا يفارقهم القرآن ولا يفارقونه حتى يردوا عليه يوم القيامة كما قال (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ألا وهما الخليفتان من بعدي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (1).

ص: 141


1- 1 - أما من طريق العامة أخرجه مسلم ج 7 ص 122 والدارمي ح 2 ص 432 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 109 وخصائص النسائي ص 30 ومسند أحمد ج 3 ص 14 و 17 و 26 و 59 و ج 4 ص 356 و 381 بألفاظ مختلفة وأما من طريق الخاصة فمروي بطرق متعددة.

وقال (وذكر) لما أمر الله سبحانه نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) بالتولي والاعراض عن مجادلة المشركين المنكرين لنبوته المصرين على إنكار دعوته إلى ما فيه صلاحهم في الدارين وبين أنه ليس بملوم على ذلك الاعراض لبذل جهده في التبليغ بقوله «فتول عنهم فما أنت بملوم» وأمره ثانيا بالتذكير والتعليم تسلية وبشارة له بقوله «ذكر» يعني لا تدع التذكير والموعظة الحسنة (فان الذكرى تنفع المؤمنين) أي الذين يؤمنون بك ممن هو في أصلاب الآباء وأرحام الامهات إلى يوم القيامة، أو الذين آمنوا بك فإنها تنفعهم وتزيد بصيرتهم وتحبي أرواحهم وتنور قلوبهم وتصقل إذهانهم كما أن المطر في الأراضي القابلة توجب حيوتها، وفي ذكر هذه الآية في مقام مدح أولي الألباب إشارة أنهم هم المؤمنون بالايمان الحقيقي وهذا غاية المدح والتعظيم لهم.

(يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه: إن في ذلك) أي فيما ذكر من خلق السماء وبنائها بلا عمد وتزيينها بالكواكب ومد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها وإنبات أنواع النباتات الحسنة البهيجة وتنزيل الأمطار وإنبات الزروع والأشجار والجنات الرائقات والنخيل الباسقات وإحياء البلاد وإهلاك بعض القرون السابقة بسبب تكذيب رسلهم مثل قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع إلى غير ذلك من الأمور المذكورة في سورة ق (لذكرى) أي لتذكرة (لمن كان له قلب) أي عقل وإطلاق القلب على العقل شايع لغة وعرفا وبذلك فسره القراء أيضا في هذه الآية ومن قال: قلب واع يتفكر في الحقايق.

أراد به ما قلنا لأن التفكر من صفات العقل (1) دون العضو المخصوص المتشكل بشكل مخصوص صنوبري لأن ذلك موجود في الصبيان والمجانين مع عدم تحقق التذكر لهم وفيه دلالة واضحة على أن غاية إيجاد هذه العالم وإنزال المواعظ الربانية والنصايح القرآنية ليست إلا أصحاب العقول الراسخة وهذا كمال المدح والتعظيم لهم.

وقال (ولقد آتينا لقمان الحكمة قال الفهم والعقل) الفهم العلم تقول: فهمت الشئ إذا علمته والعقل الجوهر المجرد (2) الذي يدرك المعاني الكلية والحقايق المعنوية من عقل البعير عقلا إذا شد

ص: 142


1- 1 - قال الحكماء القوة المتخيلة أو المتصرفة ان كان تصرفهما بتدبير العقل سميت مفكرة وان كان بتدبير الوهم سميت متخيلة فالتفكر وان كان قوة من القوى الجسمانية لكن لا يكون تفكرا إلا بالعقل (ش).
2- 2 - العقل: الجوهر المجرد هو الذي يقول به الحكماء والشارح قائل به كما صرح مرارا واما ما يفهم من بعض عباراته من عدم الدليل على وجود العقل الذي يقول به الحكماء فالمراد به بعض ما يلتزم به المشاؤن من كون عدد العقول عشرة وان كل عقل صدر منه فلك عقل وما يتوهمه الجاهل من تفويض الواجب فعله وقدرته إلى العقل وغير ذلك (ش).

بالعقال سمي به لأنه يمنع صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي مثل العقال وإطلاق الحكمة عليهما إن كانت عبارة عما يمنع من الجهل كما صرح به في المغرب أو ما يمنع من قبيح ويؤدي إلى مكرمة كما صرح به أبن دريد ظاهر لأنهما يمنعان صاحبهما عن الجهل والقبيح وإطلاقها على الفهم إن كانت عبارة عن العلم مطلقا كما صرح به بعض أرباب اللغة أو عن العلم بالدين كما صرح به بعض العلماء أو عن معرفة حقائق الأشياء وأحوالها والتخلق بالأخلاق الحسنة على قدر الطاقة البشرية كما هو المعروف أيضا ظاهر وعلى العقل يعني العقل بالفعل من قبيل إطلاق الحال على المحل أو إطلاق الأثر على المبدء والمؤثر أو على اعتبار اتحاد بين العقل والمعقول (1) وقال القاضي: هو ابن أخت أيوب أو خالته وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه، وقال بعض الأفاضل ناقلا عن كتاب عين المعاني: إنه تولد في عشر سنين من سلطنة داود (عليه السلام) وعاش إلى أن أدرك يوسف (عليه السلام) وقيل:

إنه عاش ألف سنة، واختلف في نبوته فأكثر العلماء على أنه لم يكن نبيا، وقيل: كان حبشيا أسود اللون غليظ الشفتين وقيل: ذكر السجاوندي نقلا عن أهل السير أنه كان في بيته وقت القيلولة إذ دخل جمع من الملائكة وسلموا عليه فأجابهم ولا يرى أشخاصهم، فقالوا: يا لقمان نحن ملائكة الله نزلنا إليك لنجعلك خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق قال إن كان هذا أمرا حتميا فالسمع والطاعة وأرجو منه أن بوفقني ويسددني وإن جعلني مخيرا فإني أريد العافية لا التعرض للفتنة فاستحسنه الملائكة وأحبه الله وزاده في الحكمة والمعرفة (2) ومن حكمته أنه صحب داود شهورا وكان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، وقال: الصمت حكمة وقليل فاعله وإن داود قال له يوما: كيف أصبحت

ص: 143


1- 1 - يعني اطلاق الحكمة على العقل لا يخلو عن تجوز بوجه، لأن الحكمة هي المعقولات واما العقل فهو آلة درك الحكمة لا نفس الحكمة إلا أن يقال باتحاد العاقل والمعقول فيصح حقيقة فإن المعقولات نفس العقل حينئذ والاتحاد مذهب صدر المتألهين قدس سره والشارح يرتضى آرائه غالبا ويختارها في هذا الشرح ويعرض عما يحتاج اثباته إلى دفع المناقشات وتزييف الاعتراضات. (ش)
2- 2 - هذا صريح في ان الحكمة التي أوتيها لقمان لم يكن من النبوة ولا علوم الشريعة المبنية على التعبد بالمنقول فإنها لا تختص برجل دون رجل بل كل أحد يستاهل أن يؤتيه الله علم الشريعة المنقولة بالسماع والحفظ وفي سورة لقمان حجة قاطعة على من ينفر عن النظر والحجة والأدلة العقلية وعلم الكلام والحكمة وأمثالهما وربما يتعسف متعسف ويأول الحكمة الممدوحة في القرآن بعلم الشريعة نقلا وقد ذكرنا في حواشي منهج الصادقين أن مجلة لقمان الحاوية لبعض حكمه كانت معروفة عند العرب وكانت عند سويد بن صامت نسخة منها أراها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: عندي أحسن منه وقرأ عليه أشياء من القرآن. وقلنا هناك أيضا ان لقمان في رواية كان مصريا ونقل الطنطاوي أسامي جماعة من حكماء مصر القدماء كشفوا أسماءهم وصحفهم في هذه العصور واحدهم اسمه قاقمه والله أعلم «ش».

فقال: أصبحت في يدي غيري مرتهنا بعملي، وأنه أمره بذبح شاة وأن يأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان والقلب ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب شئ إذا طابا وأخبث شئ إذا خبثا.

* الأصل:

اشارة

«يا هشام إن لقمان قال: لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس وإن الكيس لدى الحق يسير، يا بني إن الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الايمان وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر يا هشام إن لكل شئ دليلا ودليل العقل الفكر، ودليل التفكر الصمت، ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول.

يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك. يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله، وكان الله انسه في الوحشة و صاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة. يا هشام نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم. يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض. يا هشام إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة

ص: 144

ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة فطلب بالمشقة أبقاهما يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته. يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين، فليتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.

* الشرح:

(يا هشام إن لقمان قالا لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس) التواضع التذلل من الوضع وهو خلاف الرفع ويحصل ذلك بالاجتناب عن التكبر والافتخار وسائر المنهيات والآتيان بالأوامر والمصالح وسائر الخيرات والتمسك بحول الله وقوته في الحركات والسكنات ولا ريب في أن هذه خصلة عظيمة دلت على أن صاحبها من أعقل الناس لأن العقل هو الداعي إليها ويمكن أن يكون المراد أن تواضعك سبب لصيرورتك من أعقل الناس، ويؤيده ظاهر الشرط المقدر وتوجيه ذلك أن العقل من أفضل النعماء وشكرها التواضع وشكر النعمة يجلب الزيادة كما قال سبحانه (ولئن شكرتم لأزيدنكم) فالتواضع سبب لازدياد العقل وكماله (وإن الكيس لدى الحق يسير) الكيس - بفتح الكاف وتشديد الياء مع كسرها - من دان نفسه وعمل لما بعد الموت أي العاقل الذكي المتأني في الأمور وحسن عاقبتها، وقد كأس يكيس كيسا وكياسة يعني أن العاقل الذي يعمل بمقتضى عقله ويطلب ثواب الله ورضاه بتسديد قوتي العلم والعمل عند الحق قليل لظهور أن أكثر الناس تابع للنفس وهواها مشتغل بلذات الدنيا ومقتضاها كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع عديدة والسنة النبوية في مواطن كثيرة، وهذا الحكم وإن كان ظاهرا لكن لما كان خلافه أولى صار بهذا الاعتبار محلا للانكار، فلذا أكده، ثم لا يبعد أن يكون الغرض من هذه الأخبار هو التنبيه على أن الاعتزال عن أكثر الناس أولى وأهم والفرار عنهم أحرى وأسلم، ويحتمل أن يكون الكيس - بفتح الكاف وسكون الياء - وهو العقل والذكاء وحسن التأني في الأمور.

واليسير أيضا بمعنى القليل يعني أن عقل الرجل وذكاء وحسن تأنيه وتدبره عند ظهور الحق وموافاته قليل كما هو المشاهد في أكثر الناس والمعلوم بالنظر إلى أحوالهم.

قيل: اليسير ضد العسير ومعناه أن كياسة الإنسان وهي عقله وفطانته سهل هين عند الحق لاقدر له وإنما الذي له قدر عند الله تعالى هو التواضع والمسكنة والخضوع والعجز والافتقار، فكل علم وكمال لا

ص: 145

يؤدي بصاحبه إلى مزيد فقر وحاجة إليه سبحانه يصير وبالا عليه وكان الجهل والنقيصة أولى به ولذلك قيل غاية مجهود العابدين تصحيح جهة الامكان والفقر إليه تعالى فكل عالم كيس [زعم] أن له وجودا وكمالا غير ما هو رشح من رشحات بحر وجوده وتفضله (1) فهو في غطاء شديد وحجاب عظيم عن درك الحقيقة.

(يا بني إن الدنيا بحر عميق) هذا تشبيه بليغ بحذف الأداة وحمل المشبه به على المشبه للمبالغة في الاتحاد ووجه التشبيه تغيرها وانقلابها واضرابها وعدم ثبات ما فيها من صور الكائنات كتغير البحر وانقلابه واضطرابه بالأمواج المتعاقبة أو إهلاك من دخل فيها وركن إليها ومشى عليها بقدم الضلالة والطغيان وأخذها بيد الجهالة والعصيان وهذا الوجه أظهر ولما كان وجوده في الأصل ظاهرا محسوسا بخلاف وجوده في الفرع أوضحه بقوله (قد غرق) أي هلك (فيها عالم كثير) لانهماكهم في لذاتها وانغمارهم في زهراتها واشتغالهم بشواتها وإغماض بصيرتهم عن الآخرة وأحوالها وتركهم ما يوجب النجاة عن عقباتها والخلاص من عقوباتها وجعلهم قوله تعالى (ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) من وراء ظهورهم ورضائهم باللذات الحاضرة الهالكة والمنافع المغوية الباطلة بغرورهم فكأنهم لم يسمعوا قوله سبحانه (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) وإنما خص العالم بالذكر لأن هلاكه محل التعجب وأما الجاهل فلا اعتناء به لعدم اتصافه بالحقيقة الإنسانية واللطيفة الروحانية، أو لأن حكمه يعلم بالأولوية وفي الكلام استعارة تبعية لأنه شبه الهلاك بالغرق واشتق منه فعل فوقع التشبيه في المشتق بتبعية المصدر وهي تأكيد لتشبيه الدنيا بالبحر باعتبار أنه أثبت المشبه في المشتق بتبعية المصدر وهي تأكيد لتشبيه الدنيا بالبحر إيماء لطيف إلى أنه يجب لأهلها أن لا يقصدوا الإقامة فيها والركون إليها، بل يجب لهم أن يقصدوا المرور منها إلى ساحلها أعني دار الآخرة كما أن راكب البحر لا يقصد الإقامة فيه والركون إليه بل غرضه المرور إلى ساحله، ولما شبه الدنيا بالبحر وكان سائر البحر يحتاج إلى آلات للنجاة منه والوصول إلى الساحل سالما غانما كان السائر في الدنيا أيضا محتاجا في المرور منها والوصول إلى جناب الحق ونعيم الأبد إلى أمور للنجاة منها، وقد بين هذه الأمور وشبهها بتلك الآلات في كونها أسبابا للنجاة بقوله (فلتكن سفينتك فيها تقوى الله) وهي ملكة التجنب عن المعاصي والتنزه عما

ص: 146


1- 1 - حققه صدر المتألهين أكثر كتبه وعليه مبنى حكمته فوجود الممكن ليس وجودا في نفسه وبنفسه ولنفسه بل هو نظير المعنى الحرفي الذي لا استقلال له ولا يمكن أن يتصور وحده من غير ان يتصور معه اسم أو فعل وأصل الوجود وحقيقته هو الله تعالى وما سواه ليس بشئ ومن لم يعرف ذلك فلم يعرف شيئا على ما ذكره الشارح (ش).

يشغل السر عن الحق وإنما شبهها بالسفينة لأن من اتصف بالتقوى وجلس فيها يطفو الدنيا ويأمن من الرسوب فيها كما أن جالس السفينة يطفوا البحر ويأمن من الرسوب فيه.

(وحشوها الإيمان) بالله وبصفاته وأفعاله وبجميع ما أنزله إلى رسوله وإنما شبه الايمان بما في السفينة من المتاع وأنواع ما يتجر به لأنه حافظ للتقوى عن الانقلاب والاضطراب مثل ما في السفينة أو لأنه ينفع بعد الخروج من الدنيا، كما أن ما في السفينة ينفع جالسها بعد الخروج من البحر إذ لو خلت سفينة التقوى عن الايمان بقي صاحبها بعد خروجه من الدنيا فقيرا مضطرا متحيرا في أمره مستحقا للعذاب. وشراعها التوكل شراع السفينة بالفارسية بادبان كذا في المغرب والشين مكسورة، والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الله والوثوق به في جميع الأمور وتفويضها إليه وهو درجة عليه للعارفين ومنزلة رفيعة للسالكين، من وصل إليها بطلت عنه قيود الهموم، وتقشعت عنه سحائب الغموم، وارتفعت بواعث الاضطراب، وانقطعت عنه دواعي الاكتساب، وسبحت عليه مزن الأمن والايمان، وجلس على موائد الرحمة والرضوان وارتوى من حياض الفيوضات الربانية وشبع من موائد الكرامات الرحمانية وإنما شبهه بالشراع لأن سفينة التقوى المحشوة بالايمان لا تسير بدونه، إذ من لم يعتقد أن الأمور كلها يجري بأمر الله والأرزاق كلها بيد الله وأنه المتكفل لها يعتقد بأسبابها ويشتغل بتحصيل تلك الأسباب فيمنعه ذلك عن السير إلى المقامات العالية وطلب الوصول إليها بالطاعات ويضعف اعتقاده بالمبدء كما أن غير المتوكل من المسافرين في هذه الدنيا يشتغل بتحصيل الأسباب وينتظر وجود القوافل والرفيق حذرا عن عدم القوت وخوفا عن قاطع الطريق فيبقى مقيما في آونة من الزمان منتظرا في مدة لحصول الأسباب واجتماع الإخوان. (وقيمها العقل) العقل (1) جوهر قلبي قابل لمعرفة الصانع وما يتعلق به، أي معرفة الآخرة وما يتعلق بها، وهو مبدء التقوى وبه ضبطها وحفظها وسيرها ونقل صاحبها إلى ساحة حضرة القدس وقرب الحق فهو بمنزلة قيم السفينة وربانها (2) في إصلاحها وضبطها وحفظها من المفاسد والخلل الواردة عليها فكما أنه لو لم يكن للسفينة قيم لفسدت امورها وبطلت أوضاعها وتعطلت أحوالها بحيث لا تصلح لقطع البحر الزاخر ويصير أهلها مشرفا بالهلاك كذلك لو لم يكن للمتقى عقل ينهدم أساس تقواه إذ لم يتميز عنده الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، ومخاطرات الشيطان من إلهامات الرحمن. (ودليلها العلم) الدليل ما يهديك إلى شئ سمي العلم دليلا لأنه يدل العقل على الطريق المستقيم ويهديه إلى المنهج القويم كما أن دليل المسافرين يهديهم إلى سواء السبيل والكواكب دليل قيم

ص: 147


1- 1 - العقل عند العامة عرض من العوارض النفسانية وعند الحكماء جوهر مستقل وهو الذي اختاره الشارح وأمور الآخرة تدرك بالعقل كما أن المبدء أيضا يعرف به ولذلك لم يكلف الحيوان وان قوى حواسه المدركة للجسمانيات بمعرفة المبدء والمعاد (ش).
2- 2 - ربان - كرمان - من يجرى السفينة.

السفينة وبه يهتدي إلى الطريق بل النسبة بين العلم والعقل أكد من النسبة بين الكواكب والقيم إذ العقل لا ينفك عن العلم فأن نسبته كنسبة النور إلى السراج ونسبة الرؤية إلى البصر.

(وسكانها الصبر) السكان ذنب السفينة لأنها به تقوم وتسكن; والصبر في الأصل الحبس يقال:

صبرت نفسي على كذا أي حبستها ويطلق على حبسها على الطاعة بأن يربطها عليها ليلا ونهارا ويقدم عليها سرا وجهارا، وعلى المصيبة بأن لا يجزع ولا يشكو، وعلى الفاقة والمسكنة بأن يرضى بها ولا يسأل غير الله سبحانه أصلا، وعلى الغنى بأن لا يغتر به ولا يتكبر ويؤدي الحقوق المالية وعلى المجاهدات الطويلة والرياضات الشديدة بأن يقوم عليها طلبا للوصول إلى المقامات العالية وعلى الأمراض والبلايا بأن يرضى بها ولا يشكو لها وإنما شبهه بالسكان لأنه كما يتوقف سير السفينة وتقويمها وتسديدها وتسكينها وثباتها بالسكان يعرف ذلك ربانها وقيمها بعلمه وتدبيره كذلك يتوقف سير سفينة التقوى إلى حضرة القدس وقرب الحق في تقويمها وتسديدها وتسكينها وثباتها بالصبر على الأمور المذكور لظهور أن ارتقاء النفس من حد النقص إلى حد الكمال ومن المنازل البشرية إلى المنازل الإلهية لا يتحقق إلا بتحولات كثيرة (1) وانتقالات عديدة وانقلابات شديدة ومجاهدات عظيمة في مدة طويلة مع النفس المايلة إلى الراحة فيحتاج إلى صبر كامل وعزم ثابت ولذلك أمر الله سبحانه أشرف الكاملين الصديقين الراسخين بقوله (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) وتلك الأمور ستة ضرورية (2) النجاة من العقوبة الدنيوية والاخروية، والفوز بالسعادة الدايمة الأبدية.

(يا هشام إن لكل شئ) وهو يطلق على الموجودات أو على المعدومات أيضا عند المحققين (دليلا) وهو الموجودات عبارة عما يقتضي وجودها أو العلم بها من الأسباب والشرائط والآثار، وإنما سمي هذا دليلا لأن الأشياء بسببه تنتقل من العدم إلى الوجود كما أن المسافر بالدليل ينتقل من بلد إلى بلد، وأما المعدومات فدليلها (3) عدمي أعني عدم ما يقتضي وجودها فإنه سبب لنقل العدم من آن إلى آن آخر، ومن زمان إلى زمان آخر (ودليل العقل التفكر) في أبواب المعارف وأحوال المبدء والمعاد وما يتبعهما وإنما صار التفكر دليل العقل لأن العقل بسببه ينتقل من عالم الجهالة والسفالة الذي هو منزل الإدبار

ص: 148


1- 1 - تعبير قريب التناول قابل لفهم أكثر الناس عن الحركة الجوهرية التي حققها صدر المتألهين وهي أحد أركان حكمته (ش).
2- 2 - الستة الضرورية عند الأطباء هي الهواء والطعام الشامل للمشروب والنوم واليقظة والحركة والسكون والاستفراغ والاحتباس والاعراض النفسانية وهي ضرورات الحياة الجسدانية والتحول والانتقال والانقلاب والمجاهدة مع الصبر والعزم سنة ضرورية للحيوة العقلانية (ش).
3- 3 - الدليل سبب لانتقال الذهن إلى المدلول وبهذا الاعتبار يسمى دليلا والعدم الصرف لا يمكن ان يتصور فلا ينتقل إليه الذهن إذ التصور نحو من الوجود والعدم إذا تصور ودل عليه فله نحو من الوجود (ش).

والمسخ عند أصحاب القلوب النورانية إلى العلم الحقيقي والعالم العلوي فيستريح عن اللواحق الناسوتية ويتحلي بالفضايل اللاهوتية وهذا المعبر عنه بالإقبال كما في بعض الأحاديث (ودليل التفكر الصمت) أي السكوت عما لا يعني; لأن التفكر أعني حركة الروح النورانية القابلة للمطالب العالية من المبادي إلى تلك المطالب إذا أخذت في الاستدلال أو إدراكهما معا إذا كانت لها رتبة المكاشفة يتوقف على سد طرق الحواس ويحتاج إلى المنع من دخول الأغيار في القلب أما على الأول فلأن مشرب القلب على ذلك التقدير ضيق جدا فلا يرد فيه من لطايف المعاني إلا واحد بعد واحد، فإذن دخول الغير من طرق الحواس يمنع ورودها فيه قطعا، وأما على الثاني فلأن القلب لغاية صفائه ونهاية ضيائه يتأثر سريعا من أنفاس تلك الأغيار وأكدارها فلا ينطبع فيه صور هذه المطالب ومن جملة الحواس اللسان وهو أعظهما فإنه يتناول كل موجود ومعدوم ومعلوم وموهوم ويتعرض له بنفي وإثبات وهذه الحالة لا توجد في غيره فإن اليد لا تصل إلى غير الأجسام والأذن لا تصل إلى غير الأصوات وكذا القياس في البواقي فلذلك خص الصمت بالذكر تنبيها على اعتبار حال سائر الحواس أيضا فإذن الصمت مما يتوقف عليه التفكر وهو دليله في انتقاله من القوة إلى الفعل.

(ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع) المطية الدابة التي تمطو في سيرها أي تجد وتسرع والجمع المطايا والمطي والامطاء، وفي النهاية هي الناقة التي يركب مطاها.

أي ظهرها يعني لكل شئ في انتقاله من العدم إلى الوجود أو من القوة إلى الفعل أو من حالة أنقص وأدنى إلى حالة أرفع وأعلى سبب هو كالمطية له وسبب انتقال العقل من القوة الذاتية الفطرية إلى العقل بالفعل ومن عالم الغواشي الجسمانية إلى عالم المجردات (1) هو التواضع لله سبحانه والتذلل له عند الوقوف على معارفه والعكوف على نواهيه وأوامره فمن ورد في مكان المعارف والأحكام ولم يتواضع له تعالى فقد فقد مطيته للحركة إليه والنزول بين يديه فيبقي تائها متحيرا في ذلك المكان أو يرجع مدبرا بتطاول الأعادي وإغواء الشيطان.

وقيل تحقيق هذا الكلام: أن لكل شئ طبيعة متوجهة إلى غايتها وله مادة حاملة لقوتها واستعدادها نحو كمال هي بمنزلة الراحلة (2) له ومادة العقل هي النفس وكل مادة تستعد لكل صورة كماليه فإنما

ص: 149


1- 1 - أشار إلى ما حققه الحكماء من أن لنفس الإنسان أربع مراتب من العقل الهيولاني إلى العقل بالفعل ومن التجسم إلى التجرد وان النفس في هذه المرتبة مجردة (ش).
2- 2 - الممكن قسمان أحدهما ما يتغير عن حاله ويطلب كمالا آخر كالبذر يصير نباتا، والثاني مالا يتغير وجميع ما يمكن له من الكمال حاصل من أول خلقته والقسم الأول يحتاج إلى مادة بها يستعد لقبول الكمال كما ثبت في الحكمة والإنسان قابل للكمال فله مادة ومادته النفس الهيولانية وهي جسمانية إذا المراد به النفس المنطبعة لا النفس المجردة والنفس المنطبعة عقل بالقوة لا بالفعل. (ش)

تستعدها لكونها في نفسها خالية عن الفعلية والوجود الذي من جنسها وإلا لم تكن قابلة فكذلك النفس ما لم تصر موصوفة بصفة التواضع والفقر لم تصر مطية للعقل الذي هو الصورة الكمالية التي بها تصير الأشياء معقولة للانسان فليتأمل وفي صدر هذا الكلام استعارة مصرحة وفي آخره تشبيه بليغ (وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه) ارتكاب المنهي عنه من آثار الجهل وعلاماته وقد شبهه بالمركوب لأن الإنسان بسببه يتقلب في عالم اللذات الجسمية وينتقل إلى أسفل السافلين كما أنه بالتواضع لله وانقياد أحكامه والعمل بها يتقلب في عالم المجردات ويرتقى إلى أعلى عليين، ففي الكلام استعارة مصرحة وذكر الركوب ترشيح وقيل في بيان هذا الكلام أن جميع المناهي أمور محسوسة ولذات جسمانية واشتغال النفس بها يوجب تقيدها بالصور الجسمية فيحجب العقل عن إدراك الصور العقلية لأنها تضاد تلك الصور، وينبغي أن يعلم أن العقل إما مستقيم أو راجع أو مقيم والاستقامة بأن يسير إلى أعلى عليين ومركبه التواضع، والرجوع بأن يسير إلى أسفل السافلين ومركبه المناهي، والإقامة بأن يقف في هذا العالم ويشتغل بالمباحات، وهذا وإن كان مذموما من حيث أنه مفوت للمقصود ولكنه غير مذموم من حيث أنه لم يشتغل بالمناهي وغير ممدوح من حيث أنه لم يتصف بالتواضع فلذا لم يذكره (عليه السلام) واقتصر على الأولين لأن المدح والذم إنما يتعلقان بهما وينبغي أن يعلم أيضا أن الجهل عند العترة (عليهم السلام) هو ارتكاب المناهي وإن كان المرتكب لها عالما بل هو عندهم في الحقيقة أجهل والذم المتعلق به أشنع وأكمل فمن ادعى كونه عالما عاقلا واختار الدنيا وشهواتها وآثر الزهرات الفانية ولذاتها فهو مفتون بالضلالة وملتبس بلباس الجهالة.

(يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله) أي ليعرف العباد ويعلموا بتعليم الرسل وتفهيمهم من الله مالا يعلمون من عند أنفسهم أو ليؤدي الرسل عنه ما لزمه من هداية عباده وإرشادهم إلى دين الحق من عقلت عن فلان إذا أديت عنه ما لزمه (فأحسنهم استجابة) أي أحسن العباد أو أحسن الرسل استجابة لله تعالى بالطاعة والاجتهاد والصبر والانقياد وكذا ضمير الجمع في الفقرات الآتية يحتمل الأمرين إذ كما أن درجات العباد متفاوتة كذلك درجات الرسل كما نطقت به الآيات والروايات الكثيرة (أحسنهم معرفة) بالله وآياته وغيرها من مصالح الدنيا والآخرة، وذلك لأن حسن الاستجابة تابع لحسن المعرفة فكلما زاد حسن الأصل زاد حسن الفرع (وأعلمهم بأمر الله) يعني أحسنهم معرفة بأحكامه وشرايعه (أحسنهم عقلا) لأن حسن العلم والمعرفة تابع لحسن العقل (وأكملهم عقلا) يعني أحسنهم عقلا وإنما عبر عنه بذلك للتفنن وللتنبيه على أن حسن العقل بكماله في العلم بالموجودات والإحاطة بالمعقولات (أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة) لأن تفاوت الدرجات فيهما غاية أخيرة للأمور المذكورة وتفاوت الغاية في الكمال والنقصان باعتبار تفاوت ذي الغاية فيهما وهذا

ص: 150

الحديث على ما قررناه من باب القياس المفصول النتايج ينتج أن أحسنهم استجابة أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة (1) وفيه مدح عظيم للعقل حيث جعله أصلا لجميع الخيرات ومبدء للتفاضل في الدرجات كما يظهر ذلك بالتأمل الصادق لأنه جعل كمال الدرجات في الدنيا والآخرة الاستجابة كما يقتضيه مضمون النتيجة، وجعل كمال الاستجابة تابعا لكمال المعرفة وكمال المعرفة تابعا لكمال العقل فيفهم منه أن العقل أصل لجميع الكمالات ومبدء للتفاضل في الدرجات.

(يا هشام إن لله على الناس حجتين) أي دليلين (حجة ظاهرة) مشاهدة (وحجة باطنة) مستورة (فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول) لما خلق الله جل شأنه النفوس البشرية واسطة بين النجدين، مستعدة لسلوك الطريقين طريق الخير وطريق الشر.

قابلة للضدين من الصفات الشريفة والسمات الرذيلة مايلة إلى اكتساب الحسنات متشوقة اقتراف السيئات لما فيها من اللذة الحاضرة والمنفعة الظاهرة وأيدها بالقوى الشهوية والغضبية وغيرها من القوى الطبيعية الداعية إلى الشر الناهية عن الخير كانت النفوس لذلك ولما يوحى إليها إبليس وجنوده من الشر أقرب ومن الخير أبعد فالله سبحانه أخذ باعهم برحمته في تيه الضلالة بتبيين المنهج وتعيين الحجج، فجعل عليهم حجتين إحديهما ظاهرة والأخرى باطنة، أما الظاهرة فهم الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) لأنهم أنوار ساطعة في بلاده وبراهين ظاهرة في عباده يدعونهم إلى سبيل النجاة ويخرجونهم من غياهب الظلمات (2) ويحركونهم من حضيض النقص والوبال إلى أوج الفضل والكمال، فمن تبعهم فقد اهتدى ومن تخلف عنهم فقد غوى، وأما الباطنة فهي العقول لأن بها تميز الحق من الباطل والصواب من الخطاء والسعادة من الشقاوة، والحسن من القبيح والخير من الشر وتأمرهم في كل ذلك باتباع أشرف المناهج وأقوم السبل واستماع ما يتلو عليهم الأنبياء والرسل; ويحكم بأن في ذلك حسن عاقبتهم وسعادة خاتمتهم كل ذلك ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

(يا هشام إن العقل الذي لا يشغل) من شغل لامن أشغل فإنه لغة ردية والموصول خبر «ان» (الحلال) وهو كل ما يجوز التصرف فيه والانتفاع به شرعا وعقلا من الأموال والأزواج وغيرها (شكره) أي صرف اللسان في مدح المنعم والثناء عليه، وصرف جميع الجوارح فيما خلقن لأجله كصرف اللسان في الثناء والتعظيم وصرف البصر في مطالعة المصنوعات ليستدل به على وجود الصانع ووحدته وقدرته وحكمته وتدبيره وصرف القلب في التفكر في ذاته وصفاته ودقائق حكمته وآثار قدرته، وبالجملة العاقل من لا يمنعه كثرة نعم الله عليه ووفور أياديه لديه عن ذكر الله في جميع الأحوال والأزمان، وعن

ص: 151


1- 1 - والعاقل أكثر ثوابا في الآخرة كما يأتي ان شاء الله تعالى (ش).
2- 2 - الغيهب - كزيبق - الظلمة، الشديد السواد من الخيل والليل، جمعه غياهب.

الاقرار له بالعظمة والجود والاحسان، وعن التذلل له والتخشع لديه وجلب المزيد منه، والتضرع إليه كما قال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) (ولا يغلب الحرام) هو كل ما لا يجوز التصرف فيه شرعا أو عقلا (صبره) في الفاقة والجوع والشدايد، ولا يخرجه التمكن من اكتساب الحرام عن سنن الشرائع وأصول القواعد ولا يقطع عنان اصطباره شموس النفس وجموح (1) الطبيعة بل يقمع نفسه بالمواعظ الحسنة ومقامع النصيحة ويرجو في ذلك أجر الصابر الحزين ومحبة رب العالمين كما قال سبحانه (إن الله يحب الصابرين).

(يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله) كأنما أصله أن دخلت عليه كاف التشبيه وألحقت به «ما» الكافة فلذلك وقع بعده الفعل.

والهدم مصدر، هدم البناء أي نقضه وكسره، ففيه إستعارة تمثيلية لتشبيه الصورة المعقولة بالصورة المحسوسة لزيادة الايضاح والتقرير أو استعارة مكنية لتشبيه العقل بالبيت في أنه يكن صاحبه ويصونه من المكاره واستعارة تخييلية باثبات الهدم له، وإنما أدرج لفظ كأن وأعان ولم يقل: فقد هدم عقله للتنبيه على أن تسليط الثلاث على الثلاث إنما يوجب هدم المسلط عليه حقيقة إلا أن المسلط عليه لما كان من خصال العقل كما ستعرفه في التفصيل فكان هدم ذلك هدمه ويحتمل أن يكون كان ههنا مستعملا العلم بثبوت الخبر من غير قصد إلى التشبيه ويؤيده قوله في آخر التفصيل «ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه» (من أظلم نور تفكره) في أحوال المبدء والمعاد، والإضافة من باب لجين الماء، لأن التفكر يشبه النور في الايصال إلى المطلوب أو بتقدير اللام والمراد بالنور العلوم الحاصلة من التفكر (بطول أمله) فيما لا ينبغي من المقتنيات الفانية المورثة لنسيان الآخرة وخمود التفكر وهو معنى الاظلام وذلك لأن طول توقع الأمور المحبوبة الدنيوية يوجب دوام ملاحظتها الموجب لدوام إعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة وهو يوجب انمحاء ما تصور في العقل من تلك الأحوال وذلك معنى النسيان وخمود نور التفكر ولذلك قيل: الدنيا والآخرة ضرتان لأن محبة إحديهما (2) توجب الاضرار بالأخرى (ومحا طرايف حكمته) عن لوح العقل، قال بعض الحكماء: الحكمة شئ يجعله الله تعالى للقلب فينوره حتى يدرك به المشروعات والمحظورات ويعلم المعقولات والمستحيلات، كما أن البصر شئ يرى به

ص: 152


1- 1 - الشموس والجموح بضم الشين والجيم مصدران لهما بفتحهما وزان چموش وبمعناه.
2- 1 - ان التوجه إلى الأمور الدنيوية يوجب انمحاء ما تصور في العقل من أحوال الآخرة، فالدنيا ضرة للآخرة والضرتان امرأتان تحت زوج واحد إذا اقبل على إحديهما اعرض عن الأخرى، والعقل يناسب الآخرة والحس يناسب الدنيا فإن الأمور الأخروية لا تدرك هنا إلا بالعقل والحس خاص بادراك ما في الدنيا (ش).

المحسوسات، وسمى ذلك الشئ المنور للقلب حكمة تشبيها له بحكمة اللجام وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس في منع صاحبه من الخروج عن طريق الصواب.

والطرائف جمع طريف وهو كل شئ مستحدث يعجبك، والإضافة إما بيانية أو من باب جرد قطيفة أو لامية بأن يراد بالطرائف العلوم والادراكات النابعة لذلك النور (بفضول كلامه) الفضل الزيادة وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه حتى قيل: شعر فضول، وقيل: لمن يشتغل بما لا يعينه:

فضولي، والتكلم بما لا يعني سبب لمحو الحكمة وطرائفها لأن اللسان ينبوع القلب فإذا اعتاد المتكلم باللغو وتقاطر منه ذلك أفاض ذلك على القلب وهو يغسل الحكمة عنه ويمحوها.

ولأن مشرب القلب ضيق كلما دخل فيه شئ يخرج منه ضده ولو لم يخرجه بقي شئ مختلط من الحق والباطل وهذا ليس بحكمة كما أن قليلا من الماء إذا خالطه دم كثير لا يسمى هذا المختلط ماء، وأكثر الشبهات مبدؤها ذلك المختلط، وأيضا من أكثر الكلام في مجلس العوام يجد لنفسه في تأثير قلوبهم حلاوة ولذة فإذا دام على ذلك يميل طبعه الخسيس إلى كل كلام مزخرف يروجونه وإن كان باطلا ويتنفر عن كل كلام يستثقلونه وإن كان حكمة فيصرف همته إلى ما تحرك قلوبهم ليعظم منزلته عندهم فلا محالة ينمحي طرائف الحكمة عن قلبه لأن الذي يؤثر في قلوبهم ليس إلا ما فهموه وما فهموه ليس من الحكمة في شئ وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه العبرة هي ملاحظة أحوال الماضين والاتعاظ بما كانوا فيها من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة العشيرة والأولاد والافتخار بكثرة أسبابها ومقنياتها، ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت الذي هو هادم اللذات وكاسر الفقرات وبقاء الحسرة والندامة لهم حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة الإلهية; وكل من اتصف بالعبرة ومارسها حتى صارت ملكة يحصل في قلبه نور يهديه إلى الآخرة وما يوجب تعميرها من الأعمال الصالحة والصفات الفاضلة ومن تبع النفس الأمارة بالسوء وشهواتها ورتع في مرعى ضلالتها ولذاتها حصل في قلبه ظلمة شديدة وغشاوة عظيمة مانعة عن دخول نور الاعتبار ونور الاستبصار، ومن سلط هذه الخصال الثلاث التي بناء الهوى والجهل عليها أعني طول الأمل وفضول الكلام والشهوات النفسانية على الخصال التي بناء العقل عليها أعني نور التفكر وطرايف الحكمة ونور العبرة (فكأنما أعان هواه) وهو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى ما يقتضى طباعها من اللذات الدنيوية الغانية إلى حد الخروج من حدود الشريعة (على هدم عقله) وهو نور يسلك به الإنسان طريق الجنان وعبادة الرحمن فيصل إلى السعادة التامة الكبرى وهي مشاهدة الحضرة الربوبية ومجاورة الملاء الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وذلك لظهور أن أتباع النفس الأمارة بالسوء لميولها الطبيعية وسيرها في سبيل هواها واشتغالها باستيفاء مقتضاها أشد صدمة على العقل وأقوى ظلمة في طمس نوره، وأكمل جاذب له

ص: 153

عن طريق الحق، وأظهر ساد له عن قصد الكمالات والترقي في ملكوت السماوات كما نقل عن سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه (1)» (ومن أفسد عليه عقله أفسد عليه دينه ودنياه) أما إفساد الدين فلان استقامته إنما هي بادراك أحوال المبدء والمعاد والتصديق بها والعمل بما ينبغي أن يعمل والانزجار عما ينبغي أن يترك، والمدرك لهذه الأمور والدليل عليها والحاكم بحقيقتها إنما هو العقل فإذا فسد العقل فسد الدين وأما إفساد الدنيا مع أنه روي عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال: «وكل الرزق بالحمق، ووكل الحرمان بالعقل» (2) وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن العقل ما عبد الرحمن واكتسب به الجنان» (3) وأما الذي يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية بالمكر والحيل مثل ما في معاوية وأضرابه فتلك شيطنة ونكراء وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل، فوجهه أمران: الأول: أن الدنيا المعتبرة عند أهل البيت (عليهم السلام) هي التي تكون معبرة يعبر بها إلى الآخرة كما دل عليه قولهم: «الدنيا مزرعة الآخرة» (4) فالدنيا عندهم ما يهيىء به المؤمن أمر آخرته ويجعله وسيلة إلى تحصيل فوائدها وذريعة إلى تكميل عوائدها، وظاهر أن هذه الدنيا لا يمكن استقامتها ولا يتيسر استفادتها بدون العقل، إذ غير العاقل لا يأمن وقوعه في الشبهات ووروده على المحرمات واستقراره في المهلكات. الثاني: أن كثرة الرزق وحصول الدنيا وإن كان منوطا بالبطالة والحماقة ومربوطا بالسفاهة والجهالة لكن الأحمق لا يأمن وقوعه في أشنع المهالك وسلوكه في أقبح المسالك وتورطه في أعظم الشدائد والمكاره الموجبة لهلاكه وفساد دنياه كما يشهد به المشاهدة.

(يا هشام كيف يزكو) أي كيف يطهر عن أعراض الدنيا وشوائب النقصان أو كيف يزيد وينمو عند الله (عملك وقد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك) بالتسليط المذكور في الكلام المتقدم يعني لا يكون عملك طاهرا ومطهرا أو ناميا زاكيا عند الله تعالى وأنت على هذه الصفة لأنك إذا قمت بين يديه ولا يكون قلبك متوجها إليه بل يكون شاغلا عن أمر الله وفارغا عن ذكر الله وغافلا عن عظمة الله وتاركا لأحكام العقل ومقتضاها وتابعا للنفس الأمارة وهواها كنت تعبد بحسب الظاهر إلها وبحسب الحقيقة إلها آخر لأن أصل العبادة هو الطاعة والانقياد ولذلك جعل الله سبحانه اتباع الهوى والانقياد له عبادة فقال جل شأنه (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) وجعل طاعة الشيطان عبادة له فقال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وفي بعض الروايات «إن إطاعة أهل المعاصي

ص: 154


1- 1 - رواء الصدوق في الخصال أبواب الثلاثة.
2- 2 - رواه الكليني في كتاب الروضة تحت رقم 277 وزاد «ووكل البلاء بالصبر»
3- 3 - الكافي كتاب العقل والجهل تحت رقم 3.
4- 4 - أخرجه الديلمي في مسند الفردوس كما في كنوز الحقايق للشيخ عبد الرؤف المناوي تحت عنوان الدال.

عبادة لهم» (1) «وإن من أصغى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله وإن كان يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (2) وهذا هو الشرك الخفي عند العارفين ولئن نزلنا عن ذلك فلا شبهة في أنه يفوتك حينئذ حقيقة العبادة وروحها الذي به تصعد العبادة إلى الدرجة العليا والمرتبة العظمى من الشرف والقبول فلا يكون عبادتك مأمونة عن طرء البطلان ولا مصونة عن شوائب النقصان ولا قابلة للزيادة والنماء عند ما يأخذ العابد بواحدة عشرة أمثالها أو ما زاد في يوم الجزاء.

فلا بد لك أيها العاقل أن تقتل هواك بسيف عقلك وتوجه قلبك إلى أمر ربك وتعبده كأنك تراه، وهذه المرتبة مقام المشاهدة وفي أعلى منازل العابدين ولو لم يكن لك هذه المرتبة فلا أقل تعبده وفي قلبك أنه يراك وهذه المرتبة مقام المراقبة وهي أوسط منازل المقربين ومع ذلك تكون خايفا خاشعا متضرعا راجيا إلى رحمته لعلك تكون من المفلحين، وفي هذا الكلام دلالة واضحة على أن قبول الأعمال وصلاحها وكمالها وطهارتها ونموها إنما هو بالعقل الكامل المتأمل في عظمة الله وقدرته وسطوته وسلطنته وغلبته على جميع الممكنات، وأما الجاهل المغرور المطيع للنفس وهواها الغافل عن أوامر ربه ومقتضاها فهو عبد لئيم، وعمله ساقط هابط سقيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل) لأن الإنسان مدني بالطبع وله ميل إلى بني نوعه في التأليف والتودد والاستيناس بهم والمشاركة معهم في طلب المعاش وساير ما يحتاج إليه فإذا ترك ذلك كله لعلمه بأنه يوجب منقصة في دينه وضعفا في يقينه وآثر الوحدة على الكثرة ورجح الفرقة على الالفة للتحرز عن مشاركتهم في أفعالهم الشنيعة وأطوارهم الدنية علم أنه قوي في العقل والتدبير في أمور الآخرة لأن ذلك من آثار العقول الكاملة (فمن عقل عن الله) أي فمن عرف الله وعرف ذاته وصفاته وما يجوز له وما يمتنع عليه وأحكامه وشرايعه وأحوال الآخرة وشدة فاقة الناس وكثرة احتياجهم إليه يوم القيامة الذي يشتغل فيه الأبرار بأنفسهم فضلا عن الأشرار (اعتزل عن أهل الدنيا والراغبين فيها) وهم الذين يؤثرون الدنيا وزهراتها ويبذلون الجهد في اقتنائها وادخار ثمراتها كما هو المشاهد من أبناء الزمان الذين يجيبون دواعي النفس في منازل الطغيان ويقتفون آثارها ويسمعون وساوس إبليس في مراحل العصيان ويطأون أدبارها كما هو المعلوم من أرباب الفسوق والكفران، وفيه دلالة على شيئين أحدهما أن الاعتزال إنما للعاقل العالم بمعالم دينه وأما الجاهل فاللايق بحاله أن يخالط الناس ويشتغل

ص: 155


1- 1 - روى الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر باب الشرك تحت رقم 8 عن أبي عبد الله (عليه السلام) «من أطاع رجلا في معصية الله فقد عبده».
2- 2 - رواه الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول ص 456 عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) وفيه «إبليس» مكان «الشيطان» في الموضعين.

بطلب العلم فإن أمكنه في بلده وإلا فليطلبه في بلد آخر كما قيل: «اطلبوا العلم ولو بالصين» (1). الثاني: أن الاعتزال مطلوب عن أهل الدنيا وأهل العصيان لاعن أهل الآخرة، فإنهم أولياء الله وأنصاره في دينه، والتوصل بهم يوجب الاستنارة بنورهم والاستضاءة بضوئهم (ورغب فيما عند الله) من الخيرات والأنوار الإلهية والاشراقات العقلية والابتهاجات الذوقية والترقيات الروحية، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا بأس أن نشير إلى العزلة وأقسامها وشئ من فوائدها ومنافعها إذ ذكر جميع فوائدها متعذر لأنها ذوقية حاصلة لأرباب العزلة بعد الممارسة في مدة طويلة لمجاهدات شديدة فنقول:

العزلة من الناس أقسام:

الأول: وهو أدناها أن يكون بينهم ولا يكون معهم بل يكون وحيدا غريبا مستوحشا منهم ولا يجالسهم وإن جالسهم أبغضهم كما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف (2) حتى تقوم فإن الله يمقتهم ويلعنهم فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط الله ينزل هناك عليهم» (3).

الثاني: وهو أوسطها أن يسكن في بيته ولا يخرج إليهم أصلا ولا يركن إلى مجالستهم ومقاولتهم كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس فطوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئة» (4) وكما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين سأله عن عقبة بن عامر الجهني عن طريق النجاة أنه قال له: «ليسعك بيتك وأمسك عليك دينك وابك على خطيئتك» (5).

الثالث: أن يخرج إلى الصحاري وقلل الجبال وشعبها ويعبد الله ربه حتى يأتيه اليقين كما قيل له (صلى الله عليه وآله) «أي أفضل: فقال: «رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» (6) وقال (عليه السلام) «إن

ص: 156


1- 1 - ظاهر كلام المؤلف أنه من كلام غير المعصوم لكن رواه العقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من حديث عائشة، وابن عبد البر وفي العلم من حديث أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله).
2- 2 - الرضف: الحجارة المحماة على النار.
3- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب مجالسة أهل المعاصي تحت رقم 13.
4- 1 - أورده الشريف الرضى في النهج في خطبه (عليه السلام) تحت رقم 174 أوله «انتفعوا ببيان الله» وقال بعض الشراح في هذا الكلام ترغيب في العزلة عن إثارة الفتن واجتناب الفساد وليس ترغيبا في الكسالة وترك العامة وشأنهم فقد حث أمير المؤمنين (عليه السلام) - في غيره هذا الموضع - على مقاومة المفاسد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- 2 - رواه الترمذي ج 9 ص 247 وحسنه، واحمد ج 4 ص 148.
6- 3 - تمام الخبر كما رواه أحمد في مسنده ج 3 ص 477 باسناده عن كرز بن علقمة الخزاعي قال أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي فقل يا رسول الله هل لهذا الامر من منتهى، قال «نعم فمن أراد الله به خيرا من أعجم أو عرب أدخله عليهم ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها اساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقى ربه تعالى ويدع الناس من شره» ورواه البخاري ج 4 ص 18 وابن ماجة تحت رقم 3978 كما في المتن.

الله يحب العبد التقي النقي الخفي» (1) والاخبار الدالة على مدح المعتزلين من طرقنا وطرق العامة أكثر من أن تحصى وفوائدها كثيرة منها الفراغ لعبادة الله تعالى والذكر له والاستيناس بمناجاته والاستكشاف لأسراره في أمور الدنيا والآخرة من ملكوت السماوات والأرض ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعبد بجبل حراء ويعتزل به حتى أتته النبوة.

ومنها: الاخلاص في العبادة وتبعيدها عن تطرق احتمال السمعة والرياء كما روي عن الباقر (عليه السلام):

«لا يكون العبد عابدا لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه فحينئذ يقول: هذا خالص لي فيقبله بكرمه» (2).

ومنها: صرف القلب عن غير الله وهي نعمة عظيمة وفائدة جليلة كما قال الصادق (عليه السلام) «ما أنعم الله عز وجل أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره».

ومنها: الأمن من نزول العذاب عليه عند نزوله بساحة الظالمين كما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه نهى رجلا من أصحابه عن مجالسة خالد وهو من أهل الضلال فقال: أي شئ علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال (عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا، أما سمعت بالذي كان من أصحاب موسى وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا; فأتى موسى الخبر فقال عوفي: رحمه الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع» (3).

ومنها: الاتقاء عن مواضع التهمة والريبة كما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه (4) وعنه (عليه السلام) قال: قال «أمير المؤمنين (عليه السلام): من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة» (5).

ومنها: التخلص عن المعاصي إذ الخلطة لا يخلو عنها غالبا كالغيبة والكذب والسب والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.

ص: 157


1- 4 - أخرجه أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص بسند صحيح كما في الجامع الصغير.
2- 5 - نقله ابن فهد الحلي في عدة الداعي في مبحث الاعتزال عن الناس.
3- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب مجالسة أهل المعاصي تحت رقم 2.
4- 2 - الكافي كتاب العشرة باب من يكره مجالسته ومرافقته تحت رقم 10.
5- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب مجالسة أهل المعاصي تحت رقم 1.

ومنها: الخلاص من شرهم فإنهم كثيرا ما يؤذون جليسهم بالاستهزاء والغيبة والتهمة والبهتان وافتراء الأقوال والأعمال عليه.

ومنها: النجاة من خبث مشاهد الثقلان والحمقاء وقبح ملاحظة أطوارهم وأخلاقهم فقد قيل للأعشى: لم أعشت عينك؟ قال: من النظر إليك ومن النظر إلى الثقلاء ولهذه الوجوه من الأدلة والفوائد ذهب جماعة من المحققين والعارفين إلى أن العزلة أفضل من المخالطة ذهب طايفة إلى العكس لقوله تعالى (وألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) وقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) ومعلوم أن الزلة تنفي تألف القلوب وتوجب تفرقها ولقوله (صلى الله عليه وآله) «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (1) وقوله (صلى الله عليه وآله) «لا هجرة فوق ثلاث» (2) وقول الصادق (عليه السلام) «لا خير في المهاجرة» (3) إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على الأمر بالتصافح والتعانق والتعاشر والاجتماع، وعلى النهي عن المهاجر وقطع الرحم والتباعد والافتراق ولكثرة منافع الخلطة وفوائدها التي لا توجد في العزلة مثل التعليم والتعلم والتأديب والتأدب والنفع والانتفاع والإمداد في المهمات وفضيلة الجمعة والجماعة والزيارة والتبرك برؤية العلماء والصلحاء والعبرة بمشاهدة الأحوال وكسب الأخلاف المرضية من أهلها وثواب التأهل والنكاح وتكثير الأولاد إلى غير ذلك من المنافع الدنيوية والاخروية، وينبغي أن يعلم أن كلا الاحتجاجين صحيح ولكن ليست العزلة أفضل من المخالطة مطلقا ولا المخالطة أفضل من العزلة مطلقا، بل كل في حق بعض الناس وفي بعض الأوقات بحسب المصالح، إذ لكل منهما مصالح وشرائط متفاوتة بحسب تفاوت الأشخاص والأوقات.

وقد مر أن من شرايط الاعتزال أن يبلغ الإنسان رتبة الكمال في القوة النظرية والعملية ويستغني عن مخالطة كثير من الناس وأن يعتزل المنهمكين في الدنيا الراغبين في حطامها السالكين سبيل العصيان التابعين لوساوس الشيطان فلو لم يبلغ المعتزل تلك المرتبة أو لم تكن الجماعة موصوفين بالصفات المذكورة كانت المخالطة أفضل والاجتماع لتحصيل المحبة والالفة أجدر وأكمل، وبالجملة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن يقوم مقامه علماء حكماء وقد بينوا ما فيه صلاح الناس عاجلا وآجلا جليا وخفيا ولا ينافي تفاوته في أفرادهم كما أمروا بالنكاح تارة ونهوا عنه تارة وأباحوه تارة لتفاوت ذلك في أفراد البشر ومن أراد أن يعرف مقاصدهم من أوامرهم ونواهيهم وتدبيراتهم وتقديراتهم ينبغي أن يعلم طرفا من قوانين الأطباء

ص: 158


1- 4 - أخرجه أحمد في مسند كما في كنوز الحقائق للشيخ عبد الرؤف المناوي.
2- 5 - رواه الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر باب الهجرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وروى البخاري في صحيحه ج 8 ص 23 من حديث أنس بن مالك «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام».
3- 6 - رواه الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر باب الهجرة تحت رقم 4.

ومقاصدهم من العبارات المطلقة، فإنه كما أن الأطباء معالجون للأبدان بأنواع الأدوية والعلاجات لغاية بقائها على صلاحها أو رجوعها إلى العافية من الأمراض البدنية كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) ومن يقوم مقامه أطباء النفوس وهم مبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانية كالجهل والحقد والحسد والرياء وسائر رذايل الأخلاق بأنواع الكلام من الآداب والنصائح والمواعظ والأوامر والنواهي والضرب والقتل والاعتزال والاختلاط، وكما أن الطبيب قد يقول إن الدواء الفلاني نافع من المرض الفلاني ولا يعني به في كل الأمزجة وفي كل الأوقات وفي كل البلاد بل في بعضها، كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) والقائمون مقامه إذا أطلقوا القول في شئ أنه نافع كالعزلة مثلا فإنهم لا يريدون أنه نافع لكل إنسان وفي كل زمان (1) وكما أن الطبيب قد يصف لمريض دواء ويصف شفاء فيه ويرى أن ذلك الدواء بعينه لمريض آخر كالسم القاتل ويعالجه بغيره، كذلك النبي (صلى الله عليه وآله) والقائمون مقامه قد يرون أن بعض الأمور دواء لبعض النفوس فيقتصرون عليه ويأمرون به كالعزلة وقد يرون أن ذلك مضرا لغير تلك النفس فيأمرون بضد ذلك مثل المخالطة وإن أردت أوضح من ذلك فنقول: إما أن لا يكون في الخلطة خير أصلا أو يكون فيها خير والخير إما للطرفين أو لأحدهما، فهذه أربعة أقسام، ثم الخير إما خير في الدنيا فقط، أو في الآخرة فقط، أو فيهما، فينبعث منها أقسام يرجح في بعضها الخلطة وفي بعضها العزلة ويتساوي في بعضها الأمران، فللعاقل العالم المتدرب أن يختار منها ما يقتضيه عقله وتدبيره والله أعلم بحقايق الأمور (2).

(وكان الله انسه في الوحشة) الانس مصدر قولك آنست به انسا من باب حسب أو من باب ضرب وهو ضد الوحشة، والمشهور فيه ضم الهمزة وسكون النون وقد جاء بكسرة الهمزة قليلا بفتح الهمزة والنون جميعا، والحمل على سبيل المبالغة أو الانس بمعنى الأنيس ويؤيده أنه نقله صاحب العدة بلفظ الأنيس ويحتمل أن يقرأ آنسه على وزن الفاعل وأصله آنسا به أضيف إلى الضمير بعد حذف الجار من

ص: 159


1- 1 - فإن قيل ان الإطلاق يفيد التعميم فمن أين يفهم التخصيص ويعرف المورد الذي يخصص الحكم به؟ قلنا جميع ما ورد من هذه الأمور مقرون بقرائن ومبين بأسباب ومعلل بعلل يظهر منها المراد مثلا ورد في مدح العزلة «يعبد ربه ويدع الناس من شره» ويعلم منه أن حسن العزلة للعبادة وسلامة الناس من شر المعتزل ويعرف من ذلك أن المعاشرة إذا كانت عبادة كتعلم الدين والقرآن أو تعليمهما أو كسب الرزق الحلال للانفاق في سبيل الخير مع الامن من إضرار الناس وأذاهم فلا يرجح العزلة عليها وكذلك المعاشرة والصحبة مظنة الوقوع في المعاصي والحسد والغيبة وطول الآمال وبعث الشهوات الدنية والرغبة في حطام الدنيا وإعانة أهل الظلم والمعصية وتحسين أفعالهم السيئة والتسامح معهم بترك النهي عن المنكر وإذا لم تكن مستلزمة لهذه الأمور وأمثالها فلا ومثل ذلك الترغيب في كسب المال ومدح القناعة باليسير كلاهما معلل بعلل يعلم منها وجه كل منهما «ش».
2- 1 - راجع تفصيل الكلام في مدح العزلة وذمها وفوائدها وغوائلها وكشف الحق فيها المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء كتاب العزلة.

باب الحذف والايصال، وصح إطلاق الآنس عليه سبحانه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعائه: «اللهم إنك آنس الآنسين بأوليائك» والوحشة بمعنى الخلوة أو بمعنى الهم والحزن الحاصلين له بسبب فقد الالفة بينه وبين بني نوعه وعشيرته أو بسبب الغربة والانفراد من جهة العزلة خصوصا في مباديها أو بسبب عدم تعاهده لذلك المكان إذ غير المألوف من المكان يوجب الوحشة كما يحكم به التجربة، ومحصل معناه أن المعتزل لو حصلت له وحشة ما لأجل تركه صحبة بني نوعه وعشيرته وسلوكه طريق الحق بالمحبة الراسخة والنية الصادقة والرغبة الكاملة كان الله أنيسه الذي يرفع وحشته ويدفع عنه حزنه وكربته ويصرف وجه قلبه إلى شطر كعبة وجوده ويسره بمطالعة أنوار كبريائه ومشاهدة إضافات جوده حتى يرى كل خير حاضرا وكل كمال ظاهرا، فهو بكرمه يألف، وبفضله يستزيد، وبرحمته يستفيض كل ما يريد.

(وصاحبه في الوحدة) والله سبحانه وإن كان صاحب الكل في كل الأوقات كما قال الله تعالى:

(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا) لكن المقصود هنا إفادة الاختصاص كما يفيده الإضافة ووجه ذلك أن الرجل إذا ترك متاع الدنيا وأبناءها، وأعرض عن الاستماع به واقتنائه، واختار الوحدة والانفراد، وتمرن على الطاعة والانقياد، وأقبل بحسن الطوية إليها وحبس نفسه بزمام المشية عليها وفك عنه أغلال اللذات الدنيوية وقطع عنه أنواع العلاقات النفسانية والهيئات البدنية بحيث لا يبقى معه شئ إلا التفكر في ذاته وصفاته تعالى وما يوجب قربه يستقبله حينئذ نور الحق كما قال: «من تقرب إلي بذراع تقربت إليه بباع» (1) وينزله على بساط العز والمصاحبة ويشرفه بشرف الانس والمكالمة ويكرمه بأنواع التعظيم والمخاطبة حتى إذا ناداه أجابه بلبيك وإذا سكت ناداه يا عبدي أنا مشتاق إليك لم سكت عن عرض الحالات والمقالات بعد الترخص لك بالأجوبة والسؤالات وعند ذلك ينكشف عنه الحجاب ويسكن فيه عروق الاضطراب، ويزول عنه لواحق الوحشة والاغتراب، فيقول: لا إله إلا أنت ولا اشرك بك أحدا، وتسيل عليه الكرامات الإلهية والسعادات الربانية والكمالات النفسانية ما لم يكن يخطر بباله أبدا (2) (وغناه في

ص: 160


1- 1 - الباع ضعف الذراع والخبر رواه البخاري في صحيحه ج 9 ص 192.
2- 2 - وقد روى عن عمران بن الحصين وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كان يسلم على يعنى الملائكة كانوا يسلمون عليه في خلواته فاكتويت يعنى عالج نفسه في مرض طري عليه بالكي وانقطع السلام منهم لكراهة العلاج بالكي ثم منع الراوي ان يروي حديثه ما دام حيا لأنه خشى ان يهجم عليه الناس للتبرك به فيؤذوه أو يتوقعوا منه شيئا لا يقدر عليه وعمران هذا كان ممن رجع إلى أمير المؤمنين وكان يندر على من قال برايه في المتعة وكشف الأمور الملكوتية لا يحصل إلا لمن يعتزل الناس ويأنس بالوحدة (ش).

العيلة) الغناء بالفتح والمد النفع، وقيل: الكفاية وبالكسر والقصر اليسار والحمل على سبيل المبالغة أو المصدر بتأويل الفاعل، والعيلة بالفتح الفقر والفاقة يعني أنه سبحانه نفس غناه أو مغنيه في وقت حاجته وفقره لا غيره إذ عين افتقاره حينئذ لا تنفتح إلا إليه ويد اضطراره لا تتحرك إلا بين يديه ولا ملجأ له سواه حتى يكله عليه، واعلم أنه يحتمل أن يراد بالفقر والغناء ما هو المعروف بين الناس وهو أن يجد من متاع الدنيا ما يعيش به ويسد خلله ويقيم أمره ويكمل نظامه ويصون وجهه وأن يفقد ذلك ويحتمل أن يراد بهما الغنى والفقر الاخرويين وقد شاع إطلاقها عليهما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغنى والفقر بعد العرض على الله سبحانه» (1) يعني هما يتبينان يوم القيامة ويتحققان بعد العرض على الله سبحانه وبعد الفراغ من الحساب والفقير في ذلك اليوم من تحير في خسارة نفسه وحرم من كرامة ربه والغني من تحلى نفسه بالأخلاق والكمالات واستحق الفوز بالسعادات والكرامات ونظر إليه ربه بعين الرحمة والغفران وأنزله أعلى درجات الفردوس وأشرف منازل الجنان، وهذا الاحتمال أقرب من الأول لأن الفقر بمعنى الافلاس في الدنيا سهل لأنه ينقطع شدائده بالموت بخلاف الفقر والإفلاس في الآخرة فإنه يوجب الهلاك الدايم والشقاء الأبد (ومعزه من غير عشيرة) المعز من العز خلاف الذل أو خلاف الضعف بمعنى القوة والشدة، والمعنى وكان الله معزه في الآخرة بالثواب الجزيل أو في الدنيا بالذكر الجميل والمدح الجليل وبافاضات الأسرار الغيبية وكشف الحقائق العينية، والثاني أنسب بقوله «من غير عشيرة» لأن العشيرة وهي القبيلة المتأكدة بينهم العشرة والصحبة توجب العز في الدنيا.

(يا هشام نصب الحق لطاعة الله) نصب إما على البناء للمفعول أي أقيم الحق يعني الدين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل طاعة الله في أوامره ونواهيه، ولو تركت الطاعة صار الحق موضوعا والدين مخفوضا وهو يوجب زواله بالكلية وإما على البناء للفاعل لكن بحذف الفاعل أو استتاره أي أقام الله تعالى الحق يعني الدين لطاعته، وهذا قريب مما ذكر بحسب المعنى أو بحذف المفعول، والمراد بالحق هو الله تعالى أي أقام الله تعالى خلقا أو دينا لطاعته في الأوامر والنواهي وإما على المصدر والمراد بالحق الدين كما في الأول أي إقامة الدين الحق بتحقيق لطاعة الله بفعل ما أمره وترك ما نهاه (ولا نجاة إلا بالطاعة) أي لا نجاة من الشدايد الأبدية والعقوبات الاخروية على سبيل الحتم والجزم إلا بطاعة الله وانقياده وأوامره ونواهيه أو الحصر إضافي بالنسبة إلى المعصية، وعلى التقديرين لا ينافي ذلك حصول النجاة في بعض الأحيان بالعفو والغفران كما دل عليه بعض الأخبار وآيات القرآن، ويحتمل أن يراد أنه لا نجاة للإنسان من الظلمات البشرية والهويات الناسوتية في عالم الأجسام وعالم الأشباح ولا يحصل

ص: 161


1- 3 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 452.

لهم الترقي إلى مشاهدة الأنوار الربوبية والأسرار اللاهوتية في عالم المجردات، وعالم الأرواح إلا بالطاعة إذ هي مرقاة للإنسان في البلوغ إلى غاية مرامهم والوصول إلى نهاية مهامهم وهي التشبه بالروحانيين والدخول في زمرة المقربين.

واعلم أن الغرض من هاتين الفقرتين بيان أن الطاعة أصل عظيم إذ بها يتحقق إقامة الدين والنجاة من العذاب المهين كما عرفت ثم بين أنها متوقفة على العقل بثلاث مقدمات آتية على سبيل القياس المفصول النتايج ليظهر لك شرافة العقل وأصالته بالنسبة إلى جميع المقاصد وهذا غاية المدح والتعظيم له ولمن اتصف به (والطاعة بالعلم) أي الطاعة متوقفة على العلم إذ هي عبارة عن فعل المأمور به وترك المنهي عنه وكسب الأخلاق المرضية والأطوار الحسنة للتقرب بالحق فلا بد من العلم بهذه الأمور وبصفات الحق مما يجوز له وما يمتنع عليه وبأحوال المعاد (والعلم بالتعلم) أي العلم بالأمور المذكورة موقوف على التعلم إما بلا واسطة بشر كالأنبياء والرسل ومعلمهم هو الله سبحانه أو بواسطة بشر كما للامة فإن معلمهم هم الأنبياء والرسل (عليهم السلام) بالإرشاد والهداية، وأما مفيض العلوم والصور فليس إلا هو ويحتمل أن يراد بالعلم معناه على الاطلاق تصوريا كان أو تصديقيا، ضروريا كان أو نظريا دينيا كان أو غيره، فإن حصول كلها للبشر متوقف على التعلم من المعلم الحقيقي وهو الله سبحانه بالإفاضة أو الإلهام أو التعليم بواسطة أو بدونها (والتعلم بالعقل يعتقد) من اعتقاد الشئ إذا اشتد وصلب أو من عقدت الحبل فانعقد والزيادة للمبالغة، وفي بعض النسخ «يعتقل» باللام من اعتقل الرجل أي حبس ومنع والظرف متعلق بيعتقد قدم للحصر، أو للاهتمام يعني تعلم الأحكام والمعارف معقود بالعقل ومحكم به، أو محبوس عليه ملازم له لا يحصل بدونه لأن العقل هو القابل لجميع العلوم فلو لم يكن للمتعلم عقل منفعل بالقوة قابل لفيضانها من المعلم العالم بها بالفعل كان تعلمه بلا فائدة وسعيه بلا أثر كالراقم على الماء.

(ولا علم إلا من عالم رباني) في النهاية الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة وقيل: هو من الرب بمعنى التربية كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، والرباني العالم الراسخ في الدين أو الذي يطلب بعلمه وجه الله وقيل: العامل المعلم وفي الصحاح والقاموس الرباني المتأله العارف بالله تعالى وفي الكشاف الرباني هو شديد التمسك بدين الله تعالى وطاعته وفي مجمع البيان هو الذي يرب أمر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه وهذه الجملة اعتراضية وقعت بين كلامين متصلين معنى لنكتة وهي التنبيه على أنه يجب على المتعلم أن يأخذ العلم من العالم الرباني دون غيره أو يقال لأنه وقع حقيقة في آخر الكلام لإفادة نكتة يتم أصل المعنى بدونها وهي زيادة المبالغة والتأكيد لما يستفاد من قوله والعلم بالتعلم فإنه يفهم منه أن حصول العلم موقوف على التعلم من العالم الرباني إذ المراد بالعلم

ص: 162

العلم الإلهي فظاهر أن العلم الإلهي إنما يستفاد من العالم الرباني، وإنما قلنا حقيقة لأن ما بعدها نتيجة للسابق فكان الكلام قد انتهى وتم قبل ذكره من غير حاجة إليه.

(ومعرفة العلم بالعقل) هذا في الحقيقة نتيجة للكلام السابق وهو قوله: «والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل» فقد ثبت مما ذكر أن العلم والطاعة مع كونهما أصلين للوصول إلى الدرجة العظمى والبلوغ إلى المرتبة القصوى يتوقفان على العقل وفيه غاية التعظيم للعقل ونهاية التكريم لأهله، ومن العجائب أن امة من السفهاء وزمرة من الحمقاء في عصرنا هذا (1) يعتقدون أنهم الغاية الكبرى من الايجاد والتكوين ويجالسون العلماء والعقلاء بصفة المنافقين (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون).

(يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف) لأن العالم يعرف ربه وما يليق به ومالا يليق وما صنع من إكرامه وإنعامه الذي يعجز عن ذكره اللسان ولا يحيط على وصفه البيان وما شرع من الأوامر والنواهي والأعمال والعبارات وشرائطها ومحسناتها وما يتخلص به العبد عن مخالفته وكيفية التخلص منها، وبالجملة يعرف حقيقة العمل ومصالحه وشرائطه وفوائده ومفاسده ويكون لأنوار تلك المعارف قلبه تقيا نقيا زكيا صافيا طاهرا مضيئا.

ويكون عمله وإن كان قليلا خالصا كاملا مشتملا على جميع الأمور المعتبرة في قوامه وكماله واعتباره وقبوله وتصاعده وتضاعفه فيكون مقبولا مضاعفا لأن الله سبحانه حكيم كريم لايرد عملا صالحا وإن كان قليلا إذ الكثرة ليست من شرائط القبول كيف وقد مدحه في القرآن العزيز في مواضع عديدة ووعد الوفاء به مع الزيادة كما قال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وقال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود) لأن الجاهل لاعلم له بشئ من الأمور المذكورة بل ينظر إليها بعين عمياء فيخبط في كثير منها خبط عشواء وذلك لأن لصلاح العمل طريقا واحدا لا يعرفه إلا ذو فطنة ثاقبة وبصيرة كاملة، ولفساده طرق متكثرة فمن أراد أن يسلك طريق العمل الصالح بلا بصيرة ولا دليل مع مرافقة الجهل والهوى النفسانية والوساوس الشيطانية ضل عنه

ص: 163


1- 1 - كأنه يريد بهم المتظاهرين بالتصوف من أهل الدنيا من غير ان يكون لهم بصيرة في الدين ومعرفة بالله ولا يعلمون الاصطلاحات المتداولة عند العرفاء فضلا عن المعاني وذلك، لأن الدولة في ذلك العصر كانت للصوفية، والسلطان منهم وكل من كان يريد التقرب إليهم يتظاهر بالتصوف حتى يفوز بالمقامات والمناصب من غير ان يعرف شيئا منه وهكذا كل علم يكون وسيلة لنيل الجاه والمال في زمان كالطب والفقه يكثر المتشبهون بالعلماء فيه وما لا يكون وسيلة إليهما لا يدعى به العلم إلا المحقون به ولا يتشبه الجاهل بعالم لا يكون علمه طريقا إلى تحصيل الدنيا. (ش)

وسلك أحد هذه الطرق المضلة، ثم كلما بالغ فيه وأكثر صار أبعد من الحق وأقرب من الباطل وأفسد عليه سعيه وعمله فيكون عمله مردودا عند الله تعالى إذ لا يصعد إليه إلا العمل الصالح، ولو فرض أن عمله مشتمل على جميع الأمور المعتبرة في صلاحه نادرا كان ذلك مثل الكثير لأن الاتفاقيات من الأعمال غير معتبرة بل لابد من وقوعها على ايقان وتصديق. هذا ولبعض الناظرين في هذا الكلام كلام طويل في تفسيره وظني أن المقصود منه ليس ما ذكره وهو أعرف بما قال، وحاصله بعد حذف الزوايد (1) أن العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية تطلب لذاتها لا للعمل ثم هي تصلح القلب وتصقله لأنه ينكشف جلال الله وعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله، والأعمال لما كانت وسيلة إليها، معينة لها، حافظة إياها تطلب لأجلها، ففضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيره في صفاء القلب وإزالة الحجاب عنه فكل عمل كان تأثيره أكمل من غيره فهو أفضل، ومراتب الإنسان في ذلك مختلفة، فرب إنسان يكفيه قليل العمل في تأثير قلبه للطافة طبعه ورقة حجابه ورب إنسان بخلافه لغلظة طبعه وكثافة حجابه فربما يؤثر كثير العمل فيه تأثيرا قليلا، وبعد تقرير هذا يتبين معنى قوله (عليه السلام) «قليل العمل من العالم مقبول مضاعف» لأن معنى كونه مقبولا أنه مؤثر في صفاء قلبه وإزالة الحجاب عنه ومعنى كونه مضاعفا أن تأثيره في قلبه أضعاف تأثيره في قلب غيره، وذلك لأن ارتفاع أكثر الحجب عنه بممارسة العلوم فإن كل مسألة يحققها العالم تجلي قلبه وتصقله، فإذا ترادفت المسائل والعلوم يبلغ قلبه في الصفاء إلى حد لا يحتاج إلى كثير عمل لكن ما دام الإنسان في دار الغرور لا يستغني بالكلية عن عمل وكسب لا لأجل إنشاء أصل التصقيل الذي قد فعل بل للمحافظة عليه وحراسته من الآفات وهي مما يكفيه القليل من الأعمال ومعنى قوله (عليه السلام) وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود أنه لا يؤثر الأعمال الكثيرة في تلطيف قلوبهم وإزالة الحجاب والغشاوة عنها لأن قلوبهم قاسية ونفوسهم جرمانية وسدهم

ص: 164


1- 1 - لخصه أيضا صاحب الوافي بلفظ أجمع وأخصر قال: قليل العمل من العالم مقبول لأنه يؤثر في صفاء قلبه وارتفاع الحجاب عنه ما لا يؤثر أضعافه في قلوب أهل الهوى والجهل لممارسة العلوم والأفكار المجلية لقلبة والمصيقلة له عن الرين والغين المعدة له لاستفاضة النور عليه بسبب قليل من العمل وقسوة قلوب أهل الهوى والجهل وغلظ حجبهم وجرمانية نفوسهم وبعدها عن قبول التصفية فلا يؤثر فيها كثير العمل انتهى. وهذا معنى لطيف وتفسير معقول يصح أن يحمل عليه عبارة الحديث ولا موجب لظن الشارح أن مراد الحديث غيره وما ذكره الشارح من التفسير أيضا لا بأس به مع نقصه وحاصله ان عمل أهل الهوى باطل غير جامع لشرائط الصحة ولذلك يرد وأما عمل أهل العلم فصحيح جامع لشرائط الصحة ولذلك يقبل، وهذا يبين وجه كون عمل العالم مقبولا ولا يبين وجه كونه مضاعفا والحق أن عملا واحدا جامعا لشرائط الصحة يكون ثوابه للعالم أفضل وأكثر من غير العالم ولابد لتصور معنى التضاعف ان يكون للعمل ثواب غير مضاعف لعامل ما وهذا العامل ليس هو العالم، لأن ثوابه مضاعف فهو جاهل غير معاند ولا تابع لمعاند (ش).

شديد.

(يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة) للنفس حياتان وموتان بإزاء كل حياة موت، الحياة الأولى للنفس تعلقها بهذا البدن وتصرفها بهذا النحو من التعلق والتصرف المعلومين، وموتها انتقالها من هذا البدن وانقطاع تعلقها وتصرفها فيه. الحياة الثانية ابتهاجها بكمالاتها وصفاتها وأعمالها وأخلاقها المرضية الموجبة لقرب الحق جل شأنه، وموتها فقدها لتلك الكمالات والأعمال والأخلاق وتحيرها في ظلمات أضدادها، والعاقل يعلم قطعا أن الحياة الأولى حياة مجازية لسرعة انتقال النفس عن البدن وقلة مدتها، وأن الاحتياج إلى زهرات الدنيا التي هي سبب لهذه الحياة إنما هو بقدر بقائها في تلك المدة القليلة وإن الزائد على ذلك وبال عليه وتضييع للغمر فيما لا يحتاج إليه، ويعلم أن الحياة الثانية حياة حقيقية أبدية لعدم انصرامها أبد الآبدين وإن سبب هذه الحياة الأبدية هي الحكمة وقد عرفت تفسيرها آنفا فيرضى مع الحكمة الموجبة للحياة الأبدية بالدون من الدنيا والقليل منها الذي هو سبب للحياة المجازية (ولم يرض بالدون من الحكمة) وقليل من العلم والمعرفة (مع الدنيا الكثيرة) الزائدة التي لا يحتاج إليها في بقاء الحياة الدنيوية، فأولئك اشتروا الأشرف بالأخس والأعلى بالأدنى حيث استبدلوا الحكمة التي قال الله تعالى في وصفها (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) بما لا يحتاجون إليه من فضل الدنيا واختاروها عليه (فلذلك ربحت تجارتهم) ضمير الجمع باعتبار إرادة الجماعة من الجنس وإسناد الربح وهو الفضل على رأس المال إلى التجارة وهي طلب الربح بالبيع والشري إسناد مجازي لأن الربح حقيقة للتاجر إلا أن التجارة لما كانت متعلقة بالتاجر ومتلبسة به وسببا للربح أسند الربح إليها اتساعا.

وفيه حث بليغ على الزهد في الدنيا وزهراتها إلا القدر الذي له مدخل في البلغة والحياة فإن زهراتها مع عدم الاحتياج إليها شاغلة للفكر مانعة للقلب عن التوجه إلى حضرة القدس، باعثة لشدة الحساب; مقربة إلى العقاب، محركة للآمال، منسئة للآجال، مذهبة للعبادة وحلاوتها داعية للنفس الأمارة إلى شقاوتها، وحض عظيم على طلب الحكمة (1) فإن السعادة في الدارين والتفاضل في النشأتين إنما تحصل بها بل هي عين السعادة العظمى والغاية القصوى والفضيلة الكبرى، بها يتم نظام الدين; ويحصل قرب رب العالمين، والوصول إلى أعلى منازل المقربين، ولذلك أمر الله سبحانه حبيبه وصفيه بعد تشرفه

ص: 165


1- 1 - سبق أن الحكمة - وهي العلم بأحوال الموجود على ما هو عليه بقدر الطاقة البشرية - علم مرغوب فيه شرعا وهي تشمل الحكمة النظرية من الطبيعي والرياضي والإلهي والحكمة العملية كل ذلك بالدليل واما التقليد وهو أخذ الشئ من غير دليل من غير المعصوم فمذموم والضلال يحصل من ترك التمسك بالثقلين فقط فكما ضل بعض الفلاسفة لتلك العلة فقد ضل أقوام لم تكونوا عارفين بالحكمة أصلا (ش).

بشرف الرسالة وتحليه بلباس الكرامة فقال: عز شأنه وجل برهانه «قل رب زدني علما» ولو كان شئ أعظم من العلم لأمره بطلب زيادته.

(يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا) وهي المباحات (فكيف الذنوب) الموبقة المورثة لخزي الوبال وشدايد النكال، فإنهم تركوها بالطريق الأولى وأعلم أن أمور الدنيا على تكثرها مندرجة تحت الأحكام الخمسة، لأنها إما حرام أو حلال، والحلال إما واجب أو مندوب أو مكروه أو مباح، والمراد بالفضول هو الأخيران، وبالذنوب هو الأول وأما الواجب وهو تحصيل القدر الضروري الذي لا يمكن التعيش والبقاء بدونه، والمندوب وهو الزائد على ذلك مما يتوسع به الرجل على نفسه وعياله على حد القانون الشرعي الذي يسمونه كفافا فليس بمذموم بل هو واجب أو مستحسن عقلا ونقلا، إذا تبين ذلك فنقول: العقلاء تركوا فضول الدنيا لا لأنها مذمومة إذ لا ذم فيها بل لغاية تنزههم ونهاية تقدسهم وكمال حراستهم صرف العمر فيما يشتغل القلب عن ذكر الله تعالى ومشاهدة عظمته وجلاله ومخافة أن ينجر ذلك إلى الحرام كما قال (صلى الله عليه وآله) «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس» وذلك مثل الاجتناب عن التحدث بأحوال الناس لمخافة أن ينجر ذلك إلى الغيبة، وإذا تركوا الفضول لهذه الأمور تركوا الذنوب الموجبة للعذاب المهين، والبعد عن رحمة رب العالمين، المحركة للنفس إلى أسفل السافلين، والداعية لها إلى الخسران المبين (وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض) الجملة حالية وهي كالتأكيد للسابق والدليل عليه، لأن ترك فضول الدنيا إذا كان من باب الفضل والكمال دون الفرض وترك الذنوب والاجتناب عنها من باب الفرض الذي يطلب به النجاة عن عقوبات الدنيا والآخرة فهم إذا ارتكبوا ما ليس بفرض ارتكبوا ما هو فرض قطعا وإنما قال: وترك الدنيا، ولم يقل: وترك فضول الدنيا للتنبيه على أن غير الفضول وهو القدر الضروري ليس من الدنيا في شئ لأن المقصود منه حفظ النفس والاستعانة به على العمل للآخرة في طلبه عبادة كما روي «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (1) والعبادة لا تعد من الدنيا (2).

(يا هشام إن العاقل نظر) بعين البصر والبصيرة (إلى الدنيا وإلى أهلها) الطالبين لزهراتها،الغارقين في

ص: 166


1- 1 - الكافي ج 5 ص 88 رقم تحت 1.
2- 2 - جميع ما عد هنا من مناقضات العقل هي من آثار الوهم وما عد من علائم العقل هو من مناقضات الوهم وعليك بالتأمل فيها بعد ما ننبه عليه انموذجا ومثالا فحب المال والجاه والتجمل والرياسة وأمثال ذلك مما يسمى بالدنيا انما هو من الوهم والوهم حس يدرك به المعاني الجزئية كما يدرك الغنم وحشة من الذئب وعداوة فيه يبعثه على الفرار منه والأم تدرك محبة للولد تبعثها على إرضاعه وحضانته وأهل الدنيا يدركون في أنفسهم محبة للمال والجاه يبعثهم على الخيانة والفساد والسعي في جمع المال من أي وجه كشهوة تجرهم من غير اختيارهم إلى شئ يضرهم (ش).

شهواتها، المائلين إلى لذاتها (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) لما رأى من أهلها في تحصيلها من خوض اللجج وسفك المهج وقطع البحار وطي القفار في التجارات وصرف الأعمار وقصر الأفكار في الزراعات إلى غير ذلك من أنحاء الأسباب وأنواع الاكتساب، وفي حفظها من دوام السهر ليلا ونهارا وجعلها نصب العين سرا وجهرا إلى أن يموتوا أو يقتلوا ذلا وصغارا (ونظر) بعين البصيرة (إلى الآخرة) ومقاماتها الرفيعة، ومنازلها الشريفة، ومثوباتها الجزيلة، ومنافعها الجميلة وإنما لم يقل هنا «وأهلها» كما قال قرينته للتنبيه على قلتهم بل على عدم وجودهم (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) الحاصلة من صرف الفكر في المعارف الإلهية والاحكام الربانية في جميع الأوقات وحبس النفس والجوارح على الطاعات في آناء الليل وأطراف النهار وأشرف الساعات، وعلم مع ذلك أن الدنيا والآخرة كضرتي إنسان في أن محبة إحديهما إسخاط للأخرى، أو مثل كفتي ميزان في أن رفع إحداهما وضع للأخرى (فطلب بالمشقة أبقاهما) لما جبلت النفوس عليه من عدم تحمل المشاق إلا لأجل المنافع والمنافع الاخروية أجل قدرا أو أعظم شأنا وأدوم زمانا من المنافع الدنيوية بل لا نسبة بينهما إذ المتناهي لا يقاس بغير المتناهي كما قال عز شأنه حكاية عن قوم حين شاهدوا أهوال القيامة وعلموا طول زمانها وسئلوا عن كمية زمان تلبثهم في الدنيا (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني» كيف والأمر على العكس هذا حال العاقل، وأما الجاهل فلكونه ضريرا يرى أمر الدنيا عظيما وأمر الآخرة حقيرا، وربما يخطر من تدليس إبليس بباله القاصر وذهنه الفاتر أن النقد خير من النسيئة فيختار الدنيا على الآخرة ولا يعلم لعميان قلبه (1) ونقصان بصيرته أن النقد خير من النسيئة إذا كان مماثلا لها في الكمية والكيفية

ص: 167


1- 1 - عميان القلب ونقصان البصيرة من غلبة الوهم على العقل ومثل لذلك المنطقيون بأن العقل يركب مقدمات صحيحة يعترف بها الوهم فإذا أراد الاستنتاج نكص الوهم على عقبيه كالشيطان، مثلا يقول العقل الميت جماد وهو حق والجماد لا يخاف عنه وهو أيضا حق يعترف به الوهم والنتيجة الميت لا يخاف عنه يعترف به العقل دون الوهم فإن كان الإنسان تابعا لوهمه خاف، وان كان تابعا لعقله لم يخف. والوهم هو السلطان المطلق والحاكم في الحيوان ويعرف في زماننا في لسان العوام بالغريزة والفطرة وقد يطلق عليه العواطف في الإنسان والوهم مع تغليطه ومعارضته العقل له شأن كبير ومصالح عظيمة خله الله تعالى لتلك المصالح فلولا الخوف والوهم لم يرض الناس بدفن أعزتهم وأحبتهم في التراب ولما تحمل أحد مشقة تربية الأولاد ولما دافع الناس عن اعراضهم وأموالهم وأقاربهم ولما خاطروا بأنفسهم في سبيل جمع المال وتحصيل الجاه فإن ذلك كله ناش من تصور معنى جزئي كالمحبة والعداوة ينبعث منه الغضب والشهوة لكن الإنسان مأمور بتسخير وهمه لعقله وأن يستعمله حيث يجوزه العقل وساير الحيوان مجبولة بمتابعة أوهامهم ولا عقل يردعهم عما يأمر به وهمهم (ش).

وليس الأمر ههنا كذلك إذ هذا النقد لا قدر له أصلا ولا وزن له قطعا عند هذه النسيئة على أن أصحاب الايمان وأرباب العرفان لكثرة عبادتهم وشدة رياضتهم يجدون نقدا من الفيوضات الإلهية والإشراقات الربانية مالا يرضون بعوض واحد منها أخذ الدنيا وما فيها.

(يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا) وأعرضوا عن حطامها وزهراتها الفانية وطهروا ساحة قلوبهم عن طول الأمل ولوث العوائق وقطعوا عن رقاب نفوسهم زمام التمني وحبل العلائق (ورغبوا في الآخرة) وطلبوا ثوابها باستعمال العبادات واستكمال الطاعات واجتهدوا في الوصول إلى أشرف المنازل وأرفع المقامات فتاهت أرواحهم في مطالعة الملك والملكوت، وكشفت لهم حجب العز والجبروت، وخاضوا في بحر اليقين، وتنزهوا في رياض المتقين، وركبوا سفينة التوكل وأقلعوا بشراع التوسل، وساروا بريح المحبة في جداول قرب الغرة وحطوا بشاطىء الإخلاص (1) حتى نزلوا في ساحة الجلال ومنزل الاختصاص.

(لأنهم علموا أن الدنيا طالبة) لمن فيها لتوصل إليه ما عندها من رزقه المقدر وقوته المقرر (مطلوبة) يطلبها أهلها حرصا في جميع ما لا يحتاج إليه وذخر ما يكون نفعه لغيره وضره عليه (والآخرة طالبة) لمن في الدنيا لتؤتيه ما عندها من وقته المقرر وأجله المقدر، إذا لأجل مثل الرزق مكتوب مقدر (ومطلوبة) يطلبها أهلها للوصول إلى أشرف درجاتها وأرفع طبقاتها بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وفي ترك عطف «مطلوبة» على «طالبة» في الأول وعطفها في الثاني تنبيه على أن المتحقق من نسبة الطالبية والمطلوبة إلى الدنيا والواقع منهما في نفس الأمر هو المطلوبية بناء على أن النفي والإثبات في الكلام راجعان إلى القيد كما هو المقرر في العربية ووجهه ظاهر لظهور أن الناس كلهم إلا من شذ طالبون للدنيا بخلاف نسبتهما إلى الآخرة، فإن طالبيتها أيضا متحققة في نفس الأمر هذا إن جعلت «مطلوبة» صفة «لطالبة» وقيدا لها وإن جعلت خبرا بعد خبر كما هو الأنسب بالقرينة الثانية فالوجه في ترك العطف هو الإيماء إلى كمال اتصال مطلوبية الدنيا بطالبيتها، ونهاية ربطها بها، وعدم افتراقها عنها باعتبار أن الدنيا في الواقع مطلوبة للكل فلا حاجة هنا إلى رابطة مستفادة من العطف بخلاف مطلوبية الآخرة فإنه لا اتصال بينها وبين طالبيتها لوقوع الافتراق بينهما باعتبار قلة طلب الآخرة فاحتيج في ربط إحديهما بالأخرى إلى العطف هكذا فافهم، ثم الطالبية والمطلوبية في كل واحدة من الدنيا والآخرة يمكن أن تتصور على وجهين أحدهما أن كل واحدة من الدنيا والآخرة متصفة بهما مع قطع النظر عن الأخرى، وثانيهما أن كل واحد منهما طالبة عند كون الأخرى مطلوبة ومطلوبة عند كون الأخرى طالبة،

ص: 168


1- 2 - وحطوا أي انزلوا رحالهم والدنيا لا تطلب الا بالوهم فإنها مال وجاه ورياسة وغلبة وتلذذ وأمثال ذلك من القوة الواهمة والعقل معارض لها (ش).

والوجه الثاني هو المراد هنا كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) (فمن طلب الآخرة) وسعى لها سعيها طلبا لمقاماتها العالية، وإنما قدم هنا طلبها على طلب الدنيا للاهتمام به، والتنبيه على أنه هو الذي يجب رعايته، وعكس في السابق باعتبار تقدم الدنيا على الآخرة وملاحظة وقوع طلبها في نفس الأمر (طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه) كما قال الله سبحانه (وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) وقال: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا يموت نفس حتى تستكمل رزقها» (1) وقال الصادق (عليه السلام) «لو كان العبد في جحر لآتاه الله برزقه» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك» (2) وقال: «يا ابن آدم لا تحمل هم يومك الذي لم يأتك على يومك الذي أتاك فإنه إن يك من عمرك يأتي الله فيه برزقك» (3) وقيل لبعض الأكابر: قد غلا السعر، فقال: لو كان وزن حبة من الطعام بمثقال من ذهب ما باليت فإن علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا.

ومن ثم قيل: أترك الدنيا وخذها فإن تركها في أخذها وأخذها في تركها (ومن طلب الدنيا) وسعى لها سعيها وصرف عمره الذي هو رأس ماله في ادخار متقنياتها (طلبته الآخرة) حتى يستوفي منها أجله (فيأتيه الموت فتفسد عليه دنياه وآخرته) أما فساد دنياه فلانقطاعها عنه وعدم وفائها وزوال تصرفه فيها وعود ما جمعه إلى غيره حتى كأنه كان عبدا لذلك الغير، وأما فساد آخرته فلان صلاح الآخرة إنما هو باكتساب الأعمال المرضية وصرف الفكر في الأحكام النافعة الشرعية، وهما إنما يكونان قبل الموت وفي دار الدنيا، وهو قد كان في الدنيا عاملا للدينا، ومكتسبا لزخارفها، ومتفكرا في منافعها، وعبدا لغيره، فقد ظهر من هذا الحديث أن طالب الآخرة له الدنيا والآخرة وطالب الدنيا خاسر فيهما ونظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الناس في الدنيا عاملان عامل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه، فيفنى عمره في منفعة غيره، وعامل عمل في الدنيا لما بيدها فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معا، وملك الدارين جميعا فأصبح وجيها عند الله تعالى لا يسئل الله حاجة فيمنعه» (4) وفيه ترغيب في تفويض الرزق إلى الله تعالى والتوكل عليه وتنبيه على أنه لا يبلغ هذه المرتبة إلا العقلاء لأنهم الذين إذا تأملوا بعقولهم الصحيحة ونظروا إلى لطف الله تعالى في باب الأرزاق وتفكروا في رزق الطيور والأجنة في بطون الأمهات ورزق المجانين وساير

ص: 169


1- 1 - (1 و 2) رواه الكليني في الكافي ج 5 ص 80 باب الاجمال في الطلب من كتاب المعيشة.
2- 2 -
3- 3 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 379 بأدنى اختلاف.
4- 1 - أورده الشريف الرضى في النهج أبواب الحكم تحت 8 قم 269.

الحيوانات بلا تكلف ولا حيلة علموا أن وصول الرزق منوط بالمشيئة الإلهية وما قدر للشخص فهو يأتيه قطعا ويطلبه جزما، فيكون طلبه عبثا لا فائدة فيه وتضييعا للعمر فيما لا يعنيه، وصرفوا عنان الهمة نحو الآخرة ساعين عابدين خاشعين متضرعين لعلمهم بأن الآخرة ودرجاتها لا تناول إلا بالأعمال الصالحة، فنسأل الله تعالى الاقتفاء بآثارهم والتمسك بأطوارهم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

(يا هشام من أراد الغنى بلا مال) (1) الغنى الدنيوي على وجهين أحدهما ما يدفع ضرورة الحاجة بحسب الاقتصاد والقناعة، وثانيهما المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال وادخاره والاتساع به فوق الحاجة والغنى على الوجه الأول ممدوح عقلا ونقلا، وعلى الوجه الثاني مذموم.

والغنى الديني - وهو ما يدفع النزول في عذاب الجحيم ويوجب الوصول إلى جنات النعيم - مع تفاوت مراتبه كله ممدوح والأنسب هنا هو الوجه الأول بقرينة التفريع الآتي والتنكير في قوله «بلا مال» حينئذ للتكثير لأن الاقتصاد والقناعة يحتاج إلى قليل من المال وحمله على المعنى الأخير محتمل لكنه بعيد جدا (وراحة القلب من الحسد) تارة بأنه تمنى الرجل زوال النعمة من ذوي النعمة وعودها إليه، وأخرى بأنه اغتمامه بخير يناله غيره من حيث لا مضرة عليه، واتفق أرباب القلوب على أنه من أعظم أبواب الشيطان التي يدخل بها على القلب، وعلى أنه من أقبح العوارض الردية للقلب ويتولد من البخل والشر ويراد بالشر التذاذ الطبع بما يضر الناس اغتمامه بما يوافقهم، وعلى أنه مضر بالقلب.

والحسد إما بالقلب فلأنه يصرف فكره إلى الاهتمام بأمر المحسود والاعتماد بشأنه حتى لا يفرغ للتصرف فيما يعود نفعه إليه وينسى ما حصل له من الملكات الخيرية التي هي الحسنات المنقوشة في جوهره فتضمحل تلك الملكات على طول الحسد واشتغال الفكر في المحسود وطول الحزن والهم في أمره ويتضيق وقته ويتوقى عقله من تحصيل الحسنات والخيرات، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب» (2) وإما بالجسد فلأنه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض الشنيعة والأمراض الردية طول السهر وسوء الاغتذاء ويعقب ذلك رداءة اللون وسوء السحنة وفساد المزاج والقوى (والسلامة في الدين) من الآفات النفسانية والوساوس الشيطانية

ص: 170


1- 2 - الغنى بلا مال هو القناعة ومقابله الطمع وتوهم الحاجة إلى التجمل وادخار المال وهو من القوة الواهمة المعارضة للعاقلة فإذا غلب العقل ذهب الوهم وكذلك الحسد من حب الغلبة ولاستكثار وتصور العداوة وهي معاني جزئية تدركه الواهمة تبعث به الإنسان على الاضرار وتمني زوال النعمة والوساوس والآفات النفسانية المضرة بالدين كلها من الواهمة ودافعه العقل. (ش).
2- 1 - رواه الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر باب الحسد.

(فليتضرع إلى الله عز وجل في مسئلته بأن يكمل عقله) أي علمه أو جوهره المجرد القابل (1) له وفيه دلالة على أن العقل موهبة الهية وعطية ربانية لا يزداد ولا يكمل إلا بعنايته، وعلى أنه سبب للأمور الثلاثة المذكورة أما للثاني فلان العاقل الكامل يعلم أن الحسد لا ينفعه بل يضره وأنه صفة موجبة للمقت من الله جل شأنه لعلمه بأن الحاسد مضاد لإرادته لأنه تعالى هو المتفضل للكل وهو المفيض للخير إلى كل أحد بما يليق به ويصلح له فيعلم أن كلا من الإعطاء والمنع وقع على وفق الحكمة والمصلحة فيطمئن قلبه بقسمة ربه، وأما للثالث فلأن العاقل يعلم بنور عقله طريق الحق وكيفية سلوكه إلى حضرة القدس ويعلم آفات الدين وكيفيته اجتنابه عن تلك الآفات ويعمل بمقتضى عقله الصريح وذهنه الصحيح فيتم له بهذين العلمين مع العمل نظام الدين وكمالاته، ويسلم عن مفاسده وآفاته.

وأما للأول فلما أشار إليه بقوله (فمن عقل قنع بما يكفيه) لأن العاقل إذا نظر إلى جلال الله وآثار ملكه وملكوته وإلى أحوال الآخرة وما فيها من المقامات العالية واللذات الروحانية وإلى ما حصل له عجالة من الأنوار العقلية والفيوضات القلبية وإلى أن كماله فطام النفس عن الشهوات ونزع القلب عن الأماني والشبهات وترك ما يمنعه من التوجه إلى الآخرة من الزهرات وخلو السر عن النظر إلى الدنيا وما فيها من المقتنيات استحقر الدنيا وما فيها ورجع بالكلية إلى حضرة الحق وما في الآخرة من المقامات فيقنع من الدنيا بقدر الكفاف وبما يقيم به بدنه وقواه ويقدر به على الإقامة بالطاعات إذ التعرض للزايد على ذلك لقصور العقل وضعف اليقين وفتور النيات وخلو النفس عن المعارف النورانية وإلفها بالمحسوسات وانفتاح عينها إلى الأمور الدنيوية والصور الوهمية واحتباسها في الظلمات وغفولها أن الدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه ليجده شيئا فيضيع سعيه ويزداد عليه الندامة والحسرات (ومن قنع بما يكفيه استغنى) بما يكفيه عن الزايد أو بالآخرة عن الدنيا أو بالحق عن الخلق من رضي بالقوت وتوكل على الحي الذي لا يموت لم يفتقر إلى غيره لأجل المسكنة (ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا) لأن الغنى هو الكفاف فمن لم يكفه الكفاف فجميع ما في الأرض لا يكفيه، ولأن طلب الزيادة منوط بالحرص، ومراتب الحرص غير محصورة، فإذا حصلت له مرتبة من تلك المراتب طلب ما فوقها فلذلك قال عيسى (عليه السلام) لأصحابه:

يا معشر الحواريين لأنتم أغنى من الملوك، قالوا: وكيف يا روح الله؟ وليس نملك شيئا، قال: أنتم ليس عندكم شيىء ولا تريدونه وهم عندهم أشياء ولا يكفيهم.

* الأصل:

اشارة

ص: 171


1- 2 - يعني نفسه والنفس الناطقة جوهر مجرد قابل للعلم كما سبق والقول المقابل لذلك هو ان النفس والعقل قوة جسمانية حالة في الدماغ ويلزمه ان يضمحل بالموت وفساد الدماغ كالنور يفنى بفناء الدهن وهو قول الملاحدة والزنادقة وربما يتفوه به غير البصير من المنتحلين إلى الإسلام والملحد المتظاهر بالدين. (ش)

«يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا، لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه. (يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل وما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه وهو تمام الأمر يا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام لادين لمن لا مروة له ولا دين لمن لاعقل له، وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها. يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاثة شئ فهو أحمق إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهن فمن لم يكن فيه شيىء منهن فجلس فهو أحمق.

وقال الحسن بن علي (عليهم السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: الذين قص الله في كتابه وذكرهم، فقال: إنما يتذكر أولو الألباب قال: هم أولو العقول.

وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا.

يا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد مالا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه.».

* الشرح:

(يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا ربنا لا تزغ) أي لا تمل من الإزاغة وهي الإمالة (قلوبنا) من الحق إلى الباطل أو من الايمان إلى الكفر أو من اليقظة إلى الغفلة أو من العلم والهداية

ص: 172

إلى الجهل والغواية، وقال صاحب الكشاف لا تبتلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا (بعد إذ هديتنا) إلى الخيرات المذكورة و «بعد» نصب على الظرف و «إذ» في موضع الجر بالإضافة، وقيل: «إذ» ههنا بمعنى أن ولما كان بين الرهبة والرغبة تلازم وقد صدر منهم الدعاء بالنظر إلى الأولى أولا صدر منهم الدعاء بالنظر إلى الثانية ثانيا طلبا لزيادة الإفضال والإحسان ورجاء لمزيد النعمة والامتنان (فقالوا: وهب لنا من لدنك رحمة) أي كرامة توجب قربنا منك والزلفى إليك والفوز بالفلاح لديك أو توفيقا للثبات على الحق أو الإيمان أو مغفرة للذنوب، ثم قالوا لتأكيد رجائهم في إجابه دعائهم (إنك أنت الوهاب) في النهاية: الهبة العطية الخالية عن الأعواض فإذا كثرت سمى صاحبها وهابا، وهو من أبنية المبالغة، يعني أنت الوهاب لكل طلبة ومسئلة أو لوجود كل شئ وحقيقته وماهيته وخواصه وآثاره وكماله من غير عوض، وفيه دلالة على أن السلامة من آفات الدنيا والهداية إلى المولى والنجاة من الضلالة والعمى والاستقامة على سبيل الرشاد من الله المتفضل برحمته على العباد (حين علموا) ظرف لقالوا (أن القلوب تزيغ) بفتح التاء من زاغ بمعنى مال، أي تميل عن طريق الصواب (وتعود إلى عماها) (1) أي جهلها يقال: رجل عمى القلب أي جاهل، وأصل العمى ذهاب البصر وإذا أضيف إلى القلب يراد به ذهاب البصيرة، وقد يجعل كناية عن الجهل (ورداها) أي هلاكها من ردى الدابة في البئر إذا سقط فيها، أو من ردى فلان في الأرض إذا ذهب وتاه فيها، أو من ردي فلان بالكسر يردى رديا إذا هلك، وفيه إشارة إلى شيئين أحدهما أن القلوب يعني النفوس البشرية كانت في مبدء الفطرة جاهلة للمعارف الإلهية، غافلة عن الأنوار الربانية، هالكة ساكنة في تيه الجهالة قابلة لنور الهداية وظلمة الغواية.

كما يظهر ذلك لمن تفكر في أطوار الإيجاد والتكوين فإنه يعلم أنها كانت صورا جمادية، ثم صارت صورا نباتية، ثم صارت صورا حيوانية، ثم صارت بتلك الاستحالات صورا إنسانية مستعدة للخير والشر قابلة للهداية والضلالة، ثم حصلت لها بالترقيات الإلهية والتوفيقات الربانية كما يرشد إليه قوله «بعد إذ هديتنا» جملة من العلوم وزمرة من المعارف ونبذة من الأحوال والأعمال فخرجت بذلك من حد النقص على الاطلاق في قوتي العلم والعمل إلى مرتبة الكمال، الثاني أن هذه المرتبة ليست لازمة للنفس ثابتة لها غير منفكة عنها لأن النفس الحرون قد تقف من الجري في ميدان العلم والعمل، بل ترجع

ص: 173


1- 1 - «تزيغ وتعود إلى عماها» ربما غلب العقل على الوهم ودفعه إلى تسليم الحقيقة وربما يقوى الهوى فيرجع الوهم إلى ما كان ويزيغ عن الهدى مثلا في الشبهات الاعتقادية، ربما يدخل على الوهم شبهة ان الموجود محسوس فيشكك في المبدء بعد أن كان معتقدا وربما يشتغل بالعبادة ويمضى على ذلك مدة ثم يغلب عليه الهوى وحب الشهوات فيرجع عما كان عليه ويشتغل باللذات وهذا أيضا من القوة الواهمة المدركة للمعاني الجزئية في غير تدبير العقل. (ش)

القهقرى إلى حالتها الأولى، وسر ذلك أنها ما دامت في الدنيا متعلقة بهذا البدن مائلة إلى الهوى ودواعي الشيطان ذاكرة لأصناف الباطل وأنواع العصيان فربما تأخذ يد الشقاوة زمامها وتسوقها إلى ما هو مطلبها ومرامها، وتجذبها عما هي عليه من العلوم والأعمال الصالحة وتوردها في تيه الجهالة والضلالة، وقد روى أبو بصير وغيره قال: قال الصادق (عليه السلام): «إن القلب ليكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق، قال ثم قال لي: أما تجد ذلك من نفسك، قال: ثم تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر ولا إيمان» (1) ولذلك خاف الصالحون ووجل المتقون وطلبوا بالتضرع والابتهال حسن العاقبة بقولهم (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) والأدعية المأثورة في هذا الباب أكثر من أن تحصى، ولما بين أن بقاء النفس على كمالها العملي والعلمي ما دامت في الدنيا ومسكن الشياطين غير لازم، بل ربما تعود إلى عماها ورداها وتترك العمل وتنسى العلم والآخرة أراد أن يبين ذلك فيمن لم يكن قلبه مستضيئا بنور الله وعقله مهتديا بهداية الله ولم يأخذ علمه من الله تعالى إما بلا واسطة كالأنبياء والرسل أو بواسطة كالمتمسكين بذيل عصمتهم والراجعين في كيفية العمل والعلم إلى معدن طهارتهم فأشار إلى الأول بقوله (إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله) لأن من لم يكن علمه بذات الله وصفاته وشرائعه وأركان الأعمال وشرائطها وأحوال الآخرة مستندا إلى الله تعالى بأحد الوجهين المذكورين كان علمه إما تقليدا محضا كما في أكثر العوام وإما رأيا وقياسا كما في أكثر الناس وإما ظنا وتخمينا وجدليا كما في أكثر المتكلمين (2) الذين وضعوا لأنفسهم دلائل على هذه الأمور واستحسنوها وكل ذلك لا يوجب الخوف من الله سبحانه والخشية من عذابه، أما التقليد فظاهر لأنه لم يحصل لهم من الحقيقة الإلهية إلا الاسم ومن حقيقة الأحكام الشرعية وأركانها وشرائطها إلا الرسم، ومن أحوال الآخرة وشدايد أهوالها إلا اللفظ، والخوف منوط بادراك حقائق هذه الأمور، وأما القياس فهو أيضا ظاهر وكذا تخمين المتكلمين على أن أكثرهم القائلين بالفاعل المختار ينكرون السببية في الممكنات (3) ويجوزون مغفرة الكافر الشقي ومعاقبة المؤمن السعيد

ص: 174


1- 2 - رواه الكليني في الكافي في كتاب الايمان والكفر باب سهو القلب تحت رقم 1.
2- 1 - ذم التقليد وهو الأخذ من غير دليل وذم الكلام أيضا وهو الأخذ بدليل جدلي أو ظني فبقى أن يكون الدين مستندا إلى دليل برهاني أو كشف عرفاني. (ش)
3- 2 - هذا مذهب أكثر المتكلمين وهم الأشاعرة وأتباعهم من غيرهم فإنهم ينكرون التسبيب يقولون مثلا ليس النار علة للحرارة ولا الماء للبرودة ولا الشمس للنمو ولا السموم للقتل وهكذا ولكن عادة الله جارية بالاحراق عند ملامسة النار وغير ذلك. وهذا مذهب باطل بل جعل الله لكل شيىء سببا لا يجاوز والفاعل المختار بالإرادة الجزافية غير حكيم والله تعالى حكيم فلا يفعل شيئا بالإرادة الجزافية، فإن قيل قد صرح صاحب التجريد نصير الدين الطوسي (قدس سره) والعلامة وغيرهما بأنه تعالى فاعل مختار فيكف يخطئه الشارح مع انه مذهبنا قلت الفاعل المختار عند متكلمي الشيعة ومن يعتد بقوله منهم ويؤخذ العلم عنه ويقول ما يقول عن تدبر وبصيرة، وما يكون مقابل الفاعل المضطر والفاعل بلا شعور فإن صدور الفعل عن الله تعالى ليس كصدور النور عن الشمس بلا شعور مضطرا ولا يريدون أن فعله تعالى كفعل الإنسان المختار بفكر وروية تارة يختار هذا وتارة يختار ذلك في ظرف وأمد ولا يخفى أن مثل هذا الكلام من الشارح وغيره من الحكماء صار منشأ، لأن ينسب إليهم القول بان الله فاعل موجب وهذا من قلة التأمل والشارح مع تصريحه هنا بالقدح في الفاعل المختار صرح في كلامه كثيرا بالقادر المختار كما مر وكل بمعنى. (ش)

فلا يحصل لهم خوف وخشية، وإذا انتفى الخوف انتفى العمل وكماله والجد فيه، وأما العلماء الراسخون الآخذون علومهم من مشكاة النبوة فهم يعلمون الحقائق كما هي وصفات الواجب وما يجوز له وما يمتنع عليه وأحكام الدين وأركانها وشرائطها وأحوال الآخرة وشدائد أهوالها كأنهم يشاهدونها ويعلمون أن الله تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرة وأن ما يرجع إليهم من الخير والشر فهو من نتايج نفوسهم ولوازم أخلاقهم وتبعات أعمالهم (1) وأفعالهم فيخافون من الله عز شأنه غاية الخوف كما قال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فلا جرم يعملون في الدنيا للآخرة ويسعون لها غاية السعي ويحصلون ما يوجب نجاتهم من النار وفوزهم بالجنة وأشار إلى الثاني (2) بقوله:

(ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه) يعني من لم يأخذ علمه من الله سبحانه بأحد الوجهين المذكورين لم يكن إيمانه ثابتا ولا علمه باقيا لأنهما يزولان بأدنى شبهة بخلاف من أخذ علمه منه تعالى فإن إيمانه ثابت وعلمه راسخ لا يزول بوجه من الوجوه كما قال العالم (عليه السلام) من: «أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل ان يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال» (3) قال (عليه السلام) «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن) (4) (ولا يكون أحد كذلك) أي يعقل عن الله ويعقد قلبه على معرفة ثابتة ويبصرها ويجد حقيقتها في قلبه (إلا من كان قوله لفعله مصدقا) بأن يكون عاملا بالمعروف آمرا به وتاركا للمنكر ناهيا عنه فأن العلم الحقيقي والايمان الكامل يحكمان بالتلازم بينهما وحمل القول هنا على الاعتقاد بعيد (وسره لعلانيته موافقا) بأن يكون صفاته وكمالاته الباطنة موافقة لصفاته وكمالاته الظاهرة مثل الأعمال الحسنة وحسن الخلق وطلاقة الوجه

ص: 175


1- 1 - هذا أيضا متفرع على ما سبق من التسبيب فلا يفعل الله تعالى شيئا في الدنيا والآخرة إلا بأسبابها ولا يكون ارادته إرادة جزافية وليس فاعلا مختارا بالمعنى الذي يفهمه بعض المتكلمين فكما أن سبب نمو النبات في الدنيا البذر والماء والحر والشمس ولا ينبت الحنطة من بذر الشعير كذلك ثواب الآخرة مسبب عن ملكات النفوس واخلاقها وما رسخت فيها من الصفات بالاعمال الصالحة والسيئة (ش).
2- 2 - أي نسيان العلم والآخرة ان لم يكن علمه مستندا إلى الله بأحد الوجهين (منه)
3- 3 - (2 و 3) تقدما في مقدمة الكتاب.
4- 4 -

وإكرام المؤمن وأمثال ذلك (لان الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه) أي مخبر عنه ومشعر به هذا دليل على ما يفيده الاستثناء من أن من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا تجده عاقلا عن الله ثابتا على معرفته راسخا في إيمانه وعرفانه ويجد حقيقة ذلك في قلبه.

بيان ذلك: أن العلم بخفيات الأمور وصفات القلوب ليس إلا لعلام الغيوب لأنه العليم بذات الصدور وأما غيره فقد يعلم الباطن من الظاهر، فكما يعلم من حمرة الوجه وانتفاخ العروق وغلظ الصوت شدة الغضب وإرادة الانتقام، ومن اصفرار الوجه وتضايل البدن وتحرك الفرائص شدة الخوف كل ذلك للتناسب بين الروح والبدن بحيث يصل أثر أحدهما إلى الآخر كذلك يعلم الصفات النفسانية والكمالات الروحانية والعلوم والعقائد الراسخة القلبية من الأعمال والأفعال الصادرة من الأعضاء الظاهرة مثلا يقول فلان عليم مؤمن راسخ في علمه وإيمانه وكريم حليم رحيم إذا صدر منه الافعال التابعة للعلم والايمان وأفعال الكريم والحليم والرحيم مرارا كرة بعد أخرى، والسر في ذلك أن تلك الصفات أسباب لهذه الافعال والأعمال لأنه ينبعث منها الشوق والإرادة والعزم ويتحرك بسبب هذه الأمور الأعضاء نحو المتشوق والمراد، فيظهر منها الافعال والأعمال، ودلالة هذه الأعمال والافعال على تلك الصفات كدلالة الأثر على المؤثر وبالجملة ظاهر الرجل عنوان لباطنه ومعرفة باطنه تابعة لمعرفة ظاهره، فإن كان جميع أفعاله الظاهرة دائما مستقيمة واقعة على القوانين الشرعية دل ذلك على ثبوت معرفته وإيمانه وكمالهما ورسوخهما وإن كان جميعها غير مستقيمة أو كان القول مستقيما وغيره من الأفعال غير مستقيم أو كان عكس ذلك دل ذلك على عدم ثبوت معرفته وإيمانه وعدم كمالهما ومثل هذه المعرفة والايمان في معرض الزوال.

(يا هشام كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل) المقصود أن العقل أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى وكل ما يتقرب به سواه دونه في الفضل وهذا كمال المدح له ولأهله واعلم أن للعقل اطلاقات والمشهور منها أمران: الأول القوة المهيأة للعلوم الكلية ضرورية كانت أو نظرية تصورية كانت أو تصديقية ولا نعني مجرد القوة والاستعداد بل نعني بها القوة الحاصلة معها كمالاتها بالفعل، والثاني العلم والحكمة التي هي ثمرته ويمكن حمله هنا على كل واحد منهما، لأن كل واحد منهما أصل يتوقف عليه غيره مما يتقرب به العبد إلى الله تعالى مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها فكل واحد منهما أفضل مما عداه وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله لعلي (عليه السلام):

«يا علي إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفى عند الناس في

ص: 176

الدنيا وعند الله في الآخرة (1) (وما تم عقل امرء حتى تكون فيه خصال شتى) الخصال بالكسر جمع الخصلة بالفتح وهي المرة من الخصل وهو الغلبة في النضال، والخصلة أيضا الخلة وهي المراد هنا وكأنها منقولة عن الأولى لجامع الغلبة والفضيلة بينهما، وشتى جمع شتيت وهو التفرق، يقال ثغر شتيت أي مفلج (2) وقوم شتى وأشياء شتى وجاؤا أشتاتا أي متفرقين واحدهم شت وقد ذكر ههنا اثنتي عشر خصلة:

(الكفر والشر منه مأمونان) والناس آمنون من كفره وشره (3) والكفر يطلق على خمسة معان كما يأتي في باب الكفر: الأول إنكار الرب، الثاني إنكار الحق مع العلم بأنه حق، الثالث ترك ما أمر الله تعالى به، الرابع كفران النعم قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر الخامس كفر البراءة قال «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء» يعني تبرأنا منكم، والشر يطلق على كل خبيث ومنقصه كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) والشر جامع مساوي العيوب والحاصل أنه امر كلي تحته أفراد كثيرة كلها من العيوب والخبائث وقد يقسم إلى شر مطلق كعدم العقل مثلا وإلى شر مقيد كعدم كل واحدة من الصفات المرضية والشرايع النبوية ووجود أضدادها.

(والرشد والخير منه مأمولان) يعني العقلاء آملون صدورهما منه، والرشد الهداية وخلاف الغي، والخير لفظ جامع لجيمع الأمور الحسنة كما أن الشر جامع لجميع الأمور القبيحة فهو أيضا مفهوم كلي تحته أفراد كثيرة ويقسم إلى خير مطلق كوجود العقل وإلى خير مقيد كوجود كل واحدة من الصفات المرضية والشرائع النبوية ولعل المقصود أن من أتصف بالخير والرشد والهداية واجتنب سبيل الشر والغي والضلالة، وكان جميع أفعاله وأعماله بالفعل على الوجه المستقيم بحيث يأمل العقلاء منه خيرا ورشدا في غابر عمره ويستنبطون منه ذلك في بقية دهره، فهو تام العقل ويجعل ذلك دليلا على كماله، وإنما قلنا المقصد ذلك لأن كونه قابلا لمطلق الرشد والخير في حيز الاستعداد وكونهما مأمولين منه بالقوة من جميع الوجوه لا يدل على تمام عقله وكماله لأن عقله حينئذ في المرتبة الهيولانية.

ص: 177


1- 1 - رواه أبو نعيم في الحلية من حديث علي (عليه السلام) هكذا «إذا اكتسب الناس من أنواع البر ليتقربوا بها إلى ربنا عز وجل فاكتسب أنت من أنواع العقل تسبقهم بالزلفة والقرب» وأورده الشيخ أبو علي سينا في الرسالة المعراجية ص 15. ونقله المحقق الداماد في كتاب الصراط المستقيم بهذا اللفظ «يا علي إذا عني الناس أنفسهم في تكثير العبادات والخيرات فأنت عن نفسك في أدراك المعقولات حتى تسبقهم».
2- 2 - الانفراج بين الأسنان.
3- 3 - الكفر باي معنى فرض لا يجتمع مع العقل فإن انكار الرب مبنى على قاعدة وهمية وهي أن كل موجود محسوس ولا يعرف بشئ لا يحس به وانكار الحق مع العلم بأنه حق وظيفة الواهمة كما عرفت من المثال المتقدم من أن الميت لا يخاف لأنه جماد، وكذلك ساير المعاني الذي ذكره كما يظهر بالتأمل. (ش)

(وفضل ماله مبذول) يحتمل أن يراد بالفضل ما زاد على القوت والكفاف وإنما خص بالفضل لأن بذل الكفاف قد لا تطيب به نفس أكثر العقلاء بل قد ورد النهي عنه في بعص الروايات، ويدل عليه أيضا قوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) ويحتمل أن يراد به الصدقات المفروضة مثلا الزكاة وغيرها وفي الخبر «أن السخي هو من أدى فرايض ماله» (1) واعلم أن لبذل المال ومنعه غايات وبين غاياتهما تفاوت والفضل لغايات البذل والحاكم بذلك هو العقل الصحيح والنص الصريح، أما غايات البذل فمنها الذكر الجميل بين الناس وهو مطلوب عقلا وشرعا لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» (2) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولسان صدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره» (3)، ومنها رعاية حال الفقراء الذين هم ودائع الله وعيال رسوله وجبر كسر قلوبهم ومواساتهم وقد وقع الحث عليها في روايات متكثرة، ومنها جلب قلوب الناس إلى المحبة والمودة، ومنها تحصيل رضوان الله تعالى وطلب الدرجات العالية في الآخرة، ومنها أنه يأخذ بدل واحد أضعافا كثيرة قال الله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة» (4) يعني من يعطي يسيرا يجزى به كثيرا واليدان عبارتان عن النعمتين، وفي طرق العامة قال أبو ذر: «يا نبي الله أرأيت الصدقة ماذا هي؟ قال: أضعاف مضاعفة وعند الله المزيد» قوله: «وعند الله المزيد» هي الزيادة على الثواب لمن يشاء بما يشاء كما قال سبحانه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وأما غايات المنع وترك البذل فيعرف مما ذكرنا بالتضاد وأيضا المنع يورث البخل والشغل عن ذكر الله تعالى ومحبة الدنيا إلى غير ذلك من المفاسد فمن آثر البذل على الجمع مع أن من مقتضى النفوس البشرية والأوامر الشيطانية، فإن الشيطان دائما يأمر الإنسان بالمنع والجمع ويعدهم بالفقر بسبب الاحسان والبذل علم أن ذلك من تمام عقله ومتانته وكمال رأيه ورزانته.

(وفضل قوله مكفوف) لأن العاقل هو الذي يضع الأشياء في مواضعها ومن جملة ذلك أن يتكلم بما يحتاج إليه ويترك ما زاد عليه (5) وهو المراد بالفضل، ولأنه يعلم أن الإكثار يوجب الاهجار، ومن ثمة قال

ص: 178


1- 1 - راجع الكافي كتاب الزكاة باب معرفة الجود والسخاء.
2- 2 - وذلك أن الناس لا يذكرون أحدا بخير إلا لملكاته الفاضلة وصفاته الحسنة أو لأنه أفادهم فائدة أو دفع عنهم ضرا وجميع ذلك مطلوب في الشرع، فإن كان فاعله مؤمنا يستحق الثواب وإلا يدفع إليه أعواض كتخفيف عذاب إن كان يستحق العقاب (ش).
3- 1 - أورده الشريف الرضى في النهج أبواب الخطب تحت رقم 23.
4- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 232.
5- 3 - الكلام إما أن يكون حكمة ولا فضل فيه والفضل هو الزيادة التي لا يحتاج إليه وان كان غير الحكمة فهو محصول الوهم ولا يحوم حوله العاقل. (ش)

رسول الله (صلى الله عليه وآله) «من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثر ذنوبه ومن كثر ذنوبه فالنار أولى به» (1) وإن الكلام في وثاقه ما لم يتكلم به فإذا تكلم صار هو في وثاق الكلام فلا يتكلم إلا بالاحتياط.

ولذلك قيل: لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك وأن الجوارح مسؤولة يوم القيامة فلا تتكلم إلا بالحكمة والموعظة الحسنة وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه» (2).

(ونصيبه من الدنيا القوت) لأن العاقل الكامل يعلم بعين الاعتبار والبصيرة أن المال مادة الشهوات وحبالة الشيطان فلا يطلبه حذرا من الدخول فيها وأن من اقتصر على القوت لا يفتقر أبدا وأن من رضى به كان مستريحا في الدنيا ناجيا في الآخرة وإلى الوجهين الأخيرين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوأ خفض الدعة» (3) يعني من قنع فقد ألزم الراحة فلهذه الوجوه وغيرها رضي العاقل بالقوت وكف نفسه عن طلب الزايد عليه.

(لا يشبع من العلم دهره) دهره منصوب بنزع الخافض أي في دهره يعني تمام عمره، والمراد بالعلم المتعلق بأحوال المبدء والمعاد وغير ذلك من الأمور الدينية والأحكام الشرعية، وهذا العلم هو الذي يكسب به الإنسان الطاعة في حياته والذكر الجميل والثواب الجزيل بعد وفاته، وإلى مدح هذا العلم وأهله أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر» (4) يعني لتنور قلوبهم بأنوار الهية وفيوضات ربانية أو لاشتهار صيتهم وانتشار فضلهم فيما بين فرق الأنام إلى يوم القيامة، وفي قوله «لا يشبع» إشارة إلى أن العلم غذاء القلب وحياته وبه يتعذى ويتقوى ويكمل كما أن الطعام غذاء البدن وحياته وقوامه، وبالجملة شبه العلم بالغذاء إذ كما أن الغذاء سبب لبقاء البدن وحياته في مدة العمر كذلك العلم سبب لبقاء النفس وسعادته في الدارين، ولذلك يقال: الجاهل ميت.

والسرفي أن جوع العاقل في تحصيل العلم لا يسكن هو أن مراتب شوقه غير متناهية وكذا مراتب العلم كما قال سبحانه (فوق كل ذي علم عليم) فكلما وصل إلى مرتبة من مراتب العلم واستضاء قلبه

ص: 179


1- 4 - أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر كما في الجامع الصغير.
2- 5 - رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر من الكافي باب الصمت وحفظ اللسان تحت رقم 19 من حديث أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) لكن في النهج من كلامه (عليه السلام) في أبواب الحكم تحت رقم 369.
3- 1 - أورده الشريف الرضي في النهج أبواب الحكم تحت رقم 371.
4- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 147.

بنور تلك المرتبة وكمل به واستشرق، رأى فوقها مرتبة أخرى أكمل منها وأنور فيسوقه الشوق إليها ويستضىء بنورها وهكذا إلى ما شاء الله ومن ههنا ظهر أن للعاقل في كل آن ترقيات وفي كل زمان انتقالات وابتهاجات وتلك الترقيات حقيق بأن تسمى معارج النفوس.

(الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره) لعل المراد أن ذل نفسه وهو مع الله بأخذ زمامها كيلا تتجاوز عن حدود الشريعة أحب إليه من عز نفسه وهو مع غيره بارسال زمامها لكي تجري في ميدان مرامها، فلا يرد أنه إذا كان مع الله كان عزيزا لا ذليلا لقوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) ويحتمل أن يراد بالعز والذل ما هو المتعارف عند الناس أعني الرفعة فيما بينهم وعدمها يعني إذا كان المماشاة مع الناس موجبا لرفعة القدر فيما بينهم والسير في سبيل الله والتمسك بحبل الله موجبا للذل ووضع القدر عندهم فالعاقل هو الذي يحب هذا الذل ويختاره على ذلك العز لعمله بأن في هذه الرفعة مفاسد غير محصورة، وأنها رفعة دنيوية وذلك الذل رفعة أخروية، والرفعة الدنيوية مثل الدنيا داثرة داحضة، بخلاف الرفعة الاخروية، فإنها باقية أبدا.

(والتواضع أحب إليه من الشرف) التواضع التذلل من الوضع وهو خلاف الرفع.

والشرف الترفع بالنسب أو بالحسب، والمعنى أن العاقل هو الذي يؤثر التواضع لله على الشرف والرفعة (1) لأنه لما عرف عظمة الله ونظر إلى جلال قدره وكمال قدرته على جميع المقدورات وشدة استيلائه على جميع الممكنات بالايجاد والافناء وغاص في بحار وجوده وكماله وقدرته وتفكر في قهره ومنعه وجوده احتقر نفسه ووجوده وكماله وقدرته بل لا يرى لنفسه وجودا وكمالا وقدرة، وإنما يرى هذه الأمور الجاهل الذي لم يخطر بباله ذات الباري وصفاته فيرى لنفسه وجودا ولوجوده آثارا نظير ذلك أن من لم يرماء أبدا ثم رأى جدولا صغيرا فإنه يستعظمه فإذا وقف هناك بقي له ذلك الاستعظام، وأما إذا جاوزه ورأى نهرا عظيما فإنه يزول عنه ذلك الاستعظام ويستعظم هذا النهر ثم إذا جاوزه ورأى بحرا زاخرا زال عنه استعظام ما سواه قطعا.

وإلى ما ذكرنا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «إنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم» (2) فإن رفعة

ص: 180


1- 1 - الشرف والرفعة معنى جزئي يدركه الوهم ويحبه الإنسان بهذه القوة الخبيثة والعقل لا يصدق بحسن ذلك إلا أن يكون وسيلة إلى دفع ظلم عن مظلوم أو ترويج حق كما قال سليمان (عليه السلام) «رب هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي» أراد ذلك لإنفاذ الحق وترويج التوحيد وحينئذ فلا يكون الشرف مطلوبا لذاته بل إذا علم ان مقصوده الديني يحصل بالتواضع والخمول والضعة كان طالبا له دون الشرف وبالجملة فطلب الرفعة من علامات ضعف العقل وغلبة الوهم (ش).
2- 2 - النهج أبواب الخطب تحت رقم 145 - أوله «فبعث محمد صلى الله عليه وآله بالحق».

الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له في هذا التعليل إشارة إلى أن التواضع له سبحانه عين الرفعة وذلك لأن الله سبحانه هو العظيم المطلق وكل عظمة ورفعة فمستفاده من وجوده والقرب منه فكما كانت العادة جارية من الملوك في حق من يتواضع لهم ويوفيهم حقهم من الإجلال والاكرام وحسن الانقياد أن يرفعوه ويعظموه كذلك عادة مالك الملوك جل شأنه، يرشد إلى ذلك رفعة حال الأنبياء والأوصياء والصالحين عليهم صلوات الله أجميعن، ويدل عليه قول الصادق (عليه السلام) «إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه» (1) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لا حسب كالتواضع» (2) يعني في إيجاب الرفعة هذا حال التواضع لله سبحانه وأما التواضع للفقراء والصالحين فمن شعب تواضعه لله تعالى شأنه لأن من أحب أحدا وتواضع له فإنه يجب أن يحب محبوبية ويتواضع لهم على أن التواضع لهم يوجب ازدياد المودة.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «التودد نصف العقل» (3) ووجه ذلك أن العقل نصفان نصف عقل المعاد ونصف عقل المعاش، وقال الصادق (عليه السلام): «من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلم على من تلقى، وأن تترك المراء وإن كنت محقا ولا تحب أن تحمد على التقوى» (4) وفي حديث آخر: «التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزل منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس والله يحب المحسنين» (5) وينبغي أن يعلم أن الأولى والأحسن بحال الفقراء أن يتركوا تواضع الأغنياء ويعتزلوا عنهم ويتكلوا على الله سبحانه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله» (6) والتيه التكبر، ولعل المراد به ما ذكرناه من الاعتزال عنهم وترك التواضع لهم وإلا فالتكبر قبيح من كل أحد لأن الكبرياء إنما يليق بالحق عز شأنه إذا الخلق محل النقص، فإذا تكبر تكلف أن يتصف بما لا يليق به، ومن ثم قيل: هتك ستره من جاوز قدره.

(يستكثر قليل المعروف من غيره) العاقل يؤثر ذلك من وجوه:

الأول: التشبه بالبارىء جل شأنه فإنه يقبل قليل الحسنات من عباده ويضاعفه أضعافا كثيرة وفي الأدعية المأثورة «يا من يقبل القليل ويعفو عن الكثير».

الثاني: استكثاره تعظيم للنعمة والمنعم، وكلاهما مطلوب واستقلاله تحقير لهما وهو مذموم جدا.

ص: 181


1- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب التواضع تحت رقم 2.
2- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 113.
3- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 113.
4- 3 - (4 و 5) الكافي كتاب الايمان والكفر باب التواضع تحت رقم 6 و 13.
5- 4 -
6- 5 - النهج أبوا الحكم تحت رقم 406.

الثالث: استكثاره نوع من الشكر وهو يوجب الزيادة لقوله تعالى: (ولئن شكرتم لأزيدنكم) ولما رواه مسمع بن عبد الملك قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمنى وبين أيدينا عنب نأكله فجاء سائل فسأله فأمر بعنقود فأعطيته فقال السائل: لا حاجة لي في هذا إن كان درهم، قال: يسع الله عليك، فذهب ثم رجع فقال ردوا العنقود فقال: يسع الله لك ولم يعطه شيئا، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد الله (عليه السلام) ثلاث حبات عنب فناولها، إياه فأخذ السائل من يده ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): مكانك فحثا ملأ كفيه عنبا فناولها إياه فأخذها السائل من يده ثم قال الحمد لله رب العالمين فقال أبو عبد الله (عليه السلام) مكانك، يا غلام أي شئ معك من الدراهم فإذا معه نحو من عشرين درهما فيما حرزناه (1) أو نحوها فناوله إياها، فأخذها ثم قال: الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله (عليه السلام) (عليهم السلام) مكانك فخلع قميصا كان عليه فقال: ألبس هذا، فلبسه، ثم قال: الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبد الله أو قال: جزاك الله خيرا، لم يدع لأبي عبد الله (عليه السلام) إلا بذا ثم انصرف، فذهب فظننا أنه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لأنه كلما كان يعطيه حمد الله أعطاه» (2).

(ويستقل كثير المعروف من نفسه) لأن العاقل يعلم أن في استعظام ما أعطاه من المعروف مفاسد شتى منها أنه يؤذي الآخذو أذاه يحبط الأجر لقوله تعالى (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) ومنها أنه يوجب منا عليه والمن يهدم أجره لقول الصادق (عليه السلام) «المن يهدم الصدقة» (3) ومنها أنه يستلزم البخل لأنه لا يستعظم إلا ما عظم في عينه وكثر في نظره فيشق عليه إخراجه، ومن ثم قيل: الجواد لا يستعظم ولو أعطى الدنيا بحذافيرها، ومنها أنه يوجب العجب والفخر وهما من الصفات الرذيلة التي لا يرتكبها العاقل وأيضا العاقل إذا شاهد نعم الله تعالى على الفقراء ظاهرة وباطنة مما لا يعد ولا يحصى، وعلم أنه تعالى مع ذلك يستصغرها ويخاطبهم يوم القيامة بالاعتذار ويقول: «يا عبادي مامعتكم في الدنيا لهواني بكم بل لاكرامي لكم في هذا اليوم» (4) وقاس معروفه على نعماء الله تعالى يجده شيئا قليلا بل لا شيئا محضا، فلا يخطر بباله استعظام ذلك قطعا، ثم الاستعظام بأن يقول مثلا: لي عليك نعمة عظيمة، أو أعطيتك مالا كثيرا، أو أحييتك باعطاء كذا وكذا، أو خذ هذا المال الكثير، أو يعد نعماءه ويكررها عليه، أو نحو ذلك مما دل عليه صريحا أو ضمنا أو كناية.

(ويرى الناس كلهم خيرا منه) لحسن الظن بهم وعدم علمه بخفيات أمورهم ولاجتنابه عن رذيلة

ص: 182


1- 1 - الحرز تعيين مقدار شي بالتخمين. (ش)
2- 2 - رواه الكليني في الفروع كتاب الزكاة أبواب الصدقة باب النوادر تحت رقم 12.
3- 3 - الفروع من الكافي كتاب الزكاة باب المن وفيه «المن يهدم الصنيعة».
4- 4 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب فضل فقراء المسلمين تحت رقم 9.

العجب المانع من الترقي في الكمالات والتودد في الالتيام ولأن هذا نوع من التواضع لله تعالى ولعباده والتواضع يوجب السعادة في الدارين والرفعة في النشأتين ومحبتهم إياه، ولأن الخيرية الحقيقة لكل أحد باعتبار قربه بالمبدء ولطف المبدء به ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه، ومراتبهما مختلفة متفاوتة في الزيادة والنقصان، والعاقل يجوز أن يكون القرب واللطف في غيره أكمل فلذلك يراه خيرا منه وحكاية موسى (عليه السلام): مع الكلب مشهورة وفي الكتب مذكورة.

(وأنه شرهم في نفسه) لما فيه من التواضع والتذلل وإهانة نفسه وعدم إكرامها وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «طوبى لمن ذل نفسه» (1) ولأن العاقل عارف بعيوبه وعجزه وقصوره لا بعيوب غيره (وهو تمام الأمر) أي هذا الأخير وهو أن يرى العاقل أنه شر الناس في نفسه تمام العقل وكماله إذ به يحصل الاستكانة والتضرع والخضوع لله تعالى والرجوع إليه بالكلية، والتعري عن جلبات الوجود والهوية المجازية والتوصل إلى الفناء في الله والهوية الحقيقية، ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى جميع ما تقدم من الخصال المذكورة فهو حينئذ بمنزلة إعادة ما أفاده (عليه السلام) بقوله: و «ما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتى».

(يا هشام إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه) قريب منه قول أمير - المؤمنين (عليه السلام): «علامة الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك» (2) قال في المغرب: الهوى مصدر هويه إذا أحبه واشتهاه ثم سمى به المهوى المشتهى، محمودا كان أو مذموما، ثم غلب على غير المحمود فقيل: فلان اتبع هواه إذا أريد ذمه، وفي التنزيل (ولا تتبع أهواء قوم) ومنه فلان من أهل الأهواء إذا زاغ عن الطريقة المثلى من أهل القبلة كالجبرية والحشوية والخوارج.

والمعنى أن العاقل لا يكذب فيما فيه هواه ونفعه تحرزا من الفضيحة ووقوع الناس في أعراضه عند ظهور خلافه أو من عقوبة الله والبعد من رحمته فكيف إذا لم ينفعه الكذب ولا يهويه وفيه ترغيب في إيثار الصدق على الكذب ومبالغة في أن العاقل لا يكذب أصلا، وقال بعض الحكماء: الكذاب والميت سواء لأن فضيلة الحي النطق فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته.

(يا هشام لا دين لمن لا مروءة له) في المغرب المروءة كمال الرجولية ومنها تجافوا عن عقوبة ذي المروءة وقد مرأ الرجل مروءة، وفي الصحاح المروءة الإنسانية (ولا مروءة لمن لاعقل له) الظاهر أن النفي في المواضع الأربعة وارد على الحقيقة كما يقضيه وقوع النكرة في سياق النفي، والمعنى لا تتحقق حقيقة الدين ولا توجد لمن ليس له حقيقة المروءة، ولا تتحقق حقيقة المروءة لمن ليس له حقيقة العقل

ص: 183


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 123.
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 452.

ينتج لا يتحقق حقيقة الدين لمن ليس له حقيقة العقل، والمقدمتان ظاهرتان ضرورة أن من كان له مروءة في الجملة كان له دين في الجملة ومن كان له عقل في الجملة كان له مروءة في الجملة، ويحتمل أن يكون النفي فيها واردا على الكمال كما هو الشايع في استعمال نحو هذا الكلام، والمعنى لا يتحقق كمال الدين لمن ليس له كمال المروءة، ولا يتحقق كمال المروءة لمن ليس له كمال العقل، ينتج لا يتحقق كمال الدين لمن ليس له كمال العقل، والمقدمتان أيضا ظاهرتان ولا يجوز أن يراد في الأولى نفي الحقيقة وفي الثانية نفي الكمال أو بالعكس لفقد الارتباط حينئذ بين الفقرتين وعدم الانتاج لعدم تكرر الأوسط.

والأول أظهر لما مر، والثاني أنسب بما بعده، ولما بين (عليه السلام) أن المروءة والانسانية بالعقل وكان كل واحد منهما مستورا لا يدركه الحواس وكانت الظواهر أدلة على البواطن كما مر أشار إلى أنه يعرف ذلك بترك الدنيا وعدم الركون إليها، وإلى أن مراتبه متفاوتة في الشدة والضعف بقوله:

(وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا) الخطر: الحظ والنصيب والقدر والمنزلة والسبق الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال أي جعله خطرا بين المتراهنين، ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا، أما الأولان فظاهران لأن أقدار الناس عند الله سبحانه في الدنيا والآخرة متفاوتة في الفضل والكمال والقرب والبعد وأعظمهم قدرا من لا يرى الدنيا حظا ونصيبا وقدرا ومنزلة لنفسه ولا يلتفت إليها أصلا لتنور قلبه بضوء عقله وإشراق لبه بنور ربه; فعاد بحيث لا ينظر إلا إليه ولا يرغب إلا فيما لديه ولعلمه بأن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وأن من أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وأن من مشى إلى إحديهما بعد عن الأخرى، وأن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.

وأن الدنيا موبقة زهراتها مهلكة شهواتها، باقية آفاتها، دائمة كدوراتها، حائلة بين المرء والطاعة لذاتها، فلذلك ترك الدنيا من وراء ظهره وسار إلى حضرة المولى فصار عنده أعظم قدرا وأرفع مكانا وأعلى شأنا ووجيها في الدنيا والآخرة، ومن المقربين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، وأما الأخير فلأن الناس في هذه النشأة بمنزلة أهل السياق والرهان يتسابقون لأغراض مطلوبة وغايات مقصودة وأعظمهم قدرا عند الله تعالى من شرق عقله وكمل علمه فصار بحيث لا يرى الدنيا وزهراتها الغائلة (1) ولذاتها الزايلة ومقتنياتها الباطلة خطرا وسبقا لنفسه أصلا بل غرضه من السباق وغايته من الاستباق هو الفلاح بالسعادات الاخروية والفوز بالمكاشفات الربوبية والدخول في زمرة الأبرار وفي جنات تجري

ص: 184


1- 1 - في بعض النسخ (((زهراتها الفانية))).

من تحتها الأنهار، وبالجملة ترك الدنيا دل على كمال العقل والعلم، وظاهر أن العالم الكامل العقل أعظم قدرا عند الله تعالى من غيره (أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة) فيه تنبيه للغافلين وإيقاظ لهم عن نوم غفلتهم وترغيب للسالكين في الزهادة عن الدنيا وتحريض للعاملين على تحمل المشقة والفناء بتوقع رفع المنزلة وعظيم الجزاء بنوع من التشبيه والتمثيل، وتلميح إلى قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) أي استبدل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة حياتها السرمدية بالأنفس ونعيمها الأبدية بالأموال فالمشتري هو الله تعالى، والبايع هو النفوس البشرية، والمبيع هو الأبدان، والثمن هو الجنة العالية، الباقية، والدنيا أوان التسليم، فارتضوا بهذا البيع واستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وسلموا المبيع إلى المشتري لتستفيدوا الربح العظيم فإن البايع إذا قصر في تسليم المبيع حتى هلك انفسخ البيع وبطل الربح، قيل: وفي جعل الجنة ثمن الأبدان إشارة إلى أن ثمن النفوس المجردة هو الله تعالى فكأنه (عليه السلام) قال:

أما أن أبدانكم ثمنها الجنة فلا تبيعوها بغيرها وأما نفوسكم المجردة وأرواحكم القدسية فإنما ثمنها هو الله سبحانه والفناء المطلق فيه (1) وفي مشاهدة الوجه الكريم فلا تبيعوها بغيرها ولما كان البيع منوطا بالرضا وكان (عليه السلام) هو الناصح الأمين رغبهم في هذا البيع لما فيه من المصالح الدنيوية والمنافع الاخروية ونهاهم عن بيع أبدانهم بالدنيا الفانية الزايلة الخاسرة الغدارة المكارة بقوله (فلا تبيعوها بغيرها) يعني يجب عليكم أن لا تعاملوا الشيطان ولا تبيعوا الأبدان بالدنيا وشهواتها فإن من آثر مبايعة الرحمن على مبايعة الشيطان فأولئك هم الرابحون، ومن عكس فما ربحت تجارتهم وأولئك هم الخاسرون.

وينبغي أن يعلم أن العبد في الدنيا تاجر وهو في محل الخطر بنفسه وماله فلابد أن لا يغفل لمحة من حاله، فإن الشيطان قاطع الطريق، مترصد في اغتياله، منتهض للفرصة في إضلاله، والمشتري وهو الله تعالى عالم بأحواله ولا يقبل إلا السليم والجيد من أعماله وأقواله وأفعاله فيجب عليه أن يبتهل أن

ص: 185


1- 1 - الفناء شئ لا يعرفه إلا الراسخون في العلم فمن تفوه به ولا يعرف معناه خيف عليه الضلال ولا يعترف أحد بعدم المعرفة وأما من عرف معنى الفناء فهو غاية مقصود العارفين ففي الحديث «يتقرب العبد بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها» نقلناه من كتاب عين الحياة للمجلسي عليه الرحمة مترجما ثم بعد نقله هذا الحديث تكلف لتأويل الفناء بما يوافق مذاقه وأطال الكلام فيه جدا ويمكن تلخيص كلامه في جملتين الأولى أن المراد كنت مسموعه مبصره فقال السمع وأراد المسموع، الثاني: ان الله تعالى يده التي يبطش أي يفعل الشئ في زمان يريد العبد فعل ذلك الشئ ولا يسع المقام البحث في ذلك ولعل الله يوفقنا في مكان أليق، وأما على أصول الشارح فلا يحتاج إلى التأويل، لأن وجود الممكنات بالنسبة إلى وجود الواجب كالفيء من الشئ وجود تعلقي صرف فإذا وصل العارف إلى إدراك ذلك بالوجدان لا بالقول فقط فقد وجد فناءه (ش).

لا يكون من الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

(يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل) علامة الشئ ما يعرف به ذلك الشئ وللعاقل علامات كثيرة كما يظهر لمن تصفح أحاديث هذا الكتاب وغيرها والمذكور هنا ثلاثة كلها لتكميل الغير اثنان منها لتكميل العلم والآخر لتكميل العمل أو لتكميل العلم والعمل جميعا (أن يكون فيه ثلاث خصال) يريد أن كل واحدة منها علامة بدليل ما بعده (يجيب إذا سئل) لأن الجواب على نهج الصواب عقيب السؤال دل على كمال المجيب وإنارة عقله ونضارة ذهنه ومهارة طبعه في العلوم ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه» (1) وقال أيضا «قدر كل امرء ما يحسنه فتكلموا في العلم تبين أقداركم» (2) ولأن هذا الجواب ينفع السائل لأنه ينور قلبه بالحكمة وإيصال النفع من الصفات الجلية والسمات العلية للعاقل كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «خير القول ما نفع» (3)4 - أخرجه البغوي في المصابيح ج 1 ص 22 بسند ضعيف عن أبي هريرة.

(4) وقوله: أيضا «لا خير في علم لا ينفع» قيل يعني لا ينفع صاحبه غيره بل فيه مضرة، لقول النبي (صلى الله عليه وآله) «من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (4) وهذا يفيد وجوب الجواب عقيب السؤال ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجواب موجبا لمضرة والترك مشتملا على المصلحة كالتقية ونحوها يدل على ذلك ما رواه المصنف (5) عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الوشاء قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)؟ فقال: نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون، قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت:

حقا علينا أن نسئلكم؟ قال: نعم، قلت حقا عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل أما تسمع قول الله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وبالجملة العاقل حكيم يجيب إن رأى الجواب خيرا وبترك الجواب إن رأى تركه خيرا، وترك الجواب والصمت لمصلحة أيضا من علامات العاقل، وقد نقل بعض أرباب السير أن رجلا من أهل العراق حج بيت الله الحرام وغلبه النوم ليلة في المسجد الحرام فاعطي في المنام تعبير الرؤيا، فلما رجع إلى بلده اشتهر بذلك حتى كان الناس ينتقلون إليه من البلدان البعيدة لاستعلام رؤياهم وكان يجيبهم ويعبر لهم ولا يخطئ أصلا ونقل من جملة تعبيراته حكايات عجيبة غريبة فبلغ ذلك إلى الوالي فطلبه وأجلسه بين يديه وشرع بذكر حكايات من مزخرفات ومنامات مفتريات على سبيل السخرية والاستهزاء وكان ذلك الرجل ساكتا في

ص: 186


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 392.
2- 2 - الاختصاص للشيخ المفيد - رحمه الله - ص 2.
3- 3 - و
4- النهج جزء من كتاب له (عليه السلام) إلى ولده الحسن بن علي (عليه السلام).
5- 5 - كتاب الحجة باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (عليه السلام) تحت رقم. 2

كل ما يقول ولم يجبه أصلا فقال له الأمير بعدما أطال الكلام لايش ما تتكلم؟ فقال: أيها الأمير نحن نتكلم إذا كان السائل مستفهما لا ما إذا كان مستهزيا ومتعنتا.

فاستحسن عقله وتدبيره فعززه وقربه.

(وينطق إذا عجز القوم عن الكلام) بالحكمة الإلهية، والأسرار الربوبية والقوانين الشرعية والأخلاق النبوية والسياسات المدنية، وغيرها لشدة خوضه في العلوم والحقائق وكثرة غوصه في بحار المعاني والدقائق إما بتعلم ومناظرة مع الخلان في مدة طويلة وآونة من الزمان أو بمكاشفات وإلهامات لكثرة أفكار ورياضات فحصل له بذلك كمالات لازمة وسعادات دائمة وملكات ثابتة وأحوالات راسخة حتى عرج بذلك إلى رتبة التعليم بعبارات لايقة، ودرجة التفهيم بكلمات رائقة، ومنزل التقويم بتقريرات واضحة، كما هو شأن العلماء ودأب الحكماء، وطرز العقلاء، فدل ذلك على كماله في عقله وتفوقه في فضله وتقدمه في جلال قدره وكمال نيله ومن ههنا يظهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مقدم على الثلاثة المنتحلين للخلافة لعجزهم عن معرفة كثير من الأحكام ورجوعهم إليه في كثير من مسائل الحلال والحرام (ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله) لأن ذلك يتوقف على التميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح والصحيح والسقيم والخير والشر في الأقوال والأعمال والأخلاق كلها، ثم اختيار أفضل هذه الأمور للاخوان والإشارة إليه شفقة عليهم، وكل ذلك من آثار الفضل وعلامات العقل ولذلك قيل: من أشار إلى أخيه بأمر يعلم أن الرشد فيه فقد كمل عقله وفاق فضله وظهر عدله.

وهذه الفقرة من الكلمات الجامعة لشمولها جميع أنواع الخير مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالأخلاق المرضية والترغيب في أمر الآخرة والتزهيد عن الدنيا، وغير ذلك مما يتم به نظام الدارين وتكمل به سعادة الكونين، وقيل الفقرة الأولى ناظرة إلى الفتاوى في النقليات والشرعيات والثانية إلى تحقيق المعارف والعقليات والثالثة إلى معرفة التدبيرات والسياسات في العمليات (1) (فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شئ) يعني لم يقدر على الجواب عند سؤال، وعلى النطق عند عجز القوم، وعلى الإشارة بما فيه صلاح أهله فهو أحمق ناقص العقل لفساد قوته النظرية والعملية المعبرتين بالعقل النظري والعملي.

قال في المغرب: الحمق نقصان العقل عن ابن فارس، وعن الأزهري فساد فيه وكساد، ومنه انحمق

ص: 187


1- 1 - لأن قوله في الفقرة الثالثة «صلاح أهله» صريح في السياسة وتدبير المنزل والأخلاق وأما الفقرة الثانية فوجه اختصاصها بالمعارف والعقليات ان الناس لا يسئلون عنها حتى ينحصر التعليم في مورد السؤال بل على العالم ان يعلم الناس التوحيد ويوجههم إلى الآخرة ويبين لهم النبوة والإمامة قبل أن يلتفتوا ويسئلوا واما الفروع فيسئل عنها المؤمن بالله والآخرة فيجيب العالم كما في الفقرة الأولى (ش).

الثوب إذا بلي، انحمقت السوق إذا كسدت، وقد حمق حمقا فهو أحمق، وحمق حماقة فهو أحمق.

(إن أمير المؤمنين (عليه السلام)) تأكيد للسابق وتقرير له ولذلك ترك العاطف (قال لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه هذه الخصال الثلاث) التي هي من أعاظم أصول حاجات الناس (أو واحدة منهن) لأن صدر المجلس لأصحاب العلوم الراسخة وأرباب العقول الكاملة في قوتي العلم والعمل ليرجع إليهم الضعفاء ويلوذ بهم الفقراء في تحصيل الكمال وتكميل الأحوال ويعظموهم لحق التعليم والإرشاد ويوقروهم لحق التقدم في المعرفة والعلم بأحوال المبدء والمعاد، وهذا صريح في أن تفاوت الرجال في المجالس باعتبار تفاوتهم في الفضل والكمال لا باعتبار تفاوتهم في النسب والمال، يدل على ذلك قوله (عليه السلام) أيضا «قيمة كل امرء ما يحسنه» (1) وقول الصادق (عليه السلام) «اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنا» (2) وبالجملة التقدم على الاطلاق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم بعده لعلي بن أبي طالب وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) ثم بعدهم لشيعتهم على تفاوت مراتبهم في العلم والعمل (فمن لم يكن فيه شئ منهن فجلس فهو أحمق) لأنه وضع لنفسه في غير موضعها وموضعها موضع أراذل الناس لأنه رذل وإن كان ذا نسب لقول النبي (صلى الله عليه وآله) ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم والأدب» (3) وقول أمير المؤمنين: «إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم» (2).

(وقال الحسن بن علي (عليهما السلام) إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها) يمكن أن يراد بالحوائج الحوائج الدينية أعني أصول المعارف والأحكام وفروعها وأن يراد بها الحوائج الدنيوية وقد دل العقل والنقل على قبح الطلب وذم السؤال في أمور دنيوية لأن فيه خساسة وذلا وانكسارا ودنية وإراقة ماء الوجه وهي أشد وأصعب من منيته، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب» (3) وهي جمع الرغيبة يعني العطاء الكثير وفي الخبر أيضا «لأن يأتي أحدكم جبلا فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من إن يسأل أعطوه أو منعوه» (4) وإن اضطررتم وليس الاضطرار إلا لقلة البصيرة وضعف اليقين بالله، لأن من توكل على الله فهو حسبه فاطلبوها من أهلها لأنه إن قضاها قضاها بلا منة ولا استهانة وعلى وجه جزيل وإن ردها ردها بوجه حسن وعلى وجه جميل، ولا تطلبوها من غير أهلها لأن تلك دنية حاضرة ومذلة ظاهرة، وفوت

ص: 188


1- 1 - تقدم آنفا (2) سيأتي في كتاب العلم ان شاء الله. 3 - أخرجة ابن النجار من حديث أبي هريرة بسند ضعيف كما في الجامع الصغير.
2- 4 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 288.
3- 5 - جملة من كتاب له (عليه السلام) إلى الحسن بن علي (عليه السلام) في النهج تحت رقم 31.
4- 6 - أخرجه البغوي في المصابيح ج 1 ص 123.

الحوائج أحسن وأهون منها فقال: (قيل يا ابن رسول الله ومن أهلها؟ قال: الذين قص الله في كتابه وذكرهم فقال: (إنما يتذكر أولو الألباب) قال: هم أولو العقول الخالصة) عن شوائب النقص والأوهام (1) إن أريد بالحوائج الحوائج الدينية فالرجوع فيها إلى اولى الألباب وطلبها منهم ظاهر لأنهم العارفون بالمعارف والأحكام وسائر الناس فقراء يحتاجون إلى السؤال منهم والأخذ من خزائن عقولهم، وكذا إن أريد بها الحوائج الدنيوية لأنهم بسبب كمال عقولهم وعلو طبعهم وشدة محبتهم ومودتهم بخلق الله إما يقضون حوائجهم على الوجه الأحسن، كما روي «أن سائلا سأل الرضا (عليه السلام) فقال اجلس رحمك الله فدخل الحجرة وبقى ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب وقال للسائل: خذ هذا المائتي دينار واستعن بها على مؤونتك ونفقتك وتبرك بها ثم خرج بعد ذهاب السائل; فقيل له: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلما ذا سترت وجهك عنه؟ فقال مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته» (2) وإما يردونهم على الوجه الأحسن ويرشدونهم إلى ما يتحصل به قضاء حوائجهم كما روي «أن رجلا اشتدت فاقته فقالت له امرأته لو أتيت رسول الله فسألته فجاءه ليسأله فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله فقال الرجل ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إن رسول الله بشر فأعلمه، فأتاه فلما رآه قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله حتى فعل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل واستعار معولا واشتغل بالاحتطاب وابتياعه حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر فجاء إليه (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع منه، فقال (صلى الله عليه وآله) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله» (3) فانظر رحمك الله إلى جلالة قدر العقلاء ونبالة حالهم وعظمة شأنهم حيث جعلهم الله سبحانه منارا في بلاده بهم يعرفون معالم الدين ويصعدون إلى أعلى معارج اليقين، وملاذا لعباده بهم يتوسلون في تحصيل المطالب ويتمسكون في تيسير المآرب، تلك نعمة يمن بها على من يشاء من عباده وهو الحكيم العليم.

ص: 189


1- 7 - العقل الخالص عن شوائب الأوهام لفظ يتفوه به جميع الناس ويظنون أنفسهم واجدين له متصفين به ولكن الحق أن الخالص المحض ليس إلا في قليل ويعرف ذلك من عرض نفسه على العلامات المذكورة في هذا الحديث الشريف للعاقل كما مر وبينا في بعض ما مر كيفية ارتباط منافيات العقل للوهم انموذجا يقاس به الباقي ماذا رأيت أحدا يصدق بشئ لم يقم عليه دليل ولا يدرك بالبديهة كالفضاء الغير المتناهي والجزء الذي لا يتجزء وأن كل موجود محسوس فاعلم أن عقله مشوب بالوهم فهو بعينه نظير من يعترف بان الميت جماد ومع ذلك يخاف عنه ولكن ليس جميع الأصول العقلية مما يعارضه الوهم في التصديق بل في العمل ولولا ذلك لم يكن العقل حجة إذا لم يميز الإنسان مدركات وهمه من مدركات عقله. (ش)
2- 1 - رواه الكليني في الكافي كتاب الزكاة باب من أعطى بعد المسألة تحت رقم 3.
3- 2 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب القناعة تحت رقم 7.

(وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح) لأن كلامهم يعمر قلب الأنيس ويلين طبع الجليس (1) ويخرجه من الغفلة والنسيان ويذكره ثواب الأبد ونعيم الجنان، ويحييه بالموعظة العليا والسعادة العظمى والزهادة عن الدنيا حتى يصير تكونه كتكونهم وتلونه كتلونهم فيرتقى بذلك إلى معارج القدس، ويرتع في رياض الانس، ألا يرى أن من عقد خدمة النبي في وسط روحه كيف فتح الله عليه أبواب فتوحه ومن قارن بيضاء سماء الولاية ولازم نير فلك الإمامة وأخذ جواهر المعاني من زواهر كلماته واقتبس أنوار الحقايق من ضوء مشكاته كيف نور الله بذلك مهجته وزاد بهاءه وبهجته، وقد يرشد إلى ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «قارن أهل الخير تكن منهم وباين أهل الشر تبن عنهم» (2) أي تتميز عنهم.

وفيه حث عظيم على وجوب مفارقة الفاسقين والاجتناب عن الظالمين والفرار عن أولياء الشياطين حتى كان تقارنهم موجبا للاتحاد بين الاثنين وذلك لأن جليس أهل الشر يأخذ منهم أعمال الشر بدارا كما أن الحديد بمجاورة النار يصير نارا، إذ قد اجتمع على تلك الأعمال بواعث من الطبع ووساوس من الشيطان وتدليسات من مردة الإنس، وتلبيسات من أهل الخذلان، فيوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ويزين كل لصاحبه باطلا وزورا.

(وآداب العلماء زيادة في العقل) الآداب جمع الأدب (3) قال في المغرب الأدب أدب النفس والدرس - وقد أدب فهو أديب وأد به غيره فتأدب واستأدب وتركيبه يدل على الجمع - والدعاء ومنه الآدب لأنه يأدب الناس إلى المحامد أي يدعوهم إليها عن الأزهري، وعن أبي يزيد الأدب اسم يقع على كل رياضة محمودة يتخرج به الإنسان في فضيلة من الفضايل والمقصود أن آداب العلماء موجبة لزيادة عقل من

ص: 190


1- 1 - ما نقل عن زين العابدين (عليه السلام) هنا راجع إلى عقل المعاش والمعاشرة مع الناس بعد ما كان ما رواه سابقا عليه من عقل المعاد وتهذيب النفس أشار إلى ذلك أستاذ الحكماء المتألهين صدر الدين (قدس سره) وذلك لأن المعاشرة مع الصلحاء والمداراة مع الأعداء من كمال العقل والشريعة الكاملة المحمدية (صلى الله عليه وآله) تدعوا التعاون والمعاشرة. (ش)
2- 2 - النهج كتاب له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن بن علي (عليه السلام).
3- 3 - المبتدأ في تلك الجمل مصدر أو اسم مصدر مثل مجالسة الصالحين وطاعة ولاة الامر واستثمار المال وارشاد المستشير وكف الأذى فلا بد أن يكون آداب أيضا مصدرا حتى يتناسق الألفاظ ويتناسب المعنى إذ ليس آداب العلماء زيادة في العقل بل المعاشرة معهم والاختلاف إليهم ومصاحبتهم وملازمة خدمتهم. والأنسب عندي بعد فرض صحة الكلمة ان يقرأ ادآب العلماء مصدر باب الافعال من دأب يعني الالحاح والسؤال المتتابع والاصرار في ملازمتهم والتشرف بخدمتهم واستنباط المعارف منهم والدأب التتابع والتكرر قال تعالى (تزرعون سبع سنين دأبا) أي متتابعا وفي نسخة لنا مصححة مقروءة على المحدث الجزائري «أدب العلماء» وهو أحسن من «آداب» (ش).

جالسهم وعروجه من حضيض النقص إلى أوج الكمال، والوجه في ذلك مع ظهوره أن عقول العلماء مشرقة مضيئة في سماء الأبدان كالشمس فانقشعت عنهم سحائب الحجب وظلمات الغشاوة إلى أن شاهدوا العلوم الإلهية والحكمة الربانية وإذا قابلت العقول الناقصة القابلة عقولهم استعدت بذلك لأن يتنور بنورها وتستضيء بضوئها كما أن القمر المقابل للشمس يتنور بنورها ويستضىء بضوئها وعلى حسب ذلك ينكشف عنها الحجاب والعوائق ويحصل لها الترقي إلى عالم العلوم والحقائق ولذلك قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) «محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي» (1) (وطاعة ولاة العدل تمام العز) (2) لما كان الإنسان أسيرا للنفس الأمارة بالشهوات والقوى الداعية إلى اللذات وكان أهواؤهم لذلك مختلفة وآراؤهم متباعدة وقلوبهم متفرقة كانت استقامة نظام أحوالهم في أمر معاشهم ومعادهم محوجة إلى سلطان قاهر وحاكم زاجر تأتلف برهبته النفوس والأهواء وتجتمع بهيبته القلوب والآراء وتنكف بسطوته الأيدي العادية إذ في طباعهم من حب الغلبة على ما أثروه والقهر لمن عاندوه مالا ينكفون عنه إلا بمانع قوي ورادع ملي وزاجر جلي وقد أفصح المتنبي عنه حيث قال:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس فإن تكن * ذا عفة فلعلة لا يظلم والعلة المانعة من الظلم عند الاستقراء ترجع إلى أمور أربعة إما عقل زاجر أو دين حاجز، أو عجز مانع، أو سلطان رادع، والسلطان القاهر أبلغها نفعا وأعظمها ردعا لأن العقل والدين ربما كانا مغلوبين

ص: 191


1- 1 - سيأتي في كتاب العلم ان شاء الله تعالى.
2- 2 - «قوله وطاعة ولاة العدل» الظاهر المتبادر إلى الذهن في كلام الأئمة (عليه السلام) وشعيتهم من ولاة العدل الإمام المعصوم وأما ساير الولاة وان اتسموا بالعدالة فهم جائرون لا يجب اطاعتهم إذ لا يخلو غير المعصوم من أمر بالقبيح ولو خطأ وهذا مذهبنا في الحكومة والسياسة ونقول: يجب في حكمة الله تعالى ولطفه أن ينصب في كل زمان إماما معصوما حجة ويوجب طاعته على العباد والمدينة الفاضلة التي يقول به الحكماء هي التي يكون الأمير فيه بصفة العلم والحكمة والعدل وتزيد فيه العصمة، وقال الفارابي في بعض كتبه ما حاصله أن أفضل أنحاء المدينة بعد المدينة الفاضلة مدينة الجماعة وعرفها بما يطابق الحكومة الديمقراطية في عهدنا وقال هذه المدينة يعد الناس ويهيئهم لقبول المدينة الفاضلة ومدينة الجماعة هي التي قبلها أكثر بلاد النصارى ولم يعهد إلى زماننا هذا حكومة أعدل منها إذ عزلوا الأمراء والولاة والجنود بل الوزراء مع كمال قدرتهم أن ينفذوا شيئا بأرائهم ويستبدوا بشئ من الاحكام إلا إذا رضي به الناس وصوبه الرعايا ومع ذلك فليس إطاعة ولاة مثل تلك الحكومات إلا إذا رضي به الناس وصوبه الرعايا ومع ذلك فليس إطاعة ولاة مثل تلك الحكومات أيضا واجبة على الناس إن فرض محالا وجودها بين المسلمين إلا تقية وتحرزا عن الفتنة وأمثال ذلك (ش).

بدواعي الهوى والعجز قد ينتفى كما هو المشاهد في الأكثر فيكون رهبة السلطان أقوى ردعا وأعم نفعا، ثم السلطان الجائر وإن كان دافعا للفتنة من بعض الجوانب لكنه جالب لها من جوانب أخر فلا خير فيه من جهة ما هو جاير فلا بد من أن يكون السلطان عادلا ليكون دافعا للفتنة بالكلية مانعا من وقوع الهرج والمرج والذل والخسران في الخلق ولكن دفعه لها منوط بطاعتهم ومتابعتهم له فوجب عليهم الوفاء بذمامه والاستماع إلى كلامه، والاتباع لأفعاله وأعماله، واللزوم للالفة والتحاض عليها والتواصي بها، والاجتناب عن الفرقة وغيرها مما يكسر فقرتهم ويوهن قوتهم من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي ليحصل له قوة لدفع كيد المعاندين وشر الظالمين ومكر الحاسدين وطعن الملحدين عن حوزة المسلمين وعرض المؤمنين، فتحصل لهم العافية وتكمل لهم النعمة وتجري عليهم العزة والكرامة، ويكونون حينئذ أنصارا معززين وأربابا في الأرضين ملوكا على رقاب العالمين، ولو تركوا طاعته واختاروا فرقته وجانبوا الفتنة وهدموا كلمته وكسروا شوكته وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين خلع الله تعالى عنهم لباس كرامته ورداء عزته وغضارة نعمته فيستولي عليهم الأعداء ويتخذونهم عبيدا ويسومونهم سوء العذاب وهم متحيرون في ذل الهلكة وقهر الغلبة لا يجدون حيلة في امتناع ولا سبيلا إلى دفاع (1).

(واستثمار المال تمام المروءة) أي استثمار المال واستنماؤه بالتجارة وغيرها من أنواع الاكتساب تمام الانسانية وكمال الرجولية (2) لما فيه من الاستعفاف عن الناس والسعي للتوسعة على الأهل والتعطف على الجار والاقتداء على قضاء الحوائج والإتيان بسائر أبواب البر من مصالح الدنيا والآخرة.

قال الصادق (عليه السلام): «إصلاح المال من الايمان» (3) وقال أيضا: «عليك بإصلاح المال فإن فيه منبهة

ص: 192


1- 1 - من قوله: «واللزوم للألفة» إلى هنا مقتبس من النهج الخطبة المعروفة بالقاصعة.
2- 2 - المروءة مصدر مرء الرجل وأرادوا به شيئا غير كون الإنسان مرءا اي رجلا فإن هذا المعنى ثابت لكل رجل وليس كل رجل ذا مروءة وذلك، لأن الناس على ضربين منهم يعتد بما يقول وما يقال فيه، ونظير ذلك اختلاف الناس في ساير أموالهم وما يتعلق بهم مثلا بعضهم يعتنى بداره وأثاثه وأولاده، وبعضهم يهمل كل شئ له والعالم يعتني بكتبه ويحفظها من التلف ويضن بها من الضياع وغير العالم لا يعتنى بما يقع في يده من الكتب والزارع كذلك بالنسبة إلى البذور والحقول والبساتين يعتنى بأمور لا يعتني به غيره وصاحب المروءة هو المعتني بنفسه والمروءة ممدوحة في الشرع والعرف وعدها الفقهاء من شرائط العدالة لأن البذي الوقيح الذي لا يبالي بما يقال فيه ولا يعد نفسه مما يجب أن يتعاهد لا يجتنب القبائح البتة. وأما استثمار المال فعده من تمام المروءة فإن من يعتني بنفسه يعتني بماله من حيث إن ماله يقي عرضه ويحفظه من السؤال ويسهل عليه البذل وإعانة المضطرين وإغاثة الملهوفين فحفظ المال كمال لحفظ النفس (ش).
3- 3 - و (4) الكافي كتاب المعيشة باب إصلاح المال وتقدير المعيشة تحت رقم 2 و 6.

للكريم واستغناء عن اللئيم» (4) والاخبار المرغبة في كسب الحلال والاستغناء عن الناس وجعله وسيلة إلى السعادات الأخروية والتقرب بالقربات الإلهية وصرفه في وجوه البر أكثر من أن تعد وتحصى وإنما المذموم من جعل الدنيا لنفسه استقرارا ورضي بها دارا واطمأن بها وركن إليها وجعلها آلة للشهوات الباطلة واللذات الزائلة والسيئات الحائلة بينه وبين السعادة الأبدية.

وقد روى «أن الدنيا دنيا آن دنا دنيا ممدوحة» وهي ما يوجب زيادة القرب من الله تعالى، «ودنيا ملعونة» وهي ما يوجب البعد عن رحمته ويحتمل أن يكون استثمار المال كناية عن إخراج الزكاة لأن إخراج الزكاة يوجب نمو المال ولذلك سمي المخرج من المال زكاة ويدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ان الله وضع الزكاة قوتا للفقراء وتوفيرا لأموالكم» (1).

(وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة) الاستشارة أمر مرغوب فيه شرعا وعقلا والروايات المرغبة فيها متظافرة وقد أمر الله تعالى بها سيد المرسلين وهو أعقل العاقلين فقال: «وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله» فمن اهتم بأمر يعلم أن الخيرة في فعله أو في تركه فعليه أن يستشير بذي الرأي المتين فإنه سبحانه يلهمه الخير والشر وعلى المستشار أن لا يخونه فإن من خان مسلما فقد خان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن خان رسول الله فقد خان الله ومن خان الله أخزاه الله في الدنيا والآخرة وسلب عنه نعماه ورحمته وعليه هدايته وإرشاده إلى ما هو خير له «قضاء لحق النعمة» أي نعمة المستشير عليه لأن تفويض المسلم أمره إلى أخيه واتكاله على رأيه فيه نعمة عليه، أو المراد بالنعمة عقل المستشار لأن العقل من أفضل نعماء الله تعالى على عباده والمراد بها أعم من ذلك وعلى التقادير إرشاده سبب لمقتضى حقها واستبقاء لها وإضلاله سبب لفسادها ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن لله عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد فيقرها في أيديهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها ثم حولها إلى غيرهم» (2).

(وكف الأذى من كمال العقل) قال: في المغرب: الأذى ما يؤذيك وأصله المصدر وقوله في المحيض «هو أذى» أي شئ يستقذر كأنه يوذي من يقر به نفرة وكراهة، والتأذي أن يؤثر فيه الأذى.

أقول: الأذى لفظ شامل لجميع أنواع الخصال المذمومة مثل الضرب والشتم والهجو والغيبة والتهمة وغيرها وإنما كان كف الأذى من كمال العقل لأن العاقل يعلم أن الغرض الأصلي من الخلق هو الوصول إلى جناب عزته والطيران في حظاير قدسه بأجنحة الكمال مع الملائكة المقربين وأن ذلك كما يتوقف على عبادة الرحمن كذلك يتوقف على كف الأذى من الإخوان، فكما أن صرف الهمة في العبادة من كمال العقل كذلك صرف النفس عن الأذى، وأما المؤذي فهو بمنزلة البهائم والسباع، عار عن حلية العقل ويعلم

ص: 193


1- 1 - في المحاسن ص 319 والفقيه والكافي والعلل من حديث العقرقوفي عن موسى بن جعفر عليهما السلام.
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 425.

أيضا أن ترك الأذى يوجب التعاون والتعاطف والتراحم والتواصل والتظاهر والتواخي والتآلف والتودد والاجتماع، وكل ذلك مما يقتضيه كمال العقل ويعلم أيضا أن ترك الأذى يدل على حلمه وأناته ورفقه وإشفاقه وعلمه بعواقب الأمور وهي من آثار العقل، ويعلم أيضا أن إيذاء المسلم نقصان في الدين أو خروج منه لقوله (عليه السلام): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (1) فلذلك يتركه طلبا لكماله وأنه من كمال العقل ولا تفاوت في هذا الحكم بين كف نفسه عن أذى الغير أو كف غيره عن أذى أحد (وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا) لأن الدنيا والآخرة دار المكافاة فمن ترك الأذى سلم عن الآفات أما الآخرة فلقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقوله تعالى: (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد» (2)3 - (3)4 -(4) وقوله «يوم المظلوم على الظلم أشد من يوم الظالم على المظلوم» (3) إلى غير ذلك من الآيات والروايات، وأما الدنيا فلقوله (عليه السلام) «من سل سيف البغي قتل به، ومن حفر بئرا لأخيه وقع فيها» (4) ولأن المظلوم إن كان ذا قوة فقد ألقى المؤذي نفسه إلى التهلكة وإن لم يكن ذا قوة أضمر العداوة وينتهز الفرصة لايقاع المكروه به كما هو المعلوم من أحوال أبناء الزمان، وأيضا قد يرفعه الدهر وليس ذلك من الدهر ببعيد فالمؤذي دائما في معرض الهلاك وقد يقال: الناس إما كاملون أو ناقصون والناقص نقصانه إما بحسب الدنيا أو بحسب الآخرة والنقصان بحسب الآخرة إما بحسب العمل أو بحسب العلم والنقصان بحسب الدنيا إما في الجاه والعزة أو في المال والثروة، والكامل من حقه أن ينفع غيره أو يدفع الضرر عنه فصارت الأقسام ستة أربعة من جهة النقص واثنان من جهة الكمال فقوله (عليه السلام) «مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح» إشارة إلى الناقص من جهة العمل المفتقر إلى من يدعوه إلى الصلاح وقوله: «وآداب العلماء زيادة في العقل، إشارة إلى الناقص في العلم المفتقر إلى التعلم وقوله: «وطاعة ولاة الأمر تمام العز» إشارة الناقص بحسب الدنيا من جهة العزة.

وقوله: «واستثمار المال تمام المروءة» إشارة إلى الناقص بحسب الدنيا من جهة المال، فهذه أقسام الناقصين وعلاج جميعهم بالمعاشرة والصحبة.

وقوله: «وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة» إلى الكامل النافع لغيره.

وقوله: «وكف الأذى تمام العقل» إشارة إلى الكامل الدافع للضرر عن الغير.

(يا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه) لأن العاقل لا يعين غيره بالإثم والعدوان ولا يسعى

ص: 194


1- 1 - النهج أبواب الخطب تحت رقم 165 أو لها «ان الله تعالى أنزل كتاب هاديا».
2- 2 - و
3- و
4- النهج أبواب الحكم تحت رقم 221 و 241 و 349.

على نفسه بالاستهانة والخذلان، بل يحفظ قدره وشرفه على قدر الامكان ويجتنب من تحديث من يكذبه كما يجتنب من الذنوب والعصيان أو أشد اجتنابا لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أشد الذنوب ما استهان به صاحبه» (1) ولأن المكذب للعاقل جاهل ورؤية الجاهل ومجالسته شوم فيكف تحديثه ومجاورته ولأن تحديثه مع احتمال تكذيبه ربما ينجر إلى الخصومة والجدال وقد ورد النهي عنها.

(ولا يسأل من يخاف منعه) لأن أصل السؤال - والطمع - عما في أيدي الناس ذل والخيبة بالمنع وعدم الانجاح ذل آخر فالعاقل لا يسأل غيره ما استطاع لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل فإنك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله سبحانه أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه» (2) وإن اضطر إليه ونظر إلى أن المال في أيدي العباد مال الله في الحقيقة قد ملكهم التصرف فيه وأن هذا العالم عالم الأسباب فلا يسأل قطعا من يخاف منعه تحاشيا عن ذل في ذل وانكسار في انكسار وإراقه ماء الوجه بلا منفعة أصلا وتماسكا بقوله (عليه السلام) «ماء وجهك جامد فانظر عند من تقطره» (3) وبقوله:

لقلع ضرس، وضنك حبس * ونزع نفس، ورد أمس وحمل عار، ونفخ نار * وبيع دار بعشر فلس وقود قرد، ونسج برد * ودبغ جلد بغير شمس وقتل عم، وشرب دم * وحمل غم، ونقل رمس أهون من وقفة بباب * تلقاك حجابها بعبس (ولا يعد مالا يقدر عليه) لأن خلف الوعد من صفة النفاق وصنع اللئام وفيه مذلة حاضرة وخساسة ظاهرة يستنكفها أصحاب العقول الخالصة وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ثلاث من كن فيه كان منافقا وعد منها خلف الوعد» (4) ولاظهار شرف الوفاء به وسمو رتبته وعلو درجته ذكر الله سبحانه في القرآن العزيز وقدمه على وصف الرسالة والنبوة وغيرهما من الصفات العالية مثل الأمر بالصلاة والزكاة فقال «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا» وقيل، معناه إن العاقل لا يعد أمرا من الأمور حتى يعلم أنه قادر على إتمامه والبلوغ إلى غايته.

ص: 195


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 348 و 477.
2- 2 - النهج من كتاب له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام).
3- 3 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 346.
4- 4 - بحار الأنوار المجلد الخامس عشر الجزء الثالث من كتاب الايمان والكفر باب صفات المنافق والمرائي عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عنه عن آبائه (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) «للمنافق ثلاث علامات إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان».

وكأنه قرأ يعد بشد الدال من الإعداد والظاهر أنه تصحيف (ولا يرجوا ما يعنف برجائه) التعنيف اللوم والتعيير والرجاء هي الصورة الحاصلة في النفس من تقدير شئ وتصويره فيها وأكثره ينشأ من تخمين بلا روية، وفي النهاية الرجاء هي التوقع والأمل والمراد به هنا طلب رجل ما لا يستحقه ولا يليق بحاله كما هو من بضائع النوكى (1) وشرايع الحمقى، مثل أن يطلب الفقير الخمول السلطنة والجاهل الغبي التطلع بالأسرار اللاهوتية ويدعي المبتدىء في العلم رتبة الاستادين الكاملين ورجاء أمثال ذلك من لوازم الجهالة ولواحق الغباوة لامن صفة العلماء وسمت العقلاء فإن العاقل العالم لإنارة قلبه وإضاءة ذهنه وانفتاح عين بصيرته له حاجز عن ذلك ونور يستبين به العواقب ويترك به القبايح ويجتنب عن رجاء ما لا يليق به وينزل نفسه في مكانه ويطلب الأشياء في مظانها «رحم الله عبدا عرف قدره فلم يجاوز طوره» (لا تقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه) قرء بعض العلماء قوته بالقاف المضمومة وتشديد الواو، وقال: أي على قوته فالنصب على نزع الخافض، والنسخ التي رأيناها بالفاء المفتوحة والواو الساكنة يعني أن العاقل لا يقدم على فعل ليس في وسعه ولا يرتكبه تحرزا عن لحوق اللوم بسبب العجز عنه رأسا أو بسبب العجز عن الاتيان به على وجه الكمال وكذا لا يقدم على قول وفعل في غير وقتهما لأنه يعلم أن الأشياء مرهونة بأوقاتها ومن أقدم عليهما في غيرها عجز عنهما (2) وأذل نفسه، وقال الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق» (3) وفي رواية أخرى (4) عنه (عليه السلام) قال: «يدخل فيما يتعذر منه». (5)

ص: 196


1- 1 - بضايع جمع الضاعة. النوك - بالضم والفتح - جمع نوكي كسكرى (القاموس).
2- 2 - أدب المعاشرة مع الناس ينقسم بانقسام الناس وهم طوائف فمنهم العلماء والمعاشرة معهم لتحصيل الآداب وزيادة العقل، ومنهم ولاة العدل وأدب الناس معهم الطاعة لحفظ العزة، ومنهم من تعرفه ويعرفك وله حق نعمة عليك بوجه من الوجوه وأدبك معه بذل النصيحة وترك الخيانة في الرأي ومراعاة مصلحته، ومنهم من ليس بينك وبينه معارفة وأدبك معه الكف عن أذاه والامتناع من الإضرار به، وأما أدب النفس بحيث يحفظ كرامته عند الناس فأوله استثمار المال، ذكره بعد ذكر طاعة الولاة لما بينهما من الارتباط ثم أن لا يحدث من يخاف تكذيبه فإن ذلك يشهره بالكذب، ولا يسأل من يخاف منعه فإنه يوجب الذلة، ولا يعد ما لا يقدر عليه فإن هذا أيضا يوجب مهانته وعدم اعتماد الناس عليه، ولا يتعرض لطلب ما لا يناله فإن هذا يستلزم رميه بالسفاهة ويستهرىء به ويذهب بكرامته ولا يستعجل في إدراك شئ يظن أنه لا يدركه لعجزه فإن ذلك أيضا سفاهة «ش».
3- 3 - و (2) الكافي في كتاب الجهاد باب كراهة التعرض لما لا يطيق تحت رقم 4 و 5. 5 - هذا خبر طويل رواية الحسين بن محمد بن عمران وهو ثقة، عن بعض أصحابنا وهو مجهول عن هشام بن الحكم مرسلا فروايته غير معتبرة من جهة الاسناد، والاعتماد على متنه إذ يتضمن مدح العقل مع الاستشهاد بالقرآن الكريم والتأيد بالأدلة العقلية فإن شمل بعض ألفاظه على ما يحتاج إلى تكلف في تفسيرها أو ينقل آية على خلاف ما في المصحف الشريف لا يستغرب ذلك فإن حفظ جميع ألفاظ الإمام (عليه السلام) في الروايات الطويلة خرق للعادة ولا يبعد سهو الراوي ونقله بعض الكلمات بتحريف وتصحيف ولا يجعل مثله دليلا على تحريف القرآن كما هو دأب الأخباريين فإن احتمال تطرق الوهم والتحريف إلى الخبر قريب والى القرآن ممتنع. وقال صاحب الوافي قدس سره ولهذا الحديث ذيل في غير الكافي نذكره في كتاب الروضة ان شاء الله تعالى وفي الوافي أيضا شرح وتحقيق كثير اقتبس بعضه من السيد الداماد واستاده صدر المتألهين قدس سرهما ونقل منه كثيرا في هذا الشرح بألفاظهم من غير أن ينسبه إليهم وله عذر في ذلك نشير إليه في موضعه إن شاء الله تعالى

* الأصل:

اشارة

13 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

العقل غطاء ستير، والفضل جمال ظاهر، فاستر خلل خلقك بفضلك، وقاتل هواك بعقلك، تسلم لك المودة، وتظهر لك المحبة».

* الشرح:

(علي بن محمد عن سهل بن زياد رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): العقل غطاء ستير) العقل جوهر مجرد له مراتب متفاوتة في النقص والكمال باعتبار التفاوت في العلم والعمل والكشف حتى يبلغ غاية الكمال التي تختص بعقول الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، والمراد بالعقل هنا نوعه في ضمن أي صنف وجد غير الصنف الذي هو في غاية الكمال سواء كان من جهة المكاشفة أو من جهة الاكتساب بقرينة أن هذا الصنف لا يحصل إلا بعد قتل مشتهيات النفس وهواها. والغطاء كالكساء ما يغطى ويستر به مثل الثوب ونحوه وسمي العقل غطاء على سبيل التشبيه لأنه يستر المقابح الظاهرة والمفاسد الفاضحة والعيوب الباطنة بالمدافعة والممانعة، ووصفه بستير بمعنى ساتر على سبيل الكشف والايضاح أو بمعنى مستور لأن العقل جوهر مجرد مستور عن الحواس لا يدرك إلا بشئ من آثاره وأحواله كما أشار إليه بقوله (والفضل جمال ظاهر) والمراد بالفضل إما جنوده الآتية مثل الرأفة والرحمة والعفة وأمثالها ووجه ظهورها ظاهر، وإما ما حصل له من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية والأخلاق النفسانية وظهوره إما لأنه يظهر في بعض الأوقات بالتعليم والتفهيم، أو لأن أكثره حصل من طرق الحواس ولما كان مقتضى العقل هو القرب من الخالق وتحصيل المحبة والإلف بالمخلوق وتكميل المودة ليتم له سعادة الدارين ونظام النشأتين ومقتضى النفس ضده أعني الميل إلى أنواع المشتهيات وأنواع المستلذات ولو بالغلبة الموجبة لعداوة الخالق والمخلوق وكان بينهما تدافع وتعارض وكان لكل منهما ممد ومعين، أما معين العقل فهو العلوم والمعارف وما أعطى له من الأخلاق والأعمال المرضية وهي جنوده الآتية،وأما معين النفس فهو ما قدر لها من الأخلاق الرذيلة وهي جنودها الآتية، واشتغال الحواس

ص: 197

والقوى بتحصيل متمنياتها وتكميل مهوياتها أراد (عليه السلام) أن يبين لنا طريقا به يقطع التنازع بينهما ويحصل القوة على النفس ويصل إلى مقصوده فقال: (فاستر خلل خلقك بفضلك) إن كان «خلقك» بضم الخاء فالمراد بخلله رذائل الأخلاق النفسانية كالغضب والحسد والجور ونحوها، وإن كان بفتحها فالمراد بها هذه، والطرق الموصلة للصورة الشهية المحسوسة إلى النفس أعني الحواس أيضا يعني استر رذائل أخلاقك النفسانية وصور المحسوسات الشهوانية بعلمك وفضائل صفاتك العقلية والمراد بسترها دفعها بلطايف السياسات وطرائف التدبيرات فيتقوى العقل حينئذ بالفضل وتبقى النفس مع المتمنيات وميلها إلى اللذات بلا معين من خارج وداخل فتصير ضعيفة مغلوبة بحيث تقدر على قتلها بسيف العقل، ولذلك أمر (عليه السلام) به حيث قال: (وقاتل) بعد ما صيرت عقلك قويا ونفسك ضعيفة.

(هواك بعقلك) أي متمنياتها ومهوياتها وذلك إنما يتحقق بقتل النفس ويمكن أن يراد بالهوى النفس مجازا من باب تسمية السبب باسم المسبب (تسلم لك المودة وتظهر لك المحبة) الفعلان مجزومان بالشرط المقدر بعد الأمر أي إن سترت وقتلت تسلم لك مودتك الخلق أو موده الخلق لك لخلوصك عما يوجب التباغض والتحاسد والتفارق وغيرها من منافرات التودد والالتيام، وتظهر لك محبة الله تعالى إياك أو محبتك إياه لعروجك بالعقل والفضل بلا معارض من النفس وهواها ومن رذائل الأخلاق ورداها إلى ساحة قدسه ومقام أنسه وفي بعض النسخ وتظهر لك الحجة يعني وتظهر لك الحجة والغلبة بذلك على الخلائق فهم يقتفون آثارك وأطوارك لحق رياستك ويتبعون أفعالك وأقوالك لحسن سياستك فيكمل لك منقبة الدنيا وسعادة الآخرة، هذا ما وصل إليه الفكر الفاتر والله أعلم بحقيقة كلام وليه.

* الأصل:

اشارة

«14 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن سماعة بن مهران قال:

كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا قال سماعة فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبد لله (عليه السلام): إن الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقا عظيما وكرمتك على جميع خلقي قال: ثم خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيا فقال له:

أدبر فأدبر، ثم قال: له أقبل فلم يقبل فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين

ص: 198

جندا فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب؟ هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته.

فقال: نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قال: قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جندا فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند: الخير وهو وزير العقل وجعل ضده الشر وهو وزير الجهل والايمان وضده الكفر، والتصديق وضده الحجود، والرجاء وضده القنوط، والعدل وضده الجور، والرضا وضده السخط، والشكر وضده الكفران، والطمع وضده اليأس، والتوكل وضده الحرص، والرأفة وضدها القسوة، والرحمة، وضدها الغضب، والعلم وضده الجهل، والفهم وضده الحمق، والعفة وضدها التهتك، والزهد وضده الرغبة، والرفق وضده الخرق، والرهبة وضدها الجرأة، والتواضع وضده الكبر، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضده السفه، والصمت وضده الكبر، والتؤدة وضدها التسرع، والحلم وضده السفه، والصمت وضده الهذر، والاستسلام وضده الاستكبار، والتسليم وضده الشك، والصبر وضده الجزع، والصفح وضده الانتقام، والغنى وضده الفقر، والتذكر وضده السهو، والحفظ وضده النسيان، والتعطف وضده القطيعة، والقنوع وضده الحرص، والمؤاساة وضدها المنع، والمودة وضدها العداوة، والوفاء وضده الغدر، والطاعة وضدها المعصية، والخضوع وضده التطاول، والسلامة وضدها البلاء، والحب وضده البغض، والصدق وضده الكذب، والحق وضده الباطل، والأمانة وضدها الخيانة، والاخلاص وضده الشوب، والشهامة وضدها البلادة، [والفهم وضده الغباوه، والمعرفة وضدها الانكار] والمداراة وضدها المكاشفة وسلامة الغيب وضدها المماكرة، والكتمان وضده الافشاء، والصلاة وضدها الإضاعة، والصوم وضدها الافطار، والجهاد وضده النكول، والحج وضده نبذ الميثاق، وصون الحديث وضده النميمة، وبر الوالدين وضده العقوق، والحقيقة وضدها الرياء، والمعروف وضده المنكر، والستر وضده التبرج، والتقية وضدها الإذاعة، والانصاف وضده الحمية، والتهيئة وضدها البغي، والنظافة وضدها القذر، والحياء وضدها الجلع، والقصد وضده العدوان، والراحة وضدها التعب، والسهولة وضدها الصعوبة، والبركة وضدها المحق، [والعافية وضدها البلاء]، والقوام وضده المكاثرة، والحكمة وضدها الهواء، والوقار وضده الخفة، والسعادة وضدها الشقاوة; والتوبة وضدها الاصرار، والاستغفار وضده الاغترار، والمحافظة وضدها التهاون، والدعاء وضده الاستنكاف، والنشاط وضده الكسل، والفرح وضده الحزن، والالفة وضدها الفرقة، والسخاوة وضده البخل فلا تجتمع هذه الخصال كلها من أجناد العقل إلا في نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد آمتحن الله قلبه للايمان، وأما سائر ذلك من موالينا فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتى يستكمل وينقى من جنود الجهل فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء وإنما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده وبمجانبة الجهل وجنوده، وفقنا الله وإياكم لطاعته ومرضاته».

ص: 199

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد; عن علي بن حديد) ضعفه الشيخ في كتابي الحديث وقال: لا يعول على ما ينفرد بنقله وقال الكشي: قال نصر بن الصباح، إنه فطحي من أهل الكوفة وكان أدرك الرضا (عليه السلام) وروى عن أبي جعفر وأبي الحسن (عليهم السلام) ما دل على مدحه وجواز الصلاة خلفه والأخذ بقوله ولكن حكم بعض أصحابنا بضعف هذه الرواية (عن سماعة بن مهران) فطحى ثقة روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) وما قيل: من أنه مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) فهو غلط لأنه يروي كثيرا عن أبي الحسن (عليه السلام) (قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله (عليه السلام) اعرفوا العقل وجنده) أي أعوانه وأنصاره وفيه مكنية وتخييلية (والجهل وجنده تهتدوا) مجزوم بالشرط المقدر ولعل المراد بالمعرفة المعرفة مع اختيار جنود العقل لأن الهداية لا تحصل إلا بهما (قال سماعة: فقلت: جعلت فداك) الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور، وعن المبرد المفاداة أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا والفداء أن تشتريه وقيل: هما بمعنى.

(لا نعرف إلا ما عرفتنا فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين) الجار والمجرور إن كان خبرا بعد خبر أي هو أول خلق وهو من الروحانيين فأفاد الكلام أن العقل يعني الجوهر المجرد الإنساني (1) أول المبدعات ومقدم على غيره من الممكنات كلها في الفطرة والإيجاد، ويؤيده

ص: 200


1- 1 - «الجوهر المجرد الانساني» إعلم أن الموجود إما روحاني ليس له مقدار بالذات وإما جسماني له طول وعرض وعمق والقسمة حاصرة دائرة بين النفي والاثبات واصطلحوا على تسمية الأول بالمجرد وهو المراد بالروحاني إذ هو المقابل للجسماني في الاصطلاح واختلف الناس في تقدم الروحاني على الجسماني أو العكس فذهب الملاحدة وأصحاب الطبائع والدهرية إلى الثاني وقالوا أن ما يسمى روحا ليس إلا فرعا على الجسم متأخرا عنه وأثرا من آثاره كالحرارة والبرودة; فإن بطل الجسم بطل الروح وليس هنا موجود مدرك عاقل مستقل بنفسه غير حال في الجسم وعلى قول هؤلاء فلا عقل ولا نفس ولا ملائكة ولا جن ومن مات فات وبطل وفنى وذهب الإلهيون والروحيون إلى أن المجرد مقدم على الجسم وليس الروح العاقل المدرك أثرا وفرعا على الجسم بل هو مستقل بنفسه ومقدم في الوجود عليه لأن الجسم الجامد محتاج إلى الموجود المجرد وليس الموجود المجرد محتاجا إلى الجسم، والجسم مركب من المادة والصورة وحفظ المادة بالصورة وحفظ الصورة بالموجود المجرد الروحاني وفتح الله على عقول الناس وهم في هذا العالم الأدنى بابا إلى عام التجرد وهو الرؤيا الصادفة والإلهامات فإذا رأى شيئا. من الأمور الغائبة المستقبلة مما لا يمكن أن يستنبطه الإنسان بعقله ولم يوجد بعد ثم وقع كما رأى دل ذلك على وجود عالم عقلي مدرك يعلم ما سيقع في المستقبل ويتصل روح الإنسان في المنام بموجودات ذلك العالم نحوا من الاتصال ويدرك بعض الأمور والعقل الذي هو أول خلق من الروحانيين ليس إلا الموجود العاقل في ذلك العالم والحديث يدل على أن العقل أول خلق من الروحانيين، والروحانيون مقدمون على الجسمانيين فالعقل أول الخلق مطلقا. ولا يتصور أن يعتقد أحد أن الجمادات أقرب إلى الله تعالى من الروحانيين كما سيصرح به الشارح (ش).

قوله (صلى الله عليه وآله) «أول ما خلق الله العقل» وإن كان بيانا لخلق أو صفة أو حالا عنه أفاد أنه أول خلق بالنسبة إلى الروحانيين وأما أنه أول خلق بالنسبة إلى غيره من الممكنات كلها فلا إلا إذا ثبت تقدم الروحانيين على سائر الممكنات في الايجاد وثبوت ذلك خارج عن مفاد هذا الكلام، فما قيل: من أن فيه دلالة على أن العقل هو المبدع الأول بالحقيقة وعلى الاطلاق دون غيره من الممكنات لأنها بتوسطه فمدفوع أما أولا فلأنه لا دلالة فيه على تقدم العقل على غيره على الاطلاق إلا في بعض الاحتمال الذي هو أبعد الاحتمالات فلا يتم بذلك ما ادعاه، وأما ثانيا فلأنه لا دلالة فيه على أن غير العقل من الممكنات صدر منه تعالى بتوسط العقل وهو ظاهر بل لا يبعد القول ببطلان ظاهر هذا الحكم لأن بناء ظاهره (1) على تخليط الفلاسفة وهو أن أرسطو ومن تابعه من فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا قالوا: إن الباري تعالى من حيث إنه واجب الوجود يجب أن يكون واحدا ومن حيث إنه واحد يجب أن لا يخلق إلا واحدا إذ لو خلق اثنين لكان ذلك باعتبار أمرين مختلفين في ذاته وتلك كثرة تنافي ما وجب له من الوحدة وذلك الواحد الصادر هو العقل ثم صدر عن ذلك العقل أربعة جواهر عقل ونفس وفلك مركب من جوهرين مادة وصورة، ثم صدر عن العقل الثاني أربعة جواهر أيضا، ثم هكذا على الترتيب إلى أن كملت عشرة عقول وتسع أنفس وتسعة أفلاك، ثم تحركت الأفلاك فحدثت العناصر الأربعة التي هي الماء والهواء والنار والتراب، ثم تمازجت هذه العناصر فحدث العالم السفلى وهو ما تحت الفلك القمر عالم الكون والفساد وسموه بذلك لأن الأجسام العلوية أعني الأفلاك العرية عن العناصر تركبت من العناصر الأربعة تركيبا يقبل الانحلال فسموا ذلك التركيب والانحلال كونا وفسادا ثم تركبت الموجودات في عالم الكون والفساد من آثار طبايع العناصر وآثار عالم الكون والفساد قابلة لاختلاف الأشكال والصور والآثار التي في العالم العلوي متناسبة غير قابلة لاختلاف الصور، فالشمس مثلا لا تقبل أن تكون على غير تلك الصورة وما يجري في العالم السفلي هو من آثار نفوس الأفلاك وعقولها (2)، وكان أصل أكثرهم في

ص: 201


1- 1 - قال ببطلان ظاهر هذا الحكم لا حقيقته لأن الذي يتبادر إلى ذهن أكثر الناس من أمثال هذه العبارات التفويض أي تفويض الله تعالى أمر الخلق إلى العقل الأول نظير تفويض المولى تدبير ملكه إلى بعض خدامه وهذا باطل جدا، وليس مراد من قال به ذلك قطعا وليس توسط العقل إلا كتوسط الأسباب كما يشفي الله المريض بالدواء ويرسل الرياح فتثير السحاب بها ويمطر من السحاب فيحيي به أرضا ميتة ومثله الملائكة الموكلون على كل شئ في العالم بل ليس المراد من العقل إلا الملائكة ولكل اصطلاح فظاهر الحكم وهو التفويض باطل وحقيقته صحيحة. ويجوز أن يقال في العقل بنظير ما يقال في ساير الأسباب (ش).
2- 1 - إلى هنا تقرير مذهب أرسطو ومن تابعه ولم يحكم فيه بشئ تفصيلا إلا أنه تخليط أي ممزوج حقه بباطله وبما لم يبين حقه من باطله لعدم تعلق الغرض به ورجع بعد تقرير كلامهم إلى إبطال الأصل الذي يبني عليه أكثرهم وهو لا يوافق مذهب المسلمين وهو أن الله تعالى فاعل بالاختيار لأن تحقيق ذلك هو الغرض الأصلي. واعلم أن الحكماء المتأخرين كصدر المتألهين وأتباعه لا يرتضون مذهب المشائين في حصر العقول في العشرة الطولية وتكثير الجهات على ما ذكروه مع أنهم أيضا لم يريدوا الحصر، والتفصيل في محله (ش).

الموجود الأول أن لا يخلق شيئا بالاختيار، فإيجاد العقل الأول إنما هو بحسب الذات إيجاب العلة معلولها فإن العالم العلوي والسفلي لا مفتتح لوجودهما عندهم لأن العلة والمعلول موجودان معا وتقدم العلة على المعلول إنما هو بالذات لا بالوجود إلى غير ذلك من المزخرفات التي ليس هذا موضع استيفائها (1) ولا مستند لهم على طريق البرهان فإذا ضويقوا في المطالبة به قالوا: لا تدرك هذه الأمور بالبرهان وإنما تدرك بالرياضات أو بالرياضيات فمن أحكمها علم ذلك ضرورة ولا يخفى فساد هذا القول أما الرياضات فإن الأنبياء والأوصياء وهم الأقدمون في باب الرياضة والمكاشفة لم يخبروا بذلك (2) وأما الرياضيات فقال المحققون: هذا أسخف لأن الرياضيات كالهندسة والحساب والهيئة والموسيقى لا ارتباط بينها وبين المطلوب فإن الهندسة تنظر في هيئة الجسم المتصل، والحساب ينظر في الكم المنفصل، والهيئة تنظر في كيفية الأجسام (3)والموسيقي ينظر في ترتيب الألحان وتقطيعها على وجه

ص: 202


1- 2 - المزخرف المموه بالذهب، شبه الكلام الباطل المشتبه بالحق بالنحاس الملبس بالذهب وقال: إن أكثر أتباع أرسطو لهم أصل في الموجود الأول تعالى وأنه لا يفعل شيئا باختياره بل هو فاعل موجب وخص القول بأكثرهم لأن بعضهم قائلون بالاختيار ولم ينقل من أصولهم الفاسدة هنا إلا واحدا فقط لعدم تعلق غرضه بالنقل، ثم رجع إلى ما سبق ذكره من بيان مذهب أرسطو في مبدء الخليقة وكيفية صدور الممكنات منه تعالى وقال لا مستند لهم على طريق البرهان - إلى آخر ما قال - والحاصل من كلامه بطوله أن ما قالوا من أن العقل هو أول صادر من الواجب تعالى لا يستفاد من لفظ هذا الحديث وهو حق إلا أنه يستفاد من حديث آخر نقله وهو «أول ما خلق الله العقل» أقول: ومن هذا الحديث أيضا بضميمة ما ذكرنا من أن الروحانيين مقدمون على الجسمانيين. (ش)
2- 3 - لا أظن أن أرسطو وأتباعه تمسكوا في إثبات مطلوبهم بالرياضة وهذا بعيد عن طريقتهم إلا أن يكون المراد الاشراقيين وليس مذهبهم في صدور الممكنات ما ذكره هنا بل لهم طريقة أخرى مذكورة في محله وأما أن الأنبياء لم يخبروا بذلك فهو لا يدل على بطلانه فإنهم (عليه السلام) يخبرون بما علم الله فيه مصلحة الخلق باخبارهم لا بجميع ما هو حق يعلمه الله تعالى مثلا لم يخبر الأنبياء بأن زوايا المثلث مساوية لقائمتين وأن الجزء الذي لا يتجزى محال، وأن دواء السل ما هو، وبم يعالج مرض السرطان، وقيض الله لذلك غير الأنبياء عليهم السلام (ش).
3- 4 - غرض القائل إن عدد السماوات يستفاد من علم الهيئة لما يرى من اختلاف حركات الكواكب في الطول والعرض ولا يمكن أن ينسب الحركات المختلفة إلى قوة واحدة فإذا رأيت عربة تمشى إلى جانب بسرعة وأخرى إلى جانب آخر ببطوء علمت أن محرك أحدهما غير الآخر ولم يكن الشارح جاهلا بمسائل الهيئة كما يدل عليه ما مضى منه في تفسير بعض الآيات ولا يحتمل أن ينقل العبارة هناك من غير علم بمعناه ولكن ما ذكره هنا طغيان من القلم (ش).

معروف مخصوص، ثم إنهم رضوا في القطعيات بما لا يفيد علما ولا ظنا (1) والحق أن كل هذا باطل (2) والموجود الأول قديم وحده وفاعل العقول والأجسام والجواهر والأعراض ولوازمها كلها بالاختيار على سبيل الحدوث لا بالايجاب وإلى قدرته ينسب الجميع خالق كل شئ لا إله إلا هو الواحد القهار، والروح يذكر ويؤنث يجمع عل الأرواح وقد تكرر ذكره في القرآن والحديث على معان منها جبرئيل (عليه السلام) في قوله تعالى: روح الأمين وروح القدس ومنها سائر الملائكة ومنها القوة التي تقوم بهذا الجسد وتكون به الحياة ومنها القوة الناطقة الانسانية التي يعبر عنها الإنسان بقوله: أنا.

واختلف المتكلمون والحكماء وغيرهما في حقيقته وقالوا فيه أقوالا كثيرة وظنوا فيه ظنونا متقاربة صدرت عنهم من غير بصيرة فإنه لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه ومن علمه من عباده كما قال جل جل شأنه (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلا) (3)وهو مذهب أكثر المتكلمين وأرباب المعاني وأهل الباطن.

وتقول في نسبة الواحد: الروحاني وفي نسبة الجمع: الروحانيين بضم الراء فيهما والألف والنون من زيادات

ص: 203


1- 1 - قوله «لا يفيد علما ولا ظنا» ذكر الفلاسفة قدماؤهم ومتأخروهم حتى أهل عصرنا في مبدء الخليقة أمورا لا تستند إلى برهان قطعي ولا ظن قوي بل يستحسنون أمورا بذهنهم ويذكرون أمارات عليه ويسميه أهل عصرنا نظرية أو فرضا مثل ما نقل عن ثاليس الملطي من القدماء أن أصل الكون هو الماء وقول هراقليطس أنه النار وفيثاغورث أنه العدد وقول ذي مقراطيس أنه الذرات المتحركة في الفضاء فتلاقت بالبخت والاتفاق وقول أصحاب الخليط والكمون والبروز على ما هو مفصل في موضعه وفي عصرنا من فلاسفة الإفرنج من يقول أن العالم مركب من ذرات روحية تركبت على نظام عقلي وهو قول لبنيز ومنهم من يقول كانت الشمس والسيارات والأقمار جميعا كتلة واحدة من الأجسام المحترقة المتحركة على نفسها بسرعة فتطاير منها قطعات كما يتطاير من الشعلة الجوالة ذرات النار فبردت القطعات وكل سيارة قطعة منها وقال بعضهم في تسلسل المواليد بالنشوء والارتقاء كما هو معروف وقال بعض أهل عصرنا منهم إنه لا جسم ولا مادة بل قوى مختلفة نظير القوة الكهربائية يمنع بسرعة انتقالها ودورانها عن ان ينفذ فيها شئ فيظن صلابة ويتصور جسم ولا يعتقد أحد من أصحاب هذه الأقوال في مبدء إظهار آرائهم صحتها بل يبدون رأيا وينظرون حتى يقضي الأدلة والبراهين بعد ذلك على صحتها أو بطلانها وغالبا لا يثبت النظريات والفروض بجميع تفاصيلها، وما نقل عن المشائين نظير تلك إلا أن هذه الأقوال طبيعية محضة وقول المشائين تخليط من الطبيعي والإلهي وللاشراقين طريقة أخرى (ش).
2- 2 - لكن بطلانه راجع إلى شئ واحد وهو كون صدور الأشياء عنه تعالى بالاضطرار والايجاب وبالتفويض إلى العقل (ش).
3- 3 - لم يقل الله تعالى إن الناس لا يعلمون شيئا أو ما يعلمونه باطل بل قال تعالى إنهم يعلمون وإن الله آتاهم علمه لكن ما يعلمون قليل بالنسبة إلى مالا يعلمون وغاية ما يعلمون أن الروح جوهر مجرد باق بعد فناء البدن وله في عالمه لذات وآلام أقوى مما في هذا العالم مثل ما نعلم أن في بلاد الصين رجالا ونساء ولهم مكاسب ومعايش ولا نعلم منهم ما نعلم من بلادنا (ش).

النسب وزعم أبو عبيدة أن العرب تقول لكل شئ فيه روح ومكان روحاني بالفتح أي طيب، ثم الروحانيون يطلق عليهم عالم المجردات وعالم الغيب وعالم الملكوت وعالم الأمر كما يطلق على هذا العالم المحسوس عالم الماديات وعالم الشهود وعالم الملك وعالم الخلق، وقد يقال إن الروحانيين جواهر مجردة نورانية غير مفتقرة في وجودها إلى جسم وجسمانيات فإن كان في فعلها وتصرفها مفتقرة إليها فهي نفس وإلا فهي عقل أو غيره (1) وأن الأنوار كلها حقيقة واحدة لا تفاوت بينها في المهية وعوارضها بل في الشدة والضعف والكمال والنقص في أصل النورية والوجود والله أعلم بحقيقة الحال (عن يمين العرش) متعلق بخلق أو حال عن الروحانيين واليمين الجانب الأقوى والأشرف خلاف الشمال، والعرش في اللغة سرير الملك وكونهم على يمين العرش كناية عن كرامتهم وعلو منزلتهم ورفعة شأنهم من بين المخلوقات لأن من عظمت منزلته تبوأ عن يمين الملك وفي عرف المتشرعة يطلق على ثلاثة أمور أحدها الملك، وثانيها الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو الفلك التاسع، وثالثها العلم المحيط بجميع الأشياء وكل ذلك على سبيل التشبيه بسرير الملك، ويمكن إرادة كل واحد منها هنا أما الأول فلأن الملك وهو عبارة عن جميع الكائنات له يمين وشمال ويمينه أي جانب أقواه وأشرفه هو يلي المبدء الأول في ترتيب الايجاد وتقدمه (2) فكل ما هو أقرب منه جل شأنه في الايجاد فهو أيمن بالقياس إلى ما بعده لكونه أقوى وأشرف وأما الثاني فلأن ذلك الجسم المحيط إذا سمي بالعرش كان له يمين وشمال كما كان لسرير الملك، ثم الكاين على يمينه من أهل الكرامة والمنزلة كالكاين عن يمين سرير الملك، وأما الثالث فلمثل ما ذكرناه في الثاني أو في الأول باعتبار المعلومات لأن العلم المتعلق باليمين يمين بالنسبة إلى العلم المتعلق بما بعده وإن كان علمه بالأشياء بسيطا والتكثر إنما هو في المعلومات، ولا يبعد أن يقال: يجوز أيضا إطلاق العرش على عالمين: أحدهما عالم الجسمانيات كلها ويسمى بالعرش الجسماني، وثانيهما عالم المجردات كلها ويسمى بالعرش العقلاني والعرش الروحاني.

ويجوز أن يراد بالعرش هنا العرش الروحاني وبيمينه أشرف جانبيه وهو ما يقرب من الحق في سلسلة الإيجاد (3) وأن يقال، يجوز أيضا أن يراد بالعرش القلب الانساني لأنه عرش الرحمن، ويمينه الجانب المائل إلى الحق، وشماله الجانب البعيد عنه لأنه قابل لسلوك الطريقين: طريق الحق وطريق الباطل هذا وقيل: المراد بالعرش هنا الجوهر المجرد الانساني المسمى بالعقل وبالعرش العقلاني وهو بإزاء الفلك التاسع المسمى بالعرش الجسماني وكل منهما في جانب مقابل لجانب آخر، والمراد بيمينه

ص: 204


1- 1 - أو غيره مثل نورية أو ملك تفصيلا اصطلاحا. (ش)
2- 2 - هذا تصريح بأن الروحانيين مقدمون في الايجاد على الأجسام. (ش)
3- 1 - هذا أيضا تصريح بتقدم العقل في الوجود على غيره (ش).

مطلق جانبه وسمي يمينا للتشريف والتعظيم، وقيل: العرش جوهر متوسط بين العالم العاقل الثابت وبين العالم المتغير المتجدد نفوسا كانت المتغيرات أو أجساما والله سبحانه أوجد الثابتات بنفس ذاته بلا واسطة وأوجد المتغيرات بواسطة العرش والثابت هو اليمين في سلسلة الإيجاد لأنه أقرب منه تعالى (من نوره) متعلق بخلق العقل أي خلقه من ذاته بلا واسطة شئ ولا اعتبار مادة (1) أو حال عن العقل والإضافة للتشريف والتكريم كما في عيسى روح الله، أو حال عن الروحانيين بناء على أن الروحانيين كلهم نورانيون والعقل أولهم وأفضلهم وعلى التقادير فيه إشارة إلى أن العقل نور رباني لأنه يظهر به الحق عن الباطل والصواب عن الخطأ كما يظهر بالنور الأشياء المتحجبة بالظلام وإن نوريته مستفادة من نور ذاته سبحانه بلا توسط شئ نوراني غيره (2) ولا تكدره كدرة المواد الظلمانية ولذلك إذا عرى عن العوائق وانقطع عن العلائق اتصل بالخلق اتصالا تاما، ومن ثم قيل: لا مسافة في العالم الروحاني،

ص: 205


1- 2 - فإن قيل كيف أنكر أولا كون العقل الأول خلقه الله بلا واسطة ثم اعترف هنا بما أنكره أولا؟ قلنا: إنما أنكر سابقا دلالة قوله (عليه السلام) وهو أول خلق من الروحانيين على كون العقل أول مخلوق ولم ينكر أصل المعنى بل استدل عليه بحديث آخر وهو «أول ما خلق الله العقل» والذي زيفه هو قول المشائين في كيفية صدور الكثير عن الواحد من أن العقل الأول صدر منه شيئان الفلك التاسع والعقل الثاني ثم من كل عقل فلك وعقل إلى العاشر ولم يريدوا الحصر في العشرة كما صرحوا به والمتأخرون من الحكماء يزيفون قول المشائين وقال الحكيم السبزواري مشيرا إلى قولهم: إذ ذا لدى الشرق بلا وثاق * أسس اسا شيخنا الاشراقي ثم قال بعد أبيات: وليس في الثاني من الجهات ما * يفي بثامن كثير أنجما واعلم أن المجلسي رحمه الله أخا زوجة الشارح أنكر وجود العقل المجرد مطلقا بل أنكر المجردات وقال كل شئ غير الله تعالى جسم وقد مضى في الصفحة 69 و 70 وكرر في مرآة العقول انكاره لوجود مجرد غيره تعالى وقال في شرح أربعينه إثبات العقل المجرد يوجب إنكار كثير من ضروريات الدين ولكن الشارح كرر ذكر عالم المجردات وأن العقول جواهر مجردة وأنها لا تفتقر في فعلها إلى مادة والنفوس تفتقر إليها، وقال أيضا: إن النفس الانساني جوهر مجرد والأنوار العقلية حقيقة واحدة تختلف في الشدة والضعف والنقص في أصل النورية والوجود وغير ذلك مما مضى وسيأتي إن شاء الله ولا يتعجب من اختلاف الطريقتين فان الناس لا يزالون مختلفين (ش).
2- 3 - لما كان خلق العقل من ذاته سبحانه بلا واسطة شئ نوراني ولا مادي. أما أنه لا واسطة نورانية بينه وبين الله تعالى فلأنه لا شئ أشرف من العقل ولا أقرب إليه تعالى ولا واسطة مادية إذ ليس وجود العقل متوقفا على الاستعداد كالنفوس الانسانية فإنها تتوقف على أن يستعد البدن بالنطفة والعلقة والمضغة والعظام واللحم لأن ينشأ خلقا آخر فيكون المادة واسطة بين المبدء وبين النفوس والعقل لا تكدره كدرة المواد الظلمانية فيكون خلق العقل من نور الله سبحانه لذلك يتصل به آخرا (ش).

ويحتمل أن يراد بالنور العدل وإطلاق النور على العدل سايغ شايع كما صرح به القاضي وغيره في تفسيره قوله تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها) والمعنى أن الله سبحانه خلق العقل خلقا ناشيا من عدله إذ لولا العقل لبطل الغرض من إيجاد الإنسان فعدله اقتضى خلق هذا النوع من المخلوق لئلا يفوت الغرض (فقال له: أدبر) عن المنهيات أو أنزل إلى عالم السفلى والمنازل الجسمية التي هي في غاية البعد عن العوالم الربوبية (فأدبر) وأطاع أمره عز شأنه وانقاد لحكمه من غير أن يفارق نوريته وتجرده وإنما كان إدباره بمجرد إشراقات نوره في العالم الجسماني.

(ثم قال له: أقبل) إلى الطاعات وما يوجب النزول في ساحة كرامته تعالى من القربات أو أقبل من مكامن المواد الجسمية ومنازل الظلمات البشرية ومظاهر الجهالات الطبيعية إلى عالم المجردات النورية ومنازل الشواهد الربوبية (فأقبل) مطيعا لأمره منقادا لحكمه تاركا لمعصيته متدرجا في الصعود من طور إلى طور حتى صار عقلا فعالا وترقى حتى مرتبة عين اليقين وهناك رجع إلى ما نزل منه وانتهى إلى ما بدأ منه وقد مر مثل هذا الحديث وشرحه في صدر كتاب العقل إلا أن بينهما مغايرة في الجملة لأن الأمر بالاقبال في السابق مقدم على الأمر بالادبار، وهنا بالعكس فإن كانت القضية في الخطاب متعددة فالأمر واضح وإلا ففيه إشكال اللهم إلا أن يقال: كان في الواقع أمر الاقبال ثم أمر بالادبار ثم أمر بالاقبال ففي الحديث السابق لم يذكر الأمر بالاقبال بعد الأمر بالادبار وفي هذا الحديث لم يذكر الأمر بالاقبال قبل الأمر بالادبار ومن مجموعهما يستفاد ما كان في الواقع فليتأمل (فقال الله تعالى) تعظيما وتكريما له وحثا له على أداء شكر هذه النعمة الجليلة.

(خلقتك خلقا عظيما) العظيم الحقيقي ليس إلا الله سبحانه وأما غيره فعظمته باعتبار قربه منه وإطاعته لأمره وقد تحقق هذان الوجهان في العقل (وكرمتك) أي شرفتك وفضلتك ومنه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (على جميع خلقي) فيه أن العظمة والشرافة والفضيلة من باب التفضل منه تعالى من غير اشتراط القابلية والاستعداد وإن العقل أشرف من الملائكة المقربين (قال ثم خلق الجهل) ليس المراد بالجهل هنا الجهل المركب أعني الصور العلمية الغير المطابقة للواقع ولا الجهل البسيط أعني عدم العلم عما من شأنه العلم لأن إطاعته وعصيانه غير متصورة فلا يلائم قوله: (فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي) ولأن الجهل بهذيبن المعنيين من جنود الجهل المذكور هنا وجند الشئ غيره، ولأن الجهل بالمعنى الثاني أمر عدمي والاعدام غير مخلوقة سواء كانت سلوبا محضة أو ملكات بل المراد به مبدء الشرور والمقابح كما أن المراد بالعقل مبدء الخيرات والمحاسن ويمكن أن يراد بهذين المبدأين صفة النفس المسماة بالقوة الجاهلة وصفتها المسماة بالقوة العاقلة وأن يراد بهما ذات النفس أي الجوهر المجرد المدبر للبدن المحتاج في فعله وتصرفه إليه وذات الجوهر المستغني عن البدن في وجوده

ص: 206

وفعله (1) الذي إذا حصل لغيره وأشرق نوره فيه كان ذلك الغير عاقلا به إذا لم يحصل له وقام بذاته كان عقلا ومعقولا وتسمية النفس بالجهل من باب المجاز لأنها محل للجهل المركب والبسيط، بل يمكن أن يقال: إنها من باب الحقيقة لأن النفس وإن كانت مبدءا للجهالات ومنشأ للشرور كلها ومصدرا للصور الوهمية الكاذبة الباطلة ومقتضيات القوى الشهوية والغضبية والبهيمية وسائر القوى البدنية لكن إذا تمكنت فيها هذه الأباطيل ورسخت فيها صارت جهلا محضا وشيطانا صرفا بعيدا عن الحق جل شأنه وكلما ازداد التمكن والرسوخ ازدادت جهالتها وشيطنتها واحتجابها عن الحق حتى بلغت النهاية في الجهالة والغاية في الضلالة وصارت قدوة المترددين وإمام المتكبرين (2).

(من البحر الأجاج ظلمانيا) ماء اجاج أي ملح مر و «ظلمانيا» حال عن الجهل أو عن البحر الاجاج والمراد به الغضب (3) الإلهي لأنه مر كريه الطعم والرايحة على مذاق الشاربين ومشام العارفين أو المراد به مجموع الصفات النفسانية التي بعضها حسن وبعضها قبيح لتخمير النفس بها وهذا المجموع من حيث هو بمنزله ماء كدر مر ممتزج بغبار الملكات الدنية ومرارة الصفات الشنيعة وملوحة قبايح الآثار وخشونة فضايح الأطوار وعبر عنه بالبحر للدلالة على تراكم تلك الصفات وكثرتها ووصفه بالظلمة لسترها أنوار العقول حايلا بينها وبين بصيرتها، أو المراد به المواد البدنية الهيولانية التي هي محض الاستعداد وعلة قابلية لتعلق النفس بها وتشخصها وعبر عنها بالبحر الظلماني لتراكم مياه الشرور والصفات المتغايرة المتضادة فيها ونسبتها إليها كنسبة البحر إلى الأمواج (فقال له: أدبر فأدبر) أمره بالهبوط من عالم

ص: 207


1- 1 - ذات الجوهر المستغني عن البدن عبارة عن العقل المفارق الذي يقول به الحكماء وأنه الموجود الأول وهو مستغن عن البدن في ذاته وفعله وهو الذي يشرق نوره على النفوس فتصير عاقلة بإشراقه وإذا نظر إليه من حيث هو كان جوهرا قائما بذاته وكان عقلا ومعقولا وهذا مبدء الخيرات وأما مبدء الشرور فهو النفس أي الجوهر المجرد المدبر للبدن المستغني عن البدن ذاتا والمحتاج إليه في أفعاله ومثل أمير المؤمنين (عليه السلام) إشراق العقل على النفوس وتسلطه عليها واتصالها به حديث رواه الصدوق في علل الشرايع عنه (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال خلقه ملك له رؤس بعدد الخلائق من خلق ومن يخلق إلى يوم القيامة ولكل رأس وجه ولكل آدمي رأس من رؤس العقل واسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب وعلى كل وجه ستر ملقى لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتى يولد هذا المولود ويبلغ حد الرجال أو حد النساء فإذا بلغ كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم الفريضة والسنة والجيد والردي إلا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت انتهى (ش).
2- 2 - ولعله لا يريد أن الشيطان بعينه هو النفوس الراسخة في الضلالة والشرور بل يريد أنها مثله في صفاته الخبيثة. (ش)
3- 3 - لا مناص عن الاستعارة والتمثيل في هذه العبارات وكلما كان العالم ظاهريا حاملا للألفاظ على المعاني الجسمانية لم يمكنه في هذا الحديث كما لا يمكن في مثل يد الله وعين الله. (ش)

الملكوت والنور إلى عالم الظلمات والشرور والتوجه إلى ما يلايمه من المشتهيات والنظر إلى ما فيه هواه من المستلذات فهبط لما في ذلك من مصلحة وهي ابتلاء العباد ونظام البلاد وعمارة الأرض إذ لولا ذلك لكان الناس بمنزلة الملائكة عارين عن حلية التناكح والتناسل والزراعة وتعمير الأرض وبطل الغرض المطلوب من هذا النوع من الخلق وبطل خلافة الأرض، ولزم من ذلك بطلان الثواب والعقاب وعدم انكشاف صفات الباري وانجلاء حقايقها وآثارها مثل العدالة والانتقام والجبارية والقهارية والعفو والغفران وغيرها (ثم قال له: أقبل فلم يقبل) أمره بعد الادبار بالاقبال إليه تعالى والرجوع إلى ما لديه من المقامات العلية والكرامات الرفيعة التي لا يتيسر الوصول إليها إلا بالانتقال من طور أخس إلى طور أشرف ومن حالة أدنى إلى حالة أعلى ومن نشأة فانية إلى نشأة باقية وهكذا من حال إلى حال ومن كمال إلى كمال حتى يبلغ إلى غاية مشاهدة جلال الله ونهاية ملاحظة أنوار الله ويرتع في جنة عالية قطوفها دانية فأبى السلوك في سبيل الرشاد والتقيد بربقة الانقياد والمسك بلوازم الوعظ والنصيحة والانقلاع عن الافعال القبيحة كل ذلك لشدة احتجابه بحجاب الظلمات وانغماسه في بحار ذمائم الصفات لتوهمه أن تلك الذمائم الخاسرة والصفات الظاهرة والمشتهيات الحاضرة كمال له فاغتر بها أو افتخر وأخذها بضاعة له واستكبر (فقال له: استكبرت فلعنه) الاستفهام للتوبخ والتعيير واللعن الطرد والإبعاد من الخير يعني تركت أمري بما يصلح في النشأتين استكبارا وجعلت الامتثال به مذلة وافتقارا، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير لجهلك بما يوجب قرارة العين والسرور، واحتباسك بقيد الجهالة والشرور فلا جرم أنت بعيد من الرحمة والسلامة، مطرود عن مقام العزة والكرامة فإن قلت: من لعنه الله تعالى فهو مقيد بقيد العصيان، مقيم مقام الخذلان، محروم عن الرحمة والجنان أبدا فما وجه قوله:

فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قلت: اللعنة مشروطة بالاستكبار، فإن دام دامت وإن زال بالتوبة والإنابة زالت لأن الله تعالى يحب المفتن التواب.

(ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا) في المغرب الجند جمع معد للحرب وجمعه أجناد وجنود.

وفي الصحاح الجند الأعوان والأنصار وفي عد كل واحد من الأمور المذكور جندا باعتبار تكثر أفراده وشعبه، ولما كان الطريق إلى الله مخوفا وفي كل قدم منه شعبة وعلى كل شعبة منه عدو مقاتل وخصم مجالد يقود سالكه إلى مهاوي الضلالة ومساوي الجهالة احتاج سلطان العقل في قطع هذا الطريق إلى أعوان وأنصار يستعين بهم في دفع الأعداء والمحاربة مع الخصماء، فأعطاه الله سبحانه بفضل رحمته وكمال رأفته جنودا تعينه في مواضع الجدال ومواطن القتال وتوصله على السلامة منازل القرب والكرامة، وهذه الجنود خمسة وسبعون على ما في العنوان والمذكور في التفصيل ثمانية وسبعون ولا

ص: 208

منافاة بينهما إذ ليس في العنوان ما يفيد الحصر (1) إلا مفهوم العدد وهو ليس بمعتبر كما بيناه في أصول الفقه.

وقال الشيخ بهاء الملة والدين رحمه الله على ما نقل عنه: لعل الثلاثة الزايدة إحدى فقرتي الرجاء والطمع وإحدى فقرتي الفهم وإحدى فقرتي السلامة والعافية، فجمع الناسخون بين البدلين غافلين عن البدلية وسنشير إلى توضيح ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.

(فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل) من تصفيته بنوارنية الذات وتقويته بكثرة الجنود وشرائف الصفات التي بنضارتها تشرق قلوب العارفين، وبإنارتها تضيء صدور السالكين، وبإضائتها يسيرون إلى أعلى المقامات وينالون أشرف الكرامات (أضمر له العداوة) بين العقل والجهل تضاد بحسب الذات لأن العقل جوهر نوراني والجهل كدر ظلماني (2) وهذا يصلح أن يكون منشأ لعداوته. ولذلك كانت العداوة بين العاقل والجاهل والمؤمن والكافر قائمة إلى قيام الساعة كما قال سبحانه (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) ولكن لما كان النور والظلمة متساويين في الغلبة والتدافع كأنه لم يحصل للجهل من هذه الجهة عداوة، وإنما حصلت العداوة على من جهة إكرام العقل بالجنود وتقويته بالفضايل والكمالات الموجبة لغلبته على الجهل فلذلك أضمر الجهل عداوة له حسدا ولم يظهرها لعدم القدرة على إمضاء آثارها بل طلب لنفسه مثل جنوده في القوة والعدد كما أشار إليه بقوله (فقال الجهل يا رب هذا خلق مثلي) أي مثلي في كونه مخلوقا، أو مثلي بحسب الذات ولا مزية له علي في المحاسن الذاتية وهذا القول منه على الأخير تمويه واغترار بنفسه، كما هو شأن الجاهل حيث يعد نفسه مماثلا للعاقل وهو إما غافل عن التفاوت الفاحش بين النور والظلمة أو عالم به لكنه قال ذلك ادعاء واستنكافا لانحطاط ذاته عن ذات العقل وإلا فأين المماثلة بحسب الذات بين المخلوق من ماء الرحمة والنور الرباني وبين المخلوق من نار الغضب والبحر الاجاج الظلماني ولعدم الفرق بينهما استكبر الشيطان لعنه الله وأبى أن يسجد لآدم (عليه السلام) وتمسك بقوله (خلقتني من نار وخلقته من طين) وهو لقصر نظره لاحظ طينية آدم وغفل عن نورانيته ولو علم ذلك لعلم بطلان قياسه.

(خلقته وكرمته وقويته) يعني خلقته من نورك وكرمته على جميع خلقك وقويته بجنود يتقوى بها في الحركة إلى عالم الانس والانتقال إلى عالم القدس (وأنا ضده ولا قوة لي به) في المضادة والمقابلة

ص: 209


1- 1 - فإن الجنود أكثر وذكر منها الاهم.
2- 2 - بناء على ما ذكره الشارح من أن الجهل هو النفس باعتبار عدم تنوره بنور العقل فلا يستبعد نسبة إضمار العداوة والقول وخطاب الله تعالى له إليه ولا يجوز أن يتوهم أن الجهل عدم والعدم لا ينسب إليه هذه الأمور (ش).

والانتقال إلى ما هو غاية مرامي ونهاية مقامي في اللذات التي عاينتها والحركة إلى أقصى مدارجها (فأعطني من الجند مثل ما أعطيته) في العدد والقوة، طلب ذلك ليحصل له قوة بسبب جنوده على معارضة العقل وجنوده فيتيسر له الوصول إلى غاية منيته ونهاية بغيته (فقال: نعم) اعطيك مثل جنود العقل اختبارا وامتحانا لك وتكميلا للحجة عليك (1) باعطاء سؤلك وانتظارا لرجعتك إلى درجة رفيعة ومنزلة شريفة، فإن المطيع مع العجز وفقد الآلات ليس مثل المطيع مع القدرة على المخالفة، بل أولئك أعظم درجة وأرفع منزلة، ولذلك كانت عباده الشبان وإنابتهم وإخباتهم أحسن وأشرف من عبادة الشيوخ وإنابتهم وإخباتهم (فإن عصيت بعد ذلك) أي بعد ذلك العصيان بترك الاقبال أو بعد أن أعطيتك جنودا وأنصارا مقابلة لجنود العقل وأنصاره (أخرجتك وجندك من رحمتي) المعدة للمطيعين فتشقى بذلك وتدخل في زمرة الأشرار وتستحق الدخول في الدرك الأسفل من النار، والوجه لكون معصية النفس مع الجنود موجبا للخروج من الرحمة دون معصيتها لامعها أن النفس إذا كانت ضعيفة فاقدة للأنصار كانت أفعالها ناقصة فلم تكن شقاوتها شديدة موجبة للخروج من الرحمة بخلاف ما إذا كانت قوية واجدة لأنصارها وآلاتها فإن سلوكها في طريق الشقاوة وسيرها في منهج الضلالة أفخم، واكتسابها للأخلاق الذميمة والرذايل وانهماكها في ظلمات الغي والغوائل أعظم فيكون تباعدها عن الرحمة الإلهية والألطاف الربانية أكثر وأقوى ودخولها في دركات الجحيم واستحقاقها للعذاب الأليم أقرب وأولى.

(قال رضيت) رضي عن الحق بإجابة سؤاله أو رضي بالخروج عن الرحمة على تقدير معصيته والنفس وإن كانت مائلة إلى الفساد عليلة بأمراض تلك الصفات والأجناد لكن ذلك لا يسلب عنها الاختيار ولا يوجب صدور القبايح عنها على سبيل الاضطرار بل يمكن لها تحصيل الصحة والسلامة عن الوساوس الشيطانية بالأدوية والعلاج المقررة لدفع الأمراض النفسانية وبالجملة النفس بعد تقويتها

ص: 210


1- 1 - جنود العقل تساعده في الخيرات وجنود الجهل في الشرور، والحقيقة أن الجند من حيث هم جند نسبتهم إلى الخير والشر سواء فجنود الملك قد تعينه في الجهاد وفتح بلاد الكفار وقد تعينه في الظلم والاضرار بالمسلمين وسلب الأموال وقتل النفوس، وجنود الجهل إذا اعتبرت من حيث وجودها في أنفسها لا شرية فيها بل هي خير من جهة وجودها الصادر عن الله تعالى. فإن قيل معنى قوله: اختبارا وامتحانا وتكميلا للحجة أن تلك الجنود تعين الجهل في الخيرات لا في الشرور إذ بأسباب الخير والسعادة يتم الحجة على المكلف لا بأسباب الضلال والعصيان. قلنا: ينفع السؤال بما ذكر من أن الجنود من حيث هم جنود لا شر فيهم وأن الجهل إذا استعملهم في الشر صاروا أشرارا وأعطاه الله جنودا يستعين بها في الخيرات ولم تكن أسماءها شرا كالحرص والرياء فاستعملها في الشرور وهذه الأسامي التي تدل على الشرور إنما صارت لها بعد استعمال الجهل وإلا فليس الوجود الصادر عن المبدء إلا الخير المحض (ش).

بالجنود والصفات التي هي بمنزلة العلل والأمراض لها اختيار في أعمالها وقدرة على أفعالها وليس صدرو تلك الأعمال والافعال عنها على سبيل الإلجاء والاضطرار فلها أن تترك مقتضيات تلك الصفات، وترتقي إلى أعلى مدارج الكمالات الأبدية حتى تستحق أن يقال لها (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ولها أن تمضي تلك المقتضيات وتسرح في مراعي هذه الصفات حتى ترتد إلى أسفل السافلين وتبعد عن رحمة رب العالمين (فأعطاه خمسة وسبعين جندا) في مقابلة ما أعطى العقل وكما أنهما متقابلان كذلك جنودهما متقابلان فحصل التكافؤ في الايجاد وتحقق التعاند والتضاد وبقيت العداوة بينهما إلى يوم التناد (1) وذلك لمصلحة ظاهرة يعلمها أولو الألباب وخفية لا يعلمها إلا علام الغيوب، وينبغي أن يعلم أن أجناس الفضائل باتفاق الحكماء أربعة الأول الحكمة، الثاني الشجاعة، الثالث العفة، الرابع العدالة وذلك لأن للإنسان قوى ثلاثة متباينة هي مبادي لآثار مختلفة مع مشاركة الإرادة وإذا غلبت أحدها على البواقي صارت البواقي مغلوبة أو مفقودة وتلك القوى أولها قوة ناطقة وتسمى نفسا ملكية وهي مبدء الفكر في المعقولات والنظر في حقائق الأمور. وثانيها القوة الغضبية وتسمى نفسا سبعية وهي مبدء الغضب والإقدام على الأهوال والتسلط والترفع على الغير، وثالثها القوة الشهوية وتسمى نفسا بهيمية في مبدء الشهوة وطلب الغذاء وشوق الالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح، وإذا تحركت القوة الناطقة بالاعتدال في ذاتها واكتسب المعارف اليقينية حصلت فضيلة العلم والحكمة وإذا تحركت القوة الغضبية بالاعتدال وانقادت للقوة العاقلة فيما تعده حظا ونصيبا لها ولم تتجاوز عن حكمها حصلت فضيلة الحلم والشجاعة وإذا تحركت القوة الشهوية بالاعتدال وانقادت للقوة العاقلة واقتصرت على ما تعده العاقلة نصيبا لها ولم تخالفها في حكمها حصلت فضيلة العفة والسخاء وإذا تركبت هذه الفضائل الثلاثة وتمازجت حصلت حالة متشابهة هي فضيلة العدالة ثم إنه يندرج تحت هذه الأجناس الأربعة أنواع غير محصورة من الفضائل. أما الحكمة فالمشهور من أنواعها سبعة: الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر، وأما الشجاعة

ص: 211


1- 1 - وزعم بعض أهل عصرنا ممن له إلمام بالنقليات من غير نظر أن الجهل الذي يضاد العقل هو الجنون لأن العاقل ضد المجنون وجنود الجهل على ما هو مذكور في الحديث إحساسات وعواطف باصطلاح أهل العصر والجنون عبارة عن متابعة الاحساسات والعواطف كالغضب وعدم إدراك القبح والعفة والطيش والحزن والغم وغير ذلك فترى المجانين بعضهم يضحك وبعضهم يبكي وبعضهم يبطش على من يقر به وهكذا. وأقول هذا خبط وخروج عن أصول المذهب وطريقة أهل العلم فإن المجنون غير مكلف ولا يؤاخذ بشئ مما يرتكبه في الدنيا والآخرة والجاهل في هذا الحديث مؤاخذ بفعله شقي معدود من الأشرار مستحق للنار فما ذكره باطل جدا، وليس المراد بالجهل الجنون ولا ما يقرب من الجنون وليس في عدل الله وحكمته أن يجن أحدا ويعاقبه على أعمال المجانين. (ش)

فالمشهور من أنواعها أحد عشر: كبر النفس والنجدة والهمة والثبات والحلم والسكون والشهامة والتحمل والتواضع والححمية والرقة.

وأما العفة فالمشهور من أنواعها اثني عشر الحياء والرفق وحسن الهدى والمسالمة والدعة والصبر والقناعة والوقار والورع والانتظام والحرية والسخاء، ثم السخاء نوع يندرج تحته أصناف كثيرة من الفضائل والمشهور منها ثمانية: الكرم والإيثار والعفو والمروءة والنبل والمواساة والسماحة والمسامحة، وأما العدالة فالمشهور من أنواعها اثني عشر: الصداقة والالفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة وحسن القضاء والتودد والتسليم والتوكل والعبادة.

وكذا ينبغي أن يعلم أن أجناس الرذايل أيضا أربعة بإزاء كل جنس من الفضيلة جنس من الرذيلة، الأول: الجهل وهو ضد الحكمة، الثاني: الجبن وهو ضد الشجاعة، الثالث: الشره وهو ضد العفة، الرابع: الجور وهو ضد العدالة هذا بحسب بادي النظر. وأما بعد التأمل فأجناس الرذايل ثمانية لأن كل فضيلة لها حد معين إذا جاوزته في طرف الإفراط أو في التفريط تنتهي إلى رذيلة، فالفضيلة بمثابة الوسط والرذيلة بمثابة الأطراف فيكون أجناس الرذايل ثمانية: السفه والبله - وهما في طرف الحكمة السفه في طرف الإفراط والبله في طرف التفريط، والتهور والجبن وهما في طرفي الشجاعة والشره وخمود الشهوة وهما في طرفي العفة. والظلم والاظلام - وهما في طرفي العدالة - وكما أن لكل جنس من الفضايل جنسين من الرذايل كذلك لكل نوع من الفضايل نوعان من الرذايل:

أحدهما في جانب الإفراط والآخر في جانب التفريط، ولبعض تلك الأنواع اسم خاص دون بعضها وقد عرفت أن أنواع الحكمة سبعة فأنواع ضدها أربعة عشر: الخبت والبلادة - وهما في طرفي الذكاء الخبت في طرف الافراط والبلادة في طرف التفريط - وسرعة التخيل والابطاء - وهما في طرفي سرعة الفهم - وظلمة الذهن المانعة من إدراك المطالب والتهابه المانع من الإقامة على المطلوب - وهما في طرفي صفاء الذهن - والمبادرة المانعة من استثبات الصور والتعصب المؤدي إلى التعذر - وهما في طرفي سهولة التعلم - وصرف الفكر في إدراك ما هو زائد على تعقل المطلوب وصرفه في إدراك ما هو ناقص عنه - وهما في طرفي حسن التعقل - وضبط ما لا فائدة فيه وترك ضبط ما هو مهم - وهما في طرفي التحفظ - وتذكر ما يوجب تضييع الأوقات والنسيان الموجب لاهمال مراعاة الواجبات - وهما في طرفي التذكر - وقس عليه أنواع بواقي الأجناس، وربما يكون لبعض الأنواع اسم مشهور كالوقاحة والخرق وهما في طرفي الحياء - والاسراف والبخل - وهما في طرفي السخاء - والتكبر والتذلل - وهما في طرفي التواضع - والفسق والتحرج - وهما في طرفي العبادة - إذا عرفت هذا فنقول: ما ذكره (عليه السلام) في هذا الحديث من الفضائل والرذايل بعضه من الأجناس وبعضه من الأنواع وبعضه من الأصناف وبعضه

ص: 212

من الجزئيات كما لا يخفى على المتأمل وسيجئ تفسير بعض هذه الأمور إن شاء الله تعالى.

(فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين الجند: الخير) «من» الأولى للتبعيض و «ما» موصولة، «من» الثانية للبيان والظرف خبر كان قدم على اسمه وهو الجند أو الخير للتشويق ذكره.

قال القرطبي: قيل الخير شئ من أعمال القلب نوراني زائد على الايمان وغيره من الصفات المرضية يدل على ذلك ما في حديث أنس «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن مثقال ذرة» إنتهى.

وقيل: الخير هو الموجود وإطلاقه على غيره إنما هو بالعرض وهو ينقسم إلى خير مطلق كوجود العقل لأنه خير محض لا يشوبه شر ونقص (1) وإلى خير مقيد كوجود غيره من الذوات والصفات.

أقول: الحق إن الخير كلي يندرج تحته جميع الأعمال الصالحة كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام):

«افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير» (2) ويؤيده ما في طرق العامة «يخرج منها (أي من جهنم) قوم لم يعملوا خيرا قط» (3) وهؤلاء الذين ليس معهم إلا الايمان (وهو وزير العقل) الوزر الحمل الثقيل يقال: وزره إذا حمله ومنه الوزير لأنه يحمل عن الأمير وزره أي ثقله والوزارة على قسمين تفويض وتنفيذ والأول يستورزه الأمير بتفويض تدبير الأمور إلى رأيه وإمضائها إلى اجتهاده بدون مراجعة إليه في كل قضية والثاني أن يكون النظر في الأمور مقصورا على رأي الأمير وتدبيره والوزير يتوسط بينه وبين رعيته ويرشده إلى المصالح ويؤدي عنه ما أمر وينفذ له ما ذكر ويعينه في الأمور، وهذا المراد هنا لأن الخير إن كان عبارة عن الكلي المندرج تحته المصالح كلها فحكمه يجري في جزئياته وهو يتوسط بينها وبين العقل في جريان حكم العقل ونفاذ تدبيره فيها وإن كان عبارة عن العمل القلبي النوراني الذي ذكره القرطبي أو عن وجود العقل فهو يتوسط بين العقل وبين سائر ما يصدر عنه من الأعمال المرضية التي هي في الحقيقة أنوار إلهية تستضئ بها القلوب والجوارح ويرشده إليها كما يرشد الوزير الأمير إلى الأمور الملكية ومصالحها.

(وجعل ضده الشر وهو وزير الجهل) لما كان الشر ضد الخير كان مقابلا له في المعاني الثلاثة

ص: 213


1- 1 - لا ريب أنه لا يدخل في العقل من حيث هو عقل احتمال الشر وإنما الشر في التزاحمات والتصادفات التي يمنع بعض الأشياء بعضها من بلوغ غاياتها ومقاصدها ولكن هنا لا يجوز حمل الخير على العقل إذ ليس هو جندا لنفسه بل المراد منه شئ آخر باعتبار ما يؤل العقل إليه (ش).
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 422.
3- 3 - أخرجه أبو داود الطيالسي في الجزء التاسع من مسنده تحت رقم 2179 في خبر طويل عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.

المذكورة فهو إما شئ ظلماني من أعمال القلب زايد على الكفر وغيره من الصفات الذميمة أو عدم منقسم إلى شر مطلق كعدم العقل، وإلى شر مقيد كعدم غيره من الصفات الكمالية أو كلي يندرج تحته جمع القبايح ويؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الشر جامع لمساوي العيوب» (1) ووزارته للجهل تظهر بالتأمل فيما ذكرناه في وزارة الخير للعقل، ويمكن أن يراد بالخير تورية العقل وضياء ذاته إذ كل ما يصدر عنه بتوسطها من الأفعال كان على نهج الصواب فهي وزير له في الدلالة على المحاسن والمصالح وبالشر ظلمة الجهل وكدورة ذاته إذ كل ما يصدر عنه بتوسطها من الآثار والافعال كان على نهج الخطأ فهي وزير له في الدلالة على المفاسد والمقابح.

(والايمان وضده الكفر) الايمان هو الاعتقاد الثابت الجازم بأحوال المبدء والمعاد (2) وملائكته وكتبه ورسله وما جاء به رسوله الذي من جملته الوصاية والإمامة على سبيل الاجمال وهو روح العلوم الحقيقية والتصديق بالمسائل اليقينية على سبيل التفصيل كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وبالايمان يعمر العلم» (3) والحق أن الأعمال غير داخلة في حقيقته لقوله (عليه السلام) «بالايمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يستدل على الايمان» (4) يريد بالأول الاستدلال من المؤثر على الأثر وبالثاني عكس ذلك (5)، وأما قوله (عليه السلام) «الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان» (4) ومثله قول علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فالجمع يقتضي أنه تعريف للإيمان الكامل وقد شاع في لسان الشرع إطلاق اسم الايمان عليه، والكفر الذي هو ضده عدم الاعتقاد بالأمور المذكورة أو إنكار شئ منها وهو روح

ص: 214


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 371.
2- 2 - ليس الاقرار باللسان جزء من الايمان بل هو دليل عليه وليس العمل بالأركان أيضا جزء من الايمان بل هو من آثاره وفوائه. ويعتبر في الايمان الجزم فلا يكفي الظن والثبات فلا يكفي التقليد (ش).
3- 3 - و (4) النهج أبواب الخطب تحت رقم 154. 5 - تارة يكون الغرض بيان المذهب الحق من بين المذاهب الموجودة وهذا وظيفة العلماء يحررون محل النزاع ويبينون القول الحق بالبرهان والأدلة وتارة يكون الغرض بيان مفاهيم الأحاديث وبيان ما هو يوهم التناقض فيها وهو وظيفة المحدثين والشارح سلك المسلك الأول أما بيان كلام الشارح فهو أن المسلمين اختلفوا في حقيقة الايمان أي الفرق بين المؤمن والكفار فإن لكل منهما أحكاما في الشرع فالكافر نجس لا يدفن في مقبرة المسلمين ولا يرث من المورث المسلم ولا ينكح في المسلمات إلى غير ذلك بخلاف المؤمن والحق ما ذكره الشارح من أن عمل الجوارح لا يدخل في الايمان والمخالف فيه الوعيدية من الخوارج حيث قالوا إن مرتكب الكباير كافر وبعض المحدثين مال إلى تفسير ألفاظ الأحاديث فطول الكلام وقسم الايمان إلى درجات وذكر له معاني كثيرة ولم يقطع بمذهبنا من أن العمل ليس من الايمان (ش).
4- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب أن الايمان قبل الإسلام.

الجهالات والداعي إلى ذمائم الصفات.

وقيل: الايمان نور من أنوار الله فائض منه على قلب من يشاء من عباده به يرى الأشياء كما هي وهو المسمى تارة بالحكمة النظرية يعني ملكة يقتدر بها الإنسان على إحضار المعلومات الحقة متى شاء من غير تجشم كسب جديد وتارة بكمال العقل النظري أو القوة النظرية وتارة بالعقل بالفعل وتارة بالعقل البسيط الاجمالي.

والكفر الذي ضده ملكة ظلمانية حاصلة في النفس من كثرة الاغلوطات وتراكم الشبهات وتزاحم الوهميات ورسوخها فتصير تلك الملكة الظلمانية حجابا عن إدراك حق وعمى في عين قلب عن كل مستتر وصما في أذن عقل عن سماع كل كلام صادق والذي يدل على أن الايمان نور والكفر ظلمة قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) وفيه أولا أن تفسير الايمان بما ذكره غير معروف وثانيا أن الآية لا تدل على ما قال بل تدل على أن الايمان سبب للنور ووسيلة إليه والكفر سبب للظلمة وذريعة إليها فليتأمل.

(والتصديق وضده الجحود) أي تصديق الصادقين فيما قالوه، أو التصديق بالمسائل اليقينية والمعارف الحقيقية على سبيل التفصيل والركون إليها بايراد الدلائل والبراهين عليها والتفاوت بين الايمان والتصديق على ما ذكرنا مثل التفاوت بين العلم الإجمالي والتفصيلي والجحود الذي هو ضده إنكار الصادقين أو إنكار تلك المسائل والمعارف والركون إلى الشهوات والشبهات والميل إلى الجهالات والرجوع في المعضلات إلى نفسه والتعويل في المبهمات على رأيه فما أنكرته النفس كان هو المنكر، وما عرفته كان هو المعروف فهي تاركة لرواسم الشريعة، تابعة لأهوائها مائلة إلى آرائها.

(والرجاء وضده القنوط) الرجاء بالمد مصدر بمعنى التوقع والأمل تقول: رجوته أرجوه رجوا ورجاء ورجاوة وهمزته منقلبة عن واو بدليل ظهورها في رجاوة وقد جاء فيها رجاة، ومبدء الرجاء يعني توقع ثواب الله وإحسانه وإكرامه وإنعامه معرفته تعالى وملاحظة غناه عن العالمين واعتبار أسباب نعمة ظاهرة وباطنة، جلية وخفية، ضرورية كآلات التغذية والتنمية وغير ضرورية كتقوس الحاجبين واختلاف ألوان العينين إلى غير ذلك من الألطاف الإلهية والفيوضات الربانية التي صدرت منه قبل الاستحقاق والأعمال وبعد الاستحاق والاستيهال فإنه إذا تفكر العقل في هذه الأمور وتأمل فيها وفي غيرها استكمل رجاءه بالله سبحانه.

ص: 215

والقنوط هو اليأس من رحمته وعفوه وهو من صفات الخاسرين الجاهلين وسمات الضالين الغافلين عن سعة رحمته وإحاطة مغفرته قال سبحانه: (ورحمتي وسعت كل شئ) (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون) وقال: (لا تقنطوا من رحمة إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو غفور الرحيم) وقال: (من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) فمن وقع في شر وقنط من رحمته ازداد جهلا على جهل وترقي من باطل إلى باطل وهو جاهل بالله العظيم، وأما العاقل فيستغفره ويرجع إليه ويتضرع بين يديه ويكون عقله برجاء غفرانه أوثق وقلبه بشمول العناية له أعلق فإنه لا ييأس من روح الله إلا الذين عميت أبصار بصائرهم عن أسرار الله تعالى فهم في طغيانهم يعمهون، فأولئك هم الخاسرون، واعلم أن الرجاء بثواب الله والفوز بالسعادات الاخروية مقام شريف مستلزم لمقامات عالية لأنه يستلزم الصبر على المكاره وفعل الطاعات وترك المنهيات لعلمه بأن الجنة محفوفة بالمكاره ومقام الصبر يؤدي إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله ودوام الفكر فيه ومقام المجاهدة يؤدي إلى مقام كمال المعرفة المؤدي إلى مقام الانس المؤدي مقام المحبة المستلزم لمقام الرضا والتوكل إذ من ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب وتفويض نفسه وأمره إليه، والوثوق بعنايته، ولذلك قيل الرجاء لا ينفك عن الأعمال الصالحة.

وقيل: الرجاء مادة الاستهتار بلزوم الطاعة، ويدل عليه ما روي عن الصادق (عليه السلام) قيل له: «إن قوما من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون: نرجو؟ فقال: كذبوا ليسوا لنا بموال أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له ومن خاف من شئ هرب منه» (1) ومن ثم قالوا:

الرجاء من الفضائل إذا قارنه خوف لأن كل واحد منهما بدون الآخر من الملكات الردية المهلكة كما يرشد إليه أيضا قوله تعالى (يدعون ربهم خوفا وطمعا) وقول الباقر (عليه السلام) «إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم تزد على هذا» (2) ومن ههنا ظهر أن الخوف غير القنوط فإن القنوط ضد الرجاء لا يجامعه بخلاف الخوف، ثم قيل: إن بين الخوف والرجاء تفاوتا في الدوام وعمده وذلك لأن الخوف ليس من الفضائل العقلية الباقية في النشأة الآخرة وإنما هو من الأمور النافعة للنفس في فعل الطاعات والهرب عن المعاصي ما دامت في دار الدنيا التي هي دار العمل وأما عند حلول الأجل والخروج منها فلا فائدة فيه بخلاف الرجاء فإنه باق أبدا إلى النشأة الآخرة لا ينقطع لأنه كلما نال العبد من رحمة الله أكثر كان رجاؤه فيما عند الله أشد وأوفر، لأن خزائن رحمته غير متناهية.

(والعدل وضده الجور) وهي الملكة الحاصلة من التحلي بالأوساط الفاصلة في باب العقائد

ص: 216


1- 1 - و (2) الكافي كتاب الايمان والكفر باب الخوف والرجاء تحت رقم 6 و 13.

كالتوحيد بين التعطيل والتشبيه والتعويل على الأمر المتوسط بين الجبر والتفويض، وفي باب الأعمال كأداء الواجبات والسنن بين الكسالة والترهب التام والاعطاء المتوسط بين القبض بالكلية والبسط التام، وفي باب الأخلاق كالحكمة بين السفاهة والبلاهة في القوة العقلية، والشجاعة بين التهور والجبن في القوة الغضبية، والعفة بين الشره وخمود الشهوة في القوة الشهوية وإذا حصلت هذه الأوساط وصارت ملكات حصلت حالة أخرى متشابهة من تمازجها واختلاطها وهي المسماة بالعدل (1)، وكما أن كل واحدة من تلك الأوساط محيطة بأنواع متكثرة من الفضائل إحاطة الجنس بأنواعها ومحاطة بجنسين من الرذائل كذلك ملكة العدالة محيطة بأنواع متكثرة من الفضائل ومحاطة بجنسين من الرذايل أعني الظلم والانظلام والظلم في طرف الافراط والانظلام في طرف التفريط ويعبر عنهما بالجور لأن جور الجائر أعم من أن يكون ظلما على نفسه وعلى غيره ومن ههنا ظهر أن العدل أمر وسيط يتوقف حصوله على الأوساط المذكورة، ورئيس شريف يتذلل لحكمه كثير من الفضائل العقلية، وأمير كبير ينتظم به سلطنة العقل في ملكوت القلب.

بل هو طريق قويم وصراط مستقيم يسير فيه العقل من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فيشاهد عجائب الملك والملكوت في هذه النشأة ويدخل جنات النعيم مع مرافقة الأخيار في النشأة الآخرة كما أن الجور الذي هو الفرار عن هذه الأوساط والاستقرار في طرف التفريط والافراط وهو من أعاظم أمراء الجهل وأكابر رؤسائه، ويندرج في حكمه كثير من جنوده طريق سقيم وصراط غير مستقيم يبعد سالكه في هذه النشأة عن حضرة الجبار ويدخل في النشأة الآخرة في عذاب النار وقد شبهوا تلك الصورة الباطنة الواقعة في الوسط المسماة بالعدالة لزيادة الايضاح والتقرير تارة بالصورة الظاهرة المحسوسة فكما أن لتلك الصورة الظاهرة أركانا مثل العين والأنف والفم والخد واليد والرجل إلى غير ذلك من الأعضاء الظاهرة، ولا توصف تلك الصورة بالحسن ما لم يحسن جميع تلك الأعضاء ولم يتوسط بين الافراط والتفريط كتوسط العين بين زيادة غؤورها وزيادة بروزها وبين زيادة الصغر وزيادة الكبر وتوسط الأنف بين زيادة الطول وزيادة القصر وبين صغر الحجم وكبره وعلى هذا القياس في ساير الأعضاء كذلك لتلك الصورة الباطنة التي هي صورة القلب أركان مثل القوة الناطقة والقوة الغضبية

ص: 217


1- 1 - لا ريب أن هذا الحديث أصل يبتني عليه جميع ما ذكره علماء الأخلاق في كتبهم كإحياء العلوم وجامع السعادات والمحجة البيضاء وأمثالها خصوصا ما ذكروه في المنجيات والمهلكات وهي بمنزلة شرح لهذا الحديث الشريف وعلماء الأخلاق بنوا على أن العدل التوسط في كل شئ وفسر بعضهم العدل بعدل السلاطين وربما يترجم بالفارسية (دادو دهش) أي العدل والعطاء والعطاء زايد وعدل الحكام داخل في تفسير الشارح. وبالجملة العدل هو الجامع للفضائل كما في قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (ش).

والقوة الشهوية ولا يوصف تلك الصورة بالحسن والقبول ما لم يحسن جميع هذه الأركان ولم يتوسط بين الافراط والتفريط على ما ذكرنا، وتارة أخرى بالمزاج، فإن تلك الصورة الباطنة بالنسبة إلى القلب كالمزاج بالنسبة إلى البدن فكما أن اعتدال المزاج واستقامته أعني الصحة والسلامة تتوقف على زوال الأمراض البدنية كلها كذلك اعتدال تلك الصورة واستقامتها يتوقف على زوال الأمراض القلبية التي هي الأخلاق الذميمة الواقعة في طرفي الافراط والتفريط لأن الأخلاق الذميمة علة مسرية ينجر بعضها إلى بعض والنجاة في النشأتين وحسن القبول في الدارين والتعشق عند الباري جل شأنه وتسخير عالم الملك والملكوت لا تحصل إلا بزوال جميعها، ومن ههنا ظهر سر قولهم: «خير الأمور أوسطها».

(والرضا وضده السخط) في باب الرضا بقضاء الله تعالى أخبار كثيرة فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «نعم القرين الرضا بقضاء الله) (1) وعن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «أوحى الله إلى موسى صلوات الله عليه إنك لن تتقرب إلي بشئ أحب إلي من الرضا بقضائي» (2) في الحديث القدسي «من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر على نعمائي فليعبد ربا سوائي، وليخرج من أرضي وسمائي» واختلفوا في تفسيره فقيل: هو رفع الاختيار، وقيل: هو سكون النفس تحت مجاري القدر، وقيل: هو السرور بمر القضاء. وقال الأرجواني: عرفت طرفا من الرضا لو أدخلني النار كنت به راضيا.

وقيل: هو سكون القلب إلى أحكام الله تعالى، وموافقة الضمير بما رضي واختار.

وقيل: هو فرح القلب وسروره بنزول الأحكام في الحلو والمر: قال عياض: الأولان تعريف لمبدئه والثالث تعريف لمنتهاه وفي الرابع نظر، والخامس قريب من الثاني، والسادس قريب من الثالث.

وقال ذو المفاخر صاحب العدة رحمه الله: سأل النبي (صلى الله عليه وآله) جبرئيل (عليه السلام) عن تفسير الرضا فقال «الراضي هو الذي لا يسخط على سيده أصاب من الدنيا أو لم يصب، ولا يرضى من نفسه باليسير» واعلم أيها اللبيب أن الرضا من أعلى منازل المقربين وأقصى مراتب السالكين فإنه ثمرة المحبة وهي ثمرة الأنس بالله تعالى شأنه وهو ثمرة كمال معرفته وهو ثمرة دوام المجاهدة مع النفس الأمارة والتجرد لذكر الله ودوام الفكر فيه وهو ثمرة الصبر على فعل الطاعات وترك المنهيات وتحمل المشاق والمكاره وهو ثمرة الخوف من الله تعالى والرجاء بثوابه وإكرامه وإنعامه. والخوف له تأثير في الأعضاء الباطنة فيمنعها عن الرذايل النفسانية مثل الكبر والحسد والحقد والعداوة والبخل وغيرها وفي الأعضاء الظاهرة فيكفها عن المنهيات ويقيدها بالطاعات ولعلو منزلة الرضا رفعه الله سبحانه فوق جنات عدن وجعله

ص: 218


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 4.
2- 2 - لم أجده من حديث ابن عباس ورواه الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر باب الرضا بالقضاء تحت رقم 7 من حديث أبي عبد الله (عليه السلام) بنحو أبسط.

أكبر من نعمها فقال عز من قائل: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة من جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) فهو فوق نعيم الجنات وغاية مطلب سكانها وإذا رضي العبد عن الله تعالى رضي الله عنه كما قال (رضي الله عنهم ورضوا عنه).

وإذا عرفت حال الرضا وشرف منزلته فاعرف حال ضده الذي هو السخط بالتضاد فإن كل ما ذكرنا في الرضا يجري ضده في السخط وأورد عليه بأن المستفاد من هذا الحديث وغيره أن العبد يجب عليه أن يرضى بقضاء الله سبحانه خيرا كان كالإيمان والطاعة أو شرا كالكفر والمعصية لكن الرضا بالكفر كفرو بالمعصية فسق كما ورد في الحديث فكيف التوفيق؟ والجواب المشهور هو أنه فرق بين القضاء والمقضي وأنه يجب الرضا بالقضاء دون المقضي والكفر ونحوه من جملة المقضي، ورده بعض المحققين بأن القضاء عبارة عن الحكم بوقوع شئ في الخارج وهو أمر نسبي إضافي فحسنه وقبحه وخيره وشره إنما هو بحسب ما أضاف إليه لأن نفس الإضافة لا توصف بشئ إلا باعتبار المضاف إليه فالتناقض بحاله ثم أجاب عن أصل الاشكال بأن المقضي بالذات لا يكون إلا خيرا والشر مقضي بالعرض لا بالذات يجب الرضا به هو القضاء أو المقضي بالذات والذي يجب عدم الرضا به هو القضاء أو المقضي بالعرض كالكفر والظلم ونحوهما، وقال بعض الأفاضل لدفع الرد المذكور عن الجواب المشهور: القضاء كالعلم ليس مجرد إضافة ونسبة بل هو صورة عقلية ذات إضافة فإن القضاء الإلهي كما حقق عبارة عن وجود صور جميع الموجودات الخارجية وجودا عقليا إجماليا على وجه أشرف وأعلى فكل ما كان أو سيكون له وجود في عالم علمه تعالى علما مقدسا منزها من التغير والقصور والنقص والشر وأما المقضي فهو الصور الكاينة والمواد الخارجية على وفق ما جرى في القضاء فللقضاء نحو من الوجود وللمقضي نحو آخر من الوجود وقد يتطرق إليه النقص والآفة والشر والفساد والصورة العقلية للكفر والمعاصي ليست كفرا ولا معصية وإنما هي كذلك بحسب وقوعها في الخارج فمن قال: القضاء لا يكون إلا خيرا يجب الرضا به دون المقضي لعله أراد بالقضاء صور ما في علم الله سبحانه لا مجرد النسبة وبالمقضي وجود الأكوان الخارجية التي قد يكون شرا وكفرا فظهر الفرق ورفع التناقض (1).

ص: 219


1- 1 - لا ريب أن المقصود الرضا بالمقضي لا بالقضاء مثلا الرضا بالفقر ليس معناه الرضا بوجود معناه في علم الله بل بوجوده خارجا وحصوله للراضي والحق في الجواب أن ينكر قضاء الله تعالى بكفر أحد بمعنى حكمه بكفره بحيث يعد كراهة الكفر كراهة حكم الله بل قضائه بمعنى علمه بكفر الكافر عن اختيار ولا يرضى الله لعباده الكفر وكذلك ينبغي أن لا يرضى به العبد ومعنى الرضا بالقضاء الرضا بالحكم الذي حكم به الله وألزمه على العباد ولا يقدر العبد على دفعه عن نفسه كالمرض والموت لا ما يقدر على دفعه كالكفر والفسق فإن قضاء الله بهما أعني علمه ليس ملزما والذي علم الله تعالى صيرورته كافرا باختياره يصير كافرا باختياره لا مجبورا والرضا به في معنى رضاه بكونه مختارا. (ش)

(والشكر وضده الكفر) إن الشكر حالة نفسانية تنشأ من العلم بالمشكور وصفاته وإنعامه، وتثمر العمل بالقلب واللسان والأركان، وهم بالنظر إلى تلك الثمرة عرفوه بأنه فعل دال على تعظيم المنعم سواء كان بالجنان أو باللسان أو بالأركان وتوضيحه أن الشكر على النعمة لا يتحقق إلا بأن تعرف المنعم الحقيقي وصفاته ونعمه وأن تعرف أن النعم كلها منه وأن الأوساط الموصلة لنعمه نعمة أو التي لها مدخل في إيصالها أو تكميلها مثل السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والسحاب والعباد وغيرها كلها منقادة لامره مضطرة لحكمه كانقياد تبعة الملك له في إنفاذ أمره (1) وإيصال عطاياه فتعرف أن لا منعم في الحقيقة إلا هو وهذه المعرفة تورث حالة نفسانية هي التذلل والانقياد للمنعم والسرور بنعمه لا من حيث أنها موافقة لغرض نفسك إذ في ذلك متابعة في هواها واقتصار همة في رضاها، بل من حيث أنها دالة على عنايته بك بمجرد إحسانه وإفضاله من غير سبق استحقاق واستئهال ووسيلة إلى التقرب به برعاية حقوقه وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا إلا بما يوجب القرب منه في الدنيا والآخرة، وهذه الحالة شكر في الحقيقة وهي تورث العمل لأنها إذا حصلت في النفس وتمكنت فيها حصل لها نشاط للعمل الموجب للقرب منه وهذا العمل أيضا شكر وهو يتعلق بالقلب واللسان والأركان أما عمل القلب فهو القصد إلى تعظيمه وتحميده وتمجيده وتهليله والتفكر في مصنوعاته وأفعاله وآثار إنعامه وإكرامه وإيصال الخير إلى كافة خلقه إلى غير ذلك من الأعمال القلبية.

وأما عمل اللسان فهو إظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.

وأما عمل االركان فهو استعمال نعمه الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته والتوقي من الاستعانة بها في معصيته ومخالفته كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته، واستعمال الأذن في استماع براهينه وآياته. وهكذا حكم سائر الجوارح، وإذا عرفت الشكر فقد عرفت الكفران الذي هو ضده بالمقايسة فإنه

ص: 220


1- 2 - بل أشد انقيادا فإن تبعة الملك مستقلون في وجودهم وليس وجودهم معلولا لوجود الملك بخلاف الأوساط الموصلة لنعمه تعالى إلى عباده فإنهم معلولون وبقاؤهم وفناؤهم بمشية الله تعالى ولا فرق في ذلك بين مراتب الوسائط فإن العقول المجردة اي الملائكة المقربين والنفوس الكلية فضلا عن السماء والأرض والشمس والقمر وغيرها هم بأمره يعملون ولا استقلال لهم في وجودهم فضلا عن فعلهم وليست وساطة العقول بمعنى تفويض الأمر إليهم كما يتوهمه من لا خبرة له. (ش)

أيضا حالة نفسانية هي العتو وسوء الظن بالمنعم والتباعد منه والسرور بالنعمة من حيث إنها موافقة للأغراض الفاسدة النفسانية، وهذه الحالة تنشأ من عدم معرفة المنعم الحقيقي على ما ينبغي وتورث العمل بالقلب كالقصد إلى معصيته والعزم على مخالفته، وباللسان كالافتراء والشكاية والمذمة وغيرها من الأقاويل الباطلة وبالجوارح كترك النظر فيما يعنيه وصرفه فيما لا يعنيه، وبالجملة صرف الجوارح في غير ما خلقت لأجله.

(والطمع وضده اليأس) هذا تكرار للرجاء وضده، ولذلك قال الشيخ بهاء الملة والدين رحمه الله: لعل أحدهما كان بدلا عن الآخر فجمع بينهما الناسخ غافلا عن البدلية، ويمكن أن يقال التكرار إنما يلزم لو أريد به ما أريد بالرجاء أعني الطمع في ثواب الله والأمور الاخروية مطلقا أما إن أريد به توقع الأمور الاخروية من غير سبق استحقاق وخص الرجاء بتوقعها مع السبق أو مطلقا أو وأريد به توقع الأمور الدنيوية مما يحتاج إليه من الضروريات وغيرها أو أريد به توقع ما في أيدي الناس وجعل الطمع من جنود الجهل واليأس من جنود العقل على خلاف ما وقع في سائر النظائر من تقدم جنود العقل فلا تكرار وهذه الوجوه وإن كانت بعيدة لكن القول بالتكرار وتخطئة الناسخ أبعد منها.

(والتوكل وضده الحرص) معنى توكل العبد على الله تعالى هو صرف أموره إليه والاعتماد فيها عليه يقال: وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزا عن القيام بأمر نفسه ومن أسمائه تعالى الوكيل وهو القيم بأرزاق العباد، وبالجملة التوكل حالة فاضلة للقلب توجب تفويض الأمور إلى الحق والانقطاع عما سواه وله مبدء وأثر مترتب عليه ومبدؤه العلم بأنه تعالى واحد لا شريك له وأنه عالم بجميع الأشياء بحيث لا يعزب عنه تعالى مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأنه قادر على جميع المقدورات وأنه حكيم لا يجور في حكمه وأنه رؤوف بعباده ولابد بعد ذلك من الرضا بقضاء الله إذ بالعلم الأول يعلم أنه لا كفيل لمهماته إلا هو، وبالعلم الثاني يعلم أنه لا يخفى عليه شئ من مهماته وبالعلم الثالث يعلم أن السماوات والأرضين وما بينهما وما فيهما من الروحانيات والحيوانات والنباتات والجمادات والأمور الكاينة مسخرات بأمره، فيعلم أنه لا يعجز عن إمضاء مهماته وإنجاح مطالبه ومراداته، وبالعلم الرابع يعلم أنه لا يكون ظالما في نفاذ أموره، وبالعلم الخامس يعلم أنه يفعل كل ما يصلح له وبالسادس يسهل عليه جريان صعاب الأمور فإذا أيقن هذه الأمور واستنار قلبه بأنوار تلك المعارف ولم يعارضه الوهم والجبن وضعف البصيرة ومع ذلك تأمل في حال بعض الحيوانات الذي لا حيلة له في تحصيل أموره وادخار قوته كالطيور وأمثالها بل في حال نفسه حين كان جنينا في بطن أمه وكان مضطرا إلى الرزق وكان رزقه يأتيه بغير حيلة له من حيث لا يدري وقتا فوقتا حصلت له حالة شريفة هي وثوقه

ص: 221

في أموره بالله سبحانه وانقطاعه عن غيره من الأسباب والوسائط بل عن نفسه أيضا لأنه يسلب الحول والقوة عنها ويحكم بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ويرى حاله معه مثل حال الموكل مع وكيله في الثقة به والاتكال عليه أو مثل حال الطفل مع أمه في الركون إليها، أو مثل حال الشمعة مع المصور في أنها مقهورة تحت يده وقدرته يصورها ويشكلها كيف يشاء وهذه الحالة هي المسماة بالتوكل وهي مقام عال من مقامات السالكين ودرجة عظيمة من درجات المقربين ومنزلة رفيعة من منازل المتقين لا يصل إليها إلا من اطمأن قلبه بالإيمان بالله القاهر فوق عباده، ثم إن هذه الحالة تتفاوت كمالا ونقصانا بحسب تفاوت العلوم المذكورة وصفاء القلب ونورانيته فلها أقسام:

أولها: الثقة بالله وبكفالته وكفايته وعنايته مع ملاحظة أن العادة جرت على ربط المسببات بأسبابها فيتمسك بالأسباب على قدر الحاجة والأثر المترتب عليه هو الاعتقاد بأن حصول المطلوب وسببه من توفيق الله تعالى وعنايته فيكتسب ويغلق الباب من السارق ويتحصن من العدو مثلا ويثق بأن الرزق والحفظ منه تعالى، ولا يتكل على السبب وإنما اتخذ جريا على العادة وهو راض عن ربه وشاكر له إن لم يحصل المسبب، بناء على أنه لا يدري في أي شئ الخيرة وحافظ مع اشتغاله بالسبب لأوقات الصلوات وغيرها من العبادات وبالجملة يكون مقصوده هو الكفيل الحق وخيرته ومنظوره هو التشبث بذيل عنايته وإرادته، والاكتساب على هذا الوجه لا ينافي التوكل لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان رأس المتوكلين وقد توارى من العدو وخندق على نفسه وظاهر بين درعين وداخر قوت عياله سنة، ولتواتر الروايات عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على هذا المعنى ولقوله تعالى:

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) ولذا قيل: من طعن في الكسب طعن في السنة ومن طعن في تركه طعن في التوحيد، والكسب الغير المنافي ما كان على قدر الحاجة، وحده بعض للمنفرد بدون الأربعين، واختلف في إدخار قوت الأربعين فقيل: يخرج عن التوكل، وقيل: لا يخرج بما زاد على الأربعين وهذا كله ما لم يتشوش خاطره فإن تشوش فالادخار في حقه أفضل، بل قيل: لو حبس ضيعة يكفيه دخلها كان أرجح لأن المقصود تفريغ القلب للعبادة حده للمعيل بقوت عام تطمينا لقلبه وقلب عياله لفعل النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك ولم يفعله لطيب قلبه وإنما فعله ليدل على الجواز وقيل: ادخار قوت عامين في مقام يتوهم غلبة العدو لا ينافيه لعدم الأمن بالغلبة والأظهر أن ادخار القوت مطلقا لا ينافيه إذا كان اعتماده على الله تعالى لاعلى القوت المدخر وبالجملة التمسك بالأسباب مع الاعتماد على الله لا عليها لا ينافيه، وثانيها الثقة بالله وبكفالته مع احتراق حجاب الأسباب والمسببات عنده ولكن لم يعود نفسه بالصبر على الجوع والعطش اسبوعا أو أكثر أو أقل ولا راض نفسه على أكل غير المأنوس من الأطعمة والأشربة والأثر المترتب عليه لأنه لا يجوز له ترك الاكتساب ولا

ص: 222

الخروج من المعمورة والسكون في البادية ولا السفر بلا زاد ولا ماء لأن إلقاء النفس إلى التهلكة لا يجوز عقلا ونقلا والمقام في المعمورة مظنة إتيان الرزق، وثالثها مثل الثاني إلا أنه عود نفسه على ما ذكر، والأثر المترتب عليه أنه يجوز له ترك الاكتساب والسكون في البادية والسفر بلا زاد ولا ماء في مدة يعلم أنه يتحمل الرياضة ولا يجوز له ولا الثاني ترك الأسباب الضرورية كمد اليد للطعام وابتلاعه ولا انقطاعهما في شعب لا ماء فيه ولا كلاء ولا إقامتهما في ميل ماء أو تحت جدار مائل ولا عدم دفاعهما عنهما سبعا ولو قالا في جميع ذلك; توكلنا فهما جاهلان في معنى التوكل وفي اعتقادهما أن الأسباب الضرورية تنافيه، وكان بعض المتوكلين لا يفارق الإبرة والمقراض والركوة والحبل لملاحظة أنه قد ينخرق ثوبه وقد لا يوجد الماء بوجه الأرض ثم إنهما إن تفارغا للعبادة ولم يطمعا ما في أيدي الناس ولم يتشوش بالهما في العبادة وراضا نفسهما على الجوع وصبرا صبرا جميلا في كل حال يأتيهما الرزق لا محالة لأن أصل وجودهما يجلب الرزق وغيره من ضروريات الوجود، وقد قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): لو سد على رجل باب بيته وترك فيه فمن أين كان يأتيه رزقه.

فقال (عليه السلام): من حيث يأتيه أجله، وهذا التوكل، وترك الكسب إنما هو للمنفرد، وأما المعيل فالمناسب له هو القسم الأول لأنه ليس له أن يكلف عياله بالصبر على الجوع وقد رجح جماعة القسم الأول على بواقي الأقسام مطلقا لما مر ولغيره من الأخبار الواردة في الحث على طلب المعيشة ويمكن أن يقال: إن ذلك باعتبار أن القسم الأول أسهل والآخرين في غاية الصعوبة وهم (عليهم السلام) حكماء يحملون الناس على مالا يصعب عليهم كثيرا.

وأما ضد التوكل فالمشهور في ألسنة العلماء المضبوط في النسخ المعتبرة هو الحرص بالصاد المهملة وقال سيد الحكماء الإلهيين هو الحرض بالحاء المهملة أولا والضاد المعجمة أخيرا والراء في الوسط وبالتحريك وأما الحرص بالصاد المهملة فتصحيف لأنه ضد القناعة كما سيجيء فلو جعل ضد التوكل أيضا لزم أن يكون جند الجهل أقل من من ثلاثة وسبعين وعلى خلاف عدد جند العقل وأنه باطل لأنه خلاف قول الإمام (عليه السلام) بل هو وهم فاسد في نفسه لأنه ضد القناعة في نفس الأمر لا ضد التوكل لأن ضد التوكل هو الهم بالشيء والحزن له والوجد عليه وصرف الفكر في التوسل إليه والتبالغ في تحصيل البغية وتهييج الأسباب المؤدية إليها وتحريكها وتحريشها وتحريبها والغم في إبطاء نيلها وبطوء نجاحها وذلك كله معنى الحرض بالضاد المعجمة وهو والحرب بمعنى، هذا محصل كلامه ويمكن دفعه بأن الحرص بالصاد المهملة حالة نفسانية تنشأ من الجهل بالأمور المذكورة المعتبرة في تحقق التوكل أو من ضعف القلب لاستيلاء مرض الوهم عليه فإن الوهم كثيرا ما يعارض اليقين كمن تراه لا يبيت وحده مع ميت وهو يبيت مع جماد مع علمه بأن الميت أيضا جماد وتبعث تلك الحالة على السعي التام في الاكتساب

ص: 223

وشدة الاهتمام بجميع الأسباب وصرف العمر والفكر في جمع المال في جميع الأوان كما هو دأب أهل العصر وشأن أبناء الزمان ولا شبهة في أن ذلك لقوة الاعتماد على الكسب والطلب وعدم الاعتماد على الله سبحانه، فالحرص متضمن لأمرين أحدهما المبالغة في الاكتساب والثاني عدم الاعتماد والوثوق بالله سبحانه، فباعتبار الأمر جعل ضدا للقنوع وباعتبار الأمر الثاني جعل ضدا للتوكل فلا يكون جند الجهل أقل من جند العقل إذ الحرص في الموضعين ليس بمعنى واحد ولا يلزم خلاف قول الإمام (عليه السلام)، ولا يرد أنه ليس ضد التوكل في نفس الأمر.

(والرأفة وضده القسوة) قل المازري القسوة ضد اللين; والغلظة ضد الرأفة وكأنه غفل عن معنى القسوة، قال الجوهري قسى قلبه قسوة وقساوة وقساء بالفتح والمد وهو غلظة القلب وشدته، والرأفة حالة نورانية للقلب داعية إلى الخير وحسن الخلق ورقة الوجه وطهارة اللسان وكثرة الحياء والتلطف بالخلق والاجتناب عن المناهي، وضدها حالة ظلمانية له داعية إلى الشر وسوء الخلق وغلظة الوجه وخباثة اللسان وقلة الحياء وايذاء الخلق وركوب المحارم وكشف الأستار والوثوب على الناس في الخصومات، وكل واحدة منهما إما طبيعية وإما كسبية تحصل الأولى بممارسة العلوم والأعمال الصالحة، والثانية بمزاولة الجهل والأعمال القبيحة والمراد هنا هو القسم الثاني.

(والرحمة وضدها الغضب) الرحمة حالة للقلب يثمرها العلم بقباحة الطغيان وشناعة العدوان وسوء عاقبتهما وثمرتها الشفقة على الخلق والتلطف بهم والترحم عليهم والفرق بينها وبين الرأفة كالفرق بين المسبب والسبب فإن الرأفة لينة القلب الموجبة لميله إلى التلطف والشفقة والرحمة نفس هذا الميل وقد خفى هذا الفرق على بعضهم فحكم بأن هاتين الفقرتين متحدتان في المعنى ولم يدر أن الرأفة ليست نفس الرحمة والقسوة ليست نفس الغضب وأن الأولى منهما بمنزلة السبب الثاني وأن الأصل عدم التكرار عند الجمع بينهما مثل (إن الله لرؤف رحيم) وإطلاقهما على الله سبحانه باعتبار الآثار وهي ألطافه وإحسانه تعالى بمن أطاعه وإنكاره على من عصاه وسخطه عليه إعراضه عنه ومعاقبته له، والغضب من المخلوقين قد يكون ممدوحا، وقد يكون مذموما، فالمحمود ما كان في جانب الدين والحق، والمذموم ما كان في خلافه، وهذا هو المراد هنا وهو أيضا حالة للقلب يثمر الجهل بما ذكر وتسويل النفس الامارة والافراط في المؤاخذة وتزيينه، وثمرتها الطغيان على الخلق باليد واللسان والتعدي عليهم بالظلم والعدوان ومن علاماته احمرار الوجه والعين وانتفاخ العروق وسر ذلك أن القوة الغضبية إذا تحرك نحو الانتقام واشتعلت نارها في الباطن يغلي به دم القلب كغلي الحميم فينبعث منه الدخان ويرتفع إلى أعالي البدن كما يرتفع في القدر ويصب في الوجه والعين والعروق فيحمر الوجه والعين وينتفخ العروق، ويختل الدماغ الذي هو معدن الفكر في المحسوسات وينطفي نور عقله كما

ص: 224

ينطفي ضوء السراج في البيت باستيلاء الدخان عليه، فيظلم بصره وبصيرته بحيث لا يرى شيئا ويسود عليه الدنيا وما فيها ولا يميز بين الحق والباطل والحسن والقبح، ولا يؤثر فيه وعظ ونصيحة، بل قد يبلغ إلى حد يحرق جميع ما يقبل الاحتراق ويفني الرطوبة التي بها بقاء الحياة فيموت صاحبه غيظا وهذه الخصلة من أعظم الخصال الذميمة ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «واحذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس» (1) وقال الباقر (عليه السلام) «إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار، فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وأيما رجل غصب على ذي رحم فليدن منه فليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت» (2).

(والعلم وضده الجهل) هما وصفان متقابلان ونعمتان متضاد ان للعقل والجهل اللذين كلامنا في جنودهما لأنك قد عرفت أن المراد بالعقل إما القوة العاقلة أو النفس من حيث استعدادها لسلوك طريق الحق وكل واحدة منهما مبدء للعلوم، وبالجهل إما القوة الجاهلة أو النفس من حيث استعدادها لسلوك طريق الباطل وكل واحدة منهما مبدء للجهل المقابل للعلم أعني عدمه ثم للعلم مراتب: الأول الاعتبار (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «ومن اعتبر أبصر» الثاني التجلي والانكشاف التام، الثالث الادراك مطلقا، الرابع الادراك المطابق لما في نفس الأمر، كالاعتقاد بالمعارف الإلهية والأحكام الشرعية وهذا القسم قد يجب على الجميع وقد يختلف باختلاف الأشخاص فالذي يجب على الجميع هو العلم بأن الله تعالى واحد حي قديم أزلي إلى غير ذلك من أصول العقائد والعلم بالصلاة والصوم والوضوء والغسل وشرائطها ومفاسدها إلى غير ذلك مما يشترك فيه جميع المتكلمين والذي يجب على البعض هو العلم بأحكام الحج والزكاة للغني والعلم بأحكام العقود للتاجر وكذا من عمل عملا وجب عليه العلم بذلك العمل والعلم من حيث إنه علم ومتعلق بالحق طريق واحد والجهل المقابل له طرق متعددة وإذا وقعت المحاربة بين العقل والجهل في ساحة القلوب واستظهر الجهل بهذا الجهل الذي من جنوده استظهر العقل بالعلم فيغلبه ويهزمه (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).

(والفهم وضده الحمق) الفهم هنا بمعنى العقل كما قيل، أو صفة فاضلة للذهن وهي ملكة الانتقال من الملزومات إلى اللوازم بحيث لا يحتاج في ذلك إلى فضل مكث وتأمل كذا عرفه المحقق الطوسي وعده نوعا من الفضائل مندرجا تحت جنس الحكمة وإنما قلنا هنا لأن الفهم فيما سيأتي من قوله (عليه السلام) «والفهم

ص: 225


1- 1 - النهج في أبواب كتبه ورسائله تحت رقم 69 في آخر كتاب له (عليه السلام) إلى الحارث الهمداني رضي الله عنه.
2- 2 - و (3) الكافي كتاب الايمان والكفر باب الغضب تحت رق 2 و 3.

وضده الغباوة» بمعنى الفطنة وهي شدة الحدس وجودة الذهن وقوته المعدة لاكتساب العلوم أو بمعنى الذكاء وهو نوع آخر من جنس الحكمة فوق النوع المذكور وعرفه المحقق بأنه ملكة حاصلة من كثرة من مزاولة المقدمات المنتجة وممارستها موجبة لسرعة انتاج القضايا وسهولة استخراج النتايج على سبيل البرق الخاطف ومنهم من لم يفرق بين الفهمين وظن أنهما بمعنى واحد فحكم بأن إحدى الفقرتين كانت بدلا عن الأخرى فجمع بينهما الناسخ غافلا عن البدلية ومنهم من جوز أن يكون القهم هنا بالقاف دفعا للتكرار من قهم بالقاف كفرح قل شهوته للطعام وأقهم في الشئ أغمض، وعنه كرهه، وعن الطعام لم يشته.

وهذا الأخير نقله سيد الحكماء عن بعض ولم يصرح باسم القائل ثم قال: هذا أعجوبة التعاجيب فأين أنتم يا معشر المتعجبين، وإذا عرفت الفهم فقد عرفت الحمق بالمقابلة فهو إما ضد العقل على ما قيل أو بطؤ الانتقال من الملزومات إلى اللوازم ويسمى ذلك بالبلادة المفرطة وهو نوع من جنس رذيلة الجهل المقابلة لفضيلة الحكمة ومنشأ ذلك نقصان الذهن (1) وكساده من انحمق الثوب إذا بلى وانحمقت السوق إذا كسدت وانحمق القمر إذا زال نوره وقد عد الحمق أعظم الفقر وأكبره لكونه أشد بلاء وأكثر ابتلاء من الفقر المعروف بين الناس إذ الأحمق يفقد الدين والكمال الذي هو أشرف من المال والدليل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأكبر الفقر هو الحمق) ويعلم منه بحكم المقابلة إن أعظم الغنى الفهم (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

(والعفة وضدها الهتك) لما كان بقاء النوع والشخص مفتقرا إلى التناكح والتناسل وتناول الغذاء والتلذذ بالمآكل والمشارب لأن الحرارة الغريبة الخارجة والغريزية الداخلة أعدى عدو للرطوبة الغريزية التي في طينة الإنسان فلا تزال تلك الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها وتفنيها فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء جبرا لما يتحلل لفسد المزاج وبطل التركيب في أسرع زمان، خلق الله سبحانه بمقتضى الحكمة البالغة قوة شهوية هي مبدء الشوق إلى طلب الغذاء والالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح، والناس في تلك القوة على ثلاث درجات لأن تلك القوة كما بينا آنفا إ ن تحركت

ص: 226


1- 1 - نقصان الذهن إذا كان فطرة لا يعاب صاحبه عليه إذ ليس اختياريا فلا بد أن يحمل الحمق هنا على التحامق الاختياري وعدم الوجه والنظر والتفهم والدقة كما ذم الله تعالى قوما بالغفلة في قوله (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) وقال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها) ويمكن أن يتكلف ويقال ليس المراد هنا الذم الذي يستتبع العتاب والعذاب بل التنقيص مطلقا كما يفهم من قوله (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) فإن الذم بالنسبة إلى الكلب لا يستلزم عقابا كما يستلزم بالنسبة إلى المشبه به (ش).

بالاعتدال واستقرت في الوسط مثل المركز بأن لا تتعدى عما أذن له العقل والشرع من الأغذية والأشربة والأنكحة وغيرها بل طاوعته فيما عداه (1) حظا ونصيبا لها واقتصرت عليه وتركت هواها حصلت فضيلة العفة وهي جند عظيم من جنود العقل منقادة لحكمه تابعة لأمره ونهيه، وإن تحركت نحو الافراط وجاوزت عن حكم العقل والشرع، وارتكبت من اللذات ما لم يأذنا لها حصلت رذيلة الهتك وخرق الأستار وهي مسماة بالشره والفجور أيضا ومعدودة من جند الجهل لانقياد حكمه واتباع أمره ونهيه وخروجه على سلطان العقل، وإن تحركت نحو التفريط وآثرت ترك طلب اللذات الضرورية التي أذن لها العقل والشرع واختارت البلية والمشقة التي تورث الهلاك حصلت رذيلة خمود الشهوة وهي أيضا من أضداد العفة وإنما اقتصر على الهتك الذي هو في طرف الإفراط لأن رذالته أشهر وضديته أظهر.

(والزهد وضده الرغبة) الزهد جعل القلب حيا بمشاهدة أحوال الآخرة وعدم الغفلة عنها وميتا عن طمع الدنيا وزخارفها، وبعبارة أخرى هو إعراض النفس عن الدنيا وزهراتها وقطع الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبعبارة أقصر هو حذف موانع الالتفات إليه سبحانه ولا يتحقق ذلك إلا بحذف الموانع الداخلة النفسية عن النفس مثل محبة غير الله تعالى والميل إلى ما سواه وحذف الموانع الخارجة مثل متاع الدنيا وزهراتها وإليه يشير قول بعض الأكابر الزهد ثلاثة أحرف زاء وهاء ودال فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهواى، والدال ترك الدنيا، ومما يبعث على سلوك هذه الطريقة هو تلاوة القرآن الكريم والتدبر في آياته فإنها تثمر محبة الحق والتوجه إلى الآخرة وتغسل عن لوح القلب درن الوساوس وخبث الرذايل ورين الميل إلى الدنيا، ثم مطالعة أحوال الماضين ورفضهم ما كانوا عليه من الدنيا وزخارفها وانقطاع أيديهم عنها واستقرارهم في القبور، ثم التأمل في أحوال الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع كمال تمكنهم من الاستمتاع من الدنيا وتركهم لها طوعا ورغبة في ثواب الله ومقام القرب منه وذلك دليل على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مساويها فانظر إلى حال كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) (2) إذ يقول: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» وما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض حتى كانت خضرة البقل ترى من

ص: 227


1- 1 - ضمير التثنية للعقل والشرع (ش).
2- 2 - مأخوذ من النهج خ 158 أولها «أمره قضاء» والدنيا المذمومة هي أن يكون الغاية والغرض والشيء المطلوب لذاته فإنه أصل كل خطيئة ورأس كل معصية فإن الإنسان لا يرتكب معصية من المعاصي من أكبر كبائرها كالظلم والقتل إلى أصغر صغائرها إلا لأن الدنيا مطلوبة عنده لذاته ولو عقل أن في الوجود عالما آخر روحانيا باقيا ببقاء الله وأن الإنسان من ذلك العالم ويرجع إليه البتة وأن اللذة فيه أضعاف ألذ اللذات التي يحصل له ههنا وأن الآلام هناك أضعاف أشد الآلام كالنار الدنيوية لم ينظر إلى الدنيا وزخارفها ولم يلتفت إلى لذاتها ولا يأسف على فوات شئ منها ولا يرتكب معصية توجب لذة عاجلة فانية وآلاما آجلة باقية (ش).

شفيف صفاق بطنه (1)، وإلى حال داود (عليه السلام) فإنه كان يعمل سفايف الخوص بيده ويقول لجلسائه أيكم يكفيني بيعها ويأكل قرص الشعير من ثمنها، وإلى حال عيسى ابن مريم (عليهم السلام) فإنه يتوسد الحجر ويلبس الخشن وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته ما تنبت الأرض للبهايم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه.

وإلى حال نبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله) وفيه اسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى وأحب الأعمال إلى الله تعالى التأسي به والاقتفاء لأثره فإنه قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا (2) وأهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم بطنا، وعرضت عليه الدنيا وخزاينها فأبى أن يقبلها، وقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بعض زوجاته ويكون فيه التصاوير فيقول: لها غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكي لا يتخذ منها رياشا وتجملا (3) ولا يعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها عن النفس، وأشخصها عن القلب وغيبها عن البصر وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، وقد كان فيه (صلى الله عليه وآله) ما يدلك على مساوي الدنيا وعيوبها إذ جاع فيها مع خاصته وزويت عنها زخارفها مع عظيم زلفته، فانظر بنور عقلك أكرمه الله تعالى بذلك أم أهانه، فإن قلت: أهانه فقد كذبت وأتيت بالإفك العظيم، وإن قلت: أكرمه فالعلم أنه تعالى قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له وزواها عن أقرب الناس منه. وإلى حال وصي نبيك أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه قال: رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.

قوله (عليه السلام): «فعند الصباح - إلى آخره -) مثل يضرب محتمل المشقة ليصل إلى الراحة وأصله أن القوم يسيرون بالليل فيحمدون عاقبة ذلك لقرب المنزل إذا أصبحوا ومطابقة الصباح لمفارقة النفس البدن أو لإعراضها واتصالها بالعالم الأعلى بسبب تلك الرياضة الكاملة والزهد عن الدنيا وإشراق أنوار العالم العلوي عليها التي عندها يحمد عواقب الصبر على مكاره الدنيا وترك لذاتها ومعاناة الزهد عنها مطابقة

ص: 228


1- 1 - شف الثوب أي رق، والصفاق الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر، وقيل جلد البطن كله.
2- 2 - الطرف نظر العين اي لم يعطها نظرة على وجه العارية فكيف بان يجعلها مطمح نظره. والهضم محركة انضمام الجنبين وخمص البطن. وطوى عنه كشحا أي أعرض عنه وقاطعه. والكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع.
3- 3 - الرياش اللباس الفاخر.

ظاهرة واقعة موقعها، وقد روي أنه سئل (عليه السلام) «لم رقعت قميصك؟ فقال:

يخشع لها القلب ويقتدي بي المؤمنون» (1) ومما نقل في زهده (عليه السلام) ما رواه أحمد في مسنده (2) عن أبي الثور بالكوفة قال: جاءني علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى السوق ومعه غلام له وهو خليفة فاشترى مني قميصين وقال لغلامه اختر أيهما شئت فأخذ علي (عليه السلام) الآخر ثم لبسه ومد يده فوجد كمه فاضلا فقال أقطع الفاضل فقطعته ثم كفه وذهب. وقريب من هذا موجود في روايات أصحابنا رضوان الله عليهم فتأس بهم واقتف أثرهم ولج مولجهم لتأمن من الهلكة فإن الله سبحانه جعلهم أعلاما للعباد واطلعهم على قبايح الدنيا وأحوال الآخرة.

فإذا علمت معنى الزهد فقس عليه الرغبة التي ضده وهي الركون إلى الدنيا والميل إلى أسبابها المانعة من خلوص ذكر الله ومشاهدة أحوال الآخرة، وقال بعض العارفين الرغبة في الدنيا تجر إلى مساوي الأخلاق وارتكاب المنكرات الحاجبة للمروءات إذ الغريق في بحر الدنيا قلما ينفك عن الكبر والفخر والخيلاء والظلم وسوء الخلق واستصغار النعم وكفرانها إلى غير ذلك من الصفات الرذيلة المهلكة، ولو فرض خلوه عن جميع تلك الصفات واتصافه بجميع الصفات الحميدة كما يفرض المحال والممتنع لكان في غاية الخطر من مزلة القدم في كل حركة وتصرف بخلاف أهل القشف الذين اقتصروا من الدنيا على مقدار الضرورة والله ولي التوفيق.

(والرفق وضده الخرق) قال سيد الحكماء: الخرق باخلاء المعجمة والقاف من حاشيتي الراء بالتحريك مصدر الأخرق وهو ضد الرفق، وقد خرق يخرق خرقا والاسم الخرق بالضم.

أقول: هذا هو المستفاد من الصحاح حيث قال الخرق بالتحريك الدهش من الخوف أو الحياء والخرق أيضا مصدر الأخرق وهو ضد الرفق وقد خرق بالكسر يخرق خرقا والاسم الخرق وأما المستفاد من المغرب حيث قال: الخرق بالضم خلاف الرفق ورجل أخرق أي احمق وامرأة خرقاء، ومن النهاية الأثيرية حيث قال: فيه - يعني في الحديث - الرفق يمن والخرق شؤم الخرق بالضم الجهل والحمق وقد خرق يخرق خرقا فهو أخرق والاسم الخرق بالضم أن ضد الرفق هو الخرق بالضم والمستفاد من القاموس جواز الأمرين أعني التحريك والضم فيه حيث قال: والخرق بالضم وبالتحريك ضد الرفق وأن لا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور، إذا عرفت هذا فنقول:

الرفق اللين والتلطف والخرق العنف والعجلة والخشونة وترك التلطف، لأن هذه الأمور من آثار الحمق والجهل ومن الرفق رفق الرجل

ص: 229


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 103.
2- 2 - ما عثرت عليه في المسند لعله رواه في الفضائل ورواه أبو نعيم في الحلية ونقل عنه علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة أبواب زهده وورعه (عليه السلام).

بصديقه وعدوه لأن ذلك يوجب ازدياد الصداقة ورفع العداوة ومنه قوله رفقه لجلسائه بالمساواة بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية والتكلم كيلا يورث العداوة بينهم ومنه رفق الأمير برعيته لأنه أدخل لجلب قلوبهم وانقيادهم لحكمه وإطاعتهم لأمره ونهيه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض عما له: «واخفض للرعية جناحك وألن لهم جانبك» (1) وفي الخبر (إن أفضل العباد عند الله منزلة يوم القيامة إمام عادل رفيق، وإن شر الناس منزلة يوم القيامة إمام جائر خرق» (2) وفيه «أن الرفق لا يوضع في شئ إلا زانه ولا نزع من شئ إلا شانه» (3) ثم الرفق إنما يكون من جنود العقل إذا علم أنه أصلح وأصوب عن الخرق وإلا فالرفق حينئذ خرق كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا» (4) يعني إذا كان الرفق في أمر غير نافع فعليك بالخرق وهو العنف والعجلة وإذا كان الخرق غير نافع فعليك بالرفق، والمراد به الحث على استعمال كل واحد منهما في موضعه كما هو شأن العاقل الحكيم فإن الرفق إذا استعمل في غير موضعه كان خرقا والخرق إذا استعمل في غير موضعه كان رفقا وقريب من هذا المعنى قوله (عليه السلام) «ربما كان الداء دواء والدواء داء» (5) قوله (عليه السلام) «وارفق ما كان الرفق أرفق» (6) يعني أصلح وأصوب واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك يعني إلا الشدة وقوله (عليه السلام) «ردوا الحجر من حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر» (5) فقد رخص (عليه السلام) لمن أراده الغير بالضرب والرمي والقتل أن يدافعه بمثل ذلك إذا علم أن لأدفع إلا به فإن ذلك جائز حسن عقلا ونقلا فإن أدى إلى هلاك الظالم فلا شئ على الدافع إذا لم يتعد.

(والرهبة وضدها الجرأة) الرهبة وهي الخوف على ثلاثة أضرب خوف من الحق وخوف من الخلق وخوف من النفس كل ذلك من ثمرة الحكمة والعلم بالله وآياته وصفاته ومخاطرات النفس وتسويلاتها ومحاسن أمور الدنيا والآخرة ومقابحها ومضار أخلاق الخلائق ومنافعها أما الخوف من الحق فيورث القرب منه كما ورد في الخبر «إذا اقشعر جسد العبد من خشية الله تعالى تتحات عنه ذنوبه كما يتحات

ص: 230


1- 1 - النهج أبواب الكتب من كتال له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر.
2- 2 - ما عثرت على لفظه نعم أخرج أحمد في مسنده ج 3 ص 22 و 55 والترمذي في سننه ج 6 ص 70 من حديث أبي سعيد الخدري «ان أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر».
3- 3 - أخرجه مسلم في الصحيح ج 8 ص 22 من حديث عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله).
4- 4 - و (5) النهج من كتاب له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام) تحت رقم 31. 6 - النهج أبواب الكتب والرسائل تحت رقم 46.
5- 7 - النهج أبواب الحكم والمواعظ تحت رقم 314.

من الشجرة ورقها» (1) ومن البين أن ذلك يوجب القرب منه وأما الخوف من الخلق فيورث البعد عنهم كما ورد في الخبر «خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تقلهم» ومن البين أن من يخاف لصا أو سبعا يفر منه، وأما الخوف من النفس فيورث تهذيبها لأن العبد إذا خاف منها يحارسها في جميع حركاتها وسكناتها فيدفع عنها سنان مكرها وسيف مخادعتها، وذلك يوجب تهذيب الظاهر والباطن.

ومن ثم قال بعض أهل العرفان: الخوف نار تحرق الوساوس والهواجس في القلب والظاهر المتبادر هنا هو الخوف من الله تعالى وهو قد يكون لأمور مكروهة لذاتها وقد يكون لأمور مكروهة لإدائها إلى ما هو مكروه لذاته، والثاني له أقسام كثيرة كخوف الموت قبل التوبة أو خوف نقض التوبة أو خوف عدم قبولها، أو خوف الانحراف عن الفضل في عبادة الله تعالى أو خوف ابتلاء القوة الغضبية أو القوة الشهوية بحسب مجرى العادة في ارتكاب الانتقام واستعمال الشهوات المألوفة أو خوف سوء الخاتمة أو خوف الشقاوة في العلم الأزلي وأعلى هذه الأقسام بحسب الرتبة عند الخائفين خوف الخاتمة فإن الأمر فيها خطير بل أعلاها وأدلها على كمال المعرفة خوف الشقاوة السابقة في العلم الأزلي لكون الخاتمة تابعة لها ومظهرة لما سبق في اللوح المحفوظ وقد مثل من له خوف السابقة ومن له خوف الخاتمة برجلين وقع لهما ملك بتوقيع يحتمل أن يكون لهما فيه عناء أو هلاك فيتعلق قلب أحدهما بحال نشر التوقيع وما يظهر فيه من خير أو شر ويتعلق قلب الآخر بما حضر للملك حال التوقيع وما ظهر له من رحمة أو غضب وهذا التفات إلى السبب فكان أولى وأعلى فكذلك الالتفات إلى القضاء الأزلي الذي جرى بتوقيعه القلم الأزلي في اللوح المحفوظ أعلى من الالتفات إلى الأبد وإليه يشير ما في الحديث «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» (2) ومن طرق العامة «السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله» (3) وكذا للأول أقسام كثيرة كالخوف من سكرات الموت وشدايده أو من سؤال منكر ونكير أو من عذاب القبر أو من أهوال الموقف بين يدي الله عز وجل أو من كشف الستر أو من السؤال عن النقير والقطمير أو من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه أو من النار وأغلالها وسلاسلها أو من حرمان الجنة أو من نقصان الدرجات فيها أو من الحجاب من الله سبحانه، وكل هذه الأمور مكروهة لذاتها ويختلف حال السالكين إلى الله فيها وأعلاها رتبة وهو الأخير أعني خوف الفراق والحجاب وهو خوف العارفين

ص: 231


1- 1 - أخرجه الطبراني من حديث العباس بن عبد المطلب بسند ضعيف كما في الجامع الصغير.
2- 2 - رواه الصدوق في كتاب التوحيد.
3- 3 - ويجب أن يكون ذلك بحيث لا يوجب الجبر فإن ذلك يوجب اليأس واليأس يجريء على المعصية (ش) والخبر رواه الطبراني في مسنده الصغير بسند صحيح عن أبي هريرة.

الناظرين لأنوار عظمته وجلاله، الغائصين في بحار لطفه وفضله وكماله، الذين أضاءت ساحة قلوبهم بمصباح الهداية الربانية وأشرقت مرآة ضمائرهم بأنوار المعارف الإلهية كما قال الله سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وأما ما قبله فهو خوف العابدين والصالحين والزاهدين ومن لم يكمل معرفته بعد وإذا عرفت الخوف ودرجاته فقس عليه ضده وهو الجرأة ودرجاتها لأن ضد كل درجة من الخوف درجة من الجرأة والأول من أعوان العقل وجنوده، والثاني من أعوان الجهل وجنوده فإذا وقع المطاردة بينهما في ساحة القلوب وميدان الأبدان واستظهر الجهل بالجرأة استظهر العقل بالخوف فيغلبه ويهزمه باذن الله تعالى ألا إن حزب الله هم الغالبون.

لا يقال: المعروف في مقابل الرهبة أعني الخوف هو الرجاء دون الجرأة لأن الرجاء ليس ضدا حقيقيتا للخوف ولا الخوف ضدا حقيقيا للرجاء لأنهما قد يجتمعان في قلب المؤمن بل افتراق أحدهما عن الآخر مذموم واجتماعهما ممدوح كما يدل عليه قوله تعالى في وصف العابدين (ويدعوننا رغبا ورهبا) وإنما الضد الحقيقي للرهبة هو الجرأة والضد الحقيقي للرجاء هو القنوط كما مر لعدم إمكان اجتماعهما في قلب واحد.

(والتواضع وضده الكبر) من أعاظم جنود العقل ومكارم الأخلاق الانسانية ومحاسن الأوصاف النفسانية التي يرتقي بها الإنسان إلى أعلى مدارج القرب والكمال ويصعد إلى أقصى معارج العز والجلال التواضع لله ولعباده المؤمنين كما أن من أفاخم جنود الجهل ومساوي الأخلاق ومذام الأوصاف التي يبعد بها الإنسان عن قرب رب العالمين ولا ينتهي قهقراه إلا إلى أسفل السافلين التكبر على الله وعلى عباده المسلمين ولكل واحد من المتواضع والمتكبر وتعزز وتذلل والتعزز للمتواضع من عند الله تعالى والتذلل من عند نفسه، وللمتكبر بالعكس ولا بد هنا من التكلم أولا في حقيقتهما وثانيا فيما هو سبب لحصول تلك الحقيقة، وثالثا فيما يلزمها ورابعا في المدايح والمذام الواردة فيهما أما حقيقة التواضع فهي هيئة نفسانية تحصل من تصور الإنسان نفسه أذل من غيره وأخس رتبة منه، ثم الاذعان به إذعانا جازما لا يشوبه شئ من الشكوك والأوهام.

وأما أسبابه فهي معرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه وقهره وغلبته على جميع الممكنات ومعرفة نفسه وشدة احتياجه وكمال افتقاره إليه في جميع الأحوال ويكفي في حصول تلك المعرفة التأمل في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم انكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون، ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق

ص: 232

وما كنا عن الخلق غافلين) فإنه إذا تفكر فيه علم أنه كان في الأصل عدما صرفا ولم يكن له في الوجود خبر ولا في العين أثر ولم يكن شيئا مذكورا، ثم خلقه الله سبحانه من أكثف الأشياء وهو التراب ثم من أخبثها وهو النطفة كما كان في الكتاب مسطورا، ثم بد له من حال إلى حال، ومن طور إلى طور، ومن نشأة إلى نشأة حتى جعله ذا صورة محصلة وقوة ناطقة وروح باصرة وآلات سامعة ولامسة إلى غير ذلك مما له دخل في استكمال تلك الصورة ثم نقله من رحم الأم إلى رحم الدنيا ورباه صغيرا وكبيرا وجعله سقيما وصحيحا وغنيا وفقيرا وقويا وضعيفا إلى غير ذلك من الأحوالات المتبادلة والصفات المتضادة التي هي خارجة عن قدرة البشر، ثم يميته ويقبره ويصيره جيفة منتنة، يهرب منه الحيوان، ويتنفر منه أوثق الإخوان، فتبلى أعضاؤه وتتفرق أجزاؤه حتى يصير ترابا كما كان أول امره ثم إذا شاء أنشره فيقوم من مرقده ناظرا إلى أحوال موحشة وأرض مبدلة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وحبال سايرة وكتب طايرة وصراط وميزان وحساب وملائكة غلاظ شداد إلى غير ذلك من أحوال القيامة وعقباتها وعقوباتها التي يطير من هولها قلوب العارفين وإذا عرف هذه الأمور حق المعرفة علم أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولاحياة ولا نشورا وأنه مضطر ذليل عبد مملوك لا يقدر على شئ وأنه متلبس بالعجز والانكسار ومتصف بالمسكنة والافتقار وأنه بعيد عن الاتصاف بالبطر والكبرياء والفخر والخيلاء لعمله بأن الكبرياء لا يليق إلا بذاته تعالى لأن الكبرياء تابع لكمال الذات وكمال صفاتها وأفعالها وجميع ذلك حاصل له تعالى أما الأول فلأن كمال الذات عبارة عن كمال وجودها ووجوده تعالى أتم الوجودات وأشرفها لاقتضاء الذات إياه وأما الثاني، فلأن جميع صفاته حاصلة له بالفعل بحيث لا يكون له وصف منتظر أزلا وأبدا، وأما الثالث فلأنه يصدر عنه تعالى وجود كل موجود عداه بلا مشقة ولا حركة ولا آلة فأذن علم أن المستحق للعظمة والكبرياء ليس إلا هو وهذا معنى التواضع وحقيقته وأما لوازمها فهي كثيرة جدا لأن تلك الحقيقة إذ انبعث من القلب وجرى في جداول الأعضاء والجوارح رشحاتها تنبت منها أنواع أشجار الفضائل منها العبادات القلبية والبدنية كالذكر والصوم والصلاة ونحوها ومنها مجالسة الفقراء ومحبتهم ومؤاكلتهم وتقديمهم في الطرق والمجالس ومنها لين القول وحسن المعاشرة والرفق بذوي الحاجات، ومنها الشكر عند حدوث النعمة ودفع النقمة، ومنها الابتداء بالسلام وترك المراء.

وأما المدايح الواردة فيه فهي كثيرة في القرآن والسنة كقوله تعالى لسيد المرسلين وأشرف الأولين والآخرين: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها

ص: 233

للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) وقول النبي (صلى الله عليه وآله):

«إن التواضع يزيد صاحبه رفعة فتواضعوا يرفعكم الله» (1) وأما حقيقة الكبر فهي هيئة نفسانية تنشأ من تصور الإنسان نفسه أكمل من غيره وأعلى رتبة منه، وتلك الهيئة تعود إلى ما يحصل للنفس من ذلك تصور، من النفخ والهزة والتعزز والتعظم والركون إلى ما يتصوره من كمالها وشرفها على الغير ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أعوذ بك من نفخة الكبر» (2) وهي رذيلة تحت الفجور تقابل التواضع وإن تصور الإنسان فضيلته على الغير مع قطع النظر عن قياس نفسه إلى متكبر عليه وعن إضافة تلك الفضيلة إلى الله تعالى باعتبار أنها منه ولم يكن خايفا من زوالها بل كان ساكنا إليها مطمئنا فذلك هو العجب فإذن العجب هيئة نفسانية تنشؤ عن تصور الإنسان فضله واستقطاعه عن المنعم به والركون إليه والفرح به مع الغفلة عن قياس نفسه إلى الغير بكونه أفضل منه، وبهذا القيد يمتاز عن الكبر إذ لابد في الكبر أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة وللغير مرتبة ثم يرى مرتبته فوق مرتبة غيره وإن تصور فضيلته على الغير وأضافها إلى الله سبحانه باعتبار أنها منه فهو نوع من الحمد كما يدل عليه قوله تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) وأما أسباب الكبر فهي أضداد أسباب التواضع أعني عدم العلم بعظمة الله تعالى وجلاله وكبريائه وقهره على جميع الممكنات، وعدم معرفة نفسه وشدة احتياجه وافتقاره إليه سبحانه في جميع الأحوال، ولست أعني بعدم العلم بهذه الأمور عدم تصورها والغفلة عنها بالمرة فإن كثيرا من الجبابرة والمتكبرين ينسبون أنفسهم إلى العلم بها، بل أعني عدم استقراره وتمكنه في قلوبهم وعدم لصوقه بها كعدم لصوق الماء بريش الأوز والبط.

وأما لوازمه وآفاته وثمراته من الأعمال والتروك فهي أيضا كثيرة جدا فإن هذا الخلق الاجاج إذا نبع في القلب وجرى في الأعضاء والجوارح ينبت منها أعمال ردية وتروك مردية.

أما الأعمال فمنها باطنة كتحقير الغير وازدرائه واعتقاد أنه لا يصلح للمجالسة والمجانسة والمؤانسة والمؤاكلة واعتقاد أنه ينبغي أن يكون ماثلا بين يديه أو ماشيا من خلفه إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة الموجبة لاستخفاف الغير، ومنها ظاهرة كالتقدم عليه في الطرق والارتفاع عليه في المجالس وإبعاده عن مجالسته وزجره عن مؤاكلته والعنف عن رد قوله والغلظة على المتعلمين وذوي الحاجات وإذلالهم

ص: 234


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب التواضع تحت رقم 1.
2- 2 - ما عثرت على أصل له الاعلى ما أخرجه ابن ماجة في كتاب (إقامة الصلاة باب الاستعاذة في الصلاة) رقم 807 في حديث: «اللهم اني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» وقال عمرو: همزه الموتة; ونفثه الشعر، ونفخه الكبر، انتهى، والموتة نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال العقل كالسكران.

وغيبتهم والتطاول عليهم في القول، وأما التروك فكترك التواضع وترك معاشرة الفقراء وترك الرفق بالناس ونحوها وأما المذام الواردة فيه فهي أيضا كثيرة من القرآن والسنة كقوله تعالى: (يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وقوله (صلى الله عليه وآله) «يقول الله عز وجل الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في جهنم» (1) وقول الباقر والصادق (عليهما السلام) «لا يدخل الجنة من في قلبه مثال ذرة من كبر» (2) قيل وإنما صار الكبر حجابا من دخول الجنة لأنه يحول بين العبد والفضائل التي هي أبواب الجنة إذ الكبر يغلق تلك الأبواب كلها فلا يقدر العبد ومعه شئ من الكبر أن يحب للمؤمن ما يحب لنفسه ولا يتمكن من ترك الرذايل التي توجب الدخول في النار وفعل أضدادها من الفضائل كالتواضع وكظم الغيظ وحب الفقراء والمساكين وحب معاشرتهم ومجالستهم وقبول الحق والرفق. وبالجملة ما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ به عزه وعظمته وما من خلق فاضل إلا وهو عاجز عنه خوفا عن أن يفوته عزه وعظمته لأن الأخلاق الذميمة علة مسرية (3) يستلزم بعضها بعضا فلذلك لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر.

(والتؤدة وضده التسرع) التؤدة بضم التاء وفتح الهمزة وسكونها الرزانة والتأني والتثبت في الأمر وقد اتأد فيه ويؤد أي يتأنى ويتثبت وهو افتعل ويفعل والتاء في اتاد بدل من الواو والتؤدة صفة تابعة للسكون والحلم واللذين هما من أنواع الاعتدال في القوة الغضبية فإن حصولها يتوقف عليهما أما على السكون فلأنه عبارة عن ثقل النفس وعدم خفتها في الخصومات وأما على الحلم فلأنه عبارة عن الطمأنينة الحاصلة للنفس باعتبار ثقلها وعدم خفتها بحيث لا يحركها الغضب بسرعة وسهولة وإذا حصلت للنفس هاتان الصفتان أمكن لها التثبت والتأني وعدم العجلة في البطش والضرب والشتم إلى

ص: 235


1- 1 - أخرجه ابن ماجة تحت رقم 4174، ورواه صاحب الكافي كتاب الايمان والكفر تحت رقم 3 و 4 باختلاف في اللفظ من حديث أبي جعفر (عليه السلام).
2- 2 - الكافي باب الكبر تحت رقم 5، ورواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ج 1 ص 65.
3- 3 - يعني علة سارية كالوباء أو مسرية لغيرها كالسل يستلزم الحمى، فإن قيل بعض أهل التكبر وطالبي الجاه والعزة يتكلفون فضائل ليحسن سمعتهم فيتواضعون ويبذلون الأموال ويرفقون بالناس ويتظاهرون بأكثر الفضائل كمعاوية. قلنا إنما الأعمال بالنيات والذي يبذل المال لحفظ الجاه لا يضع إحسانه موضع الاحسان بل يبذل للشعراء والفساق حتى يمدحوهم بما ليس فيهم ولمن يروج أمرهم ويصفهم في المجالس بالصفات الحسنة كالعلم والتقوى ويمنعون من لا يتقرب إليهم وإن كانوا أحوج وأحق وليس هذا البذل من الفضائل المأمور بها في الشرع وكذلك التواضع والتحالم وغيرها (ش).

غير ذلك من أنحاء المؤاخذة وضد التؤدة التسرع بالسين المهملة في النسخ التي رأيناها، وقال سيد الحكماء عضدها التترع بتائين مثناتين من فوق وتشديد الراء قال في الصحاح: تترع إليه بالشر أي تسرع وهو رجل ترع أي سريع إلى الشر والغضب انتهى. والتسرع - يعني العجلة في الأمور وعدم التأني في الأخذ - من فروع التهور الذي في جانب الإفراط من القوة الغضبية ومنشؤه الجهل بحسن السياسة وخفة النفس المقتضية لحركتها واضطرابها بأدنى سبب.

(والحلم وضده السفه) الحلم هيئة حاصلة للنفس من اعتدال القوة الغضبية المسماة بالنفس السبعية التي من شأنها الاقدام على الأهوال وشوق التسلط والترفع والغلبة على الأقران، واعتدال تلك القوة إنما يحصل بانقيادها للعقل فيما عده حظا ونصيبا لها، وعدم تجاوزها عن حكمه، ويعتبر في حصول تلك الهيئة عدم انفعال النفس عن الواردات المكروهة المؤذية هذا في حق الإنسان وأما في حق الله سبحانه فالحلم عبارة عن عدم انفعاله عن مخالفة عبيده لأوامره ونواهيه وعدم استفزاز الغضب له عند مشاهدة المنكرات. وعدم حمل قدرته الكاملة له على المسارعة إلى الانتقام والفرق بينه تعالى وبين العبد في هذا الوصف إن سلب الانفعال عنه تعالى سلب مطلق وسلبه عن العبد سلب عما من شأنه أن يكون له ذلك الانفعال ويكون عدم الانفعال عنه تعالى أتم وأبلغ من عدمه عن العبد وبذلك الاعتبار يكون حلمه أعظم، ثم للحلم آثار غير محصورة منها كبر النفس ويعرف ذلك بتحملها للأمور الغير الملايمة لها، ومنها نجدتها ويعرف ذلك بعدم صدور حركات غير منظمة منها، ومنها علو همتها ويعرف ذلك بعدم جزعها عند الأمور الهائلة حتى لا يبالي من أهوال الموت وشدايده، ومنها سكونها ويعرف ذلك بعدم طيشها في المؤاخذة، ومنها تواضعها ويعرف ذلك بالتخشع والتذلل للغير وعدم إظهار مزيتها عليه، ومنها حميتها ويعرف ذلك بعدم تهاونها في محافظة ما يجب حفظه شرعا وعقلا، ومنها رقتها ويعرف ذلك بظهور تألمها عند تألم أحد من المؤمنين وكذا له منافع غير معدودة في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فيكفي في الدلالة ما روي «أن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم» (1) وأما في الدنيا فيكفي قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحلم عشيرة» (2) يعني أن الرجل كما يتمتع بالعشيرة يتمتع بالحلم ويتوقر لأجله، ومن ثم قيل الحلم اكتساب المدح من الملوك والثناء من المملوك. والسفه الذي ضده وطرف الافراط من القوة المذكورة عبارة عن خفة النفس وحركتها إلى ما لا يليق من الأمور التي يقتضيها طغيان تلك القوة مثل الضرب والقتل والشتم والبطش والترفع والتسلط والغلبة والظلم ومفاسده كثيرة وقد يطلق السفه على

ص: 236


1- 1 - رواه ابن حبان في كتاب الثواب.
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 418.

الجهل وسخافة رأي ونقصان عقل منه قوله تعالى حكاية عن الكفار (أنؤمن كما آمن السفهاء) وهذا المعنى ليس بمراد هنا لأنه ضد العلم والحكمة التابعين لحركة القوة الناطقة بالاعتدال في العلوم والمعارف.

(والصمت وضده الهذر) صمت صمتا وصموتا وصماتا أطال السكوت، ومنه الصامت خلاف الناطق. وهذر في نطقه يهذر هذرا والاسم الهذر بالتحريك وهو الهذيان، والهذر من خواص الجاهلين وأفعال الناقصين كما أن الصمت عما يضر وما لا يهم من خصال المرسلين وآداب العاقلين وأخلاق الكاملين ومنافعه كثيرة جدا فإنه يورث القلب فكرا في المعارف العقلية والنقلية ويزينه بالحكمة النظرية والعملية لأن الصمت دليل التفكر وقائد الحكمة ويورث السلامة عن الآفات والمعاصي لأن آفات الكلام ومعاصي اللسان كثيرة، فعن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصايد ألسنتهم» (1) ويورث الهيبة لصاحبه فإن من رآه يخيل إليه أن لها شأنا فيهيب منه ويوقره بخلاف النطق بما لا يعني فإنه يهين مكارم العاقل ويبدي مساوي الجاهل ويصغرها في أعين الناس كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«بكثرة الصمت تكون الهيبة» (2) وقال «المرء مخبوء تحت لسانه» (3) يعني أن الرجل إذا تكلم يظهر كونه فصيحا أو معجما، عالما أو جاهلا، خيرا أو شرا، وإن لم ينطق كان جميع ذلك مستورا عليه عند العامة ثم الظاهر أن السكوت عما يشعر بفساد الرأي وقبح العقائد من شعب الاعتدال في القوة الفكرية وعما يشعر بالهتك والترفع والغلبة والذم في أعراض الناس من شعب الاعتدال في القوة الغضبية وعما يشعر بالميل إلى المستلذات والمشتهيات من شعب الاعتدال في القوة الشهوية والهذر المقابل له من شعب الانحراف في هذه القوى.

(والاستسلام وضده الاستكبار) الظاهر أن الاستسلام وهو الطاعة والانقياد على سبيل المبالغة في متابعة الحق من فروع الحكمة الواقعة في حاق الوسط من القوة الناطقة، ويحتمل أن يكون من فروع العدالة الحاصلة من توسط هذه القوة والقوة الغضبية والشهوية جميعا لأن الاستسلام كما يكون في مقتضى القوة الناطقة كذلك يكون في مقتضى هاتين القوتين، والاستكبار وهو التمرد عن الحق وترك

ص: 237


1- 1 - أخرجه ابن ماجة تحت رقم 3973 في حديث طويل من حديث معاذ وقوله (صلى الله عليه وآله) «يكب» من كبه، إذا صرعه. «حصائد ألسنتهم» أي محصوداتهم، على تشبيه ما يتكلم به الانسان بالزرع المحصود بالمنجل فكما أن المنجل يقطعه من غير تمييز بين رطب ويابس وجيد وردي كذلك المكثار في الكلام بكل فن من الكلام من غير تمييز بين ما يحسن وما يقبح.
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 224.
3- 3 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 147.

الطاعة والانقياد له من فروع الجهل المقابل للحكمة أو من فروع الجور المقابل للعدالة، والفرق بينه وبين الكبر أن الكبر كما ذكرناه هيئة نفسانية ناشية من تصور الإنسان نفسه أكمل وأشرف من غيره، والاستكبار عبارة عن إظهار تلك الهيئة فهو كبر مع زيادة كما يدل عليه زيادة البناء.

(والتسليم وضده الشك) التسليم بذل الرضا بقبول قول الله تعالى وفعله وقول الرسول وأوصيائه وأفعالهم (عليهم السلام) وتلقيها بالبشر وطلاقة الوجه وإن لم يكن موافقا للطبع ولم يعلم وجه المصلحة وهو من فروع العدالة وعلامة الإيمان قال الصادق (عليه السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكوة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان.

ثم قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين (1) ثم تلا هذه الآية: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (2) والشك هو عدم قبول ما ذكر وسماه شكا لأنه من آثار الشك في الله وصفاته وفي الرسول وأوصيائه وأقوالهم وأفعالهم، وقيل: المراد بالتسليم هنا الإذعان والتصديق القلبي وفيه أن التسليم بهذا المعنى هو العلم وقد مر ذكره سابقا وعلى ما ذكرنا لا قصور فيه أصلا لأن هنا ثلاثة أشياء مترتبة الأول العلم بصدق قول الله وقول الرسول، الثاني ما ينشؤ من هذا العلم وهو الرضا بقولهما، الثالث ما ينشؤ من الرضا وهو قبول قولهما.

(والصبر وضده الجزع) الإنسان ما دام في هذه النشأة كان موردا للمصايب والآفات ومحلا للنوائب والعاهات ومكلفا بفعل الطاعات وترك المنهيات والمشتهيات وكل ذلك ثقيل على النفس بشع في مذاقها وهي تتنفر منه نفارا وتتباعد منه فرارا فلا بد من أن يكون فيه قوة ثابتة وملكة راسخة بها يقدر على حبس النفس على هذه الأمور الشاقة والوقوف معها بحسن الأدب وعدم الاعتراض على المقدر

ص: 238


1- 1 - فإن من يعتقد عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) من الخطأ والغلط لا يشك في صحة أفعاله وأقواله ولا يرجح فعلا آخر على فعله ولا قولا على قوله وأما إن لم يعتقد عصمته عن الخطأ فلا يبعد أن يرجح فعل غيره على فعله، وإنكار العصمة مساوق لإنكار النبوة وإنكار النبوة شعبة من الشرك. فإن قيل فكيف عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة مع عدم اعتقادهم عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله) عن الخطأ في فهم الوحي وتبليغه والالتزام بأن النبي لا يخطئ في شئ ويخطىء في آخر بشيع فظيع قلنا بعض الناس لغلبة الأوهام على عقولهم يعتقدون شيئا وينكرون لوازمه بل ينكرون عين ذلك الشئ إذا اتى به بلفظ آخر كما قيل لبعض الخلفاء: يموت جميع أقربائك فساءه، فقيل عمرك أطول منهم فسره. ويقال لأهل الظاهر: سمع الله وبصره بمعنى علمه بالمبصرات والمسموعات كعلمه بالمذوقات والمشمومات فيقبلون ويستحسنون وإن قيل لهم لا علم له تعالى بالجزئيات إلا بوجه كلي فيستنكرون وكلاهما بمعنى واحد وكلاهما غير صحيح (ش).
2- 2 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الشرك تحت رقم 6.

بإظهار الشكوى وتلك القوة أو ما يترتب عليها أعني حبس النفس على تلك الأمور ومقاومتها لهواها هي المسماة بالصبر وهو نوع من أنواع العفة وباب من أبواب الجنة ومقام عال من مقامات السالك إلى الله تعالى، وبناؤه على أربع قواعد الشوق والاشفاق والزهد والترقب للموت فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات وطيب نفسه عن ترك جميع المشتهيات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استخف بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات، والآيات والروايات الواردة في مدحه كثيرة جدا ويكفى في معرفة علو قدره قوله تعالى (والله مع الصابرين) وقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) والجزع وهو حمل النفس على الشكاية وفعل ما يدل على عدم رضاها بصنع الله تعالى وهو نقيض الصبر، وجند الجهل ومنشؤه عمى البصيرة وتكدر السريرة فيتوهم عند نزول البلاء أن الجزع والاضطراب ينفعه فيتمسك به ويتمسك العقل حينئذ بالصبر ويقع بينهما قتال وجدال ومعركة هذا القتال قلب العبد وساحته الجوارح، والله يؤيد بنصره من يشاء وهو على كل شئ قدير.

(والصفح وضده الانتقام) صفح فلان عن فلان إذا أعرض عن ذنبه وعفى عن عقوبته وحقيقته ولاه صفحة وجهه وهو من فروع الحلم وشعب الاعتدال في القوة الغضبية وهو من صفات الأنبياء والأوصياء ومناقب الحكماء والعقلاء ومفاخر العلماء والكرماء إذ الحكيم يتغافل ويتدبر والعاقل يتسامح ويتفكر: والكريم يغفر إذا قدر وقد وقع الترغيب فيه في مواضع عديدة من القرآن والسنة قال الله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وقال النبي (صلى الله عليه وآله) (من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا) (1) وفوائده غير محصورة منها أنه يوجب زيادة الأنصار والأعوان، ومنها أنه يوجب الذكر الجميل بين الإخوان والصيت الحسن في غابر الزمان كما قيل:

فعفوك في الأيام كالمسك فايح * وصفحك في الإسلام كالنجم زاهر والانتقام - وهو المعاقبة بالذنوب والمآثم والمؤاخذة بالزلل والجرائم - من فروع التهور وشعب الانحراف في القوة المذكورة ومن خصايل الجهلاء ورذائل السفهاء ومنشؤه عدم سكون النفس وثباتها، فإن تلك القوة تحركها حينئذ بسهولة إلى الشغب وإرادة الانتقام ويحدث بحركتهما حرارة في القلب فيثور دمه ويغلي وينتشر إلى الجوارح فتتحرك هذه الجوارح بعضها إلى الشتم وبعضها إلى الضرب وبعضها إلى غير ذلك من أنحاء المؤاخذة، ومضاره غير معدودة لأنه ينجر إلى استمرار العدوان وغلظتها

ص: 239


1- 1 - أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب من حديث ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله) وفي الكافي كتاب الايمان والكفر باب كظم الغيظ من حديث أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).

واستيناف الخصومة وشدتها، وقد يؤدي إلى الظلم والعدوان ويبعث على الفجور والطغيان لتجاوزه عن القدر الجايز ولذلك كان الصفح أحسن من الانتقام هذا إذا علم أن الصفح لا يضره ولا يؤدي إلى جرأة الخصم وإلا فالانتقام بالقدر الجائز أحسن وعلى هذا يحمل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الشر يدفعه الشر» (1)، وقوله: «ردوا الحجر من حيث جاء» (2).

(والغنى وضده الفقر) في القاموس الغنى كإلى ضد الفقر وإذا فتح مد والاسم الغنية بالضم والكسر والغنوة والغنيان مضمومتين، والغناء ككساء من الصوت ما طرب به وكسماء رمل، وهذه الفقرة يحتمل وجوها الأول الغنى والفقر الاخرويان وهو الذي أشار إليه (صلى الله عليه وآله) بقوله: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؟ فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (3) وهذا حقيقة الفقر، والإفلاس وأما من ليس له مال ومن قل ماله فالناس يسمونه فقيرا ومفلسا وليس هو حقيقة الفقير والمفلس لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته وربما ينقطع بغنى ويسار يحصل له بعذ ذلك في حياته، بخلاف ذلك الفقير المفلس فإنه يهلك بالهلاك الأبدي وأشار إليه سيد الوصيين بقوله: «الغنى والفقر بعد العرض على الله سبحانه» (2) الثاني غنى القلب بالأخلاق وفقره بعدمها وهذا قريب من قوله (عليه السلام):

ليس البلية في أيامنا عجبا * إن السلامة فيها أعجب العجب ليس الجمال بأثواب تزينها * إن الجمال جمال العلم والأدب ليس اليتيم الذي قد مات والده * إن اليتيم يتيم العقل والحسب الثالث إظهار الغنى مع كمال المسكنة ورياضة النفس والقناعة بما قضى له والرضا بالموجود والصبر على المفقود والاعراض عن الدنيا والعقب والاقبال على المولى وقطع الآمال وترك القيل والقال كما يرشد إليه قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا) وإظهار الفقر والطمع مما في أيدي الناس وهذا قريب من قوله (صلى الله عليه وآله) حين قيل له: ما الغنى؟

ص: 240


1- 1 - و (3) تقدما سابقا. 3 - روى نحوه مسلم واحمد في مسنده ج 2 ص 303 وغيره من حديث أبي هريرة راجع الترغيب والترهيب للمنذري ج 4 ص 405.
2- 4 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 452.

قال: «اليأس مما في أيدي الناس» (1) ومن قول بعض الأكابر:

عليك باليأس من الناس * إن غنى نفسك في اليأس الرابع الغنى بالحق جل شأنه عما سواه من الأسباب والوسائل والفقر التمسك بما سواه والاستعانة به والغنى بهذه المعاني من جنود العقل وأعوانه إذ به يترقى العقل من حضيض المذلة إلى أوج الكمال في الإنسان كما أن الفقر الذي هو ضده من جنود الجهل وأنصاره إذ به يستولى الجهل على ممالك القلب بالجور والطغيان.

(والتذكر وضده السهو) التذكر من أنواع العلم وفروع الاعتدال في القوة العاقلة والسهو من أنواع الجهل المقابل للعلم وفروع الانحراف في هذه القوة وهذه الفقرة أيضا يحتمل وجوها: الأول أن يكون المراد بالتذكر تذكر أحوال القيامة وعقباتها وشدائدها فإن من تذكرها ورآها بعين البصيرة يسعى في مرضات الرب ويأخذ عنان الطبيعة عن يد النفس الأمارة ويعد لنفسه ما ينجيه من الهلاك الأبدي. الثاني: تذكر الموت وسكراته وما يتبعه من أحوال البرزخ وكيفية النجاة وأسبابها. الثالث:

تذكر الصور المخزونة في القوة الحافظة بعد زوالها عن القوة المدركة واستحضارها ثانيا. الرابع: الصور العقلية المخزونة في المبادي العالية بإقبال النفس إليها وارتباطها بها. الخامس: تذكر حالاته من بدء الوجود إلى كمال نشوئه وكيفية انتقاله من حال إلى حال وارتحاله من طور إلى طور وانقلابه من وضع إلى وضع على ما يقتضيه القدرة القاهرة. والسهو مقابل للتذكر بهذه المعاني وكون التذكر من جنود العقل والسهو من جنود الجهل ظاهر لأن التذكر من نوع من العلم والسهو نوع من الجهل فالأول يعين العقل في السير إلى الله، والثاني يعين الجهل في الميل إلى الضلالة.

(والحفظ وضده النسيان) الحفظ أيضا من أنواع العلم والنسيان من أنواع الجهل المقابل للعلم، ولعل المراد بالأول حفظ الميثاق الذي أخذه الله تعالى من العباد حين كونهم في صورة الذر أو حفظ ما يجب حفظه مطلقا أو حفظ صور الحسية في خزانتها أو حفظ الصور العقلية بأن يحصل للذهن ملكة يشاهد بها تلك الصور من المبادي العالية من غير حاجة إلى تجشم كسب، والنسيان عبارة عن نبذ الميثاق والغفلة عنه بالمرة أو عن زوال صور ما وجب حفظه عن القوة المدركة أو زوال الصور الحسية عن الخزانة والقوة المدركة جميعا أو عن زوال الصورة العقلية بفقد ملكة المشاهدة.

(والتعطف وضده القطيعة) العطف الميل ومنه عطفت عليه بمعنى أشفقت عليه ورحمته لأن في الإشفاق والرحمة ميلا وانعطافا إلى المرحوم، والعطاف الرداء وتعطفت بالعطاف أي ارتديته والمتعطف

ص: 241


1- 5 - أخرجه أبو نعيم في الحلية والقضاعي في مسند الشهاب عن ابن مسعود.

بأحد كأنه ضمه إلى نفسه بمنزلة الرداء، والقطيعة مصدر يقال: قطع رحمه قطعا وقطيعة فهو قطع كصرد وهمزة هجرها وعقها وبينهما رحم قطعها إذا لم توصل، والتعطف من أنواع العدالة وضده من أنواع الظلم وعليكم أيها الاخوان أن تكونوا إخوانا متعاطفين متباذلين متواصلين متآلفين بالنسبة إلى كل أحد من المسلمين وأن لا تفرقوا بين الغني والفقير والقوي والضعيف والكبير والصغير وقد صدر الترغيب فيه من القرآن والسنة قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) وقال:

(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» (1) وهذه الفضيلة فضيلة شريفة من فضائل الأخلاق لا يتصف بها إلا من امتحن الله قلبه بالتقوى وطهره من الكبر والرين ونزهه من الحقد والغين ويندرج تحتها كثير من المكارم مثل خفض الجناح ولين الجانب والرفق في الأقوال والأفعال وعدم الغلظة والجفاوة في جميع الأحوال وبسط الوجه وطلاقته من غير تقطير وتقطيب وعبوس والمواساة بينهم في جليل الأمور وحقيرها وقليلها وكثيرها بقدر الامكان فأن جميع ذلك من توابع الشفقة والرحمة ولوازمها، ولها منافع غير محصورة ويكفى في هذا المقام قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «من لأن جانبه كثر أعوانه» (2) وقوله: «من رفع عن الناس يدا واحدة رفعت عنه أيد كثيرة» (3) ثم إن التعاطف والتواصل من حقوق العشرة والصحبة إذا كانا في جانب الدين وإلا فهجرة أهل الأهواء والبدع دائمية على مر الأوقات ما لم يظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق ولذلك لما خاف (صلى الله عليه وآله) على كعب بن مالك وأصحابه النفاق لتخلفهم عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوما.

(والقنوع وضده الحرص) القنوع بالضم هنا مصدر بمعنى القناعة بالكسر وهي الرضى باليسير من متاع الدنيا والاقتصار على قدر الكفاف بل على ما دونه لو تعزز عليه وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «قلت: يا جبرئيل ما تفسير القناعة؟ قال: يقنع بما يصيب من الدنيا يقنع بالقليل ويشكر باليسير» (4) وفسرها المحقق الطوسي بعد ما عدها من الأنواع المندرجة تحت العفة الحاصلة من الاعتدال في القوة الشهوية بأنها رضاء النفس في المآكل والمشارب والملابس وغيرها بما يسد الخلل من أي جنس اتفق وقد وقع الحث عليها في القرآن والسنة ويكفي في ذلك قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) وقوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) وقول

ص: 242


1- 1 - أخرجه البخاري ج 8 ص 23 وفي الكافي باب الهجرة نحوه.
2- 2 - ما عثرت على لفظه وفي خطبة له (عليه السلام) تحت رقم 23 نحوه.
3- 3 - النهج من كتابه له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام) تحت رقم 31.
4- 4 - راجع سفينة البحار ج 2 ص 452.

الباقر والصادق (عليهما السلام): «من قنع بما رزقه الله فهو أغنى الناس» (1) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «القناعة مال لا ينفد ولا يفنى» (2) ومن طرق العامة «القناعة كنز لا ينفد» (3) يعني بذلك أن الإنفاق منها لا ينقطع كلما تعزز عليه شئ من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضي وقوله (عليه السلام): «كفى بالقناعة ملكا» (4) يعني أن القناعة منجية عن مهلكة الالتماس كالملك وإن دخلك من ذلك شئ فانظر إلى عيش الأنبياء والأوصياء والأولياء والصلحاء من قبلك وقد بلغك حال نبيك الأطهر أنه إنما كان قوته الشعير ولم يشبع منه وحلواه التمر وثوبه الخشن ووقوده السعف إذا وجده، وأما ضدها وهو الحرص في طلب زهرات الدنيا والانهماك في لذاتها وجمع مشتهياتها زايدا على القدر الضروري الذي يجوزه العقل والنقل فهو من شعب الانحراف في القوة الشهوية وطرف الافراط فيها وصاحبه مع عدم خلوه من المشقات لا يأمن من الوقوع في الشبهات وارتكابه للمحرمات ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والرغبة مفتاح النصب ومطية التعب» (5) وقال: «الحرص داع إلى التقحم في الذنوب» (6) وقال «ابن آدم: إن كنت تريد من الدنيا من يكفيك فان أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك» (7) ووجه ذلك ظاهر لأن الحريص في جمع الدنيا وزخارفها يقدم رضاه على الرضا بما قدر الله له ويتبع حرصه وأمله ومراتب الحرص غير محصورة ودرجات الأمل غير معدودة فلو فرض أنه جمع له تسعة أعشار الدنيا طلب العشر الباقي، ثم بعده يطلب الدنيا مرتين وعلى هذا حتى يموت هذا حكم طلب القدر الزايد، وأما طلب القدر الضروري له ولعياله فليس من الحرص في شئ بل هو من العبادة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (8) فلو ترك ذلك كان مذموما وينشؤ ذلك من خمود الشهوة الذي هو طرف التفريط من القوة المذكورة.

(والمواساة وضده المنع) في المغرب آسيته بمالي أي جعلته اسوة اقتدي به ويقتدى هو بي وواسيته لغة ضعيفة، وفي النهاية الأسوة بكسر الهمزة وضمها القدرة والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش

ص: 243


1- 5 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب القناعة تحت رقم 9.
2- 6 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 57 و 475.
3- 7 - أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث جابر كما في مجمع الزوائد ج 10 ص 256. والقضاعي في مسند الشهاب من حديث أنس بسند ضعيف كما في الجامع الصغير.
4- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 229.
5- 2 - المصدر أبواب الحكم تحت رقم 371.
6- 3 - المصدر الباب تحت رقم 371 وفيه «الحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب».
7- 4 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب القناعة تحت رقم 6.
8- 5 - الكافي ج 5 ص 88 كتاب المعيشة باب من كد على عياله.

والرزق وأصلها الهمزة فقبلت واوا تخفيفا، واعلم أن المواساة يعني معاونة ذوي الأرحام والأقربين وسائر الناس من الفقراء والمساكين في المعيشة وإشراكهم في القوت والمال من شعب السخاء المعدود من أنواع العفة ومن كمال الصالحين وخصال العاقلين، إذ العاقل الكامل يعلم بنور عقله أن سد خلة الفقراء ومواساة الضعفاء وإعطائهم ما ينتظم به أحوالهم من فضل المال يوجب ذكرا جميلا في الدنيا كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره» (1) وثوابا جزيلا في الآخرة كما وعد الله سبحانه أهل الإنفاق بقوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وبقوله: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) ويعلم أن الفضل الزايد في ماله على القدر الذي يدفع ضرورته ليست زيادته معتبرة في صلاح حاله ولانقضائه معتبر في فسادها فلا يزيده إذن إن أبقاه ولا ينقصه إن أنفقه وأعطاه، فيسهل عليه إنفاقه على ذوي الحاجات توقعا لما يترتب عليه من رفع الدرجات، وأما المنع يعني عدم إعطاء الفقراء ترك مشاركتهم ومساهمتهم في فضل المال فهو من شعب البخل ومن صفات الجاهلين وعلامات الغافلين، إذ الجاهل الغافل مع جهله بما يترتب على الانفاق من الثناء الجميل عاجلا والثواب الجزيل آجلا يظن أنه إن أنفقه يصير فقيرا فيمسكه لنفسه وذلك لسوء ظنه بمالك الأرزاق وعدم إيمانه برب الأرباب وضعف إذعانه بيوم الحساب فيستحق بذلك الشقاء العظيم والعذاب الأليم كما قال العزيز العليم: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).

(والمودة وضدها العداوة) والمودة المحبة تقول: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته والود بالحركات الثلاث المودة ولما كان الإنسان محتاجا في تعيشه إلى التمدن وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل الملايم والحاجات إذ لا يمكن للانسان الواحد القيام بجميع ما يحتاج إليه من المصالح والضروريات التي لا بقاء له بدونها وذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بايتلاف ومعاملة واختلاط ومصاحبة ولا ينتظم ذلك إلا بتحقق الروابط بينهم احتاجوا إلى تلك الروابط وأعظمها المودة التي هي من فروع الاعتدال في القوة الغضبية وهي من جملة نعوت الكاملين وصفات العاقلين إذ العاقل الكامل يعلم أن مودته للناس مستلزمة لمودتهم ومودة أتباعهم وخدمهم وحواشيهم له ويجلب لنفسه من مودة واحد مودة أشخاص كثيرين له وذلك مستلزم لنفعهم له وعدم مضرتهم إياه وميل قلوبهم إليه

ص: 244


1- 6 - تقدم سابقا عن النهج أبواب الخطب تحت رقم 23.

وأنسهم به ومعاونتهم له ومدافعتهم عنه وبذلك يتم نظامهم وصلاح حالهم في الدنيا والآخرة ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «التودد نصف العقل» (1) وأما ضدها أعني العداوة التي من فروع الإفراط في القوة المذكورة فهو من جملة نعوت الناقصين وصفات الجاهلين إذ الجاهل لغفلته عن سوء العاقبة ووخامتها يظن أن عداوة الناس خير له ويغفل عن حصولها فيهم بالنسبة إليه أيضا; وعن بعدهم منه ونفارهم عنه المستلزمين لفساد نظامه وعدم حصول مرامه وتضييق ماله وتغير حاله في الدنيا والآخرة.

(والوفاء وضده الغدر) وفى بعهده وأوفى به وفاء وهو وفي إذا قام به واتمه وهو فضيلة مندرجة تحت العدالة كما أن الغدر الذي هو ضده يعني نقض العهد رذيلة مندرجة تحت الفجور وبه يشعر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة» (2) هذا أشرف الضروب من الشكل الأول ينتج كل غدرة كفرة، والوجه في لزوم الكفر للغادر إن استحل الغدر ظاهر وإلا فالمراد بالكفر كفر نعم الله تعالى وسترها بإظهار المعصية والمخالفة كما هو المفهوم اللغوي من لفظ الكفر ثم للوفاء مراتب: الأولى الوفاء بكلمتي الشهادة وثمرته حفظ النفس والمال، والثانية الوفاء بالعبادات المفروضة والمندوبة وثمرته الثواب الجزيل والأجر الجميل في الآخرة، والثالثة الوفاء بترك الكباير والاجتناب عن الصغاير وثمرته النجاة من الجحيم والتخلص من العذاب الأليم، والرابعة الوفاء بالفضايل النفسانية والاجتناب عن رذايلها وثمرته الترقي إلى عالم الروحانيين والتشبه بالملائكة المقربين (3)، والخامسة الوفاء بعهود الناس ومواثيقهم الموافقة للقوانين الشرعية وثمرته استبقاء نظامهم واستكمال مقاصدهم ومرامهم والسادسة وهي أعلى المراتب وأسناها التعري عن الأغطية البشرية بالتجريد والاستضاءة بالأنوار الربوبية والاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره (4) وثمرته الفوز بالكرامة في دار

ص: 245


1- 1 - النهج أبواب الحكم رقم 142.
2- 1 - النهج أبواب الخطب تحت رقم 198.
3- 2 - هذا أعلى من الثواب الجميل حيث جلعه في المرتبة. (ش)
4- 3 - هذا يسمى بالفناء في اصطلاح العرفاء ويصرح بذلك عن قريب ومر نقل حديث وكلام عن المجلسي (رحمه الله) في الفناء ثم نقول الفناء ثابت قهرا لكل وجود ممكن سواء اعترف به الإنسان ووجده في نفسه أم لا، لان الممكن لا استقلال له في الوجود وليس بشئ ينظر إليه بل هو معنى حرفي كما قال الشاعر «ألا كل شئ ما خلاء الله باطل» واستحسنه النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما ينكره الإنسان الطبيعي لأنه يتوهم نفسه وأمثاله شيئا فإذا عرف الوجود حق المعرفة ووجد نفسه وكل شئ فانيا في الحق كما هو الواقع وغلب سره على وهمه وعقله على طبعه واستغرق في التوحيد وغفل عن نفسه لأنه لا شئ في الحقيقة فقد بلغ أعلى المراتب وأسناها إذ عرف الوجود على ما هو عليه وقال الفاضل المجلسي (رحمه الله) في أوائل كتاب عين الحياة بعد نقل معنى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين من المحقق الطوسي هذا أعلى مراتب المعرفة ويعبرون عنه بالفناء في الله واستشهد بالرواية المشهورة «لا يزال يتقرب إلى العبد بالنوافل اه» وبقوله تعالى (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) وبالحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» وما روي في أحاديث العامة «بي يسمع وبي يبصر وبي يمشي وبي ينطق» ثم تأول في الأحاديث بما كان متقررا في ذهنه من تتبع أقوالهم ولكنه لم يفرق بين الفناء الذي هو حاصل لكل ممكن والفناء الحاصل للكمل في منتهى سلوكهم وقال معترضا عليهم: إن الفناء لجميع الممكنات عندهم فكيف يخصون به المقربين. والجواب: إن الفناء حاصل للجميع لكن وجدانه والاعتراف به حاصل للكاملين فقط ألا ترى إن تحقق الشئ غير الاعتراف به وقد اتفق له (قدس سره) ذلك مثلا ما كنا نعلم إن الشيخ صفي الدين جد السلاطين الصفوية كان له مقام عظيم في العرفان والعلم ونظنه كبعض المدعين إذا لم نر منه أثرا يدل على ذلك حتى رأينا في كتاب عين الحياة للمجلسي - ره - وصفه بسلطان العلماء والمحققين وبرهان الأصفياء والكاملين الشيخ صفي الدين فعلمنا فضله وفضل الشيخ واقعا لا يلازم الاعتراف به من كل أحد.

المقامة والاستبشار باللقاء الدائم كما قال سبحانه (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ولعل حذف مفعول الوفاء للدلالة على تعميمه وشموله لهذه المراتب كلها وللغدر أيضا مراتب تعلم بالمقايسة والمرتبة الخامسة من الوفاء إنما تطلب وتمدح إذا كان المعاهد عليه باقيا على عهده وشرطه وإلا فالوفاء حينئذ غير ممدوح بل هو مذموم كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله» (1) يعني أن إيفاء العهد والعمل بمقتضاه لأهل الغدر ترك العهد ونقضه في حكم الله تعالى ويترتب عليه أثره، والغدر في حقهم وفاء وذلك إذا كان الغادر على الحق لأن الموفي حينئذ يمدهم على المعصية والغادر لا.

(والطاعة وضدها المعصية) الطوع والطاعة: الاذعان والانقياد، يقال: طاع له يطوع إذا انقاد، والعصيان والمعصية خلاف الطاعة، يقال: عصاه يعصيه عصيا ومعصية وعصيانا إذا خالفه والمراد أن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وطاعة اولى الأمر من جنود العقل إذ العقل بها يصعد منازل الأبرار ويستعد لمرافقة الأخيار كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) وقال: (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ولم يذكر طاعة أولي الأمر في هذه الآية لأن طاعتهم طاعة الرسول كما يرشد إليه عطفهم على الرسول في الآية السابقة من غير إعادة الأمر بطاعتهم ثم إن النافع مجموع هذه الطاعات دون بعضها كما يرشد إليه قول الصادق (عليه السلام) «وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله» (2) فالمعصية المقابلة للطاعة هي ترك هذه المجموع سواء كان تركه بترك جميع أجزائه أو بترك بعضها وهي رذيلة مندرجة تحت الجور موجبة للدخول في النار كما قال سبحانه (ومن يعص الله ورسوله ويتعد

ص: 246


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 259.
2- 2 - سيأتي في كتاب الحجة باب معرفة الإمام والرد إليه.

حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مبين).

(والخضوع وضده التطاول) في الصحاح الخضوع التطامن والتواضع وفي الكشاف الخضوع اللين والانقياد والتطاول إظهار حصول الطول بالفتح يعني الفضل والعلو، وسر كون الأول من صفات العاقل والثاني من صفات الجاهل أن العاقل يعرف بنور بصيرته، أن له تعالى شأنه العلو المطلق لافتقار كل شئ إليه وله أعلام الوجود لدلالة كل شئ عليه وله العزة لكون كل موجود سواه مقهورا في تصريف قدرته، وموصفا بالعجز في جريان حكمه ومشيته، وله خشوع جميع الممكنات وخضوعها في رق الحاجة والامكان لانفعالها عن سطوته، وله قوام جميع الموجودات وقيامها لتذللها من عظمته ويعرف أن إليه فزع كل ملهوف ومنه غنى كل فقير وعز كل ذليل وقوة كل ضعيف فيوصله تلك المعارف والكمالات إلى أعلى الفضايل وأشرف المقامات وهو مقام الفزع الله بالتخشع والتخضع والتذلل والتواضع وتطيب القلب وتلين السر فيحصل له حينئذ قلب خاضع وذهن واله ودمع منهمل وعقل مرتحل، ويؤثر ذلك في جوارحه إذ هي تابعة للقلب ومنه يظهر سر ما روي من أن «لسان المؤمن من وراء قلبه» فيصدر حينئذ من جميع أعضائه الظاهرة والباطنة أفعال مناسبة في الخشوع وأعمال متناسقة في الخضوع وفي ذلك مراتب متفاوتة ودرجات متصاعدة أرفعها الوصول إلى ساحة الحق والفناء المطلق (1) والطيران في حظاير القدس بأجنحة الكمال مع الملائكة المقربين، بخلاف الجاهل فإنه لخلوه عن تلك الحالات وغفلته عن تلك المعارف والكمالات محبوس في ظلمات الطبيعة بعيد عن التشرف بشرف تلك الفضيلة إذ قلبه في واد وجوارحه في واد آخر فلذلك أعماله غير منتظمة بروابط الخضوع وأفعاله غير متعلقة بعلائق الخشوع وهو مع ذلك يعتقد لنفسه فضيلة كاملة ورفعة بالغة ورتبة فايقة (2) وهذا معنى التطاول

ص: 247


1- 1 - الفناء المطلق في اصطلاح العرفاء وهو أعلى مدارج السالكين وقد سبق إشارة إليه في بعض الحواشي وأوردنا فيه حديثا من كتاب عين الحياة للمجلسي رحمه الله تعالى وذكرنا تأويله للحديث بما يوافق مذاقه ولا يوافق مذاق الشارح (رحمه الله). (ش)
2- 2 - هؤلاء جماعة من الناس محبوسون في ظلمات الطبيعة لا يعترفون بغير الموجود الجمساني ولا حقيقة عندهم غير الجسم وإدراك الجسم إنما هو بالحواس فلا يعتمدون على غير الحس ويأولون جميع السعادات الحقيقية واللذات الروحانية إلى الجسمانيات حتى تكون شيئا يدرك بالحواس وإذا تصدوا لتعلم العلوم اختاروا شيئا يدرك بالسمع والبصر لا بالعقل والفقه والأصول والكلام صعب عليهم لتوقفها على مقدمات تدرك بغير السمع والبصر كالاجماع والتواتر والقواعد العقلية التي تستعمل لاستفادة المعنى من اللفظ وانما يسهل عليهم الحفظ والضبط فيدركون نقش الكتابة بالبصر وأصوات الكلمات بالسمع يحفظونها ويضبطون أدق وأكمل من العلماء المدققين والكاملين لعدم توجه نفوسهم وأذهانهم إلى غير النقوش والأصوات وهذا عندهم فضيلة وليس لهم هم بتهذيب النفس والكمالات بل يختارون في العمل أيضا شيئا محسوسا مثلا إسباغ الوضوء وطول الركوع وتكثير الأذكار والتنطع في إخراج الحروف من مقاطعها من أمور ومع ذلك محسوسة وأما النية وحضور القلب وتخليصه من العجب والرياء فأمور غير محسوسة لا يهتمون بها كثيرا ومع ذلك فليس هذا عيبا ومذمة إلا إذا تطالوا على العلماء وزعموا أنفسهم أعلى درجة منهم ونسبوهم إلى الضلال وترك طريقة أهل البيت (عليهم السلام) كما كان دأب كثير من معاصري الشارح (رحمه الله). (ش)

وحقيقة التفاضل كما هو المشاهد من الجهلة والمعلوم من السفلة. وينبغي أن يعلم أن الخضوع والخشوع والتواضع وإن كانت متقاربة في المعنى لكن بينها فرقا ما لأن الاذعان واللين إذا حصلا في القلب فمن حيث إنهما يوجبان انكسارا وافتقارا وتذللا خضوع ومن حيث إنهما يوجبان الخوف والخشية والعمل خشوع ومن حيث أنهما يوجبان انحطاط رتبته عن الغير وتعظيم ذلك الغير تواضع وقد يفرق بين الخضوع والخشوع بأن الخضوع بالقلب والخشوع بالجوارح، وبين الخضوع والتواضع بأن التواضع عدم اعتقاد المزية بالنسبة إلى الأدنى في الجاه والمنزلة والخضوع أعم أو مختص بالنسبة إلى الأعلى.

(والسلامة وضدها البلاء) ليس المراد السلامة من الأمراض البدنية والابتلاء بها لما روي عن الصادق (عليه السلام) «إن أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل» (1) ولا السلامة من الفقر والابتلاء به لما روي عنه (عليه السلام) قال: «قال الله تعالى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغني مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته» (2) إلا أن يخصص الأمراض والفقر بما يوجب كسر الظهر والفتنة في الدين فإنه قد نقل الاستعاذة منهما عن أهل العصمة (عليهم السلام)، بل المراد السلامة عن إيذاء المسلمين والابتلاء به كما روي «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» (3) أو السلامة من الأمراض النفسانية والآراء الفاسدة والعقايد الباطلة مثل الكفر والكبر والحقد والحسد والنفاق وغيرها والابتلاء بها، فان الأول من جنود العقل وأنصاره لكونه من شعب العدالة الواقعة في حاق الوسط، والثاني من جنود الجهل لكونه من فروع الجور الواقع في طرف الافراط.

(والحب وضده البغض) الحب بالضم والكسر والمحبة ميل القلب إلى ما يلائمه، والبغض المقت وقد بغض الرجل بغاضة أي صار بغيضا، وبغضه الله إلى الناس تبغيضا فأبغضوه أي مقتوه، ولعل المراد أن حب الخلق بعضهم بعضا من جنود العقل وبغضهم من جنود الجهل، لأن العاقل يعلم أن نظام الدنيا والدين لا يتم إلا بالمحبة فلذلك يختارها تحرزا عما يلزم البغض من التقاطع المستلزم لتطاول الحاسدين وتسلط

ص: 248


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب شدة ابتلاء المؤمن.
2- 2 - المصدر باب فضل فقراء المسلمين تحت رقم 12.
3- 3 - المصدر باب فضل فقراء المسلمين تحت رقم 12.

المعاندين، ومن التنازع المستتبع لعدم الثبات والقرار والمؤدي بالأخرة الهلاك والبوار، وإن أردت أن تعرف أنك تحب أحدا فاجعل نفسك ميزانا فيما بينه وبينك فإن كنت تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك فأنت تحبه وهو حبيبك وإلا فلا، بخلاف الجاهل فإنه لظلمة بصيرته غافل عن حسن عاقبة المحبة وسوء عاقبة البغض فيظن أن البغض خير له في تحصيل مقاصده فيختاره ويسوق سفينة البغاضة في بحر الغواية بريح الغباوة إلى أن يدركه الغرق من حيث لا يعلم، وينبغي أن يكون أعظم محبتنا لعباد الله تعالى محبتنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين لشرافة ذاتهم وجريان نعمائهم ظاهرا وباطنا علينا ووصول إحسانهم جليا وخفيا إلينا وبالجملة محبة الشئ إما لحسنه في الظاهر كالصور الجميلة أو في الباطن كحسن بواطن الصالحين وشرافة نفوسهم، أو لإحسانه بجلب نفع ودفع ضر كإحسان الناس بعضهم بعضا، أو لإعظامه كإعظام الولد والده، أو لترحمه وشفقته بحسب الجبلة والمشاكلة كترحم الوالد على ولده.

وقد اجتمع الجميع فيهم (عليهم السلام) لما فيهم من جمال الظاهر والباطن وإحسانهم إلينا بالهداية والشفاعة وعظمة شأنهم وإنافة قدرهم على كل والد وولد ومحسن فلذلك وجب علينا محبتهم على أكمل الوجوه وأتمها ومن محبتهم الذب عن سنتهم ونصر شريعتهم والتمسك بطريقتهم وبذل النفس والمال دون مهجتهم والوقوف عند حدودهم وإعانة أهل ملتهم، أو المراد أن حب العباد لله من جنود العقل وبغضه من جنود الجهل لأن محبة العبد له تعالى شأنه إنما هي على قدر معرفته بجلاله سبحانه وكمال أوصافه وتنزيهه عن النقص، والعاقل هو الذي يعرف جماله وجلاله وكماله وقدرته وعظمته وإحسانه فعند شروق أنوار هذه المعارف على مرآة سره وبروق آثار الأعمال الصالحة في مشارق قلبه يمطر الله عليه أسباب الحب ويكشف عنه الحجاب وتجذبه العناية الأزلية إلى بساط القرب وتسقيه من ماء المحبة وتنجيه من هذا السراب، وأما الجاهل فإنه لا يعرف من هذه المعارف اسما ولا من هذه الأسماء رسما ولا من هذه الأعمال حدا فكيف له الوصول إلى مرتبة المحبة التي هي المرتبة العليا للسالكين، والدرجة العظمى للعاقلين، والمنزلة الكبرى للزاهدين، بل هو بطبعه هارب عن عالم النور مستقبل إلى دار الغرور وهذا معنى بغض العبد له تعالى أعاذنا الله من ذلك، واعلم أن الفرق بين الحب والمودة وبين البغض والعداوة دقيق جدا حتى أنه قد ظن رجوع هذه الفقرة إلى قوله (عليه السلام) «والمودة وضده العداوة» وإن إحديهما كانت بدلا عن الأخرى جمع بينهما في الكتابة قلم الناسخ ولكن ظاهر قوله تعالى (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) يفيد المغايرة، ويمكن القول بتحقق المغايرة بأن المودة ميل ظاهر القلب والمحبة ميل ظاهره وباطنه وبه يشعر قوله تعالى (وقد شغفها حبا) فالمحبة أعظم من المودة أو بأن

ص: 249

المودة والعداوة من الأمور القلبية والكيفيات النفسانية مع قطع النظر عن ظهور آثارهما من الجوارح والمحبة والبغض من هذه الأمور والكيفيات مع اعتبار ظهور آثارهما منها ويؤيده قول القاضي في تفسير الآية المذكورة فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم فليتأمل.

(والصدق وضده الكذب) صدق الخبر بمطابقة حكمه للواقع وكذبه بعدم مطابقته له لا بمطابقته لاعتقاد المخبر وعدمها، كما ذهب إليه النظام ولا بمطابقته لهما وعدمها كما ذهب إليه الجاحظ لأن العقلاء يصفون كل خبر علموا أنه ليس مطابقا للواقع بأنه كاذب، وإن لم يعلموا اعتقاد المخبر، والمسلمين يصفون اليهود والنصارى بالكذب على الله وإن كان أكثرهم لا يعلم أنه كاذب بل يعتقد أنه صادق وأورد عليه أولا بأن قول القائل محمد (صلى الله عليه وآله) ومسيلمه صادقان خبر وليس مطابقا للواقع ولا غير مطابق له وأجيب بأنه كاذب باعتبار إضافة الصدق إليهما لأنه غير مطابق، وقد يجاب بأنه كاذب لأنه يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر، ورد بان التثنية لا تفيد المصاحبة وثانيا بأن قول القائل كل كلامي في هذا اليوم كاذب ولم يوجد منه سوى هذا الكلام ليس مطابقا للواقع وإلا لكان غير مطابق فيجتمع النقيضان وليس غير مطابق وإلا لكان بعض أفراده مطابقا وليس إلا هذا الفرد فيجتمع النقيضان، وأجيب بأن الصدق والكذب إنما يعرضان لخبر مغاير للمخبر عنه حتى يتصور فيه المطابقة فيحكم بصدقه وعدمها فيحكم بكذبه وهنا قد اتحدا فلا يدخله الصدق والكذب وللبحث فيه مجال واسع واستدل النظام بقوله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فإنه تعالى شأنه أخبر بأنهم كاذبون في قولهم (إنك لرسول الله) مع أنه مطابق للواقع فلو كان الصدق عبارة عن المطابقة للواقع لما صح فالتكذيب ليس باعتبار أنه غير مطابق للواقع بل باعتبار أنه غير مطابق لاعتقادهم، وأجيب بأن المعنى والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم (إنك لرسول الله) من عند أنفسهم لأن هذا الخبر كاذب غير مطابق للواقع عندهم أو أنهم لكاذبون في لازم فائدة هذا الخبر وهو كونهم عالمين بمضمونه أو أنهم لكاذبون في (نشهد) باعتبار تضمنه خبرا كاذبا، وهو أن شهادتنا هذه من صميم القلب وخلوص الاعتقاد بحيث واطأت فيه قلوبنا ألسنتنا كما يشعر به (أن) واللام واسمية الجملة فكذبهم الله تعالى لعلمه بعدم المواطاة بين قولهم وقلبهم. أو أنهم لكاذبون في دعوى الاستمرار المستفاد من نشهد، أو أنهم لكاذبون في حلفهم على عدم النهي عن الانفاق على فقراء المهاجرين أو أنهم لكاذبون يعني إن شأنهم الكذب فالتكذيب ليس في هذا الخبر بل مطلق فكأنه قيل: إنهم وأن صدقوا في هذا الخبر

ص: 250

لكن صدقهم فيه لا يخرجهم من زمرة الكاذبين فإن الكذوب قد يصدق واستدل الجاحظ بقوله تعالى حكاية عن المشركين (افترى على الله كذبا أم به جنة) فإنهم حصروا خبر النبي بالحشر والنشر والتوحيد في كونه كاذبا أو كلام مجنون ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وقسيم الشئ يجب أن يكون مباينا له وغير الصدق لاعتقادهم عدمه ولعدم دلالة الثاني عليه فقد أثبتوا بين الصدق والكذب واسطتين إحديهما عدم مطابقة خبر النبي (صلى الله عليه وآله) للواقع مع شكه في المطابقة والأخرى عدم مطابقته له مع اعتقاده المطابقة بأن يكون اعتقادهم الفاسد أن عدم مطابقة هذا الخبر بلغ بمرتبة لا يخفى على من له شايبة عقل فالشك في المطابقة لا يكون إلا من مجنون فكيف اعتقاد المطابقة، ولا شك أن الواسطة إنما يكون إذا اعتبر في الصدق والكذب مطابقة الخبر للواقع والاعتقاد جميعا وعدمها لهما إذ لا واسطة عند اعتبار المطابقة للواقع وعدمها ولا عند اعتبار المطابقة للاعتقاد وعدمها، وأجيب بأن ترديدهم لخبره (صلى الله عليه وآله) ليس بين الكذب المطلق والاخبار حالة الجنون، بل إنما هو بين الافتراء وهو الكذب عن عمد وعدمه فمعنى قوله (أم به جنة) أم لم يفتر فعبروا عن عمد الافتراء بالجنة كناية عن أن المجنون لا يفترى فقد جعلوا قسيم الكذب عن عمد الكذب لا عن عمد فيكون مقصودهم حصر خبره الكاذب في نوعيه ولما كان هنا فوائد جمة وفروع متكثرة لا يتيسر القول بها إلا بتحقيق معنى الصدق والكذب أطنبنا القول فيه ومن تلك الفوائد لو أخبرك أحد بشئ.

فقلت: إن كنت صادقا فلله علي كذا فإن كان مطابقا للواقع فقط لزمك الوفاء به على الأول دون الأخيرين وإن كان مطابقا للاعتقاد فقط لزمك الوفاء به على الثاني دون الآخرين وإن كان مطابقا لهما لزمك الوفاء عند الجميع ومنها لو شهد عليك رجل فقلت هو صادق فهو إقرار على الأول والأخير دون الثاني، ومنها لو حلف رجل أن لا يكذب ثم أخبر بما لم يكن مطابقا للواقع فقط أو للاعتقاد فقط أولهما فإنه في الأول يحنث على المذهب الأول دون الأخيرين، وفي الثاني يحنث على المذهب الثاني دون الباقيين، وفي الثالث عند الجميع، ومنها لو حلف أن لا يتكلم اليوم بكلام صادق وكاذب فإنه يحنث إذا تكلم على الأولين دون الأخير فإن فيه مفرا عن الصدق والكذب ومنها لو حلف أن لا يعطي كاذبا فإنه يختلف فيه الحكم أيضا كما لا يخفى وأمثال ذلك كثيرة، واعلم أن الصدق فضيلة عظيمة داخلة تحت فضيلة العفة وقد وقع مدحه ومدح المتصف به في مواضع من القرآن والأخبار ويكفي في ذلك قوله تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) والكذب رذيلة داخلة تحت الفجور وقد نطقت الآيات والأخبار على ذمه وذم المتصف به، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الكذب رأس النفاق وهو مفسدة عظيمة في

ص: 251

الدنيا والدين» (1) والوجدان شاهد عدل بأن الكذب يسود لوح النفس ويمنعه أن ينتقش بصورة الحق ويفسد المنامات والالهامات ويؤدي إلى خراب الدنيا وقتل النفوس وأنواع الظلم والفساد ولذلك اتفق أهل العلم من أرباب الملل وغيرهم على تحريمه وادعى المعتزلة قبحه بالضرورة.

(والحق وضده الباطل) هذا والسابق عليه متقاربان لأن الخبر والاعتقاد إذا طابقا الواقع كان الواقع أيضا مطابقا لهما لأن المفاعلة من الطرفين فمن حيث إنهما مطابقان أو غير مطابقين له بالكسر يسميان صدقا وكذبا ومن حيث إنهما مطابقان أو غير مطابقين له بالفتح يسميان حقا وباطلا والمقصود أن اختيار هما من جنود العقل والجهل، ويحتمل أن يراد بالحق الدين الحق المسمى بالصراط المستقيم والباطل الدين الباطل الداعي إلى سواء الجحيم وأن يراد بالحق الاقبال على الله وبالباطل الادبار عنه ولا واسطة بينهما، فوجود كل واحد مستلزم لعدم الآخر وعدم كل واحد مستلزم لوجود الآخر.

(والأمانة وضده الخيانة) الأمانة مصدر أمن الرجل أمانة فهو أمين إذا صار كذلك برعاية ما ائتمن عليه من حقوق الحق أو الخلق وأدائه في وقته كما هو وهي تدخل في أفعال الأعضاء والجوارح كلها لأن القلب إذا استضاء بنور البصيرة يتهدي كل عضو إلى أمانته ويسعى في حمايتها وحفظها وأدائها على ما ينبغي كما تدخل الخيانة وهي مصدر خانه إذا ترك الحفظ في تلك الأفعال ومنه قوله تعالى (يعلم خائنة الأعين) أي مسارقتها وكثيرا ما تطلق الأمانة على ما تأتمن به صاحبك مجازا على سبيل المبالغة ومنه قوله تعالى (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) أي لما يؤتمنون عليه من جهة الحق أو الخلق وقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) وفي روايات متكثرة (2) تصريح بأن المراد بأهل الأمانة في هذه الآية الإمام (عليه السلام) وأن الله تعالى أمر الإمام الأول أن يدفع إلى الإمام الذي بعده كل شئ عند من أمر الإمامة وقوله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، انه كان ظلوما جهولا) روي عن الصادق (عليه السلام) «أن المراد بالأمانة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)» (3) وقيل:

المراد بها العبادة والطاعة المطلوبة من الإنسان وسماها أمانة من حيث إنها يجب حفظها وأداؤها في وقتها. وإباء الأجرام المذكورة يعود إلى امتناع قبولها خوفا وإشفاقا بلسان الحال لقصورها وعدم صلاحيتها لها بحسب الطبع أو إلى الفرض والتقدير، كأنه قيل: لو كانت هذه الأجرام عاقلة ثم عرضنا عليها لأبين أن يحملنها خوفا وإشفاقا من وخامة

ص: 252


1- 1 - أخرجه ابن عدي في الكامل هكذا «الكذب باب من أبواب النفاق - الحديث».
2- 1 - سيأتي في كتاب الحجة أخباره.
3- 2 - الكافي كتاب الحجة باب في نكت ونتف من التنزيل في الولاية تحت رقم 2.

عاقبتها وإنما جيىء بلفظ الواقع لأنه أبلغ أو إلى أنه تعالى خلق فيها عقلا وفهما ثم عرض عليها على سبيل التخيير، فأبين إباء عجز واحتقار وخوف وانكسار لا إباء استكبار لخضوعها تحت ذل الحاجة ثم خلق الإنسان وعرضها عليه فقبله وحمله مع ضعف بنيته ورخاوة قوته إنه كان ظلوما لنفسه بعدم محافظته لها وتقصيره في أداء حقوقها جهولا بأسرارها وبما يستلزم حفظها وفعلها وتركها من المثوبات والعقوبات.

(والخلوص وضده الشوب) الشوب الخلط وهو مصدر شبت الشئ أشوبه شوبا فهو مشوب إذا خلط بغيره والخلوص مصدر خلص الشئ - بالفتح - يخلص خلوصا أي صار خالصا صافيا غير ممتزج بغيره، والعمل الخالص في العرف ما يجرد قصد التقرب فيه عن جميع الشوائب وهذا التجريد يسمى إخلاصا وقد عرفه بعض أصحاب القلوب بتعريفات أخر فقيل: هو تنزيه العمل عن أن يكون لغير الله فيه نصيب، وقيل: هو إخراج الخلق عن معاملة الحق، وقيل: هو ستر العمل عن الخلائق وتصفيته عن العلايق، وقيل: أن لا يريد عامله عوضا في الدارين. وهذه درجة علية قل من يبلغها وقد أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» ولو قصد العبد في عبادته مجرد وجه الله سبحانه وإطاعة أمره والتقرب إليه يرتقي بأجنحة القبول إلى منازل القرب وحظاير القدس قطعا ولو قصد مجرد غيره ألبسه الله لباس الذل وأبعده عن ساحة رحمته وبساط قربه جزما وأما لو قصده سبحانه وقصد غيره أيضا فهو خطر عظيم، وللمسلمين فيه كلام طويل تركناه خوفا للاطناب ونذكر ما أظنه حقا والله تعالى هو المستعان فنقول: الضميمة إما قصد الثواب أو التحرز عن العقاب أو قصد الرياء أو قصد الأمور اللازمة للعبادة كقصد التخلص من النفقة بعتق العبد في الكفارة وغيرها وقصد التبرد (1) بالوضوء، أما الأول فالظاهر صحة العبادة لقول الصادق (عليه السلام) «العباد ثلاثة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلبا للثواب فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة» (2) فان صيغة أفضل تفيد وجود الفضل في الأولين وهو المطلوب. وقول الباقر (عليه السلام) «من بلغه ثواب من الله تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (3) ولغير ذلك من ظواهر ا

ص: 253


1- 1 - قال بعض شراح الشرائع: إن قصد التبرد مبطل بعد أن حكم المحقق بصحته ولعله أراد أن يكون الداعي إلى الفعل التقرب بحيث لو لم يكن التقرب لم يتوضأ، وإن ضم التبرد إليه. (ش)
2- 2 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب العبادة.
3- 3 - يعني ما إذا كان العمل مسنونا في الكتاب والسنة من دون تقدير الثواب العاجل أو الاجل، وأما إذا كان العمل غير مسنون فلا أجر له أبدا إن لم يكن عليه وزر لقول النبي (صلى الله عليه وآله) «لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية; ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة» والخبر في الكافي كتاب الايمان والكفر باب (من بلغه ثواب من الله على عمل).

لآيات والأخبار، وأما الثاني فالظاهر بطلانها لقوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).

وقول الصادق (عليه السلام) لعباد البصري: «يا عباد إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له» (1) ولغير ذلك من الآيات والروايات. وأما الثالث فالقول بالتفصيل - وهو أن العبادة صحيحة إن كانت هي المقصودة بالذات والضميمة مقصودة تبعا، وباطلة إن انعكس الأمر أو تساويا - غير بعيد (2) وإن لم نجد عليه دليلا نقليا والاحتياط في الجميع ظاهر وبعض الأفاضل حكم بالتفصيل في الأقسام الثلاثة وهو بعيد جدا سيما في الرياء لدلالة الآيات والأخبار على بطلان العبادة لأجل انضمام الرياء إليها والظاهر أنه لا خلاف فيه بين أصحابنا قال المحقق الشيخ علي (3) ضم الرياء إلى القربة يبطل العبادة قولا واحدا إلا ما يحكى عن المرتضى أنه يسقط الطلب عن المكلف ولا يستحق بها ثوابا وليس بشئ، والخلوص من جنود العقل وأنصاره والشوب من جنود الجهل وأعوانه وميدان مجادلتهما ومعارضتهما ساحة القلب وذلك لأن العقل ميله الصعود إلى عالم القدس وقصده تسخير عالم الملك والملكوت وخلوص العمل يعينه على ذلك، والجهل ميله الهبوط إلى عالم الحس ومنازل النسيان وقصده النزول في محل البعد وبساط الخذلان وشوب العمل بالرياء وغيره من التدليسات النفسانية والتلبيسات الشيطانية والمخاطرات الوهمية يعينه على ذلك.

(والشهامة وضدها البلادة) عد المحقق الطوسي الشهامة من أنواع الشجاعة الحاصلة من الاعتدال في القوة الغضبية وفسرها بأنها حرص النفس على اقتناء الأمور العظام توقعا للذكر الجميل وهذه ليست بمرادة هنا لأن البلادة ليست بضدها وليس لضدها أيضا اسم مشهور، بل المراد بها ذكاء الفؤاد يقال: شهم - بالضم - شهامة فهو شهم أي جلد ذكي الفؤاد فهي من توابع الاعتدال في القوة العاقلة. والبلادة وهي ضد الذكاء يقال: بلد بالضم فهو بليد وتبلد أي تردد متحيرا، من فروع التفريط والنقصان في القوة المذكورة، ونعني بهذه البلادة ما كان من سوء الاختيار لا ما كان من أصل الخلقة لأن المقصود هو الترغيب في

ص: 254


1- 4 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الرياء تحت رقم 1.
2- 5 - خبر لقوله «فالقول بالتفصيل» ولا يحتاج إلى تصريح به في خبر بل يكفي الأدلة الدالة على وجوب الاخلاص وإبطال تشريك غير الله معه في النية فيقال: إذا كان المقصود بالذات التقرب لم يقدح في الاخلاص ضم غيره تبعا والعلامة على ذلك أن يعرض العابد على نفسه هل كان يصدر هذا العمل منه إن لم تكن الضميمة فإن أحس من نفسه أنه يصدر منه كان العمل صحيحا (ش).
3- 1 - يعني الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (قدس سره).

تحصيل الأول وترك الثاني وذلك لا يتصور إلا فيما كان فعله وتركه مقدورا، ثم كون الأول من جنود العقل والثاني من جنود الجهل ظاهر لأن الذكاء سبب لعروج العقل إلى أقصى المدارج من معارج المعارف الربانية وضده سبب لنزول النفس في أسفل الدركات من مهالك الشبهات الظلمانية.

(والفهم وضده الغباوة) قال بعض المحققين: لعل هذه الفقرة كانت في الأصل بدلا عن قوله (عليه السلام) فيما مضى «والفهم وضده الحمق» والناسخون جمعوا بينهما في الكتابة غافلين عن البدلية والمعنى واحد. ويمكن أن يقال: المراد بالفهم هنا الفطنة وهي جودة تهيأ الذهن لاكتساب العلوم وبعبارة أخرى هي إدراك المقصود من الخطاب بسهولة. والغباوة «كودن شدن ودر نيافتن» كما في كنز اللغة يعني عدم فهم المقصود من الخطاب بسهولة وهذا المعنى غير المعنى المقصود من الفهم والحمق كما أشرنا إليه سابقا، وأما حمل الفهم هنا على الذكاء الذي هو فوق الفهم المذكور سابقا كما أشرنا إليه هناك وإن كان ممكنا ويحصل به المغايرة بين الفهمين لكن معنى هذه الفقرة حينئذ يرجع إلى الفقرة السابقة عليها أعني قوله: «والشهامة وضدها البلادة» إذ مآلهما واحد.

(والمعرفة وضدها الإنكار) المعرفة سراج القلب يرى بها خيره وشره ومنافعه ومضاره، وكل قلب لا معرفة له فهو مظلم، والمراد بها إما معرفة الائمة وفضلهم وعلو منزلتهم وهي أكمل فضائل العاقل لأنه يعرف بنور معرفته أنهم دعائم الإسلام وولايج الاعتصام والهداة إلى نور الدين وأن طلب العلم والفضيلة والوصول إلى أنوار الحكمة وأسرار الشريعة لا يتيسر إلا بوساطتهم ولا يتحصل إلا بعنايتهم، وأنهم الذين عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية (1) ولا يخالفون الحق أبدا ولا يتجاوزونه إلى

ص: 255


1- 1 - فإن قيل أليس الدين لجميع الناس والشريعة لعامتهم؟ وهل ورد الكتاب والسنة إلا لفهم جميع الأمة وهل يتعبدون إلا بظواهر الألفاظ على ما يفهمون فإن كان هذا حقا فمن سمع وروى لابد أن يعرف معنى الكلام وظاهره إذ ليس الغرض من الرواية أن يحفظ اللفظ العربي من لا يعرف العربية كفارسي يحفظ كلمة تركية لا يعرف معناها بل معنى الرواية أن يحفظ لفظا يعرف معناه وهو حجة عليه فما معنى قولهم «عقل وعاية» وقد ورد في الحديث مكررا الترغيب في الوعاية وعدم الاكتفاء بالرواية؟ قلنا نعم ورد الشريعة لجميع الناس وكلهم متعبدون بظاهرها على ما يفهم الكلام العربي ويشترك فيه كل من يعرف هذا اللسان ومع ذلك الناس مختلفون في فهم أمور زائدة على المشترك بين الكل فمنها ما لم يأت وقت الحاجة إليه ولا يمتنع تأخير البيان فيها فيكون مجملا كأحوال القيامة حيث قال «فيم أنت من ذكريها» إذ ليس في الدنيا حاجة إلى معرفة تفاصيلها ويجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب ولعل مثل ذلك كثير في غير الأعمال البدنية وأهل الرواية يكتفون بظواهر الألفاظ وأهل الوعاية يتفاضلون في فهم ما لا يدل ظاهر اللفظ عليه وفي الألفاظ ما يتبادر المعنى منها إلى الذهن بحسب العادات كما يتبادر من البيت إلى الذهن البدوي الخيمة ومن مجيء الملائكة وخروج الروح التجسم. وهذا كثير مثل (الله نور السماوات والأرض) (وإنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض) و (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) و (الملائكة باسطو أيديهم) ومثله اختلافهم في معنى العرش والكرسي وأنهما العلم أو القدرة أو جسمان عظيمان واختلافهم في معنى السماوات وأنها أجسام لطيفة أو المراد منها عالم المجردات أو أريد به كل منها بحسب المواضع، واختلافهم في يد الله ووجه الله وآيات الجبر والتفويض (ش).

رذيلة الإفراط والتفريط قطعا وإنكار شئ من ذلك أو عدم معرفته من أخس رذائل الجاهل المغرور برأيه السقيم الراجع عن الصراط المستقيم، أو المراد بها معرفة الرب بصفاته وآثاره وأفعاله وكلا المعينين يناسب ما اشتهر من أن المعرفة إدراك شئ.

ثانيا بعد الغفلة عن إدراكه أولا، وذلك أن الله سبحانه أخذ الميثاق على عباده بأنه ربهم ومحمد (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله وعليا (عليه السلام) أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمره وخزان علمه ثم نسوا بعد رقودهم في مراقد أصلاب الآباء ومهاد أرحام الأمهات وانغمارهم في بحار العوائق الجسمية واستتارهم بحجب العلايق البشرية تلك المواثيق القديمة والعهود الوكيدة فمن أيقظته صحيحة المواعظ الإلهية عن نوم الغفلة وجذبته أيدي الهداية الربانية عن تيه الظلمة وتنور قلبه بنور الهداية والارشاد واستشرق ذهنه بضوء الإطاعة والانقياد توجه إلى مولاه ومقتداه بعد النسيان وحصل له بعد الغفلة فضيلة المعرفة وشرف الترقي إلى مقام أهل العرفان ومن غرق في بحار الشهوات ونام في مراقد الغفلات حتى صار بمنزلة الجمادات أو آل إلى التشابه بالأموات ولم يؤثر فيه تلك المواعظ والنصايح، ولم يحصل له التميز بين المحاسن والمقابح فهو غريق الغفلة والنسيان وأسير الغي والطغيان لا ينزجر عن الباطل انزجارا ولا يتوجه إلى الحق إلا جهلا وإنكارا ويترك عنان الطبيعة في يد الهوى ويعرض عن ذكر المولى وهو غافل عن قوله تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).

(والمداراة وضدها المكاشفة) المداراة في حسن الخلق التي من فروع الاعتدال في القوة الغضبية تهمز ولا تهمز يقال دارأته ودرايته إذا اتقيته وداجيته ولاينته، والمقصود أن مداراة الخلق وترك مجادلتهم ومناقشتهم صديقا كان أو عدوا، عاقلا كان أو جاهلا، من صفات العاقل كما يظهر ذلك بالاعتبار في حال الأنبياء والأوصياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل على تفاوت مقاماتهم وتفاضل درجاتهم، هذا إذا اقتصروا في حقوقه وأما إذا اقتصروا في حقوق الله تعالى فوجب تقويمهم واسترجاعهم بالحكمة والموعظة الحسنة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن افتقر إلى الغلظة جاز عن قدر الضرورة من المواعظ الحسنة في استجلاب طبايع الجهال إلى الحق وتأنيسهم به أن

ص: 256

لا يحمله عليهم دفعة فإن ذلك مما يوجب نفارهم عنه وفساد نظام أحوالهم بل ينبغي أن يحمله ويأنسهم به على التدريج قليلا قليلا وربما لم يمكنه تأنيسهم به إما لغموضه بالنسبة إلى أفهامهم، أو لقوة اعتقادهم في ضده فينبغي أن يخدعهم عن ذلك ويميلهم إليه بحسب ما يقتضيه الحكمة وربما يحتاج إلى إظهار الحق بصورة الباطل كاستدلال إبراهيم (عليه السلام) بافول الكوكب بعد قوله: (هذا ربي) على نقصها المنافي لالهيتها.

والمكاشفة من رذائل الأخلاق للجاهل ومن فروع الإفراط في القوة المذكورة وهي الخشونة والمناقشة وإظهار العداوة وإعلانها المؤدي المخاصمة والمجادلة والمقابلة إلى غير ذلك من المفاسد والشدائد الموجبة لفساد أحوالهم وبطلان نظامهم.

(وسلامه الغيب وضدها المماكرة) الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصلا في نفسه وكان المراد به هنا القلب أو رجل غايب، والمنكر الاحتيال والخديعة والمقصود أن سلامة القلب وخلوصه من الغش والاحتيال والخدعة في المعاملة مع الإخوان والمعاشرة مع الخلان وغيرهم أو سلامة كل غايب من صفات العاقل لصفاء طينته وخلوص عقيدته وعلمه بأن المؤمنين كنفس واحدة فلا يرضى لهم إلا ما يرضى لنفسه وبأن المكر بهم مكر بنفسه حقيقة كما قال سبحانه (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) بخلاف الجاهل المنغمس ذهنه الكثيف في ظلمة الجهالة فإنه لكدرة طينته وفساد عقيدته يتخذ المكر منهجا لمطالبه ومسلكا لمآربه وهو غافل عن سوء مآله عاجلا وآجلا وعن اختلال حاله ظاهرا وباطنا.

(والكتمان وضده الافشاء) من شأن العاقل كتمان سره بوضعه في صندوق جنانه وعدم فتحه مفتاح لسانه وتحريم إبرازه على أوثق إخوانه فإنك إذا لم تكتم سرك فكيف تتوقع ذلك من غيرك ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «المرء احفظ لسره» (1) وقال أيضا «من كتم سره كان الخيرة بيده» (2) وقال أبو الحسن (عليه السلام): «إن كان في يدك هذه شئ فإن استطعت أن لا يعلم هذه فافعل، وكان عنده أناس فتذاكروا الإذاعة فقال: احفظ لسانك تعز ولا تمكن الناس من قياد رقبتك فتذل» (3) وإن كنت فاعلا فعليك بصديق قد جربته مرارا وعلمت حفظ لسانه سرا وجهارا كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز» (4) ومن أشعاره (عليه السلام):

لا تودع السر إلا عند ذي كرم * والسر عند كرام الناس مكتوم

ص: 257


1- 1 - النهج أبواب الكتب والرسائل تحت رقم 31.
2- 2 - المصدر أبواب الحكم تحت رقم 162.
3- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الكتمان تحت رقم 14.
4- 4 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 384.

والسر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مختوم ويندرج فيه كتمان عيبه ومعاصيه والكرامات التي أودع الله تعالى فيه فان إفشاءها قد يوجب زوالها وكتمان دينه إذا توهم الضرر بإظهاره قال الصادق (عليه السلام) لسليمان بن خالد «يا سليمان إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله» (1) أمره بكتمان دينه من غير أهله وممن لا يعرف حاله.

وكتمان عيب أخيه وسره لأن المؤمنين إخوة بل هم معدن واحد كنفس واحدة فمن أذاع منهم سر أحدهم أو عيبه كان كمن أذاع سر نفسه أو عيبه وقد وردت الآيات والروايات المتكثرة على الحث به قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) وقال: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أذاع فاحشة كان كمبتديها» (2) وان أودعك أخوك سرا فعليك أن لا تخبر به أحدا وإن كان صديقك لأن للصديق أيضا صديقا وقال عمار: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «أخبرت بما أخبرتك به أحدا؟ قلت: لا إلا سليمان بن خالد. قال: أحسنت أما سمعت قول الشاعر:

فلا يعدون سري وسرك ثالثا * ألا كل سر جاوز اثنين شايع (3) قوله (عليه السلام): «أحسنت» للتقريع كما هو الشايع في استعمال هذا الكلام في المحاورات ويدل عليه ما بعده وقيل لرجل: كيف تحفظ السر؟ فقال: أجحد للمخبر واحلف للمستخبر. وجحده وإن كان كذبا لكن الكذب مطلوب في بعض المواضع وكذا الحلف والتورية فيها أحسن، ونقل أن رجلا أفشى سره إلى أخيه فقال له أحفظت؟ فقال: بل نسيت، ومن شأن الجاهل إفشاء السر والعيب لعدم علمه بوخامة عاقبته وسوء خاتمته وإنما ذلك لظلمة جنانه وضعف إيمانه ورخاوة لسانه واعتياده بالايذاء والاضرار فدائما نفسه منه في تعب وبلاء وغيره منه في نصب وعناء.

(والصلوة وضدها الإضاعة) إقامة الصلوة بحدودها وشرايطها من أكمل فضائل العقل وملكاته، وإضاعتها من أعظم رذايل الجهل وصفاته وذلك لأن الصلاة الكاملة الموجبة للمحو عن الهويات البشرية والاتصاف بالصفات الملكية والعروج إلى المقامات اللاهوتية كما يعتبر في تحققها أعمال بدنية مثل الطهارة وستر العورة والاستقبال إلى بيت الله والتكبير والقراءة والأذكار والركوع والسجود والتشهد والتسليم كذلك يعتبر في تحققها أفعال قلبية بإزاء تلك الأعمال وتلك الأعمال بمثابة الجسد وهذه

ص: 258


1- 5 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الكتمان تحت رقم 3.
2- 6 - رواه الكليني في الكافي باب التعيير من كتاب الايمان والكفر.
3- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الكتمان.

الأفعال بمنزلة الروح أما طهارة القلب فتخليصه عما سواه تعالى وتنزيهه عما عداه وأما ستره فستر عيوبه عن الروحانيين بالتوبة والإنابة طلبا لقابلية محاورة الله ومناجاته والدخول في ساحة عزه ومشاهدة كمالاته.

وأما استقباله إلى الله فمطالعة جلاله وجماله وقدرته وكماله، وأما قيامه بين يديه فإذعانه بأنه عبد ذليل عاجز فقير ماثل بين يدي رب جليل، وأما تكبيره فبأن يعتقد أنه تعالى أكبر من أن يصفه الواصفون وينعته الناعتون ويأتي بحق عبادته العابدون، وأما قراءته فبأن يتعمق في الباطن ما نطق به اللسان الظاهر ويتذكر أنه تعالى هو المستحق للحمد والثناء والجامع للكمالات كلها في ضمن أحسن الأسماء وأنه رب كل شئ يعطيه ما يليق به من حاله آنا فآنا ويبلغه إلى غاية كماله شيئا فشيئا فكل شئ سواء في رق الحاجة إليه مفتقر إلى فيضه مقهور بين يديه وأنه المنعم في الدنيا والآخرة ينعم كل أحد ما يليق بحاله وأنه المالك في يوم الجزاء بالاستحقاق ولا مالك فيه غيره على الاطلاق، وأنه المعبود المستحق للعبادة وغاية الخضوع دون غيره، وأنه المستعان في جميع المهمات وفي أداء العبادات، وأنه الهادي إلى الدين القويم والصراط المستقيم صراط أمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وأنه الموفق للميل عن صراط الضالين المضلين، وأما ركوعه فبأن يتواضع ويتخشع ويعترف بأنه تعالى متصف بالعظمة والكبرياء ومستحق بأن يتذلل له الأشياء بالانحناء، وأما سجوده فبأن يرى كل شئ عند كمال عظمته موضوعا وكل قدر عند جلال رفعته مخفوضا ويتواضع له زايدا على ما سبق ويلقي نفسه على تراب المسكنة والافتقار ويضع جبهته على غبار العجز والانكسار، وأما تشهده فبأن يشاهد بعين البصيرة تفرده بالالهية وتوحده بالربوبية وتنزهه على أن يشاركه في العبادة، وأما تسليمه فبأن يقصد أنه قطع المراحل الناسوتية وبلغ المنازل اللاهوتية ورأى عند أبوابها الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين خاشعين لهيبته فيسلم عليهم تحية لهم وتأنيسا بهم، وبالجملة المقصود الأصلي من الصلاة تطويع النفس الأمارة للعقل وتمرينها على موافقته وهو لا يحصل بدون حضور القلب وأفعاله المذكورة والتفاته إلى مشارق أنوار الحق ومطالع أسراره وتجرده عن جلابيب العوايق البشرية وسيره في عالم التوحيد والصلاة بهذا الوجه أعني المشتملة على الأعمال البدنية والأفعال القلبية من أكمل فضائل العاقل العارف بالله وآياته، وهي التي ورد في وصفها والحث عليها قوله تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) وقوله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) وقوله (صلى الله عليه وآله): «الصلاة عمود الدين» (1) وقوله «الصلاة مفتاح الجنة» (2) وقوله «من صلى ركعتين ولم يحدث نفسه

ص: 259


1- 1 - أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في كتاب الصلاة وابن منيع أيضا، كما في الجامع الصغير وكنوز الحقائق للمناوي.
2- 2 - لم أجده هكذا وللدارمي في سننه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري «مفتاح الجنة الصلاة».

فيهما بشئ من الدنيا غفر الله ذنوبه» (1) وقوله «قرة عيني في الصلاة» (2) وقوله: «الصلاة قربان كل تقي» (3) وإضاعتها من جنود الجهل وصفات الجاهل وهي عبارة عن تركها بالمرة أو الإتيان بالأعمال البدنية مجردة عن الأفعال القلبية لأن الإضاعة تختلف باختلاف حال الجهل ورسوخه فرب جاهل يبلغ جهله إلى حد يتركها بالكلية لسواد قلبه وزوال بصيرته واعتقاده ورب جاهل يصلي ولا يخطر بباله أن يصلي إلى آخر الصلاة لتسلط النفس والشيطان عليه واشتغال قلبه بغير الله والتفاته إلى ما سواه ويشملها الذم في قوله تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) ورب جاهل يصلي وهو أنه يصلي في بعض الأوقات دون بعض ويحضر قلبه في بعض الأفعال دون بعض وهذا فعله مختلط وعمله ممتزج يقرب من الحق تارة ويبعد أخرى والذي يقتضيه النظر أنه في خطر عظيم ولكن دل بعض الروايات المعتبرة أنه يقبل من صلاته بقدر ما يعقله وهذا دل على صحة صلاته وخروجه عن عهدة التكليف (4) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

(والصوم وضده الافطار) ليس المراد بالصوم هنا مجرد الامساك عن الطعام والشراب وغيرهما من الأمور المذكورة في كتب الفقهاء بل المراد به الإمساك عنها وعن جميع ما يوجب البعد عنه تعالى ولا يتحقق ذلك إلا بصوم جميع الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة وإمساكها عما يكره أو يحرم وذلك بأن يجتنب عن أذى الخادم وغيره وعن ضربه وشتمه، ويحفظ البصر عن النظر إلى ما لا ينبغي النظر إليه

ص: 260


1- 3 - أخرجه أحمد في مسنده ج 4 ص 112 و 117. ورواه ابن المبارك في الزهد والرقائق والراوندي في لب اللباب كما في المستدرك الوسائل كلهم بزيادة «من توضأ وصلى ركعتين - الحديث» وبأدنى اختلاف في لفظه.
2- 4 - أخرجه النسائي ج 7 ص 67 في حديث عن انس. ورواه الصدوق في الخصال أبواب الثلاثة ج 1 ص 79.
3- 5 - رواه الكليني في الكافي كتاب الصلاة باب فضل الصلاة تحت رقم 6.
4- 1 - قد يقع في كلام بعضهم ان قبول العمل شئ وصحته شئ آخر ويمكن ان يكون العمل صحيحا غير مقبول وربما ترى في كلام أهل التحقيق إنكار هذا المعنى ونسبته إلى الحشوية أي جهال أهل الحديث وحجة هؤلاء أن الله تعالى أمر بشئ أتى به المكلف على ما أمر به فيستحق الثواب عليه عقلا ونقلا حيث قال (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) ومن يدعي أن الله تعالى ربما لا يقبل العمل الصحيح ان أراد به أنه لا يعطيه ثوابا أصلا فهو قبيح لا يجوز نسبته إلى الله تعالى وإن أراد أن يعطي ثوابا أقل من أمثاله لقلة شرائط الكمال فهو ممكن ولكنه غير متبادر من لفظ القبول والحق أن كل عمل صحيح مجز يثاب عليه وان اختلفت الأعمال باختلاف شرايط الكمال ولا ريب في صحة ما ذكر الشارح من استفادة صحة العمل من الرواية ولابد أن يحمل القبول في الروايات على زيادة الثواب لا أصل الثواب (ش).

والقلب عن ذكر غير الله والسمع عن استماع ما لا يجوز واللسان عن الكذب والهذيان والغيبة والبهتان والحلف والمراء وإنشاد الشعر في الليل والنهار ويعف البطن والفرج عن تناول الشبهات والمحرمات وإكثار الحلال من الأطعمة والأشربة وتناول أنواع المستلذات وقت الإفطار، وقس على ذلك ساير الأعضاء وهو مع ذلك يقوم بين الخوف والرجاء في رده لتجويز التقصير فيه وقبوله لملاحظة لطف الله وكرمه ولا ريب في أن الصوم بهذا المعنى من أفضل خصال العقل وأعظم جنوده التي يستعين بها في جهاد النفس الأمارة بالسوء وكسر قوتها وشهواتها وإن الإفطار يعني ترك الامساك عن جميع ما ذكر أو عن بعضه من أكمل رذايل الجهل وأعوانه في إطاعة المهويات النفسانية وتناول الشهوات الشيطانية والملتذات الجسمانية الموجبة للبعد عن نيل رحمة رب العالمين والقرب من أسفل السافلين نعوذ بالله من مخاطرات الجهل وهمزات الشياطين.

(والجهاد وضده النكول) الجهاد بالكسر مصدر جاهدت العدو إذا قابلته في تحمل الجهد إذ كل واحد من المتخاصمين يبذل طاقته ويتحمل مشقته في دفع صاحبه، والنكول الجبن، يقال: نكل عن العدو ينكل بالضم أي جبن، والناكل الجبان، الضعيف، ثم الجهاد على خمسة أصناف جهاد مع العدو الظاهر وهو الكافر قال الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) وجهاد مع العدو الخفي قال الله تعالى (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) وجهاد مع أصحاب الباطل بالعلم والحجة قال الله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) وجهاد مع الفاسق من أهل الايمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وجهاد مع النفس الأمارة بالسوء قال الله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وهذا الصنف أشق وأعظم من الجميع كما دلت عليه التجربة ودل عليه ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث بسرية فلما رجعوا قال: «مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس» (1) ومن نظر في هذا الخبر الذي نحن في صدد شرحه حق النظر وتأمل في كثرة جنود الجهل وكثرة شوكتها وغلبتها في الأكثر حق التأمل عرف سر كون هذا الجهاد أعظم وأكبر ونحن نذكر حقيقته وكيفيته ووجه كونه أعظم في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى ولا يبعد أن يراد بالجهاد هنا جميع هذه الأصناف لأن كل واحد منها من صفات العقلاء وخواص الأولياء والصابرين في البأساء والضراء الذين غاية مناهم تخليص نفوسهم ونفوس عباد الله عن قيود الهلكات، وأغلال الشبهات وسلاسل الزلات وأنتزاعها من أيدي هذه الدنيا الغدارة

ص: 261


1- 1 - الكافي كتاب الجهاد باب الجهاد الأكبر.

والأبالسة المكارة وسياقها إلى بساط الحق وساحة رحمته ومحل كرامته وفناء جنته فيدخلون فيها إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين. وأما النكول عن الجهاد والتقاعد منه فهو من سمات الغافلين وصفات الجاهلين الذين يسلكون مسالك النفوس الأمارة ويختارون راحتها على مشاقها وهم عن شناعة العاقبة جاهلون ويؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة وهم عنها غافلون.

(والحج وضده نبذ الميثاق) والحج بالفتح القصد وقد غلب على قصد الكعبة للنسك المعروف، وبالكسر الاسم، والميثاق العهد ونبذه نقضه من نبذ الشئ من يده طرحه ورمى به لأن نقض العهد طرح له والمقصود أن حج بيت الله تعالى من صفات العاقل الذي شأنه الوفاء بالعهد والميثاق وتركه من صفات الجاهل الذي شأنه نقض العهد والميثاق وذلك لأن الله تعالى لما أراد أن يأخذ المواثيق من العباد أخذها في ذلك المكان وأمر الحجر وهو ملك بهذه الصورة يسمع ويرى فالتقمها فمن أتاه وجدد له الاقرار يشهد له بالموافاة يوم القيامة ومن لم يأته فهو ناقض العهد وناسيه ويشهد عليه بالكفر والانكار ونقض العهد يدل على ذلك روايات متكثرة ويحتمل أن يراد الميثاق ما أجابوا عند نداء إبراهيم (عليه السلام) وطلبه إياهم إلى الحج وهم في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات بقولهم لبيك اللهم لبيك ويحتمل أيضا أن يراد بالحج القصد إلى الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والعكوف في أبواب علومهم ومعارفهم والسؤال عنهم لأن الله تعالى أخذ ميثاق ذلك على العباد. ونبذ الميثاق تركهم والرجوع إلى أصحاب الأهواء الباطلة وأرباب الآراء الفاسدة ومن الأفاضل لما رأى أن عدد الجنود زائد على الخمسة والسبعين بثلاثة حكم بأن هذه الفقرات الأربع أعني الصلاة وضدها الإضاعة إلى آخر الأربع ترجع إلى فقرة واحدة أعني العبادة وضدها الإضاعة (1) والله اعلم.

(وصون الحديث وضده النميمة) نم الحديث ينمه وينمه بالضم والكسر نما أي قته والاسم النميمة والرجل نام ونم ونمام أي قتات للمبالغة والقتات من قتت الحديث إذا سمعته وجمعته وكذلك فعل

ص: 262


1- 1 - قد مر في شرح أول الحديث في الصفحة 270 أن مفهوم العدد غير معتبر وليس المراد الحصر في خمسة وسبعين بل الجنود أكثر من ذلك بكثير وإنما ذكر الأهم والاعرف ومر أيضا كلام الشيخ بهاء الدين وقال في الوافي: المذكور في النسخ التي رأيناها عند التفصيل ثمانية وسبعون ولعل الثلاثة الزائدة الطمع والعافية والفهم لاتحاد الأولين مع الرجاء والسلامة المذكورين وذكر الفهم مرتين في مقابله اثنين متقاربين ولعل الوجه في ذلك أنه لما كان كل منها غير صاحبه في دقيق النظر ذكر على حدة ولما كان الفرق دقيقا خفيا والمعنى قريبا كما يأتي ذكره لم يحسب من العدد - وقال المجلسي (رحمه الله) - وفي الخصال وغيره زيادات اخر يرتقى منها إلى إحدى وثمانين (ش).

النمام، وقال في النهاية: النميمة نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الافساد والشر، ومثله قال المازري وعلى هذا هذه الفقرة أخص من الكتمان والافشاء لأن الكتمان أعم من صون الحديث وغيره والافشاء أعم من نقل الحديث وغيره، وقال الغزالي: النميمة كشف ما يكره كشفه من قول أو فعل كرهه المنقول عنه أو إليه أو ثالث وعلى المنقول إليه أن لا يصدق الناقل لأنه فاسق وأن ينهاه لأن نهيه من النصيحة وأن يبغضه لأنه مبغض عند الله ويجب بغض من يبغضه الله سبحانه وأن لا يظن بالمنقول عنه شرا وأن لا يجسس عليه ولا يحكى ما نقل عنه لأنه يصير نماما، وحكمها الحرمة لتضمنها مفسدة عظيمة من التباغض والتباعد والتفارق وكسر عرض المؤمن وقد يؤدي إلى سفك الدماء ونهب الأموال ونحوها إلا أن تتضمن مصلحة شرعية فلا تمنع كإخبار الإمام عمن يريد أن يوقع فسادا وإخبار الرجل عمن يريد أن يفتك به أو بأهله أو بماله وقد يجب ذلك بحسب المواطن إلا أنها حينئذ ليست بنميمة وقد ورد الروايات على ذم النمام منها ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «محرمة الجنة على القتاتين (1) المشائين بالنميمة» (2).

(وبر الوالدين وضده العقوق) قال في النهاية: البر بالكسر الاحسان منه الحديث في بر الوالدين وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق وهو الإساءة والتضييع لحقهم يقال بر يبر فهو بار وجمعه بررة وجمع البر أبرار وهو كثيرا ما يخص بالأولياء والزهاد والعباد، وعق والده يعقه عقوقا فهو عاق إذا آذاه وعصاه وخرج عليه وأصله من العق وهو الشق والقطع وقد ورد من طرق الخاصة والعامة أن عقوق الوالدين من كباير الذنوب فالبر بحكم التضاد من عظايم الحسنات، ومن برك بهما أن تحسن صحبتهما وتقضى ديونهما، وتعينهما على فعل الخيرات، وتفعل ما يسرهما وتترحم عليهما، وتوصل ما أمكن من الخيرات إليهما، ولا تكلفهما سؤال شئ مما يحتاجان إليه، ولا تقول لهما: اف إن أضجراك، ولا تنهرهما إن ضرباك، ولا تملأ النظر إليهما إن أغضباك ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدمهما ولا تستسبهما بأن تسب أبا غيرك وأمه فيسب أباك وأمك ولا تفعل ما يؤذي نفسك أو صديقهما فإن ذلك يؤذيهما، ولا تعنهما على الظلم فان الإعانة عليه خلاف البر، ولا تسافر إلا بإذنهما وإن كان إلى الجهاد لأن انسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة، ثم لا فرق في وجوب برهما بين أن يكونا حيين أو ميتين لرواية محمد بن عمران عن الصادق (عليه السلام) ورواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عز وجل

ص: 263


1- 2 - قتوه سخن چيني (ش).
2- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب النميمة تحت رقم 2.

عاقا، وإنه ليكون عاقا لهما في حياتهما غير بار بهما فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه عز وجل بارا» (1) وكذا لا فرق بين أن يكونا برين أو فاجرين لما رواه عنبسة بن مصعب عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ثلاث لم يجعل الله عزوجل لأحد فيهن رخصة أداء الأمانة إلى البر والفاجر. والوفاء للعهد للبر والفاجر وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين» (2) ولا بين أن يكونا مؤمنين أو مخالفين أو كافرين لروايات متكثرة منها رواية جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) ورواية زكريا بن إبراهيم عنه (عليه السلام) (4).

(والحقيقة وضدها الرياء) لكل شئ حقيقة وحقيقة العمل هي الاخلاص يعني صرفه إلى الله طلبا لرضاه والرياء وهو القصد بالطاعة إلى التقرب بالمخلوقين وطلب المنزلة في قلوبهم والميل إلى إعظامهم له وتوقيرهم إياه وتسخيرهم لقضاء حوائجه والقيام بمهماته إلى غير ذلك من الأغراض الفاسدة النفسانية والتسويلات الكاسدة الشيطانية مناف لتلك الحقيقة وضدها لا يجامعها أصلا كما أشرنا إليه سابقا بخلاف الشوب في قوله (عليه السلام) «والاخلاص وضده الشوب» فإن بعض أفراده وهو ما إذا ضم إلى العبادة قصد تحصيل الثواب والتحرز عن العقاب أو قصد التبرد والتسخن غير مناف لحقيقة الاخلاص وإنما هو مناف لكماله فلذلك لم يجعل الشوب ضد الحقيقة مثل الرياء إذا عرفت هذا فنقول: إن خصصنا الرياء في هذه الفقرة بالرياء الخالص وعممنا الشوب في الفقرة السابقة بشوب الرياء وغيره أو خصصنا الشوب بشوب غير الرياء وعممنا الرياء هنا بالرياء الخالص والرياء المنضم كان بينهما تباين في التحقق قطعا وفي الحكم أيضا على الثاني دون الأول لأن الرياء مبطل للحقيقة مطلقا والشوب على الثاني غير مبطل للحقيقة بل لكمالها عند بعض وعلى الأول أعم من أن يكون مبطلا أو غير مبطل وإن عممنا الشوب والرياء كليهما كان بينهما عموم من وجه في التحقق وعموم مطلق في الحكم.

(والمعروف وضده المنكر) أي الاتيان بهما والكلام هنا في سبعة أشياء الأول في حد المعروف وهو في اللغة اسم لكل ما اتصف بحال يوجب كونه معلوما ومنه يقال: فلان معروف إذا اتصف بوصف يوجب شهرته بين الناس وفي الشرع اسم لجميع ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى واجبا كان أو ندبا مثل الصلاة والزكاة والاحسان إلى الناس وإعطاء فضل المال إلى غير ذلك من مكارم الأعمال ومحاسن الأفعال ولا يبعد تخصيصه هنا بما سوى الواجبات مما يتعلق بالحقوق المالية لقول الصادق (عليه السلام) «المعروف شئ سوى الزكاة فتقربوا إلى الله عز وجل بالبر وصلة الأرحام» (2) والمنكر الشئ المتغير عن حاله ووصفه

ص: 264


1- 1 - و (2) الكافي كتاب الايمان والكفر باب البر بالوالدين تحت رقم 21 و 15 3 - و (4) المصدر تحت رقم 10 و 11.
2- 1 - و (2) و (3) الكافي كتاب الزكاة باب فضل المعروف تحت رقم 5 و 3 و 11. 4 - المصدر باب أن صنائع المعروف تدفع مصارع السوء تحت رقم 1.

حتى ينكرو يجهل ومنه النكرة ضد المعرفة فان المعرفة إذا غيرت عن وصف التعريف تصير نكرة مجهولة. الثاني في باعثه وعلته قال الصادق (عليه السلام) «وليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والاذن فهنالك تمت السعادة للطالب والمطلوب إليه» (2). الثالث في ثمرته وفوائده، وفوائده غير محصورة منها ما أشار إليه الباقر (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أول من يدخل الجنة المعروف وأهله، وأول من يرد علي الحوض» (3) وما أشار إليه الصادق (عليه السلام) بقوله «صنايع المعروف تقي مصارع السوء» (4) الرابع في خصال أهله قال الصادق (عليه السلام) «رأيت المعروف لا يصلح إلا بثلاث خصال تصغيره وتستيره وتعجيله فإنك إذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه، وإذا سترته تممته، وإذا عجلته هنأته وإن كان غير ذلك سخفته ونكدته» (1). الخامس في وضعه موضعه قال الصادق (عليه السلام) لمفضل بن عمر: «إذا أردت أن تعرف إلى خير يصير الرجل أم إلى شر فانظر إلى أين يضع معروفه فإن كان يضع معروفه عند أهله فاعلم أنه يصير إلى خير وإن كان يضع معروفه عند غير أهله فاعلم أنه ليس له في الآخرة من خلاق» (2) وقال جابر: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لو أن الناس أخذوا ما أمرهم الله به فأنفقوه فيما نهاهم الله عنه ما قبله منهم ولو أخذوا ما نهاهم الله عنه فأنفقوه فيما أمرهم الله به ما قبله منهم حتى يأخذوه من حق وينفقوه في حق» (7). السادس في آدابه وهي اختيار المتوسط بين الافراط والتفريط قال الله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) وقال أبو الحسن (عليه السلام) «لا تبذل لاخوانك من نفسك ما ضره عليك أكثر من منفعته لهم» (3) السابع عدم كفران الطالب للمعروف قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لعن الله قاطعي سبيل المعروف، قيل: وما قاطعوا سبيل المعروف قال: الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره فيمتنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره» (4) وقال (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أتى إليه معروف فليكاف به، فإن عجز فليثن عليه فإن لم يفعل فقد كفر النعمة» (3) وإذا عرفت المعروف وأقسامه وأحكامه عرفت المنكر وأقسامه وأحكامه بالتضاد، والأول من صفات العاقل العارف المستيقن بالله وباليوم الآخر، المشفق بعباد الله، والثاني من صفات الجاهل المغرور بالدنيا المفتون بزهراتها.

ص: 265


1- 5 - المصدر باب تمام المعروف تحت رقم 1.
2- 6 - و (7) المصدر باب وضع المعروف موضعه تحت رقم 2 و 4.
3- 1 - الكافي باب آداب المعروف تحت رقم 2.
4- 2 - و (3) الكافي باب الكفر المعروف تحت رقم 1 و 2. 4 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب ستر الذنوب تحت رقم 1.

(والستر وضده التبرج) الستر بالفتح مصدر سترت الشئ أستره إذا غطيته فاستتر هو وتستر أي تغطى والرجل ستير أي عفيف، والجارية ستيرة، وأما الستر بالكسر فهو ما يستر به كالسترة بالضم يعني أن من جنود العقل وصفات العاقل ستر الذنوب بالتوبة أو سترها عن الناس لقوله (صلى الله عليه وآله):

«المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له» (4) أو ستر زلات المؤمنين وعوراتهم ومعايبهم أو ستر الحلي والزينة ومواضعها عن الأجانب مثل السوار للزند والخلخال للساق والدملج للعضد والقلادة للعنق والقرط للاذن والوشاح للعاتق والكشح، وهذا أظهر الاحتمالات بقرينة ضده إذ الظاهر هو أن التبرج إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للأجانب وهو حرام عليها قال الله تعالى: (ولا يبدين زينتهن - الآية) وقال: (ولا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وإذا حرم إظهارها حرم إظهار مواضعها بالطريق الأولى وهو متفق عليه بين العامة والخاصة ومن التبرج تطييبها وتجمير ثوبها وتزيينها بأثواب فاخرة وخروجها من بيتها وتعرضها نفسها للرجال فيطمع منهم من كان في قلبه مرض قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أية امرأة تطيبت وخرجت من بيتها فهي تلعن حتى ترجع إلى بيتها متى رجعت» (1) وقال أبو عبد الله (عليه السلام) «لا ينبغي للمرأة أن تجمر ثوبها إذا خرجت من بيتها» ومنه إظهار صوت حليها للأجانب قال الله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن).

(والتقية وضدها الإذاعة) في الصحاح اتقى يتقى أصله أو تقى على افتعل قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وابدلت منها التاء وأدغمت، فلما كثر استعماله في لفظ الافتعال توهموا أن التاء من نفس الحروف يعني من نفس حروف الكلمة واصولها فجعلوه إتقى يتقي بفتح التاء فيهما مخففة ثم لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه به فقالوا تقى يتقي مثل قضى يقضي. وفي المغرب الوقاية والوقا، كل ما وقيت به شيئا والتقية اسم من الاتقاء وتاؤها بدل من الواو لأنها فعيلة من وقيت وهي أن يقي نفسه من اللائمة أو من العقوبة وإن كان على خلاف ما يضمر وفي القاموس اتقيت الشئ وتقيته وأتقيه وأتقيه تقى وتقية وتقاء ككساء: حذرته، والإذاعة إفعال من الذيع يقال: ذاع الخير يذيع ذيعا إذا انتشر وأذاعه غيره أي أفشاه والمذياع الذي لا يكتم السر إذا عرفت هذا فنقول التقية جايزة إلى يوم القيامة نقله المغرب عن الحسن أيضا وهي دين الله في عباده وسنة الله في بلاده (2) وجنة المؤمن يدفع بها سيوف مكر الماكرين وترسه

ص: 266


1- 5 - و (2) الكافي كتاب النكاح باب التستر تحت رقم 2 و 3.
2- 1 - التقية دين الله في عباده فإنه تعالى أمر بذلك وسنة الله في بلاده لأن الناس مجبولون عليها ولا يخالفون الجبارين في سلطانهم إلا إذا عملوا من أنفسهم قوة وقدرة على دفعه. واعلم أن التقية من السلطان أعني الحكومة والحكومة لا يهتم بشئ إلا بملكه وقدرته فإذا احتمل من جماعة خروجا عليه دفعهم ونكل بهم سواء كانوا موافقين له في المذهب أو مخالفين وإن لم يعتقد فيهم خلافا خلاهم ومذهبهم ولذلك أمر الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم باستعمال التقية وإظهار الطاعة حتى يأمن الامراء من بوائقهم ويخلوهم وهذا أكثر تأثيرا في بيان الاحكام وترويج الشرع وإنما بقي مذهب التشيع وانتشر هذا الانتشار السريع العظيم بشيئين بأمن الامراء من طغيانهم وبائقتهم في بلاد المخالفين وبتنزه علمائهم من تصدي مناصب الحكومة واستقلالهم في أمرهم بحيث لا يحتمل العزل والنصب في حقهم كما في علماء أهل الخلاف (ش).

يرد بها سهام كيد الكائدين وحصنه يأوي إليه لدفع تعدي الظالمين ومن صفات العاقل الفاضل الذي يعلم حقيتها وحقيقتها ومواضع استعمالها وموارد الحاجة إليها فيقول ويفعل عند الضرورة والحاجة بخلاف ما يعتقده حفظا لنفسه وماله وغير ممن المسلمين عن التورط في المهالك ويحسن صحبة الأشرار تحرزا من عقوبتهم وتفززا من مؤاخذتهم وقد روي «أن رجلا استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: بئس أخو العشيرة فأذن له فلما دخل عليه أقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بوجهه وبشره يحدثه حتى فرغ وخرج من عنده فقيل له: يا رسول الله أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرته وأقبلت عليه بوجهك وبشرك فقال (عليه السلام): إن من شر عباد الله من يكره مجالسته لفحشه» (1) وتقية الأئمة (عليهم السلام) من أهل الجور مشهورة في الكتب مسطورة في الآيات والروايات الكثيرة دلالة على جوازها بل على وجوبها قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) نزل في عمار بن ياسر حين (2) أكرهه أهل مكة وقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال الصادق (عليه السلام): بما صبروا على التقية وقال: «ويدرؤن بالحسنة السيئة» قال (عليه السلام):

«الحسنة التقية والسيئة الإذاعة» (3) وبالجملة التقية ترس العاقل وحرزه وجنده، وأما ضدها وهي الإذاعة فمن صفات الجاهل الذي يقصر نظره عن ملاحظة سوء عاقبتها وقبح مآلها فإنه قد يفعل شيئا أو يتكلم بكلام أو يروي حديثا يورث قتله أو ضربه أو حبسه أو شتمه أو نهب أمواله أو سبي ذراريه أو نكال غيره من المسلمين وقد دلت الآيات والروايات المتكثرة على ذمها قال الله تعالى: (فإذا جاءهم

ص: 267


1- 2 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب من يتقى شره وأخرجه مسلم ج 8 ص 21.
2- 3 - ويعيب مخالفونا على مذهبنا في التقية وعمدتهم في ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في اعتقادكم نصبو لبيان الشرايع والاحكام فلو اتقوا من الأعداء ولم يبينوا بقيت الاحكام مستورة غير معلومة وانتفت الفائدة من نصبهم وأيضا لم يبق اعتماد على أقوالهم وأحكامهم إذ يحتمل التقية بيان خلاف الواقع وأنتم تقولون الإمام يجب أن يكون معصوما من الخطأ ليكون قوله حجة والتقية مثل الخطأ أو أشنع إذ يوجب عدم الاعتماد عليهم والجواب أن فرض التقية إنما هو فيما لا يوجب خفاء الاحكام ولا ينتفي به الاعتماد على قول الإمام وفرق بين التقية وعدم العصمة لأن التقية عمد فإذا أفتى بالتقية وكان عالما به لم يمنعه من بيان الحقيقة في وقت آخر بحيث يزيل الشبهة وأما عدم العصمة فربما يخطي في الحكم أو في الفعل ولا يعلم به ولا يلتفت إليه فيمضي الأمر على خطائه وإن أراد الاستدراك احتمل خطائه في الثاني دون الأول (ش).
3- 1 - راجع الكافي كتاب الايمان والكفر باب التقية.

أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) وقد عيرهم بالإذاعة فاياكم والإذاعة وقال الصادق (عليه السلام): «ما قتلنا من أذاع حديثنا خطأ ولكن قتلنا قتل عمد» (1).

(والانصاف وضده الحمية) الانصاف العدل والتسوية، يقال: القاضي أنصف بين الخصمين إذا عدل وسوى بينهما في المجلس، وفلان أنصف الناس من نفسه إذا رضي لهم ما رضي لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه وحكم على نفسه لو كان الحق لهم وعن الصادق (عليه السلام): «سيد الأعمال ثلاثة وعد منها إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى لك بشئ إلا رضيت لهم مثله» (2) ومنه الانصاف في المعاملة وهو أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه ولا يناله من المضار ما يناله منه وهو من أكمل فضايل العقل لأن العاقل يعلم أن من أنصف زاده الله تعالى عزا في الدنيا والآخرة وهو في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله والحمية الأنفة يعني استنكاف الرجل من دخول العار عليه وهي سبب لحميته وحمايته وغايتها أن يدفع عن قومه ظلما وجورا وإن أدى دفعه إلى ظلم وجور أشنع وأقبح من ذلك أو يرتكب لدفع ما هو خلاف الأولى عن نفسه أو عن قومه ضررا عظيما لغيره أو يرى شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين أو نحوها مما هو شريعة الجهلاء وطريق السفهاء لقسوة قلوبهم وغلظة طبايعهم حتى أنهم يستعملون لسوط واحد سيوفا ويحدثون لحتف واحد حتوفا ويقيمون حمية الجاهلية الأولى ويظنون أن ذلك مماثل للانصاف بل هو أفضل وأولى فلا يجدون إلى الانصاف دليلا أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الايمان من عنقه» (3) وقال: «من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية» (5) وينبغي أن يعلم أن تعصب الرجل وحميته في الدين ومحبته لقومه وإعانته لهم لا على الظلم ليست من الحمية المذمومة قال علي بن الحسين (عليه السلام): «لم تدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم غضبا للنبي (صلى الله عليه وآله) في حديث السلا الذي ألقى على النبي (صلى الله عليه وآله)» (1) وقال (عليه السلام): «ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (2).

(والتهيئة وضدها البغي) التهيئة إما بمعنى الموافقة يقال: تهايئوا أي توافقوا أو بمعنى الاصلاح تقول: هيأت الشئ إذا أصلحته، أو بمعنى تهيئة النفس واستعدادها للحركة نحو الفضايل والاعراض عن الرذايل أو بمعنى ما يتبع ذلك الاستعداد من هيئة حسنة راسخة موجبة لعدم ظهور ريبة منها ولبقائها على

ص: 268


1- 2 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الإذاعة تحت رقم 4.
2- 3 - المصدر باب الانصاف والعدل تحت رقم 7.
3- 4 - و (2) و (3) و (4) رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر باب العصبية تحت رقم 2 و 3 و 5 و 7.

حالة واحدة واستمرارها عليها وهي في الحقيقة مبدء لتحصيل الكمالات. قال في المغرب: الهيئة هي الحالة الظاهرة للمتهيىء للشيء وقوله (عليه السلام): «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» (1) قال الشافعي ذو الهيئة من لم يظهر منه ريبة والبغي بمعنى طلب الشر، يقال: بغى أحدهما صاحبه في شئ أي طلب له شرا أو أراده له وبمعنى التعدي والاستطالة والظلم وكل مجاوزة المحل وإفراط على المقدار الذي هو حد الشرع ولعل المقصود والله يعلم أن الموافقة بين الناس أو بين الإمام والرعية أو إصلاح النفس من رينها وصقلها من كدرة شرارتها أو استعدادها نحو الكمال أو الهيئة التابعة لذلك الاستعداد الموجبة لعدم ظهور ريبة منها ولبقائها على حالة واحدة مع استمرارها على تلك الحالة وعدم خروجها منها من صفات العقل وجنوده والبغي بالمعاني المذكورة من صفات الجهل، هذا وقرأها سيد الحكماء بالبهشة، وقال: البهشة بالباء الموحدة قبل الهاء وقبل الشين المعجمة الارتياح لذي فضل وللمعروف وأحبابه والميل إليه وضدها البغي عليه.

(والنظافة وضدها القذر) في الصحاح النظافة النقاوة وقد نظف الشئ بالضم فهو نظيف ونطفته أنا تنظيفا نقيته والتنظف تكلف النظافة وفي النهاية فيه أن الله تعالى نظيف يحب النظافة. نظافة الله كناية عن تنزهه من سمات الحدوث في صفاته وتعاليه في ذاته عن كل نقص وحبه النظافة من غيره كناية عن خلوص العقيدة ونفي الشرك ومجانبة الأهواء ثم نظافة القلب عن الغل والحقد والحسد وأمثالها ثم نظافة المطعم والملبس عن الحرام والشبهة، ثم نظافة الظاهر بملابسة العبادات ومنه الحديث «نظفوا أفواهكم فإنها طرق القرآن» (2) اي صونوا عن اللغو والفحش والغيبة والنميمة والكذب وأمثالها وعن أكل الحرام والقاذورات والحث على تطهيرها من النجاسات والسواك، والحاصل أن طهارة الباطن والظاهر ونزاهتهما عن جميع ما لا ينبغي اتصاف الناس به ظاهرا أو باطنا من أنصار العقل في الترقي إلى عالم القدس كما يرشد إليه قوله تعالى: (وثيابك فطهر والرجز فاهجر) وقذارتهما من أعوان الجهل في التباعد عن ذلك العالم لأن عالم القدس طاهر لا يسكن فيه إلا الطاهرون، وينبغي (أن يعلم) أن طهارة الباطن يستلزم طهارة الظاهر وكذا نجاسة الباطن يستلزم نجاسة الظاهر لأن ما في الباطن يترشح إلى الظاهر فلا جرم الحالة الباطنة مبدء للحالة الظاهرة ومن ثم يستدلون بالظواهر على البواطن.

(والحياء وضده الخلع) قيل: الحياء انكسار يصيب الحياة، وقيل: هو تغير يلحق من فعل أو ترك ما يذم به، وقيل: هو خلق يمنع من القبيح ومن التقصير في الحقوق وهو غريزة في الأكثر وقد يتخلق به

ص: 269


1- 3 - أخرجه أبو داود في السنن ج 2 ص 446 هكذا «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود».
2- 4 - أخرجه الديلمي في الفردوس كما في كنوز الحقائق للمناوي.

بالاكتساب لأن من لم يجبل عليه ربما يلتزم الحقوق ويتمسك بالشرايع ويمارسها في كر الدهور ومر الأزمان فيحصل له ملكة الانزجار عن القبايح ومبدء الانقباض عن المحارم وهي الحياء وله مراتب متفاوتة وأفراد متفاضلة أكملها وأفضلها ما ينزجر به الجوارح الظاهرة والباطنة كلها عن ارتكاب ما لا ينبغي ودون ذلك درجات، فإن قلت قد يكون في الإنسان ما يمنعه من حقوق الله تعالى فهل هو حياء حقيقة أم لا؟ قلت: لا وإنما هو خور ومهانة وحمق - وإطلاق الحياء عليه أحيانا وتقسيمه إليهما في قوله (صلى الله عليه وآله): «الحياء حياءان حياء عقل وحياء حمق فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل» (1) وفيما نقل عن الحكماء أن الحياء منه سكينة ووقار ومنه ضعف وفيما نقل عنهم في باب الأخلاق أن كل فضيلة نفسانية وسط بين طرفيها المذمومين طرف الإفراط وطرف التفريط فالحياء الممدوح وسط بين طرف إفراطه وهو الخور أعني الاستحياء من كل شئ وهذا مذموم لأن يؤدي إلى ترك الواجبات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره وطرف تفريطه وهو الخلاعة أعني عدم الاستحياء من بعض الوجوه وهذا أيضا مذموم لأنه يؤدي إلى ارتكاب بعض المحظورات - لا يدل على أن إطلاق الحياء على ما يمنع من حقوقه تعالى على سبيل الحقيقة لأن الاستعمال أعم من الحقيقة والمقسم لا يجب أن يكون محمولا على معناه الحقيقي ويؤيد ما قلنا ما رواه مسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (2) و «الحياء كله خير» (3) وحمل هذا على الايجاب الجزئي لا وجه له على أن اصطلاح الحكماء ليس حجة علينا ولذلك لما سمع بشر بن كعب عن عمران ما نقله عارضه بقول الحكماء فقال عمران احدثك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتحدثني عن صحيفة الحكماء فانكار عمران دل على أن لا وجه لمعارضة السنة بقول الحكماء ويؤيده أيضا قول المحقق الطوسي (رحمه الله) حيث عد الحياء من أنواع العفة الحاصلة من الاعتدال في القوة الشهوية وعرفه بأنه انحصار النفس عن ارتكاب القبايح احترازا عن استحقاق المذمة فإنه صريح في أن انحصار النفس عن ارتكاب المحاسن لغرض ما ليس بحياء، فإن قلت: قد ينسب الحياء إلى الله تعالى فيقال: إنه حيي فما معناه؟ قلت: معناه إنه سبحانه يعامل معاملة من له حياء يعني لا يصدر عنه القبايح وذلك لأنه إذا نسب إليه تعالى مبادي الآثار ولا يصح عقلا أو شرعا إرادة تلك المبادى يراد منها تلك الآثار مجازا والجلع الذي هو ضده إما بالجيم وهو قلة الحياء قال في الصحاح: جلعت المرأة بالكسر فهي جلعة وجالعة أيضا

ص: 270


1- 1 - رواه الكليني في كتاب الايمان والكفر باب الحياء 8.
2- 2 - أخرجه في صحيحه ج 1 ص 47 والبخاري ج 8 ص 35 من حديث عمران بن حصين.
3- 3 - أخرجه مسلم ج 1 ص 48 وأبو داود في السنن ج 2 ص 552.

قليلة الحياء تتكلم بالفحش وكذلك الرجل جلع وجالع، ومجالعة القوم مجاوبتهم بالفحش وتنازعهم عند الشرب والقمار، وإما بالخاء المعجمة وهو النزع يقال: خلع ثوبه عن بدنه إذا نزعه وجه كونه ضد الحياء ظاهر لأن الحياء بمنزلة اللباس يستر جميع الأعضاء ويمنع ظهور معايبها وصدور قبايحها وضده هو خلع ذلك اللباس وكشف تلك المعايب والقبايح وإنما كان الحياء من جنود العقل وضده من جنود الجهل لأن الإنسان متوسط بين العالمين عالم الهداية وعالم الغواية وعالم القدس وعالم الطبيعة. والعقل يدعوه إلى الأول والجهل يدعوه إلى الثاني فإذا لبس الحياء الزاجر له عن ارتكاب القبايح يجذبه العقل إلى غاية مناه بسهولة لأن الجذب بلا مانع أشد وأسهل من الجذب معه، وإذا خلع منه ذلك اللباس وظهر منه أنواع القبايح وأصناف المعايب يجذبه الجهل إلى نهاية مناه بسهولة لما عرفت، فمن له حياء كامل قريب من الحق بالغ إلى أقصى مدارج الهداية ومن له خلع كامل بعيد عن الحق بالغ إلى أعلى معارج الغواية والمتوسط بين الامرين متوسط بين العالمين متردد يقرب من كل منهما تارة ويبعد أخرى حتى يؤل أمره إلى ما شاء الله. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

(والقصد وضده العدوان) القصد بالشيء إرادة الاتيان به، والقصد أيضا العدل وهو التوسط في الأمور بين الافراط والتفريط ولعل المقصود أن من جنود العقل إرادة الخيرات كما روي «نية المؤمن خير من عمله» (1) وإن قصد برا ولم يقدر عليه كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله أو المقصود أن من جنوده التوسط بين الطرفين في الأقوال والأفعال والعقائد كالتوسط في المشي بين الدبيب والاسراع قال الله تعالى (واقصد في مشيك) وروي أن سرعة المشي يذهب ببهاء المؤمن (2) والتوسط في الانفاق بين التبذير والتقتير قال الله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) والتوسط في العبادة بحيث لا يلحق البدن مشقة شديده يتنفر الطبع عنها ولا يتركها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا علي إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض نفسك عبادة ربك فان المنبت (يعني المفرط) لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما، واحذر حذر من يخاف أن يموت غدا» (3) [والتوسط في جميع الأخلاق بين الافراط والتفريط] والتوسط في معرفته تعالى بين التعطيل والتشبيه

ص: 271


1- 1 - أخرجه الطبراني في الكبير من حديث سهل بن سهل.
2- 2 - رواه الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني في تحف العقول ص 36 عن النبي (صلى الله عليه وآله) مرسلا، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة والخطيب في الجامع والديلمي في الفردوس من حديث ابن عمر، وابن النجار عن ابن عباس بسند ضعيف كما في الجامع الصغير.
3- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الاقتصاد في العبادة تحت رقم 6. ورواه احمد في مسنده من حديث انس، والبزار من حديث جابر.

والتوسط في الكسب بين الكسالة والجد المانع من الراحة البدنية أو الحقوق الدينية، وبالجملة التوسط في جميع الأمور إلا الذنوب مطلوب ممدوح والعدوان بمعنى التجاوز عن الأوساط إلى طرف التفريط والافراط كما هو شأن الجاهل [الهارب] عن الصراط المستقيم مذموم.

(والراحة وضدها التعب) يعني أن الراحة الروحانية والجسمانية واختيار ما يوجبها من فضائل العقل وجنوده لعلمه بحقارة الدنيا وزهراتها وانصرام زخارفها ولذاتها وانقضاء مصائبها وآفاتها فيرفض الشواغل الدنياوية وينفض الوساوس النفسانية ويترك اللذات الجسمانية فلا يغتم بفوات الأموال والأسباب ولا يهتم بتحصيل المقتنيات والاكتساب، ولا يغتم بغبرة التزلزل والاضطراب، ولا يحسد ولا يبغض ولا يغضب ولا يجادل ولا يماري فهو دائما فارغ البال مرفه الحال، لا نفسه منه في تعب ولا روحه منه في نصب، وأما الجاهل فهو دائما في تعب ومشقة وأبدا في محنة وبلية لاهتمامه بتحصيل المقتنيات وحفظه للرسوم والعادات، واغتمامه بفوات المشتهيات من المطعومات والملبوسات، وارتكابه لأمور شديدة صعبة من المعاملات واحتماله من الاشغال الدنياوية والأثقال الزايلة الفانية ما يتعب نفسه من تحملها أو يعجز، والتجائه في ذلك إلى التحاسد والتباغض مع بني نوعه من أبناء الزمان إلى غير ذلك من الأمور المورثة للحزن والغم والهم والتعب كما هو المعروف من جملة أفراد الإنسان ومنشؤ ذلك استعظام الدنيا واستحقار الآخرة وهم لا يعلمون (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون) فقد ظهر مما ذكرنا أن الراحة من صفات العقل والتعب من صفات الجهل. وأما إعانة كل لصاحبه فظاهرة لأنه نجى المخفون وهلك المثقلون.

(والسهولة وضدها الصعوبة) السهولة اللينة واليسر والذل بالكسر يعني سرعة الانقياد يعني سهولة الطبع في قبول الحق ويسره في قبول الصفات المرضية والأخلاق الحسنة والأطوار الصحيحة وذله وانقياده في الدين من صفات العاقل وعلامات الإيمان كما ورد من طرق العامة والخاصة «المؤمنون هينون لينون» (1) وصعوبة الطبع يعني أضداد هذه الأمور من صفات الجاهل الحاير الذي ينبو ذهنه من الحق الزاهر، ويمرق طبعه من عرض الصدق إلى الجانب الآخر، ولا يطيع لقائده إلى منازل العرفان والكمال بل يغلبه مثل الجموح عن دين الحق مسرعا في سبل الضلال وكذا شأنه دائما في سرعة المسير إلى أن يقع في أسفل السافلين وبئس المصير.

(والبركة وضدها المحق) البركة النماء والزيادة ويحتمل أن يراد بها الدوام والثبات من برك البعير إذا

ص: 272


1- 1 - أخرجه البيهقي في شعب الايمان من حديث ابن عمر كما في الجامع الصغير. ورواه الكليني في الكافي كتاب الايمان والكفر (باب المؤمن وعلاماته وصفاته) تحت رقم 14.

استناخ ولزم وثبت في موضع واحد، والمحق النقصان وذهاب البركة، وقيل: هو أن يذهب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، ومنه (يمحق الله الربا) أي يستأصله ويذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه ولعل المقصود أن الزيادة في فعل الخيرات والمبالغة في المبرات والثبات والدوام عليها من صفات العقل وكمال العقلاء كما روي «من استوى يوماه فهو مغبون» (1) وروي أيضا «ما من شئ أحب إلى الله عز وجل من عمل يداوم عليه وإن قل» (2) والنقصان في العمل أو عدم الدوام والثبات عليه من صفات الجاهل لجهله بمنافع العمل وغفلته عن جزيل الثواب ونسيانه حظه ونصيبه في يوم الحساب، وقيل: المراد أن العاقل يحصل المال من الوجه الذي يصلح له ويصرف فيما ينبغي الصرف فيه فينمو ويزيد ويبقى ويدوم له، والجاهل يحصل من غير وجهه ويصرف في غير المصرف فيبطل ماله ويذهب بركته، وقيل: المراد أن البركة من صفات العقل لارتفاعه عن العالم التغير والآفة والدثور والنقص من صفات الجهل لتعلقه بعالم الفساد والزوال والشرور.

(والعافية وضدها البلاء) يقال: عافاه الله معافاة وعافية إذا سلمه من الآفات وبلاه وأبلاه بلاءا إذا جربه واختبره وامتحنه ويمكن أن يراد بالسلامة والبلاء فيما مر السلامة من إيذاء المسلمين أو من الأمراض النفسانية كما أشرنا إليه أو من العيوب والآفات البدنية كما قيل فإن السلامة من هذه الأمور من صفات العاقل إذ العاقل لا يؤذي مسلما ويتخلص من الأمراض النفسانية مهما أمكن من العيوب والآفات حيث يعرفها ويعرف طريق التخلص، والجاهل يختارها ويقع فيها من حيث لا يدري وأن يراد بالعافية والبلاء هنا العافية والسلامة من الأعمال الظاهرة الفاسدة أو من العقوبات الأخروية وأهوالها بالتحرز عن موجباتها أو مما يوجب سقوط المنزلة عند الله تعالى أو من المكاره الناشية من الإخوان، أو من زوال النعمة فإن السلامة من هذه الأمور من صفات العاقل لأنه يفر عما يوجب فساد العمل وثبوت العقوبة وسقوط المنزلة ويعفو عن بني نوعه ويسامحهم فيتخلص بهذه الحيلة عن مكارههم ويشكر النعم فيجلب النعمة ويأمن زوالها والابتلاء بهذه الأمور من صفات الجاهل. وعلى ما ذكرنا يتحقق الفرق المعنوي بين الفقرتين وإن كان تكلفا، ونقل عن الشيخ بهاء الملة والدين أنهما بمعنى واحد وإن إحديهما كانت بدلا عن الأخرى جمع بينهما الناسخ غافلا عن البدلية، وقال سيد الحكماء: البلاء ضد العافية

ص: 273


1- 2 - رواه الصدوق (رحمه الله) في معاني الاخبار ص 342 باب معنى المغبون باسناده عن الصادق (عليه السلام) «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان. ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة».
2- 3 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب استواء العمل والمداومة عليه تحت رقم 3.

بمعنى البلوى والبلية، والبلاء ضد السلامة بمعنى الامتحان والاختبار ومن توهم أنهما بمعنى واحد يلزمه أن يكون جند الجهل ثلاثة وسبعين وهو على خلاف قول الإمام (عليه السلام) وعلى خلاف جند العقل وفيه أولا أن الامتحان والاختبار أيضا بلية وثانيا أن من توهم اتحاد البلاء في الموضعين توهم اتحاد العافية والسلامة أيضا فلا يلزمه أن يكون جند الجهل على خلاف جند العقل وأقل منه، ولا يلزمه أيضا أن يكون الجهل أقل من ثلاثة وسبعين لأن تفصيل الجنود زايد على ثلاثة وسبعين بثلاثة وغرض المتوهم أن يرجع بعضها إلى بعض حتى يعود الجميع إلى ثلاثة وسبعين كما أشرنا إليه في أول الحديث.

(والقوام وضده المكاثرة) القوام بالفتح العدل قال الله تعالى: (وكان بين ذلك قواما) وقوام الأمر بالكسر ما يقوم به أمره ويتم به نظامه، يقال: لفلان قوام من العيش أي ما يقوم بحاجته الضرورية، والمكاثرة من الكثرة وهي نقيض القلة وكثيرا ما تستعمل للمغالبة، يقال: كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة في المال أو العدة. يعني من صفات العاقل التوسط في تحصيل المعاش والاقتصار بقدر الكفاف وهو القدر الذي يحتاج إليه في بقاء شخصه ويتقوى به في عبادة ربه غير متجاوز عن ذلك الحد لعلمه بحقارة الدنيا ومفارقته لها إلى دار القرار ووقوفه للحساب بين يدي الملك الجبار فيبعثه ذلك إلى إعداد زاد الآخرة والانقطاع عن حبل العلائق وصرف العمر في طلب الحقائق والاجتناب عن زوائد الدنيا والاختيار في طريق المعاش أحسن الطرائق وهو طريق التوسط ومن صفات الجاهل صرف العمر في تحصيل ما لا يحتاج إليه من زهرات الدنيا وزخارفها الموجبة للخسران وفي استكثار الأموال والأسباب للغلبة على غيره من أبناء الزمان وذلك يوجب فرار طبعه السقيم عن إدراك معالم الدين حتى يأتيه الموت بغتة وهو من الهالكين.

(والحكمة وضدها الهوى) الحكمة ما يمنع من الجهل والحكيم من منعه عقله منه أخذت من حكمة الدابة وهي حديدة اللجام لأنها تمنع الدابة عن الجموح والمراد بها العلم والعمل النافعين في الآخرة واتباع ما هو الأصلح والأنفع فيها لا ما اشتهر من العلم بحقائق الأشياء والتصديق بأحوالها والعمل بما يقصد به العمل إذ هو شامل للحكمة النظرية بأقسامها أعني علم ما بعد الطبيعة وعلم الرياضي وعلم الطبيعي وللحكمة العملية بأقسامها أعني تهذيب الأخلاق وتدبير المنازل وسياسات المدن والظاهر أنه لا مدخل لأصول الرياضي في الدين والشارع لا يرغب فيها، وهي علم الهندسة الباحث عن المقادير وأحكامها ولواحقها وعلم الحساب الباحث عن أحوال العدد وخواصه، وعلم النجوم الباحث عن اختلاف أوضاع الأجرام العلوية بنسبة بعضها إلى بعض وبالنسبة إلى الأجرام السفلية وعن مقادير تلك

ص: 274

الأجرام وأبعادها (1).

وعلم التأليف الباحث عن أحوال المؤلفة، وعلم الموسيقى الباحث عن تناسب الأصوات بعضها ببعض وكمية زمان سكناتها وحركاتها وكيفية إخراجها عن مواضعها، وكذا لا مدخل لفروعها فيه، مثل علم المناظر والمرايا وعلم الجبر والمقابلة وعلم جر الأثقال، وكذا لا مدخل فيه لأصول الطبيعي الباحثة عن الزمان والمكان والحركة والسكون والنهاية واللانهاية وعن الأجسام البسيطة والمركبة وكيفية حدوث الحوادث الهوائية والأرضية وعللها مثل الصاعقة والمطر والرعد والبرق والزلزلة وأمثالها، وكذا لا مدخل لفروعها فيه مثل الطب والفلاحة وغيرهما. والهوى مصدر هواه إذا أحبه واشتهاه ثم سمي به الهوى المشتهى محمودا كان أو مذموما ثم غلب على المذموم والمراد به هنا المعنى المصدري أعني اتباع المهويات الذميمة واقتفاء المشتهيات القبيحة. ووجه كون الحكمة من جنود العقل وأعوانه والهوى من جنود الجهل وأنصاره ظاهر إذ بالحكمة (2) يتنور قلب العاقل حتى يفهم المشروعات والمحظورات والمستحيلات ويبصر المقاصد الشرعية ويهتدي إلى وجوه المصالح الدنيوية والاخروية ويحصل له بذلك من القول والفعل والعقل حالة وثيقة وملكة شريفة لا يرد عليها الانتقاض ولا يعتريه الانتقاص (3)

ص: 275


1- 1 - ليس المراد بالحكمة المذكورة في هذا الموضع من الحديث علم الحكمة الاصطلاحي لإنه (عليه السلام) جعلها في مقابل الهوى ولو كان المراد العلم الاصطلاحي لجعله في مقابل الجهل أو السفاهة والغباوة وأمثالها وهذا هو الصحيح في الاحتجاج لا ما ذكره الشارح (رحمه الله) من أن الشارع لا يرغب في العلوم الرياضية كالنجوم إذ فيه مؤاخذتان الأولى أن الشارع رغب في علم النجوم وأمثاله بقوله (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - إلى قوله - لآيات لقوم يعقلون) لأن فيها دلائل على التوحيد كما رغب في العلوم الطبيعة في آيات كثيرة وفي الطب والتشريح والجامع لذلك كله (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) والمؤاخذة الثانية أن كل شئ رغب فيه الشارع لا يجب حمل كل كلام عليه وظاهر كلام الشارح أن ما يتعلق من علم الحكمة الاصطلاحي بالإلهيات وعلم النفس وتهذيبها وبالجملة ما رغب فيها وهي غير العلوم الرياضية والطبيعة داخل في المراد (ش).
2- 2 - يعني به علم الحكمة الإلهية فإن صاحب هذا العلم يعرف المشروع والمحظ بالحكمة العملية عرفانا جيدا مأخوذا من وجهه ودليله ويعرف المعقول من المستحيل بالحكمة النظرية مثل أن يد الله وعين الله بالمعنى الجسماني محال وأنه ليس في جهة ومكان وأن الكلام النفساني محال وأنه لا يجوز القبيح عليه تعالى كتقديم المفضول على الفاضل ويبصر المقاصد الشرعية أي يعرفها على بصيرة مثل أن الغرض من العبادة تهذيب النفس فيجتنب الرياء (ش).
3- 1 - لأنه علم كل مسئلة اعتقادية بدليل لا تعتريه شبهة فاستقام بخلاف أهل التقليد والجهال وربما ترى في كلام أصحاب الحديث أن إيمان الجهال أتقن وأحكم من كثير من العلماء وهو بمعزل عن الصواب مردود على قائله. (ش)

إلى أن يرد في ساحة الحق والجاهل لما كان قلبه مظلما بحيث لا يجد إلى معارف الحق دليلا ولا إلى منازل القدس سبيلا إذ اتبع الهوى وارتكب المحظورات واستمر على المحرمات وانهمك في المشتهيات زادت ظلمته وغلبت كدرته فهو في بيداء الجهالة طاير، وفي ظلمات بعضها فوق بعض حاير، حتى يطلع صبح يوم القيامة عن افق الموت وأي يوم (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

(والوقار وضده الخفة) الوقار بالفتح الرزانة، والمتانة، وقد وقر الرجل وقارا فهو وقور أي رزين متين إذا كانت نفسه مطمئنة في تحصيل المطالب مستقيمة في الوصول إلى المآرب بحيث لا يحركها الغضب ولا يهزه المكاره بسهولة ولا يتجاوز عن الحد اللايق به عقلا وشرعا وهو من جنود العقل في تصاعده من المنازل السافلة وعروجه إلى المقامات العالية في الدنيا والآخرة لأن عدم انفعال النفس بورود المكاره وعدم اضطرابها بنزول المصائب وعدم تزلزلها بمشاهدة النوائب راحة حاضرة ومنفعة ظاهرة والعفو عن جرائم الناس والصفح عنها وعدم الغلظة عليهم بتسكين ثوران الغضب واطفاء نيران الغيظ والتعب وترك ما يوجب الفرقة بين التصاغر والتشاجر والتقاطع والتخاذل والتنازع والتشاتم والطيش والعجلة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ومحامد الأمور التي يوصف بها أهل المجد والشرف والنجدة والرزانة، ويوجب الرفعة عند الخالق والخلائق، ويجلب محبتهم ومودتهم.

والخفة وهي الطيش والعجلة والجزع لفوات قليل والفرح لطلب كثير والاضطراب لأمر يسير والتزلزل لشئ حقير من صفات الجاهل لأن قلبه سخيف وعقله خفيف ولبه في تيه الجاهلة حاير كأنه موضوع على جناح طاير فيتحرك ويضطرب دائما وذلك يثير الفتنة العظمى والبلية الكبرى، ويسومه سوء العذاب، ويورده في مورد العتاب، ويخلع عنه لباس الكرامة، ويجره إلى ذل المهانة في الدنيا والآخرة.

(والسعادة وضدها الشقاوة) قال الله تعالى (فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) والسعيد الحقيقي من آمن وصدق بالله وملائكته ورسله إيمانا لا يفوته عمل ولا يشوبه دغل ولا ينوبه زلل ولا يعرضه خلل وتصديقا يقوي به عقله على التحرز من المكائد الشيطانية والوساوس النفسانية واللذات الجسمانية ويستعد به ذهنه لشروق أنوار المعارف الآلهية وبروق مكارم الأخلاق الربانية بحيث ينظر بعين التفكر في ملك الأرضين وملكوت السماوات; ويرى الحق بعين البصيرة في عجائب المخلوقات وبدائع

ص: 276

المصنوعات ويرتوي من زلال عيون الكمالات ويخلع عن نفسه لباس الشهوات ويجتنب من هموم الدنيا وعلائق حالاتها ويتوجه إلى أمر الآخرة وشواهق مقاماتها فيصير نورا في نفسه ومصباحا لغيره ذلك فضل الله سبحانه على عباده المرسلين والأئمة الطاهرين ومن اقتفى آثارهم من العباد الصالحين، والشقي الحقيقي من كفر بالأمور المذكورة ووقع في مهاوي الضلالة ومهالك الغواية وبينهما مراتب متفاوتة ومنازل متباعدة يجتمع فيها اسم السعادة والشقاوة بالإضافة فرب سعيد من وجه شقي من وجه آخر ومن غلبت سعادته فهو في جنات النعيم ومن غلبت شقاوته فهو في عذاب الجحيم ومن استوى فيه الأمران فهو في خطر عظيم ورحمة الله قدامه وهو الغفور الرحيم.

(والتوبة وضدها الإصرار) التوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه ومنعه من الوصول إلى الحق والندم على ما فرط والعزم على ترك المعاودة ودرك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال ورد المظلمة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه فمتى اجتمعت هذه الأمور تحققت حقيقة التوبة وكملت شرايطها وتاب الله تعالى وهي من أهم قواعد الإسلام وأول مقامات سالكي الآخرة، وقد اتفق أهل الإسلام على وجوبها فورا ومنافعها كثيرة منها أنها تخلع ثوب الدنس وتقطع عرق النجس، ومنها أنها تورث محبة الرب ورضوانه والدخول في جنانه قال الله تعالى (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وفيه فضل عظيم وشرف جسيم للتائب حيث ينال محبة الحق التي هي أعلى مقاصد السالكين بعدما كان في زمرة الهالكين، وقال الباقر (عليه السلام) (إن الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته ومزاده في ليلة ظلماء فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها) (1) فانظر أيها اللبيب إلى هذا الحديث الشريف وعلو مضمونه تجده كافيا في الترغيب إلى التوبة والتحريص عليها لو لم يكن غيره ولكن الآيات الكريمة والروايات الشريفة في باب التوبة وبيان فضلها أكثر من أن تحصى وهي من صفات العاقل وأجناده لأن العاقل قصده لقاء الله تعالى دائما وهمه النزول في ساحة عزه وهو يجوز ذلك في كل آن ويرقبه في كل زمان فأكبر مقاصده وأعظم مطالبه أن يطهر نفسه بالتوبة والندامة على ما يوجب البعد عنه من رجس الآثام قبل انتهاء وقت التكليف بالموت وانقضاء مدة العمل بالفوت بخلاف الجاهل فإن وصفه الاصرار على الذنوب والمعاصي والإقامة على الآثام والمناهي إذ هو لعميان بصيرته وفقدان سريرته ونقصان عقيدته محجوب عن درك الآخرة وحالاتها وعن نيل عناية الحق ومقاماتها فيظن أن غاية خلق الإنسان هي وصوله إلى هذه اللذات الحاضرة والمنافع الداثرة فيستمر عليها ويستبشر بها، وهو من الغافلين أو يظن بالآخرة ظنا ضعيفا يستعد به لقبول ما يتلو عليه الشياطين من تسويف التوبة

ص: 277


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب التوبة تحت رقم 8.

غدا بعد غد إلى أن يموت وهو من الخاسرين، ثم الإصرار بالذنب أعم من فعله على الاستمرار وفعله مرة مع عدم عزمه بالتوبة والاستغفار وما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله الله عز وجل (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) قال «الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الاصرار» (1) يحتمل الأمرين والظاهر منه هو الثاني ومن فسر الاصرار بتكرار ذنب واحد أو بإيجاد حقيقة الذنب في ضمن أنواع مختلفة من الذنوب بحيث يشعر بقلة المبالاة فقد غفل عن تحقق معنى الاصرار في ذنب واحد مع عدم التوبة.

(والاستغفار وضده الاغترار) الاستغفار من الغفر وهو الستر، والاغترار من الغرة بالكسر وهي الغفلة والجرأة، واعلم أن والي البدن كثيرا ما يطغى في الإمارة ويخون في الولاية ويعصي السلطان الأعظم في إرادته فيستعمل الجوارح الظاهرة والباطنة كلها أو بعضها في غير طاعته ثم إنه قد يستشعر بتقصيره وعصيانه وخيانته وطغيانه فيخاف أن يعاقب في الدنيا والدين وينكشف مساويه عند المقربين فيقبل بالطوع والاختيار ويتمسك بذيل الإقالة والاستغفار طالبا لغفران الذنوب وسترها على الكرام لئلا يفتضح بها عندهم يوم القيامة، ولمحوها باللطف العظيم والكرم العميم لئلا يعذب بسلاسل وأغلال في الجحيم، ويمحوها من لوح نفسه وصفحة الجنان لئلا يخجل بتذكرها بعد دخول الجنة وروضة الجنان ومستكملا لاستعداد الفوز بالرحمة في الدنيا بإنزال البركات وفي الآخرة برفع الدرجات والشاهد العدل على ذلك قوله تعالى: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) وقد يرفع الله تعالى باستغفار مؤمن العذاب الدنيوي عن جماعة من العصاة كما روي «أن الله تعالى يقول: إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين والمستغفرين بالأسحار صرفته عنهم» (2) ثم الاستغفار لا يتحقق معناه بمجرد هذا اللفظ بل لا بد في تحققه من أمور لا يتلقاها إلا الصابرون والمجاهدون كما يرشد إليها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لقايل قال بحضرته أستغفر الله فقال (عليه السلام) «ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان أولها: الندم على ما مضى، والثاني:

العزم على ترك العود أبدا، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس وليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيعتها فتؤدي حقها والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس:

ص: 278


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الاصرار على الذنب تحت رقم 2.
2- 2 - أخرجه البيهقي في شعب الايمان من حديث أنس بن مالك بسند ضعيف.

أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله» (1) وإذا عرفت هذا عرفت أن الاستغفار من جنود العقل وأعوانه في العود إلى الحق والقرب منه، والاغترار يعني الغفلة عن الحق والجرأة عليه والانخداع من النفس والشيطان الموجب للإصرار على المعاصي والاستمرار على الطغيان من جنود الجهل وأعوانه في البعد عنه والاستحقاق بمزيد الخذلان وأنا أستغفر الله وأقول كما قال الشاعر:

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه * من جود كفيك ما علمتني الطلبا أراد بذلك قوله تعالى (استغفروا ربكم إنه كان غفارا).

(والمحافظة وضدها التهاون) الحفظ الحراسة، والتحفظ التيقظ، والمحافظة المراقبة، والاستيهان والتهاون الاستحقار والاستخفاف، يقال: استهان به وتهاون به إذا استحقره واستحفظه ولم يبال، أراد أن حراسة النفس وتيقظها ومراقبتها في السير إلى الله سبحانه أو حراسة ما فعله من الصالحات وما أتى به من الخيرات ومراقبتها من أن تتطرق إليها الشبهات المبطلة والعقائد الفاسدة كالرياء والسمعة ونحوهما أو حراسة الطاعات والعبادات بالاتيان بها في أوقاتها مع شرايطها أو حراسة المؤمنين ومراقبة أحوالهم ومحافظة حقوقهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصايص العاقل لأنه يعلم بنور عقله أن له في كل قدم يرفعها لله تعالى قرينا من الشيطان مترصدا لإغوائه وفي كل منزل عدوا من الغيلان منتظرا لإضلاله وإن الله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما هو خالص من المفاسد مقرون مع الشرايط واقع في أوقاتها، وأن المؤمنين كنفس واحدة، وهو لكماله في العقل بمنزلة راعيهم وحافظهم، فلا يغفل عن المحارسة ولا يغمض من المراقبة أبدا بخلاف الجاهل فإنه دائما غافل عن الحراس، بعيد عن الحفاظ مستحقر لذلك العدو، غير مبال به مع كمال قوته وكثرة مكيدته، مستخف بالطاعات متهاون بالعبادات مضيع للأوقات حتى يرده الشياطين إلى أسفل السافلين ألا ذلك هو الخسران المبين.

(والدعاء وضده الاستنكاف) الدعاء في اللغة النداء والصيحة تقول دعوت فلانا إذا ناديته وصحت به، وفي العرف طلب الرحمة والفيض من الله سبحانه على وجه الخضوع والاستكانة وهو من أجل مقامات الموحدين وأفضل درجات السالكين لكونه مشعرا بالذل والانكسار، وإقرارا بصفة العجز والافتقار، ومظهرا لتعلق ربقة الحاجة بربقة الامكان، واعترافا بانغماس الممكن في غمرة المسكنة والنقصان، وقد وردت الآيات المتكاثرة والروايات المتواترة من طريقة الخاصة والعامة في الترغيب فيه والحث عليه حتى صار شرعه من ضروريات الدين وهو من شعار الصالحين والصديقين وآداب الأنبياء

ص: 279


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 417.

والمرسلين فإن حكاية آدم ونوح وذي النون وموسى وأيوب وداود وسليمان وعيسى وغيرهم (عليهم السلام) ودعاء خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله) وسيد الوصيين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) وكمال تضرعهم وخشوعهم في القرآن العظيم مذكورة وفي كتب السير مسطورة وفي دفاتر المتقدمين والمتأخرين مزبورة وفي ألسنة الخواص والعوام مشهورة بحيث لا مساغ للرد والانكار ولا مجال للعناد والاستنكار، وما خالج بعض الأذهان من أن المطلوب بالدعاء إما أن يكون معلوم الوقوع لله تعالى أو معلوم اللاوقوع وعلى التقديرين لا فائدة لأن الأول واجب والثاني ممتنع، وبعبارة أخرى إما أن يكون وقوعه مصلحة للداعي أو لا يكون فعلى الأول يقع وإن لم يطلب لأن الله يفعل ما هو صالح العباد قطعا، وعلى الثاني لا يقع وإن طلب فطلبه على التقديرين عبث، وأيضا أعظم مقامات العارفين الرضا بالقضاء والدعاء ينافي ذلك، فالواجب عن الأولين أن كل كائن وفاسد موقوف في كونه وفساده على شرائط وأسباب كما علم من موضعه ودل عليه أيضا ما روي من أن الله تعالى يأبى إلا أن يجري الأشياء بأسبابها (1).

إذا كان كذلك فلعل الدعاء من شرائط وجود المطلوب ومصالحه كما أن شرب الدواء من شرائط صحة المريض وأسبابه فالمطلوب مع الدعاء معلوم الوقوع ومصلحة وبدونه معلوم اللاوقوع وغير مصلحة، وبالجملة هذا العالم عالم الأسباب والأشياء تجري بأسبابها والعبد لعدم كونه عالما بكيفية علم الله تعالى بالأشياء وقضائه إياها يكون دائما بين الخوف والرجاء ويجوز كون المعلوم والمقتضى مقيدا بالدعاء ويتأكد ذلك بقوله تعالى: (ادعوني أستجب لكم) فذلك لا يترك الدعاء في البأساء والضراء، على أن لنا أن نقول الدعاء لا يخلو من فائدة عظيمة ومنفعة جليلة لأنه إن كان من شرائط وجود المطالب وأسبابه ففائدته ظاهرة، وإن لم يكن كذلك سواء كان المطلوب مصلحة في نفسه من غير شرطية الدعاء وسببيته أو لم يكن مصلحة أصلا كان الدعاء عبادة مستقلة بل هو من أفضل العبادات كما دل عليه الروايات المعتبرة فيورث ثوابا جزيلا وأجرا جميلا في الآخرة، والجواب عن الأخير أن العبد إذا دعا كان دعاؤه من جملة القضاء فكيف يكون منافيا له. والحاصل أن المنافي للقضاء ما لا يجامعه والقضاء إذا تعلق بشئ مقيد بشرط أو سبب لا يكون ذلك السبب والشرط منافيين له، وما روي «أن الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما» (2) فمعناه - والله أعلم - أن الدعاء يوجب اختيار أحد الفردين من القضاء التخييري مثلا إذا تعلق القضاء بموت هذا المريض بشرط عدم طلب صحته وببقائه بشرط طلبها كان هذا القضاء متعلقا بأمرين متضادين مشروطين بشرطين متقابلين واختيار أحدهما موكول إلى العبد فأيهما

ص: 280


1- 1 - الكافي كتاب الحجة باب معرفة الإمام والرد إليه تحت رقم 7.
2- 2 - الكافي كتاب الدعاء باب (أن الدعاء يرد البلاء والقضاء).

اختار فقد رضي بالقضاء، وإذا عرفت أن الدعاء من أشرف مقامات السالكين عرفت أن ضده وهو الاستنكاف يعني الأنفة والكراهة والترفع والعدول عن الدعاء الموجب للبعد عن الحق من أخس صفات الجاهلين والهالكين قال الله تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) والعبادة هي الدعاء.

(والنشاط وضده الكسل) النشاط في العبادة من كمال المراتب الانسانية وهو ينبعث من عدم النقص اللاحق للنفس بسبب كلال بعض القوى الطبيعية عن أفعالها وعدم وقوف الأعضاء وفتورها عن أعمالها بسبب تحلل الروح وضعفه ورجوع إلى الاستراحة ولا شبهة في أن ذلك من صفات العاقل الذي فك عنه بالهمة الصادقة قيود الأغلال البشرية ودفع عنه بالنية الخالصة أو زار الأثقال البدنية، وأنار بنور عقله أعضاءه الظاهرة حتى يرى شخصه في هذا العالم وروحه لخفته ونورانيته في عالم الروحانيين، يطير مع الملائكة المقربين، فله من النشاط في العبادة ما لا يدخله سامة من جد ودؤوب، ولا إعياء من كد ولغوب، ولا نقصان من تطرق قصور، ولا استحسار من طريان فتور كما قال سبحانه في وصف الملائكة (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار ولا يفترون) والكسل يعني التثاقل في العبادة من صفات الجاهل والمحبوس في سجن الطبيعة البشرية والمغلول بأغلال لواحق القوة الشهوية والمصفود بصفاد عوارض القوى البدنية فهو ثقيل لا يحركه ريح النشاط عن مركزه إلى الدرجة العليا، ولا شوق العبادة عن موضعه إلى المرتبة القصوى، فيرضى - وهو كسلان - بالدون من الحياة الدنيا.

(والفرح وضده الحزن) الفرح السرور يقال: فرح به أي سر، وأفرحه وفرحه تفريحا إذا سره، والفرح أيضا البطر والأسر وهذا ليس بمراد هنا لأنه من صفات الجاهل لقوله تعالى (إن الله لا يحب الفرحين) والحزن خلاف السرور يقال حزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه، وهذه الفقرة تحمل معنيين الأول أن يكون الفرح كناية عن البشاشة وطلاقة الوجه للاخوان، والحزن كناية عن الكلوح والعبوس، والثاني - وهو الأظهر - أن العاقل لكونه عارفا بالمعارف الالهية وعالما بالحكم الربانية، ومستشرقا لأنوار الحق تابعا لهداه ومقبلا على عبادة ربه معرضا عما سواه، مسرور مبتهج فرح أبدا في الدنيا والآخرة بما آتاه الله من الفضيلتين العلمية والعملية إذ لا لذه أعظم منهما ولو نظر إلى ما يوجب الشرور في دار الغرور والتفت التفاتا ما إلى خسايس هذه الأمور بسبب شيطان قاده إليها أو ميل

ص: 281

نفس حرضه عليها أخذت بضبعيه الأنوار العقلية (1) وتوقظه من رقدة الغفلة في المراقد الطبيعية، وحذيته العناية الالهية من ورطة الهلكة الأبدية وأيدته على إبليس وجنوده فيجتهد في مقاومته ويتخلص من مصائده ويترصد لدفع حيله ويثبت في رفع مكائده، فيحصل بذلك ابتهاج وسرور أيضا لغلبته على عدوه، وأما الجاهل الفاقد لهاتين الفضيلتين والمقهور في أسر ذلك العدو فهو حزين في الدارين إذ لا ألم أعظم من ذلك في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فظاهر لأن الآلام الأخروية التي توجب الهم والغم والحزن عند مشاهدة السلاسل والأغلال ومعاينة الشدايد والأهوال، ظاهرة غير محتاجة إلى البيان. وأما في الدنيا فلأن الاعراض عنه سبحانه والاشتغال بما سواه كما هو وصف الجاهل ألم نفساني ومرض روحاني يوجب هما وغما وحزنا في نفس الأمر ولا يقدح فيه غفلته وتوهمه أن ذلك أنفع له كما أن السم [ألم] مهلك وإن توهم شاربه أنه أنفع له على أنه قد يصدق على مقتضى عقله الفطري بأن الأولى به والأنفع له هو متاع الآخرة سيما عند معاينة الموت فيحصل له ألم شديد وحزن طويل ولكن لا ينفعه ذلك ما بقي على حاله أن الخائن المعذب بسبب الخيانة يصدق بأنه كان الأولى به ترك الخيانة ويحزن ويتأسف ولا ينفعه ذلك.

(والالفة وضدها الفرقة) الألفة توافق الآراء والعقائد في تدبير المعاش والمعاد وهي فضيلة مندرجة تحت العدالة التي هي الاستقامة في القوى الفكرية والغضبية والشهوية والمتوقفة على كثير من الفضائل النفسانية مثل التحمل والتواضع والرقة والحياء والرفق والصبر والوقار والورع والعفو والمروءة والسماحة والمسامحة والصداقة والوفاء والشفقة والتودد إلى غير ذلك من الأمور المعلومة لمن تأمل في فضائل النفس، وكونها من صفات العاقل ظاهر لأن هذه الأمور المذكورة لا يتصف بها إلا عاقل راض نفسه في ميدان المجاهدة، ولأنه يعلم بشروق عقله أنه يحتاج في غذائه ولباسه ومسكنه ودفع أعدائه وتحصيل أمر الآخرة وترويج الشريعة إلى التناصر والتعاون والتعاضد وكل ذلك متوقف على الالفة، والفرقة من أخس صفات الجاهل لاتصافه برذايل نفسانية مؤدية إليها أو لأنه لظلمة قلبه لا يراعي عواقب الأمور ومدى نظره إنما هو جلب منفعة حاضرة ودفع كل ما هو عائق عنها ولو بسفك الدماء كما هو المشاهد من أبناء الزمان ولا ريب في أن ذلك موجب للمعاندة والمفارقة ويحتمل أن يراد بالألفة الألفة بأهل البيت (عليهم السلام)، وبالفرقة التباعد عنهم، وقيل: الوجه في كون الالفة من عالم الوحدة والجمعية، والجهل صفة النفوس المتعلقة بالأجسام وصورها التي وجودها عين قبول الانقسام والافتراق ووحدتها

ص: 282


1- 1 - الأنوار العقلية هم الملائكة الموكلون بتسديد عباد الله وهدايتهم إلى التقوى والاخذ بالضبعين كناية عن هذا التسديد والتأييد والضبع تحت العضد (ش).

عين كثرة ووصلتها عين انفصال ومباينة فكل واحد من ذوي النفوس الجزئية قبل أن يستكمل ذاته عقلا بالفعل لا يحب إلا نفسه بل يعادي غيره ويحسده على ما آتاه الله من فضله فإذا أحب بعضهم بعضا فإنما أحبه ليتوسل به إلى هواه وشهوته فما أحب إلا نفسه ولذلك إذا ارتفعت الأغراض والأعواض بينهم كما في الآخرة رجعوا إلى ما كانوا عليه من الفرقة والعداوة كما في قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).

(والسخا وضده البخل) السخاء في اللغة الجود يقال: سخا يسخو إذا جاد بماله، وسخو الرجل بالضم يسخو سخاوة أو صار سخيا، وفي الاصطلاح ملكة توجب إنفاق الأموال وساير المقتنيات في موضعه على قدر لابد منه بسهولة ومن شرايطه أن يأخذ الشئ من موضعه ويضعه في موضعه فلو صرف الحرام في المستحقين أو صرف الحلال في غيرهم لا يكون سخيا ولا يستحق بذلك ثوابا وتلك الملكة خلقية في الأكثر وقد تكون كسبية حاصلة بكثرة الإعطاء ومزاولة الجود، فإن غير الطبيعي قد يصير طبيعيا بالممارسة وهي فضيلة نفسانية مندرجة تحت العفة التي هي الاعتدال في القوة الشهوية، ويندرج تحت السخا كثير من الملكات والفضائل، منها الكرم وهو أن يسهل على النفس إنفاق الكثير فيما نفعه عام على وجه يقتضيه المصلحة، ومنها الإيثار وهو أن يسهل عليها صرف ما يحتاج إليه في الفقراء والمساكين، ومنها المواساة وهي أن يسهل عليها تشريك المستحقين في ماله وأسبابه، ومنها المسامحة وهي أن يسهل عليها ترك ما لا يجب عليها تركه، ومنها العفو وهو أن يسهل عليها ترك المجازاة بالظلم مع القدرة، ومنها المرؤة وهي أن يكون لها رغبة صادقة على التحلي بحلية البذل وإعطاء ما ينبغي، ومنها النيل وهو أن يكون لها ابتهاج بمداومة الأفعال الحسنة والخصال المرضية; ومنها الصداقة وهي أن يكون لها اهتمام على تحصيل أسباب صديقه بقدر الامكان، ومنها الالفة وهي أن يكون لها اعتناء بتدبير معاش الخلطآء، ومنها الوفاء وهو أن تلتزم طريق المواساة والمعاونة، ومنها الشفقة وهي أن يكون لها همة صادقة على إزالة المكروهات عن الغير، ومنها المكافات وهي أن تقابل الإحسان بمثله أو زائد عليه، ومنها حسن الشركة وهو أن تراعي الاعتدال في المعاملات، ومنها التودد وهو إظهار المحبة للأقران وأهل الفضل وتلقيهم بطلاقة الوجه وحسن البشر، ومنها صلة الرحم وهي أن تراعي حقوق الأقربآء وتشاركهم في الخيرات الدنيوية والاخروية، ومنها التوكل وهو تفويض أمرها إلى الله سبحانه، ومنها الصبر وهو أن لا نجزع من فوات المال وغيره، ومنها القناعة وهي أن لا تحرص على جمع ما لا يحتاج إليه. ومنها الوقار وهو أن تكون ساكنة في تحصيل المطالب غير مضطربة، ومنها الورع وهو أن تجتنب

ص: 283

عن الأفعال القبيحة; ومنها الحرية وهي أن تقتصر على اكتساب المال من الطرق الجميلة ولذلك كانت السخاوة والجود من صفات الأنبياء والمرسلين والصديقين ومن اقتفى آثارهم من الصالحين الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله ووعده ووعيده في الحشر والنشر والثواب والعقاب وراعوا بصدق الهمة في أحوال الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمستحقين وقصدوا بخلوص النية رفع الحوائج عنهم لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، وقد دل العقل والنقل على شرافة تلك الفضيلة وعلو منزلتها، أما العقل فإن عباد الله عياله ومن قام لقضاء حوائج عيال أحد في حال حضوره وغيبته ووطن نفسه على رعاية حقوقهم ونظر بعين التلطف والشفقة إليهم كان عند صاحب العيال مكرما معززا محبوبا سيما إذا كان كريما قادرا على جميع أنحاء الإكرام والله سبحانه لم يجعل أحدا فقيرا لأجل الهوان ولا غنيا لأجل استحقاقه بالفضل والإحسان بل إنما فعل ذلك لأجل المصلحة والامتحان فمن نظر إلى الفقراء والمحتاجين بعين الحقارة وخطر بباله أنهم لا يستحقون الكرامة من الله سبحانه وإلا لأعطاهم ورفع حاجتهم فهو جاهل بالمصالح الإلهية وكافر بالحكم الربانية ويتوجه إليه الذم في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين) وأما النقل فلقوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبرا جنة وحريرا) وقول أبي الحسن (عليه السلام) «السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس والسخاء شجرة في الجنة من تعلق بغصن من أغصانها دخل الجنة» (1) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة وهي أكثر من أن تحصى، والبخل وعدم بذل المال سيما فضله في وجوه الفقراء والأقرباء من صفات الجاهل ومبدؤه حب الدنيا والرغبة عن الآخرة وخوف الفقر وسوء الظن بالله وبمواعيده الصادقة وبعده عن التوكل والزهد والشفقة والرقة والرحمة والتعطف لغلظة طبعه ورداءة نفسه وسوء خلقه وشرارة ذاته، فيبعثه ذلك على استمساك المال عن نفسه فضلا عن غيره فلذا قال سيد الوصيين (عليه السلام): «عجبت للبخيل الذي يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الغنى الذي إياه طلب فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حسب الأغنياء» (2) وسبب التعجب أنه اختار البخل خوفا من الفقر وضنك العيش يوما ما مع أنه يدخل في الفقر

ص: 284


1- 1 - الكافي كتاب الزكاة باب معرفة الجود والسخاء تحت رقم 9.
2- 2 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 126.

وضنك العيش باعتبار أنه لا ينفق على نفسه ولا على عياله ولا على غيره وبالجملة البخل عار في نفسه جامع لمساوي العيوب وهو زمام يقاد به إلى كل سوء وكفاك شاهدا قوله تعالى في قصة قارون وأمثاله وقوله تعالى (ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إذا لم يكن لله في عبد حاجة ابتلاه بالبخل» (1) وأمثال ذلك من الآيات والروايات أكثر من أن تحصى (ولا تجتمع هذه الخصال كلها من أجاد العقل) التي بها يقاتل الجهل وجنوده في ملك الأبدان وساحة القلوب وهذه الخصال من حيث أن بها يتحقق التناصل والتسابق إلى الخيرات تسمى خصالا; ومن حيث عروضها تسمى صفات، ومن حيث عدم رسوخها بعد تسمى أحوالا، ومن حيث رسوخها بالتمرن والتدرب تسمى أخلاقا وملكات ومن حيث إطاعتها للعقل وعدم خروجها عن حكمه تسمى خوادم. ومن حيث كونها محفوظة بحفظ العقل وحراسته عن الآفات تسمى رعايا; وما ورد في بعض الأخبار من الأمر بمراعاة الراعي لرعيته يندرج فيها هذا أيضا ومن حيث أنها أعوان للعقل في محاربته للجهل تسمى أجنادا (إلا في نبي أو وصي نبي أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للايمان) أي اختبره بالشدائد والمحن والرياضات والفتن لتحقق الايمان (2) له أو ليتحقق له الايمان الكامل أو صقله وجلاه من كدر الأرجاس وطهره ونقاه من دنس الأخباث من محنت البئر محنا إذا أخرجت ترابها وطينها (وأما ساير ذلك) المذكور (من موالينا) جمع الموالي وهو يطلق على المعتق بالكسر والفتح وعلى ابن العم والعصبة كلها ومنه قوله تعالى (وإني خفت المولى) وعلى الرب والمالك ومنه قوله تعالى (ثم ردوا إلى الله موليهم الحق) وقوله (عليه السلام) «أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها» على الناصر والمحب ومنه قول تعالى (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) والمراد به هنا الأخيران (فإن أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود) وذلك ظاهر فإن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ففيهم بعض الخصال المذكورة من جنود العقل قطعا (3) وبحسب ما وجد منها فيهم يتنور قلوبهم ويصفو أذهانهم ويرتفع درجتهم وذلك

ص: 285


1- 3 - الكافي كتاب الزكاة باب البخل والشح تحت رقم 3.
2- 1 - يقول أهل العصر ممن له استهتار بأصحاب الطبايع إن عبادة رب لا يرى ينافي الأمر بمتابعة العقل وتعظيم شأنه وهكذا كلام شيطاني نقل من الملاحدة وأصحاب الدهر وأجاب بعضهم بأن الادراك بالوجدان كالادراك بالعيان. والاعتراض ساقط من أصله إذ الانسان العاقل إذا قامت الأدلة على وجود واجب الوجود عبده وإن لم يره ولم يجده ولم يعرف حقيقته وأما أن كل موجود محسوس فمن أغلاط الواهمة سيأتي إبطاله في مباحث التوحيد إن شاء الله. (ش)
3- 2 - واعلم أن كون العقل حجة ودليلا لا ينافي ما ورد في ذم القياس من أن دين الله لا يصاب بالعقول وليس شئ أبعد من عقول الرجال من أحكام الله تعالى لأن العقل حجة فيما أفاد اليقين والنهى إنما هو عن الظن إذ لا يستفاد من القياس أكثر من الظن والاحكام الشرعية الفرعية مما لا طريق للعقل إليه غالبا كوجوب صوم شهر رمضان وحرمة صوم العيد وقد يكون للعقل إليه طريق فيكون حجة كحرمة القتل والسرقة وغصب أموال الناس وقال بعض من لا خبرة له إن العقل لا يحتج به في الأصول والمقررات الأولية ويحتج به في التجزية والتحليل وتطبيق الاحكام على مقتضيات الأزمان والحق عدم الفرق بينهما فما حصل من العقل اليقين فهو حجة في الأصول الأولية وغيرها وما لم يحصل لم يكن حجة مطلقا والتجزية والتحليل والتطبيق ألفاظ مبهمة لا محصل لها وإن كان للتجزية والتحليل معنى معقول فهو القياس بعينه وتطبيق الاحكام على مقتضى الأزمان غلط لأن الاحكام الإلهية لا تغيير بتغير الأزمان والشرع المحمدي (صلى الله عليه وآله) ناسخ لجميع الشرايع وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة والله ورسوله أعلم بمقتضى كل زمان ومصالحها حيث حكما ببقاء هذا الدين إلى الأبد. ثم إنه مثل مثالا لتغيير أحكام الإسلام بمقتضى الزمان وهو أن عبد الملك بن مروان أراد هدم دار في جوار المسجد الحرام وجعلها فيه فلم يرض صاحب الدار بكل قيمة وتحير عبد الملك ولم يدر ما يفعل لأن غصب أموال الناس حرام في الشريعة ولا يجوز بناء المسجد والصلاة في المكان المغصوب فدلوه على زين العابدين (عليه السلام) فأفتاه بهدم الدار وعدم استحقاق صاحبها القيامة لأن بناء المسجد كان سابقا على بناء الدور. وهذا غير صحيح وعلى فرض صحته أجنبي عن المقام لأن الكلام في أن غير المعصوم أمثالنا لا يجوز لنا تغيير حكم الله تعالى الذي ورد من النبي والأئمة المعصومين، وأما الأئمة لنفسهم فقولهم حجة مأخوذ من الله تعالى بالوحي والالهام فحكمهم حكم الله تعالى وهو حكم الشرع بعينه وهذا مثل ما حكموا بقطع يد السارق مع حرمة قطع اليد وبيع أموال المديون قهرا عليه لأداء حق الديان مع عدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه ولا يلزم من جواز التخصيص والتقييد بل النسخ من الله تعالى في أحكامه أن يجوز لنا أيضا ولعل زين العابدين (عليه السلام) علم بإخبار غيبي إلهي أن تلك الدار كانت غصبا من المسجد وقد روي في الكافي والتهذيب ونقل في الوسائل عنهما في أبواب مكان المصلي ما يؤيده عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث سئل عما زيد في المسجد الحرام قال إنهم لم يبلغوا بعد مسجد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) وقال : إن إبراهيم وإسماعيل حدا المسجد ما بين الصفا والمروة وفي رواية أخرى بين الحزورة والمسعى. ثم إن ما نقله عن زين العابدين (عليه السلام) نقلوه عن الخليفة الثاني ولا نعرف معنى كلامه ولا حجة في قوله ولم يحكم أحد من أئمة المسلمين إن من سبق إلى عمارة أرض له حق فيما يجاوره كلما احتاج إليه بحيث يجوز له هدم بناء من لحقه في العمارة. وروي عن عبد الصمد بن سعد وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف عن أبي جعفر المنصور وأبي عبد الله (عليه السلام) نظير ما نقل هذا القائل عن عبد الملك وزين العابدين (عليه السلام) وكذا عن رجل آخر مرسلا عن المهدي ولا حجة في هذه أصلا وأما عبد الملك بن مروان فلم يزد في المسجد الحرام شيئا على ما صرح به المؤرخون كالطبري والكامل والمعتنون بتاريخ مكة والكعبة كالازرقي والفاكهي والفاسي في شفاء الغرام وصاحب كتاب الاعلام بإعلام بيت الله الحرام ولا ريب أن جميع حوادث مكة المشرفة مضبوطة حتى إنهم ذكروا عدد السيول التي جرت والسنين التي وقعت فيها والقحط والغلا في كل سنة حدثت فضلا عن ولاتها وعمارة المسجد وغير ذلك وأصل الحكاية فرية بلا مرية. نظير ما ادعاه من ترويج المتوكل مذهب الأشعري وكان متأخرا عنه بمائة سنة (ش).

متفاوت في الكم والكيف والعدد على تفاوت أنحاء التركيبات الغير المحصورة المتصورة فيها ولذلك لا تجد اثنين منهم متفقين في خصلة واحدة لا توجد فيها تفاوت، وإنما قال: «من موالينا» فان غيرهم قد

ص: 286

يخلو من جميع هذه الخصال ويكون قلبه معسكر الجهل وجنوده كلها وفي أطرافه وثغوره حراس بحيث لا يجد العقل إليه دليلا ولا إلى استطلاع حاله سبيلا كما قال الله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب أليم) وقد يوجد في بعضهم بعض جنود العقل كالسخاء ونحوه ولكن لا ينفعه لفقده ما هو أعظم منه وأصل للجميع أعني الايمان الذي هو موجب للرحمة والدخول في الجنة فهو دائما في الدرجة السفلى محشورة مع الشياطين.

(حتى يستكمل وينقى من جنود الجهل) وذلك الاستكمال أمر ممن لأنه لما بنى دينه على أصل متين وأمر يقين وحصل له بعض الخصال المرضية والأنوار العقلية أمكن له تكميل ذاته بسائر الخصال النورانية والعروج إلى أعلى مدارج الكمال بجذبة من الجذبات الربانية وتنقيته بهمة صادقة ونية خالصة وقدم ثابتة من جنود العقل وأعوانه وذلك بأن يكون متيقظا في جميع الأوقات ومراعيا لحاله في جميع الحالات ويختار من الأعمال والعقائد والصفات ما هو في الشرع أحكم وأتقن، وعند العقل أفضل وأحسن فينظر مثلا إلى الصلة والسخاء ومنافعهما وإلى القطيعة والبخل ومضارهما ويختار الأولين على الأخيرين وكذا دائما (فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء) وحسن أولئك رفيقا وإنما لم يذكر المؤمن الممتحن إما للاقتصار أو للإشارة إلى أن هذا المستكمل هو ذلك المؤمن (وإنما يدرك ذلك) أي الاستكمال بجميع تلك الخصال أو الكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء والأول أولى لفظا ومعنى (بمعرفة العقل وجنوده ومجانبة الجهل وجنوده) وجه الحصر ظاهر لأن العمل بشئ متوقف على العلم به، ولأن التمييز بين الحق والباطل متوقف على العلم بكون هذا حقا وذاك باطلا، وإنما لم يقل وبمعرفة الجهل وجنوده كما قال في الأول لأمرين أحدهما أنه إذا حصلت معرفة العقل وجنوده حصلت معرفة الجهل وجنوده بالمقابلة لأن كل ما ليس عقلا وجنوده فهو جهل وجنوده في حالات الإنسان، وثانيهما أن المقصود الاهم هو مجانبة الجهل وجنوده لأنه الغالب في الأكثر والموافق للنفوس البشرية (وفقنا الله وإياكم لطاعته ومرضاته) الرضوان بالضم والكسر والرضى والمرضاة بمعنى واحد وهذا من كلام الصادق (عليه السلام) ودعاء لنفسه ولمن كان حاضرا عنده من مواليه، ولمن غاب عنه ولمن يوجد إلى يوم القيامة من باب تغليب الحاضر على الغائب، وفيه تنبيه على أنه لا بد لطالب الخير من الالتجاء إليه سبحانه وطلب التوفيق منه إذ بيده الخير وهو على كل شئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* الأصل:

اشارة

ص: 287

15 - «جماعة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي ابن فضال، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط، وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».

* الشرح:

(جماعة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط) كنه الشئ نهايته يقال «أعرفه كنه المعرفة أي نهايتها ولا يشتق منه فعل وقولهم لا يكتنهه الوصف بمعنى لا يبلغ كنهه كلام مولد وقد يكون كنه الشئ حقيقته التي هو بها هو، وفيه إشارة إلى كمال عقله (صلى الله عليه وآله) فإنه نور رباني لا يدانيه شئ من العقول إذ كما أن الأنوار متفاوتة فنور الشمس والقمر والكواكب والمصباح واليراعة بعضها فوق بعض لا يكون اللاحق مثل السابق، فكذلك العقول متفاوتة في الدرجات والمراتب وعقله (عليه السلام) أعلى الدرجات الممكنة وأقصى المراتب المتصورة وهو مظهر للحقايق والمعارف الإلهية ومعدن للأسرار والمعلوم الربانية ومدرك لما يعجز عن إدراكه عقول البشر ويقف دون الوصول إليه الفكر والنظر فلذلك ما كلم العباد أبدا بحقيقة ما عرفه ونهاية ما بلغه وكيفية ما عقله لئلا يقعوا في الحيرة وقد بعث لازاحتها وأرسل لازالتها، ولأن الغرض من الكلام إنما هو الافهام والمخاطب إذ ألم يفهم كان ذلك عبثا والحكيم لا يبعث. ولذلك كانت الحكماء يوصفون بضنة الحكمة عن غير أهلها» (1) ومن هذا القبيل ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قام عيسى ابن مريم خطيبا فقال: يا بني إسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (2) وينبغي أن يعلم أن المراد بالعباد أكثرهم فانا نعلم قطعا أن عليا (عليه السلام) نفسه المقدسة كما دلت عليه آية المباهلة وغيرها من الروايات وأنه كلمه وعلمه بكنه ما عقله مما هو كائن ويكون في الدنيا والآخرة.

(وقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما معاشر الأنبياء) أي جماعاتهم جمع معشر وهي الجماعة (امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) أي على قدر ما يدركه عقولهم من المعارف والحقايق وغيرها لأن الحكيم النحرير يراعي في تعليم العقول الناقصة المتحيرة في تيه الضلالة والنفوس المنكدرة برين الغواية وغين

ص: 288


1- 1 - قال الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في أول كتاب الإشارات: وأنا أعيد وصيتي وأكرر التماسي أن يضن بما يشتمل عليه هذه الاجزاء كل الضن على من لا يوجد فيه ما اشترطه في آخر هذه الإشارات، ومنع في آخر الكتاب من تعليم الحكمة لطائفتين الأولى الجاهلين المبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة - إلى آخر ما قال - والثانية ملحدة هذه المتفلسفة وهمجهم - إلى أن قال - فإن أذعت هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلا (ش).
2- 2 - سيأتي في كتاب العلم باب بذل العلم تحت رقم 4.

الجهالة وتأديبها بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق والفضائل وتخليصها عن غواشي الأوهام ومساوي العيوب والرذايل وما يناسبها ويبلغ إليه فهمها وينتهى إليه دركها (1) وقد يلبس المطالب بكسوة الأمثال لعلهم يفهمون كما قال سبحانه (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) وبالجملة الناس أطفال وعقولهم غير بالغة وهو (صلى الله عليه وآله) معلم والمعلم الرباني لا يعلم الأطفال إلا بما يناسب حالهم وتبلغ إليه عقولهم وينتهى إليه ذهنهم.

* الأصل:

اشارة

16 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع وترتهنها المنى وتستعلقها الخدائع».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن قلوب الجهال تستفزها الأطماع) أي تستخفها ويفزعها وتزعجها وتطيرها وتسلب طمأنيتها، والأطماع جمع طمع وهو معروف وقد يجئ بمعنى الرزق يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم أي بأرزاقهم وينشؤ ذلك من تموج القوة الشهوية واضطرابها حتى تستولي على ساحة القلب

ص: 289


1- 3 - يدرك أرباب العقول الكاملة فضلا عن الأنبياء أمورا لا يمكن تعليمها لعامة الناس بوجه أصلا لعدم استعدادهم لفهمها فيجب عليهم تخصيص تعليمها بمن يجدون فيه استعدادا تاما ويدركون أيضا أمورا يمكن تعليمه للناس في صورة مثل وتعبير قريب إلى أذهانهم وأعظم الآفات للعامة تمكن العادات ومغالطة الأوهام وعدم تدربهم في فك العقل عن الوهم ولكل شئ في ذهنهم لوازم غير مترتبة عليه واقعا ولا يتوقع منهم ما يعسر على المتدربين في العقليات مثلا الفرق بين الحدوث الزماني والحدوث الذاتي والفاعل بالاختيار والعلة التامة، فإنهم رأوا كل علة تامة فاعلا غير مختار كالنار للحرق والشمس للنور ورأوا كل فاعل مختار علة ناقصة كالانسان وإذا قيل لهم إن الله فاعل مختار ذهب ذهنهم إلى أنه تعالى علة ناقصة وإذا قيل إنه تعالى علة تامة ذهب ذهنهم إلى أن فاعل لا بالاختيار ويشمئزون من كلا الحكمين ولا يسهل عليهم الجمع بينهما ولا يمكن أيضا أن يفهم العامة معنى قول العلامة الحلي (رحمه الله) في شرح التجريد إن إعادة المعدوم ممتنعة ويذهب ذهنهم إلى إنكار المعاد وكذلك قوله إن احتياج الممكن إلى الواجب لإمكانه لا لحدوثه وقولهم المحال غير مقدور ولا يعرف الناس معنى المحال ولا يفرقون بين المحال العادي والعقلي بل ولا بين النادر الوقوع والمحال العادي أيضا ويظنون مثل شق القمر والمعراج محالا وقد ورد أن المرأة تحتلم ولكن لا تحدثوهن ولو كان احتلامهن عادة كالرجل وجب تعليمهن لوجوب الغسل والصلاة عليهن ولكن منعوا (عليهم السلام) من تعليمهن لأن ذلك أمر نادر فإذا حدثن بذلك ذهبت أوهامهن إلى أن ذلك عادة مستمرة لهن فيغتسلن لكل رطوبة لزجة في مفاسد اخر وكثير من مسائل الفقه مما يذهب ذهنهم من جوابها إلى أمور باطلة وان كان الجواب صحيحا وإن أفتيت بولاية الجائر ذهبت أوهامهم إلى تجويز كل ظلم أو تجويز الصفق ذهبت إلى كل منكر وفحشاء وهكذا. (ش)

فيصير مظلما إذ أخرج يده لم يكد يراها، وعند ذلك يعدل عن الصراط المستقيم وهو الوثوق بالله العظيم إلى ما هو من أخس مكايد الشيطان وضر أحوال الإنسان وهو الطمع فيما في أيدي الناس فيقع في وثاق الذل وعبودية العباد ويحرم عما سيق له من الميعاد في دار المعاد وهو أصم لا يسمع نصح الناصح الأمين قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذلك وهن منك في الدين، واسترزق الله مما في خزائنه فإن ذلك بين الكاف والنون، إن الذي أنت ترجوه وتأمله من البرية مسكين بن مسكين وأما العاقل فهو مع علمه بأن مورد الطامع قد لا يكون باعثا لتحصيل المراد ولا سببا لإصدار ما أراد بل يتخلف عنه المرام ويصير ذلك موجبا لتضييع الأيام يرى في صفاء مرآة قلبه وخامة مآل تلك الأحوال فيفر منها فرار الجبان من مشبل معها الأولاد والأشبال.

(وترتهنها المنى) المرتهن الذي يأخذ الرهن والمنية والأمنية واحد والجمع المنى والأماني فتشبيه المنى بالمرتهن مكنية وإثبات الارتهان لها تخييلية، والراهن هو النفس الأمارة بالسوء، وفيه مبالغة بليغة على كمال إفلاسها حيث رهنت لغاية اضطرارها وعدم اهتدائها المظلوم ما هو أشرف متاع البيت وهو القلب وينشؤ ذلك من الافراط في القوة الشهوية ومرضها الذي يسري إلى البصاير ويوهنها ويطمس نورها ويمنعها من إدراك المعارف وما ينفع في اليوم الآخر فلا محالة يتوجه إلى الشهوات الزايلة والزهرات الحاضرة والأماني الباطلة وينظر إليها بعين الظاهرة فيتمنى دائما حصول ما لا يبلغه وبناء ما لا يسكنه وجمع ما يتركه لانتفاء الزاجر فلا يبالي من باطل جمعه ومن حق منعه ومن حرام حمله وأما العاقل فيعلم بنور بصيرته أن أشرف الغنى ترك المنى والاعتماد على الموالي. وبخلوص سريرته أن الأماني آفة تعمي أعين البصاير التي في الصدور حتى لا ترى وخامة عواقب الأمور فيحصل له همة صادقة تبعثه على فطام النفس عن الشهوات ونزع القلب عن أيدي الأماني والشبهات وصرف النظر عن الخلق والرجوع بالكلية إلى الحق (وتستعلقها الخدايع) بالعين المهملة والقاف يقال: علق الشئ بالشيء تعليقا فتعلق به وعلق بابا على داره إذا نصبه وركبه وعلق بالشيء بكسر اللام بمعنى تعلق واستعلق هنا بمعنى علق بالكسر لا لمجرد الطلب إلا أن فيه مبالغة لأن الواقع مع الطلب أشد وأقوى، وخدعه ويخدعه خدعا أي ختله وأراد به المكروه والضرر من حيث لا يعلم والاسم منه الخديعة وجمعها الخدايع ومعناه بالبفارسية (ميچسبد بقلب جاهل خديعه ومكر) وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن الجاهل شأنه أن يخدع غيره ويمكر به ويريد إيصال المكروه والضرر إليه لغرض من الأغراض الفاسدة كما قال سبحانه في وصف المنافقين (يخادعون الله) أي يخادعون أولياءه وثانيهما أن شأنه الانخداع وقبول الخديعة والمكر من الخادعين الماكرين كثيرا سريعا لقلة عقله وضعف بصيرته وسوء

ص: 290

تدبيره في عاقبة أمره، وأما العاقل فله عينان في الظاهر وعينان في الباطن وبذلك ينتظم حاله ظاهرا وباطنا لا يخدع غيره تحرزا عن صفات المنافقين ولا ينخدع من غيره كثيرا كما هو شأن المؤمنين قال (صلى الله عليه وآله): «المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين» (1) قيل في بعض النسخ «تستلقها» بالقافين أي تجعلها الخدايع منزعجة منقطعة عن مكانها. وفي بعضها بالغين المعجمة من استغلقني في بيعة أي لم يجعل لي خيارا في رده.

* الأصل:

اشارة

17 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه; عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبيد الله الدهقان، عن درست، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبيد الله الدهقان، عن درست عن إبراهيم بن عبد الحميد) مشترك بين رجلين أحدهما مستقيم من رجال الصادق (عليه السلام) والآخر واقفي من رجال الكاظم (عليه السلام) (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا) العقل نور رباني يفرق بين الحق والباطل ويستبان به المعارف والعواقب ويترك به الذمايم والقبايح، ويتبعه قوة الالتفات إلى جميع المحاسن والفضايل التي منها حسن الخلق، واختلف العلماء في تعريفه فقيل هو بسط الوجه وكف الأذى وبذل الندى وقيل: هو أن لا يظلم صاحبه ولا يمنع ولا يجفو أحدا وإن ظلم غفر، وإن منع شكر، وإن ابتلي صبر، وقيل: هو صدق التحمل وترك التجمل، وحب الآخرة وبغض الدنيا والحق أن كل هذا تعريف له بالآثار والأفعال التابعة له الدالة عليه وأنه هيئة راسخة حاصلة للنفس بصفاتها اللايقة، وذلك النور كما يتنور به الباطن ويهتدي به كل عضو منه إلى ما يليق به كذلك يتنور به الظاهر ويهتدي به كل عضو منه إلى ما خلق لأجله لما بين الظاهر والباطن من مناسبة بها يتعدى حكم كل واحد منها إلى الآخر، وعند ذلك يستقيم الظاهر والباطن ويتوجه كل واحد منهما إلى ما هو مطلوب منه، ومما هو مطلوب منه هو حسن الخلق فحسن الخلق تابع لذلك النور المسمى بالعقل، ولا شبهة في أن العقول متفاوتة في النور والضياء تفاوتا فاحشا لا تكاد تنحصر في عدد وبتفاوتها الأخلاق التابعة لها تفاوتا عظيما، فقد ظهر أن العقل كلما كان أكمل وأتقن كان الخلق أكمل وأحسن، وأيضا العقل محل للحكمة الإلهية والمعارف الربانية وهي توجب محبته تعالى ومحبته توجب محبة عباده من حيث أنهم عباده وصنايعه لأن من أحب أحدا أحب جميع أفعاله من حيث أنها أفعاله وكما يقتضي محبة الله تعالى تعظيمه

ص: 291


1- 1 - رواه احمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة في سننه تحت رقم 3983.

ظاهرا وباطنا كذلك يقتضى محبة عباده تعظيم وتكريمهم وتلطفهم ظاهرا وباطنا وهي حسن الخلق ولكن لما كانت درجات معرفته متفاوتة ومراتب محبته مختلفة كانت مراتب حبتهم أيضا كذلك ومن ههنا أيضا يتبين أن العقل كلما كان أكمل كان الخلق أحسن ولذلك قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (إنك لعلى خلق عظيم) لأن عقله فوق جميع العقول وأسناها، ومعرفته فوق جميع المراتب وأعلاها، ومحبته فوق جميع الدرجات وأقصاها، فخلفه فوق جميع الأخلاق وأقواها ولذلك اتصف بالعظمة البالغة التي لا تبلغ العقول إلى منتهاها.

* الأصل:

اشارة

18 - «علي [عن أبيه] عن أبي هاشم الجعفري قال: كنا عند الرضا (عليه السلام) فتذاكرنا العقل والأدب فقال: يا أبا هاشم العقل حباء من الله، والأدب كلفة فمن تكلف الأدب قدر عليه، ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إلا جهلا».

* الشرح:

(علي بن أبي هاشم الجعفري) اسمه داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب ثقة جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) شاهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمد (عليهم السلام) وكان شريفا عندهم وله موقع جليل عندهم وروى أبوه عن الصادق (عليه السلام) (صه) (1) نقل سيد الحكمآء هذا العنوان هكذا علي عن أبيه، عن أبي هاشم الجعفري، ثم قال وأما ما يروى في عدة من النسخ علي عن أبي هاشم الجعفري فغلط من إسقاط الناسخ فان أحدا من العليين الذين يعنيهم الكليني في صدور الأسانيد وهم علي بن محمد المعروف بعلان وعلي بن محمد المعروف أبوه بماجيلويه، وعلي بن إبراهيم بن هاشم لم يرووا عن أبي هاشم الجعفري من غير واسطة (قال: كنا عند الرضا (عليه السلام) فتذاكرنا العقل والأدب فقال: يا أبا هاشم العقل حباء من الله والأدب كلفة فمن تكلف الأدب قدر عليه. ومن تكلف العقل لم يزدد بذلك إلا جهلا) الحباء بالكسر العطاء، يقال: حباه حبوة أي أعطاه وفي المغرب الأدب أدب النفس والدرس وقد أدب فهو أديب، وأدبه غيره فأدب وتركيبه يدل على الجمع، والدعاء ومنه الأدب لأنه يأدب الناس إلى المحامد أي يدعوهم إليها (2).

وقيل: الأدب اسم يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضايل، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الآداب حلل مجددة» (3) يعني كما أن الشخص يتزين بالحلل كذلك يتزين بالآداب مثل العلم وما يتبعه من حسن المجاورة والمعاشرة وأمثالها.

ص: 292


1- 1 - رمز إلى كتاب خلاصة الأقوال للعلامة الحلي (رحمه الله).
2- 2 - تقدم تحقيقه ص 243.
3- 3 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 4.

وقال بعض أهل المعرفة: للأدب شعب كثيرة فلذا قال بعضهم: هو ما يتولد من صفاء القلب وحضوره، وقال بعضهم: هو مجالسة الخلق على بساط الصدق ومطالعة الحقايق بقطع العلايق، وقال بعضهم: هو وضع الأشياء موضعها، وقال بعضهم: أدب اللسان ترك ما لا يعنيه، وإن كان صدقا فكيف الكذب، وأدب النفس معرفة الخير والحرص عليه ومعرفة الشر والانزجار عنه، وأدب القلب معرفة حقوق الله تعالى والاعراض عن الخطرات المذمومة، والكلفة ما يتكلفه الإنسان من المشاق ويتجشمه يعني أن العقل عطية من الله تعالى وغريزة في الإنسان وجوهر رباني خلقه وجعل نوره في القلب الهداية إلى خير الدنيا والآخرة وليس للعبدة قدرة على اكتساب ذلك الجوهر لنفسه كما أنه ليس ذلك في وسع المجانين وساير الحيوانات الفاقدة له فمن تكلف في تحصيله وتجشم في اكتسابه كان سعيه عبثا، ومع ذلك يزداد به جهله حيث اعتقد أنه عاقل لما لا يليق به ولا يقدر على فعله وارتكب ما يفضى إلى الدور، نعم الآداب التي يرشده العقل إليها ويدله عليها وهي من توابع حركاته وسكناته الموافقة لقانون الشرع والعرف داخلة تحت قدرته فله السعي في اقتنائها والاجتهاد في اكتسابها ليرتقي من حضيض النقص إلى أوج الكمال، فإن قلت لا شبهة في أن أصل العقل منه تعالى فهل درجاته السنية ومراتبه العلية التي تحصل بكثرة التجارب والمعارف واقتراف العلوم والحقايق واكتساب الآداب والفضايل منه تعالى أو من العبد (1)؟ قلت: النظر إلى ظاهر هذا الحديث وظاهر ما مر «ولا أكملتك إلا فيمن أحب» وظاهر قوله «إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» إلى غير ذلك من الأخبار المتكثرة يفتضى أنها منه تعالى وتلك العلوم والآداب وإن كان لها مدخل في حصولها لكنها ليست عللا فاعلية لها بل هي شرائط لتحققها وصدورها من المبدء الفياض كما أن الدهن شرط أو معد لزيادة ضوء المصباح وأصل الضوء وزيادته وكماله منه تعالى (2).

* الأصل:

اشارة

19 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إن لي جارا كثير الصلاة، كثير الصدقة، كثير الحج لا بأس به قال: فقال: يا إسحاق كيف عقله؟ قال: قلت له: جعلت فداك ليس له عقل، قال: فقال: لا يرتفع بذلك

ص: 293


1- 1 - احتمال كونه من العبد ساقط من أصله مبنى على اعتقاد العوام من أن بعض الأشياء بفعل الله وبعضها بفعل غيره وينسبون إلى الله ما لا يجدون له سببا (ش).
2- 2 - وكذلك كل شئ في العالم ليس له علة فاعلية غير الله تعالى لأن غيره لا يقدر على ايجاد شئ والسحاب والريح والأمطار علل معدة للنبات لا فاعلة والحرارة والقوة المصورة في الرحم كذلك معدات للجنين والوجود من الله تعالى ولا بنور الشمس شيئا ولا نار يحرق إلا بالاعداد ولا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى (ش).

منه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن مبارك) في بعض كتب الرجال أنه من أصحاب الرضا (عليه السلام) وما رأيت اسمه في الخلاصة (عن عبد الله بن جبلة عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إن لي جارا كثير الصلوة كثير الصدقة كثير الحج) لفظ الكثير منصوب على أنه صفة لأن الإضافة اللفظية لا يكتسب تعريفا، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو والصفة حينئذ جملة (لا بأس به) لعل المراد من نفي البأس هو أنه من أهل الولاية أو أنه من أهل الصلاح لا يؤذي أحدا (قال: فقال: يا إسحاق كيف عقله؟) لما بالغ إسحاق في وصفه بالأعمال الصالحة سأل (عليه السلام) عن أصل تلك الأعمال وهو العقل الذي يميز بين الحق والباطل ويوجب الإقرار بالحق تنبيها على أنه هو الحري بالاتصاف به لأنه نور يبصر به خير الدنيا والآخرة (قال: قلت: جعلت فداك ليس له عقل، قال: فقال لا يرتفع بذلك منه) أي لا يرتفع عمله بسبب أنه ليس له عقل منه، وفي بعض النسخ «لا ينتفع بذلك منه» أي لا ينتفع ذلك الرجل بسبب أنه ليس عقل من عمله وهنا شئ وهو أنه إن أريد بقوله: «ليس له عقل» نفي العقل عنه مطلقا حتى ما هو مناط التكليف كما هو الظاهر أو نفى كونه من أهل الولاية كناية كان عدم ارتفاع عمله محمولا على الظاهر لأن عمل غير المكلف وعمل غير الإمامي ليس مرتفعا، ولكن تلك الإرادة ينافي ظاهر ما تقدم، وإن أريد به نفي الكمال يعني نفي العقل المستتبع للعلوم الدينية والمعارف اليقينية كان عدم الارتفاع مأولا بأنه لا يرتفع عمله كاملا ولا يبلغ درجة عمل ذوي العقول الكاملة، فأن رفعة العمل والثواب عليه على قدر العقل كما مر في عابد بني إسرائيل أو بأن هذا الحكم أعني عدم رفع العمل بالكلية في خصوص الجار المذكور كما يشعر به لفظة منه لعلمه (عليه السلام) بفساد علمه في الواقع.

* الأصل:

اشارة

20 - «الحسين بن محمد، عن أحمد بن محمد السياري عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لأبي الحسن (عليه السلام): لماذا بعث الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى (عليه السلام) بآلة الطب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء بالكلام والخطب فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب

ص: 294

على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم وإن الله بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيالهم الموتى وأبرء الأكمة والأبرص باذن الله وأثبت به الحجة عليهم وإن الله بعث محمد (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنه قال:

الشعر - فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم، قال:

فقال ابن السكيت: بالله ما رأيت مثلك قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ قال: فقال (عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب».

* الشرح:

(الحسين بن محمد) بن عمران بن أبي بكر الأشعري الثقة (عن أحمد بن محمد السياري) ضعف ونسب إلى التناسخ (عن أبي يعقوب البغدادي) اسمه يزيد ابن حماد بن الأنباري السلمي ثقة (قال:

قال ابن السكيت) اسمه يعقوب بن إسحاق ثقة ثبت عالم بالعربية واللغة مصدق لا يطعن عليه وكان متقدما عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث (عليهما السلام) قتله المتوكل لأجل التشيع (لأبي الحسن (1) (عليه السلام) لماذا بعث الله موسى بن عمران) في «ماذا» ثلاثة أوجه الأول أن يكون مجموعه بمعنى أي شئ والثاني أن يكون «ما» بمعنى أي شئ «وذا» زائدة، والثالث أن يكون «ما» بمعنى أي شئ و «ذا» موصولة بمعنى الذي، وهو على جميع هذه التقادير سؤال عن سبب اختصاص كل نبي من الأنبياء (عليهم السلام) بإعجاز مخصوص (بالعصا ويده البيضاء) (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (وآلة السحر) من باب عطف العام على الخاص، والمراد بها ما يناسب السحر ويشبه عند القاصرين مثل الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في نواديهم والنقصان في مزارعهم، والسحر في اللغة ما دق مأذه ولطف سواء كان مذموما شرعا أو عقلا أو ممدوحا ومنه قوله (عليه السلام): «إن من البيان لسحرا» قيل: هذا يحتمل المدح والذم، المدح من حيث أن صاحبه قادرا على استمالة القلوب بحسن عبادته ولطف دلالته وإفصاح مرامه وإبلاغ كلامه، والذم من حيث أنه قادر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن وفي الاصطلاح قيل: هو أمر خارق مسبب عن سبب يعتاد كونه عنه فيخرج المعجزة والكرامة لأنهما لا يحتاجان إلى تقديم أسباب وآلات وزيادة اعتمال بل إنما تحصلان بمجرد توجه النفوس الكاملة إلى المبدء جل شأنه، وأيضا الاعجاز يتحقق عند التحدي دون السحر.

وقيل: هو كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو عمل شئ يؤثر في بدن المسحور أو عقله أو قلبه من غير مباشرة، ومنه عقد الرجل عن زوجته وإلقاء العداوة والبغضاء والتفرقة بينهما وذهب أكثر الأصحاب

ص: 295


1- 1 - ذكرنا في حواشي كتاب الوافي (صفحة 33 وما بعده) ان المسؤول هو أبو الحسن الثالث أعني الهادي (عليه السلام) وذكرنا هناك وجهه ومن الناس من نسب الحديث إلى الرضا (عليه السلام) وهو خطأ ورأيت بعد ذلك من نسبه الكاظم وهو أخطأ لعدم علم قائله بالرجال وعدم تدبره (ش).

وبعض العامة إلى أنه لا حقيقة له وإنما هو تخيل محض وتوهم صرف ولا تأثير له أصلا ولا مستند لهم يعتد به على أن التأثير بالوهم يتم لو سبق للمسحور علم بوقوعه وقد يجد أثره من لا يشعر به أصلا، والظاهر أن له حقيقة في نفس الأمر كما دل عليه ظواهر القرآن والأخبار وذهب إليه أكثر العامة وبعض الأصحاب وإليه ميل الشهيد الثاني ومن شاهد من الأجسام ما هو قتال كالسموم وما هو مسقم كالأدوية الحارة مثلا وما هو مصحح كالأدوية المضادة للمرض لا يبعد في عقله أن يكون تركيب مخصوص في الكلام وتلفيق معين في الكلمات وهيئة مخصوصة في العقود ونحوهما مما يؤدي إلى الهلاك والتفرقة أو السقم أو اختلال الحال إلى غير ذلك من المفاسد وأن ينفرد الساحر بعلم ذلك كما ينفرد صاحب التجربة بخواص الدواء (وبعث عيسى (عليه السلام) بآلة الطب) أي بما يشبه بها من إبراء الأكمه والأبرص وأنواع الأمراض المزمنة وإحياء الموتى. والطب بالحركات الثلاث والكسر أشهر وهو في اللغة الحذاقة وكل حاذق طبيب عند العرب وفي الاصطلاح علم تعرف به أحوال بدن الإنسان من حيث الصحة والفساد والغرض منه حفظ الصحة وإزالة المرض.

(وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء بالكلام والخطب) يحتمل أن يراد بالكلام القرآن الكريم البالغ في الفصاحة والبلاغة حد الاعجاز الخارج عن قدرة البشر وبالخطب الكلام النبوي المشتمل على غاية الفصاحة والبلاغة بحيث لا يدانيه كلام أحد من البلغاء ولا تركيب أحد من الخطباء والفصحاء، ويحتمل أن يكون العطف لتفسير الكلام ويراد به الجنس (فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر) كما (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المداين حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) (فأتاهم من عند الله لم بما يكن في وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجة عليهم) كما قال سبحانه (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فالقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون) لعلمهم بأن ما جاؤوا به من التمويهات النفسانية والتدليسات الشيطانية والصناعات الانسانية وما جاء به موسى (عليه السلام) من المعجزات الربوبية والبراهين الملكوتية والعنايات الإلهية فوقع الحق في قلوبهم وثبت الايمان في صدورهم وتقرر الايمان في نفوسهم حتى لم يبالوا بلومة اللائمين ووعيد الظالمين بالقتل والصلب وقالوا (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) وإذا وقعت الغلبة على الماهرين في جنس ما كانوا على قادرين وهم أذعنوا بها وجب على ضعفاء العقول اتباعهم على أنا نعلم قطعا أن الله سبحانه يلقي في قلوبهم عند ذلك أنه إعجاز تكميلا للحجة عليهم وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة كما يرشد إليه

ص: 296

قول الصادق (عليه السلام) «ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه وذلك أن الله يقول في كتابه (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)» (1).

(وإن الله تعالى بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات) جمع الزمانة وهي آفة في الحيوانات، ورجل زمن أي مبتلى بين الزمانة وفي المغرب الزمن الذي طال مرضه زمانا (واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله) أي بما عجزوا عن الاتيان بمثله فإن ما جاء به (عليه السلام) هو إزاحة الزمانات وإزالة الأمراض والآفات بمجرد القوة الروحانية وتوجه نفسه القدسية، وطلب ذلك من الله تعالى من غير فتش أسباب الأمراض واستعمال الأدوية المناسبة لها وهم قد عجزوا عن ذلك إذ غاية سعيهم هي المعالجة بمقتضى القوانين الطبية والعمل بأحكامها واستعمال الأدوية المناسبة بزعمهم بعد تفتيش الأسباب والخطأ في أمثال ذلك كثير (وبما أحيا لهم الموتى وأبرء الأكمه) وهو الذي ولد أعمى أو الممسوح العينين (والأبرص بأذن الله) البرص بياض براق أملس في الجلد واللحم معا ولموضعه غور لقلة نفوذ الغذاء فيه فيضمر ويغور، وقلة النفوذ إنما يكون لبرد العضو وتكاثفه وانسداد مساماته بالمادة الفجة ومن علاماته بياض الشعر وعدم خروج الدم بغرز الابرة، ومن أسبابه انصباب أخلاط ردية باردة رطبة في العضو غير قابلة لفعل القوة المغيرة الثانية (2) في التشبيه وإن لم يكن تلك القوة ضعيفة في نفسها أو ضعف تلك القوة في نفسها عن التأثير والتشبيه وعلى التقديرين يتولد البلغم الأبيض لأن سوء الهضم يوجب تولده وإذا تمكنت هذه المادة أحالت كل غذاء ورد عليه إلى مزاجها فيصير شبيها بها، وقد يكون البرص سوادا وسببه مادة سوداوية كثيرة تتراكم في الجلد وما يقرب منه، فيزاد بذلك حجم ذلك الموضع ويتكاثف جدا ويتمدد ويتقشر ويسقط منه فلوس كفلوس السمك وقوله «باذن الله» دفعا لتوهم الالوهية فان أمثال الأفعال المذكورة ليست من جنس الأفعال البشرية.

ص: 297


1- 1 - سيأتي في كتاب الايمان والكفر ان شاء الله.
2- 1 - القوة المغيرة اثنتان الأولى ما يفصل المني إلى مزاجات مختلفة لكل عضو عضو لأن مزاج اللحم غير مزاج العظم وهكذا; ولابد من هذه القوة إذ لو فرض بطلانها صار الجنين قطعة من اللحم من غير تقسيم. والمغيرة الثانية وتسمى المصورة أيضا هي التي توجب تخطيط الأعضاء وتشكيلها وهذه القوة أو قوة مثلها موجودة في كل عضو من بدن الإنسان إلى آخر زمان حياته لأن الغذاء إذا تحول إلى الاخلاط وخصوصا الدم كان له مزاج واحد متشابه وإذا وصل إلى العين مثلا تبدل صورته إلى شئ وإذا وصل إلى العظم تحول إلى شئ آخر، والجلد واللحم كذلك وهذا التبدل والتغير متوقف على تأثير القوة الفاعلة واستعداد المواد القابلة حتى يتشبه الغذاء في كل عضو بسائر أجزائه ولولا هذه القوة حدث أمراض منها البرص. وهكذا الكلام يدل على تبحر الشارح في علم الطب (ش).

(وأثبت به الحجة) عليهم لأنه ادعى النبوة وأتى ببينة من جنس ما هو المعروف بينهم وهم قد عجزوا عن الاتيان بمثلها وعلموا لأجل مهارتهم في صناعتهم أنها ليست من جنس أفعال البشر، بل هي من جنس أفعال خالق القوى والقدر، قد أظهرها على يده تصديقا لدعواه ولو أتى بينة أخرى غير ما هو المعروف عندهم لأمكن لهم التوهم بأنه ما هو في صناعته لو اجتهد غيره أيضا فيها صار مثله.

(وإن الله بعث محمد (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام - وأظنه قال:

الشعر -) بدلا من الكلام لا على الجمع والانضمام وإلا يقال والشعر والظن من أبي يعقوب وقد ذكروا في السير والآثار ونقلوا عن ثقات الرواة أنهم كانوا يلبسون كلامهم ما قدروا عليه من حلية الفصاحة والبلاغة، ويزينونه ما يوجب التفوق والبراعة، ويعمدون فيه ما يوجب طباقه بمقتضى الحال وارتقاؤه إلى أعلى مدارج الكمال، ويقصدون فيه أنواع المحسنات اللفظية والمعنوية وأنحاء بدايع النكت العربية وتناسب العبارات والاستعارات ولطائف التخيلات والمجازات ومحاسن الكنايات والتشبيهات إلى غير ذلك من الأمور التي تزيد في الكلام دقة وسحرا وفي القلب ابتهاجا وانبساطا وسرورا ويجعلونه كالعروس العارية عن مقابح العيوب التي ينفتح إليها عيون الظواهر وبصائر القلوب وكانوا يجتمعون ويتناشدون ويتفاخرون ويطلبون المعارضة بالمثل ويعتقدون الفضل لمن جاء بالأحسن منه.

(فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه) أي من مواعظه القرآنية وحكمه الفرقانية (ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم) لأنه أتاهم بالقرآن يشفي رمد بصاير أهل العرفان فان الاكتحال بكحل حقايقه يسقى كبد العطشان بالورود على زلال دقايقه ولا يحول فؤاد الأفكار إلى أقصى معارج عجابيه ولا يجول جواد الأنظار إلى أعلى مدارج غرايبه وهو نير مضىء لا يضل من ضوئه عقول المسافرين وعلم رفيع لا يعمى منه أبصار السائرين، وبحر زاخر لا يصل إلى قعره غوص العارفين، ومنهج واضح لا يزل فيه قدم السالكين، وشجرة نصوص لا يتحرك بهبوب صرصر الشبهات أوراقه وأغصانه. وبنيان مرصوص لا ينهدم بحوادث الخطرات حيطانه وأركانه، وناطق فصيح لا ينقطع بشبه المخالفين دلايله وبرهانه، وناصر معين لا يخذل بهجوم المعاندين أنصاره وأعوانه، ونور ساطع في قلوب أرباب العرفان، وشعاع لامع في صدور أصحاب الايمان، ومعدن الفضل والتوحيد والعدل والايمان، ومنبع العلم والجود والكرم والاحسان، وقد جعله الله سبحانه ريا لعطش العلماء وربيعا لقلوب الفقهاء، معراجا لعقول الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، فمن أراد معارضة أقصر سورة من سوره حلت به الندامة وظهرت فيه الجهالة والسفاهة إذ هو مصادر لأطوار الفصاحة، ومظاهر لأسرار البلاغة التي يعجز عن فهمها عقول الفصحاء ويقصر عن دركها فحول البلغاء، ويتحير فيها أذهان مصاقع الخطباء ولذلك بعدما خيروا بين

ص: 298

المعارضة باللسان والمقابلة بالسيف والسنان أعرضوا عن الأول مع طول المدة وكثرة العدة وشدة القوة وغاية العصبية ونهاية الأنانية وكمال الحرص في الغلبة والرسوخ في إظهار المفخرة لعلمهم بأن ذلك خارج عن قدرتهم وفايق على صنعتهم وبعيد عن طريقتهم فعلم أن ذلك وحي أنزله لهداية العباد من ظلم الضلالة ونور أظهره لارشادهم في بيداء الجهالة اللهم اجعله وسيلة لنا إلى أشرف منازل الكرامة، وسببا لنجاتنا في عرصة القيامة وذريعة نقدم بها على نعيم دار المقامة، وفيه دلالة واضحة على أن إعجاز القرآن لاشتماله على أمور غريبة وألفاظ رشيقة ومعان دقيقة ونكات لطيفة، إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن قدرة البشر.

وسر ذلك أن الله تعالى عالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه مثقال ذرة فإذا رتب لفظا فلاحاطته علما بكل بشئ يعلم الكلمة التي تصلح أن تليه ويعلم وجوه المعاني ومواضع استعمالات الكلام وحسن ابتدائها واختتامها حتى لو أريد تغيير شئ منها بأحسن من ذلك لم يمكن ولم يوجد وليس في قدرة البشر أن يحيطوا علما بكل شئ فلذلك تجد الفصيح منا قد يصنع الخطبة ثم لا يزال ينقح ويبدل. وما ذلك إلا لأنه ظهر له الآن ما لم يكن له ظاهرا قبل فلذلك صار القرآن حجة على الناس إلى يوم الدين لأنه لما نزل قوله تعالى (فأتوا بسورة من مثله) قال كل فصيح من الفصحاء: ما بال هذا الكلام لا يؤتى بمثله فلما تأمله تبين له ما تبين وصح عنده لا قدرة له على مثله وأنه من الله العزيز العليم فمنهم من آمن ومنهم من أبي حسدا، وقامت بهم الحجة على أهل العالم لأنهم كانوا من أرباب الفصاحة فإذا عجزوا فغيرهم أعجز وإلا فليأتوا بسورة من مثله، وذهب الأشعري إلى أن إعجازه بالصرفة (1) ومعناها أن الفصحاء كانوا قادرين على الإتيان بمثله إلا أن الله سبحانه صرف الهمة عنهم، وهو بهذا الوجه أيضا وإن كان آية من آيات الرسالة إلا أنه تحكم محض وقول بلا حجة، والوجه هو الأول. وله مع ذلك فضل على غيره من المعجزات لأن كل معجزة غيره لانقراضها لم يشاهد وجه إعجازها إلا من حضرها وهو باق

ص: 299


1- 1 - ولا ريب أن التعمق في البحث عن وجه إعجاز القرآن وسوسة فإنه إذا ثبت أن أحدا لم يأت بمثله من صدر الإسلام إلى الآن فهو معجز قامت به الحجة سواء كان سببه فصاحته أو اشتماله على الدقائق والنكات التي تقصر عن فهمها أذهان العرب أو احتوائه على الاخبار الغيبية أو الصرفة التي يقول بها السيد المرتضى - رحمه الله تعالى - أو لغير ذلك فإن توجيه الذهن إلى ذلك يوجب صرف الفكر عن نفس الاعجاز وهذا كما نعلم أن سحرة فرعون عجزوا عن معارضة موسى (عليه السلام) ولا نعلم أنه كان لنقصانهم علما أو لتصرفه أو لأن طبيعة عملهم غير طبيعة عمل موسى (عليه السلام) ونعلم بالاجمال أنهم عجزوا، وإجراء خوارق العادات من الله تعالى على يد الكاذب قبيح على الله تعالى وإلا لا يعرف أكثر الناس حقيقة السحر بل يزعمون أنه مغير للحقائق كالمعجزة كما قال فرعون (انه لكبيركم الذي علمكم السحر) (ش).

إلى قيام الساعة ففي كل زمان يحدث من يشاهد وجه إعجازه ويتجدد إيمانه ولأن فائدة غيره إنما هي إثبات الرسالة فقط، وفائدته إثباتها مع اشتماله على علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون، وعلم ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) من الوعد والوعيد والمواعظ والنصايح وجميع ما يحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة.

(قال: فقال ابن السكيت: بالله ما رأيت مثلك قط) بالله بدون ألف قبل الجلالة على ما هو المصحح من النسخ ولفظه «باء» تحتمل وجهين:

الأول أن يكون باء القسم أو تاؤه، والثاني أن يكون حرف النداء للتعجب ولما وقف ابن السكيت على سبب اختصاص كل نبي بإعجاز مخصوص من كلام معدن الرسالة مدحه بقوله «ما رأيت مثلك قط» يعني في العلوم وحضور الجواب، مصدرا بالقسم ترويجا للمدح وتنبيها على أنه من صميم القلب لا من باب الإطراء وظاهر اللسان كما هو شأن أكثر المادحين، أو بكلمة التعجب إشعارا بأن تفوقه (عليه السلام) على غيره بلغ حدا يعجز العقول عن الوصول إليه وعن إدراك كميته وسببه، ويحتمل أن يقرء يا الله بالاف وهو حينئذ للتعجب مثل لا إله إله الله وسبحان الله فان هذه الكلمات الشريفة كثيرا ما تستعمل للتعجب وفيه جواز مدح الرجل مواجهة بالفضايل الموجودة فيه ولكن جوازه مشروط بما إذا لم يكن موجبا لفخر الممدوح وتكبره ولما علم ابن السكيت أن كل عصر لا يخلو من داع إلى الله تعالى إما نبي أو وصي نبي، وعلم أن القرآن حجة على الخلق ودليل على صدق نبينا (صلى الله عليه وآله) سأل عن الحجة على الخلق والدليل على صدق الداعي بعده بقوله (فما الحجة على الخلق اليوم) إذ الدعاة متكثرة والآراء مختلفة والقرآن غير رافع للاختلاف إلا بتفسير صادق مؤيد من عند الله تعالى فلا بد اليوم من حجة يتميز بها الداعي الصادق عن غيره (قال: فقال (عليه السلام): العقل) وهو خبر مبتدء محذوف أي الحجة في هذا اليوم العقل أو مبتدء خبره قوله (يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه) لأن العقل يحكم بامتناع أن يمضي (صلى الله عليه وآله) ويضيع أمته ولا ينصب لهم خليفة، فمن نصبه فهو الصادق وغيره ممن يدعي خلافته فهو الكاذب ولأن العقل العاري عن شوائب الأوهام يعرف بعد نزول الكتاب وتقرير الدين وتكميل السنة أن الصادق على الله (1) هو الذي يعلم أحكام الكتاب والسنة وشرايع الدين ويحكم بها ويحفظ لها وأن

ص: 300


1- 1 - تأول الشارح هنا تأويلا حسنا حتى يدفع ما يختلج في الذهن من فساد ظاهر هذا الكلام لأن ما يتبادر إلى الذهن أن ابن السكيت سأل الإمام عن دليل النبوة في هذه الأزمنة المتأخرة لأن معجزات الأنبياء خاصة بزمانهم فأحال الإمام (عليه السلام) على العقل وهو أن يعرف صدق النبي الصادق وكذب الكاذب بالعقل فإن العاقل بعد تتبع سيرة الرجال يعرف دخلة أمورهم وهذا باطل جدا لأن النبوة سر باطني بين النبي وبين الله تعالى ولا يعرف إلا بالاعجاز وخوارق العادات ولا طريق للعقل إلى معرفة هذا السر. والسياري راوي هذا الحديث متهم بالجعل والالحاد كان يزعم كسائر الملاحدة أن الأنبياء كسائر نوابغ العالم فاقوا بعبقريتهم وفطنتهم وقوة ذكائهم والشارح تأول الكلام على وجه يستلزم كون معجزات نبينا (صلى الله عليه وآله) خصوصا القرآن حجة على أهل زمانه وعلى من بعده إلى يوم القيامة، وبالجملة ظاهر الكلام يدل على أن ابن السكيت سأل عن الحجة على النبوة والدليل على صحة دعواه (صلى الله عليه وآله) وصرفه الشارح السؤال عن الحجة أي الإمام في زمانه والدليل عليه (ش).

الكاذب على الله هو الذي لا يعلمها ولا يحكم بها وبالعقل تمت الحجة على الخلق فإن عملوا بمقتضاه من تصديق الصادق والعمل بما يأمره والانتهاء عما ينهاه وتكذيب الكاذب والاجتناب عن متابعته انتظم حالهم في الدارين وإن عملوا بالعكس ماتت قلوبهم ومرضت صدورهم حتى لا يؤثر فيهم البرهان ويستولي عليهم الشيطان وعلى هذا الوصف يموتون وينزل بهم ما كانوا يوعدون (قال: فقال ابن السكيت هذا والله هو الجواب) فيه مبالغة من وجوه أحدها اسمية الجملة لأنها من المؤكدات.

وثانيها الابتداء باسم الإشارة الدال على كمال الظهور، وثالثها تأكيد مضمون الجملة بالقسم لترويجه وتقريره، ورابعها تعريف البخر بالام المفيد للحصر، وخامسها التوسط بضمير الفصل الدال على تأكيد الحصر ووجه ظاهر لأن التمييز بين الصادق والكاذب لا يتحقق إلا بالعقل العاري عن شبهات الأوهام والخالي عن بليات الأسقام فإنه ميزان يوزن به مكائيل الأقوال فيميز بين الراجح والناقص وبين الصادق والكاذب فيصدق الصادق توقعا لنظام حاله ويكذب الكاذب تحرزا عن وخامة مآله ثم كون العقل حجة ليس مختصا بهذا اليوم ولا بهذه الأمة ولا دلالة في الجواب على ذلك، وإنما المقصود منه هو التنبيه على أن العقل حجة الله على عباده وعلى كمال تفطن العقلاء ولطافة قرايحهم حتى تمكنوا على تحصيل الايمان بالله واليوم الآخر وبالصادق الأمين من غير مشاهدة معجزات وملاحظة كرامات، بل لا يبعد القول بأن تأثير العقل بالاذعان أقوى وأشد من تأثير المعجزات فيه لأن تأثيره يوجب انقياد القلب وانشراح الصدر وانكشاف البصيرة بخلاف تأثيرها فإنه يوجب الانقياد فقط من غير تثبت ورسوخ ولذلك كثير ممن آمن بنبينا (صلى الله عليه وآله) بمشاهدة الآيات والمعجزات ارتدوا بعده كثير ممن آمن بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بمشاهدة معجزاته طلبوا منه بعد الخروج من البحر أن يجعل لهم أصناما آلهة وعبدوا عجلا جسدا له خوار، كل ذلك لضعف عقولهم وقلة بصيرتهم وعدم تثبتهم ورسوخهم في الايمان وأما المؤمن نور العقل والمذعن بمقتضاه فهو أثبت من الجبال الرواسي. ومن ههنا يظهر التفاوت بين الحجتين والبون بينهما بعد المشرقين.

* الأصل:

اشارة

21 - «الحسين بمحمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن المثنى الحناط عن قتيبة الأعشى، عن

ص: 301

ابن أبي يعفور، عن مولى لبني شيبان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد) مضطرب الحديث والمذهب (عن الوشاء) الحسن بن علي ابن زياد الوشاء من أصحاب الرضا (عليه السلام) وكان من وجوه هذه الطايفة (عن المثنى الحناط) الظاهر أنه ابن الوليد وله كتاب (عن قتيبة الأعشى) بن محمد المؤدب ثقة (عن ابن أبي يعفور) اسمه عبد الله ثقة جليل في أصحابنا (عن مولى لبني هاشم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا قام) أي خرج بعد الغيبة المقدرة وظهر لاظهار دين الحق وإعلاء كلمته (قائمنا) المهدي المنتظر الموعود بالنصر والظفر وهذا القيام كاين قطعا لروايات متواترة من طريق العامة والخاصة إلا أن العامة يقولون: إنه يولد في آخر الزمان من نسل علي وفاطمة وجده الحسين (عليه السلام) كما صرح به الآبي في كتاب إكمال الكمال ونحن نقول: هي حي موجود قامت السماوات بوجوده ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها طرفة عين (وضع الله يده) أي قدرته أو شفقته أو نعمته أو إحسانه أو ولايته أو حفظه، والضمير عايد إلى الله أو إلى القايم (عليه السلام) (على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم) ضمير التأنيث إما عايد إلى اليد والباء للسببية أو إلى الرؤوس والباء بمعنى «في» وهذا الأخير يناسبه ما قيل من أن العقل جوهر مضىء خلقه الله تعالى في الدماغ وجعل نوره في القلب يدرك الغايبات بالوسايط والمحسوسات بالمشاهدة (وكملت به أحلامهم) أي عقولهم جمع حلم بالكسر وهو الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شعار العقلاء، والمراد بجمع عقولهم رفع الانتشار والاختلاف بينهم وجمعهم على دين الحق وبكمال أحلامهم كمال عقل كل واحد واحد بحيث ينقاد له القوة الشهوية والغضبية ويحصل فضيلة العدل في جوهر البدن، والأمر ان يتحققان في عهد صاحبنا (عليه السلام) لأنه إذ خرج ينفخ الروح في الإسلام ويدعو إلى الله بالسيف فمن أبي قلته ومن نازع قهره حتى رفع المذاهب من الأرض فلا يبقى في وجهها إلا دين الحق فيملأها عدلا وأمنا وايمانا كما ملئت ظلما وجورا وطغيانا فشهداؤه خير الشهداء وأمناؤه خير الأمناء وأصحابه العارفون بالله والقائمون بأمره والمشفقون على عباده والحافظون لبلاده والعاقلون العاملون الكاملون العابدون الناصحون له فيعود الخلائق بعد التفرقة إلى الجمعية وبعد التشتت إلى المعية وبعد الكثرة إلى الوحدة وبعد التفارق إلى التوافق وبعد الجهل إلى العلم وينظرون إلى الحق بأعين سالمة من الرماد ويسلكون إليه بأقدام ثابتة في سبيل الرشاد وهذا معنى جمع عقولهم وكمال أحلامهم لأن كمالها بحسب ميلها ورجوعها إلى الحق فإذا تحقق الرجوع ثبت الكمال قطعا، هذا.

ص: 302

وقيل: المراد باليد هنا الملك الموكل بالقلب الذي يتوسطه يرد الجود الإلهي والفيض الرباني عليه كما في قوله (صلى الله عليه وآله) «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء» (1) والمراد برؤوس العباد نفوسهم الناطقة وعقولهم الهيولانية، والمراد بجمع الله عقولهم جمع الله بواسطة ذلك الملك القدسي والجوهر العقلي (2) عقولهم من جهة التعليم والإلهام فإن العقول الإنسانية في أول نشأتها منغمرة في طبايع الأبدان، متفرقة في الحواس، متشوقة إلى الأغراض والشهوات، محبوسة في سجون الأماني وشعب الرغبات. ثم إذا ساعده التوفيق وتنبه بأن وراء هذه النشأة نشأة أخرى علم ذاته وعرف نفسه واستكمل بالعلم والحال، وارتقى إلى معدنه الأصلي، وعاد من مقام التفرقة والكثرة إلى مقام الجمعية والوحدة، ولما ثبت وتقرر أن النفوس الإنسانية من زمن آدم (عليه السلام) الخاتم (صلى الله عليه وآله) كانت متدرجة في التلطف ومترقبة في الاستعداد، وكذلك كلما جاء رسول كانت معجزة المتأخر أقرب إلى المعقول من المحسوس من معجزة المتقدم ولأجل ذلك كانت معجزة نبينا (صلى الله عليه وآله) القرآن وهو أمر عقلي إنما يعرف كونه إعجازا أصحاب العقول الذكية ولو كان منزلا على الأمم السابقة لم يكن حجة عليهم لعدم استعدادهم لدركه ثم من بعثته (صلى الله عليه وآله) آخر الزمان كانت الاستعدادات في الترقى والنفوس في التلطف والتذكي ولهذا لا يحتاجون إلى رسول آخر (3) يكون حجة الله عليهم لأن الحجة عليهم هي العقل الذي هو الرسول الداخلي ففي آخر الزمان يترقى الاستعدادات من النفوس إلى حد لا يحتاجون إلى معلم من خارج على الرسم المعهود بين الناس لأنهم مكتفون بالالهام النفسي عن التأدب الوضعي وبالمدد الداخلي عن المؤدب الخارجي، وبالمكمل العقلي عن المعلم الحسي كما لساير الأولياء فيد الله وهو ملك روحاني يجمع عقولهم ويكمل أحلامهم (4) هذا كلامه وفيه نظر أما أولا فلأن ترقي العقول على الوجه المذكور غير مسلم ولو كان كذلك لكان الاختلاف بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) أقل من الاختلاف في الأمم السالفة وقد دلت الأخبار المتكاثرة على عكس ذلك (5) وأما ثانيا فلان المقصود من هذا الحديث أن تكميل العقول في آخر الزمان

ص: 303


1- 1 - أخرجه الحاكم في المستدرك ج 4 ش 321 هكذا «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن - الحديث».
2- 2 - سبق أن الملك في اصطلاح أهل الشرع هو العقل الجوهري في اصطلاح الحكماء، وهذا الكلام تصريح به من قائله ولم يعترض عليه الشارع فيما اعترض عليه والقائل هو صدر الحكماء المتألهين (قدس سره) (ش).
3- 1 - غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن العقل يدعوه إلى متابعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما يراه من الأدلة على صحة نبوته (ش).
4- 2 - فيعرفون بالعقل المكمل صحة الدين وامامة القائم (عليه السلام) فيتبعونه ولم يكونوا كذلك في صدر الإسلام. (ش)
5- 3 - كثرة الاختلاف لا يدل على ضعف العقول نعم لو كانت العقول في أعلى مدارج الكمال لم يختلفوا كما أن الأمم الذين في أدنى درجات التقليد قد لا يختلفون أيضا ولكن أهل التوسط يختلفون جدا والمسلمون في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكونوا في أعلى درجات الكمال حتى لا يختلفوا (ش).

بواسطة معلم حسي وهو الصاحب (عليه السلام) (1) وما ذكره يدل على أنهم لا يحتاجون إلى معلم حسي أصلا، وأما ثالثا فلأنه وإن أمكن حمل اليد هنا على الملك لكن لا حاجة لنا تدعو إليه لأن إعانة أي ملك وتسديده أقوى وأحسن من إعانة الصاحب وتسديده (عليه السلام) (2).

* الأصل:

اشارة

22 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن علي بن إبراهيم، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل».

* الشرح:

(علي بن محمد عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان) مشترك بين الضعفاء (عن علي بن إبراهيم) الظاهر أنه علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الجواني بفتح الجيم وتشديد الواو ثقة صحيح الحديث (عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل) هذا الحديث والله أعلم يحتمل وجوها الأول ما أشار إليه بعض الأفاضل وهو أن الحجة الموصلة للعباد إلى السعادة والنجاة بعد الاعتقاد بإلهيته تعالى وهو النبي (صلى الله عليه وآله)، والحجة فيما بينه وبين العباد بمعرفته تعالى وحجية النبي بما عداها مما لا يدل عليه دليل ولا يتحصل له منى إذ النبي حجة أيضا في معرفته تعالى وصفاته والعقل حجة فيما عداها أيضا الثاني أن النبي حجة الله الموصلة لعباده إلى الطريق الحق والباطل وطريق الخير والشر كلها يعني يهديهم إليها والعقل هو الحجة بينه تعالى وبين العباد الموصلة لهم إلى تصديق نبيه والاذعان لكل ما أخبر به وفي تغيير الاسلوب إشارة إلى ما بينهما من التفاوت في الظهور والخفاء، الثالث أن النبي حجة الله على عباده على سبيل التفضل لقطع أعذارهم كما يشعر به لفظة «على» والعقل هو الحجة الكافية في الحقيقة بينه وبين العباد ولو أبى عن الحق فإنما هو لسوء تدبيرهم وبطلان استعدادهم لأمر عرض له بمجاورة الأبدان لا لنقصان في ذاته، الرابع أن حجية

ص: 304


1- 4 - الحديث صريح في خلاف هذا الكلام لأن يد الله في الحديث غير الإمام قطعا وانما يجمع الله عقول الناس بتوفيقه وتسديده وإعانة الملك الذي عبر عنه باليد حتى يتبعوا صاحب الامر (عليه السلام) بعقولهم ولو أظهر في زماننا هذا أو قبله ولم يكمل عقول الناس بعد لنفروا وأعرضوا أو قتلوه. (ش)
2- 5 - إعانة الملك ليس أقوى من إعانة الإمام (عليه السلام) لكن لابد من العقل الكامل في متابعة الناس أجميعن له (عليه السلام) كما كانوا محتاجين إليه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالجملة لا يريد القائل أن الناس في آخر الزمان لا يحتاجون إلى الحجة (عليه السلام) بل يريد أنهم بسبب كمال عقولهم يستعدون لظهوره وقبول قوله وحكمه ويبقون على الحق مستعدين قابلين إلى يوم القيامة وما كانوا كذلك في العصر الأول والأوسط (ش).

النبي مختصة بالله سبحانه ومن صنعه تعالى وليس للعباد مدخل فيها كما يشعر به الإضافة وحجية العقل غير مختصة به تعال بينه وبين عباده ولهم مدخل فيها وذلك لأن الله تعالى خلق العقل قابلا لجميع الكمالات البشرية ومن الظاهر أنه لا يتصف بالحجية حتى يتصف بالكمال في الجملة إذ هو في حيز القوة المحضة ليس حجة واتصافه بالكمال بسعي العباد وطلبهم وحسن تدبيرهم فلهم مدخل في حجيته. الخامس بين الاحتياج إلى الحجتين والتغيير في الاسلوب إنما هو لمجرد التفنن والمقصود أن حركة العبد نحو المقصود لا تحصل إلا بدليل خارجي هو النبي ودليل داخلي هو العقل أما الثاني فلأن الوصول إلى منازل القرب لا يتصور إلا بالاتصاف بالفضايل والتجرد عن الرذايل وذلك لا يمكن إلا بعد معرفة الفرق بينهما ومبدء تلك المعرفة هو العقل وأما الأول فلأن العقل وإن كان مستقلا في بعض المعارف لكنه غير مستقل في بعضها كأحوال العباد والشرايع الإلهية مع تحقق خطائه فيما يستقل كثيرا فاحتاجوا إلى النبي المؤيد من عند الله تعالى ليهديهم إلى المطالب والمحاسن ويزجر عن الرذايل والقبايح ليكونوا معه أقرب من الخير وأبعد من الشر.

* الأصل:

اشارة

23 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، مرسلا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) دعامة الإنسان العقل والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم، وبالعقل يكمل وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما، حافظا، ذاكرا، فطنا، فهما فعلم بذلك كيف ولم وحيث، وعرف من نصحه ومن غشه، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله، وأخلص الوحدانية لله والاقرار بالطاعة فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات، وواردا على ما هو آت يعرف ما هو فيه ولأي شئ هو ههنا، ومن أين يأتيه، وإلى ما هو صائر، وذلك كله من تأييد العقل».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد مرسلا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) دعامة الإنسان العقل) الدعامة بالكسر عماد البيت ودعامة السقف الاسطوانة التي يقوم عليها السقف، ودعامة الحايط المايل العماد الذي يستند إليه ليستمسك به فتشبيه الإنسان بالبناء مكنية، وإثبات الدعامة له تخييلية، وحمل العقل عليها تشبيه بليغ وتعريف العقل باللام للحصر يعني أن إثبات الإنسانية للإنسان وتحققها وقيام معناها إنما هو بالعقل كما أن إثبات السقف وقيامه بالعماد لظهور أن الإنسان ليس مجرد هذا الهكيل المخصوص وإلا لما كان بينه وبين الصور المنقوشة على الجدار أو المصنوعة من الحجر والخشب فرق بل الإنسان إنسان بما وجد فيه من العقل الذي هو منشؤ المعارف والكمالات ومبدء العلوم وملكات

ص: 305

وأما من لم يوجد فيه العقل كالجاهل الفاقد لتلك المعارف والملكات الواجد لأضدادها من الشرور والآفات فهو نسناس في صورة الناس (والعقل منه الفطنة والفهم) أي ينشؤ من العقل الفطنة والفهم وهذا الكلام وما بعده بيان وتفسير لذلك المرام أعني كون العقل دعامة الإنسان، والفطنة الذكاء ولها مراتب أعلاها أن يحصل للذهن ملكة الانتقال من المبادي إلى المطالب بسهولة بحيث لا يحتاج إلى فضل مكث وتأمل، والفهم جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يريد عليه وله أيضا مراتب في القوة والضعف وأعلاها أن يحصل للذهن من كثرة مزاولة المقدمات المنتجة ملكة سرعة انتاج المطالب وسهولة استخراج النتايج على سبيل البرق الخاطف (والحفظ والعلم) لعل المراد بالحفظ حفظ الميثاق أو حفظ الصور الحسية بضبطها في خزانة الخيال أو حفظ الصور العقلية بأن يحصل للذهن ملكة الارتباط بالمبادئ العالية بحيث يقدر أن يشاهد تلك الصور فيها متى شاء من غير حاجة إلى تجشم كسب جديد (1) أو الأعم من الجميع، والمراد بالعلم الادراك مطلقا أو إدراك المعارف الالهية والأحكام النبوية والتصديق بهما على التفصيل، ثم ذكر هذه الأربعة كأنه على سبيل التمثيل والاقتصار وإلا فأحوالات العقل وفضايله الناشية منه غير منحصرة فيها كما يظهر لمن تأمل في الآثار سيما الخبر الوارد في ذكر جنوده (وبالعقل يكمل) أي يكمل الإنسان لأن العقل مبدء لجميع الخيرات ومنشؤ لجميع الكمالات التي بها يصير الإنسان كاملا في الدارين وتمام العيار في النشأتين وممدوحا عند الخالق ومحبوبا عند الخلائق، وتقديم الظرف لقصد الحصر أو الاهتمام وإنما لم يقل: وبه يكمل مع تقدم المرجع لئلا يتوهم عود الضمير إلى العلم، وهذا وإن كان أيضا صحيحا لكن الكلام في العقل وبيان أحوالاته (وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره) أي العقل دليل الإنسان إلى سبيل النجاة ومبصره للخيرات اسم فاعل من بصره ويجوز أن يقرأ بفتح الميم والصاد وسكون الباء، وقيل:

المبصر والمبصرة على هيئة اسم المكان: الحجة.

ومفتاح أمره ينفتح به أبواب العلوم والكمالات كل ذلك لأن العقل في عالم الأبدان كالشمس يتلألأ نوره ويلمع ضوؤه في الحواس الباطنة والظاهرة ويتنور به القلب ويستضيىء به الصدر، فمن حيث أنه يهتدي به كل عضو من أعضاء الإنسان إلى ما هو المطلوب منه فهو دليله، ومن حيث أنه ينظر القلب به أو

ص: 306


1- 1 - قالوا إن الحافظة للقوة العاقلة هي العقل الفعال وعبر عنه الشارح بالمبادئ العالية إذ قد يعبر بذلك عن العقول أو لأنا لا نعلم انحصار الموجودات الموجودة التي يرتبط بها أفراد الإنسان في عقل واحد مسمى بالعقل الفعال، وبالجملة لكل مدرك حافظ وحافظ المحسوسات قوة الخيال وحافظ المعاني الجزئية يسمى حافظة وحافظ المدركات الكلية هو المبادى العالية ونسيانها بزوال ملكة الارتباط بين عقل الإنسان والعقل الفعال والذكر ببقاء تلك الملكة ولم يقولوا بكون حافظة المدركات العقلية في الإنسان نفسه بل أثبتوه في خارج لأن مدرك الكلي مجرد لا يتبعض والمدرك موجود مجرد والحافظ موجود آخر وبينهما ربط (ش).

فيه إلى الحقايق والمعارف ويبصرها بعين البصيرة فهو مبصره، ومن حيث أنه ينكشف به تلك الحقايق والمعارف للقلب وينتقش فيه صورها فهو مفتاح أمره (فإذا كان تأييد عقله) أي تقويته (من النور) أي بالفضايل العقلية والكمالات النفسانية التي هي من جنود العقل مثل العلم والحفظ والذكر والفطنة والفهم، وسماها نورا على سبيل الاستعارة والتشبيه به في الهداية كما يسمى أضدادها أعني الجهل والنسيان والسهو والغباوة والحمق ظلمة، أو على ملاحظة أنها فايضة من عالم نوراني يعني عالم الملكوت على قلب إنساني ليستعد بها للترقي إليه، والفاء حينئذ للتفريع إذ هذا الشرط مع الجزاء بمنزلة نتيجة للكلام السابق كما يظهر بأدنى تأمل، ويحتمل أن يراد بالنور الحجة الظاهرة يعني النبي لأنه نور إلهي في ظلمات الأرض به يتقوى العقول في ثباتها على صراط الحق واتصافها بالفواضل والفضايل واهتدائها إلى حضرة القدس، وأن يراد به بصيرة قلبية أو عناية رباينة أو جوهر مجرد مخلوق من نور ذاته (1) وهو الذي دل عليه بعض الأحاديث المذكورة والمراد بتقوية العقل به ارتباطه واستشراقه من نوره والله أعلم بحقايق كلام وليه (كان عالما بالله) واليوم الآخر وعواقب الأمور في الباطن والظاهر (حافظا لنفسه) في المسير إلى الله من الخطأ والزلل، وللصور العلمية والمكتسبات العملية من الفساد والخلل (ذاكرا) لما يفضيه إلى جنات النعيم وينجيه من عذاب الجحيم (فطنا) في اكتساب الحقايق واقتراف الدقايق (فهما) لمقابح الدنيا ومكائد زهراتها ومنافع الآخرة وشدايد خطراتها.

(فعلم بذلك كيف ولم وحيث) كيف اسم مبهم غير متمكن وإنما حرك آخره لالتقاء الساكنين وبنى على الفتح دون الكسر لمكان الياء وهو للاستفهام عن الأحوال و «ما» للاستفهام وتحذف منها الألف للتخفيف إذ ضم إليها حرف مثل بم وعم يتساءلون ولم وهي سؤال عن علة الشئ وسبب وجوده، وحيث كلمة تدل على المكان لأنه ظرف في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة وهو اسم مبني حرك آخره لالتقاء الساكنين، فمن العرب من يبنيها على الضم تشبيها لها بالغايات لأنها لم تجئ إلا مضافة إلى جملة كقولك أقوم حيث يقوم زيد، ومنهم من يبنيها على الفتح مثل كيف استثقالا للكسر مع الياء، ولعل المراد فعلم بسبب كون تأييد عقله من النور أو بسبب كونه عالما إلى آخر أحواله وكيفيتها (2) من كونها خيرا أو شرا نافعا أو ضارا أو كيفية سلوكه فيها وجعله وسيلة للسير إلى منازل الآخرة وعلم علة

ص: 307


1- 1 - سبق أن العقل جوهر مجرد مخلوق قبل عالم الأجسام ولم يخلقه الله تعالى من مواد هذا العالم الجسماني وعناصره بل خلقه من نور ذاته بلا واسطة، كما ورد أن العقل أول خلق من الروحانيين (ش).
2- 2 - تفسير لكلمة «كيف» يعني يعلم كيف حاله ومنازله وسيره فيها (ش).

تلك الأحوال (1) والباعث لسلوكه فيها وهي الخروج من حضيض النقص إلى أوج الكمال ومن الشقاوة إلى السعادة وعلة إيجاده وباعث إنشائه وتحريكه من عالم القدس إلى هذا العالم (2) وهي كونه عبدا خالصا راعيا لحقوق عبوديته بقدر الامكان ناصحا لعباده بالقلب واللسان علم مقاماته من أول الايجاد إلى ما شاء الله فان العقل المؤيد من النور (3) يعلم بالمشاهدة والعيان أن له من بدء وجوده إلى ما شاء الله مقامات متفاوتة ودرجات مختلفة متباعدة ويعلم التفاوت فيما بين تلك المقامات والتفاضل فيما بين تلك الدرجات; وبالجملة له بصيرة كاملة يعلم بها حالاته وصفاته المطلوبة منه عقلا ونقلا وأسباب تلك الحالات والباعث لوجوده في نفسه ومقاماته المندرجة ومنازلة المتفاوتة في السير إلى الله تعالى، ويحتلم أن يكون المراد أنه إذا كان تأييد عقله من النور علم كيفية الأشياء في نفس الأمر ولميتها وحيثيتها وإنيتها والله أعلم (وعرف من نصحه ومن غشه) لأنه يميز بين الأقوال الصادقة والكاذبة ويفرق بين الأحوال الصحيحة والسقيمة فمن أتاه بشئ منها يتلقاه بوجه قلبه ويزنه بميزان عقله، فيعلم صرفه من ممزوجه وخالصه من مغشوشه وصريفه من صرفاته وبذلك يميز بين الناصح الأمين والغاش الميون. وبين أئمة الهدى وأئمة الضلال.

(فإذا عرف ذلك) أي كيف ولم وحيث ومن نصحه ومن غشه (عرف مجراه) اسم المكان أو مصدر ميمي فبضم الميم من الاجراء وبفتحها من الجري وبالوجهين قرىء قوله تعالى (بسم الله مجريها ومرسيها) يعني إذا عرف الأحوالات والصفات وميز بين رديها وجيدها وعرف أغراضها وأسبابها والغرض من إيجاده ومقامات وجوده وعرف من نصحه ومن غشه معرفة صحيحه خالصة من شوائب الوهم وعرف مسلكه الذي يسلكه وسمته الذي يتوجه إلى أو عرف جريه وسيره إلى حضرة القدس وسلوكه إلى مقام الانس إذ السير على أي وجه اتفق ليس موجبا للوصول إليه والقيام بين يديه بل الموجب لذلك سير مخصوص وجري معلوم لأرباب العقول المنورة (وموصوله ومفصوله) أي من ينبغي الوصول معه الفصل عنه من أئمة الهدى وأئمة الضلال أو ما ينبغي من الأحوال والصفات (وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة) إخلاص هذين الأمرين الذي هو الأصل في التقرب إليه والفوز بالمزيد

ص: 308


1- 3 - تفسير لكلمة «لم» لأنها سؤال عن العلة الغائية أو الفاعلية. (ش)
2- 4 - تفسير لقوله «حيث» وهي السؤال عن المكان أين كان والى ما يصير. (ش)
3- 5 - فهم هذه الأمور بالعقل لأن أصحاب الحس وأهل الدنيا لا يعرفون هذه المعاني أصلا ويزعمون أن وظيفة الإنسان والمقصود من خلقته عمارة الدنيا وتسهيل أمر المعاش وجميع أمورهم يدور حول ذلك حتى أن الملكات الفاضلة والخصائل الذميمة عندهم ما تتعلق بنظام هذا العالم ولا يعرفون ما ذكره الشارح من منازل الآخرة والسلوك فيها أصلا ويعدون ذلك أوهاما وخرافات (ش).

من لديه إنما يتيسر لمن له معرفة بالأمور المذكورة لأنه العارف بأنه تعالى هو المستحق للعبادة والإقرار له بالعبودية والطاعة لكون بدنه منخرطا في سلك خدمته، وقلبه مستغرقا في بحر معرفته، وسره طالبا إياه، وعقله معرضا عما سواه، وأما غيره فلا يخلو قطعا من الشرك الخفي أو الجلي (فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات وواردا على ما هو آت) ينبغي الوقوف في آخر الكلمتين، ولا شك أن الاخلاص المذكور غاية المراتب العلية في العقايد البشرية وأنه متوقف على المعارف المذكورة آنفا بحكم الشرط المذكور وأن تلك المعارف كلها غير متحصلة في أول التكليف إلا لمن خصه الله تعالى بكمال العقل من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ومن هذه المقدمات يعلم أن الإنسان لا يخلو من تقصير ما فيما مضى إلى أوان كماله، وإذا بلغ حد الكمال واتصف بتلك المعارف وحصل له ذلك الاخلاص ووجد لذة العبودية وتحلى بغاية الخضوع وتزين بلباس الخوف، كان مستدركا قطعا لما فات عنه فيقضي بعضه مما ينبغي فعله ويستغفر ربه فيما لا يمكن تداركه إلا به، ويعترف بالتقصير فيما يعجز عنه، وواردا على ما هو آت من الأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة، فاعلا لها على وجه الاخلاص الموجب لكمال القرب والاختصاص، ويحتمل أن يراد واردا على ما هو آت من الثواب الجزيل والأجر الجميل والنعيم المقيم والسرور الدائم في رياض الجنان (يعرف ما هو فيه) حال عن المستتر في «مستدركا» وتأكيد للكلام السابق (1) وما للاستفهام أو للخبر بمعنى الذي والضمير المرفوع يعود إلى الإنسان والضمير المجرور إلى «ما» يعني أن الإنسان إذا بلغ حد الكمال واتصف بالأمور المذكورة مستدرك لما فات وهو يعرف حقيقة الفعل الذي اشتغل به ووجوه اعتباراته وجهات حسنه وطريق الاتيان به على وجه يوافق قانون العقل والنقل، ويحتمل أن يكون المراد «بما هو فيه» المكان الذي هو فيه، يعني يعرف حقيقة هذا المكان ومهية هذه النشأة وسرعة انتقال أهلها منها وكثرة ابتلائهم فيها بالتكليف وغيرها (ولاي شئ هو ههنا) كلمة أي معرب يستفهم بها عما يميز الشئ سواء كان ذاتيا له أو عرضيا يعني يعرف أنه لأي شئ هو في هذه الدار الفانية وأن الغرض من كونه فيها تكميل النفس بالقوة النظرية والعملية وتحريكها من المنازل السفلية الظلمانية إلى أقصى المعارج الملكوتية النورانية واكتسابها للقربات واجتنابها عن المنهيات ليستأهل النزول في بساط الحق والقعود عليه وفيه إشارة إجمالية إلى معرفة مقامات النفس ومراتب درجاتها (ومن أين يأتيه) أين سؤال عن المكان يعني يعرف من أي عالم يأتي هذا العالم الداثر الذي فيه

ص: 309


1- 1 - وناظر إلى قوله «كيف» كما أن «لأي شئ هو ههنا» ناظر إلى قوله «لم» و «من أين يأتيه، وإلى ما هو صائر» ناظر إلى قوله «حيث» (ش).

اليوم ويعرف ما بينهما من التفاوت فان الأول عالم روحاني ومكان نوراني (1).

والثاني عالم جسماني ومكان ظلماني حبس فيه الروح ما شاء الله ليتذكر قدر تلك النعمة ويسلك منهج النجاة ويعترف بالعجز والافتقار ويقر لربه بالقهر والغلبة. وفيه إشارة إلى علمه بأحوال مبدئه ومنازل انتقالاته في النشأة الكونية التي يتحير فيها عقول العقلاء وفحول العلماء وقد أشار جل شأنه إلى هذه المراتب بقوله: «وما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا» ومن تأمل فيه اضطر إلى معرفة خالقه والانقياد له وإلى علمه بأن الغرض من اجرائه من جداول أصلاب الآباء وأرحام الأمهات عهدا بعيدا أي أن جرى على وجه الأرض أن يحصل منه زرع صالح ونبات حسن وهي الأعمال التي يوجب أجرا جميلا وثوابا جزيلا بعد العود (وإلى ما هو صاير) يعني يعرف أنه بعد استقراره في الدنيا في أجل معدود وزمان محدود يصير إلى مقام آخر فيه «تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينهما وبينه أمدا بعيدا» وفيه إشارة إلى علمه بأحوال المعاد ومنازله وعقباته من القبر والبرزخ والحشر والنشر والميزان والصراط والحسان والعرض والجنة والنار (وذلك كله من تأييد العقل) يعني ذلك المذكور من قوله: الفطنة والفهم والحفظ والعلم إلى آخر ما ذكر من تأييد العقل وتقويته بالنور المذكور إذ الإنسان بذلك النور يخرج من حد النقص والقصور ويهتدي الأمور المذكورة وينظر في ظلمة الطبيعة البشرية إلى فضاء القدس وعالم الانس ويطير بجناح الهمة مقامات رفيعة في جنة عالية.

* الأصل:

اشارة

24 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن بعض رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العقل دليل المؤمن».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العقل دليل المؤمن) إذ بدلالة نوره يخرج المؤمن من المرتبة الهيولانية إلى استكمال القوة النظرية والعملية ومن مرقد الطبيعة البشرية إلى التفطن بالمقاصد اللاهوتية والمواعظ الربانية ومن مهد الغفلة الناسوتية إلى استماع نداء الحق إلى منهج السداد في كل آن ودعاء الرب إلى مسلك الرشاد في كل زمان، فلا يزل بعد هذه الدلالة أقدام بصيرته ولا يضل بعد هذه الهداية أنظار فكرته وهكذا يسير ويسعى نور العقل بين يديه إلى أن يصل إلى أقصى منازل العرفان وأعلى مراتب الايقان فيتخلص عند ذلك من ألم الفراق وينظر إلى جمال الحق نظر الحبيب المشتاق.

ص: 310


1- 2 - مبناه على مذهب صدر المتألهين (قدس سره) ان النفس روحانية البقاء وجسمانية الحدوث. (ش)

* الأصل:

اشارة

25 - «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن السري بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي لا فقر أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن السري بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي لا فقر أشد من الجهل) الفقر في عرف الناس فقد المال وإطلاقه على الجهل مجاز لاشتراكهما في انتفاء اللذات والمنافع إذ ينتفي في الأول اللذات والمنافع الجسمانية وفي الثاني اللذات والمنافع الروحانية، وفي عرف الخواص فقد ما يوجب الانتفاع به مالا كان أو علما وإطلاقه على الجهل عندهم على سبيل الحقيقة. ثم المقصود أن الجهل أشد أفراد الفقر فان أهل العرف يفهمون من قولنا ليس في البلد أفضل من زيد أن زيدا أفضل من غيره، وكون الجهل أشد من فقد المال ظاهر لأن انتفاء اللذات والفضايل الروحانية في الدنيا والآخرة أشد وأصعب من انتفاء اللذات الجسمانية المتعلقة بالحياة الدنيا بل لا نسبة بينهما عند ذوي البصاير الثاقبة (ولا مال أعود من العقل) يقال: هذا الشئ أعود عليك من كذا أي أنفع، والعائدة المنفعة، وكون العقل أعظم أفراد المال وأنفعها ظاهر بالقياس إلى ما ذكرناه على أن المال بدون العقل لا ينفع بل يضر لكثرة مفاسده بخلاف العقل فأنه ينجي صاحبه من ملامة الدنيا وندامة العقبى لوضعه الأشياء في موضعها وقد يقال: العقل أنفع من المال لأن المال كالآلة لطالب الخير والمنافع في وصوله إليهما والعقل دليل موصل له إليهما وبه معرفتهما واختيارهما فتأمل.

* الأصل:

اشارة

26 - «محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن العاء ابن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال:

وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، إياك آمر وإياك أنهى وإياك اثيب وإياك اعاقب».

* الشرح:

(محمد بن الحسن) كأنه الصفار الثقة واحتمال ابن الوليد الثقة بعيد (عن سهل بن زياد عن ابن أبي نجران) عبد الله الثقة (عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خلق الله العقل قال له: أقبل) إلى مقاماتك (1) أو إلى مرضاتي بالامتثال أو إلى مشاهدة جلالي وكبريائي أو إلى

ص: 311


1- 1 - هذا هو الحديث الأول بعينه عن العلاء عن محمد بن مسلم مع تغيير يسير في العبارة لا يخلو منه الروايات باختلاف الرواة (ش).

تكميل ذاتك بفضائل صفاتك (فأقبل) إلى ما ذكر والمستحفظون لهذا الخطاب، والهون في شواهد الملكوت، حائرون من آثار الجبروت طالبون للتقرب بحضرة الباري، هاربون عما عداه أشد هربا من الأسد الضاري (ثم قال له: أدبر) من عالم النور والمقامات الروحانية أو من مرضاتي بالطاعات إلى مساخطي بالسيئات، أو من تكميل ذاتك إلى تكميل غيرك كما هو شأن أصحاب الخلافة الكاملين في أنفسهم المستكملين لغيرهم (فأدبر) إلى ما ذكر امتثالا لأمره، والعقل شأنه الامتثال دائما وإن يصدر منه خلاف فانما يصدر لغفلته في مراقد الطبيعة البشرية وسجون الأبدان وانسه بالزهرات الدنياوية وصفات النقصان (فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك) أكد مضمون الجملة بالقسم مع أنه أصدق القائلين إما لان المقصود منه صورة القسم ترويجا لمضمونها أو لأن العقل لما شاهد إدباره المؤدي إلى الشقاوة والبعد توهم أنه أخس الخلائق أكده دفعا لتوهمه وبشارة له وفي التفريع دلالة على أن إقباله مع كونه قابلا للادبار سبب لكونه أحسن المخلوقات وسر ذلك يظهر مما ذكرنا آنفا (إياك آمر وإياك أنهي وإياك اثيب) بطاعتك وانقيادك فيما ينبغي (وإياك أعاقب) بمخالفتك وعصيانك فيما لا ينبغي.

* الأصل:

اشارة

27 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن الحسين بن خالد، عن إسحاق بن عمار قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل آتيه واكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله ومنهم من آتيه فاكلمه بالكلام فيستوفي كلامي كله ثم يرده علي كما كلمته، ومنهم من آتيه فاكلمه فيقول: أعد علي؟ فقال: يا إسحاق وما تدري لم هذا؟ قلت: لا، قال: الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله فذاك من عجنت نطفته بعقله، وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك فذاك الذي ركب عقله فيه في بطن أمه، وأما الذي تكلمه بالكلام فيقول:

أعد علي الذي فذاك ركب عقله فيه بعدما كبر فهو يقول لك: أعد علي».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الهيثم بن أبي مسروق الهندي، عن الحسين بن خالد، عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل آتيه واكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله) يعني ينتقل من البعض إلى الكل ويفهم معناه المقصود منه (ومنهم من آتيه فاكلمه بالكلام) على التمام (فيستوفي كلامي كله) ويسمعه من أوله إلى آخره ويفهم معناه بعد تمامه لا قبله (ثم يرد علي كما كلمته) من غير نقص وزيادة حافظا لألفاظه ومعناه (ومنهم من آتيه فاكلمه بالكلام كله) ويسمعه من أوله إلى آخره ولا يضبط لفظه ولا معناه (فيقول أعد علي) طالبا لتكريره لينتقل منه إلى المقصود، والغرض

ص: 312

من هذا السؤال الاستكشاف عن سبب تفاوتهم في العقل والإدراك، وينبغي أن يكون الكلام من نوع واحد في الدقة والخفاء وإلا فقد يكون المحتاج إلى الإعادة أقوى إدراكا من الأولين (قال: فقال: يا إسحاق وما تدري لم هذا) الظاهر أنه استفهام على حقيقة أو للتقرير والواو للعطف على محذوف أي أتقول ذلك وما تدري، ويحتمل أن يكون خبرا عطفا على كلام السائل وإظهارا لما هو المقصود من ذلك الكلام (قلت: لا) هذا على الأول تعيين لما هو المقصود من الاستفهام، أو إقرار للنفي، وعلى الأخير تصديق لقوله (عليه السلام) (قال الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله فذاك من عجنت نطفته بعقله، وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك، ثم يجيبيك على كلامك فذاك الذي ركب عقله فيه في بطن أمه، وأما الذي تكلمه في الكلام فيقول: أعد علي فذاك الذي ركب عقله فيه بعدما كبر فهو يقول لك: أعد علي) المواد الإدراكية كلها موجودة في النطفة الإنسانية على سبيل الاستعداد ولكنها مختلفة في القوة والضعف واللطافة والكثافة والنفوس الإنسانية العاقلة القابلة للإدراكات الكلية والجزئية متفاوتة في الكدرة والصفاء والظلمة والضياء وبحسب تفاوتها وتفاوت المواد يتفاوت التعلقات والادراكات فكلما كانت النفس الناطقة أشرف وأنور كان تعلقها بالمواد التي هي ألطف وأقوى أقدم وأسرع، وكان إدراكها أتم وأكمل لتمام الاستعداد والمناسبة وكمال الصفاء والنورانية فيصل الجذب والادراك بسهولة، فمن عجنت نطفته بزلال العقل وخمرت به واستضاءت موادها بنوره لغاية لطافتها وقوة استعدادها كان بعد انتهاء الاستعداد وحصول بقية شرايط الادراك بالفعل عاقلا فاضلا مدركا كاملا عارفا للآخر من الأول، والفرع من الأصل، لأنه وقت كونه نطفة إلى أوان الادراك كان يمشق الادراك ويتمرن عليه والفعل بعد المشق والتمرن في غاية السهولة والكمال كما لا يخفى على المتدرب، ولا يجوز أن ينكر تعلق العقل بالنطفة حين كونها نطفة باعتبار عدم حصول العلم بذلك التعلق، وإلا لجاز أن ينكر تعلقه بعد تسوية البدن وتكميله لاشتراك العلة، مع أنه قد يحصل لبعض العارفين المجردين عن العلايق الجسمية والعوائق البدنية الناظرين إلى جمال المطلوب بعين المشاهدة، علم بتعلقات عقله في الأكوان البشرية وتصرفاته في المواد الجسمية، بل ربما كان في آن تعلقه عالما كاملا فاضلا عارفا بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما روي في شأن أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين وعدم حركة النطفة وانقلابها لا يوجب إنكار تعلقه بها كما يشاهد ذلك من النائم وأصحاب السكتة وقد ذهب جماعة إلى إن للأرض والجبال وغيرهما من الجمادات نفوسا متعلقة بها مع أنها ساكنة على أن الحركة الإرادية في الماديات من خواص النفس الحيوانية وامتناع تعلق القوة العاقلة قبلها ممنوع (1).

ص: 313


1- 1 - ماهية التعلق ليست واحدة مثلا تعلق المعلول بالعلة نحو من التعلق لا يستحيل بين الممكن والواجب وأثر هذا التعلق انعدام الممكن على فرض عدم تعلق الممكن به تعالى وتعلق النفس بالبدن تعلق بنحو آخر وأثره زوال الحياة بزوال التعلق وتعلق الملائكة بالموجودات بنحو التدبير والتصرف وتعلق العقل الفعال بالنفوس الناطقة على مذهب الحكماء أو بجميع الموجودات في عالم الكون والفساد نحو من التعلق معقول وتعلق النفوس الفلكية بالافلاك أيضا أمر معقول سواء كان واقعا أو لا وليس في جميع الآثار نظير تعلق النفس الحيوانية بأبدانها واحتمال تعلق النفس بالأرض والجبال نظير تعلقها بالافلاك إذ لا يستلزم التعلق سمعا وبصرا ولمسا وعصبا ودماغا وغيره باعتبار استلزامه حركة إرادية في الأفلاك وهكذا (ش).

وبالجملة تعلق العقل بالنطفة أمر ممكن عقلا وقد أخبر به الصادق (عليه السلام) فوجب الاعتراف به ومن ركب عقله في بطن أمه فهو دون الأول في الإدراك لقلة تمرنه وتدربه وضعف امتزاج مادته وتعجينها بخميرة العقل بالنسبة إلى الأول فله الدرجة الوسطى من الإدراك يفهم معنى الكلام بعد تمامه لا قبله مثل الأول ومن ركب عقله فيه بعد الوضع إلى زمان التكليف وهذا هو المراد بقوله بعدما كبر فهو دون الثاني في الادراك لقلة تمرنه قطعا وعدم امتزاج مادته بالعقل وضعف استضاءة ساير قواه الادراكية بنوره وهو بمنزلة بيت وضع المصباح في خارجه فله الدرجة الأدنى من الفهم والمرتبة الدنيا من الإدراك لا يفهم معنى الكلام بعد تمامه، بل يحتاج إلى تكريره فلذلك يقول أعد علي ثم هذه المراتب هي الامهات في مراتب الادراك واختلافاتها وإلا فلكل درجة مراتب متفاوتة في القوة والضعف يدل على ذلك ما رواه يحيى بن أبان عن شهاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لو علم الناس كيف خلق الله تعالى هذا الخلق لم يلم أحد أحدا فقلت: أصلحك الله وكيف ذلك؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق اجزاء بلغ بها تسعة وأربعون جزءا، ثم جعل الأجزاء أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشري جزء، حتى بلغ به جزءا تاما، وفي آخر جزءا وعشر جزء وفي آخر جزء عشري جزء، حتى بلغ به جزءا تاما، وفي آخر جزءا وعشر جزء وفي آخر جزء وعشري جزء وآخر جزءا وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزءين تامين ثم بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعون جزءا، فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار، وكذلك من تم له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين، ولو علم الناس أن الله عز وجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا» (1) ويحتمل أن يكون قوله «من عجنت نطفته بعقله» معناه من خلقت نفسه قبل التعلق بالبدن على وصف كمالي مناسب للعقل وارتباطها به ثم تعلقت بالبدن وقوله «فذاك الذي ركب عقله فيه في بطن أمه» معناه هو الذي اتصفت نفسه بالوصف الكمالي الموجب لقوة ارتباطها

ص: 314


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب آخر من باب درجات الايمان.

بالعقل بعد تعلقها بالبدن وقوله «فذلك الذي ركب عقله فيه بعدما كبر» معناه هو الذي اتصفت نفسه بذلك الوصف وحصل لها ارتباط بالعقل بعد استعمال الحواس وحصول الضروريات التي هي مبادي النظريات والله أعلم بحقايق الأمور.

* الأصل:

اشارة

28 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن بعض من رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة، كثير الصيام فلا تباهوا به حتى تنظروا كيف عقله».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن بعض من رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به) أي فلا تفاخروا به من المباهاة وهي المفاخرة أو فلا تؤانسوا به من البهاء بالفتح والمد وهو الانس يقال: بهأت بالرجل بهاء آنست به وحينئذ يقرأ تباهئوا بالهمزة بعد الهاء (حتى تنظروا كيف عقله) فإن وجدتم عقله كاملا باعتبار ظهور آثار العقلاء عنه واشتمال أعماله وأفعاله على المحسنات العقلية والنقلية وجودة رأيه في الأمور الدنيوية والأخروية وحسن تصرفه في الفضايل العلمية والعملية، ورعاية آداب المعاشرة مع بني نوعه فهو أهل للمباهاة والمفاخرة والمؤانسة، إذ هو مظهر للألطاف الالهية ومورد للكمالات النفسانية ومعدن للفضايل الروحانية ونور في نفسه ومنور مرشد لغيره، وإن وجدتم عقله بخلاف ذلك فعمله بعيد عن الاعتبار والافتخار، وفيه دلالة على جواز مدح العلماء والثناء بالعقلاء سرا وعلانية كيف لا والآيات القرآنية والروايات النبوية مشحونة بذكر كمالاتهم ونشر فضائلهم زادهم الله شرفا وتعظيما.

* الأصل:

اشارة

29 - «بعض أصحابنا، رفعه عن مفضل بن عمر: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا مفضل لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم ويظفر من يحلم، والعلم جنة والصدق عز، والجهل ذل، والفهم مجد، والجود نجح حسن الخلق مجلبة للمودة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. والحزم مساءة الظن، وبين المرء والحكمة نعمة العالم والجاهل شقي بينهما; والله ولي من عرفه، وعدو من تكلفه، والعاقل غفور والجاهل ختور، وإن شئت أن تكرم فلن، وإن شئت أن تهان فاخشن، ومن كرم أصله لأن قلبه، ومن خشن عنصره غلظ كبده، ومن فرط تورط، ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه، ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم، ومن لم يسلم لم يكرم، ومن لم يكرم يهضم، ومن يهضم كان ألوم، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم».

ص: 315

* الشرح:

(بعض أصحابنا رفعه عن مفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا مفضل) صدر الحديث بندائه لطلب احضار قلبه واستعداده لما سيتلو عليه من فضايل العقل ورذايل ضده (لا يفلح من لا يعقل) لأن الفوز بالسعادات الدنيوية والاخروية لا يتصور بدون العقل الذي هو مبدء لجميع الخيرات ومنشؤ لجميع الكمالات، وبدون استيلائه على القوة الغضبية والشهوية (ولا يعقل من لا يعلم) أي من انتفت عنه حقيقة العلم انتفت عنه حقيقة العقل لأن تحقق حقيقة العقل وقوامها ومراتبها إنما هو بالعلم فإذا انتفى انتفى، أو من انتفى عنه العلم بقوى النفس ومحاسنها ومقابحها فلا يعقل يعني لا يستولى عقله على قواه النفسانية ضرورة أن استيلاءه عليها متوقف على العلم بها فاللازم من المقدمتين إما انتفاء حقيقة الفلاح والنجاة عند انتفاء حقيقة العلم; أو انتفاء الفلاح والنجاة من مقابح القوى النفسانية عند انتفاء العلم بها والله أعلم (وسوف ينجب من يفهم) رجل نجيب أي كريم بين النجابة وقد نجب ككرم نجابة إذا كان فاضلا متادبا بالآداب النقلية والعقلية، ووجه ذلك ظاهر لأن الفهيم بنور فهمه يميز بين الحق والباطل وبين الصفات والحسنة والقبيحة فهو بمرور الأيام يكتسب المحاسن ويجتنب عن الرذايل ويصير عالما فاضلا غالبا على النفس وقواها وهواها حتى يصير نجيبا في الدنيا والآخرة (ويظفر من يحلم) الظفر النجاة والفوز بالخيرات والحلم بالكسر الأناة تقول منه حلم الرجل يحلم بضم اللام فيهما إذا تأنى ولم يستعجل وذلك ظاهر لأن من تأنى في العقوبة ولم يستعجل فيها ولم يستخفه سوء الأدب ولم يستفزه الغضب يظفر عن قريب بالمطالب ويفوز بالمآرب لأن ذلك سبب لكثرة المعاون والأصدقاء وازدياد الناصر والأخلاء بخلاف المستعجل فإنه يضيق عليه أمره (والعلم جنة) يقي من سهام مكايد الشيطان وسنان مخاطرات النفوس وصولة القوى الشهوية والغضبية والدواعي النفسانية بل من جميع الآفات الدنيوية والعقوبات الاخروية (والصدق عز) المراد بالصدق استقامة اللسان في القول والخطاب وثباته على منهج العدل والصواب في الصغير والكبير والقليل والكثير سواء كان على نفسه أو على الله تعالى أو على رسوله أو على الأئمة الطاهرين أو على المؤمنين وهو سبب للعزة والقوة والغلبة أو المراد به الاعتقاد الصادق ويؤيده المقابلة بالجهل لأنه الاعتقاد الكاذب.

(والجهل ذل) غاية العزة هي التقرب بالله والارتواء بزلال لطفه والتنعم برياض قدسه والتمكن في قلوب العارفين وذلك لا يحصل إلا بالعلم والعمل فإذا انتفى العلم وحصل الجهل بسيطا كان أو مركبا ثبت الذل والبعد عن الحق وإنما قابل الصدق بالجهل دون الكذب لئلا يصير الثاني تأكيدا لمضمون الأول والتأسيس خير من التأكيد (والفهم مجد) المجد الكرم والشرف الواسع يعني أن الفهم من الصفات الكريمة الشريفة الموجبة لشرافة الذات ورفعة الحسب وجلالة القدر (والجود نجح) النجح والنجاح

ص: 316

الظفر بالحوائج يعني أن الجود بالمال وبذله في وجوه الغير وصرفه في مصارف الخير يوجب الظفر بالمطالب الاخروية لأن الله تعالى يقابل القليل بالجزيل ويورث الفوز بالمآرب الدنيوية لأنه يجذب قلوب الناس إلى التودد لصاحبه ويصرف همتهم إلى الذب عنه وتحصيل مطالبه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجود حارس الأعراض» (1) (وحسن الخلق مجلبة للمودة) حسن الخلق هو الاعتدال بين طرفي الافراط والتفريط في القوة الغضبية والشهوية، ومجلبة اسم آلة أو مصدر ميمي والحمل هنا للمبالغة كما في السوابق. يعني أن حسن الخلق مع الناس ومخالطتهم على الوجه الحسن الجميل والتودد لهم والاحتمال منهم والاشفاق عليهم والحلم والصبر وغير ذلك من محاسن الصفات الخلقية يجلب إلى صاحبه محبتهم ودادتهم وصداقتهم وغير ذلك من خير الدنيا والآخرة حتى أن العدو يصير بذلك صديقا شفيقا وقد رغب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:

«خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا إليكم» (2) (والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) في المغرب الهجوم الاتيان بغتة والدخول من غير استيذان من باب طلب، يقال: هجم عليه. يعني يتعدى بعلى. واللوابس جمع اللابس على غير قياس كالفوارس جمع فارس من اللبس بالضم مصدر لبست الثوب ألبسه أو بالفتح مصدر لبست عليه الأمر ألبسه أي خلطته ومنه قوله تعالى (وللبسنا عليهم ما يلبسون) والتبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه أو جمع لبسة; يقال: في الأمر لبسة بالضم أي شبهة ليس بواضح، والمقصود أن العالم بأحوال أبناء زمانه وعاداتهم الفاسدة ورسومهم الكاسدة من إنكار الحقوق واتباع أهواء النفوس وترويج الشرور وإعلان قول الزور لا تهجم عليه اللوابس أي الذين يلبسون الحق بالباطل والنور بالظلمة والأمر الواضح بالشبهة.

ولا يدخلون عليه بغتة وعلى سبيل الغلبة بالتدليسات والتلبيسات ولا يغلبونه بالتخليط وإلقاء الشبهات لعلمه بفساد أقوالهم وأفعالهم وإدراكه بالفراسة والتجربة سوء صنايعهم وقبايح أعمالهم أو المقصود أنه لا يدخل عليه الشبهات، فيه تنبيه على أن الغالب في كل عصر هو إنكار الحق وترويج الكفران، وإفشاء الظلم ونشر الجور والطغيان، كما يعرفه أصحاب القلوب وأرباب العرفان وإذا تحقق ذلك مع طول مدة الإسلام واستقراره في القلوب فلا ينكر تحققه بعد فوت النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يستبعد وقوع ما وقع بعده من خروج أكثر الأمة عن الدين، ولما كان هنا مظنة أن يقال عدم هجوم اللوابس على العالم بأهل زمانه لسوء ظنه بهم وعدم استماعه لأقوالهم ولا اتباعه لآثارهم وأطوارهم إلا بعد الاستظهار فيها والأخذ بالحزم لئلا ينخدع وسوء الظن لا يجوز قال دفعا لذلك (والحزم مساءة الظن) حزم الرجل جودة

ص: 317


1- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 211.
2- 1 - النهج أبواب الحكم تحت رقم 9.

رأيه وإحكام أمره وضبطه له وأخذه بالثقة والحذر من فواته، والمساء مصدر ميمي ساءه يسوؤه سوءا بالفتح ومساءة نقيض سره والحمل للمبالغة والإضافة إلى الفاعل على الظاهر. يعني جودة الرأي وإحكام الأمر وأخذه بالثقة على وجه لا يقع في الباطل والشبهة يقتضي سوء الظن بهم يعني تجويز السوء منهم والتثبت فيما يأتون به حتى يتبين الحق من الباطل والصدق من الكذب والعلم من الشبهة ولو وجب القبول منهم من غير حزم ولم يجز نسبة السوء إليهم لوقع الهرج والمرج وبطل الدين ورجع كما كان قبل البعثة، ولذلك قال الله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وقال (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) وبالجملة الحزم يوجب أن يبنى الحال أولا على جواز السوء منهم حتى يتبين له الحق ويحصل الإذعان به، وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي متابعة الغير في أمر من الأمور مع تجويز كون ذلك الأمر خطأ، بل لابد من كمال الاحتياط فيه، وإنما قلنا على جواز السوء منهم لأنه الذي يقتضيه الحزم والاحتياط فلا ينافي ما ورد من النهي عن مساءة الظن بالخلق لأن ما ذكرناه من باب التجويز العقلي المناسب للحزم وما ورد النهي عنه من باب الاعتقاد الفاسد والقول بالشيء رجما بالغيب.

(وبين المرء والحكمة نعمة العالم) «نعمة» بالتنوين والعالم بيان لها أو بالإضافة للبيان أو بتقدير اللام، ولعل المقصود أن بين المرء العاقل والحكمة نعمة العالم هي إرشاده وهدايته الموصلة إليها وتخليصه من ظلمات الأوهام وتثبيته من مزال الأقدام وتسديده في مواضع أغاليط الأفهام وتعليمه كيفية السلوك في طرق المطالب وتقويته للوصول إلى دقايق الحكمة في أعلى المراتب (والجاهل شقي بينهما) أي بين الحكمة ونعمة العالم يعني لا ينفعه سعي العالم وإرشاده وهدايته وتعليمه وتفهيمه وتسديده كل ذلك لشقاوته الذاتية ودناءته الطبيعية وظلمته النفسية وكدورته الذهنية، واحتمال عود ضمير التثنية إلى الجاهل والحكمة يعني كما أن بين العاقل والحكمة عالم رباني يهديه إليها كذلك بين الجاهل والحكمة شقي يضله عنها بعيد، وفيه دلالة على أن العقول البشرية وإن كانت قابلة لإدراك الحكمة والعلوم فهي تحتاج إلى توسط أستاذ هو عقل العالم وإرشاده. لأنها مع هذا الوسط تصير نورا على نور فتدرك الحقايق كما هي وتأمن من الغلط ثم إن هذا العالم يحتاج إلى عالم رباني إلى أن نتهى إلى عالم بالذات لا يحتاج في علمه إلى غيره أصلا وهو الله تعالى شأنه ونظير ذلك أن نور البصر في إدراكه يحتاج إلى توسط نور الشمس أو نور المصباح أو غيرهما فإنه حينئذ يصير نورا على نور يدرك المبصرات على ما ينبغي، والروايات الدالة على اعتبار ذلك الوسط كثيرة جدا منها «من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل» (1) وعلى أن الجاهل الفاقد للبصيرة لا ينفعه توسط العالم وإرشاده أو على

ص: 318


1- 1 - في الاختصاص ص 221 هكذا «من أعجب بنفسه هلك ومن أعجب برأيه هلك».

أن له قرينا شقيا يضله عن طريق الحكمة «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين».

ولشرح هذه العبارة أقوال أخر نحن نشير إلى بعضها إجمالا ليحصل لك الإحاطة بجهات الكلام فنقول: قال بعض الأفاضل: المقصود منها أن المرء من لدن عقله وتمييزه إلى بلوغه حد الحكمة متنعم بنعمة العلم ونعيم العلماء فإنه لا يزال في نعمة من أغذية العلوم وفواكه المعارف فان معرفة الحضرة الالهية لروضة فيها عين جارية وأشجار مثمرة قطوفها دانية والجاهل بين مبدء أمره ومنتهى عمره في شقاوة عريضة وطول أمل طويل ومعيشة ضنكة وضيق صدر وظلمة قلب إلى قيام ساعته وكشف غطائه وفي الآخرة عذاب شديد. وقال بعضهم: المراد أن ما أنعم الله تعالى به على العالم من العلم والفهم والصدق على الله واسطة للمرء يوصله إلى الحكمة فإن المرء إذا عرف العالم أتبعه وأخذ منه فيحصل له الحكمة ومعرفة الحق والاقرار به والعمل على وفقه، وهكذا إذا عرف حال الجاهل وأنه غير عالم فهم صادق على الله يترك متابعته والأخذ منه ويسعى في طلب العالم فيطلع عليه فيأخذ منه فالجاهل باعتبار سوء حاله باعث بعيد لوصول المرء إلى الحكمة فهو شقي محروم يوصل معرفة حالة المرء إلى سعادة الحكمة (والله ولي من عرفه) يعني محبه وناصره والمتكفل لأمره في الدنيا بهدايته إلى الطاعات والخيرات وتثبيت ذهنه على الفضايل والملكات وفي الآخرة بتشريفه بمنازل القرب في أعلى درجات الجنان والاقبال عليه بالإكرام والافضال والاحسان.

(وعدو من تكلفه) أي تكلف العرفان وتصنع به وهو غير عارف وهو أحق بالعداوة من الجاهل الخامل، ومن ثم قيل: النفاق أسوء من الكفر والمراد بعداوته له إبعاده عن الرحمة وترك الافضال عليه ووكوله إلى نفسه حتى تورده مورد الهلاك والخذلان (والعاقل غفور) أي مصلح لأمره من قولهم غفروا هذا الأمر أي أصلحوه بما ينبغي أن يصلح، أو ساتر لذنوب إخوانه وعيوبهم ومتجاوز من خطاياهم وإساءتهم من الغفر بمعنى التغطية، وذلك لعلمه بما في الغفران من الأجر الجميل والثواب الجزيل، ولأنه قريب من الله تعالى ومتخلق بأخلاقه ومن أخلاقه الكريمة غفران الذنوب وستر العيوب والتجاوز عن السيئات وإن صدر عنه المؤاخذة والكشف في بعض الأحيان لمصلحة لا يسلب عنه هذا الاسم كما في الواجب (والجاهل ختور) أي خبيث النفس كثير الغدر والخدعة بالناس لأنه فاقد للبصاير الذهنية وعادم للفضائل العقلية وحامل للرذايل الشيطانية فيظن أن الغدر والحيل والمكر والختل وكشف العيوب والذنوب وسوء المعاملة مع الناس خير له في تحصيل منافعه ومطالبه وتيسير مقاصده ومآربه وإنما أتى بصيغة المبالغة للاشعار بان الفعل مع وجود دواعيه وعدم موانعه يصدر على وجه الكمال (وإن شئت أن تكرم فلن) تكرم على البناء للمفعول أي إن شئت أن تكون كريما وشريفا حسنا خيارا عند الخالق

ص: 319

والخلائق فلن للناس في الكلام والسلام واخفض لهم جناحك عند اللقاء فإن من لأن جانبه كثر أعوانه وأنصاره، ومن كثر أنصاره كان مكرما شريفا (وإن شئت أن تهان فاخشن) تهان على البناء للمفعول من الإهانة وهي الاستخفاف والاستحقار، واخشن بضم الشين من الخشونة وهي ضد اللين وقد خشن الرجل بالضم فهو خشن يعني إن شئت استخفافك واستحقارك وانحطاط منزلتك فصر ذا خشونة عند ملاقاة الناس ومحاوراتهم ومقاولاتهم فان الخشونة جالبة لهذه الأمور (ومن كرم أصله لأن قلبه ومن خشن عنصره غلظ كبده) بين (عليه السلام) السبب الأصلي لحسن الخلق ولين القلب ورحمته ولطافته والسبب الأصلي لسوء الخلق وغلظة القلب وقساوته بأن من كرم أصله ولطف عنصره الذي ينحل إليه البدن وشرفت طينته التي منها خلق شرف قلبه يعني نفسه الناطقة لأن الشريف إنما يتعلق بالشريف، ومن شرف قلبه شرفت صفاته من اللينة والرأفة وحسن الخلق وغيرها لأن فعل الشريف وصفاته لا يكون إلا شريفا، ومن خشن عنصره وكثفت طينته غلظ كبده وخس قلبه لأن الخسيس إنما يتعلق بالخسيس ومن خس قلبه قبحت صفاته من الخشونة والغلظة وسوء الخلق وغيرها، وأورد لفظ الكبد بدل القلب للتنبيه على عدم استحقاقه (1) لهذا الاسم وبالجملة الأخلاق والصفات مترتبة على اجتماع النفوس والأبدان فأشرف الأخلاق يتعلق بأشرف النفوس وأشرف النفوس يتعلق بأشرف الأبدان وألطفها وأخس الأخلاق يتعلق بأخس النفوس وأخس النفوس يتعلق بأخس الأبدان وأكثفها، فالتفاوت إنما نشأ من كرم الأصل وخسته، كل ذلك ظاهر إلا التفاوت في الأصل فإنه دقيق جدا، ومعرف ذلك يتوقف على التأمل الدقيق في الروايات المذكورة في كتاب الكفر والإيمان.

وقيل المراد بكرم الأصل كون النفس فاضلة شريفة ذات ارتباط شديد وتأيد بالنور ومن كان كذلك لأن قلبه الذي هو مبدء الآثار العقلانية لأن النفس أولا يتعلق بالروح (2) الحاصلة فيه فلأن عناصره باستمداد من الروح الذي يجيىء إليها من القلب «ومن خشن عنصره غلظ كبده» أي ومن لم يكن كريم

ص: 320


1- 1 - يعني ليس المراد بالكبد هذا العضو الجسماني الواقع في الجانب الأيمن من البطن لطبخ الغذاء وتبديل الكيلوس إلى الكيموس بل المراد منه النفس وكذا القلب وإنما يعبر عن النفس تارة بالكبد وتارة بالقلب والكبد عند الأطباء مبدء القوة الطبيعية أي النفس النباتية والقلب محل القوة النفسانية أي الحيوانية، والقلب أقرب إلى النفس الناطقة من الكبد، وأشار (عليه السلام) بهذه العبارة إلى أن من خشن عنصره فالمناسب أن يعبر عن نفسه بالكبد لبعده عما خلق له وميلانه إلى الطبيعة (ش).
2- 2 - المراد بالروح هنا الروح الطبيعي الحيواني في اصطلاح الأطباء وهي عندهم بخار له مزاج سار في العروق ومسام البدن وبطون الدماغ وهو أكثر في الشرائين من الأوردة، النفس يتعلق أولا به وبتوسطه بالبدن وليس المراد بالروح هنا النفس الناطقة (ش).

الأصل وهو من خشن عنصره وخبث طينته غلظ منه ما هو المناط في قوام البدن وقوته وهو الكبد فيستولي القوى البدنية فيه على القوة العقلانية (ومن فرط تورط) يقال: فرط في الأمر فرطا أي قصر فيه وضيعه حتى فات وكذلك التفريط وفرط أيضا فهو فارط إذا سبق وتقدم وجاوز الحد، وتورط في الورطة أي وقع في الهلكة، ولعل المراد من فرط في الحق وقصر فيه وقع في الهلكة لأن أصل التقصير في الحق ورطة وهلكة أو لانه مستلزم لوقوعه في ضد الحق أعني الباطل أو المراد من سبق إلى دواعي النفوس وجاوز الحد في متابعة القوى النفسانية فقد وقع في الهلكة.

(ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم) تثبت ماض من التثبت أو مضارع من الثبات، والوغول الدخول وأوغل في السير وتوغل إذا أسرع فيه وأمعن، يعني من خاف سوء العاقبة ولومها تثبت عن الدخول فيما لا يعلمه وعن الإسراع في التكلم فيه والاعتقاد به، ومن علامة العاقل السكوت في الشبهات فإن مفاسد النطق بها كثيرا جدا وفي الحديث «من تورط في الأمور غير ناظر للعواقب فقد تعرض لمفضحات النوائب» (ومن هجم على أمر بغير علم فقد جدع أنف نفسه) الجدع بالجيم والدال المهملة قطع الانف وقطع اليد وقطع الشفة تقول منه جدعته فهو أجدع وجدع أنف النفس المجردة اما كناية عن أزالة سعاداتها الأبدية بالجهل أو كناية عن تحقيرها وإذلالها يعني من دخل في أمر بغير علم بذلك فقد استحقر نفسه واستصغرها ووسمها بسمة الحقارة والرذالة والهلاك عند الخالق والخلق جميعا، ومثله مثل الفراش تتساقط من جهلها في نار المصباح يتوهم أنها كوة يستضىء منها النور فيقصدون الخروج منها فيحترقن، ثم بين (عليه السلام) فضل العلم وشرفه بقياس مفصول النتايج بقوله (ومن لم يعلم لم يفهم، ومن لم يفهم لم يسلم) أي من لم يعلم الحسن والقبيح لم يفهمها ولم يميز بينهما ومن لم يميز بينهما لم يسلم من ارتكاب القبيح والتعرض له (ومن لم يسلم لم يكرم) معلوم من كرم أي من لم يسلم عن القبيح لم يكن شريفا نجيبا فاضلا، أو مجهول من أكرم أي لم يكن معززا مكرما معدودا من كرام الناس بل مخذولا مهانا (ومن لم يكرم يهضم) في أكثر النسخ يهضم من الثلاثي المجرد، وفي بعضها تهضم من باب النفعل وفي القاموس هضم فلانا ظلمه وغضبه كاهتضمه وتهضمه، وفي الصحاح هضمت الشئ كسرته، يقال: هضمه حقه واهتضمه وتهضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه ورجل هضيم ومتهضم أي مظلوم، ثم الفعل الأول إن كان مبنيا للفاعل كان الثاني أيضا كذلك على الظاهر في النسختين جميعا لأن الموصول هو الذي يكسر نفسه ويذلها ويظلمها بسبب عدم اكتساب كرامتها وشرافتها وإن كان مبنيا للمفعول كان الثاني أيضا كذلك لأن المكاسر عزه والمذل له حينئذ غيره.

(ومن يهضم كان ألوم) أي أكثر استحقاقا ولوما مما تقدم (ومن كان ذلك) أي ألوم (كان أحرى أن

ص: 321

يندم) على ما ساقه إلى الملومية من التوغل فيما لا يعلم أو من الهجوم على أمر بغير علم أو من جميع ما تقدم. واعلم أن هذه المقدمات إذا اعتبرت انتاجها تنتج «فمن لم يعلم كان أحرى أن يندم» أما المقدمة الأولى فلان الفهم وهو ملكة الانتقال كما عرفت مرارا مستلزم للعلم ومتوقف عليه وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم، وأما الثانية فلأن السلامة عن الرذايل النفسانية متوقفة على الفهم والتمييز بينها وبين فضايلها فينتفي بانتفائه، وأما الثالثة فلأن كرامة النفس وشرافتها وعلو منزلتها فرع لسلامتها عن الرذايل والمقابح وانتفاء الأصل مستلزم لانتفاء الفرع، وأما الرابعة فلأن عدم إكرام أحد وتعظيمه بسبب لهضمه وكسره واحتقاره وإذلاله، وأما الخامسة فلأن هضم أحد وإذلاله مستلزم لرداءته ولومه وعذله، وألوم بمعنى اسم المفعول وسبب الزيادة ظاهر إذ الإذلال لا يساوقه شئ من الاضرار، وأما السادسة فلأن لوم أحد بجهالته وعذله برداءته على وجه المبالغة من أقوى الأسباب لندامته على سوء أحواله وقبح أوضاعه وأفعاله.

* الأصل:

اشارة

30 - «محمد بن يحيى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملته عليها واغتفرت فقد ما سواها ولا أغتفر فقد عقل ولا دين، لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن فلا يتهنأ بحياة مع مخافة، وفقد العقل فقد الحياة ولا يقاس إلا بالأموات».

* الشرح:

(محمد بن يحيى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير) أي صارت محكمة يعني ملكة راسخة، والمراد من خصال الخير فضائل النفس وأخلاقها مثل العفة والسخاوة والحلم وغيرها مما عرفته آنفا وستعرفه فيما بعد ومما هو مذكور في كتاب الأخلاق وقوله «لي» على تضمين معنى الثبوت أو الظهور أي ثابتا لي ذلك، أو ظاهرا عندي، أو على معناه لأجلي يعني لأجل إعانتي في إنجائه من العقوبات وهذا نظير ما قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): «اضمن لي الجنة فقال: أعني بكثرة السجود» (1) (احتملته عليها واغتفرت فقد ما سواها) أي أعنته على تلك الخصلة ورضيت باحتماله وقبلتها منه ورفعت بها قدره في الآخرة وتجاوزت عن فقد ما سواها وسترته ولم آخذه به (ولا اغتفر فقد عقل ولا دين) ليس المراد بالعقل هنا العقل الهيولاني الذي به يفارق الإنسان ساير الحيوانات لأنه موجود في الجميع ولو فقد في البعض ففقده ليس باختياره بل المراد به العقل الذي له ملكة إدراك المعارف الإلهية وهو الذي يسمونه عقلا بالفعل، والمراد بالدين معرفة الشرايع الصادرة بواسطة الرسول وإطاعته في الأمر والنهي وغيرهما، يعني لا أغتفر فقد عقل فقط ولا أتجاوز عن التقصير فيه وإن كان له

ص: 322


1- 1 - أخرجه مسلم في صحيحه ج 2 ص 52 باب فضل السجود والحث عليه.

دين ولا فقد دين فقط وإن كان له عقل سواء كان الفاقد لهما موصوفا بجميع خصال الخير أولا (لأن مفارقة الأمن) لأن الأمن من العذاب والوقوع في الباطل إنما يحصل باتباع الرسول وإطاعته لأن قوله قول الله وأمره أمر الله وقد بعثهم على الناس ليجذبهم عما يميلون إليه من اتباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزايلة بتذكيرهم لما أعطاهم الله من نعمه الجسيمة ومننه العظيمة وترغيبهم فيما أعده لأوليائه وتحريصهم على ما قرره لأصفيائه وإشارتهم إلى الدرجات الرفيعة وإرشادهم إلى المقام العلية بالمقدمات اللامعة والبراهين الساطعة، فمن تبعه أمن من الكفر والعذاب وخلص من الباطلة والعقاب، ومن فارقه ولم يتمسك بدينه ولم يعمل بقوانينه واتبع رأيه الفاسد المستند إلى النفس الأمارة أو جاهلا يتكلم في الدين بغير بصيرة ولا يقين فقد فارق الأمن وتصدى للبطالة والغواية وأورد نفسه مورد الضلالة والمخافة لعدم علمه بإصابة رأيه ورأي ذلك الجاهل المتبوع فلا يأمن من الكفر والخروج من الدين في هذه النشأة ولا من العقاب في النشأة الآخرة.

(فلا يتهنأ بحياة مع مخافة) في المصادر التهنؤ «گوارنده شدن» وفي الصحاح والنهاية هنأني الطعام يهنئني ويهنأني وهنئت الطعام أي تهنأت به فالفعل على الأول مبنى للفاعل وحياة فاعله والباء زائدة وكذا على الثاني وفاعله ضمير لفاقد الدين والباء للتعدية ولعل المراد بالحياة الحياة الدنيوية وتكدرها بالمخافة الناشية من مفارقة الدين ومن العقل والعلم في الجملة ظاهر وكيف يكون فاقد الدين وهو عالم آمنا سعيدا، ومتى يكون عيشه وحياته طيبا رغيدا مع علمه بأن له في كل قدم خطرا عظيما وفي الآخرة عذابا أليما وأما الجاهل الفاقد له، فإنه وإن كان أيضا هالكا ضالا لكن لجهله لا يشعر بالخوف التابع للعلم ومثلهما مثل رجلين مسافرين في مفازة مخوفة عميقة إلى شقة بعيدة وتركا طريق الأمن الموصل إليها وسلكا طريقا آخر فيه أنحاء من الفساد والضرر وأنواع من الخوف والخطر، ويعلم أحدهما أحوال هذا الطريق دون الآخر فإن العالم بها حياته مكدرة وعيشه منغصة وربما يضطره مخافة الهلاك إلى ترك الشراب والطعام واعتزاله عن فراش الاستراحة والمنام، وأما الجاهل بها فإنه فارغ عن هذا الخوف والاضطراب وإن كان مشاركا له في الهلاك عند نزول العذاب، أو المراد بالحياة الحياة المعنوية القلبية وهي العلم الإجمالي بالله تعالى وبكتابه وبرسوله وحقية شرايعه ودينه إلا أنه رجع في تفصيله إلى رأيه أو إلى جاهل متصنع بالعلم التفصيلي ولم يسمعه من الرسول أو ممن يقوم مقامه كما هو شأن مخالفينا ولا ريب في أن حياته هذه مكدرة ناقصة لا تنفعه مع مخافة أن يخرج في أصول القواعد الشرعية أو فروعها عن منهج الدين أو مع مخافة أن تزول عنه هذه الحياة بتسويلات الشياطين.

(وفقد العقل فقد الحياة) لأن الحياة التي يجب صرف العمر في حفظها وتكميلها ووردت الشرائع

ص: 323

والكتب الإلهية بالأمر بتحصيلها هي استكمال النفس بالحقايق والمعارف والعلوم النافعة في الآخرة فمن تحلى نفسه بها وصار عقله عاقلا بالفعل فهو حي حقيقة في الدنيا والآخرة ومن تخلى نفسه عن هذه المعارف والكمالات وغطى عقله بأغطية الرذايل والجهالات فهو معدود بلسان الشرع من الجمادات (ولا يقاس) أي لا يقدر ولا يشبه (إلا بالأموات) لعدم اطلاعه على وجوه مفاسده ومصالحه وعدم اهتدائه إلى رفع مضاره وجلب منافعه كالأموات بل هو أدنى حالا وأقبح مآلا لاضطجاعه بين الشبهات.

* الأصل:

اشارة

31 - «علي بن إبراهيم بن هاشم، عن موسى بن إبراهيم المحاربي، عن الحسن بن موسى، عن موسى بن عبد الله، عن ميمون بن علي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن موسى بن إبراهيم المحاربي) لم أعرف حاله (عن الحسن بن موسى) شريف معظم من وجوه أصحابنا كثير العلم والحديث (عن موسى بن عبد الله، عن ميمون ابن علي) لم أعرف حاله أيضا (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إعجاب المرء بنفسه) أي استعظامه إياها لاتصافها بفضيلة دنيوية مثل المال والجاه وكثرة الأولاد والأنصار أو بفضيلة اخروية مثل العلم والعمل وساير الكمالات واستكثاره لتلك الفضيلة والابتهاج بها والركون إليها والرضا بها حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاوز عن حد التقصير ويستبعد انحطاط رتبته عند الله تعالى وله مثل هذا العمل والفضيلة عن رتبة العابدين ويعتقد أنه لا يعذبه أبدا لأجله.

(دليل على ضعف عقله) وقلة علمه وقصور معرفته بالصانع وصفاته التامة الكاملة إذ لو كان له عقل كامل وعلم تام ومعرفة بما له جل شأنه من القوة والقدرة والغلبة والعظمة والجلال علم أن كل شئ سواه مقهور تحت قدرته مغلوب عند عزته ذليل في ساحة عظمته، وأن لا مانع لسلطانه ولا نهاية لعرفانه ولا دافع لامضاء أمره وجريان برهانه وإن السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما ما يرى وما لا يرى من الروحانيين والملائكة والمقربين والأنبياء المرسلين خاشعون خاضعون متذللون لحكمه معترفون بالعجز والتقصير، فإذا عرف هذه الأمور وتفكر فيها تفكرا صحيحا خاليا عن الشبهات وتأمل فيها تأملا سليما عن الآفات وجد نفسه وإن كان لها جميع الكمالات مذعنة بالعجز والانكسار معترفة بالذل والافتقار مربوطة بربقة العبودية والخذلان موصوفة بصفة المسكنة والنقصان، بعيدة عن الاعجاب،

ص: 324

قريبة من الخوف والاضطراب. وسيجئ تحقيق العجب ولوازمه ومفاسده وعلاجه في بابه إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

اشارة

32 - «أبو عبد الله العاصمي، عن علي بن الحسن، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل قال: فقال (عليه السلام): لا يعبؤ بأهل الدين ممن لا عقل له قلت: جعلت فداك إن ممن يصف هذا الأمر قوما لا بأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول فقال: ليس هؤلاء ممه خاطب الله إن الله خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، وقال له أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك أو أحب إلي منك، بك آخذ وبك أعطي».

* الشرح:

(أبو عبد الله العاصمي) هو أحمد بن محمد بن محمد بن عاصم ثقة (عن علي بن الحسن) يعني ابن فضال (عن علي بن أسباط) فطحي ثقة رجع إلى الحق عند النجاشي ولم يرجع عند الكشي، وقال العلامة أنا أعتمد على روايته (عن الحسن بن الجهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)) قال: يعني الحسن بن الجهم (ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل) «ذكر» في الموضعين على البناء للمفعول وأصحابنا والعقل في موقع الفاعل يعني ذكر عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أصحابنا الإمامية وأحولاتهم وذكر عنده العقل وتفاوت مراتبه (قال: فقال: لا يعبؤ بأهل الدين بمن لا عقل له) بدل لقوله بأهل الدين وفي بعض النسخ «ممن لا عقل له» ولا يعبؤ على البناء للمفعول والظرف قائم مقام الفاعل والعبء بفتح العين وسكون الباء المبالاة، يقال: ما عبأت بفلان عبأ أي ما باليت به، والمراد بالعقل العقل بالفعل والعقل المستفاد أو ملكة الانتقال إلى العلوم والادراكات الحقة، أو نفس تلك العلوم وسميت تلك العلوم بالعقل لأن العقل مأخوذ من عقال دابة والعلوم تمنع صاحبها من الهلاك كالعقال للدابة يعني لا يبالي بأهل الدين بحسب الظاهر ممن لا عقل له، ولا يلتفت إليه، ولا يعد شريفا مكرما، ولا يثاب ثوابا جزيلا، ولا يعطى أجرا جميلا، وإنما قلنا بحسب الظاهر لأن أهل الدين بحسب الحقيقة من كان له مناط التمييز بين الحق والباطل واستضاء ذهنه بأنوار المعارف الالهية واستنار قلبه بشموس الحقايق الربانية فصار بحيث لا يحجبه ظلمة الهيئآت البدنية والمعارضات الوهمية والخيالية عن ملاحظة أسرار عالم الغيب وأنوار عالم الشهادة، وأما الذي ليس له تلك الفضايل وإن كان من أهل الدين فهو مستغرق بعد في بحر الرذايل يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض أعني موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية وموج الغفلات الداعية إلى الصفات السبعية كالغضب والعداوة والحقد والحسد والمباهات والمفاخرة وأمثالها وسحاب

ص: 325

العقائد الفاسدة التي صارت حجابا لنور البصاير عن إدراك نور الحق ومن كانت هذه صفاته كثرت على جوارحه وقلبه زلاته فلا اعتناء بعقائده وعاداته ولا مبالاة في أعماله من صومه وصلاته وسائر عباداته.

(قلت جعلت فداك إن ممن يصف هذا الأمر) أي أمر الإمامة ويقول بها وينسب نفسه إليها وفي قوله «يصف» دون أن يقول يتصف إيماء إلى أن ذلك بمجرد القول الخالي عن العقد اليقيني والإذعان القلبي الحاصل بالبرهان القطعي (قوما لا بأس بهم عندنا) معاشر الإمامية في أفعالهم وأعمالهم الظاهرة الموافقة لمذهبنا وليست لهم تلك العقول التي هي مشكاة الهداية في ظلمات الطبايع البشرية ومصباح الدراية في شبهات الأوهام الطبيعية (فقال ليس هؤلاء ممن خاطب الله تبارك وتعالى) بالارتفاع إلى المعارج العلية (1) والاهتداء إلى المعارف الربوبية والقيام بالسياسة المدنية والرياسة العقلية والشرعية وإنما هم جماعة يجري عليهم أحكام صاحب السياسة ومالك زمام الرياسة بأنحاء التعذيب وأنواع التأديب ليتم صلاحهم وصلاح بني نوعهم ويحصل لهم بذلك حياة الدنيا ونجاة الآخرة وبما ذكرنا لا يرد أن قول السائل «لا بأس بهم عندنا» دل على أن لهم العقل الذي هو مناط التكليف والخطاب بالأحكام وقوله (عليه السلام): «ليس هؤلاء ممن خاطب الله» دل على أن ليس لهم هذا العقل فبين السؤال والجواب منافاة في الجملة ووجه عدم الورود أن للعقل مراتب متفاوتة وأدنى مراتبه وما هو مناط التكليف بظواهر الأعمال والأفعال الشرعية التي يحصل به صلاح الخلق في الدنيا ونجاتهم في الآخرة.

وأعلاها ما هو مناط الفوز بأعلى المقامات الممكنة لقوة البشرية والمتصف به هو خاص الخاص والمتوسطات متوسطات، والثابت لهم هو أدنى المراتب، والمنفي عنهم ما سواها ويرشد إليه أيضا قول السائل: «وليست لهم تلك العقول» فإن «تلك» للإشارة إلى البعيد وفيها دلالة على أن العقل المسلوب عنهم هو الواقع في الدرجات العالية، والغرض من هذا السؤال هو استعلام حالهم أيعبؤ بهم أم لا فأشار (عليه السلام) بقوله «ليس هؤلاء ممن خاطب الله» إلى أنه لا يعبؤ بهم إلا أنه أقام السبب موقع المسبب (إن الله خلق

ص: 326


1- 1 - والعجب أن البلهاء من المتدينين يعدون طريقتهم ومذهبهم أسلم وآمن من طريقة العقلاء يقولون إن الفكر مثار الشبهة والعقول ليست مما يعتمد عليها ومن اتكل على عقله ضل الطريق ويحملون قولهم (عليهم السلام) «إن دين الله لا يصاب بالعقول» على هذا وهو غير معناه والمعلوم أن في كل زمان حتى في عصر الأئمة (عليهم السلام) كان جماعة من هؤلاء ونحن نقول فائدة العقل أن يميز بين الدليل الصحيح والفاسد والحديث الصحيح والسقيم بالقرائن ويعرف المعنى المراد من الكتاب الكريم وغير المراد منه كيد الله ووجه الله وآيات الجبر والتفويض وما يجب أن يختاره عند تزاحم الامارات وتعارض الأدلة كالتقية في مورد وجوبها عن مورد حرمتها وغير ذلك مما لا يحصى و «أكثر أهل الجنة البلهاء» مثال لذلك فيحمله الجاهل على فضل الجهل ويحمله العاقل على معناه المراد أعني فاقد النكراء والشيطنة. (ش)

العقل) وهو نور محض وضوء صرف ما شابه أرجاس الأوهام وأخباث الظلام، وهذا تعليل للسابق وبيان له ولذا ترك العاطف (فقال له أقبل فأقبل، وقال له: أدبر فأدبر، فقال وعزتي ما خلقت شيئا أحسن منك، أو أحب إلي منك) الترديد من الراوي لعدم ضبط اللفظ المسموع بخصوصه (بك آخذ) أي بسبك اعاقب بالبعد عن مقام القرب والاحسان وبالحبس في سجون الطبايع والنسيان، وهذه المرتبة سماها مرتبة المسخ بعض أهل العرفان، أو بسببك أقبل الأعمال الموجبة للقرب (وبك أعطي) أجرا جميلا وثوابا جزيلا ومقاما محمودا فيه أنواع من الافضال والاكرام وأنحاء من الاحسان والانعام، ولدينا مزيد، وفي حذف مفعول الفعلين دلالة على التعميم ولا يبعد تنزيلهما منزلة اللازم وجعلهما كنايتين عنهما حال كونهما متعلقين بمفعول معلوم بقرينة المقام وقد مر شرح هذا الكلام مستوفى (1) مرارا وملحض القول فيه أن الاخذ والاعطاء بسبب العقل فإن زاد زادا وإن نقص نقصا حتى يبلغ إلى عقول أقوام لا يبالي بهم ولا يشدد عليهم وهم قريب المنزلة بالبهائم والله أعلم.

* الأصل:

اشارة

33 - «علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس بين الايمان والكفر إلا قلة العقل قيل: وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: إن العبد يرفع رغبته إلى مخلوق فلو أخلص نيته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك».

* الشرح:

(علي بن محمد عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ليس بين الايمان والكفر) لعل المراد بالايمان هنا الايمان الكامل (2) وهو الذي يوجب القرب التام إليه سبحانه وجلب رحمته على وجه الكمال، وبالكفر الكفر المحض وهو الذي يوجب غاية البعد عنه تعالى وسلب استحقاق رحمته بالكلية (إلا قلة العقل) يعني قليل العقل متوسط بين المؤمن

ص: 327


1- 1 - سبق مفاد هذا الحديث مرتين ومضى شرحه مرارا وذكرنا شيئا يتعلق باولية خلق العقل في التعليقات والحاصل ان وجود جزئيات الأجسام يدل على جود عالم جسماني أصله ومبدؤه المادة وتتشكل المادة تارة في صورة وتارة في صورة أخرى كذلك العقول الجزئية في افراد الإنسان تدل على جود عالم عقلي مجرد عن المادة وشأنه العلم والادراك ومبدؤه موجود مجرد وهو للعالم الروحاني بمنزلة المادة للعالم الجسماني وهو العقل الكلي الذي له اشراق على العقول الجزئية فالعقل مبدء ما لا يرى، والمادة مبدء ما يرى والفرق بينهما أن ما يتولد من المادة أفضل وأكمل من نفس المادة وما يتولد من العقل انقص منه والعقل الكلي المجرد أول ما خلق الله والعقول الجزئية اشراقات منه وبهذا الاعتبار هو مناط التكليف. (ش)
2- 2 - انما احتاج إلى هذا التأويل لأنه لا واسطة بين الايمان والكفر عند المسلمين إلا عند طائفة شاذة من المعتزلة قد انقرضت من ثبوت المنزلة بين المنزلتين. (ش)

والكافر ليس مؤمنا حقيقيا كاملا لما فيه من قصور العقل الموجب لبعده عنه تعالى في الجملة ولا كافرا حقيقيا محضا لما فيه شئ من نور العقل الموجب لقربه تعالى في الجملة.

(قيل كيف ذاك) أي توسط قلة العقل بين الايمان والكفر (يا ابن رسول الله) لعل منشؤ السؤال استبعاد الواسطة نظرا إلى ظاهر قوله تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وذلك الاستبعاد مدفوع إذ لا نسلم أن في الآية الكريمة دلالة على الحصر لجواز أن يكون ذكرا لواسطة مسكوتا عنه ولو سلم، فلعل المراد بالايمان والكفر في الآية أصلهما ولا واسطة بينهما لاكمالهما وثبوت الواسطة بين كمالهما ظاهر (قال: إن العبد) أراد به العبد العارف بالله في الجملة بقرينة قوله «فلو أخلص نيته لله» (يرفع رغبته) أي حاجته ومراده وما يرغب فيه من أمور الدنيا (إلى مخلوق) لظنه بصور عقله أن المخلوق يرفع حاجته ويحصل بغيته فيتذلل له ويتخشع (فلو أخلص نيته لله) ويرفع رغبته وحاجته بالقصد الخالص عن شوائب الأوهام إليه سبحان (لأتاه الذي يريد) أتاه من أتى يأتي بمعنى جاءه، أو من آتي يؤتى بمعنى أعطاه والموصول على الأول فاعله وعلى الثاني مفعوله (في أسرع من ذلك) أي من إتيانه عند ذلك المخلوق أو من وقت الرفع إلى المخلوق، أو من الوقت الذي يتوقع حصول مطلوبه عند المخلوق وذلك لشمول قدرته تعالى على جميع المقدورات وإحاطته بجميع الممكنات فيتحقق ما أراد بمحض الإرادة من غير حاجة إلى استعمال آلة وانتظار روية فهذا العبد ليس مؤمنا حقيقيا لقصور نيته بالله تعالى ولا كافرا محضا لعلمه بالصانع فقد أفهم (عليه السلام) ثبوت الواسطة بمثال جزئي وأزال وهم السائل، كما هو شأن المعلم الشفيق، ومما يدل على ثبوت الواسطة ما روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «إن عليا باب من أبواب الهدى فمن دخل من باب علي كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في طبقة الذين فيهم المشية» (1) ويحتمل أن يكون معنى الحديث أن السبب للخروج من الايمان الفطري إلى الكفر ليس إلا قلة العقل وما ذكرناه أولا أوفق وأنسب.

* الأصل:

اشارة

34 - «عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبيد الله الدهقان، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن يحيى بن عمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: بالعقل استخرج غور الحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح قال: وكان يقول: التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص وقلة التربص».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبيد الله الدهقان، عن أحمد بن عمر الحلبي)

ص: 328


1- 1 - الكافي كتاب الايمان والكفر باب الكفر تحت رقم 18.

ثقة (عن يحيى بن عمران) ثقة (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: بالعقل استخرج غور الحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل) غور كل شئ عمقه وبعده وغاية خفاه وهذا الكلام يمكن أن يكون إشارة إلى تفاوت مراتب العقل والعلم في باب معرفة الصانع وازدياد كل واحد منها بسبب الآخر إذ للعقل في السير من العالم السفلي إلى العالم الذي هو عالم القدس وعالم التوحيد منازل غير محصورة وله في كل منزل نور معين وكمال معلوم وبصيرة مخصوصة يستعد بها لقبول علم فوق ما يكون له في هذا المنزل واستخراجه من القوة إلى الفعل (1) فإذا استخرجه فقد انتقل من هذا المنزل إلى منزل آخر فوقه، وهذا العلم يوجب زيادة نوره وكماله وبصيرته على ما كان له في هذا المنزل السابق فيستخرجه هذا العلم من النقص إلى الكمال وهكذا يتدرجان في الكمال ويتبدلان في السببية إلى ما شاء الله فقد تبين أن بكل واحد منهما يستخرج غور الآخر ونهاية كماله، ويمكن أن يكون إشارة إلى مراتب العقل والحكمة النظرية فإن العقل الهيولاني يستخرج العلوم الأولية باستعمال الالآت أعني الحواس الظاهرة والباطنة وبهذه العلوم يستخرج العقل من الهيولانية إلى الملكة وهكذا إلى العقل بالفعل الذي حصل له ملكة الاستحضار متى شاء من غير تجشم كسب جديد بل إلى ما فوق ذلك مما تعلق به المشية الإلهية، وبالجملة العقل بنور بصيرته يستخرج المعارف الالهية والحكمة الربانية وتلك الحكمة بعد حصولها توجب كمال العقل وزيادة بصيرته فكل منهما يوجب خروج الآخر من حد النقص إلى حد الكمال على وجه لا يكون دورا، وكما أن للعقل قوة نظرية بها يتأثر من المبدء الأعلى ويستفيض منه العلوم (2) وكمالها باكتساب تلك العلوم وقد أشار إليها بعبارة وجيزة فكذلك له قوة عملية بها يؤثر فيما

ص: 329


1- 1 - في عبارة الشارح نكات يجب التنبيه عليها حتى ينظر إليها بعناية خاصة ولا يمر عليها مرورا: الأول سير العقل من العالم الأدنى إلى العالم الاعلى يسمى في اصطلاح العرفاء بالسلوك والسائر فيه السالك وقد يقال له السفر وينقسم إلى أربعة أسفار من الخلق إلى الحق وفي الحق بالحق ومن الحق إلى الخلق وفي الخلق كل ذلك بالحق وعلى ذلك بنى صدر المتألهين (قدس سره) كتابه المعروف بالاسفار الأربعة. الثانية أن الترقي في كمال العقل متوقف على الاستعداد كانتقال المادة من صورة إلى صورة وفعلية السابقة معدة للاحقة. الثالثة أن الحكمة هي معرفة الله وما يتعلق بتلك المعرفة وهي تحصل للعقل باليسير والمجاهدة كما قال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فبتعلم الحكمة يترقى العقل وبترقي العقل يتعلم حكمة جديدة لم يكن مستعدة لها أولا، أو يقال المراد الحكمة العملية أي إطاعة الله في كل ما خلق الإنسان لأجله وليس المراد بالحكمة النظرية أو العملية تقليد جماعة معينة من الحكماء بل متابعة العقل والدليل، وقد ألف الأنصاري الهروي كتابا ممتعا في منازل السائرين. (ش)
2- 2 - هذا مذهب الحكماء في كيفية إفادة المقدمات للنتائج ومذهب الأشاعرة في مطلق الأسباب أن عادة الله جرت بخلق المسبب عند وجود السبب وقالت المعتزلة بالتوليد من غير تأثير لله - تعالى الله عن ذلك ومذهب الحكماء في هذه الأسباب أنها معدات يستعد به العقل والهيولي للإفاضة من المبدء الاعلى. (ش)

تحته وكمالها باكتساب الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة وقد أشار إليها بقوله (وبحسن السياسة) في البدن والمنزل والمدينة (يكون الأدب الصالح) أي العمل المندرج تحت القواعد النبوية والخلق الموافق للقوانين الشرعية وذلك لأن العقل سلطان في عالم الكون فيجب عليه أن ينظر أولا في أحوال البدن ومشاغل قواه وحواسه وجوارحه بالأمر والنهي وتهذيب الظاهر باستعمال الشرايع النبوية والنواميس الالهية (1) وتهذيب الباطن عن الشواغل الدنية والملكات الردية وتحليها بالملكات والأخلاق المرضية وإلى هذه المرتبة أشار جل شأنه بقوله (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) فإنه تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) بهذه الخصال المرضية والاجتناب عن الرجز الشامل لجميع الملكات الردية وأن ينظر ثانيا في أحوال جماعة معه في النسب والمنزل من الخدم والحشم ويأمرهم بمثل ذلك وبما فيه صلاحهم في الدارين من التآلف والتوافق والتعاون غير ذلك مما يوجب تكميل نظامهم، وإلى هذه المرتبة أشار جل وعز بقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وإليها وإلى الأولى أيضا بقوله (قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) وأن ينظر ثالثا إلى أحوال جماعة متشاركة في المدينة ومندرجة في سلك رعيته ويأمرهم بمثل ما مر.

وإلى هذه المرتبة أشار عز سلطانه بقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) فإذا فعل ذلك وحملهم على تلك الأعمال والأخلاق بأسواط حسن السياسة والتدبير حصل لهم الآداب الصالحة وصاروا حزب الله سائرين إلى الله، ناظرين إلى جماله وكماله; نازلين في منازل عزه وجلاله ألا إن حزب الله هم المفلحون (وكان يقول التفكر حياة قلب البصير) لما أشار (عليه السلام) إلى أن أثر العقل هو الوصول إلى غور الحكمة والبلوغ إلى نهاية كمالها، وأن أثر الحكمة هو الوصول إلى غور العقل والبلوغ إلى غايته، وأن أثر حسن السياسة هو التخلق بالآداب الصالحة والتحلي بالأخلاق الفاضلة، من البين أن الغرض الأصلي من هذه الآثار هو الوصول إلى قرب الحق والنزول في ساحة عزه وهناك اتحدت الغايتان وتقاربت المسافتان أشار هنا إلى أن مبدأ تلك الآثار ومنشأ هذه الأطوار هو تفكر قلب البصير، الفهم الذكي، والتفكر هو حركة الذهن في مقدمات المطلوب والانتقال عنها إليه والقلب في عرف العارفين هي النفس الإنسانية، واستعار الحياة للتفكر إيضاحا للمقصود وتنزيلا للمعقول بمنزلة المحسوس وتنبيها على أن

ص: 330


1- 1 - يعني أن الشريعة الإلهية النازلة بالوحي على الأنبياء (عليهم السلام) مطابق لما ذكره الحكماء في تقسيم الحكمة العملية إلى ما يتعلق بالانسان وحده بينه وبين ربه، وما يتعلق بتدبير المنزل، وما يتعلق بسياسة المدن. (ش)

الحيوان كما يتحرك بحياة الأبدان في عالم المحسوسات إلى تحصيل مقاصده كذلك القلب بالتفكر يتحرك في عالم المعقولات والمصنوعات لينتقل منها إلى عالم النظريات وعالم التوحيد ليحصل له المطالب النظرية ومعرفة الصانع وصفاته وأحوال المبدء والمعاد أو على أن وجود الحيوان وبقاءه وكماله كما يكون بحياة الأبدان كذلك وجود القلب وبقاؤه وكماله في الدارين وسعادته في النشأتين يكون بالتفكر وإنما أضاف القلب إلى البصير ولم يقل حياة القلب لأن حياة القلب حقيقة عند العامة بحياة الجسد المعروفة وقد يراد بها معنى آخر مجازي وهو حياته بالعلم والحكمة سواء كانت مع حياة الجسد أو لا فيكون ذكر البصير كالقرينة المعينة لإرادته بتلك الحياة معناها المجازي ودلالة نسبتها إلى التفكر على ذلك لا ينافيه، ويحتمل أن يراد بالبصير البصير بذلك التفكر أو البصير بنور العلم أو الفهم الذكي وفيه على الأخيرين تنبيه على أن التفكر مع وجود شئ من العلم أو مع وجود الفهم والذكاء هو النافع في الوصول إلى غاية الحكمة ونهايتها وتحصيل المطالب العالية.

والمقصود أن التفكر نور إلهي وروح رباني لقلب البصير الفهم الذكي به يصير قلبه حيا عالما عارفا يلبس رداء الحياة ويستيقظ من نوم النسيان وسهو الغفلات ويتخلص من سكرة الموت بأسقام الجهالات ويهتدي إلى وجوه المصالح الدنيوية والاخروية وما يليق به من الكمالات العقلية والنقلية والمطالب العالية وينظر بعين اليقين إلى منزل التوحيد والمعارف الالهية وينتقل إليها من المبادي الموصلة إليها فيسافر في ظلام بيداء الطبيعة البشرية إليها سريعا ويمشي في ليالي فيفاء العلايق البدنية إليها حثيثا ونور التفكر بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يستضيء به حوله مع حزم واحتياط وحسن تخلص ونجاة من الوقوع في الباطل في مواضع يستزل فيها قدم الأفكار ويتوهم وجود قطاع الطريق من الأشرار (كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور) يعني أن الذي قلبه حي بنور التفكر والعلم يمشي في المطالب التي هي صراط الحق ومنازل العرفان في ضباب الطبيعة وظلمات الأبدان كما يمشي الإنسان في ظلمات الليالي بنور المشاعل وضوء المصابيح وهذه استعارة على وجه التمثيل لتوضيح المقصود بتنزيل المعقول منزلة المحسوس ومتضمن لتشبيه الحركات الفكرية في مبادي المطلوب عند الجهل به بمشي الماشي في الظلمات بالنور (بحسن التخلص) الظرف إما متعلق بيمشي أو بالتفكر أو بكليهما أو حال عن الماشي أو عن المتفكر أو عنهما، أي حال كون ذلك الماشي أو المتفكر متلبسا بحسن التخلص والنجاة من مواضع الخوف وموارد الباطل باستعمال التدبيرات اللايقة والاراء الصحيحة الرايقة ويحتمل أن يكون الظرف صفة لمفعول مطلق محذوف أي مشيا أو تفكرا مقرونا بحسن التخلص.

(وقلة التربص) يعني قلة التوقف في الانتقال من المقدمات إلى المطالب كما هو شأن الذكي الفهم

ص: 331

وفي سبيل المجاز في حال الجواز لأن التوقف والاستبطاء في وسط الصراط مع توهم الخوف بهجوم الأوباش واللئام وزوال النور بصرصر الرياح واستيلاء الظلام بعيد عن الحزم والاحتياط نعم ما قيل: «من سلك سبيل الاحتياط فليس بناكب عن الصراط» هذا حال من تفكر. وأما من لم يتفكر في دقايق المصنوعات وعجايب المخلوقات ولم ينتقل منها إلى مقام التوحيد وصفات الصانع وكماله وكذا لم يفتكر في مبادي المطالب العالية والمقاصد النظرية ولم يتحرك إليها فهو مثل الحشرات لا يرى أن له وراء بدنه كمالا آخر فكان أعظم محبوباته بقاء جسده بهذه الحياة الزايلة، وأهم مهروباته هو نقصانها وموتها فهو حي ظاهرا وميت باطنا وماش في ظلمات شديدة بعضها فوق بعض، حايرا بايرا تائها وهكذا حاله إلى أن يموت فإذا مات وقع في ظلمة دائمة وحسرة ثابتة ووحشة باقية أبدا.

(هذا آخر كتاب العقل (1) والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم).

اللهم اجعلنا من الذين تاهت أرواحهم في مطالعة الملك والملكوت. وكشفت لهم بنور العقل والفهم حجب العظمة والجبروت. وخاضوا بغوص التفكر في بحر اليقين، وتنتزهوا بعلو الهمة في زهر رياض المتقين برحمتك يا أرحم الراحمين.

* * *

ص: 332


1- 1 - أنظر - وفقك الله لمرضاته - إلى كثرة الأحاديث الواردة من طرقنا في العقل ومدحه مع تأييده بالقرآن الكريم ثم انظر إلى كتب محدثي أهل السنة والجماعة ونقدتهم فقد عدوا من الموضوعات جميع الأحاديث في العقل قال المقدسي في كتاب الموضوعات «ومنها أحاديث العقل كلها كذب». وأقول: العقل يدل على عدم جواز متابعة الفاضل للمفضول والعالم للجاهل ولعلهم لذلك أنكروا صحة أحاديث العقل، وقلنا في غير هذا المقام إن رواية خلق العقل وأنه قال له: أقبل فاقبل إلى آخره، رواه أبو نعيم والطبراني في المعجم الكبير وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد. (ش)

فهرس الآيات

(اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا) البقرة: 170... 123

(ادعوني أستجب لكم) غافر: 60... 285

(إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) المنافقون: 1... 254

(اذكروني أذكركم) البقرة: 152... 33 - 52

(اعدت للمتقين) آل عمران: 133... 119

(إلا آل لوط نجيناهم بسحر) القمر: 34... 134

(الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الزخرف: 67... 287

(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106... 271

(إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف: 86... 52

(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) يونس: 64... 119

(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى

الظلمات) البقرة: 256... 219

(إن إبراهيم كان أمة) النحل: 120... 136

(إنا عرضنا.. كان ظلوما جهولا) الأحزاب: 72... 256

(إن الحسنات يذهبن السيئات) هود: 114... 28

(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) النور: 19... 262

(إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر: 60... 285

(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) العنكبوت: 45... 264

(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة: 111... 187

(إن الله لا يحب الفرحين) القصص: 76... 286

ص: 333

(إن الله لرؤف رحيم) البقرة: 143... 228

(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) النساء: 58... 256

(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة: 222... 281

(إن الله يحب الصابرين) آل عمران: 146... 153

(إن الله يحب المحسنين) البقرة: 95 والمائدة: 13... 71

(إنا منزلون على أهل هذه القرية) العنكبوت: 34... 120

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13... 210

(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات: 6... 322

(انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) التوبة: 41... 265

(إن في اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق) الجاثية: 5... 111

(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب) آل عمران: 190... 92 - 138

(إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) الرعد: 4... 108

(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ق: 37... 92

(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع) القلم: 4... 127

(إنك لعلى خلق عظيم) الحجرات: 10... 296

(إنما المؤمنون إخوة) المائدة: 55... 246

(إنما وليكم الله... 34

(إنما يتذكر أولو الألباب) الرعد: 19... 191

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 28... 18 - 52 - 74 - 177 - 236

(إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا) المزمل: 6... 140

(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان: 44... 91 - 127

(إنهم يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) الأنبياء: 90... 18

(إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) الجاثية: 24... 46

(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) الفرقان: 43... 127 - 156

(أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) يونس: 42... 126

ص: 334

(أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) الرعد: 19... 139

(ألست بربكم قالوا بلى) الأعراف: 172... 27

(ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق) الأعراف: 169... 41

(أنا ربكم الأعلى) النازعات: 24... 135

(أنؤمن كما آمن السفهاء) البقرة: 13... 241

(بسم الله مجريها ومرسيها) هود: 41... 313

(بل أضل سبيلا) الفرقان: 44... 128

(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) الأنبياء: 118... 301

(تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) الروم: 28... 117

(ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) الصافات: 126... 91 - 120

(ثم لتبلغوا أشدكم) الحج: 5... 110

(ثم من نطفة.. ثم يخرجكم طفلا) غافر: 67... 109

(حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) يونس: 22... 97

(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب أليم) البقرة: 7... 291

(خسر الدنيا والآخرة) الحج: 11... 54

(خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف: 12... 213

(ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) محمد: 11... 290

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الجمعة: 4... 230

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) آل عمران: 8... 174 - 176

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) النور: 37... 226

(رضي الله عنهم ورضوا عنه) المائدة: 119... 223

(عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27... 36

(فإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به وقد عيرهم) النساء: 83... 272

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الأنبياء: 7... 39 - 90 - 189

(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) الأحقاف: 35... 149

(فاعتبروا يا أولي الأبصار) الحشر: 2.... 77 - 229

ص: 335

(فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) الحج: 11... 54

(فأتوا بسورة من مثله) البقرة: 23... 304

(فأحيا به الأرض بعد موتها) البقرة: 164... 100

(فأغشيناهم فهم لا يبصرون) يس: 9... 40

(فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فالقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى

وهارون) الشعراء: 45 _ 48... 301

(فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) الزمر: 17... 90

(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) مريم: 59... 264

(فقد جعلنا لوليه سلطانا) الاسراء: 33... 17

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65... 242

(فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) آل عمران: 66... 39

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا) التوبة: 122... 41 - 45 - 7

(فمستقر ومستودع) الانعام: 98... 55

(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) الكهف: 110... 258

(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة: 7... 197 - 165

(فوق كل ذي علم عليم) يوسف: 98... 182

(في الفلك المشحون) الشعراء: 119... 97

(قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين) المؤمنون: 113... 169

(قل الروح من أمر ربي) الاسراء: 85... 72

(قل تعالوا أتل عليكم) الانعام: 22... 115

(قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء: 22... 106

(قل هل يستوي الذين يعلمون) الزمر: 9... 141

(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) البقرة: 263... 185

(كتب ربكم على نفسه الرحمة) الانعام: 12... 10

(كل حزب بما لديهم فرحون) المؤمنون: 53... 131

ص: 336

(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) البقرة: 249... 230

(لا تدركه الأبصار) الانعام: 103... 24

(لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدر) الحج: 46... 126

(لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) الشعراء: 50... 301

(لقد آتينا لقمان الحكمة) لقمان: 12... 143

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس: 26... 181

(لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم يونس: 99... 10

(لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) الملك: 10... 127

(ليبلوني ءأشكر أم أكفر) النمل: 40... 18

(ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) الذاريات: 56... 93

(ما كان لهم الخيرة) القصص: 68... 35

(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر

إلا) المجادلة: 7... 162

(مما ملكت إيمانكم) النور: 33... 117

(نحن نرزقكم وإياهم) النعام: 151... 115

(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) الشعراء: 215... 238

(وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن * الله يستهزء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) البقرة: 14... 165

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة: 170... 91

(وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال

مبين) يس: 47... 288

(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) الاسراء: 67... 18

(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى) البقرة: 83... 115

(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) الأعراف: 205... 32

(واقصد في مشيك) لقمان: 19... 276

ص: 337

(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) الفرقان: 67... 276

(والذين جاهدوا فيها لنهدينهم سبلنا إن الله لمع المحسنين) العنكبوت: 69... 56 - 265

(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) يونس: 99... 256

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة: 34... 248

(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) آل عمران: 7... 138

(والقرآن ذي الذكر) ص: 1... 136

(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) آل عمران: 134... 243

(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) التوبة: 71... 265

(وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم * إن في خلق) البقرة: 163... 90

(وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) آل عمران: 116... 119

(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) الانعام: 116... 91

(وإني خفت المولى) مريم: 5... 290

(وأشرقت الأرض بنور ربها) الزمر: 69... 209

(وألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) آل عمران: 103... 160

(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء) المائدة: 64... 254

(وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء: 214... 335

(وبالوالدين إحسانا) الاسراء: 23... 115

(وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) الممتحنة: 4... 213

(وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) الحج: 5... 101

(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر: 21... 293 - 91

(وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) البقرة: 44... 91

(وثيابك فطهر والرجز فاهجر) المدثر: 4 _ 5... 274

(وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125... 265

(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) القيامة: 23... 250

(وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات: 55... 143

(ورحمتي وسعت كل شئ) الأعراف: 156... 220

ص: 338

(ورفع بعضهم فوق بعض درجات) الانعام: 169... 78

(وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) النحل: 12... 90

(ويطهركم تطهيرا) الأحزاب: 33... 40

(وعد الله المؤمنين) التوبة: 72... 223

(وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم: 6... 147

(وقد شغفها حبا) يوسف: 30... 254

(وقليل من عبادي الشكور) سبأ: 13... 91 - 133

(ولئن سئلتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) لقمان: 25... 87 - 131 - 91

(ولئن شكرتم لأزيدنكم) إبراهيم: 7... 146 - 184

(ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الجاثية: 18... 186

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) الأسراء: 29... 180 - 269

(ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) التوبة: 85... 247

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) الانعام: 151... 115

(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الانعام: 151... 115

(ولا تقربوا الفواحش) الانعام: 151... 115

(و لا تقف ما ليس لك به علم) الاسراء: 36... 39

(ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) الحجرات: 12... 262

(ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) النمل: 15... 238

(ولقد آتينا لقمان الحكمة) لقمان: 12.... 92

(ولقد أتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) غافر: 53... 142

(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا) المؤمنون: 13... 237

(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) النساء: 131... 119

(وللبسنا عليهم ما يلبسون) الانعام: 9... 322

(ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من

الغابرين) العنكبوت: 33... 120

(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) آل عمران: 135... 282

ص: 339

(وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار ولا

يفترون) الأنبياء: 20... 285

(وما آمن معه إلا قليل) هود: 40... 135

(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة للذين يتقون أفلا تعقلون) الانعام: 32... 91

(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) سبأ: 28... 335

(وما أنزل لكم من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) الجاثية: 5... 112

(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء: 85... 137

(وما تلك بيمينك يا موسى) طه: 17... 69

(وما كان عطاء ربك محظورا) الاسراء: 85... 39

(وما يتذكر إلا أولو الألباب) الرعد: 19... 87 - 90

(وما يذكر إلا أولو الألباب) البقرة: 269... 137

(و من آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) الشورى: 33... 98

(ومن آياته يريكم البرق) الروم: 24... 114

(ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة،

ذلك هو الخسران المبين) الحج: 11... 51 - 54

(ومن أعرض عن ذكري) طه: 124... 260

(ومن عنده علم الكتاب) الرعد: 43... 34

(ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) النساء: 93... 116

(ومنكم من يتوفى من قبل) غافر: 67... 110

(ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) النور: 40... 57

(ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه) محمد: 38... 289

(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مبين) النساء: 14... 251

(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) البقرة: 269... 167 - 137

(ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16... 19

(وهديناه النجدين) البلد: 10... 134

ص: 340

(ويدعوننا رغبا ورهبا) الأنبياء: 90... 236

(ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء: 85... 207

(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) ص: 39... 189

(هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) المائدة: 119... 256

(هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) الزمر: 9... 138

(هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) التغابن: 2... 333

(هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) فاطر: 9... 100

(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) الفجر: 27... 215

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) النساء: 59... 250

(يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه) الأحزاب: 56... 40

(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) المنافقون: 9... 153

(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف: 3... 130

(يا أيها العزيز) يوسف: 78... 69

(يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) المدثر: 1 _ 5... 335

(يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا) البقرة: 273... 245

(يخادعون الله) البقرة: 9... 295

(يدعون ربهم خوفا وطمعا) السجدة: 16... 220

(يضلوك عن سبيل الله) الانعام: 116... 131

(يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) غافر: 35... 239

(يعلم خائنة الأعين) غافر: 19... 256

(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون) الروم: 7... 277

(يمحق الله الربا) البقرة: 276... 277

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا) آل عمران: 30... 280

(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو) البقرة: 269... 92 - 121

ص: 341

المجلد 2

اشارة

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشارة

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

كتاب العلم

باب فرض العلم

* الأصل:

في كثير من النسخ كتاب فرض العلم (ووجوب طلبه) العطف للتفسير والتكرير للتأكيد (والحث عليه).

1 - أخبرنا محمد ين يعقوب، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي (1)، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحب بغاة العلم».

* الشرح:

(أخبرنا محمد بن يعقوب) قد مر توجيهه في صدر كتاب العقل.

(عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن الحسين بن أبي الحسن الفارسي (2) لم أجده في كتاب الرجال، وذكر الشيخ في الفهرست في باب الحسين، الحسين بن الحسن القمي الفارسي له كتاب، ولعل المذكور هنا سهو من الناسخين.

(عن عبد الرحمن بن زيد) من أصحاب الصادق (عليه السلام).

(عن أبيه) زيد بن أسلم.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) طلب العلم فريضة على كل مسلم)، أي واجبة عليهم والفرض والواجب سيان عندنا وعند الشافعي، والفرض آكد من الواجب عند أبي حنيفة، واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فقال الفقهاء: هو علم الفقه المشتمل على كيفية الصلاة والصوم وسائر العبادات والمعاملات التي بها يتم نظام الخلق في الدين والدنيا، وقال المتكلمون: هو علم الكلام الباحث عن الله تعالى وعن صفاته وما ينبغي له وما يمتنع عليه، وقال المفسرون والمحدثون: هو علم

ص: 3


1- 1 - كذا في جميع النسخ التي بأيدينا من الكافي، وهكذا يظهر من جامع الرواة في ترجمة عبد الرحمن بن زيد.
2- 2 - كذا.

الكتاب والسنة; إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها، وقال المتصوفة: هو علم الشهود وعلم السلوك (1)، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله وعند الله، وقال بعضهم: هو علم الباطن يعني العلم بالأخلاق وآفات النفوس وتميز لمة الملك من لمة الشيطان، فكل حزب خصوه بما هو المعروف عندهم، وكل حزب بما لديهم فرحون، والحق أن تعميم الفرض بحيث يشمل العيني والكفائي، وتعميم العلم بحيث يشمل أصول الدين وفروعه وتعميم الطلب بحيث يشمل الطلب بالاستدلال والطلب بالتقليد أنسب بالمقام لأن التخصيص خلاف الظاهر، وتوضيح المقصود، أن كل مسلم مكلف بسلوك صراط الحق فوجب عليه معرفة الحق وصفاته ومعرفة الرسول، والصراط أعني الدين الحق والأحكام العينية والكفائية والأخلاق الموجبة للقرب منه تعالى والرذايل المؤدية إلى البعد عنه كل ذلك إما بالاستدلال إن كان من أهله أو بالتقليد إن لم يكن.

فقد ظهر مما ذكرنا أن القضية المذكورة كلية.

لا يقال: التقليد في الأصول لا يجوز.

لأنا نقول: ذلك ممنوع (2)، والسند يعلم مما مر في الخطبة، وقد اكتفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والصحابة والتابعون ممن آمن من الأعراب وغيرهم بالتصديق والإقرار ولم يكلفهم بالاستدلال، وإنم اخص المسلم بالذكر، مع أن طلب العلم فرض على كل أحد لأنه القابل دون غيره، ولأن غيره لكونه بمنزلة الحشرات غير قابل لتوجه الخطاب إليه (ألا إن الله يحب بغاة العلم)، «البغاة» جمع الباغي، وهو الطالب من بغاه إذا طلبه. و «ألا» حرف يفتتح به الكلام للتنبيه عند الاهتمام بمضمونه، و «إن» واسمية الجملة من المؤكدات لمضمونها، ففيه مبالغة من وجوه شتى في محبة الله تعالى لطلبة العلم. والمحبة على تقدير صحة تفسيرها على الإطلاق بميل القلب إلى ما يوافقه يكون المراد بها هنا إرادة الإحسان والإنعام والإفضال آنا فآنا، أو على سبيل الاستمرار، أو نفس الإحسان والإنعام والافضال فهي على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل.

ص: 4


1- 3 - كانوا يعدون علم التصوف شعبة من علوم الإسلام كالفقه والتفسير والكلام، ثم أدخلت فيه بدع دنسوه بها أكثر مما دنسوا علومهم الأخرى، وطريقتنا متابعة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن وجدنا رواية عنهم تؤيد أصلا قبلناه وإلا فلا (ش).
2- 1 - هذا عجيب من الشارح (رحمه الله) وقد سبق منه ذم التقليد في الاصول وحكم بوجوب النظر للآية الكريمة «أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون»، راجع ج 1، الصفحة 148، والصفحة 52. وكأنه أراد بالتقليد هنا متابعة المعصوم بعد ما تثبت حجيته إلا أن ذلك لا يسمى تقليدا، وما ذكره سابقا صريح وما ذكره هنا محتمل (ش).
* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله، عن عيسى بن عبد الله العمري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «طلب العلم فريضة».

* الشرح:

(محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين) بن أبي الخطاب على الظاهر أو ابن سعيد الصايغ على الاحتمال، الأول ثقة جليل القدر من أصحابنا، والثاني ضعيف، وقيل: إنه غال.

(عن محمد بن عبد الله) أبي جعفر العمري أخي عيسى بن عبد الله العمري يروي عن أخيه عن الصادق (عليه السلام)، وعن الصادق (عليه السلام) أيضا، على ما ذكره الكشي، وأورده ابن داود في قسم الممدوحين. وقيل: ذكر الشيخ عيسى بن عبد الله في أصحاب الصادق (عليه السلام)، ولم يذكر أخاه محمد بن عبد الله فيهم.

(عن عيسى بن عبد الله) العمري - بضم العين وفتح الميم - هو عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: طلب العلم فريضة) قيل: فرض طلب العلم ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، أما الأول فهو يختلف باختلاف الأشخاص، فالفقير يجب عليه معرفة اصول العقائد ومعرفة الفروع العينية مثل الصوم والصلاة والوضوء والغسل وما يفسدها ومعرفة الحلال والحرام والخبيث والطاهر، والغني الذي يجب عليه الحج والزكاة، يجب عليه ما يجب على الفقير مع زيادة وهي معرفة أحكام الحج والزكاة والتاجر يجب عليه معرفة ما يصح به العقود وما يفسدها وكذلك كل من عمل عملا يجب عليه تعلمه علم ذلك العمل. وأما الثاني فهو معرفة الفروع الكفائية وتحصيل العلم بحيث يصير مجتهدا فإنه فرض كفاية لا فرض عين، فإذا وجد مجتهد في بلد أو ناحية سقط الفرض عن الباقين وإن لم يجد عصى أهل تلك الناحية حتى يصير واحد منهم مجتهدا.

وقال الغزالي: العلم ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة وليس المراد بهذا العلم يعني الذي وجب تعلمه إلا علم المعاملة والمعاملة التي كلف العبد العمل بها ثلاث: اعتقاد وفعل وترك، فإذا بلغ الرجل في ضحوة النهار مثلا فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادتين وفهم معناهما ولو بالتقليد فإذا فعل ذلك فقد أدى ما هو الواجب عليه في هذا الوقت عينا ولو مات حينئذ مات مطيعا ولا يجب عليه غير ذلك ولو وجب فإنما يجب لعارض يعرض وليس ذلك ضروريا في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك عنه وتلك

ص: 5

العوارض، إما أن يكون في الفعل، وإما في الترك، وإما في الاعتقاد.

أما الفعل فبأن يعيش من ضحوة النهار إلى زوال الشمس فيجب عليه عند الزوال تعلم الطهارة والصلاة ولو علم أنه لا يتمكن بعد الزوال من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم لم يبعد القول بوجوب تقديم التعلم والعمل في الوقت، وهكذا في بقية الصلوات، فإن عاش إلى شهر رمضان تجدد بسبب دخوله وجوب تعلم الصوم وكيفيته فإن تجدد له مال وجب عليه تعلم علم الزكاة لكن لا في الحال بل عند تمام الحول، وكذا الكلام في الحج والجهاد وغيرهما من الواجبات التي هي فروض الأعيان. وأما الترك فيجب عليه علم ذلك بحسب ما يتجدد من الأحوال، وذلك يختلف باختلاف الشخص فلا يجب على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر، ولا على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، ولا على البدوي تعلم ما لا يحل الجلوس فيه من المساكن.

وأما الاعتقاد وأعمال القلوب فيجب تعلمها بحسب الخاطر فإن خطر له شك في المعاني التي دلت عليها كلمة الشهادة وجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك، فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله قديم أو حادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات فقد مات على الإسلام إجماعا، هذا حاصل كلامه.

وأورد عليه بأن تخصيص ذلك العلم الذي وجب تعلمه بعلم الأعمال والمعاملات دون غيره من العلوم التي لا تتعلق بعمل أو كيفية عمل ليس بموجه لأن العلم بوحدانيته تعالى وبراءته من النقائص كلها يجب طلبه واكتسابه، وكذا العلم بكيفية صفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وإحاطته بالأشياء كلها علما وحفظا، وكذا العلم بأحوال النفس وصفاتها وأحوالها ونشأتها وخلقها وبعثها إلى الله تعالى في النشأة الآخرة وسعادتها وشقاوتها مما يجب تعلمه وطلبه على كثير من الناس ولا يلزم أن يكون العلم الذي وجب تعلمه على كل مسلم علما واحدا بعينه هو الواجب على الآخر.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابه قال:

سئل أبو الحسن (عليه السلام): هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: «لا».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى) هو محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، وقد اختلف العلماء في

ص: 6

جرحه وتعديله وتوثيقه ومذهبه فضعفه بعضهم ومدحه بعضهم وقال: إنه ليس في أقرانه مثله، ونسبه بعضهم إلى مذهب الغلاة، ووثقه بعضهم وقال: إنه جليل في أصحابنا ثقة عين كثير الرواية حسن التصانيف، وقال العلامة: والأقوى عندي قبول روايته (عن يونس بن عبد الرحمن) كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة روى عن أبي الحسن موسى والرضا (عليهما السلام)، وكان الرضا (عليه السلام) يشير إليه في العلم والفتيا، وكان ممن بذل له على الوقف مال جزيل فامتنع من أخذه وثبت على الحق، وقد روي أن الرضا (عليه السلام) ضمن له الجنة ثلاث مرات، والروايات الدالة على ضعفه ضعيفة السند.

(عن بعض أصحابه قال: سئل أبو الحسن (عليه السلام)) يحتمل الكاظم والرضا (عليهما السلام).

(هل يسع الناس ترك المسألة) أي هل يجوز ذلك ولم يضيق عليهم؟ ومنه قولهم: لا يسعك أن تفعل كذا أي لا يجوز لأن الجايز موسع غير مضيق والمسألة والسؤال مصدران تقول: سألته عن الشيء سؤالا ومسألة.

(عما يحتاجون إليه) من امور دينهم اصولا وفروعا أو من امور دنياهم أيضا.

(فقال: لا) أي لا يسعهم ترك المسألة ولا يجوز لهم ذلك بل يجب عليهم سؤال العالم عن كل ما يحتاجون إليه فإن السؤال مفتاح لأبواب الكمالات وشفاء لأسقام الجهالات، وفي الآيات والروايات المتكثرة حث على السؤال وترغيب فيه قال الله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وفي الخبر: «دواء العي السؤال» (1)، وينبغي للسائل الإنصات بعد السؤال ثم الاستماع ثم حفظ ما سمعه ثم العمل به إن كان متعلقا بالعمل ثم نشره، والمسؤول عنه أربعة على ما استفدت من كلام أهل العصمة (عليهم السلام)، الأول أن يعرف ربه، والثاني أن يعرف ما صنع به، والثالث أن يعرف ما أراد منه، والرابع أن يعرف ما يخرجه عن دينه فكل من لم يعرف أحد هذه الامور وجب عليه السؤال عنه لقصد التفهم والتعلم دون التعنت والتكلف، ثم المسؤول إن رأى مصلحة في الجواب ينبغي له الجواب على حسب ما يقتضيه الحال، وإن رأى مصلحة في تركه جاز له تركه، لما رواه الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال: «على شعيتنا ما ليس علينا أمرهم الله أن يسألونا قال (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فأمرهم أن يسألونا وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا، وإن شئنا أمسكنا» (2).

ص: 7


1- 1 - رواه الكليني في الكافي الفروع باب الكسير والمجدور من كتاب الطهارة تحت رقم 4 و 5.
2- - سيأتي في كتاب الحجة باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (عليهم السلام) تحت رقم 3.
* الأصل:

4 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه».

* الشرح:

(علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم) الجواليقي الجعفي ثقة ثقة، كذا في الخلاصة، وقال ابن طاووس (قدس سره): الظاهر أنه صحيح العقيدة معروف الولاية غير مدافع، أقول: سيجيء روايات دالة على فساد عقيدته (1) في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه، وسنتكلم فيها إن شاء الله تعالى.

(عن أبي حمزة الثمالي) ثابت بن دينار ثقة قال النجاشي: إنه لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن (عليهم السلام) وروى عنهم وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث.

(عن أبي إسحاق السبيعي) وهو ابن كليب ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) روى عنه أبو حمزة الثمالي، وقيل: هو عمرو بن عبد الله بن علي السبيعي، وهذا القول موافق لما في شرح الكرماني لصحيح البخاري، كما أشار إليه بعض الأفاضل، وقال في القاموس: السبيع - كأمير - ابن سبع أو بطن من همدان، ومنهم الإمام أبو إسحاق عمرو ابن عبد الله ومحلة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا، وقال في النهاية الأثيرية: السبيع - بفتح السين وكسر الباء - محلة من محال الكوفة منسوبة إلى قبيلة وهم بنو سبيع من همدان.

(عمن حدثه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أيها الناس اعلموا): يجوز أن يكون بمنزلة اللازم بحذف مفعوله نسيا منسيا ففيه تغريب في تحصيل ماهية العلم وما بعده تعليل له استيناف.

وأن يكون متعديا ومفعوله قوله: (إن كمال الدين طلب العلم والعمل به) الظاهر أن المراد بهذا العلم العلم المتعلق بكيفية العمل، ويحتمل أن يراد به العلم المتعلق بمعرفة الله وما يليق به ومعرفة النبي والأئمة (عليهم السلام) ومعرفة ما يجب معرفته عقلا وشرعا، وهو الذي يجب التدين به والاعتقاد له والعكوف عليه والمحافظة له، ثم العمل بمقتضاه إن كان

ص: 8


1- 1 - من أنه قال بالجسم أو الصورة.

المقصود منه العمل فيصير بذلك عالما ربانيا، قال الله تعالى: (كونوا ربانيين) قال الأزهري: هم أرباب العلم الذين يعملون بما يعلمون وبهما يتحقق كمال الدين وتمامه.

أقول: وسر ذلك أن بالعلم يعرف واضع الدين وحدوده وأحكامه ولواحقه وشرايطه ومداخله ومخارجه ومصالحه ومفاسده، وبالعمل يحققه ويقيمه ويوجده ويضع كل واحد من أجزائه في موضعه ويخرجه من حيز البطون إلى حيز الظهور، فلولا العلم بطل العمل، ولولا العمل بطل العلم وصار بلا فائدة، وذلك كما إذا قصدت بناء دار معينة محدودة بحدود معينة وموصوفة بصفات مخصوصة وموضوعة على أركان وهيئة معلومة عندك وطلبت بناءها من زيد فلا بد لزيد من أن يعلم مقصودك المشتمل على تفاصيل مذكورة ثم يشتغل بالعمل ويبنيها على نحو ما قصدت ليتم على وجه الكمال كما أردت، فلو اشتغل بالبناء من غير أن يعلم مقصودك لكان ما يبنيه غير موافق لمقصودك غالبا; إذ الاتفاق نادر جدا، ولو علم مقصودك ولم يشتغل بالعمل لم ينفعه ذلك العلم ولم يستحق منك الثناء والأجر، ومن هاهنا ظهر أن كمال الدين وتمامه بالعلم والعمل، وقال بعض الناظرين إلى هذا الحديث: المراد بالدين الأعمال البدنية مثل الصلاة والصوم والحج ونحوها، والمراد بكماله غايته يعني أن غاية الأعمال البدنية والتكاليف الشرعية طلب العلم وذلك لأن الأعمال البدنية إنما تراد للأحوال أعني طهارة القلب وصفاءه عن الأخباث والشهوات والتعلقات وتلك الأحوال إنما تراد للعلم ثم هذا قسمان علم عقلي كالعلم بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وعلم عملي وهو المتعلق بكيفية أعمال الطاعات وترك المعاصي والسيئات، فالقسم الأول إنما يراد لنفسه لا لغيره، والقسم الثاني إنما يراد للعمل به والعمل يراد للعلم أيضا، فالعلم هو الأول والآخر والمبدأ والغاية، فضرب من العلم وهو العملي وسيلة، وضرب من العلم وهو العقلي غاية، وهو الأشرف الأعلى والعمل لا يكون إلا وسيلة، فقوله (عليه السلام): «والعمل به» إشارة إلى ثمرة ضرب من العلوم وأوايلها ومباديها أعني العملي فلا خير في طاعة لا يكون وسيلة للعلم وكذا لا خير في علم متعلق بها إذا لم يكن وسيلة إلى العمل المؤدي إلى الحال المؤدي إلى العلم.

(ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال) فيه أمران:

الأول: أن طلب المال يعني قدر الكفاف واجب وهو كذلك لأن فيه حفظا للبدن وقواه، وصيانة للعرض وماء الوجه من ذل السؤال، وقطعا للطمع عما في أيدي الناس، واستعانة بالعبادات والطاعات كما ورد «لولا

ص: 9

الخبز ما صلينا ولا صمنا» (1)، وهذا لا ينافي الروايات الواردة للزهد في الدنيا والحث على تركها لأن الزهد في الدنيا ليس بإضاعة المال ولا تحريم اكتساب الحلال بل الزهد فيها أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل (2)، وقد فسر الزهد فيها سيد الوصيين بقصر الأمل وشكر كل نعمة والورع عن كل ما حرم الله عز وجل (3) وكيف يكون الزهد عبارة عن ترك الحلال وقال الصادق (عليه السلام): «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه» (4).

الثاني: أن طلب العلم أوجب وآكد من طلب المال ووجه ذلك أن العلم حياة القلب من العمى ونور البصيرة من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف وغذاء الروح وحياته وقوته وكماله ونموه في الدنيا والآخرة، والمال سبب حياة البدن وبقائه في الدنيا والروح أشرف من البدن وحياته أدوم وأبقى من حياة البدن; لأن حياة البدن زايلة منقطعة وحياة الروح باقية أبدا لا نهاية لبقائه، فطلب ما يوجب حياة الروح وهو العلم أوجب من طلب ما يوجب حياة البدن وأفضل بقدر الفضل بين الروح والبدن، ويكفي للحكم بكون طلب العلم أوجب من طلب المال ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو ويزداد على الانفاق وصنيع المال يزول بزواله. يا كميل بن زياد، معرفة العلم دين يدان به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، يا كميل بن زياد، هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة» (5).

ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه في سبيل الله» (6) وبين (عليه السلام) كون طلبه أوجب بوجه آخر غير هذه الوجوه بقوله:

(إن المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم) على حسب ما يقتضيه المصلحة وقوله:

(قد قسمه) تأكيد للسابق أو حال عن فاعل مقسوم (وضمنه) وأكده بالقسم قال الله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقال: (وما من دابة إلا على الله رزقها)، وقال:

(وفي

ص: 10


1- 1 - الفروع من الكافي - كتاب المعيشة - باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، تحت رقم 13.
2- 2 - المصدر باب معنى الزهد.
3- 1 - المصدر باب معنى الزهد.
4- 2 - الكافي كتاب المعيشة - باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة، تحت رقم 5.
5- 3 - النهج - أبواب الحجم، تحت رقم 147. تحف العقول: ص 170.
6- 4 - ما عثرت على أصل له إلا في منية المريد: ص 5، وعنه في المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ج 1، ص 18.

السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون).

(وسيفي لكم) ولو كنتم في جحر أو موضع منقطع من الناس ولا تموتون حتى تستكملوا أرزاقكم، قال الصادق (عليه السلام): «لو كان العبد في جحر لأتاه الله برزقه» (1)، وقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): لو سد على رجل باب بيته وترك فيه فمن أين كان يأتيه رزقه؟ فقال (عليه السلام): «من حيث يأتيه أجله» (2)، وهذا مما يحكم به العقل ضرورة; لأن وجود الإنسان من غير رزق محال، فإذا قدر الله سبحانه وجوده في مدة فلا محالة يجب أن يأتيه رزقه في تلك المدة طلبه أو لم يطلب إلا أن الدار دار تكليف ودار امتحان، فقد ينبغي له الطلب ويجب عليه ليعلم أنه مطيع أو عاص في اكتسابه من طريق الحلال أو من طريق الحرام، وقد يكون الطلب لطلب الفضل كما يرشد إليه قول الباقر (عليه السلام): «ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعوض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قوله عز وجل: (واسئلوا الله من فضله)» (3)، فأمر بطلب الفضل والرزق منه تعالى ولم يضطره إلى طلبه من الخلق مثله ولم يرتض له بذلك.

(والعلم مخزون عند أهله) وهم (عليهم السلام) أهل الذكر ومن تمسك بذيل عصمتهم وأخذ العلم من مشكاة فضلهم.

(وقد أمرتم بطلبه من أهله) لقوله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

(فاطلبوه) من أهله بعد تصفية الظاهر والباطن إلى غير ذلك من آداب التعلم وشروطه المذكورة في كتب الآداب ليحصل المناسبة بينكم وبينهم وتستعدوا بذلك لانعكاس أنوار العلوم من قلوبهم إلى قلوبكم وإلا فكل واحد ليس أهلا للعلم والحكمة، وقد ورد المنع من تعليمها لغير أهلها في كثير من الروايات، والغرض من هذا الحديث الترغيب في طلب العلم عند أهله والتنفير عن طلب الدنيا لما أن أبناء الزمان كلهم عاملين بالعكس، وملخصه أن الإنسان مضطر في قبول رزقه وليس له كثير مدخل في قبوله ورده ولذلك ترى رزقه معدا وهو في بطن امه من غير حيلة له وغير مضطر في قبول العلوم، ولذلك تراه في أول الفطرة خاليا عن العلوم كلها; إذ ليس العلم من شرائط وجوده وحياته وبقائه في هذه الحياة الدنيا، بل هو مختار في طلبه إن طلبه من أهله مع شرائطه وجده وإن لم يطلبه فقده فوجب عليه طلبه من أهله والسعي في

ص: 11


1- 5 - الكافي - كتاب المعيشة - باب الإجمال في الطلب، تحت رقم 4.
2- 1 - النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 356.
3- 2 - الكافي - كتاب المعيشة - باب الإجمال في الطلب، تحت رقم 2.

تحصيله فوق طلب المال والسعي له، والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن يعقوب بن يزيد، عن أبي عبد الله - رجل من أصحابنا - رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة». وفي حديث آخر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإن الله يحب بغاة العلم».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن يعقوب بن يزيد) هو الكاتب الأنباري، ويعرف بالقمي، ثقة صدوق.

(عن أبي عبد الله) مشترك بين الضعفاء، ويحتمل أن يكون هو الذي ذكره الشيخ في باب الكنى من أصحاب الصادق (عليه السلام).

(عن رجل من أصحابنا رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة» ، وفي حديث آخر:) كأنه المذكور في أول هذا الباب، ويحتمل غيره بالإسناد صونا عن التكرار.

(قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا وإن الله يحب بغاة العلم») قال بعض الناظرين فيه: قوله: «ألا وإن الله يحب بغاة العلم» يدل على أن العلم الذي طالبوه محبوبون لله تعالى ينبغي أن يكون علما شريفا مقصودا لذاته، وهو العلم المتعلق بالمعارف الإلهية لا الذي هو مقصود لغيره كالعلم المتعلق بالعمل; إذ العلم المتعلق بالعمل أدون منزلة من العمل، والعمل أمر جسماني خسيس فذلك العلم أخص منه فلا يكون شريفا، وأما العلم المطلق المجرد عن التعلقات فلا شبهة في أنه رفيع القدر شريف المنزلة فطالبه حري بأن يكون محبوبا للحق جل شأنه ومقربا له في الملأ الأعلى، انتهى.

أقول: دلالته على كون العلم الذي طالبوه محبوبون له شريفا مسلمة، وأما دلالته على حصر ذلك العلم بما هو المقصود لذاته وخروج جميع العلوم المتعلقة بالعمل فغير مسلمة، بل الحق أن بعض العلوم المتعلقة بالعمل أيضا شريف من حيث أنه يوجب رفع درجات صاحبه في الآخرة، وأن المراد بهذا علم الشريعة وغيره، مما له مدخل في تحصيلها، والمراد بعلم الشريعة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من عند الله تعالى، وبينه في مدة عمره، وأودعه عند أهله، وهذا العلم ينقسم إلى أقسام: فمنها ما يتعلق بالمبدأ الأول تعالى شأنه وبصفاته

ص: 12

وأفعاله، ومنها ما يتعلق بأحوال المعاد وتفاصيلها، ومنها ما يتعلق بأفعال المكلفين وما يتبعها من تقويم الظواهر بالسياسات البدنية، ومنها ما يتعلق بأحوال القلب وتطهيره عن الرذائل وتزيينه بالفضائل وكل هذه الأقسام محمود شريف طالبه محبوب الله تعالى، لكن بينها تفاوت; إذ بعضها واجب عينا وبعضها واجب كفاية، وبعضها مستحب، وقد بالغ الغزالي في العلم المتعلق بأحوال القلب وقال: هو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، والمعرض عنها هالك بسطوة مالك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالنظر إلى صلاح الآخرة، ولو سئل الفقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو عن وجه الاجتراز عن الرياء مثلا لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سئل عن الظهار واللعان والسبق والرمي مثلا يسرد مجلدات من التفريعات الدقيقة التي ينقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها ولا يزال يتعب فيه ليلا ونهارا في حفظه ودرسه ويغفل عما هو مهم نفسه في الدين، ويزعم أنه مشتغل بعلم الدين ويلتبس على نفسه وعلى غيره والفطن يعلم أن ليس غرضه أداء الحق في فرض الكفاية وإلا لقدم فرض العين بل غرضه تيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم على الأقران والغلبة على الخصوم. هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء والله المستعان وإليه اللياذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان.

أقول: لقد أفرط في ذم الفقهاء وكأنه ابتلى بالفقهاء الموصوفين بالصفات المذكورة أو أخبر عن حال من ينسب نفسه إلى الفقه في عصرنا هذا حيث يجعل ما التقطه من كتب العلماء ذريعة إلى التوسل بالسلاطين والتقرب إلى السفهاء وإخوان الشياطين، وليس هو أول من ذمهم بذلك; لأن ذم علماء السوء متواتر من طرق أهل العصمة (عليهم السلام) وليس غرضه ذم الفقهاء على الإطلاق; إذ الفقيه العالم بالدين العامل الزكي الأخلاق الورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ورثة النبيين ومعدود من الصديقين، وهو في الآخرة من المقربين.

وأما العلوم الغير الشرعية وهو ما يستفاد من العقل أو الوضع فمنها ممدوح ومنها مباح ومنها مذموم، أما الممدوح فهو ما يرتبط به صلاح الدنيا أو يستكمل به النفس ولا يضر بالدين كعلم الطب وعلم الحساب وعلم الرياضي وعلم المنطق وعلم العربية، وأمثال ذلك، وقد يجب بعض هذه العلوم إذا كان له مدخل في العلوم الشرعية كعلم الحساب المتعلق بقسمة المواريث والوصايا وغيرها، وعلم العربية لأنه آلة لعلم

ص: 13

الكتاب والسنة لكونهما عربيين وعلم المنطق لكونه آلة لمعرفة صحة الأدلة وفسادها (1)، ثم الواجب منها قدر الضرورة والزائد عليه فضيلة لا فريضة.

وأما المباح: فهو ما لا يضر جهله ولا ينفع علمه عند العقلاء كعلم العروض والقوافي وعلم الأشعار التي لا ذم فيها لمؤمن وعلم التواريخ والأنساب. وأما المذموم فهو ما يكون الغرض الأصلي منه مخالفا للقوانين الشرعية، ووقع النهي عنه شرعا مثل علم الموسيقى وعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة وعلم النرد والشطرنج والطنبور والأوتار وأمثال ذلك.

* الأصل:

6 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «تفقهوا في الدين، فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله يقول [في كتابه]: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)».

* الشرح:

(علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى) واقفي، قيل: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.

(عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «تفقهوا في الدين) المراد بالتفقه فيه طلب العلوم النافعة في الآخرة الجالبة للقلب إلى حضرة القدس دائما، بحيث يعد الطالب عرفا من جملة طلبتها ومشتغلا بها، وتلك العلوم هي المعدة لسلوك سبيل الحق والوصول إلى الغاية من الكمال كالعلوم الإلهية والأحكام النبوية وعلم الأخلاق وأحوال المعاد ومقدماتها.

(فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي) أي كأعرابي في عدم التفقه والجهل بالأحكام وحدودها، أو في كونه من الكفر أقرب ومن الإيمان أبعد، كما قال سبحانه: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله) والأعرابي منسوب إلى الأعراب; لأنه لا واحد له، وهم الذين يسكنون

ص: 14


1- 1 - ولم يذكر الحكمة والتصرف، أعني العرفان في أقسام هذه العلوم، مع أن موضوعها موضوع العلوم الشرعية، فما كان موافقا للشرع فهو منها، وما لم يكن موافقا للشرع لم يكن بذلك داخلا في العلوم الغير الشرعية كاصول الفقه والفقه، فإنهما يشملان القياس ومسائل العول والتعصيب، وليس شيء منها عندنا موافقا للشرع وكذلك الكلام والحكمة والعرفان فاشتمالها على أقوال لا يوافق مذهبنا لا يخرجها عن كونها علوما شرعية، وأما الطبيعيات فالحق أنه كالرياضي والطب إن كان له دخل في العلوم الشرعية. (ش)

البادية ولا يتعلمون الأحكام الشرعية، والعرب خلاف العجم، وهم الذين يسكنون الأمصار فقط أو البوادي أيضا فبينهما إما تباين أو عموم مطلق.

(إن الله يقول في كتابه: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فيه دلالة على امور:

الأول: وهو المقصود هنا، أن التفقه واجب; لأنه تعالى أوجب النفر له، ولو لم يكن واجبا لم يكن النفر له واجبا.

الثاني: أن وجوبه كفائي بدليل تخصيص النفر بطائفة من كل فرقة، ولو كان وجوبه عينيا لنسبه إلى الجميع.

الثالث: أن العمل بخبر الواحد واجب (1); لأنه تعالى أوجب الحذر على قوم كل طائفة عند إنذارها لهم، والطائفة عدد لا يفيد قولهم العلم لأن الطائفة بعض فرقة، والفرقة تصدق على ثلاثة، فالطائفة إما واحد أو اثنان.

لا يقال: المراد بالفرقة أكثر من ثلاثة بحيث يكون النافر منهم في مرتبة التواتر.

لأنا نقول: حمل الفرقة على ذلك تخصيص بلا مخصص، وقد بسطنا القول فيه في اصول الفقه.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن الربيع، عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا، فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا».

ص: 15


1- 1 - التعليم والإنذار على ثلاثة وجوه: الأول: بيان المطلب والاستدلال عليه بطريقة المدرسين والطلاب. الثاني: الافتاء بلا دليل حتى يقبل العامة تقليدا كما بين المجتهدين ومقلديهم. الثالث: الرواية بأن ينقل الحديث عن الحجة وقبله السامع، وظاهر الآية يشمل الثلاثة، فيجب على جماعة من الناس كفاية الفقه وتعليم الناس في كل شيء على ما يليق به، فيبين اصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد للناس بطريق برهاني واستدلال، ويجب على الناس التعلم بالدليل السهل لا تقليدا، وأما الفقه فيجب على الناس قبول قول المجتهد بغير دليل، والآية من هذه الجهة مجملة; إذ لا يعلم منه أنه يجب على الناس قبول قول المنذرين بدليل أو بغير دليل فيلتمس لذلك حجة اخرى، وأما قبول الرواية من المخبر العدل فشمول الآية الكريمة له وإن كان قريبا، ولكن دلالته على وجوب قبول الواحد ممنوعة، بل يجب تحصيل شرائطه من مواضع اخرى. (ش)
* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد) بن مالك الكوفي.

(عن القاسم بن محمد بن الربيع، عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا») أي لا تكونوا كالأعراب جاهلين بالدين غافلين عن أحكامه، معرضين عن تعلمها.

(فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة) كناية عن سخطه وغضبه وعدم الاعتداد به وسلب رحمته وفيضه وإحسانه وإكرامه عنه، وحرمانه عن مقام القرب والاختصاص، فإن عدم نظرنا إلى أحد مستلزم لهذه الامور، وأمثال هذه الأفعال إذا نسبت إلى من لا يجوز فيه إرادة الحقيقة يراد بها اللوازم والغايات، فليس المراد بعدم النظر عدم الرؤية لأنه تعالى يراه كما يرى غيره، ولا يخفى عليه شيء ولا عدم تقليب الحدقة إلى جانب المرئي طلبا لرؤيته; لأن هذا السلب ثابت له تعالى بالنسبة إلى الجميع باعتبار أن التقليب المذكور من صفات الأجسام والله سبحانه منزه عنها.

والوجه في عدم نظره إليه أن استحقاق العبد للكرامة يوم القيامة ليس باعتبار أنه خلق الله ولا باعتبار جسمه وحسن صورته وكثرة أمواله وأولاده وعشيرته، بل إنما هو لصفاء قلبه وإحاطته بالمعارف الإلهية واتصافه بالصور العلمية وإذعانه بالشرائع النبوية وانقياده للأحكام الشرعية، فكل من كان فيه شيء منها كان أبدا منعوتا بالحرمان موصوفا بالخذلان، ويرشد إليه أيضا ما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إلى قلوبكم ونياتكم وأعمالكم» (1).

(ولم يزك له عملا) أي لم يقبل له عملا; لأن قبول العمل لازم لتزكيته عن شوائب النقصان وانتفاء اللازم لانتفاء الملزوم، أو لم يوفق له في تزكيته لعدم استعداده لذلك، كيف وتزكية العمل متوقفة على العلم بكماله ونقصانه وشرائطه إلى غير ذلك من الامور المعتبرة فيه والمفسدة له، والمفروض أنه جاهل بجميع ذلك؟

* الأصل:

8 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبان ابن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل) هذا الاسم مشترك بين ثلاثة عشر رجلا، ثلاثة منهم ثقات معتمدون، وهم محمد بن

ص: 16


1- 1 - أخرجه مسلم وابن ماجة في السنن، تحت رقم 4143.

إسماعيل بزيع، ومحمد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني، ومحمد بن إسماعيل بن أحمد البرمكي، والعشرة الباقية لم يوثق علماء الرجال أحدا منهم، ولما اتفق علماؤنا على تصحيح ما يرويه المصنف عن محمد بن إسماعيل (1)، وكان الظاهر أن روايته عنه بلا واسطة ولا حذف ظهر أن ليس المراد أحد هؤلاء العشرة على أنهم عدوا ستة منهم من أصحاب الصادق (عليه السلام)، وبقاؤهم إلى زمان المصنف بعيد جدا، فتعين أن يكون أحدا من الثلاثة المذكورين أولا، فقيل: المراد به هو ابن بزيع وهو ليس بصحيح من وجوه:

الأول: أن ابن بزيع أدرك عصر الكاظم (عليه السلام) وروى عنه، وكان من أصحاب الرضا والجواد عليهما السلام، فبقاؤه إلى عهد المصنف بعيدا جدا.

الثاني: أن قول علماء الرجال أدرك أبا جعفر الجواد (عليه السلام) يعطي أنه لم يدرك أحدا من الأئمة بعده، فإن مثل هذه العبارة إنما يذكرونها في آخر إمام أدركه الراوي كما لا يخفى على من له انس بكلامهم.

الثالث: أنه لو بقي إلى زمن المصنف لكان قد عاصر ستة من الأئمة (عليهم السلام)، وهذه مزية عظيمة لم يظفر بها أحد غيره، فكان ينبغي لعلماء الرجال ذكرها وعدها من مزاياه، وحيث لم يذكروا علم أنه غير واقع.

الرابع: أنه من أصحاب الأئمة الثلاثة (عليهم السلام)، وقد سمع منهم أحاديث متكثرة بالمشافهة، فلو لقيه المصنف لنقل عنه شيئا منها بلا واسطة بينه وبين الأئمة (عليهم السلام); لأن قلة الوسائط شيء مطلوب، وشدة اهتمام المحدثين بعلو السند أمر معلوم وحيث لم ينقل عنه كذلك علم أنه غيره، وإذا أظهر ضعف هذا القول بقي الاحتمال دائرا بين الزعفراني والبرمكي، لكن الزعفراني ممن لقي الصادق (عليه السلام)، كما نص عليه النجاشي فيبعد بقاؤه إلى عهد المصنف، فيبقى الظن في جانب البرمكي، ويتأكد بأن الصدوق يروي عن الكليني بواسطة، وعن البرمكي بواسطتين، وبأن الكشي وهو كان معاصر المصنف يروي عن البرمكي بواسطة وبدونها، وبأن محمد بن جعفر الأسدي المعروف بأبي عبد الله الذي كان معاصر البرمكي توفي قبل وفاة المصنف بقريب من ستة عشر سنة فيقرب زمان المصنف من زمان البرمكي جدا، هذا ملخص ما ذكره أفضل المتأخرين الشيخ بهاء الملة والدين في مشرق الشمسين، وقد بسط الكلام فيه بسطا عظيما، من أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه.

وقال ابن الشهيد الثاني: ويظهر من الكشي أن للفضل بن شاذان صاحبا اسمه محمد بن إسماعيل البندقي،

ص: 17


1- 2 - إثبات اتفاق العلماء على تصحيح هذا الطريق مشكل جدا، ومحمد بن إسماعيل هذا من العشرة الباقية قطعا، والظاهر أنه لا حاجة إلى تصحيح شخص محمد بن إسماعيل; لأن كتب فضل بن شاذان كانت معروفة في عهد المؤلف; لعدم تخلل زمان طويل بينهما، وكانت قرائن الصحة وعدم الدس في كتبه كثيرة ممكنة، ومحمد بن إسماعيل من مشيخة إجازتها. (ش)

ولا يبعد أن يكون هو. وقال السيد الداماد: هو أبو الحسين النيشابوري محمد بن إسماعيل بن علي بن سختويه (1) الذي ذكره الشيخ في باب «لم» (2) من كتاب الرجال، وقد علمنا من الطبقات أنه يروي عن الفضل بن شاذان.

(عن الفضل بن شاذان) ثقة جليل فقيه متكلم عظيم الشأن في هذه الطائفة، وقيل: إنه صنف مائة وثمانين كتابا، وترحم عليه أبو محمد (عليه السلام) مرتين.

(عن ابن أبي عمير) قال العلامة: هو جليل القدر عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين، وقال الكشي:

إنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، وأقروا له بالفقه والعلم، وقال الشيخ الطوسي:

هو أوثق الناس عند العامة والخاصة وأنسكهم وأورعهم وأعبدهم، أدرك من الأئمة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ولم يرو عنه، وروى عن أبي الحسن الرضا وأبي جعفر الثاني (عليهما السلام).

(عن جميل بن دراج) وجه هذه الطائفة ثقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام).

(عن أبان بن تغلب) ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي أبا محمد علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله (عليهم السلام) وروى عنهم.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لوددت أن أصحابي ضربت) بضم التاء على صيغة المتكلم، أو بسكونها، وضم الضاد على البناء للمفعول.

(رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) السياط بكسر السين جمع السوط، وهو الذي يجلد به، والأصل سواط بالواو فقلبت ياء لكسرة ما قبلها ويجمع على الأصل على أسواط، وأما جمعه على أسياط فشاذ، وفي ذكر الرأس دون سائر الأعضاء مع أنه أشرفها، ولذلك ورد النهي عن ضربه في الحدود لما فيه من الوجه وأكثر القوى مبالغة في تأديبهم بترك التفقه، وفيه دلالة على أنه لا بد للحاكم من أن يحمل الرعية على المعروف إذا تركوه وإن احتاج إلى الضرب، وغيره من أنحاء التأديب والتعذيب.

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له

ص: 18


1- 1 - ما ذكره السيد الداماد (قدس سره) موافق لما نقل عن ابن الشهيد الثاني، وهو البندقي بعينه، والأصح أنه بندفر، والبندقي مصحف، وبالجملة فقول السيد متعين، ومحمد بن إسماعيل هذا هو النيسابوري صاحب فضل بن شاذان بغير شك، وقد اختار ذلك أيضا صاحب الوافي حيث يعبر عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان بقوله النيسابوريان. (ش)
2- 2 - أي في باب من لم يرو عنهم (عليهم السلام).

رجل: جعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه؟ قال: فقال: «كيف يتفقه هذا في دينه؟».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل: جعلت فداك، رجل عرف هذا الأمر) أي أمر الإمامة واعتقد به اعتقادا صحيحا، والجملة صفة لرجل عند من لم يجوز الابتداء بالنكرة المحضة أو خبر عند من جوزه. وقوله: (لزم بيته) إما خبر وخبر بعد أخبر.

(ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه) أي لم يصر معروفا عنده لعدم تردده إليه حتى يعرفه من قولهم: ائت فلانا واستعرف إليه حتى يعرفك، أو لم يتطلب ما عند أحد حتى يعرفه من قولهم: تعرفت ما عند فلان، أي تطلبت حتى عرفت.

(قال: فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟) والسر فيه أن التفقه مطلوب من كل أحد وأنه لا يمكن إلا بالتعلم; لأن العلم بالدين متوقف على السماع من صاحبه وواضعه بواسطة أو بغيرها، والتعلم لا يمكن إلا بالتردد إلى من هو من أهل العلم وطول ملازمته وتكرر مصاحبته والسؤال عنه، فمن لزم بيته وترك التردد أورد نفسه مورد الهلاك كمريض لم يعرض مرضه على طبيب حاذق بل ذاك أشد لأن طبيعة المريض قد تعالج المرض وتدفعه بخلاف طبيعة الجاهل، فإن آثارها وأفعالها تعاضد الجهل وتزيده.

لا يقال: هذا ينافي ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «يا أيها الناس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فطوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه وبكى على خطيئته» (1).

لأنا نقول: المراد به المنع من الدخول في مجالس يذكر فيها عيوب الناس كما يشعر به صدر الحديث، أو المنع من التوغل في طلب الدنيا وزهراتها، كما يشعر به قوله: «وأكل قوته» يعني قوته المقدر له، أو نقول: هذا الحكم يعني المدح بلزوم البيت مختص بالعالم المستغني عن التعلم، كما يشعر به قوله: «واشتغل بطاعة ربه»; لأن الاشتغال بالطاعة فرع العلم بها وبشرائطها وأحكامها، أو نقول:

المراد به الحث على الفرار من شرار الناس وفساقهم كما يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله) حين سئل عن أفضل الناس قال: «رجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» (2). وبالجملة كل من المصاحبة والمخالطة والاعتزال والمفارقة مطلوب في

ص: 19


1- 1 - النهج - في آخر خطبة له (عليه السلام)، أولها: «انتفعوا ببيان الله»، رقمها 174.
2- 2 - رواه أحمد في مسنده ج 3، ص 477، من حديث كرز بن علقمة الخزاعي، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابي فقال: يا رسول الله، هل لهذا الأمر من منتهى؟ قال: نعم، فمن أراد الله به خيرا من أعجم أو عرب أدخله عليهم، ثم تقع فتن كالظلل يعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب.. الحديث.

الجملة، والروايات فيها متكاثرة، ولعل السر في ذلك اختلاف الحكم والمصالح بحسب الأزمان والأشخاص، بل بحسب اختلاف حال شخص واحد بحسب الأوقات، فرب زمان يحسن فيه الالفة، وفي زمان آخر يحسن فيه الفرقة، ولذلك كان الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) مع كونهم مأمورين بإرشاد الناس ربما كانوا يفارقونهم ويعتزلونهم لمصلحة، وإن شئت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في شرح بعض الأحاديث السابقة فإنا قد بسطنا الكلام هنا بما لا مزيد عليه.

ص: 20

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء

* الأصل:

1 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال:

دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: «ما هذا؟»، فقيل: علامة، فقال:

«وما العلامة؟». فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار [و] العربية، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله):

«إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل».

* الشرح:

(محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان) قيل: الدهقان اسم أعجمي مركب من ده و قان، ومعناه سلطان القرية; لأن ده اسم القرية، وقان اسم السلطان.

(عن درست الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟) كلمة «ما» للاستفهام وطلب التصور، وهي على قسمين:

الأول: أن يكون المطلوب بها شرح الاسم وحينئذ يجاب بلفظ دلالته على المطلوب أظهر وأشهر، سواء كان مفردا أو مركبا.

الثاني: أن يكون المطلوب بها طلب مهية الشيء وحقيقته، سواء كان ذلك الشيء ذاتا مثل: ما الإنسان، أو وصفا مثل: ما العلم، أو مركبا منهما مثل: ما الإنسان العالم، والظاهر أن المراد هنا هو القسم الثاني المحقق في الاحتمال الأخير; لأن المقصود هو السؤال عن حقيقة ذلك الرجل المتصف بالوصف الباعث

ص: 21

لاجتماع الخلق عليه، يعني عن حقيقة هذا المجموع.

(فقيل: علامة) أي هو رجل موصوف بكثرة العلم، والتاء للمبالغة في وصف العلم، بناء على أن كثرة الشيء فرع تحقق أصله، كما أن التأنيث فرع التذكير، ويحتمل أن يكون لفظ «هذا» إشارة إلى الاجتماع، ويكون «ما» سؤالا عن سببه بمعنى لم، أي ما سبب هذا الاجتماع، فاجيب بأن سببه كثرة علمه، ولكنه بعيد.

(فقال: وما العلامة؟) يحتمل أن يكون «ما» هنا لطلب شرح الاسم; لأن مفهوم العلامة له أفراد كثيرة باعتبار تعدد فنون العلم، فلم يعلم أن مرادهم من العلامة أي فرد منها، فاحتيج إلى السؤال ليعلم مرادهم.

(فقالوا) لتفسير المقصود من بين تلك الأفراد وتعيينه.

(أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية) أي أيام الوقائع الجاهلية أو أيام أزمنتها أو نحو ذلك، ولو كانت أيام معرفة باللام لما احتيج إلى هذا التقدير.

(والأشعار والعربية) وفي بعض النسخ «والأشعار العربية» على الوصف بدون الواو، ويحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون «ما» هنا لطلب الحقيقة ويكون المقصود من السؤال الاستكشاف عن حقيقة كون ذلك الرجل علامة، والجواب حينئذ ظاهر الانطباق عليه.

لا يقال: المناسب هاهنا السؤال عن سبب كونه علامة لا عن حقيقة كونه علامة، فالمناسب إيراد كلمة لم بدل «ما» بأن يقال: لم هو علامة؟ لأنا نقول: لا نسلم أن المناسب ذلك; لأنهم لما وصفوه بأنه علامة فقد ذكروا أن السبب هو العلم الموصوف بالكثرة والزيادة، والمناسب حينئذ السؤال عن حقيقة العلامة ليعلم هل علموا حقيقته في إطلاقه على ذلك الرجل أم لا؟ ولو سلم فلا ريب أن السؤال عن حقيقته أيضا يناسب في الحصر غير معقول، والحق أن السؤال ههنا عن كل واحد منهما صحيح، وأن الجواب الصحيح عن كل واحد من السؤالين مستلزم للجواب عن الآخر مثلا إذا قيل: فلان ضارب صح أن يقال: لم هو ضارب؟ كما صح أن يقال: ما الضارب؟ فإن اجيب عن الأول بقيام الضرب به علم منه حقيقة الضارب أيضا بأنه الذي يقوم به الضرب، وإن اجيب عن الثاني بأنه الذي يقوم به الضرب علم سبب إطلاق الضارب عليه، وهو اتصافه بالضرب، وإن اجيب عنهما بغير ذلك مما لا يصح وجب تنبيه المجيب على خطئه كما فيما نحن فيه فإنهم أخطأوا وأجابوا عن السؤال المذكور بأنه أعلم الناس بالامور المذكورة، زعما منهم أن للامور المذكورة مدخلا في كونه علامة، ولذلك نبههم على الخطأ.

(قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه) في الآخرة، وإنما ذاك نوع فضيلة

ص: 22

يصطاد به الحطام ويكتسب به صرف قلوب العوام، وما هذا شأنه لا يعتد به ولا يعد صاحبه علامة.

(ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله)) إرشادا لهم إلى العلم الذي يضر جهله يوم المعاد، وينفع يوم يقوم فيه الأشهاد ويصح أن يقال لصاحبه: علامة لوجود حقيقة هذا الاسم وجبت إطلاقه فيه.

(إنما العلم) أي الذي يستحق إطلاق اسم العلم عليه وينفع في الدين والدنيا.

(ثلاثة: آية محكمة) أي غير منسوخة لأحكام معناها وعدم إزالة حكمها، أو غير متشابهة لأحكام بيانها بنفسها وعدم افتقارها في معرفة ما فيها من الحقائق والمعارف والأحكام إلى غيرها ذلك، وعدم احتياجها إلى تأويل أو غير مختلف فيها يقال: هذا الشيء محكم إذا لم يكن فيه اختلاف.

(أو فريضة عادلة) أي العلم بالواجبات المتوسطة بين الإفراط والتفريط، وقيل: المراد بها العلم بالواجبات العادلة أي الباقية الغير المنسوخة، وقيل: المراد بها العلم بما اتفق عليه المسلمون، وقال في النهاية: أراد بالعادلة العدل في القسمة، أي فريضة معدلة على السهام المذكورة في الكتاب والسنة من غير جور، ثم قال: ويحتمل أنها مستنبطة من الكتاب والسنة، فتكون هذه الفريضة تعدل بما اخذ عنهما.

(أو سنة قائمة) المراد بالسنة الطريقة النبوية، وبالقائمة الدائمة المستمرة التي العمل بها متصل لا يترك من: قام فلان على الشيء إذا ثبت عليه وتمسك به، والمراد بها العلم بما يكون ثبوته من السنة النبوية التي لا يطرأ عليها النسخ، سواء كان فريضة أو لا، وخص بعض بغير الفريضة بقرينة المقابلة، والأول إشارة إلى العلم بالمحكمات القرآنية المتعلقة باصول الدين وفروعه وبالمواعظ والنصائح والعبرة بأحوال الماضين، وإنما خص المحكم بالذكر لأن المنسوخ ليس للعلم بمضمونه كثير نفع، والمختلف فيه لا يعلم الحق منه قطعا إلا المعصوم، وكذا المتشابه لقوله تعالى:

(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم). والثاني إشارة إلى العلم بكيفية العمل وجميع الامور المعتبرة فيه شرعا من غير إفراط وتفريط. والثالث إشارة إلى العلم بالأحاديث التي بعضها في التوحيد وما يليق به، وبعضها في المعاد وما يناسبه، وبعضها في الأخلاق وما يتعلق بها، وبعضها في الأحكام وما يعتبر فيها، وبعضها في عادات الرسول والأئمة صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ويحتمل أن يكون الثاني إشارة إلى العلم بواجبات الأعمال البدنية والقلبية التي تشمل الأخلاق والمعارف الاصولية، وأن يكون الثالث إشارة إلى العلم بمستحباتها، ووجه حصر العلم في الثلاثة ظاهر; لأن العلوم النافعة إما متعلقة باصول العقائد أو بفروعها، والثانية إما متعلقة بأعمال الجوارح، أو بأفعال القلب من محاسن الأخلاق ومقابحها والاعتبار والاتعاظ وجميع ذلك مندرج في الثلاثة المذكورة.

ص: 23

(وما خلاهن فهو فضل) أي زيادة لا خير فيه في الآخرة، سواء كان ممدوحا في نفسه كعلم الرياضي والهندسة ونحوهما، أو مذموما كعلم السحر والشعبذة ونحوهما، وعلم بعض مسائل الحساب والعربية والمنطق في هذا الحصر داخل في الثلاثة المذكورة بالعرض على سبيل المبدئية، فلا ينافي ما ذكرناه آنفا، وإنما قال: «وما خلاهن فضل» ولم يقل: حرام لوجوه:

الأول: أن الحكم بالحرمة ليس كليا.

الثاني: أن للحاكم أن يمنع الناس عن الاشتغال بما لا ينفعهم كثيرا برفق وقول لين.

الثالث: الإشارة إلى أن العلم من حيث إنه علم ليس بحرام (1)، وإن تعلقت به الحرمة والدم فإنما هو باعتبار العمل والآثار المقصودة منه كعلم السحر والأعداد والموسيقى والنجوم وأمثالها.

أما الثلاثة الاولى فأعظم منافعها هو الاضرار بالغير والتفريق بين الأحبة والعناد، وأما علم النجوم فالزجر عنه (2) مع قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)، وقوله تعالى:

(والشمس والقمر بحسبان)، وقوله تعالى: (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)، وقوله تعالى: (والنجوم

ص: 24


1- 1 - قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في اعتقاداته في ترغيب طالب العلم وما يطلب: «لا يبالي - يعني طالب العلم - أن يعده أهل الزمان وجهلة الدوران حشويا أو قشريا أو زاهدا خشكا أو ينسبونه إلى الجهل»، وقال: «ينبغي أن يبغى معلما مستأنسا بكلام أهل البيت (عليهم السلام) وأخبارهم معتقدا لها - إلى أن قال: - وينبغي أن يحصل نبذة من العلوم الآلية لافتقار علم الحديث إليها كعلم الصرف والنحو، وقليلا من المنطق، وقليلا من علم الاصول، وبعض الكتب الفقهية، ثم يبذل غاية الجهد في علم الحديث» انتهى. وينبغي أن يكون علم الحديث مع تدبر وتفهم، لا حفظ الألفاظ، كما سيجيء إن شاء الله في حديث: «ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم»، ومع ذلك فلا يوافقه أكثر العلماء، وما ذكره إنما هو وظيفة المحدث دون المفسر، والفقيه والمتكلم وغيرهم ممن بهم قوام أمر الدين. (ش)
2- 2 - الآيات الكريمة تدل على مدح علم النجوم والترغيب فيه فلا بد أن يكون النهي واردا على شيء لا ينافي المدح والترغيب، والذي ذكره السيد المرتضى (رحمه الله) وجه جمع صحيح وبيناه في حواشي الوافي، وهو: أن الممدوح ما يتعلق بالتسييرات وضبط الحركات ومقادير الليل والنهار وعروض البلدان وأطوالها ومعرفة القبلة، وبالجملة ما يتعلق بالحساب وضبط المقادير والمنهي هو ما يتعلق بخواص الكواكب وأوضاعها وما هو معروف عندهم بعلم أحكام النجوم، والغرض منه التخرص على الغيب بغير علم ونهي عنه; لأنه لا دليل على ما ذكروه فيها، وهو تضييع للوقت بغير فائدة، وإنما يحرم الحكم بها على البت لا صرف تعلمها. (ش)

مسخرات بأمره)، فلوجوه ذكروها:

الأول: أن العلم بالنجوم وأحكامها وعددها على ما هي عليه في نفس الأمر لا يحصل إلا للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وأما غيرهم فلا يحصل لهم إلا ظن وتخمين، فيكون الحكم بها حكما بظن بل بجهل، فيكون ذمه من جهة أنه جهل لا من جهة أنه علم، ويدل عليه بعض الأحاديث المروية في هذا الكتاب كحديث القلنسوة في كيفية دور الفلك (1)، وحديث المنجم مع أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، وحديث الزهرة (3).

الثاني: أن الخائض فيه ربما يقع في نفسه أن الكواكب والأوضاع الفلكية هي المؤثرات والآلهة المدبرات حقيقة فيلتفت إليها ويغفل قلبه عن بارئها وصانعها.

الثالث: أن فيه غموضا ودقة، والخوض في علم لا يدركه الخائض مذموم، كما ورد النهي عن تعليم العلم لغير أهله، وعن الخوض في مسألة القدر، وبالجملة كل علم ورد النهي عنه فإنما هو لقلة نفعه، أو لقبح أثاره، أو لعدم إدراكه.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن أبي البختري) بالخاء المعجمة، اسمه وهب بن وهب، قال العلامة: إنه كان قاضيا كذابا عاميا، ونقل الكشي عن الفضل بن شاذان أنه من أكذب البرية، وقال الشيخ: إنه ضعيف عامي المذهب.

أقول: الحديث معتبر وإن كان الراوي كذوبا (4); لأن الكذوب قد يصدق.

ص: 25


1- 1 - الروضة من الكافي، تحت رقم 549.
2- 2 - راجع نهج البلاغة - من كلام له (عليه السلام)، تحت رقم 77.
3- 3 - الروضة من الكافي، تحت رقم 233.
4- 4 - اعتباره لمطابقة مضمونه للعقل بل الحس، ولما تواتر عنهم من مدح العلم والعلماء، والإجماع عليه، وإنما يطلب السند في الامور المخالفة للأصل والقاعدة. (ش)

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العلماء ورثة الأنبياء) والوارث من يرث رجلا بعد موته. وقال ابن الأثير في أسماء الله تعالى: الوارث هو الذي يرث الخلائق بعد فنائهم، ومنه الحديث: «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين مني» أي أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وقيل: أراد بقاءها وقوتهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقين بعدها، وقيل: أراد بالسمع وعي ما يسمع والعمل به، وبالبصر الاعتبار بما يرى، وفيه فضل عظيم وشرف جسيم للعلماء وترغيب بليغ في تحصيل العلم.

(وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا) هذا ينافي ظاهرا ما دل من الآيات والروايات على إيراثهم. والجواب: أن المراد أن الأنبياء لم يكن من شأنهم وعاداتهم جمع الأموال والأسباب كما هو شأن أبناء الدنيا، وهذا لا ينافي إيراثهم ما كان في أيديهم من الضروريات كالمساكن والمركوب والملبوس ونحوها، أو المراد أن الأنبياء من حيث إنهم أنبياء لم يورثوا ذلك يعني أن إيراث النبوة ومقتضاها ليس ذلك.

(وإنما أورثوا أحاديث) الحديث في اللغة الخبر يأتي على القليل والكثير، ويجمع على أحاديث على غير قياس، وفي العرف قيل: هو ما يحكي قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو فعله أو تقريره. وفيه: أنه لا يصدق على المسموع منه ومن العترة الطاهرة، وعلى ما يحكي قول العترة أو فعلهم أو تقريرهم. وقيل: هو ما يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره. وفيه: أنه لا يصدق على المسموع منه غير محكي عن مثله، والقول بأنه ليس بحديث باطل قطعا. وقيل: هو قول المعصوم أو فعله أو تقريره أو حكاية هذه الامور، وأما ما لا ينتهي إلى المعصوم وإن انتهى إلى صحابي أو من رأى صحابيا فليس بحديث عندنا.

(من أحاديثهم) «من» متعلق بأورثوا وصلة له، مثل قولهم: فلان أعطى من ماله كذا، أو للتبعيض على أنه صفة للأحاديث، أو حال عنها، والتبعيض يتحقق في أكثر الامة وإلا فأورثوا أوصياءهم (عليهم السلام) جميعها.

(فمن أخذ بشيء منها) أخذ دراية وفهم لا مجرد أخذ رواية ونقل; لأن هذا ليس من باب وراثة العلم وإن كان له فضل أيضا، إلا أنه دون فضل الأول; لأن أصحابه من خدمة العلماء.

(فقد أخذ حظا وافرا) لفضله وشرفه وكونه من تركة الأنبياء حتى يعد قليل منه خيرا من الدنيا وما فيها، ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا، وقد نقل شيخ العارفين بهاء الملة والدين عن بعض أصحاب الكمال في تحقيق معنى الآل كلاما يناسب ذكره في هذا المقام، وهو: أن آل النبي (عليهم السلام) كل من يؤول إليه، وهم قسمان:

الأول: من يؤول إليه أولا صوريا جسمانيا كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين الذين

ص: 26

يحرم عليهم الصدقة.

والثاني: من يؤول إليه أولا معنويا روحانيا، وهم أولاده الروحانيون من العلماء الراسخين والأولياء الكاملين والحكماء المتألهين المقتبسين من مشكاة أنواره، سواء سبقوه بالزمان أو لحقوه (1)، ولا شك أن النسبة الثانية آكد من الاولى، وإذا اجتمعت النسبتان كان نورا على نور كما في الأئمة المشهورين من العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين وكما حرم على الأولاد الصوريين الصدقة الصورية كذلك حرم على الأولاد المعنويين الصدقة المعنوية، أعني تقليد الغير في العلوم والمعارف، ثم قال: هذا ملخص كلامه، وهو مما يستوجب أن يكتب بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق.

أقول: وإنما كانت النسبة الثانية آكد من الاولى; لأن التفاوت بين النسبتين مثل التفاوت بين الروح والبدن، ولذلك اتفق الحكماء على أن حق المعلم الروحاني على المتعلم أولى وأعظم من حق أبيه الجسماني عليه.

(فانظروا علمكم هذا) أي الذي هو ميراث الأنبياء.

(عمن تأخذونه) قيل: المقصود أنكم تأخذونه من النبي فينبغي لكم أن تهتموا بأمره ولا تساهلوا في طلبه; لأنه مما آثره خير الناس ومن مواريثه التي تركها لكم، والحق أن المقصود منه هو التنبيه على أنه ينبغي لكم أن تعرفوا أحوال الناس حتى تجدوا أهل هذا العلم لتأخذوه منه; لأن مدعي العلم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كثير والجميع ليسوا قائلين بالصواب ولا آخذين من مشكاة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل أكثرهم يدعونه بمجرد الأهواء طالبين للتقدم والرياسة، تابعين للشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وإنما القائلون بالحق الآخذون له من منبع الرسالة هم أهل البيت الذين عصمهم الله تعالى من الخطأ والخطل وطهرهم من الأرجاس والزلل، واختارهم لإرشاد الخلائق إلى الطريقة الغراء وهدايتهم إلى الشريعة البيضاء في كل عصر واحد بعد واحد لئلا يكون للناس عليه حجة فوجب أخذه عنهم إلى قيام الساعة، وقد نبه على هذا بقوله:

ص: 27


1- 1 - كأنه أراد بالعلماء الراسخين علماء الشريعة، وبالأولياء الكاملين علماء الطريقة، أعني المتحققين بتهذيب النفس والعارفين بدقائق المعارف بنور إلهي وكشف قدسي، وبالحكماء المتألهين أصحاب النظر الذين علموا بعقولهم بعض ما يتعلق بالمبدأ والمعاد بقدر الطاقة البشرية، والذين سبقوه بالزمان نظير لقمان وسائر الموحدين من أوائل الحكماء، وفي اقتباسهم من مشكاة أنوارهم تحقيق لا يليق ذكره هنا، ومدح هؤلاء إنما هو إذا كانوا مقتبسين من مشكاة أنوار النبوة لا الفقهاء المعتمدون على الآراء والقياسات ولا المدعون من أهل الطريقة الناكبون عنها بالبدع، ولا الحكماء المعرضون عن الإلهيات والتاركون للعقل المقبلون على الحس، فإنهم ليسوا حكماء حقيقة. (ش)

(فإن فينا أهل البيت) «فينا» خبر «إن» قدم على اسمه وهو «عدولا» للحصر أو للتشويق إلى ذكره، أو لكونه ظرفا، وأهل البيت منصوب على المدح بتقدير أعني أو مجرور بتقدير «في» بقرينة المقام، وإن كان تقديرها شاذا على أنه بدل ل «فينا» أو مجرور على أنه بدل عن ضمير المتكلم إن جوز.

(في كل خلف) الخلف بالتحريك والسكون كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر يقال: خلف صدق وخلف سوء، والمراد في هذا الحديث المفتوح والمعنى في كل قرن وفي كل من جاء من الامة بعده (صلى الله عليه وآله)، ويحتمل بعيدا في كل ما يخلف عنه (صلى الله عليه وآله) من الأحاديث والعلوم.

(عدولا) أي امة وسطا لهم استقامة وثبات في منهج الحق وطريق الصدق من غير تحريف وجور وتقصير.

(ينفون عنه تحريف الغالين) أي المجاوزين فيه عن الحدود، والتحريف تغيير الكلام عن موضعه.

(وانتحال المبطلين) لاصول الدين وفروعه، يقال: فلان انتحل مذهب كذا إذا انتسب إليه، وانتحل قول غيره إذا ادعاه لنفسه، فالانتحال إما بمعنى الانتساب، أو بمعنى سرقة الشيء وإخراجه عن موضعه، والعدول من أهل البيت يحفظون بيت الشريعة ويمنعون المبطلين لأساسها المنتسبين إليها على وجه الباطل من الدخول فيها والتصرف فيها ويدفعون السارقين القاصدين لسرقة ما فيها من السرقة وتغيير الشيء من أصله وإخراجه عن وضعه.

(وتأويل الجاهلين) بعلوم الكتاب والسنة على وفق آرائهم الفاسدة وظنونهم الباطلة من غير أن يكون لهم في ذلك نص صريح أو خبر صحيح، وهؤلاء العدول الأئمة (عليهم السلام) الراسخون في العلم الذين يعلمون معالم التنزيل ووجوه التأويل بإعلام نبوي وإلهام إلهي، ويشاهدون الحقائق بعين اليقين لصفاء طينتهم وضياء سريرتهم وخلوص عقيدتهم وكمال بصيرتهم، واولئك أهل الذكر واولئك اولوا الألباب، وفيه دلالة على أن ميراث العلم انتقل إليهم أولا ثم بوساطتهم إلى من شاء الله هدايته، وعلى أن عصرا من الأعصار لا يخلو عن معصوم وعلى حجية الإجماع ومثل هذا روي من طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (1) (2).

ص: 28


1- 1 - أخرجه البغوي في المصابيح ج 1، ص 23، والبيهقي في كتاب المدخل مرسلا كما في مشكاة المصابيح - كتاب العلم.
2- 2 - قوله: «الغالي» هو من يجاوز الحد في الأئمة (عليهم السلام) ويقول فيهم ما لا يقولون في أنفسهم كالنبوة والالوهية، ولهم أحاديث منحولة نقلوها عن الأئمة (عليهم السلام)، وذكرهم علماء الرجال في كتبهم، و «المبطل» من له رأي باطل كالوعيدية والمجسمة والقدرية والحشوية، وبعضهم ينسب نفسه إلى الأئمة (عليهم السلام) ولهم أيضا روايات، وأما «الجاهل» فهو من لا معرفة له بالعلوم ولا يلتفت إلى القرائن، ويتكلم في كل حديث يسمعه بوجه يقتضيه جهله، يتبرؤون من أهل العلم والتحقيق، ويقعون فيهم، وإذا تتبعنا وجدنا ثلم الدين منحصرا في هؤلاء الثلاثة، ولا يقع بغيرهم ثلم يعتد به البتة، والغالي أيضا المتجاوز عن الحد في التقشف باسم الدين نظير الخوارج، والمبطل أهل البدعة، والجاهل معلوم. وقوله: «لا يخلو عن معصوم» لقوله: فينا أهل البيت، ويدل على حجية الإجماع لأنا إذا رأينا الطائفة مجمعين على شيء علمنا أنه ليس باطلا; إذ لو كان باطلا لنفاه المعصوم، فإما أن يقبل قوله الجميع فيتفقون على الحق، وإما أن يقبله بعض فيحصل الخلاف، ولا يحتمل الاتفاق على الباطل. وقال المجلسي (رحمه الله) في البحار: ولا يخفى أن في زمان الغيبة لا يمكن الاطلاع على الإجماع; إذ مع فرض إمكان الاطلاع على مذاهب جميع الإمامية مع تفرقهم وانتشارهم في أقطار البلاد والعلم بكونهم متفقين على مذهب واحد لا حجة فيه، وهذا الاعتراض الذي ذكره المجلسي (رحمه الله) نقله العلامة (قدس سره) في النهاية من بعض من تقدم عليه، وأجاب بجواب كاف مقنع، وكأنه لم يره المجلسي (رحمه الله) فجدد الاعتراض. (ش)
* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين) قال شيخ العارفين بهاء الملة والدين:

ليس المراد بالفقه الفهم ولا العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية، فإنه معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في أمر الدين والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هو صاحب هذه البصيرة، وإليها أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: «لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ويرى للقرآن وجوها كثيرة» (1)، ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتا ثم هذه البصيرة إما موهبية وهي التي دعا بها النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) حين أرسله إلى اليمن بقوله: «اللهم فقهه في الدين» (2)، أو كسبية، وهي التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال لولده الحسن (عليه السلام): «وتفقه يا بني في الدين» (3)، وفي كلام بعض الأعلام أن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدل عليه قوله تعالى:

ص: 29


1- 1 - منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج 4، ص 36، قال: «رواه الخطيب في المتفق والمفترق من حديث شداد بن أوس».
2- 2 - ذكره المؤرخون في حوادث السنة العاشرة.
3- 3 - النهج - أبواب الكتب، تحت رقم 31.

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فقد جعل العلة الغائية من الفقه الإنذار والتخويف، ومعلوم أن ذلك لا يترتب إلا على هذه المعارف لا على معرفة فروع الطلاق والمساقاة والسلم وأمثال ذلك.

* الأصل:

4 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: «الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى) الجهني البصري، ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن والرضا (عليهم السلام)، ومات في حياة أبي جعفر الثاني (عليه السلام).

(عن ربعي بن عبد الله) بصري، ثقة.

(عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: الكمال كل الكمال) أي الكمال الكامل البالغ نهاية الكمال.

(التفقه في الدين) أي العلم بما نطق به لسان الشرع والاعتقاد بما يقصد منه الاعتقاد، والعمل بما يقصد منه العمل مع الاتصاف بالخوف والخشية كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، حيث جعل العلم موجبا لهما لتعلق الحكم على الوصف، فلو خلا العلم منهما لكان الجهل خيرا منه.

(والصبر على النائبة) أي حبس النفس عليها وترك الجزع والشكاية منها، وهي ما ينوب الإنسان، أي ينزل به من المهمات والحوادث والمصيبات، وقد نابه ينوبه نوبا وانتابه: إذا قصده مرة بعد مرة، والصبر عليها من خصال الأنبياء والأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، ومن صبر على النوائب يرى منه العجائب ويشاهد منه الغرائب، ومن عود نفسه على المكاره والبلاء هانت له المصائب وعظم له الجزاء، ومن جملة ذلك الصبر على تحمل الطاعات وترك المنهيات، وهذا أفضل من الصبر على المصيبات.

(وتقدير المعيشة) في المغرب: معيشة الإنسان ما يعيشه من مكسبه، ومنها العياش، فقال:

منها (1)، والمراد بتقديرها وزنها وتحصيلها على قدر الكفاف من غير زيادة ونقصان وإسراف وتقتير; إذ الإسراف والتقتير مذمومان عقلا وشرعا، والنقصان يوجب فوات القدر المحتاج إليه في البقاء والعبادة، وطلب الزيادة يوجب تضييع العمر فيما لا يحتاج إليه، ولا تظن أن قوله (عليه السلام): «كل الكمال» من باب المبالغة، بل هو

ص: 30


1- 1 - كذا، لعله «فعال».

من باب الحقيقة; لأن كل كمال فرض غير ما ذكر، فهو إما داخل فيه أو تابع له أو مقدم عليه ومبدأ له، فإذا اتصف الإنسان بهذا الكمال صار حقيقا بأن يطير بأجنحته مع الملائكة المقربين، ويسير في عالم القدس مع الروحانيين، فيا عجبا من انحصار الكمال في هذا العصر في قول الزور والميل إلى دار الغرور!

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العلماء امناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة».

وفي رواية اخرى: «العلماء منار، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر) الجعفي الكوفي، قال العلامة: هو ثقة ممدوح، وحديثه أعتمد عليه.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العلماء امناء) الأمين هو المعتمد عليه الموثوق به فيما فوض أمره إليه، والعلماء امناء الله في بلاده وعباده وكتابه ودينه وحلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومفصله ومطلقه ومقيده وعبره وأمثاله; لكونهم حملة لكتابه وخزنة لأسراره وحفظة لأحكامه، منحهم الله تعالى ذلك وأعطاهم هذه المنزلة الشريفة التي هي الخلافة العظمى والرياسة الكبرى ليجذبوا العقول الناقصة من تيه الضلال إلى جناب حضرته ويخلصوا الخلائق عما التفتوا إليه من اتباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة ويبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله بالتنبيه على عظمة نعم الله عليهم وكثرة إحسانه إليهم وترغيبهم فيما عند الله مما أعده لأوليائه وتحذيرهم عما أعد لأعدائه. وفي تعريف المبتدأ باللام دلالة على الحصر مثل قولنا: «الأمير زيد» عند قصد حصر الإشارة فيه، فمن حصل له صور المعقولات الكلية وملكة الاقتدار بها على الإدراكات الجزئية وجعلها وسيلة لاكتساب الزخارف الدنية الدنيوية بالتسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية ولم يتصف بفضيلة الديانة والأمانة وعزل نفسه عن السلطنة والخلافة وترك تعليم الناس وإخراجهم من الضلالة والجهالة فهو ليس بعالم بالشريعة في الحقيقة، بل هو عالم خائن مفتون، والجاهل خير منه.

(والأتقياء حصون) المراد أن الأتقياء هم الذين يجتنبون عما كره الله تعالى ويتورعون عما نهاه ولا يحومون حول ما ليس فيه رضاه وهم مع ذلك يقومون بما أمرهم الله به خائفين وجلين، حصون الإسلام

ص: 31

يدفع الله بهم عن أهله عذابه كما روي عن أبي جعفر الثاني قال: «إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء» (1)، وفي رواية اخرى: «لو أن عبدا بكى في امة لرحم الله عز وجل تلك الامة ببكاء ذلك العبد» (2)، ويرشد إليه قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، أو المراد أن الأتقياء حصون للشريعة الطاهرة; لأنهم يمنعون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، كما أن الحصون تمنع من أهلها صدمات المعاندين، أو لأن مواظبتهم على التقوى والورع وفعل الطاعات وترك المنهيات تؤثر في قلوب الناس تأثيرا عظيما فلا يقدمون على هتك أستار الشريعة وهدم أركانها ونقض حدودها، أو المراد أن الأتقياء حصون وجب على الناس الرجوع إليهم والدخول في حمايتهم عند الخوف من طوارق شبهات الحدثان وتوارد نوائب الزمان كما أنهم يتحصنون عند الخوف من الأعداء، أو المراد أن الأتقياء الموصوفين بالعلم والحلم والشجاعة والعدالة المحدودين بهذه الأركان المحاطين بهذه الحيطان حصون لا يتسلط عليهم عساكر الشيطان ولا يتطرق إليهم غوائل الزمان.

(والأوصياء سادة) السادة جمع السيد، على وزن فعيل أو فيعل، على اختلاف المذهبين، وأصلها سودة على فعلة بالتحريك، قلبت الواو ألفا، وسيد القوم أكبرهم وأكرمهم وأعظمهم وأميرهم الذي يرجعون إليه في جميع امورهم وينقادون له في أقواله وأفعاله، يعني أن أوصياء النبي (صلى الله عليه وآله) سادة الامة وكبراؤهم وعظماؤهم وامراؤهم وجب على الامة الأخذ بقولهم وفعلهم وأمرهم ونهيهم والانقياد لهم في امور الدنيا والآخرة لاختصاصهم بحق الولاية وانفرادهم في فضيلة الخلافة وامتيازهم بالوصية والوراثة، وتقدمهم بأمر إلهي وتأييد رباني، فلا يجوز لأحد التقدم عليهم في أمر من الامور، وللدلالة على هذا المعنى نسب (عليه السلام) السيادة إليهم، وإلا فما نسبه إلى العلماء والأتقياء فهو منسوب إليهم أيضا; لأنهم من أعاظم العلماء والأتقياء ورؤسائهم وكبرائهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(وفي رواية اخرى: العلماء منار، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة) المنار جمع المنارة، على غير قياس، وجمعها على القياس مناور; لأنها من النور، ومن قال: منائر فقد شبه الأصلي بالزائد وذلك لأن وزنها مفعلة وقياسها في الجمع مفاعل، والمنارة علم الطريق أي ما ينصب فيه ليهتدى به، وتطلق على ما يوضع فوقه السراج أيضا، واستعيرت للعلماء لأنهم محال أنوار الله وعلومه، والناس بفيض أنوارهم يهتدون إلى معالم دين الله وسبيل طاعته وطريق رضوانه، أو لأنهم أعلام للطريق إليه سبحانه واقفون على

ص: 32


1- 1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب فيما يدفع الله بالمؤمن)، تحت رقم 2.
2- 2 - الكافي - كتاب الدعاء (باب البكاء)، تحت رقم 2.

الصراط المستقيم حافظون للعوام في كل مقام عن مزال الأقدام.

* الأصل:

6 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن إدريس بن الحسن، عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا، يا بشير، إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم».

* الشرح:

(أحمد بن إدريس) أبو علي الأشعري، ثقة، فقيه في أصحابنا، صحيح الحديث، كثير الرواية.

(عن محمد بن حسان، عن إدريس بن الحسن) قال بعض المحققين: هو أبو القاسم إدريس بن الحسن بن أحمد بن زيدويه من رجال الجواد أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، وهو الذي ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحابه (عليه السلام) بقوله: إدريس القمي، يكنى أبا القاسم، وأبوه الحسن بن أحمد بن زيدويه صاحب كتاب المزار، ثقة، ثبت من أعيان أصحابنا القميين.

(عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا) لأن خير الدنيا عبارة عن السلوك في طريق الحق وعدم الانحراف عنه وهداية الناس إليه، وخير الآخرة عبارة عن الفوز بالسعادات الأبدية والنزول في ساحة العزة الإلهية، ولا يتصور حصول شيء منهما بدون التفقه في الدين ومعرفة الصانع وما يليق به ومعرفة الشريعة على اليقين.

(يا بشير، إن الرجل منهم) أي من أصحابنا.

(إذا لم يستغن بفقهه) في اصول الدين وفروعه من الاستعانة أو من الاستغناء، والثاني أظهر.

(احتاج إليهم) أي إلى العامة المفتونين بالغواية المنتسبين إلى العلم والفقاهة، توجيه الشرطية أن غير الفقيه متحير في الدين محتاج إلى السؤال عنه، وأكثر الخلائق من أهل الأهواء المضلة، ولا تميز له بين المحق والمبطل، وبين الهادي والمضل، فإذا سأل فالغالب أن يسأل المضلين، وأما توجيهها بأنه قد يحتاج إليهم في شدة التقية أو عدم حضور الفقيه وتيسير الوصول إليه ففيه أنه لا مدخل لهذا التوجيه في إثباتها قطعا.

(فإذا احتاج إليهم) في معرفة الدين وتفاصيل اصوله وفروعه.

(أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم) أنه باب ضلالة لعدم علمه تميزه بين الحق والباطل، فيخرج عن الدين من حيث لا يعلم، وقد أشار (عليه السلام) إلى مضمون هذا الخبر بقوله: «من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه

ص: 33

صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال»، وبقوله: «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن»، وبقوله: «من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه» (1)، فيجب على المتمسك بدين الحق أن يكون عارفا عالما بوجوه المصالح والمفساد ذا بصيرة كاملة في التمييز بين الحق والباطل ليكون ثابتا راسخا فيه بحيث لا تغيره رياح فتن المخالفين ولا يحركه صرصر شبهات المعاندين.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع، أو مستمع واع».

* الشرح:

علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا خير في العيش) أي في الحياة الدنيوية والاخروية.

(إلا لرجلين عالم مطاع، أو مستمع واع) أي حافظ من وعاه إذا حفظه وفهمه، تقول: وعيت الحديث أعيه وعيا فأنا واع إذا حفظته وفهمته، وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم، فأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فإنه غير واع له، ووجه الحصر أن الخير في عيش الدنيا هو الاستقامة والثبات على الحق وعدم التحير والاضطراب فيه وعدم الانخداع من العدو الداخلي، أعني النفس الأمارة والقوة السبعية والبهيمية، ومن العدو الخارجي أعني الشيطان وجنوده وأعوانه من الفرق الضالة المضلة، والخير في عيش الآخرة هو الفوز بمقام القرب في دار المقامة والوصول إلى نعيم الأبد في دار السلامة والسرور بما أعد الله تعالى لأهل الكرامة، وشئ من هذين الخيرين لا يتحقق إلا لعالم مهتد في نفسه مطاع هاد لغيره ومتعلم مستمع منه تابع له في عقائده وأعماله وأفعاله حافظ فاهم لما يسمعه ضابط لألفاظه ومعانيه وحدوده.

وأما غيرهما فهو في معيشة ضنك يتبع كل مبتدع ينعق، وكل مضل ينهق، وكل مخترع يدعو الناس إلى باطل ويميل من دين إلى آخر بأدنى ريح وينتقل من الحق إلى الباطل بأدنى تدليس وتشكيك، فلا خير في عيشهم على اليقين ولهم في الآخرة عذاب أليم، ألا ذلك هو الخسران المبين.

وقد أشار إلى مضمون هذا الخبر سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع يتبعون لكل ناعق، يميلون لكل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم

ص: 34


1- 1 - تقدم كل ذلك في شرح المقدمة في المجلد الأول.

يلجأوا إلى ركن وثيق» (1).

وفي الفائق: الهمج جمع الهمجة، وهي ذباب صغير يقع على وجوه النعم والحمير، وقيل: هو ضرب من البعوض شبه به الأراذل والسفلة، والرعاع طغام الناس وأوغادهم وأدانيهم الذين يخدمون بطعام بطونهم، وأي خير في عيشة هذا الصنف؟ وما عيشتهم إلا كعيشة الكلب، بل هي أدنى منها وأخس.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «عالم ينتفع بعلمه أفضل من

ص: 35


1- 1 - النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 147.

سبعين ألف عابد».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: عالم ينتفع بعلمه) على البناء للفاعل والمفعول، والمراد بهذا العالم صاحب الحكمة النظرية والعملية.

(أفضل من سبعين ألف عابد) لأن عقل العابد الجاهل راقد في مراقد الطبيعة، وعقل العالم سائر في معالم الشريعة، وأيضا نفع العابد لو تحقق يرجع إلى نفسه ونفع العالم يرجع إليه وإلى جميع الخلائق وأيضا العالم وارث الأنبياء قائم مقامهم فنسبته إلى غيره كنسبة الأنبياء إلى غيرهم، وأيضا العابد في مرتبة العقل الهيولاني والعالم في مرتبة العقل بالفعل أو فوقها ومزية الثانية على الاولى لا يخفى على ذي بصيرة وهذه الوجوه تفيد أن العالم أفضل من العابد، وأما كونه أفضل من خصوص هذا العدد أعني سبعين ألف عابد فعقولنا قاصرة عن إدراك سر ذلك، والعلم به مختص بأهل الذكر (عليهم السلام)، وإنما الواجب علينا التسليم، ويحتمل أن يكون الغرض من ذكر هذا العدد مجرد إفادة الكثرة الخارجة عن إحاطة الحصر كما هو المتعارف من استعمال أمثال هذه العبارة، ويؤيده ما مر عن النبي (صلى الله عليه وآله): «وما أدى فرائض الله...» الحديث.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل؟ قال: «الرواية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق) مشترك بين الرازي والقمي، وكلاهما ثقة جليل القدر، ويحتمل اتحادهما.

(عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل راوية لحديثكم) أي كثير الرواية، والتاء للمبالغة، وفي المغرب: الراوية بعير السقاء; لأنه يروي أي يحمله، منه راوي الحديث وراويته، والتاء للمبالغة. يقال: روى الحديث والشعر رواية ورويته إياه حملته على روايته، ومنه إنا روينا في الأخبار.

(يبث ذلك) أي ينشره.

(في الناس ويشدده) أي يوثقه ويحكمه، والبناء للمبالغة، ويحتمل أن يكون بالسين المهملة، والمراد بتسديده جعله سديدا مستقيما.

(في قلوبهم) أي في قلوب الناس، والظاهر أن المراد بالناس العامة أو المستضعفون منهم الذين يرجى رجوعهم إلى الحق.

(وقلوب شيعتكم) شيعة الرجل أتباعه وأنصاره.

(ولعل عابدا) لعل للترجي، وهي من الحروف العاملة في الجملة تنصب الاسم وترفع الخبر.

(من شيعتكم) في محل النصب على أنه صفة العابد.

(ليست له هذه الرواية) في محل الرفع على أنه خبر لعل.

(أيهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشد به) أي يقوي بسبب حديثنا ونشره من شده إذا قواه، ومنه: (سنشد عضدك بأخيك).

(قلوب شيعتنا) في محبتهم لنا، وثباتهم على دين الحق وترك الناس في الجواب إما للاختصار بقرينة السؤال أوللإشعار بأن الأفضلية باعتبار نشره بين الشيعة لا بين الناس، أعني العامة أيضا; لأنه ربما يكون نشره بينهم حراما لشدة التقية، وعلى تقدير انتفائها ليس فيه هذه المزية.

(أفضل من ألف عابد) يفهم منه مع ملاحظة السابق أن ثواب راوي الحديث من غير أن يكون له علم بحقيقته وقوته في فهم معناه وقدرة في التفكير في مغزاه وروية في استنباط مؤداه جزء من سبعين جزءا

ص: 36

من (1) ثواب الفقيه المتصف بالصفات المذكورة. هذا إن اريد من هذا الخبر الأفضلية بمجرد الرواية، وإن اعتبر معها اتصاف الراوي بهذه الصفات ينبغي أن يراد بهذا العدد - أعني ألف عابد - مجرد الكثرة، كما هو المتعارف في بيان التفاضل الفاحش بين الشيئين.

أو يقال: لا دلالة فيه على نفي الأفضلية من الزائد إلا بمفهوم العدد ولا حجة فيه، أو يقال: ذلك الحكم - أعني الأفضلية يتفاوت بحسب تفاوت حالات الفاضل والمفضول، فقد يكون العالم أفضل من جميع العابدين كما في الحديث النبوي المذكور سابقا، وقد يكون أفضل من سبعين ألف كما في الحديث السابق، وقد يكون أفضل من ألف كما في هذا الحديث، وعلى التقادير لا تنافي بين الأحاديث، والله أعلم.

ص: 37


1- 1 - بيان ذلك: أنه (عليه السلام) جعل العالم أفضل من سبعين ألف، وجعل الراوي المحدث أفضل من ألف فقط، فيصير العالم سبعين ضعفا للمحدث. والحق أن المراد من الراوي من يفهم الرواية ويقدر على تشديد قلوب شيعتهم وإلا فمحض نقل ألفاظ الحديث من غير فهم معناه لا يشد به القلوب، بل ربما أوجب الشك وزيادة الضلال. ففي بعض الروايات ما يدل على الجبر والتشبيه وامور لا تطابق العلم اليقين والقرآن المبين ونقله من غير فهم معناه ورفع الشبه عنه يزيد في حيرة الخلق وضعف إيمانهم، فالمراد هنا من الراوي هو العالم بعينه كما ذكره الشارح بعد ذلك. (ش)

ص: 38

باب أصناف الناس

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي اسامة، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إن الناس آلوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاثة:

آلوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده وقد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة، ثم هلك من ادعى وخاب من افترى».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد; ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي اسامة زيد الشحام) بن يونس (1)، وقيل: ابن موسى.

(عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق السبيعي، عمن حدثه ممن يوثق به، قال:

سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الناس آلوا) على وزن «قالوا» من آل يؤول أي رجعوا. ويحتمل فتح الهمزة واللام مع تخفيفها أو تشديدها، أي قصروا، يقال: إلى الرجل يألوا في الأمر، وألى فيه تألية إذا قصر وترك الجهد، لكن يحتاج حينئذ إلى تضمين معنى الرجوع أو الصيرورة، يعني أن الناس قصروا وتركوا الاجتهاد في طلب الدين.

(بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)) راجعين أو صائرين.

(إلى ثلاثة) أقسام ولو لم يقصروا رجعوا إلى القسمين يعني إلى عالم ومتعلم، لكن في هذين الاحتمالين تكلف لا يحتاج إليه.

(آلوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره) وهو العدل الذي أخذ العلم بإعلام

ص: 39


1- 1 - قال في جامع الرواة: زيد بن يونس أبو اسامة الأزدي مولاهم الشحام الكوفي ابن محمد بن يونس، والذي في «جش» و «ست» و «صه» و «ق» زيد بن يونس. وقيل ابن موسى أبو اسامة الشحام مولى شديد بن عبد الرحمن بن نعيم الأزدي الغامدي، كوفي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام)، له كتاب يرويه جماعة منهم صفوان بن يحيى. (ش)

نبوي وإلهام إلهي لاستعداد نفسه القدسية وقلبه المطهر عن الرذائل الخلقية للعلوم والانتقاش بالأسرار الغيبية والصور الكلية والجزئية وكيفية انشعابها وتفاصيلها، واستفاد بذلك الأحكام والوقائع والأخلاق وأحوال المبدأ والمعاد وغيرها من الفضائل الشرعية ومقاصدها من الكتاب والسنة والعادات النبوية، فهو عارف عالم عامل منطقه الصواب ولباسه الاقتصاد، مشيه التواضع وصفته الصبر في الضراء والسراء، والرجوع إلى الله في الشدة والرخاء، له قوة في دين، وشجاعة في لين، وإيمان في يقين، وحرص في علم، وعلم في حلم، وقصد في غنى، وخشوع في عبادة، وتحمل في زهادة، وهو معلم العلوم والآداب النفسانية، ومأخذ جميع الكمالات ورسوم الحقيقة الإنسانية، قد أغناه الله تعالى بعلمه الكامل عن علم غيره من الامة لوجوب رجوع جميعهم إليه، فلو انعكس لزم أن يصير الرئيس مرؤوسا والأمير مأمورا والحاكم محكوما، ذلك يبطل نظام العالم.

(وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده) من المفتريات التي اكتسبها رأيه الفاسد، أو أخذها من جاهل آخر، والجهل على قسمين: أحدهما عدم الاعتقاد بشيء لا اعتقادا صالحا ولا اعتقادا فاسدا، ويقال له: الجهل البسيط والغباوة. والثاني: الاعتقاد بشيء اعتقادا فاسدا، ويقال له:

الجهل المركب والغي والغواية والضلالة، وهذا أشد من الأول; لأنه من الأمراض المهلكة للحياة القلبية والأسقام المبطلة للحقيقة الإنسانية; إذ المتصف به لا علم له مع ادعائه أن ذلك الاعتقاد الفاسد علم مطابق للواقع، وإعجابه به لتسويلات شيطانية وتخيلات نفسانية وتمويهات وهمية فيمنعه ذلك عن الرجوع إلى الحق وهو من شرار الناس رماه إبليس إلى غاية مقاصده بقول الزور وحداه إلى سبيل المهالك وأودية الشرور.

(قد فتنته الدنيا وفتن غيره) الفاتن المضل عن الحق يعني قد أضلته الدنيا عن طريق الهداية بزهراتها، وقادته إلى سبيل الغواية بثمراتها، وزينت في نفسه حب الجاه والرياسة، وروجت فيها صفة الدناءة والخساسة، فجعل ما اكتسبه من الأباطيل وسيلة إلى تحصيل المشتهيات الدنية الزائلة وما اقترفه من الأقاويل ذريعة إلى تكميل المستلذات الخسيسة الباطلة فضل عن سواء السبيل وأضل غيره ممن اقتدى به من أهل الجهالة والبطالة، الذين طبائعهم مائلة إلى الفساد والعناد، وقلوبهم غافلة عن أحوال المبدأ والمعاد، فارتدوا بصرصر إضلاله عن منهج الصواب، واجتهدوا بنداء الغواية في الرجوع إلى الأعقاب، اولئك هم شر البرية، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتفارقون للبغضاء ويتلاعنون عند اللقاء.

(ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة) من عذاب الآخرة، أو من فتنة الدنيا، والظرف - أعني

ص: 40

على ومدخولها - صفة أو حال لمتعلم أو لعالم، وهذا القسم هو الفرقة الناجية التابعة للعترة (عليهم السلام) في الاصول والفروع، ولهم دعاء الملائكة وحملة العرش ودعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «رحم الله عبدا سمع حكما فوعى، ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا» (1)، وفيه دلالة على أنه لا بد للناس من استاذ مرشد عالم ليحصل به نجاتهم في مضائق سبيل الله وظلمات الطبائع البشرية، كما يحصل النجاة لمن سلك طريقا مظلما لم يعرف حدوده بسبب أخذ ذيل آخر عالم بحدوده. وبين أهل السلوك خلاف في أنه هل يضطر السالك إلى الشيخ العارف أم لا؟ وأكثرهم يرى وجوبه ويفهم ذلك من كلامه (عليه السلام)، وبه يتمسك الموجبون له. ويؤيده أيضا أن طريق المريد مع شيخه العارف بالله أقرب إلى الهداية وبدونه أقرب إلى الضلالة، فلذلك قال (عليه السلام): «فنجا» يعني أن النجاة معلقة به (2)، ودلائل الفريقين مذكورة في مصباح العارفين، ثم أعاد (عليه السلام) الذم على القسم الثاني وتبين بعده عن الحق بقوله:

(ثم هلك من ادعى) العلم والهداية ولا يكون عالما على هدى من الله ولا متعلما منه فضل لإضاعة الشرع وأضل لإعلان الباطل.

(وخاب من افترى) أي خاب عن الرحمة الإلهية والشفاعة النبوية من افترى الكذب على الله وعلى رسوله بادعائه العلم من الله مع عدم اتصافه به وإفتائه في الدين برأيه أو بقول جاهل آخر وإضلاله للناس ووجه الهلاك والخيبة أن الكون على الهداية في الدنيا والسلامة في الآخرة والفوز بالرحمة والشفاعة متوقف على العلم بالله وبرسوله والإقرار بجميع ما أنزل إليه وعدم الافتراء في الدين، وهم قد أعرضوا عن جميع ذلك وجعلوه وراء ظهورهم وأحدثوا دينا غير دين الحق فاستحقوا بذلك الهلاك والخيبة وأبطلوا استعدادهم للحياة الأبدية وفوزهم بالسعادة الاخروية.

ص: 41


1- 1 - النهج - أبواب الخطب، تحت رقم 75.
2- 2 - لا ريب أن الشارح كان مائلا إلى التصوف، وكما أن في الفقه طريقا يرضاه الشارع وهو طريق الأئمة (عليهم السلام) وطريقا لا يرضاه كطريق الرأي والقياس كذلك التصوف بعضه مشروع، وهو التعبد بالعبادات والرياضات الشرعية ولا يتوهم أن الشارح (رحمه الله) من الصوفية المبتدعة الجاهلة الذين لا يعرفون السلوك، ومعنى الشيخ والإرشاد والمريد وفائدة الإرادة، بل مراده السلوك الشرعي وتهذيب النفس وتكميل المعرفة والرياضة على وفق ما تجوزه الشريعة. والحق أنه يحتاج المريد إلى المرشد العارف; إذ المبتدئ إذا تصدى لتهذيب نفسه من الرذائل مثلا لا يعلم كيف يأخذ في السلوك؟ وما الذي ينبغي أن يبتدأ به؟ وكيف يحترز عما عنه؟ وربما يكون له رذيلة العجب ولا يلتفت إليه حتى يجتنب عنه، ويحتاج إلى معلم ينبهه عليه، ويرشده إلى سبيل التخلص عنه، فكما أن في سائر الصنائع والمهن يحتاج إلى استاذ يهيمن على التلميذ حتى يمهر فيها ويحصل له الملكة كذلك ملكة تهذيب النفس بالرياضة بل هذا أشد احتياجا. (ش)

وهذا الكلام يحتمل أن يكون إخبارا عن حالهم وسوء عاقبتهم، وأن يكون دعاء عليهم بالهلاك والخيبة والخسران، ودليل حصر الناس في الثلاثة أن الناس إما ضال عن دين الحق خارج عنه أو لا، والثاني إما عالم على هدى من الله تعالى مؤيد من عنده محفوظ عن الخطأ أو لا، فالأول هو القسم الثاني ورؤساؤهم الثلاثة المنتحلون للخلافة، والثاني هو القسم الأول، وهم الأئمة المعصومون ورئيسهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والثالث هو القسم الثالث وهم شيعتهم رضوان الله عليهم، والشيعة كلهم متعلمون على تفاوت درجاتهم في التعلم; لأنهم لما كانوا ثابتين في دين الحق سالكين فيما سلكه ذلك العالم لا محالة يكونون متعلمين مهتدين بهداه محبين له، وبما ذكرنا يندفع ما يقال من أن هاهنا قسما رابعا وهو الجاهل الغافل الذي ليس بضال ولا متعلم; لأن هذا القسم لما لم يكن ضالا كان تابعا لذلك العالم متعلما منه في الدين ولو بواسطة ومحبا له، والرجل مع من أحبه، كما يشعر به الحديث الآتي، ولو فرض أنه ليس بمتعلم فنقول: لعله خارج عن المقسم لجواز أن يراد بالناس المقسم الناس المنتسبون إلى العلم.

ويؤيده تقييد الجاهل في القسم الثاني بكونه مدعيا للعلم فإنه يفيد خروج الجاهل بالجهل البسيط الذي لا ينتسب إلى العلم، وتقييد الأول والثالث بالعلم فعلم من ذلك اعتبار العلم في المقسم، وأما الجواب بأن هذا القسم خارج عن المقسم باعتبار أن المراد بالناس من له قوة تحصيل العلم وقدرة الارتقاء إلى درجة الكمال لا أعم منه، وممن هو من أهل الضرر والزمانة فليس بشيء; لأن كون هذا القسم مطلقا من أهل الضرر والزمانة الموجب لسقوط التكليف بالتعلم ممنوع، كيف وأكثر الجهال لهم قوة وقدرة على تحصيل العلم والكمال؟

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء».

* الشرح:

(الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ) بالذال المعجمة ثقة.

(عن أبي خديجة سالم بن مكرم) قد اختلفت الأقوال فيه، قال سيد الحكماء: والأرجح عندي فيه الصلاح، كما رواه الكشي والثقة كما حكم به الشيخ في موضع وإن لم يكن الثقة مرتين كما نص عليه النجاشي

ص: 42

وقطع به.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الناس ثلاثة: عالم) مالك للحقيقة الإنسانية بالفعل، وهي الوصول إلى ما خلق لأجله من المعارف الإلهية والطاعات البدنية والطهارة القلبية الموجبة لكمال قربه ورفع درجته عنده تعالى والخلوص عن كل ما يوجب البعد عنه.

(ومتعلم) فاقد لتلك الحقيقة بالفعل مستعد طالب لها، ثابت في طريق تحصيلها، سائر في ظلمات الطبيعة بنور ذلك العالم وهدايته وإعلامه، منحرف عن الطرق المضلة بتعليمه وإفهامه.

(وغثاء) إذا لم يكن هذا ولا ذاك، وهو بضم الغين المعجمة والثاء المثلثة والمد ما يجيء فوق السيل من الزبد والوسخ والحشيش البالي والنبات اليابس، والمراد به هنا أراذل الناس وأوباشهم وأدانيهم الذين أبطلوا قوتهم الاستعدادية المقدرة لطلب الكمال بسوء عقائدهم وقبح أعمالهم وأفعالهم وإنما شبههم به لاضطرابهم بسيول الشبهات وتقلبهم بصرصر الشهوات وتحركهم بريح المشتهيات من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، وعدم علمهم بمآل امورهم وموضع استقرارهم وعدم ثباتهم على محل واحد من الاصول والفروع مثل الغثاء، أو لأن إيجادهم بالعرض وإنما المقصود الأصلي إيجاد العالم والمتعلم لانتفاع الناس بهما كما أن إرسال الغثاء بالعرض، وإنما المقصود الأصلي إرسال السيل ليبقى في الأرض وينتفع الناس به، أو لأن حركتهم في امور الدين والدنيا ليست ذاتية بل بواسطة تحريك إبليس وجنوده كما أن حركة الغثاء ليست ذاتية بل بواسطة تحريك السيل له ولانتفاء القوة الاستعدادية التي بها يمكن الوصول إلى نهاية الكمال عنهم كانتفاء القوة الطبيعية الاستعدادية التي من شأنها أن تحرك الحشيش والنبات إلى غاية كمالهما عن الغثاء وفي الأخير بعد لا يخفى.

والمراد بالقسم الأول الأئمة (عليهم السلام)، وبالثاني شيعتهم ومواليهم، وبالثالث أصحاب الملل الفاسدة، ويدل عليه ما سيجيء في حديث جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ووجه الحصر أن الإنسان في أصل الفطرة إما أن يكون جميع كمالاته بالفعل ويكون ذاته نورا صرفا وعقله مستفادا من المبدأ الأول على وجه الكمال أو تكون كمالاته بالقوة ويكون له قوة استعداد الحركة إلى الكمال، والأول هو الأولى، والثاني إما أن يكون مشغولا باستخراج الكمال من القوة إلى الفعل سالكا لطريق تحصيله، متمسكا بذيل ذلك العالم، أو يكون مشغولا بما ينافي ذلك الكمال ويبطل ذلك الاستعداد، فالأول هو الثاني والثاني هو الثالث.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم،

ص: 43

عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «اغد عالما أو متعلما أو أحب أهل العلم ولا تكن رابعا فتهلك ببغضهم».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد) الظاهر أنه عبد الله بن محمد بن الحصين الأهوازي، الثقة الراوي عن الرضا (عليه السلام)، ويحتمل عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي الثقة، وعبد الله بن محمد الأسدي الكوفي الثقة.

(عن علي بن الحكم) الظاهر أنه الأنباري.

(عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):

اغد) مثل ادع أمر من غدا يغدو غدوا، وهو الذهاب غدوة. والمراد هنا مطلق الصيرورة أي صر:

(عالما أو متعلما أو أحب أهل العلم) عطف على اغدو الأمر للإيجاب والقضية منفصلة مانعة الخلو; لوجوب الاتصاف بأحد هذه الامور.

(ولا تكن رابعا) هذا القسم لا محالة يبغض أهل العلم ويعانده، فلذلك فرع عليه قوله:

(فتهلك ببغضهم) أي فتهلك بسبب بغضهم وعداوتهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلانغماسك في بحر الفضيحة المؤلمة بتحمل أثقال الرذائل والقبائح الشيطانية واحتباسك في سجن الطبيعة المظلمة بالقيودات الثقيلة الوثيقة النفسانية، وأما في الآخرة فلبعدك عن الرحمة الأزلية ونزولك في نار الجحيم وقربك من الشقاوة الأبدية وورودك في العذاب الأليم، وذلك لأن العلم وما يتبعه من حب أهله صراط الجنة والنعيم، والجهل وما يتبعه من بغض أهل العلم صراط النار والجحيم، ومن سلك صراطا وصل إلى غايته يوما ما.

لا يقال: في هذا الخبر تربيع القسمة وفيما مر وما يأتي تثليثها.

لأنا نقول: القسم الثالث في هذا الخبر داخل في المتعلم فيما مر وما يأتي; لأن «المرء مع من أحب» كما روى عن الباقر (عليه السلام) (1).

فالمحب لأهل العلم منتسب إليهم كالمتعلم، وهما رفقاؤهم في الدنيا والآخرة وحسن اولئك رفيقا، هذا وقد جوز بعض المتأخرين أن يقرأ «ببعضهم» بالعين المهملة وقدر مضافا أي بعداوة بعضهم يعني بعض هذه الثلاثة، فانظر أيها اللبيب إلى قلة تدبره وخفة سير عقله حثيثا وقل: فما لهؤلاء القوم لا يكادون

ص: 44


1- 1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب الحب في الله والبغض في الله)، تحت رقم 11.

يفقهون حديثا (1)؟

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم، وغثاء. فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم) من ذلك العالم.

(وغثاء; فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء) واعلم أن الله سبحانه أنزل العلم من لدنه على قلوب تقية نقية طاهرة صافية مجلوة من الرين والغين وجعلها معادن لسره ومواطن لحكمته ومواضع لنوره ومشارع لرحمته، وأصحابه وهم العلماء الراسخون وأهل الذكر مأمورون بإرشاد العقول الناقصة المتحيرة في تيه الظلمات البدنية وإيقاظها في مراقد الطبائع البشرية وتذكيرها للفيوضات الأبدية وأخذ باعها في مزال الأقدام الفكرية وهم بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) الأئمة المعصومون من الأرجاس والزلل والمحفوظون من الخطأ والخلل والمؤيدون بصدق القول وسلامة العمل، والواقفون على الصراط المستقيم لرد الخلائق عن سبيل الجحيم، وسائر الناس مأمورون بالرجوع إليهم والانقياد لهم والاسترشاد بهم والاعتماد عليهم في مصالح الدنيا والآخرة لينجوا بذلك عن الضلالة والحيرة والندامة ويدخلوا جميعا في مواضع الأمن ودار السلامة.

ص: 45


1- 2 - لا ريب في بعد هذا الوجه وهذه القراءة، لكن لا يستحق هذا التعنيف الشديد، وأما علة عدول القائل فلعله كان من الإخباريين المبغضين للعلماء والقادحين فيهم، فلم يرض بأن يجعل نفسه من الهالكين، فقال: إن الهلاك يحصل ببغض بعضهم ولا يحصل ببغض بعضهم الآخر، فلا يهلك إذا أبغض المجتهدين إنما يهلك إذا أبغض الإخباريين. وقد رأينا فيهم من أبغض الشيخ الطوسي والعلامة الحلي وكل من قسم الأحاديث إلى الصحيح والسقيم، وكل من نظر في الروايات بنظر الدقة، وكل من حكم بضعف أحد الرجال وبعض الرواة، ومنهم من نسب علماء الرجال إلى ضعف الإيمان وعدم المعرفة بالأئمة (عليهم السلام). نعوذ بالله من الغرور. أو لعل القائل كان من الزهاد المعرضين عن الدنيا وأراد بكلامه أن بعض العلماء لا يهلك مبغضهم وهم أهل الرئاسة والمقبلون على حطام الدنيا والقائمون على أبواب الملوك المعاونون لهم، المقصرون في العلم على ما يزيد في جاههم، المعرضون عما يهذب النفس ويعرفهم طريق الآخرة. (ش)

ألا ترى أن سفر الدنيا وقطع مفاوزها لا يمكن بدون دليل فكيف سفر الآخرة مع كثرة العدو ودقة الطريق وضعف الاستعداد والبصرة؟! وكل شيء من الآخرة له شاهد من الدنيا «رحم الله عبدا سمع فوعى»، ثم منهم من انقادوا لهم بحبل التسليم واختاروهم للإرشاد والتعليم واجتهدوا في السير عقب ندائهم وخلصوا من سبل الضلالة بنورهم وضيائهم وهم الشيعة المتعلمون في مدارس تعليمهم والنازلون في منازل تقويمهم وتفهيمهم رضى الله عنهم بما اختاروا لهم دينا، رحم الله عبدا قال: آمينا، ومنهم من أخذت منايا قلوبهم ذيول الشقاوة وأعمت بصائر ضمائرهم ميول الغواية والغباوة واستمكنت الدنيا وزهراتها في قلوبهم واستخبأ الشيطان وجنوده في زوايا صدورهم فسلكوا مسلك الاستنكاف والاستنكار واجتهدوا في سبيل الغي والاستكبار وقدموا على العالم الرباني عجلا جسدا له خوار وصنما هو حطب جهنم في دار البوار اولئك مثل الغثاء يضطربون بسيول نفخات الشياطين حالا فحالا ويسقطون بكل ريح عن صراط الحق يمينا وشمالا، اللهم نور قلوبنا بمعرفة وصي نبيك، وثبت أقدامنا في سبيل طاعة وليك، وأنت أرحم الراحمين وخير الناصرين.

ص: 46

باب ثواب العالم والمتعلم

* الأصل:

1 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر» (1).

* الشرح:

(محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سلك طريقا) أي من دخل في طريق.

(يطلب فيه علما) والجملة في محل النصب على أنها حال عن فاعل سلك أو صفة لطريقا، والمراد بهذا العلم المعارف الربانية والنواميس الإلهية النبوية، وحمله على العموم بناء على أن العلم من حيث إنه علم له شرف وكمال بعيد جدا (2). ومن طريق هذا العلم النظر في مبادئ المطلوب ومقدماته وصرف الفكر فيها،

ص: 47


1- 1 - هذا الحديث مروي من طرق العامة، رواه أبو داود في سننه ج 2، ص 285، وابن ماجة أيضا تحت رقم 223، والبغوي في المصابيح ج 1، ص 22، والترمذي ج 10، ص 154، والدارمي في سننه ج 1، ص 98، كلهم من حديث أبي الدرداء.
2- 2 - العلم الممدوح في لسان الشارع هو علم الدين وما يتوقف علم الدين عليه، أما سائر العلوم مع كونها شرفا وكمالا في ذاتها لا يستحق صاحبها مدحا إلا إذا قرنت بشيئين هما من الدين: الأول: الإخلاص والصدق وحب العلم للعلم لا للدنيا. والثاني: التحرز من العناد والجهل المركب; إذ نعلم رجالا من اليونانيين أطباء ورياضيين وغيرهم مخلصين في علمهم مجدين صادقين في تجربياتهم متحرين للحقيقة في أعمالهم تطمئن النفس بإخبارهم عما رأوا وجربوا في الأمراض والأدوية والارصاد وغيرها، ولو كان أحدهم كاذبا في إخباره معاندا في آرائه غير خاضع لدليل المخالف لم يمدحه أحد، والمدح للعلم إنما هو إذا قارن الفضائل الخلقية. (ش)

ومنها الرجوع في أخذه إلى العالم الرباني ولو بواسطة.

(سلك الله به طريقا إلى الجنة) الباء للتعدية، أي أدخله الله في طريق يوصل سلوكه إلى الجنة، والمراد أن السلوك والعبور في طريق العلم سلوك وعبور في طريق الجنة ادعاء لكمال الأول في السببية حتى كأنه صار نفس المسبب، أو المراد أن من سلك في الدنيا طريق العلم سلك في الآخرة طريق الجنة، بيان الشرطية أن سلوك طريق الجنة لا يمكن بدون العلم وبكيفية سلوكه; إذ سلوكه يتوقف على امور وأسباب وأعمال لا يمكن تحصيلها بدون العلم بها، وأيضا كما أن طرق الدنيا متعددة بعضها طريق الهداية، وبعضها طريق الضلالة كذلك طرق الآخرة متعددة بعضها طريق الجنة وبعضها طريق النار، والمتعلم لما كان مشيه في الدنيا في طريق الهداية كان مشيه في الآخرة طريق الجنة، وغير المتعلم لما كان مشيه في الدنيا في طريق الضلالة كان مشيه في الآخرة في طريق النار، كما قال سبحانه: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى)، وأيضا كما أن لله تعالى جنة ونارا في الآخرة كذلك له جنة ونار في الدنيا كل واحدة منهما في سمت جنسها وليس بينهما إلا حجاب يمنع من المشاهدة لهذه العيون الكليلة يرحم ويعذب بهما من عباده من يشاء في الدنيا والآخرة، وجنته الدنيوية هي العلم إذ الجنة ما تلتذ به النفس ولا ينكره العقل والنقل ولا لذة فوق لذة العلوم الربانية والمعارف الإلهية، والنار الدنيوية هي الجهل لأن النار ما يتألم به النفس ويستكرهه العقل ولا ألم فوق ألم الجهل، فمن سلك طريق الجنة الدنيوية يقال له بعد انقضاء أجله:

اسلك طريق الجنة الاخروية; لأنك تعودت باللذات ومن سلك طريق النار الدنيوية يقال له بعد انقضاء مدته: اسلك طريق النار الاخروية; لأنك تعودت بالآلام، بل لا يرى الأول نفسه بعد انقضاء الأجل وزوال الحجاب إلا عند باب الجنة الاخروية، والثاني لا يرى نفسه إلا عند باب النار الاخروية، ثم الفوز بهذا المطلب العظيم والتنعم المقيم مشروط بخلوص النية في تحصيل العلوم عن الأغراض الدنياوية وهو أمر مشكل سيما للمبتدئ والله المستعان.

(وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به) أي لأجل رضائها به. قال ابن الأثير: تضعها لتكون وطاء له إذا مشى، وقيل: هو بمعنى التواضع له تعظيما لحقه، وقيل: أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم وترك الطيران، وقيل: أراد به إظلالهم بها، انتهى.

ص: 48

وقال بعض أصحابنا: أراد بالملائكة النفس الناطقة; لأن لفظ الملائكة يطلق على الجواهر القدسية الغائبة عن الأبصار (1) وبأجنحتها قواها العملية على سبيل التشبيه بأجنحة الطيور التي بها يقع الطيران إلى فوق وبوضعها بسطها انقيادا لطالب العلم ليركبها وينتقل بها إلى عالم التوحيد وعالم المعارف.

(وإنه يستغفر) أي يطلب من الله ستر الزلات وعفو الخطيئات.

(لطالب العلم) وضع الظاهر موضع الضمير محبة لذكرهم وتصريحا بشرفهم، وبما هو باعث للاستغفار.

(من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر) لفظ «من» هنا ليس مختصا بذوي العقول على ما يقتضيه الوضع، بل يعم كل ذي حياة من باب التغليب بقرينة ذكر الحوت، وإنما ذكر الحوت بعد حتى (2) لبعد المناسبة المقتضية للاستغفار بينه وبين العالم في الطبيعة والتحيز والرية والتنفس، والمناسبة بينهما بمجرد الروح الحيواني، بخلاف المناسبة بين العالم ومن في السماء فإنها باعتبار القوة الروحانية والتجرد (3)، وبينه وبين من في الأرض فإنها بهذا الاعتبار وباعتبار الاشتراك في الروح الحيواني والطبيعة والتحيز أيضا، وإنما يستغفرون لطالب العلم; لأنه سالك لطريق الحق طالب للقرب منه والقيام بين يديه والذنوب من أعظم الأغلال والقيود المانعة من الحركة إليه فينصره الله بجنوده ويبعثهم لمدده بالاستغفار الموجب لفك هذه القيود والأغلال، أو لأنه من أحب المحبوبين له تعالى فيلقي محبته في قلوب خلقه فيطلبون غفران ذنوبه; لأنه أهم للطالب إذ من غفر الله له وجب له الجنة ومقام القرب، أو لأن هذا العالم على اختلاف أجزائه وتفاوت ميلها إلى حضرة القدس بمنزلة شخص واحد أجزاؤه مرتبط بعضها ببعض فإذا تحرك طالب العلم الذي هو أشرف أجزائه إلى حضرة الباري يستشعر به الباقي بحكم الارتباط (4) فيطلبون له محو ذنوبه الموجب

ص: 49


1- 1 - ظاهر هذا الكلام لا يطابق ما يتبادر إلى الذهن من الملائكة، فإن النفس الناطقة ليست ملكا في إطلاق اللفظ وإن كان مثله في التجرد والغيبوبة عن الأبصار، إلا أن يراد كون النفس متصلا بالملائكة نحوا من الاتصال واتحاده بهم نوعا من الاتحاد كشعاع الشمس للشمس، ومعنى كون طالب العلم على أجنحة الملائكة استعانته بهم في الطيران إلى عالم الملكوت بالتوفيق والتأييد وإلهام الغوامض والنفس تطير بجناج الملك في عوالم العقول والمجردات. (ش)
2- 2 - كلمة «حتى» تدل على أن الحوت أبعد من الاستغفار; لأن كل حيوان له صوت يمكن أن يتصور له الاستغفار في صوته، والحوت لا صوت له. (ش)
3- 3 - أراد الشارح بالسماء هنا العالم الروحاني والمجردات ومن في السماء الذين يسكنون ذاك العالم وهم العقول والملائكة المقربون. (ش)
4- 4 - نظير بدن الإنسان المركب من أعضاء مختلفة لكل واحد منها قوة خاصة به كالمعدة لجذب الغذاء والكلية لدفع السموم، ومع ذلك إذا عرض لواحد من الأعضاء آفة أو مرض توجه سائر الأعضاء إليه وعمل ما يوافق مصلحته، وإذا عاد إلى الصحة حسن حال كل واحد واستراحوا إلى فعلهم، وكذا العالم كله لارتباط بعضه ببعض، ونسبة أفعال العقلاء إلى الجماد والحيوانات العجم غير عزيز تكرر مثله في القرآن العزيز والأحاديث وكتب الحكماء وغيرها، مثلا قال أبو علي سينا: الطبيعة تتوخى النوع وتريد بقاءه بتلاحق الأفراد وغيره كثيرا، وقال: العلة الغائية أعرف عند الطبيعة من المعلول. (ش)

لسهولة الحركة إليه، أو لأن طالب العلم يعرف قدرة الصانع بإبداعه للمخلوقات من الملائكة إلى آخر الموجودات، وهذه المعرفة في الحقيقة شكر للواجب وشكر لنعمة وجود هذه الموجودات فتقابل الموجودات شكره لوجودهم بالاستغفار له، أو لأن بقاء العالم وطالب العلم وصلاح حالهما وطهارة ظاهرهما وباطنهما من الذنوب سبب لبقاء الكائنات كلها وصلاح أحوالها وتمام نظامها كما دل عليه بعض الروايات فكل ذي حياة سواء كان عاقلا كاملا أو جاهلا ناقصا أو غير عاقل يطلب لهما مغفرة الذنوب وصلاح الأحوال.

أما الأول فلعلمه بأن طلب ذلك راجع إلى طلب بقاء نفسه وصلاح حاله في الحقيقة، وأما كل واحد من الأخيرين فلأنه يحب وجوده وبقاءه وصلاح حاله قطعا; لأنه ذو حياة وكل ذي حياة يحب ذلك فهو يستغفر لطالب العلم من جهة أنه من أسباب وجوده وبقائه من حيث لا يعلم.

(وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر) تشبيه المعقول بالمحسوس في المقدار وبيان الحال أو بيان الإمكان زيادة للايضاح أو دفعا لتوهم عدم زيادة العلم على العبادة، بناء على أن كليهما نور يمشي به على صراط الحق، بيان الدفع: أن كونهما نورا لا ينافي زيادة أحدهما على الآخر كما في القمر وسائر النجوم.

والمراد أن العالم من حيث إنه عالم أفضل من العابد من حيث إنه عابد على النسبة المذكورة، ومرجعه أن العلم من حيث هو أفضل من العبادة من حيث هي، فلا يرد أنه إن اريد به أن العالم العابد أفضل من العابد الغير العالم بتلك النسبة، فذلك لا يدل على أن العلم أفضل من العبادة، وإن اريد به أن العالم الغير العابد أفضل من العابد فذلك باطل; لأن العالم من غير عمل أسوأ من الفاسق فكيف يكون أفضل من العابد؟ وفي اعتبار البدر الكامل في النور من طرق المشبه به إشعار بأن المراد بالعالم من جانب المشبه العالم الكامل في نور العلم وهو البالغ إلى حد العقل بالفعل القادر على استحضار الصور العملية والمعارف اليقينية متى شاء من غير تكلف ولا تجشم (1)، ولا يبعد فهم التفاضل فيما دون ذلك بالقياس إلى النسبة المذكورة، وفي اعتبار

ص: 50


1- 1 - يعني ليس العلم أن يحفظ الإنسان أقوال العلماء والأحاديث المروية حفظا من غير أن يكون له ملكة استخراج حكم ما لم يسمع كما كان دأب كثير من المحدثين في زمانه، والدليل على ما ذكره الشارح أن كل صنعة وحرفة إنما يطلق على صاحب هذه الملكة، فلا بد أن يكون العالم كذلك، مثلا لا يطلق الحذاء على من اشترى وجمع الأحذية التي صنعها غيره، ولا الصائغ على من جمع الحلي والحلل، والنجار على من جمع الدروب والكراسي من صنع غيره، بل على من له ملكة صنعة شيء جديد يقترح عليه، وأيضا لكل زمان بل لكل رجل في كل آن سؤال أو شبهة ليس لغيره ووظيفة العلماء الدفاع عن الدين وتعليم الجاهلين، فلو اقتصر العلماء على ما سمعوا من غير أن يكون لهم قدرة على إجابة ما يرد عليهم جديدا لم يمكن لهم أداء وظيفتهم فيها وأقبلوا على تعلم المراء والجدال لتحسن شهرتهم ويعرفهم الناس بالدقة لغلبته في المجالس على خصومهم ويتسمون بالعلم والتدقيق مع أنه ليس لهم الملكة المطلوبة البتة. (ش)

فضل نور القمر على جميع النجوم كما يفيد إضافة الجميع إلى الجمع المحلى باللام دلالة ما على أن المراد في جانب المشبه فضل العالم على جميع العابدين.

ويؤيده أن العابد المحلى باللام يفيد العموم كما ذهب إليه جمع من المحققين، ومع ملاحظة المقايسة يفهم أن المراد بالعابد المجموع على أنا لو أردنا منه كل واحد يحصل المقصود هو زيادة فضل العالم على مجموع العابدين بالنسبة المذكورة بالأولوية; لأنه إذا فضل العالم على كل واحد من أفراد العابد بتلك النسبة فقد فضل على المجموع بالطريق الأولى، وقد دل عليه قوله (صلى الله عليه وآله): «ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم اولو الألباب» (1).

ثم كون العبادة نورا وفيها فضل إنما هو باعتبار أنها مستندة إلى شائبة علم ولو بالتقليد عن العالم بواسطة أو بغيرها، وإلا فهي بدون ذلك ظلمة وتعب بلا نفع; إذ لا عبرة بعبادة صدرت بمجرد الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة، وفي هذا التشبيه فوائد اخر غير الفوائد المذكورة، وهي التنبيه على أن العلم نور يهتدى به إلى المقصود في ظلمات الطبيعة، كما أن بنور القمر يهتدي المسافر إلى الطريق المقصود، وعلى أن ذلك النور يتفاوت بحسب تفاوت القرب والبعد من نور الحق، كما أن نور القمر يتفاوت بحسب تفاوت قربه وبعده من الشمس (2)، وبذلك التفاوت يتفاوت نورهم في القيمة، فمنهم من نوره بحيث لا يعرف قدره إلا الله سبحانه، ومنهم من نوره إلى مد بصره، ومنهم من نوره دون ذلك، وبحسب هذا التفاوت يتفاوت مرورهم على الصراط سرعة وبطئا، فمنهم من يمره كالبرق الخاطف، ومنهم من يمره كالطيران، ومنهم من يمره كعدو الفرس الجواد، إلى غير ذلك من مراتب الشدة والضعف، وعلى أن العالم بعد بلوغه حد الكمال لا بد أن يعود

ص: 51


1- 1 - تقدم في كتاب العقل والجهل.
2- 2 - التشبه في أصل التفاوت لا في كيفية القمر، كلما قرب من الشمس ضعف نوره، وكلما بعد عنها قوى، ففي حال الاجتماع مع الشمس ينمحي نوره والبدر عندما يكون بينهما نصف دور الفلك، وأما العقل فكلما قرب إلى الله تعالى ازداد نوره وقوي. (ش)

إلى نور الحق بالتدريج وحسن السير حتى يرى نوره مضمحلا في نوره بل يضل نفسه بين يديه ويمحو بالقرب منه، كما أن القمر بعد كماله يعود إلى الشمس حتى يضمحل نوره في نورها.

(وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) قد مر شرحه مفصلا.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم، وله الفضل عليه، فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه إخوانكم كما علمكموه العلماء».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الذي يعلم العلم منكم) بيان للموصول، أو حال عن فاعل يعلم يعني حال كون ذلك المعلم من أهل مذهبكم في التشيع، وفيه تنبيه على أن المعلم من غير الشيعة لا أجر له; إذ هو ضال مضل عليه وزره ووزر من تبعه وعمل بقوله من غير أن ينقص شيء من أوزار التابعين له.

(له أجر مثل أجر المتعلم) الغرض من هذا التشبيه هو الحكم بتساوي الأجرين نظرا إلى نفس التعليم والتعلم المتلازمين لا بيان فرعية أحدهما وأصالة الآخر، وإنما جعل أجر المتعلم مقيسا عليه; لأن التعليم متوقف على وجود المتعلم مع ما فيه من الترغيب البليغ في التعلم، ويحتمل أن يكون الغرض منه بيان الفرعية والأصالة; لأن التعليم والتعلم من جملة الأعمال، وقد ورد أن أفضل الأعمال أشقها، والتعلم أشق من التعليم، فلذلك جعل أجر المتعلم أصلا شبه به أجر المعلم، ثم لما كان المعلم له فضيلة العلم والكمال بالفعل، وله حق التعليم والإرشاد والإفاضة على المتعلم بين ذلك بقوله:

(وله الفضل عليه) أي والحال أن للمعلم الفضل على المتعلم من الجهات المذكورة; لأن الكامل بالفعل والمفيض أفضل من الكامل بالقوة القريبة والمستفيض، ثم لما كان مدعي العلم كثيرا وكله ليس من أهل العلم ولا يصلح للأخذ منه أرشد إلى من ينبغي الأخذ منه بقوله:

(فتعلموا العلم من حملة العلم) أي من حملة علم الله تعالى وخزنة أسراره ومعارفه، وهم العترة (عليهم السلام)،

ص: 52

ومن أخذ العلم منهم، وإنما قال ذلك لأنه لا يجوز التعلم من غيرهم; إذ ترك التعلم خير من التعلم من غيرهم; لأن غاية ترك التعلم هو الوقوع في الجهل البسيط، وغاية التعلم من غيرهم هو الوقوع في الجهل المركب، والجهل البسيط خير من الجهل المركب; لأن الجهل المركب مرض يعجز أطباء النفوس عن معالجته (1)، ولمثل هذا يقال: عدم عمل المريض بمعالجة المتطبب الغير العارف أصلح له; إذ قد يداويه بما يوجب اشتداد مرضه وفساد قوته وفيه هلاكه.

(وعلموه إخوانكم) في الدين، فيه دلالة على أن التعليم واجب لظاهر الأمر، ويؤيده أن التعلم واجب، كما مر مرارا، والتعليم مثله لما سيجيء من أن الله تعالى لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال; لأن العلم كان قبل الجهل.

ويؤيده أيضا الروايات الدالة على الوعيد والتعذيب بكتمان العلم.

(كما علمكموه العلماء) يحتمل وجوها:

الأول: وجوب تعليمه كما سمعه من العلماء من غير تغيير وتحريف لئلا يزول العلم ولا يصير جهلا بالتغير والتحريف.

الثاني: وجوب رعاية الترتيب في التعليم، فيقدم تعليم الاعتقاديات الضرورية على تعليم العمليات; إذ لا ينفع العمل بالشرعيات إذا لم يكن العلم بالاعتقادات، كما يشير إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع».

الثالث: وجوب رعاية آداب التعليم، وهي الرفق وعدم التضجر والغضب على المتعلم ورعاية حاله في الضبط والحفظ فلا يعلمه ما لا يقدر على ضبطه وحفظه; لأن ذلك يكل الطبيعة ويجمد القريحة ورعاية حاله في العمل، فإن عمل بما تعلمه علمه غيره وإلا فلا كما فعله علي بن الحسين (عليهما السلام) فيمن سأله وسيجئ ذكره في باب استعمال العلم.

الرابع: الزجر عن البخل بتعليمه للاخوان وبذله لهم كما لم يبخل العلماء بتعليمه وبذله لكم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير

ص: 53


1- 1 - وأرى أن حب الدنيا أيضا داء عياء لا يقصر عن الجهل المركب، ولا بد للعالم أن يكون خاليا من المرضين حتى يسعد هو نفسه ويسعد به غيره. (ش)

قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من علم خيرا فله مثل أجر من عمل به».

قلت: فإن علمه غيره يجري ذلك له؟ قال: «إن علمه الناس كلهم جرى له».

قلت: فإن مات؟ قال: «وإن مات».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من علم خيرا فله مثل أجر من عمل به) علم بتشديد اللام على الأظهر، يعني معلم الخير من حيث إنه معلم، سواء كان هو البادي له ومنشأ لظهوره أو لا، مثل أجر العامل به من متعلمه أو مثل أجر كل من عمله، وهذا مع ملاحظة ما في الحديث السابق من أن الذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلم يفيد أن أجر المتعلم مثل أجر العامل.

(قلت: فإن علمه غيره يجري ذلك له؟) علمه بتشديد اللام المقدمة على الميم قطعا، وغيره فاعله، أو فاعله ضمير مستكن عائد إلى الموصول العامل بذلك الخير و «غيره» مفعوله، ولما كان ذلك القول مجملا في إفادة تضاعيف أجر ذلك المعلم باعتبار تعليم متعلمه لآخر إذ قد حصل للمتعلم بتعليمه أجر آخر مثل أجر ذلك المعلم باعتبار تعليم متعلمه لآخر; إذ قد حصل للمتعلم بتعليمه أجر آخر مثل أجر العامل به لما مر استعلم السائل بأنه هل لذلك المعلم أجر مثل أجر العامل بهذا الاعتبار أم لا؟ (قال: إن علمه الناس كلهم جرى له) أي جرى مثل أجر العامل لذلك المعلم بسبب كل تعليم وقع بعد تعليمه مثله إن علمت زيدا خيرا كان لك مثل أجر العامل به، فإن علمه زيد غيره كان لك مثله مرة اخرى، ثم إن علمه ذلك الغير غيره كان لك أيضا مثله، وعلى هذا القياس بالغا ما بلغ حتى لو وقع تعليم الناس كلهم كان لك مثل أجر جميع العاملين باعتبار أنك صرت منشأ لظهور ذلك الخير وانتشاره، ومن أظهر سنة حسنة وأفشاها فله أجر كل من تبعه من غير أن ينقص من اجورهم شيء، وكذلك الحكم فيمن علم شرا أو أبدع بدعة فإن له وزر كل من تبعه من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء، ولما كان هذا الجواب مجملا في إفادة جريان مثل هذه الاجور له في حال حياته وموته جميعا سأل ثانيا بقوله:

(قلت: فإن مات؟ قال: وإن مات) يعني فإن مات ذلك المعلم فهل له مثل ذلك مرارا بالتعليمات المتعاقبة بعد موته؟ قال: نعم له مثل ذلك وإن مات، ووجه ذلك ظاهر لأن حياته ليست شرطا للاستحقاق ولا سببا له، وإنما السبب له انتشار الخير منه، وقد تحقق بعد موته، وإنما قلنا: على الأظهر لاحتمال أن يكون «علم» بتخفيف اللام كما جوزه بعض المتأخرين، وحينئذ فاعل علمه في قول السائل: «فإن علمه غيره» ضمير 56

يعود إلى الموصول الأول الذي هو العالم وغيره مفعوله، وفي هذا الاحتمال مناقشة من وجوه:

الأول: أن هذا يفيد أن أجر العالم مثل أجر العامل، وهذا ينافي ما مر من أن أجره أفضل من أجر سبعين ألف عابد.

الثاني: أنه ليس للفاء في قول السائل: «فإن علمه غيره» وجه ظاهر.

الثالث: أنه لا محل للسؤال الأخير، أعني قوله: «فإن مات»، فليتأمل.

* الأصل:

4 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص اولئك من اجورهم شيئا، ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا».

* الشرح:

(وبهذا الاسناد، عن محمد بن عبد الحميد) نقل عن الفاضل المحقق الشوشتري أنه لا يظهر لهذا الاسناد مرجع، وقيل: كأنه أراد به علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عبد الحميد، قال العلامة محمد بن عبد الحميد بن سالم العطار أبو جعفر: روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين، وقال زين المحققين: هذه عبارة النجاشي، وظاهرها أن الموثق الأب لا الابن، وقال بعض الأفاضل: كون الظاهر ذلك غير مسلم، بل الظاهر أن النعوت المذكورة في مثل هذا الموضع راجعة إلى الاسم.

(عن العلاء بن رزين، عن أبي عبيدة الحذاء) زياد بن عيسى الكوفي، ثقة.

(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من علم باب هدى) المراد بالباب هنا الطريق، والإضافة لامية، وقد اختلفوا في تفسير الهدى، ففي الصحاح: الهدى بالضم الرشاد والدلالة. وفي تاج المصادر: الهدى: راه يافتن و راه نمودن، وهذا موافق لما في الصحاح. وفي المغرب: الهدى خلاف الضلالة، يعنى راه يافتن.

وقال المحقق الدواني: الهدى مطاوع الهداية، فإن فسرت الهداية بإراءة الطريق الموصل إلى المطلوب، فالهدى بمعنى رؤيته، وإن فسرت بالايصال إلى المطلوب فالهدى بمعنى الوصول إليه.

وقال بعض الأفاضل: الهدى نور عقلي فائض من الله تعالى على قلب مستقيم به يرى الأشياء على ما هي عليه ويهتدي إلى الحق كما أن

ص: 54

بالنور الحسي يرى المحسوسات ويهتدي إليها، وللهدى على أي معنى حمل من هذه المعاني أبواب متعددة وطرق متكثرة وقوانين مضبوطة، فمن علم بابا واحدا من هذه الأبواب وطريقا واحدا من هذه الطرق:

(فله مثل أجر من عمل به) إلى يوم القيامة من جهة تعليمه ولو بواسطة أو وسائط، فيحصل له بهذا الاعتبار اجور غير متناهية تجب رفع درجته في الآخرة، فللعالم المعلم بعد إشراق نفسه القدسية بأنوار العلوم الحقيقية ثواب الأعمال الغير المتناهية، ذلك الفضل من الله والله ذو الفضل العظيم.

(ولا ينقص اولئك) أي العالمون المعلمون لباب من أبواب الهدى.

(من اجورهم) أي من اجور العاملين به إلى يوم القيامة.

(شيئا) أي نحوا من أنحاء النقصان أو بشيء يعني ليس المراد بقولنا: فله أجر من عمل به أن اجور العاملين كلها أو بعضها يكتب في ديوان حسنات ذلك المعلم، وأنه يستحق باجورهم دونهم كيف وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يضيع عمل عامل؟ بل المراد أن له بسبب إرشادهم وهدايتهم الذي هو عمله مثل أجر العامل ولهم اجورهم كمالا من غير نقصان أصلا.

(ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به) إلى يوم القيامة فيجتمع عليه أوزار متراكمة ظلمات بعضها فوق بعض وتحتجب بذلك نفسه الشريرة عن ساحة عزة الحق وقبول رحمته فوق احتجاب التابعين له، وليس ذلك ظلما; لأنه مستند إلى عمله وهو إضلاله وإغواؤه لخلق الله، وإنما أفرد الأجر وجمع الوزر للتنبيه على قلة التابعين للهدى وكثرة التابعين للضلالة; لأن نفوس أكثر الناس لكونها فاقدة للقوة الفكرية تابعة للقوة الغضبية والشهوية كانت مائلة إلى الضلالة هاربة عن الهداية.

(ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا) قال الله تعالى: (ومن يعمل مثال ذرة شرا يره)، وقال: (ولا تزر وازرة وزر اخرى)، فالعاملون يحملون أوزارهم كاملة ومعلمهم يحمل وزره ومثل أوزارهم لإضلاله إياهم، قيل في قوله تعالى: (وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) دلالة على أنه ينقص اولئك من أوزارهم شيئا; لأن «من» للتبعيض، واجيب: بأنا لا نسلم أن من للتبعيض بل لبيان الجنس، سلمنا لكن المراد بعض أمثال أوزار التابعين لا بعض أعيان أوزارهم.

لا يقال: هذا المضل ظالم للتابعين بسبب إضلالهم، وقد ثبت في الأخبار أن حسنات الظالم تنقل إلى ديوان المظلوم وسيئات المظلوم إلى ديوان الظالم.

لأنا نقول: هذا حيث كان للمظلوم حق في ذمة الظالم، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل; لأن التابع ظلم

ص: 55

نفسه بسب اتباعه للمضل والمضل ظلم نفسه بسبب إضلاله، فكل واحد منهما يحمل وزر عمله.

وفي هذا الحديث فوائد:

الأول: أن للمعلم مثل أجر العامل بما علمه، وإن لم يكن للمعلم عمل فيه; لأنه سبب للعمل به.

الثاني: أن له مثل ذلك الأجر، سواء نوى الاقتداء به أو لا.

الثالث: أنه لا فرق بين أن يكون ذلك الهدى واضعه هو أو غيره، ولكن هو أفشاه بين جماعة جهلوه أو رغبهم فيه بعد ما تركوه.

الرابع: أنه لا فرق بين أن يكون ذلك الهدى علما أو عبادة أو أدبا أو غير ذلك، ومثل هذه الامور تجري في تعليم باب الضلال، فعلى هذا لقابيل قاتل هابيل وزر كل قتل وقع في العالم ظلما مثل وزر كل قاتل، وللثلاثة الذين انتحلوا الخلافة أوزار مثل أوزار من تبعهم إلى يوم القيامة. وهذا الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة ففي كتاب مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من اجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (1)، وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل اجور من تبعه، ولا ينقص ذلك من اجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (2).

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد رفعه، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال: إن أمقت عبيدي إلي الجاهل المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم، وإن أحب عبيدي إلي التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء، التابع للحكماء، القابل عن الحكماء».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد رفعه) هكذا في النسخ التي رأيناها، وقال سيد الحكماء: النسخ هنا مختلفة، ففي بعضها هذا، وفي بعضها: علي بن محمد بن سعد رفعه بإسقاط الحسين بن محمد، والمراد

ص: 56


1- 1 - صحيح مسلم ج 8، ص 61، من حديث جرير بن عبد الله.
2- 2 - المصدر السابق ص 62، من حديث أبي هريرة.

بعلي بن محمد بن سعد في النسخة الاولى هو علي بن محمد بن علي بن سعد الأشعري القمي المعروف بابن متويه، والمراد به في النسخة الثانية هو علي بن محمد بن سعد الأشعري وهو أحد شيوخ أبي جعفر الكليني.

(عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لو يعلم الناس) أي علما يقينا.

(ما في طلب العلم) من الشرف والكمال والمنافع والحياة الأبدية للنفس الناطقة بعد رقودها في مهد الطبيعة البشرية وركودها في مرقد القوى الإنسانية وصدودها عن مشاهدة ما عند الحضرة الربوبية، وفي هذا الإبهام تنبيه على عظمة قدر تلك المنافع وعلو منزلة هذه الحياة بحيث لا يبلغ إليها إلا الوالهون في مقام التوحيد والسالكون في منهاج التجريد الذين حياة قلوبهم بأقوات المعارف والحقائق، وغاية مأمولهم الاستضاءة بأنوار اللطائف والدقائق وابتهاج أذهانهم بكشف الأسرار الربوبية واستنتاج أفكارهم بمشاهدة الأنوار الملكوتية، وهم الذين قد قطعوا منازل الطلب ووصلوا إلى المطلوب، وأما غيرهم وهم الأكثرون عددا فمنهم لا يعرفون العلم وفوائده أصلا ولا يجدون إلى منافعه دليلا اولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا، ومنهم لا يعرفون منه إلا الرسم ولا يفهمون منه إلا الاسم ولا يتصورونه إلا أن طلبه يوجب الخروج من حضيض الجهالة والضلال إلى أوج السعادة والكمال، ومن حد السمات البشرية إلى الاتصاف بالصفات الملكية ومن المنازل الجسمانية إلى المقامات الروحانية، ولا يعرفون كنه حقيقة تلك الحالات ولا يجدون في نفوسهم حلاوة تلك اللذات وإنما ينطقون باسمها ويغفلون عن حقيقتها ووصفها وذلك مبلغهم من العلم، وكم من فرق بين تصور اسم الكمالات وبين معرفتها بالوصول إليها كما هي والإحاطة بها، كما يظهر ذلك بالفرق بين تصور اسم الجنة مثلا وبين معرفتها كما هي، ومعرفة نسيمها وكثرة نعيمها بعين المشاهدة، فإن من حصل له هذه المعرفة يرى بدنه في هذه الدار وروحه في دار القرار وليس له هم إلا الوصول إليها بخلاف من حصل له ذلك التصور فإنه كثيرا ما يشتغل بزهرات الدنيا ومتمنيات النفس عن طلبها كما هو المشاهد من الأشرار ولو يعلم هؤلاء بعين البصيرة ما في طلب العلم:

(لطلبوه ولو بسفك المهج) السفك الإراقة، والمهج جمع المهجة، وهي بضم الميم وسكون الهاء الدم مطلقا، أو دم القلب خاصة، ويطلق على الروح أيضا يقال: خرجت مهجته إذا خرجت روحه، ولعل الوجه فيه أن الروح الحيواني تابع للدم (1) لتكونه منه، فخروج الدم مستلزم لخروجه وسفك المهج كناية عن ارتكاب

ص: 57


1- 1 - الروح الحيواني في اصطلاح الأطباء بخار لطيف له مزاج خاص يستعذبه البدن لقبول النفس، وهو يجري مع الدم في الشرايين كثيرا، وفي الأوردة قليلا، والروح مطلقا في اصطلاحهم ثلاثة: الروح الطبيعي ومنشؤه الكبد وفائدته إحياء القوى النباتية، والدليل على وجوده أن انسداد مجاريه يورث موت تلك القوى كالغاذية والمولدة. والروح الحيواني منشؤه القلب، وفائدته تحريك القلب والشرايين والرئة والتنفس وإخراج الأبخرة الدخانية، والدليل على وجوده توقف هذه الأعمال بانسداد مجراه. والروح النفساني منشؤه الدماغ ويجري من الأعصاب إلى الأعضاء، وفائدته إحياء قوى الحس والحركة، وبانسداد مجراها يعرض الفالج والخدر، ومما يدل على وجوده أن الإنسان إذا دار على نفسها مرارا ثم سكن يحس بعد سكونه أن كل شيء يدور عليه مدة; لأن الروح في الدماغ يدور بعد سكون البدن بعد. (ش)

التعب والمشقة الشديدة في طلبه.

(وخوض اللجج) الخوض في الماء الدخول فيه، واللجج - بالجيمين - جمع اللجة وهي معظم الماء، ويحتمل بعيدا من حيث اللفظ والمعنى أن يقرأ بفتح اللام وكسر الحاء المهملة والجيم بعدها، وهو بمعنى الضيق، يقال: مكان لجج، أي ضيق، وخوض اللجج أيضا كناية عن ارتكاب المكاره الكثيرة والشدائد العظيمة.

وما ذكره (عليه السلام) من عدم طلبهم للعلم لعدم علمهم بشرفه وفضله ومنافعه حق صريح وكلام صحيح; لأن الناس مجبولون في طلب المنافع، ألا ترى أنهم يقتحمون الأسفار البعيدة والمفاوز المخوفة والبحار العميقة بمجرد ظن المنافع لهذه الحياة الفانية مع ضمان الله تعالى أرزاقهم؟ ولو كان لهم مثل هذا الظن في منافع العلم التي هي سبب للحياة الأبدية بل هي عينها لطلبوه أيضا كما يطلبون الدنيا.

(إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال (عليه السلام)) ترك العطف لأنه بمنزلة التأكيد بما هو المقصود من السابق، وهو الحث على طلب العلم.

(إن أمقت عبيدي إلي الجاهل) المقت الإبغاض، يقال: مقته مقتا إذا أبغضه فهو مقيت وممقوت، ومعنى مقت الله تعالى لعبده هو إبقاؤه له وراء الحجاب (1) وعدم تفضله عليه بالتوفيق على تحصيل الثواب ووكوله إلى نفسه المشتاقة للاقتحام في مسالك العصيان والاتصاف بصفة العدوان والطغيان حتى تؤديه إلى

ص: 58


1- 1 - نسبة الحب والبغض والرضا والغضب وجميع التأثيرات النفسانية إلى الله تعالى مجاز باعتبار وجود آثارها، ولا ريب أن العالم الأدنى أخس الموجودات وأبعدها عن الله تعالى، ولذلك سميت الدنيا دنيا، والمنغمرون في الدنيا محجوبون عن الله تعالى، والجاهل منغمر في هذا العالم وشهواته، فهو بعيد عنه تعالى ومقته تعالى له بهذا الاعتبار، وإذا لاحظ العاقل أعمال أهل الدنيا وتهالكهم على تحصيل الشهوات الدنية حتى أنهم يرضون بقتل النفوس وهلاك الأموال وهدم الديار ليفوزوا بوصال امرأة وملك دار لا يعلمون هل يتمتعون بها سنة مثلا أو يموتون دون الوصول؟ مقتهم وحكم بأنهم أخبث من كل حيوان كالذئب، وهذا علامة مقت الله بهم أيضا. (ش)

أبعد الأبعاد عن رحمة رب العالمين وتقوده إلى أقبح المنازل في أسفل السافلين.

(المستخف بحق أهل العلم، التارك للاقتداء بهم) الظاهر أن كلا من المستخف والتارك وصف للجاهل، وعلة مستقلة لتعلق المقت به، ويحتمل أن يكون التارك وصفا للمستحف وبيانا له.

ويؤيده إدراج لفظ الحق; لأن من حقوق أهل العلم على الجاهل اقتداؤه بهم، فإذا ترك الاقتداء فقد استخف بحقهم، وإنما وصف الجاهل بما ذكر لأن الجاهل المعظم لأهل العلم المقتدي بهم محب لهم ومتعلم منهم، وهما من أهل المحبة دون المقت.

(وإن أحب عبيدي إلي) المحبة ضد المقت، وهي إحسانه تعالى للعبد بكشف الحجاب وتوفيقه في تحصيل الثواب وحفظه عن مقام الزلة وإيقاظه عن نوم الغفلة وتأديبه بأدنى المخالفة; لجذبه بعنايته الأزلية إلى السعادة الأبدية حتى يطأ بقدم الإخلاص على بساط الاختصاص، ويمشي في منازل القرب مع خاص الخاص.

(التقي) أي الخائف من الله تعالى; للتقوى مراتب: أولها: التحرز من الشرك، وهو يحصل بكلمة التوحيد. وثانيها: التجنب عن المعاصي، وهو يحصل بالتزام الأوامر واجتناب المناهي. وثالثها:

التنزه عما يشغل القلب عن الحق.

(الطالب للثواب الجزيل) أي العامل بما يوجبه، سواء قصد حصوله أو لا، وهذا الكلام وصف للتقي وتوضيح له يعني أن التقي هو الذي يطلب الثواب الجزيل بالتزام التوحيد والأوامر واجتناب الشرك والمناهي وتحلية الظاهر بالأفعال الجميلة وتخلية الباطن عن الأخلاق الرذيلة والتقوى بالمعنى المذكور من خواص العاقل وآثاره، ولأجل ذلك وقع مقابلا للجاهل مع القصد إلى ذكر ما هو المقصود من العاقل صريحا.

(اللازم للعلماء) فيه ترغيب على دوام ملازمة العلماء ومجالستهم ومصاحبتهم ليتنور القلب بأنوار قلوبهم.

(التابع للحكماء) فيه تنبيه على أن مجرد الملازمة لا يكفي في حصول المقصود، أعني إصلاح الحال، بل لا بد من أن يكون تابعا لأقوالهم وأعمالهم وعقائدهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن العالم ما لم يكن حليما سليما عن مقتضيات القوة الغضبية والشهوية ليس له شرف الاقتداء به.

(القابل عن الحكماء) فيه تحريض على قبول العلم وأخذه من الحكيم ولو بواسطة، وقد يقال:

المراد بالحكماء الأنبياء وبالحلماء الأوصياء، وبالعلماء أهل العلم من الشيعة، وقد اختلفت أقوال الأكابر في الفرق

ص: 59

بين العالم والحكيم فقيل: العالم طبيب الدين بأدوية الحق والصدق والتصفح والتعطف، وقيل: من يخلص الناس من أيدي الشياطين، وقيل: هو من لان قلبه وحسن خلقه ورق ذكره ودق فكره ولا يطمع ولا يبخل، وقيل: غير ذلك.

مصابيح الأنام بكل أرض * هم العلماء أبناء الكرام فلولا علمهم في كل واد * كنور البدر لاح بلا غمام لكان الدين يدرس كل حين * كما درس الرسوم من الرهام (1) وقيل: الحكيم هو الذي يطلب ما ينفعه ويترك ما يضره ويقرب منه ما قيل هو العدل الآخذ بالحق والصواب قولا وعملا، وقيل: هو من لا يغضب على من عصى ولا يحقد على من جفا، وقيل:

هو من كان كل أفعاله صوابا ولا يدخل في اختياره خلل ولا فساد، وقيل: ليس الحكيم الذي يجمع العلم الكثير لكن الحكيم الذي يعرف صواب ما له وما عليه، وقيل: الحكماء للأخلاق كالأطباء للأجساد، وقيل لعالم: من الحكيم؟ قال: من تعلق بثلاثة فيها علم الأولين والآخرين، قيل: وما هي؟ قال: تقديم الأمر، واجتناب النهي، واتباع السنة.

وكيف تريد أن تدعي حكيما * وأنت لكل ما تهوى ركوب؟ لعل العمر أكثره تولى * وقد قرب الردى فمتى تتوب؟ وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «العلم نهر والحكمة بحر والعلماء حول النهر يطوفون، والحكماء في وسط البحر يغوصون، والعارفون في سفن النجاة يخوضون» (2)، ولكون الحكماء أعظم شأنا وأرفع مكانا رغب في قبول العلم عنهم، والأخذ منهم، وأخرهم للتنبيه على وجوب انتهاء سلسلة العلوم إليهم، فانظر أيها اللبيب إلى ما في هذا الحديث من شرف فضيلة العلم وكماله حيث بالغ أولا بأن شيئا من شدائد الدهر

ص: 60


1- 1 - الرهام: جمع الرهمة - بكسر الراء -، وهي المطر الخفيف الدائم.
2- 2 - اصطلح الناس على إطلاق الحكمة على الفلسفة، وهي العلم بأحوال أعيان الموجودات بقدر الطاقة البشرية، وحيث لا يمكن الإحاطة بجميع الموجودات فكل واحد أخذ بشيء من الحكمة، ولذلك قالوا بقدر الطاقة البشرية، ولا ريب أن الحكمة في القرآن والحديث ليست نبوة إذ آتاها لقمان ولم يكن نبيا، وليس المراد بها أيضا أخذ أقوال جماعة خاصة من اليونانيين تقليدا من غير دليل بل الحكمة تحري الحقيقة بالعقل واتباع الدليل واختيار الأصلح في القول والفعل و «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها» كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولو كان في منافق فيجب أخذ الحق بالدليل أينما وجد في بابل أو في اليونان أو الهند أو غيرها، وبالجملة: الحكمة تحري الحقيقة وإصلاح العمل وكل ما ذكر يرجع إلى هذا. (ش)

ونوائبه وجب أن لا يكون مانعا من تحصيله، وجعل ثانيا استخفاف العلماء وعدم الاقتداء بهم من أعظم الكبائر الموجب لأعظم مقت الله وسخطه، وجعل ثالثا ملازمتهم من أعظم القربات الموجب لأعلى درجات محبته، هدانا الله وإياك إلى مرضاته.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «من تعلم العلم وعمل به وعلم لله دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم لله».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد) الظاهر أنه القاسم بن محمد الأصبهاني المعروف بكاسولا لمشاركته مع سليمان في البلد كما في (صه)، ويحتمل القاسم بن محمد الخلقاني الكوفي.

(عن سليمان بن داود المنقري) وثقه النجاشي والعلامة في (صه)، وضعفه ابن الغضائري.

(عن حفص بن غياث) كان قاضيا عامي المذهب، له كتاب معتمد (صه).

(قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): من تعلم العلم وعمل به وعلم لله) لله متعلق بالأفعال الثلاثة على سبيل التنازع، ولا وجه لتخصيصه بالأخير; لأن القربة الموجبة لرفع المنزلة وعلو الدرجة والوصف بالعظمة معتبرة في جميعها، ولدلالة آخر الحديث عليه وفي عطف بعض هذه الأفعال على بعض بالواو دلالة على أن الجزاء وهو وصف الرجل بالعظمة في الملأ الأعلى مترتب على جميعها، إما على التعلم فلأنه لا قدر للجاهل المعرض عنه أصلا فضلا عن أن يصفه المقربون، وإما على العمل فلأنه لا قدر للعالم التارك لعلمه; إذ هو أخس من الجاهل، وإما على التعليم الموجب لاتصال سلسلة العلم إلى يوم الدين وانتفاع المتأخرين مثل المتقدمين فلأن العالم وإن كان عاملا إذا لم يعلم غيره فهو ظالم لنفسه لفقده فضيلة التعليم، ومنعه زكاة العلم، وظالم لغيره لعدم تخليصه من طريق الضلالة والغواية بمنزلة من ترك إعانة الأعمى المشرف على الوقوع في البئر مع القدرة عليها.

(دعي في ملكوت السماوات عظيما) الدعاء هنا بمعنى التسمية، وفي النهاية يقال: دعوته زيدا إذا سميته، وأما الدعاء بمعنى النداء المتعدي إلى مفعول واحد مثل قولك: دعوت زيدا إذا ناديته فليس بمراد هنا; لأنه

ص: 61

يحتاج إلى تضمين معنى التسمية، وهو تكلف لا يحتاج إليه، والملكوت فعلوت من الملك للمبالغة، يقال: له ملكوت العراق أي ملكها، فالمراد بملكوت السماوات ملكها، وعبر عنه بالملكوت للدلالة على أنه ملك عظيم في نفسه لاشتماله على كثرة العجائب والغرائب البديعة الدالة على كمال سلطنة مالكه وعظمة صانعه وعلى كثرة جنوده التابعين لأوامره والداعي هو أهل السماوات من الروحانيين والملائكة المقربين وأرواح القديسين، وفي تنكير «عظيما» دلالة على التعظيم والتفخيم كأنه لا يبلغ إلى كنه عظمته إدراك الروحانيين فضلا عن غيرهم.

(فقيل: تعلم لله وعمل لله وعلم لله) الفاء للتفصيل وتفسير الدعاء مثل الفاء في قوله تعالى:

(ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي) ثم هذا القول إما من باب الإخبار والإعلام على من لا يعلمه من الروحانيين والملائكة المقربين كما وعد الله سبحانه بإظهار محاسن عباده عليهم ليمدحوهم ويثنوا عليهم ويدعوا لهم، وإما من باب التعجب في حسن هذه الأفعال وعظمة فاعلها وكثرة أجرها، ويحتمل أن يكون المراد أن الفاعل بسبب هذه الأفعال اتصل اتصالا معنويا بعالم المجردات (1)، والتحق بأهل ملكوت السماوات وسمي عظيما فيما بينهم بالنسبة إليهم; لاكتسابه هذه الصفات بالمجاهدات النفسانية، فما أعظم شأن فضيلة هذه الصفات حيث تجعل الإنسان السفلي أعظم من أهل الملكوت السماوي العلوي، ويحتمل أيضا أنه دعي في الآخرة عظيما بالتعبير عنها بملكوت السماوات، وهذا الاحتمال بناء على ما قيل من أن المراد بملكوت كل شيء باطنه، فإن لهذا العالم الحسي الشهادي صورة باطنة غيبية نسبتها إليه كنسبة الروح إلى البدن فهي أشرف من هذا العالم، وهي عالم الآخرة (2) عبر عنها بملكوت السماوات تسمية للشيء باسم

ص: 62


1- 1 - الاتصال بعالم المجردات الذي يسمى في عرف الحكماء بعالم العقول واتحاد النفس الناطقة به مشروح ومبين في كتب صدر المتألهين، وهذا مبني على كون المراد بالسماوات العالم الروحاني، إذ قد يطلق السماء على ذلك العالم. (ش)
2- 2 - يعني أن عالم الآخرة بالنسبة إلى هذا العالم كالروح للبدن موجود وليس بمرئي، والملكوت باطن الشيء، ولكن لما كان المناسب أن يقال: ملكوت السماء والأرض إذ لا وجه لتخصيصه بالسماء; لأن الآخرة في باطن هذا العالم بجملته لا في باطن السماء فقط استدرك الشارح هذا التوهم بأن وجه التخصيص كون السماوات أشرف أجزاء العالم المحسوس، فإطلاق ملكوت السماء أولى من إطلاق ملكوت الأرض عليه. أقول: وذلك لأن الكلام في الجنة، ولو كان الكلام في النار لكان إطلاق ملكوت الأرض مناسبا، بل ورد أن جهنم تحت البحر، وهو أسفل مكان في هذا العالم مقابل السماء، ومع ذلك ففي مراد الشارح نوع غموض، وظاهر كلام بعضهم أن الآخرة هي هذه الدنيا في زمان متأخر وليس عالما آخر وراء هذه في نشأة اخرى، ولكن ما دل على وجود الجنة والنار فعلا وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل الجنة واطلع على النار ليلة المعراج وأمثالها دل الشارح على وجود الآخرة في نشأة غير عالمنا المادي إذ لا يسعها. (ش)

أشرف أجزائه، فإن السماوات أشرف أجزاء هذا العالم الحسي، ثم هذا التعظيم على جميع الاحتمالات لأهل العلم العملي، ويستفاد منه التعظيم لأهل العلم الاعتقادي الإلهي بالأولوية، مع احتمال أن يراد بتعلم وعلم المعنى الشامل لهذين النوعين من العلم وذكر العمل لا ينافي هذه الإرادة لأنه معتبر في مطلق العلم باعتبار قسم منه، والله أعلم.

ص: 63

باب صفة العلماء

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم».

* الشرح:

(محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار) هذه الامور الثلاثة من أعظم الاصول لتحصيل سعادة الدارين واستقامة أحوال الكونين; إذ بالأول يعرف الأحكام والحلال والحرام وأحوال المبدأ والمعاد، وأحوال السياسات البدنية والمنزلية والمدنية، وبالأخيرين تزين النفس بزينة الإناءة والرزانة وتحلى بحلية الصيانة والمتانة، وتجتنب عن تبعات الغضب من التضاغن (1) والسفه والخفة وغيرها، وهذا أصل عظيم في جلب طيب عيش الدارين وطلب نظام النشأتين.

(وتواضعوا لمن تعلمونه العلم) ليكتسبوا منكم صفة التواضع أيضا لمن دونهم ويرغبوا في تحصيل العلم ولا يحتشموا عن السؤال عنكم، وبالجملة: التواضع حسن لكل أحد سيما للمتعلمين الذين هم أولياء الله وأحباؤه، ومن التواضع لهم: لين القول، والتكرار عليهم عند الاحتياج إليه، وعدم الضجر والقلق لكثرة سؤالهم، وترك الشتم والغلظة عليهم لو تكلموا بما لا يوافق المقصود، وهدايتهم إليه بلطائف التدبير وحسن التقرير.

(وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم) وذللوا نفوسكم بالاحتمال عنه; لأنكم قد أقررتم بفضله فوجب عليكم أن تعزروه وتوقروه وتعظموه وتتأدبوا بالخشوع والخضوع والتواضع والانقياد له، ولأنه أب روحاني لكم وسبب لحياة أرواحكم وكمال نفوسكم وتنور عقولكم يخرجكم من حضيض الجهالة والشقاوة إلى أوج

ص: 64


1- 1 - اضطغن وتضاغن القوم: انطووا على الأحقاد، وقابلوا الحقد بالحقد.

الكرامة والسعادة ولا نعمة أعظم من ذلك، فوجب عليكم أن لا تهملوا شيئا من دقائق التواضع له كما وجب عليكم ذلك لأبيكم الجسماني بل ينبغي أن يكون التواضع له أبلغ وأكمل لأن النسبة بينهما مثل النسبة بين الروح والبدن، ولذلك قال بعض الحكماء:

حق المعلم الرباني والمربي الروحاني على المتعلم أعظم وأولى من حق أبيه الجسماني، وقال بعض الأكابر: العلماء أرحم بامة محمد (صلى الله عليه وآله) من آبائهم وامهاتهم، قيل: فكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وامهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة (1) وقيل لإسكندر: ما بالك تحب معلمك أكثر مما تحب أبيك؟ فقال: لأن معلمي سبب حياتي الروحانية الاخروية، وأبي وسيلة حياتي الجسمانية الدنيوية. وأيضا الغرض من هبوط النفس إلى هذا العالم هو استكمالها بالعلوم الإلهية واكتسابها للمعارف اليقينية الموجبة للقرب من الحضرة الربوبية والطيران إليه بأجنحة الكمال والجلوس على بساط العزة والجلال وذلك الغرض لا تتحصل بدون التعليم والتعلم المتوقفين على الاجتماع والتودد والتآلف والتعطف، وهذه الامور لا يتحصل بدون التواضع من المعلم والمتعلم، ولو وقع الطيش والخشونة وضد التواضع لبطلت الالفة ووقعت الفرقة وفات الغرض، فلذلك أمر (عليه السلام) كل واحد منهما بالتواضع لصاحبه حملا لهما على ما يعين في تحصيل ذلك الغرض ومنعا لهما عما يوجب فواته، ثم نهاهما عن التكبر والتجبر عموما بالنسبة إلى جميع الخلائق بقوله:

(ولا تكونوا علماء جبارين) فيه مبالغة للنهي لا نهي للمبالغة، فلا يرد أن ليس فيه نهي عن التجبر رأسا:

(فيذهب) منصوب بتقدير «أن» أي يذهب:

(باطلكم) أي تجبركم، سماه باطلا; لأنه من الصفات المختصة بالله تعالى، فهو حق له وباطل في غيره ممن ادعاه لنفسه.

ص: 65


1- 1 - وجود النوع الإنساني من غير أن يكون فيهم علماء ربانيون يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردعهم عن الشهوات ويمنعهم من الظلم والعدوان على أبناء نوعهم شر ليس بخير; لأن الإنسان إذا خلي وطباعه وفيه الشهوات العظيمة والآمال الطويلة والقدرة على امور يعجز عنها سائر الحيوانات أضر من السباع الضارية; لأن الذئب والأسد مثلا لهما شهوة محدودة وللإنسان شهوة السباع مع شهوة جمع الأموال والرياسة والجاه والمساكن والتجملات، وله أن يخترع آلات مخوفة في الحرب والسموم القتالة وله آمال في نفسه وأولاده وأهله في حياته وبعد وفاته ولا محيص لهذا النوع عمن يهديهم إلى الحق ويمنعهم من الباطل، ولو لم يكن فيهم ذلك كانوا كالأنعام بل هم أضل، وقد منع الشرع عن المقام في بلد ليس فيه عالم روحاني يؤخذ منه الدين. (ش)

(بحقكم) الباء للتعدية، وحقوق العالم كثيرة تعجز عن الإحاطة بها قلوب العارفين، وعن بيان شرفها ألسنة الواصفين، وعن ذكر عددها أقلام الحاسبين منها العلم، وهو الأصل للبواقي والكتب السماوية والسنة النبوية ونسخ الحكماء ودفاتر الادباء ومصنفات العلماء مشحونة بذكر فضائله:

منها: أن سائر الناس مأمورون بتوقيره والانقياد له في عقائده وأقواله وأفعاله.

ومنها: أنه أفضل من جميع العابدين.

ومنها: أنه وارث الأنبياء.

ومنها: أنه يستغفر له جميع الخلق ويبكي لموته طير الهواء ودواب الأرض وحيتان الماء وسكان السماء.

ومنها: أنه استاذ الخلق ومعلمهم ونور الحق في طريقه يهتدون به في ظلمات الأرض.

ومنها: أنه يطير بأجنحة الكمال مع الملائكة والروحانيين.

ومنها: أنه يشارك النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) في الشفاعة.

ومنها: أنه آمن عند الحساب والميزان والصراط وغيرها من العقبات. وبالجملة: حقه الرياسة العظمى والخلافة الكبرى في الدين والدنيا وكل هذه الحقوق تبطل وتضمحل بتجبره وتكبره; لأنه حينئذ منازع للباري عز اسمه في أخص صفاته فيدخله الله تعالى في جهنم ولا يبالي كما قال:

(وخاب كل جبار عنيد)، وقال: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين)، وقال الصادق (عليه السلام):

«الكبر رداء الله، فمن نازع الله شيئا من ذلك أكبه الله في النار» (1)، ومن خالج في نفسه خيال ذلك وانقدح فيها شراره فليرجع إلى الله سبحانه بالتخشع والتخضع وليواظب على التذلل والتواضع وليتفكر في أحوال الجبارين وشدة نكالهم في الدنيا ووخامة عقابهم في الآخرة مما نطق به القرآن الكريم وغيره.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، قال: «يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم».

* الشرح:

ص: 66


1- 1 - رواه الكليني في الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب التكبر)، تحت رقم 5.

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة النصري) بالنون والصاد المهملة من بني نصر بن معاوية، ثقة ثقة.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)) ذكر الله سبحانه أولا شيئا من عجائب مخلوقاته وغرائب مخترعاته من إنزال الماء وإحياء الموات وإيجاد الثمرات وغيرها من اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام، ثم عقبها بهذه الآية الشريفة تنبيها على أنه لا يصلح للنظر في دلائل وحدته والمشاهدة لبراهين معرفته والقيام بأداء حق طاعته وعبادته إلا العالمون ولا يخشاه إلا الراسخون في العلم كما لا يخشى السلطان إلا المقربون; لأن الخشية على حسب العلم بالله وبنعوت كماله وصفات جلاله، وكلما كان العلم به أقوى كانت الخشية له أشد، كما روي «أن أعلمكم بالله أشدكم خشية له» (1).

وفي تقديم المفعول دلالة على أن الذين يخشون من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، ولو أخر لكان المفاد أن العلماء لا يخشون إلا الله، وهذا أيضا صحيح، إلا أن في الأول من المبالغة في مدح العلم ما ليس في الثاني.

(قال: يعني بالعلماء من صدق فعله قوله) هذا التصديق من آثار العلم والخشية ولوازمهما; لأن العلم إذا صار ملكة راسخة في النفس مستقرة فيها صارت النفس نورا إلهيا وضوء ربانيا تنقاد لها القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية، وينقطع عنه الهوى والوساوس الشيطانية فترى بنورها عالم الكبرياء والجلال والعظمة الإلهية فيحصل لها من مشاهدة ذلك خوف وخشية وهيبة موجبة للعمل له والجد في العبادة وغاية الخضوع وعدم الإهمال لشيء من أنحاء التعظيم ويخاف أن يؤمر بشيء ولا يعمل به; لأن ذلك إثم وخيانة ونفاق فيكون فعله مصدقا قطعا، ومما ذكرنا ظهر أن العمل والتصديق المذكور ثمرة الخشية، والخشية ثمرة العلم، فمن علم يخشاه ومن يخشاه يعمل له ويصدق فعله قوله، وإن أردت زيادة توضيح فنقول:

للعلم سواء كان عمليا أو اعتقاديا (2) تأثير عظيم في نفس الإنسان; إذ هو نور يوجب مشاهدتها ما في

ص: 67


1- 1 - أخرج عبد بن حميد بن وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل هكذا «أعلمهم بالله أشدهم خشية لله» راجع الدر المنثور، ج 5، ص 250.
2- 2 - بل رأينا كثيرا من العلماء بغير الاصول والفروع كالطبيب والهيوى وأمثالهما أيضا أكسب لهم علومهم حظا من الوقار والمروءة وتقدير النفوس وتعظيم مقام الإنسانية أوجب لهم الإقرار بأن الأخلاق الرذيلة لا تناسب النفس الناطقة وتدنسها أشد وأفحش من تلويث الثياب بالأوساخ الظاهرة فلا يقدمون على علاج المرضى مثلا إلا بعناية تامة ودقة ولا يثبتون في كتبهم إلا ما حققوه بالتجربة ولا يصفون دواء ضارا بالنفع وهكذا; لأن نور العلم هداهم في الجملة فكيف العلم الإلهي الذي فائدته ذلك؟ (ش)

العلوم اللاهوتية وهدايتها إلى سبيل النجاة من الطبائع الناسوتية وجناح يورث عروجها إلى مساكن القديسين وارتقاءها إلى منازل الروحانيين (1)، فإذا بلغت هذه المرتبة وشاهدت عظمة الرب وجلاله وكماله وقدرته بعين اليقين حدثت فيها نار الخوف والخشية واشتعلت فيها فينعكس شعاعها وضوؤها إلى ظاهر الإنسان لما بين الظاهر والباطن من المناسبة الموجبة لسراية أثر كل منهما إلى الآخر فيستضيىء كل عضو من أعضائه الظاهرة ويهتدي إلى ما خلق لأجله وما هو آلة لارتقائه وعروجه من الأفعال والأقوال ويصدق بعض أعضائه بعضا بالتوافق والتعاون ويوافق ظاهره باطنه وباطنه ظاهره فيفعل للحق ويقول له ويدعو إليه ويخشى منه، فهو إذن عالم رباني وجسم روحاني ونور إلهي كامل في ذاته مكمل لغيره.

(ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم) يعني كل من أمر بخير ودعي إليه ولم يعمل به فهو ليس بعالم; لأنك قد عرفت أن العمل ثمرة الخوف وأثره، والخوف ثمرة العلم وأثره، فانتفاء العمل دليل على انتفاء الخوف، وانتفاء الخوف دليل على انتفاء العلم; لأن انتفاء المسببات واللوازم دليل على انتفاء الأسباب والملزومات وأيضا ترك الأعمال الظاهرة والأمر بالخير مع عدم الإتيان به والنهي عن الشر مع الإتيان به ذنب وخيانة يوجب سواد مرآة القلب وظلمته فلا يقبل نور العلم; لأن الظلمة والنور لا يجتمعان في محل واحد ولو حصل له شيء من العلوم فهو نور مخلوط بالظلمة، وذلك ليس بعلم وصاحبه ليس بعالم حقيقة، بل هو منافق يقول بالحق ولا يعتقد به ويأمر بالخير ولا يعمل به.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن

ص: 68


1- 1 - لا علم لمن حفظ الاصطلاحات ومارس الجدل والمراء ليتمكن من اسكات الخصوم في المجالس والتظاهر بالعلم عند العوام لتحصيل الجاه والمال، بل العلم كشف الحقائق والعثور على الواقع وتكميل النفس بالمعرفة، وهذا يستلزم العمل الصالح والاجتناب عن العجب والحسد والمراء والاقبال على حطام الدنيا; لأن العالم إن كان عالما حقيقة يرى قيمة علمه أكثر من كل جاه ومال وله أن يمتحن نفسه بأن يعرض عليها علمين: أحدهما يزيد في جاهه عند العوام والآخر يفيده في تهذيب نفسه، فإن رآه يرغب في الأول فليترك طلب العلم وإن كان راغبا في الثاني فهنيئا له. (ش)

رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر».

وفي رواية اخرى: «ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط) اسمه خالد بن سعيد، كوفي، ثقة.

(عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه) أي كامل الفقه.

(من لم يقنط الناس من رحمة الله) من خبر مبتدأ محذوف، والقنوط اليأس والتقنيط للتعدية يقال: قنطه من رحمة الله إذا آيسه منها وذلك بأن يقول مثلا: من فعل كذا وكذا لن يغفر الله له أبدا، أو يقول لرجل: إنك فعلت ذنبا لا يغفر الله لك بعده وحرمت عليك الجنة. والمراد بالناس المؤمنون لما روي عن أبي جعفر (عليه السلام): «إياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله»، ولا ريب في أن التقنيط حرام لا يرتكبه الفقيه الكامل; لأنه من امارات الجهل بالله وبسعة رحمته، ومن الأدلاء بأن له عنده تعالى منزلة رفيعة ولذلك المذنب خسة وإهانة وبعد منزلة، وفيه أيضا إيذاء المؤمن وكسر قلبه وبعثه على المعاصي، كما هو شأن بعض القانطين، وكل ذلك مذموم لا يصدر من الفقيه.

(ولم يؤمنهم من عذاب الله) بأن يقول مثلا: إن الله غفار يغفر الذنوب جميعا، ولا يعذب أحدا من المؤمنين أصلا وإن جاء بذنوب الثقلين، وحب الأئمة (عليهم السلام) يمنع من الدخول في النار ويدركه شفاعتهم قطعا وأمثال ذلك جهل بأنه تعالى قهار يغضب للذنوب وخلق النار للمذنبين ولمن خالفه، وبأنه قد لا يدركه الشفاعة على تقدير خروجه من الدنيا مع الإيمان إلا بعد مدة طويلة.

لا يقال: قال الله تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) وفيه وعد للمذنبين بالمغفرة وأمن لهم من العذاب وما أنزله الله تعالى يجوز أن يقرأ على كل أحد في كل آن وكل زمان.

لأنا نقول: السالكون إليه سبحانه يخافون من هذه الآية الكريمة أشد خوف لاحتمال أن يكون إضافة

ص: 69

العباد إليه تعالى للاختصاص الموجب لعدم التعميم ويؤيده عدم شمولها الكفار اتفاقا ولو سلم جاز أن تكون المغفرة مشروطة بالتوبة والإنابة.

ويؤيده النهي عن القنوط الدال على شدة استيلاء الخوف عليهم، والأمر بالإنابة بعد هذه الآية حيث قال: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) ولو سلم فليقرأ عليه أيضا قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)، وقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المؤاخذة بالذنوب. وبالجملة: الفقيه العارف بالله حق المعرفة من لا يقتصر في مقام نصح الخلائق بأحاديث الخوف وآياته لئلا يقنطوا من رحمة الله تعالى ولا بأحاديث الرجاء وآياته لئلا يجترئوا على المعاصي بل يجمع بين ما دل عليهما كما فعله الله تعالى في كتابه الكريم، ولو غلب منه التخويف والوعيد لا على حد يوجب القنوط كان أحسن كما يظهر ذلك لمن تدبر في القرآن; لأن الفساد في النفوس البشرية أكثر وميلها إلى الراحة وترك الأعمال الصالحة أعظم وأشهر فيحصل لها بغلبة التخويف حالة متوسطة بين الخوف والرجاء.

(ولم يرخص لهم في معاصي الله) الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه، وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو يعني الفقيه الكامل لا يتساهل ولا يتسامح معهم إذا مالوا إلى معصية الله تعالى بل يشدد عليهم ويمنعهم منها ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجذبهم عن متابعة الشيطان في المعاصي والمقابح قبل صدورها منهم وقبل صيرورتها ملكات في جوهر النفس إلى تحصيل السعادة الاخروية.

(ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره) من الكتب السماوية وغيرها يعني الفقيه الكامل بالأحكام وغيرها من كتاب الله (1)، وإن رجع في شيء من العلوم إلى غيره، فإن وجد موافقا للكتاب أخذه وإن وجده مخالفا له تركه، ولا يترك الكتاب رغبة عنه إلى غيره لعلمه بأنه نور الناظرين وسراج العارفين ومنهاج السالكين ومعراج السائرين ومظاهر علم الأولين والآخرين، فيه علم ما كان وما يكون وعلم

ص: 70


1- 1 - من الوساوس الشيطانية ما حدث واشتهر بين الناس في العصور المتأخرة من أن القرآن جميعه متشابه أو أكثره، ولا يفهمه أحد إلا أن يرد في معناه رواية من أهل البيت (عليهم السلام) فتركوا القرآن ولم يرد لأكثر الآيات تفسير صحيح عن أهل البيت (عليهم السلام); لأن أكثر الآيات لا يحتاج إلى تفسير منصوص، وإذا بنينا على عدم تدبير الآيات إلا بنص لزم ترك القرآن أصلا، وليس من جمع بين القرآن والحديث والكلام من أهل النظر والاجتهاد تاركا للقرآن، بل التارك له المحدثون الذين لا يرون ظاهر القرآن حجة إلا بنص من الروايات. (ش)

الأخلاق وعلم الأحكام من الحلال والحرام وعلم أهوال القيامة والحشر والنشر وعلم الفصاحة والبلاغة بحيث تتروى بزلال معانيه قلوب الفقهاء وتتحير في عجائب مثانيه عقول العلماء وتعجز عن درك غرائب مبانيه أفهام الخطباء وتقر بمشاهدة شواهد مغانيه عيون الفضلاء وتنشرح بتلاوة زواهر آياته صدور القراء والصلحاء، فمن أعرض عنه كان ظالما جاهلا سفيها فضلا عن أن يكون عاقلا كاملا فقيها، فقد أخبر (عليه السلام) بأن الفقيه الكامل من كان بنور عقله هاديا للخلق ناصحا لهم جامعا بين الوعد والوعيد والأمر والنهي وتابعا للقرآن في العلم والعمل والقراءة، ثم أشار إلى أن هذه الصفات لا خير فيها ولا عبرة بها ما لم تقترن بفضيلة قلبية أعني التفهم والتدبر والتفكر بقوله:

(ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم) أي طلب فهم حقائقه وأغراضه، فإن من نظر إلى ظاهر هذا العالم مثلا واستدل به على وجود الصانع حصل له علم ظاهري يشاركه فيه سائر العوام، ولا خير فيه كثيرا، وإنما الخير فيما إذا تأمل فيه وفي كل واحد من أجزائه الساكنة والمتحركة والعلوية والسفلية والمركبة والبسيطة والنامية وغير النامية، وفي كيفية حركاتها ونشوئها واختلاف مقادير تلك الحركات ومسافاتها واقتراناتها واتصالاتها إلى غير ذلك من الأحوالات التي دلت على كمال قدرة صانعها (1)، وفي فوائد تلك الامور وأغراضها، وقد اشتمل على جملة من ذلك حديث هشام، فإن المتأمل فيه يستغرق في بحر التوحيد، وكذلك لا خير كثيرا في العلم بوجوب الصلاة بدون تفهم حقيقتها وحقيقة أجزائها من التكبير والقراءة والركوع والسجود وسائر الأفعال والأذكار والأغراض المترتبة عليها ويرشد إلى جملة منها ما ذكرناه في حديث جنود العقل، وقس عليهما سائر العلوم فإن كل معلوم له ظاهر وباطن وحقيقة وغرض، والخير الكثير إنما هو في العلم المتعلق به من جميع الوجوه; إذ هو مرقاة الحق ونوره في قلوب العارفين لا العلم بالظواهر، والفرق بين علماء الظاهر والباطن: أن علماء الباطن واصلون إلى الحق وعلماء الظاهر طالبون لطريقه، ويحتمل أن يراد بالعلم الذي ليس فيه تفهم العلم التقليدي والظني الذي ليس عليه برهان والنقلي الذي بمجرد الرواية دون الدراية، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الاولى للتنبيه على أن من يقنط الناس بالوعيد ليس في علمه تفهم إذ العالم المتفهم يعلم أن الغرض من الوعيد جذب عباد الله إلى الطاعة والانقياد له، والتقنيط يبعده عنها.

(ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر) للقرآن فينا منازل ولنا باعتبار كل واحد منها خير وثواب إلا أنه في بعضها أكمل وأوفر منه في بعض آخر، فمن تلك المنازل البصر فإنه منزل لنزول صوره وخطوطه ومحل

ص: 71


1- 1 - هذا تصريح بحسن تعلم علم النجوم، ولا ينافي ما سبق منه في ذمه، كما يظهر بالتأمل. (ش)

لشهود جماله ونقوشه كما ورد «أن النظر في المصحف عبادة» (1).

ومنها اليد فإنها منزل لحمله وكتابته وعدم ضرب بعضه ببعض كما ورد «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر» (2).

ومنها: اللسان فإنه منزل لتلاوته وقراءته بالترتيل والتعليم كما قال سبحانه: (ورتل القرآن ترتيلا)، وقال الصادق (عليه السلام): «اقرؤوا كما علمتم» (3).

ومنها: القلب، وهو أعظم منازله، فإن المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في سيره من عند الملك الجبار إلى هذا العالم وهو نزوله في هذا المنزل وقيامه فيه بالأمر والنهي وتعليم النفس الإنسانية وتربيتها فوجب عليها استقباله والقيام بتعظيمه والإقبال إلى ما جاء به والتدبر في أحكامه وحلاله وحرامه وسننه ومواعظه ونصائحه والتفكر فيما نطق به من أحوال المبدأ والمعاد وأحوال ما كان وما يكون وأحوال الامم الماضية والقرون السالفة وكيفية أخذهم وإهلاكهم بسبب العصيان والاعتبار بحالهم حتى تستعد بذلك للرجوع من حضيض النقصان إلى أوج الكمال، ومن منازل الهجران إلى مقام الوصال، فلو أعرضت عنه ولم تستقبله عند نزوله في منزل اللسان ولم تنزله في منزل القلب والجنان ولم تستمع إلى ما جاء به ولم تتدبر فيه فات عنها الحظ الأوفر والخير الأكثر وحصل لها الخير القليل بتلاوة اللسان ومشاهدة البصر، بل هي مستحقة للتعذيب والتأديب; لأنها بمنزلة من عصى الملك العظيم ومنع رسوله الكريم من الوصول إلى غاية مقاصده أو بمنزلة منافق يتكلم بالحق ظاهرا ويغفل عنه باطنا، وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الثانية فإن من تدبر في قراءة القرآن وما فيه من إهلاك قوم بالمعاصي ومسخ آخرين علم أنه لا ينبغي لأحد أن يؤمن عباد الله من عذابه وأن يرخص لهم في معاصيه.

(ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر) لأن الغرض من العبادة هو التقرب للمعبود وطلب رضاه والوصول إليه والقطع عما عداه، وذلك لا يتحقق بمجرد اشتغال الجوارح بما يليق به مما هو آلة لذلك التقرب بدون يقظة القلب وتفكره فإن قلب غير المتفكر مظلم لا يهتدي إلى الحق دليلا ولا إلى الوصول إليه سبيلا بخلاف ما إذا تفكر فإنه يطلع حينئذ شوارق المعارف من مشارقه وينكشف الحجاب عنه فينظر إلى وجوه

ص: 72


1- 2 - الكافي - كتاب فضل القرآن (باب فضل قراءة القرآن في المصحف)، تحت رقم 5.
2- 3 - المصدر - كتاب فضل القرآن (باب النوادر)، تحت رقم 17 و 25. والظاهر أن الشارح (رحمه الله) حمل معنى الضرب على المعنى المعروف منه. وفي معاني الأخبار للصدوق قال: «سألت محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن يجيب عن تفسير آية بتفسير آية اخرى».
3- 1 - المصدر، تحت رقم 15.

مطالبه ويرى خيره وشره ومنافعه ومضاره ويأخذ عنان الطبيعة عن يد النفس الأمارة بالسوء ويسعى في سبيل ربه ومرضاته حتى يبلغ غاية مقاصده ومتمنياته وفيه تفضيل العالم المتفكر في أمر العبادة وأجزائها وأحكامها وشرائطها ومصالحها ومنافعها وفي أحوال المعبود وصفاته اللائقة به على العابد كما مر مرارا، فمن آثر العبادة على العلم والتفكر والحركات البدنية على الحركات الفكرية فقد آثر الأدنى على الأعلى والأخس على الأشرف.

وقيل: هذه الفقرة متعلقة بالفقرة الأخيرة، فإن التفكر في العبادة إنما يتحقق بأخذها من مأخذها وهو القرآن، وأما من رغب عنه إلى غيره وأخذها من ذلك الغير فقد ترك التفكر فيها.

(وفي رواية اخرى: ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها) لأن الفقه أصل للعبادة ولا خير في الفرع مع انتفاء الأصل واختلاف هذه الرواية مع السابقة في هذه الفقرة بحسب العبارة دون المعنى (1)، وفي زيادة فقرة اخرى وهي قوله:

(ألا لا خير في نسك لا ورع فيه) في الصحاح: النسك العبادة والناسك العابد. وفي المغرب:

النسك الذبيحة، يقال: من فعل كذا فعليه نسك، أي دم يهريقه بمكة ثم قالوا لكل عبادة نسك، ومنه:

(إن صلاتي ونسكي) (2) والناسك العابد الزاهد وهذا من الخاص الذي صار عاما، وفي هذا دلالة على أن النسك في الأصل هو الذبيحة ثم صار عاما، على أن معناه هو العبادة المقيدة بالزهادة لا مطلق العبادة.

والظاهر هنا هو المطلق والورع هو الكف عن المحرمات والأغراض الدنيوية وزهراتها وشبهاتها وعن الطمع والحرص ومنشؤه العلم بحقارة الدنيا وما فيها وجلالة قدر الآخرة والجنة ونعيمها وإطالة الفكر في أحوال المبدأ والمعاد والعبادة إذا قارنت بهذه الفضيلة صارت خيرا محضا يترتب عليها ثمراتها وهي التقرب إلى الله والوصول إلى الله والفناء في الله (3)، وإن فارقت عنها بقي العابد محبوسا في سجن الدنيا ومغلولا بأغلال زهراتها ومقيدا بقيود شهواتها ولا خير في عبادة لا تنجي صاحبها عن هذه المزلة والجهالة ولا

ص: 73


1- 1 - العالم بالعربية إذا نظر في الحديث عرف ظاهر معناه، وهو الذي يكون حجة على الناس، وليس المراد من التفهم المأمور به ذلك; إذ يستوي فيه الناظرون ولا فضل لأحد على أحد، فلا بد أن يكون معناه فهم الشيء من غير ظاهر اللفظ والتنبه من قرائن مصحوبة مثلا إذا سمع رواية تدل على التجسم والجبر ظاهرا مثل أن ولد الزنا لا ينجب وأن الله لا ينظر إليه لا يكتفى بظاهر اللفظ وفهم بالقرائن العقلية ما يخرجه من الباطل، وبالجملة يدل الحديث على جواز التصرف في ظواهر الروايات بالقرينة العقلية. (ش)
2- 2 - هذا يدل على حجية ظواهر القرآن وإن لم يرد فيه تفسير. (ش)
3- 3 - سبق ذكر الفناء في المجلد الأول، وذكرنا شرحه بقدر ما يناسب هذا الكتاب. (ش)

تدفع عنه هذه الخسة والرذالة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان النيسابوري جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «إن من علامات الفقه الحلم والصمت».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان النيسابوري جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن من علامات الفقه الحلم والصمت) لما كان الفقه أي العلم الذي هو نور القلب لهدايته إلى عالم القدس (1) ومشاهدته ما في علم الغيب ورؤيته حقائق المعارف الحقيقية وصور المعقولات اليقينية أمرا خفيا على الناس ومتعذرا إدراكه بعيون الحواس كانت له علامات دالة عليه من باب دلالة الأثر على المؤثر:

منها: الحلم عن السفهاء والظلمة، وهو الأناة والرزانة وعدم حركة الجوارح إلى ما لا ينبغي أصلا كالضرب والبطش والشتم والمنازعة والمجادلة.

ومنها: الصمت أي السكوت عما لا يليق بالعقلاء وذوي المروءات من الكلمات الواهية والألفاظ اللاغية وإن كانت من المباحات، ووجه كونهما أثرين للفقه دالين عليه ظاهر لأن نور الفقه إذا اشتعل في القلب وأحاط به ليس له إلا هم بالسير إلى حضرة القدس وتجهيز سفر الآخرة وحمل ما يحتاج إليه من الضروريات ورفض ما يمنع عنه أو لا يحتاج إليه، ولا شبهة في أن الحلم والصمت مما يحتاج إليهما وإن ضديهما أعني السفاهة الناشئة من طغيان القوة الغضبية والتكلم بالكلمات الناشئة من فساد القوة العقلية مانعان من ذلك فلا محالة يرفضهما، وبحكم المقابلة السفاهة والتكلم بما لا يعني من علامات الجهل; لأن من تمسك بمقتضيات القوة الغضبية سلبت عنه الحقيقة الإنسانية ومن التزم التكلم بما لا يعني فسد قلبه، ولذلك

ص: 74


1- 1 - يعني ليس المراد بالفقه هنا علم الفروع بل المراد هو العلم الذي ينور القلب ويهديه إلى عالم القدس، وهذا العلم يوجب الصمت إلا عن الضروري وما لا بد منه من الكلام; إذ صاحب هذا العلم ليس من جنس هذا الخلق المنغمرين في الحياة الدنيا ولا ريب أن المكالمة والتآنس يتوقف على التقارب في الأخلاق والمآرب كما يصعب على الأطباء مؤانسة المعمارين مثلا ومؤانسة أهل كل صناعة مع أهل صناعة اخرى، وأيضا من علامته الحلم لأن الطيش والغضب من الجهل. (ش)

قال (صلى الله عليه وآله): «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (1).

* الأصل:

5 - أحمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد البرقي، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يكون السفه والغرة في قلب العالم».

* الشرح:

(أحمد بن عبد الله) وهو ابن بنت أحمد بن محمد البرقي.

(عن أحمد بن محمد البرقي، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يكون السفه) السفه بالتحريك بيخردى و سبكى، وأصله الخفة والحركة الغير المنتظمة وسخافة رأي يقتضيها نقصان العقل.

(والغرة) بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة: الغفلة والغار الغافل، ومنها أتاهم الجيش وهم غارون، أي غافلون.

(في قلب العالم) لأن قلب العالم كونه منارا لسراج الحقائق ومشكاة لأنوار المعارف والدقائق كامل في حد ذاته ناظر إلى الحق والباطل، ومائز بينهما، منزه عن النقصان فلا يتطرق إليه السفه الذي من لوازم ظلمة الجهل وتوابع نقصان العقل ولا الغرة التي هي الغفلة عن الحق والاغترار به والنوم في مهد الطبيعة وما يشاهد فيمن اختلس اسم العالم وجمع بين الرطب واليابس من تعاطيه أفعال الجاهلين واتصافه بصفات السفهاء وسمات الغافلين وجعله ذريعة في الركون إلى الدنيا والتقرب إلى الطواغيت الذين هم فراعنة هذه الملة وهو دليل واضح على أنه ليس بعالم في الحقيقة وإنما هو مغرور بتسويلات النفس وسامري هذه الامة.

* الأصل:

6 - وبهذا الاسناد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، رفعه قال: قال عيسى بن مريم (عليه السلام):

يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي؟ قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله! فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى (عليه السلام): بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل.

ص: 75


1- 2 - أخرجه أحمد بن وابن أبي الدنيا في الصمت وكلاهما من رواية علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس كما في الترغيب والترهيب ج 3، ص 528.
* الشرح:

(وبهذا الاسناد) قال المحقق الشوشتري: لم يظهر لهذا مرجع، وكان مقصوده أحمد بن عبد الله.

(عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، رفعه قال) فاعل قال غير معلوم.

(قال عيسى بن مريم (عليه السلام): يا معشر الحواريين) المعشر الجماعة، والجمع المعاشر. وفي الصحاح:

احور الشيء ابيض وتحوير الثياب تبييضها، وقيل لأصحاب عيسى (عليه السلام): الحواريون كأنهم كانوا قصارين يعني يحورون الثياب ويبيضونها وقال أبو عبد الله الآبي: حواري الرجل خاصته وناصره والمفضل عنده ويقال لكل ناصر نبي، حواريه تشبيها له بحواري عيسى (عليه السلام) وهو خاصته وناصره والمفضل عنده وخليله. وقال عياض مثله.

وقال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء (عليهم السلام) أي الذين أخلصوا من كل عيب، والدقيق الحواري الذي نخل مرة بعد اخرى حتى نقي.

(لي إليكم حاجة) حاجة مبتدأ وتنكيرها للتعظيم، و «لي» خبرها قدم عليها ليصح المبتدأ، وإليكم متعلق بها قدم للتعظيم لاشتماله على ضمير أحبائه وأنصاره أو للحصر مع ما فيه من حثهم وتحريضهم على قضائها ولذلك أردفه تأكيدا له بقوله:

(اقضوها لي) على سبيل الالتماس أو الدعاء.

(قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله) الظاهر أنه دعاء له بقضاء حاجته والتعبير عنه بالماضي للدلالة على وقوعه ويحتمل أن يكون إخبارا بأنهم قضوا حاجته والإتيان بصيغة المجهول دون قضينا رعاية للأدب وإظهارا لعجزهم وهضما لأنفسهم.

(فقام فغسل أقدامهم) وفي بعض النسخ: «فقبل أقدامهم» وإنما استأذنهم في هذا الفعل لأنه لو بادر إليه ابتداء من غير استئذان لربما منعوه تعظيما له، وإنما سماه حاجة لاهتمامه وترقبه في تحصيله ولتوقيره في نفوسهم ولاحتياجه إليه في تعظيمهم وتحصيل الأجر وكسر النفس وإذلالها وإظهار آثار ملكة التواضع وتعليمها، وهذا الفعل أبلغ من التعظيم بالقول:

(فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله!) لأن المريد المسترشد بالخدمة والتعظيم للعالم المرشد أولى من العكس قضاء لحق التعليم والإرشاد وأداء لما يقتضيه الشرف والكمال من التكريم والانقياد والنداء في الموضعين لمجرد التعظيم دون طلب الإقبال، وسمي (عليه السلام) بروح الله لأنه سبحانه خلقه بمجرد الإرادة بدون توسط بشر فقال:

ص: 76

(إن أحق الناس بالخدمة العالم) لا غيره لأن منشأ الخدمة والتواضع هو العلم بكثرة منافعهما وصفاء النفس ونورانيتها وتحليها بالفضائل وتخليها عن الرذائل من الكبر والفخر والبغض والحسد وغيرها، وهذا حال العالم بالله وباليوم الآخر (1)، فكل من هو أعلم وأفضل واتصافه بهذه الصفات أتم وأكمل فهو بالتواضع أحرى وأجدر، وإنما أتى بهذا الحكم على وجه يفيد الحصر وصدره بالتأكيد لدفع ما اعتقدوه من أنهم أحق بهذا منه، وقد مر الأمر بتواضع كل من العالم والمتعلم للآخر، وهذا الحديث يفيد أنه في العالم آكد وأولى ثم ذكر (عليه السلام) لهذا التوضاع فائدتين: إحداهما راجعة إليهم والاخرى راجعة إليه، فأشار إلى الفائدة الاولى بقوله:

(إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم) هذه الفائدة وإن علمت بمجرد فعله (عليه السلام) لكنه صرح بها حرصا على إظهارها ورفعا لاحتمال غفلتهم عنها وتأكيدا في المبالغة على فضيلة التواضع التي يتم بها نظام الدنيا والآخرة «وكي» حرف تعليل تفيد سببية ما قبلها لما بعدها وينتصب المضارع بعدها بنفسها أو على إضمار «أن» على قول، واللام الداخلة عليها زائدة للتأكيد، لأنها بمعناها و «ما» زائدة.

(ثم قال عيسى (عليه السلام)) للإشارة إلى الفائدة الثانية.

(بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر) تقديم الظرف يفيد الحصر والنفي بلا تأكيد للجزء السلبي، بين (عليه السلام) ذلك الحكم بالتمثيل تشبيها للمعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح والتقرير فقال:

(وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل) السهل نقيض الجبل يعني كما أن الأرض إذا كانت سهلة لينة تقبل نبات الزرع ونموه وإذا كانت صلبة حجرية جبلية لا تقبله كذلك القلب إذا كان سهلا لينا بالتواضع والرقة والشفعة يقبل نبات زرع الحكمة وإذا كان صلبا غليظا بالتكبر والتفاخر والخشونة ونحوها لا يقبله.

فإن قلت: هذا التمثيل يفيد أن الحكمة من آثار التواضع، وهذا ينافي ما ذكرت قبل من أن التواضع من آثار العلم والحكمة.

قلت: هذا التمثيل يفيد أن زيادة الحكمة ونموها من آثار التواضع وما ذكرناه آنفا هو أن التواضع من آثار

ص: 77


1- 1 - وأما غيره فيطلب العلم للفخر ويبغض ويحسد ويتكبر ويترأس ويماري ويجادل وغرضه الجاه والمال والعالم بالله واليوم الآخر يعرض عن الدنيا وزخارفها ويتجنب عن الرذائل; لأن جميعها ناشئة عن حب الدنيا. (ش)

أصل الحكمة فلا منافاة وليس هذا مختصا بالتواضع بل يجري في سائر الأخلاق والأعمال أيضا، وإن أردت زيادة توضيح فنقول:

للحكمة - وهي العلم بالحقائق والمعارف والأخلاق (1) - مراتب مختلفة في الشدة والضعف والكمية والكيفية والثبات وعدمه، كما أن لتلك المعلومات مراتب مختلفة وإذ القي بذر الحكمة الذي هو نور إلهي في القلب يهتدي القلب إلى الصفات الجميلة اللائقة به، وإلى الأعمال الصالحة المناسبة للجوارح، فإذا اتصف القلب بتلك الصفات واتصفت الجوارح بهذه الأعمال; لان القلب ورق وسهل وذل فحصل له حالة اخرى أشرف من الاولى فينبت بذر الحكمة وينمو ويزداد وهذه مرتبة اخرى من الحكمة موجبة لمشاهدة القلب حالة اخرى من الصفات ومنشأ لاتصافه بها، ثم هذه الحالة توجب قبول مرتبة اخرى من الحكمة أكمل من المرتبة المذكورة، وهكذا يتبادلان في التأثير إلى ما شاء الله.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عمن ذكره، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «يا طالب العلم إن للعالم ثلاث علامات: العلم والحلم والصمت، وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد) مجهول الحال.

(عمن ذكره، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم) النداء لفرد من هذا الجنس أي فرد كان، والغرض إحضاره وإيقاظه في سبيل طلب العلم وإرشاده إلى من ينبغي طلبه منه وتنفيره عمن ينبغي الاجتناب عنه.

(إن للعالم) يعني العالم الراسخ في العلم، وهو الرباني الذي يجب الاقتداء به والاهتداء بنوره، والاقتباس من مشكاة فضله.

(ثلاث علامات) يعرف هو بها.

(العلم والحلم والصمت) هنا إشكال، وهو أن العلم أمر قلبي لا يمكن الوقوف عليه إلا بعلامة، فالعلامة

ص: 78


1- 1 - الحكمة هنا علم الحكمة الاصطلاحي المنقسم إلى النظري والعملي، وأشار إلى الأول بقوله: العلم بالحقائق والمعاني وإلى الثاني بالأخلاق. (ش)

هذه دون العلم، وعلى تقدير الوقوف لا يصلح جعله علامة لأنه كتعريف الشيء بنفسه، والجواب: أن المراد بالعلم آثاره، أعني الأقوال والأفعال الواقعة على نهج الصواب، وبمثل هذا الجواب يندفع ما يمكن أن يقال من أن الحلم من الكيفيات النفسانية المستورة مثل العلم فكيف يجعل علامة له، ووجه الدفع: أن المراد به آثاره، أعني سكون الأعضاء وعدم حركتها بسهولة نحو الانتقام، وهذا الجواب أولى من الجواب بأن العلامة مجموع هذه الثلاثة من حيث المجموع، ولا يلزم منه أن يكون كل جزء علامة; لأن العلم إن لم يكن له مدخل في العلامة أصلا لا يفيد انضمامه كما لا يصح انفراده. ومن الجواب بأن المطلوب معرفة العالم الحقيقي الذي يصح الاقتداء به والعلم الذي هو إحدى علاماته ليس نفس العلم الذي هو به عالم حقيقي; فإن هذا العلم نور رباني يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده وذلك العلم كرشحة من بحر ذلك النور وقطرة منه، فيجوز أن يكون من جملة علاماته ولا يكون من باب تعريف الشيء بنفسه; لأن التفاوت بينهما مثل التفاوت بين القطرة والبحر، وذلك لأن دلالة هذا العلم الناقص على العلم الكامل الحقيقي ممنوعة كيف ولا دلالة للقطرة على البحث؟ على أن هذا الجواب لا يقطع مادة الإشكال بالكلية، فتأمل.

(وللمتكلف) بالعلم المنتسب إليه الذي جمع شيئا من أقوال العلماء ومذاهب الحكماء وأخذ الرطب واليابس من كل صنف ويتكلف ويدعي أنه عالم راسخ في العلم ويجعله وسيلة لتورط الشبهات وارتكاب الخصومات وذريعة لنيل الشهوات.

(ثلاث علامات: ينازع من فوقه) من أهل العلم الذي يجب عليه الإطاعة والانقياد له.

(بالمعصية) وعدم الإطاعة والانقياد، فكلما تكلم هذا العالم الفوقاني بالمعارف الإلهية والنواميس الربانية والأحكام النبوية وسطع نور من افق جنانه ولمع ضوء من مشرق لسانه، وظهر جوهر من معدن بيانه تصدى ذلك المتكلف لإطفائه بظلم الشبهات (1) وتعرض لإخفائه بأدخنة المزخرفات، وتلقى كسره بأحجار التخيلات، كل ذلك لتحصيل ما هو من أعظم مطالبه، وترويج ما هو من أفخم مآربه، وهو ظهور علو منزلته عند العوام ووضح سمو درجته عند اللئام باعتبار إلزامه أو مناظرته ذلك العالم النحرير واتصافه عندهم بكمال العلم وحسن التقرير.

ص: 79


1- 1 - المتكلف للعلم ليس مقصوده الأصلي هو العلم، بل هو وسيلة له يتوسل بها إلى الغرض الدنيوي، ولا يحصل له الكمال والفهم والتدبر بقدر من يكون غرضه الأصلي العلم; لأن الأول يقتصر في العلم على مقدار الضرورة ولا يجتهد كما يجتهد الثاني، وغرض الثاني العلم وهو مطلوبه وهمته عليه، فلا جرم يجد المتكلف في مخالفة العلماء والإنكار عليهم كل الجد حتى يخلو له وجه العوام. (ش)

(ويظلم من دونه) في العلم والمعرفة.

(بالغلبة) أي بغلبته عليه بالباطل الذي اقترفه ذهنه السقيم أو اكتسبه طبعه اللئيم مع عدم قدرة من دونه على إبطاله والتخلص عنه، أو المراد بظلمه له أنه يحقره ويجهله عند الناس ويسفهه في أعينهم وينسبه إلى قلة العلم والفهم والحماقة (1).

وأما القول بأن معناه يظلم من دونه في القدر والاعتبار بسبب الغلبة عليه بالمال والجاه ونحوهما لا بسبب الغلبة في العلم فهو بعيد في ذاته، مع أنه يوجب فوات المناسبة بين هذه الفقرة والفقرة السابقة; إذ الظاهر أن الفوقاني والتحتاني من جنس واحد لا أن أحدهما في العلم والآخر في المال كما ظن، ويؤيد ما قلناه أنه وقع في بعض النسخ «ويلزم» بدل «ويظلم»; لأن المتبادر من الإلزام هو الإلزام بالعلم لا بالمال، والمراد من هذه النسخة أن مقصوده مجرد إلزامه وإظهار جهله وسفاهته وقلة علمه ودرايته لا إظهار الحق.

(ويظاهر الظلمة) أي يعينهم على الظلم ويقويهم في أعمالهم وأقوالهم الفاسدة ويمدحهم على عقائدهم وأغراضهم الباطلة، ويجعل ذلك وسيلة للتقرب إليهم، ورفع المنزلة بين يديهم، والتفوق على الناس بسببهم وتحصيل الدنيا بوساطتهم (2).

والحاصل: أن المتكلف لما كان غاية مقصوده الوصول إلى الأغراض الدنيوية ونهاية مطلبه البلوغ إلى الأغراض النفسانية ورأى أن ذلك لا يتيسر له إلا بطلب المنزلة الرفيعة بين الناس والتمكن في قلوبهم

ص: 80


1- 2 - وليس من شأن العلماء أن يستحقروا من دونهم لأن العالم يعلم أن الناس لا يزالون مختلفين ودرجاتهم لا تكاد تنحصر، وكما يحتاج الناس إلى الكامل في العلوم يحتاجون إلى من هو دونه. (ش)
2- 1 - هذا من شر صفات المتكلفين الطالبين العلم للدنيا فإنهم إذا رأوا حصول مطلوبهم بمعاونة الظلمة لم يبالوا بها، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، فإذا حصل لهم مقصودهم بالظلمة تقربوا إليهم. ولا يخفى أن غرض الأنبياء والأوصياء لا يجامع أغراض الظلمة; لأنهم (عليهم السلام) بعثوا لتعظيم حقوق الأفراد ومنع الأقوياء عن التعدي ومنع الضعفاء عن الخيانة، والظلمة يدينون بتجويز منع الناس عن حقوقهم، فلا بد للعالم المتصدي لترويج طريق الأنبياء التبرئ عن الظلمة والتظاهر بالمخالفة عليهم حتى يعرفهم الناس بعدم موافقتهم ويعلموا أن طريقة الأنبياء غير طريقتهم. وأما العلامة الحلي والمحقق الكركي وشيخنا البهائي وأمثالهم فقد تقربوا إلى السلاطين لترويج مذهب الشيعة لا لإعانتهم في الظلم، وبالجملة: من أعظم حاجات الناس وجود من يدفع الظلم عنهم، وليس من يتوقع منهم ذلك إلا علماء الدين، فعلى الناس أن يعظموهم في أعين الظلمة حتى يخافوهم ويأخذ هيبتهم قلوبهم وعلى العلماء أن يجتهدوا في دفع ظلمهم وإعانة المظلومين عليهم، ويتوسلوا إلى ذلك بجاههم الحاصل بإقبال الناس عليهم، فإن أعرض الناس عن العلماء أعانوا على أنفسهم بتجرئة الظلمة عليهم. (ش)

والتفوق عليهم ارتكب الامور المذكورة ليصير مشارا إليه بالبنان، ومشهورا بالفضل والبيان، وينقاد له العوام، ويذعن له اللئام، وتتهيأ له بالسهولة مطالبه، وتحصل له كما ينبغي مقاصده ومآربه، وهذا وإن كان يمدحه الجاهلون لكن يذمه العارفون والعالمون ويلعنه الملائكة المقربون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

ص: 81

باب حق العالم

* الأصل:

1 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال، ولا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونهم، واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك، ولا تشر بيدك، ولا تكثر من القول: قال فلان وقال فلان، خلافا لقوله، ولا تضجر بطول صحبته، فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شيء والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله».

* الشرح:

(علي بن محمد بن عبد الله) وجه من وجوه أصحابنا، ثقة.

(عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن سليمان بن جعفر الجعفري) من أولاد جعفر الطيار (رضي الله عنه) ثقة من أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام).

(عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال) لما كان العالم أبا روحانيا لك وله عليك حق التقدم والتعليم والتربية حيث يشفيك عن أسقام الضلالة والجهالة، وينجيك من آلام الغباوة والغواية، ويهديك إلى مجاورة المقدسين، ويدعوك إلى مصاحبة المقربين وجب عليك تعظيمه وتوقيره ورعاية أدبه وترك الإكثار في السؤال مطلقا، سواء كان زائدا على القدر الذي تحمل به أو تحفظه أو تضبطه أو لا، وسواء كان قصدك في الإكثار نفاد ما عنده أو إظهار خطئه أو عجزه أو لا; لأن ذلك قد يؤذيه ويؤلمه إلا أن تعلم أنه يريد ذلك، ومن جعل لفظ «عليه» متعلقا بالسؤال وجعل «على» للضرر، وقال: المراد بالسؤال عليه الإيراد والرد عليه، يرد عليه: أن السؤال على هذا الوجه قليله وكثيره، سواء في تعلق النهي به فلا وجه لتعلقه بالإكثار فقط.

ص: 82

(ولا تأخذ بثوبه) لا في وقت السؤال ولا في غيره; لأن ذلك استخفاف له وسوء أدب منك.

(وإذا دخلت عليه وعنده قوم فسلم عليهم جميعا وخصه بالتحية دونهم) بأن تخاطبه وتقول:

السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا فلان، وتسميه بأشرف أسمائه وتصبر حتى يرد عليك السلام، ثم تخاطب القوم وتقول: السلام عليكم، وقد فعل مثل ذلك بعض الصلحاء المقربين حين دخل على الباقر (عليه السلام) وعنده جماعة كثيرة، أو تقول: السلام عليك وعليك خصوصا يا فلان، أو تقول:

السلام عليكم جميعا والسلام عليك يا فلان، أو تقصدهم جميعا بالسلام وتخصه بالثناء والمدح بعد السلام، وفيه ترجيح العلماء والفضلاء بزيادة المدح والثناء كما كان ذلك شأن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) حين كانوا يدخلون عليهم وعندهم جماعة.

(واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه) لما فيه من صعوبة نظره إليك وحرمانك عن شرف مواجهته ومشافهته والنظر إلى وجهه، وقد ورد «أن النظر إلى وجه العالم عبادة» (1)، وأيضا في الجلوس بين يديه رعاية الأدب; لأنه مجلس الخدم والعبيد والجلوس على اليمين واليسار داخل في الجلوس بين اليدين بقرينة تخصيص النهي بالخلف، ويحتمل أن يكون الجلوس في اليمين واليسار مثل الخلف لما فيه أيضا من صعوبة النظر وسوء الأدب، وقال أبو عبد الله الآبي - وهو من مشاهير العامة -: ينبغي أن لا يجلس على يمين الاستاذ إلا بإذن مقال أو حال، وقد جرت العادة بإقامة من لا يستحق ذلك.

(ولا تغمز بعينك) أي لا تغمزه أو لا تغمز أحدا من أهل مجلسه، من غمزه بالعين أو بالحاجب من باب ضرب إذا أشار إليه بهما فحذف المفعول لكثرة الفائدة وشمول جميع الاحتمالات، ويحتمل أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم قصدا لنفي أصل الفعل ومثله قوله:

(ولا تشر بيدك) أي لا تشر بيدك إليه أو إلى أحد من أهل مجلسه لا للرمز ولا لغيره لما في الإشارة باليد والغمز من الاستخفاف به وترك تعظيمه وتبجيله وعدم رعاية الأدب معه.

(ولا تكثر من القول: قال فلان وقال فلان، خلافا لقوله) لأن فيه إيذاء له وترك تعظيمه وتوقيره، ومثله ما روي أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تجعلن بلاغة قولك على من سددك» (2)، يعني من يهديك إلى السداد والصواب لا تعارضه بفصاحة كلامك بل أطرق رأسك واسمع قوله بسمع قلبك إذا أردت معرفة ما

ص: 83


1- 1 - في نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال (صلى الله عليه وآله): «النظر في وجه العالم حبا له عبادة».
2- 2 - في النهج - أبواب الحكم، تحت رقم 411، قال (عليه السلام): «لا تجعلن ذرب لسانك على من أنطقك، وبلاغة قولك على من سددك».

عنده، ولما نهى (عليه السلام) عن إكثار السؤال على العالم وأخذ العلوم منه دفعة وفي زمان قليل حث على طول مصاحبته واستمرار ملازمته وأخذ ما فيه على سبيل التدريج بقوله:

(ولا تضجر بطول صحبته) الضجر القلق وقد ضجر فهو ضجر، وعلل ذلك بالتمثيل لإيضاح المقصود فقال:

(فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شيء) تنتفع به فكما أنك لا تحرك النخلة ولا تعلوها ولا تعطف أغصانها ولا تكسرها قبل أوان بلوغ ثمرتها بل تنظر بلوغ ثمرتها وبذلها لتلك الثمرة في وقتها فكذلك ينبغي أن لا تحرك العالم ولا تضطربه بكثرة السؤال ولا تكسر قلبه بالاقتراح والالحاح، بل لا بد من أن تنتظر حتى يبذلك العلم في وقته، ولا تضجر بطول الانتظار فإنه إذا وقع الانتظار لثمرة النخلة لأجل حياة البدن التي هي الحياة الزائلة الفانية فلا بد من الانتظار لثمرة العلم لأجل حياة القلب التي هي الحياة الباقية الأبدية بالطريق الأولى، ففيه مبالغة على لزوم الوقوف عند العلماء وترك الالحاح على السؤال.

(والعالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله إن شاء الله) (1); لأن العلم من الصفات الكاملة الروحانية، وهذه من الأعمال الفاضلة البدنية، والتفاوت بينهما مثل التفاوت بين الروح والبدن، وأيضا هذه الأعمال من فروعات العلم وتوابعه ولا خفاء في مزية الأصل على الفرع، وأيضا منافع الصوم والقيام بالعبادة إنما تعود إلى الصائم والقائم ومنافع العلم تعود إلى العالم وغيره إلى يوم الدين، فإنه يقيم نفسه وغيره بالعقائد الصادقة والأخلاق الفاضلة ويطهرهما عن القبائح كل ذلك بالدليل القاطع والبرهان الساطع والغازي يدفع تسلط الكفرة على المسلمين والعالم يدفع شبههم المبطلة لأصل الدين فأجر العالم أعظم من أجر الغازي، والحوالة على المشية كما تكون فيما يترقب وقوعه (2) مثل أفعل غدا إن شاء الله، كذلك تكون فيما يتحقق وقوعه قطعا مثل فعلت كذا إن شاء الله، وذلك للتبرك والتنبيه على أن الأمر الواقع إنما وقع بمشيته تعالى; لأن كل ما هو كان وما هو كائن وما يكون فهو بمشيته سبحانه.

ص: 84


1- 1 - كذا في جميع النسخ التي بأيدينا، والظاهر أن في نسخة المؤلف زيادة «إن شاء الله»، وليست في النسخ التي عندنا من الكافي، ورواه البرقي في المحاسن ص 233 بدون تلك الزيادة والمفيد في الإرشاد أيضا.
2- 2 - والأجر مما يتوقع حصوله في المستقبل.

ص: 85

باب فقد العلماء

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخراز) بالخاء المعجمة والراء المهملة، وقيل المعجمة والزاي المعجمة بعد الألف اسمه إبراهيم بن عيسى، وقيل ابن زياد، وقيل ابن عثمان، وفي «صه» ثقة.

(عن سليمان بن خالد) بن دهقان ثقة صاحب القرآن.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه) المفضل مقدر تقديره ما من موت أحد أو مستفاد من المقام من غير تقدير فلا يرد أن المفضل ليس من جنس المفضل عليه وإنما قيد الأحد بالمؤمنين لأن إبليس لا يحب موت الكافرين بل يغتم لأنهم من أعوانه وأنصاره، ولأن بقاءهم موجب لزيادة عقابهم فيحب بقاءهم.

فإن قلت: هذا الحديث لا يدل على أن موت الفقيه أحب إليه من موت غيره; لأن فيه نفي لتفضيل موت غيره على موته ولا يلزم منه تفضيل موته على موت غيره.

قلت: عدم الدلالة بحسب الوضع مسلم لكنه لا يضر لحصول الدلالة بحسب العرف كما في قولنا: ما من أحد في البلد أفضل من زيد إذا كان المقصود أن زيدا أفضل من غيره وسبب محبته - لعنه الله - موت المؤمن مع أنه لا شيء أشد عليه من خروج أحد من الدنيا مع الإيمان أن بقاء المؤمن وإكثاره للأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة موجب لزيادة تقربه بالروحانيين ودخوله في زمرة المقربين وزيادة حسناته ورفع

ص: 86

درجاته إذا مات انقطع عمله فلذلك يحب موته لينقطع عمله ويحرم عن فضيلة تلك الزيادة، وأيضا بينهما عداوة شديدة ومجادلة عظيمة والغلبة للمؤمن فهو يحب موته ليتخلص من غلبته وأيضا هو وإن كان مأيوسا من التصرف في المؤمن لكن يحمله شدة الحرص على تحمل المشقة في إغوائه، فإذا مات فرغ من تحمل تلك المشقة الغير النافعة، وأيضا المؤمن ناصر للمؤمن ومعين له فيحب ذلك الخبيث موته ليبقى المؤمن بلا ناصر، وأما سبب زيادة محبته موت الفقيه فهو أن الفقيه روح قلوب المؤمنين إذ به حياتهم وهدايتهم إلى زمرة القديسين وفرقة المقربين وحصنهم; إذ به نجاتهم عن سنان غوائل الأعادي وسهام مكائد الشياطين وقائدهم في بيداء الطبيعة، إذ به رشادهم إلى الأخلاق والكمالات البشرية وأعمال الصالحين وحافظهم; إذ به خلاصهم عما يضعه إبليس من شرك الشرك وحبالة البدعة لاصطياد الناس أجمعين، فإذا مات ذلك الفقيه فكأنه مات بموته جميع المؤمنين لخروج روحهم عن أجساد قلوبهم وانهدام حصنهم وموت قائدهم وفقد حافظهم، فيبقون متحيرين لا يجدون إلى سبيل الحق دليلا ولا إلى منزل القرب سبيلا فيستولي عليهم خيول إبليس وجنوده الغاوين ولا شيء أحب من هذا عند ذلك الخبيث اللعين.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه) ذهب جماعة من الاصوليين إلى أن ابن أبي عمير لا يرسل إلا عن ثقة ورده المحقق وصاحب المعالم بأن المطعون في رجاله كثير، فإذا ارسل يحتمل أن يكون المطعون أحدهم، وأجاب عنه الشيخ بهاء الملة والدين بأن هذا لا يقدح إذ المنقول عدم إرساله عن غير الثقة لا عدم روايته عنه، وفيه نظر ذكرناه في موضعه من كتب الاصول.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء) الثلمة بالضم فرجة المهدوم والمكسور والخلل الواقع في الحائط وغيره، وفيه استعارة مكنية وتخييلية لشتبيه الإسلام بالبناء كما في قوله (عليه السلام): «بني الإسلام على خمس» (1)، وإثبات الثلمة له ووقوع الثلمة في الإسلام بموت الفقيه ظاهر; لأن الإسلام مجموع العقائد الحقة العقلية والقوانين الكلية الشرعية والعالم بها والحافظ لها بالبراهين

ص: 87


1- 1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر (باب دعائم الإسلام).

والدافع عنها شبه المنكرين هو الفقيه الرباني، فإذا مات وقع فيها ثلمة يتوجه إليها خيول أوهام الضالين المضلين ويدخلونها بلا مانع ولا دافع ويفعلون ما يريدون فتتغير بذلك تلك القواعد والقوانين آنا فآنا وينثلم شيئا فشيئا إلى أن يندرس بالكلية.

فإن قلت: ثلم قد يجيء متعديا تقول: ثلمت الشيء أثلمه فانثلم من باب ضرب، وقد يجيء لازما تقول: ثلم الشيء يثلم من باب علم فهو أثلم بين الثلم فأي المعنيين مراد هنا؟ قلت: يحتمل أن يكون ثلم هنا لازما وثلمة فاعله، أي وقع في الإسلام ثلمة، ويحتمل أن يكون متعديا وفاعله ضمير فيه يعود إلى الموت وثلمة مفعوله.

فإن قلت: يجوز أن يوجد بدلا لمن مات فقيه آخر يسد الثلمة؟ قلت: الثلمة الحاصلة بموت الفقيه التي هي عين موته في الحقيقة; لأنه كان حصنا للإسلام وأهله لا يسدها شيء قطعا، بل لا يمكن سدها أبدا، ولو وجد فقيه آخر كان حصنا آخر غير الحصن المهدوم، وقيل في الجواب عنه: اللام في المؤمن الفقيه للجنس وقد ثبت أن رفع الجنس موجب لرفع جميع أفراده، فكذا حكم الموت; لأنه عدم، وفيه نظر لأن المقصود من الحديث بيان وقوع الثلمة بموت كل واحد من أفراد المؤمن الفقيه لا بموت مجموع الفقهاء، فليتأمل.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء; لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: إذا مات المؤمن) لا يبعد تقييده بالفقيه، كما يرشد إليه آخر الحديث:

(بكت عليه الملائكة) قيل: الملائكة أجسام لطيفة، وقيل: إنهم روحانيون منزهون عن الجسمية (1) ولا

ص: 88


1- 1 - أما من قال: إنهم أجسام لطيفة فنظر إلى ما ورد في الكتاب والسنة من وصفهم بصفات الأجسام كالنزول والصعود وكونهم اولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وكونهم بحيث لا يراهم أحد إلا الأنبياء والأولياء، ولولا لطافتهم لرآهم جميع الناس، ومن قال: إنهم منزهون عن الجسمية نظر إلى وصفهم بصفات يستحيل ثبوتها للأجسام مثل عدم تزاحمهم في الأمكنة ودخولهم مكانا لا منفذ له كبيت مغلق، وتمكنهم في مكان ضيق كمقام ملكين على طرفي فم الإنسان يكتبان ما ينطق به وغير ذلك مما لا يحصى. والحق أن أصل وجودهم روحاني مجرد كالإنسان فإنه إنسان بروحه المجردة وله تعلق ببدن، وكذا للملائكة تمثل بصورة مع تجردهم يراهم الأنبياء والأولياء بتلك الصورة كما تمثل لمريم بشر سويا، وقال تعالى: (لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا)، وهذه الصورة المتمثلة توصف بصفات الأجسام كالأجنحة ولا يمتنع عليها ما يمتنع على الأجسام المادية كالتزاحم والدخول في بيت مغلق، وإذا كانت الصور المنامية تتصف بصفات الأجسام كما قال تعالى: (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف)، و (أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) فما يراه الأنبياء يقظة أولى بأن يتصف بها، ولا يوجب الاتصاف بها كونها أجساما مادية. (ش)

يبعد تخصيصهم بالكتبة لأعماله والحافظين لها والصاعدين بها إلى محل القبول والثبت كما يشعر به تقييد أبواب السماء بمصعد عمله، ويحتمل إرادة جميعهم أيضا، ولعل وجه بكائهم مع أن المؤمن إذا مات فرغ من التعب والآلام الدنيوية وخرج من السجن إلى النعيم واللذات الدائمة الاخروية امور:

الأول: طول مصاحبتهم له في هذه الدار وكمال انسهم به في هذا البدن فيشد عليهم مفارقته.

الثاني: فراغهم عن كتب حسناته الموجبة لرفع درجاته.

الثالث: انقطاع إعانته للمؤمنين وزوال نصرته لهم.

الرابع: مقاساته لكرب الموت وتحمله لشدائده واشتد ذلك عليهم فبكوا لأجله ترحما له.

(وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها) الموصول مع صلته إما صفة للبقاع أو صفة للأرض، وعلى التقديرين «يعبد» إما مبني للفاعل وفاعله ذلك المؤمن أو مبني للمفعول، فهذه احتمالات أربعة، فعلى الاحتمال الأول يكون البكاء مختصا بالبقاع التي هي مصلاه ومعبده في وقت من الأوقات أو في غالبها كما يشعر به لفظ كان، وعلى الاحتمالات الثلاثة الأخيرة يكون البكاء عاما لجميع البقاع وإن لم تكن مصلاه وقتا ما ووجه بكائها عليه محبتها له وفقدها لعلمه ومشيه على ظهرها ووجدها وحزنها على مفارقته.

(وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله) فيه رد على الفلاسفة القائلين بأن الأفلاك متصل واحد لا يقبل الخرق (1)، والقول بأن المراد بأبواب السماء ما يوصل أعماله إلى مقرها من العلويات ويكون وسيلة

ص: 89


1- 1 - من الوساوس الشيطانية الموجبة لتضليل الجهال وتشكيكهم في العقائد الدينية خلط اصطلاحات الفلسفة فيها فإنه مزلة خطرة فإذا سمع الجاهل هذا الحديث وأن العمل ترفعه الملائكة إلى أبواب السماء وتعرج به من تلك الأبواب إلى الله تعالى، فأول ما يتشكك فيه أن العمل ليس جسما يرفع وينقل من مكان إلى مكان، بل هو حركات وأقوال لا يبقى أصلا ولو سلم فليس للسماء باب بل هي مصمت ومتصل واحد لا منفذ فيه ولا يقبل الخرق والالتئام، ولو كان الموسوس من مقلدة عصرنا ليقولن ليس للسماء وجود أصلا، وإنما كان الاعتقاد بالسماء مذهب بطلميوس، وقد بطل بالهيئة الجديدة، ثم لا فائدة في رفع العمل إلى السماء مع أن الله تعالى في كل مكان، والجواب: أن الله تعالى ليس له مكان ولكن لما كانت السماء تدل على العلو والله متعال عن كل نقص ناسب عند ذكره ذكر السماء، ولو قال أحد: إن الله تحت قدمي فقد أساء الأدب، وإن كان قوله صحيحا مثل أن يقول: فوق رأسي، ورفع العمل إلى السماء عبارة عن تقريبه إلى الحق وقبوله، وهذا كما قال تعالى: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة) وليس السماء هنا ما كان يعتقده بطلميوس بل هي تعبير عن العالم الأعلى ولا يجوز حمل كلام الإمام على اصطلاح الفلاسفة. (ش)

لانضباطها ملكا كان أو روحا أو نفوسا كاملة شريفة قدسية أو نفسا علوية وإن كان محتملا لكنه بعيد جدا ويجري في الموصول الاحتمالان المذكوران، وجاء هذا الحديث في كتاب الجنائز بإسناد آخر وفيه: «يصعد فيها أعماله» بدون الباء، والوجه في بكائها مثل ما مر، ويمكن أن يقال الوجه فيه وفيما سبق: إن المؤمن الفقيه ينظر بعين البصيرة إلى ما في عالم الجسمانيات والمجردات ويعرف حقائقها وأحوالاتها ثم ينتقل ذهنه الذكي إلى عالم الربوبية وعالم التوحيد ويشاهد ما فيه من الحقائق الصافية عن الكدورات المطهرة عن أدناس الأوهام والتخيلات فهو يسافر بقدم الأفكار من الخلق إلى الحق فيكون لكل موجود في عالم الأرض والسماء، سيما الامور المذكورة رابطة معنوية وعلاقة طبيعية إلى ذاته، فإذا مات بكى عليه من شدة الحزن وغلبة الوجع، ثم إنه يمكن أن يكون بكاء هذه الامور محمولا على الحقيقة كما قيل مثل ذلك في تكلم الكعبة ونطق جوارح الإنسان يوم القيامة وتكلم بعض الأحجار إلى غير ذلك، ولا يبعد ذلك بالنظر إلى قدرة الباري وإقداره عليه.

وقيل: أراد المبالغة في تعظيم شأن المؤمن; لأن العرب كانت تقول في عظيم القدر إذا مات تبكيه السماء والأرض مبالغة في عظم قدره (1).

وقيل: إطلاق البكاء على بقاع الأرض وأبواب السماء مجاز في فقدهما لما ينبغي أن يكون فيهما من مساجد المؤمن ومصاعد أعماله، فإن من فقد شيئا يحبه وينبغي له يبكيه فأطلقه عليه إطلاقا لاسم الملزوم

ص: 90


1- 1 - ومثله في الفارسي أيضا، مثاله في العربية قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع وقول الفرزدق أو جرير: والشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقال في الفارسية: ماتم سراى گشت سپهر چهارمين * روح الأمين بتعزيت آفتاب شد گردون سر محمد يحيى بباد داد * محنت رقيب سنجر مالك رقاب شد وأما سائر التوجيهات فتكلف.

على اللازم.

وقيل: أراد بكاء أهل بقاع الأرض وأهل أبواب السماء من الملائكة والأرواح المقدسة والنفوس المجردة وغيرها - بحذف المضاف - وهم يبكون عليه تأسفا وتحزنا.

(وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء) وقد علل الجميع أو الأخير فقط بقوله:

(لأن المؤمنين الفقهاء) وهم العارفون بالمعارف الإلهية والعالمون بالشرائع النبوية والخالصون من الصفات الذميمة النفسانية والمنزهون عن الصفات الرذيلة الشيطانية والجامعون بين المعقول والمنقول (1) والقادرون على ربط الفروع بالاصول والآخذون بأيدي القوة القدسية ربقة البدائع وأعناق الأسرار والطائرون بأجنحة الهمة العالية إلى حظائر القدس ومنازل الأبرار.

(حصون الإسلام) الحصون جمع الحصن، بكسر الحاء. وفي المغرب: هو كل مكان محمي محرز لا يتوصل إلى ما في جوفه. وفي الكلام تشبيه بليغ بحذف الأداة وإنما شبههم بالحصون لأنهم يحفظون الإسلام بتسديد عقائده وتقويم قواعده ويذبون عنه وعن أهله صدمات الكافرين وشبهات الظالمين ويقطعون عنه أسنة مكايد الشياطين وألسنة مطاعن الطاعنين، ويمنعون من دخول شيء خارج عنه ومن خروج شيء داخل فيه بأسنة لسانهم وحدة أذهانهم وقوة عقولهم وذكاء قلوبهم.

(كحصن سور المدينة لها) فإنه يدفع عن أهلها غوائل الأعادي والطغاة ويمنع عنهم هجوم الخصوم والعصاة، والحصن هنا أيضا بكسر الحاء، والسور حائط المدينة والإضافة بيانية، والمقصود أنهم حصون الإسلام كما أن سور المدينة حصن لها، ويحتمل أن يكون بضم الحاء بمعنى المنع مصدر حصن ككرم والإضافة من باب إضافة المصدر إلى الفاعل فإنه لما شبههم بأنهم حصون للإسلام شبه منعهم عن أهله بمنع سور المدينة عن أهلها.

* الأصل:

4 - وعنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه».

* الشرح:

ص: 91


1- 1 - إنما قال ذلك لئلا يتوهم أن المراد بالفقهاء المقتصرون على الفروع والمكتفون بالمنقول التاركون للمعقول; لأن الفقه في اصطلاح الكتاب والسنة أعم منه في اصطلاح المتأخرين. (ش)

(وعنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب الخراز، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه) لأن الفقيه رئيس المؤمنين وأميرهم يسوقهم إلى سبيل الحق وشأن إبليس إضلالهم عنه فهو يحب موته أشد محبة ليجري عليهم أمره بلا معارض، وأما غير الفقيه من المؤمنين فلما لم يكن لهم بالفعل رتبة الهداية والإرشاد والإمارة مثل الفقيه بل إنما هي لهم بالقوة فلذلك يحب موتهم أيضا، لكن لا مثل محبته موت الفقيه.

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن داود ابن فرقد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن أبي كان يقول: إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعد ما يهبطه، ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم فتليهم الجفاة فيضلون ويضلون ولا خير في شيء ليس له أصل».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم) ثقة من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام).

(عن داود بن فرقد) ثقة.

(قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أبي كان يقول: إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعد ما يهبطه) إلى قلوب صافية طاهرة ذكية قابلة للعروج إلى معارج الحق يعني لا يمحوه عنها بعد ما نورها به كمحو الحال عن المحل، ولا يجعلها جاهلة، ويمكن أن يكون المراد أنه لا يقبض العلم من بين الناس بعد نزوله إليهم ولا يترك كلهم جاهلين، بل يكون فيهم من يعلمه على وجه الكمال، ثم أشار إلى كيفية قبضه بعد هبوطه بقوله:

(ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم) يعني يقبض العلماء مع علومهم جميعا من غير أن يزول العلم عنهم وبعد انقراضهم عن هذه الدار وذهابهم مع العلم يبقى الناس متحيرين.

(فتليهم الجفاة) أي يصيروا إليهم صاحب التصرف في امور دينهم ودنياهم، وفي بعض النسخ:

فتامهم الجفاة، وهي جمع الجافي من الجفاء، وهو الغلظة والخرق التابعان للجهل يعني يتعاطى الجهال وأصحاب القلوب القاسية الذين لا يهتدون إلى سبيل الهداية أصلا ولا يعلمون طريق الصواب قطعا مناصب العلماء في الفتيا والتعليم فيفتون بمقتضى آرائهم السقيمة.

(فيضلون) عن دين الحق.

ص: 92

(ويضلون) الناس عنه فيقع الهرج والمرج وينتشر الظلم والجور ويرجع الناس إلى الجور بعد الكور، وقد ظهر ذلك في هذا الزمان إذ قد ولي الفتيا والتدريس كثير من الجهال والصبيان وتولى القضاء والحكومة جماعة من أهل الجور والطغيان (1) نعوذ بالله من غوائل هؤلاء العصاة ومن مخائل اولئك الغواة.

(ولا خير في شيء ليس له أصل) أصل جميع الخيرات دنيوية كانت أو اخروية هو العلم وإذا انتفى العلم وشاع الجهل انتفت الخيرات كلها، وفيه إخبار بأن مبدأ جميع الخيرات هو العلم كما قال سبحانه: (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا)، فإذا ذهب العالم بعلمه ذهب بجميع الخيرات، وحمله على الدعاء بعيد جدا، ونظير هذا الحديث موجود في كتب العامة بطرق متعددة، منها: ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (2).

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عمن ذكره، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول:

إنه يسخى نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)، وهو ذهاب العلماء».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد) يعني ابن عيسى.

(عن محمد بن علي) يعني ابن النعمان البجلي أبا جعفر مؤمن الطاق.

(عمن ذكره، عن جابر) بن يزيد الجعفي، جعفي أبو قبيلة من اليمن، وهو جعفي بن سعد العشيرة ابن مذحج، والنسبة إليه كذلك، وفي جابر مدح وتوثيق وذم من أراد الاطلاع عليه فليرجع إلى كتب الرجال (3).

ص: 93


1- - لو كان الشارح (رحمه الله) رأى زماننا لم يشك من زمانه، ولعل من يأتي بعدنا يغبط زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (ش)
2- 1 - صحيح مسلم ج 8، ص 60 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
3- 2 - اختلاف الناس في جابر بن يزيد لا يوجب عدم الاعتماد على هذا الحديث، فإن متنه لا يخالف شيئا معلوما، ومضمونه صحيح معلوم، فإن أراد أحد الاستدلال به على عدم خوف الأئمة من الموت والقتل فهو صحيح، وإن أراد الاستدلال به على أن المراد من الآية الكريمة سرعة الموت فيهم فلا يخالف أمرا معلوما، وإن لم يدل عليه بوجه واختلف العامة في جابر وثقه بعضهم وضعفه آخرون، وكذلك علماؤنا. وقال ابن الغضائري: ثقة في نفسه، ولكن جل من روى عنه ضعيف. (ش)

(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه) الضمير للشأن.

(تسخى نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها)) حال عن الفاعل أو بيان لنأتي.

((من أطرافها)) أي نواحيها.

(وهو ذهاب العلماء) من جعل تسخى على وزن ترضى من المجرد وجعل نفسي فاعله ورد عليه: أن سخاوة النفس فيما ذكر وقبولها إياه تامة لا يحتاج إلى ما بعده فلا يظهر لقوله: «قول الله» محل من الاعراب فاضطر إلى أن جعله مبتدأ وفينا خبره فورد عليه: أن هذا الكلام لا يظهر ارتباطه بما قبله ثم اضطر إلى أن قال: تسخى بمعنى تترك من سخيت نفسي عن الشيء بمعنى تركته، وقوله:

فينا قول الله» في قوة لكن فينا قول الله، ومعناه أنا لا نسارع إلى الموت والقتل مع زهادة أنفسنا في هذه الحياة الظاهرية إشفاقا على الناس من ذهاب العلم عنهم ووقوع النقص في أرضهم، لكن قول الله عز وجل فينا ذلك، جعل أنفسنا راضية في سرعة قبول الموت والقتل، والحق أن يسخي بتشديد الخاء من باب التفعيل والسخاوة الجود و نفسي» مفعوله و «قول الله» فاعله و «فينا متعلق بالسرعة، يعني مضمون هذه الآية وهو إتيان الله تعالى الأرض، ونقص أطرافها المراد به ذهاب العلماء يجعل نفسي سخية جوادا في قبول سرعة الموت والقتل فينا أهل البيت راغبة فيه.

ويؤيد تفسير نقص الأرض بذهاب العلماء ما نقل عن ابن عباس في تفسير هذه الآية من أن المراد بنقص الأرض من أطرافها موت أشرافها وكبرائها وعلمائها، وذهاب الصلحاء والأخيار.

فإن قلت: ما المراد من نقص الأرض من أطرافها ولم كان ذهاب العلماء سببا له؟ قلت: الله يعلم كما كان وجود العلماء سببا لعمارة الأرض ونظام أهلها بارتكابهم لما ينبغي واجتنابهم عما لا ينبغي من الأعمال والأخلاق كذلك ذهاب العلماء سبب لخراب الأرض وانتفاء نظام أهلها أو ارتكابهم لما لا ينبغي واجتنابهم عما ينبغي وذلك يوجب تفشي الظلم والجور، وهذا هو المراد بالنقص المذكور.

فإن قلت: لم كان مضمون الآية سببا لصيرورة نفسه القدسية سخية في الأمر المذكور؟ قلت: أولا: العلماء الكاملين، سيما الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يحبون بقاءهم في الدنيا لا لركونهم إليها وحبهم

ص: 94

لها بل لهداية أهلها وتكميل نظامهم رأفة بهم وشفقة عليهم، فإذا تعلق إرادة الله سبحانه ضلالتهم وفسادهم بسبب من الأسباب بذهاب العلماء رضوا بقضائه أشد الرضا ترجيحا لإرادته على إرادتهم وجادوا بنفوسهم من صميم القلب طلبا لمرضاته.

وثانيا: أن هذا الكلام منه (عليه السلام) ترغيب للمؤمن إلى الرضا بالموت أو القتل في تلك الحالة، أعني حالة أخذ العلماء وقبض نفوسهم الشريفة النورانية وإذهابهم عن وجه الأرض; لأن الأرض حينئذ ناقصة مظلمة مكدرة بالظلم والجور والفسق والشر ولا شبهة في أن موته في تلك الحالة ورجوعه إلى حضرة القدس خير له من بقائه فيها.

وقيل: السبب لذلك هو أن الآية دلت على أن الله تعالى هو المباشر المتولي لتوفي العلماء وقبض أرواحهم إليه وأشرف العلماء هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) فلذلك سخوا بنفوسهم ورضوا بسرعة موتهم حبا لذلك وشوقا إليه، وفيه نظر لأن الإتيان عليه سبحانه محال، فالمراد إتيان الملائكة الموكلين بقبض الأرواح بأمره وإنما نسب الفعل إلى الآمر مجازا كما هو الشائع.

هذا، وقال الواحدي وتبعه القاضي وغيره: المراد بالأرض أرض الكفرة، والمراد بنقصها من أطرافها فتحها على المسلمين منها لأنهم استولوا على أطراف مكة وغيرها وأخذوها من الكفرة قهرا أو جبرا (1)، وقال الرازي: يليق أيضا أن يكون معناه أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغييرات محسوسة مشاهدة فما الذي يؤمن الكفرة أن يقلب الله الحال عليهم بأن يجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين؟ وقال بعض المفسرين: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث أمثال هذه الوقائع فيهم؟

ص: 95


1- 1 - هذا هو الظاهر من الآية، والغرض منها دعوة الكفار إلى ترك اللجاج والعناد والتعصب بأن البلاد دخلت تدريجا في حيطة الإسلام وذكر موت العلماء ونقص العلم يناقض هذا الغرض، فإن قيل: كيف حكمت أولا بأن تفسير جابر لا يخالف أمرا معلوما مع أنه يخالف ظاهر الآية؟ قلنا: ما حكمنا بأن تفسيره لا يخالف أمرا معلوما بل قلنا: الاستدلال به على موت العلماء لا يخالفه; لأن الآية وإن لم تكن مسوقة لبيان ذلك ولكن الشيء بالشيء يذكر مثل أن يستدل بقوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) الوارد في بني إسرائيل على نجاة أهل الحق في آخر الزمان. (ش)

باب مجالسة العلماء وصحبتهم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، رفعه قال: قال لقمان لابنه: «يا بني، اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوما يذكرون الله جل وعز فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك وإن تكن جاهلا علموك، ولعل الله أن يظلهم برحمته فيعمك معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا، ولعل الله أن يظلهم بعقوبة فيعمك معهم».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، رفعه قال: قال لقمان لابنه:) الظاهر أن القائل الأول هو الإمام، واحتمال غيره بعيد.

(يا بني، اختر المجالس) المنقول اختر أمر من الاختيار الأجوف، أي اطلب مختارها لا اختبر من الاختبار الصحيح بمعنى الامتحان، وإن كان معناه أيضا مناسبا هنا.

(على عينك) أي على بصيرة منك ومعرفة لك بحالها أو بعينك، وقد يكون على بمعنى الباء كما صرح به في الصحاح، واستشهد له بقول أبي ذويب (1).

(فإن رأيت قوما يذكرون الله جل وعز) يشمل مجلس العلم ومجلس ثناء الله تعالى ومجلس ذكر فضائل الأنبياء والأوصياء، وبالجملة مجالس الخير كلها.

(فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك) فإن نفع العلم هو العمل والذكر والإرشاد والتعليم والتحريض على الخير والرجوع إلى الحق، وكل هذا قريب الوقوع في هذا المجلس.

ص: 96


1- 1 - وهو قوله: «يسر يفيض على القداح ويصدع»، قال: معناه بالقداح، وهذا مصراع بيت لم يورده الجوهري بتمامه وأوله: «فكأنهن ربابة وكأنه». (ش)

(وإن تكن جاهلا علموك) لأن استماع الذكر تعليم في الحقيقة; ولأن في مجالسة أهل الخير تأثيرا عظيما في اكتسابه وميل النفس إلى تعلمه وارتقائها إلى معارج الحق ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«قارن أهل الخير تكن منهم» (1).

(ولعل الله أن يظلهم) أي يدنيهم.

(برحمته) من أظله فلان إذا دنا منه، كما في الصحاح أو يسترهم بها ويلقي ظلها عليهم كما في المغرب.

(فيعمك معهم) لأن الله سبحانه كريم، فإذا نظر إلى جماعة بعين الرحمة رحمهم وغفر لهم جميعا، وإن لم يكن بعضهم مستحقا لها وهذا أحد التأويلات لقوله (صلى الله عليه وآله): «أهل الخير لا يشقى جليسهم» وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «قارن أهل الخير تكن منهم» وينبغي أن يعلم أن في مجالسة الذاكرين ومخالطة الصالحين منافع كثيرة غير هذه الثلاثة، ولكن جلها بل كلها راجعة إلى هذه الثلاثة، ولذلك اقتصر معدن الحكمة عليها.

(وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله) في إيراد «أن» في السابق و «إذا» هنا تنبيه على قلة الذاكرين وعدم تحقق وجودهم وكثرة الغافلين واشتهارهم.

(فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك) لأن أعظم منافع العلم هو الذكر والفكر والاتقاء من مواضع التهمة والامتياز عن الغافلين والتباعد من الجاهلين، ولا ريب في أن هذه المنافع تنتفي بالمجالسة معهم، وإن شئت زيادة توضيح فنقول: يجب عليك بعد تحصيل السعادة الأبدية واقتناء العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية واكتساب النواميس الإلهية ضبطها وطلب استمرارها وزيادتها واستبقاء صحة النفس المتحلية بها كما يجب على الأصحاء حفظ صحة أمزجتهم مما يوجب فسادها وتغيرها.

ومن جملة القوانين لحفظك صحة النفس الفاضلة بالفضائل المذكورة أن تعاشر من هو مثلك في الفضل أو هو أفضل منك وتجتنب عن الجهلة المشغوفين بالغفلة والجهالة والغافلين عن الحضرة الربوبية خصوصا عمن اشتهر بالشر والفساد واستعلن الاستهزاء والافتخار وافتخر بإصابة القبائح والشهوات ونيل الفواحش واللذات ونسج الأكاذيب والحكايات ونقل الأشعار والمزخرفات فإن في مشاهدة أمثال تلك واستماعها تأثيرا عظيما في انتكاس النفس وانعكاسها عن المبادئ العالية فربما يتعلق باستماع بعض هذه الامور بنفس الفاضل الكامل وسخ كثير وخبث عظيم بحيث لا يقدر على تطهيرها في مدة مديدة فكيف الطالب المستعد والمتعلم المسترشد فإنه بقبول ذلك أقرب لميل النفس بالذات إلى ما يلائمها من اللذات؟ ولو لم يكن زمام العقل وقيد الحكمة مانعين من ذلك لكان جميع الخلائق مبتلين بهذه البلية.

ص: 97


1- 2 - النهج - المختار من الرسائل في كتاب له إلى ولده الحسن (عليه السلام) تحت رقم 31.

(وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا) لأن نفسك المستعدة للشر تأخذ منهم الشر سراعا إذ عليها بواعث من الطبع فإذا انضافت إليها تسويلات هؤلاء الشياطين الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا تتأثر منها سريعا، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تصحب المائق فإنه يزين لك فعله ويود أن تكون مثله» (1)، والمائق الأحمق، وقال أيضا: «باين أهل الشرتين منهم» (2).

(ولعل الله أن يظلهم بعقوبة) لم يضف العقوبة إليه سبحانه كما أضاف الرحمة لرجحان الرحمة بالنسبة إليه تعالى فكأنها من مقتضى ذاته بخلاف العقوبة، وقد سبقت رحمته غضبه.

(فيعمك معهم) إحاطة العذاب بشخص لكونه في الظالمين غير قليل والأخبار الدالة على الفرار منهم كثيرة.

لا يقال: مؤاخذة البريء ظلم.

لأنا نقول: ليس هذا بريئا من جميع الوجوه; لأنه بسبب كونه معهم ظالم لنفسه على أن هذه عقوبة دنيوية نشأت من كونه معهم، ولعل الله أن يرحمه في الآخرة كما نطق بذلك بعض الروايات، فيا عجبا من أهل عصرنا الذين نموا أنفسهم إلى العلم كيف يسجدون لهؤلاء الظلمة الفسقة الفجرة ويعبدونهم ويمدحونهم بما لا يليق إلا بالله وبرسوله وبالأئمة الطاهرين ويقبضون وجوههم بعلة الاستحقار إذا رأوا واحدا من الصالحين في الفقراء ويكبسون رؤوسهم في ثياب الاستكبار إذا نظروا من بعد أحدا من الزاهدين في زي الفضلاء! خذلهم الله في الدنيا وحشرهم مع هؤلاء الظالمين آمين يا رب العالمين.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن درست بن أبي منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: «محادثة العالم على المزابل خير من محادثة الجاهل على الزرابي».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن درست بن أبي منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد) قال العلامة في الخلاصة: وثقه الشيخ في الفهرست. وقال في كتاب الرجال: إنه واقفي من أصحاب الصادق (عليه السلام). وقال سعد بن عبد الله: أدرك الرضا (عليه السلام) ولم يسمع منه

ص: 98


1- 1 - النهج - أبواب الحكم والمواعظ، تحت رقم 293.
2- 2 - النهج - أبواب الرسائل، تحت رقم 30.

فتركت روايته لذلك. وقال الفضل بن شاذان: إنه صالح، انتهى.

قال الشهيد (رحمه الله) في الحاشية: لا منافاة بين حكم الشيخ بأنه واقفي كما لا يخفى. وقال ابن داود:

عندي أن الثقة من رجال الصادق (عليه السلام) وهو الذي في الفهرست، والواقفي من رجال الكاظم (عليه السلام) وليس بثقة.

(عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: محادثة العالم على المزابل) جمع مزبلة، موضع الزبل بكسر الزاي، وهو السرقين.

(خير من محادثة الجاهل على الزرابي) في النهاية: الزريبة الطنفسة، وقيل: البساط ذو الخمل وتكسر زاؤها وتفتح وتضم وجمعها زرابي. وفي الصحاح: الزرابي النمارق والنمرقة الوسادة، وقيل:

الزرابي من النبت أصفر وأحمر وفيه خضرة وتطلق على البسط الملونة بالألوان تشبيها لها بالزرابي من النبت، ولعل السر في ذلك أن كمال الإنسان وشرفه إنما هو بكمال الروح وشرفه لا بهذا الهيكل والبدن فلا ضير في كون البدن على مكان خسيس إذا كان الروح مسرورا بمشاهدة الحكمة الإلهية ومتنعما بأغذية العلوم الربانية وسائرا بأجنحة الكمال في المقامات العالية، ولا خير في كون البدن على مكان نزيه بسط فيه السندس والإستبرق إذا كان الروح مسموما بسموم الغواية والجهالة ومغموما بغموم الغباوة والضلالة فهل ينفع الميت اضطجاعه على سرير مكلل بالدرر واليواقيت إذا كان روحه مغلولا بالسلاسل والأغلال ومعذبا بأنواع العذاب والنكال؟

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن شريف بن سابق، عن الفضيل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قال الحواريون لعيسى: يا روح الله، من نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن شريف بن سابق) بالباء المنقطة بنقطة قبل القاف أبو محمد التفليسي، أصله كوفي، انتقل إلى تفليس ونسب إليها.

(عن الفضيل بن أبي قرة) ضعيف مضطرب الأمر (صه).

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الحواريون لعيسى: يا روح الله، من نجالس؟) أي نجالسه بحذف العائد.

ص: 99

(قال: من يذكركم الله رؤيته) لصفاء ذاته وضياء صفاته وحياء وجهه وسيماء جبهته ولواء زهادته وبهاء عبادته.

(ويزيد في علمكم منطقه) أي كلامه ونطقه في العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية والأحكام الشرعية والآداب النفسية والأخلاق القلبية وسائر الكمالات البشرية.

(ويرغبكم في الآخرة عمله) الدال على إقباله إلى الامور الاخروية وإعراضه عن الشواغل الدنيوية، فإن رؤية الأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة والعبادات الكاملة تؤثر في نفس الرائي تأثيرا عظيما حتى تنفض عنها غبار الشهوات وتنقض منها خمار الغفلات وتبعثها على الأعمال الموجبة للارتقاء إلى معارج القدس والارتواء بزلال الانس، فقد ذكر لمن ينبغي مجالسته ثلاثة أوصاف (1) هي امهات جميع الصفات المرضية; إذ هي مشتملة عليها كاشتمال المجمل على المفصل، وفيه إشعار بأن من لم يكن فيه هذه الصفات أو كان فيه أضدادها لا ينبغي المجالسة معه بل الفرار والاعتزال منه لازم، فإن مجالسته تميت القلب وتفسد الدين وتورث النفس ملكات مهلكة مؤدية إلى الخسران المبين، والضابط في الجليس أنه إما أن يكون لك أو يكون عليك، أو لا يكون لك ولا عليك، والأول ينبغي مجالسته عقلا ونقلا دون الأخيرين، وأما الثاني فلأن مجالسته تضييع للأوقات بلا منفعة، وهذا الحديث جامع بين الأحاديث المختلفة في الحث على الاعتزال والمخالطة.

* الأصل:

4 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة».

* الشرح:

محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن حازم) ثقة عين صدوق من أجلة أصحابنا وفقهائهم.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مجالسة أهل الدين) الدين في الشرع عبارة عن الشرائع

ص: 100


1- 1 - قسم المعاشرة على ثلاث مراتب: الاولى: الرؤية، والثانية: المحادثة والمكالمة، والثالثة: المشاركة في الأفعال والأعمال، فينبغي أن يكون من تعاشره أولا في زي أهل التقوى والصلاح بحيث إذا رأيته ذكرت الله تعالى، ثم إذا قربت منه أكثر تكلم بما يزيد في علمك، وبعد ذلك إذا آنسته وأكثرت مراودته وجدته عاملا بأعمال أهل الآخرة ورغبت أنت في عمله. (ش)

الصادرة بواسطة الرسول وأهله هم العالمون بها، الحافظون لأركانها العالمون بأحكامها وشرائطها الواقفون على حدودها.

(شرف الدنيا والآخرة) الشرف العلو والرفعة (1) والسر في ذلك أن جليس أهل الدين إذا قابل قلبه بقلبه تنعكس إليه أشعة العلوم وأنوار المعارف فيهتدي بذلك إلى الكمالات السنية والمقامات الرفيعة والدرجات العلية وتستولي قوته العاقلة على القوة الشهوية والغضبية ويقهر النفس الأمارة التي هي مبدأ الخطل في الأقوال والخلل في الأفعال والخطأ في الأعمال حتى يحصل له من ذلك ملكة في اجتناب المعاصي وترك الرذائل واكتساب الحسنات وكسب الفضائل وعند ذلك تطلع الأنوار الإلهية من مطالع قلبه ولسانه وتشرق الإشراقات الربانية من مشارق أركانه وجنانه فيصير نورا إلهيا يهتدي به الحائرون وبه يستضييء به السالكون، ويقتدي به العابدون ويفتخر به الزاهدون ويلجأ إليه المؤمنون ويسعى نوره في الآخرة بين يديه حتى يورده إلى منازل الأبرار ومقام الأخيار ويشفع لمن يشاء، فله الرئاسة العظمى والخلافة الكبرى في الآخرة والدنيا ولا شرف أعظم من ذلك.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الأصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «لمجلس أجلسه إلى من أثق به أوثق في نفسي من عمل سنة».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الأصبهاني) يعرف بكاسولا، قيل: حديثه يعرف وينكر لا فيه طعن في الغاية ولا نقاء عن الغميزة.

ص: 101


1- 2 - أما أنه شرف الآخرة فظاهر، وأما أنه شرف الدنيا فلما ذكره الشارح ولأن غالب أهل الدنيا وإن كانوا منغمرين في الشهوات طالبين للمال والجاه متهالكين على تحصيلهما ولا يرون لأهل الورع والتقوى فضلا بمقتضى طبيعتهم الشهوانية ولكن الحسن والقبح العقليين منطبعان في طبيعة الإنسان إذا خلي وطبعه وأنه حين ارتكاب الفحشاء معترف بقبحه باطنا وأن من لا يرتكب أفضل منه والمؤمن الصالح منظور إليه بنظر التعظيم حتى عند غير أهل نحلته وكذلك من يجالسهم، وكان في زماننا رجل من الهنود متقشفا متزهدا متمسكا بما دله عقله من الفضائل لو يؤت سعة من المال أوجب ذلك له شرفا وعزة ومنزلة عظيمة كان يكرمه المسلمون والنصارى والهنود لأنه تشبه بأهل الصلاح وهو «غاندي»، وإذا كان مثله كذلك فكيف بالمسلم الموحد إذا صدق في دعواه وتزهد مع إمكان التمتع بهواه؟ (ش)

(عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة) بالعين المهملة والنون بعد اليائين المثناتين من تحت، مجهول الحال، وليس من أصحابنا.

(عن مسعر بن كدام) وهو أيضا ليس من أصحابنا. قال ابن حجر في التقريب: مسعر بن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه ابن ظهير الهلالي أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، وكدام بكسر الكاف وتخفيف الدال المهملة. ومثله في شرح البخاري للكرماني، وقال بعض أصحابنا: مسعر بن كدام المعروف فيه فتح الميم على صيغة اسم المكان وضبطه غير واحد من علماء العامة بكسر الميم وفتح العين على صيغة اسم الآلة، وقيل: مسعر شيخ السفيانين سفيان الثوري وسفيان بن عيينة.

(قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لمجلس أجلسه) أي أجلس فيه على الحذف والايصال.

(إلى من أثق به) أي مع من أثق به، فإلى بمعنى «مع» أو «إلى» مواجهة من أثق بدينه واعتمد على علمه وفضله وصلاحه أو راجعا أو مائلا إلى من أثق به على سبيل التضمين.

(أوثق) أي الجلوس المستفاد من المجلس أو المجلس على أن يراد به مصدر ميمي على سبيل الاستخدام.

(في نفسي من عمل سنة) لأن الجلوس معه يعين في أمر الدنيا والآخرة ولا فضيلة أعظم من ذلك، ولأن النظر إليه والتكلم معه والكون معه عبادات مقبولة قطعا، وعمل سنة لا يعلم أنه مقبول أم لا، فالوثوق بذلك أكثر وأعظم وفيه ترغيب بليغ في مصاحبة العالم المتدين لأنه (عليه السلام) مع صفاء الذات ونورانية الصفات وتقدم رتبته على جميع المخلوقات إذا كان يقول ذلك ويتمناه فنحن أولى بذلك.

ص: 102

ص: 103

باب سؤال العالم وتذاكره

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات؟ قال: «قتلوه، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات) المجدور ذو الجدري وهو - بضم الجيم أو فتحها وفتح الدال (1) - داء يتقوب به الجلد ويتقشر والغرض من هذا السؤال استعلام حكم هذه المسألة هل الغاسل مقصر ضامن أم لا؟ (قال: قتلوه) لأن حكم من يتضرر باستعمال الماء هو التيمم، فإذا غسلوه فمات فقد قتلوه خطأ ولزمهم الضمان.

(ألا سألوا) ألا بفتح الهمزة وتشديد اللام من حروف التحضيض وإذا دخلت في الماضي فهي للتنديم والتوبيخ على ترك الفعل، فقد عيرهم (عليه السلام) ووبخهم على ترك السؤال حتى وقعوا لجهلهم فيما وقعوا من إهلاك أنفسهم في الآخرة، ولو سألوا لما وقعوا فيه ولنجوا من مرض الجهل.

(فإن دواء العي السؤال) العي - بكسر العين المهملة وتشديد الياء - التحير في الكلام والعجز عن البيان وعدم الاهتداء إلى وجه المقصود، والمراد هنا الجهل يعني أن الجهل داء شديد ومرض مهلك للقلب في الدنيا والآخرة وشفاؤه منحصر في السؤال من الفضلاء والتعلم من العلماء، فقد بالغ (عليه السلام) في الحث على سؤال العالم عن كل واقعة حيث حكم أولا بأن الغاسل للمجدور والمفتي له من غير علم قاتل له، وعير

ص: 104


1- 1 - الجدري مرض يقال له عندنا: «آبله» ولم يكن يعرفه اليونانيون، ولم يذكره جالينوس في الستة عشر كما لم يذكر الحصبة وهو المعروف عندنا «بسرخجه» وقيل: إن هذين المرضين لم يعرفهما الناس قبل هجوم الحبشة وأصحاب الفيل على الكعبة والله العالم، وبالجملة تعبد الجاهل ربما أوجب له ارتكاب أكبر الكبائر وهو قتل النفس. (ش)

ثانيا على ترك السؤال الموجب للوقوع في الهلكة، وبين ثالثا أن الجهل مرض مهلك شفاؤه السؤال من العلماء.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد العجلي قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله: «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد ابن مسلم وبريد العجلي) بضم الباء وفتح الراء.

(قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمران بن أعين في شيء سأله: إنما يهلك الناس) في الدنيا بالاحتباس في تيه الضلالة والتحير في أودية الجهالة، وفي الآخرة باستيهال العذاب واستحقاق العقاب، أو فيهما بموت نفوسهم من مرض الجهل.

(لأنهم لا يسألون) معدن العلم النبوي ومخزن السر الإلهي ومن تبع أثره من العالم الرباني عما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، وتوجيه حصر الهلاك بالمعنى الأول في عدم السؤال أن عدم السؤال لما كان مستتبعا للجهل المستلزم لجميع القبائح كان الهلاك بهذا المعنى منحصرا فيه مبالغة وبواقي الامور المهلكة تابعة له، وبالمعنى الثاني أن الجهل مرض مهلك ودواؤه منحصر في السؤال حقيقة كما عرفت ولا تظن أن نسبة الموت إلى النفوس مجاز وأن الموت حقيقة عبارة عن زوال اتصال الروح بالبدن على ما هو المتعارف عند الناس; لأن الأمر بالعكس عند العارفين (1); إذ الحياة عندهم عبارة عن حياة النفس بالكمالات العلمية والعملية وهي الحياة الأبدية الباقية حال اتصال الروح بالبدن وحال افتراقه عنه، والموت عبارة عن كون النفس عارية عن تلك الكمالات مظلمة بظلمة الفقر والجهالات، سواء كان الروح متصلا بالبدن أو مفارقا عنه،

ص: 105


1- 1 - قد يكون المجاز اللغوي عن العارف حقيقة والحقيقة اللغوية مجازا بالتشبيه، فإن الحقيقة أصل والمجاز فرع عليه، مثلا الحيوان المفترس في اللغة أصل والرجل الشجاع فرع بالنسبة إلى لفظ الأسد والأصل أهم وأولى بإطلاق اللفظ. وأما عند العارف فموت النفس وحرمانه من الكمال أصل وهو أهم وأولى من موت البدن بأن ينزجر عنه ويخاف منه لا بمعنى أن إطلاق الموت على الثاني مجاز لغوي عند العرفاء وعلى الأول حقيقة عرفية. (ش)

وإنما يطلقون الحياة والموت على الاتصال والافتراق على سبيل المجاز دون الحقيقة، فالميت عندهم من مات قلبه وعرج عقله في طي منهج المعارف وإن كان حيا متحركا بالحياة الظاهرية.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن هذا العلم) الذي أنزله الله تعالى في صدر نبيه (صلى الله عليه وآله) وخزنه في صدور الطاهرين.

(عليه قفل ومفتاحه المسألة) منهم والرجوع إليهم في تفسيره واستكشافه; لأنهم خزنة هذا العلم وعيبة هذا السر وسائر الناس مأمورون بالأخذ عنهم والتشبث بذيلهم وإظهار الافتقار إليهم، فمن طلبه من غيرهم فهو بمنزلة من توقع الإعانة من شخص عليل واكتسب الهداية من رجل ضليل، أو بمنزلة من فقد جوهرا في مكان وطلبه في مكان آخر، وفي الكلام استعارة مكنية وتخيلية بتشبيه العلم بالمال الخزون وإثبات القفل له والمفتاح ترشيح والسؤال تجريد، وفي جعل المفتاح مبتدأ والسؤال خبره دون العكس وجه لطيف، وهو أنه لما ذكر القفل أولا علم أن له مفتاحا ولم يعلم أنه السؤال. ومن المقرر في العربية أن المعلوم يجعل مبتدأ والمجهول خبره، وأنه لو انعكس الأمر لصار الكلام مقلوبا عن وجهه ومسوقا في غير منهجه.

* الأصل:

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

ضعف سند هذه الرواية لا ينافي الجزم بصحة مضمونها; لأنه مؤيد بالعقل والنقل (1).

ص: 106


1- 1 - وكذلك أكثر روايات هذه الأبواب، وإنما يطلب السند في المسائل الفرعية المخالفة للاصول والقواعد التي اختلف فيها أقوال العلماء، ولا حاجة إلى الاسناد في الاصول ولا في الفروع الموافقة للقواعد ولا في ما قام عليه الإجماع، وبذلك يندفع ما يتبادر إلى بعض الأوهام من أن أكثر أحاديث الكافي ضعيفة، والكتاب الذي نصفه ضعيف بل ثلثه بل عشره أيضا مما لا يعتمد عليه فكيف يعد من الكتب المعتبرة مثلا لو كان عشر لغات كتاب الصحاح والقاموس غلطا من المصنف لم يكن معتبرا وكذلك معجم البلدان والطبري وأمثال ذلك؟ والجواب: أن الضعف بسبب الاسناد لا ينافي صحة المضامين. (ش)
* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي جعفر الأحول) محمد بن علي بن النعمان الملقب بمؤمن الطاق، ثقة، والمخالفون يسمونه بشيطان الطاق، وكان كثير العلم، حسن الخاطر، حاضر الجواب.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يسع الناس) أن يأخذوا في الدين شيئا ويعتقدوه ويفعلوه ويتدينوا به أي لا يجوز لهم ذلك من وسعة المكان إذا لم يضق عنه، ومنه قولهم: لا يسعك أن تفعل كذا، أي لا يجوز; لأن الجائز موسع غير مضيق، فالناس مفعول والفاعل محذوف مقدر.

(حتى يسألوا) العالم بالدين الحامل له بأمر الله تعالى أو حتى يتفحصوا ويسألوا طلبا للإمام المفترض الطاعة، وحتى غاية للنفي لا للمنفي.

(ويتفقهوا) ليميزوا بين الحق والباطل.

(ويعرفوا إمامهم) المراد به من يقتدى به في امور الدين والدنيا والمستحق للخلافة والمتقلد للرئاسة بأمر الله تعالى، ووجه ذلك أن الناس عقولهم ناقصة وقلوبهم متفرقة وآراؤهم متباينة ونفوسهم مائلة إلى الرئاسة والفساد وطبائعهم جالبة للشر والعناد فلا يجوز سؤالهم عن الدين ولا أخذ الفقه عنهم ولا الركون في المعارف إليهم لأن ذلك يوجب تهييج المذاهب والشرور وانتشار قول الزور وانقطاع الشرائع وفساد نظام العالم; فاقتضت المصلحة الإلهية وجود إمام مؤيد بتأييد الله وهاد مسدد بعصمة الله وناصح أمين لعباد الله هو يحفظ أساس الدين ويقوم عماد اليقين، إليه يرجع المتجاوزون عن حد الفضائل وبه يلحق الحائرون في تيه الرذائل، ومنه يأخذ الطالبون للفقه والمسائل.

(ويسعهم) بعد ما عرفوه وتمسكوا بذيله واهتدوا بنوره.

(أن يأخذوا) في الاعتقاديات والعمليات وغيرهما.

(بما يقول وإن كان تقية) أي وإن وجدت في قوله تقية فكانت تامة أو وإن كانت أقواله تقية فكانت ناقصة، وذلك لأنه كما يكون لله تعالى على العباد حكم في نفس الأمر كذلك له عليهم حكم لدفع الضرر

ص: 107

عنهم، والكل مشروع لمصالحهم فكما يجب عليهم الأخذ بالأول كذلك يجب عليهم الأخذ بالثاني لدفع الضرر، فالتقية أيضا دين يجب عليهم التدين به.

* الأصل:

5 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه». وفي رواية اخرى: «لكل مسلم».

* الشرح:

(علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اف لرجل) في النهاية الأثيرية: الاف صوت يصوت به الإنسان حين التضجر. وفي الصحاح: يقال: افا له وافة أي قذرا له، والتنوين للتنكير، وافة وتفة، وقد أفف تأفيفا إذا قال:

اف، قال تعالى: (ولا تقل لهما اف)، وفيه ست لغات حكاها الأخفش: أف، أف، أف، أف، أفا، أف، ويقال: افا له وتفا وهو اتباع له.

وفي المغرب: أف تضجر، وقد أفف تأفيفا إذا قال ذلك، وأما أف يؤف تأفيفا فالصواب أفا. وقال عياض: الاف والتف وسخ الأظفار واستعملت فيما يستقذر، وفيها عشر لغات ضم الهمزة وفي الفاء الحركات الثلاثة منونة وغير منونة فهذه ستة، وضم الهمزة وسكون الفاء وكسر الهمزة وفتح الفاء وافا بالألف وافة بضم الهمزة فيهما، وقال محيي الدين: كلمة اف معناه الضجر وهو اسم فعل أتى بها اختصارا، ويستعمل للواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد، ومنه قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف)، وفيها لغات كثيرة، وهي معرفة إن لم تنون ونكرة إن نونت، فمعنى المعرفة لا تقل لهما القول القبيح ومعنى النكرة لا تقل لهما قولا قبيحا، وهي تستعمل في كل ما يتضجر منه ويستقل وقيل:

معناها الاحتقار اخذت من الافف وهو القليل.

(لا يفرغ نفسه) إما من الفراغ، يقال: فرغ منه يفرغ فراغا، أو من التفريغ وتفريغ النفس بمعنى إخلائها فنفسه على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول يعني لا يفرغ نفسه من شواغل الدنيا وأسباب معيشتها وغيرها أو لا يخليها فارغة عنها.

(في كل جمعة لأمر دينه) خص يوم الجمعة لأنه زمان العبادة (1)، وتحصيل الخيرات ولها فيه مزيد فضل وزيادة أجر; ولأنه محل اجتماع الناس فيمكن فيه تحصيل الدين والسؤال عن معالمه بسهولة من غير مشقة زائدة.

(فيتعاهده ويسأل عن دينه). وفي رواية اخرى: (لكل مسلم) بدلا لرجل. في الصحاح: التعاهد والتعهد

ص: 108


1- 1 - ويحتمل أن يكون المراد من الجمعة الاسبوع. (ش)

التحفظ بالشيء وتجديد العهد به، تقول: تعهدت ضيعتي وتعاهدتها. وفي المغرب: التعهد والتعاهد الاتيان، تقول: فلان تعهد الضيعة وتعاهدها إذا أتاها وأصلحها، وحقيقته جدد العهد بها، والضمير البارز في يتعاهده يعود إلى الجمعة باعتبار أنها في المعنى مذكر، أو إلى أمر الدين والتعاهد هنا لأصل الفعل دون الاشتراك بين الاثنين، وفيه ترغيب في محافظة يوم الجمعة وحضوره والسؤال فيه من المسائل الدينية وإشعار بأن ترك ذلك مما يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله) ويؤلمه.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول: «تذاكر العلم بين عبادي مما تحيى عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول: تذاكر العلم بين عبادي) التذاكر تفاعل من الذكر، يعني ذكر كل واحد منهم ما عنده من العلم للآخر وتكلمهم فيه لإظهار الحق لا للمجادلة والعلم شامل للاعتقاديات والعمليات والأخلاق جميعا.

وفي بعض النسخ تذاكر العالم على صيغة الفاعل، أي ذكر العالم علومه بين العباد المستمعين لقوله:

(مما تحيى عليه) أي به، وقد يجييء «على» بمعنى الباء، كما مر، و «تحيى» إما مجرد معلوم أو مزيد مجهول من باب الأفعال، فعلى الأول قوله:

(القلوب الميتة) فاعل، وعلى الثاني مفعول اقيم مقام الفاعل. ويحتمل أن يكون «على» في «عليه» بمعناها، ويكون الظرف حالا من «القلوب» أي حال كونها ثابتة مستقرة على العلم وتذاكره، ويجري على الفعل الاحتمالان المذكوران، إلا أن المزيد أيضا لازم، وتفصيل القول في ذلك:

أن القلب في أوائل الفطرة وإن كان ذا حياة ظاهرية متعلقة بالبدن بها يتحرك البدن ويدخل في عالم الحيوان لكنه فاقد للحياة الغيبية الأبدية التي هي حياة في الحقيقة عند أهل العرفان وبها يستحق أن يطلق عليه اسم الإنسان، ويدخل في زمرة المقربين وينزل في منازل الروحانيين، وهذه الحياة الحقيقة الأبدية إنما تحصل له بتعلق روح العلم به وتذاكره; لأن العلم وتذاكره روح القلب وحياته ونوره الذي به يصير القلب نورا ربانيا حيا بعد ما كان جوهرا ظلمانيا ميتا.

ص: 109

(إذا هم انتهوا فيه) أي في تذاكر العلم.

(إلى أمري) جعل هذا من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقول بأن معناه أن حياة قلوبهم بتذاكر العلم مشروطة برجوعهم في العلم إلي واقتباسهم مني; لأن العقول البشرية قاصرة عن درك المعارف والشرائع بدون توسط الرسول المؤيد بالوحي بعيد. والظاهر أنه من تتمة قول الله عز وجل، وهو يحتمل وجوها:

الأول: أن حصول حياة قلوبهم بذلك مشروط بانتهائهم فيه إلى الإتيان بالمأمور به من الفضائل والعبادات وترك المنهي عنه من الرذائل والمنهيات، وذلك لأن العلم بلا عمل ليس بعلم كما روي «العلم مقرون بالعمل» (1)، فلا يكون موجبا لحياة القلب.

الثاني: أن حصولها مشروط بانتهائهم في العلم وتذاكره إلى أمري أي إلى من أمرتهم بالأخذ عنه، وهو النبي وأهل الذكر (عليهم السلام) كما قال سبحانه: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

الثالث: أن حصولها مشروط بانتهائهم في ذلك إلى أمري أي إلى روحي الذي يكون مع النبي والأئمة (عليهم السلام) وستجيء الأحاديث الدالة على وجود الروح معهم. وقال سبحانه: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)، والمقصود منه الرجوع إليهم (عليهم السلام) فهذا يعود إلى الثاني.

الرابع: أن حصولها مشروط بانتهائهم إلى أمر من اموري وصفاتي اللائقة بذاتي.

الخامس: أن حصولها مشروط بانتهائهم إلى ما هو المطابق لنفس الأمر من الامور الكائنة فيها لا إلى خلافه; لأن الجهل المركب مرض قلبي يوجب موته لا حياته.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «رحم الله عبدا أحيا العلم»، قال: قلت: وما إحياؤه؟ قال: «أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود) اسمه زياد ابن المنذر الهمداني، تابعي، زيدي، وإليه تنسب الجارودية من الزيدية.

(قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدا أحيا العلم، قال: قلت: وما إحياؤه؟ قال: أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع) شبه تذاكر العلم بالإحياء في ترتب الآثار ثم اشتق من الإحياء الفعل فجاءت

ص: 110


1- 1 - سيأتي في باب استعمال العلم تحت رقم 2، عن الصادق (عليه السلام): «العلم مقرون بالعمل».

الاستعارة فيه بتبعية المصدر، ولما علم السائل أن ليس المراد بالإحياء هنا معناه الحقيقي المتعارف سأل بما عن معناه المراد ومفهومه المقصود هنا. ثم إن اريد بالمذاكر المحيي للعلم المتعلمون وبأهل الدين وأهل الورع العلماء الربانيون والحكماء الإلهيون فوجه تخصيصها بالذكر ظاهر لوجوب المذاكرة معهم والتعلم منهم والفرار عن غيرهم; لأن من ذاكر غيرهم كانت إماتة العلم والضلالة أقرب منه من إحيائه والهداية، وإن اريد عكس ذلك فوجه تخصيصها هو التنبيه على أن مذاكرة العالم مع المتعلمين إنما يوجب إحياء العلم وحفظه عن الاندراس وحياة قلوبهم إذا كانوا من أهل الدين وأهل الورع، وإلا فربما يفسدون العلم ويغيرونه من أصله فلا يتحقق في تذاكرهم إحياء العلم وحفظه، وربما لا تقبل قلوبهم القاسية الصور العلمية; لأن انتقاش الصور العلمية في مرآة القلب موقوف على صفائها وجلائها وخلوصها من الرين، ولذلك قال بعض العارفين: تحلية القلوب بالفضائل متأخرة عن تخليتها عن الرذائل; لأن مرآة القلب القاسي لا يصقل بمصقال العلم.

وقال بعض المحققين: لا بد لطالب العلم من تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاته وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهر الظاهر من الأحداث والأخباث كذلك لا تصح عبادة القلب وصلاته إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف.

وعلى هذا فمن كان قسي القلب معلنا بالفسق ولم يرد بالعلم وجه الله تعالى بل إنما أراد به الرياء والسمعة وجعله شبكة لاقتناص اللذات الدنية واقتباس المشتهيات الشنيعة وكان مأسورا (1) في أيدي القوى البهيمية ومقيدا بحب الجاه والمال وادخاره وجمعه وإكثاره فهو ليس من أهل العلم وتحمله وتذاكره وإحيائه.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب إن القلوب لترين كما يرين السيف وجلاؤها الحديث».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال) ثقة ثقة ثبت من أصحاب الرضا (عليه السلام).

(عن بعض أصحابه رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تذاكروا) أي تذاكروا العلم بينكم أو تذاكروا بعضكم

ص: 111


1- 1 - أي مأخوذا.

بعضا بالخير.

(وتلاقوا) إخوانكم بعضكم بعضا بالشفقة والتلطف.

(وتحدثوا) بينكم يعني تكلموا بالحديث المرغب في أمر الآخرة والمنفر عن الدنيا.

(فإن الحديث جلاء للقلوب) في الصحاح: جلوت السيف جلاء بالكسر أي صقلته. وفي المغرب: الجلاء بالفتح والقصر وبالكسر والمد الإثمد لأنه يجلو البصر. والأول أصح. وفي النهاية الأثيرية: الجلاء بالكسر والمد الإثمد وقيل: هو بالفتح والمد والقصر ضرب من الكحل.

إذا عرفت هذا فنقول: هذه الاحتمالات الثلاثة تجري في الجلاء هنا، والحمل على الأول لكونه مصدرا بمعنى الصقال يعني «روشن ساختن» على سبيل المبالغة والتجوز في الجلاء، وجعله بمعنى اسم الفاعل يعني الصاقل وعلى الأخيرين على التشبيه بحذف الأداة للمبالغة، وهذا الحكم وإن كان واضحا عند الكاملين لكن فيه نوع خفاء عند القاصرين، فلذلك أشار إلى بيانه على وجه التمثيل تشبيها للمعقول بالمحسوس لقصد زيادة الايضاح بقوله:

(إن القلوب لترين) في الكنز: الرين والريون «زنگ گرفته شدن». وفي الصحاح: الرين الطبع والدنس، يقال: ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا، أي غلب. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (بل ران على قلوبهم) أي غلب. وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى اسود القلب. وقال أبو عبيد: كلما غلبك فقد ران بك ورانك وران عليك.

أقول: وله أسباب من خارج كاشتغال الجوارح بالذنوب أو بما يليق الإتيان به وإن لم يكن ذنبا فإن لذلك تأثيرا عظيما في كدرة القلب وظلمته لما بينه وبين الظاهر من المناسبة التي توجب جريان أحدهما في الآخر، وأسباب من داخل كارتماس القلب في مفاسد العقائد الباطلة وانغماسه في اجاج الرذائل القاتلة فإن ذلك يوجب انكسافه وانظلامه قطعا ثم يتدرج ذلك في القوة بحسب قوة تلك الأسباب إلى حد يصير القلب سوادا محضا لا يقبل الاصلاح بعده أبدا، كما تشاهد في كثير من الفاسقين والمنكرين للحق.

(كما يرين السيف) بسبب من الأسباب الموجبة له، ومن جملة أسبابه عدم استعماله فيما هو الغرض منه.

(وجلاؤها الحديث) الجملة في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أعني رينا، أو حال عن الفاعل والضمير راجع إلى القلب.

وفي بعض النسخ (جلاؤه الحديد)، والضمير في هذه النسخ راجع إلى السيف، فكما أن الحديد يجلو السيف كذلك الحديث يجلو القلب ويصقله ويزيل عنه الأقذار والأخباث ويجعله صافيا خالصا من

ص: 112

الرين، إذ الحديث لاشتماله على الحقائق والمعارف وأحوال المبدأ والمعاد وحقارة الدنيا وما فيها وعظمة الجنة ونعيمها ودوامها وكيفية حشر الخلائق وشدائد أحوالهم من مشاهدة أهوال القيامة وملاحظة سوء حال المذنبين ووخامة عذابهم ورداءة عاقبتهم يأخذ القلب المتفكر فيها عن أيدي الآمال الباطلة والمتمنيات الزائلة والأخلاق الفاسدة والذنوب القاتلة ويصرفها إلى جناب الحق وحضرته ويجعله منورا مجلوا طاهرا مطهرا من جميع الخبائث بحيث يصير مرآة الحق ويشاهد في ذاته جماله وجلاله وكماله وصور الملك والملكوت.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان، عن منصور الصيقل، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب) الأزدي، الثقة.

(عن عمر بن أبان) كوفي، ثقة.

(عن منصور الصيقل، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: تذاكر العلم دراسة) مصدر بمعنى القراءة.

قال في الكنز: دراسة «علم خواندن وكتاب خواندن». وقال ابن الأثير فيه: «تدارسوا القرآن» أي اقرؤوه وتعهدوه لئلا تنسوه يقال: درس يدرس درسا ودراسة، وأصل الدراسة الرياضة والتعهد للشيء، ولعل المقصود أن تذاكر العلم فيما بينكم مثل قراءته وأخذه من الاستاذ في الأجر أو المقصود أن تذاكره تعهد وتحفظ له وتجديد عهد به يوجب عدم نسيانه; لأن العلم صيد ومذاكرته قيد، وسر ذلك أن القلب لالفه بالمحسوسات بعيد عن المعقولات، فلا بد له من صارف يصرفه إليها وأفضل الصوارف هو المذاكرة.

(والدراسة صلاة حسنة) حسنة صفة لصلاة لا خبر بعد خبر; إذ لا وجه لجعل الدراسة بمنزلة الصلاة على الإطلاق، وإن لم تكن حسنة مقبولة، وهذا الكلام يحتمل وجوها:

الأول: أن فضل الدراسة على سائر الأعمال القلبية كفضل الصلاة المقبولة على سائر الأعمال البدنية. الثاني: أن الدراسة كالصلاة المقبولة في الأجر والتقرب منه تعالى أو في محو السيئات إن الصلوات يذهبن السيئات (1). الثالث: أن الدراسة صلاة مقبولة قلبية; إذ كما أن للجوارح صلاة كذلك للقلب صلاة هي المذاكرة.

ص: 113


1- 1 - كذا. وفي المصحف: (إن الحسنات يذهبن السيئات).

باب بذل العلم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن حازم، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قرأت في كتاب علي (عليه السلام) إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال; لأن العلم كان قبل الجهل».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن حازم، عن طلحة بن زيد) عامي المذهب. ونقل عن الشيخ الطوسي أنه بتري.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قرأت في كتاب علي (عليه السلام) إن الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم) العهد الميثاق. وفي كنز اللغة: موثق وميثاق «پيمان».

(حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال) في بذل العلم منافع كثيرة:

منها: التشبه بالأنبياء; لأنهم إنما بعثوا للتعليم.

ومنها: الفوز بشرف الهداية والإرشاد.

ومنها: الظفر بمرتبة الرئاسة الدينية والدنيوية التي هي الخلافة الكبرى.

ومنها: إحياء النفس، وقد قال الله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وفي منعه مضرة عظيمة ومفاسد كثيرة غير خفية على ذوي البصائر، ولذلك قال سيد الوصيين: «لا خير في علم لا ينفع» (1)، أي لا ينفع صاحبه غيره وقال (صلى الله عليه وآله): «من سئل عن علم ثم كتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار» (2)، وهذا العهد إما وقع بمقتضى العقل وحكمه أو وقع في وقت الفطرة أو في وقت أخذ الميثاق من ذرية آدم بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي وبالوصاية لعلي (عليه السلام)، ثم عهود الله تعالى متكثرة: منها عهد أخذه على جميع الخلائق بربوبيته، ومنها عهد أخذه على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، ومنها عهد أخذه على العلماء بأن يبينوا على ذرية آدم بنبوة كل نبي سيما خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ومنها عهد أخذه عليهم بخلافة

ص: 114


1- 1 - النهج، في كتاب له (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، تحت رقم 31.
2- 2 - أخرجه الحاكم في المستدرك ج 1، ص 102.

سيد الوصيين. (لأن العلم كان قبل الجهل) تعليل لتقدم أخذ العهد على العلماء (1) ببذل العلم على أخذ العهد على الجهال بطلبه.

قيل: فيه إشكال لأن كل واحد من أفراد الناس في أول الخلقة جاهل ثم يكتسب العلم ويصير عالما أو لا يكتسبه فيبقى على جهله فكيف يكون العلم قبل الجهل؟ أقول: لا دلالة فيه على أن العلم المتقدم والجهل المتأخر بالنسبة إلى محل واحد أو إلى شخص، بل إنما يدل على أن وجود حقيقة العلم قبل تحقق حقيقة الجهل (2) فيجوز أن يراد بالعلم المتقدم علم الواجب أو علم الروحانيين أو علم نبينا (صلى الله عليه وآله) وعلم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأنهم أنوار إلهية ولم تكن علومهم مسبوقة بجهل أصلا، وقد ثبت أنهم كانوا معلمي الملائكة في علم التوحيد وصفات الحق. وهذا القدر كاف في التعليل، ولو فرض تحقق تلك الدلالة فقوله: كل واحد من أفراد الإنسان في أول الخلقة جاهل ممنوع، ولم يقم عليه برهان، وما اشتهر بينهم من أن النفس في أول الفطرة خالية عن العلوم كلها وقالوا: يظهر ذلك لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله فمدفوع بما ذكره ابن سينا من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري، ولو قالوا: المراد بمبدأ الفطرة حال تعلق النفس بالبدن وهو سابق على تلك الحالة ورد عليهم: أنه كيف تحصل التجربة بخلو النفس عن العلم في حال تعلقها بالبدن على أنه لو تم فإنما يدل على خلوها عن العلم الحصولي دون الحضوري؟ وقد صرحوا أيضا بذلك حيث قالوا: خلو النفس عن العلم بذاتها باطل; إذ المجرد لا يغفل عن ذاته ثم ظاهر القرآن مثل قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وذريتهم وأشهدهم على

ص: 115


1- 1 - الفيض يتخطى من الأشرف إلى الأخس، ووسائط فيض الحق تعالى أعاظم الوجود وأفاضلهم، فالتكليف والعهد يتوجه إلى العالم قبل أن يتوجه إلى الجاهل. (ش)
2- 2 - العلم قبل الجهل في الجود كما أن الكامل قبل الناقص، والفعل مقدم على القوة، والصورة قبل الهيولى، والناس مختلفون في هذه القاعدة، فالماديون والملاحدة وأصحاب الحس قائلون بأن الجوهر الموجود المستقل بذاته هو الجسم المادي ليس قبله شيء ومنه ابتداء الأشياء وبسبب تركيب العناصر حدثت الصور، ومنه وجد الإنسان والعقل عارض حادث حال في الدماغ، وحاصل تركيب خاص ومزاج فيه. والإلهيون قائلون بخلاف ذلك وأن الجوهر المستقل الموجود أولا هو العقل والأجسام معلولة له ومتفرعة عليه، والهيولى - أعني المادة - متعلقة القوام بالصورة، والصورة متعلقة بموجود مجرد عاقل يقيم الصورة مع الهيولى والمظهر في خلقة الإنسان وتركيب أعضائه والمصالح التي روعيت فيها يدل دلالة واضحة على أن موجودها موجود عاقل مقدم على الدماغ، فكيف يكون العقل مطلقا فرعا على الدماغ؟ وما هذا إلا دور صريح، فقوله (عليه السلام): «العلم قبل الجهل» قريب المفاد من قولهم: «أول ما خلق الله العقل». وبالجملة الماديون قائلون بانحصار الوجود في قوس الصعود وتدرجه من الأخس إلى الأشرف، والإلهيون قائلون بقوس النزول والصعود معا وتدرج الوجود من الأشرف إلى الأخس ثم رجوعه من الأخس إلى الأشرف. (ش)

أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى)، وقوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) وفسره الصادقون (عليهم السلام) بأنه فطرهم جميعا على التوحيد والمعرفة به، وظاهر الأحاديث مثل ما روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ومضمونه: «أن الطفل في بطن الام يعرف عهده وميثاقه فإذا أكمل أجله بعث الله ملكا فزجره زجرة فيخرج قد نسي الميثاق» (1) يدل على أن العلم مقدم على الجهل وكلام الصادقين أولى بالاتباع من كلام غيرهم، وقد يجاب من أصل الإشكال بوجوه اخر:

الأول: أن العلم كمال وخير والجهل نقصان وشر، والكمال والخير هو غاية كل شيء، فالعلم مقدم على الجهل تقدما بالغاية.

الثاني: أن العلم أشرف من الجهل، فله تقدم بالشرف والرتبة لا تقدم بالزمان.

الثالث: أن الجهل عدم العلم والأعدام إنما تعرف بملكاتها، فالجهل لا يعرف إلا بالعلم، والعلم يعرف بذاته لا بالجهل، فلا تقدم على الجهل بحسب الماهية.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة ومحمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية: (ولا تصعر خدك للناس)، قال:

«ليكن الناس عندك في العلم سواء».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة) بضم الميم وكسر الغين المعجمة ثقة ثقة، لا يعدل به أحد في دينه وجلالته وورعه. قال الكشي: روي أنه كان واقفيا ثم رجع، وقال: إنه مما اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه وأقروا له بالفقه «صه».

(ومحمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية: (ولا تصعر خدك للناس)) في الصحاح: الصعر الميل في الخد خاصة، وقد صعر خده وصاعر أي أماله من الكبر.

ومنه قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس). وفي المغرب: الصعر ميل في العنق وانقلاب في الوجه إلى أحد الشقين، ويقال: أصاب البعير صعر وصيد وهو داء يلوي منه عنقه ويقال للمتكبر: فيه صعر وصيد ومنه قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) أي لا تعرض عنهم تكبرا. وفي نهاية ابن الأثير: الصعار المتكبر، لأنه يميل بخده ويعرض عن الناس بوجهه.

ص: 116


1- 1 - الفروع من الكافي - كتاب العقيقة (باب بدء خلق الإنسان) تحت رقم 3.

(قال: ليكن الناس عندك في العلم سواء) فيه دلالة على أن النهي عن الشيء أمر بضده والتسوية بين المتعلمين في إفادة العلم والتكلم والنظر والنصيحة والبشاشة والتلطف مشعر بتواضع المعلم وحسن خلقه وخضوعه وكرم أصله وموجب لتآلفهم وتوددهم وعدم تحاسدهم وتباغضهم ونفاقهم وكسر قلب بعضهم ولو فرق بينهم والتفت إلى بعضهم دون بعض وأحن لم يكن ذلك استنكافا واستكبارا واستحقارا كان حاله شبيها بحال المتكبر، فكأنه مال عنه بوجهه متكبرا وذلك مذموم في نفسه مع ما فيه من المفاسد المذكورة، وتعميم الناس بحيث يشمل المتعلمين وغيرهم كما ذكره المفسرون وإن كان صحيحا لفظا ومعنى ولكن خصصه (عليه السلام) بالمتعلمين لعلمه إما بإلهام رباني أو بإعلام نبوي بأن مقصود لقمان كان ذلك.

* الأصل:

3 - وبهذا الاسناد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «زكاة العلم أن تعلمه عباد الله».

* الشرح:

(وبهذا الاسناد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر) بالنون والضاد المعجمة كوفي ثقة.

(عن عمرو بن شمر) كوفي ضعيف جدا.

(عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: زكاة العلم أن تعلمه عباد الله) الزكاة في اللغة الزيادة والنماء، وقيل: الطهارة وفي العرف تطلق اسما ومصدرا، فهي اسما عبارة عن الجزء المخرج ومصدرا عبارة عن إخراج الجزء، والمناسبة بين المعنى اللغوي والعرفي متحققة; لأن المعنى العرفي وإن كان موجبا لنقص المال ظاهرا لكنه يعود إلى صلاحه وزيادته ونموه وطهارته وطهارة النفس المخرج بإزالة خباثتها وأوساخها، وهي هاهنا تحتمل كل واحد من هذه المعاني الثلاثة. وفي تسمية التعليم زكاة تنبيه على أنه حق لهم ينبغي لك إعطاؤه إياهم تاما، وعلى أنك مسؤول يوم القيامة عن ذلك كما يسأل صاحب المال عن أداء زكاته، وعلى أنك مأجور فيه كما يؤجر المزكي، وعلى أنه يوجب زيادته ونموه كما يوجب زكاة المال ذلك، بل الزيادة في العلم أظهر; لأنه مع عدم زواله عن محله يوجب حصول ملكة راسخة معدة لحصول علوم غير محصورة، وينبغي أن يعلم أن زكاة العلم أشرف ذاتا وأكثر نفعا من زكاة المال; لأن زكاة المال وسيلة إلى رعاية حال الفقراء في الحياة الدنيوية الفانية وزكاة العلم وسيلة إلى رعاية حال عباد الله في الحياة الاخروية الباقية، فالفضل بينهما كفضل الآخرة على الدنيا.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عمن ذكره، عن أبي

ص: 117

عبد الله (عليه السلام) قال: «قام عيسى بن مريم (عليه السلام) خطيبا في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قام عيسى بن مريم (عليه السلام) خطيبا في بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها) الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والحكمة هي العلم بالمعارف والشرائع وتعليقها على أعناق الجهال وهم الذين يستنكفون منها (1) أو يفقدون قوة الاستعداد لإدراكها أو يضيعونها ويجعلونها وسيلة لنيل الشهوات النفسانية أو يستحقرون معلمها أو يؤذونه كان كتعليق الجوهر الثمين على أعناق الخنازير، بل أقبح منه عند أرباب البصائر الثاقبة، وهو ظلم على الحكمة، وعليه يحمل قوله (صلى الله عليه وآله): «لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير» (2)، والنهي عن كتمانها والوعيد عليه محمول على النهي عنه عن أهلها، كيف وقد كتمها النبي (صلى الله عليه وآله) في أول البعثة عن كفرة قريش، وفي تبليغ ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ كما يرشد إليه قوله (عليه السلام): «ها إن هاهنا لعلما جما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة»؟! بلى أصبت لقنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا ومستظهرا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه أو متقلدا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة ألا لا ذا ولا ذاك أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شيء شبها بهما الأنعام

ص: 118


1- 1 - فإن قيل: أليس وظيفة العلماء تعليم الجهال فكيف منعوا منه؟ قلنا: ليس جميع ما يتعلق بالدين مما يجب أن يعرفه كل الناس، بل فيه ما لا تصل إليه عقول أكثرهم وليس ما يتبادر إلى أذهان بعضهم من أن ما لا يفهمه العامة فهو باطل، أوليس من الدين صحيحا؟ وحينئذ فالواجب على العلماء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، فمن وجده العالم أهلا لفهم الغوامض علمه إياها، وإلا فلا، مثلا تقرير شبهة الأكل والمأكول الجواب عنها والفرق بين الحادث الزماني والذاتي ومعنى إعادة المعدوم وأنه ممكن أو محال وتفسير الفناء في الله والبقاء به لا يناسب البدوي والقروي، ويجب الامساك عنه وعن أمثاله، ورأيت من بعض الناس ما يقضي منه العجب ولا يصدق به. قال: إن العلامة الحلي (رحمه الله) في شرح التجريد أنكر المعاد، فقلت: كيف يمكن ذلك وهو أعلم علماء الإسلام وما عرفنا هذا الدين إلا ببركته وبركة أمثاله؟ قال: قد صرح بذلك وجاء بالكتاب وأراني قوله في استحالة إعادة المعدوم، فعلمت وجه خطئه وفي ذهن العوام لوازم وملزومات واصول مسلمة لا تخطر ببال العلماء ينصرف ذهنهم من اللفظ إلى امور لا دلالة لها عليه ويجب الاجتناب عن أمثال تلك الامور. (ش)
2- 2 - رواه ابن النجار من حديث أنس كما في الجامع الصغير وكنوز الحقائق للمناوي هكذا: «لا تطرحوا الدر في أفواه الخنازير».

السائمة كذلك يموت العلم بموت حامله (1). إذا تأملت بمضمون هذا الكلام علمت أكثر الناس حري بكتمان الحكمة عنه، وكذلك كتمها جميع الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) كما يظهر لمن تفكر في آثارهم ثم بناء التقية على الكتمان والتقية دين الله أمر بها عباده.

وقال بعض الأكابر ونعم ما قال: صدور الأبرار قبور الأسرار.

(ولا تمنعوها أهلها) وهم الطالبون لها، المستعدون لإدراكها، والجاعلون لها وسيلة لإدراك السعادة الدنيوية والاخروية (2) فتظلموهم; لأن تعليمها من حقوقهم ومن منع أحدا حقه فقد ظلمه، وينبغي أن يعلم أن العقول متفاوتة تفاوتا فاحشا في الضياء واستعداد العلوم وقبولها فبعضها لا يكون له نور واستعداد للعلوم أصلا، وبعضها له استعداد لبعض العلوم دون بعض، وبعضها له استعداد إلى حد لا إلى ما فوقه من اللطائف والدقائق (3)، وبعضها له استعداد لجميع العلوم وما فيه من الدقة والغموض والمعلم الحكيم ينبغي أن يراعي حال العقول وتفاوت مراتبها ويمنع العلم من يستحق المنع ويعلمه من يستحق التعليم ويضع كل عقل في موضعه ولا يتجاوز عنه لئلا يورده في مورد الهلكة، فإن من حمل أربعين منا على بعير لا يقدر إلا على حمل عشرين منا فقد أهلكه ومن بدل الشعير بالحنطة في الفرس فقد ضيعه يدل على ما ذكرنا قوله (صلى الله عليه وآله): «ما من أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم (4)، وقوله: «نحن معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم» (5).

ص: 119


1- 1 - النهج - الحكم والمواعظ، تحت رقم 147.
2- 2 - في زماننا بل في كل زمان اناس ناقصوا الإدراك يزعمون أن كل شيء لا يفهمه أمثالهم فهو أباطيل وأوهام ملفقة وخيالات مزخرفة، والحقيقة هي ما يفهمه جميع الناس مما ينحصر في منال الحواس وأن عالم الملكوت وهم وولاية الأئمة (عليهم السلام) غلو وتهذيب النفس حتى يصل إلى مقام القرب مزلة والحديث صريح في ردهم وأن في الحقيقة امورا لا يدركها أكثر الناس ولا يجوز منع الأقل لإنكار الأكثر. (ش)
3- 3 - تراهم ينكرون المعارف ولا يستدلون على إنكارهم إلا بأنهم لا يفهمونه وللدجالين منهم حيلة عجيبة يركبون ألفاظا شبيهة بألفاظ العرفاء وكلمات مشابهة لعبارات الحكماء من غير أن يكون لها معنى وأنت إذا فتشت كتب السيد الرشتي وأمثاله كشرح حديث عمران الصابي والخطبة التتنجية لم تجد فيها سوى ألفاظ كما ذكرنا، وإن قيل لهم: هذه مما لا يفهمه أحد تمثلوا بكلمات العرفاء. والجواب: أن كلامكم لا معنى له وكلامهم له معنى خفي على بعض ومثلهم كعربي فصيح يتكلم بعربية صحيحة لا يفهمها العجم ومثلكم كرجل مستهزىء يلفق ألفاظا شبيهة بكلمات العرب لا يفهمها العرب ولا العجم. (ش)
4- 4 - أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 9، بأدنى اختلاف في لفظه.
5- 5 - رواه الكليني في كتاب العقل، وفيه: «إنا معاشر الأنبياء...» الحديث.

باب النهي عن القول بغير علم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد (1)، قال: قال [لي] أبو عبد الله (عليه السلام): «أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن مفضل بن يزيد (2)، قال: قال [لي] أبو عبد الله (عليه السلام): «أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل) أي أن تتخذ دينا باطلا بينك وبينه تعالى تعبده به وتعتقد اعتقادا باطلا في أحوال المبدأ والمعاد أو الرسالة أو الإمامة أو الأحكام الشرعية، مثل الاعتقاد بأن الله تعالى مكانا أو كيفية أو ولدا أو شريكا أو صورة أو جسما أو مقدارا أو نحو ذلك مما لا يليق بجنابه، أو الاعتقاد بأنه لا سؤال في القبر أو لا حشر للأجساد أو لا عذاب على المشركين إلى غير ذلك، أو الاعتقاد بأن الرسول أو الإمام ليس بمعصوم وأن الخطأ يجوز لهما وأن الإمامة ليست بالنص وأنها مفوضة إلى تعيين البشر أو الاعتقاد بأن الأحكام التي أوجبها الشارع ليست بواجبة أو الامور التي نهى عنها ليست حرام.

(وتفتي الناس بما لا تعلم) تأخذه من مأخذه الذي أوجب الله تعالى ورسوله الأخذ منه، والمفاسد الدنيوية والاخروية الموجبة للهلاك الأبدي في الافتاء بغير علم كثيرة وهو تارة يصدر عن ملكة الكذب، وتارة عن الجهل المركب وكلاهما من أكبر الرذائل وأعظم المهلكات في الآخرة; لكونهما من أعظم الأمراض القلبية الموجبة لفوات الحياة الأبدية والاستحقاق بأفظع العقوبات الاخروية ثم الرجال الهالكون هم الذين عدلوا عما نطق به الكتاب والسنة والنبي والإمام (عليهما السلام) وأخذوا اصول العقائد وفروعها من غير مأخذها فضلوا عن دين الحق ولم يهتدوا إليه وجعلوا لأنفسهم دينا باطلا وجمعوا شيئا من الرطب

ص: 120


1- 1 - كذا.

واليابس والحق والباطل ونسجوها كنسج العناكب وجعلوها شبكة لذباب العقول الناقصة وجلسوا حاكمين بين الناس ضامنين لتخليص الملتبسات وتنقيح المشتبهات فإذا وردت عليهم الدعاوي يبتدرون إليها بالفتاوي ويحكمون فيها بمقتضى عقولهم الناقصة ويفتون بحكم آرائهم الباطلة ولا يمسكون عن طريق الغواية ولا ينظرون إلى سبيل يتوقع منه الهداية ولا يعلمون أن كف النفس عند حيرة الضلال خير لهم من الاقتحام في الأهوال، فهم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن الحجاج) يرمى بالكيسانية (1)، ورجع إلى الحق، وكان ثقة ثقة ثبتا وجها.

(قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياك وخصلتين) التركيب مثل إياك والأسد، فإياك منصوب بفعل مقدر أي بعد نفسك عن كل واحدة من خصلتين فحذف لضيق المقام أو لغرض آخر وابدل المفعول بالضمير المنفصل، وفيه تحذير له عنها; لأنها مهلكة.

(ففيهما هلك من هلك) تقديم الظرف لقصد الحصر مبالغة أو ليقرب الضمير من المرجع و «في» يحتمل الظرفية والسببية.

(إياك أن تفتي الناس برأيك) التركيب مثل إياك أن تحذف بتقدير من أن تحذف، وفيه تحذير للمخاطب وتبعيد له من إفتاء الناس بالقياس أو بحسب ظنه وتخمينه من غير أن يأخذ ذلك من الكتاب والسنة أو يسمعه من النبي والوصي أو ممن سمع منهما من الثقات ولو بواسطة، ووجه التحذير منه ظاهر لأن المفتي المخبر عن حكم الله تعالى وجب أن يكون آخذا له مما ذكر ومحترزا عن الإفتاء بالرأي غاية الاحتراز لأنه مهلك موجب للدخول في النار.

ص: 121


1- 1 - قال الفيروزآبادي: كيسان لقب المختار بن أبي عبيدة المنسوب إليه الكيسانية. انتهى. وقيل: المختار هو الذي دعا الناس إلى محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنيفة وسموا الكيسانية.

(أو تدين بما لا تعلم) أي إياك أن تعبد الله بما لا تعلمه وتتخذ دينا بغير علم (1) مستند إلى ما ذكر فتخرج من دين الحق فتهلك; لأن دين الحق عبارة عن مجموع القوانين التي وضعها النبي (صلى الله عليه وآله) لإصلاح الخلق بعلم إلهي وأمر رباني وله حدود كحدود الدار ولا يعلم ذلك إلا بتعليمه أو تعليم من يقوم مقامه، فمن اتخذ دينا واعتقده وعبد ربه به ولم يكن له علم مستند إليهم فهو خارج عن دين الحق مبتدع لدين آخر والمبتدع هالك.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب) ثقة جليل القدر، له أصل كبير (2)، كذا ذكره أصحاب الرجال واختلفوا في أنه روى عن المعصوم بلا واسطة أم لا، فذهب الحسن بن داود في ترجمته إلى الثاني، وذهب الشيخ في كتاب الرجال والنجاشي إلى الأول وقالا: إنه روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وسكت العلامة في الخلاصة والشيخ في الفهرست عن النفي والإثبات.

(عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من أفتى الناس بغير علم) بالقوانين الشرعية من مأخذه.

(ولا هدى) الهدى - بضم الهاء - الرشاد والدلالة يعني «راه رفتن وراه نمودن»، كما مرت الإشارة إليه، فذكره بعد العلم من قبيل ذكر السبب بعد المسبب لتوقف حصول العلم عليه ويجوز أن يراد به البصيرة الكاملة (3) التي لا تحصل إلا بعد ملكة العلم بالقوانين فيكون فيه إشارة إلى أنه لا بد في الإفتاء من أن يكون

ص: 122


1- 2 - فإن قيل: مذهب فقهائكم أن المسائل الفرعية ظنية; لأنها مأخوذة من أدلة ظنية الدلالة أو السند، وهو من التدين بما لا يعلم! قلنا: الظن الذي قامت على حجيته الأدلة القطعية هو علم يشمله التدين بالعلم. (ش)
2- 1 - بعض كتب الرواة تسمى أصلا ولفظه يدل على كون تلك الكتب في الاعتبار فوق سائر الكتب مما لا يسمى أصلا، وقد ميز بينهما الشيخ في الفهرست، وما صرح بكونه أصلا لا يجاوز ثمانين، ولكن ابن شهرآشوب في معالم العلماء ذكر أن الاصول أربعمائة، ولعلهم لم يكونوا متفقين فيعد بعضهم كتابا أصلا ولا يعده غيره. (ش)
3- 2 - ذكرنا سابقا أن جميع ألفاظ الحرف والصنائع تدل على صاحب الملكة فيها فلا يطلق النجار إلا على من له ملكة العمل والصنع لا على من جمع الدروب والسرر

العلم بالقوانين ملكة يقتدر بها المفتي على إدراك جزئياته بسهولة.

(لعنته ملائكة الرحمة) لبعده عن الرحمة الأزلية وملائكة الرحمة هم الموكلون على حسنات العباد، أو الكاتبون لها، أو الحافظون لها، أو المستغفرون لسيئاتهم، أو الدافعون عنهم صولة الشياطين، أو المدبرون لنفوسهم القابلة للارتقاء إلى المقامات العالية، أو الموكلون على أبواب الجنان الذين يقولون لأهلها: (طبتم فادخلوها خالدين)، أو الناقلون لرحمته سبحانه وإحسانه إلى عباده.

(وملائكة العذاب) لاستحقاقه إياه وهم الموكلون على تعذيب العصاة وتأديب الغواة وتخريب البلاد وسوق الفسقة إلى الجحيم يوم التناد.

(ولحقه وزر من عمل بفتياه) في أيام حياته وبعد موته إلى يوم القيامة لإضلاله إياه. وفي الصحاح: استفتيت الفقيه في مسألة والاسم الفتيا والفتوى وتفاتوا إلى الفقيه إذا ارتفعوا إليه في الفتوى. وفي المغرب: الفتى من الناس الشاب القوي الحدث، واشتقاق الفتوى من الفتى; لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقويته لبيان مشكل.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر، عن زياد بن أبي رجاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان الأحمر) هو أبان بن عثمان الأحمر نقل الكشي أنه كان ناووسيا، وقال: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. وقال العلامة: الأقرب عندي قبول روايته للإجماع المذكور وإن كان فاسد المذهب.

(عن زياد بن أبي رجاء) كوفي ثقة صحيح، واسم أبي رجاء منذر.

(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما علمتم) من الدين، والخطاب للعلماء الذين حصل لهم علم بكثير من المسائل بالفعل، أو كانت لهم ملكة الاقتدار على استنباطها بالقوة القريبة; إذ ليس للجاهل أن يقول:

الله أعلم كما يدل عليه الخبران الآتيان.

(فقولوا) بعد السؤال، والأمر للإباحة أو للندب أو للوجوب; لأن إظهار العلم قد يكون واجبا.

ص: 123

(وما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم) هذا الأمر للإباحة أو للندب دون الوجوب; لأن الواجب مع عدم العلم هو السكوت عن الحكم دون هذا القول إلا أن هذا القول راجح في الجملة، إذ السكوت قد يكسر قلب السائل باعتبار أنه قد يتوهم استنكاف المسؤول من الخطاب معه، ولما كان المقصود من هذا الكلام هو النهي عن الحكم على تقدير عدم العلم به أشار إلى مفسدة الحكم وسوء عاقبته على هذا التقدير ترغيبا في الكف عنه بقوله:

(إن الرجل لينتزع الآية من القرآن) أي ليقتلعها من انتزعت الشيء فانتزع أي اقتلعه فاقتلع، والمقصود أن الرجل ليأخذ الآية من القرآن ويستخرجها منه ليستدل بها على مقصوده أو ليفسر معناها.

(يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض) هذه الجملة حال عن فاعل ينتزع أو خبر بعد خبر، وللأصحاب هنا اختلاف فقرأ بعضهم يخر فيها بالخاء المعجمة والراء المشددة من خر يخر بالضم والكسر إذا سقط من علو يعني يسقط ذلك الرجل في انتزاع الآية وحملها على ما فهمه برأيه من علو إلى سفل بعد ما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض، وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الايضاح وقرأ بعضهم: يخترقها من الاختراق بالخاء المعجمة والتاء المثناة الفوقانية والراء المهملة والقاف بمعنى قطع الأرض والذهاب فيها على غير الطريق.

وفي المغرب: خرق المفازة قطعها حتى بلغ أقصاها، واخترقها مر فيها عرضا على غير طريق، يعني أن ذلك الرجل يخترق الآية ويعدل عن المقصود منها إلى غيره بحيث يكون المسافة بينهما أكثر من المسافة بين السماء والأرض، وقرأ بعضهم «يحرفها» بالحاء المهملة والراء المشددة والفاء من التحريف، وهذا أيضا صحيح، وقال بعض المحققين: إنه تحريف فليتأمل، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من إظهار العلم وكف اللسان عن التكلم بما لا يعلم وعدم جواز تفسير القرآن بالرأي والحديث مثله (1).

* الأصل:

5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن محمد بن

ص: 124


1- 1 - تفسير القرآن بالرأي غير جائز نهى عنه متواترا، والكلام فيه يطول ليس هنا موضع إيراده، والمراد من التفسير كشف المبهم ورفع القناع، وأما الآيات الظاهرة بنفسها أو بقرائن عقلية أو عادية وعرفية. فلا يقال لتفسيرها أنه تفسير بالرأي. والجملة ما لا يفهم من القرآن بغير النقل وجب الرجوع فيها إلى النقل، وما يفهم منه بغير النقل فظاهر الكلام مع القرائن حجة، وما لا يفهم من ظاهر اللفظ شيء يجب التوقف فيه أو الرجوع إلى الخبر المتواتر عن أهل العصمة (عليهم السلام). (ش)

مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «للعالم إذا سئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، وليس لغير العالم أن يقول ذلك».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للعالم إذا سئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول: الله أعلم، وليس لغير العالم أن يقول ذلك) لأن «الله أعلم» يفيد ثبوت أصل العلم وطبيعته للقائل، فالقائل إن كان عالما فهو صادق، وإن كان جاهلا فهو كاذب محيل.

فإن قلت: الجاهل أيضا لا يخلو عن أصل العلم وطبيعته إذ ما من أحد إلا وهو عالم بشيء ما.

قلت: المراد بالعلم العلم بالمعارف الإلهية والأحكام النبوية وبالعالم من حصل له علم بكثير منها لا مطلق العلم الشامل للعلم بشيء ما أيضا. وتفصيل المقام: أن من سئل عن شيء اما عالم أو جاهل في زي العالم فظن السائل أنه عالم والعالم إما عالم بذلك الشيء بالفعل أو لا، فإن كان عالما وعلم ذلك الشيء فله أن يجيب بمقتضى علمه وإن كان عالما ولا يعلم ذلك الشيء بالفعل فليس له أن يجيب، وله أن يقول: «الله أعلم» وإن كان جاهلا فليس له أن يجيب ولا أن يقول: «الله أعلم» وله أن يقول: «لا أدري» كما يجيء في الخبر الآتي.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا، وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتهمه السائل».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا، وإذا قال المسؤول: لا أدري فلا يتهمه السائل) يحتمل أن يراد بالرجل المسؤول الرجل الجاهل بالمعارف اليقينية والأحكام الدينية; لأن الرجل غير مقيد بالعلم، والأصل عدمه كما في أكثر أفراد البشر; ولأنه الذي ليس له أن يقول: الله أعلم كما سبق إذ لو قال ذلك لأوقع في قلب السائل شكا

ص: 125

في أنه عالم بناء على أن «أعلم» اسم التفضيل ولا بد له من مفضل عليه يوجد فيه أصل الفعل وهو هاهنا مقدر، والتقدير الله أعلم مني أو أعلم من كل عالم.

والأول صريح في ثبوت الفعل للمسؤول، والثاني يشمله على العموم فيشك السائل في ثبوته له ويتهمه بأنه عالم لم يجبه لغرض ما، وإذا قال: لا أدري لا يتهمه السائل; لأن هذا القول لا يدل على ثبوت العلم له أصلا. ويحتمل أن يراد به الجاهل والعالم جميعا.

ويؤيده أن مثل محمد بن مسلم داخل في الخطاب المذكور على الظاهر وحينئذ شك السائل في علم الجاهل واتهامه كما عرفت، وفي علم العالم الغير العالم بالمسؤول عنه أيضا باعتبار أن الله أعلم يشعر في الجملة بأن له علما بالمسؤول عنه إلا أنه أعرض عن الجواب لغرض من الأغراض فيتوهم فيه ذلك بخلاف لا أدري فإنه صريح في أنه ليس له علم به، وعلى هذا الاحتمال ينبغي أن يكون النهي بالنسبة إليه محمولا على الكراهة والأمر في الخبر السابق محمولا على الجواز لترتفع المنافاة بينهما.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن جعفر بن سماعة) ثقة في الحديث، واقفي «صه».

(عن غير واحد، عن أبان) وهو مشترك بين ثقتين ابن عثمان وابن تغلب.

(عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الله على العباد؟) وهو الذي يطالبهم به ووجب عليهم أداؤه والخروج عن عهدته.

(قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون) خص هذا الحق من بين حقوق الله تعالى بالذكر; لأن الغرض من السؤال طلب ما هو أحرى وأجدر بإطلاق اسم الحق عليه من بين حقوق الله تعالى على العباد فأجاب (عليه السلام) بأن الحري بذلك الاسم والحقيق به هو القول بما يعلم والسكوت عما لا يعلم لأنه أجلها وأعظمها، وذلك لأن دين الحق الذي هو منهج العباد للوصول إلى قرب جنابه إنما يستقيم بنشر العلم وضبط النفس عن الكذب فيه; ولأن هذا حق مستلزم لأكثر الحقوق; إذ حصوله متوقف على صفاء النفس

ص: 126

عن الرذائل وتحليها بالفضائل واستقرار القوى الفكرية والغضبية والشهوية في الأوساط وعدم انحرافها وميلها إلى جانبي التفريط والافراط ولأن في تكلم اللسان بالحق والاجتناب عن الكذب نظام الدين والدنيا.

ألا ترى أن رئيس الكذابين الشيطان اللعين كيف أفسد نظام آدم وصاحبته وذريتهما بكذب واحد حين قال: (ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) ولأن هذا الحق متعلق باستقامة اللسان، وهي من أهم المطالب; إذ آفات اللسان ومعاصيه كثيرة، فإنه ما من موجود ومعدوم وخالق ومخلوق ومعلوم وموهوم إلا ويتناوله اللسان بنفي أو إثبات، وهذه الحالة لا توجد في بقية الأعضاء; لأن العين لا تصل إلى غير الأضواء والألوان والاذن لا تصل إلى غير الأصوات وقس عليها البواقي.

وأما اللسان فميدانه واسع جدا، وله في كل من الخير والشر مجال عريض، فلذلك حق المتعلق به أعظم الحقوق وأجلها. وقد يقال: وجه التخصيص أن المراد بالعباد هنا العلماء من أهل الكتب والفتاوي بقرينة حالية أو مقالية تحققت عند السؤال فلذلك اجيب بأخص صفاتهم، وفيه نظر:

أما أولا فلأن تخصيص العباد بالعلماء غير ظاهر.

وأما ثانيا فلأن حقوق الله على العلماء أيضا كثيرة فما وجه تخصيص هذا الحق بالذكر؟ وأما ثالثا فلأن الوقوف عندما لا يعلمون من حق الله على الجهال أيضا فليس الجواب بأخص صفات العلماء.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس [بن عبد الرحمن] عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردوا ما لم يعلموا، وقال عز وجل: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق)، وقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس، عن أبي يعقوب إسحاق بن عبد الله) هو إسحاق بن عبد الله بن سعيد بن مالك الأشعري القمي، ثقة.

ص: 127

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خص عباده بآيتين من كتابه) خص بالخاء المعجمة والصاد المهملة أو بالحاء المهملة والضاد المعجمة بمعنى حث، والمراد بالعباد جميعهم. ويحتمل أن يراد بهم العلماء العارفون بالكتاب والسنة والمستعدون لكسب الأحكام منهما استعدادا قريبا بقرينة الإضافة المفيدة للاختصاص وآيتين بالياء المثناة التحتانية ثم بالتاء المثناة الفوقانية.

(أن لا يقولوا) على الله في أمر من امور الدين.

(حتى يعلموا) ذلك على اليقين.

(ولا يردوا ما لم يعلموا) أي لا يجعلوا ما لم يعلموه مردودا باطلا لاحتمال أن يكون حقا فيكون رده ردا على الله سبحانه، فوجب عليهم أن لا يقولوا شيئا إلا بعد العلم بأنه حق ولا يردوا شيئا إلا بعد العلم بأنه باطل.

فإن قلت: ما موقع قوله: أن لا يقولوا؟ قلت: هو متعلق بخص بتقدير الباء أو بحث بتقدير «على» أي خص عباده أو حثهم في آيتين من كتابه أو بواسطة آيتين منه بأن لا يقولوا أو على أن لا يقولوا، وحذف حرف الجر مع أن، وأن قياس مطرد ومن قرأ قوله باثنين بالثاء المثلثة والنون وقال: معناه خصهم بشيئين من كتابه وأمرين من اموره وبالغ في ترجيحه حتى قال: آيتين بالياء والتاء تصحيف لفظ اثنين بالثاء والنون وأيده بأن في الاولى مناقشة وهي أن الآيات المخصوص بها هؤلاء العباد كثيرة زائدة على آيتين وذكر طائفة من الآيات فقد أخطأ لأن الباء في قوله: بآيتين ليست صلة للتخصيص كما أشرنا إليه.

ولو سلم أنها صلة له باعتبار أن يجعل قوله: أن لا يقولوا بدلا لآيتين فلا خفاء في أن تخصيصهم بها لا ينافي تخصيصهم بغيرهما من الآيات أيضا إذ دلالة في ذلك التخصيص على حصرهم فيهما، بل إنما يدل على حصرهما فيهم كما لا يخفى على من له معرفة بالعربية.

وقد أشار (عليه السلام) إلى الآية الاولى الدالة على أنه ليس لهم أن يقولوا حتى يعلموا بقوله:

(وقال تعالى) عطف على «خص عباده بآيتين» على وجه التفسير والبيان له.

((ألم يؤخذ عليهم)) الضمير لأهل الكتاب كما يشعر به الآية المتقدمة عليها الدالة على أنهم ورثوا التوراة من أسلافهم وقرؤوها وعلموا ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها، وأخذوا الرشى في الحكومة وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامة أو لغيره وأصروا على ذلك، وكانوا مع الاصرار وعدم التوبة يقولون من غير علم على البت والقطع: سيغفر لنا الله ولا يؤاخذنا به أصلا.

((ميثاق الكتاب)) الإضافة بتقدير في أي ميثاق مذكور في الكتاب يعني في التوراة.

((أن لا يقولوا على الله إلا الحق)) أي أن لا يقولوا على كتابه ودينه وشريعته إلا ما علموا أنه الحق

ص: 128

الثابت الواقع من عند الله تعالى، وقوله: (أن لا يقولوا) متعلق بالميثاق، أي بأن لا يقولوا أو بيان وتفسير له لأن الميثاق قد وقع بهذا القول فصح أن يكون هذا القول تفسيرا له والمراد توبيخهم على التحريف والقول بالمغفرة مع عدم التوبة بدون علم وذمهم بأن ذلك افتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق وخروج عن ميثاق الكتاب وهذه الآية وإن نزلت فيهم وفي الحق المخصوص إلا أنها تحمل على العموم وتشمل علماء هذه الامة أيضا، والحق مطلقا فيكون منعا لهم عن القول بشيء إلا بعد ما علموا أنه حق، وذلك لأن هذا الحكم - أعني القول بالحق - دون غيره وعدم جواز الافتراء على الله تعالى غير مختص بامة دون آخرين، ولا بحق دون آخر.

وقد تقرر في الاصول أن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم وبهذا الاعتبار وقع الاستشهاد بهذه الآية لما نحن فيه، وأشار إلى الآية الثانية الدالة على أنه لا يجوز الرد والتكذيب بدون علم بقوله:

(وقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)) ذمهم على رد ما لم يعلموا وتكذيبهم به (1).

قال في الكشاف: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم على تخالف دينهم وفرارهم عن مفارقة دين آبائهم كالناشي على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه وإن كانت أضوء من الشمس في ظهور الصحة وبيان استقامتها أنكرها في أول وهلة واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد; لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.

أقول: الآية وإن نزلت لذم المتسرعين إلى التكذيب بالقرآن قبل أن يتدبروا في نظمه الذي يعجز عن مثله مصاقع الخطباء وأن يتفكروا في معناه الذي يقصر عن الوصول إلى كنه حقائقه عقول العلماء لكن

ص: 129


1- 1 - وكان هذا خاص بالاعتقاديات ولا يشمل الفروع العملية; لأن التوقف والرد بالنسبة إلى العمل متساويان مثلا; إذ أورد رواية في وجوب غسل الجمعة لا نعلم صحتها فالتوقف فيها بمعنى عدم العمل بها وردها كذلك، وأما بالنسبة إلى الاعتقاديات فالرد ربما يستلزم الكفر دون التوقف مثلا إذا ورد الحديث في أن الهواء يضغط على المصلوب كالقبر على المدفون، أو أن الصادق (عليه السلام) أرى أبا بصير الكوثر وأنها الجنة في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فإن فهمت معناه فهو وإن لم تفهم فلا تسرع إلى التكذيب بأن الكوثر وأنهار الجنة عند العرش أو في الجنة أو لم يخلق بعد وليست في المدينة حتى يراه أحد بل توقف وسلم واعرف أن عند أهله حل كل شبهة مثل ذلك يرد في محله. (ش)

يندرج فيها باعتبار عموم اللفظ ذم من يتسرع إلى الرد والتكذيب بالأحاديث النبوية والروايات المنقولة عن الأئمة الطاهرين ولو بواسطة وغير ذلك من الامور الدينية قبل أن يعلم ذلك ويتدبر في معناه ويتفكر من مغزاه ويتأمل في صحة مضمونه ومؤداه كالناشي على الدين الباطل من مخالفينا المنكرين لكون الخلافة بالنص مع أن النصوص الواردة في كتبهم كثيرة ولكنهم لما لم يتدبروا فيها ولم ينصفوا من أنفسهم وقلدوا الآباء والأسلاف وعاندوا الحق ونشأوا على الباطل ردوها من غير علم بتأويلات فاسدة ومزخرفات باطلة تضحك عليهم العقول الكاملة ويسخر بهم القلوب الخالصة، وكبعض المجتهدين الذي يعتمد برأيه فتارة يحكم بشيء ويعمل به ويحمل غيره عليه، وتارة يرجع عن رأيه ويحكم بضد ذلك الشيء، وأحد هذين الحكمين كذب وافتراء لا محالة، فكأنه لم يسمع قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم)، فوجب على كل عاقل متدين أن يقول ما يعلمه ولايرد ما لا يعلمه ويسكت ويطلب حقيقة أمره عن أهل العلم، وله في السكوت أجر جميل وثواب جزيل، ولذا قال بعض الأكابر: لا أدري نصف العلم، ومن سكت لله تعالى حيث لا يدري فليس أقل أجرا ممن نطق بعلم; لأن الاعتراف بالنقص أشد على النفس.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة قال: ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد يتصدع قلبي، قال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: واقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد، عمن حدثه، عن ابن شبرمة) اسمه عبد الله، ذكره ابن داود في قسم الممدوحين من كتابه، وقال: كان قاضيا للمنصور على سواد الكوفة، وكان فقيها شاعرا، وأورده العلامة في الخلاصة في قسم المجروحين. وقال بعض العلماء: إنه مستقيم مشكور وطريق الحديث من جهته ليس إلا حسنا ممدوحا، ولست أرى لذكر العلامة له في قسم المجروحين وجها،

ص: 130

إلا أنه قد تقلد القضاء من قبل الدوانيقي وهو شيء لا يصلح للجرح (1) كما لا يخفى.

وشبرمة ضبطه ابن داود بالشين المعجمة والباء الموحدة الساكنة والراء وسكون الباء الموحدة.

وقال بعض علمائنا: رأيت بخط من يعتد به من أصحابنا ضبطه بفتح الشين المعجمة.

(قال: ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) إلا كاد يتصدع قلبي، قال: حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ابن شبرمة: واقسم بالله ما كذب أبوه على جده ولا جده على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل بالمقاييس) المقياس ما يقدر به الشيء ويوزن به، ومنه القياس، وهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في العلة (2)، وله أركان أربعة، كما يظهر من التعريف والمراد بالعمل به اعتقاد حجيته وجعله دليلا على الأحكام الشرعية والعمل بمقتضاه وإفتاء الناس به ووضعه شريعة لهم.

(فقد هلك) في نفسه هلاكا أبديا بتحريمه ما حلل الله وتحليله ما حرم الله، ومضادته لله في وضع الشرائع ومشاركته إياه في تعيين الأحكام وتركه طريقا قرره الله لعباده للوصول إلى أحكامه وهو الكتاب والسنة ومن عنده علم الكتاب.

ص: 131


1- 1 - لا أدري من هذا الذي اجترأ على العلامة، والظاهر ممن تولى القضاء من قبل المنصور الضعف، إلا أن يعلم استقامته يقينا فيحمل عمله على الصحة، وقد ذكره المخالفون وأثنوا عليه ولم يتهموه بالرفض والتشيع كما هو دأبهم. وأما نفس تولي القضاء وسائر المناصب فليس بقادح إذا لم يكن إعانة للظلم; لأن متولي المنصب ربما يكون مستقلا في نظره وأعماله ويمكن أن يختار فعلا ليس فيه ظلم على أحد، وليس هذا محرما وإنما يحرم انفاذ أوامر الظالم والتصدي لمنصب هذا شأنه. وبالجملة: ليس كل ولاية من قبل الجائر إعانة بل النسبة بينهما عموم من وجه ولذلك جوز فقهاؤنا الولاية ولم يجوزوا الإعانة. (ش)
2- 1 - لا ريب أن القياس ليس بحجة في الشرع، وقد استفاضت به الروايات، وقد شاع عن الشيخ أبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي القول بحجيته في الجملة، وأن المانع عنه هم اغمار الشيعة لا أهل التحصيل منهم. وقد نقل النجاشي من مصنفاته كشف التمويه والالتباس على اغمار الشيعة في أمر القياس، وظني أن القياس في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) أخص منه في اصطلاح الاصوليين ولا استبعاد في تغاير الاصطلاح كالاجتهاد والرأي في عرفهم (عليهم السلام). وفي عرفنا ومقصود ابن الجنيد التخطي عن بعض موارد النص مما قامت القرائن على عدم إرادة الخصوصية فيها مثل التمسح بثلاثة أحجار أو حجر واحد ذي ثلاث جهات وتطهير الثوب من البول أو تطهير الفراش من عرق الجنب عن الحرام والنهي عن شرب سؤر الكافر والاجتناب عنه في الصلاة، فإن الثاني في كل واحد من الأمثلة غير منصوص ملحق بالأول، فإذا نظرت في المسائل الفقهية رأيت أنها بجميع أطرافها وتفاصيلها غير مصرح به، فإذا ورد النص مثلا في الخمر لا تصل فيها استفيد منه النجاسة ويلحق سائر أحكام النجاسة مما لم يرد فيه نص به، ولا يحتمل أن يقال: لعل الخمر ليست بنجسة، وإنما يمنع من الصلاة فقط وإلحاق سائر الأحكام بها قياس. (ش)

(وأهلك) غيره ممن تبعه، وعمل بسنته، وأفتى بفتياه، واعتقد بطريقته، وتمسك بحجية القياس بتبعيته، فهو ضال مضل مبين، عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم الدين من غير أن ينقص من أوزار التابعين.

(ومن أفتى الناس بغير علم) في الأحكام الشرعية وبين لهم الحلال والحرام وتمسك في ذلك بالكتاب والسنة.

(وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ) النسخ في اللغة الإزالة والتغيير. وفي العرف: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، والمتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ (1)، ومعنى الرفع أنه لولا المتأخر لثبت المتقدم، وقيل: المتأخر بيان لانتهاء الأول في ذاته.

(والمحكم من المتشابه) المحكم في اللغة المتقن. وفي العرف: هو الخطاب الدال على معنى لا يحتمل غيره، والمتشابه بخلافه. والمحكم على هذا التفسير مختص بالنص، والمتشابه يتناول الظاهر والمأول والمجمل، فإن كل واحد من هذه الثلاثة يحتمل غيره إلا أن ذلك الغير في الظاهر مرجوح، وفي المأول راجح، وفي المجمل مساو.

وقيل: المحكم ما اتضح دلالته، وهو بهذا المعنى يتناول النص. والظاهر المتشابه يتناول المأول والمجمل.

(فقد هلك) (2) لأنه ربما يأخذ بالمنسوخ ويرفض الناسخ لعدم علمه بالنسخ ويجعله شريعة لمن تبعه، وربما يحمل المتشابه على أحد مدلوليه لظنه أنه محكم. والمقصود مدلوله الآخر كما فعلت المجسمة حيث تبعوا متشابهات القرآن والسنة، واعتقدوا أن الباري جل شأنه جسم له صورة ذات وجه ويمين وجنب ويد ورجل وإصبع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(وأهلك) من تبعه وعمل بقوله وأخذ بفتواه; لأن تابع البدعة هالك كواضعها وإن كان الهلاك في واضعها أشد وأقوى.

ص: 132


1- 2 - ينبغي أن يكون المراد من النسخ هنا أعم من النسخ المصطلح والتخصيص والتقييد; لأن النسخ في اصطلاح الروايات قد يطلق عليها كما يظهر للمتتبع، ولو كان المراد النسخ المصطلح فقط لم يستقم الكلام; إذ لا يعلم في جميع آيات القرآن حكما منسوخا إلا ثلاثة: عدة المتوفى عنها زوجها حولا كاملا نسخ بأربعة أشهر وعشرا، وإيذاء الزاني وحبسه نسخ بالجلد، وتقديم الصدقة على النجوى. وأما التقييد والتخصيص فكثير. (ش)
2- 1 - هلك - بتشديد اللام - وأهلك تستعملان لازما ومتعديا كما في القاموس. ويقال لمن ارتكب أمرا عظيما: «هلكت وأهلكت» من باب التفعيل والافعال كما في (أقرب الموارد).

ص: 133

باب من عمل بغير علم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق) شبه الجاهل العامل على غير بصيرة قلبية ومعرفة يقينية بما يعلمه بالسائر على غير الطريق المطلوب تنفيرا بذلك التشبيه عن الجهل الموجب لسقوط العمل عن درجة الاعتبار وإيضاحا للمقصود. وأشار إلى وجه التشبيه بقوله:

(لا يزيده سرعة السير إلا بعدا) عن المطلوب، أو عن طريقه; إذ بعده عن المطلوب بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب.

وسر ذلك أن الطريق الموصل إلى الحق واحد متوسط بين أضداد متعددة وطرق متكثرة موصلة إلى الباطل، ومن عميت قوة بصيرته وانطمست عين رؤيته يقع في أول قدم في طريق الضلال ثم لا يزيده سرعة سيره إلا بعده عن المطلوب وبخلافه العامل على معرفة وبصيرة في سلوكه وحركته من قربه من المطلوب، فإن العامل العالم يعلم بنور بصيرته وضوء معرفته طريق المطلوب فيبتدأ به ويترقب أحوال نفسه فيما ينفعه ويضره فيطلب الأول ويترك الثاني، وهكذا يراعي حاله دائما حتى ينتهي طريقه ويتم عمله على وجه الكمال ويحصل له القرب إلى المطلوب الحقيقي الذي هو لقاء الله سبحانه، والله الموفق والمعين.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن حسين الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ألا إن الإيمان بعضه من بعض».

ص: 134

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان) اسمه عبد الله، ثقة عين.

(عن حسين الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة) أي بمعرفة ذلك العمل; لأن قبول العمل متوقف على معرفته تعالى، ومعرفة صفاته ورسوله المبلغ عنه، ومعرفة العمل ومأخذه الذي يجب الأخذ عنه، ومعرفة كيفيته وأجزائه وشرائطه ومفاسده وموانع صحته، فإذا حصلت تلك المعارف لأحد وعمل على وفقها كان عمله مقبولا وإلا فلا، ضرورة انتفاء الموقوف بانتفاء الموقوف عليه.

(ولا معرفة إلا بعمل) يجوز أن يكون معطوفا على «عملا» و «لا» لتأكيد النفي و «معرفة» منصوبة منونة يعني لا يقبل الله معرفة بعمل إلا بعمل ما يتعلق به تلك المعرفة وأن يكون معطوفا على قوله «لا يقبل» و «لا» حينئذ لنفي صفة الجنس و «معرفة» مبنية على الفتح، يعني لا معرفة في الحقيقة أو على وجه الكمال إلا إذا كانت مقرونة بعمل لأن العالم إذا لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء، كما دل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله» (1)، وهذا كما يقال للبصير بالآيات والسامع لها إذا لم يقر بها: صم بكم عمي، ولأن العلم سبب للعمل ومؤثر فيه إذا كان ملكة راسخة وانتفاء الأثر دليل على انتفاء المؤثر، وأيضا العمل سبب لبقاء العلم واستمراره، فإذا انتفى العمل انتفى العلم وزال بالكلية، كما دل عليه قول الصادق (عليه السلام): «العلم يهتف بالعمل فإذا أجابه وإلا ارتحل عنه» (2).

(فمن عرف دلته المعرفة على العمل) إما نتيجة للسابق ومتفرع عليه، أو تفصيل له لما فيه من الإجمال في الجملة، والمقصود أن المعرفة إذا رسخت في النفس واستقرت فيها دلت العارف على العمل وتوصله إليه وتبعثه عليه والعمل من آثارها وتوابعها المترتبة عليها (3).

توضيح ذلك: أن المعارف والعلوم الراسخة أنوار للنفس الناطقة، وبها ينكشف عند النفس جلال الله

ص: 135


1- 1 - تقدم، وسيأتي في باب استعمال العلم تحت رقم 6، والاستقامة: الرجوع إلى ما شغل عنه وشاع استعماله في الرجوع عن السقم إلى الصحة.
2- 2 - سيأتي عن قريب في باب استعمال العلم، تحت رقم 2.
3- 3 - هذا العلم الذي يدعو إلى العمل ليس حفظ الاصطلاحات والأقوال والأحكام بل هو الإيمان الراسخ بالمبدأ والمعاد. ألا ترى أنه يمكن للمسلم أن يحفظ جميع أحكام التوراة وشريعة موسى وعيسى (عليهما السلام) ويضبط أسامي رجالهم وعلمائهم؟ وكذلك يمكن للنصارى أن يتعلموا كتب الفقه الإسلامي وأسامي رجالهم وقواعدهم الاصولية، ولا يوجب ذلك العمل لعدم الاعتقاد بصحتها، وإنما العلم الموجب للعمل هو أن يعتقد بالمبدأ والمعاد اعتقادا يقينيا غير مشوب بشك وترديد، ولذلك ترى كثيرا من أهل الدنيا متظاهرين بالعلم دون العمل وعلامتهم أن يقتصروا في تعلم ما يزيد في الجاه وحسن الشهرة. (ش)

وجماله وعظمته وقدرته فتصير تلك المعارف من أجل ذلك دليلا لها في انتقالها من مقام الفرقة الذي لها في العالم الجسماني إلى مقام الشوق إلى الوصول بقرب الحق وحضرة القدس ومن مقام الشوق إلى مقام العزم في السير إليه، ومن مقام العزم إلى مقام تهيئة الآلات والأعضاء والجوارح وتحريكها نحو الأعمال الموجبة للقرب واشتغالها بها، فالمعرفة إذن دليل على العمل، ومنه يظهر سر قول الكاظم (عليه السلام): «كثير العمل من أهل الأهواء والجهل مردود» (1); لأن من أراد الوصول إلى مقام خفي الآثار بلا دليل كان خطؤه أكثر من الصواب.

(ومن لم يعمل فلا معرفة له) لأن العارف أي الذي حصل له شيء من المعرفة ويظن أنه عارف إذا لم يعمل كان ذلك لعدم رسوخ تلك المعرفة وعدم استقرارها في نفسه لما عرفت أن المعرفة الراسخة دالة باعثة على العمل، فإذا انضاف إليه اتباعه للنفس الأمارة وهواها واقتفاؤه للقوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية ومقتضاها زالت عنه تلك المعرفة الناقصة الغير المستقرة بالكلية لظلمة نفسه وكدورة طبعه وسواد ذهنه.

ويحتمل أيضا أن العمل مصقلة للذهن وسبب لصفائه ونورانيته فهو معد لحصول معرفة اخرى فيه أكمل وأفضل من المعرفة الباعثة على العمل، فمن لم يعمل لم يكن له تلك المعرفة الكاملة وهذه العبارة مع قوله: «لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة» تفيد أن العلم والعمل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، كما يشعر به أيضا قول الصادق (عليه السلام): «العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل ومن عمل علم» (2).

(ألا إن الإيمان بعضه من بعض) لأن الإيمان مركب من المعرفة والعمل، أعني التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان (3)، كما دل عليه بعض الروايات، وهو الشائع في ألسنة الشرع.

وقد تقرر أن المعرفة باعثة على العمل، والعمل معد لحصول معرفة اخرى أكمل وأفضل، فالعمل من المعرفة وهكذا يتدرجان إلى أن يبلغ أقصى مراتب الإيمان وأيضا المعرفة سبب من أسباب تحقق العمل وحدوثه، والعمل سبب من أسباب بقاء المعرفة واستقرارها، فقد ظهر على التقديرين أن الإيمان بعضه من بعض، ويحتمل أن يكون معناه أن الإيمان بعضه الذي هو العمل من بعضه الذي هو المعرفة المقتضية له، ثم تتفاوت الأعمال بحسب تفاوت المعرفة، فأدنى مراتبها يدل على أدنى مراتب العمل، وأعلاها على أعلى مراتبه، والمتوسطات متوسطات في الدلالة والكمية والكيفية، وبحسب هذا التفاوت يتفاوت الإيمان كمالا

ص: 136


1- 1 - تقدم في كتاب العقل في حديث هشام بن الحكم، تحت رقم 12.
2- 2 - سيأتي في باب استعمال العلم، تحت رقم 1.
3- 3 - الإيمان كما صرح به علماؤنا هو نفس الاعتقاد، كما مر في المقدمة، والاقرار باللسان علامة، والعمل بالأركان نتيجة له. والمراد هنا الإيمان الظاهر الكامل، أما الزيادة والنقصان في الإيمان فباعتبار تأثيره في العمل. (ش)

ونقصانا.

ويحتمل أن يراد بالإيمان هنا نفس المعرفة والتصديق، ويجعل العمل خارجا عنه معتبرا في كماله وزيادته، والمقصود حينئذ أن الإيمان بعض أفراده من بعض لا بعض أجزائه من بعض، كما في الأول.

بيان ذلك: أن مراتب المعرفة متفاوتة بعضها فوق بعض، وكل مرتبة سبب لفيضان ما بعدها; إذ أصل المعرفة والتصديق مع اقتران شيء من العمل معها كالإقرار باللسان ينور القلب ويصقله حتى يستعد بذلك لفيضان معرفة اخرى أقوى وأكمل من الاولى. وهكذا تتدرج المعارف إلى أن تبلغ لغاية الكمال وهي الإيمان الحقيقي، فقد ظهر أن للإيمان أفرادا متكثرة بعضا ينشأ من بعض.

* الأصل:

3 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».

* الشرح:

(عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) فيه ترغيب في تحصيل العلم وتنفير عن الجهل باعتبار أن أكثر أعمال الجاهل فاسد موجب لفساد حاله وخسران مآله وبعده عن ساحة الحق ورحمته، وذلك لأن الأعمال إما قلبية أو بدنية، وكل واحد منهما صحيحة موجبة للقرب من الله سبحانه والتشرف بشرف كرامته ورحمته أو سقيمة مؤدية إلى البعد عنه والحركة إلى مقام سخطه وغضبه والتمييز بين الصحيح والسقيم منها لا يتصور بدون العلم بحقائقها وخواصها ومنافعها ومضارها وكيفية العمل بها، فمن اشتغل بعمل من غير علم به فإن كان ذلك العمل فاسدا في ذاته كما إذا ظن مثلا بمعونة الوهم والقوة الشهوية والغضبية أن الرذائل فضائل فقد وقع في الفساد حين الإقدام عليه، وإن كان صحيحا في ذاته فلا شبهة في أن صحته متوقفة على امور بعضها داخل في حقيقته وبعضها خارج، ولكل من الداخل والخارج محل مخصوص وأجزاء مخصوصة معتبرة في التقديم والتأخير، وكيفيات مخصوصة ومنافيات مخصوصة، ولا شبهة أيضا في أن الإتيان بجميع هذه الامور على الوجه المعتبر شرعا على سبيل الاتفاق نادر جدا بل محال عادة فلا شبهة في أنه يقع في الفساد بعد الإقدام عليه، وأن ما يفسد أكثر مما يصلح نظير ذلك من اشتغل بإعمال الكيمياء من غير علم بها فإن إفساده أكثر من إصلاحه، بل إصلاحه محال بحسب العادة، أو من سلك في ليل مظلم من غير بصيرة بادية فيها آبار كثيرة فإن وقوعه فيها وصرعته في مهاوي الهلاك أغلب من نجاته.

ص: 137

باب استعمال العلم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة) هو عمر ابن محمد بن عبد الرحمن بن اذينة، وكان ثقة صحيحا.

(عن أبان بن أبي عياش) بالشين المعجمة، قال ابن الغضائري: هو ضعيف. وقال السيد علي بن أحمد: إنه كان فاسد المذهب ثم رجع، وكان سبب تعريفه هذا الأمر سليم بن قيس (1).

(عن سليم بن قيس) الهلالي، سليم بضم السين، مجهول الحال.

(قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في كلام له: العلماء رجلان: رجل عالم آخذ

ص: 138


1- 1 - نقل ذلك تفصيلا العلامة (رحمه الله) في الخلاصة، وقال: الوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه والتوقف في الفاسد من كتابه. وأقول: كل ما رأيناه منقولا عن سليم فهو من هذا الكتاب المعروف، وقد طبع أخيرا، وفيه امور فاسدة جدا كما ذكروا، فلا عبرة بما يروى عنه إلا أن يؤيد بقرينة عقلية أو نقلية، وقد ذكر ابن الغضائري أنه وجد ذكر سليم في مواضع من غير جهة كتابه ورواية أبان بن أبي عياش عنه، ونقل عنه ابن عقدة أحاديث في رجال أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكنا ما رأينا في كتبنا التي بأيدينا حديثا عنه وحينئذ فينحصر الأمر في الكلام على الكتاب الموجود، وهو ضعيف جدا، فكأنه نظير كتاب الحسنية وكتاب عبد المحمود النصراني الذي أسلم وتحير في المذاهب حتى هداه الله للتشيع موضوع لغرض صحيح، وإن لم يكن له واقع وحقيقة. (ش)

بعلمه فهذا ناج) أي رجل عالم بالمعارف الإلهية والأحكام الشرعية من مأخذها وآخذ بعمله يعني عامل بمقتضاه من تهذيب الظاهر والباطن عن الأعمال القبيحة والأخلاق الرذيلة، وتزيينهما بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، واتصافه بالكمالات العلمية والعملية واستحقاقه للحياة الأبدية والخلافة الربانية، واستكماله في الحقيقة الإنسانية فهذا ناج من ألم الفراق والعقوبات الاخروية لكشف الحجاب بينه وبين الحضرة الربوبية (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

(وعالم تارك لعلمه) لتدنس ظاهره بالأعمال الباطلة وتوسخ باطنه بالأخلاق الفاسدة، واتباعه للقوة الشهوية والغضبية، وركوبه على النفس الأمارة حتى تورده في موارد طلب الدنيا وزهراتها، وجمع زخارفها ومشتهياتها وتحمله إلى الغلظة على الصلحاء والزهاد، وتسرعه إلى الفتاوي والحكومة بين العباد، وتمدحه لحكام الجور وتعبده لهم، والتياذه بهم، وبالجملة هو الذي وضع العلم على طرف اللسان ولم يصل أثره إلى القلب وسائر الأركان.

(فهذا هالك) لابتلائه ألم الفراق وشربه كأسا مسمومة المذاق، واستماعه سحقا يوم التلاق حين يشاهد ربح العلماء العاملين ونور سيماء المقربين ألا ذلك هو الخسران المبين.

(وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه) التابع للنفس وهواها، وهذا الريح ينشأ إما من قبح أفعاله ونتن أعماله، وهذا النتن موجود في الدنيا أيضا إلا أن الشامة القاصرة لا تدركها والآخرة محل بروز الكامنات والأسرار أو ينشأ من شدة تعذيبه بالنار لاستحقاقه إياها، إذ العلم ميزان يوزن به الدنيا والآخرة ويعرف به فضل الآخرة على الدنيا ومعرفة ذلك يستلزم ذكر الموت ودوام ملاحظته وذلك مستلزم للرهبة والعمل لما بعده، فالعالم إذا ترك العمل وآثر الدنيا على الآخرة مع العلم بالتفاضل وسوء عاقبة الركون إلى الدنيا ومتابعة النفس فهو بزيادة التعذيب أحرى وباستحقاق اللوم والعقوبة أجدر وأولى، نظير ذلك أنه لو وقع البصير والأعمى في البئر فهما متشاركان في الهلاك إلا أن البصير أولى باللوم والمذمة.

(وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة) يوم القيامة على التقصير في العمل الموجب للسعادة الاخروية والانهماك في الخسران الموجب للشقاوة الأبدية، والحسرة أشد التلهف على الشيء الفائت.

(رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة) وأكرمه بنعيمها الآجل قبوله الحق وعمله به.

ص: 139

(وأدخل الداعي النار بتركه علمه) أي بسبب تركه علمه الداعي إلى الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة الباعثة على لقاء الله ورحمته والدخول في سلك المقربين في حضرته، والجار في قوله: «بتركه» متعلق بأدخل وتعلقه بالحسرة والندامة بعيد لفظا.

(واتباعه الهوى) الهوى هو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية على أنواعها حتى تخرج من الحدود الشرعية وتدخل في مراتع القوة السبعية والبهيمية.

(وطول الأمل) لما لا ينبغي أن يمد الأمل فيه من المقتنيات الفانية والمشتهيات الزائلة الآنية.

(أما اتباع الهوى فيصد عن الحق) أي يمنع عن العلم والعمل أو عما يتبعهما من السعادة التامة التي هي مشاهدة الجلالة والعظمة الربوبية ومجاورة الملأ الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وذلك لأن اتباع النفس في ميولها الطبيعية والانهماك في لذاتها الفانية أشد جاذب للإنسان عن قصد الحق وأعظم صاد له عن سلوك سبيله، وعن الترقي من المنازل الناسوتية إلى المقامات اللاهوتية، وأفخم باعث على نومه في مهد الطبيعة البشرية وانتقاله منه إلى حضيض جهنم وابتلائه بالعقوبات الأبدية، كما قال سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله): «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» (1).

(وطول الأمل ينسي الآخرة) لأن طول توقع الامور الدنيوية يوجب نسيان النفس وغفلتها عن الأحوال الاخروية، وهو مستعقب لانمحاء ما تصور في الذهن منها، وذلك معنى النسيان وبذلك يكون الهلاك الأبدي والشقاء الاخروي.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العلم مقرون إلى العمل) قيل: يعني العلم مقرون في كتاب الله مع العمل كقوله تعالى:

(الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وعلق المغفرة والنجاة عليهما، والأظهر أنه إخبار بأن العلم لا يفارق العمل; لأن من رسخت معرفته وتنور قلبه بنور العلم زينت جوارحه وأركانه بحلل الأعمال لما عرفت من أن العلم دليل

ص: 140


1- 1 - رواه الصدوق في معاني الأخبار والخصال، وأخرجه أيضا أبو الشيخ ابن حبان في التوبيخ، والطبراني في الأوسط.

وباعث عليه وبهما تتم الحقيقة الإنسانية ويحصل الاستحقاق للكرامة الأبدية.

(فمن علم عمل، ومن عمل علم) قيل: هذا أمر في صورة الخبر يعني يجب أن يكون العلم مع العمل بعده، والعمل مع العلم قبله، والأظهر أنه إخبار بأن كل واحد من العلم والعمل لا يفارق صاحبه، وقد شبه المحقق الطوسي العلم بالصورة والعمل بالمادة وقال: فكما لا وجود للمادة بلا صورة ولا ثبات للصورة بلا مادة فكذلك لا وجوده لعمل بلا علم ولا ثبات لعلم بلا عمل، وإذا اجتمعا حصل الغرض الأصلي من خلق الإنسان.

أقول: سر ذلك أن المراد بالعلم العلم المعتبر عقلا وشرعا وهو الذي خرج من حد الحال إلى حد الرسوخ والملكة، وهذا العلم لا ينفك عنه آثاره قطعا ومن جملتها الأفعال والأعمال الحسنة. وكذلك المراد بالعمل العمل الموجب للقرب من الحق والدخول في زمرة المقربين، وهذا العمل لا يفارق عنه العلم أصلا فبينهما تلازم كما بين المادة والصورة، فكل علم لم يكن معه عمل فهو حال مقرون بالاستخفاف بالدين ومثل هذا العلم لكونه حالا ومشتملا على الاستخفاف مع إمكان زواله لحصول أسباب الزوال وموانع الرسوخ ليس بعلم حقيقة، وكل عمل لم يكن معه علم فهو متضمن للبدعة والفساد على اليقين; لأن ما يفسد العامل الجاهل أكثر مما يصلح، ومثل هذا العمل ليس بعمل حقيقة.

(والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه) في المغرب: الهتف الصوت الشديد من باب ضرب، وهتف به صاح به ودعاه، وتقول: سمعت هاتفا يهتف إذا كنت تسمع الصوت ولا تبصر أحدا، شبه العلم بمن يدعو صاحبه في محل موحش فاستعير الهتف والارتحال له.

وحاصل الكلام: أن العلم باعث على العمل ودليل عليه، والعمل حافظ له وسبب لبقائه، فإن عمل العالم بمقتضى علمه دام نور قلبه من العلم وإلا زال عنه.

توضيح ذلك: أن العلم نور إلهي وسراج رباني يتنور القلب به بالإفاضة، إما بالمكاشفة أو بالكسب والتعليم، وهو سبب لحالات اخرى للقلب مثل الشوق والعزم على العمل الموجب لقرب الحق والعمل له تأثير عظيم في صفاء القلب وإزالة الظلمة والحجاب عنه، وهو بذلك سبب لحفظ العلم وحراسته كما أن ترك العمل وهو ذنب له تأثير في ظلمة القلب وكدورته واحتجابه بالغشاوة الموجبة لزوال العلم; لأن إحاطة الظلمة وسواد الكدورة بجزء من القلب يوجب خروج نور العلم منه حتى إذا أحاطت الظلمة بجميع أجزائه خرج عنه نور العلم بالكلية، وبما ذكرنا يظهر حقيقة قوله (عليه السلام): «والعلم يهتف بالعمل»; لأن العلم سبب للعمل ودليل عليه، والسبب يدعو المسبب ويطلبه، فإن أجابه وتبعه بقي العلم واستمر ثباته; لأن العمل يصلح مرآة القلب ويكمل استقامته وينظم سياسته، وإن لم يجبه ولم يتبعه ارتحل العلم وزال لأن وجه المرآة

ص: 141

مسود مظلم والظلمة ضد النور، وإذا غلب أحد الضدين على الآخر وأخذ محله زال الآخر عنه قطعا.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله القاسم الجعفري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن محمد القاساني) هو علي بن محمد القاضي الأصبهاني، الضعيف من ولد زياد مولى عبد الله بن عباس من آل خالد بن الأزهر لا علي ابن محمد بن شيرة القاشاني الفاضل الفقيه المحدث الذي مدحه النجاشي ووثقه الشيخ وعده من أصحاب أبي جعفر الثاني الجواد (عليه السلام)، وظن العلامة في الخلاصة أنهما واحد. وقال بعض أفاضل أصحابنا: إن هذا غيره، والله أعلم.

(عمن ذكره، عن عبد الله القاسم الجعفري) غير معروف.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه) أي ترك العمل بما يقتضيه علمه من الأعمال وركب النفس الأمارة المجبولة بالشهوات المردية والمغلوفة بالأهواء المضلة المغوية وحرك عنانها بيد الهوى في ميدان المقابح الشرعية والقبائح الدينية.

(زلت موعظته عن القلوب) أي زلت موعظته ونصائحه عن قلوب السامعين، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب والواعظ من يمنع الدخول فيما منعه الله وحرمه ويدعو إلى ما أمر به ورغب فيه.

(كما يزل المطر عن الصفا) الصفا مقصورة جمع الصفاة، وهي صخرة ملساء شبه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا لزيادة التقرير والايضاح، كما هو شأن الحكماء والبلغاء في التنبيه بالمحسوسات على المعقولات، ولزلة موعظته وجوه:

الأول: أن الموعظة إذا جرت من قلب الواعظ على لسانه جرت من سمع السامع على قلبه وتستقر فيه ويتأثر قلبه بها ويربو وينبت منه زرع الحكمة ويحيى بحياة أبدية، وإذا صدرت من لسانه وحده من غير اتصاف قلبه وسائر جوارحه بها استقرت على سمع السامع ولا تتجاوزه إلى قلبه ولا تستقر فيه. وسر ذلك أن باطن السامع - يعني مرآة قلبه - مقابل لباطن الواعظ، وظاهره مقابل لظاهره، وما في أحد المتقابلين ينعكس إلى الآخر، وما في قلب الواعظ وسائر جوارحه ينعكس إلى قلب السامع وسائر جوارحه، وما في

ص: 142

لسانه وحده ينعكس إلى سمع السامع فقط.

الثاني: أن أعماله مكذبة لقوله فلا يبقى لقوله تأثير في القلب; إذ الكذب لا يؤثر فيه ولا نور له.

الثالث: أنه إذا نهى الناس عن امور وهو فاعلها فلهم أن يقولوا: ليست متابعتنا لقولك أولى من متابعتنا لفعلك، فلا يحصل لهم الاعتقاد بقوله نظير ذلك من منع الناس عن أكل الطعام وقال: إنه سم مهلك، ومع ذلك هو حريص على أكله سخر به الناس واتهموه ويزاد حرصهم عليه وقالوا: لولا إنه ألذ الطعوم وأطيبها لما كان يستأثر به ويمنعنا عنه. ثم الظاهر أن هذا الحكم أكثري; إذ قد يكون قلب بعض السامعين في قبول الضياء وشدة الاستعداد بحيث يقبل من الواعظ وإن لم يكن الواعظ عاملا كما يشعر به الحديث المذكور في أول هذا الباب، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون إقبال بعض السامعين إلى العمل لأجل رقة قلبه وصفاء طينته وميله بالذات إلى العمل الصالح لا لأجل تأثير موعظة ذلك الواعظ التارك لعلمه فيه.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فسأله عن مسائل فأجاب، ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال علي بن الحسين (عليه السلام): «مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما تعلمون ولما تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا، ولم يزدد من الله إلا بعدا».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري) اسمه سليمان بن داود.

(عن علي بن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فسأله عن مسائل) أي عن مسائل متعلقة بالعمل بقرينة السياق.

(فأجاب، ثم عاد ليسأل عن مثلها) أي عن مسائل مماثلة لها في تعلقها بالعمل.

(فقال علي بن الحسين (عليه السلام): مكتوب في الإنجيل) فيه تنبيه على أن الحكم الآتي غير مختص بهذه الشريعة، بل كان في الشرائع السابقة أيضا.

(لا تطلبوا علم ما تعلمون ولما تعملوا بما علمتم) أي الأولى والأنسب بحالكم ترك طلب العلم إذا تركتم العمل بما علمتموه، وفيه دلالة على امور:

الأول: جواز ترك التعليم إذا لم يعمل المتعلم بما علمه، والنهي عنه في بعض الروايات مقيد بما إذا كان

ص: 143

المتعلم عاملا.

الثاني: أن ذلك الرجل السائل لم يعمل بما سأل عنه من المسائل، فكأن مجلس السؤال كان متعددا كما يشعر به لفظ «ثم»، ومضى وقت العمل بها، وإلا فلا وجه لزجره عن السؤال.

الثالث: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكونا بالرفق ولين القول.

(فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا) أي جحودا وإنكارا لما علمه إذ لو كان له إقرار به لما تركه (1) وهذا أسوء حالا من الجاهل لخلو الجاهل عن الإقرار والانكار جميعا أو جحودا أو إنكارا لنعمة العلم، فإن العلم من جلائل نعم الله تعالى فشكره وهو العمل به واجب وتركه كفر وجحود لتلك النعمة. أو جحودا وإنكارا لاستحقاقه تعالى بالعبادة والعمل له; إذ لو كان له اعتقاد بذلك اعتقادا صحيحا ثابتا لما أقدم على ترك العبادة والعمل له، أو المراد بالكفر تغطية الحق وستره وإفشاء الباطل وإعلانه. ثم الظاهر أن هذا التعليل منه (عليه السلام) لما في الإنجيل ويحتمل أيضا أن يكون مكتوبا فيه، والله أعلم.

(ولم يزدد من الله إلا بعدا) أي لم يزدد إلا بعدا من رحمته وإكرامه في الآخرة وقبول هدايته وإنعامه في الدنيا، وإنما قال: «ولم يزدد» من الازدياد لما فيه من المبالغة في البعد; لأن العمل موجب للقرب منه تعالى فتركه في نفسه مع وخامة ما يتبعه من الأمراض النفسانية المهلكة موجب لزيادة البعد فكيف إذا انضم معه العلم الموجب لزيادة السخط والغضب؟!

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: بم يعرف الناجي؟ قال: «من كان فعله لقوله موافقا فأثبت له الشهادة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام)

ص: 144


1- 1 - العمل إذا نسب إلى العلم بالفروع كوجوب الزكاة والحج فمعناه العمل إن كان مالكا للنصاب ومستطيعا للحج وإن نسب إلى الاصول كالعلم بالمبدأ والمعاد فمعناه العمل بمقتضى اليقين بهما من التقوى والزهد والرغبة في الآخرة، والمراد هنا الثاني. (ش)
2- 2 - الكلام في رواية المفضل كالكلام في سائر الروايات الضعيفة الواردة في اصول الكافي من أن العبرة في هذه الامور بصحة المتن لا بصحة الاسناد، ويعرف صحة المتن بكونه موافقا للعقل والاعتبار وسائر الاصول المعلومة من الدين. فإن قيل: إن كان الاعتبار بالعقل فلم يوردون الروايات بالأسانيد؟ قلنا: هذا وظيفة المحدث، بل والناقل مطلقا، ألا ترى أنهم في التواريخ واللغة والأدب يذكرون الاسناد والمحدث في التوحيد وإثبات الواجب والنبوة والإمامة، وليس ذلك لكون المسند فيها واجب القبول وغير المسند واجب الرد، بل لأن يقوى الظن بصحة النسبة إلى قائله وربما يتنبه الفطن لقرائن يحصل منه القطع واليقين، فعلى المحدث والناقل أن يجمع ما يمكن أن يستفاد منه قوة النقل وإن لم يجب القبول. (ش)

قال: قلت له: بم يعرف الناجي؟) أي الناجي في الدنيا من سبيل الضلالة، وفي الآخرة من العذاب والبعد عن الرحمة، وإنما سأل عنه ليعرفه ويتمسك بذيل هدايته وإرشاده ويختار ملازمته ومجالسته ليتأدب بآدابه، والناجي المطلق هو الحكيم الكامل في ذاته وصفاته، أعني من قطع عالم المحسوسات بقدم الفكر ونظر إليها بعين التبصر وشاهد عالم المعقولات بعين البصيرة ولحظ إليها بنور التفكر ميز بين صحيحها وسقيمها وجيدها ورديها ومنافعها ومضارها والتزم محاسنها، وهو في جميع ذلك يقلد القوة الشهوية المسماة بالنفس البهيمية، والقوة الغضبية المسماة بالنفس السبعية بقلادة الطاعة والقياد ويعطي حظهما من جلب المنافع ودفع المضار على وجه الاعتدال ويمنعهما عن التوجه إلى ما لا يليق به ويغريهما إلى التعرض فيما ينبغي، وهكذا يسير بحزم واحتياط إلى أن يرفض عنه الهويات الجسمانية ويلبس لباس التجريد ويملك الحقيقة الإنسانية وينزل في عالم التوحيد ويصير من أولياء الله وأصفيائه ويرتفع الحجاب حينئذ بينه وبين المعبود الحق وله علامات يعرف بها في عالم الغيب وعلامات في عالم الشهادة، أما الاولى فمنها أنه في نظر الروحانيين كبدر يسير في الليلة الظلماء بل كشمس يتلألأ نوره في الأرض والسماء ويعرفه بذلك الملائكة المقربون، ويقولون: هذا نور فلان يسير في ظلمات الدنيا إلى حضرة القدس، فيستقبلونه بروح وريحان، ويبشرونه بنعيم ورضوان، ويمسحونه، وربما يجد في نفسه بل في ظاهر بدنه لذة لمسهم وأثر مسحهم، ولولا الحكمة الإلهية في إخفاء هذه الكرامة لرأى ما تقر به عينه.

وأما الثانية فمنها خفية ومنها جلية، أما الخفية فهي مختصة بالخواص والزهاد، فإنهم يعرفونه لنور بصائرهم، وخلوص ضمائرهم وصفاء طينتهم وضياء عقيدتهم بمجرد ملاحظة سيماء وجهه ومشاهدة نورية ذاته وإن لم يشاهدوا كيفية أعماله وأقواله، فإنه نور محض في الواقع ينعكس نوره إلى قلوب صافية.

وأما الجلية فهي عامة يعرفها الخواص وغيرهم، فلذلك أشار إليها (عليه السلام) لعموم نفعها حيث قال:

(قال: من كان فعله لقوله موافقا) يعني من كان قوله في كل باب يتقوله صحيحا حقا غير مشوب بالباطل، ومن كان فعله موافقا لقوله في الصواب، وهو الحكيم الكامل; إذ الأول يدل على اتصافه بالحكمة النظرية وتنور قلبه بنور الحقائق والمعارف اليقينية; لأن اللسان دليل القلب فاستقامته تدل على استقامة القلب.

ص: 145

والثاني: يدل على اتصافه بالحكمة العملية وغلبته على القوة الشهوية والغضبية.

(فأثبت له الشهادة) الفاء لجواب الشرط، وأثبت من الإثبات، إما أمر أو ماض معلوم، أو ماض مجهول، أو متكلم.

ومعناه على الأول فأثبت أنت شهادتك له بالنجاة أو شهادة الشاهد له بها، وذلك الشاهد هو التوافق بين قوله وفعله الدال على أنه حكيم كامل ناج واصل إلى مطلوبه الذي هو غاية الغايات من خلق الإنسان.

وعلى الثاني فأثبت التوافق المذكور له الشهادة بها لدلالته على أنه ثابت على دين الحق مستقر في الإيمان راسخ في العلم والعمل، ناج في الدنيا والآخرة.

وعلى الثالث فاثبت له الشهادة الشاهد بها، وهو التوافق المذكور.

وعلى الرابع فاثبت أنا له شهادتي بها، أو شهادة الشاهد المذكور بها.

وفي بعض النسخ: فإنما ثابت له الشهادة، وفي بعضها: فإنما له الشهادة أي شهادة الشاهد المذكور بالنجاة، وفيهما مبالغة باعتبار حصر الشهادة بكونها له لا لغيره، وفي بعضها: فأبت له الشهادة بالباء الموحدة والتاء المنقطة بنقطتين. وفي المغرب: البت والابتات القطع يعني فقطع له شهادة الشاهد المذكور بأنه ناج آمن من الزلة وزوال الإيمان عنه. ويحتمل أن يقرأ: فأتت بالتائين المنقوطتين، يعني فجاءت له الشهادة بالنجاة.

(ومن لم يكن فعله لقوله موافقا) أي من لم يكن مجموع قوله وفعله صوابا، سواء كان القول صوابا والفعل خطأ أو بالعكس، أو كان كلاهما خطأ ففيه ثلاثة احتمالات، والأول هو الأظهر.

(فإنما ذلك مستودع) أي فإنما ذلك الرجل أو إيمانه واعتقاده مستودع غير ثابت مستقر (1)، فيحتمل أن يبقى على الحق فيحصل له النجاة بفضل الله تعالى.

ويحتمل أن يزل عن الحق ويعود إلى الشقاوة فيستحق الويل والندامة في الآخرة، وهذا واسطة بين من علم ثباته على الحق ومن علم خروجه عنه، كما يدل عليه ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقا للإيمان لا زوال له، وخلق خلقا للكفر لا زوال له (2)، وخلق خلقا بين ذلك واستودع الله بعضهم الإيمان، فإن يشأ أن يتمه لهم أتمه، وإن يشأ أن يسلبهم إياه سلبهم» (3)، وقد

ص: 146


1- 1 - هذا الرجل علمه تصور لا تصديق، ويمكن لكل أحد أن يحفظ مسائل العلم من غير تصديق بها، بل تصورا فقط، وهذا لا يبعث على العمل. (ش)
2- 2 - تفسيره بحيث لا يلزم منه الجبر، يأتي في محله إن شاء الله. (ش)
3- 3 - يأتي في كتاب الإيمان والكفر - باب المعارين.

حمل على الأول، والوسط قوله تعالى: (فمستقر ومستودع)، والله ولي التوفيق.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به على المنبر: «أيها الناس، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون، إن العالم بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما حائر بائر، لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا، وإن من الحق أن تفقهوا، ومن الفقه أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه، ومن يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخب ويندم».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له خطب به على المنبر) بكسر الميم وفتح الباء، وفي الصحاح: نبرت الشيء أنبره رفعته. ومنه سمي المنبر.

(أيها الناس، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم) المراد بالعلم هنا العلم المتعلق بالأعمال، وإن كان هذا العلم لا يتم ولا ينفع بدون العلم بالله وصفاته وسائر المعارف الإلهية.

(لعلكم تهتدون) أي لرجائكم أو حال كونكم راجين أن تكونوا من المهتدين، أي الثابتين على الهداية، لما مر من أن العلم مع العمل موجب للثبوت على سبيل الهداية وصراط الحق، وأن العلم بلا عمل مستودع. أو الطالبين لمرتبة اخرى من الهداية فوق ما كنتم عليه لأن مراتب العلم والهداية متفاوتة وكل مرتبة تعد القلب لقبول مرتبة اخرى فوقها، فمن علم شيئا أول مرة ظهر في قلبه نكتة بيضاء، وإذا عمل بما علمه ازدادت، وهكذا هلم جرا، وبعكس ذلك ترك العمل به. أو الواصلين إلى المطلوب الحقيقي الذي هو غاية الغايات ومبدأ الممكنات، وإليه تنتهي حركة كل عامل وطلب كل طالب (1); لأن العلم مع العمل سبب لمحو

ص: 147


1- 1 - حركة كل طالب، سواء كان بإرادة أو بغير إرادة، وسواء كان عارفا بالله أو جاهلا به، وسواء نوى بعمله التقرب إليه أم لا، فهي إليه تعالى، وهو غاية حركته، كما أن من يتحرك إلى الجنوب يقرب من البحر المحيط وإن لم يعلم ذلك; لأن كل موجود يطلب بالحركة الكمال اللائق بحاله وبإدراك الكمال يقرب من الله تعالى الذي هو كل الكمال، ومعنى الغاية هو الكمال الذي يجتهد في التشبه به، ألا ترى أن من يريد تعلم الخط الحسن أو الكتابة البليغة والشعر الجيد يختار خط أحد الأساتذة أو أحد الدواوين ويتشبه به، وهو غايته، وكذلك الله تعالى غاية كل وجود (ش).

الظلمات البشرية وشهود التجليات الصمدية فيستهلك في نظر الطالب الأغيار وتحترق الحجب والأستار، فلا ينظر إلا إليه، والتوفيق منه والتكلان عليه.

ثم زاد في التنفير عن ترك العمل بقوله:

(إن العالم بغيره) أي بغير علمه أو بغير ما يقتضيه علمه من الأعمال الصالحة.

(كالجاهل الحائر) في عدم العلم; لأن العلم بلا عمل ليس بعلم، بل هو أسوء من الجهل، وفي الهلاك والضلال والأخذ على غير طريق الحق والجور عن قصد السبيل، سواء كان جهله بسيطا أو مركبا.

(الذي لا يستفيق عن جهله) ولا يطلب الخروج منه، ولا يرجع من مرض الجهل إلى الصحة، وتشبيه الجهل بالسكران استعارة مكنية، وذكر عدم الاستفاقة تخييلية، ويلزم من هذا الكلام بطريق العكس أن الجاهل المتعلم كالعالم العامل كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له:

«الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، والعالم المتعسف شبيه بالجاهل» (1).

(بل قد رأيت) أي بل قد علمت يقينا مثل المعاينة.

(أن الحجة عليه أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه) لإشراف علمه بترك العمل به إلى الزوال والفناء.

(منها على هذا الجاهل المتحير في جهله) قوله: «منها» متعلق بأعظم وأدوم على سبيل التنازع، وأما أن الحجة على هذا العالم أعظم فلأن محاسبة الناس والاحتجاج عليهم يوم القيامة على قدر عقولهم، ولأنه لما ترك ما علم حقيقته وعمل بخلافه انقطع عذره، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«قطع العلم عذر المتعللين» (2)، يعني أرباب التعلل العالمين بما يتعللون به لا عذر لهم بخلاف الجاهل والناسي فإن للجاهلين أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين.

وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «العلم علمان: علم اللسان وذلك حجة الله على آدم، وعلم في القلب وذلك العلم النافع» (3)، أي الذي يستلزم الطاعة والعمل، وأما أن الحسرة عليه أدوم فلأنه كلما رأى يوم القيامة ربح العلماء العاملين وكرامة الله تعالى عليهم ازدادت حسرته وندامته على ترك العمل ولا

ص: 148


1- 1 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 320.
2- 2 - المصدر، تحت رقم 284.
3- 3 - رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والحكيم الترمذي في النوادر عن الحسن مرسلا، والخطيب عنه عن جابر بسند حسن كما في الجامع الصغير.

ينفعه الندم، ولأن نفس الجاهل غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتفصيل، فإذا فارقت بدنه فهي وإن كانت محجوبة عن نعيم الجنة وما أعد الله لأوليائه إلا أنها لما لم تجد لذتها ولم تذق حلاوتها ولم تعرف قدرها لم يكن لها كثير حسرة عليها ولا دوام أسف على التقصير في تحصيلها بالأعمال الصالحة، بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللذات الدنيوية (1) فإنه بعد المفارقة إذا علم وانكشف له أن الصارف له والمانع عن الوصول إليها هو تقصيره بالعمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات والدرجات والكرامات كان أسفه وحسرته على ذلك أشد الحسرات وأدومها، وجرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة نفيسة ثمينة تساوي جملة ماله بل الدنيا وما فيها، ثم اشتغل عن حفظها وضبطها ببعض لعبه حتى فاتته بخلاف الجاهل بقيمتها.

(وكلاهما حائر بائر) الحائر إما من الحيرة، يقال: حار فلان يحير حيرة إذا تحير في أمره ولم يهتد إلى وجه مقصوده فهو حيران، أو من الحور وهو النقصان، يقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة، والحور أيضا الهلكة. والبائر والبور بالضم الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه.

وفي الصحاح: بار فلان أي هلك، وأباره الله أهلكه، ورجل حائر بائر إذا لم يتجه لشيء وهو اتباع لحائر.

إذا عرفت هذا فنقول:

كذا وصفهما وحالهما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلتحير هما وعدم توجهما إلى شيء ينفعهما ونقصان منزلتهما عند العاملين وانحطاط مرتبتهما عند الصالحين وسقوطهما في تيه الضلالة وهبوطهما في وهدة الغواية وأسرهما في يد النفس الأمارة، وأما في الآخرة فلهلاك نفوسهما بالشرور والأمراض المهلكة وموت قلوبهما

ص: 149


1- 1 - اللذة فرع الإدراك، ولا ريب أن الإدراك ليس من صفات الأجسام الجامدة، بل هذه القوة المدركة شعاع من عالم الغيب، وكلما كان الإدراك أشد كانت اللذة والألم أشد، وكلما كان الكمال الذي يناله الإنسان أعظم وأكثر كان البهجة والالتذاذ به أعظم أيضا، ولا ينبغي أن يتوهم أن الموجود المجرد المدرك بذاته وله الكمالات العظيمة الكثيرة أقل لذة وأضعف سعادة من أفراد الإنسان الشهوي في الدنيا، ويزعم الجاهل أن سعادته في الدنيا عظيمة إذا كانت له شهوة يقضيها، وليس للملائكة والعقول سعادة ولذة أصلا، وليس كذلك بل الإنسان إذا لحق بهم يليق له كمالات والتذاذات من إدراكها وإفاضات من جانبهم يبتهج بها فوق ما يحصل له في الدنيا من شهواتها أضعاف مضاعفة وحسرته من فقدها والحرمان عنها أعظم من حسرة المحرومين في الدنيا كما تعلم، وقس عظم الابتهاج بعظم القدرة وكثرة العلم، فإن المجردات تقدر على حركة السماوات والشمس والقمر وينال علمهم كل شيء من الباطن والظاهر والبعيد والقريب والغيب والشهادة والماضي والمستقبل، والإنسان محروم من ذلك كله في الدنيا، ويليق أن يلحق بالمجردات فيبتهج ويلتذ بتلك النسبة. (ش)

بالرذائل المذمومة المردية واستحقاقهما للعذاب الأليم ونار الجحيم.

وقد حث على تحصيل العلم والأخذ على اليقين والعمل به والاجتناب عن الارتياب والشك الموجبين للكفر بقوله:

(لا ترتابوا فتشكوا) الريبة بالكسر في الأصل القلق والاضطراب، ثم شاع استعمالها في الشك وسوء الظن والتهمة، كما يظهر من المغرب والنهاية لأن كل واحد من هذه الامور يستلزم المعنى الأصلي ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا. والمعنى على الأول لا توقعوا أنفسكم في قلق واضطراب بسبب ثقل العمل بما يقتضيه العلم، فإنه يؤدي بكم إلى تشكوا في العلم والعمل والمعلوم جميعا، أو بسبب صرف الفكر يعارض الحق ويدفعه من الشبهات فإنه يؤدي بكم إلى الشك فيه.

وعلى الثاني لا تشكوا في العلوم المتعلقة بالامور الدينية ولا في العمل والمعلوم فإنه يؤدي بكم إلى أن تشكوا في الدين. وعلى الثالث لا تتهموا أهل العلم ولا تتصفوا بسوء الظن بهم ولا تنسبوهم إلى احتمال الكذب والافتراء، فإنه يؤدي بكم إلى الشك في صدقهم، وفيه زجر عن الارتياب في أمر صدر عن مشكاة النبوة ومعدن الخلافة وحث على قبوله بالطاعة والانقياد، سواء كان ذلك الأمر من باب المعارف الإلهية أو من باب الأحكام الشرعية، وسواء علم وجه مصلحته أو لم يعلم، فإن عليهم البلاغ وعلينا التسليم.

(ولا تشكوا فتكفروا) أي تشكوا في شيء من الامور المذكورة فإنكم إن تشكوا فيه تكفروا، فإن الشك فيه كفر بالله العظيم وبما أنزله إلى رسوله الكريم، ثم حث على العمل بالطاعات والاجتناب عن المنهيات وغيرها مما يمكن أن يؤدي إليها بقوله:

(ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا) الرخصة في الأمر خلاف التشديد، وقد رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو فيه، والإدهان والمداهنة الملاينة والمساهلة وإظهار خلاف ما تضمر والغش، يعني لا تجعلوا أنفسكم مرخصة في ترك التعلم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنكم إذا فعلتم ذلك تساهلوا في أمر الدين وإحياء نفوسكم، وفيه هلاك أبدي لكم ولهم، وكذا لا تجعلوها مرخصة في تنويع المآكل والمشارب والمناكح والمباحات والخروج فيها إلى حد الافراط والمشتهيات ولا في حضور مجالس الفاسقين ومعاشرة الظالمين بتأويلات وحيل تخيل أنها جائزة في الشريعة إذ لو فعلتم ذلك تساهلوا في ارتكاب المحظورات وتلاينوا معهم في السكوت عما ترون من المنكرات فإن الانهماك في المباحات ربما يسهل عليكم ارتكاب المحظورات والانس بأهل الطغيان ومشاهدة العصيان ربما يوقعكم في حبائل الشيطان إذ الإنسان إذا توسع في الامور المباحة واستيفائها ربما شارف المكروهات ولحظ أنه لا عقاب في فعلها فقادته شهوته

ص: 150

إلى فعلها والتجاوز عن حدودها إلى المحضورات; لأن العقل إذا أطاع النفس الأمارة فيما تأمر به مرة بعد اخرى لم يبق له نفار عما تقوده إليه لوقوع الانس به، وظاهر أن ارتكاب بعض مأموراتها يجر إلى ارتكاب بعض آخر فيؤدي ذلك إلى التجاوز عن حدود الشريعة وعبورها إلى الوقوع في حبائل الشيطان والتهور في المحظورات التي هي مهاوي الهلاك والخسران، ولذلك ورد: «من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه» وكذلك إذا جالس أهل الشر وتساهل معهم في السكوت عما يراه من منكراتهم يأنس بالمعاصي ويألف بتكرارها، وربما يسوقه إلى فعل المنكر ومشاركته فيه.

(ولا تدهنوا في الحق فتخسروا) أي لا تساهلوا فيما ثبت أنه حق، اعتقاديا كان أو عمليا، فعلا كان أو تركا، فتخسروا لذلك بنقصان الإيمان في الدنيا وحرمان الثواب في الآخرة، ثم شرع في ذكر أخبار متضمنة للأوامر والنواهي فقال:

(وإن من الحق أن تفقهوا) يعني أن من حق الله تعالى عليكم الذي يجب عدم المساهلة فيه أن تفقهوا في الدين، وتطلبوا اصوله وفروعه من أهله; إذ الغرض من إرسال الرسول وتقرير الشرائع حمل الخلق على التعبد والعقائد الصحيحة ولا يتم ذلك إلا بالتفقه وترك المساهلة فيه.

(ومن الفقه أن لا تغتروا) بالعلم والعمل ولا تميلوا إلى الباطل، فإن الاغترار بهما من المهلكات، ويحتمل أن يقرأ بالفاء من الفتور فيكون زجرا عن الضعف والانكسار في العمل وحثا على الاجتهاد فيه، وحاصل القضية الاولى الأمر بالتفقه والثانية النهي عن الاغترار والفتور.

(وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه) لأن الغرض من النصح جلب الخير والمنفعة إلى المنصوح، ولا ريب في أن أعظمهما هو تحصيل السعادة الباقية واقتناء الكرامات الأبدية والتحرز من العقوبات الاخروية ولا في أن هذه الامور إنما تنال بطاعة الله تعالى، ولا في أن من كانت طاعته له أكثر وأتم كانت سعادته أكمل وأعظم، فلا شبهة في أن أنصح الناس لنفسه من بالغ في طاعة ربه.

(وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه) وهو ظاهر مما قررناه، فإن الغرض من الغش جلب الشر والضر إلى المغشوش، ولا ريب في أن أعظمهما هو الشقاوة الأبدية، ولا في أن تلك الشقاوة إنما تحصل بمعصية الله تعالى، ولا في أن من كانت معصيته أتم كانت شقاوته أعظم، فلا شبهة في أن أغش الناس لنفسه من بالغ في معصية ربه. وحاصل الفقرة الاولى هو الأمر بالطاعة والتعلم أتم ما يكون، والثانية هو النهي عن المعاصي أبلغ ما يتصور، ورغب في الطاعة بذكر نصيحة النفس لكون النصيحة محبوبة مرغوبة، ونفر عن المعصية بذكر غشها لكون الغش مستكرها مهروبا عنه، ولما أشار (عليه السلام) إلى أن المطيع ناصح لنفسه والنصح لا يكون

ص: 151

إلا لخير يعود إليه أراد أن يشير إلى ذلك الخير إجمالا وتعظيما لشأنه، إذ التفصيل مما يعجز عنه إدراك عقولنا فقال:

(ومن يطع الله يأمن ويستبشر) أي من يطع الله في حلاله وحرامه وأوامره ونواهيه وفي كل ما جاء به نبيه (صلى الله عليه وآله) يأمن العقوبات والمكروهات الاخروية والدنيوية ويستبشر عند الموت وما بعده بالتفضلات والمثوبات الاخروية مما لا عين رأيت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (1)، وكذا لما أشار إلى أن العاصي غاش لنفسه والغش لا يكون إلا لضرر يعود إليه أشار إجمالا إلى ذلك الضرر:

(ومن يعص الله يخب ويندم) أي من يعص الله تعالى في الامور المذكورة وآثر الرذائل على الفضائل والسيئات على الحسنات ورتفع في مراتع النفس الأمارة وتبع ميولها إلى مقتضيات القوة الشهوية والغضبية ولم يؤدبها بالتأديبات الشرعية والسياسات العقلية والنقلية فهو يخيب من الرحمة الإلهية والبشارات والكرامات الربانية، ولا ينال المثوبات الاخروية ويندم مما فرط في جنب الله من إيثار الامور المذكورة الزائلة الفانية على الامور الدائمة الباقية.

هذا وأمثاله حين شاهدوا أهوال الآخرة واشتد فزعهم بها قالوا: (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) (غير الذي كنا نعمل) فيجيبهم رب العزة: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا وما للظالمين من نصير).

وفي العبارة الاولى أمر بالطاعة وترغيب فيها بذكر فوائدها ومنافعها.

وفي الثانية نهي عن المعصية وتبعيد عنها بذكر مضارها ومقابحها، وينبغي أن يعلم أنهم (عليهم السلام) هم الحكماء الإلهيون البالغون ونحن الأطفال الناقصون فهم يكلموننا على قدر عقولنا ويرغبوننا في الطاعة بذكر منافعها ويبعدوننا عن المعصية بذكر مضارها، كما أنا نفعل مثل ذلك مع أولادنا وإلا فالله سبحانه بذاته مستحق للطاعة والعبادة والتقرب إليه وترك المعصية والمخالفة له كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»، اللهم ثبتنا على صراطك، وأقمنا على مرضاتك، إنك بالإعانة قدير وبالإجابة جدير.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي

ص: 152


1- 1 - كمية ولمية وكيفية وماهية، كما يتنبه له مما مر في الحاشية السابقة. (ش)

ليلى، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إذا سمعتم العلم فاستعملوه ولتتسع قلوبكم، فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدر الشيطان عليه، فإذا خاصمكم الشيطان فأقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا»، فقلت: وما الذي نعرفه؟ قال:

«خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أبيه) وهو ممدوح مشكور، وصدوق مأمون، مات سنة ثمان وأربعين ومائة (1)، وعده الشيخ في كتاب الرجال من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وأبوه عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو من خواصه، شهد معه مشاهده، وضربه الحجاج على سبه حتى اسود كتفاه.

(قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إذا سمعتم العلم فاستعملوه) فيه دلالة ما على أن العلم المتعلق بالعمل ينبغي استماعه من أهله، وذلك لأن هذا العلم منوط بتعيين الواضع فلا بد من السماع منه ولو بواسطة، وعلى

ص: 153


1- 1 - اختلف المتأخرون في محمد بن عبد الرحمن، والشارح مدحه تبعا للعلامة وابن داود (رحمهما)، وأنكر ذلك أبو علي في منتهى المقال، فإنه بعد أن نقل عبارة الشارح هنا وذكر أن العلامة جعله في الممدوحين وابن داود كذلك، ونقل رواية ابن أبي عمير عنه قال: وكل هذا عجيب غريب، فإن نصب الرجل أشهر من كفر إبليس وهو من مشاهير المنحرفين، ومن أقران أبي حنيفة، وتولى القضاء لبني امية ثم لبني العباس برهة من السنين، كما ذكره غير واحد من المؤرخين، ورده شهادة جملة من أجلاء أصحاب الصادق (عليه السلام) غير مرة لأنهم رافضية مشهور، وفي كتب الحديث مذكور ويجب ذكره في الضعفاء، انتهى. وروي عنه في العيوب أنه رجع إلى محمد بن مسلم في جارية لم يكن على ركبها شعر، وأراد المشتري ردها بالعيب، وأنا لا أتجرأ على تخطئة العلامة وابن داود عليهما الرحمة. وتولي القضاء لهم وإن كان يوجب قدحا في الجملة كما مضى في ابن شبرمة لكن حيث قام الدليل على مدحه وجب حمله على الصحة ولا حجية في روايات استدل بها على نصبه. ويؤيد مدحه أنه لم يرو عنه البخاري ولا مسلم في صحيحيهما، وروى ابن أبي عمير عنه وأن أباه كان من خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقل أن يرجع أولاد الشيعة عن مذهب أبيهم ثم إن بعض الناس حكى ما نقل من قصة الجارية التي ردها المشتري عن أبي يوسف في شرح الحديث الأول من باب الرد إلى الكتاب والسنة، ولا عبرة به فإنه كثير المسامحة، وأما شهرة نصبه فلعلها كانت بين جماعة كان أبو علي يتردد إليهم وإلا فلم تكن تخفى على ابن داود والعلامة (رحمهما)، وأما رد شهادة جماعة من أصحاب الصادق (عليه السلام) فغير ثابت، بل نسب ذلك في بعض الروايات إلى شريك فدعا عليه الصادق (عليه السلام) بقوله: «شركه الله بشراك من النار»، فكأنه اشتبه شريك بابن أبي ليلى في أذهان بعض الرواة; لأن كليهما كان قاضيا فنسب ما سمعه بعد مدة إلى آخر. (ش)

أنه ينبغي أن يكون مقرونا بالعمل; لأن العمل هو المقصود الأصلي منه، فمن طلبه ولم يعمل على مقتضاه فقد ضيع عمره فيما لا ينفعه، بل فيما هو حجة عليه وموجب لزيادة العقاب، وفي قوله: «فاستعملوه» إشعار بأنه يجب أن يكون المقرون بزمان الاستماع طلب العلم لا نفسه; لأن العمل قد يكون متأخرا عنه زمانا فينبغي للمؤمن قبل حضور وقت العمل القصد إلى فعله بعده وعلى أنه ينبغي أن لا يشتغل بطلب علم آخر قبل أن يعمل بما علمه.

(ولتتسع قلوبكم) اتسع صار واسعا غير متضيق، أي لتصر قلوبكم واسعة قابلة لاحتمال العلم والعمل، قادرة على الإحاطة بهما غير عاجزة عن ضبطها. وفيه إرشاد للمتعلم إلى أنه ينبغي أن يقتصر في التعلم على قدر فهمه وضبطه ولا يطلب قبل تملكه ما يعجز عنه فهمه ويتكدر به ذهنه ولا يبلغ إليه عقله، فإن قلبه في أول الفطرة ميت خال عن العلوم كلها، وإنما يقبلها على سبيل التدريج حتى يصير نورا إلهيا ومصباحا ربانيا يشاهد به ما في عالم الملك والملكوت، وهذا كما قال بعض أصحاب الحال لمريده: ولتكن أنت حاكما على الحال، لا الحال حاكما عليك.

(فإن العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله) أي يعجز عن احتماله واحتمال لما يتبعه من العمل، ويتحير فيه ويضعف عن الإحاطة به، وقوله: «لا يحتمله» صفة لقلب رجل أو لرجل.

(قدر الشيطان عليه) بالاغواء والوسوسة بإلقاء الشبهات عليه فيما علمه وفي العمل به، وذلك لأن الرجل إذا تحير في العلوم ولم يعرف حقيقتها وحقيتها كان اقتدار الشيطان على تشكيكه فيها وفي العمل بها أكثر وأعظم من اقتداره على غيره والشرط والجزاء في محل الرفع على أنه خبر أن، ولما كان هنا مظنة شكاية بأن مخاصمة الشيطان وكيده لا يمكن دفعها مع العلم القليل الذي يتسع له القلب فإنه يشكك ويخاصم في تلك الحالة أيضا كما أنه يشكك ويخاصم في حال الاستكثار منه الذي لا يتسع القلب لاحتماله أشار (عليه السلام) إلى أن مخاصمة الشيطان لا أصل لها، ويمكن لكم رفعها بعلوم يقينية ومعارف قطعية وإن كانت قليلة بقوله:

(فإذا خاصمكم الشيطان) في اصول العقائد وفروعها.

(فاقبلوا عليه بما تعرفون، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا) إذ كيده واعتماده على أضعف شيء وأوهنه عند من له أدنى معرفة وأدون تمييز فلا تبالوا به ولا تخافوه وأقبلوا عليه بما تعرفون من العلوم المعتبرة في أصل الإيمان، فإن أدنى المعرفة يكفي لدفعه، وفيه ترغيب في محاربته وتشجيع على مقاتلته وتبشير بالغلبة عليه.

(فقلت: وما الذي نعرفه؟) حتى نخاصمه به، وفيه استقلال للمعرفة التي يقع بها التخاصم أو استفهام عنها.

ص: 154

(قال: خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عز وجل) في أنفسكم وفي خلق السماوات والأرض، وما فيها من الأجرام العلوية والسفلية والمعادن الأرضية وغيرها، وفي تصديق النبي بالمعجزات والوصي بالكرامات. وهذا القدر من المعرفة التي هي كالأمر الضروري لحصوله بالمشاهدة لمن له أدنى تمييز كاف لمخاصمته ودفع كيده ومن تأمل يعلم أن هذا التعليم الذي صدر من معدن العلم النبوي حق وصدق; لأن كيد الشيطان إما متعلق بأحوال المبدأ والمعاد أو المعاش أو غير ذلك من الامور الدنيوية، وكل ذلك يمكن دفعه بالنظر إلى آثار القدرة الكاملة القاهرة على جميع الممكنات.

ص: 155

باب المستأكل بعلمه والمباهي به

باب المستأكل بعلمه والمباهي به

في الصحاح يقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا خطر من الدنيا ورزق واسع والمأكل الكسب، وفلان يستأكل الضعفاء أي يأخذ أموالهم، والمراد من يجعل العلم آلة لأكله أموال الناس ويتخذه رأس مال يأكل منه ويتوسع به في معاشه (1).

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك، إلا أن يتوب أو يراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه».

ص: 156


1- 1 - فإن قيل: وضع كثير من العلوم وتدوينها لحوائج الدنيا ولا يتعلمها أحد إلا للتوسع في المعاش كالطب والحساب والأدب والرياضيات وإن كان قد يستفاد منها في العلوم الدينية فهل يحرم تعلمها بقصد الدنيا؟ قلنا: العلم المبحوث عنه في الحديث والذي يتبادر الذهن إليه من الروايات هو علم الدين وهو الذي يحرم التوسل به إلى الدنيا، لا الذي وضع للدنيا، وعلم الدنيا أيضا يجب أن لا يكون مقرونا بالحرص والنهمة وعدم التميز بين الحلال والحرام. وبالجملة العلوم المتعلقة بالدنيا ليست محرمة ولا مرغوبا عنها ولا يحرم طلب الدنيا والمعاش بها باعتدال، ولكن ليست مما بعث لترويجها الأنبياء. فإن قيل: روي في الحديث النبوي، كما مر، أن علم ما سوى الكتاب والسنة فضل؟ قلنا: لا يدل الفضل على الحرمة، بل المراد أن الفرض الواجب على كل أحد هو علم الدين; إذ يحتاج إليه القروي والبدوي والمتوحش والمتمدن والطبيب والمهندس، وكل ذي صنعة في صنعته، بمنزلة الستة الضرورية كالهواء والماء لحياة الحيوان، وأما سائر العلوم فنفل وزيادة ليس احتياج الإنسان إليه إلا كاحتياجه إلى التجملات وما يفيده في وقت دون وقت، وبعضهم دون بعض، وبذلك يندفع اعتراض الملاحدة على دين الإسلام بأن نبيهم حصر العلم في القرآن والحديث ومنع من هذه العلوم التي اخترعها البشر وقال: إنها فضل فإنه (صلى الله عليه وآله) لم يمنع منها بل جعل المهم علم الدين وجعلها بعده مرتبة ولو كان علم الدنيا أهم لبعث بها الأنبياء. (ش)
* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): منهومان لا يشبعان) المنهوم من النهم بالتحريك، وهو إفراط الشهوة في الطعام، وأن لا يمتلي عن الأكل ولا يشبع، نهم كفرح وعني فهو نهم ونهيم ومنهوم، أي به جوع شديد وشهوة مفرطة في الأكل لا من النهم بفتح النون وسكون الهاء، وهو بلوغ النهمة في الأمر والولوع به; لأن «لا يشبعان» لا يناسبه كثيرا، والمراد بالمنهومان طالب دنيا وطالب علم، كما وقع التفسير بهما على سبيل التوسع، ففيه استعارة تحقيقية وترشيح بذكر ما يلائم المشبه به، وهو «لا يشبعان».

(طالب دنيا) زائدا على قدر الحاجة والكفاف; لأن من طلب الدنيا زائدا على قدر الحاجة والكفاف كان ذلك لشدة حرصه على جمع زخارفها وطول أمله في تحصيل ما يتصور منها وكمال محبته لها بنفسها، فهو منهوم لا يشبع بتناول مرتبة من مراتبها، بل كلما حصلت له مرتبة اقتضى الحرص وطول الأمل بتناول مرتبة من مراتبها، بل كلما حصلت له مرتبة اقتضى الحرص وطول الأمل تناول مرتبة اخرى فوقها، وهكذا دائما إلى أن يموت جوعا.

(وطالب علم) لأن ساحة العلوم أوسع من أن يحول حولها عقول البشر وشامخ المعارف أرفع من أن يطير فوقها طائر النظر، كما دل عليه قوله تعالى: (وفوق كل ذي علم عليم)، فكل من طلب العلم لتكميل النفس بما يمكن لها من الكمالات فهو منهوم لا يشبع بتناول مرتبة من مراتبه، بل كلما حصلت له مرتبة يستعد لتناول اخرى، وهكذا دائما إلى أن يتناول المرتبة التي هي غاية المراتب الممكنة له، ثم كل واحد منهما ينقسم إلى قسمين: أحدهما سالم ناج، والآخر خاسر هالك.

أما الأول فلأنه إن طلب الدنيا من الوجوه المشروعة فهو سالم وإن طلبها من غيرها فهو هالك، وإليهما أشار بقوله:

(فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم) أي من اقتصر من تحصيل الدنيا على طريق اكتساب ما أحله الله له سلم من آفات الدنيا وعقوبات الآخرة، وإن كان فيه شهوة وميل إليها لأن جمع الدنيا من ممر الحلال حلال لا عقوبة فيه.

(ومن تناولها من غير حلها) أي من غير الطرق التي أحل الله له الاكتساب منها كالغصب والنهب والسرقة والكذب إلى غير ذلك من الطرق المذمومة.

(هلك) لاستحقاقه العقوبة والعذاب بخروجه عن طريق العدل في الاكتساب.

(إلا أن يتوب) إلى الله تعالى بالندم على ما فعل، والعزم على عدم العود إلى مثله، فإنه تعالى يقبل التوبة

ص: 157

عن عباده وينجيهم من الهلاك إن وقع الظلم في حقه.

(أو يراجع) من ظلمه ويرضيه إن وقع الظلم في حق الناس، ويحتمل أن يكون الترديد من الراوي، ويبعد أن يكون «أو» بمعنى الواو للتفسير، وقيل: يراجع على البناء للمفعول يعني إلا يراجعه الله بفضله وينجيه من الهلاك بدون توبته بمجرد التفضل، أو على البناء للفاعل يعني إلا أن يراجع الله ذلك المتناول من غير الحل، ويكون كثير المراجعة إليه سبحانه بالطاعات وترك أكثر الكبائر من المعاصي، فيرجع الله عليه بفضله لاستحقاقه له بكثرة المراجعة إلى الله تعالى فينجيه من الهلاك.

وأما الثاني فلأنه إن طلب العلم من أهله وعمل به لقصد التقرب من الله تعالى وطلب علو الدرجة في الآخرة فهو ناج وإن طلبه للدنيا وجعله آلة للرئاسة فيها وجمع زخارفها فهو هالك وإليهما أشار بقوله:

(ومن أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا) يعني من أخذ العلم من أهل العلم وهو النبي والوصي والتابع لهما في العلم ولو بوسائط وعمل بما يقتضيه علمه نجا من العقوبات الاخروية ومن كل ما يمنعه من التقرب من الحضرة الأحدية ويحبسه في سجن الطبيعة البشرية، فإنه حينئذ نور ساطع من ساحة القدس وضوء لامع من افق الحق ليس بينه وبين ما أعد الله للعلماء العاملين حجاب إلا هذه الحياة الفانية.

(ومن أراد به الدنيا فهي حظه) يعني من أراد بعلمه وإن أخذه من أهله طلب الدنيا وجعله وسيلة إلى جمع زخارفها بالتقرب من الجبارين والتعزز عند الظالمين وجلب النفع من الفاسقين والتفوق على العالمين فهي حظه ونصيبه وثمرة علمه وماله في الآخرة من نصيب; لأن الزارع في الدنيا للدنيا يحصد زرعه فيها لا في الآخرة، ويدل على حكم هذين القسمين قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب).

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة».

* الشرح:

(الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة) اسمه سالم بن مكرم الجمال. قال الشيخ الطوسي في موضع: هو ضعيف (1)، وقال في موضع آخر: هو

ص: 158


1- 1 - وجه ضعفه أنه كان مع أبي الخطاب، ولما أراد السلطان قتله ودخلوا عليه وعلى أصحابه في المسجد ووضعوا فيهم السيف وجرح أبو خديجة تماوت فتركوه وخرج وسلم منه. (ش)

ثقة.

وقال النجاشي: هو ثقة ثقة. وقال العلامة: والوجه عندي التوقف فيما يرويه لتعارض الأقوال فيه.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب) إما مطلقا أو من أجل تحمل الحديث، وهذا تبعيد له من الفوز بالرحمة الإلهية والوصول إلى النعمة الاخروية، وتوقع ما أعد الله سبحانه لطلبة العلم من المقامات الرفيعة والدرجات العلية; لأنه بدل بسوء اختياره وقلة اعتباره وغلبة شهوته وضعف عقيدته النعماء الدائمة الباقية بالزهرات الزائلة الفانية حتى جعل ما هو باعث لطلب الدين وسبب لتحصيل اليقين آلة الدنيا ورذائلها وسبب لجمع زخارفها وباطلها، فلا جرم صار بتلك المعاملة الرديئة والمعاوضة الشنيعة محجوبا عن مشاهدة الأنوار الربوبية والفوز بالسعادة الاخروية.

(ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة) أما خير الآخرة فلأنه لما عمل في الدنيا للآخرة وسعى لها سعيها كان سعيه مشكورا; لأن الله سبحانه لا يضيع عمل عامل ولديه مزيد، وأما خير الدنيا فلأن رزق الله يأتي عباده طلبوه أو تركوه والعزة والاعتبار بين الناس تابعان للفضيلة وإن لم يتعلق القصد بهما; لأن الله تعالى خلق قلوب عباده على تعظيم العلم وأهله وإن لم يكونوا من أهله.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الاصبهاني، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب».

* الشرح:

مر شرحه مفصلا في الحديث السابق.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم، فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب». وقال (صلى الله عليه وآله): «أوحى الله إلى داود (عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فإن اولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا

ص: 159

رأيتم العالم محبا لدنياه) يعرف محبته لها بميله إليها ووثوقه بها واعتماده عليها بحيث لو فاتته تألم وجزع ولو أتته نشط وفرح، ولا يبالي من أين تأتيه.

(فاتهموه على دينكم) أي اجعلوه متهما على الدين ضعيفا في اليقين بعيدا عن معرفة حقيقته (1) والأخذ بطريقته، واعتقدوا أن كل فعله مطابق لقوله، وكل قوله ناظر إلى امور الدنيا وفوائدها مائل عن الآخرة ومنافعها، فلا تتبعوه في أقواله وأعماله ولا تجالسوه ولا تسألوه فإنكم إن جالستموه يردكم إلى الدنيا فتكونوا مثله من الخاسرين وإن سألتموه يصدكم عن الحق فتكونوا مثله من الهالكين.

(فإن كل محب لشيء يحوط ما أحب) أي يحفظ ويرعى ما أحبه، يقال: حاطه يحوطه حوطا، أي كلاه ورعاه.

والحاصل: أن هذا العالم يحرس الدنيا ويحفظها، وكل من هو كذلك فهو متهم في الدين في كل ما يقول ويعمل; لأن حب الدنيا وحراستها لا يجامع حب الدين وحراسته في قلب واحد; إذ ميله إلى أحد المتقابلين يوجب إعراضه عن الآخر، كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعادها» (2)، فهذا العالم أيضا متهم في الدين فصح التعليل.

(وقال (صلى الله عليه وآله): أوحى الله إلى داود (عليه السلام): لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا) يعني لا تتوسل لمعرفتي وإحساني بعالم مفتون أضلته الدنيا بزهراتها وأخرجته عن طريق محبتي بشهواتها وحبسته عن مشاهدة جلالي بلذاتها.

(فيصدك عن طريق محبتي) أي يمنعك عن طريق يوصلك إلى محبتك إياي ومحبتي لك ويرغبك إلى الدنيا وزينتها فتصير مفتونا بها مثله.

(فإن اولئك) هم المفتونون بالدنيا البعيدون عن الرحمة.

(قطاع طريق عبادي المريدين) لمحبتي الطالبين لكرامتي القاصدين لسبيل مرضاتي، فإن اولئك يزينون الدنيا عندهم، ويرغبونهم إليها قولا وفعلا، ويمنعونهم من الرجوع إلى عالم إلهي ونحرير رباني، ولو لم يكن

ص: 160


1- 1 - ظاهره يدل على عدم جواز تقليد من يحب الدنيا وإن لم يعلم منه الفسق; لأن حب الدنيا مظنة له وإن لم يكن بنفسه فسقا، ووجهه أن العدالة وضدها من الامور الباطنة التي يعسر الاطلاع عليها إلا بالظن فإذا حصل من بعض العلامات العلم بالعدالة لا تعارضه هذه الأمارة المفيدة للظن النوعي، وأما إذا اريد إثبات العدالة بالأمارات الظنية فحب الدنيا من الامارات المانعة عن حصول الظن بالعدالة. واعلم أن الرجوع إلى العالم إما في اصول الدين فللتعلم بالبرهان المناسب للسائل، وإما في الفروع فلتقليده فيها، وإما في الأخلاق فللتخلق بالأخلاق الحسنة بالمعاشرة. وتعلم العبادات والتأدب بآداب الدين وتذكر ما يغفل عنه الإنسان من الالتزام بلوازم الإيمان والتأثر بمواعظ الله ومواعظ أوليائه فإن استقرار الإيمان واطمئنان القلب بالتكرار. (ش)
2- 2 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 103.

اولئك الضالون المضلون السارقون اسم العلم وزي العلماء جالسين في مسند الشرع وداعين للخلق إلى مفترياتهم لجال الناس إلى أن يجدوا هاديا مسددا وعالما مؤيدا.

(إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم) وكيف تكون قلوبهم قابلة لذوق مناجاته وهي مشغولة بغيره ملوثة بحب الدنيا وزينتها متنجسة بفضلة النفاق والعناد مظلمة بظلمة إضلال العباد؟! والنجوى السر بين اثنين، يقال: نجوته نجوا أي ساررته، وكذلك ناجيته وهو إنما يكون بين المحبين فحلاوة مناجاته تعالى تابعة لمحبته ولا يوازيها شيء من نعمائه عند الصديقين الذين خلصوا من مقتضيات سجيتهم ومشتهيات طبيعتهم وأخذت العناية الأزلية والسعادة الأبدية زمام قلوبهم فبذلوا المجهود في السير إلى الله ولزوم أوامره ونواهيه وبالغوا في تصفية بواطنهم وصقال ألواح نفوسهم وإلقاء حجب الغفلة وأستار الحياة البدنية عنهم حتى أشرقت عليهم شموس المعارف الإلهية وسالت في أودية قلوبهم مياه المحبة الربانية، فإنهم يعدون نزع حلاوة المناجاة من ذائقة قلوبهم طرفة عين من أشد العذاب، وإذا كان نزعها أدنى ما يصنع بهؤلاء الظالمين فماذا قدر أعلاه (1)؟ سبحانك نحن عبادك ولا ناصر لنا غيرك فانصرنا وثبت أقدامنا على صراطك إنك قريب مجيب.

* الأصل:

5 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا»، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال:

«اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم».

* الشرح:

(علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان) يعني اتباع السلطان الجائر في أقواله وأعماله وأوامره ونواهيه، والركون إليه، وفعل ما يوجب رضاه ليتوصل به إلى تحصيل الجاه والأموال، ويترفع على الأقران والأمثال، ويصير مشارا إليه بين الخواص والعوام، ومدارا

ص: 161


1- 1 - إن الإنسان يفتن بالدنيا فتكون السعادة عنده جمع المال وتحصيل الجاه والتلذذ باللذات الدنيوية، ومن كان هذا غاية غرضه ونهاية مقصوده لا يرى في السير إلى الله والمعارف الحقة سعادة أبدا، بل ليس تعبه في العلم إلا للمال والجاه وإن لم يحصلا له عد نفسه شقيا محروما ولا يزال محزونا على ما فاته، فإن كانت له الدنيا شغلته بوجودها وإن لم تكن شغلته بعدمها، ولا فراغ له للمناجاة، بل وإن توجه إلى الله تعالى فليس همه إلا الدعاء لطلب المال والجاه. (ش)

عليه بين الأوباش واللئام.

(فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم) أي تحرزوا منهم محافظة على دينكم واستيقظوا من مكرهم واغتيالهم (1)، وخافوا من كيدهم وإضلالهم فلا تراجعوهم ولا تسألوهم عن العلوم الدينية لئلا يردونكم عن دينكم فتنقلبوا خاسرين. وفيه تحذير على اتباع أهل البدع والجائرين وتخويف عن الاقتداء بالعلماء الفاسقين; لأن جورهم على غيرهم أقرب وأولى من جورهم على أنفسهم، ومن كان بهذه الصفة فهو لا يستحق الخلافة النبوية والإمامة الدينية والدنيوية.

* الأصل:

6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عمن حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عمن حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء) أي ليفاخر به العلماء ويغلبهم ويتعظم عليهم بمأثرة العلم ومكرمته.

(أو يماري به السفهاء) أي يجادل به السفهاء، وينازع به الجهلاء الظاهرين في زي العلماء والعاجزين عن استعمال القوة الفكرية على نحو ما ينبغي، وذلك ليقول العوام: إنه عالم فاضل ماهر في العلم مبارز في المناظرة غالب في المباحثة، وإنما ذكر (عليه السلام) مفاخرته بالنسبة إلى العلماء ومجادلته بالنسبة إلى السفهاء لأن العلماء يسكتون إذا بلغت المباحثة إلى حد المجادلة لعلمهم بقبحها، فتبقى له المفاخرة عليهم بالغلبة والاسكات، بخلاف السفهاء فإنهم لا يبالون بالمجادلة ولا يعلمون قبح المناقشة والمنازعة، فيقولون كما يقول ولا يسكتون تحرزا عن الالزام وإن قام بينهما القتال والجدال.

ص: 162


1- 1 - ولعل من يتبع السلطان ويعاشره لم يكن هذا عليه حراما، بل ربما كان واجبا لدفع مظلمة عن مظلوم أو لهداية السلطان إلى المذهب الحق، وقد ثبت في محله أن الولاية من قبلهم جائزة، ولكن أمر الناس بأن يتهموه لعدم علمهم بدخلة أمره، وكما يمكن أن تكون معاشرته معهم لمصلحة مشروعة راجحة يمكن أن تكون لتحصيل الدنيا. وبالجملة: هذا مظنة الشر والفساد، والكلام فيه كالكلام في حب الدنيا والإقبال عليها، فإن علم بالقرائن والامارات عدالته وصلاح قصده في معاشرة السلطان فهو وإلا فإن اريد الاعتماد على الظن فنفس الاتباع من أمارات الفساد، وهذه الروايات وأمثالها تدل على جواز تقليد العالم المأمون، وإن كان التقليد لا يحتاج إلى دليل لفظي. (ش)

(أو يصرف به وجوه الناس إليه) طلبا للحكومة بينهم والرئاسة عليهم، وقصدا إلى الغلبة والاشتهار، وتحصيلا للتفوق والاعتبار.

(فليتبوأ مقعده من النار) فليهيىء وليعد منزله من النار، يقال: تبوأ منزلا إذا هيأه أو فلينزل منزله من النار، يقال أيضا: بوأه الله منزلا أي أسكنه إياه، وتبوأ منزلا أي نزل فيه وسكنه، وفيه وعيد لمن طلب العلم للأغراض الدنيوية ومنافعها، وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن غيرها من الأغراض الفاسدة على تقدير تحققه يعود إليها، ثم أشار إلى التعليل للوعيد المذكور بقوله:

(إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها) وهم الفائزون بالنفوس القدسية، والعالمون بالقوانين الشرعية، والعاملون بالسياسات المدنية، والمتصفون بالملكات العدلية، والآخذون بزمام نفوسهم وقواها في سبيل الحق على نحو ما تقتضيه البراهين الصحيحة العقلية والنقلية.

وبالجملة: إنما تصلح الرئاسة لمن يكون: حكيما عليما شجاعا عفيفا سخيا عادلا فهيما ذكيا ثابتا ساكنا متواضعا رقيقا رفيقا حييا سليما صبورا شكورا قنوعا ورعا وقورا حرا عفوا مؤثرا مسامحا صديقا وفيا شفيقا مكافيا متوددا متوكلا عابدا زاهدا موفيا محسنا بارا فائزا بجميع أسباب الاتصال بالحق، مجتنبا عن جميع أسباب الانقطاع عنه، فمن اتصف بهذه الفضائل وانقطع عن أضدادها من الرذائل وقعت الالفة بين عقله ونفسه وقواه، فيصير كل ما فيه نورا إلهيا، وتحصل لاجتماع هذه الأنوار هيئة نورانية يشاهد بها ما في عالم الملك والملكوت وينتظم بها نظام أحواله ويستحق الخلافة الإلهية والرئاسة البشرية في عباده وبلاده، ووجب عليهم الرجوع إليه في امور الدين والدنيا وأخذ العلوم منه والتسليم لأمره ونهيه والاتباع لقوله وفعله، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة ولم ينزل في هذه المنزلة والمرتبة وتقلد أمر الرئاسة فهو من الجبت والطاغوت، حسبي الله ونعم الوكيل.

ص: 163

باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: «يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد) إخبار بأنه قد تقع المساهلة في حق الجاهل دون العالم، والمقصود أنه يغفر للجاهل ذنوب كثيرة قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد; لأن العرب كثيرا ما تعبر بهذا العدد عن الكثرة، ويحتمل أن يراد هنا خصوص هذا العدد أيضا.

والوجه فيه على التقدرين أنه قد تقرر في الحكمة العملية أن فعل الواحد قد يقع في مقابل أفعال كثيرة كحسن تدبير صاحب العسكر، فإنه يقع في مقابل محاربتهم ومقاتلتهم جميعا، بل قد يزيد ويغلب على أفعال كثيرة كسوء تدبيره، فإنه يغلب على أفعال العسكر ومقاتلتهم حتى أنهم يقتلون به جميعا وذلك إما لقوة سببه، أو لعظمة آثاره المترتبة عليه، أو لغير ذلك من الامور الخارجة عنه، إذا عرفت هذا فنقول: ذنب العالم في مقابل ذنوب كثيرة من الجاهل وأعظم منها بمراتب لقوة سببه وعظمة آثاره.

أما الاولى فلأن ذنبه منبعث من شدة شوقه وميله إليه وقوة عزمه له وشدة قوته الشهوية والغضبية وكمال انقياده وإطاعته لهما حتى تغلب هذه الأسباب الوهمية والخيالية على قوته النظرية العاقلة العالمة بالقبح والشناعة وتعمى بصيرتها فسبب ذنبه أعظم من سبب ذنب الجاهل; إذ الجاهل يكفيه أدنى سبب لعدم المعارف.

وأما الثانية فلأن أثر ذنبه - وهو مخالفة الباري المعروف عنده بصفاته وقدرته وجبروته وغلبته وغضبه وعلمه بجميع المعلومات كليها وجزئيها إلى غير ذلك من آثاره سبحانه - أعظم جدا من أثر ذنب الجاهل، لأنه لم يعرف سبحانه مثل معرفة العالم، وإنما سمع شيئا ولم يعرف حقيقته، وإذا تفاوتت الأسباب والآثار

ص: 164

قوة وضعفا تفاوتت الأفعال أيضا لذلك فبهذا الاعتبار ذنب العالم يقابل ذنوبا كثيرة من الجاهل.

* الأصل:

2 - وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه السلام:

«ويل لعلماء السوء كيف تلظى عليهم النار!».

* الشرح:

(وبهذا الإسناد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال عيسى بن مريم على نبينا وآله وعليه السلام: ويل لعلماء السوء) الويل: كلمة عذاب، تقول: ويل لزيد وويلا لزيد بالرفع والنصب، فالرفع على الابتداء والنصب على إضمار الفعل، هذا إذا لم تضفه، فإذا أضفته مثل ويله وويلك فليس إلا النصب; لأنك لو رفعته فليس له خبر. وقيل: الويل واد في جهنم لو ارسلت فيه الجبال لماعت من حره. والسوء بالفتح مصدر يقال: ساءه يسوؤه سوءا نقيض سره وبالضم الاسم تقول: هذا رجل سوء بالإضافة، ثم تدخل عليه الألف واللام وتقول: هذا رجل السوء.

وقال الأخفش: ولا يقال: الرجل السوء، ويقال: الحق اليقين وحق اليقين; لأن السوء بالرجل واليقين هو الحق، وقال أيضا: لا يقال: هذا رجل السوء بالضم، فعلى هذا ينبغي أن يقرأ لعلماء السوء بالإضافة والفتح وما وجد في بعض النسخ: للعلماء السوء على التعريف والوصف فكأنه سهو من الناسخ، وقد يوجه بأن التركيب ليس من باب التوصيف، بل من باب إضافة العامل إلى المعمول مثل الضارب الرجل باعتبار تعلق علم العالم بالسوء كتعلق ضرب الضارب بالرجل.

وفيه: أن المقصود ذم العلماء باعتبار اتصافهم بالسوء لا باعتبار علمهم به، والقول بأن التركيب وإن كان من باب الإضافة لكنه هنا في معنى التوصيف، أي المضاف موصوف بالمضاف إليه لا يخلو عن شيء; لأن التركيب الإضافي من حيث الإضافة وملاحظتها لا يدل على اتصاف المضاف بالمضاف إليه وإرادة الاتصاف بدون دلالة التركيب لا يجدي نفعا، فليتأمل.

(كيف تلظى عليهم النار؟) أي كيف تضطرم وتلتهب عليهم النار؟ وتلظى أصله تتلظى حذفت إحدى التاءين للتخفيف من لظى، وهو اسم النار، واسم من أسماء جهنم أيضا، لا ينصرف للعلمية والتأنيث، و «كيف» ليس للاستعلام عن حالهم، بل للإعلام بشناعتها وفظاعتها وشدائدها، بحيث لا يمكن تصورها.

ثم الظاهر أن المراد بالنار معناها الحقيقي، ويمكن أن يراد بها نار ألم الفراق بعد المفارقة عن الدنيا وانكشاف قبح السوء وآثاره على سبيل الاستعارة التحقيقية والترشيح; لأن الألم من باب الإدراك، وكلما

ص: 165

كان الإدراك أقوى وأشد كان الألم كذلك، ولا ريب في أن إدراك العالم لشدائد الفراق أقوى من إدراك الجاهل لها، فلذلك كان التهاب نار الفراق على العالم أعظم وأشد منه على الجاهل.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا بلغت النفس هاهنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة)».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا بلغت النفس هاهنا) النفس بالتحريك واحد الأنفاس، وهو ما يخرج من الحي حال التنفس، وبالتسكين الروح، وكلاهما مناسب.

(وأشار بيده إلى حلقه) يعني قبل معاينة عالم الغيب قريبا من انقطاع زمان التكليف متصلا به.

(لم يكن للعالم توبة) لتشديد الأمر عليه وعدم المساهمة معه في كثير من الامور وقبول توبته في هذا الوقت من جملتها، ويدل على هذا التفصيل ما يأتي (1) في باب ما أعطى الله تعالى آدم (عليه السلام) وقت التوبة «عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة»، ويبعد أن يراد بالعالم العالم بموته وبالجاهل الجاهل به، كما زعم، وقيل: الفرق بينهما أن ذنوب العالم امور باطنية وصفات قلبية وملكات ردية نفسانية لا يمكن محوها عن النفس دفعة في مثل هذا الزمان القليل، بل لا بد من مرور زمان يتبدل سيئاته إلى الحسنات، بخلاف ذنوب الجاهل الناقص فإنها من الأعمال البدنية والأحوال النفسانية الخارجة عن صميم القلب وباطن الروح فيمكن محوها في لحظة.

(ثم قرأ: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة)) بعده (ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) يعني قبول التوبة واجب على الله (2) للذين يعملون

ص: 166


1- 1 - في كتاب الإيمان والكفر.
2- 2 - والحق عندنا: أن قبول التوبة تفضل من الله تعالى وليس بواجب، ولو كان واجبا لم يتأخر قبوله عن (الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) لوجود المناط قبله، قد روي في بعض الروايات أنه لم يقبل توبتهم إلا بعد سبعة عشر يوما، إلا أن رحمة الله اقتضت أن يتفضل على الامة المرحومة في غالب الأمر على قبول توبتهم، وأيضا لو كان واجبا عقلا لم يكن فرق في الوجوب بين هذه الامة والامم السالفة ولأمكن قبول توبة بعض الأشقياء، فراجع شرح التجريد وسائر كتب الكلام، وذكرنا في حواشي مجمع البيان وبعض كتب التفسير ما يتعلق بذلك. (ش)

السيئات جاهلين أو متلبسين بالجهالة ثم يتوبون من زمان قريب بزمان حضور الموت ومعاينة أمر الآخرة. ثم أكد ذلك الحكم وأخبر بالوفاء بوعده المستفاد من قوله: (إنما التوبة) فقال: (فاولئك يتوب الله عليهم) أي قبل توبتهم (وكان الله عليما) بإخلاصهم بالتوبة (حكيما) لا يعذب التائب.

والاستشهاد في قوله: «بجهالة» فإنه يفهم منه أن قبول التوبة في هذا الوقت القريب من الموت للجاهل دون العالم، وإلا لما كان لذكر الجهالة فائدة، وأما قبول التوبة قبل هذا الوقت فغير مختص بالجاهل لقيام الأدلة على قبولها من العالم أيضا، ومما قررنا ظهر اندفاع ما نقل عن الفاضل الشوشتري من أن في هذا الاستشهاد - يعني الاستشهاد بالآية - شيئا، ولعله ليس من الإمام (عليه السلام) أو يكون له معنى آخر غير ما نفهمه، انتهى، فتأمل.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النظر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي سعيد المكاري، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

(فكبكبوا فيها هم والغاوون) قال: «هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد) هو الحسين بن سعيد بن مهران الأهوازي مولى علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقيه، جليل القدر (1).

(عن النظر بن سويد) كوفي، ثقة، صحيح الحديث.

(عن يحيى الحلبي) هو يحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي، كانت تجارته إلى حلب فنسب إليه، وهو كوفي ثقة ثقة، صحيح الحديث.

(عن أبي سعيد المكاري) اسمه هشام بن حيان الكوفي، لم يذمه أحد من أصحاب الرجال، وليس في كتبهم أيضا مدحه، وقيل في رواية الحلبي: وهو صحيح الحديث عنه دلالة على كونه ممدوحا، ولا يخفى ما فيه.

ص: 167


1- 1 - يعني أن مهران كان مولى لعلي بن الحسين (عليهما السلام)، وحسين بن سعيد هذا فقيه صنف ثلاثين كتابا عدها النجاشي، وهو في الشيعة معاصر للبخاري ومسلم، وكانت كتبه مشهورة بين أسلافنا نظير الصحيحين، وكان أخوه الحسن مشاركا معه في التصنيف، والذي يظهر من النجاشي أنه كان في نسخة كتبه بعض الاختلاف، والمعتمد هو نسخة أحمد بن محمد بن عيسى وروايته قال: فيجب أن يروي كل نسخة من هذا بما رواه صاحبها فقط ولا يحمل رواية ولا نسخة على نسخة لئلا يقع فيها اختلاف. (ش)

(عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فكبكبوا فيها هم والغاوون)) في الصحاح: كبه لوجهه، أي صرعه، فأكب هو على وجهه، وكبكبه، أي كبه، ومنه قوله تعالى:

(فكبكبوا فيها هم والغاوون). وقال القاضي: الكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه، كأن من القي في النار منكب مرة بعد اخرى حتى يستقر في قعرها، والغاوون أي الضالون الخائبون من الغي وهو الضلال والخيبة، عطف على ضمير الجمع المتصل لتأكيده بالمنفصل.

(قال: هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم) أي ضمير الجمع المتصل قوم من العلماء المائلين إلى الدنيا ولذاتها والتابعين للنفس الأمارة وشهواتها الذين وصفوا عدلا، أي نواميس إلهية وشرائع نبوية وبينوه للناس بألسنتهم وإطلاق العدل عليها شائع في الحكمة العملية; لأنها تأمر بالوسط الذي هو صراط الحق وتنهى عن الجور الذي هو سلوك أحد طرفي الافراط والتفريط، ومن زعم أن هذا التفسير أولى من تفسير المفسرين لهم بالآلهة وعبدتهم لأن ضمير الجمع للعقلاء بخلاف قوله تعالى:

(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) لجواز أن يكون وما تعبدون أصناما آلهة ورد عليه: أنه لا منافاة بين التفسيرين; لأن إطلاق الآلهة على العلماء شرعا باعتبار الطاعة والانقياد لهم في أفعالهم وأعمالهم والاستماع إلى أقوالهم شائع، وقد دل عليه قوله تعالى: (واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، ودلت عليه الروايات المعتبرة.

(ثم خالفوه إلى غيره) أي ثم خالفوا العدل لعدم استقراره في قلوبهم ومالوا إلى الجور واتبعوا القوة الوهمية والنفس الأمارة ومشتهياتهما واقتفوا القوة الشهوية والقوة الغضبية ومقتضياتهما، وهؤلاء أشباه العلماء وليسوا بمتصفين بالعلم والحكمة حقيقة; لأن العلم مقرون بالعمل، كما مر مرارا، ولذلك قال سقراط (1): إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، فإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات. وقال المحقق الطوسي: قد يصدر من بعض أقوال شبيهة بأقوال العلماء والحكماء مع أنه ليس بعالم ولا حكيم قطعا; لعدم اتصاف نفسه بمعنى العلم والحكمة، فإن من الناس من يجمع مسائل العلوم ويحفظها ويحفظ نكاتها ودقائقها التي أخذها بطريق التقليد ويؤديها إلى غيره في المحاورات والمناظرات على وجه يتعجب منه المستمعون ويحملون ذلك على وفور علمه وكمال فضله وهو فاقد في نفس الأمر لثمرة العلم وفائدة الحكمة، أعني وثوق

ص: 168


1- 1 - تمسك بقول سقراط وهو استاذ أفلاطون، بل هو المؤسس للحكمة الإلهية بعد أن كان اليونانيون معتنين غالبا بالطبيعيات «والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها»، سواء كان صاحبها يونانيا، أو بابليا، أو مصريا، بشرط أن لا يقلدهم من غير دليل ولا يتوهم حرمة تعلم الحكمة; إذ نظر فيها وأتقنها كثير من علمائنا مما لا يطعن فيهم كالسيد الداماد ونصير الدين الطوسي وآقا حسين الخوانساري وابنه آقا جمال الدين وغيرهم قدس الله أسرارهم. (ش)

النفس وبرد اليقين وليس حاصل فوائده وخلاصة عقائده إلا التشكك والحيرة، ومثله في تقرير العلوم مثل بعض الحيوانات في حكاية أفعال الإنسان ومثل الأطفال في التشبه بأفعال البلغاء فأفعاله وآثاره شبيهة بأفعال العلماء وآثارهم وقلبه مباين لقلوبهم ثم لكون مصدر العلم والحكمة هو النفس دون الظواهر يقع الاشتباه بينهم وبين العالم الرباني وهو الحكيم العادل الذي أشرقت نفسه بإشراقات الحكمة الإلهية وتنو قلبه بأنوار العلوم الربانية ووقع التعديل في قواه الظاهرية والباطنية والتقويم في أفعاله وأحواله وأقواله الصادرة منه بحيث لا يخالف بعضها بعضا وطابق ظاهره باطنه وهو الذي ينطق بالحق ويعمل به ويدعو إليه، وأما المتشبه به فلعدم تأثر ذهنه بالحكمة وعدم انقياد قلبه للعلم صار عقله مغلوبا في الشهوات، خادما للنفس الداعية إلى اللذات فغاية همه الدنيا وما فيها ونهاية جهده طلب زخارفها الفانية بما يظهر منه الكمال وغيره، وهكذا حاله إلى أن يموت فيغرق في سوء أعماله وقبح آثاره. وما نقلناه منه (رحمه الله) أخذناه في مواضع من كلامه، والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق.

ص: 169

باب النوادر

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، رفعه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «روحوا أنفسكم ببديع الحكمة فإنها تكل كما تكل الأبدان».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، رفعه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: روحوا أنفسكم) الترويح «راحت دادن وخوش بو كردن».

(ببديع الحكمة) أي بالحكمة البديعة المحدثة، يعني «به علم تازه»، والحكمة في ألسنة الشرع العلم النافع في الآخرة، وقد تطلق على ما هو أعم من ذلك.

(فإنها تكل) بمزاولتها بعض العلوم وعكوفها عليه، والكلال الضعف والإعياء.

(كما تكل الأبدان) من الحركات المتعاقبة من باب واحد، وفيه أمر بالمراوحة بين أنواع الحكمة والعلوم بأن يطلب هذا تارة، وذلك اخرى، لارتياح النفس ونشاطها; لأن لكل جديد لذة، وهذا من جملة آداب التعلم كما أشار إليه بعض الأفاضل في آداب المتعلمين. ولهذا الحديث وأمثاله مثل قوله (عليه السلام): «إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم» (1)، وقوله (عليه السلام): «روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان» محمل آخر أوجه وأحسن مما ذكرناه، ولا بد لبيانه من تقديم مقدمة، وهي: أنه لما كانت الغاية من وجود الخلق هي العبادة له تعالى كما قال عز سلطانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وكانت العبادة لا تتحصل إلا بالعلم، وكان المقصود منها هو الوصول إلى جانب عزته في حظائر قدسه بأجنحة الكمال كان ذلك هو الغاية لخلق الإنسان المطلوب منه والمأمور بالتوجه والسير إليها بوجهه الحقيقي، فإن سعى لها سعيها ولم يحصل له فتور وكلال أدركها وفاز بحلول جنات النعيم وإن قصر في طلبها وانحرف عن الصراط المستقيم كان من الهالكين، وكانت غايته النار فدخلها مع الداخلين.

فقد ظهر أن غاية كل إنسان أمامه وهم يسيرون إليها وواجدون لها، إذا عرفت هذا فنقول:

ص: 170


1- 1 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 91.

كما أن الأبدان في هذا العالم المحسوس يطرأ عليه الضعف والكلال بتوارد الأمراض البدنية والأسقام الحسية فيمنعها عن الأفعال المخصوصة بها والحركات الناشئة منها، ولا بد لتعديلها وتصحيحها وتقويمها وإرجاعها إلى الصحة من معالجات طبية واستعمال أغذية وأدوية مناسبة كذلك النفس طرأ عليها في السير إلى الله والوصول إلى حضرته والفوز بكرامته والبلوغ إلى الغاية المذكورة كلال وملال وأمراض مانعة لها عن تحصيل هذه المطالب بعضها ينشأ من استشعارها ألم الجهل وبعضها من استشعارها ألم الخوف.

أما الأول فلأن الجهل البسيط لازم لها غير منفك عنها، كما يريد إليه قوله تعالى: (فوق كل ذي علم عليم)، فهي وإن كانت صحيحة من وجه عليلة كليلة من وجه آخر.

وأما الثاني فلأنها وإن بالغت في بذل الجهد في لزوم أوامر الله ونواهيه والتصفية عن الأدناس وإلقاء حجب الغفلة وأستار الهيئة البدنية لكنها ما دامت في هذه الأبدان فهي في أغطية من هيئاتها وحجب من أستارها وإن رقت تلك الحجب وضعفت تلك الأغطية وإنما تتخلص من شوائب تلك الحجب والأغطية وظلماتها بالخلاص عن هذه الأبدان; إذ حينئذ (تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) فتكون مشاهدة بعين اليقين ما أد لها من خير وشر بحسب استعدادها بما كسبت من قبل، فأما قبل المفارقة فإن حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الامور كما هي، وإن حصلت على اعتقاد جازم برهاني أو نوع من المكاشفة الممكنة كما في حق أولياء الله إلا أن ذلك الوقوف كالمشاهدة لا أنها مشاهدة حقيقية خالصة; إذ لا تنفك عن شائبة الوهم والخيال إذا كانت حالها قبل المفارقة هكذا فهي دائما كليلة عليلة من مرض الهم والخوف من سقوطها عن مدارج الحق ومن تحملها ما لا يحتاج إليه من الأعمال والعقائد أو ما يليق به تعالى ومن انتكاسها وانعكاسها بسبب غلبة العدو وقطاع الطريق ومن الرجوع إلى شهوات الدنيا بسبب تدليسات القوى الداعية إليها ومن انقطاع زادها الروحاني ومن عمي بصيرتها عن مشاهدة اللطف الرباني ومن موتها بسبب استيلاء مرض الجهل فهي دائما في كلال فلا بد من إمدادها وترويحها وتصحيحها بمعالجات حكمية واستعمال أغذية وأدوية روحانية بأن يطلب لها من طرائف الحكمة وحديثها ما يعجبها، ومن لطائف العلوم وجديدها ما ينشطها ومن شرائف المعارف وسديدها ما يحركها ويشفيها من هذه الأمراض والآلام، ومن طرائف الحكمة ما في هذا الكتاب من المواعظ والنصائح (1)، فطوبى لمن جعلها مفتاح قلبه ومصباح لبه وويل لمن اتخذها ظهريا

ص: 171


1- 1 - أشار بهذا الكتاب إلى كتاب الكافي، أو إلى هذا الشرح، وليس المراد من الطرائف التي أمر بها في الحديث الحكايات الكاذبة والقصص المخترعة وهزليات الأشعار التي يشتاقها العامة ولا يملون منها كحكايات ألف ليلة وليلة، بل ما يكون طريفا ومنشطا ومع ذلك مشتملا على عبرة وحكمة، أو ما يفيد فائدة ما كالأشعار والحكايات الموضوعة على ألسنة الحيوانات وكتب السياحة وتواريخ البلدان وأمثال ذلك، ومن أحسن المجاميع في ذلك كتاب الكشكول للشيخ بهاء الدين عليه الرحمة وجرب كثيرا أن من يهتم بشيء واحد ويصرف فكره فيه فقط ولا يتجاوز إلى غيره كمن يصرف عمره في كتاب واحد من الاصول والكلام والنحو ولا يتنوع ولا ينظر في الطرائف أنه يتبلد وينجمد ولا يفيد فائدة علمية كثيرة، وأما علم الحديث والقرآن فهو متنوع بنفسه ومشتمل على طرائف الحكم. (ش)

ونبذها من ورائه نسيا منسيا، وهذا - أي ارتياح النفس بطرائف الحكمة وبدائعها - إذا كانت النفس قابلة للعروج إلى المقامات العالية مستعدة لاكتساب الفيوضات الإلهية متحلية بحلية العلوم والفضائل متخلية عن الشرور والرذائل فإنها إذا كانت بهذه المنزلة تلتذ بإدراك طرائف الحكمة وحقائقها ونيل لطائف العلوم ودقائقها، وأما النفوس المعطلة الخالية عن شوائب الفضيلة كنفوس الأوباش والأوغام فإنها تستنكف من استشمام نسائم العلوم ويأخذ أنف نفسه من ريح شمائمها بل يزداد مرضها أو تموت فجأة لو استمع إلى خبر صحيح وأثر صريح، ولو أردت أن تحييها فاقرأ على سمعها زخارف الأقاويل وقبائح الأباطيل وحكايات السارقين وروايات الفاسقين والأقوال الواصفة للدنيا وباطلها التي تنفر عن الآخرة وتجذب عن الافق الأعلى فإنها تستريح بها وتستمع إليها وتنشط منها كنشاط العطشان من شرب الماء وتهتز كاهتزار الأرض من مطر السماء.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن درست بن أبي منصور، عن عروة ابن أخي شعيب العقرقوفي، عن شعيب، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة: فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، واذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية، وعقله معرفة الأشياء والامور، ويده الرحمة، ورجله زيارة العلماء، وهمته السلامة، وحكمته الورع، ومستقره النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبة الأخيار».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن درست بن أبي منصور، عن عروة ابن أخي شعيب العقرقوفي، عن شعيب) وهو العقرقوفي أبو

ص: 172

يعقوب ابن أخت أبي بصير يحيى بن القاسم، عين، ثقة.

(عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة) نبههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها يظهر آثاره فهو ليس بعلم حقيقة ولا يعد صاحبه عالما، وقد تصور العلم مجسما وشبهه بإنسان ذي اقتدار وانتزع منه ما يشبه بما يحتاج إليه ذلك الإنسان في اقتداره وإظهار آثاره مثل الرأس والعين والاذن واللسان إلى غير ذلك مما ذكره في الحديث.

وبالجملة أخذ العلم شخصا روحانيا له أعضاء وقوى وصفات كلها روحانية بعضها بمنزلة الأعضاء الظاهرة للإنسان كالمذكورات، وبعضها بمنزلة الصفات الباطنية مثل الحفظ والعقل والهمة والحكمة.

وأطلق هذه الألفاظ الموضوعة لما في الإنسان على ما اعتبره في العلم ترشيحا أو تخييلا أو تمثيلا أو تشبيها لأجل مناسبة يجدها الماهر في العربية كل ذلك لزيادة الايضاح والتقرير.

(فرأسه التواضع) أي التخضع والتذلل لله تعالى ولعباده، شبه التواضع بالرأس لأن الرأس رئيس أعضاء الإنسان; لأنه محل لأكثر القوى البشرية فلذلك ينتفي وجوده بانتفائه وكذلك التواضع أعظم فضائل العلم; لأن التعليم والتعلم والتمدن والتعاون والارتقاء إلى عالم القدس الذي هو المقصود من العلم لا يتحقق بدونه، فالعلم المنفك عنه التواضع والمتصف بصفة الكبر والتجبر ليس بعلم حقيقة بل الجهل أشرف.

(وعينه البراءة من الحسد) إذ كما أن العين آلة لمشاهدة المبصرات كذلك البراءة من الحسد آلة لإدراك المعقولات وحفظها، فإن الحسد يأكلها كما تأكل النار الحطب، وسر ذلك أن الحسد عبارة عن فرط حرص رجل على امتيازه في جميع الفوائد والمقتنيات من أبناء جنسه وشدة اهتمامه على إزالتها من غيره وجذبها إلى نفسه وهذه رذيلة عظيمة سببها مركب من الجهل والشره; لأن اجتماع الخيرات كلها في شخص واحد محال، وعلى تقدير الإمكان لا يتصور انتفاعه به، فجهله بتلك الحالة وإفراط الشره يحملانه على الحسد، ثم لما كان مطلوبه ممتنع الوجود فهو دائما في هم وغم وحزن وألم على فواته حتى يبلغ ذلك إلى حد يمنعه من تصور غير مطلوبه المحال، ويوجب ذلك من انمحاء ما في قلبه من الصور العلمية الحاصلة وعمية بصيرته من مشاهدة غيرها، وأيضا من جملة الخيرات وأعظمها هو العلم والحسد يمنعه من تعليم غيره; لأنه لا يقدر أن يرى حصول خير ونعمة لغيره وظاهر أن تعليم العلوم وتكرارها يورث ملكة للحاصل وجلبا لغير الحاصل، فإذا منع حسده من التعليم سلب عنه الحاصل، ومنع من مشاهدة غير الحاصل.

(واذنه الفهم) لما شبه العلم بالإنسان الكامل في احتياجه إلى الامور المذكورة لتمشية أمره وتكميل نظامه أثبت له الاذن، فجاءت الاستعارة مكنية وتخييلية، إلا أنه تصرف في المشبه وانتزع منه هيئة الفهم

ص: 173

وشبهها بالاذن في أن من خوطب بعلم لا يفهمه فهو بمنزلة من خوطب بلفظ لا يسمعه، أو في أن حصول المعارف والنكات والحقائق في قلبه من طريق الفهم كما أن حصول معاني الأخبار والأقوال في قلب الإنسان من طريق الاذن، فأطلق لفظ الاذن على تلك الهيئة مجازا أو يمكن أن يكون إطلاقها على الفهم باعتبار أنه غايتها، وعلى التقديرين فهو مؤيد لما ذهب إليه صاحب المفتاح من أن الاستعارة التخييلية مجاز، وأما ما ذهب إليه صاحب التلخيص وغيره من أنها حقيقة مستعملة في معناها الأصلي فهذا لا ينطبق عليه إلا بتكلف بعيد جدا، ومثل ما ذكرناه في هذه الفقرة يجري في أكثر فقرات هذا الحديث، ولا يصعب اعتباره فيها لمن هو عارف بالعربية.

(ولسانه الصدق) سمى الصدق لسانا لأن الصدق غايته أو لأنه شبه صدق العلم بمعنى مطابقته للواقع باللسان; لأن صدقه ينفع ويفيد كاللسان أو لأن صدقه سبب لزيادته إذ العلوم الحقة تتكامل بحسب تكامل الاستعداد ويتسبب بعضها لحصول بعض آخر كما أن اللسان سبب لزيادة الاقتدار بالوعد والوعيد والأمر والنهي.

(وحفظه الفحص) أي البحث والتفتيش في حقيقة ما حصل وتحصيل ما لم يحصل، والتعبير عن الحفظ بالفحص تعبير عن المسبب بالسبب، بناء على أن العلم صيد والفحص عنه قيد سبب لبقائه وحفظه.

(وقلبه حسن النية) من باب تسمية الحال باسم المحل أو من باب التشبيه إذ يفسد العلم بفساد النية وعدم خلوصها، ولا يترتب عليه ما هو الغرض من وجوده كما أن الرجل يفسد بفساد قلبه ولا يترتب عليه الآثار المطلوبة من وجوده.

(وعقله معرفة الأشياء والامور) أي تصورها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه في نفس الأمر; لأن قوام العلم بتلك المعرفة كما أن قوام الإنسان بالعقل، ويحتمل أن تكون العلاقة هي السببية.

(ويده الرحمة) على المتعلمين; لأن الرحمة وهي الرقة والتعطف وسيلة لايصال العلم إلى غيره كما أن اليد وسيلة لايصال النعمة إلى الغير.

(ورجله زيارة العلماء) لأنه بزيارتهم تقتبس المطالب، كما أن الإنسان بالرجل يكتسب المآرب، ولولا زيارتهم لما انتقل العلم من صدر إلى آخر كما أنه لولا الرجل لما انتقل الإنسان من موضع إلى موضع آخر، وبالجملة لما شبه العلم بالإنسان وليس للعلم رجل حقيقة اعتبر آثار الرجل، أعني الزيارة فيه وسماها رجلا إما على سبيل التشبيه أو على سبيل السببية.

(وهمته السلامة) من الآفات أو من الجهالات أو من أسباب الانقطاع عنه تعالى أو من إيذاء الناس بالتفاخر وغيره كما أن الإنسان الكامل همته ذلك.

ص: 174

(وحكمته الورع) أي التحلي بما يوجب القرب منه سبحانه والتخلي عما يوجب البعد عنه والاجتناب عن المحظورات والمشتبهات، كما أن شأن الإنسان الكامل ذلك، وقراءة الحكمة بفتح الحاء والكاف، وتفسيرها بحكمة اللجام المانعة من خروج الفرس عن طريقه لا يناسب المقام; لأن الحكمة بهذا المعنى لم توجد في المشبه به أعني الإنسان.

(ومستقره النجاة) المستقر المكان والمنزل باعتبار استقرار صاحبه فيه والنجاة مصدر نجوت من كذا، أي خلصت منه، والمقصود أن منزله الذي إذا وصل إليه سكن واستقر فيه نجاته عن شوائب المفاسد وتخلصه عن طريق الباطل والمهالك.

(وقائده العافية) أي ما يقوده إلى مستقره ويجره إلى نجاته العافية من مرض الجهل والبراءة من طريان النقص والآفات، والعافية اسم بمعنى المصدر ويوضع موضعه يقال: عافاه الله عافية، وهي دفاع الله سوء المكاره.

(ومركبه الوفاء) أي مركبه الذي إذا ركبه يوصله إلى مستقره، ومقصوده الوفاء بعهد الله تعالى والاتيان بما أمر به والاجتناب عما نهى عنه، شبه الوفاء وهو ضد الغدر والمكر المركب لأن الوفاء يوصل صاحبه إلى مأمنه ومقصوده وهو الفوز بالتقرب منه تعالى وينجيه من الأهوال والشدائد الدنيوية والاخروية، ولكل واحد من الوفاء والغدر وجوه متعددة وموارد متسعة; لأنهما يوجدان في العلم والمال والجاه والمودة وغيرها وشناعة الغدر من أجلى الضروريات ولذلك يعترف به من له أدنى شعور.

(وسلاحه لين الكلمة) أي سلاحه الذي به يدفع تعرض المتعرضين له وإبطال المبطلين إياه لين الكلمة معهم، والتخضع في القول لهم، فإن ذلك يوجب عدم تعرضهم له، وإنما شبه لين الكلمة بالسلاح وهو آلة الحرب مثل الدرع والسنان والسهام ونحوها لأن كلا منهما يدفع عن صاحبه سورة المكاره وشر العدو. أما الأول فبالرفق والاستمالة، وأما الثاني فبالهيبة والاستطاعة.

(وسيفه الرضا) أي سيفه الذي به يدفع صولة المعاندين له عند ملاقاتهم الرضا بما صدر منهم وعدم تعرضه لهم فإنه إذا رضي بذلك سلم عن آفاتهم وعن التضجر بجدالهم ومماراتهم أو سيفه الرضا بما آتاه الله تعالى، وبالقضاء والقدر; لأن الرضا به يقطع عنه سورة المشكلات كما أن السيف يقطع اتصال المتصلات، ولأن الرضا سبب لتسخيره الفضائل الروحانية في عالم الأرواح كما أن السيف سبب لتسخير الأمير البلاد والعباد في عالم الأشباح.

(وقوسه المداراة) لأن صيت حسن الخلق ومداراة الناس وملاينتهم ومساترة عداوتهم يحفظ صاحبها عن شر البعيد والقريب، ومنع وصول شرهم إليه كالقوس.

ص: 175

(وجيشه محاورة العلماء) لأن محاورتهم يقويه ويحفظ مسالك قلبه عن توارد عساكر الجهالة (1)، كما أن الجيش يقوي السلطان ويحفظ ممالكه عن تسلط الأعادي بالطغيان والعداوة.

(وماله الأدب) أي ماله الذي به يقوت ويطلب بقاءه وحياته رعاية الأدب مع معلمه ومتعلمه وسائر الناس، وإنما شبه الأدب بالمال لأن الأدب سبب لبقائه ولتآلف القلوب وجذبها ومكتسب مثل المال ولو قرأ مآله بمعنى مرجعه فالأمر ظاهر.

(وذخيرته اجتناب الذنوب) كما أنه لا بد للإنسان من ذخيرة ليوم حاجته كذلك لا بد للعلم من ذخيرة وهي اجتناب الذنوب ليوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة.

(وزاده المعروف) الزاد طعام يتخذ للسفر، والمعروف ضد المنكر، وأيضا العطية، والمراد هنا الأعمال الموافقة للقوانين الشرعية يعني كما أن للإنسان زادا يتوسل به في السفر الجسماني إلى مقاصده ولولاه لهلك وفسد نظامه كذلك للعلم زاد، وهو المعروف يتوسل به في السفر الروحاني إلى مقام القرب، ولولاه لهلك وفسد.

(ومأواه الموادعة) المأوى كل مكان تأوي إليه ليلا ونهارا والموادعة المصالحة ويجوز أن يكون من الوداع، والمعنى أن منزل العلم هو المصالحة بينه وبين الناس أو بينه وبين الخالق أو الوداع لهذه الدار دون القرار فيها والركون إليها.

وفي بعض النسخ: «وماؤه الموادعة» يعني ما يدفع به عطشه (2)، وحرارة قلبه هو المصالحة.

(ودليله الهدى) كما أن للإنسان المسافر في العالم الجسماني دليلا لولاه لضل عن سبيله كذلك للعلم في السفر في العالم الروحاني دليل هو الهدى، وهو خمسة أنواع:

الأول: اتصاف القوة العقلية بما يتوسل به إلى الاهتداء بالمصالح.

والثاني: الدلائل العقلية الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد.

والثالث: الكتاب الإلهي والرسول والأئمة (عليهم السلام).

والرابع: انكشاف السرائر الروحانية بالمنام والإلهام.

والخامس: محو الظلمات المانعة من البلوغ إلى وصاله وظهور التجليات الموجبة للنظر إلى جلاله وكماله،

ص: 176


1- 1 - رد على ما يتوهمه بعض الناس من أنه يكفي في استنباط الأحكام مطالعة الأحاديث وفهم مفاد الروايات، وذلك لأن مراتب الناظرين مختلفة، ولا يستغنى إلا دون من استشارة من فوقه لذلك ترى المتأخرين وإن بلغوا ما بلغوا في الاطلاع على الروايات ودقائق الاصول لم ينالوا معشار ما ناله أساطين العلم كالشهيد والشيخ والعلامة ولا يتجرؤون على الفتوى إلا إذا سبقهم هؤلاء. (ش)
2- 2 - ويعين ما في هذه النسخة كونه مذكورا بعد الزاد. (ش)

ويمكن حمل الهدى هنا على كل واحد من هذه المعاني.

(ورفيقه محبة الأخيار) كما أنه لا بد للإنسان المسافر في قطع المنازل الجسمانية من رفيق كما روي «الرفيق ثم الطريق» كذلك لا بد للعلم في قطع المنازل الروحانية حتى يبلغ إلى غاية مقصده من رفيق وهو محبته للأخيار أو محبة الأخيار له، وبينهما تلازم; لأن المحبة من الطرفين وهي من أعظم المطالب وأشرف المقاصد، وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم، فمن اتصف بالعلم واتصف علمه بهذه الفضائل فهو عالم رباني وعلمه نور إلهي متصل بنور الحق، مشاهد لعالم التوحيد بعين اليقين، ومن لم يتصف بالعلم أو اتصف به ولم يتصف علمه بشيء من هذه الفضائل هو جاهل ظالم لنفسه بعيد عن عالم الحق وعلمه جهل وظلمة يرده إلى أسفل السافلين، وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة والكثرة، وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم من الحق والكل في مشيئة الله تعالى سبحانه، إن شاء قربهم ورحمهم، وإن شاء طردهم وعذبهم.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نعم وزير الإيمان العلم، ونعم وزير العلم الحلم، ونعم وزير الحلم الرفق، ونعم وزير الرفق العبرة».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نعم وزير الإيمان العلم) الوزير من يحمل الثقل عن الأمير ويعينه في اموره، والإيمان هو التصديق بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول على سبيل الإجمال، وكون العلم وزيرا له ظاهر لأن العلم التفصيلي بالمعارف الإلهية والمسائل الدينية يقوي نور الإيمان في القلب، ويدبر أمره، ويحفظ جميع القوى والأركان عن الجور والطغيان، وعن صدور ما ينافي استقراره وتمكنه في ملك الباطن، وهذا التركيب يحتمل وجوها:

الأول: أن يكون فيه استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالسلطان، واستعارة تخييلية بإثبات الوزير له، والعلم كلام مستأنف بتقدير مبتدأ متضمن لتشبيهه بالوزير.

الثاني: أن يكون فيه استعارة تحقيقية بتشبيه صفة من صفات القلب وناصر من أنصار الإيمان بمن يحمل الثقل عن السلطان واستعارة لفظ المشبه به وهو الوزير للمشبه وذكر الإيمان قرينة لها والعلم كلام مستأنف

ص: 177

مبين للمشبه.

والثالث: أن يكون فيه مجاز مرسل بإطلاق لفظ الوزير على ناصر الإيمان ومعينه، وهو العلم من باب إطلاق اسم الملزوم على اللازم، ومثل هذه الوجوه يأتي في العبارات الباقية.

(ونعم وزير العلم الحلم) وهو كون النفس مطمئنة بحيث لا يحركها الغضب بتوارد المكاره بسهولة، ولا تقع في شغب عند مشاهدتها بعين العلم بالخيرات، والشرور في التزام الأول، والاجتناب عن الثاني، إذ لولا العلم لوقعت النفس في مهاوي المهالك واختل نظامها ولا ينفعها مجرد العلم في ضبط الممالك الروحانية كما أن السلطان الظاهر لا ينفعه علمه بأحوال مصالح الرعايا ومضارهم إذا لم يكن له حلم وكانت له نفس ظالمة آمرة له بارتكاب مضارهم أو وزير مائل إلى الظلم آمر له به، وهو يتبعه في مفتريات أقاويله، فإن ذلك يؤدي إلى فساد أحوال مملكته وزوال نظام امور سلطنته.

(ونعم وزير الحلم الرفق) الرفق هو فرع العفة التي هي الاعتدال في القوة الشهوية الجاذبة للمنافع، ونوع من أنواعها، يعين الحلم الذي هو فرع الشجاعة التي هي الاعتدال في القوة الغضبية ونوع من أنواعها; إذ لولا الرفق لوقع الجور في جلب المنافع وهو مستلزم للجور في القوة الغضبية الدافعة للمضار المتحركة نحو الانتقام ضرورة أن القوة الشهوية إذا تحركت إلى الجور في جلب المنافع تحركت القوة الغضبية إلى الجور في رفع المانع من حصول تلك المنافع، ويبطل بذلك بناء الحلم ونظامه، فظهر أن للرفق مدخلا عظيما في ثبات الحكم وبقاء نظامه، وهذا معنى وزارته للحلم.

(ونعم وزير الرفق العبرة) العبرة - بالكسر والتسكين - اسم من الاعتبار بمعنى الاتعاظ، وهي تعين الرفق وتوجب ثبات ملكته وبقاء القوتين المذكورتين على الاستقامة والتوسط بين الإفراط والتفريط، فإن من اتعظ بأحوال السابقين ونظر إلى آثارهم وتأمل من أين انتقلوا وارتحلوا وإلى أين حلوا ونزلوا وكيف انقطعت أيديهم عن قنيات هذه الدار الفانية وأصابتهم العقوبات الشديدة الدنيوية بسبب سوء أعمالهم وقبح أفعالهم واتباعهم لخرق النفس وسفاهتها وجور القوى وشقاوتها واتعظ أيضا بنعيم الدنيا وسرعة زوالها وبمكارهها وقرب افولها وانتقالها تبرد في قلبه الدنيا وما فيها وتنكسر سورة القوى ودواعيها، ولهذه الخصلة مدخل تام في ثبات الرفق بعباد الله، إذ لولا تلك الخصلة لأمكن أن تميل النفس إلى الخرق بهم في جميع المشتهيات كما هو مقتضى طبيعتها وإلى الغلبة عليهم في جميع المقتنيات كما هو سجيتها، وقيل: المراد بالعبرة العبور العلمي من الأشياء إلى ما يترتب عليها وتنتهي إليه، وفي بعض النسخ وقع لفظ «الصبر» بدل العبرة وتوجيهه ظاهر لأن الصبر على المكاره والامور الشاقة على النفس سبب عظيم ومعين تام لبقاء الرفق وثباته ولولا الصبر لزال الرفق بورود أدنى المكاره والشدائد.

ص: 178

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما العلم؟ قال: «الانصات»، قال: ثم مه؟ قال: «الاستماع»، قال: ثم مه؟ قال: «الحفظ»، قال: ثم مه؟ قال:

«العمل به»، قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: «نشره».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ما العلم؟) «ما» الاستفهامية كثيرا ما تكون سؤالا عن التعريف الحقيقي، وقد تكون سؤالا عن التعريف الرسمي، وهذا هو المراد هاهنا، فلذلك اجيب بذكر سبب حصول العلم وسبب بقائه وفائدته وغايته المطلوبة منه.

ويؤيده أيضا وقوع السؤال بها مكررا; إذ للشيء الواحد ليست إلا حقيقة واحدة، ولو كان المراد هو المعنى الأول كان الجواب من باب تلقي السائل بغير ما يتوقع تنبيها على أن ذلك الغير هو الأولى والأهم به بالسؤال عنه.

(قال: الانصات) في الصحاح والقاموس: الانصات السكوت والاستماع للحديث، تقول:

أنصتوه وأنصتوا له. وفي نهاية ابن الأثير: أنصت ينصت إذا سكت سكوت مستمع، وهو لازم ومتعد. وفي المغرب: أنصت سكت للاستماع، ولعل الإنصات هنا بمعنى السكوت فقط بقرينة ذكر الاستماع بعد.

(قال: ثم مه؟) أصل مه «ما» حذفت الألف وزيدت الهاء للوقف.

(قال: الاستماع) للعلم وإلقاء السمع إلى المعلم طلبا لسماع الحديث وفهمه، وفيهما إشارة إلى سبب من أسباب حصول العلم، فإن المتعلم لا بد أن يسكت عند تلقين المعلم ويستمع لحديثه حتى تنتقش الصور العلمية في ذهنه.

(قال: ثم مه؟ قال: الحفظ) أي حفظ العلم وضبطه، وفيه إشارة إلى سبب بقائه ولا بد منه إذ لا ينفع الانصات والاستماع بدونه.

(قال: ثم مه؟ قال: العمل به) إن كان متعلقا بالعمل، وفيه إشارة إلى فائدة العلم وغايته; لأن الغرض من العلم العملي هو العمل به، والغرض من العمل هو التقرب منه تعالى، وهو مع ذلك سبب لبقاء العلم الحاصل وموجب لحصول غير الحاصل; إذ العلم يصفي القلب ويصقله فيوجب حفظه للصورة الحاصلة واستعداده

ص: 179

لقبول مرتبة اخرى من العلم.

(قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: نشره) بين الناس بالتعليم (1)، وفي الابتداء بالتعلم المستلزم للتعليم والختم بالتعليم المستلزم للتعلم حث على التعلم والتعليم مرارا مبالغة للاهتمام بهما، ولا يخفى ما في الحديث من حسن الترتيب بين هذه الامور الخمسة التي عليها مدار الحقيقة الإنسانية ونظام الدين وكمال العلم، أما بين الأربعة الاول فظاهر، وأما بين الرابع والخامس فللروايات الدالة على ذم من لم يعمل بعلمه واشتغل بالتعليم منها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا» (2).

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع، وتخلى عن الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه فهو لحلوانهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره، وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: طلبة العلم ثلاثة) لأن طالب العلم إما عادل أو جائر، ونعني بالعادل من كانت حركة قوته الفكرية وقوته الغضبية وقوته الشهوية إلى مطالبها على وجه الاعتدال ووفق القوانين الشرعية والعقلية، وذلك بأن تشتغل النفس الناطقة باكتساب العلوم والمعارف حتى تحصل لها فضيلة العلم والحكمة وتشتغل القوة الغضبية والشهوية بمطالبهما ولا تتعديان في ذلك عن حكم العقل والشرع حتى تحصل للنفس فضيلة الحلم والعفة، والجائر جوره إما في حركة قوته الغضبية التي

ص: 180


1- 1 - فائدة النشر الأخذ والعمل ولو لم يكن قبول قول العلماء واجبا على الناس لم يكن النشر واجبا، وهذا يدل على عدم جواز تقليد الميت; لأن نشر العلم يشمل الفروع كما يشمل الاصول والمواعظ وغيرها، ولا وجه لإخراج الفروع منه (ش)
2- 2 - تقدم.

هي مبدأ الإقدام على الأهوال ومنشأ الشوق إلى التسلط والترفع وطلب الجاه ونحوها، وإما في حركة قوته الشهوية التي هي مبدأ طلب المشتهيات من الأموال والأسباب والأطعمة اللذيذة ونحوها.

وأما الجور في حركة القوة الفكرية فغير مراد هنا; لأنه خلاف الغرض، فهذه ثلاثة أصناف:

الأول العادل وهو الصنف الثالث. الثاني الجائر في القوة الغضبية وهو الصنف الأول. الثالث الجائر في القوة الشهوية وهو الصنف الثاني.

(فاعرفهم بأعيانهم) بالمشاهدة الذوقية والمعاينة القلبية، فإن أصحاب القلوب الصافية وأرباب المشاهدات الذوقية قد يعرفون خباثة ذات رجل بمجرد النظر إليه وإن لم يشاهدوا شيئا من صفاته.

(وصفاتهم) الآتية وغيرها بالمشاهدات العينية وخباثة صفاتهم مظهر لخباثة ذواتهم والغرض من هذه المعرفة هو التمييز بين المحق والمبطل، وبين الهادي والمضل.

(صنف يطلبه للجهل والمراء) المراء بكسر الميم مصدر بمعنى المجادلة، تقول: ماريت الرجل اماريه مراء إذا جادلته، والمراد بالجهل هنا الاستخفاف والاستهزاء; لأن ذلك شأن الجهال، ومنه قوله تعالى حكاية: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) بعد قولهم: (أتتخذنا هزوا)، وقيل:

المراد به الأنفة والغضب والشتم ونحوها مما يصدر من أهل الجاهلية، وقيل: هو أن يتكلف القول فيما لا يعلمه فيجهله ذلك، وقيل: هو المفاخرة والكبر والتجبر.

(وصنف يطلبه للاستطالة والختل) استطال عليه أي تطاول وترفع من الطول في الجسم; لأنه زيادة فيه، والختل بفتح الخاء المعجمة والتاء المثناة من فوق الخدعة، يقال: ختله يختله من باب ضرب إذا خدعه وراوغه وختل الدنيا بالدين إذا طلبها بعمل الآخرة وختل الذئب الصيد إذا تخفى له، ولا يبعد أن يكون الاستطالة بالنسبة إلى العلماء والختل بالنسبة إلى العوام والجهلاء.

(وصنف يطلبه للفقه والعقل) أي صنف يطلب العلم لتحصيل البصيرة الكاملة في الدين والتطلع إلى أحوال الآخرة وحقارة الدنيا وتكميل النفس بتحليها بالفضائل وتخليها عن الرذائل إلى أن يخرجها من حضيض النقص إلى أوج الكمال، ومن حد القوة إلى العقل بالفعل، ويمكن أن يكون الأول إشارة إلى تكميل القوة النظرية، فإن الفقه يعني معرفة الأشياء والبصيرة المذكورة من آثاره.

والثاني إلى تكميل القوة العملية; إذ قد يطلق العقل عليها ويقال لها: العقل العملي، ولما ذكر الأصناف الثلاثة وغاية مقاصدهم من طلب العلم أراد أن يذكر جملة من أوصاف كل واحد منهم ليعرفوا بها فقال:

(فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار) أي مؤذ بالحركات الشنيعة والأقوال الخشنة عند المباحثة والمحاورة، منازع مجادل مع السفهاء، بل مع العلماء عند المناظرة; لأن نفسه سبع مشخص، لها جوارح مثله مع زيادة

ص: 181

هي جارحة اللسان التي هي أقوى الجوارح فيؤذي غيره ويفرسه بالشتم والخشونة ويغضب عليه بأدنى سبب ويجادل العلماء والسفهاء كل ذلك لطلب التفوق عليهم، ونسبة الحقارة إليهم أو بمجرد التذاذه بالغلبة كما هو دأب أكثر السفلة والجهلة.

(متعرض للمقال في أندية الرجال) المقال مصدر كالقول، والأندية جمع الندي على فعيل كأرغفة جمع رغيف، والندي والنادي والندوة مجلس القوم ومتحدثهم ما داموا يندون إليه أي يجتمعون، فإن تفرقوا فليس بندي، ومنه سميت دار الندوة التي بناها قصي لأن قريشا كانوا يندون ويجتمعون فيها للتشاور، ثم صار علما لكل دار يرجع إليها ويجتمع فيها، وإنما تعرض للمقال في أندية الرجال لعلمه بأن مقصوده وهو إظهار فضله وكماله ونشر منقبته وحاله وطلب ما يترتب عليها التفوق والتفاخر والجاه والمال لا يحصل إلا بجداله ومقاله فيها.

(بتذاكر العلم وصفة الحلم) متعلق بالمقال أو حال عنه، يعني مقاله في الأندية بذكر العلوم الدينية والمسائل الشرعية والمعارف الإلهية، وذكر أوصاف الحلم وما يتبعه ويندرج فيه من أنواعه وذكر كماله في الإنسان، وغرضه من ذلك أن يظهر علمه بها وأن يخدع الرجال بأن قوته الفكرية وقوته الغضبية واقعتان على الاعتدال وواقعتان في الأوساط كما هو شأن العدول، يعني الاولى متحلية بالعلوم والحقائق، والثانية متحلية بالفضائل التي منها الحلم وتابعة للاولى غير متجاوزة عن حكمها.

(قد تسربل بالخشوع) السربال بالكسر القميص وسربلته أي ألبسته السربال فلبسه والخشوع التذلل والخضوع وهو كما يكون للقلب بإعراضه عما سواه تعالى بحيث لا يكون فيه غير الميل إلى العبادة والمعبود كذلك يكون للجوارح بصرفها فيما خلقت لأجله، والمقصود أن صاحب الجهل يظهر أنه صاحب هذه الخصلة الفاضلة ومندرج في سلك الخاشعين ومتصف بزيهم، ولا يخفى ما في هذا الكلام من المكنية والتخييلية.

(وتخلى عن الورع) بجميع أنواعه يعني عن ورع التائبين وهو ما يخرج به الإنسان عن الفسق ويوجب قبول شهادته ومن ورع الصالحين وهو التوقي من الشبهات لخوف سقوط المنزلة بارتكابها ومن ورع المتقين وترك الحلال الذي يتخوف منه أن ينجر إلى الحرام كترك التكلم بأحوال الناس لمخافة أن ينجر إلى الغيبة ومن ورع السالكين وهو الإعراض عن غيره سبحانه خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه، فانظر أيها اللبيب إلى هذا الفقير المسكين كيف أغواه قرينه وحمله على غاية الجور وحيره في أمره بحيث يتشبث تارة بظاهر الجور لظنه أنه أصلح له في تحصيل مقاصده الفاسدة فيؤذي ويمتري، ويتمسك تارة بظاهر العدل لزعمه أنه أنفع له في تكميل مطالبه الزائلة فيظهر العلم والحلم

ص: 182

والخشوع، وهو في الحالتين يجعل القوة النطقية تابعة للسبع خادمة له في تنظيم متمنياته وتتميم مقتضياته.

(فدق الله من هذا) أي من صاحب الجهل والمراء، أو من أجل عمله هذا العمل.

(خيشومه) هذا دعاء عليه، وكناية عن جعله ذليلا خائبا خاسرا غير واجد لما قصده مثل رغم الأنف، والخيشوم الأنف ويجمع على خياشيم، وقيل: هي عظام رقاق في أصل الأنف بينه وبين الدماغ.

(وقطع منه حيزومه) الحيزوم بفتح الحاء المهملة والياء المثناة من تحت، والزاي المعجمة وسط الصدر، وفي القاموس: هو ما استدار من الظهر والبطن وضلع الفؤاد ما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر. وهذا أيضا دعاء عليه وكناية عن إهلاكه واستئصاله بالمرة لقطع ما هو مناط الحياة.

(وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق) الخب بكسر الخاء المعجمة والباء الموحدة المشددة مصدر بمعنى الخدعة والغش، تقول: خببت يا رجل تخب خبا مثال عملت تعلم علما، وأما الخب بالكسر أو الفتح بمعنى الرجل الخداع فغير مناسب هنا، ومنهم من ضبطه بضم الحاء المهملة والباء الموحدة المشددة، والملق بالتحريك اللطف الشديد والتودد فوق ما ينبغي باللسان وحده من غير أن يكون في القلب منه أثر، يقال: ملق بالكسر يملق ملقا ورجل ملق بكسر اللام يعطي بلسانه ما ليس في قلبه.

(يستطيل على مثله من أشباهه) أي على من يماثله ويشابهه في الرتبة والعز أو في العلم والفضل.

(ويتواضع للأغنياء من دونه) أي ممن هو دونه في الرتبة والمنزلة وخسيس بالنسبة إليه أو ممن هو دونه في العلم والفضل أو ممن هو غير صنفه الذي هو طلبة العلم ولفظ «من» مع مدخوله في الموضعين إما بيان لما يليه أو حال عنه، وإنما اعتبر المماثلة في طرف الاستطالة والأدونية في طرف المتلق والتواضع لأن ذلك أدخل في إظهار قبح فعاله وركاكة ذاته وشناعة صفاته.

(فهو لحلوانهم هاضم) الحلوان بضم الحاء المهملة وسكون اللام ما يأخذه الحكام والقضاة والكهنة من الأجر والرشوة على أعمالهم، يقال: حلوته أحلوه حلوانا فهو مصدر كالغفران ونونه زائدة وأصله من الحلاوة. وفي بعض النسخ: فهو لحلوائهم هاضم بالهمزة بعد الألف والحلواء بالمد والقصر ما يتخذ من الحلاوة، والجمع الحلاوي، والمقصود على النسختين أنه يأكل ما يعطونه من أموالهم ولذيذ أطعمتهم وأشربتهم شبيها بالأجر لأجل عمله، وهو تملقه لهم وتواضعه إياهم كما هو دأب الأخساء وشأن الأذلاء.

(ولدينه حاطم) أي كاسر، من حطمته إذا كسرته; لأنه باع دينه بدنياهم، بل بلقمة يأكلها من مائدتهم تبعا لحكم قوته الشهوية الدنية، وإفراده الضمير في قوله: «ولدينه» متفق عليه في نسخ هذا الكتاب على ما اريت ورأيت أيضا في كلام بعض المتأخرين نقلا لهذا الحديث و «لدينهم حاطم» بضمير الجمع، وله أيضا وجه ظاهر; لأن فعله ذلك يحملهم على الحرام وهو إعطاء الرشوة لأجل ما يتوقعون منه عند الضرورة

ص: 183

وإعطاء أجر الخدعة والتواضع، أو على استهانتهم للدين الذي هم متدينون به إذ ارتكاب العالم للقبائح يهونها في أعين الناس ويوجب ارتكابهم لها على أتم الوجوه.

(فأعمى الله على هذا خبره) أي أخفى خبره، من عمي عليه الخبر أي خفي، مجاز من عمى البصر، كذا في المغرب، ففي الكلام استعارة تبعية أو جعل خبره متلبسا بحيث لا يعرفه أحد من عمي عليه الأمر التبس أو رمى خبره من هذا العالم من عمي الموج - بالفتح - يعمي عميا إذا رمى القذى والزبد، وقيل: خبره بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة، أي علمه يعني أزال الله عنه نور بصيرته العلمية لئلا يتميز بين الحق والباطل ولا يهتدي إلى الحق أبدا، ولا ينتفع بعلمه في الدنيا والآخرة.

(وقطع من آثار العلماء أثره) الأثر بالتحريك ما بقي من رسم الشيء بعده، يعني قطع الله من بين آثار العلماء التي تبقى بعدهم في الدهور، وتدل على كمال علمهم وفضلهم وتوجب اشتهارهم وحسن ذكرهم أثر هذا الرجل الملق المخادع المستطيل على مثله من العلماء المتواضع لمن دونه من الأغنياء حتى لا يبقى له بعده ما يدل على علمه وفضله، ويحتمل أن يكون كناية عن إهلاكه لأن إزالة أثره وذكره من بين آثار العلماء وذكرهم يستلزم إهلاكه، وإنما دعا على هذين الصنفين بالإذلال والفناء لأن مقصودهما من طلب العلم هو الدنيا، وطلب العزة والاعتبار بين الناس حتى فعلا ما فعلا مما لا يليق بالعالم، فدعا عليهما بأن يترتب على فعلهما ما هو نقيض مقصودهما، أعني الهوان والإذلال، وبأن يفنيهم الله تعالى لتخلص الدين وأهله من شرهما; لأنهما من أعاظم المنافقين واخوان الشياطين وضررهما يعود إلى العلماء الربانيين بل إلى جميع المسلمين، ومن كان وجوده كذلك كان عدمه أولى منه.

(وصاحب الفقه والعقل) أي الصنف الذي يطلب العلم لتكميل القوة النظرية والقوة العملية وتسديدهما.

(ذو كآبة وحزن وسهر) الكأبة بالتحريك والكأبة بالتسكين والكآبة بالمد سوء الحال والانكسار من شدة الهم والحزن، والحزن خلاف السرور، والسهر بالتحريك الأرق واتصافه بهذه الامور لاستشعار نفسه بالخوف والخشية من الله تعالى ومن أهوال الآخرة وعقابها وصعوبة أحوال الناس فيها، ومن سوء العاقبة وقبح الخاتمة، ولانفعالها بمشاهدة قلة الأصدقاء وكثرة الأعداء ورفع حال الأراذل ووضع حال الأفاضل إلى غير ذلك من الأسباب.

(قد تحنك في برنسه) يقال: تحنك فلان إذا أدار العمامة تحت حنكه، والحنك ما تحت الذقن، وفيه استحباب التحنك أو المعنى قد ارتاض بالعبادة وتهذب منها من حنكتك الامور بالتخفيف أو التشديد أي راضتك وهذبتك، والبرنس بالباء الموحدة المضمومة والراء المهملة الساكنة والنون المضمومة والسين

ص: 184

المهملة. قال في النهاية: هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غيره. وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان يلبسها النساك في صدر الإسلام (1)، وهو من البرس بكسر الباء القطن والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي.

(وقام الليل) بالصلاة والذكر والتلاوة إلى غير ذلك من العبادة، والليل منصوب بنزع الخافض.

(في حندسه) الحندس بالحاء المهملة المكسورة والنون الساكنة والدال المسكورة والسين المهملتين الليل المظلم، والظلمة أيضا، والثاني هنا أنسب، والإضافة إلى ضمير الليل بتقدير اللام وقيام الليل معراج الصالحين ومنهاج الزاهدين، وفيه سرور السائرين إلى الله تعالى لتفرغ بالهم ونظام حالهم فيجدون في مناجاة ربهم سرورا ولذة لا يوازن بأحقرها الدنيا وما فيها.

(يعمل ويخشى) لأنه لما شاهد نور جلال الله بعين الحقيقة ولاحظ عظمة كبريائه بنور البصرة رأى كل شيء لديه صغيرا، وكل موجود سواه حقيرا، فيرى نفسه مقصرا وعمله مضمحلا، فيخشى من التقصير، كما قال سبحانه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

(وجلا) حال عن الفاعل أي يعمل ويخشى حال كونه وجلا خائفا من عدم القبول لعلمه بأن المقبول من الأعمال إنما هو العمل الصالح، ولا علم له بصلاح عمله، أو من سوء الخاتمة وانقلاب العاقبة وعدم استمرار عمله لعلمه بأن كثيرا من العباد انعكست حاله في آخر عمره، أو من خجالة دار المقامة وعذاب يوم القيامة لعلمه بأنه لا ينجو أحد من عذابه إلا بفضل رحمته ولا علم له بأن الرحمة تدركه قطعا.

(داعيا) متضرعا طالبا لقبول عمله وحسن عاقبته ومغفرة ذنوبه ودخوله في سلسلة الصالحين وزمرة المقربين.

(مشفقا) مع ذلك من عدم استجابته لعلمه بأن الدعاء أيضا من جملة الأعمال التي لا يقبل إلا الصالح منها، ولا علم له بقبوله ورده، أو من اشتغال قلبه بغيره سبحانه طرفة عين من أجل تدليسات الشيطان ووساوسه.

(مقبلا على شأنه) أي على إصلاح حاله وتهذيب ظاهره وباطنه عن الأعمال الذميمة والأخلاق الرذيلة وتزينهما بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.

(عارفا بأهل زمانه) بأحوالهم وصفاتهم وأعمالهم وعقائدهم وأغراضهم الباعثة لهم إلى حركاتهم يعرف

ص: 185


1- 1 - تزيي أهل العلم والورع بزي خاص كان معهودا في صدر الإسلام، ولم ينه عنه الأئمة (عليهم السلام) بل قرره واستحسنه في هذه الرواية فيكون حسنا، ولأن من تزيا بلباس التقوى استحيى من حضور المعاصي ومجالسها وسبب الأمر الحسن حسن وكل حسن مندوب إليه شرعا. (ش)

بعضها بالمكاشفة القلبية وبعضها بالمشاهدة العينية.

(مستوحشا من أوثق إخوانه) لعلمه بأن المرضى من الناس من كل وجه عزيز الوجود، وإن مجالستهم ومخالطتهم تميت القلب وتفسد الدين، ويحصل للنفس بسببها ملكات مهلكة مؤدية إلى الخسران المبين، فيختار الوحشة منهم والاعتزال عنهم لئلا ينخدع طبعه من طبعهم كما ورد «فر من الناس فرارك من الأسد».

(فشد الله من هذا أركانه) أي فثبت الله تعالى وأحكم غاية الإحكام من هذا العالم الذي هو صاحب الفقه والعقل جميع أركانه الظاهرة والباطنة في العلم والعمل ووفقه للوصول إلى نهاية مقاصده بإفاضة غاية كمال قوتيه النظرية والعملية.

(وأعطاه يوم القيامة أمانه) من شر ذلك اليوم وأهواله، ولما كان هذا العالم عاملا في الدنيا للآخرة استحق خير الدنيا والآخرة فلذلك دعا (عليه السلام) له بنيله خيرهما جميعا، بخلاف الأولين فإنهما استحقا الذلة والفناء، فقد دعا (عليه السلام) لكل صنف ما يليق به ويستحقه.

* الأصل:

وحدثني به محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمد (1) الصيقل بقزوين، عن أحمد بن عيسى العلوي، عن عباد بن صهيب البصري، عن أبي عبد الله (عليه السلام).

* الشرح:

(وحدثني به) أي بهذا الحديث.

(محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمد (1) الصيقل بقزوين) متعلق بقوله حدثني على الظاهر، والغرض من ذكره هو الإشعار باهتمامه في ضبط الرواية، والظاهر (2) أن هذه العدة غير عدة يروي عنهم المصنف بلا واسطة. ويؤيده أن جعفر بن محمد غير داخل في عدته.

(عن أحمد بن عيسى العلوي) ثقة من أصحاب العياشي.

(عن عباد بن صهيب البصري) قال الكشي: إنه بتري، وقال النجاشي: هو ثقة، وفي كتاب الايضاح جزم بأنه ثقة.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام)).

* الأصل:

ص: 186


1- 1 - و (2) في أكثر النسخ: جعفر بن أحمد.
2- 2 - مع أن أمثال هذه الرواية غير محتاجة إلى الإسناد. (ش)

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن رواة الكتاب كثير، وإن رعاته قليل، وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، فالعلماء يخزيهم ترك الرعاية، والجهال يخزيهم حفظ الرواية، فراع يرعى حياته، وراع يرعى هلكته، فعند ذلك اختلف الراعيان وتغاير الفريقان».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رواة الكتاب كثير، وإن رعاته قليل) يعني أن رواة كلمات كتاب الله تعالى، أو الكتاب المشتمل على العلوم الدينية مطلقا فيشمل كتب الأحاديث أيضا جمع كثير وحفاظ ألفاظه وعبارته عن الغلط والتحريف واللحن والتصحيف جم غفير، وأن رعاته المتروحين بروح معانيه، والوالهين إلى جمال غوانيه، والنازلين في منازل مغانيه، والمتأملين في مفاده ومعناه، والعالمين بمقصده ومغزاه، والعاملين بمراده ومؤداه قليل.

(وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب) استنصحه عده نصيحا خالصا، وأصل النصح الخلوص، تقول: نصحته ونصحت له إذا خلصته، والنصيحة للحديث التصديق به والعمل بما فيه، كما يظهر من نهاية ابن الأثير، واستغشه خلاف استنصحه، يقال: غشه إذا لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر، والغش بالكسر الاسم منه، والمغشوش الغير الخالص، والغشش محركة الكدر المشوب، و «كم» اسم ناقص مبهم مبني على السكون مخبر عن التكثير، وما بعده مميز له مخفوض للإضافة، ولأنه في التكثير نقيض رب في التقليل وهو مع مميزه في محل الرفع على الابتداء، و «مستغش» خبره، والمعنى كثيرا ممن يستنصح الحديث ويصحح ألفاظه وعباراته عن الأغلاط والأسقام ويحفظ حروفه وكلماته عن توارد الشكوك والأوهام ويخلصها عن شوائب القصور في مر الدهور ويصدق به ويعمل بما فيه ويتفكر في معانيه وزواجره ويستخرج رغائب كنوزه وذخائره ويتمسك بمقتضى نواهيه وأوامره يستغش الكتاب ويتخذه مهجورا ويترك روايته وحفظه (1) كأنه لم يكن شيئا مذكورا ولا يرعاه حق رعايته، ولا يتوجه إلى فهم

ص: 187


1- 1 - هذا رد على بعض الإخباريين التاركين للقرآن المتمسكين بالروايات، وكأنهم كانوا في عصر الأئمة (عليهم السلام) أيضا مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بالتمسك بالثقلين، وكل واحد منهما حجة لا يجوز ترك أحدهما بالآخر، وهؤلاء يعدون الحديث ناصحا، والقرآن غاشا، فهو مثل الاستحسان يعني عد الشيء حسنا والاستكثار عده كثيرا ومن لا يعمل بالقرآن كأنه يعد مواعظه وأوامره كلام غاش يريد إضلاله، فإذا التفت إلى لفظه قال: إنه محرف وإذا توجه إلى معانيه قال: متشابه أو لعله منسوخ لا نعلمه، وأما الحديث فإن قيل: إنه موضوع أو محرف اللفظ أو منقول بالمعنى أو لعله منسوخ أنكر غاية الانكار. (ش)

معناه ودرايته، ولا يتأمل في غرضه وغايته، فلا جرم يكون نور بصيرته في إدراك مقاصده كليلا، ولا يجد إلى فهم مطالبه دليلا، ولا إلى التوفيق بينه وبين الحديث سبيلا، فهو متحير في تيه الضلالة، وحائر في سبيل الجهالة، وواله في أودية البطالة; لأنه ترك الأصل وتمسك بالفرع وأفسد الثمرة وتشبث بالشجرة.

(فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية) في النهاية: حزنه أمر أي أوقعه في الحزن، يقال: الأول لغة قريش، والثاني لغة تميم، وإنما يحزنهم ذلك لأن نفوسهم كاملة وعقولهم فاضلة وقلوبهم مائلة إلى حضرة القدس وجناب الحق ومنازل القرب فغاية همهم ونهاية قصدهم هو التخلص من العلائق النفسانية والتحلي بالفضائل الروحانية برعاية ما نطقت به الآيات القرآنية والروايات النبوية من الحلال والحرام والقصص والعبر والأخلاق والوعد والوعيد ثم العمل به على وجه يوجب قرب الحق ورضاه ويورث نور القلب وصفاه حتى يستحقون له بذلك كمال القوتين العلمية والعملية ورئاسة الدارين الدنيوية والاخروية، فلا جرم يحزنهم ترك التفكر والعمل والرعاية وعدم العلم والفهم والدراية في الدنيا لعلمهم بما يوجب ذلك الترك من وخامة العاقبة وسوء الخاتمة، وفي الآخرة لمشاهدتهم فوات ما يترتب على الرعاية من الأجر الجميل والثواب الجزيل.

(والجهال) كذا في أكثر النسخ المعتبرة، وفي بعضها: «والجهلاء».

(يحزنهم حفظ الرواية) يخزيهم بالخاء والزاي المعجمتين من أخزاه إذا أذله وأهانه، يعني أن حفظ الرواية فقط وترك الرعاية والتفكر والعمل يوجب خزيهم ووبالهم ويورث هوانهم ونكالهم وقت الموت ويوم القيامة لعلمهم حينئذ بأن النافع فيه والسبب للنجاة من شدائده هو رعاية ما في الكتاب والتفكر فيه والعمل بمقتضاه لا مجرد الرواية فيخزيهم حفظ الرواية من أجل أنهم صاروا من أهل الكتاب ورواته ونقلة ألفاظه وعباراته مع ترك رعايته والتفكر فيه والعمل به.

وفي بعض النسخ «يحزنهم» بالحاء المهملة والزاي المعجمة (1) والنون، وحزنه أو أحزنه، وفي هذه النسخة وقع لفظ «الرعاية» بدل «الرواية» في بعض النسخ، والمعنى على تقدير الرعاية أن حفظ الرعاية يوجب حزنهم وغمهم لالفهم برواية الكتاب وانسهم بظواهره ومجرد نقله بحيث لو خطر ببالهم حفظ رعايته والتكفر فيه والعمل بمقتضاه الموجب للميل إلى ضد مأنوسهم يستوحشون منه ويحزنون لأن كل حزب بما

ص: 188


1- 1 - نقل العلامة المجلسي (رحمه الله) من مستطرفات السرائر عن كتاب انس العالم للصفواني عن طلحة بن زيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «رواة الكتاب كثير ورعاته قليل، فكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب، والعلماء يحزنهم الدراية، والجهال يحزنهم الرواية» انتهى. والظاهر أن الروايتين واحدة وأن أصلها طلحة بن زيد، وكان من العامة إلا أن له كتابا رواه عن الصادق (عليه السلام) معتمدا عليه عندنا واختلاف الألفاظ في الروايات غير عزيز. (ش)

لديهم فرحون، ومعناه على تقدير الرواية قريب مما ذكرناه أولا فإن مجرد حفظ الرواية يوجب حزنهم لما مر، وقيل: معناه أنه يهمهم حفظ الرواية ويحزنهم ما يتعلق بها من ترك الحفظ ومحوه، أو يكون على ترك المضاف وهو الترك وهذا تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه.

(فراع يرعى حياته) أي يرعى ويحفظ حياته الأبدية وهي حياة نفسه برعاية الكتاب والتدبر فيه والعمل به وتقويم حدوده وأحكامه واتباع جميع ما فيه. ومن جملة ما فيه الاقتداء بولاة الأمر وهداة الدين في القول والعمل.

(وراع يرعى هلكته) الهلاك السقوط، وقيل: الفساد، وقيل: هو مصير الشيء إلى حيث لا يدري أين هو، والهلكة بضم الهاء وسكون اللام مثله، وضبطه بعضهم بضم الهاء وفتح اللام، أي وراع يرعى ويحفظ ما فيه هلكته الأبدية الاخروية، وهو نبذ الكتاب وتحريف حدوده وترك أحكامه والاقتصار على مجرد روايته من غير أن يتفكر فيه ويعمل به وكان من نبذة الكتاب وعدم العمل به أن ولي الذين لا يعلمون على الذين يعلمون فأوردوه على الهوى وأصدروه إلى الردى فهو مع السادة والكبراء من أهل الدنيا، وإذا تفرقت قادة الأهواء كان مع أكثرهم مالا وأعظمهم جاها، وذلك مبلغه من العلم ولا يزال كذلك في طمع وطبع حتى يسمع صوت إبليس من لسانه وهو معجب مفتون إلى أن يموت ويجد هلاكه ونكاله جزاء بما كسب وهو من الخاسرين.

(فعند ذلك اختلف الراعيان وتغاير الفريقان) أي عند ظهور الحياة والهلاك وكمال انكشافهما برفع الحجب والأستار وهو وقت الموت أو يوم القيامة الذي تبرز فيه الخفيات وتظهر فيه الأسرار بحيث يشاهد كل نفس بعين اليقين ما قدمت من عمل حاضرا، اختلف الراعيان فكل راع مع ما يرعاه بحيث لا يبقى لراعي الهلاك مجال مناقشة مع راعي الحياة في ادعاء الحياة لنفسه «وتغاير الفريقان» أي فريق الحياة والهداية وفريق الهلاك والغواية، وهما اللذان أخبر الله سبحانه عنهما بقوله: (فريق في الجنة وفريق في السعير)، وأما الدنيا فلكونها دار التكليف والامتحان ومقام الجاب والالتباس، فربما يقع فيها التباس عند الجهلة بين الناجي والهالك ويدعي الهالك أنه الناجي إما لأنه أحب نفسه فلا يرى عيبها أو لأنه ألف بالباطل وأنس به فيراه حقا أو لأنه قادته الأهواء الباطلة إلى الدنيا ورأى أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بدعوى الصلاح والنجاة فادعاهما على سبيل الخدعة والتدليس فهذا بحسب الظاهر إنسان مثل أهل الحق وبذلك يقع التباس بينهما وبحسب الباطن سبع أو شيطان وأهل الحق في الباطن نور إلهي وعالم رباني فهما مختلفان في الحقيقة الإنسانية ومتغايران في الصورة الباطنية، وإذا قامت القيامة ظهر هذا الاختلاف والتغاير ظهورا تاما كظهور المحسوسات.

ص: 189

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا».

* الشرح:

(الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور) بصري، غال، ضعيف في الحديث.

(عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا) معتقدا بها من حيث إنها من أحاديثنا خرج بالقيد الأول من حفظها من المخالفين مع عدم الاعتقاد بها، وبالقيد الثاني من حفظها منهم مع الاعتقاد بها من حيث إنها موافقة لاصولهم.

(بعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا) العالم الفقيه هو العالم بأحكام الدين وأحوال النفس ومفاسد الأعمال ومنافعها ومنافع الآخرة والعامل لها على وجه البصيرة مع الخوف والخشية (1)، والمقصود أنه يحشره في زمرة الفقهاء وينزله في مرتبتهم ويثيبه بمثابتهم من غير تفاوت، والمقصود أنه معدود يوم الحشر من جملة الفقهاء والعلماء وإن كان بينهم تفاوت في الدرجات باعتبار التفاوت في الحالات (2) ومضمون هذا الحديث مستفيض مشهور بين الخاصة والعامة (3)، بل قال بعض أصحابنا بتواتره ونقله ابن بابويه في الخصال بطرق متعددة متكثرة مع اختلاف يسير في اللفظ والأحاديث المذكورة في هذه الرواية التي يترتب على حفظها الجزاء المذكور وإن كانت مطلقة شاملة لما يتعلق بالامور الدينية مثل الاعتقادات والعبادات والأخلاق وما يتعلق بالامور الدنيوية كسعة الرزق والأطعمة والأشربة ونحوها، لكن المراد بها هو القسم الأول لتقييدها في بعض الروايات بما يحتاجون إليه في أمر دينهم مثل ما رواه الصدوق في الخصال عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن علي بن إسماعيل، عن عبيد الله بن عبد الله، عن موسى بن إبراهيم المروزي، عن الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من حفظ على امتي أربعين حديثا فيما يحتاجون إليه في أمر

ص: 190


1- 1 - أشار بذلك إلى ما تكرر ذكره من أن الفقه في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) كان شاملا لجميع علوم الدين لا خاصا بالفروع، على ما هو متعارف في زماننا. (ش)
2- 2 - يعني لا يمكن أن يكون الحافظ لأربعين حديثا من جميع الجهات مساويا لمن عرف خمسين ألف أو أكثر. (ش)
3- 3 - أخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس وأنس، وابن النجار من حديث أبي سعيد الخدري، وفيه: «كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة».

دينهم بعثه الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما».

والقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيد، وإبقاء المطلق على إطلاقه أيضا محتمل، والمراد بحفظها ضبطها وحراستها عن الاندراس ونقلها بين الناس والتفكر في معناها والتدبر في مغزاها، والعمل بمقتضاها، سواء حفظها عن ظهر القلب ونقشها في لوح الخاطر أو كتبها ورسمها في الكتاب والدفاتر، وقال بعض الأصحاب: الظاهر أن المراد بحفظها الحفظ عن ظهر القلب فإنه كان متعارفا معهودا في الصدر السالف; إذ مدارهم كان على النقش في الخاطر لا على الرسم في الدفاتر.

وفيه: أن الحفظ أعم من ذلك والتخصيص بلا مخصص وما ذكره للتخصيص ممنوع; إذ كتب الحديث في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) (1) وعهد أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده من الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) معروف وأمرهم بالكتابة مشهور يظهر كل ذلك لمن تصفح الروايات وقال بعضهم: المراد بحفظها تحملها على أحد الوجوه المقررة في اصول الفقه، أعني السماع من الشيخ والقراءة عليه والسماع حال قراءة الغير والإجازة والمناولة والكتابة. وفيه: أن تحملها على هذه الوجوه اصطلاح جديد (2)، فحمل كلام الشارع عليه بعيد على أنه لم يثبت جواز تحملها بالثلاثة الأخيرة (3).

وقال الشيخ بهاء الملة والدين (رحمه الله): الظاهر من قوله: «من حفظ» ترتب الجزاء على مجرد حفظ الحديث، وأن معرفة معناه غير شرط في حصول الثواب، أعني البعث يوم القيامة فقيها عالما، وهو غير بعيد، فإن حفظ ألفاظ الحديث طاعة كحفظ ألفاظ القرآن، وقد دعا (صلى الله عليه وآله) لناقل الحديث وإن لم يكن عالما بمعناه كما

ص: 191


1- 4 - ولكن لم تكن عادة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما كان يتفق نادرا. وفي اسد الغابة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما فتح مكة خطب خطبة فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اكتبوا لأبي شاه» فقيل للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لأبي شاه؟ قال: يقول: اكتبوا له خطبته التي سمعها، انتهى بتخليص. وممن كتب: أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقله النجاشي في أول فهرسته وفي عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) زيد بن وهب الجهني فإنه أول من كتب وجمع خطبه (عليه السلام) في الجمع والأعياد. (ش)
2- 1 - والأصل فيه العامة وتبعهم أهل الحديث من الشيعة الإمامية، والعجب أن الإخباريين يطعنون في طرية المجتهدين بأنهم أخذوا اصولهم واصطلاحاتهم من العامة مع أن دأب المحدثين أيضا كان ذلك، والحق أنه لا ضير في أخذ الاصطلاح ولا المصطلح إذا كان حقا مؤيدا بالدليل. (ش)
3- 2 - وهي الإجازة والمناولة والكتابة، وفي تحمل الرواية بها إشكال لاستلزامه الكذب ظاهرا، فإن معنى التحمل أن يستحق المتحمل ويستأهل لأن يقول حدثني فلان، والظاهر من هذا الكلام أنه شافهه مع أنه لم يشافهه بالحديث بل بالإجازة أو المناولة أي بإعطاء كتابه إياه أو بالكتابة. نعم إذا صرح بذلك جاز كقوله: أخبرني إجازة والأظهر عندي أن لفظ حدثني وأمثاله خرج في عرف المحدثين ونقل إلى معنى يشمل الإجازة ولا ضير فيه لوضوح المراد. (ش)

يظهر من قوله (عليه السلام): «رحم الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (1)، ولا بعد أن يندرج يوم القيامة بمجرد حفظ اللفظ في زمرة العلماء «فإن من تشبه بقوم فهو منهم».

هذا كلامه، واورد عليه (2): بأن كون حفظ ألفاظ الحديث طاعة يقتضي أن يكون للحافظ أجر كأجر سائر الطاعات البدنية لا كأجر الفقاهة التي هي من الصفات القلبية والطاعات العقلية ولا دلالة فيما نقله من الحديث النبوي إلا على كون الحافظ لألفاظ الحديث مرحوما لا على أن له في القيامة درجة العلماء والثاني هو المبحوث عنه دون الأول، وقوله: «من تشبه بقوم فهو منهم» (3) على تقدير جريانه في كل نوع لا يفيد هنا; لأن التشبه غير محقق هنا; إذ العلم من الامور العقلية الباطنية وأنى يحصل التشبه بالعالم بمجرد حفظ الألفاظ المسموعة؟ والحق أن للحفظ مراتب كثيرة مرجعها إلى ثلاثة:

الاولى: حفظ صور الألفاظ إما في الخيال أو في الكتابة.

الثانية: ذلك مع حفظ معانيها الأولية التي تصل إليها أفهام أكثر الناس.

الثالثة: ذلك مع حفظ معانيها العقلية وحقائقها العرفانية والعمل بها.

ولكل واحد من الحفظة أجر وثواب على حسب مقامه ومرتبته، والأظهر عند من له بصيرة قلبية أن المراد بالحفظ هنا الذي يستحق به الحافظ أن يبعثه الله يوم القيامة عالما فقهيا هو الحفظ بالمعنى الثالث. وأما غيره من أقسام الحفظ فيترتب عليه أجر وثواب ولكن أجره من قبيل أجر الأعمال البدنية ونحوها، ومما يدل على أن العلم والعمل داخلان في مفهوم الحفظ المترتب عليه الجزاء المذكور ما رواه الصدوق بإسناده في الخصال عن النبي (صلى الله عليه وآله) في وصية علي (عليه السلام) وهو حديث طويل من أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه.

ص: 192


1- 3 - رواه الترمذي في السنن ج 10، ص 25، وفيه: «نضر الله عبدا» وكذا رواه الحسن بن علي بن شعبة الحراني في تحف العقول ص 42، والبغوي في مصابيح السنة ج 1، ص 22.
2- 4 - المورد هو صدر المتألهين (قدس سره) وكذلك كثير مما يعتنى به من تحقيقات الشارح مقتبس منه (قدس سرهما) فكفى بالرجل فخرا أن يليق بالاستفادة من ذلك العلم العيلم والبحر الخضم الذي حارت دون إدراك فضله عقول اولي الهمم، ومع ذلك فلا أرى كثير فرق بين كلام الشيخ بهاء الدين وتلميذه الصدر (قدس سرهما); إذ لا يدل كلام الشيخ على تساوي المحدث والعالم من كل وجه، بل مراده التشابه بينهما في الجملة; لأنه استشهد بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رحم الله امرءا سمع مقالتي» انتهى، وعد المحدث من المتشبهين بالعلماء فهو بمنزلة العطار وتاجر العقاقير يجمعها للطبيب حتى يستعملها فيما يفيد، وعلى العطار أن يميز بين الدواء الجيد والرديء. (ش)
3- 1 - أخرجه أبو داود في السنن من حديث ابن عمر، والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بسند حسن كما في الجامع الصغير.

بقي هنا شيء ذكره الشيخ (رحمه الله) وهو: أنه لو اشتمل الحديث الواحد على أحكام متعددة فلا شبهة ما في جواز الاقتصار على نقل البعض بانفراده إذا لم يكن متعلقا بالباقي، ونقل العلامة في نهاية الاصول الاتفاق على ذلك كقوله (صلى الله عليه وآله): «من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن ستر على أخيه ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (1)، فهذا حديث واحد ويجوز الاقتصار على نقل كل واحد من الأربع بانفراده منقطعا، فيقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا، وأما ما يرتبط بعضه ببعض فلا يجوز الاقتصار على بعضه كالاقتصار على نقل قوله (صلى الله عليه وآله): «لا سبق إلا في نصل» (2) من غير أن يضاف إليه «أو خف أو حافر» والاقتصار على قوله (صلى الله عليه وآله): «من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا» (3) من غير أن يضاف إليه «إلا بإذنهم»، وعلى هذا فلو تضمن الحديث أربعين حكما مثلا كل واحد منهما مستقل بنفسه غير مربوط بما قبله وما بعده فلا شك في جواز نقل كل واحد منها بانفراده لكن هل يصدق على من حفظه أنه حفظ أربعين حديثا فيستحق الثواب المترتب على ذلك أم لا؟ ميل الشيخ إلى الأول وكلام غيره خال عن ذكره نفيا وإثباتا، وهو محل تأمل، فتأمل.

ثم العلم بلمية تأثير عدد الأربعين في ترتب ذلك الثواب دون ما تحته من الأعداد مختص بأهل الذكر (عليهم السلام) لأنهم العارفون بحقائق الأشياء وأسبابها كما هي ونحن من أهل التسليم، وما يخطر بالبال من أن تكميل آدم كان في أربعين يوما وانقلاب النطفة في الرحم إلى مبدأ الصورة الإنسانية يكون في الأربعين، فلو تجزأ عمره قليلا كان أو أكثر بأربعين جزءا وحفظ في كل جزء منه حديثا واحدا كأنه كان في جميع أجزاء عمره طالبا للأحاديث، فلذلك يعد يوم القيامة من جملة العلماء فهو كلام تخميني وحديث تقريبي، وأما ما قيل من أن الوجه أن من استحفظ هذا العدد ظهر في قلبه ملكة علمية وفي نفسه بصيرة كشفية يقتدر بها على استحضار غيرها من العلوم والإدراكات فلذلك يبعث في زمرة العلماء والفقهاء فيرد عليه: أن ذلك مجرد دعوى بلا بينة (4).

ص: 193


1- 2 - أخرجه الترمذي في السنن ج 8، ص 116، أبواب البر والصلة من حديث أبي هريرة، وفيه: بدل قوله: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» «من يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة»، وروى الكليني في كتاب الإيمان والكفر من الكافي باب تفريج كرب المؤمن نحوه.
2- 1 - الكافي - كتاب الجهاد (باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها والرمي) تحت رقم 6 و 14.
3- 2 - رواه الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه - باب وجوه الصوم، تحت رقم 1.
4- 3 - لكن يكتفى بمثله في أمثال هذه المطالب; لأن الغرض إبداء وجه لإمكان ثبوت هذه المرتبطة الجليلة، إذ ربما يختلج ببال الإنسان أن الأربعين قليل بالنسبة إليها ولا يوجد نظيره في سائر العلوم، فإن من حفظ أربعين فرعا من الفروع الفقهية لا يعد فقيها، وكذلك أربعين حكما في النحو والطب وغيرهما، فكيف يعد بأربعين حديثا من العلماء في الآخرة؟ (ش)
* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، قال: قلت: ما طعامه؟ قال:

«علمه الذي يأخذه عمن يأخذه؟».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، قال: قلت: ما طعامه؟ قال:

علمه الذي يأخذه عمن يأخذه؟) (1) الإنسان مركب من جوهرين يطلق هذا الاسم على كل منهما:

أحدهما: هذا الهيكل المحسوس، وله عوارض مخصوصة به مثل حسن المنظر وقبحه وطول المقدار وقصره وسواد اللون وبياضه وصحة العضو وفساده، فإنه كلما يقال مثلا: هذا الإنسان حسن الوجه يراد به هذا الهيكل.

وثانيهما: الجوهر العاقل، وهو النفس الناطقة، وله عوارض مخصوصة به مثل الإدراك والتعقل والنظر في المعقولات والتفكر فيها، فإنه كلما يقال: الإنسان نظر إلى كذا مثلا يراد به ذلك الجوهر، وكما أن كمالات هذا الهيكل التي تكون له عند تمام نشوئه ونموه بالقوة عند بدء فطرته وأوان طفوليته وهو يحتاج في حركته من القوة إلى الفعل إلى غذاء جسماني شبيه به في الجسمية لينضم به ويزيد مقداره حتى يبلغ غاية كماله ولا يجوز له طلب هذا الغذاء وأخذه من أي طريق كان بل لا بد من أخذه من طريق خاص قدر له خالقه كذلك كمالات ذلك الجوهر المستور التي تكون له عند تمام نشوئه ونموه وبلوغه إلى الغاية القصوى بالقوة عند تعلقه بذلك الهيكل وأوان هيولانيته، وهو يحتاج في حركته من القوة إلى الفعل إلى طعام وغذاء روحاني شبيه به في الروحانية، وهو العلم والمعرفة ليقويه وينقله من حال إلى حال حتى يبلغ إلى غاية كماله، ولا يجوز له طلب هذا الغذاء وأخذه إلا ممن يجوز أخذه منه، وهو من عينه الخالق لتربية أرواح الخلائق وتغذية نفوسهم.

ص: 194


1- 1 - الآية في سورة عبس، وبعده: (إنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا)، وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) في بيانه: هذا أحد بطون الآية الكريمة، وعلى هذا التأويل المراد بالماء: العلوم الفائضة منه تعالى، فإنها سبب لحياة القلوب وعمارتها، وبالأرض: القلوب والأرواح، وبتلك الثمرات: ثمرات تلك العلوم.

إذا عرفت هذا فقد علمت أن تفسير الآية بما ذكر تفسير قريب; لأن النظر مختص بذلك الجوهر، والطعام هو ما يتغذى به ويلتذ به مشترك بين الجسماني والروحاني بل إطلاقه على الغذاء الروحاني أولى وأجدر من إطلاقه على الغذاء الجسماني; إذ النسبة بين الغذاءين كالنسبة بين الجوهر الروحاني والجسم فيحمل على الروحاني وهو العلم لأنه أشرف ولدلالة النظر عليه ثم إنه ينبغي أخذه من الأب الروحاني وهو النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن يقوم مقامه من العترة الطاهرة ولو بواسطة، كما أن الطفل يأخذ طعامه الجسماني من الأبوين وهما يطعمانه أفضل ما عندهما بطيب الخاطر وكمال الشفقة لا من غيرهما بالسؤال ونحوه سيما إذا كان ذلك الغير أيضا فقيرا مضطرا محتاجا إلى السؤال وطلب الغذاء مثله.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان) ثقة ثبت صحيح واضح الطريقة.

(عن عبد الله بن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري) مجهول الحال.

(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) الشبهة الالتباس، والمشتبهات الامور المشكلات، والمتشابهات المتماثلات; لأن بعضها يشبه بعضا، ومنه تشبيه شيء بشيء، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق» (1)، ومن طريق العامة:

«الفتنة تشبه مقبلة وتبين مدبرة»، يعني إذا أقبلت تشبهت على القوم وأراهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها ويركبوا منها ما لا يجوز، فإذا أدبرت وانقضت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ، والقحوم والاقتحام إلقاء النفس في مشقة والدخول فيها بلا روية، يقال: قحم في الأمر كنصر قحوما: رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، واقتحم عقبة أو وهدة: رمى بنفسه فيها على شدة ومشقة والهلكة بضم الهاء وسكون اللام، وقيل على مثال همزة الهلاك.

وملخص القول في هذا المقام: أنه إذا ورد على أحد أمر من الامور الشرعية، سواء كان متعلقا بالعبادات أو بالمعاملات أو بالمناكحات أو بغيرها فإما أن يعلم بنور بصيرته رشده فيتبع أو غيه فيجتنب أو لا يعلم شيئا منها، واشتبه عليه الأمران مثلا لا يعلم أن هذا الفعل الخاص مما أحل له الشارع أو حرمه عليه، فإن

ص: 195


1- 1 - النهج - قسم الخطب، تحت رقم 37.

الوقوف عليه وعدم الأخذ به من حيث الحكم ومن حيث العمل متعين حتى ينكشف له الحال بالرجوع إلى حديث أهل الذكر (عليهم السلام) ولو بواسطة، أما من حيث الحكم فلأنه لو حكم بحليته أو بحرمته ولا علم له بهما فقد رمى نفسه في الهلاك والضلال فإنه أدخل في الدين ما ليس له به علم، وأما من حيث العمل فلأنه إذا ترك المشتبه بالحرام فقد نجا من الحرام قطعا، وإذا فعله فقد دخله قطعا.

لا يقال: القول بالوقوف عند الشبهة مشكل فيما إذا كان طلب أصل الفعل معلوما شرعا وله كيفيتان متضادتان لا يمكن انفكاكه عنهما ووقع الاشتباه في كل واحد منهما فإن ترك الأخذ بهما مع الإتيان بذلك الفعل محال كقراءة البسملة في الصلاة الإخفاتية إذا وقع الاشتباه في وجوب إجهارها وحرمته، وكذا في وجوب إخفاتها وحرمته.

لأنا نقول: في هذا الفرض على تقدير تحققه يجب على المكلف الوقوف وترك العمل بكل واحدة منهما من حيث خصوصيتها لعدم علمه بأن الشارع طلبها على تلك الخصوصية، ولا ينافي ذلك فعل واحدة منهما من حيث التخيير بينها وبين ضدها بناء على أن طلب الفعل مستلزم لطلب الكيفية التي لا يوجد ذلك الفعل بدونها وإذا كانت تلك الكيفية أحد أمرين متضادين ولا دليل على خصوص أحدهما وقع التخيير بينهما، هذا حكم الوقوف من حيث العمل.

وأما الوقوف من حيث الحكم فأمره واضح; لأن الوقوف عن حكم كل واحد منهما لا ينافي العمل بواحد منهما باعتبار أن أصل الفعل المطلوب لا ينفك عنهما.

(وتركك حديثا لم تروه) الفعل إما مجرد معلوم، يقال: روى الحديث رواية أي حمله يعني أخذه من مأخذه وضبطه متنا وسندا وحفظه كلمة وحروفا من غير تبديل وتغيير مخل بالمعنى المقصود، أو مزيد معلوم من باب التفعيل أو الأفعال، يقال: رويته الحديث تروية وأرويته أي حملته على روايته أو مزيد مجهول من البابين ومنه روينا في الأخبار.

(خير من روايتك حديثا لم تحصه) «لم» مع مدخوله في الموضعين في محل النصب على أنه حال من ضمير الخطاب أو صفة لحديثا، والإحصاء العد والحفظ، تقول: أحصيت الشيء إذا عددته وحفظته، وكان استعماله في الحفظ باعتبار أنه لازم للعد إذ عد الشيء يستلزم العلم بواحد واحد معدود وحفظه على أبلغ الوجوه، فمعنى إحصاء الحديث علمه بجميع أحواله وحفظه من جميع جهاته التي ذكرناها في محله، والمعنى أن ترك رواية حديث لم تحمله على الوجه المذكور خير من روايتك إياه; لأنك إن رويته هلكت وأهلكت الناس بمتابعتهم لك فيما ليس لك به علم وإن تركت روايته سلمت وسلم الناس من الوقوع في الضلال،

ص: 196

ويحتمل أن يكون المعنى تركك رواية حديث مضبوط محفوظ عندك (1) خير من روايتك حديثا غير محفوظ، ولفظة «خير» في هذه الفقرة على المعنيين، وفي الفقرة السابقة مجرد عن معنى التفضيل; إذ يعتبر أصل الفعل في المفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير.

فإن قلت: لا خير في ترك رواية الحديث المحفوظ فما الوجه لإثباته له؟ قلت: الوجه هو المبالغة في نفي الخير عن رواية الحديث الغير المحفوظ والزجر عن نقله ونشره حيث جعل ما ليس خيرا خيرا بالنسبة إليه، ولعل سبب التفاوت بينهما أن الثاني بدعة وزيادة في الدين دون الأول.

* الأصل:

10 - محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار، أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له: كف واسكت، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):

«لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى حملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق، قال الله تعالى:

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)».

* الشرح:

(محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن الطيار، أنه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها) إذا اسم يدل على زمان ولا تستعمل إلا مضافة إلى جملة وكثيرا ما تستعمل في زمان ماض مثل قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) (حتى إذا بلغ بين السدين) (حتى إذا ساوى بين الصدفين) (حتى إذا جعله نارا) وهاهنا من هذا القبيل.

(قال له: كف واسكت) الأمر بالكف والسكوت إما لأن من عرض الخطبة فسر هذا الموضع وبينه برأيه وأخطأ فأمره (عليه السلام) بالكف عن تفسيره برأيه وبيانه بفهمه وأفاد أن مثل هذا يجب طلب تفسيره من الأئمة (عليهم السلام) أو لأنه كان في هذا الموضع غموض موجب لصعوبة فهم المقصود ولم يتثبت عنده القارئ، ولم يطلب تفسيره منه (عليه السلام)، وأراد المرور عليه فأمره (عليه السلام) بالكف عن العرض والسكوت عن القراءة، وأفاد أن

ص: 197


1- 1 - ولكن لا يعلم كيف تصور الشارح دلالة لم تروه على الحديث المحفوظ المضبوط وعدم الرواية تدل على عدم الضبط؟ إلا أن يقال: قد يكون الحديث مضبوطا محفوظا بأن كتبه وقابله لكن لم يسمعه من شيخه، وقد لا يكون مضبوطا أيضا، فمعنى الكلام أن ترك الحديث المضبوط الغير المسموع خير من رواية غير المضبوط، وفيه بعد وتكلف. (ش)

في أمثال ذلك يجب التثبت وطلب فهم المقصود منهم (عليهم السلام) أو لأنه (عليه السلام) أراد إنشاد ما أفاد وبيان ما أراده لشدة الاهتمام به فأمره بالكف عن العرض والسكوت عن التكلم.

(ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسعكم) أي لا يجوز لكم.

(فيما ينزل بكم مما لا تعلمون) أي فيما ينزل بكم من قضية لا تعلمون حكمها أو من حديث لا تعلمون ما هو المقصود منه لغموضه وصعوبة فهمه لكونه دقيقا أو مجملا أو متشابها أو مأولا.

(إلا الكف عنه والتثبت) أي عدم الأخذ به قولا وفعلا واعتقادا وعدم المبادرة إلى إنكاره بل اللازم عليكم التثبت.

(والرد إلى أئمة الهدى) الذين حازوا كل كمال ومكرمة بإلهام إلهي وفازوا بكل فضيلة ومنقبة بتعليم نبوي وتقدسوا عن كل رذيلة ومقدرة بتقديس رباني فعلموا ما كان وما يكون وما تحتاج إليه الامة إلى قيام الساعة.

(حتى حملوكم فيه على القصد) أي على العدل والعلم والقول والفعل والعقد وهو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.

(ويجلوا عنكم فيه العمى) أي يكشفوا عنكم عمى بصيرتكم ويوضحوا لكم سبيل هدايتكم لتشاهدوه بنظر صحيح وتأخذوه بنص صريح.

(ويعرفوكم فيه الحق) لئلا تزيغ عنه قلوبكم ولا تميل إلى الباطل صدوركم فتخلصوا من الاقتحام في الشبهات والتورط في الهلكات، ثم علل وجوب الرد إليهم بقوله:

(قال الله تعالى: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) أهل الذكر هم العترة من نبينا (صلى الله عليه وآله) الذين جعلهم الله تعالى هداة إلى صراطه في بيداء الضلالة ودعاة إلى حضرة قدسه في ظلمات الجهالة وقارن طاعتهم بطاعة الرسول وطاعته، فقال جل شأنه: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم)، قال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) في تفسير هذه الآية: «الذكر محمد ونحن أهله المسؤولون» (1).

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة، قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «وجدت علم الناس كله في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك».

* الشرح:

ص: 198


1- 1 - سيأتي في كتاب الحجة إن شاء الله تعالى.

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري) هو سليمان بن داود.

(عن سفيان بن عيينة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وجدت علم الناس كله في أربع) أي العلم النافع الذي لا تحصل النجاة إلا به (1).

(أولها أن تعرف ربك) ولمعرفته مراتب:

الاولى وهي أدناها: أن تعرف أن لهذا العالم صانعا.

الثانية: أن تصدق بوجوده ووجوبه ظاهرا أو باطنا.

الثالثة: أن تترقى إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء.

الرابعة: أن تترقى إلى الإخلاص له وهو التعري عن كل ما سواه.

الخامسة: أن تنفي عنه الصفات التي يعتبرها الأذهان له. وكل من الأربع الاولى مبدأ له بعدها.

وكل من الأخيرة كمال وتمام لما قبلها.

أما الاولى فلأن المتصور لمعنى صانع العالم عارف من جهة تصوره له، وهذه معرفة ناقصة تمامها وكمالها التصديق بوجوده ووجوبه بدليل أنه موجد للعالم وإليه تنتهي سلسلة الإيجاد وكل موجد كذلك فهو

ص: 199


1- 2 - جعل العلوم هنا منحصرة في أربعة، وسابقا في ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة، ولا منافاة في اختلاف التقسيم باختلاف الاعتبارات. والحاصل من جميعها: أن العلم الذي يعتبر عند الله تعالى علما هو العلم به وبحكمه تعالى، وأما سائر العلوم فإن كان المقصود منها التوسل إلى معرفة الله وما يتبعها فهي منها، وإن لم يكن المقصود هنا إلا الدنيا وإصلاح أمرها فلا يعتد به وإن لم يفد فائدة في الدنيا ولا في الآخرة فالأمر واضح. مثلا العلوم الطبيعية إن استفيد منها معرفة الله تعالى بأن ينظر إلى آيات قدرته في المخلوق فيدرك عظمة الخالق فهو باب من معرفة الله استدل الفلاسفة الإلهيون بها على علمه وحكمته، والعلوم الرياضية إذا استفيد منها معرفة الوقت والقبلة وتقسيم المواريث والوصايا كان من علم الدين أيضا، وإذا اريد بها تكميل الصنائع والطب ومعرفة خواص الأشياء للدنيا ولم يستفد منها الفساد والقتل كان حسنا إلا أنها أدون من علم الدين في الحقيقة، وفي نظر الناس أيضا فإنهم مجبولون على تعظيم الأنبياء ونقل كلامهم وحفظ تاريخهم وذكرهم; لأنهم جاؤوا بمعرفة الله وترويج الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، ولم يضبطوا تاريخ مخترعي الصناعات ومكتشفي قواعد العلوم، بل لا يعرفونهم ونسوهم ونسوا أسماءهم فلا يعلم أحد أول من اخترع الزجاج وأول من عرف كروية الأرض، وكان مثل ذين أهم في قديم الزمان من اختراع المكائن واكتشاف صناعات عصرنا، ويعرفون إبراهيم وموسى (عليهما السلام) ويصلون عليهما كلما ذكرا وكذلك من وافق قوله قول الأنبياء من الفلاسفة واشتهر أرسطو وأفلاطون وسقراط من الإلهيين ولم يشتهر غيرهم إلا من ناحيتهم حيث نقلوا أقوالهم للرد عليهم كذيمقراطيس، وهذا يدل على أن العلم الإلهي أهم وأقوم عند الناس وأنهم مجبولون على العناية به كما يدل عليه هذا الحديث. (ش)

موجود واجب الوجود.

وأما الثانية فلأن من صدق بوجوده الواجب ولم يصدق بكونه واحدا لا شريك له كان تصديقه ناقصا تمامه توحيده بدليل أن الوحدة المطلقة لازمة لوجوده الواجب، فإن طبيعة واجب الوجود بتقدير اشتراكها بين اثنين يستدعي تحقق ما به الامتياز في كل منهما فيلزم التركيب في كل منهما وكل مركب ممكن فيلزم الجهل بكونه واجب الوجود وإن تصور معناه وحكم بوجوده.

وأما الثالثة فلأن العارف ما دام ملتفتا مع ملاحظة جلال الله وعظمته إلى شيء غيره يكون ذا شرك خفي ولا يكون موحدا مطلقا، فإذن التوحيد المطلق أن يبلغ العارف مرتبة الإخلاص ولا يعتبر معه غيره مطلقا.

وأما الرابعة فلأن من أثبت له صفة زائدة على ذاته - والصفة مغايرة للموصوف - لزم أن لا يكون مخلصا لملاحظته مع غيره ولأنه يلزم حينئذ تجزئة الواجب; لأن الواجب من هو مبدأ لجميع الممكنات ومن البين أن كل واحدة من الذات والصفة المغايرة له بدون الآخر ليس مبدأ له فالمبدأ إذن هو المجموع فيلزم تجزئة الواجب فيلزم إمكانه فالمتصور ممكن الوجود لا واجب الوجود فلا يكون العارف به عارفا بل هو جاهل وإلى هذه المراتب أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصفه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله» (1).

(والثاني أن تعرف ما صنع بك) من إنشائك في ظلمات الأرحام وشغف الأستار وإعطاء الوجود والقدرة وإفاضة النفس وقواها وتحسين البنية وتهذيب الصورة وتقويم الاعتدال وتسوية المثال وإيجاد الأعضاء الظاهرة والباطنة وتقدير منافعها من لسان لافظ وبصر لاحظ وقلب حافظ، ثم هدايتك بإرسال الرسول وإنزال الكتاب إلى المقامات العالية في الدار الباقية وما يعود إليك مما لا يعرف أحد قدره ولا يدرك وصفه لتفهم معتبرا وتصير مزدجرا وتنتقل إليه انتقالا من رحم هذه الدار وتسكن مع روح وراحة وسرور في منازل الأبرار، وأمثال هذه الامور التي صنعها بك وإن لم يمكنك أن تعرف كلها على التفصيل كيف وقد قال بعض المحققين إظهارا لعجزه: إني كتبت أزيد من ألف ورقة في تشريح الأعضاء وبيان منافعها (2) وبعد لم أذكر وصف قطرة واحدة من بحر إحسانه وإفضاله تعالى شأنه؟ ولكن بحكم ما لا يدرك

ص: 200


1- 1 - النهج - قسم الخطب، تحت رقم 1.
2- 2 - وألف في زماننا كتب في التشريح ومنافع الأعضاء أكثر من ألف ورقة أيضا في بلاد الإفرنج، ولا أظنهم بلغوا شيئا، والعجب من بعضهم حيث رأوا عجائب صنعه تعالى فصرفهم النظر في الصنع عن التفكر في الصانع فلم يؤمنوا بالله الحكيم. (ش)

كله لا يترك كله ينبغي لك أن تصرف العمر في معرفة قدر يمكنك الإحاطة به بعون الله تبارك وتعالى.

(والثالث أن تعرف ما أراد منك) من الإتيان بالطاعات والانتهاء عن المنهيات والإقرار بالرسول الأمين والأئمة الطاهرين والملائكة المقربين والكتاب المبين والاتصاف بالشجاعة والعفة والحلم والصبر والشكر والتوكل والرضا إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق التي نطقت بها الشرائع النبوية.

(والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك) مثل التهور والشره والغضب والحسد والكفر بالله وبرسوله وأئمته وملائكته وكتبه ورسله وإنكار الصلاة والزكاة والصوم والحج إلى غير ذلك من رذائل الصفات والأخلاق ومقابح العقائد والأعمال. وملخص القول في هذا الحديث: أن الإنسان في أول نشوئه إلى نهاية عمره سائر إلى الله تعالى فوجب عليه أن يعرفه أولا لأنه المقصد في هذا المسير وأن يعرف ما صنع به; لأن تلك المعرفة تبعثه على زيادة الرجاء والشوق إليه وأن يعرف ما يعينه في طريقه وينفعه عند الوصول إلى مقصده ويوجب القرب منه ليحمله معه وأن يعرف ما يضله عن طريقه ويضره عند الوصول إلى الغاية ويوجب البعد من المقصد ليرفضه عن نفسه لكن بتوسط استاذ مرشد وعالم مسدد وإمام مؤيد من عند الله تعالى; لأن العقول الناقصة لا تستقل بمعرفة الرب وصفاته وقوانين الشرع (1) بدون الرجوع إلى الشارع ومن نصبه، ولذلك أخطأ كثير من العلماء المتكلين على عقولهم فيها فضلوا وأضلوا كثيرا وأوردوا قومهم دار البوار جهنم وساءت مصيرا.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟ فقال: «أن يقولوا ما يعلمون، ويكفوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟) أراد بحق الله ما يوجب الإقبال عليه من الأعمال النافعة في الآخرة، ونقيضه الباطل وهو ما

ص: 201


1- 1 - الجمع بين كلامه هنا وما سبق من تعظيم مقام العقل والأمر بالاتكال عليه أن العقل حجة من حجج الرحمن ولكن ليس مستغنيا عن التعلم، وكما يحتاج المهندس إلى قراءة كتاب أقليدس ولا يمكن أن يتنبه لما فيه بفطنته كذلك يحتاج العالم الروحاني والحكيم الإلهي إلى الرجوع إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ليهتدي عقله في اصول المعارف إلى الحق وإن كان يأخذ عنهم الفروع تعبدا. (ش)

يوجب الالتفات عنه إلى غيره مما يضر فيها لظهور أن الالتفات عنه إلى غيره مستلزم للنقصان الموجب للتخلف عن السابقين والهوي في درك الهالكين وذلك محض المضرة، فلذلك قصد السائل التميز بينهما ليتمسك بما ينفعه ويجتنب عما يضره، ويحتمل أن يراد بالحق هنا ما في قوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق).

(فقال: أن يقولوا ما يعلمون) من أحوال المبدأ والمعاد والشرائع والأحكام لما فيه من إصلاح الخلق وهدايتهم إلى طريق الحق، وذلك منصب الأنبياء والأوصياء وتابعيهم وذلك بعد تكميل نفوسهم وتهذيبها عن الرذائل وتزيينها بالفضائل من الأعمال والأخلاق لئلا يتوجه عليهم قوله تعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

(ويكفوا عما لا يعلمون) لأن الجاهل كسائر الحيوانات منتهى بصره علف الدنيا وغيره من المحسوسات وهو لفقد بصيرته لا يدرك شيئا من المعقولات كما يدرك فاقد البصر شيئا من المبصرات فلا علم له بشيء من المصالح التي ينبغي أن يكون الناس عليها، فلو تكلم بها أفسد عليهم نظام الدنيا والدين وأوردهم في منازل الهالكين، وأورثهم استعداد سوء العاقبة واستحقاق عذاب الآخرة وأهل الدنيا كذلك إلا من عصمة الله وقليل ما هم.

(فإذا فعلوا ذلك) المذكور من القول والكف.

(فقد أدوا إلى الله حقه) أي هذا الحق العظيم الذي وجب عليهم لحفظ الدين والدنيا ونظام الخلق أو جميع حقوقه لأن أداء هذا الحق موقوف على استقامة اللسان في حركاته وسكناته، واستقامته تابعة للاستقامة في القوة النظرية والعملية والقوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية واستقامة هذه القوى توجب أداء جميع حقوقه جل شأنه أو لأن أداء هذا الحق ينور قلوبهم بالإيمان الثابت حتى تستعد للعلم والعمل بما بعده فيهديهم توفيق الله تعالى إليهما، وهكذا إلى أن يؤدوا جميع حقوقه، أو لأن كفهم عما لا يعلمون يقتضي رجوعهم فيه إلى إمام عادل ويبعثهم على ذلك بناء على أن النفوس البشرية لا ترضى بالبقاء على الجهل والتمسك بذيل إمام عادل يؤدي إلى أداء جميع حقوقه تعالى.

* الأصل:

13 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمد بن (1) عمران العجلي، عن علي بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا».

ص: 202


1- 1 - في بعض النسخ محمد بن مروان.
* الشرح:

(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن محمد بن عمران العجلي، عن علي بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا) فيه دلالة على أنه يجب التعلم منهم وأخذ الأحاديث عنهم لأنهم (عليهم السلام) خزان الأسرار الإلهية ومعادن الآثار النبوية، وعلى أنه لا قدر للناس برواياتهم عن السارقين اسم العلم والخلافة والمارقين عن الدين والناصبين لآل محمد (عليهم السلام) لأنهم بسبب الجهل المركب خرجوا عن القابلية للتعلم فضلا عن القابلية للتعليم، وعلى أن الشرف والكمال للناس بالعلم لا بالجاه والمال والنسب وعلى أن الأعلم وكل من كان أكثر رواية عنهم (عليهم السلام) ولو بواسطة ينبغي تقديمه على العالم والعالم على الجاهل (1) كل ذلك لترجيح الفاضل على المفضول والأشرف على الأخس، فلا قدر للجاهل لأنه رذل خسيس دني وإن كان ذا مال ونسب معروف لقول النبي (صلى الله عليه وآله): «ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم والأدب» (2)، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا أرذل الله عبدا حظر عليه العلم» (3)، يقال: أرذل الله عبدا واسترذله أي جعله رذلا، وهو الخسيس الدني ولتشبيهه تعالى له تارة بالأنعام فقال: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) وتارة بالكلب، فقال: (مثلهم كمثل الكلب...) الآية.

وبالجملة: رذالة الجاهل وعدم اعتباره وسفالة حاله مما دل عليه كثير من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة. وسر ذلك أن المقصود من خلق الإنسان ليس ذاته (4) من حيث هو بل العلم بالأسرار الإلهية

ص: 203


1- 1 - خص الرواية بالعالم، وأما في اصطلاح أهل زماننا فليس من كثرت روايته أعلم ممن قلت روايته، والمقصود في الحديث كثرة الرواية مع التفهم والدراية لا الحفظ فقط. (ش)
2- 2 - أخرجه ابن النجار من حديث أبي هريرة بسند ضعيف كما في الجامع الصغير.
3- 3 - النهج - قسم الحكم والمواعظ، تحت رقم 288.
4- 4 - فإن قيل: من أين عرف أن المقصود من خلق الإنسان ما هو وكيف علم أنه العلم بالأسرار الإلهية أو غيره؟ قلنا أولا: إن من الموجودات السفلية ما خلق لأجل غيره كالنبات لغذاء الإنسان مثلا، وحينئذ ففائدته انتفاع الإنسان به، ولا ضير في أن يفنى ويبطل لأجل موجود أعلى وأشرف، ولا يلزم من بطلانه وفساده العبث في فعل الحكيم ومن الموجودات ما ليس شيء أعلى وأشرف منه حتى يكون وجوده لأجل ذلك كالإنسان فإنا لا نعلم في هذا العالم شيئا يكون الإنسان لأجله فإن العناصر والمواليد كلها دونه فلا يمكن أن يقال: الإنسان خلق لأن يكشف أسرار النبات والحيوان وخواص المعادن وأعماق البحار وأبعاد الكواكب فإن ذلك يستلزم كون هذه الجمادات أشرف من الإنسان حيث سخر الإنسان لها على ما يذهب إليه الطيبون. ونقول ثانيا: الغرض من إيجاد الإنسان إن كان كشف أسرار الطبيعة لله تعالى والعقول فإنهم عارفون بها قبل الكشف، وإن كان الغرض كشفها للطبيعة نفسها فمعلوم أنها غير شاعرة فبقي أن يكون الغرض كشف أسرارها للإنسان نفسه أما بأن يكشفها السابقون للاحقين فننقل الكلام إلى اللاحقين وإلى نوع الإنسان جميعا، فإن كان في علمهم بأسرار الكائنات فائدة لأنفسهم كانوا هم الغرض والغاية. وبقي الكلام في غاية وجود الإنسان ولا نتعقل إلا العلم بالأسرار الإلهية، وأما سائر صفاته وعلومه ونعوته فهي لحفظه وبقائه فوجود الإنسان بأن يكون غاية لها أولى بالعكس، فالشهوة لبقاء الشخص أو النوع والغضب كذلك والعلوم الطبيعية والصنائع كذلك، ولم يبق شيء إلا معرفة الله تعالى والتقرب إليه لائقا بأن يكون غاية للإنسان ومع ذلك فبعض آيات القرآن الكريم يدل عليه مثل قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) يعني لو لم يكن غاية وجود الإنسان الرجوع إلى الله كان خلقه عبثا; إذ لا شيء أعلى منه حتى يكون غايته. (ش)

والأحكام الربانية وتنوير القلب الإشراقات اللاهوتية والمكاشفات الملكوتية ثم سلوك طريق العمل بنور الهداية والاجتناب عن سبيل الضلالة والغواية والجاهل بمعزل عن هذا المرام وبعيد عن هذا المقام. وفي كلام الحكماء المتقدمين والمتأخرين أيضا دلالة على أن الشرف والتقدم للعالم.

قال أفلاطون: المستحقون للتقديم هم العارفون بالنواميس الإلهية وأصحاب القوى العظيمة الفائقة. وقال أرسطاطاليس: المستحقون للتقديم هم الذين عناية الله بهم أكثر.

وقال المحقق الطوسي: كل اثنين بينهما اشتراك في علم واحد وأحدهما أكمل فيه من الآخر فهو رئيس له ومقدم عليه، وينبغي للآخر الإطاعة والانقياد له ليتوجه إلى كمال لائق به، وهكذا يتدرجون إلى أن ينتهوا إلى شخص هو المطاع المطلق، ومقتدى الامم كلهم بالاستحقاق والملك على الإطلاق ولا نعني بالملك في هذا المقام من له خيل وحشم وتصرف في البلاد واستيلاء على العباد بل نعني أنه المستحق للملك في الحقيقة وإن لم يلتفت إليه أحد بحسب الظاهر، وإذا تقدم عليه غيره كان غاصبا جائرا ويوجب ذلك فشو الجور في العالم وفساد نظامه.

* الأصل:

14 - الحسين بن الحسن، عن محمد بن زكريا الغلابي، عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في بعض خطبه: «أيها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه، الناس أبناء ما يحسنون وقدر كل امرئ ما يحسن فتكلموا في العلم تبين أقداركم».

* الشرح:

(الحسين بن الحسن) الظاهر أنه أبو عبد الله الرازي الحسني الأسود الفاضل.

ص: 204

(عن محمد بن زكريا الغلابي) مولى بني غلاب بالغين المعجمة واللام المخففة والباء الموحدة، وبنو غلاب قبيلة بالبصرة. وكان وجها من وجوه أصحابنا وكان خيارا واسع العلم له كتب كثيرة.

(عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في بعض خطبه: أيها الناس، اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه) أزعجه أي أقلعه من مكانه وانزعج بنفسه، ومنه ما روي من طرق العامة عن أنس قال: «رأيت عمر يزعج أبا بكر إزعاجا يوم السقيفة» أي يقيمه ويقلعه عن مكانه ولا يدعه يستقر حتى بايعه. والعاقل من يضع الأشياء في مواضعها ويعلم عاقبة الامور ومبادئها ومنافعها ومضارها، فلا محالة يتحمل الصبر على النوائب والسكون في المصائب ولا يضطرب من قول الزور والكذب فيه، ولا يجزع من الافتراء عليه وإن كان ذلك بلية عظيمة لعلمه بنور عقله بأن أمثال ذلك من المصائب بعد وقوعها لا ينفعه إلا الصبر والسكون واللجأ إلى الله تعالى وأن الحزن والجزع والاضطراب مصائب اخرى مهلكة فيصبر ويسكن ويفوض أمره وأمر خصمه الفاسق الكاذب إليه سبحانه ليكتسب بذلك أجر الصابرين ويحفظ نفسه عن الهلاك فمن انزعج واضطرب وتحرك نحو الانتقام علم أنه ليس بعاقل لجهله مضرة ذلك ومنافع الصبر.

(ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه) الحكيم من استكمل فيه الجوهر الإلهي بالعلم (1) والمعرفة، واتصف بالحلم والعفة وحصل له باجتماع هذه الامور هيئة العدالة ومن صفاته اللازمة أن يستحقر نفسه بملاحظة عظمة الله وكبريائه ولا ينظر إلى غيره تعالى بل لا يرى لغيره وجودا، فمن رضي بثناء الناس عليه - وعبر عنهم بالجاهل لأن من أثنى على الناس فهو جاهل - لم يتصف بالحكمة ولا يطلق عليه اسم الحكيم; لأن رضاه بذلك بسبب غلبة قوته الشهوية وطغيانها وميلها إلى مشتهياتها وذلك ينافي معنى الحكمة كما عرفت.

وأيضا رأى لنفسه وجودا وعظمة وذلك مناف لصفاته اللازمة له، وأيضا الحكيم يعلم بنور حكمته أن ثناء الجاهل لا يزيده كمالا ولا يفيده شرفا وأن الشريف من جعله الله تعالى شريفا، فثناء الجاهل عنده

ص: 205


1- 1 - أراد بالجوهر الإلهي روحه المجرد، فإن الروح من أمر الرب كما في القرآن الكريم، وكما له بالعلم والمعرفة أي بمعرفة الله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة لا بالعلم بالرياضيات والطبيعيات وأمثالها مما يفيده في استصلاح حياته الدنيوية فقط; لأن هذه غايتها الإنسان لأنها اخترعت لأجل الإنسان وليست غاية للإنسان، ولو كانت هي كمالا له كان أمثال ذيمقراطيس وبقراط أفضل من أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، وقول الشارح: «لا يرى لغيره وجودا» معناه أن كل ممكن وجوده ربطي ولا ينظر إليه بنفسه كما حققه صدر المتألهين (قدس سره) وليس الوجود الحق الإله تعالى، فمن عرف ذلك لا يرضى بثناء الجاهل عليه لأن غيره تعالى ليس بشيء. (ش)

كعدمه فلا يرضى به ولا يفتخر، وأيضا الحكيم يعلم أن بينه وبين الجاهل مباينة وتضادا وأن ضد أحد لا يميل إليه إلا لغرض ما فيعلم أن الجاهل لا يميل إليه ولا يثنيه إلا الاعتقاد أنه جاهل مثله أو لقصد استهزائه وسخريته أو لقصد خداعه، والحكيم لا يرضى بشيء من ذلك وأيضا الحكيم يعلم أن الجاهل لا علم له بمراتب الكمال فهو في المدح له والثناء عليه إما مفرط أو مفرط، والحكيم لكونه على الوسط لا يرضى بثنائه.

(الناس أبناء ما يحسنون) أي ما يعلمونه أو يعدونه حسنا، فإن كانوا يعلمون العلم والعمل والآخرة فهم من أبناء الآخرة وإن كانوا يعلمون الدنيا وزهراتها ولا يتجاوز فهمهم إلى ما ورائها فهم من أبناء الدنيا، وهذا من لطائف كلامه وأوجز خطابه (عليه السلام)، وفيه استعارة مكنية وتخييلية.

ووجه الاستعارة: أن الابن لما كان من شأنه أن يميل إلى أبيه إما ميلا طبيعيا أو ميلا عرضيا بحسب تصور المنفعة منه وكان الناس منهم من يحسن العلم والعمل والآخرة ويريدها، ومنهم من يحسن الدنيا وزهراتها ويريدها، ويميل كل واحد منهما إلى مراده تحصيلا لما يعتقده خيرا ولذة وسعادة شبه المراد المرغوب إليه بالأب وأثبت له الابن لإفادة تلك المشابهة، ويحتمل أن يكون المراد أن الناس أبناء ما يعلمونه فإن كان لهم علم ومعرفة ودين فلهم الشرف والحسب بهذا النسب الروحاني ولهم الافتخار به وإلا فلا شرف ولا حسب لهم وليس لهم إظهار النسب والافتخار بالنسب الجسداني والقصد فيه أن الشرف منحصر في النسب العلمي والديني ولا عبرة بشرف يدعى من جهة النسب الجسد.

(وقدر كل امرئ ما يحسن) أي قدر كل رجل، والعزة والشرف في الدنيا والآخرة ما يعلمه، فإن لم يكن له علم فلا يقدر له، وإن كان له علم فله قدر وشرف بقدر علمه، وما يتبعه من العمل لله والمحبة له والميل إليه والإعراض عن الدنيا، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت درجات العلم والعمل والمحبة، وهذه الكلمة أيضا من جوامع الكلم التي جاءت على أشرف السياقة وألطف البلاغة، ولما أشار إلى أن قدر الرجل وشرفه بالعلم حث على إظهاره بقوله:

(فتكلموا في العلم تبين أقداركم) تبين مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر، وأصله تتبين حذفت إحدى التائين للتخفيف، وفي نهج البلاغة: «تكلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه» أي حال المرء بحذف المضاف المخبوء المستور، يعني أن الرجل إذا تكلم يتضح حاله ويظهر كونه فصيحا أو معجما، عالما أو جاهلا، خيرا أو شرا، وإن لم ينطق كان جميع ذلك مستورا عليه عند العامة، وفيه رجحان المكالمة والمباحثة في العلم لإظهار القدر والمرتبة وكان ذلك إذا كان المقصود إظهار القدر لهداية بني نوعه إلى المقاصد الدينية، وهذا راجح قطعا بل قد يكون واجبا لأن العالم بعد تكميل جوهره بالعلوم والكمالات اللائقة وعلمه بصراط الحق كان مأمورا بهداية الخلق وإرشادهم إليه، وذلك لا يتم ولا يتمشى إلا بأن يعلموا أن له منزلة

ص: 206

رفيعة وشرفا جسيما وقدرا عظيما في العلم، ولا يحصل لهم العلم بذلك إلا بأن يتكلم في العلوم والمعارف ليظهر قدره وشرفه بحيث لا يقدر أحد على إنكاره، وهكذا كانت حال الأنبياء والرسل في إظهار حالهم وقدرهم بالمعجزات والدلالات.

* الأصل:

15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعمى، وهو يقول: إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا (عليه السلام) فليذهب الحسن يمينا وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له: عثمان الأعمى، وهو يقول: إن الحسن البصري) قال المازري: اسم ام الحسن خيرة وكانت مولاة لام سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) روى عنها ابنها الحسن.

(يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار) ذهب الحسن إلى أنه يجب على كل عالم إظهار كل علم على كل أحد في كل زمان وكأنه ادعى أن العلم منحصر فيما هو المشهور بين الناس وأن كل من ادعى أن عنده علما غير ذلك فهو كاذب أو تمسك بظاهر قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله)، وبما روي عنه (صلى الله عليه وآله): «من علم علما فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من النار» (1).

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): فهلك إذن مؤمن آل فرعون) لأنه كتم إيمانه بالله وبرسوله من فرعون وأتباعه مدة طويلة خوفا منهم كما قال سبحانه: (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)، والإيمان من أعظم أبواب العلم واصول العقائد ثم استأنف كلاما لإثبات كتمانه على وجه العموم ردا لما زعمه فقال:

(ما زال العلم) أي العلم المتعلق بالامور الدينية، أو العلم المتعلق بالحوادث اليومية، أو العلم المتعلق بالأسرار الإلهية الذي أنزله إلى اولي العزم ولم يأذن لهم إظهاره بين الناس.

ص: 207


1- 1 - أخرجه الترمذي في سننه ج 1، ص 118، وفيه: «من سئل عن علم فكتمه... الخ».

(مكتوما منذ بعث الله نوحا (عليه السلام)) لعدم مصلحة في إظهاره، أو لعدم استعداد الناس لفهمه، أو لشدة التقية وكثرة العدو وفشو الإنكار والأذى، وقد كتمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول البعثة حتى كان يعبد الله مختفيا ولا يظهر علمه وحكمته إلا على من أخذ منه موثقا بل في آخر عمره الشريف حتى أخذ من الله تعالى العصمة من الناس، وقد كتمه أمير المؤمنين (عليه السلام) كما قال: «إن هاهنا - وأشار بيده إلى صدره - لعلما جما ولو وجدت له حملة»، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها» (1)، وقال أيضا: «لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير» (2)، وقال أيضا: «نحن معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم» (3)، وقال أيضا: «ما أحد يحدث الناس بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم» (4)، وقد كان موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قبل البعثة مؤمنا بالله تعالى وبصفاته وباليوم الآخر ولم يظهره على أهل الباطل وكلام المتقدمين من الحكماء في باب التعليم أيضا صريح في الكتمان (5).

وبالجملة الاعتبار ومشاهدة السير والآثار ومطالعة القرآن والأخبار الواردة من طرق العامة والخاصة شواهد صدق على بطلان ما زعمه الحسن وضعف حاله وقلة معرفته وقع فيما وقع لاتكاله بعقله وعدم أخذ العلم من أهله.

(فليذهب الحسن يمينا وشمالا) لطلب العلم من الناس، فإن ذلك لا ينفعه أصلا ولا يورثه إلا حيرة وضلالا لعدوله عن الصراط المستقيم ورجوعه إلى من لا يعلم الأسرار الإلهية والشرائع النبوية، ثم بين ذلك الصراط، وحصر طريق أخذ العلم في غير ما سلكه على وجه المبالغة والتأكيد بقوله:

(فوالله ما يوجد العلم إلا هاهنا) أشار به إلى صدره اللطيف أو إلى مكانه الشريف أو إلى بيت النبوة ومعدن الخلافة والإمامة، لأن فيهم كرائم الإيمان، وعندهم كنوز الرحمن، ولديهم تفسير الأحاديث والقرآن وهم شعار الرسالة والنبوة، وخزان العلوم والمعرفة، وبيوت الفضائل والحكمة، قد خصهم الله سبحانه بالنعمة الجزيلة، وكرمهم بالمقامات العالية الشريفة، وجعلهم هداة الأرواح في عالم الطبائع البشرية كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) خطابا لمعاوية: «فدع عنك ما مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس

ص: 208


1- 2 - تقدم.
2- 3 - تقدم.
3- 4 - تقدم في ص 140 من هذا المجلد.
4- 1 - تقدم في ص 140 من هذا المجلد.
5- 2 - يدل صريحا على أن جميع ما يتعلق بالدين ليس مما يفهمه جميع الناس بل هنا امور يختص بها جماعة قليلة منهم وعلى العلماء أن يكلموا الناس بقدر ما يفهمون، وهذا رد على ما قد يتبادر إلى الأذهان العامية من أن بعض ما يتكلم به أهل المعرفة مما لا يفهمه غيرهم باطل; لأنهم لا يفهمون إذ لا يعترف أحد بنقصان عقله، وهذا لا يختص بالتوحيد واصول الدين بل يتفق في المسائل الفقهية أيضا; إذ منها ما لا يفهمه العامة ويوجب ضلالهم إلا إذا تكلم معهم على قدر عقولهم، وقد سبق بيان ذلك في الصفحة 139. (ش)

صنائع لنا» (1)، ومراده (عليه السلام): أن من طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة فليرجع إلينا وليسأله عنا (2)، فإنا موارده والناس بتعليمنا يعلمون وبهدايتنا يهتدون.ص:212


1- 3 - النهج - قسم الكتب والرسائل، تحت رقم 28، وقوله: «من مالت به الرمية» كالمثل يضرب لمن تميل به عن الحق أغراضه الباطلة، والرمية الصيد يرمى، وأصل المثل أن الرجل يقصد قصدا فيتعرض له الصيد فيتبعه فيميل بعد عن قصده الأصلي.
2- 4 - قوله: «وليسأله عنا» والصحيح وليسألنا عنها، ولكن الشارح استعمل السؤال على طريقة العجم والعربي الفصيح أن يقال: سألت الرجل عن المسألة، والعجم قد تقول سألت المسألة عن الرجل وتركيب الكلمات في كل لغة توقيفي بوضع الواضع ولا يجوز كيف ما اتفق، وقال بعض الاصوليين من أهل عصرنا: إن المركبات لا وضع لها غير وضع المفردات، وليس كذلك وإنما نشأ خطؤهم من عدم التتبع وقلة التدبير ومثله كثير في اصولهم، وأما قوله: «صنائع ربنا» فالصنيع ليس بمعنى المخلوق، بل الخاص بالتربية والعناية وصنيعك من ربيته وعلمته وأحسنت إليه وعنيت بمصالحه من خواصك ومواليك وأولادك وغيرهم. (ش)

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله جل ثناؤه: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)؟ قال: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس) بزرج بضم الباء والزاي وإسكان الراء المهملة والجيم أخيرا أبو يحيى، وقيل: أبو سعيد من أصحاب الكاظم (عليه السلام) صرح الشيخ بأنه واقفي والنجاشي بأنه ثقة.

(عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله جل ثناؤه: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)؟ قال: هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه) الظاهر أن المراد بالحديث المعنى المعروف بين العلماء، ويحتمل حمله على مطلق الكلام فيندرج فيه نقل كلام الناس وتبليغ رسالتهم أيضا، وفي صيغة التفضيل دلالة على أن نقله لا على اللفظ المسموع أيضا حسن لكن بشرط أن لا يتغير معناه كما يشعر بهذين الأمرين الحديث الذي يأتي ذكره على أنه يمكن أن يحمل قوله: «فيحدث به كما سمعه» على النقل بالمعنى الأعم الشامل للنقل بالمعنى أيضا; لأن من نقل معناه بلا زيادة ونقصان فقد حدث به كما سمعه، ولذلك صح لمترجم القاضي أن يقول: احدثك كما سمعته، ثم هذا التفسير لا يدل على انحصار المقصود بالآية فيما ذكر لجواز أن يكون لها معان اخر، وقد ذكرنا بعضها آنفا وذلك لأن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن حتى قيل: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر وعلم ذلك كله عند أهل الذكر (عليهم السلام).

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال: «إن كنت تريد معانيه فلا بأس».

ص: 209

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟) عند روايته ونقله بين الناس.

(قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس) هذا الحديث الصحيح حجة لمن قال بجواز نقل الحديث بالمعنى، ووضع أحد المترادفين موضع الآخر (1) مطلقا، سواء كانا من لغة واحدة أو لا، وله شروط:

الأول: أن يكون الناقل عالما بالعربية عارفا بفنونها وآثارها.

الثاني: أن يكون البدل مفيدا لمعنى المبدل منه بلا زيادة ولا نقصان.

الثالث: مساواتهما في الجلاء والخفاء; لأن الشارع مخاطب بالمحكم والمتشابه لأسرار لا يعلمها إلا هو فلا يجوز تغييرها عن وضعها (2)، وقوله (عليه السلام): «إن كنت تريد معانيه فلا بأس» إشارة إلى هذه الشروط كلها مع ما فيه من الإيماء إلى أن المقصود الأصلي من اللفظ إنما هو المعنى واللفظ آلة لا حضارة فبأي آلة حصل الإحضار حصل المقصود، ألا ترى أن مفاد قولنا: رأيت إنسانا يضرب أسدا ورأيت بشرا يضرب ليثا (3)،

ص: 210


1- 1 - وضع أحد المترادفين موضع الآخر ليس من نقل الحديث بالمعنى الذي اختلفوا فيه بل هو مما جوزه المانعون أيضا. قال العلامة في النهاية: والمانعون جوزوا إبدال اللفظ بمرادفه ومساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والحظر بالتحريم. وبالجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت في الاستنباط والفهم، انتهى. فعلم منه أن الفروق الدقيقة التي يدعيها بعض الناس بين الجلوس والقعود والعلم والمعرفة وأمثالها ليست مما يخرج اللفظ عن الترادف ويمنعه المانعون، بل يجوز مثل هذا التغيير على كل حال حتى عند من منع النقل بالمعنى. (ش)
2- 2 - قال العلامة (رحمه الله) في نهاية الاصول: اختلف الناس في أنه هل يجوز نقل الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بالمعنى؟ فجوزه الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد والحسن البصري وأكثر الفقهاء، وخالف فيه ابن سيرين وبعض المحدثين والمجوزين شرطوا امورا ثلاثة: الأول: أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفادة المعنى. الثاني: أن لا يكون فيها زيادة ولا نقصان. الثالث: أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء; لأن الخطاب قد يقع بالمحكم والمتشابه لحكمة خفية فلا يجوز تغييرها عن وصفها، انتهى ما أردنا نقله ليظهر به معنى كلام الشارح; إذ لا يخلو عن إبهام، وربما يتبادر إلى الذهن أن الشارح من المانعين وإن لهج بالجواز; لأن النقل بالشروط التي ذكرها الشارح مما يجوزه المانعون أيضا بخلاف الشروط التي ذكرها العلامة (رحمه الله) فإنها راجعة إلى حفظ حاصل المضمون وأصل معنى الحديث وشروط الشارح يدل على حفظ معنى كل كلمة منه وبينهما فرق عظيم. (ش)
3- 1 - إن كان نقل الحديث بالمعنى نظير هذا المثال الذي ذكره الشارح فهو مما جوزه المانعون أيضا; لأنه تبديل لفظ بمرادفه، ومما يوضح الأمر الشرط الثالث، وبيانه: أن أصل الحديث قد يكون متشابه المعنى. وفي المراد منه خفاء فلا يجوز أن يبدل الناقل بلفظ ليس فيه خفاء; إذ يمكن خطأ الناقل في فهم معنى المتشابه مثلا ورد: «أن الماء إذا بلغ كرا لم يحمل خبثا» فيروي الناقل: إذا بلغ الماء ألفا ومائتي رطل أو ورد في الحديث: «إذا أصابهم البول قطعوه» فيبدل قوله «قطعوه» بقوله: «قرضوا لحومهم بالمقاريض» فيبدل لفظا يحتمل وجوها على وجه واحد، وأما إن لم يغير المعنى مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» فيقول: يجوز للبائع والمشتري أن يفسخا البيع ما داما في المجلس، فيغير لفظ «ما لم يفترقا» بلفظ «ما داما في المجلس» فلا يعد من تغيير المعنى وإن كان النظر الدقيق يفهم من كل منهما ما لا يفهم من الآخر. (ش)

و «ديدم آدمي را كه ميزد شير را» واحد من غير تفاوت، فقد دل العقل والنقل على جوازه وإن كان نقله باللفظ المسموع أولى وأحوط حفظا للحديث وصونا عن شائبة التغيير. وهنا مذاهب اخر:

أحدها: جوازه مطلقا; لأن صحة الضم قد يكون من عوارض الألفاظ، ألا ترى أنه يصح أن تقول:

مررت بصاحب زيد ولا يصح أن تقول: مررت بذي زيد مع أن «ذو» مرادفة لصاحب. والجواب:

أن هنا مانعا بحسب القاعدة العربية فإن «ذو» لا يضاف إلى معرفة، والكلام فيما لا مانع فيه.

وثانيها: الجواز في لغة واحدة لا في لغات مختلفة، وإلا لجاز «خدا أكبر» بدل «الله أكبر»، واللازم باطل قطعا. والجواب: منع الملازمة إن اريد بها تكبيرة الإحرام; لأن الشارع عين لها لفظا خاصا لا يجوز العدول عنه شرعا، ومنع بطلان اللازم إن اريد بها غيرها.

وثالثها: الجواز في غير الأحاديث النبوية لا فيها; لأن في تراكيبها أسرارا ودقائق لا تعرف إلا بتلك الهيات التركيبية وقوله (صلى الله عليه وآله): «نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (1)، والحق أنه لا فرق بين الأحاديث النبوية وأحاديث الأئمة (عليهم السلام) وأن رواية اللفظ المسموع أولى وأفضل.

* الأصل:

3 - وعنه، عن محمد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

إني أسمع الكلام منك فاريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجي، قال: «فتعمد ذلك؟» قلت: لا، فقال: «تريد المعاني؟»، قلت: نعم، قال: «فلا بأس».

* الشرح:

(وعنه، عن محمد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أسمع الكلام منك) ومعناه محفوظ عندي.

ص: 211


1- 2 - رواه الصدوق في الخصال أبواب الثلاثة وغيره، وتقدم في الأبواب السابقة أيضا.

(فاريد أن أرويه) أي ذلك الكلام بعينه.

(كما سمعته منك فلا يجي) أي فلا يجي ذلك الكلام بعينه أفيجوز لي أن أروي معناه بما يجي من الألفاظ والعبارات؟ (قال: فتعمد ذلك؟) تتعمد بالتاءين، وفي بعض النسخ بحذف إحداهما للتخفيف. والتعمد:

القصد، يقال: تعمدت الشيء أي قصدته، يعني أفتقصد ذلك الكلام وتريد أن ترويه كيف ما يجي زائدا على إفادة المعنى المقصود أو ناقصا عنه؟ (قلت: لا) نفي إرادة هذا الاحتمال لعلمه بأنه لا يجوز نقل معنى الحديث بلفظ لا يفيده أو يفيد الزيادة عليه.

(قال: تريد المعاني؟) أي تريد رواية المعاني ونقلها بألفاظ غير مسموعة وعبارات مفيدة لها من غير زيادة ونقصان فيها؟ (قلت: نعم، قال: فلا بأس) في نقلها مع محافظتها عن الزيادة والنقصان، ويمكن أن يقال: لما كان قول السائل «فلا يجي» (1) يحتمل أمرين:

ص: 212


1- 1 - أقوى الأدلة على جواز النقل بالمعنى ما ذكره العلامة (رحمه الله) في النهاية، وهو خامس أدلته من: أنا نعلم قطعا أن الصحابة لم يكتبوا ما نقلوه ولا كرروا عليه بل كلما سمعوا أهملوا إلى وقت الحاجة إليه بعد مدة متباعدة وذلك يوجب القطع بأنهم لم ينقلوا نفس اللفظ بل المعنى، انتهى. وهذا معنى قول داود بن فرقد: «فلا يجي» أي فلا يمكن لي ضبط الألفاظ بخصوصها، ونظير ذلك ما نرى من نقل العلماء أقوال غيرهم لا بألفاظهم ونقل الناس ما سمعوه من الوعاظ والناطقين ورسالة بعضهم إلى بعض شفاها فيحتج من الروايات بما يمكن ضبطه ونقله، وهو أصل المعنى المعقود له الجملة لا الدقائق التي تستنبط بفكر العلماء ومن خصوصيات الألفاظ، وقد سبق في الصفحة 146 و 147 من هذا المجلد حديث محمد بن مسلم برواية ربعي وبرواية حريز، ويحتمل قويا اتحادهما ومعناهما المعقود له الكلام أمر الناس بعدم الاستحياء من التصريح بعدم العلم إذا سألوا عن شيء لا يعلمونه، وهذا المعنى محفوظ في الروايتين وإن اختلفت ألفاظهما ومثله رواية «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» كما مر فإذا بدل «ما لم يفترقا» بقوله: «ما داما في المجلس» فقد حفظ المعنى لكن يدل الافتراق على التباعد ولو خطوة، ولا يدل عليه قوله: ما داما في المجلس إذ يمكن التباعد خطوة مع كونهما في المجلس وحينئذ فنقول: أمثال هذه ليست بحجة إذ كما نعلم يقينا أنهم رووا الأحاديث بالمعنى نعلم أيضا أن الناس لا يقدرون على حفظ هذه الدقائق، بل لا يتفطنون لها حتى يحفظوها، فما هو شائع بين بعض فقهائنا المتأخرين خصوصا بين من تأخر عن الشيخ المحقق الأنصاري (قدس سره) من استنباط الأحكام من هذه الدقائق المستنبطة من ألفاظ الروايات بتدقيقاتهم غير مبتن على أساس متين خصوصا ما يدعونه من الظن الاطمئناني بصدور هذه الروايات وأنها حجة لا تعبدا بآية النبأ وأمثالها، بل لحصول الاطمئنان وأن الاطمئنان علم عرفا. والحق أنهم إن ادعوا حصول الاطمئنان بصدور هذه الألفاظ المروية بخصوصياتها كما يحتجون بها في الفقه فنحن نعلم يقينا عدم صدورها كذلك ولا حفظ خصوصياتها في إبدالها أيضا، وليس صدورها وهما فضلا عن الظن وفضلا عن الاطمئنان وإن أرادوا الاطمئنان بصدور أصل المعنى ومفاده إجمالا فيأتي كلامنا فيه. (ش)

أحدهما أنه لا يجي ذلك الكلام أصلا لنسيانه.

وثانيهما: أنه لا يجي بسهولة، والغرض من السؤال حينئذ طلب الإذن لنقل المعنى بعبارة اخرى أسهل استفهم (عليه السلام) بقوله: فتتعمد ذلك؟ أي أفتقصد عدم المجيء وتريده عمدا وتترك اللفظ المسموع لأجل الصعوبة مع القدرة على الإتيان به، فأجاب السائل بقوله: «لا» وأشار به إلى أنه أراد الأمر الأول.

وقيل: قوله (عليه السلام): «فتتعمد ذلك» مأخوذ من عمد البعير إذا انفضح داخل سنامه من الركوب وظاهره صحيح، والمقصود هل تفسد الباطن وهو المعنى وتصلح الظاهر يعني الألفاظ؟ وما في بعض النسخ من قوله (عليه السلام): «فتعمد» بالتاء الواحدة، قيل: يجوز أن يكون من المجرد يقال: عمدت الشيء فانعمد أي أقمته بعماد يعتمد عليه، أو من باب الإفعال يقال: أعمدته أي جعلت تحته عمادا والمعنى في الصورتين أفتضم إليه شيئا من عندك تقيمه وتصلحه كما يقام الشيء بعماد يعتمد عليه؟ فقال السائل: لا هذا وفيه على جميع الاحتمالات دلالة على جوازه نقل الحديث بالمعنى فهو حجة لمن جوزه.

لا يقال: الجواز على الاحتمال الثاني الذي ذكرته مشروط بعدم القدرة على الأداء باللفظ المسموع والنزاع في جوازه مطلقا.

لأنا نقول: لم يقل أحد من المجوزين والمانعين بالفرق المذكور فمن جوزه جوزه مع القدرة وعدمها، ومن منعه منعه كذلك، فإذا دل الحديث على الجواز مع عدم القدرة فهو حجة للمجوز على المانع على أن الشرط المذكور يمكن حمله على الأولوية والأفضلية يعني أن الأولى والأفضل في حال القدرة على المسموع أن يؤديه بالمسموع والمجوز لا ينكره.

* الأصل:

4 - وعنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ قال: «سواء إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي». وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لجميل: «ما سمعت مني فاروه عن أبي».

* الشرح:

ص: 213

(وعنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟) فهل يجوز ذلك؟ وهل هما سواء؟ (قال: سواء) أي الروايتان متساويتان لا تفاوت بينهما، وذلك لأنه (عليه السلام) من أبيه وأباه منه، وهما من نور واحد ومعدن واحد ينتهي إليه سلسلة العلوم كلها ولا اختلاف في أحاديثهم فما يقول به الأول يقول به الآخر وبالعكس (1).

(إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي) متعلق بكلا السماعين وتخصيصه بالأخير لدفع توهم السماع من المروي عنه بخصوصه بعيد وإنما أحب ذلك لقصد تعظيم أبيه أو لأنه أخذ العلم من أبيه، فالأصل أولى بالنقل عنه أو لقرب إسناده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وله تأثير عظيم في القبول عند الناس أو لوقوف بعض الناس على أبيه، فمن قال بإمامة الابن قال بإمامة الأب دون العكس، أو لرفع الخوف والاشتهار عن نفسه ولا يتصور ذلك في الأب لموته (عليه السلام).

(وقال أبو عبد الله (عليه السلام) لجميل) يحتمل أن يكون من كلام أبي بصير وأن يكون حديثا آخر من المصنف بحذف الإسناد.

(ما سمعت مني فاروه عن أبي) وجهه ما عرفت، وفيهما دلالة على جواز رواية المسموع من أحد من الأئمة (عليهم السلام) عن الآخر بل عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم الظاهر أن جواز الرواية كذلك فيما إذا لم يكن بين الراوي والمعصوم المسموع منه واسطة، وأما إذا كان بينهما واسطة فجواز ذلك محل تأمل.

* الأصل:

5 - وعنه، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال:

قلت لأبي

ص: 214


1- 1 - يجب تقييد ذلك بأن لا يستلزم ضرورة أنه إذا سمع من الباقر (عليه السلام) حديثا فقال: حدثني الصادق (عليه السلام) كان كاذبا لا محالة، ولا يصلح هذا الخبر لتخصيص أدلة حرمة الكذب، فالمعنى نسبة القول والفتوى المسموع من إمام إلى غيره، كأن يسمع إبطال العول عن الصادق (عليه السلام) فيقول: مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا ذلك لا أن يقول: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) أو حدثني وأمثال ذلك. (ش)

عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى، قال: «فاقرأ عليهم من أوله حديثا، ومن وسطه حديثا، ومن آخره حديثا».

* الشرح:

(وعنه، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر ولا أقوى) الضجر قلق من غم وضيق نفس مع كلام، وقد ضجر من كذا وتضجر منه وأضجره غيره يعني فأضجر عن التكلم بكلام كثير أو عن عدم إنجاح مطالبهم ولا أقوى على تحديثهم كلما يريدون ومقصوده إما الإخبار عن حالة أو الاستعلام عن حكمه فيما يعرضه عند قراءة الحديث على قومه.

(قال: فاقرأ عليهم من أوله حديثا، ومن وسطه حديثا) في المغرب: الوسط بالتحريك اسم لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة مثلا، ولذا كان طرفا. وفي الصحاح كل موضع فيه بين فهو وسط بالتسكين، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، والأنسب هنا هو السكون لأن المقصود هو الداخل بين الطرفين لا الوسط الحقيقي.

(ومن آخره حديثا) الضمائر الثلاثة تعود إلى كتاب الحديث بقرينة المقام، ورخص (عليه السلام) له أن يقرأ عليهم على الوجه المذكور إذا لم يقو على قراءة الأحاديث كلها ليحصل لهم فضل سماع الحديث من الشيخ في الجملة. ثم إنهم إن قرؤوا البواقي عليه جاز لهم روايتها عنه قطعا وإن لم يقرؤوا فالظاهر أنه يجوز لهم الرواية عنه ونقل جميع ما في كتابه إن علم أنه من مروياته، فإنه إذا جاز الرواية عن رجل بمجرد إعطاء كتاب من غير أن يقرأ شيئا منه على الراوي كما في الخبر الآتي جاز هذا بالطريق الأولى (1).

ص: 215


1- 1 - قال العلامة في النهاية في كيفية الرواية أن مراتبه سبع: الأول وهو أعلى المراتب: أن يسمع الراوي من الشيخ فيقول: أخبرني أو حدثني فلان إن قصد الشيخ إسماعه خاصة أو كان في جماعة وقصد إسماعهم جميعا، وأما إن لم يقصد إسماعه تفصيلا ولا جملة كان له أن يقول: سمعته يحدث وليس له أن يقول: أخبرني وحدثني. الثاني: أن يقرأه على الشيخ ويقول الشيخ بعد الفراغ: الأمر كما قرىء علي. الثالث: أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا فللمكتوب إليه أن يعمل، وليس له أن يقول: سمعته أو حدثني، ويجوز أن يقول: أخبرني لأن الكتابة إخبار. الرابع: أن يقول للشيخ: هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو بإصبعه، وهذا كالعبارة في وجوب العمل لكن لا يجوز أن يقول: حدثني أو أخبرني أو سمعت. الخامس: أن يقول للشيخ: حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا إشارة، فإن علم بالقرينة أن سكوته للرضا عمل به ولا يروى عنه بلفظ أخبرني وحدثني، وفيه خلاف. السادس: المناولة بأن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول: سمعت ما في هذا الكتاب وليس للسامع أن يشير إلى نسخة اخرى من ذلك الكتاب فيقول: سمعت هذه لاحتمال اختلاف النسخ. السابع: الإجازة، وهي أن يقول الشيخ لغيره: قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي، واختلفوا في جواز الرواية بالإجازة بأن يقول: حدثني وأخبرني، انتهى. والحق أن لفظتي «أخبرني» و «حدثني» قد خرجتا في اصطلاح المحدثين عن معناهما اللغوي، ونقل إلى ما يشمل الإجازة أيضا، وليس قول من يقول: أخبرني إجازة تناقضا ولا كذبا. (ش)

وقيل: الضمائر تعود إلى الحديث ويختص جواز القراءة على الوجه المذكور حينئذ بما إذا كان الحديث مشتملا على جمل مستقلة وأحكام متعددة يستقل كل واحد منها بانفراده.

وأما الحديث الذي أجزاؤه مربوط بعضها ببعض فلا يجوز قراءته على الوجه المذكور. وفي هذا الحديث دلالة على ما هو المشهور بين علماء الاصول وغيرهم من أن قراءة الشيخ على التلميذ أفضل من قراءة التلميذ على الشيخ، وقيل: هما متساويان، وقيل: القراءة على الشيخ أفضل من السماع منه.

* الأصل:

6 - وعنه بإسناده، عن أحمد بن عمر الحلال، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: أروه عني يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال: فقال: «إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه».

* الشرح:

(وعنه بإسناده، عن أحمد بن عمر الحلال) بالحاء المهملة المشددة كان يبيع الحل وهو الشيرج (1)، ثقة قاله الشيخ، وقال: إنه ردي الأصل، فعندي توقف في قبول روايته لقوله هذا، وكان أنماطيا من أصحاب الرضا (عليه السلام).

(قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول: اروه عني يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال: فقال: إذا علمت أن الكتاب له) ومن مروياته ومسموعاته.

(فاروه عنه) فإن ذلك كاف في رواية ما في الكتاب عنه، وفيه دلالة على جواز الرواية بالمناولة التي عدها بعض المحدثين والاصوليين من أصحابنا من طرق تحمل الحديث وقالوا: هي أن يعطي الشيخ رجلا كتابه ويقول: هذا كتابي وسمعت ما فيه فإذا فعل ذلك فلذلك الرجل أن يرويه عنه سواء قال له: اروه عني أو لم يقل، وله أن يقول عند الرواية: أجازني إجازة أو حدثني إجازة، لا أخبرني وحدثني مطلقا.

لا يقال: المراد بالرواية بالمناولة التي وقع النزاع في جوازها وذهب الأكثر إلى عدمه هو رواية ما في الكتاب عن صاحبه عن شيخه، وهكذا إلى المعصوم، ولا تدل هذه الرواية على جوازها بهذا المعنى وإنما تدل على جواز رواية الكتاب عن صاحبه وإسناده إليه، والقول بأنه روى فيه كذا كما يرشد إليه قوله (عليه السلام): «فاروه عنه» والفرق بين القول بأنه روى صاحب الكتاب فيه كذا وبين التحديث عنه عن شيخه عن المعصوم ظاهر بين، وهذا الحديث دل على جواز الأول دون الثاني وهو محل النزاع.

ص: 216


1- 1 - الشيرج: السمسم المسحوق، ويقال بالفارسية: «أرده».

لأنا نقول: إذا جاز القول بأنه روى فيه كذا وصح إسناد ما فيه إليه وقد ثبت رواية ما فيه عن شيخه عن المعصوم جاز القول بأنه روى فيه كذا عن شيخه عن المعصوم والقول بجواز الأول دون الثاني مكابرة (1).

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم، فإن كان حقا فلكم، وإن كان كذبا فعليه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم، فإن كان حقا فلكم، وإن كان كذبا فعليه) كما أنه لا بد لك في نقل متن الحديث من حفظه عن الزيادة والنقصان تحرزا عن الكذب والافتراء كذلك لا بد في نقل سنده من حفظه عن الإرسال وحفظ بعض الوسائط تحرزا عنهما وعن التمويه والتدليس الذي لا يليق بالعدل، فإن أردت أن تروي حديثا لا ينافي شيئا من ضروريات الدين ولا يكون مضمونه باطلا بالضرورة فأسنده إلى من حدثك به بلا واسطة فإن كان حقا مطابقا للواقع فلك الأجر والثواب بنشر العلم والحديث وإن كان كذبا فعليه كذبه لا عليك لأنك صادق، وإنما قلنا: لا ينافي شيئا من ضروريات الدين لأنه لو كان منافيا لها لا يجوز لك نقله عمن حدثك أيضا لا للتحرز عن الكذب لأنك في هذا النقل صادق بل للتحرز عن نشر الباطل وبث الجهل.

ومن هذا القبيل ما وقع بيني وبين بعض الأفاضل حين قص بعض أصحاب القصص الحكايات المفتريات والأقوال الكاذبة قطعا فقال ذلك الفاضل: قل: قال فلان: كان كذا لئلا تكذب ولا نسمع الكذب فقلت له: إذا علمت أن هذه الحكايات كاذبة لا تنفعه ولا تنفعك تلك الحيلة فاعترف به.

* الأصل:

8 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «القلب يتكل على الكتابة».

ص: 217


1- 1 - ليس مكابرة إذ الخلاف في جواز أن يقول المجاز: أخبرني أو حدثني والرواية تدل على جواز نسبة ما في الكتاب إلى صاحبه بغير لفظ أخبرني وحدثني. (ش)
* الشرح:

(علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن أبي أيوب المدني) مشترك بين اثنين أحدهما الأنباري المدني الذي تحول إلى بغداد.

(عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي) هو ابن عثمان الثقة.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القلب يتكل على الكتابة) المراد بالقلب النفس الناطقة والاتكال الاعتماد، وفيه حث على الكتابة وعدم الاعتماد على الحفظ، ولا دلالة فيه على جواز عمل الغير بمكتوبه كما زعم (1) لجواز أن يكون فائدة الكتابة ضبط الحديث عن الاندراس والقراءة على الغير، ونقله إليه وحفظ سنده والعمل به في بقية العمر ولا يشترط في جواز عمله بمكتوبه أن يكون عادلا.

نعم يشترط ذلك في جواز عمل الغير به ولو شك في كونه مكتوبه فهل له العمل به وقراءته على الغير أم لا يحتمل؟ الأول: لأنه لا يقصر عن كتاب الغير إذا وجده، فإن له أن يعمل به ويحدث به غيره كما دل عليه حديث آخر هذا الباب، ويحتمل الثاني لعدم علمه بذلك (2).

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا».

* الشرح:

ص: 218


1- 1 - مما استدل به بعضهم على حجية أخبار الآحاد إجماع الشيعة على روايتها ونقلها وكتبها وحفظها وإسماعها وورود الأخبار المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام) بالحث والتحريض بذلك، ولا يمكن أن يكون النقل إلا لقبول السامعين وعملهم; إذ لو لم يكن حجة لم يكن فائدة في النقل. والجواب: أنه ليس فائدة نقل العلوم المنقولة منحصرة في وجوب القبول تعبدا فقد نقلوا روايات الآحاد في التوحيد واصول الدين واتفقوا على عدم حجيتها فيها، وكذلك رووا السير والتواريخ والقصص واللغة وأقوال فقهاء العامة والخاصة; لأن لها دخلا في حصول العلم بانضمام سائر القرائن وسائر الروايات أو رجاء أن يحصل التواتر. وبالجملة طريق العلوم المنقولة النقل، سواء كان الواجب فيها تحصيل اليقين أو الظن. (ش)
2- 2 - الاحتمال الثاني متعين، والاحتمال الأول باطل جدا، وكيف يتصور أن يشك أحد في صحة كتاب ولا يعرف خطه ومع ذلك يجب عمله به وروايته لغيره؟ ونمنع ذلك في كتاب الغير أيضا إذا وجده وشك في كونه مكتوب ذلك الغير، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله في شرح حديث آخر الباب. (ش)

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد) بضم الحاء المهملة، كوفي ثقة عين صدوق.

(عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتبوا) ما سمعتم من الأحاديث.

(فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا) فيه استحباب كتب الحديث، وقد أجمع عليه السلف والخلف ومع ذلك فلا نزاع في أن حفظه عن ظهر القلب أحسن وأولى، وفي كتبه فوائد معظمها ما أشار إليه (عليه السلام). وحاصله أنه سبب لحفظه عن النسيان وعن طريان الزيادة والنقصان في طول الزمان وباعث لبقائه مر الدهور، وما روي عن الإمام (عليه السلام) حين أراد بعض أصحابه أن يكتب ما سمعه منه أنه قال: «أين حفظكم يا أهل العراق؟» (1) لا دلالة فيه على النهي عن الكتابة; لأن ذلك ترغيب في الحفظ عن ظهر القلب لئلا يقصر فيه اتكالا على مجرد الكتاب، أو أن النهي مختص بمن يمكنه السماع مع المعصوم والرجوع إليه متى أراد.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها) أمر (عليه السلام) باحتفاظ الكتب واحتراسها عن الاندراس وعلله بأنه سيأتي زمان تحتاجون فيه إلى الكتب والرجوع إليها وذلك زمان لا يمكنكم فيه الرجوع إلى المعصوم لغيبته، وهذا من الإخبار بالغيب; لأنه أخبر بما سيقع وقد وقع.

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري، عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري) قال بعض الأفاضل في بعض النسخ: عن أبي سعيد الخراساني، وهو الذي ذكره الشيخ في كتاب الرجال في

ص: 219


1- 1 - رواه الشيخ في الاستبصار - باب ذبائح الكفار، من حديث ورد بن زيد.

أصحاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وحكم عليه بالجهالة، وفي بعضها: «عن أبي معبد الخيبري» بفتح الميم والباء الموحدة وسكون العين المهملة بينهما، وهو الذي تروي عنه العامة، وكذلك ضبطه شارح البخاري.

(عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبث علمك في إخوانك) يعني اكتب الأحاديث وانشر علمك في إخوانك ليعلموا كما علمت وينشروا في إخوانهم كما نشرت، وهكذا إلى قيام الساعة. وظاهر أن المقصود من الكتابة والنشر هو بقاء الحديث والعمل به، ففيه دلالة على أن خبر الواحد حجة.

لا يقال: لعل المقصود أن يصير حجة عند التواتر؟ لأنا نقول: لا يعد الخبر متواترا إذا كان الناقل الأول واحدا وإن بلغ بعد ذلك حد الاشتهار والتواتر; إذ يشترط في التواتر كثرة الناقل في جميع المراتب (1). نعم يرد: أن هذا إثبات حجية خبر الواحد بخبر الواحد فيلزم الدور. ويمكن دفعه: بأن هذا الخبر مع أمثاله الكثيرة مما دلت على حجيته; إذ لوحظ المجموع من حيث هو دل بالتواتر المعنوي على حجيته.

(فإن مت فأورث كتبك بنيك) ليقوموا مقامك في حفظ الكتب وضبط الحديث ونشر العلم ثم علل الأمر بالكتابة والايراث بقوله:

(فإنه يأتي على الناس زمان هرج) الهرج بفتح الهاء وسكون الراء الفتنة والاختلاط والقتل، أي يأتي زمان يكثر فيه الفتنة ويضطرب فيه أهل الحق ويختلط الحق والباطل، كل ذلك لارتفاع لواء الظلمة وارتقاء دولتهم وشدة عداوتهم لأهل الحق حتى أنهم يقتلون العالم الرباني أينما وجدوه ومن رجع إليه أينما ثقفوه.

(لا يأنسون فيه إلا بكتبهم) لعدم إمكان رجوعهم إلى المعصوم والسماع منه أما لغيبته أو لشدة الخوف

ص: 220


1- 1 - والظاهر أن جواب الشارح لا يدفع السؤال; إذ ليس مراد السائل أن ذلك الخبر الواحد بعينه يصير متواترا بكثرة النقل، بل هذا الخبر ينضم إلى أخبار اخر بهذا المضمون ويتكرر الإخبار حتى يحصل التواتر، كما يرى في أخبار نصوص الأئمة (عليهم السلام) على الإمام اللاحق أو نقل معجزات الرسول (صلى الله عليه وآله); إذ لا ريب أن الرواة نقلوها وكان نقلها واجبا عليهم، لا لأن الخبر الواحد فيها حجة بل لأن نقل واحد منهم ينضم إلى نقل جماعة آخرين يحصل بهم التواتر ولو أمسك الواحد عن نقل نص الإمام الصادق (عليه السلام) على إمامة الكاظم (عليه السلام) مثلا لعذر أنه لا يقبل منه وأمسك الآخر أيضا، وهكذا لم يحصل التواتر أصلا، فالحق أن الروايات الموجبة لكتابة الأخبار وبثها لا يدل على حجية اخبار الآحاد تعبدا إذا لم تنضم إلى قرائن توجب القطع واليقين، ولو كان أمر الإمام (عليه السلام) المفضل بن عمر بالكتابة دالا على قبول المنقول إليهم مطلقا لكان دليلا على قبول جميع روايات المفضل مع أن العلماء مطبقون على ترك رواياته وعلى تضعيفه إلا نادرا، وكذا دل على حجية جميع الكتب ولا يقول به أحد. وأورد العلامة (رحمه الله) في النهاية خمسة عشر دليلا على حجية خبر الواحد ليس فيها هذا الدليل وهو يدل على عدم تماميته وذكرنا شيئا يتعلق بذلك في حواشي الوافي صفحة 55 و 76، ج 1. (ش)

والتقية وهذا الذي أمر به (عليه السلام) وفعله السلف رضوان الله عليهم من كتب الأحاديث وتدوينها كمال الشفقة على الامة; إذ لولا ذلك لكانت الامة تائهة حائرة في دين الحق وأحكامه، سيما في هذا العصر فجزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء.

* الأصل:

12 - وبهذا الاسناد، عن محمد بن علي، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إياكم والكذب المفترع»، قيل له: وما الكذب المفترع؟، قال: «أن يحدثك الرجل بالحديث فتتركه وترويه عن الذي حدثك عنه».

* الشرح:

(وبهذا الاسناد، عن محمد بن علي) لا يظهر لهذا مرجع ظاهر، وقيل: يعني بهذا الإسناد عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ومحمد بن علي إما هو محمد بن علي بن مهزيار، أو محمد ابن علي بن عيسى القمي المعروف بالطلحي، أو محمد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

(رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياكم والكذب المفترع) أي الكذب الحاجز بين الرجل وبين قبول روايته من فرع فلان بين الشيئين إذا حجز بينهما، أو الكذب المرتفع المتصاعد من فرع الشيء أي ارتفع وعلا، وفرعت الجبل أي صعدته، أو الكذب الذي يزيل عن الراوي ما يوجب قبول روايته والعمل بها، أعني العدالة من افترعت البكر افتضضتها وأزلت بكارتها، أو الكذب الذي ازيل بكارته يعني وقع مثله في السابقين من الرواة أو الكذب المبتدأ أي المستحدث، وفيه إيماء إلى أنه لم يقع مثله من السابقين والمتعلق بذكر أحد ابتداء من قولهم: بئس ما افترعت به أي ابتدأت به، والمفترع على الأخيرين اسم مفعول، وعلى الثلاثة الأول اسم فاعل، وبعض الأفاضل ضبط «المقترع» بالقاف بدل الفاء من الاقتراع بمعنى الاختيار، وحكم بأن المفترع بالفاء من التصحيفات في الانتساخ أو من التحريفات في الرواية.

والحق أنه ليس الأمر كما زعمه والله أعلم.

(قيل له: وما الكذب المفترع؟) استفهم عن المقصود منه لما فيه نوع من الإبهام.

(قال: أن يحدثك الرجل بالحديث فتتركه) أي ذلك الرجل ولا ترويه عنه.

(وترويه عن الذي حدثك عنه) أي ذلك الرجل عنه، مثلا حدثك زيد عن عمرو فتترك زيدا عند الرواية وتروي عن عمرو (1) بأن يقول: حدثني عمرو بكذا أو قال عمرو: كذا فترفع الحديث بإرسال زيد

ص: 221


1- 1 - ذكرنا في شرح هذا الحديث شيئا في حواشي الوافي لا نطيل الكلام بإعادته فارجع إليه صفحة 55 و 77، ج 1. (ش)

والرواية عن عمرو على وجه يشعر بأنه حدثك وهو مذموم لما فيه من الكذب والتدليس ويجب صون الكلام عنهما بقدر الإمكان، وهذا إذا طرح الواسطة بالكلية، أما لو فعل ذلك في مواضع طلبا للاقتصار ثم ذكر الواسطة ليخرج الخبر عن شائبة الكذب والإرسال كما فعله ابن بابويه (رحمه الله) فهو ليس من الكذب المفترع، وفي بعض النسخ: «عن الذي حدثك به»، وفي بعضها:

«عن غير الذي حدثك به».

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أعربوا حديثنا فإنا قوم فصحاء».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اعربوا حديثنا فإنا قوم فصحاء) الإعراب الإبانة والإيضاح، يقال: اعرب كلامه إذا لم يلحن في الحروف والاعراب، وسميت الإعراب إعرابا لأنها تبين المعاني المختلفة الواردة على سبيل التبادل وتوضحها وتميزها بحيث لا يشتبه بعضها ببعض (1)، والفصاحة الخلوص والجودة في اللسان وطلاقته، يقال: فصح الرجل بالضم فصاحة، وهو فصيح إذا خلصت عبارته عن الرداءة وجادت لغته وطلق لسانه، وهم (عليهم السلام) أفصح الفصحاء لأنهم اوتوا الكلمات العجيبة الجامعة والعبارات الأنيقة الرائقة الخالية عن النقص واللحن وعن كل ما يوجب غبار الطبع السليم ونفار العقل المستقيم وكراهة السمع.

والمعنى: إذا حدثتم بأحاديثنا فأعربوا حروفها وكلماتها وأظهروا إعرابها وحركاتها كما ينبغي ولا تلحنوا في شيء منها لئلا يشتبه بعضها ببعض «فإنا قوم فصحاء» لا نتكلم إلا بكلام فصيح ليس فيه نقص ولحن في الحروف والحركات فإن ألحنتم في أحاديثنا وأفسدتم حروفها وكلماتها وحركاتها اختلت فصاحتها وذلك مع كونه موجبا للاشتباه وفوات المقصود نقص علينا وعليكم.

* الأصل:

14 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام ابن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث

ص: 222


1- 2 - والذي يختلج بالبال أن ما ذكره في معنى الحديث وحمله الإعراب على مصطلح النحو بعيد جدا وتعسف بل الأظهر أن المراد من الاعراب معناه اللغوي وهو الافصاح والبيان، فمعنى الحديث أنا قوم فصحاء لا نتكلم بألفاظ مشتبهة وعبارات قاصرة الدلالة فإذا نقلتم حديثنا لا تغيروا ألفاظها وعباراتها بألفاظ مبهمة يختل بها فهم المعنى ويشتبه المقصود كما يتفق كثيرا في النقل بالمعنى. (ش)

جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز وجل) تنتج هذه المقدمات على سبيل القياس المفصول النتائج أن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى، وجه الاتحاد ظاهر لمن له عقل سليم وطبع مستقيم; لأن الله عز وجل وضع العلم والأسرار في صدر النبي (صلى الله عليه وآله) ووضعه النبي في صدر علي (عليه السلام)، وهكذا من غير تفاوت واختلاف في الكمية والكيفية ولا استعمال آراء وظنون داعية إلى الاختلاف وعلى هذا ظهر معنى الاتحاد.

وهذا كما إذ أورثك آباؤك جوهرا نفيسا انتقل من واحد بعد واحد إليك، فإذا قلت: جوهري هذا جوهر أبي وجوهر أبي جوهر جدي وهكذا إلى أن تبلغ إلى الأصل فقد كنت صادقا في هذا القول بلا شبهة إلا أن بين هذا وما نحن فيه فرقا، فإن الجوهر انقطع عنه أيدي آبائك بخلاف العلم فإنه انتقل من صدر مطهر إلى صدر مطهر من غير أن يزول عن الأول وينقطع تصرفه فيه، وما في بعض الروايات من نقل أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن جده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) تصريح بما هو في الواقع ومعلوم ضمنا وفائدته إما علو الإسناد أو رفع ما يختلج في قلب السامع أو التنبيه على شدة الاهتمام بمضمون الحديث.

فإن قلت: فعلى هذا يجوز من سمع حديثا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن يرويه عن أبيه، أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى؟ قلت: هذا حكم آخر غير مستفاد من هذا الحديث.

نعم، يستفاد مما ذكر سابقا من رواية أبي بصير ورواية جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) جواز ذلك بل أولويته (1)، والله أعلم.

ص: 223


1- 1 - بل معنى الحديث كما مر أن فتاويهم وأقوالهم متفقة وليس بينهم اختلاف في الرأي كما هو بين فقهاء المخالفين، وهذا مقتضى عصمتهم لا ما يتوهم من ظاهر عبارة الشارح، وقد ذكرنا في حواشي الصفحة 74 من الوافي في شرح الحديث ما يبين المقصود فارجع إليه، وحاصله أن الكذب حرام بالضرورة ولا يصح تجويزه بالأخبار الضعيفة بل لا بد من تأويل ما يخالف الضرورة. (ش)
* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال:

قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا فقال: «حدثوا بها فإنها حق».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة) بفتح الشين المعجمة وضم النون، بينهما ياء ساكنة منقطة تحتها نقطتين، ونقل عن الايضاح محمد بن الحسن بن أبي خالد المعروف بشينر بفتح الشين المعجمة وإسكان الياء المنقطة تحتها نقطتين وضم النون وإسكان الراء المهملة.

وفي فهرست الشيخ في ترجمة سعد بن سعد الأشعري: له كتاب... إلى أن قال: عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن الحسن بن أبي خالد سينولة عنه بالسين المهملة. وقيل: محمد بن الحسن هذا ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام).

(قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم) قال بعض المحققين: الأصوب أن يقرأ «فلم ترو» بفتح الواو المشددة وفتح الراء على صيغة المجهول، أما بضم النون للمتكلم مع الغير أو بضم تاء التأنيث للغائبة من التروية بمعنى الرخصة.

يقال: رويته الحديث تروية أي حملته على روايته، ورخصت له فيها وضمير الجمع في عنهم للمشايخ، والمعنى فلو نرو نحن عن المشايخ، يعني لم تقع الرخصة لنا من قبلهم في رواية كتبهم وما فيها من الأحاديث عنهم أو لم ترو كتبهم وأحاديثها يعني لم تقع الرخصة لنا من قبلهم في روايتها، وضبطه بعضهم بتخفيف الواو المفتوحة وسكون الراء وضم التاء، يعني لم ترو كتبهم وأحاديثهم عنهم ولم تبلغ روايتها إلينا سماعا أو قراءة أو إجازة أو مناولة أو غير ذلك من طرق تحمل الحديث وضبطه بعضهم «فلو نرو» بفتح النون وسكون الراء وكسر الواو المخففة على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير.

وقيل: هذا تصحيف، وفي بعض النسخ: فلم يرووا عنهم يعني فلم يرووا المشايخ أحاديث كتبهم من الأئمة (عليهم السلام) ولم ينشروها بين الناس، فضمير الجمع في الفعل للمشايخ، وفي عنهم للأئمة (عليهم السلام).

ص: 224

(فلما ماتوا صارت الكتب إلينا) ونحن نعلم أنها كتبهم بالقرائن المفيدة للعلم أو بقول الثقات.

(فقال: حدثوا بها) عنهم عن شيوخهم إلى المعصوم أو قولوا: روى فلان في كتابه كذا، أو قال فيه كذا.

(فإنها حق) ثابت وما كتبوا فيها من الأحاديث معتبر منقول عنهم (عليهم السلام)، وفيه دلالة على جواز الأخذ من الكتاب وإن لم يأذن صاحبه الأخذ منه وجواز الاعتماد على الكتابة وحمله على خصوص التقية لعلمه (عليه السلام) بحقيقة تلك الكتب كما يشعر به ظاهر التعليل محتمل، وعلى تقدير العموم جاز العمل بالكتب المشهورة عن المحمدين الثلاثة رضوان الله عليهم (1)، وإن لم يتصل سلسلة السماع من الشيوخ بهم.

ص: 225

ص: 226

باب التقليد

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، فقال: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الله بن يحيى) الظاهر أنه الكاهلي، وكان وجيها عند أبي الحسن (عليه السلام).

(عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)) الأحبار علماء اليهود، جمع الحبر بالكسر أوالحبر بالفتح، وهو العالم، والأول أشهر وأفصح، والثاني رجحه أبو عبيد، قال: والذي عندي أنه الحبر بالفتح، ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه، والرهبان عباد النصارى جمع الراهب، وهو العابد، والترهب التعبد.

(فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم) يعني لم يأمروهم بفعل الصوم والصلاة والسجود وسائر العبادات لهم قصدا للتقرب منهم.

(ولو دعوهم ما أجابوهم) لعلمهم بأنهم لا يستحقون العبادة، وإنما المستحق لها هو الله تعالى.

(ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا) إما خطأ لاعتمادهم في الأحكام الشرعية على آرائهم الفاسدة، أو عمدا لاحترازهم عن نسبة الجهل إليهم، أو لميلهم إلى الدنيا ومنافعها فجعلوا ذلك وسيلة للوصول إليها أو لغير ذلك من الأغراض الفاسدة.

(فعبدوهم) بعباداتهم المستندة إلى أقوالهم وآرائهم أو بالانقياد لهم والرجوع إليهم وقبول آرائهم وأقوالهم.

(من حيث لا يشعرون) أن تلك العبادة أو ذلك الانقياد عبادة لهم في الحقيقة، أما كون عبادتهم عبادة لهم في الحقيقة فلأن مقصودهم عبادة واضع تلك الأحكام والآمر بها وتوهموا بالتقليد وعدم التفكر في أمر

ص: 227

الدين أن واضعها والآمر بها هو الله تعالى، والحال أنها غيره وهم الأحبار والرهبان، فرجعت عبادتهم إلى ذلك الغير وهم لا يشعرون.

وأما كون الانقياد لهم وقبول أوامرهم ونواهيهم عبادة لهم فلأن من أصغى إلى ناطق يؤدي من غير الله وتبعه على ذلك ورضي به فقد عبده، ومن ثم جعل الله تعالى متابعة الشيطان فيما يوسوس به عبادة له فقال: (بل كانوا يعبدون الجن)، وقال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين).

وقال خليل الرحمن: (يا أبت لا تعبد الشيطان) وفيه ذم وتقريع لمن اتبع من لم يحكم بما أنزل الله وقلد من لم يكن مؤيدا بنور إلهي وموفقا بإلهام رباني فانظر رحمك الله هل يدخل فيه المجتهد المخطىء ومن قلده أم لا؟ ومن ذهب إلى الثاني لا بد له من الإتيان بنص يوجب إخراجهما عن هذا الحكم (1)، والله هو المستعان.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمد الهمداني، عن محمد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): «يا محمد، أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟» قال: قلت: قلدنا وقلدوا، فقال:

«لم أسألك عن هذا»،

ص: 228


1- 1 - التقليد في اصطلاحنا غيره في اصطلاح الروايات لأنهم (عليهم السلام) أطلقوا اسم التقليد على اتباع قول المعصوم أيضا مع أن قول المعصوم يوجب العلم، ولا يسمى عندنا تقليدا، وأما جواز تقليد المجتهدين فضروري لا يحتاج إلى دليل; إذ لا بد أن يرجع الجاهل في كل شيء إلى العالم به ويقبل قوله وإلا لاختل نظام العالم وأجمع أهل الإسلام بل الملل عليه. فإن قيل: أنكر الإخباريون جواز التقليد وإنكارهم قادح في الإجماع. قلنا: إنهم لا يقدرون على التعبير عن عقائدهم ولا عن عمل أنفسهم، والعبرة في مثل هؤلاء بعملهم لا بقولهم; إذ لا يعلمون ما يقولون وإنا إذا رجعنا إلى عملهم وجدناهم يسأل جاهلهم عالمهم فيعملون به، وأما معذورية المجتهد إذا أخطأ مع عدم تقصيره فضرورية أيضا; إذ ما من مجتهد إلا وقد أخطأ في مسألة أو مسائل لعدم كونه معصوما عن السهو والخطأ إجماعا، وتكليف الإنسان غير المعصوم بأن لا يخطأ ولا يسهو تكليف بما لا يطاق. فإن قيل: لو اقتصر المجتهد على الخبر لم يخطئ وإنما جاء الخطأ من قبل تمسكهم بالأدلة العقلية فهم غير معذورين. قلنا: رأينا الإخباريين أيضا اختلفوا في مسائل ولا بد أن يكون بعضهم مخطئين مع عدم تمسكهم إلا بالخبر وذلك لاختلاف أنظارهم في مفاد بعض الروايات وترجيح بعضها على بعض، فبعضهم قائل بتحريف القرآن وبعضهم كصاحب الوسائل منكر له، وبعضهم قائل بوجوب صلاة الجمعة عينا وبعضهم ينكره، وهكذا. والبحراني قائل بنجاسة المخالفين وغيره قائل بطهارتهم، والعجب أن الشارح جار معهم على طريقتهم. (ش)

فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول، فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته وقلدوه وأنتم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه، فهم أشد منكم تقليدا».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمد الهمداني) وكيل الناحية، ثقة على ما رواه الكشي.

(عن محمد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): يا محمد، أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟) التقليد اتباع الغير في القول والفعل والأمر والنهي من القلادة، وهي التي في العنق، والإرجاء التأخير، ويطلق المرجئة على فرقة مقابلة للشيعة لأنهم يؤخرون عليا (عليه السلام) عن مرتبته، وعلى فرقة مقابلة للوعيدية وهم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية (1) كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، وقيل:

لتأخيرهم العمل بالسنة، وإطلاق المرجئة على هاتين الفرقتين مما صرح به الشهرستاني في الملل والنحل والمراد هنا الفرقة الاولى، ويمكن إرادة الفرقة الثانية أيضا.

(قال: قلت: قلدنا وقلدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأول) ليس الغرض من السؤال هو الاستعلام لأنه (عليه السلام) أعلم بذلك، بل الغرض منه التقرير والتوبيخ، أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وذمه عليه، ومن كان عارفا بالقوانين العربية يعلم أنه ليس الغرض هنا تقرير أصل الفعل - أعني التقليد - لأنه ثابت محقق مفروغ عنه، فما أجاب به السائل لم يقع السؤال عنه فلذلك قال (عليه السلام): لم أسألك عن هذا، بل الغرض هو السؤال عن أشدية تقليد أحد الفريقين والتقرير عليها.

(فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن المرجئة نصبت رجلا) من عند أنفسهم لإمارتهم وإمامتهم.

(لم تفرض طاعته) بأمر الله تعالى وأمر رسوله بحسب الواقع ولا باعتقادهم أيضا.

(وقلدوه) في جميع أفعاله وأقواله وأوامره ونواهيه المخالفة لحكم الله وحكم رسوله وكتابه.

(وأنتم نصبتم رجلا وفرضتم طاعته) على أنفسكم بأمر الله وأمر رسوله، وهو الجاذب لكم إلى الخيرات.

(ثم لم تقلدوه) فيما يأمركم به وينهاكم عنه موافقا للكتاب والسنة مما يتم به نظامكم في الدنيا والآخرة.

(فهم أشد منكم تقليدا) ولعل السر فيه أن لهم باعثا من الشيطان ولأهل الحق زاجر منه، فلذلك

ص: 229


1- 1 - هذا هو الصحيح المعروف من معنى المرجئة، وأما من أخر عليا (عليه السلام) عن مرتبته فإطلاق المرجئة عليه إطلاق خاص استعمله رجل لمناسبة وقرينة مثل إطلاق صاحب الفصول الفاضل المعاصر على صاحب القوانين وإطلاق الحكيم نصير الدين الطوسي الفاضل الشارح على فخر الدين الرازي لا أن ذلك اصطلاح شائع كما يتوهم من ظاهر عبارة الشارح. (ش)

يتثاقلون في المتابعة، وفيه ترغيب في متابعته (عليه السلام) والرجوع إليه في الأحكام وغيرها مما هو سبب لمزيد الكرامة في دار المقامة وتوبيخ على الإعراض عنه والتثاقل في السماع منه.

* الأصل:

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، فقال: «والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم) أي فاتبعوهم في تحليلهم وتحريمهم وأوامرهم ونواهيهم، وتلقوا بقبولها منهم، وتلك المتابعة عبادة لهم، أو فاتبعوهم في ذلك وعبدوا الله بحكمهم وتلك العبادة في الحقيقة عبادة لهم، وحينئذ قوله: «ما صاموا لهم ولا صلوا لهم» معناه ما فعلوا تلك العبادات ونظائرها لهم قصدا لعبادتهم ولكن اتبعوهم في ما وضعوا من الأحكام من عند أنفسهم وأتوا بالعبادة المستندة إليها، وتلك العبادة عبادة لهم من حيث لا يعلمون، وما تضمنه هذا الحديث ونظيره من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على الحقيقة دون التجوز لأن العبادة ليست إلا الطاعة والانقياد (1)، ولذلك جعل الله تعالى الهوى إلها لمن أطاعه فقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وإذا كان إطاعة الغير عبادة له كان أكثر الناس يعبدون غيره تعالى لأنهم يطيعون النفس الأمارة والقوى الشهوية والغضبية، وهي الأصنام التي هم عليها عاكفون، والأنداد التي هم لها عابدون، وهذا هو الشرك الخفي، فنسأل الله تعالى أن يعصمنا عنه ويطهر نفوسنا منه.

ص: 230


1- 1 - وبناء على ما ذكره الشارح يكون إطاعة الأئمة (عليهم السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله) عبادة لهم مع أن عبادتهم غير جائزة وإطاعتهم واجبة، وكذلك إطاعة الوالدين واجبة وعبادتهما محرمة. فإن قيل: إطاعة الوالدين في الحقيقة إطاعة الله تعالى; لأنه تعالى أمر بإطاعتهما. قلنا: نفرض الكلام فيمن لا يعترف بحكم الله تعالى، بل نفرض الكلام في إطاعة الظالمين، فإنا لا نحكم بأن من أطاعهم مشرك، فالحق أن العبادة شيء غير الإطاعة والانقياد، والآية الكريمة والحديث وردا على المبالغة في الذم مثل قوله (عليه السلام): «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه»; إذ ليس المراد أن المؤذي كافر، والعبادة هي الخضوع عند من يعتقد تأثيره في الخلق والرزق وأمثال ذلك. (ش)

باب البدع والرأي والقياس

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال جميعا، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: «أيها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالا، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى».

* الشرح:

(الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال جميعا، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: أيها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة أخيرا بمعنى الأول، يقال: ضربته بدءا، أي أولا، وبمعنى الابتداء يقال: بدأت بالشيء بدءا، أي ابتدأت به ابتداء، وبمعنى الإنشاء يقال: بدأت الشيء بدءا أي أنشأته إنشاء، ومنه بدأ الله الخلق أي أنشأهم، وضبطه بعض الأصحاب بضم الباء وضم الدال وشد الواو بمعنى الظهور مصدر بدا يبدو، إذا ظهر، والفتنة والامتحان والاختبار تقول:

فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته، وقد كثر استعمالها فيما يقع به الاختبار كما في قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والاحراق والإزالة والصرف عن الشيء، كذا في النهاية.

والأهواء جمع الهوى بالقصر مصدر هويه بالكسر، إذا أحبه واشتهاه، ثم سمي به المهوي المشتهى، ممدوحا كان أو مذموما، ثم غلب على المذموم، والبدعة اسم من ابتدع الأمر إذا ابتدأه وأحدثه كالرفعة من الارتفاع والخلفة من الاختلاف، ثم غلبت على ما هو زيادة في الدين أو نقصان فيه.

ص: 231

(يخالف فيها كتاب الله) أي يخالف في متابعة تلك الأهواء المذمومة والأحكام المبتدعة أو بسببها كتاب الله، وذلك لأن المقصود من بعثة الرسل ووضع الشرائع وإنزال الكتب إنما هو نظام الخلق في أمر معاشهم ومعادهم وهدايتهم إلى صراط الحق، فكان كل رأي مبتدع أو هوى متبع خارجا عن كتاب الله وسنة رسوله وسببا لوقوع الفتنة والضلالة في الخلق وتبدد نظام وجودهم في هذا العالم وفي عالم الآخرة وذلك كأهواء البغاة وآراء الخوارج والغلاة وأضرابهم.

(يتولى فيها رجال رجالا) أي يتخذ طائفة من المائلين إلى تلك الأهواء والأحكام طائفة اخرى منهم أولياء ونواصر في تربيتها وتقوية تلك الأحكام التي ابتدعها ضال في الشريعة على خلاف الكتاب والسنة، ثم أشار إلى أن أسباب تلك الأهواء الفاسدة امتزاج المقدمات الحقة بالمقدمات الباطلة وأن مدارها عليه، وبين أن السبب هو ذلك الامتزاج بشرطيتين متصلتين إحداهما قوله:

(فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى) الحجى بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم والقصر العقل أي فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق وتخليطه لم يخف الباطل على ذي عقل طالب للحق والتميز بينه وبين الباطل، كما لا يخفى التميز بين الرصاص الصرف والفضة الخالصة على أهل البصائر.

أما وجه الملازمة فهو ظاهر، فإن مقدمات الشبهة إذا كانت كلها باطلة لا يشوبها شيء من الحق أدرك العاقل الطالب للحق وجه فسادها بأدنى تأمل، ولم يخف عليه وجه بطلانها، ومن ثم قال المحقق الطوسي (رحمه الله): قد علم بالاستقراء أن مذاهب أهل الباطل كلها نشأت من مذاهب أهل الحق; إذ الباطل الصرف لا أصل له ولا حقيقة ولا يعتقده العاقل إلا إذا اقترن بشبه، وأما استثناء نقيض تاليها فلأنه لما خفي وجه البطلان على طالب الحق لم يكن الباطل خالصا من مزاج الحق فكان ذلك سبب الغلط واتباع الباطل; لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين والشرطية الثانية قوله:

(ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف) أي ولو أن الحق خلص من مزاج الباطل لم يكن اختلاف بين ذوي العقول الطالبين للحق كما لا يقع اختلاف في قبول الفضة الخالصة ورواجها، أما وجه الملازمة فهو ظاهر أيضا; لأن مقدمات الدليل الذي استعمله المبطلون لو كان كلها حقا وكان ترتيبها حقا كان اللازم حقا ينقطع العناد فيه والمخالفة له فلم يقع الاختلاف بينهم. وأما استثناء نقيض تاليها فلأنه لما وقع الاختلاف لم يكن الحق خالصا من مزاج الباطل، ثم أشار إلى ما هو في حكم نتيجة هذين القياسين بقوله:

(ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا) في المغرب: الضغث:

ملء الكف من الشجر أو الحشيش أو الشماريخ، وفي التنزيل: (خذ بيدك ضغثا)، قيل: إنه كان حزمة من الأسل وهو نبات له أغصان دقاق لا ورق لها، وفي الصحاح: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ولفظ

ص: 232

الضغث مستعار ومقصوده التصريح بلزوم الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة لمزج الحق بالباطل وخلط قول الأنبياء بقول الأشقياء ونسج النور بالظلمة، ولذلك قال:

(فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه) استحوذ جاء على الأصل من غير إعلال وخرج عن حكم أخواته نحو استقال واستقام، أي ففي مقام اشتباه الحق بالباطل غلب الشيطان على أحبائه واستولى على أوليائه المستعدين لقبول وساوسه والقابلين لاتباع هواجسه بسبب تزيينه لهم الأهواء والأحكام الخارجة عن الكتاب والسنة، وإغوائه إياهم عن تميز الحق من الباطل فيما سلكوه من الشبهة اولئك سيجدون قبائح أعمالهم وعقائدهم وهم عليها واردون واولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

وأما العارفون بالله بعين الحقيقة والسالكون إليه بنور البصيرة، وهم التابعون للأئمة (عليهم السلام)، والراجعون إليهم في حل الشبهات فلا سبيل له عليهم كما أشار إليه بقوله:

(ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى) في مشيته وقضائه الأزلي وهم الذين أخذت العنايات الإلهية بأيديهم في ظلمة الشبهات وقادتهم التوفيقات الربانية إلى الأئمة الهداة للاستعلام عن حل المشكلات فاهتدوا بنور هدايتهم إلى تميز الحق من الباطل وتفريق الصحيح من السقيم اولئك هم عن النار مبعدون واولئك هم في الجنة خالدون، واعلم أن قصده (عليه السلام) من هذه الخطبة هو الشكاية عن الخلق بتركهم الإمام الهادي الفارق بين الحق والباطل بحيث لا يقع الاشتباه بينهما كما لا يقع الاشتباه بين ضوء النهار وظلمة الليل وتمسكهم بعقولهم الناقصة وآرائهم الفاسدة فصار ذلك سببا لانحرافهم عن القوانين الشرعية لسوء فهمهم وعدم وقوفهم على مقاصدها وضموا إليها متخيلات أوهامهم ومخترعات أفهامهم وحملوها على غير وجوهها كالمجسمة حين سمعوا مثل قوله تعالى:

(الرحمن على العرش استوى) حملوه على أنه تعالى جسم كالأجسام، وكالغلاة حين رأوا منه (عليه السلام) ما يدل على كرامته وولايته ضموا إليه شبهات نفوسهم واعتقدوا أنه رب، وكأهل النهروان حين رأوا ما وقع من التحكيم ضموا إليه مفتريات أذهانهم وظنوا أنه كاذب في دعوى الإمامة واستحقاق الخلافة وكذلك غير هؤلاء من أصحاب الملل الفاسدة، فصاروا بتلك العقائد من أولياء الشيطان وأعوانه في إضلال الناس ولو كانوا يرجعون إليه (عليه السلام) لخلصهم من تلك الشبهات ونجاهم من هذه الهلكات، والله ولي التوفيق، وإليه هداية الطريق.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله».

ص: 233

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي (1) يرفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهرت البدع في امتي) سواء كانت البدع متعلقة بالعقائد كتجسيم الواجب وتصويره كما ذهب إليه المصورة والمجسمة وكالقول بحشر الأرواح دون الأجساد كما ذهب إليه طائفة من المبتدعة أو متعلقة بزيادة الأعمال ونقصانها كإثبات صلاة الضحى وتحريم المتعة كما ذهب إليه طائفة من الفرق الضالة والمضلة أو متعلقة بغيرها من الامور المنافية لما ثبت في الشريعة.

والمراد بالامة الامة المجيبة إما كلهم كما هو الظاهر، أو الأعم من الكل، والبعض على احتمال:

(فليظهر العالم علمه) مع الإمكان وعدم الخوف والتقية; لأن الله تعالى شرفه بفضيلة العلم وكرمه بشرف الرئاسة وجعله ناصرا لدينه وحاكما على عباده، فوجب عليه أن يحفظ قوانين الدين من الزيادة والنقصان، وأن ينظر إلى أحوال المكلفين ويحملهم على الاعتدال إن تجاوزوا عن حده، وحاله كحال الطبيب المشفق في حفظ صحة الأبدان ودفع الأمراض الموجبة لزوالها وفساد مزاج الأعضاء.

(فمن لم يفعل فعليه لعنة الله) اللعن الطرد والإبعاد من الخير واللعنة اسم منه، وفيه تحذير عظيم للعالم المعرض عن إجراء حكم الله تعالى وإصلاح حال الخلق بقدر الإمكان فكيف إذا أعرض عن إصلاح حال نفسه؟ ولا يبعد إدراج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقا فيه.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: «من أتى ذا بدعة فعظمه فإنما يسعى في هدم الإسلام».

ص: 234


1- 1 - قالوا: إن محمد بن جمهور ضعيف الحديث، فاسد المذهب، لا يكتب حديثه. وقال ابن الغضائري: رأيت له شعرا يحلل فيه ما حرم الله، ومع ذلك روى الحديث مرسلا. والاعتماد كما قلنا مرارا في أمثاله على صحة المتن، فإنه موافق للقرآن ووجوب الإظهار على العالم يدل على وجوب القبول من الناس، فإن كانت البدعة مما يتعلق بالعقائد والاصول وجب على العالم إظهاره بالبراهين وتعليم الناس، وواجب عليهم الاستماع والتدبر حتى يفهموا دليله وقوله، وإن كانت مما يتعلق بالفروع وجب عليهم القبول بالتقليد. فإن قيل: هل يشمل ذلك العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر؟ قلنا: الفروع غالبا ظنية، فإذا أخطأ المجتهد في فتواه لا يصدق عليه البدعة، وإذا خالفه المجتهد الآخر حصل له الظن بخطأ المجتهد الأول دون العلم، وظنهما بالنسبة إلى الواقع متساويان فلا يجوز العدول من تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر إذا أفتى بخطأ المجتهد الأول. نعم إذا علم المقلد بطلان الأول يقينا وهو فرض غير واقع وجب العدول عنه، ولا يكفي في ذلك علم المجتهد الثاني بخطأ الأول يقينا; لأن علم المجتهد بالنسبة إلى العامي ظن. (ش)
* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: من أتى ذا بدعة) الظاهر أن القائل رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(فعظمه) بسبب بدعته أو غيرها من غير خوف وتقية.

(فإنما يسعى في هدم الإسلام) لأن صاحب البدعة في العقائد والأعمال مشغول بهدم بناء الإسلام، فمن أتاه وعظمه فقد أحبه ونصره وأعانه على عمله، فهو أيضا يسعى في هدمه ويشركه فيه، ولهذه العلة قال الله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، وفيه استعارة مكنية وتخييلية.

* الأصل:

4 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة»، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: «إنه قد اشرب قلبه حبها».

* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أبي الله لصاحب البدعة بالتوبة) أي امتنع أن يأتي بالتوبة ولا يوفقه للندامة والرجوع عن بدعته.

(قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟) مع أن باب التوبة واسع مفتوح.

(قال: إنه قد اشرب قلبه حبها (1)) ضمير إنه إما للشأن أو لصاحب البدعة، واشرب على البناء للمفعول، وقلبه قائم مقام الفاعل، وحبها بالنصب على المفعول يقال: اشرب الثوب صبغا إذا شربه قليلا قليلا حتى خالطه ودخل في أعماقه جميعا واستقر فيها كما يدخل الشراب أعماق البدن، ومنه قوله تعالى: (واشربوا في قلوبهم العجل) أي حب العجل وعبادته، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، والمقصود أنه لما دخل حب البدعة في أعماق قلبه وتداخل شراب محبتها في جميع أجزائه صار قلبه مريضا بأمراض مهلكة بل ميتا لا يدرك قبح عمله وفساده فلا يندم عنه أبدا، فلا رجاء لحياته بروح التوبة والندامة ولذلك لا يرجع إلى الحق من أصحاب الملل الفاسدة والجهل المركب إلا قليل ممن أخذ بيده التوفيق وهداه إلى سواء الطريق، وأما من كان قلبه صحيحا في باب العقائد ووقع في معصية في باب الأعمال والأفعال لطغيان النفس والقوة الشهوية والغضبية مع العلم والاعتقاد بأنها معصية فكثيرا ما يستولي عليه سلطان القلب الصحيح

ص: 235


1- 1 - ظاهر كلام الشارح أن هذا لا يتوب لا أنه يتوب ولا يقبل توبته وإن أظهر كلاما يدل على رجوعه إلى الله والتوبة من عمله فهو كلام يلهج به من غير قصد معناه، ولا يعبأ به والعمدة قصد التوبة دون النطق باللفظ والتوبة تطهير القلب عن دنس السيئات ولا تحصل باللفظ مع ممازجة حب البدعة قلبه. (ش)

ويزجره عن القبائح فيتوب إلى الله تعالى ويرجع عن الأعمال القبيحة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا به يذب عنه، ينطق بإلهام من الله ويعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين يعبر عن الضعفاء فاعتبروا يا اولي الأبصار وتوكلوا على الله».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن كل بدعة) أي زيادة أو نقصان في الدين.

(تكون من بعدي يكاد بها الإيمان) أن يمكر ويخدع أو يحارب بها الإيمان وأهله لكسره وإطفاء نوره، والجملتان وصف للبدعة، أو الثانية حال عن المستكن العائد إليها.

(وليا) أي ناصرا للإيمان.

(من أهل بيتي) هذا اسم إن قدم عليه خبره للظرفية.

(موكلا به) أي بالإيمان بأمر الله لحفظه ونصرته، وهذا صفة بعد صفة لقوله وليا.

(يذب عنه) أي يدفع عن الإيمان شبه المارقين ويدفع عنه مكر الماكرين، وهذا حال عن المستتر في قوله «موكلا».

(ينطق بإلهام من الله) لاستعداد نفسه القدسية بالتوفيق الإلهي وطول صحبة المعلم الرباني وتعلم القوانين الشرعية كلها وكيفية انشعابها وتفصيلها وحقائق أسبابها منه لأن تنتقش فيها الصور الجزئية المتعلقة بكل شخص وكل قضية وكل مادة من مفيض الخيرات، ويحتمل أن يراد بالإلهام إلقاء علم مستحدث في قلبه اللطيف (1) لأنه (عليه السلام) محدث كما سيجئ، وهذه الجملة حال المستكن في يذب، ويحتمل أن

ص: 236


1- 1 - الفرق بين الاحتمالين: أن الأول حاصل بالأسباب كحصول النتيجة من تركيب المقدمات، والثاني حاصل من غير حصول أسباب ظاهرية، والحق عدم تصور محصل لهذا الكلام; إذ لا يوجد شيء بغير سبب واستعداد، سواء في ذلك العلم وغيره، فأما أن يكون بأسباب ظاهرية كالتعلم من معلم وقراءة كتب وقوة حدس وكسب صناعة التحليل حتى يرجع الفروع إلى الاصول والجزئيات إلى الكليات، وهذا لا يليق بشأن الأئمة (عليهم السلام) وأما أن يكون بأسباب غير ظاهرية كالقوة القدسية وإلقاء العلم من المبدأ والملائكة من غير تعليم من بشر فهذا هو اللائق بهم ولا يحتمل غيره في حقهم، ولا وجه لإبداع الاحتمالين من الشارح. (ش)

يكون حالا عن المستكن في قوله: «موكلا» موافقا للسابق، والأول أظهر لفظا وأقرب معنى.

(ويعلن الحق) أي يظهره بين الخلائق بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة بحيث تنقطع عنه ألسنة الجاحدين وهذا إن كان حالا عن المستكن في ينطق فأمر الواو ظاهر وإن كان حالا عن المستكن في يذب أو موكلا فالوجه لترك الواو في السابق وإتيانها هنا أن السابق لقربه من ذي الحال لا يحتاج إلى زيادة رابطة بخلاف هذا أو أنها للعطف على الحال السابق.

(وينوره) بأنوار العلوم الدينية التي تبتني عليها العقائد الصحيحة والأعمال الفاضلة الدنيوية والدينية وما يتم به نظام الخلق من قوانين السياسات المنزلية والمدنية بحيث ينظر إليه كل من له بصيرة سليمة من الجهالات، ويشاهده كل من له عين صحيحة من الآفات.

(ويرد كيد الكائدين) أي يرد مكرهم عن أن يتطرق إلى ساحته بسيف اللسان، ويجيب عن شبهتهم بأبلغ الكلام وأفصح البيان.

(يعبر عن الضعفاء) أي يتكلم عن جانب الضعفاء العاجزين عن دفع المكائد والشبهات، ويدفعها عنهم لطلاقة لسانه وفصاحة بيانه وكثرة علومه وإضاءة برهانه، تقول: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه، وهذه الجملة إما حال عن فاعل «يرد» أو كلام مستأنف للتنبيه على أن ذلك الولي لسان الضعفاء وناصرهم يدفع عنهم ما يعجزون عن دفعه لقصور حالهم وضعف مقالهم وحمل «يعبر» على أنه ابتداء كلام من الصادق (عليه السلام) بمعنى أنه (صلى الله عليه وآله) يعبر بذلك القول عن الضعفاء أي الأئمة الذين ظلموا واستضعفوا في الأرض بعيد جدا.

(فاعتبروا يا اولي الأبصار) من تتمة حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من كلام الصادق (عليه السلام) يعني فاعتبروا فيما ينبغي لكم أن تعتبروه من حال هذا الولي الحافظ لدين الله الداعي لكم إلى ساحة الحق وقرب جلاله وما عنده من النعيم المقيم وحال الكائدين المخربين لدينه الداعين إلى البعد عنه والدخول في عذاب الجحيم ليظهر لكم كمال فضله وعلو قدره وتأخذوا بقوله وتتركوا قولهم، أو المراد فاعتبروا بأحوال الماضين من قبلكم كيف أخذهم الله بغتة وأهلكهم دفعة وعذبهم فجأة لعدم متابعتهم من كان يهديهم إلى دين الحق ليصير ذلك سببا لهدايتكم إلى الحق والأخذ بقول من يهديكم إليه، ولما كانت الهداية الحاصلة من الاعتبار حاصلة بتوفيق الله تعالى وعنايته أمر بالتوكل عليه فقال:

(وتوكلوا على الله) في طلب الدين وتحصيل اليقين ليهديكم إليه وينور قلوبكم من لديه، فإن من توكل على الله في أمر من الامور فهو حسبه وهو ولي التوفيق ومنه هداية الطريق، وفيه دلالة على أن الأرض لا تخلو من ولي عالم وإمام عادل لحفظ الدين وهداية الخلق.

ص: 237

والروايات الدالة عليه من طرقنا وطرق العامة أكثر من أن تحصى، أما من طرقنا فمن نظر في هذا الكتاب وغيره علم أنها متجاوزة عن حد التواتر قطعا، وأما من طرق العامة فقد نقل مسلم في كتابه اثني عشر حديثا كلها صريح الدلالة على هذا المطلب منها ما رواه عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» (1). وهذا نظير ما يجي في هذا الكتاب (2) عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما»، ومنها ما رواه عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: «هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيه اثنا عشر خليفة»، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: قلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: «كلهم من قريش»، وهذا نظير ما يجي في هذا الكتاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من ولدي اثنا عشر نقيبا نجباء محدثون مفهمون آخرهم القائم بالحق يملأها عدلا كما ملئت جورا» (3)، والبواقي نذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

وقد يستدل بهذا الحديث وأمثاله - وهي كثيرة بعضها مذكور في هذا الكتاب، وبعضها في كتاب العلل، وبعضها في كتاب كمال الدين، وبعضها في كتاب الخصال، وبعضها في غير هذه الكتب - على أن إجماع العلماء حجة لكشفه عن دخول المعصوم (4)، وإلا لزم خلاف ما نطق به الرسول (صلى الله عليه وآله) لعدم رد البدعة وعدم

ص: 238


1- 1 - راجع صحيح مسلم ج 7، كتاب الامارة، وهذا الخبر فيه تحت رقم 4.
2- 2 - كتاب الحجة - باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بالإمام.
3- 3 - يأتي في باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (عليهم السلام).
4- 4 - تعبير حسن جدا، ولا استحسن تقسيم من تأخر وتعبيرهم في الإجماع فإنهم يقسمون الإجماع إلى الدخولي واللطفي والحدسي، والحق أنه ليس لنا إجماع إلا الإجماع الدخولي; إذ لا حجية في أقوال العلماء إلا عند العلم بدخول قول المعصوم في أقوالهم وطريق العلم بدخول المعصوم قد يكون قاعدة اللطف، وقد يكون الحدس وليس الدخول قسيما لهما واللطف مفاد هذه الروايات التي ادعى الشارح تواترها معنى، فإنا إذا علمنا اتفاق العلماء على قول ولم يظهر من أحد خلاف دل بمقتضى هذه الروايات أنه حق; إذ لو كان باطلا لا يرضى به المعصوم لوجب عليه بيان ذلك بوجه، ومعنى الحدس: أنا إذا رأينا اتفاق من يعبأ بقوله من الفقهاء على شيء وتحقق لدينا أن من لم نرهم ولم ينقل إلينا أقوالهم لا يخالف قولهم قول من عرفناهم; إذ العادة قاضية بأنه لو كان خلاف لنقل إلينا، فقد علمنا بالإجمال اتفاق من لم نعرفهم أيضا مثل أنا نعلم إجماع النحويين على أن الفاعل مرفوع مع أنا لم نر أكثر من عشرين كتابا في النحو إلا أنا نعلم أنه لو كان مخالف فيمن لم نعرفهم لظهر قوله فيمن نعرفهم ونعلم أن النصارى مجمعون على تعظيم يوم الأحد مع أنا لم نر إلا قليلا منهم لكن نعلم أنه لو كان بينهم مخالف لتبين بين من نعرفهم وأمثال ذلك كثيرة ويذهب أوهام كثير من الناس إلى أن العلم الإجمالي لا يحصل إلا باستقراء الأفراد تفصيلا واستشكلوا على القياس من الشكل الأول البديهي الانتاج بأنه يستلزم الدور مثلا العلم بأن كل متغير حادث متوقف على تتبع كل متغير، ومنه العالم، فالعلم بأن العالم حادث يتوقف على العلم بأن العالم حادث، والجواب أن العلم الإجمالي لا يتوقف على العلم بالتفاصيل، وكذا العلم باتفاق العلماء إجمالا لا يتوقف على معرفتهم تفصيلا والاطلاع على أقوالهم واحدا واحدا، وقد سبقنا إلى بعض ما ذكرنا في الإجماع السيد محمد باقر الطباطبائي من تلامذة الشيخ المحقق الأنصاري (قدس سرهما) في شرحه الموسوم بوسيلة الوسائل. (ش)

إعلان الحق وأنه باطل وأن الإجماع السكوتي حجة لما عرفت، وأن القول الثالث في المسألة بعد استقرار القولين فيها باطل لدخول قول المعصوم في أحدهما وإلا لزم خلاف ما نطق به الحديث النبوي وأن العلماء الظاهرين في كل عصر إذا اتفقوا على أمر فهو إجماع وحجة ولا يقدح في ذلك احتمال وجود عالم في مكمن الخفاء لما مر بعينه وأن انعقاد الإجماع على خلاف ما انعقد عليه إجماع أولا باطل وإلا لزم أن يكون قول المعصوم خطأ وأن الإجماع على العقائد الدينية حق كالإجماع على الفروع الشرعية إلا ما يتوقف العلم به على العلم بوجوب وجود الإمام لئلا يدور.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم [عن أبيه]، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعلي بن إبراهيم، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته، ورجل قمش جهلا في جهال الناس، عان بأغباش الفتنة، قد سماه أشباه الناس عالما، ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر حتى ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء مما أنكر، ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى، فهو مفتاح عشوات، ركاب شبهات، خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء، ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الحلال لا مليء بإصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم

ص: 239

الحق».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم [عن أبيه]، عن هارون بن مسلم) كوفي ثقة، وقال الشيخ: إنه عامي. وفي الفهرست له كتاب.

(عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعلي بن إبراهيم، عن ابن محبوب رفعه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل) البغض المقت، وقيل: هو نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، ضد الحب، وإذا نسب إلى الله سبحانه يراد به لازمه، أعني سلب فيضه وإحسانه وتوفيقه للهداية عنه.

(لرجلين) جامعين بين شيء من الحق والباطل، متمسكين بذيل الشبهات والجهالات لظنهما أنهما من علوم الدين ومعارف اليقين فاشتغل أحدهما بالعبادة (1) والزهادة وإرشاد الناس فضل وأضل، واشتغل الآخر بالحكومة والقضاء، فتبكي منه الأحكام والمواريث، وتصرخ منه الدماء، وإنما كانا من أبغض الناس; لأن شرورها لكونها متعلقة بالدين وتحريف القوانين الشرعية باقية في الأعقاب متعدية إلى الآخرين كما ترى ما حدث بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) من المذاهب الفاسدة كمذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي ومذهب الحنبلي ومذهب المالكي وسائر المذاهب المبتدعة، فإنها باقية إلى الآن وتبقى إلى قيام صاحب الزمان، ولكل واحد منها أتباع كثيرة.

(رجل وكله الله إلى نفسه) أي صرف أمره إليه وخلاه مع نفسه وجعل توكله واعتماده عليها، وذلك لظنه أن نفسه قادرة بالاستقلال على تحصيل المراد والوفاء به بالرأي والمقاييس والمفتريات التي لا أصل لها، والروايات التي لم تؤخذ من مأخذها من غير اتباع أهل الحق والرجوع إليهم والأخذ منهم، فلا جرم أفاض الله تعالى عليه صورة الاعتماد على نفسه والوكول إليها والاتكال عليها فيما يريده من امور الدين، وهذا هو المراد من قوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد).

وأما من اعترف بعجزه وفوض أمره إلى الله وأقر بالتقديم لأهل الحق والرجوع إليهم فقدا نقطع إلى الله

ص: 240


1- 1 - والناس يرون العبادة والزهادة الظاهرية، أعني علائمهما، فينقادون للمتظاهرين، ولا يرون العلم والتقوى بأبصارهم ولذلك يتشبث الدجالون الطالبون لحطام الدنيا بالتظاهر بالورع، فإذا انقاد لهم الناس تدخلوا في الدين فيما لا يجوز إلا للعلماء وجاء الضلال من هذه الجهة إذ الجاهل يفسد الدين من حيث لا يشعر. وطائفة اخرى تتشبث بحيلة اخرى حتى ينقاد لهم الناس لاحتياجهم لا لرغبتهم كالطائفة الاولى وهم المتصدون للحكومة والقضاء. (ش)

وتوكل عليه فكفاه الله مؤونة الدنيا والدين وهو حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه.

(فهو جائر عن قصد السبيل) أي فهو مائل عن سبيل الحق والصراط المستقيم; إذ هو في الإفراط من فضيلة العدل وهذا نتيجة للسابق لأنه لازم للوكول من الأدعية: «رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير»، وسر ذلك أن النفس داعية إلى الزور ومائلة إلى الشرور، فإذا سلبت عنها أسباب التوفيق والهداية تاهت في طريق الضلالة والغواية.

(مشغوف بكلام بدعة) بالغين المعجمة، إذا بلغ حب هذا الكلام إلى شغاف قلبه، وهو الغلافة أعني الجلدة التي دون الحجاب.

وقيل: دخل تحت الشغاف، وقيل: شق شغافة قلبه ودخله حتى وصل إلى فؤاده، وبالعين المهملة إذا بلغ حبه إلى شعفة قلبه، أعنى معلق النياط وهو عرق علق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، ويقال أيضا: شعفه الحب فهو مشعوف به إذا اشتد وغشى قلبه حتى أحرقه وقرئ بالوجهين، قوله تعالى: (قد شغفها حبا)، والمقصود أن ذلك الرجل مسرور معجب بما يخطر له ويبتدعه من الكلام الذي لا أصل له في الدين ويدعو به الناس إلى الجور عن القصد، وهذا الوصف لازم له عما قبله فإن من جار عن قصد السبيل بجهله فهو يعتقد أنه على سواء السبيل فكان ما يتخيله من الكمال الذي هو نقصان في الحقيقة مستلزما لمحبته قول الباطل وابتداع المحال ودعاء الناس إليه.

(قد لهج بالصوم والصلاة) لهج من باب علم أي تكلم بهما، وأولع بالتكلم والعمل بهما وواظب بهما من غير أن يكون له علم بحقيقتهما وحدودهما وشرائطهما وكذلك حاله في سائر الأحكام والأعمال وإنما يفعل ذلك ليقال: إنه عالم زاهد أو لأنه لما لم يكن لسعيه أثر من الثواب لا زاجر له عنه من الشيطان وهذا لازم لما قبله لأن إعجابه بالكلام المبتدع وحبه له بعثه على اللهج بهذه الأحكام من غير علم.

(فهو فتنة لمن افتتن به) أي فهو مضل لمن اقتدى به لإخراجه عن قصد السبيل، وهذا لازم لما قبله; لأن محبة قول الباطل والتكلم به واللهج بالصوم والصلاة من غير علم سبب لكونه فتنة لمن تبعه; لأنه بذلك يسود قلب السامع ويصيره كالأعمى المنقاد لدعوته والمنساق تحت رايته.

(ضال عن هدي من كان قبله) الظاهر أن الهدى هذا بفتح الهاء أو كسرها وسكون الدال بمعنى السيرة والطريقة أي ضال عن سيرة أئمة الدين وطريقة أصحاب اليقين الذين أخذوا المعارف الحقيقية والعلوم الدينية بإلهام إلهي وطريق نبوي وذلك لاغتراره بنفسه وإعجابه بجهالته واستغنائه بما اخترعه فهمه وما ابتدعه وهمه عن الرجوع إليهم والعكوف عليهم فلذلك ضل عن سيرتهم وبعد عن طريقتهم ويحتمل أن يكون بضم الهاء وفتح الدال.

ص: 241

وهذا الوصف قريب من الوصف الثاني، فإن الضال عن الهدى جائر عن قصد السبيل إلا أن هاهنا زيادة إذ الجائر عن القصد قد يجوز ويضل حيث لا هدى يتبعه والموصوف هنا جائر وضال مع وجود هدى قبله وهو مأمور باتباعه، أعني طريقة النبي والأئمة (عليهم السلام) أو كتاب الله وسنة رسوله والأعلام الحاملين لدينه وذلك أبلغ في لائمته وآكد في وجوب عقوبته.

(مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته) من المستعدين للضلالة المتصفين بالسفاهة والجهالة، وهذا الوصف مسبب عما قبله; إذ ضلال الإنسان في نفسه سبب لإضلال غيره ممن اتبعه، وقريب من الخامس فإن كونه فتنة لمن افتتن به هو كونه مضلا لمن اقتدى به كما أشرنا إليه إلا أن هاهنا زيادة، وهو التصريح بكون ذلك الاضلال في حياته وبعد موته لبقاء البدعة والعقائد الفاسدة الناشئة منه فهي سبب لضلال المستعدين للجور بعده.

(حمال خطايا غيره) جاء بصيغة المبالغة والتكثير للدلالة على أنه كثيرا ما يحمل خطايا غيره لكثرة التابعين له، وهذا الحمل وإن كان حاصلا في الدنيا أيضا إلا أن ظهوره وانكشافه في الآخرة لأن فيها تحد البصائر وتبدو السرائر وهذا الوصف مسبب عما قبله، فإن حمله أوزار من يضله إنما هو لسبب إضلاله وإليه أشار سبحانه بقوله: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم)، وأشار الباقر (عليه السلام) بقوله: «من علم باب ضلالة كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا» (1).

وفي هذا الخبر دلالة على أنه (عليه السلام) لم يرد أن الله تعالى يوصل العذاب الذي يستحقه الأتباع إلى المتبوع بل أراد أن الرئيس المضل عليه مثل أوزار التابعين; لأن الحجب الطارئة على قلوب التابعين مستندة إلى حجابه فلا جرم يكون وزره في قوة أوزارهم التي حصلت بسبب إضلاله وإذا فهمت ذلك في جانب السيئات فافهم مثله في جانب الحسنات وهو أن الرئيس الهادي إلى دين الحق له مثل أنوار التابعين له وحسناتهم التي حصلت بسبب هدايته فيكون من الأجر والثواب مثل ما للتابعين له إلى يوم القيامة من غير أن ينقص شيء من اجورهم.

(رهن بخطيئته) الرهن المرهون وهو معروف، وفي المغرب: هو رهن بكذا ورهين أي مأخوذ به، والمقصود أن خروج قوته الفكرية عن حد الاعتدال وميل قوته الشهوية والغضبية إلى الضلال جعلاه رهينا عند الشيطان باستقراض الخطيئات واستجلاب التبعات فهو مأخوذ بهذا ممنوع من الرجوع إلى المالك الحق والعود إلى حضرة القدس، وهذا لازم لما قبله بل للأوصاف المذكورة كلها.

ص: 242


1- 1 - تقدم في باب ثواب العالم والمتعلم.

وقد ذكر لهذا الرجل الذي أراد إصلاح الناس واعتمد فيه على رأيه تسعة أوصاف بها يميز عن غيره على نظم عجيب وترتيب قريب كل سابق منها سبب للاحق.

(ورجل قمش جهلا) قمش فعل ماض من القمش بالتسكين، وهو جمع الشيء من هاهنا ومن هاهنا، وكذلك التقميش، وذلك الشيء المجموع قماش وقماش البيت متاعه المجتمع من كل نوع يعني أنه جمع جهالات من أفواه الرجال الذين ليس لهم حظ في العلوم أو مما اخترعه وهمه بالرأي والقياس واستعار لفظ الجمع المحسوس للجمع المعقول لقصد الايضاح.

(في جهال الناس) الظاهر أنه صفة لجهلا أي جهلا كائنا في جهال الناس، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل قمش، أي حال كون ذلك الرجل واقعا في جهال الناس كائنا في مرتبتهم غير متجاوز عنها إلى مرتبة العلماء، أو حال كونه مطرحا وضيعا فيهم. ويؤيده ما في نهج البلاغة من قوله (عليه السلام):

«ورجل قمش جهلا موضعا في جهال الامة».

قال بعض الشارحين: موضع بفتح الضاد المطرح، يعني أنه مطرح فيهم ليس من أشراف الناس ثم قال: ويفهم من هذا الكلام أنه خرج في حق شخص معين وإن عمه وغيره.

(عان بأغباش الفتنة) عان بالعين المهملة اسم فاعل من عنى فيهم فلان أسيرا، أي أقام فيهم على إسارة واحتبس، وعناه غيره يعنيه حبسه. والعاني الأسير، وقوم عناة ونسوة عوان، والأغباش بالغين المعجمة جمع الغبش بالتحريك، وهو البقية من الليل، وقيل ظلمة الليل، وقيل: ظلمة آخره، يعني أنه أسير في ظلمات الفتنة والضلالة والخصومات، وقيل: من عني بالكسر بمعنى تعب ونصب، وقيل: من عنى به فهو عان أي اهتم به واشتغل، يعني أنه متهم مشتغل بالظلمة والفتنة، وضبطه بعضهم بالغين المعجمة من غني بالمكان يغنى مثل رضي يرضى أقام به، أو من غني بالكسر أيضا بمعنى عاش، وفي أكثر نسخ نهج البلاغة غار بالغين المعجمة وتشديد الراء، وفي بعضها عاد بالعين المهملة والدال المهملة المكسورة المنونة. والغرة بكسر الغين المهملة الغفلة والغار الغافل والعادي الساعي، والكل متقاربة في المقصود. وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية.

(قد سماه أشباه الناس عالما) والمراد بأشباه الناس أصحاب الجهالة وأرباب الضلالة وهم الذين يشبهون الناس بالصورة الظاهرة الحسية التي يقع بها التمايز عن سائر الصور البهيمية دون الصور الباطنة الظاهرة الحسية التي يقع بها التمايز عن سائر الصور البهيمية دون الصور الباطنة العقلية التي يقع بها التشابه بالصور الملكية وهي تحلي النفس بصور العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية والأخلاق والأعمال المرضية وهؤلاء الأشباه لفقد بصائرهم وظلمة ضمائرهم وبعدهم عن التفكر في الامور وإدراك حقائقها وعواقبها ينخدعون

ص: 243

بتمويه ذلك الرجل وتلبسه بزي العلماء ويعتقدون أنه عالم، وأما الناس العالمون الآخذون بزمام ملكات العلوم والمعارف فيعلمون لمباشرة مكالمته ومشاهدة مخادعته أول وهلة أنه بعيد عن رتبة الفضيلة والكمالات، مندرج في سلك سائر الحيوانات بل هو أخس منها لإبطاله استعداد قوته الفكرية لكسب العلوم والفضائل باكتساب الملكات الردية والرذائل، وإنما عد هذه التسمية من الصفات الذميمة له مع أنها من فعل أشباه الناس لأنه سبب لهذه التسمية بتشبيه نفسه بالعلماء وظهوره بصورتهم وتكلمه بكلامهم من غير علم فصار فتنة لنفسه ولغيره.

(ولم يغن فيه يوما سالما) لم يغن بفتح الياء والنون وسكون الغين المعجمة، أي لم يعش أو لم يقم.

وفي النهاية الأثيرية في حديث علي (عليه السلام): «سماه الناس عالما ولم يغن في العلم يوما سالما»، أي لم يلبث في العلم يوما تاما من قولك: غنيت بالمكان إذا أقمت به، انتهى.

أقول: هذا كناية عن بعده من العلم على وجه المبالغة، فإن حصول العلم لأمثاله متوقف على تلبث في التحصيل وطول ملازمة للاستاذ وصرف الفكر فيه ليلا ونهارا، وفي كثير من الأزمان والدهور، فإذا انتفت هذه الامور انتفى العلم فكيف إذا التقى التلبث به يوما تاما؟ (بكر فاستكثر، ما قل منه خير مما كثر) البكرة والبكور الصباح، وبكر وبكر بالتخفيف والتشديد إذا دخل فيه، وكثيرا ما يستعملان في المبادرة والاسراع إلى شيء في أي وقت كان، ومنه بكروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وابتكر الخطبة أي أدرك أولها، وبكر في الصلاة أي صلاها في أول وقتها، و «ما» موصولة أو موصوفة بمعنى شيئا، وما بعدها صفة لها، و «قل» مبتدأ بتقدير أن، و «خير» خبره مثل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، أو صلة لموصول مقدر، أي فاستكثر ما الذي قل، والمعنى أنه أسرع وبادر في كل صباح أو في أول العمر وابتدأ الطلب إلى جمع شيء فاستكثر شيئا قليل منه خير من كثيره.

والمراد بذلك الشيء إما زهرات الدنيا وأسبابها، ويؤيده حصول زيادة الارتباط بما قبله يعني لم يطلب العلم، ولكن طلب أسباب الدنيا التي قليلها خير من كثيرها، هذا إن جمعها على وجه الحلال وإلا فلا خير فيها أصلا.

وأما الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة والشبهات التي أخذها من أفواه الرجال أو بالقياس أو بغير ذلك من طرق الجهالات التي قليلها خير من كثيرها، وباطلها أكثر من حقها، ويؤيده حصول زيادة الارتباط بما بعده. وعلى التقديرين فيه تنبيه على غاية بعده عن الحق والعلم لرسوخ الباطل في طبعه الدني وثبوته في ذهنه الشقي.

(حتى ارتوى من آجن) روي من الماء بالكسر وارتوى امتلأ من شربه، والآجن الماء المتعفن، وفي

ص: 244

المغرب: ماء آجن وأجن إذا تغير طعمه ولونه غير أنه شروب، وقيل: تغيرت رائحته من القدم، وقيل: غشيه الطحلب والورق، وقد شبه آراءه الفاسدة وأفكاره الباطلة وعلومه المغشوشة بظلم الجهالة والشبهات بالماء المتعفن في عدم خلوصه وصفائه، أو في عدم النفع والغناء فيه للشارب واستعار لفظ الآجن الموضوع للمشبه به ورشح تلك الاستعارة بذكر الارتواء كما يشبه العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية الخالصة عن الشبهات بالماء الصافي الزلال.

(واكتنز من غير طائل) الاكتناز من الكنز، يقال: كنز المال كنزا جمعه من باب ضرب، واكتنز الشيء اكتنازا اجتمع وامتلأ، وكل مجتمع مكتنز. وفي بعض النسخ: «أكثر» من الكثرة خلاف القلة، وأما أكنز من باب الأفعال من الكنز بالنون واكتثر من الاكتثار بالثاء المثلثة فلم يثبت مجيئهما في بعض النسخ، ولا في اللغة، ولا بد في الأول من تقدير الفاعل والعائد إلى الموصوف أي اكتنز له الشبهات، والطول النفع والفائدة، يعني اجتمع له كثير من الشبهات والعلوم المغشوشة بالجهالة والتخيلات التي لا أصل لها ولا نفع ولا فائدة فيها.

وقيل: المقصود أنه اجتمع له أسباب الدنيا وأموالها وفي الكلام لف ونشر بأن يكون قوله: «قمش جهلا - إلى قوله: - سالما» إشارة إلى ما له وأسبابه الدنيوية ويكون قوله: «إذا ارتوى من آجن» ناظرا إلى الأول، وقوله: «واكتنز من غير طائل» ناظرا إلى الثاني، انتهى.

وفيه: أن حمله على هذا المعنى لا يناسب الجزاء، والمعطوف على الشرط ينبغي أن يكون مثله في مناسبه للجزاء واقتضائه له.

(جلس بين الناس قاضيا) أي حاكما جزاء للشرط وغاية له.

(ضامنا لتخليص ما التبس على غيره) لوثوقه من نفسه الحائرة في ظلمة الضلالة بفصل ما يعرض الناس من المسائل المشكلة والمطالب المعضلة وذلك الوثوق نشأ من اعتقاده أن المستفاد من آرائه الفاسدة وقياساته الباطلة ورواياته التي ليست بصحيحة علوم كاملة كافية في حل الملتبسات وكشف المشكلات و «ضامنا» صفة لقاضيا أو حال ثان.

(وإن خالف قاضيا سبقه) في حكم من الأحكام نقض حكمه (1) حذف جزاء الشرط لدلالة ما اقيم

ص: 245


1- 1 - فإن قيل: هذه المطاعن ترد على علماء الشيعة أيضا فإنهم مختلفون في الأحكام يرد بعضهم على بعض ويعدل عن رأي إلى غيره. قلنا: إن علماءنا لم يخطؤوا في طريقهم إذ أخذوا عن أهل بيت العصمة فخطؤهم مغتفر إن اشتبه الأمر عليهم في فهم ما سمعوا بخلاف من ترك طريقهم وتمسك برأيه، فإنه غير مغتفر إن أخطأ. (ش)

مقامه عليه، وهو قوله:

(لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله) وفيه تنبيه على أنه لكمال جهله وشدة حرصه بالرئاسة والشهرة بين الناس لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه ولا يعلم أن حكم الله واحد وأن الحاكم ينبغي أن يكون عالما آمنا من نقض حكمه.

(وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به) يعني إن نزلت به إحدى المسائل المبهمة المشكلة الملتبس عليه وجه فصلها وطريق حلها هيأ لها كلاما لا طائل تحته وأعد لها خلقا ضعيفا من رأيه وكذبا مفتريا من قياسه، ثم جزم به كما هو شأن أصحاب الجهل المركب وإنما فعل ذلك ولم يسكت ولم يرجع إلى من هو عالم بها لما فيه من النقص العظيم الذي لا يليق بمنصبه الجليل وشأنه الرفيع.

(فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت) هو راجع إلى ذلك الرجل الموصوف المعتمد في الأحكام والقضاء على عقله الضعيف ورأيه السخيف، و «من» موصولة، ولبس فعل، أو «من» جارة، و «لبس» بالضم مصدر لبست الثوب، أو بالفتح مصدر لبست عليه الأمر أي خلطه، وقوله:

«في مثل غزل العنكبوت» على الأول في محل النصب على أنه من فاعل لبس، وعلى الثاني في محل الرفع على أنه خبر هو، وغزل العنكبوت مثل للامور الواهية الواهنة كما قال سبحانه: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)، ووجه التمثيل هاهنا أن الشبهات التي تقع في ذهن هذا الرجل إذا أراد حل قضية مبهمة تكثر وتختلط بعضها ببعض أو تختلط بغيرها وتتداخل فيلبس عليه وجه الحق منها والتفصي عنها فلا يهتدي إليه لضعف فهمه ونقصان عقله فتلك الشبهات في الوهاء تشبه غزل العنكبوت وذهنه فيها يشبه الذباب الواقع فيه، فكما لا يقدر الذباب على خلاص نفسه من شباك العنكبوت لضعفه كذلك لا يقدر هذا الرجل على خلاص نفسه من شباك الشبهات لضعف ذهنه ونقصان عقله عن إدراك طريق الخلاص منها.

(لا يدري أصاب أم أخطأ) أي لا يدري أصاب فيما حكم به أم أخطأ (1)، وهذا من لوازم الحكم مع عدم

ص: 246


1- 1 - بخلاف المتمسك بأهل البيت (عليهم السلام) فإنه يعلم أنه لم يخطئ إذا درك الواقع وأصاب، وإن لم يصب الواقع أصاب الطريق. فإن قيل: إن مجتهدهم يعتقد الإصابة فكيف قال (عليه السلام): «لا يدري أصاب أو أخطأ»؟. قلنا: إن أكثرهم مخطئة، وليس نسبة التصويب إلى جميعهم كما في كتب المتأخرين صحيحا، ثم إن في الموضوعات الخارجية كالقضاء لا يتصور التصويب مطلقا، ولم يقل به أحد، وكذلك فيما ورد فيه نص قد خفي على بعض الناس وإنما الخلاف بين المصوبة والمخطئة فيما لم يرد به نص من الأحكام الكلية فقال المصوبة: أحالها الله تعالى إلى آراء المجتهدين، وقال: كل ما حكموا به فهو حكمي نظير الوكيل المفوض، وقال المخطئة: ليس لهذا الفرض تحقق بل ورد في كل واقعة حكم ونص عام أو خاص وليس تقرير المذهبين في كتب المتأخرين صحيحا. (ش)

العلم وخواص الافتاء مع الجهل وتوابع الاعتماد على الرأي.

(لا يحسب العلم في شيء مما أنكر) يحسب إما بكسر السين من الحسبان، يعني أن ذلك الرجل يعتقد أن ما حصل له من العلم المغشوش المدلس بالشبهات الذي يكون الجهل خيرا منه بمراتب هو العلم ولا يظن بغاية جهله وجود العلم لأحد في شيء مما جهله لاعتقاده أنه أعلم العلماء وأن كل ما جهله هو جهله غيره أيضا بالطريق الأولى وذلك مبلغه من العلم، وإما بضم السين من الحساب يعني لا يعد العلم في شيء مما جهله شيئا ولا يدخل تحت الحساب والاعتبار وينكره كسائر ما أنكره، وإنما العلم في زعمه ما حصل له برأيه وقياسه.

وقيل: عنى بالعلم الذي لا يعده هذا الرجل علما العلم الحقيقي الذي ينبغي أن يطلب ويجتهد في تحصيله لا ما يعتقد ذلك الرجل علما مما قمشه وجمعه، فإن كثيرا من الجهال ممن يدعي العلم بفن من الفنون قد ينكر غيره من سائر الفنون (1)، ويشنع على معلميه ومتعلميه كأكثر الناقلين للأحكام الفقهية والمتصدين للفتوى والقضاء بين الخلق، فإنهم يبالغون في إنكار العلوم العقلية ويفتون بتحريم الخوض فيها وتكفير من يتعلمها وهم غافلون عن أن أحدهم لا يستحق أن يكون فقيها إلا أن يكون له مادة من العلم العقلي المتكفل ببيان صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) وإثبات النبوة التي لا يقوم شيء من الأحكام الفقهية التي يدعون أنها كل العلم إلا بعد ثبوتها، ولعل المقصود من هذا القول وحمله كلامه (عليه السلام) على هذا المعنى هو التنبيه على أن هذا الرجل مع خبطه في الأحكام الشرعية واعتقاده أن العلم المتعلق بها هو الذي قمشه من رأيه ينكر العلوم المتعلقة بغيرها من اصول العقائد (2)، وذلك أبلغ في لومه لأنه ازداد جهلا على جهل والله أعلم.

ص: 247


1- 2 - وفي رجال الكشي عند ترجمة جعفر بن عيسى بن عبيد بن يقطين وهشام بن إبراهيم شرح ما يدل على أن التكفير ونسبة بعضهم إلى الزندقة كان شائعا في عصر الأئمة (عليه السلام) حتى أن جعفرا شكا عند الرضا (عليه السلام) عن قوم وقال: هم والله يزندقوننا ويكفروننا ويبرؤون منا، قال (عليه السلام): هكذا كان أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي وأصحاب جعفر وموسى (عليهم السلام)، ولقد كان أصحاب زرارة يكفرون غيرهم، وكذلك غيرهم كانوا يكفرونهم - إلى أن قال له: - أرأيتك أن لو كنت زنديقا فقال لك مؤمن: ما كان ينفعك من ذلك ولو كنت مؤمنا فقال: هو زنديق ما كان يضرك منه؟! وفي كتاب أعيان الشيعة: أن كل أحد يعتقد أمرا أنه من اصول الدين بحيث يكفر غير المقر به بل آل الأمر إلى أن المسائل الفرعية غير الضرورية مما يكفرون بها. (ش)
2- 1 - ذكرنا في مقدمة المجلد الأول: أن الشارح (رحمه الله) كان جامعا بين المعقول والمنقول مع عناية بالمعقول أشد، وكان في أكثر أمر متبعا لطريقة صدر المتألهين وصاحب الوافي (قدس سرهما)، وما نقله من إنكار جماعة من الظاهريين العلوم العقلية وتكفير من يتعلمها فهو مصيبة ابتلى بها المسلمون في أكثر الأزمنة لإغواء الشيطان حتى يسيىء صورة الدين في أنظار الملاحدة وثبط العلماء عن التجهيز لدفع شبهاتهم وعن تأييد مبادئ

(ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهبا) يعني أنه إذا ظن حكما في قضية برأيه أو بخبر مغشوش بلغه جزم به، وربما كان فيها لغيره قول أصح وأظهر من قوله يعضده دليل صحيح ونص صريح فلا يعتبره لكمال جهله ويمضي على ما بلغ فهمه إليه، وذلك إما لبلادة طبعه فلا يفرق بين الصحيح والسقيم أو لحفظ مرتبته من النقص بالرجوع عن مذهبه إلى ذلك المذهب الصحيح والحق الصريح.

(إن قاس شيئا بشيء) في أمر لأمر مشترك يقتضيه على زعمه.

(لم يكذب نظره) لظنه أن ما اخترعه وهمه ومال إليه طبعه حق فيصر عليه ولا يرجع عنه، وإن نبه على خطئه.

(وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، لكيلا يقال له: لا يعلم) أظلم على البناء للفاعل، يقال: أظلم الليل أي صار مظلما، ولما يعلم علة للاكتتام ومن بيان «لما» و «كيلا» يقال: علة لغلبية العلم بالجهل للاكتتام يعني إن صار عليه أمر من امور الدين مظلما مشتبها لا يدري وجه الحق فيه ولا وجه الشبهة أيضا اكتتم به وستره عن غيره من أهل العلم وسبب الاكتتام أنه عالم بأنه جاهل بذلك الأمر من كل وجه حتى من وجه الشبهة والرأي فيستره ويخفيه ويعرض عن استماعه ويسكت عنه لئلا يقال: إنه لا يعلمه فيحفظ بذلك علو منزلته بين الناس، ولذلك الوجه لا يسئل أهل العلم عنه حتى يستفيد منه، وما أخبر به (عليه السلام) أمر مشاهد، فإن كثيرا من القضاة والحكام وعلماء السوء يكتتمون ما يشكل عليهم أمره من المسائل ويتغافلون عن سماعها إذا وردت عليهم ولا يسألون عنها لئلا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المنزلة والمناصب.

(ثم جسر فقضى) جسر على كذا بالجيم والسين المهملة أقدم عليه، أي بعدما كان حاله ذلك أقدم على ذلك الأمر مع الجهل به، أو على أمر القضاء مع عدم استئهاله فحكم فيه بين الناس، وفي بعض النسخ: «ثم جرأ» بالجيم والراء المهملة من الجرأة، وفي بعضها: «ثم حسر» بالحاء والسين المهملتين، أي كل بصره وانقطع نظره عن الإصابة في الحكم فقضى مع ذلك، وأما خسر بالخاء المعجمة بمعنى هلك، فله معنى لكنه لم يثبت.

(فهو مفتاح عشوات) في نهاية ابن الأثير: العشوة بالفتح والضم والكسر الأمر الملتبس الذي لا يعرف وجهه مأخوذة من عشوة الليل أي ظلمته، وتجمع على عشوات يعني هو مبدأ المبتدعات ومنشأ الشبهات وناشر الجهالات، ومنه يصدر امور ملتبسة لا يعرف وجه صحتها وتبقى آثارها في صفحات الدهور ويضل بها كثير من التابعين، وهذا الذي نطق به (عليه السلام) حق وصدق كما تشاهد من أحوال الخلفاء الضالين المضلين

ص: 248

وآثار قضاتهم وعلمائهم، فإنهم أضلوا بفتح باب العشوات ونشر ظلم الشبهات من تبعهم إلى يوم الدين.

(ركاب شبهات) الركاب للمبالغة على كثرة ركوبه إياها، وفي الكلام استعارة تخييلية ومكنية بتشبيه الشبهات بالناقة العشواء في عدم إيصال صاحبها إلى المقصود دائما أو غالبا، فكما أن راكب العشواء في الطرق المظلمة يسير في غير الطريق المطلوب دائما إن لم يتفق سلوكه فيه أو غالبا إن اتفق في بعض الأحيان فيسير فيه ولم يتفق في أكثرها فيضل عنه ويسير في غيره على الوهم والخيال، كذلك راكب الشبهات في طريق الدين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعده ويعلم كيفية سلوك طريقه فإنه يسير في غير طريقه دائما إن لم يظهر له نور الحق في ظلمة الشبهات أصلا لنقصان بصيرته عن إدراكه فهو يسير أبدا على ما يتخيله دونما يتحققه أو غالبا إن اتفق في بعض الأوقات ظهور نور الحق في الشبهة لكمال وضوحه فيدركه ولم يتفق في أكثر الأوقات لغلبة ظلمة الشبهة فتعمى عليه موارد الحق ومصادره فيبقى في الظلمة خابطا وعن القصد جائرا وفي غير طريق الدين سائرا.

(خباط جهالات) الخباط صيغة مبالغة من الخبط وهو المشي على غير استواء، وقد خبط البعير الأرض إذا ضربها بيده، ومنه قيل: خبط خبط عشواء، وهي الناقة التي في بصرها ضعف تخبط بيدها كل شيء إذا مشت، والإضافة بتقدير في يعني: «او بسيار دست و پا زننده است در ميان جهالات»، وكني بذلك عن كثرة أغلاطه التي يقع فيها في الفتاوى والأحكام، فيمشي فيها على غير طريق الحق من القوانين الشرعية وذلك معنى خبطه.

(لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم) من البدعة في الدين ومن الحكم والفتيا بغير علم ومن لؤم الدنيا وعذاب الآخرة، وفي الاعتراف بالجهل منافع كثيرة وهو أحد العلمين، ولهذا قيل: لا أدري نصف العلم.

(ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم) هذا كناية عن عدم نفاذ بصيرته في العلوم وعدم إتقانه للقوانين الشرعية (1) لينتفع بها انتفاعا تاما. يقال: فلان لم يعض على الامور بضرس قاطع إذا لم يحكمها ولم يتقنها، وأصله أن الإنسان يمضغ الطعام الذي هو غذاء البدن ثم لا يجيد مضغه لينتفع به البدن انتفاعا تاما فمثل به من لم يحكم ولم يتقن وما يدخل فيه من المعقولات التي هي غذاء الروح لينتفع به الروح انتفاعا كاملا.

ص: 249


1- - لا ريب أن العالم يجب أن يكون متيقنا بصحة ما يفتي به، إما بأن يكون موافقا للواقع، أو موافقا لما هو مكلف بمتابعته، وإذا تبع الروايات التي لا يحصل له منها العلم بالواقع لاحتمال الدس والخطأ والغلط ولم يكن له دليل على حجيتها والتعبد بصحتها ظاهر أو إن كان خلاف الواقع فليس لهذا الرجل ضرس قاطع ولكن يذري الروايات ذرو الريح الهشيم. (ش)

وحاصل الفقرتين أنه لا يعترف بالجهل ليسلم عن الحكم من غير علم ولا له بضاعة في المعارف ليكون على بصيرة فيها ومحصولهما أنه متلبس بالآفات متعرض للقضاء والفتاوى بالشبهات.

(يذري الروايات ذرو الريح الهشيم) ذراه وأذراه ذروا وإذراء إذا طيره وقلبه من حال إلى حال، والهشيم النبت اليابس المنكسر، وفيه تشبيه تمثيلي ووجه التشبيه صدور فعل بلا روية من غير أن يعود إلى الفاعل نفع وفائدة، فإن هذا الرجل المتصفح للروايات ليس له بصيرة بها ولا روية في تصفحها ولا شعور بوجه العمل بها بل هو يمر على رواية بعد اخرى ويمشي عليها من غير فائدة وانتفاع كما أن الريح التي تذري الهشيم لا شعور لها بفعلها ولا يعود إليها من ذلك الفعل نفع (1) وفائدة.

فإن قلت: الذرو مصدر يذر ولا يذري وإنما مصدره الإذراء فالصحيح أن يقال: يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، أو يقال: يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم، قال ابن الأثير في حديث علي (رضي الله عنه): يذرو الرواية ذرو الريح الهشيم أي يسرد الرواية كما تتسف الريح هشيم النبت.

قلت: ما في هذا الكتاب أيضا صحيح، فإن الذرو والاذراء لما كانا بمعنى واحد صح ذكر أحدهما في مقام الآخر.

(تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء) إما على سبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي من جور قضاياه تبكي أهل المواريث وتصرخ أولياء الدماء أو على سبيل التجوز في الإسناد كما في صام نهاره وقام ليله، أو على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية بتشبيه المواريث والدماء بالإنسان الباكي والصارخ من جهة الظلم والجور وإثبات البكاء والصراخ لهما، أو على سبيل الاستعارة التحقيقية التبعية

ص: 250


1- 2 - بل يعود منها الضرر; لأن تشخيص الصحيح منها والسقيم وما يعمل به وما لا يعمل ثم مفادها ومعناها، والجمع بين ما ظاهره التناقش مما لا يقدر عليها إلا من له ضرس قاطع ولا يذري الروايات ذرو الريح; إذ يوجب منه طرد روايات صحيحة والعمل بروايات سقيمة و ربما يوجب شيوع الضعاف بين الناس وتمكنها في قلوبهم أن يظن أنها من البدن ويصعب الأمر ويضل به الناس ويطعن الزنادقة في الأنبياء والأئمة; لأنهم يرون هذه الأباطيل منسوبة إليهم ولو ادعى أحد أن مروق جماعة من الدين وشك طائفة في صدق النبيين (عليهم السلام) في هذه الأواخر ليس إلا لشيوع الروايات الضعيفة منذ أواخر عهد الصفوية بين الناس لم يكن مجازفا خصوصا بعد ما اشتهر من الإخباريين أن جميع الروايات صادرة عن الأئمة حقيقة وأنه لا يجوز رد شيء منها ولم يكن غرضهم إلا خدمة الدين وتعظيم شأن الحديث إلا أن غلوهم فيه انتج عكس المطلوب، وقد ذكر الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة أنه «لا يجوز لعلماء الدين رد ما ثبت في العلوم التعليمية، فإن من ثبت ذلك عنده ولا يشك فيه بل يخبر بمثل الكسوف والخسوف من قبل مبنيا على كونهما من آثار حركات الكواكب وحيلولة بعضها لبعض إذا قلت له: ليس هذا الذي تعتقده من الدين لم يشك في علمه بل شك في الدين. (ش)

باستعارة لفظ البكاء والصراخ لعج المواريث والدماء ونطقهما بلسان حالهما المفصح عن مقالهما ووجه المشابهة: أن البكاء والصراخ لما كانا يصوران عن تظلم وشكاية وكانت المواريث المستباحة بالأحكام الباطلة والدماء المهرقة بغير حق ناطقة بلسان حالهما مفصحة بالتكلم والشكاية لا جرم حسن تشبيه نطقهما بالبكاء والصراخ واستعارة هذين اللفظين له يعني نطقت المواريث والدماء بلسان الحال بالتظلم والشكاية من جور أحكامه وقضاياه.

(ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الفرج الحلال) إما لجهله بالحكم فحكم بمقتضى رأيه الباطل أو لسهوه فيه وعدم مراعاة الاحتياط أو لغرض من الأغراض الدنيوية مثل التقرب بالجائر، أو أخذ الرشوة أو غير ذلك.

(لا مليء بإصدار ما عليه ورد) الملئ على فعيل بالهمزة وهو الثقة الغني المقتدر، قال ابن الأثير في النهاية الملىء بالهمزة الثقة الغني، وقد ملأ فهو مليء بين الملأ والملاءة وقد أولع الناس فيه بترك الهمزة وتشديد الياء ومنه حديث علي (عليه السلام): لا ملي والله بإصدار ما ورد عليه. فعلى هذا يجوز أن يقرأ بتشديد الياء هنا والإصدار الإرجاع يقال: أصدرته فصدر أي أرجعته فرجع، وضمير عليه لذلك الرجل وضمير ورد للموصول، ويحتمل العكس، والمعنى هو فقير ليس له قوة علمية وقدرة روحانية على إرجاع ما ورد عليه من المسائل المشكلة والشبهات الضعيفة والمعضلة بإيراد الأجوبة الشافية عنها.

(ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق) «من» بيان للموصول، وفرط بمعنى سبق وتقدم أي ليس هو أهل لما ادعاه من علم الحق الذي من أجله سبق الناس، وتقدم عليهم بالرئاسة والحكومة، وقيل: معناه ليس هو من أهل العلم بالحقيقة كما يدعيه لما فرط منه وقصر عنه.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا، وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم) بالأحكام الشرعية والمسائل الدينية.

ص: 251

(بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا) إذ حاصل القياس تفريق المتباينات وجمع المتشاكلات في الحكم باعتبار اشتراكها في علته بالتوهم والتظني (1)، فإن كان لله في كل واحد من المتشاكلات حكم مغاير لحكم الآخر وفي المتباينات حكم واحد في الواقع كان صاحب القياس باعتبار أنه جاهل بحكم الله تعالى بعيد عن الحق، وباعتبار أنه اعتقد بخلافه يزداد بعده منه.

(وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس) لأن دين الله تعالى ما أنزله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) من كل ما يحتاج إليه العباد في الدنيا والآخرة وطريق إصابته منحصر في الأخذ منه (عليه السلام) ثم أوصيائه (عليهم السلام)، فمن ترك هذا الطريق وسلك طريق القياس والرأي مع اختلاف الطبائع والآراء فقد بعد عن دين الله ومن بعد عنه لا يصيبه قطعا.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، رفعه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، رفعه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار) القياس بدعة; لأنه ليس بمستند شرعي للحكم، والقائس مبتدع; لأنه إما أن يزيد في الدين أو ينقص منه، وكل زيادة ونقصان فيه ضلالة، سواء تعلقا بالواجب أو الندب أو بغيرهما من الأحكام الخمسة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار وتجر صاحبها إليها، وقد يستدل بهذا الحديث على حجية إجماع الفرقة الناجية; إذ لو كان إجماعهم بدعة لزم أن يكونوا من أهل

ص: 252


1- 1 - والقياس ركن من أركان اصول العامة، وبحث عنه الشيعة لنقضه ورده، وأطال الكلام فيه العلامة في النهاية; إذ ما لم يعرف ماهية الشيء لا يمكن الحكم بصحته وبطلانه ومما يجب أن نعلمه أن العمدة في القياس استنباط العلة المشتركة، فتارة يكون بالنص كأن يقول: لا تشرب الخمر لأنها مسكرة، واختلف علماؤنا في جواز التعدي فيه وقال بعضهم: لا يتعدى، والتنبيه مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «ملكت نفسك فاختاري» قاله لبريرة، أومأ إلى أن علة خيار الأمة فسخ نكاح زوجها بعد أن اعتقت هي ملكها نفسها ومن لا يثبت التعدي بالنص على العلة لا يقول بالإيماء بطريق أولى، ومما يعد من الإيماء دلالة أحل الله البيع على صحته، فإن الحلية غير الصحة، إلا أن الحل لا فائدة فيه إن لم يكن صحيحا، وثالثة بالمناسبة قالوا: إن المناسبة بين حكم ومصلحة يدل دلالة ظنية على العلة كالعداوة والبغضاء في الخمر وحفظ النفوس في القصاص إلى غير ذلك مما لا غرض لنا في ذكره إلا تنقيح المناط، وهو أردأ أنواع القياس وأضعفها، ومعناه استنباط العلة بإلغاء فارق بأن ينظر في الفرع والأصل وتتبع الصفات المشتركة والمميزة، ويبين أن المميزة لا يمكن أن تكون علة للحكم فيثبت أنها المشتركة وأما تنقيح المناط في اصطلاح أهل هذه الأعصار فغير منقح لا ندري ما يريدون به إلا أنهم يجعلونه حجة. (ش)

النار، والتالي باطل; لما يظهر بملاحظة الأحاديث الواردة في فضل الشيعة في كتاب الروضة وغيره.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقهنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها فيما من الله علينا بكم فربما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيء فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به؟ فقال: «هيهات هيهات في ذلك، والله هلك من هلك يا بن حكيم!»، قال:

«لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي وقلت» قال محمد بن حكيم لهشام بن الحكم: والله ما أردت إلا أن يرخص لي في القياس.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): جعلت فداك فقهنا في الدين) فقه الرجل بالكسر إذا فهم وعلم، وبالضم إذا صار فقيها، وفقهه غيره بالتشديد إذا علمه وفهمه، والمعاني الثلاثة محتملة هنا، وعلى الأخير يقرأ بصيغة المجهول، والفقه في اللغة الفهم ثم خص بعلم الشريعة مطلقا، وقيل: ثم خص بعلم الفروع.

(وأغنانا الله بكم عن الناس) أي عن الرجوع إليهم في المسائل، والمراد بالناس علماء العامة، وفيه دلالة على أن الهداية موهبة، والروايات الدالة عليه كثيرة.

(حتى أن الجماعة منا لتكون في المجلس) تكون خبر «أن» دخلت عليه اللام للمبالغة في التأكيد.

(ما يسأل رجل صاحبه تحضره المسألة ويحضره جوابها) ما موصولة، وهو مع صلته مبتدأ، والعائد إليه محذوف، ويحضره خبره، والجملة مستأنفة كأنه قيل: ما يقول بعضهم لبعض فيه، أو هل يسأل بعضهم بعضا عن مسائل الدين؟ فقال الذي يسأل رجل صاحبه عنه من مسائل الدين يحضر صاحبه تلك المسألة ويحضر جوابها كما ينبغي لكمال قوته في علم الدين وغاية استحضاره لمسائله، وما قلنا أحسن مما قيل: إن «ما» موصولة، والجملة صفة للمجلس لاحتياجه إلى إضمار عائد آخر إلى الموصوف، ومما قيل: إن الجملة حال من فاعل تكون، وهو ضمير الجماعة لاحتياجه إلى إضمار العائد إلى ذي الحال، ومما قيل: إن «ما» زائدة ويسأل رجل صاحبه حال من المجلس و «تحضره المسألة» حال من صاحبه; لأن الأصل عدم الزيادة، وأما تقدير العائد إلى الموصول فهو وإن كان خلاف الأصل أيضا لكنه شائع بل يمكن أن يقال: ذكره زائد لا يحتاج إليه مع أن هذه الأقوال كلها لا تخلو عن هجنة.

ص: 253

(فيما من الله علينا بكم) «في» للظرفية أو للسببية واستعمالها في السببية شائع بل قد يقال: إنها حقيقة عرفية فيها، وهو على المعنيين متعلق «يحضر» في الموضعين، وما موصولة أو موصوفة، والعائد إليه محذوف.

(فربما ورد علينا الشيء) من المسائل الدينية والفروع الشرعية وغيرها.

(لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيء) يدل على حكمه صريحا، والجملة صفة للشيء باعتبار أن التعريف فيه للعهد الذهني أو حال منه.

(فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به) «ما» الاولى عبارة عن الأحاديث التي بلغتهم، والمراد بأحسنها أحسنها سندا ومتنا ودلالة وحكما، بحيث لم يكن الحكم فيه مستندا إلى تقية ولم يعرضه شبهة ولم يلحقه نسخ، و «ما» الثانية عبارة عن الحكم الذي فيه وأوفق الأشياء عبارة عن علته المستنبطة أو المصرحة، وضمير «به» راجع إلى «ما» الثانية، أو إلى الأوفق، يعني فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا من الأحاديث التي بلغتنا عنكم ونظرنا إلى حكمه ونظرنا إلى ما هو أوفق الأشياء لذلك الحكم فنأخذ به ونجريه في ذلك الذي ورد علينا كما هو دأب أرباب القياس.

(فقال: هيهات هيهات!) أي بعد ما تأخذون به بهذا التصرف والتدبير عن حكم الله تعالى، أو بعد الفرار من الباطل والبدعة في الدين، وأتى به مكررا للتأكيد والمبالغة في الزجر عنه، ثم بالغ فيه وحث على الفرار منه بقوله:

(في ذلك، والله هلك من هلك يا بن حكيم) ذلك إشارة إلى التصرف المذكور واستعمال القياس، و «في» للظرفية أو للسببية، وتصدير الجملة بالقسم لرفع شك المخاطب بمضمونها لكونه سائلا مترددا فيناسبه التأكيد كما هو المقرر في العربية، وإن كان (عليه السلام) صادقا مصدقا في كل ما يقول، والمراد بالهلاك العقوبات الأبدية الاخروية، وعبر عنها بلفظ الماضي لتحققها بسبب تحقق سببها فكأنها حاصلة في الدنيا أيضا إلا أنه لا يراها أرباب البصائر القاصرة، وتقديم الظرف يدل على أن المستحق للهلاك منحصر في هذا الصنف ولا يبعد ذلك لأن كل من خرج عن دين الحق فقد قاس عليه الباطل، ثم رجح الباطل وأخذ به ولزمه ذلك وإن لم يشعر به.

(قال: لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي وقلت) هذا يحتمل وجوها:

أحدها: أنه جعل كلامه (عليه السلام) أصلا وقاس عليه أمرا آخر، وشاركه في الحكم لعله قياسية.

وثانيها: أنه رد حكمه (عليه السلام) بحكم قياسي اخترعه من عنده.

وثالثها: أنه قال علي بالقياس وقلت أنا أيضا بالقياس، سواء كان القياسان متوافقين في الحكم أو متخالفين فيه، وهذا أبعد الاحتمالات لشيوع إنكار القياس عنهم (عليهم السلام) بحيث يعلم كل من له أدنى مسكة أن

ص: 254

من نسب القول بالقياس إلى أحدهم افتضح عند العامة والخاصة بالكذب والافتراء.

وهذا الحديث صريح في أن أبا حنيفة كان يعتقد بالقياس ويعمل به، وفي هذا الباب روايات اخر دلالتها عليه أظهر، وهو المشهور من مذهبه، فما نقل عنه أنه قال: أما ميزان الرأي والقياس فحاش لله أن يعتصم به، ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة فأسأل الله أن يكفيني شره عن الدين فإنه صديق جاهل وهو شر من عدو عاقل، فهو ليس بمعتبر، وقد نقله أيضا بعض أصحابنا وقال:

يفوح منه رائحة التشيع (1).

(قال محمد بن حكيم لهشام بن الحكم: والله ما أردت إلا أن يرخص لي في القياس) أراد ذلك لما في استعمال القياس واستخراج الفروع الغريبة بالقواعد القياسية من نشاط النفس وتفوقها على الأقران بالمجادلة والمناظرة ورفع عار الجهالة بقدر الإمكان والاشتهار بين العوام بجودة الرأي وكثرة العلوم والفضائل، تأمل في فائدة قوله ذلك لهشام، ولعل الفائدة هي التنبيه على كمال علمه (عليه السلام) حيث حمل قوله: «فنظرنا... إلى آخره» على ما هو مقصوده، أعني طلب الرخصة في القياس فمنعه منه على أبلغ وجه لا على ظاهره الذي يفيد الاقتصار على الأخذ بالأحاديث التي بلغتهم وعدم التجاوز عنه إلى غيرها بالقياس.

* الأصل:

10 - محمد بن أبي عبد الله رفعه عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): بما اوحد الله؟ فقال: «يا يونس، لا تكونن مبتدعا، من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر».

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله) هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي أبو الحسين الكوفي ساكن الري، يقال له محمد بن أبي عبد الله، كان ثقة صحيح الحديث، إلا أنه روى عن الضعفاء، وكان يقول بالجبر والتشبيه فأنا في حديثه من المتوقفين، وكان أبوه وجها، روى عن أحمد بن محمد بن عيسى، كذا في الخلاصة، وقيل: قال الشيخ الطوسي عند ذكر أقاصيص الغيبة، فقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل منهم محمد بن جعفر الأسدي، ثم قال بعد قصص:

ص: 255


1- 1 - المعروف من مذهب أبي حنيفة أنه كان يقدم القياس على النص أيضا، ويدفع عنه من نصره هذا التقديم لا أصل القول بالقياس; لأن ذلك قول أكثرهم، وأما نسبة أبي حنيفة إلى التشيع فالظاهر أنها نشأت من فتواه بالخروج مع النفس الزكية حين خرج على المنصور، واستظهر من ذلك أنه كان مائلا إلى الزيدية. ويؤيده أن الزيدية إلى زماننا هذا يتبعون أبا حنيفة في فقههم غالبا، ولا ينافي ذلك قوله بالقياس وعدم تبرئه من الشيخين، فإن الشيعة الزيدية كلهم كذلك، وممن نسب أبا حنيفة إلى التشيع من علمائنا الشيخ عبد الجليل الرازي في كتاب النقض ولا بد أن يكون مراده الشيعة الزيدية. (ش)

مات الأسدي على ظاهر العدالة لم يتغير ولم يطعن عليه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.

(رفعه عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): بما اوحد الله؟) أي بما أستدل به على توحيده، وما يصح له ويمتنع عليه؟ وكأنه أراد الإذن بأن يقول في ذاته وصفاته بما يستحسنه عقله وما يسوق إليه رأيه.

(فقال: يا يونس، لا تكونن مبتدعا) أي لا تكونن في التوحيد وغيره من المعارف والأحكام مبتدعا عاملا برأيك تاركا للكتاب والسنة وأهل بيت نبيك.

(من نظر برأيه هلك) أي من نظر برأيه وقال بالقياس واعتمد عليه وعمل به هلك لبعده عن دين الحق واستحقاقه لعذاب الأبد، وهذا تعليل للنهي السابق، وكذا المعطوفات عليه; إذ كما أن النظر بالرأي بدعة توجب الهلاك كذلك ترك طريق الحق بدعة توجبه، والفرق بينهما: أن الأول يستلزم الثاني دون العكس لإمكان أن لا يسلك رجل طريق الحق ولا يعمل بالرأي أصلا بأن يكون ساكتا.

(ومن ترك أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) ضل) أي من تركهم ولم يأخذ بقولهم ولم يرجع إليهم في المعارف الدينية والمسائل الشرعية، اصولا كانت أو فروعا ضل عن سبيل الحق والصراط المستقيم لعدوله عنه.

(ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) أي من ترك أحكام الكتاب وما فيه وقول النبي وما جاء به وجوز مخالفتهما كفر بالله وبرسوله وخرج عن دين الحق، وفي القائس جميع ذلك، وإنما حكم على التارك الأول بأنه ضال، وعلى الثاني بأنه كافر لأن الأول معترف بأن هنا طريقا حقا وهو دينه (صلى الله عليه وآله)، إلا أنه ضل عنه بمفارقة أهل بيته الهادين إليه، والثاني منكر لدين الحق بالكلية فهو كافر بالله وبكتابه ونبيه. وفيه رد على من قال من الفرق المبتدعة: إن الأحكام الشرعية العامة اصولا كانت أو فروعا إنما يحكم بها على العامة والأغبياء، وأما الأذكياء والعلماء وأهل الخصوص فلصفاء قلوبهم من الأكدار وخلوها من الأغيار تتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرع الكليات وهذه بدعة وضلالة لما علم من الشرائع، فإن الله سبحانه أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة الرسل (عليهم السلام) السفرة بينه تعالى وبين خلقه كما قال تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين...) الآية، وغير ذلك من الآيات الدالة على إرسال الرسل (عليهم السلام).

وعلى الجملة: فقد علمنا قطعا أنه لا طريق لمعرفة الأحكام إلا من جهة الشرع والسماع من الشارع، فمن قال: إن هنا طريقا آخر يعرف به أمره تعالى ونهيه وأحكامه فهو ضال مضل ثم هو قول بإثبات نبي بعده (صلى الله عليه وآله).

ص: 256

بيان ذلك: أن من قال: إنه يأخذ الأحكام من رأيه وإنه يجد أحكامه تعالى بمجرد عقله وتصرفاته وإنه يجوز له العمل بمقتضاه وإنه لا يحتاج في ذلك إلى ما يدل عليه صريحا من كتاب وسنة وقول إمام فقد أثبت لنفسه النبوة، وهو مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إن روح القدس نفث في روعي»، وقد نقل بعض المنحرفين المتظاهرين بالدين أنه قال: لا آخذ عن الموتى وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي. وأنا أسأل الله الهداية والدراية ونعوذ به من الضلالة والغواية.

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها (1) في كتاب [الله] ولا سنة فننظر فيها؟ فقال: «لا، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب [الله] ولا سنة فننظر فيها؟) أفننظر في تلك الأشياء ونستخرج حكمها بقياسها على غيرها مما يناسبها؟ (فقال: لا) أي لا تنظروا فيها بطريق القياس.

(أما إنك إن أصبت لم تؤجر) أي إن أصبت حكم الله تعالى في تلك الأشياء بالعمل القياسي لم تؤجر بتلك الإصابة; لأن الأجر إنما هو لإصابة حكم الله بطريق مخصوص قرره للوصول إليه، فلو وصل إليه أحد لا من هذا الطريق ليس له استحقاق ذلك الأجر نظير ذلك من قال: كل من دخل علي من هذا الباب فله درهم، فلو دخل عليه أحد من غير هذا الباب ليس له استحقاق أخذ الدرهم، بل يستحق العقوبة للدخول عليه بغير إذن، وبالجملة الجزاء والأجر مشروط بامور، ومن جملة شروطه التوسل إليه بالكتاب والسنة وأئمة الدين لا بالرأي والقياس، وأيضا صاحب القياس وإن فرضنا إصابته في نفس الأمر لا يعلم أنه مصيب أم لا، فلا يجوز له الاعتماد عليه والعمل به، فلو عمل به استحق العقاب ولا يستحق الأجر بوجه من الوجوه لا بالاستخراج ولا بالعمل.

(وإن أخطأت كذبت على الله عز وجل) فعليك العقوبة باعتبار الكذب أولا، وباعتبار العمل ثانيا، وباعتبار تحمل وزر من تبعك ثالثا (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين).

ص: 257


1- 1 - كذا في جميع النسخ.
* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الرحيم القصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الرحيم القصير) قيل: كأنه ابن روح من أصحاب الباقر (عليه السلام)، وربما يأتي في طريق بعض الأحاديث عبد الرحيم بن عتيك القصير وهو يروي عن الصادق (عليه السلام).

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ينتج كل بدعة في النار، ففيه دلالة على أن كل بدعة حرام، سواء تعلقت بالمكروه أو المباح أو بغيرهما من الأحكام; إذ زيادة شيء من الأحكام في الدين أو نقصانه منه بالرأي حرام يجب تركه، فقول الشهيد (رحمه الله) فيما روي من أن الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة لا دلالة فيه على تحريمه; لأن البدعة أعم من الحرام والمكروه لا يخلو من شيء، وقد اختلف الأصحاب في تفسير البدعة، فقيل: كل ما لم يكن في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) فهو بدعة، ورده الفاضل الأردبيلي بمنع الشرطية وقال: البدعة هي كل عبادة ما كانت مشروعة أصلا ثم احدثت بغير دليل شرعي أو دل دليل شرعي على نفيها، فلو صلى أو دعا أو غير ذلك من العبادات مع عدم وجودها في زمانه (صلى الله عليه وآله) ليس بحرام لأصل كونه عبادة، ولغير ذلك مثل: «الصلاة خير موضوع» و «الدعاء حسن» ثم قال في الحديث: «كل ضلالة في النار»، وفي الحديث السابق: «كل ضلالة سبيلها إلى النار» فقيل: لا بد من بيان نكتة للتفاوت بينهما، ولعل النكتة هي الإشارة في هذا الخبر إلى أن النار التي ستبرز يوم القيامة موجودة الآن محيطة بالبدعة وصاحبها (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين).

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت: أصلحك الله، إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شيء إلا وعندنا فيه شيء مسطر، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم، ثم يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء فينظر بعضنا إلى بعض وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه؟ فقال: «وما لكم وللقياس؟ إنما هلك من هلك من قبلكم بالقياس»، ثم قال: «إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، وإن جاءكم ما لا تعلمون فها، وأهوى بيده

ص: 258

إلى فيه» ثم قال: «لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي، وقلت أنا، وقالت الصحابة، وقلت»، ثم قال: «أكنت تجلس إليه؟» فقلت: لا، ولكن هذا كلامه.

فقلت: أصلحك الله، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: «نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة»، فقلت: فضاع من ذلك شيء؟ فقال: «لا هو عند أهله».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قلت: أصلحك الله) الصلاح خلاف الفساد، وصلح الرجل من باب طلب، وقد يجي من باب شرف وأصلحه غيره، وهذا دعاء له (عليه السلام) في بقاء صلاحه في أمر دينه ودنياه وأمر إمامته وإرشاده للخلق وصح ذلك; إذ ليس المقصود منه إزالة الفساد الحاصل.

(إنا نجتمع فنتذاكر ما عندنا فلا يرد علينا شيء) من المسائل الدينية، أصلية كانت أو فرعية.

(إلا وعندنا فيه شيء مسطر) أي مكتوب في الدفاتر، أو مرقوم في الخواطر.

(وذلك) أي كون ذلك الشيء مسطرا عندنا محفوظا لدينا.

(مما أنعم الله به علينا بكم) أي بسبب إحسانكم وتعليمكم إياها.

(ثم يرد علينا الشيء الصغير) أي بعض الامور الجزئية.

(ليس عندنا فيه شيء) من القرآن والحديث حتى نأخذ به، والجملة حال من الشيء.

(فينظر بعضنا إلى بعض وعندنا ما يشبهه) من القرآن والحديث في الأمر الجامع.

(فنقيس على أحسنه؟) أي أفنقيس ذلك الشيء الصغير على أحسن ما يشبهه في الجامع ونستخرج بذلك حكمه؟ (فقال: وما لكم وللقياس؟) استفهام على سبيل الإنكار للزجر والتنفير عن القياس، والقياس منصوب وجوبا على أنه مفعول معه، والواو بمعنى مع لا للعطف لامتناع العطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجار، وعامله فعل معنوي مستنبط من اللفظ لدلالة كلمة الاستفهام وحرف الجر عليه; لأنهما يطلبان الفعل أي ما تصنعون مع القياس؟ (إنما هلك من هلك من قبلكم) كالشيطان ومن تبعه.

(بالقياس) فإنهم بعدوا عن دين الحق ورحمته واستحقوا سخطه وغضبه بارتكاب القياس والاعتقاد به والعمل بمقتضاه.

ص: 259

(ثم قال: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به) لإفشاء العلم وتعليمه.

(وإن جاءكم ما لا تعلمون فها، وأهوى بيده إلى فيه) قوله: «وأهوى» حال عن فاعل «قال» بتقدير قد، وفي المغرب: أهوى بيده أي رفعها إلى الهواء، ومدها حتى بقي بينها وبين الجنب هواء أي خلاء. وفي النهاية: هوى يهوي هويا - بالفتح - إذا هبط، وهوى يهوي هويا - بالضم - إذا صعد وأهوى يده وبيده إليه أي مدها نحوه وأمالها إليه.

وعلى هذا فالباء في «بيده» زائدة للمبالغة في التعدية و «ها» هاهنا مقصورة على ما رأيناه من النسخ وهي إما كلمة تنبيه للمخاطب ينبه بها على ما يساق إليه من الكلام إذا وقع الاهتمام بمضمونه، وأهوى إما كناية عن السكوت وحث عليه أو إشارة إلى الرجوع إليه (عليه السلام) والأخذ من فيه ولو بواسطة، وإما اسم فعل بمعنى خذ مخففة «هاء» بالمد وفتح الهمزة. قال الخطابي: هاء بالمد وفتح الهمزة أصلها هاك بمعنى خذ، فحذفت الكاف وعوضت عنها المد والهمزة، يقال للواحد: هاء وللاثنين هاؤما، وللجمع: هاؤم. وغير الخطابي يجيز السكون فيها على حذف العوض وتنزل منزلة «ها» التي للتنبيه، والمقصود على هذا الاحتمال هو الإشارة إلى وجوب خذوا وجعل الباء في أهوى بيده للتعدية فهي وإن كانت صحيحة بحسب المعنى لكنها بعيدة بحسب اللفظ لعدم إثبات الهمزة بعد الألف والميم بعد الواو.

(ثم قال: لعن الله أبا حنيفة كان يقول: قال علي، وقلت أنا، وقالت الصحابة، وقلت) قد عرفت احتمالاته.

(ثم قال: أكنت تجلس إليه؟) أي مائلا إليه، استفهم من ذلك لما رأى من ميله إلى القياس، فكأنه نشأ ذلك من مجالسته لأن الطبع يميل إلى طبع الجليس، أو ليظهر له ما نسبه إلى ذلك اللعين من قوله:

«قال علي، وقلت أنا حق» لا افتراء عليه وإن كان (عليه السلام) منزها عن الافتراء، وهذا أنسب بقوله:

(فقلت: لا، ولكن هذا كلامه) بلغني ذلك بالنقل المتواتر أو بقول الثقات.

(فقلت: أصلحك الله أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم) نعم تصديق لما سبقها من الاستفهام، حذفت الجملة واقيمت هي مقامها روما للاختصار، ثم زاد في الجواب بقوله:

(وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة) للتنبيه على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن مقصرا في حق من هو في أصلاب الآباء وأرحام الامهات إلى قيام الساعة، بل أتى بكل ما يحتاج إليه الناس في الأعصار الآتية كما أتى بكل ما يحتاجون إليه في عصره; لأن دينه دين واحد بالنسبة إلى الجميع، وهذه الجملة - أعني الموصول مع صلته - عطف على الموصول مع صلته المستفاد من قوله: نعم.

(فقلت: فضاع من ذلك شيء؟) حتى يكون الناس معذورين من طلبه.

(فقال: لا هو عند أهله) وأهله هم الذين أمر الله تعالى عباده بالسؤال عنهم عند حيرة الجهالة بقوله:

ص: 260

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فوجب على العباد الرجوع إليهم والسؤال عنهم ليتخلصوا من الضلالة ولا يجوز لهم التمسك بالرأي والقياس وإلا لفروا من الجهل البسيط إلى الجهل المركب الذي هو من الأمراض المهلكة.

* الأصل:

14 - عنه، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام) بيده إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما، فيها علم الحلال والحرام، إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا، إن دين الله لا يصاب بالقياس».

* الشرح:

(عنه، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن أبي شيبة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة) سمي الحاصل بالقياس علما إما لأنه علم بالمعنى الأعم، أو لأنه علم بزعمه، وإلا فهو جهل مركب، والجهل المركب من أخس أنواع الجهل، يعني ضاع وهلك علمه عند الصحيفة الجامعة ولم يوجد فيها، وهذا كناية عن بطلان علمه; لأن ما لم يوجد فيها كان باطلا، وابن شبرمة كوفي، وكان قاضيا في سواد الكوفة للمنصور الدوانيقي، وكان يعمل بالقياس.

(إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)) في الصحاح: أمليت الكتاب املي وأمللته امله، لغتان جيدتان جاء بهما القرآن. وفي المغرب: الإملاء على الكاتب أصله إملال فقلب.

(وخط علي (عليه السلام) بيده إن الجامعة لم تدع لأحد كلاما) حتى يقول برأيه واستحسانه في الشرع.

(فيها علم الحلال والحرام) لم تترك شيئا مما تحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة، وقد ذكر للجامعة أربعة أوصاف للتنبيه على أن كل حكم لم يوجد فيها باطل افتراء على الله تعالى، وهذه الجامعة الآن عند صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين، وستجيء (1) رواية المصنف بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «يا أبا محمد، إن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا (2) بذراع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإملائه من فلق فيه (3) وخط

ص: 261


1- 1 - في كتاب الحجة - باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة، تحت رقم 1.
2- 2 - هذا التقدير باعتبار أن أكثر الكتب في تلك الأزمنة كانت في قرطاس طويل يطوى طيا، كما في عهدنا في بعض الأدعية المجموعة، وكانت الصحيفة السجادية كذلك على ما يدل عليه مقدمتها. فإن قيل: سبعون ذراعا ليس كثيرا بالنسبة إلى جميع المسائل التي يسئل عنها، فإن الكتب المتداولة في زماننا بالقطع المعروف بالرحلي كل مائة صفحة منها يسع ما تسع الصحيفة المقدرة بسبعين. قلنا: على فرض صحة الحديث يحمل العدد على المقدار الوافي الكامل مثل قوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة). (ش)
3- 3 - أي أمره (صلى الله عليه وآله) شفاها وكتبه أمير المؤمنين (عليه السلام).

علي (عليه السلام) بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل ما يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش وضرب بيده إلي فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال: قلت:

جعلت فداك، إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا». الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

(إن أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحق إلا بعدا) المراد بالحق حكم الله تعالى في كل قضية، والقائس لعدم علمه به بعيد عنه ولاعتقاده بخلافه على مقتضى رأيه وتخمينه يزداد بعده عنه، أو المراد به هو الله تعالى والقائس لعدم تمسكه بما جعله الله تعالى دليلا على أحكامه بعيد عنه بالمخالفة ولتمسكه برأيه وتخمينه المفضي إلى خلاف حكم الله تعالى يزداد بعده عنه بالمضادة.

(إن دين الله لا يصاب بالقياس) لأن بناء القياس على جميع المتماثلات في الحكم وتفريق المتباينات فيه وفي الدين كثير من المتماثلات مختلفة في الأحكام وكثير من المتباينات مشتركة فيها، وأيضا جعل الله تعالى لدينه أعلاما وهداة بهم يهتدي الناس إليه، فمن تخلف عنهم وتمسك بعقله ورأيه يجره الرأي إلى دين الشيطان لخفاء دين الله وضيق مسالكه ولو أصابه نادرا لا يستحق الأجر ولا يكون آخذا بالدين في الحقيقة كما أن اليهود والنصارى لو أصابوا ما يوافق هذا الدين لا يستحقون الأجر ولا يكونون آخذين به.

* الأصل:

15 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن السنة لا تقاس، ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ يا أبان، إن السنة إذا قيست محق الدين».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن السنة لا تقاس) أي الشريعة النبوية لا يجوز أن يقع فيها القياس، ولا تعرف به، وإنما تعرف بالرجوع إلى أهلها وأخذها منه.

(ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلواتها؟) هذا دليل واضح ومؤيد شاف على بطلان القياس; إذ لو جاز القياس لاقتضى أن تقضي صلاتها كما تقضي صومها لاشتراكهما في كونهما عبادة فاتت

ص: 262

عنها في وقت الأداء المانع مع أن الصلاة أفضل من الصوم، فقضاؤه يقتضي بالنظر إلى القوانين القياسية قضاءها بالطريق الأولى، وهذا دل على بطلان قول من قال: القياس بالأولوية حجة. وروى المصنف في كتاب الحيض عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن الحسن ابن راشد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الحائض تقضي الصلاة؟ قال: «لا»، قلت: تقضي الصوم؟ قال: نعم»، قلت: من أين جاء هذا؟ قال: «إن أول من قاس إبليس»، والمقصود من هذا التأييد بيان أن المتماثلات قد تكون مختلفة في الحكم وإذا ثبت هذا فكيف تحصل لمن قال بالقياس علم باتحادها في الحكم بمجرد التماثل؟ (يا أبان، إن السنة إذا قيست محق الدين) محق على البناء للمفعول من المحق بمعنى الإبطال يقال:

محقه يمحقه إذا أبطله، أو على البناء للفاعل من المحق بمعنى النقص والذهاب. وفي المغرب: المحق النقص وذهاب البركة، وقيل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه أثر، ووجه كون القياس موجبا لمحق الدين ظاهر; لأن القائسين من عند أنفسهم يحدثون فيه أحكاما لمناسبات ومشابهات ظاهرة يجدونها وتلك المناسبات والمشابهات مختلفة بحسب اختلاف عقولهم وآرائهم فلا محالة تختلف تلك الأحكام القياسية ويخالف بعضها بعضا ويخالف جميعها الأحكام الإلهية ويورث ذلك تحريم ما حلل الله وتحليل ما حرم الله وإدخال ما ليس من الدين فيه وإخراج ما هو فيه عنه، ويستلزم ذلك حدوث دين آخر وبطلان دين الله.

* الأصل:

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن القياس؟ فقال: «ما لكم والقياس؟ إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) عن القياس) هل يجوز استعماله في الشرع أم لا؟ (فقال: ما لكم والقياس؟) أي ما تصنعون مع القياس؟ ولا يجوز لكم استعماله.

(إن الله لا يسأل كيف أحل وكيف حرم) أراد أن الله سبحانه وضع على عباده أحكاما من الحلال والحرام حسبما يراه لأسباب ومصالح وغايات أكثرها مخفية على عقول العباد والواجب عليهم هو إطاعته بالتزام تلك الأحكام والتلقي بقبولها والسماع من أهلها وليس لهم السؤال عن لميتها وكيفية أسبابها وتفاصيلها وطلب ذلك موضوع عنهم; لأنه لا يعرف عللها وأسبابها على تفاصيلها إلا هو ومن استضاء قلبه بنور النبوة والولاية، وأما أصحاب العقول الناقصة فهم معزولون عن معرفتها والإحاطة بها على أنهم

ص: 263

لو عرفوا بعضها بالنص أو غيره لم يجز لهم التجاوز عن محله (1) وإجراء حكمه في غير ذلك المحل لجواز أن يكون لذلك الغير حكم آخر معلل في نفس الأمر بعلة اخرى لا يعرفونها، ولم يرد أن الأحكام ليس لها علل وأسباب حتى يسأل عنها كما هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير باعث وعلل تقتضيها لأن هذا باطل عند أهل الحق، والله أعلم.

* الأصل:

17 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثني جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا صلوات الله عليه قال: «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس»، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: حدثني جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا صلوات الله عليه قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس) فاعل لم يزل ضمير الموصول ودهره منصوب على الظرفية، أو فاعله دهره، والدهر الزمان الطويل، وإضافته إلى ضمير الموصول تفيد أن المراد به مدة عمره، والدهر أيضا الهمة والإرادة، والمعنى من أقام نفسه للعمل بالقياس واستخراج الأحكام به كان مدة عمره في التباس الجهالات واختلاط الشبهات، أو كانت همته وإرادته منحصرة في التباس وتخليط بين الحق والباطل وجمع شبهات; لأن القياس لا يفيد إلا جهلا مركبا.

(ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس) أي من أطاع الله وعبده بالرأي وتقرب إليه من جهة العمل بالأحكام القياسية والاستحسانات العقلية كان مدة عمره مرتمسا في بحار الظلمة والجهالة ومنغمسا

ص: 264


1- 1 - الغرض من النص هنا ليس ما يعلم فيه العلة بتصريح الشارع; إذ لا ريب في كونه حجة، بل المراد ما يرد في ألفاظ الروايات بحروف التعليق فإنها غير دالة على العلة، ولعله لا يوجد في الأحاديث النص على العلة بحيث يحصل منه العلم بالعلية أصلا، بل غايته التعليق في الجملة مثلا إذا قال (عليه السلام): «لا تجتنبوا من سؤر الهرة فإنها من الطوافات عليكم» لا يعلم منه أن علة طهارة الهرة كثرة طوافها على الناس; إذ قد يقتصر في أمثال هذه الامور على جزء العلة، ولو قال: «أعط درهما لهذا الرجل لأنه فقير» لا يجب منه إعطاء درهم لكل فقير; إذ للإعطاء علة مركبة من امور: أحدها كونه فقيرا، ولهذا أمثلة كثيرة في الفقه مثلا ورد فيمن صلى على غير القبلة سهوا أو جهلا بالموضوع أنه لا يعيد بعد الوقت معللا بقوله تعالى: (أينما تولوا فثم وجه الله)، ولو بنى على التعميم لزم منه عدم الإعادة مطلقا بل عدم وجوب الاستقبال، وورد أيضا في جواز الصلاة في السنجاب التعليل بأنها دويبة لا تأكل اللحم ولو عملنا بالتعميم لزم منه جواز الصلاة في كثير من الحيوانات. (ش)

في آجن الشبهة والضلالة التي تحيط بها كإحاطة الماء بالغائص باعتبار استخراج الأحكام بالقياس لأنه يلتبس عليه الامور ويشبه عليه الحق والباطل، والارتماس باعتبار العمل بتلك الأحكام.

(قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم) لأن الرأي لا يفيد علما ولا ظنا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن كون حكم الله تعالى في الفرع ما أفاده الرأي أو غيره سيان وترجيح الأول بتحقق حكم الأصل في الفرع باطل; إذ لا طريق للعقول الناقصة إلى معرفة علل الأحكام الشرعية والمصالح الدينية ولو علم خصوص العلة فكونها مؤثرة بالاستقلال أو باشتراك خصوصية الأصل متساويان، وترجيح أحدهما على الآخر أشد من خرط القتاد (1).

(ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم) حيث تعليل للمضادة وبيان لها; لأن من أحل وحرم في دين الله بمجرد هواه من غير علم فقد ضاد الله ونازعه في دينه فأحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله، وينتج هاتان المقدمتان أن من أفتى الناس برأيه فقد ضاد الله بوضعه دينا آخر مخالفا لدين الله تعالى.

* الأصل:

18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الحسين بن مياح، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن إبليس قاس نفسه بآدم فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم (عليه السلام) بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياء من النار».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الحسين بن مياح) بفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحت والحاء المهملة أخيرا.

(عن أبيه) هو وابنه ضعيفان غاليان في مذهبهما، قيل في بعض النسخ: الحسين بن جناح، عن أبيه، وهو جناح بن رزين بالجيم والنون من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، ذكره الشيخ في كتاب الرجال.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إبليس) أبلس من رحمة الله أي يئس، ومنه سمي إبليس، وكان اسمه عزازيل.

(قاس نفسه بآدم فقال: خلقتني من نار وخلقته من طين، ولو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم (عليه السلام) بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياء من النار) خالف إبليس النص الصريح حيث أمره الله تعالى بالسجود لآدم

ص: 265


1- 1 - الخرط: هو قشر الورق عن الشجر اجتذابا بالكف. والقتاد: شجر له شوك أمثال الإبر.

وعارضه بالقياس فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، يعني أن النار المضيئة أشرف من الطين المظلم، فأنا أشرف وأفضل من آدم لأن تكوني من النار وتكونه من الطين (1)، والأشرف كيف يسجد للأخس؟ والأفضل كيف يخدم المفضول؟ بل العكس أولى، وغلط الخبيث في هذا القياس من وجوه:

الأول: أنه استعمل القياس في مقابل النص، وهذا لا يجوز قطعا.

الثاني: أنه قاس نفسه بآدم، وآدم مركب من جوهرين: أحدهما هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة الغالب فيه الجزء الأرضي، وثانيهما الجوهر النوراني الروحاني المضاف إليه سبحانه، أعني النفس الناطقة التي هي إنسان حقيقي كما قال: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، وأخذ الجزء الأول وجعله مناطا لقياسه، فكان المناسب أن يقول: خلقتني من نار وخلقته من نار وغيرها وحينئذ لو قال: النار أشرف من المركب من النار وغيرها لتوجه المنع لجواز أن يكون للمركب آثار وخواص غير محصورة لا توجد في شيء من أجزائه التي أحدها النار.

الثالث: ما أشار إليه (عليه السلام) وهو: أنه جعل ما ليس علة للمزية والشرف علة لهما، فإن استحقاق آدم للسجود له ليس لأجل هذا البدن المركب من الطين وغيره بل إنما هو للجزء الآخر الذي هو سر من أسرار الله ونور من أنواره، أعني نورية النفس المجردة، وهذا العمل منه إما لكون شأنه المغالطة والمخادعة كما هو

ص: 266


1- 2 - كان إبليس من الماديين يزعم أن شيئية الأشياء بمادتها، ويدل الحديث على مذهب أهل الحق وأن الشيء بصورته، وبيان ذلك: أن الشيء قد تتغير مادته مع بقاء صورته كالإنسان من أول عمره إلى آخره يتبدل مرارا وهو هو، وقد تتغير صورته مع بقاء مادته كجسد الإنسان بعد موته يصير دودا أو حشرات وليست هي الإنسان الأول، فالإنسان إنسان بصورته وإن كان له شرف وفضل على إبليس فذلك بصورته التي هي نفسه لا بمادته الطينية كما أن العقاقير والأدوية والمعادن لها خواص وآثار لصورتها لا لمادتها، فلو جزئت إلى عناصرها الأولية لم تكن لها تلك الخواص وقالوا: إن الخمر مركبة من الماء والكربون، أي الفحم بنسبة معلومة ولو شرب أحد الماء والكربون بتلك النسبة لم يسكر مع أن مادة الخمر فيها، ولو قطع يد السارق بعد سبع سنين لم يكن ظلما وإن كانت هذه اليد ليست تلك اليد السارقة قبل سبع سنين مادة، ولو عذب أحد الدود والحشرات المخلوقة من بدن العاصي لم يكن محقا مصيبا; لأن تلك الحشرات ليست هي الإنسان الذي عصى وإن كانت من مادته. وبالجملة: فالمادة يجب أن لا ينظر إليها في هذه الامور أصلا، واللعين إبليس كان على خلاف ذلك وهو ملهم الماديين. وفي هذا الحديث أيضا دلالة على أن النور يطلق على النور العقلي المجرد الذي هو روح الإنسان وعقله وهو أشد ضياء من وهم إبليس، ويزال منه استبعاد ما ورد في بعض أحاديث الآخرة من منبر النور والناقة من النور. وما يقال: كيف يمكن للإنسان أن يجلس على النور وتحمله الناقة من النور؟ وكيف يحصر النور في صورة الجسم؟ والجواب: كما يحصر النور في الإنسان وهو عقله. (ش)

الآن، أو لعدم علمه بحقيقة هذا الجوهر وآثاره وخواصه; إذ لو علمها وقاس هذا الجوهر الذي خلق الله منه آدم والروح الذي هو نور رباني تستضيء به السماوات والأرض وينكشف ما في عالم الملك والملكوت بالنار لعرف أن الفضل والكمال والشرف والجلال إنما هو لآدم لأن ذلك الجوهر أكثر نورا وأعظم ضياء من النار، إذ النار وإن كثر ضؤوها واشتد نورها لا يدرك بها إلا ما كان في فرسخ أو أقل مع أنها آلة لا شعور لها وبنور ذلك الجوهر يدرك ما في عالم المجردات والماديات والموجودات والمعدومات.

وفي الحديث مناقشة لأن آخره وهو قوله: «فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار» لا يناسب أوله، وهو قوله: «قاس نفسه بآدم»; إذ المناسب له أن يقال: فلو قاس الناس بالجوهر الذي خلق الله منه آدم فينبغي اعتبار القلب إما في الأول أو في الآخر، أو يقال: لما كان مقصود إبليس قياس الأشرف بالأخس ليظهر أن الأشرف أحق بالسجود له منه كان عليه أن يقيس جوهر آدم بالنار ليتضح أن آدم أولى بالسجود منه فبين العبارتين تناسب باعتبار أن المقيس فيهما هو الأشرف.

* الأصل:

19 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، عن زرارة، قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام؟ فقال: «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره». وقال: قال علي (عليه السلام): «ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام؟) الظاهر بالنظر إلى الجواب أنه سأل هل يجوز تغيير شيء منهما؟ وهل جاء النبي بجميع ما تحتاج إليه الامة؟ وهل يجوز إثبات شيء منهما بالقياس أم لا؟ (فقال: حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة) يعني ما كان حلاله وحرامه حين وفاته (صلى الله عليه وآله) فهو باق مستمر إلى يوم القيامة لا يتطرق إليه التغيير بوجه من الوجوه، وهذا لا ينافي ورود النسخ على بعض الأحكام في حال حياته.

(لا يكون غيره) أي لا يوجد غيره مما يحتاج إليه بل كل ما يحتاجون إليه فهو ثابت في الشريعة.

(ولا يجيء غيره) بالرأي والقياس، يعني لا يجوز إحداث شيء من الأحكام بالقياس.

(وقال: قال علي (عليه السلام): ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة) لأن كل بدعة مخالفة لسنة فمبتدع البدعة

ص: 267

تارك للسنة المقابلة لها، ومن جملة البدعة القياس لأن السنة ناطقة ببطلانه وفساده.

* الأصل:

20 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن عبد الله العقيلي، عن عيسى بن عبد الله القرشي قال:

دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: «يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟» قال: نعم، قال: «لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين، ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن عبد الله العقيلي) وهو أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عقيل بن أبي طالب (عليه السلام).

(عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنك تقيس؟) وتستخرج الأحكام بالرأي.

(قال: نعم، قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار وخلقته من طين، فقاس ما بين النار والطين) واعتقد لطف جوهره وشرافة أصله ونورانيته وكثافة جوهر آدم وخساسة أصله وظلمانيته ونظر إلى آدم على هذه الخلقة وهي هيئته التي وقع عليها خلقته الظاهرة، فلذلك فضل نفسه على آدم قياسا للفرع على الأصل في الشرف والخسة فكأنه قال: أنا ناري وهو طيني، والناري أفضل من الطيني; لأن النار أفضل من الطين.

(ولو قاس نورية آدم) التي كانت العلوي الرباني الذي فاض عليه بأمره سبحانه.

(بنورية النار) التي تكون منه ذلك المتعصب الخبيث.

(عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر) لأن نسبة الاولى إلى عالم التوحيد وعالم المعارف والمجردات كنسبة نور الشمس إلى عالم المحسوسات والماديات يضيء بها ذلك العالم كما يضيء بنور الشمس هذا العالم كيف لا وهي مشتقة من نور ربها يعرف ذلك من استغرق في بحار التوحيد وتزين بهيئة التجريد؟ ونسبة الثانية - أعني نورية النار - إلى عالم الماديات كنسبة السراج إليها لا يضيء بها إلا ما حولها وإنما لم يتمسك اللعين بهذا القياس لقصور بصيرته عن إدراك ذلك النور ومعرفة حقيقته وآثاره، أو لأن طغيان حسده بعثه على التمسك بالشبهات الفاسدة والوهميات الكاذبة والمقدمات السفسطية التي لا تفيد إلا شكا وغرورا.

ص: 268

فإن قلت: هذا الحديث والحديث السابق إنما يدلان على بطلان بعض أفراد القياس وهو ما وقع فيه الغلط باعتبار المادة والعلة لا على بطلان أصل القياس بالكلية فعلى هذا لو كانت مقدمات القياس صحيحة جاز التمسك به مثل ما وقع فيهما من القياس المقابل لقياس الشيطان (1).

قلت: هذا إبطال لقياسه وبيان لوقوع الغلط فيه بقياس مقابل له على سبيل الالتزام فهو يفيد بطلان القياس بالكلية; لأن القايس لا يأمن من وقوع الغلط فيه كما وقع في قياس إبليس، ولو تمسك القايس بالعلة المنصوصة من الشارع فإن كان النص بالعلة على سبيل العموم لا يكون إثبات الحكم للجزئيات على سبيل قياس بعضها ببعض وإن كان في خصوص مادة لا يجوز إثبات الحكم في مادة اخرى بالقياس على تلك المادة; إذ لعل خصوص تلك المادة له مدخل في العلية.

* الأصل:

21 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: مه، «ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسنا من (أرأيت) في شيء».

* الشرح:

(علي، عن محمد بن عيسى) هو محمد بن عيسى بن يقطين من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام).

(عن يونس) هو يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين من رجال الكاظم والرضا (عليهما السلام).

ص: 269


1- 1 - وهنا شبهة قوية لأنا لم نر أحدا من فقهائنا إلا قد ألحق غير المنصوص به في الجملة بل قلما يتفق مسألة لا يحتاج فيها إلى التجاوز عن مورد النص يعلم ذلك المتتبع للفقه والتخلص منها بوجهين: الأول: أن يكون بالإجماع المركب أو عدم القول بالفصل. الثاني: أن يجعل بعض الملحقات من المداليل اللفظية عرفا مثلا يغسل الثوب من بول ما لا يؤكل لحمه يجعل تعبيرا عن النجاسة وإن كان يحتمل الغسل غير النجاسة، وأيضا ورد النص في الثوب لا في البدن والأواني وغيرها فيلحق غير الثوب بالثوب للإجماع ولو لم يكن ذلك أوجب الالتزام بأنهم كانوا يقيسون وهو باطل وإنما يشكل ذلك على الموهنين لأمر الإجماع كالسبزواري (رحمه الله)، وأما المعتنون بالإجماع المعتقدون لحصوله وتحصيله في أكثر المسائل كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى وابن إدريس أو في كثير منها كالعلامة والشهيد والمحقق فلا يعضل عليهم الشبهة، وقد يطلق في عصرنا على مثل ذلك تنقيح المناط ويزعمون أنه غير القياس مع أنه من أردى أنواعه الذي لم يقل به بعض القائلين بالقياس كما مر ولم يحققوا مرادهم بالجملة إذا لم يكن التصريح بالعلة حجة في باب القياس كما قلنا كيف يكون استنباط العلة بالقرائن والتخمينات حجة وليس تنقيح المناط إلا ذلك؟ فالصواب في موارد التجاوز عن النص التمسك بالإجماع المركب وما ذكرنا منه. (ش)

(عن قتيبة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟) أرأيت وأرأيتك وأريتكما وأرأيتكم كلمة تقولها العرب عند الاستخبار بمعنى أخبرني وأخبراني وأخبروني، تاؤها مفتوحة أبدا، و «ما» للاستفهام بمعنى أي شيء وهو مبتدأ ويكون اسمه ضميرا يرجع إلى «ما» و «القول» بالنصب خبره، و «فيها» متعلق بالقول ويجوز رفع القول وجعله اسم يكون وفيها خبره مع إضمار العائد إلى «ما» وكأن الرجل بعدما أجابه (عليه السلام) عن مسألته قال له: أخبرني عن رأيك وسأل عن حكمها بقياسها إلى حكم مسألة اخرى.

(فقال له: مه) زجره ومنعه عن هذا القول وأمره بالكف عنه; لأنه قول بالرأي والقياس. و «مه» كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه اكفف.

(ما أجبتك فيه من شيء) «ما» موصولة، و «من» بيان له، وضمير فيه عائد إلى «ما» أو إلى ما سأله ذلك الرجل، والعائد إلى «ما» محذوف يعني الشيء الذي أجبتك فيه أو الشيء الذي أجبتك به فيما سألت عنه.

(فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) لا عن الرأي والقياس حتى تأتي بصورة المناظرة بالقياس، وتقول:

أخبرني ما رأيك في تلك المسألة.

(لسنا من «أرأيت» في شيء) أي لسنا من أهل السؤال عنهم بأرأيت ووخامة أمره لأن أرأيت استخبار عن الرأي، ولسنا أهل البيت نقول بالرأي في شيء من الأحكام بل كل ما نقول فيها أخذناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذه رسول الله عن جبرئيل (عليه السلام) وأخذه جبرئيل عن الله جل شأنه، وفيه مبالغة بليغة في البراءة عن الرأي وأصحابه وبطلان القياس لأنهم (عليهم السلام) إذا لم يقولوا في الشريعة بالرأي والقياس مع علمهم بعلل الأحكام وأسبابها ومصالحها فغيرهم أولى بذلك.

* الأصل:

22 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين) الولوج الدخول وقد ولج يلج ولوجا إذا دخل، وأولجه غيره، ووليجة

ص: 270

الرجل بطانته ودخلاؤه وخاصته وكل من يعتمد عليه في أمر من الامور، يعني لا تتخذوا من دون الله معتمدا ومتكلا تعتمدون وتتكلون عليه في أمر الدنيا والدين وتقرير أحكام الشرع، فإن أخذتم ذلك لا تكونوا مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر; إذ المؤمن لا يعتمد في شيء من ذلك على غير الله تعالى والاعتماد على الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) اعتماد على الله تعالى.

(فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع) السبب كل شيء يتوصل به إلى غيره، والنسب معروف، وانتسب فلان إلى أبيه أي اعتزى وتنسب أي ادعي أنه نسب، والقرابة والقربى الرحم، وهي في الأصل مصدر يقول: قرب خلاف بعد قربا وقربة قال في المغرب: قيل:

القرب في المكان والقربة في المنزلة والقرابة والقربى في الرحم، وقولهم في الوقف لو قال: على قرابتي تناول الواحد والجمع صحيح لأنها في الأصل مصدر يقال: هو قرابتي وهم قرابتي، وأهل القرابة هم الذين يقدمون الأقرب فالأقرب من ذوي الأرحام وعطف القرابة على النسب إما للتفسير أو من قبيل عطف العام على الخاص إن خص النسب بالأب وعمت القرابة بالأب والام أو بالعكس إن خصت القرابة بالأقرب وعم النسب بالأقرب والأبعد، والبدعة كل ما خالف الكتاب والسنة، والشبهة كل باطل أخذه الوهم بصورة الحق وشبهه به، يعني أن جميع هذه الامور ومنافعها لكونها من الامور الإضافية المستندة إلى الطبائع الحيوانية والقوى الجسمانية والاعتبارات الوهمية والخيالية منقطعة بانقطاع الدنيا فانية بفناء الأبدان، فمن اعتمد عليها وركن إليها وغفل عن الحق بعد من الإيمان واستحق الخسران كما قال سبحانه: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، وقال:

(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون)، وقال:

(يوم يفر المرء من أخيه * وامه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)، وقال: (ولا تتخذوا من دون الله وليجة)، وقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة، فإن بعضها يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يتكل في اموره على الله تعالى لا على ما يتخيل أنه وسيلة لها من الأسباب، وبعضها يدل على أنه يجب عليه أن لا يفتخر بالقرابة والأنساب ولا يتعصب لها، وبعضها يدل على أن الاشتغال بالأهل والمال عن ذكر الله بعيد عن الصواب، وبعضها يدل على أنه ينبغي له أن لا يتخذ وليجة ومعتمدا من دون الله رب الأرباب، وبعضها يدل على أنه يجب عليه الاجتناب من الظلم والافتراء على الله تعالى في جميع الأبواب، ومن جملة ذلك

ص: 271

الاعتماد في امور الدين على أهل الجور والطغيان والتمسك في الأحكام بالقياس; لأنه اتخاذ وليجة من دون الله وافتراء عليه بالكذب.

(إلا ما أثبته القرآن) فإن كل ما أثبته القرآن من العقائد والأحكام والأخلاق والمواعظ والنصائح والزواجر ثابتة أبدا ومنافعها باقية غير منقطعة بانقطاع الدنيا وفناء الأبدان ومفارقة النفس عنها، فيجب على المؤمن الطالب للحياة الأبدية والخيرات الدائمة الاخروية والنجاة من العقوبات الروحانية والبدنية صرف العمر في تحصيل مطالبه ومقاصده من الكتاب وأهلة بالجملة: الإنسان في أول الفطرة خال عن الحالات كلها قابل مستعد لها، وتلك الحالات إما متعلقة بالامور الدنيوية فقط أو متعلقة بالامور الاخروية، ولكل منهما علل ومعدات ومنافع وغايات وعلل الاولى ومعداتها ومنافعها وغاياتها تنقطع بانقطاع الدنيا وفناء الأبدان كانقطاع حالاتها، سواء كانت تلك الامور جائزة أو باطلة، كالافتخار بالنسب والتعصب والتمسك بالبدعة والشبهة إلى غير ذلك من الامور الدنيوية المضرة في الآخرة.

وعلل الثانية ومعداتها ومنافعها وغاياتها تستمر وتبقى أبد الأبد كبقاء الآخرة وعدم انقطاعها، وتلك الحالات وعللها ومنافعها كلها قد أثبتها القرآن فوجب على المؤمن الرجوع إليه، لكن بعضها ظاهر يدركه أرباب العقول الفاضلة وبعضها باطن لا يدركه إلا أصحاب العصمة (عليهم السلام)، فلا بد للمؤمن الطالب للحق من رفض الحالات الاولى كلها والتمسك بالحالات الثانية والرجوع فيما لا يعلم منها إلى أهل العلم، سواء كان من اصول العقائد أو فروعها (1).

ص: 272


1- 1 - لكن يرجع في الاصول إلى العلماء للتعلم بالدليل وفي الفروع للتقليد. (ش)

باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة

* الأصل:

(1) 1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن مرازم) بضم الميم، ابن حكيم، ثقة.

(عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء) البيان الظهور، يقال: بان الشيء بيانا إذا ظهر، وأبنته أظهرته، والتبيان بالكسر مصدر للمبالغة في البيان، وهو شاذ; لأن المصادر على التفعال إنما تجي بفتح التاء مثل التذكار والتكرار ولم تجي بالكسر إلا التبيان والتلقاء.

(حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد) من الأحكام وأسرار التوحيد وعلم الأخلاق والسياسات وغير ذلك مما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ولكن بعضه ظاهر وبعضه باطن لا يعلمه إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام)، وسائر الناس مأمورون بالرجوع إليهم والأخذ منهم.

(حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن) الاستطاعة القدرة على الشيء، «ولو» للتمني، وكونها للشرط على حذف الجزاء بعيد.

(إلا وقد أنزله الله فيه) لأن الله تعالى عالم بمصالح العباد ومنافعهم وما يتم به نظامهم في النشأتين كلياته

ص: 273


1- - هذا الباب رد على الإخباريين، أعني الجهلة منهم وحشوية أهل الحديث لأنه ترغيب في التمسك بالكتاب وهم ينهون عنه، والمراد بالسنة الحكم المعلوم بالتواتر من قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو فعله وتقريره،وليس المراد منها المنقول بخبر الآحاد، فإن المنقول منه (صلى الله عليه وآله) كذلك مظنون وهو يساوي ما روي عن الأئمة (عليهم السلام) ولا يتعقل أن يجعل أحدهما دليلا على الآخر. (ش)

وجزئياته، والحكمة تقتضي عدم إهمال شيء منها فأنزل جميع ما يحتاجون إليه في تكميل الحقيقة البشرية (1) وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وأمره بالتبليغ لئلا يكون لهم على الله حجة والأولى أن يقرأ «إلا» بكسر الهمزة وتشديد اللام ليكون استثناء من مفعول يقول، وهو ذلك الكلام الدال على التمني إنزال ما احتيج إليه في القرآن ويفيد أن ذلك القول مقيد بحال الإنزال ولا يتحقق بدونه وإلا لزم عدم تحقق الإنزال وأنه خلاف الواقع أو استثناء من قوله شيئا في الكلام السابق، ولا يلزم الفصل بين القيد والمقيد بكلام أجنبي; لأن «حتى لا يستطيع» تمام للسابق وغاية له. نعم يلزم تقييد الترك بضده وهو الإنزال. ويمكن أن يقال: هذا التركيب مثل تركيب «لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول» ففيه مبالغة وتأكيد في عدم ترك شيء مما يحتاج إليه العباد من وجهين:

الأول: أن المطلوب وهو عدم تحقق الترك قد علق نقيضه وهو إثبات شيء من أفراد الترك بالمحال، وهو أن يكون الإنزال من أفراده والمعلق بالمحال محال، فعدم الترك متحقق.

والثاني: أن الأصل في الاستثناء هو الاتصال فعند سماع الأداة قبل سماع ما بعدها يتوهم إخراج شيء من أفراد الترك، فإذا جاء بعدها ما ينافيه - أعني الإنزال - ورجع الاستثناء من الاتصال إلى الانقطاع جاء التأكيد لما فيه من الإشعار بأنه لم يجد شيئا من أفراد الترك حتى يستثنيه فرجع الأمر إلى استثناء الإنزال وتحويل الاتصال إلى الانقطاع، وقيل: ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام من حروف التنبيه والكلام استئناف لتأكيد ما سبق.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي

ص: 274


1- 2 - وبالجملة: ما يحتاجون إليه في الدين وما يهتم به القايسون من فروع الدين فإن الناس ربما يتفق لهم مسائل لا يعرفون حكم الله فيه ويقولون: ليس هذا في الكتاب والسنة فيخترعون له حكما بالرأي والقياس والحديث يردعهم عن ذلك بأن كل شيء من أحكام الدين فهو يستنبط من الكتاب والسنة ولا يحتاج أحد إلى القياس، ليس هذا ناظرا إلى العلوم الكونية. (ش)

جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه) كما قال الله: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)، وقال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فقد أنزل جميع ما يحتاجون إليه من امور الدين والدنيا مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها.

(وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله)) ثم أمره أن يعلمه عليا (عليه السلام)، ثم انتقل من علي (عليه السلام) إلى أولاده الطاهرين، فمن علم شيئا من ذلك فقد أخذه من مشكاة النبوة، ومن لم يعلمه وجب عليه الرجوع إليهم، فإن لم يقدر وجب عليه السكوت فإن السكوت عند حيرة الجهالة خير من الاقتحام في مهاوي الضلالة.

(وجعل لكل شيء حدا) يعني جعل لكل شيء مما يحتاجون إليه من الأحكام والأخلاق والأعمال والعدل المتوسط (1) بين الإفراط والتفريط، وغير ذلك من أحوال المبدأ والمعاد والحشر والنشر حدا معينا ووضعا مقدرا لا يجوز التجاوز عنه والحد في الأصل المنع وفعله من باب طلب ثم سمي الحاجز بين الشيئين حدا تسمية بالمصدر ومنه حدود الحرم وحدود الدار وقولهم لحقيقة الشيء: حد لأنه جامع مانع ومنه أيضا حدود الله تعالى للأحكام الشرعية، لأنها مانعة من التجاوز عنها إلى ما ورائها (تلك حدود الله فلا تعتدوها).

(وجعل عليه دليلا يدل عليه) يعرفه العالم بالنصوص الإلهية والبراهين الربانية والرموز القرآنية ولا يعلم جميع ذلك إلا الأوصياء (عليهم السلام)، فمن اعتمد في شيء من ذلك على رأيه فقد ضل وأضل، ويحتمل أن يراد بالدليل النبي والأئمة صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين; وقيل: المقصود أنه جعل لكل من الحقائق العلمية والأحكام الشرعية حدا، أي معرفا تاما يوجب تصوره بكنهه أو بوجه يمتاز عن جميع ما سواه

ص: 275


1- 1 - هذا الذي ذكره الشارح يدفع كثيرا من الأوهام الباطلة، وما يتشكك فيه الجهال من أنه ليس جميع العلوم والصنائع والاختراعات في القرآن، ففي أي موضع منه يوجد كون زوايا المثلث مساوية لقائمتين مثلا؟ وفي أي موضع منه علاج السل والسرطان وعدد العروق والأعصاب؟ والجواب: أن الغرض من بعث الأنبياء تعليم التوحيد والمعارف الإلهية وبيان الحشر والنشر وتهذيب النفس ووكل الله لسائر العلوم والصنائع قوما آخرين والقرآن والسنة جامعان لأغراض الدين وما بعث له الأنبياء من المعارف الإلهية، فإن اشير فيها إلى علم آخر فهو بالقصد الثاني على سبيل الإعجاز ولو كانوا مبعوثين لتلك العلوم لوجد في القرآن والسنة تفاصيل علم الطب والطبيعة لا بالإشارة التي لا يتنبه له أحد ولو كانت عنايتهم بعلوم الدنيا لم يكن لهم هذا الشرف والرتبة والتقرب إلى الله تعالى كما ليس لمخترعي الصنائع ومكتشفي العلوم، ولو كان شرف الكتاب السماوي بإشارة مجملة إلى مسألة طبية أو حكم رياضي كان كتب ارشميدس وجالينوس أشرف منه لأنها تشتمل على آلاف من تلك المسائل مفصلة مبينة فثبت من ذلك أن هذه العلوم الدنيوية دون شأن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام). (ش)

وجعل عليه دليلا وبرهانا يوجب التصديق بوجوده في نفسه، فالحد وما يجري مجراه في التصورات والدليل ما يجري مجراه في التصديقات.

(وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا) من العقوبة ولم يترك تحديد عقوبة المتعدي حتى ذكر حد الخدش واللطم وأنواع الضرب والشتم ونتف الشعر وأمثال ذلك، ولا يعرف حقيقة تلك الحدود وكميتها وكيفيتها ومواضعها إلا الراسخون في العلم، وقيل: جعل على المتعدي حدا آخر غير الحدود المتعلقة بالحقيقة الإنسانية; إذ يخرج الإنسان بسبب التعدي عن حدود الله عن حدود الحقيقة الإنسانية إلى حدود البهيمية والسبعية وغيرها.

* الأصل:

3 - علي، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالا ولا حراما إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة».

* الشرح:

(علي، عن محمد، عن يونس) المراد بعلي علي بن إبراهيم، وبمحمد: محمد بن عيسى، وفي بعض النسخ: «علي بن محمد، عن يونس»، قيل: هذا ليس بصحيح، فإن علي بن محمد الذي يجعله المصنف صدر السند لم يدرك يونس ولا روى عنه.

(عن أبان، عن سليمان بن هارون) وهو مشترك بين ثلاثة كلهم من أصحاب الصادق (عليه السلام) أحدهم الأزدي الكوفي، والثاني العجلي، وهو من أصحاب الباقر (عليه السلام) أيضا، والثالث النخعي. وقال في الخلاصة: إن النخعي ضعيف جدا.

(قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما خلق الله حلالا ولا حراما إلا وله حد) لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء ومقاديرها وخصوصياتها ومنافعها ومضارها وبمصالح العباد، فجعل بعض تلك الأشياء المعلومة المعينة حلالا وبعضها حراما تكميلا لنظامهم وتتميما لمصالحهم وجعل على الحلال والحرام دليلا يدل عليه وحدا معينا لا يجوز التخطي عنه، وبين جميع ذلك لرسوله (صلى الله عليه وآله) وأمر الناس باتباعه والأخذ منه والسماع عنه ولم يجعل شيئا غير معين حلالا ولا حراما ولم يجعل تعيينه إلى آراء العباد كما ذهب إليه الفرق المبتدعة وقالوا: ليس لله تعالى حكم في الواقع وإنما الحكم ما استخرجه المجتهد برأيه.

وهذا باطل قطعا; لأنه يستلزم فساد النظام وتبدل الأحكام واختلاف الملل وفشو الجور بحسب

ص: 276

اختلاف الآراء وتفاوت الأفهام، ويوجب أن يكون الشيء واجبا وحراما ومكروها ومباحا، ومن اعتقد به وذهب إليه فقد افترى على الله كذبا. قيل: وإنما قال: «خلق» ولم يقل: «جعل» للإشعار بأن حسن الأفعال وقبحها أمر ذاتي لها ليس بجعل جاعل، فالحلال حلال بالذات وله حد ذاتي والحرام حرام بالذات وله حد ذاتي، وإنما صنع الباري إيجاد الأشياء وإفاضة الوجود من دون تصييرها وجعلها إياها; إذ الذاتي للشيء لا يعلل (1).

(كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار) تشبيه معقول بمحسوس لزيادة الايضاح والتقرير، يعني أن الله سبحانه بنى لعباده مدينة الشرع، وبين حدودها وعين طريقها وليس لأحد تغيير تلك الحدود والدخول فيها من غير هذا الطريق، وفيه إيماء إلى قوله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (2)، كما أن صاحب الدار بين حدودها وعين طريقها وليس لأحد غيره تغيير تلك الحدود والدخول فيها من غير طريقها كما قال عز شأنه: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها... وأتوا البيوت من أبوابها).

لا يقال: حمل الطريق والدار على الموصول غير مفيد لظهور أن الطريق طريق والدار دار.

لأنا نقول: المقصود أن ما كان مأخوذا للطريق ينبغي أن يكون طريقا مستطرقا ولاغيره وما كان مأخوذا للدار والسكنى ينبغي أن يكون كذلك لا غيره، وفيه رد على من تصرف في الشرع بعقله من جهة القياس أو الترجيح أو الاستحسان أو غير ذلك، فإن ذلك التصرف يوجب تغيير الحدود ويجعل الحلال حراما والحرام حلالا، ثم أكد (عليه السلام) ما هو بصدده من أنه سبحانه بين جميع الأحكام وعين حدودها بذكر بعض الأحكام الصغار.

(حتى أرش الخدش) الأرش دية الجراحات، والجمع اروش، مثل فرش وفروش، والخدش مصدر، خدش وجهه إذا ظفره فأدماه، أو لم يدمه، ثم سمي به الأثر، ولهذا يجمع على خدوش.

(فما سواه) عطف على الخدش أي حتى أرش ما سوى الخدش مما هو دونه أو فوقه.

(والجلدة ونصف الجلدة) عطف على أرش الخدش والجلد والجلدة بفتح الجيم وسكون اللام ضرب الجلد بكسر الجيم، يقال: جلده الحد أي ضربه وأصابه جلدة، وفيه مبالغة على أن الله تعالى بين جميع ما

ص: 277


1- 1 - إشارة إلى ما قاله أهل المعقول من أن المجعول هو الماهية لا الوجود كما قال الرئيس: ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها. (ش)
2- 2 - أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني في المسند الكبير والحاكم في المستدرك ج 3، ص 126 من حديث ابن عباس وجابر بن عبد الله.

يحتاج إليه العباد في الكتاب ولكن الكتاب بحر عميق ولا يدرك ما في قعره إلا الغواصون في بحار المعرفة.

* الأصل:

4 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة».

* الشرح:

(علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة) ولا يعرف ذلك إلا بأنوار عقلية وموهبة ربانية وأعمال بدنية ومجاهدات نفسانية ورياضات فكرية واستعدادات فطرية موجبة لانكشاف حقائق الأشياء وصور كلياتها وجزئياتها ومبادئها وغاياتها وظواهرها وبواطنها (1) كما هو طريقة الصديقين الرافضين عن ذواتهم جلابيب إلهيات البشرية المانعة عن مشاهدة أنوار الحضرة الربوبية، فخذوا أيها الناس ما تحتاجون إليه من معالم دينكم وغيرها من الكتاب والسنة، وارجعوا إلى أهلها إن كنتم لا تعلمون، ولا تقولوا مالا تعرفون ولا تتسرعوا

ص: 278


1- 1 - هذا الكلام تعميم للعلوم المستنبطة من الكتاب والسنة بالنسبة إلى ما سبق، فإنه خص العلم سابقا بالعلوم الدينية وجعله هنا انكشاف حقائق الأشياء وصور كلياتها وجزئياتها، وهذا يخالفه بحسب ما يتراءى في بادي النظر، والحق عدم المنافاة بين الكلامين. بيان ذلك: أن العلم إما جزئي، وإما كلي، ولا كمال في معرفة الجزئي من حيث أنه جزئي، ألا ترى أنه لا يهتم أحد بمعرفة أفراد الإنسان والنبات وعمدتهم معرفة الكلي، وقد يعتنى بالجزئي من حيث إنه يفيد فائدة كلية كعلم الرجال والتواريخ ومعرفة النجوم الثوابت، ثم الكليات مترتبة والعلم الكلي هو النظر في أصل الوجود مبدؤه وصفاته وغايته، فإذا عرفت ذلك كليا استغنى عن الجزئيات كما أن الطبيب إذا عرف أجزاء بدن الإنسان وكليات أمراضه وعلاجه استغنى عن تتبع الأفراد ولا كمال له في معرفتها، وكذلك من عرف الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد عرف حقيقة كل شيء وأنه مخلوق له وخلق لغاية وظاهرها ماهيتها وباطنها تعلقها بالمبدأ الواجب، وأما التفاصيل والجزئيات من علوم الدنيا فخارج عن مقصود الكتاب إلا أن الأولياء كلما كان علمهم بالواجب أتم كان علمهم بمخلوقاته أكثر وأعم، فإن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، ألا ترى أنك إذا علمت زيدا جوادا غنيا علمت أنه يكثر منه الخيرات، وإذا عرفت أن بجنبه أهل بيت فقراء وهو عالم بهم أنه يعطيهم ويغنيهم عن المسألة، وإذا علمت عمرا ملحدا زنديقا علمت أنه لا يصوم رمضان في شدة الحر، كذلك من عرف الله تعالى عرف أفعاله من حيث إنه فعله ويختلف ذلك باختلاف المعرفة، ولا يبعد أن يكون بعض الأولياء عارفا بما كان وما يكون في الجملة باختلاف مراتبهم فعلا وقوة، فإن ادعى أحد أن ذلك حاصل لهم بالقرآن لم يكن مجازفا; إذ حصل لهم المعرفة بالله من القرآن. وبالجملة استفادة العلم بجميع حقائق الأشياء من القرآن خاص بالأولياء. (ش)

إلى ما تفترون، فإن أكثر الحق فيما تنكرون ومن أنكر الحق إذا خالف طبعه أو نبا عنه فهمه أو سبق إليه اعتقاد ضده بشبهة أو تقليد أو قياس أو استحسان فهو من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة فما له في الآخرة من ولي ولا نصير.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله» ثم قال في بعض حديثه: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال»، فقيل له: يا بن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟ قال: «فإن الله عز وجل يقول: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)، وقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما)، وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله) أي فاسألوني عن موضعه ومأخذه من كتاب الله، وفيه تنبيه على أن كل شيء كان أو يكون أو كائن فهو في القرآن; لأنه برهان كل علم ودليل كل شيء ونور كل حق وصراط كل غائب وشاهد كل حكم وضياء كل صدق، فكل فعل لا يطابقه فهو باطل، وكل قول لا يوافقه فهو كاذب، وكل من تمسك برأيه فهو خاسر.

(ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القيل والقال) وهما إما فعلان ماضيان خاليان عن الضمير جاريان مجرى الأسماء مستحقان للإعراب وإدخال حرف التعريف عليهما، أو مصدران يقال: قلت قولا وقيلا وقالا وقالة، والمقصود أنه نهى [(عليه السلام)] عن فضول ما يتحدث به المتحدثون وزوائد ما يتكلم به المتجالسون مثل الخوض في أخبار الناس وحكاية أقوالهم وأفعالهم ونقل أحداث الزمان ووقائعها مما لا يجدي نفعا ولا يورث حكمة، فإن ذلك يوجب فساد القلب ورينه وميله إلى أمثال تلك المزخرفات، واشتغاله عن تعلم ما لا بد منه من العلوم الدينية، والمعارف اليقينية.

وقيل: القال الابتداء والقيل الجواب. وقيل: نهى عن كثر الكلام مبتدئا ومجيبا، وقيل: نهى عن الأقوال التي توقع الخصومة بين الناس بما يحكى لبعض عن بعض، وقيل: نهى عن المناظرة في العلم والمجادلة في

ص: 279

البحث، فإن المناظرة لقصد الغلبة في العلم والمفاخرة بالفضل تورث النفاق والعداوة والأخلاق المهلكة والذنوب المردية والآفات الكثيرة، والأحسن التعميم وإرادة جميع هذه الامور فإن كلها مذموم عقلا ونقلا.

(وفساد المال) أي نهى عن فعل ما يوجب فساده مثل صرفه في غير الجهات المشروعة وترك ضبطه وحفظه وإعطاء الدين دون إشهاد أو وثيقة بغير الموثوق به وإبداعه عند الخائن وأمثال ذلك.

وأما تحسين الطعام والثياب وتكثيرها وتوسيع الدار فليس من إفساد المال للموسع عليه وإفساد المال مذموم قطعا; لأن المال الحلال مكسبه ضيق جدا وفساده يوجب هلاك النفس وتضييع العيال أو التعرض لما في أيدي الناس; ولأن الله تعالى إنما أعطاه ليصرف في وجوه البر وأبواب الخير، فمن أفسده كان كمن ضاد الحق وعاداه. وبالجملة في حفظه مصلحة للدين والدنيا.

(وكثرة السؤال) عن امور لا يحتاجون إليها، سواء كانت من الامور الدنيوية أو الدينية، كما مر أن مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شيء، وفيه حث على ترك الإلحاح في السؤال، وإن رجلا سأل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن مسائل فأجاب ثم عاد ليسأل عن مثلها فقال (عليه السلام): «مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون، ولما تعملوا بما علمتم» (1)، وقد نقل أن بعض أهل العلم سئل عن شيء فأجابه فقيل له: فإن كان كذا فأجابه، ثم قيل له: فإن كان كذا فقال:

هذه سلسلة متصلة باخرى إنما قال ذلك لكراهة الاستكثار في الاستفسار وذلك مذموم خصوصا من الجاهل الذي لا يقدر على إدراك حقائق الأشياء كما هي ومعرفة اصول العقائد كما ينبغي وفهم غوامض المسائل من أحوال المبدأ والمعاد والجبر والقدر والتفويض وأمثال ذلك، فإن ولوغه في ذلك يوجب حيرته وضلالته وكفره (2)، والأسلم له أن يكون من أهل التسليم والانقياد ويرشد إليه ما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (3)، وذلك لا

ص: 280


1- 1 - تقدم ضمن الحديث 4 من باب استعمال العلم.
2- 2 - وذلك لأن جميع المسائل ليس مما يفهمه جميع الناس، بل منها ما لا يناله أحد إلا الأولياء والأنبياء، فما يتبادر إلى ذهن بعض الجهال من أن اصول العقائد جميعها يجب أن يكون مما يفهمه العامة وأن ما لا يعرفونه فهو باطل غلط، فكم من مسألة يحرم على الجاهل التعرض لها ويحرم على العالم بيانها للعوام إلا إذا اطمئن بقدرة المستمع على امتياز مدركات الوهم من مدركات العقل أو يمرنه أولا ويعد ذهنه ثم يلقيه إليه، مثلا لا يعرف العامي الفرق بين الحادث الذاتي والحادث الزماني، والمحال العقلي والمحال العادي، والنوادر ولا يفرق بين كون الشيء مما لا يدركه العقل وكونه مما يدرك استحالته، وهكذا وقد رأينا جماعة يحكمون ببطلان آراء بأنهم لا يفهمونه وأنه بعيد عن أذهان العامة، وأنه لا يفيد العوام ولا يعلمون أنه لا يجوز حرمان القادر لعجز العاجز. (ش)
3- 3 - صحيح مسلم: ج 7، ص 91.

ينافي الحث على السؤال كما في بعض الروايات مثل ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حين سئل عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات قال: «قتلوه ألا سألوا فإن دواء العي السؤال» (1)، وعنه (عليه السلام) أيضا: «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» (2); لأن السؤال عن القدر الضروري مطلوب وعن الزائد على ذلك مذموم منهي عنه; لأنه موجب لملال العالم وتضجره ومقتض لتضييع السائل عمره فيما لا يعنيه بل يضره، وفي قصة موسى والخضر (عليهما السلام) تنبيه على المنع من السؤال قبل أوانه إذ قال: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا) فلما وقع السؤال مرارا من غير موقعه لم يصبر عنه حتى قال:

(هذا فراق بيني وبينك)، وقد وقع النهي عن كثرة السؤال من طرق العامة أيضا قال عياض:

وقيل: يعني بكثرة السؤال التنطع في المسائل وكثرة السؤال عما لا ينفع ولا تدعو الحاجة إليه وسؤال الناس أموالكم وكان السلف ينهون عنهم، وقد يراد بها سؤال الناس له (صلى الله عليه وآله) عما لم يؤذن في السؤال عنه لقوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء...) الآية.

وفي الصحيح: «أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته»، وقد يعني بها سؤال الرجل عن حاله ونسبه وتفاصيل أمره فيدخل بذلك الحرج عليه إما بكشف ما لا يرد كشفه لضرورة السؤال وبالكذب إن ستر ذلك عنه وأخبر بخلافه، وبالخفاء وسوء الأدب إن ترك الجواب عنه، انتهى كلامه.

(فقيل له: يا بن رسول الله، أين هذا من كتاب الله؟) سأل سائل عن مدارك هذه الامور الثلاثة ومواضعها من كتاب الله تعالى تعلما وتفهما لا تعنتا لقوله (عليه السلام): «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله».

(قال: فإن الله عز وجل يقول: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)) هذا مأخذ للأول. والنجو السر بين الاثنين، يقال: نجوته نجوا، أي ساررته، وكذلك ناجيته مناجاة وانتجى القوم وتناجوا أي تساروا وانتجيته أيضا إذا خصصته بمناجاتك.

والاسم النجوى والنجي على فعيل، والمناجي المخاطب للإنسان والمحدث له، والنجوى وإن كان إسما من النجو لكنه قد يقع موقعه ويستعمل مصدرا، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل، وقد فسر هاهنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وغير ذلك، قيل: استثناء الموصول من النجوى غير واضح، واجيب عنه بوجوه ثلاثة:

ص: 281


1- 1 - و (4) تقدما في باب سؤال العالم وتذاكره.

الأول: أن المراد بالنجوى المناجي أي لا خير في كثير من مناجيهم إلا من أمر بصدقة.

الثاني أن المضاف محذوف من جانب الاستثناء والتقدير إلا نجوى من أمر بصدقة.

الثالث: أن الاستثناء منقطع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير.

(وقال: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) نهى الأولياء عن أن يؤتوا السفهاء الذين لا رشد لهم أموالهم فينفقوها فيما لا ينبغي ويضيعوها ويفسدوها، وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها في تصرفهم وتحت ولايتهم وهو الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، وقيل: نهى كل أحد أن يعمد إلى ما خوله الله من المال فيعطي امرأته وأولاده ثم ينظر إلى أيديهم، وإنما سماهم سفهاء استخفافا بعقلهم واستهجانا لجعلهم قواما على أنفسهم وهو أوفق.

((التي جعل الله لكم قياما)) أي تقومون بها وتنتعشون بها، وعلى الأول يأول بأنها التي من جنس ما جعل الله لكم قياما، سمي ما به القيام قياما للمبالغة، كذا في تفسير القاضي واقتصر صاحب الكشاف على الأول. وبالجملة فيها نهي عن إفساد المال وإضاعته، سواء كان له أو لغيره.

وقال في الكشاف: وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولئن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من الاحتياج إلى الناس، وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك.

(وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)) الجملة الشرطية صفة لأشياء، والمعنى لا تسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تكاليف شاقة عليكم إن حكم بها عليكم وكلفكم بها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها، وذلك نحو ما رواه العامة أنه لما نزل (ولله على الناس حج البيت) قال سراقة بن مالك: أكل عام؟ فأعرض عنه رسول الله (عليه السلام) حتى أعاد ثلاثا فقال: «لا، ويحك، ما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم» (1)، ونحو ما اتفق لبني إسرائيل في البقرة حيث سألوا عنها مرارا حتى ضيقوا على أنفسهم (2) وكذا لا تسألوا عن أسباب الامور التي لا تعلمون وجه صحتها ولا تنكروها كما وقع لموسى (عليه السلام) حيث سأل الخضر (عليه السلام) مرارا حتى

ص: 282


1- 1 - أخرجه عبد بن حميد عن الحسن كما في الدر المنثور ج 2، ص 55 و ص 335.
2- 2 - هذا مما يستدل به على البراءة في الشبهات الحكمية مما يكون بيانه على عهدة الشارع، فإذا سكت عن حكم دل على عدم ذلك الحكم، وأما الشبهات الموضوعية التي ليس بيانها عليه فيستدل بأدلة اخرى، وبالجملة هذا من الشارح ينافي ما سبق منه من الحكم بالاحتياط فيما يحتمل الحرمة. (ش)

استوجب ذلك المفارقة بينهما ومن طريق العامة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رحم الله موسى بن عمران لوددت أن لو صبر ولو صبر لرأى عجائب كثيرة» (1)، وكذا لا تسألوا عن غير ذلك من منازلكم في الآخرة ومن أنسابكم وغيرهما مما لا يعنيكم وذلك نحو ما روي عن ابن عباس أنه (عليه السلام) كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: «سلوني لا اسأل عن شيء إلا وأجبت» فقال رجل: أين أبي؟ فقال: في النار، وقال عبد الله بن حذافة وكان يطعن في نسبه ويدعى لغير أبيه: من أبي؟ قال: «أبوك حذافة بن قيس»، وقال آخر: من أبي؟ قال: «أبوك فلان الراعي» فنزلت الآية (2)، وقد أشار إليه سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلاتنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» (3).

وقال بعض أصحابنا: يندرج في هذا النهي تكلم أكثر المتكلمين الذين يخوضون في البحث عن صفات الله وأفعاله وآياته وكلماته بمجرد اعتقاده ورأيه أو باتباعه من اشتهر في هذه الصنعة (4) فإن من أراد أن يعرف خواص أسرار المبدأ والمعاد بهذه الصيغة المسماة بعلم الكلام فهو في خطر عظيم; إذ طريق معرفة

ص: 283


1- 1 - راجع تفسير ابن كثير ج 3، ص 97، نقله عن ابن جرير من حديث ابي بن كعب بنحوه.
2- 2 - أخرج نحوه ابن مردويه كما في الدر المنثور ج 2، ص 335.
3- 3 - النهج - قسم الحكم والمواعظ: تحت رقم 105.
4- 4 - طريق العلم باصول الدين إما كلياتها مجملا كالتوحيد وصفات الواجب والنبوة وصدق النبي ودلالة المعجزة عليه وأمثال ذلك فهو العقل لا غيره، وأما التفاصيل والكيفيات ودفع الشبهات فقد يتمسك فيها بالعقل، وقد يتمسك بنصوص من ثبت حجية قوله والعقل من حجج الرحمن، ودل على ذلك ما سبق في الكتاب الأول من الآيات والأحاديث فليس ذم علم الكلام من جهة أخذه من العقل كما يتوهمه أهل الحديث وليس أيضا ترغيبا في أخذ الاصول التي يعتبر فيها اليقين من الأحاديث المظنونة إذ لا يتولد اليقين من الظن ولا يفيد في ذلك كون الظن في عرفهم علما بل النهي عن الكلام وذمه متوجه إلى من يتعصب للمذاهب الباطلة والتجشم لتصحيحها كما نرى من تعصب من الأشعرية في تصحيح ما نقل عن رئيسهم في الكلام النفسي والكسب والجبر والقدر لأن رئيسهم كان خبيرا بمذاق العوام وأوهامهم فاخترع امورا تقرب إلى ذهنهم وإن كان مخالفا للعقل مثل تعظيم القرآن في نفوس العوام اقتضى أن يقال كلام الله قديم فصرح به وقبل منه العوام وأنكروا على من قال: هو حادث وكفروه بأنه توهين للقرآن وإن كان هذا مخالفا للعقل، وكذلك قوله: بأن كل شيء بإرادة الله وليس للناس اختيار رآه الأشعري أقرب إلى أذهان متعبدي العوام من أن يقال: إن فعله بإرادته لا بإرادة الله فتعصب أتباعه له واخترعوا أقوالا منكرة تجشما، ولا يدل ذلك على توهين أمر العقل وعدم حجية الدلائل المأخوذة منه، ولعلنا نتكلم في ذلك في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش)

الله والسبيل إلى عجائب ملكوته وأسرار كتبه ورسله شيء آخر، ومن تمسك بغيره فهو في حجاب كثيف وخطر شديد.

أقول: يدل على ما ذهب إليه هذا الفاضل ما سيجئ في باب الاضطرار إلى الحجة عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل قال: جعلت فداك، إني سمعت تنهى عن الكلام وتقول:

ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون» ولكن اندراجه في القيل والقال أولى وأنسب.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن حدثه، عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون) كان وجها في أصحابنا قارئا فقيها نحويا، وكان كثير العمل والعبادة والزهد، وكان فاضلا متقدما معدودا في العلماء والفقهاء الأجلة في هذه العصابة ثقة.

(عمن حدثه، عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان) سواء كان ذلك الأمر من اصول العقائد أو فروعها أو غير ذلك من الحالات الجزئية التي يحتاجون إليها في التمدن والتعيش والتكاسب والتعامل.

(إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل) لأن الكتاب أصل لجميع المعارف والحقائق وفيه علم منافع الدنيا والآخرة ومضارهما وعلم كل كائن فما من حكم كلي وجزئي إلا وهو أصله ومبتدؤه وغايته ومنتهاه.

(ولكن لا تبلغه عقول الرجال) أي عقول أكثرهم أو بدون إلهام إلهي وتعليم نبوي وليس ذلك لنقصان الكتاب في الدلالة عليه; لأن الكتاب نور لا يطفى بلجه (1) ومنهج لا يطمس نهجه، بل لقصور عقولهم ونقصان أفهامهم وضعف أذهانهم بحيث لا يدركون من بحر القرآن إلا ظاهره وهم عن إدراك ما في قعره قاصرون ولا يسمعون من تموجه إلا صوتا وهم عن سماع نداء معالمه غافلون فلا يجوز لهم إذ كانوا من

ص: 284


1- 1 - بلجه أي ضؤوه وتبلج الصبح وانبلج أي أشرق.

وراء الحجاب أن ينظروا إلى الآيات ويعمدوا فيها إلى التأويلات ويحملوها على الوهميات والخيالات بمقتضى آرائهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة بل يجب عليهم العكوف على أبواب أصحاب الحكمة وأرباب المعرفة الذين ينظرون بنور بصائرهم وصفاء ضمائرهم إلى ظواهر القرآن وبواطنه ومظاهر الأحكام ومواطنه ويعلمون حقائق كل شيء ومقاماته وحدود الشرع وسياساته اولئك الذين آتاهم الله الحكم وفضلا كبيرا (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا).

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم اميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الامم وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم، وعمى عن الحق، واعتساف من الجور، وامتحاق من الدين، وتلظ [ى] من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا، ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست أعلام الهدى فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متهجمة في وجوه أهلها مكفهرة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، مزقتم كل ممزق وقد أعمت عيون أهلها وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طيب العيش، ورفاهية خفوض الدنيا، لا يرجون من الله ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا، حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس، فجاءهم بنسخة ما في الصحف الاولى، وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم اخبركم عنه: إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الناس) خاطبهم تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى التي أنعمها عليهم تفضلا بعد ما كانوا في شدة وبؤس، وهي بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإنزال الكتاب التي به يتم نظامهم ليدبروا فيه ويشكروا الله بما

ص: 285

استطاعوا، فأشار أولا إلى النعمة المذكورة ثم أردفها بالأحوال المذمومة التي تبدلت بتلك النعمة العظيمة.

(إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنزل إليه الكتاب بالحق) أي متلبسا بالحق، كما قال سبحانه: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) والحق خلاف الباطل.

(وأنتم اميون) أي جاهلون غافلون.

(عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله) في المغرب: الامي منسوب إلى امة العرب وهي لم تكن تكتب ولا تقرأ فاستعير لكل من لا يعرف الكتابة ولا القراءة، وفي النهاية: يقال لكل جيل من الناس والحيوان امة. وفيه: «إنا امة لا نكتب ولا نحسب» أراد أنهم على أصل ولادة امهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الاولى وقيل: الامي الذي لا يكتب، ومنه الحديث:

«بعثت إلى امة أمية»، قيل للعرب: الاميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة.

والمراد بالامي هنا من لم يعرف الكتابة والقراءة ولا شيئا من العلوم والحقائق ولم يحصل له معرفة الصانع وما يليق به ومعرفة الرسول وما جاء به والغرض تقيد إرسال الرسول وإنزال الكتاب بهذه الجملة الحالية هو إظهار كمال تلك النعمة ورفع توهم أن الرسول (صلى الله عليه وآله) تعلم الحقائق من البشر.

(على حين فترة من الرسل) والفترة ما بين الرسولين من رسل الله من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة والوحي، والإمام العادل الحاكم بين الناس وتلك حالة انقطاع الخير وموت النفوس بداء الجهل، والفترة بهذا المعنى تشتمل ما بين كل رسولين كالفترة بين إدريس ونوح (عليهما السلام) وبين نوح وهود (عليهما السلام)، وكانت ثمانمائة سنة وبين صالح وإبراهيم (عليهما السلام) وكانت ستمائة وثلاثين سنة ولكن العلماء إذا تكلموا في الفترة وأطلقوها يعنون بها ما بين عيسى (عليه السلام) ونبينا (صلى الله عليه وآله) وكانت خمسمائة سنة كما دل عليه بعض روايات أصحابنا، ونقل البخاري عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة (1)، وإنما قيد نعمة الإرسال والإنزال بكونها في تلك الحالة بيانا

ص: 286


1- 1 - قول سلمان موافق للنصارى تقريبا، فإنهم يعدون بين الميلاد والهجرة ستمائة واثنين وعشرين سنة، وأما روايات أصحابنا فيحتمل أمرين: الأول: عدم صحتها وسهو الراوي في نقلها عن الإمام (عليه السلام)، وهو الظاهر. والثاني: عدم صحة قول النصارى وعدم ضبطهم تاريخ ولادة المسيح (عليه السلام) وغلطهم نحو مائة سنة، وهذا بعيد بل محال في بادىء النظر كما لا يحتمل أن يشتبه تاريخ الهجرة على المسلمين جميعهم وغلطوا ولا يكون سنتنا هذه في المائة الرابعة عشرة، بل في الثالثة عشرة مثلا، ومع ذلك فيمكن إبداء احتمال الغلط في تاريخهم في الجملة دون تاريخ المسلمين لأن المسلمين كانت لهم دولة وسلطان من مبدأ أمرهم وكان لهم دواوين الخراج وضبط الوقائع وكتب التواريخ وعناية تامة بامورهم بخلاف النصارى فإنهم كانوا في اضطهاد وضيق إلى ثلاثمائة سنة وكان ضبط الوقائع والتواريخ بل الحكومة والسلطان بيد المشركين، وكان تاريخهم تاريخ الإسكندر و «المجسطي» أدق كتاب بقي إلى الآن من المائة الثانية بعد الميلاد لم يذكر فيه شيئا من تاريخ النصارى مع أنه اعتمد على تاريخ الإسكندر وبخت نصر وشهور المصريين فلم تكن العناية بضبط تاريخ المسيحيين شديدة وتواترهم منقطع غير متصل من عهدنا إلى عهد المسيح (عليه السلام)، ولذلك تشكك في قتل المسيح وصلبه (عليه السلام) واختلف فيه أوائلهم وإن اتفق عليه أواخرهم ولو كان تواترهم متصلا لم يصح لنا إنكار صلبه، ولكن ليس لهم يقين بقتله كما قال تعالى: (وما قتلوه يقينا) ثم إن ما ذكرنا يقتضي غلطهم في الجملة لا نحو مائة سنة، بل نحو عشر وعشرين مثلا إذ اشتبه علينا تاريخ ولادة الشيخ بهاء الدين أو وفاة المحقق الكركي لم نغلط مائة سنة قطعا، وأما الغلط والاشتباه في الشهور فغير بعيد فقد ورد في كتاب تحف العقول: أن ولادة عيسى (عليه السلام) في النصف من حزيران والنصارى يقولون في الأربعة والعشرين من كانون الأول واشتبه علينا وفاة الصادق (عليه السلام) أنها في رجب أو في شوال والله العالم. (ش)

للواقع وإظهارا لقدر تلك النعمة; لأن النعمة تتزايد قدرها بحسب تزايد منافعها ولا ريب في أن خلو الزمان عن رسول يستلزم وجود الشرور وفشو الجور والظلم ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة توجب تبدد النظام وتغير الأحكام وفساد أخلاق الناس وبعدهم عن الله ولحوق الذم بهم بمقدار ما يلحقهم من المدح في حال الطاعة والانقياد، فمن الله سبحانه عليهم بما ينقذهم من ورطة الردى والهلكات ويرشدهم في تيه العمى والجهالات، وينجيهم من ظلمة الهوى والشهوات، وتلك نعمة لا أعظم منها ولا يعرف أحد قدرها ولا يؤدي أحد شكرها.

(وطول هجعة من الامم) الهجعة بفتح الهاء وسكون الجيم طائفة من الليل وأيضا نومة خفيفة من أوله وهي من الهجوع كالجلسة من الجلوس، ففي الكلام على الأول استعارة مصرحة وترشيح بتشبيه بدعة الامم وجهلهم وكفرهم بطائفة من الليل في الظلمة واستعارة الهجعة لها، ونسبة الطول إليها وعلى الثاني كناية عن غفولهم في أمر المبدأ والمعاد وسائر المصالح التي ينبغي لهم ورقودهم في مراقد الطبيعة وذهولهم عما خلقوا لأجله.

(وانبساط من الجهل) أي من جهل الامم في مصالح الدنيا والآخرة وشموله لجميعهم إلا ما شذ وجريان أعمالهم وعقائدهم على غير قانون عدلي ونظام شرعي لأنه عند بعثته (صلى الله عليه وآله) لم يكن على التوحيد والشريعة السابقة إلا قليل ممن عصمه الله من الجهل والشرك والتغيير والتبديل وخلسة الشياطين وأما أكثرهم فقد بدلوا وغيروا وأشركوا وشرعوا لأنفسهم ما سولته العرب والعجم وأهل الكتاب، أما العرب فقد اتبعوا عمرو بن لحى بن قمعة بن الياس بن مضر (1)، وهو - كما قيل - أول من سن لهم عبادة الأصنام وشرع لهم

ص: 287


1- 1 - إلياس بن مضر من أجداد النبي (صلى الله عليه وآله)، وأما عمرو بن لحى، فقد ذكر ابن هشام في السيرة أنه خرج من مكة إلى الشام في بعض اموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرها، فقال: أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنما يقال له: هبل، فقدم به مكة ونصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، انتهى. وأقول: ما أشبه عمل عمرو بن لحى بجماعة من المسلمين سافروا إلى بلاد النصارى أخذوا منهم الكفر والفواحش وروجوها بين المسلمين وأفسدوا عليهم الدين، والسبب الداعي لعمرو بن لحى في الجاهلية أن أهل الشام في ذلك العهد كانوا أظهر سلطانا وأقوى يدا وأعلى وأقدم في التمدن كالنصارى في عهدنا والضعفاء يرون التشبه بالأقوياء فخرا وعزة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رأيت عمرو بن لحى يجبر قصبة في النار» الحديث. (ش)

الأحكام وبحر البحيرة وسيب السايبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي وانقادوا له في ذلك بطنا بعد بطن حتى كانت لقبائلهم حول البيت ثلاثمائة وستون صنما سوى ما كان لهم في مواضع استقرارهم فكانت لكنانة وقريش اللات بنخلة ولثقيف العزى بالطائف وللأوس والخزرج المناة بسيف البحر إلى غير ذلك من بيوتات الأعراب ثم لم يكتفوا بعبادة الأصنام حتى عبدوا الجن والملائكة وخرقوا البنين والبنات واتخذوا بيوتا جعلوا لها سدنة وحجاجا يضاهئون بها الكعبة وحسبك بما شرعت الأعراب وخرقت ما اشتملت عليه سورة الأنعام، وأما العجم فبعضهم كانوا يعبدون النيران وبعضهم كانوا يعبدون الشمس وبعضهم كانوا يعبدون البقر وبعضهم كانوا يعبدون الأصنام وبعضهم كانوا يقولون بإلهية بعض الأنبياء إلى غير ذلك من الملل الباطلة والمذاهب الفاسدة، وأما أهل الكتاب (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) (وقالت اليهود عزير ابن الله)، (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا)، (وقالت النصارى المسيح ابن الله)، وغير الجميع كتابهم وبدلوا شرائعهم وألحدوا في أسمائه تعالى وسموه بما لم يسم به نفسه ولم ينطق به كتابه.

وبالجملة: ظلمة الكفر والجهل كانت محيطة بالربع المسكون فأرسل الله تعالى في تلك الحالة محمد (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين وتفضلا على عباده لينجيهم من الجهل والشرور ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

(واعتراض من الفتنة) الفتنة الامتحان والاختبار ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الحق ومعنى اعتراضها كما صرح به بعض شراح نهج البلاغة هو أن الفتنة لما كانت واقعة على غير قانون شرعي ونظام مصلحي ولذلك سميت فتنة أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشي على غير استقامة فلذلك استعير لها لفظ الاعتراض ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية، ويحتمل أن يكون نسبة الاعتراض إليها من باب التجوز

ص: 288

في الإسناد لأن الاعتراض وصف للامم ناش من الفتنة وأن يكون اعتراض الفتنة بمعنى عروضها وانتشارها في الأقاليم.

(وانتقاض من المبرم) أي المحكم من أبرمت الشيء أحكمته، فانبرم أي صار محكما، وقد أشار بالإبرام إلى ما كان الخلق عليه من نظام الأحوال بالشرائع السابقة واستحكام امورهم لمتابعة الأنبياء بانتقاضه إلى إفساد ذلك النظام وتغيير تلك الشرائع.

(وعمى عن الحق) العمى إما مسند إلى الحق أو إلى الامم ففيه على الأول إشارة إلى التباس الحق بالباطل وانطماس نوره في ظلمة الشبهات، وعلى الثاني إشارة إلى فساد عقيدتهم وزوال بصيرتهم عن إدراك الحق بارتكاب الشهوات واقتراف الخطيئات.

(واعتساف من الجور) الاعتساف الأخذ على غير الطريق، والمراد به ترددهم في طريق الضلالة وسيرهم في سبيل الجهالة لاستيلاء ظلمة الغواية على نفوسهم واستعلاء دين الغباوة على قلوبهم حتى قادتهم أزمة إرادتهم إلى المشي في غير سبيل نظام عدلي والجري في غير طريق قانون شرعي.

(وامتحاق من الدين) امتحق الشيء أي بطل وذهب أثره حتى لا يرى منه شيء وامتحاق الدين كناية عن خفائه واستتاره بانتشار سواد الكفر وظلمة الشبهات لأن الامم قد استزلتهم الآراء الفاسدة وأطارتهم العقائد الباطلة إلى أن تركوا دين الحق واخترعوا لأنفسهم أديانا.

(وتلظ [ى] من الحروب) تلظت الحروب التهبت واشتعلت من لظى وهي النار، شبه الحرب بالنار في الإفساد والإهلاك وأسند إليها التلظي وكني بها عن هيجانها ووجودها بينهم في زمان الفترة، ففي الكلام استعارة مكنية وتخييلية ومنشأ هذه الخصلة الذميمة أن ابتلاءهم بالحمية الجاهلية وعدم اهتدائهم إلى المصالح الدينية والدنيوية بعثهم على ما لا ينبغي من القتل والغارات وسبي بعضهم بعضا.

(على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا) الرياض جمع الروضة وأصلها رواض قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. والجنات جمع الجنة وهي البستان من الاجتنان وهو الستر، سميت بذلك لتكاثف أشجارها وتظليلها بالتفات أغصانها واستتار أرضها لشدة الالتفات والإظلال.

(ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، واغورار من مائها) الضمائر المؤنثة راجعة إلى الرياض أو إلى الجنات شبه الدنيا بالجنات في اشتمالها على ما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين، وأضاف المشبه به إلى المشبه من قبيل لجين الماء وذكر الرياض والأغصان والورق والثمر والماء ترشيحا لذلك التشبيه، أو شبه زينة الدنيا ولذاتها بالجنات في كثرة النفع وميل النفس.

واستعار لفظ الجنات للمشبه على

ص: 289

سبيل الاستعارة التحقيقية وذكر الأغصان وأخواتها ترشيحا للاستعارة، وأراد بالرياض نضارة عيش الدنيا وطراوته وحسن رونقه. وبالأغصان متاع الدنيا وزهراتها المنتجة لتلك النضارة، وبالورق ما يوجب زيادة زينتها من الملك والدولة وما يلزمه من الحصول على طيبات الدنيا وحفظ متاعها وثمراتها كما أن الورق موجب لزيادة زينة الشجرة وحافظ لثمرتها من الحر والبرد. وبالثمر التمتع والانتفاع بمتاع الدنيا إذ كما أن المقصود من الشجر غالبا هو التمتع والانتفاع بثمرتها كذلك المقصود من متاع الدنيا وهو التمتع والانتفاع به، وبالماء المكاسب والتجارات والصناعات وغيرها; إذ هي مادة لتحصيل متاع الدنيا ووجوده كما أن الماء مادة للشجرة وبه حياتها وقوامها في الوجود. وعنى باصفرار الرياض تغير نضارة العيش عن الامم سيما عن العرب في ذلك الزمان وفقد طراوته كما يذهب حسن الرياض باصفرارها ولا يقع الالتذاذ بالنظر إليها. وبيبس الأغصان بطلان منافع متاع الدنيا وعدم انتاجه نضارة العيش. وبانتثار الورق انقطاع آمال العرب وغيرهم من الملك والدولة بصرصر البليات وسقوطها بهبوب رياح النكبات.

وباليابس من ثمرها انتفاء التمتع بمتاع الدنيا. وباغورار الماء عدم تلك المواد واندراس طرق المكاس كل ذلك لشدة الجور وكثرة الظلم في البلاد وانتشار الجهل والفساد في العباد وارتفاع النظام العدلي والقانون الشرعي بين الامم وانقطاع الفلاح والصلاح من بني آدم.

(قد درست أعلام الهدى) المراد بها كل ما يمكن أن يهتدى به إلى طريق الحق. وقال شارح نهج البلاغة: كنى بها عن أئمة الدين وكتبه التي يهتدى بها لسلوك سبيل الله، وبدروسها عن موت اولئك أو خفائهم أو زوال الكتب الإلهية المنزلة لهداية الخلق أو تحريفها.

(فظهرت أعلام الردى) وهي كل ما يؤدي إلى الهلاك والضلال ومنها أئمة الجور والعادلين عن الحق الداعين إلى النار.

(فالدنيا متهجمة (1)) أي متعبسة أو باكية أو شديدة أو يابسة جافة أو داخلة عنفا.

ص: 290


1- 1 - بين (عليه السلام) الفوائد الدنيوية للدين الحنيف بذكر ما عليه أهل الجاهلية من أضداد تلك الفوائد، فإن النعم الدنيوية لا تتكثر إلا بسعي الإنسان في الزراعة والصناعة والتجارة ولا يسعى الإنسان إلا في الأمن والراحة وإذا علم أن ثمرة سعيه تكون له ولا يحيف عليه أحد بالجور والظلم، ولا يمكن دفع الظلم إلا بظهور معالم الدين والعمل بقوانين العدل ولم يكن شيء من ذلك في العرب بل في سائر الامم على اختلافهم فكل من كان ذا قدرة وسلطان كان يزعم أن له حقا في قتل من ينازعه وسلب من يخالفه ويريد أن لا يكون مانع عن انفاذ ما يريد ويبغض كل دين وحكم وقاعدة تمنعه من متمنياته وشهواته، وكان بين الروم والعجم وأتباعهم من سائر الامم حروب تتلظى بل بين قبائل العرب أيضا غارات معروفة وأيام معلومة ولذلك كانت الدنيا متعبة في وجوه أهلها. انتهى. (ش).

(في وجوه أهلها) من غير رضائهم بها لكونها غير موافقة لمقاصدهم لاشتمالها على كدورة العيش وقبح الأحوال لأن طيب العيش وحسن الأحوال لأهل الدنيا إنما يكونان مع وجود حاكم عادل بينهم حافظ لنظامهم، وقد كان ذلك الحاكم مفقودا في زمان الفترة خصوصا بين العرب.

(مكفهرة) اسم فاعل من اكفهر مثل اقشعر، أي عابسة قطوبة متغيرة في لونها غبرة لشدة غيظها من أهلها لما فعلوا بها من تخريبها.

(مدبرة غير مقبلة) إليهم لانقطاع زمانها وفساد نظامها بوقوع الهرج والمرج والقتال والجدال وسائر الأعمال القبيحة والأفعال الشنيعة فيها، وحمل المحمولات في هذه الفقرات الثلاث على الدنيا على سبيل التشبيه ووجه المشابهة ما يلزم المشبه والمشبه به عدم إمكان تحصيل المطلوب منهما، فإن مطلوب الطالب لا يحصل ممن عانده.

(ثمرتها الفتنة) أي الضلال عن سبيل الحق والتيه في ظلمة الباطل، وفيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه الدنيا بالشجرة وإثبات الثمرة لها مع ما فيه من تشبيه الفتنة بالثمرة لكون الفتنة مقصودة من الدنيا عند أهلها كما أن الثمرة مقصودة من الشجرة.

(وطعامها الجيفة) قال شارح نهج البلاغة: يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعارا لطعام الدنيا ولذاتها ووجه المشابهة أنه لما كانت الجيفة عبارة عما نتن وتغيرت رائحته من جثة الحيوان وغيرها فخبث مأكله ونفر الطبع عنه كذلك طعام الدنيا ولذاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب والغارة والسرقة ونحوها مما يخبث تناوله شرعا وينفر العقل منه وتأباه كرائم الخلق فأشبه ما يحصل من متاعها إذن الجيفة في خبثها وسوء مطعمها وإن كان أحد الخبيثين عقليا والآخر حسيا فاستعير لفظها له، وهو يحتمل أن يكنى بالجيفة عما كانوا يأكلونه في الجاهلية من الحيوان الغير مذكى وهو ما حرمه القرآن الكريم (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة) أي المضروبة بالخشب حتى تموت ويبقى الدم فيها فيكون ألذ وأطيب كما زعم المجوس. «والمتردية»: أي التي تردت من علو فماتت فإن كل ذلك إذا مات فكثيرا ما يتعفن ويؤكل ويصدق أن طعامهم كان الجيفة.

(وشعارها الخوف، ودثارها السيف) قال شارح نهج البلاغة: الشعار بالكسر، وقد يفتح، وهو الثوب الذي يلي الجسد; لأنه يلي شعره والدثار - بالكسر - الثوب الذي فوق الشعار (1)، وفي الكلام حذف مضاف

ص: 291


1- 1 - لا يخفى أن الناس إذا كانوا خائفين والسيف بيدهم دائما للدفاع عن أنفسهم لم يكن لهم هم في إصلاح المعاش فيزيد فيهم البؤس والفقر ويزال ذلك برواح الدين والخوف من الله تعالى والأمن والسلامة، وكان العرب قبل الإسلام محرومين بائسين. (ش).

أي شعار أهلها ودثارها أهلها، استعار لفظي الشعار والدثار للخوف والسيف ووجه المشابهة الاولى أن الخوف وإن كان من العوارض القلبية إلا أنه كثيرا ما يستتبع اضطراب البدن وانفعاله بالرعدة فيكون شاملا له ملتصقا به شمول ما يتخذه الإنسان شعارا والتصاقه ببدنه ووجه المشابهة الثانية أن الدثار والسيف يشتركان في مباشرة المدثر والمضروب من ظاهرهما، ومن هاهنا ظهر وجه تخصيص الخوف بالشعار والسيف بالدثار.

(مزقتم كل ممزق) التفات من الغيبة إلى الخطاب، والممزق على صيغة اسم المفعول مصدر ميمي بمعنى التمزيق، وهو التخريق والتقطيع، والمراد بتمزيقهم تفريقهم وإزالة ملكهم وقطع دابرهم وتشتيت آرائهم وأهوائهم بالقتال والجدال (1) والتباغض والتباعد والمناقشة والمنازعة.

(وقد أعمت عيون أهلها) المراد بالعين إما البصر أو البصيرة، فهم على الأول لا يبصرون فساد نظام العالم، وعلى الثاني لا يدركون ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة لغلبة ظلمة الضلالة على ضمائرهم واستيلاء غشاوة الجهالة على بصائرهم.

(وأظلمت عليها أيامها) لغروب الملة والدين في آفاقها وظهور ظلمة الجور والكفر في أطراقها.

(قد قطعوا أرحامهم) الرحم عبارة عن قرابة الرجل من جهة طرفيه آبائه وامهاته وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا، ويندرج فيه الأعمام والعمات والإخوة والأخوات وما يتصل بهؤلاء من أولادهم وأولاد أولادهم

ص: 292


1- 2 - مما يبتلى به الامم فيسلب منهم النعم التباغض والتناقض; لأن الإنسان مدني بالطبع محتاج إلى التعاون والتحابب وحسن المعاشرة ولم يكونوا كذلك في الجاهلية بل كان الظلم والجور والفساد فاش في جميع الناس والخوف سار في عامتهم يخاف بعضهم من بعض ومزقوا كل ممزق حتى جمعهم الإسلام على كلمة واحدة وأزال منهم التباغض والجدال. فإن قيل: بقي بعد الإسلام أيضا ظلم الولاة على الرعايا خصوصا في زمان بني امية. قلنا: لا يقاس أحدهما بالآخر فإن الناس في الجاهلية كانوا جميعهم فسقة ظالمين يخاف بعضهم من بعض، وأما بعد الإسلام لم يكن الناس ممزقين بل كان الظلم خاصا بالولاة وكان الولاة من بقية المشركين الذين لم يستأصلوا بعد فكان الظلم من آثار الكفر غير الممحوة لا من آثار الإسلام ومع ذلك كان الناس معترفين بأن ليس للولاة المداخلة في قوانين الشرع وإنفاذ ما يريدونه في حقوق الناس وأما عهد الجاهلية فإن الولاة كانوا في عهدهم محقين في كل ما يفعلون ولم يكن يعد عملهم ظلما، وكان يجب على الرعية إطاعة الولاة وعصيانهم يبيح قتلهم وسلبهم بخلاف زمان الإسلام حيث قالوا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» إلى غير ذلك. (ش)

وفي صلتها برفع الأذى عنهم باليد واللسان وإزالة حاجتهم بالتفضل والإحسان منافع كثيرة وفوائد جليلة في الدنيا والآخرة، وقد رغب سبحانه فيها وأكد شأنها حيث قرنها باسمه جل شأنه ونسب حفظها إليه في قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) وفي قطعها مفاسد عظيمة منها تفرق الأحوال وغلبة الرجال ونقصان الأموال وقصر الأعمار وغضب الجبار والعقوبة الشديدة في دار القرار.

(وسفكوا دماءهم) لأغراض نفسانية وآمال شيطانية لخلو ذلك الزمان عن قوانين شرعية وأحكام ربانية وسلطان مؤيد بتأييدات رحمانية، فإن الخلائق إذ تركوا وطباعهم ولم يكن بينهم حاكم عادل زاجر يرى كل واحد منهم حظ نفسه وأن يكون الأمر له لا عليه ويأخذ عن الغير ما في يده وإن بلغ إلى سفك الدماء وعاد نظام العالم إلى حد الفناء.

(ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من أولادهم) الظرف أعني «بينهم» متعلق بالدفن والوأد الثقل، ومنه الموؤدة أي البنت المدفونة حية، يقال: وأد بنته يئدها من باب ضرب، وأدا فهي موؤودة أي دفنها في التراب وهي حية وكانوا يفعلون ذلك مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم، وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه: (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت)، وفي الصحاح: كانت كندة تئد البنات.

(يجتاز دونهم طيب العيش، ورفاهية خفوض الدنيا) الاجتياز بالجيم والزاي المعجمة المرور.

والدون التجاوز، والرفاهة والرفاهية الخصب والسعة في المعاش والتنعم من الرفه بالكسر وهو ورود الإبل، وذلك أن ترد الماء متى شاءت والخفض الدعة والراحة واللين، يقال: فلان في خفض من العيش إذا كان في سعة وراحة يعني بمر طيب العيش والرفاهية التي هي خفوض الدنيا أو في خفوضها متجاوزا عنهم من غير تلبث عندهم وهذا كناية عن زواله عنهم بالكلية وذلك بسبب انقلاب أحوال الدنيا من الخير إلى الشر، أو بسبب دفن البنات حية. قيل في بعض النسخ: «يحتاز» بالحاء المهملة والزاي المعجمة من الحيازة، أي يجمع ويمسك وراءهم طيب العيش والرفاهية.

وقيل في بعضها: «يختار» بالخاء المعجمة والراء المهملة، يعني المراد عندهم بدفن البنات طيب العيش والرفاهية. وفيه لوم لهم على قبح أفعالهم ووخامة عاقبتهم مع ما فيه من نغص العيش حاضرا لما جبل الإنسان عليه من حب الأولاد واقتراف الشدائد والمصائب بموتهم فكيف يدفنهم أحياء؟ (لا يرجون من الله ثوابا ولا يخافون والله منه عقابا) لأن رجاء الثواب وخوف العقاب تابعان للعلم

ص: 293

بالمعارف اليقينية والإيمان بالله وبرسوله ومستتبعان للعمل بالصالحات والاجتناب من المنهيات (1) وتهذيب النفس عن الرذائل وتزيينها بالفضائل وهم قد كانوا براء من جميع ذلك.

(حيهم أعمى نجس، وميتهم في النار مبلس) المراد بالأعمى أعمى القلب فاقد البصيرة عن إدراك الحق والنجس - بفتح النون وكسر الجيم أو فتحها - من النجاسة، وضبطه بعض الأصحاب بالباء الموحدة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة والحاء المهملة المكسورة من النحس بالتسكين ضد السعد. يعني حيهم أعمى شقي. ومبلس اسم فاعل من الإبلاس وهو اليأس ومنه إبليس ليأسه من رحمة الله وهو أيضا الانكسار والحزن.

ووجه ذلك ظاهر; لأنهم إذا كانوا كافرين مارقين عن الدين عاملين لأنواع الفسوق والشرور كان حيهم أعمى البصيرة فاقد السريرة نجس العين كما قال سبحانه وتعالى: (إنما المشركون نجس) وميتهم مبلسا من الرحمة آيسا من المغفرة خالدا في الجحيم معذبا بالعذاب الأليم.

(فجاءهم) رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك الزمان الذي انكسر فيه دعائم الدين وانهدم بناء اليقين لهدايتهم إلى ما فيه صلاح حالهم في معاشهم ومعادهم وجذبهم عن اتباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة.

(بنسخة ما في الصحف الاولى) صحف إبراهيم وموسى وصحف داود وعيسى وغيرها من الصحف المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) وهي كثيرة، وقد روي أنه «أنزل الله تعالى على شيث خمسين صحيفة». وقيل: يحتمل أن يكون المراد من الصحف الاولى الصحف الإلهية المكتوبة بالقلم الإلهي في الألواح القضائية فإن القرآن نسخة منها قال الله تعالى: (وإنه لقرآن كريم * في لوح محفوظ).

(وتصديق الذي بين يديه) قال شارح نهج البلاغة: هو التوراة والإنجيل، قال الله عز سلطانه:

(ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل) وكل أمر تقدم أمرا منتظرا قريبا منه يقال: إنه جاء بين يديه.

(وتفصيل الحلال من ريب الحرام) أي من شبهته فإن القرآن يميز الحلال من الحرام تمييزا تاما بحيث لا يتطرق إلى الحلال ريب الحرام ولا يشتبه الحلال به أصلا.

ص: 294


1- 1 - إذا لم يرج الإنسان الثواب من الله ولم يخف العقاب كان همه الدنيا اتباع لذاتها وتحصيل شهواتها، إذ لو لم تكن الدنيا له حاصلة كان شقيا محروما في نظره وكان الظلم مباحا له في رأيه; إذ لو عارضه معارض في مطلوب له حل قتله ولم يستعقب له ذلك عقابا في الآخرة ولا في الدنيا إن كان له سلطان ومقدرة بل كان قتل المعارض سبب راحته. وبالجملة عدم الخوف من الله تعالى يسلب الأمن من الناس وينغص عليهم العيش كما قال (عليه السلام). (ش)

(ذلك القرآن) أي ذلك المذكور الموصوف بالصفات المذكورة هو القرآن الجامع لجميع الخيرات والشامل لأحوال جميع الكائنات، وفي ذلك إشارة إلى جلالة شأنه وعلو مكانه بحيث لا يصل إليه طائر النظر ولا يدرك ذاته عقول البشر.

(فاستنطقوه ولن ينطق لكم) أمرهم باستنطاقه واستماع أخباره أمر تعجيز ثم بين أنه لا ينطق لهم أبدا لا لقصوره لأنه ناطق فصيح ومتكلم بليغ ينادي الناس أجمعين من جانب رب العالمين ويدعوهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والدين بل لطريان صمم في أسماع آذانهم العقلية وجريان صلم (1) على قواهم الأصلية فصاروا بحيث لا يفهمون لسانه ولا يدركون بيانه.

(اخبركم عنه) لما أمر باستنطاقه وقال: «إنه لا ينطق» أشار على سبيل الاستئناف إلى أنه (عليه السلام) يخبر نيابة عنه لو استنطقوه; لأنه لسان القرآن وعليه بيانه فوجب الاستماع بأخباره وكسر بذلك أوهامهم في استنكار ذلك الأمر وهذا الكلام على هذا الوجه متعلق بما قبله ويحتمل أن يكون متعلقا بما بعده يعني أخبركم عن القرآن وأحواله، ثم بين تلك الأحوال على سبيل الإجمال بقوله:

(إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة) يعني فيه علم الأولين والحديث عن القرون الماضية وعما وقع بينهم في سوابق الأزمان وما جرى عليهم ولهم من النكال والإحسان. وعلم ما يأتي من الحوادث اليومية والفتن الداهية وأحوال القرون الآتية.

(وحكم ما بينكم) من القضايا الإلهية والفضائل العلمية والعملية والقوانين الشرعية والسياسات المدنية التي بها يتم نظام العالم والرشاد واستعانة بني آدم في أمر المعاش والمعاد.

(وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون) من أمر الدنيا والآخرة، ومن الثواب والعقاب، وكيفية الحشر والنشر، والحلال والحرام، والعقائد وغير ذلك.

(فلو سألتموني عنه لعلمتكم) أشار به إلى كمال علمه بحقائق القرآن ومعارفه وظواهره وبواطنه كيف لا وقد رباه النبي (صلى الله عليه وآله) صغيرا، ووضعه في حجره وليدا، وعلمه جميع ما انزل إليه تعليما؟ كما أشار إليه (عليه السلام) في بعض خطبه: «وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد، ويضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه» (2).

ص: 295


1- 1 - الصلم: قطع الاذن والأنف من أصلهما، وصلم الشيء قطعه من أصله.
2- 1 - النهج: الخطبة المعروفة بالقاصعة، تحت رقم 190.

قيل: وفي معناه ما رواه الحسن بن زيد بن علي بن الحسين، قال: سمعت زيدا يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمضع اللحمة والتمرة حتى تلين ويجعلها في فم علي (عليه السلام) وهو صغير في حجره (1)، ونقل عن مجاهد ما هو قريب منه، وقال بعض العامة: لقد كان فيه من الفضل والعلم ما لم يكن لجميع الصحابة، وبالجملة. هو (عليه السلام) بسبب تربية النبي (صلى الله عليه وآله) وشرافة نفسه القدسية كان أعلم الأولين والآخرين، وكان عالما بمنازل سكان السماوات ومراتبهم من الحضرة الربوبية ومقامات الأنبياء وخلفائهم من حظائر القدس وبأحوال الأفلاك ومداراتها وأحوال الأرضين وما فيها وبالامور الغيبية (2) والوقائع الماضية والمستقبلة وبمنازل القرآن ومقاماتها وهو لسان الحق في تيه الطبائع البشرية والداعي إليه في بيداء العوالم السفلية ولذلك قال في بعض كلامه: «سلوني قبل أن تفقدوني» (3)، وقد نقل عن ابن عبد البر - وهو من أعاظم علماء العامة - أنه قال: أجمع الناس على أنه لم يقل أحد من الصحابة وأهل العلم «سلوني» غيره (عليه السلام) وهذا دليل على أنه معدن العلم.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما كان و [خبر]

ص: 296


1- 2 - أورده ابن أبي الحديد في شرح النهج ذيل كلامه (عليه السلام) هذا في الخطبة القاصعة.
2- 3 - لم يكن علمه آنيا حاصلا من تتبع الجزئيات بتنبيه المعلم وإرشاد الاستاذ، فإن ذلك يطول زمانا بل كان لميا حاصلا بالاطلاع على المبادئ والعلل بمنزلة من يعثر على كنز لا كمن يجمع المال قيراطا قيراطا، ومثاله الواضح علم النحو فإنه بين لأبي الأسود الدؤلي تقسيم الكلام إلى الاسم والفعل والحرف كما قسمه أرسطو طاليس قبله ونبهه على اختلاف أواخر الاسم بالنصب والرفع مثلا فتنبه أبو الأسود بأن كلام العرب يتغير أحكامه بتخالف أقسامه الثلاثة فالاسم معرب والحرف مبني والفعل بعضه معرب وبعضه مبني، فتتبع وأكمل ذلك كما أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو (عليه السلام) وضع هذا العلم وفتح أبوابه على أبي الأسود بمنزلة مهندس يعرض طرح العمارة على البنائين يدل طرحه على تفوق علمه على علمهم جميعا وإن لم يفصل وكذلك أدلته على التوحيد وصفات الله وقوانين العدل وقواعد السياسة وما ورد عنه في الجبر والتفويض وفي العقول والنفوس وملائكة السماوات، وأما الامور الغيبية فأظهر من أن يذكر ولا تستبعد أن تدل كلمة واحدة على كثرة علم صاحبه كما يدل قوله تعالى: (كل يجري لأجل مسمى) على جميع علم النجوم، فإن من لم يكن كاملا في هذا العلم من البشر لا يعلم أنها تجري لأجل مسمى، ويحتمل عنده أن تختلف حركاتها ولا تصل لأجل مسمى إلى موضع بعينه، وكذلك قوله تعالى: (من كل شيء خلقنا زوجين اثنين) في الطبيعي. (ش)
3- 1 - النهج قسم الخطب، تحت رقم 187.

ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول: (فيه تبيان كل شيء)».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله)) ولادة صورية ومعنوية، أما الصورية فظاهرة، وأما المعنوية فلأن المعلم الرباني أب روحاني للمتعلم، وقد كانت له (عليه السلام) كلتا الولادتين; لأن جسمه المطهر وروحه المقدس وعقله المنور مشتقة من جسم النبي وروحه وعقله (صلى الله عليه وآله) فعلمه عين علمه وكماله عين كماله، والولد الطيب سر أبيه ولذلك قال:

(وأنا أعلم كتاب الله) يعني أعلمه كما انزل بتأييد رباني وإلهام لدني وتعليم أبوي وإعلام نبوي، وينبغي أن يعلم أن علم الأئمة الطاهرين ليس كعلمنا ولا تعلمهم مثل تعلمنا بحيث يحتاجون إلى زمان طويل وفكر كثير بل كان يكفيهم لكمال ذاتهم ونقاوة صفاتهم وصفاء أذهانهم وقوة أفهامهم أدنى توجه وأقصر زمان لكمال الاتصال بينهم وبين المفيض بل كانوا عالمين أبدا غير جاهلين أصلا في بدء الفطرة وأصل الخلقة، جعلهم الله تعالى أساس الدين وعماد اليقين وأثبت لهم حق الولاية وخص بهم لواء الخلافة ليفيء إليهم القاصرون ويلحق بهم الناقصون، زادهم الله شرفا وتعظيما وجدد لهم توقيرا وتكريما، ثم أراد أن يشير إلى أنه عالم بالحلال والحرام وعارف بجميع الأحكام وبصير بجميع الامور والأسباب لأن كلها في الكتاب يعرفها من نظر إليه وهو في العلم وحيد (أو من ألقى السمع وهو شهيد) فقال:

(وفيه بدء الخلق) أي أوله وكيفية إيجاده ونضده وتركيبه وتفصيله وترتيبه وإنشاؤه بلا شبيه سبقه ولا نظير شبهه ولا روية لحقه واخترعه بلا تجربة استفادها ولا حركة أحدثها ولا همامة نفس اضطرب فيها، وكيفية خلق الملائكة والروحانيين وخلق آدم من طين ثم من ماء مهين وكيفية انقلاباته في يد التقدير من حال إلى حال وتبدل أحوالاته من وصف إلى وصف وفيه علم بصفات الله وكمالاته وأسمائه.

وبالجملة: فيه كيفية خلق كل واحد واحد من الموجودات وكل فرد فرد من المخلوقات وما فيه من البدايع العجيبة والصنايع الغريبة التي يعجز عن إدراكها الأفهام وعن تحرير منافعها وآثارها لسان الأقلام وعن الإحاطة بكنه حقائقها ودقائقها عقول الأعلام قل: (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا).

(وما هو كائن إلى يوم القيامة) من الوقائع اليومية والحوادث الجزئية والآثار العلوية والسفلية وكل ما

ص: 297

يجري في هذا العالم من الحروب والقتال والسبي والنهب وغيرها مما لا يحيط بتفاصيله البيان ولا يقدر على تعداده اللسان.

(وفيه خبر السماء) وسكانها وحركات الأفلاك ودورانها وأحوال الملائكة ومقاماتها وحركات الكواكب ومداراتها ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الامور الكائنة في العلويات والمنافع المتعلقة بالفلكيات.

(وخبر الأرض) جوهرها وانتهاؤها وخبر ما في جوفها وأرجائها وما في سطحها وأجوائها وما في تحتها وأهوائها وخبر ما فيها من المعدنيات وما في جوف فلك القمر من البسائط والمركبات وخبر منافعها ومضارها التي يتحير في إدراك نبذ منها عقول البشر ويتحسر دون البلوغ إلى أدنى مراتبها طائر النظر.

(وخبر الجنة) ومقاماتها وتفاوت مراتبها ودرجاتها وخبر نعيمها ولذاتها وخبر المثاب فيها بالانقياد والطاعة والمأجور فيها للعبادة والزهادة.

(وخبر النار) ودركاتها وتفاوت مراتب العقوبة ومصيباتها، وخبر المعاقب فيها للمعصية، والمقيد بالسلاسل للمخالفة، ويندرج فيها ما يأتي على الإنسان بعد الموت من أحوال البرزخ وتفاوت مراتبهم في النور والظلمة وتباعد أحوالهم في الراحة والشدة.

وبالجملة: العلوم إما متعلقة بأحوال المبدأ وكيفية الإيجاد أو بامور الآخرة وأحوال المعاد أو بالامور الكائنة فيما بينهما والأحوال المتعلقة بتلك الامور. وقد أشار (عليه السلام) إلى أن في القرآن جميع هذه الأقسام (1). وقد

ص: 298


1- 1 - فإن قيل: ما فائدة اشتمال القرآن على ما لا يفهمه الناس وإن فهمه النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده، فما الفائدة فيه إذا لم يبينوه لنا وخصوصا ما ذكره الشارح من خبر المعدنيات وخواص المركبات ومنافعها ومضارها والناس محتاجون إليها يسعون لها سعيهم كما ترى في الطب والصنائع واستخرجوا معادن لم يكن للسابقين علم بها واكتشفوا منافع في الأدوية والعقاقير بمشقة شديدة وطول زمان ولو كان أمثال تلك مذكورة في القرآن كان حقا على من يفهمها أن يبديها للناس ويخلصهم من هذا العناء الطويل؟ قلنا: هذا كلام خارج عن مجرى الاعتبار الصحيح دعا إليه غلو بعض الناس في تعبيراتهم ومن عرف السنة الإلهية في خلقه علم أنه قسم الوظائف والتكاليف بعلمه وحكمته، وعالم الخلق عالم الفرق والتفصيل وكل شيء فيه خلق لشيء خاص بخلاف عالم الأمر ولو كان في الجنة شجر فيه جميع الثمار جمعا فليس في الدنيا مثله وقد بعث الله الأنبياء لدعوة الناس إلى التوحيد والمعرفة والتوجه إلى المعاد والإيمان بوجود عالم آخر وراء هذا العالم وإلى تهذيب النفوس وتتميم مكارم الأخلاق ودفع الظلم وتعظيم شأن أفراد الإنسان وحقوقهم وأما الطب والصنائع فقد خلق لها قوما آخرين ووكلهم بها وما يشتمل عليه القرآن منها فإنها مقصودة بالعرض وعلى سبيل الاعجاز. (ش)

أكد ذلك بقوله:

(وخبر ما كان و [خبر] ما هو كائن) على سبيل الإجمال بعد التفصيل والاختصار بعد الانتشار، وقد عد جمع من المحققين منهم صاحب الكشاف مثل ذلك من المحسنات فلا يرد أن ذلك تكرار بلا فائدة.

(أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي) تأكيد لما مر من قوله: «وأنا أعلم الكتاب» مع الإشارة هنا إلى الزيادة في الإفادة بسبب تشبيه الإدراك العقلي بالإدراك الحسي قصدا لزيادة الايضاح والتقرير; لأن إدراك المحسوس أقوى من إدراك المعقول عند أكثر الناس وإن كان الأمر بالعكس عند الخواص وتنبيها على أن علمه بما في الكتاب علم شهودي كشفي بسيط واحد بالذات متعلق بالجميع كما أن رؤية الكف رؤية واحدة متعلقة بجميع أجزائه، والتعدد إنما هو بحسب الاعتبار وقد نشأ هذا العلم من إنارة عقلية وبصيرة ذهنية وقوة روحانية وهو أقوى من إدراك البصر عند اولي الألباب لأنهم يعرفون أن التفاوت بينهما بقدر التفاوت بين شعاع البصر ونور البصيرة.

(إن الله يقول: (فيه تبيان كل شيء)) دليل على ما أشار إليه من أن في القرآن خبر كل شيء مما كان وما يكون وما هو كائن وبرهان له لكسر أوهام العوام التي تتبادر إلى إنكار ذلك وعده من المبالغة في الوصف (1) وإذا كان حال القرآن الكريم وشأنه (عليه السلام) ذلك فلا يجوز لأحد أن يتكلم في الأحكام وغيرها برأيه وقياسه، بل يجب عليه الرجوع إليهما والتمسك بذيل إرشادهما.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه».

* الشرح:

ص: 299


1- 1 - قال النيسابوري - وهو من أركان العلم صاحب التفسير المعروف وشرح النظام في الصرف وهو كتاب مشهور وشرح التذكرة في الهيئة وشرح تحرير المجسطي قال في الكتاب الأخير بعد ذكر شكل القطاع الذي نقله صاحب المجسطي - وكان يستفيد منه المنجمون والمهندسون أكثر أعمالهم: أن الأنواع الحاصلة أي أنواع الفوائد المنتجة بهذا الشكل ترتقي إلى أربعمائة ألف وسبعة وتسعين ألفا وأربعة وستين وستمائة وتمثل بقوله تعالى: (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) انتهى. وإذا كان شكل استخرجه مانالاوس في الاكر بفكره الأرضي منتجا لهذه الفوائد فكيف لا يكون ما أنزل الله تعالى من السماء مشتملا على العلوم بوجه بسيط ومثله الشكل المغني الذي استخرجه بفكره الملك العالم أبو نصر بن عراق وقالوا: إنه يغني عن شكل القطاع ويفيد فوائده بوجه أسهل منه. (ش)

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم) من أحوال المبدأ وبدء الإيجاد وكيفية أحوال القرون الماضية وما وقع بينهم وجرى عليهم.

(وخبر ما بعدكم) من أحوال المعاد وكيفية الحشر وما يتبعه وأحوال البرزخ وما يجري فيه وأحوال القرون الآتية وما يقع بينهم ويجري عليهم.

(وفصل ما بينكم) من القضايا الشرعية والأحكام الإلهية.

(ونحن نعلمه) أي ونحن نعلم جميع ذلك بإلهام إلهي وتعليم نبوي، وفيه تأكيد بليغ مفيد للتقرير والحصر للتنبيه على أنه يجب على غيرهم الرجوع إليهم والتعلم بين يديهم لأنهم ألسنة الحق وأزمة الصدق كما يدل عليه أيضا حديث: «إني تارك فيكم الثقلين» ولا يجوز استعمال الرأي في القرآن لأنه بحر لا يدرك قعره البصر، ولا يتغلغل إليه الفكر ولا استعلام ما فيه القياس، ولا الرجوع فيه إلى سائر الناس الذين يحملون القرآن على آرائهم ويعطفون الحق على أهوائهم، صورتهم صورة إنسان وقلوبهم قلوب حيوان.

* الأصل:

10 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي المغرا، عن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو تقولون فيه؟ قال: «بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي المغرا) قيل: الحق فيه المد، كما ذهب إليه ابن طاووس وتلميذه الحسن بن داود لا القصر كما ذهب إليه العلامة في الإيضاح وهو حميد مصغرا ابن المثنى العجلي الكوفي الثقة صاحب أصل.

(عن سماعة، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قال: قلت له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أو تقولون فيه؟) بآرائكم أو بإلهام مجدد رباني من غير أن يسبق ذكره فيهما وإنما نشأ هذا السؤال من الجهل بما في الكتاب والسنة باعتبار اشتمالهما على كل شيء أمر غامض لا يقدر كل أحد أن يعلمه تفصيلا.

(قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)) فكل ما نقول فيهما، والمراد أن كل شيء:

في كل واحد منهما لا أن كله في مجموعهما بالتوزيع بأن يكون بعضه في الكتاب وبعضه في السنة لينافي ما مر من أن القرآن

ص: 300

تبيان كل شيء، والذي يرفع استبعاد اشتماله على كل شيء وإحاطة علمهم (عليهم السلام) بذلك مع أن ذلك الاستبعاد غير معقول (1) بعد إخبار الصادقين هو: أن الأشياء الموجودة والمعدومة إما كليات أو جزئيات أو أسباب أو مسببات وشئ ما لا يخلو عن هذه الوجوه ولا يبعد أن يكون القرآن مع صغر حجمه مشتملا على جميع الكليات المطابقة لجزئياتها وعلى جميع الأسباب المستلزمة لمسبباتها، ولا يبعد أيضا أن يمن الله تعالى على بعض أفراد البشر بقوة روحانية وبصيرة عقلية بحيث يعلم جميع الكائنات والجزئيات وجميع الأسباب والمسببات وينظر إليه بعين البصيرة الصحيحة كما تنظر إلى زيد وترى جميعه برؤية واحدة وتكون عوالم المعقولات مع تكثرها بالنسبة إليه عالما واحدا نسبته إلى بصيرته كنسبة زيد إلى بصرك فلا ريب في جواز ذلك ووقوعه لاقتضاء الحكمة الإلهية إياه نظرا إلى نظام العالم وقيام أحوال بني آدم ولكن من أضله الله فلا هادي له، نسأل الله الهداية والدراية ونعوذ بالله من الغباوة والغواية إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

ص: 301


1- 1 - نقل العلامة (رحمه الله) في النهاية وسائر علماء الاصول عن «البشر المريسي» وهو من الغالين في التخطئة أن لله تعالى في كل واقعة حكما وعليه دليل قطعي في الكتاب والسنة ظاهر يعثر عليه المجتهد قطعا، فإن أخطأ في الفتوى فهو مقصر يستحق الإثم بقصوره في الاجتهاد. واختار العلامة (رحمه الله) أن عليه دليلا ظاهرا لا قطعا، والمجتهد معذور إن أخطأ لعدم كون الدليل قطعيا، ونقل عن بعض المخطئة كالشافعي وأبي حنيفة أن في كل واقعة حكما وعليه دليل ظني غالبا ربما يكون خفيا غامضا، وعن بعضهم أنه قد لا يكون عليه دليل مع وجود الحكم فهؤلاء هم المخطئة، وقالت المصوبة: ليس له تعالى لمسائل الاجتهاد حكم معين قبل الاجتهاد، وإنما حكمه فيما صرح به في الكتاب ظاهرا قطعيا والخطأ إنما يتفق فيها، وأما التصويب المطلق حتى فيما ورد صريحا في الكتاب والسنة فلا يعقل ولا يوجد بها قائل في المسلمين; لأن من خالف نص الكتاب فهو مخطىء لا محالة، وبالجملة هذا الحديث يدل على قول المخطئة وأن له تعالى في كل واقعة حكما، ويدل على قول من يقول منهم بأن عليه دليلا في الكتاب والسنة. (ش)

ص: 302

باب اختلاف الحديث

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال: فأقبل علي فقال: «قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ثم كذب عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه.

ص: 303

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ولو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ [وخاص وعام] ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان: كلام عام وكلام خاص مثل القرآن، وقال الله عز وجل في كتابه: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله) وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجي الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ودعا الله لي بما دعا وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبي الله، بأبي أنت وامي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني) قال العلامة في

ص: 304

الخلاصة: قال النجاشي: إنه شيخ من أصحابنا ثقة روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) ذكر ذلك أبو العباس وغيره، وقال ابن الغضائري: إنه ضعيف جدا روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وله كتاب ويكنى أبا إسحاق والأرجح عندي قبول روايته وإن حصل بعض الشك للطعن فيه واعترض عليه الشهيد (رحمه الله) أولا: بأن الجرح والتعديل معارضان فيه والترجيح مع الجرح كما هو المقرر عندهم، وثانيا: بأن النجاشي نقل توثيقه عن أبي العباس وغيره كما يظهر من كلامه.

والمراد بأبي العباس إما أحمد بن عقدة وهو زيدي المذهب لا يعتمد على توثيقه، أو ابن نوح، ومع الاشتباه لا يفيد فائدة يعتمد عليها.

(عن أبان بن أبي عياش) بالعين المهملة والشين المعجمة، واسم أبي عياش فيروز بالفاء المفتوحة والياء الساكنة المنقطة تحتها نقطتين وبعدها راء وبعد ا لواو زاي وأنه تابعي ضعيف روى عن أنس ابن مالك وعن علي بن الحسين (عليهما السلام) لا يلتفت إليه وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه هكذا نقله العلامة عن ابن الغضائري، وكذا قال: قال شيخنا الطوسي (رحمه الله) في كتاب الرجال: إنه ضعيف.

(عن سليم بن قيس الهلالي) سليم بضم السين والهلال حي من هوازن قال العلامة: قال السيد علي بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) طلبه الحجاج ليقتله فهرب وأوى إلى أبان بن أبي عياش وهو في ناحية فارس فلما حضرته الوفاة قال لأبان: إن لك علي حقا وقد حضرني الموت يا بن أخي إنه كان من الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيت وكيت وأعطاه كتابا (1) فلم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوى أبان وذكر أبان في حديثه قال: كان شيخا سعيدا له نور يعلوه، وقال ابن الغضائري: سليم بن قيس الهلالي العامري روى عن أبي عبد الله والحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام).

ثم قال العلامة: والوجه عندي الحكم بتعديله. وقال بعض المحدثين من أصحابنا: هو صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن خواصه روى عن السبطين والسجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) وهو من الأولياء والمتنسكين

ص: 305


1- 1 - وقد ذكرنا في غير موضع أن التكلم في سليم بن قيس وأبان بن أبي عياش ينبغي أن يخصص بهذا الكتاب الموجود بأيدينا المعروف بكتاب سليم والحق أن هذا كتاب موضوع لغرض صحيح نظير كتاب الحسنية وطرائف ابن طاووس والرحلة المدرسية للبلاغي وأمثاله وأن واضعه جمع امورا مشهورة وغير مشهورة ولما لم يكن معصوما أورد فيه أشياء غير صحيحة. والظاهر أنه وضع في أواخر دولة بني امية حين لم يجاوز عدد خلفاء الجور الاثني عشر إذ ورد فيه أن الغاصبين منهم اثنا عشر وبعدهم يرجع الحق إلى أهله مع أنهم زادوا ولم يرجع. وبالجملة: إن تأيد ما فيه بدليل من خارج فهو، وإلا فلا اعتبار بما يتفرد به، والغالب فيه التأيد وعدم التفرد. (ش)

والحق فيه وفاقا للعلامة وغيره من وجوه الأصحاب تعديله وهذا الحديث وإن كان ضعيفا بحسب السند لكنه صحيح بحسب المضمون لأنه مقبول عند العلماء ومشهور بين الخاصة والعامة ومعلوم بحسب التجربة.

(قال: قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث) بالنصب عطف على شيئا أو بالجر عطف على التفسير.

(عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس) صفة ل «شيئا» أو حال عنه بتأويل مغايرا.

(ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس) غير ما سمعت من سلمان وأضرابه أو العطف للتفسير.

(أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي الله (صلى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل) (1)، هذه الجملة الاسمية إما صفة لأشياء أو حال عنها.

(أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين ويفسرون القرآن بآرائهم؟) كأن سليما سأل عن التفاسير والأحاديث المبتدعة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وما يبنى عليها من الأفعال المبتدعة في الدين، أو خلجت في قلبه شبهة في اختلاف الناس في تفسير الكتاب والأحاديث المستلزمين لاختلاف المذاهب والأهواء وحدوث البدع والآراء فتوهم أن كلها حق لاستبعاده الكذب عليه (صلى الله عليه وآله).

ص: 306


1- 1 - حديث سليم هذا مما لا يضر فيه ضعف الاسناد لتأيده بالعقل والتجربة، وقال العلامة (رحمه الله) في النهاية: إن الداعي إلى الكذب، اما من جهة السلف وهم منزهون عن تعمد الكذب إنما يقع على وجوه: الأول: أن يكون الراوي يروي الخبر بالمعنى فيبدل لفظا بآخر يتوهم أنه بمنزلته وهو لا يطابقه. الثاني: ربما نسي لفظا لأنهم لم يكن من عادتهم الكتابة لما يسمعونه فيبدله بغيره وربما نسي زيادة يصح بها الخبر. الثالث: ربما روى عن الواسطة ونسي ذلك فأسنده إلى الرسول (عليه السلام) توهما أنه سمعه منه لكثرة صحبته له، ولذا كان (عليه السلام) يستأنف الحديث إذا دخل عليه شخص ليكمل له الرواية كما أنه قال (عليه السلام): «الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس» إنما قال (عليه السلام) ذلك حكاية عن غيره. الرابع: ربما خرج الحديث عن سبب وهو مقصور عليه، ويصح معناه به فيجب روايته مع السبب وإن حذف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه قال: «التاجر فاجر»، فقالت عائشة: إنما قال في تاجر دلس. الخامس: روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول (عليه السلام) وكعب كان يروي أخبار اليهود فيشتبه على السامعين فيروي بعضهم ما سمعه من كعب عن أبي هريرة. وأما من جهة الخلف فوجوه: الأول: وضع الملاحدة أباطيل نسبوها إلى النبي لتنفير الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله). الثاني: ربما يكون الراوي يجوز الكذب المؤدي إلى إصلاح الامة. الثالث: الرغبة كما وضع في ابتداء دولة بني العباس أخبار في النص على إمامة العباس وولده. انتهى. (ش)

(قال: فأقبل علي فقال: قد سألت فافهم الجواب: إن في أيدي الناس حقا وباطلا) أي أمرا مطابقا للواقع وغير مطابق له بفتح الباء فيهما.

(وصدقا وكذبا) أي خبرا مطابقا للواقع وغير مطابق له بكسر الباء فيهما، وفي شرح نهج البلاغة ذكر الصدق والكذب بعد الحق والباطل من قبيل ذكر الخاص بعد العام; لأن الصدق والكذب من خواص الخبر، والحق والباطل يصدقان على الأفعال أيضا، وقيل: الحق والباطل هنا من خواص الرأي والاعتقاد، والصدق والكذب من خواص النقل والرواية.

(وناسخا ومنسوخا) النسخ في اللغة الإزالة والإعدام وفي العرف رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر والمتأخر ناسخ والمتقدم منسوخ ومعنى الرفع أنه لولا المتأخر لثبت المتقدم وسماه بعضهم تخصيصا لتخصيص الحكم المتقدم ببعض الأزمان، وقيل: المتأخر بيان لا رافع ومعناه أن الحكم المتقدم انتهى بذاته في وقت المتأخر وحصل بعده لأجل المتأخر حكم آخر فلا تأثير للمتأخر في زوال المتقدم بل هو قرينة لانتهاء حكم المتقدم واتفق المسلمون على جواز ذلك ووقوعه سواء كان الثاني بيانا أو رافعا، ووافقهم العثمانية العيسوية من اليهود (1)، وذهب جمهورهم إلى أنه ممتنع وتمسكوا بدليل عقلي ونقلي. وقد أوضحنا فسادهما في اصول الفقه.

(وعاما وخاصا) العام عرفوه بوجوه، والخاص يقابله وأجودها: أنه اللفظ المستغرق لما يصلح له (2) ونقض عكسا بالمسلمين والرجال إن اريد بالموصول الجزئيات لأن عموميتها باعتبار الأجزاء كما هو الحق لا باعتبار الجزئيات من الجموع المتعددة فلا يصدق الحد عليهما وبالرجل ولا رجل إن اريد به الأجزاء لأن عموميتهما باعتبار الجزئيات لا باعتبار الأجزاء.

والجواب: أنا نختار الأول ونقول: اللام يبطل معنى الجمعية كما صرح به جماعة من المحققين فحينئذ يصدق الحد على المسلمين والرجال لأنهما يستغرقان جميع جزئياتهما بعد دخول اللام.

(ومحكما ومتشابها) قال الشيخ بهاء الملة والدين: المحكم في اللغة هو المضبوط المتقن ويطلق في الاصطلاح على ما اتضح معناه وظهر لكل عارف باللغة مغزاه وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص أو منهما معا وعلى ما كان نظمه مستقيما خاليا عن الخلل وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها

ص: 307


1- 1 - الطائفتان غير معروفتين لنا، ولعل في اللفظ تصحيفا والاحتجاج مع اليهود في جواز النسخ مبسوط مفصل في كتب الاصول خصوصا في النهاية فارجع إليها. (ش)
2- 2 - لنا كلام في الخاص والعام تأتي الإشارة إليه إن شاء الله. (ش)

واحدا ويقابل بكل من هذه المعاني المتشابه، وكل منهما يجوز أن يكون مرادا له (عليه السلام) بقوله:

«محكما ومتشابها».

أقول: هذه المعاني ذكرها جماعة من العامة أيضا، والمعنى الأول وهو أن المحكم ما اتضح معناه وانتفى عنه الاشتباه، والمتشابه نقيضه رجحه الغزالي لأن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الضبط والإتقان ولا شك أن ما كان واضح المعنى كان مضبوطا متقنا لا اشتباه فيه، والمعنى الثاني ما نقله الآبي في شرح مسلم من أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ وإرادة هذا المعنى هنا لا تخلو من تكرار. ولطائفة من العامة أقوال اخر في تفسيرهما فقيل: المتشابه هو الحروف المقطعة والمحكم غيرها، وقيل: المتشابه ما اتفق لفظه وغمض إدراك الفرق بين معانيه كقوله تعالى: (وأضله الله على علم) مع قوله تعالى: (وأضل فرعون قومه وما هدى) فلفظ الإضلال فيهما واحد واختلاف حقيقة اللفظين يعسر إدراكه من حيث اللفظ وإنما يدرك بالعقل اختلاف هذه المعاني وما يصح منها وما لم يصح.

وقيل: المحكم آيات الأحكام والمتشابه آيات الوعيد.

وقيل: المحكم ما يعلمه الراسخون في العلم والمتشابه ما انفرد الله تعالى بعلمه.

وقيل: المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال.

وقيل: المتشابه آيات الساعة والمحكم ما عداها.

(وحفظا ووهما) مصدران بمعنى المحفوظ والموهوم. وفي نهج البلاغة: الحفظ ما حفظ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما هو، والوهم ما غلط فيه فتوهم مثلا أنه عام وهو خاص، أو أنه ثابت وهو منسوخ، إلى غير ذلك، ولما فرغ عن ذكر أنواع الكلام المنقول عنه (صلى الله عليه وآله) على وجه يشعر بوقوع الكذب والغلط فيه أشار إلى إثبات وجودهما في حال حياته وبعد موته (صلى الله عليه وآله) بالبرهان دفعا لاستبعاد السائل بقوله:

(وقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده) في شرح نهج البلاغة ذلك نحو ما روي أن رجلا سرق رداء النبي (صلى الله عليه وآله) وخرج إلى قوم وقال: هذا رداء محمد أعطانيه لتمكنوني من تلك المرأة فاستنكروا من ذلك فبعثوا من سأله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك فقام الرجل الكاذب فشرب ماء فلدغته عقرب فمات، وكان النبي حين سمع بتلك الحال قال لعلي (عليه السلام): خذ السيف وانطلق، فإن وجدته وقد كفن فأحرقه بالنار، فجاء وأمر بإحراقه فكان ذلك سبب الخبر المذكور في قوله:

(حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة) الكذاب بفتح الكاف وتشديد الذال المعجمة من صيغ المبالغة والتاء لزيادة المبالغة وتأكيد لها والجار إما متعلق به أو بكثرت على تضمين

ص: 308

أجمعت ونحوه كذا ضبطه الشيخ (رحمه الله) (1)، وقال السيد الداماد (رحمه الله): الكذابة بكسر الكاف وتخفيف المعجمة مصدر كذب يكذب، والمصدر على فعال وفعالة بكسر الفاء فاش في لغة فصحاء العرب ومنه كتب فلان الكتاب كتابا وكتابة، أي كثرت علي كذابة الكاذبين ويصح أيضا جعل الكذابة بمعنى المكذوب كالكتاب بمعنى المكتوب والتاء للتأنيث يعني كثرت الأحاديث المفتراة علي وأما الكذابة بالفتح والتشديد بمعنى الواحد البليغ في الكذب والتاء لزيادة المبالغة والمعنى كثرت علي أكاذيب الكذابة، أو التاء للتأنيث والمعنى كثرت الجماعة الكذابة على (فرزانتها) من حيث الرواية في درجة نازلة.

والحق جواز كلا الوجهين من غير تفاوت، وفي هذا القول دلالة على وجود الكذب عليه (صلى الله عليه وآله) لأن هذا القول إما صادق أو كاذب وعلى التقديرين فقد كذب عليه.

(فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) يقال: تبوأ منزله ومقعده أي هيأه أو نزله واستقر فيه، فمن على الأول متعلق به وصلة له، وعلى الثاني بيان للمقعد أو حال عنه.

(ثم كذب عليه من بعده) من حرف جر لا موصول وإذا أمكن تحقق الكذب عليه في عهده مع إمكان الرجوع إليه وظهور فضيحة الكاذب كما في السارق المذكور أمكن تحققه بعده بالطريق الأول ودعوى صرفه القلوب عن ذلك بطلانها ظاهر. وقال الشيخ (2): دل على وقوع الكذب عليه وجود الأحاديث

ص: 309


1- 1 - يعني به الشيخ بهاء الملة والدين العاملي (رحمه الله) قاله في أربعينه في شرح الحديث الحادي والعشرين.
2- 1 - أكثر ما ذكره ناظر إلى أحاديث العامة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يخفى أن مثله جار في أحاديثنا أيضا، إذ الدواعي إلى تعمد الكذب أو تطرق الأوهام إليه كثيرة على ما سبق نقلا عن نهاية الاصول، وقد ذهب الأخباريون من علمائنا إلى أن الأخبار المروية في الكتب الأربعة أو فيها وفي غيرها من الكتب المعتبرة صادرة عن أئمتنا (عليهم السلام) يقينا، وهذا باطل جدا أو بسط العلماء في ردهم وتضعيفهم الكلام بما يغنينا عن إعادته وكيف يكون جميعها صادرة عنهم مع أن فيها ما يخالف الضروري المعلوم من مذهبهم (عليهم السلام) مثل روايات عدم نقص شهر رمضان أبدا وفيها ما يخالف المشهور بيننا وبين المسلمين كطهارة الخمر؟ والعجب من بعض المتأخرين حيث ادعى أن الظن الاطمئناني علم وأن هذه الروايات تفيد الظن الاطمئناني المقدمتان ممنوعتان لأن حصول الظن الاطمئناني بأن جميع من سمع من الأئمة (عليهم السلام) نقل عين ما سمعه بغير تبديل ولم يتغير كلامه في النقل شفاها أو كتبا محال نقطع بخلافه وإن أرادوا حفظ حاصل المضمون لا جميع الكلمات فحصول الظن الاطمئناني به أيضا ممنوع ومعنى الظن الاطمئناني عندهم أن يكون احتمال الخلاف فيه غير معتد به عند العقلاء ونحن لا نجد ذلك من أنفسنا ولو فرضنا أن في ألف حديث خمسين حديثا مغيرا عن أصله أو مكذوبا نعتد به يقينا كما لو احتمل في ألف قارورة من الدواء خمسون قارورة من السموم نعتني به يقينا. وأما أن الظن الاطمئناني ليس علما فقد بيناه في موضع أليق. (ش)

المتنافية التي لا يمكن الجمع بينها وليس بعضها ناسخا لبعض (1) قطعا وقد وضع الزنادقة - خذلهم الله - كثيرا من الأحاديث وكذا الغلاة والخوارج. وحكي أن بعضهم كان يقول بعد ما رجع عن ضلالته: انظروا إلى هذه الأحاديث عمن تأخذونها فإنا كنا إذا رأينا رأيا وضعنا له حديثا وقد صنف جماعة من العلماء كالصغاني وغيره كتابا في بيان الأحاديث الموضوعة وعدوا فيه أحاديث كثيرة وحكموا بأنها من الموضوعات، قال الصغاني في كتاب الدر الملتقط: ومن الموضوعات ما زعموا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك يا أبا بكر خاصة» وأنه قال: «حدثني جبرئيل أن الله تعالى لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر من بين الأرواح» وأمثال ذلك كثير، ثم قال الصغاني: وأنا أنتسب إلى عمر وأقول فيه الحق لقول النبي (صلى الله عليه وآله):

«قولوا الحق ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين» فمن الموضوعات ما روي: «أن أول من يعطى كتابه بيمينه عمر بن الخطاب وله شعاع كشعاع الشمس، قيل: فأين أبو بكر؟ قال: سرقه الملائكة».

ومنها: «من سب أبا بكر وعمر قتل، ومن سب عثمان وعليا جلد الحد»، إلى غير ذلك من الأحاديث المختلقة. ومن الموضوعات: «زر غبا تزدد حبا» «النظر إلى الخضرة تزيد في البصر» «من قاد أعمى أربعين خطوة غفر الله له» «العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان» انتهى كلام الصغاني منتخبا، وقد ظهر في الهند بعد الستمائة من الهجرة شخص اسمه «بابارتن» ادعى أنه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه عمر إلى ذلك الوقت وصدقه جماعة واختلق أحاديث كثيرة زعم أنها سمعها من النبي (صلى الله عليه وآله)، قال صاحب القاموس: سمعنا تلك الأحاديث من أصحاب أصحابه وقد صنف الذهبي في تبيين ذلك الشخص اللعين كتابا سموه «كسروثن بابارتن». انتهى كلام الشيخ.

وقد رأيت خط العلامة الحلي الذي كتبه بيده في الرابع والعشرين من شهر رجب من سنة سبع عشرة وسبعمائة رويت عن مولانا شرف الملة والدين إسحاق بن محمود اليماني القاضي عن خاله مولانا عماد الدين محمد بن محمد بن فتحان القمي عن صدر الدين الساوي قال: دخلت على الشيخ بابارتن وقد سقط حاجباه على عينيه فرفعا عنهما فنظر إلي وقال: ترى عينين طالما نظرتا إلى وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد سمعته

ص: 310


1- 2 - هذا ناظر إلى أحاديث الشيعة، وهو دليل قوي على وجود المكذوب فيها، وقد تكلف بعض المحدثين بحملها على التقية مع أن ذلك غير ممكن في كثير منها كروايات طهارة الخمر وربما حملها بعضهم على أن غرض الأئمة (عليهم السلام) إلقاء الخلاف عمدا لمصالح ولا أدري ما الداعي إلى ذلك؟ وسنشير إلى وجهه إن شاء الله. (ش)

يوم الخندق وكان يحمل على ظهره التراب (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: «اللهم إني أسألك عيشة سوية وميتة نقية ومردا غير مخز ولا فاضح» ونقل صاحب كتاب مجالس المؤمنين عن الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي الشافعي مصنف كتاب قاموس اللغة أنه قال في باب فضائل أبي بكر سفر السعادة: أشهر المشهورات من الموضوعات حديث «إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة» وحديث «ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر» وحديث «أنا وأبو بكر كفرسي رهان» وحديث «إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر» وأمثال هذا من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل. انتهى كلامه (1).

ومما دل على وضع حديث الصب أن أبا بكر لم يكن عالما بكثير من معاني القرآن وأحكام الشرع باتفاق الامه وقد صرح الشيخ جلال الدين السيوطي بذلك في كتاب الإتقان حيث قال:

أخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله تعالى: (وفاكهة وأبا) فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. انتهى.

ومن البين أن الله تعالى صب معنى الأب في صدر نبيه (صلى الله عليه وآله) فلو كان الحديث المذكور صحيحا لكان أبو بكر أيضا عالما به. اللهم إلا أن يقولوا: إن أبا بكر كان عالما به ثم نسيه أو يقولوا لحفظ شأن أبي بكر إن النبي لم يكن عالما به. ولما بين وقوع الكذب والافتراء في الرواية شرع في قسمة رجال الحديث وقسمهم أربعة أقسام ليظهر أن الاختلاف في الرواية ليس بمجرد الكذب فقط بل لوجوه اخر مع ما فيه من الإشارة إلى أن كل راو لا يجوز الأخذ بقوله بل ينبغي الأخذ بقول الراوي العالم بشرائط صحة الرواية التي هي شرائط القبول فقال:

(وإنما أتاكم الحديث من أربعة) أي من أربعة رجال وأكد الحصر بقوله:

(ليس لهم خامس) وجه الحصر أن الراوي إما منافق مفتر للكذب أولا، والثاني إما أن لا يكون حافظا ضابطا للمسموع أو يكون، والثاني إما أن لا يكون عالما بما ينافي المسموع من النسخ والتخصيص وغيرهما أو يكون عالما به، فهذه أربعة أقسام على الترتيب المذكور.

فإن قلت: هنا قسم خامس وهو رجل معتقد بالإسلام افترى كذبا على الرسول (صلى الله عليه وآله) لغرض من الأغراض وتأثم منه فإنه ليس بداخل في الأقسام الأربعة، وقلت: هذا داخل في القسم الأول لأنه لما لم يعمل بمقتضى إيمانه فكأنه ليس بمؤمن ومع ذلك مظهر له فهو منافق وهذا كما يقال لمن لم يعمل بعلمه: لا علم له.

ص: 311


1- 1 - قال الفيروزآبادي في سفر السعادة: 2 / 203: (باب فضائل أبي بكر الصديق اشهر المشهورات من الموضوعات) ونقله في كشف الخفاء: 2 / 419 وراجع الفوائد المجموعة: 330 باب مناقب الخلفاء.

(رجل منافق) كشف عن معناه وأوضح حقيقته بقوله:

(يظهر الإيمان) شعارا له بإظهار الشهادتين أو بقوله: آمنا بالله وبرسوله.

(متصنع بالإسلام) أي متكلف له ومتدلس به ومتزين بحسن السمت وزي أهل الفلاح ومتلبس بهيئة أهل الخير والصلاح من غير أن يتصف بشيء من ذلك في نفس الأمر.

(لا يتأثم ولا يتحرج) العطف للتفسير والجملة حال عن فاعل يظهر أو خبر بعد خبر أي لا يعد آثما.

(أن يكذب) أي على أن يكذب أو في أن يكذب.

(على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا) على حسب ما أراد في أمر الدين أو الدنيا لعدم الإيمان به وباليوم الآخر فقد ذكر له ثلاثة أوصاف وهو بالوصف الأخير المسبب عن عدم الإيمان في الباطن يفتري الكذب عليه وبالوصفين الأولين يروجه كما أشار إليه بقوله:

(فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه) مفترياته.

(ولم يصدقوه) فيها.

(ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه) وهو مؤمن.

(وأخذوا عنه) ما رواه.

(وهم لا يعرفون حاله) في النفاق والافتراء.

فإن قلت: هل عليهم إثم بقبول قوله إذا بذلوا جهدهم ولم يعرفوا نفاقه ولا بطلان قوله عقلا وسمعا أم لا؟ قلت: الظاهر لا; لأن الإثم بسبب مخالفة التكليف بعدم قبول قوله ولم يقع التكليف به حينئذ لاستحالة التكليف بما لا يطاق وإنما قلت: الظاهر ذلك لاحتمال تحقق الإثم بسبب عدم رجوعهم إلى من ينبغي الأخذ منه بعده (صلى الله عليه وآله) وهو وصيه والقائم مقامه في تبليغ الأحكام الدينية.

(وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره) كقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فإنه دل على أن شأنهم الكذب مطلقا أو وصفهم الكذب فيما يدعون من مطابقة عقائدهم لألسنتهم في تلك الشهادة ومن كان يعتقد أنه غير رسول فإنه لا يتأثم بالكذب عليه ولا يحذر منه.

(ووصفهم بما وصفهم) يحتمل أن يكون العطف للتفسير ومضمون المعطوف والمعطوف عليه على هذا ما

ص: 312

فسره بقوله:

(فقال عز وجل: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم)) المقصود أن النبي (صلى الله عليه وآله) مع علو منزلته كان يعجب بهياكلهم ويصغي إلى كلامهم لضخامة أجسامهم ولطافة أجسادهم وطلاقة لسانهم وفصاحة بيانهم وبلاغة كلامهم حتى أخبره الله عن حالهم بما أخبره فكيف بمصاحبتهم مع الناس؟ فإنها توجب اغترارهم بحكاياتهم وتصديقهم فيما نقلوه من أحاديثهم ورواياتهم والإصغاء إلى أكاذيبهم ومفترياتهم لفقد العلم بضمائرهم وعدم الاطلاع على سرائرهم والغرض من نقل الآية هو التأكيد لما ذكر من ثبوت الكذب عليه عمدا والتنبيه على صعوبة معرفتهم; لأن ظاهرهم ظاهر حسن والباطن لا يعلمه إلا الله سبحانه وعلى أن حسن الظاهر لا يوجب طهارة الباطن فلا بد للسامع من اختباره باطنا ليحصل له الوثوق بقوله وعلى أنه مع عدم الاطلاع لا يكون آثما.

(ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة) وهم الخلفاء الثلاثة وامراء بني امية (1).

(والدعاة إلى النار) أراد دعاءهم إلى اتباعهم فيما يخالف دين الحق ويوجب الدخول في النار.

(بالزور والكذب والبهتان) متعلق بتقربوا لا بالدعاة وإشارة إلى ما كانوا يتقربون به إليهم من وضع الأخبار عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في فضلهم وأخذهم على ذلك الأجر من اولئك الأئمة، والعطف للتفسير، ويمكن حمل الزور على الافتراء بما يدل على حقيقة خلافتهم كأنه شاهد زور لهم وحمل الكذب على الافتراء بما يوافق آراءهم ويناسب أهواءهم، وحمل البهتان على الافتراء بما يدل على ذم مخالفيهم.

(فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس) ضمير الفاعل يعود إلى أئمة الضلال وضمير المفعول إلى المنافقين أي جعلوهم ولاة للأعمال وحكاما على الناس ويحتمل العكس أيضا; لأن المنافقين لو تركوهم لبقوا بلا ناصر فكان الحق يرجع إلى أهله.

(وأكلوا بهم الدنيا) الباء للسببية أو بمعنى مع وهذا كما هو المعروف من حال عمرو بن العاص مثلا قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: ولي عمرو بن العاص مصر عشر سنين وثلاثة أشهر وأربعة لعمر وأربعة لعثمان

ص: 313


1- 1 - إن كان هذا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يمكن أن يريد به بني امية لأنهم لم يكونوا متولين للأمر بعد وإن كان من كلام ابن أبي عياش بناء على أن الكتاب موضوع منه فهو كلام صحيح مؤيد بالعقل والتجربة وإن كان نسبته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) كاذبة وعلى فرض صحة صدوره منه (عليه السلام) فالواجب حمل أئمة الضلال على الثلاثة فقط، ولكنه مما أسر به إلى خواصه إذ لم يعهد منه (عليه السلام) الطعن عليهم على رؤوس الأشهاد هذا النوع من الطعن بل المعهود منه نظير ما ورد في الخطبة الشقشقية. وأبان بن أبي عياش كان في عهد دولة بني مروان وقدرتهم ورواج جعل الحديث للتقرب إليهم. (ش)

وسنتين وثلاثة أشهر لمعاوية وتوفي سنة ثلاث وأربعين وهو ابن تسعين سنة، وقيل غير ذلك وترك من الناض (1) ثلاثمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار ومن الورث ألفي ألف درهم وغلة ألفي ألف دينار وضيعته المعروفة بالرهط وقيمتها عشرة آلاف ألف درهم ولما حضرته الوفاة نظر إلى ماله وقال: ليتك بعرا، وليتني مت في غزوة السلاسل لقد دخلت في امور ما أدري ما حجتي فيها عند الله؟ أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت آخرتي عمي عني رشدي حتى حضر أجلي، ثم قال لابنه: ائتني بجامعة فشد بها يدي إلى عنقي ففعل ثم وضع إصبعه في فمه كالمتفكر المتندم حتى مات وقال له ابنه عبد الله: يا أبت، كيف تقول؟ ليتني أحضر رجلا عاقلا نزل به الموت يحدثني بما يجد وقد نزل بك؟ فحدثني بما تجد فقال: يا بني، لكأني في طحن، ولكأني أتنفس في سم الخياط ولكأن غصن شوك جر من قدمي إلى هامتي.

(وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله (2) فهذا أحد الأربعة) هذا من باب الإطناب بالإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها وهي الدلالة إلى أن سبب تقربهم بأئمة الضلال هو ما عليه أكثر الناس من ميل طبائعهم إلى الدنيا وحطامها الفانية وغفلتهم عن الآخرة ولذاتها الباقية، قال شارح نهج البلاغة: فيه إشارة إلى علة فعل المنافق لما يفعل وظاهر أن حب الدنيا هو الغالب على الناس من المنافقين وغيرهم لقربهم من المحسوس وجهلهم بأحوال الآخرة وما يراد بهم من هذه الحياة إلا من عصمه الله بالجذب في طريق هدايته إليه من محبة الامور الباطلة وفيه إيماء إلى قلة الصالحين كما قال تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) وقوله: (وقليل من عبادي الشكور) وإنما قال: «ثم بقوا بعده» وحكى حالهم مع أئمة الضلال وإن كانوا لم يوجدوا بعد إما تنزيلا لما لا بد منه من ذلك المعلوم له منزلة الواقع أو إشارة إلى من بقي منهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقرب إلى معاوية لأنه إذ ذاك إمام ضلالة.

ص: 314


1- 2 - الناض - بالضاد المعجمة - الدرهم والدينار.
2- 1 - نقل العلامة (رحمه الله) في نهاية الاصول عن بعض العامة تعجبا من المحدثين أنهم يجرحون الراوي بأدنى سبب ومع علمهم بهذه القوادح يعني في الصحابة حيث كانوا يطعن بعضهم في بعض ويتبرأ بعضهم من بعض بل يقاتل بعضهم بعضا يقبلون روايتهم ويعملون برواية القادح والمقدوح فيه، قال: بل هؤلاء المحدثون أتباع كل ناعق وعبيد كل من غلب يروون كذا لأهل كل دولة في ملكهم، فإذا انقضت دولتهم تركوهم، انتهى. وهذا كله لأن حب المال والجاه الذي دعاهم إلى التقرب من الخلفاء والسلاطين دعاهم أيضا إلى أن ينتسبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكثروا من ذكره وذكر حديثه ويظهروا أنهم تابعون له (صلى الله عليه وآله) في كل شيء ومتمسكون به لا بغير قوله حتى يشتهروا بذلك بين الناس ويزيد به جاههم ولذلك نرى أكثر المحدثين المكثرين في العامة من مقربي خلفاء بني مروان وأمثالهم في صدر الإسلام بخلاف الشيعة فإنهم كانوا محترزين منهم وكذلك المائلون إليهم من العامة. (ش)

(ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه) أي لم يضبط ذلك الشيء المسموع كما سمعه.

(وهم فيه) بالزيادة أو النقصان أو بفهمه غير ما أراده (صلى الله عليه وآله) (1) والتعبير عما فهمه بعبارته، تقول:

وهم في الحساب يوهم من باب علم وهما بالتحريك إذا غلط فيه وسها ووهم في الشيء يهم من باب ضرب وهما بالتسكين إذا ذهب وهمه إليه.

(ولم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به) أي يعتقد به.

(ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه ولو علم هو أنه وهم لرفضه) قال شارح نهج البلاغة: وذلك أن يسمع من الرسول (صلى الله عليه وآله) كلاما فيتصور منه معنى غير ما يريده الرسول ثم لا يحفظ بعينه فيورده بعبارته الدالة على ما تصوره من المعنى فلا يكون قد حفظه وتصوره على وجهه المقصود للرسول فوهم فيه فلم يتعمد كذبا فهو في يديه يرويه ويعمل على وفق ما تصور منه ويسنده إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلة دخول الشبهة على المسلمين عدم علمهم بوهمه وعلة دخولها عليه في الرواية والعمل هو وهمه حين السماع حتى لو علم ذلك لترك روايته والعمل به. انتهى.

أقول: ما رواه مسلم عن عمر أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إن الميت ليعذب ببكاء بعض أهله (2)» وما رواه عن ابن عمر أنه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): «يعذب الميت ببكاء أهله» يحتمل أن يكون من قبيل القسم الأول وأن يكون من هذا القسم، ويؤيد الثاني ما رواه مسلم عن عائشة أنها خطأتهما في روايتهما وقالت: إنهما لم يكذبا ولكن السمع قد يخطئ والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) جنازة يهودي وهم يبكون عليه فقال: «أنتم تبكون وإنه ليعذب».

(ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه) المأمور به أو المنهي عنه.

(ولم يحفظ الناسخ) لعدم سماعه إياه.

(ولو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه) وعدم العلم بأنه

ص: 315


1- 2 - قال العلامة (رحمه الله) في النهاية نقلا عن بعضهم ولعله النظام: ما كانت الصحابة يكتبون كلامه (صلى الله عليه وآله) من أوله إلى آخره لفظا لفظا وإنما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة ومعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلفيق الكلام لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بعين تلك الألفاظ من غير تقديم وتأخير لعجزوا عنه فكيف بالكلام الطويل بعد المدة الطويلة من غير تكرار ولا كتبة ومن أنصف علم أن الألفاظ المروية ليست ألفاظه (عليه السلام) ثم بعد المدة الطويلة لا يمكن إعادة المعنى بتمامه، انتهى.
2- 1 - راجع صحيح مسلم: ج 3، ص 41 و 42.

منسوخ (1) علة لدخول الشبهة عليه وعلى المسلمين وهل حكم النسخ يثبت بالنزول أو بالوصول؟ لم أجد فيه تصريحا من الأصحاب واختلفت العامة فيه فبعضهم قال بالأول وبعضهم قال بالثاني، والثاني لا يخلو من قوة لأن النسخ تكليف ثان وشرط التكليف بالشيء بلوغه إلى المكلف لاستحالة تكليف الجاهل ولأن المصلين الذين بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة داروا في صلاتهم إلى الكعبة ولم يعيدوا ما فعلوه قبل البلوغ ولم ينكر عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) فعلى هذا لو بلغ إليه المنسوخ ولم يسمع الناسخ أصلا بعد الفحص فهو على العمل به لا إثم عليه.

(وآخر رابع) رابع صفة لآخر أو خبر له.

(لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) خبر أو خبر بعد خبر أو صفة لرابع.

(مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينسه) الهاء للوقف أو عائد إلى شيء سمعه بقرينة المقام.

(بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع) أي فجاء بما سمعه من اللفظ أو من المعنى ولو بلفظ آخر سمعه.

(لم يزد فيه ولم ينقص منه) فعرف الخاص والعام والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه.

ص: 316


1- 2 - وقوع النسخ وإن كان ممكنا واقعا وثبت في الاصول ورد المانع ولكن يجب أن يعلم أنه قليل جدا، أما الأحكام الواردة في القرآن فلا نعلم فيها منسوخا إلا ثلاثة أحكام: الأول: اعتداد المتوفى عنها زوجها حولا كاملا نسخ بأربعة أشهر وعشرة أيام. والثاني: إيذاء الزاني والزانية وحبسهما نسخ بآية الحد. والثالث: وجوب الصدقة لمن أراد النجوى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأما الأحكام الواردة في السنة فما نسخ منها بالقرآن كالتوجه إلى بيت المقدس نسخ بالتوجه إلى الكعبة فهي معلومة لا حاجة لنا إلى التكلم فيها، وأما نسخ السنة بالسنة أعني المتواترة أو نسخ المتواترة بالآحاد أو نسخ خبر الواحد بخبر الواحد بناء على حجية الآحاد فمما لم نقف له على مثال نطمئن به وإن كان فهو في غاية الندرة، ومما يجب إنكاره جدا نسخ الكتاب والسنة المتواترة بأخبار الآحاد وذلك لأنا مأمورون بعرض روايات الآحاد على الكتاب والسنة ورد ما خالفهما وإن كان نسخهما بخبر الواحد جائزا لم يفد عرضه عليهما فائدة وروى في النهاية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): لا ندفع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول أعرابي يبول على عقبيه. ومما ادعى فيه النسخ قول النبي (صلى الله عليه وآله): «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» ولا يعلم صحتها، ومنه عند العامة حكم المتعة وثبت عندنا خلافه وعلى كل حال فكل حكم ثبت في الشرع بدليل قطعي أو ظني ثبتت حجته لا يجوز التوقف والتشكيك فيه لاحتمال كونه منسوخا بل الضرورة قاضية بأن الأصل عدم النسخ في الأحكام وأن ما ورد من أن في القرآن ناسخا ومنسوخا أو في الحديث لا يراد به إيجاد الشك والترديد في العمل بالكتاب والسنة وعدم الاعتماد عليهما كما هو ظاهر. (ش)

(وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ) ووضع كل شيء في موضعه كل ذلك لكمال قواه من السامعة والحافظة والعاقلة مع ما له من كمال البصيرة والورع والاجتهاد في الدين واعتبار شرائط قبول الرواية وصحتها، وهذا الذي وجب على الناس الفحص عن وجوده والممسك بذيله إن وجدوه.

(فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله)) دليل على تحقق القسم الثاني والثالث والرابع.

(مثل القرآن) خبر إن.

(ناسخ ومنسوخ [وخاص وعام] ومحكم ومتشابه) خبر بعد خبر وهو مثل القرآن أو بدل عنه أو بيان له أو حال عنه بتقدير مبتدأ أي بعضه ناسخ وبعضه منسوخ وهكذا.

(قد كان) تأكيد لقوله: «فإن أمر النبي إلى آخره» ولهذا ترك العاطف واسم كان ضمير الشأن.

(يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان:) «يكون» تامة وهي مع اسمها وهو «الكلام» خبر كان و «له وجهان» حال عن الكلام أو نعت له لأن اللام فيه للعهد الذهني فهو في حكم النكرة أو خبر يكون إن كانت ناقصة.

(كلام عام وكلام خاص) عطف على الكلام ولم يذكر سائر الأقسام للاقتصار ولذكرها سابقا.

(مثل القرآن) أي كلامه مثل القرآن في اشتماله على الأقسام المذكورة.

(وقال الله عز وجل في كتابه: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا)) لعل الغرض من ذكر الآية هو الإشارة إلى وجوب الأخذ من الرسول والمتابعة له في الأوامر والنواهي والتنبيه على أن المسلمين لما علموا وجوب ذلك عمل كل بما فهمه من خطابه وبلغه من كلامه من غير تفتيش في طلب المقصود ولا تفحص في وجود المنافي فجاء الاختلاف بينهم.

(فيشتبه) متفرع على ما قبل الآية لأن وجود الأقسام المذكورة في القرآن وكلام الرسول (صلى الله عليه وآله) منشأ للاشتباه.

(على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله)) فاعل يشبه ضمير راجع إلى مراد الله ومراد الرسول من (1) الخطابات بقرينة المقام «وما» الموصلة مفعول الفعلين على سبيل التنازع ويحتمل أن يكون

ص: 317


1- 1 - قال العلامة (رحمه الله) في النهاية: بعد أن حكم بأن الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور المعارض وأنهم كسائر المسلمين على المشهور بل هم أفضل وأكمل، بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم وقال: رأينا بعضهم قادحا في البعض وذلك يوجب القدح إما في القادح أو المقدوح فيه وأتى بأمثلة كثيرة نذكر نبذا مما نقله العلامة (رحمه الله) عنه، منها: قول عمران بن حصين: لو أردت لتحدثت يومين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم ومنها. ردت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) سكنى ولا نفقة فقال عمر: لا يقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟ وقالت عائشة: يا فاطمة قد فتنت الناس. ومنها قال: كان علي يستحلف الرواة ولو كانوا غير متهمين لما حلفهم فإن عليا (عليه السلام) أعلم بهم منا. ومنها: روى عطاء حديث عكرمة عن ابن عباس «سبق الكتاب الخفين» قال: كذاب أنا رأيت ابن عباس مسح على الخفين ومنها: لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أقلوا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال النظام: فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم وسرد من ذلك نحو أربعة وثلاثين مما يدل على عدم كونهم متفقين على قبول الأخبار من الصحابة وعدم براءتهم من التهمة ونقلنا في حاشية الوافي من النهاية قولا أبسط فارجع إليه. (ش)

فاعل يشتبه والفعلان حينئذ بمنزلة اللازم أي فيشتبه ما عنى الله ورسوله بذلك الخطاب على من ليس من أهل المعرفة والدراية، وعلى التقديرين فيه إشارة إلى القسم الثاني والثالث كما أن ما يجيء من قوله (عليه السلام): «وقد كنت أدخل» إشارة إلى أفضل الأفراد وأكملها من القسم الرابع وتوضيح المقصود أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن في اشتماله على الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمحكم والمتشابه وقد يوجد منه خطاب له وجهان متساويان أو غير متساويين وخطاب عام لسبب مخصوص وهو غير مقصور عليه وخطاب خاص لسبب مخصوص وهو مقصور عليه والناس مكلفون بالمتابعة كما دلت عليه الآية ومراتب أفهامهم وسماعهم مختلفة فمنهم من فهم من ذي الوجهين أحدهما والمقصود غيره كما إذا فهم من المتشابه غير المقصود أو فهم من الخطاب العام الوارد على سبب معين عدم الاختصاص والمقصود هو الاختصاص فوهم فيه، وعبر عنه بالعبارة الدالة على ما فهمه ولم يتعمد في شيء من ذلك فتبعه من تبعه لعدم علمه بوهمه وهذا هو القسم الثاني ومنهم من سمع المنسوخ دون الناسخ والعام دون الخاص فعمل هو بما في يده وعمل به من تبعه وهذا هو القسم الثالث وهما بعد تفارقهما في عدم الضبط وتحقق الوهم في المروي وتحقق الضبط وعدم الوهم فيه مشتركان في لحوق الاشتباه بهما وعدم معرفتهما ودرايتهما ما هو مراد الله تعالى ومراد رسوله (صلى الله عليه وآله) في الواقع ومنهم من سمع كلها وعرف حقيقتها وعلم المراد منها ولم يشتبه عليه المقصود أصلا فجاء به كما سمع وكما هو المقصود وهذا هو القسم الرابع.

ولما كان هنا مظنة أن يقال: كيف يقع الاشتباه عليهم في قوله مع كثرتهم وكونهم من أهل الخطاب؟ ولم لم يسألوه حتى يكشف لهم عن وجه المقصود ويرفع عنه الحجاب؟ أجاب عنه بقوله:

(وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشيء فيفهم) منهم من لا يسأله إما لشدة اشتغاله

ص: 318

بأمر الدنيا وطلب المعيشة أو لعدم اهتمامه بأمر الدين وكان منهم من يسأله ولم يكن له رتبة الفهم والعلم بمراده.

(وكان منهم من يسأله) وكان له رتبة الفهم، ولكن لا يفهمه بمجرد الجواب.

(ولا يستفهمه) حتى يفهمه إما لخوف نسبة الغباوة إليه بسبب عدم الفهم أول مرة أو لإجلال الرسول وتعظيمه.

(حتى أن كانوا ليحبون أن يجي الأعرابي والطاري) أي أنهم كانوا ليحبون ويريدون مجيء بدوي وغريب يطلع عليهم.

(فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا) ويفهموا وينفتح لهم باب السؤال، ثم أشار (عليه السلام) إلى حاله مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وشدة اختصاصه به ودوام ملازمته له ليلا ونهارا في تحصيل الأحكام وغيرها مما كان أو يكون إلى قيام الساعة وكمال إشفاق الرسول عليه وتلطفه به وتعليمه جميع ما أنزل الله تعالى على هذه الامة وعلى الامم السابقة، وإلى أن غيره من الصحابة ليست له هذه المنزلة العظيمة والمرتبة الرفيعة ليحتج بذلك على أنه يجب على الناس بعد نبيهم الرجوع إليه في الأحكام وغيرها والاستضاءة بمشكاة أنواره كي يتخلصوا ظلمة الجهالة ويجتنبوا من طرق الضلالة بقوله:

(وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة) الدخلة بفتح الدال مصدر للعدد أراد أن هذا كان دائما عند عدم المانع كزمان المفارقة بالسفر ونحوه.

(فيخليني) من الإخلاء بمعنى الخلوة والانفراد من خلوت به ومعه وإليه إذا انفردت به أو من التخلية وهي ترك المرء مع ما أراد أي يجعل لي خلوة أو يتركني.

(فيها أدور) أي في تلك الدخلة أو في الامور الدينية.

(معه حيث دار) في الأحكام الربوبية والمعارف الملكوتية والأسرار اللاهوتية، والمقصود أنه كان يطلعني على جميع ذلك.

(وقد علم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري) أشار به إلى تقدمه على جميع الصحابة إذ لم يشاركه أحد بتلك الفضيلة.

(فربما كان) أي الاجتماع أو الدوران معه حيث دار.

(في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله)) حال أو استئناف.

(أكثر ذلك في بيتي) إضراب عن السابق أو تأكيد له لأن رب المكفوفة بما الداخلة على الماضي قد تكون بمعنى التقليل كما هو الأصل وقد تستعمل في التكثير والتحقيق كما صرح به أرباب العربية منهم ابن

ص: 319

الحاجب، فإن كان المراد بها هنا التقليل فالمناسب الإضراب وإن كان المراد بها التكثير فالمناسب هو التأكيد.

(وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني) أي أخلانيه بحذف المفعول يعني جعله خاليا لي.

(وأقام عني نساءه) العطف للتفسير ووجه إخراجهن مع كونهن أجنبيات القصد إلى عدم سماعهن ما يلقي إلى وصيه (عليه السلام) من الأسرار الإلهية.

(فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني) لأن تعليمهم أيضا كان مقصودا.

(وكنت إذا سألته) عن كل ما اشتبه علي وعن كل ما أردت تعلمه.

(أجابني) عنه وعلمنيه.

(وإذا سكت عنه) عن كل ما اشتبه علي وعن كل ما أردت تعلمه.

(وفنيت مسائلي ابتدأني) في التعليم كل ذلك لكمال لطفه وشفقته علي ونهاية اهتمامه على هدايتي إلى الأسرار الإلهية، وفيه إرشاد للمعلم الرباني إلى كيفية التعليم لمتعلمه إذا وجده أهلا لذلك.

(فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي) الإملاء منقوص يائي لا مهموز، تقول: أمليت الكتاب إذا أنشأت ألفاظه ومعانيه.

(فكتبتها بخطي) وهو المصحف الذي جاء به للصحابة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يقبلوه منه.

(وعلمني تأويلها وتفسيرها) قيل: التأويل إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهري إلى معنى أخفى منه (1) مأخوذ من آل يؤول إذا رجع وقد تقرر أن لكل آية ظهرا وبطنا، والمراد أنه (صلى الله عليه وآله) أطلعه على تلك البطون المصونة وعلمه تلك الأسرار المكنونة، والتفسير كشف معنى اللفظ وإظهاره مأخوذ من الفسر وهو مقلوب السفر، يقال أسفرت المرأة على وجهها إذا كشفته وأسفر الصبح إذا ظهر.

(وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها (2) ودعا الله لي بما دعا) قيل: دعا له أن

ص: 320


1- 1 - تخصيص التأويل بما ذكره الشارح لعله اصطلاح جديد وهذا مثل تأويل يد الله بقدرة الله واستوى بمعنى استولى والقدماء كثيرا ما كانوا يذكرون في ما يعنونه بالتأويل امورا لا تنافي الظاهر بل ترى في تفسير الطبري أكثر ما نسميه تفسيرا معنونا بالتأويل وراجع في ذلك مقدمة كتاب مجمع البيان وتفسير أبي الفتوح الرازي وغيره. (ش)
2- 2 - الخاص والعام في اصطلاح الأحاديث غيرهما من اصطلاح الاصوليين فالخاص هو الحكم الذي ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في رجل بعينه أو قوم بأعيانهم مثل ذم أهل الاجتهاد والمتكلمين والصوفية فإنه خاص بأصحاب الرأي والتعصب والبدع ومثل ما ورد في النهي عن الحياكة وذم الحائكين وذم الشعراء وذم أهل السوق قاطبة كل ذلك خاص بطائفة والعام هو الحكم الشامل للجميع وإن ورد في مورد خاص مثل قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعروة البارقي: بارك الله في صفقة يمينك فإن خطابه خاص بعروة وحكمه عام لكل بائع فضولي رضي به المتبايعان بعد العقد وربما وهم أهل الظاهر أن مثل ذلك قياس وليس به بل هو تفهم وتعقل يعرف من اللفظ أن الحكم الخاص بمورد هو عام يشمل الجميع وذكر الخاص وإرادة العام منه بقرينة ليس خروجا عن متعارف التكلم والعمل به ليس تعديا عن النص فإن ورد أن الصادق (عليه السلام) كتب على كفن ولده أن إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله فمعناه أن كل أحد يستحب له أن يكتب اسم ميته وهذا باب واسع له نظائر كثيرة. (ش)

يعطيه الله تعالى فهم الصور الكلية وحفظها لأن الصور الجزئية لا تحتاج إلى مثل هذا الدعاء، فإن فهمها وحفظها ممكن لأكثر الصحابة من العوام وغيرهم، وإنما الصعب المحتاج إلى الدعاء بأن يفهمه ويعيه الصدر ويستعد الذهن لقبوله هو القوانين الكلية وكيفية انشعابها وتفصيلها وأسبابها المعدة لإدراكها حتى إذا استعدت النفس بها أمكن أن ينتقش فيها الصور الجزئية من مفيضها والله سبحانه أعلم.

(وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا) قيل: ينبغي أن يعلم أن التعلم الحاصل له من قبله (صلى الله عليه وآله) ليس في صورة جزئية ووقائع جزئية بل معناه إعداد نفسه القدسية على طول الصحبة من حين كان طفلا إلى أن توفي الرسول (صلى الله عليه وآله) لهذه العلوم التامة وكيفية تعلم السلوك وأسباب تطويع النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة حتى استعدت نفسه الشريفة للانتقاش بالامور الغيبية والصور الكلية الكائنة والامور الجزئية المندرجة تحتها، فأمكنه الإخبار عنها وبها.

وقيل: ما تضمنه هذا الحديث من تعليمه (صلى الله عليه وآله) له (عليه السلام) ما كان وما يكون يمكن حمله على الأحكام الشرعية في المسائل الكائنة والمتجددة، ويمكن حمله على بعض المغيبات التي أطلع الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) عليها، وقد دل الأخبار وكلام أصحاب السير من الخاص والعام على أن عليا (عليه السلام) كان عالما بالامور المغيبات وأخبر بكثير منها، وروي أنه (عليه السلام) بعد ما أخبر ببعض الحروب والقتال والوقائع التي تقع بعده (عليه السلام) قال له بعض أصحابه: لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك (عليه السلام) وقال للرجل وكان كلبيا: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب وإنما علم الغيب علم الساعة وما عده الله سبحانه بقوله: (إن الله عنده علم... الساعة الآية) فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل وسخي أو بخيل وشقي أو سعيد ومن يكون للنار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وما سوى ذلك علم علمه الله رسوله (صلى الله عليه وآله) فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري ويضطم (1) عليه جوارحي (2).

وفي بعض النسخ: جوانحي.

ص: 321


1- 1 - اضطمت عليه الضلوع: أي اشتملت.
2- 2 - النهج قسم الخطب، تحت رقم 126.

(ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا) التركيب من باب ملأت الإناء ماء ففاعل يملأ ضمير يعود إلى الله، وقلبي مفعوله وعلما وما عطف عليه تمييز له وهو بحسب المعنى فاعل أي يملأ العلم قلبي، والفهم في اللغة العلم، قال الجوهري: فهمت الشيء فهما علمته.

والأظهر أن المراد به هنا جودة الذهن وكمال قوته لاستخراج المطالب، والحكم بضم الحاء وسكون الكاف العلم الكامل المانع من العود إلى الجهل والسفه الزاجر عنهما قطعا وبكسر الحاء وفتح الكاف جمع الحكمة وهي بمعنى الحكم والأول أنسب للتوافق بينه وبين غيره من المنصوبات في الأفراد، وقد تفسر الحكمة بالعلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة وقد تفسر أيضا بالعلم بالشرائع النبوية، والنور هو الضياء وبعبارة اخرى هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، ولعل المقصود أنه طلب لقلبه اللطيف وذهنه الشريف ضياء الحق ودعا الله أن يستعمله في طريق الحق ويجعل تصرفه وتقلبه على سبيل الصواب والخير، وقد يراد بالنور العلم على سبيل الاستعارة لكن إرادة هذا المعنى هنا يوجب التكرار.

(فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وامي) الباء للتفدية، وهي في الحقيقة باء العوض وفعلها محذوف والتقدير: أبي وأمي.

(منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه).

(أفتتخوف علي النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل) الفاء (1) في قوله فقلت: دلت على أن هذا السؤال وقع عقب هذا الدعاء بلا فصل، والغرض منه إظهار الشكر على إجابة الدعاء المذكور أولا وطلب العلم بأن سبب هذا الدعاء هل هو التخوف على النسيان فيما بعد أو غيره كالتأكيد والمبالغة في استثبات علمه وفهمه وفي علمه بذلك اطمئنان لقلبه الطاهر النقي حيث إن الجهل والنسيان عليه محال في الاستقبال وإذا عرفت أنه (عليه السلام) كان عالما بجميع ما هو المقصود من القرآن وبالحلال والحرام والأمر والنهي وبكل ما كان وما يكون وأنه لا يشاركه أحد من الصحابة في ذلك فقد عرفت أنه (عليه السلام) قائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه يجب على الناس الرجوع إليه في كل ما يجهلون، والاعتماد على قوله في كل ما لا يعلمون وأنه لا يجوز لهم التمسك بآرائهم والأخذ من أهوائهم.

ص: 322


1- 1 - فإن قيل: هذا لا يفيدنا في هذه الأزمنة المتأخرة وإنما كان يفيد الناس في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين كانوا حضورا عنده في بلده وذلك لأن الغلط والوهم والباطل كما يمكن تطرقه إلى أحاديث الرسول (عليه السلام) يمكن تطرقه إلى أحاديث أمير المؤمنين (عليه السلام) ونسبة الحديثين إلينا على السواء. قلنا: هذا في أحاديث الآحاد المروية عنه حيث نعلم صحتها، وأما المتواترات فلا، مثلا في مسألة العول والمتعة رووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يوافق القوم بطريق الآحاد وروي بطريق أهل البيت متواترا نفي العول وإثبات المتعة فبرواية سليم بن قيس يثبت حجية ما تواتر عنه (عليه السلام) وعدم حجية قول من لم يثبت حجيته، وأما الآحاد فلا فرق بين ما يروى عن النبي وعنه (عليهما السلام) إذا جمعت شرائط الحجية على القول بحجية خبر الواحد. (ش)
* الأصل:

2 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له ما بال أقوام) البال هنا الحال والشأن.

(يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتهمون بالكذب) مطلقا أو على الرسول والفعل مبني للمفعول وضمير الجمع راجع إلى الأقوام ومن يروون عنه والجملة حال.

(فيجيء منكم خلافه، قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (1)) فهؤلاء لما سمعوا المنسوخ دون الناسخ رووا ما سمعوه وعملوا به ولو علموا أنه منسوخ لرفضوه وهذا هو القسم الثالث من الأقسام الأربعة المذكورة.

وبالجملة عدم الاتهام بالكذب لا يوجب أن يكون المروي حقا ثابتا لاحتمال أن يكون منسوخا ولا يعلمه الراوي أو يكون موهوما لم يضبطه على وجهه وفهم منه ما ليس بمقصود وعبر عنه بعبارته الدالة على ما فهمه كما مر في القسم الثاني من الأقسام الرابعة، وإنما لم يذكر (عليه السلام) هذا الوجه أيضا لأن السؤال ينقطع بالوجه الأول مع كونه أظهر.

* الأصل:

3 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن منصور بن حازم، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما

ص: 323


1- 1 - هذا الحديث عندي من المتشابه وما أعرف معناه فإنا مأمورون - على ما يأتي - بعرض الحديث المنقول عن الأئمة على السنة المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله) ورد ما خالفه ولو فرض إمكان نسخ السنة بالخبر المنقول عن الأئمة (عليهم السلام) لم يفد العرض فائدة ولكن قد يطلق النسخ في اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) على التخصيص والتقييد وسيجئ في رواية العيون إنكار النسخ في أحاديث الأئمة (عليهم السلام). (ش)

ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن منصور بن حازم، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان) أي الزيادة والنقصان (1) في الكلام على حسب تفاوت المراتب في الأفهام أو زيادة حكم عند التقية ونقصانه عند عدمها وذلك لأنهم (عليهم السلام) كانوا على خوف وتقية من بني امية وبني العباس; لأن هؤلاء الشياطين نصبوا لهم ولشيعتهم عداوة وكانوا يحبسون شيعتهم ويقتلون مواليهم حيث وجدوهم بل ربما كانوا يبعثون من يسألهم ويظهر أنه من شيعتهم لكي يعلم أسرارهم، يظهر لك لمن نظر في السير والآثار فهم (عليهم السلام) كانوا قد يجيبون من سألهم عن مسألة بجواب غير جواب من سألهم عنها قبل ولم يكن ذلك مستندا إلى النسيان والجهل بل لعلمهم بأن اختلاف كلمتهم أصلح لهم وأنفع لبقائهم إذ لو اتفقوا لعرفوا بالتشيع وصار ذلك سببا لقتلهم وقتل الأئمة (عليهم السلام).

(قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا) (2) كان منصور سأل عن حال الأصحاب المؤمنين الحافظين لخطابه لأنك قد عرفت سابقا (3) أن المنافقين ومن وهم

ص: 324


1- 1 - اختلاف الإجابة بالزيادة والنقصان غير عزيز ولا ينبغي أن يعد اختلافا، ولعل الإمام (عليه السلام) نبه السائل على أن يدقق النظر في بعض ما يراه مختلفا حتى يظهر له أنه ليس مختلفا فقد نحكي قصة واحدة بالتفصيل في صفحات وقد نحكيها إجمالا في سطر. (ش)
2- 2 - قال العلامة في النهاية على ما سبق: الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور المعارض وذلك لما روي في القرآن الكريم من مدح المهاجرين والأنصار وما روي في السنة أيضا فيهم ويخرج عن هذا الأصل من خرج إذا علمنا نفاقهم بالدليل ومن الدلائل القوية تقربهم إلى الظلمة وإعانتهم في الظلم، ولكن بعض أهل السنة يسبق ذهنهم من لفظ الصحابة إلى نحو عشرين رجلا منهم نالوا الإمارة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء ولو تبرأ أحد منهم تبروا منه وإن تبرأ من غيرهم من المؤمنين المستضعفين لم يروا به بأسا مثلا إذا تبرأ من أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي كما تبرأ منهم عثمان ومعاوية لم يروا به بأسا لأنه بالاجتهاد ولا ندري كيف جاز ضرب عبد الله بن مسعود وأبي ذر وغيرهما بالاجتهاد ولم يجز لعن عمرو بن العاص وطلحة والزبير بالاجتهاد وكلهم من الصحابة؟! إلا أن هؤلاء كانوا من الامراء يحتشم من خلافهم وهؤلاء من الرعايا. والجملة: فإنا قائلون بفضل نحو عشرة آلاف وأزيد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) والخلاف في عدالة نحو عشرين رجلا منهم وهم قائلون بفضل هذا القليل ولا يبالون بالكثير. (ش)
3- 1 - في القسم الأول والثاني من الأقسام الأربعة إلا أن القسم الأول وهو منافق كذب عليه عمدا. والقسم الثاني وهو المؤمن الذي وهم فيما رواه عنه وعبر عنه بعبارته الدالة على ما فهمه فإنه أيضا كذب عليه من حيث لا يعلم. (كذا في هامش بعض النسخ).

في خطابه من المؤمنين قد كذبوا عليه.

(قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟) في الرواية عنه لأن ما رواه بعضهم قد ينافي ما رواه الآخر.

(فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا؟) ولا علم للسائل بالنسخ ولأجل هذا تمسك به وتصدى لروايته ونقله كما مر في القسم الثالث.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: «يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشيء من التقية؟ قال:

قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجرا. وفي رواية اخرى: «إن أخذ به اوجر وإن تركه والله أثم».

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشيء من التقية؟) أي من أجل التقية، أو مما يتقى به، يعني هل يثاب بالعمل به أم لا؟ (قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن أخذ به) أي إن أخذ بذلك الشيء الذي أفتينا به من أجل التقية وعمل به.

(فهو خير له وأعظم أجرا) من الأخذ بالحكم الواقعي والعمل به عند انتفاء الخوف والتقية أو عند تحققها وفيه على الأخير دلالة على أن لتارك التقية العامل بخلافها أيضا أجرا وثوابا ولا يبعد ذلك لأن لكل واحد من الحكمين رجحانا من وجه، أما الحكم المستند إلى التقية فلأنه ترس المؤمن وحرزه ووقاية لنفسه وماله، وأما الحكم الذي هو خلافه فلأنه حكم الله بالذات والمكلف به أصالة فكما يؤجر بالأول ينبغي أن يؤجر بالثاني أيضا، والظاهر أن ترتب الإثم على ترك الأول كما يستفاد من الرواية الاخرى لا ينافي ثبوت الأجر وترتبه على الأخذ بالثاني والله أعلم. قال بعض الأفاضل: لما كان العمل بالتقية كبيرا إلا على من خصه الله بنور من المعرفة وهداه إلى طريق الحق استكشف (عليه السلام) عن باطن الرجل واستفهم عن قوله لو أفتي رجلا من الشيعة بشيء من التقية ثم لما أظهر الرجل الطاعة والانقياد في كل ما أفتى وأمر قال حق القول فيها وهو

ص: 325

وجوب العمل بالتقية وحصول الأجر العظيم بالأخذ بها.

أقول: هذا الرجل وهو أبو عبيدة الحذاء الكوفي واسمه زياد بن عيسى كان ثقة صحيحا كما صرح به أصحاب الرجال وكان حسن المنزلة عند آل محمد (عليهم السلام) وكان زامل أبا جعفر (عليه السلام) إلى مكة، وكان له كتاب يرويه عنه; وعن علي بن رئاب كما صرح به النجاشي فحال باطنه وحسن اعتقاده وانقياده كانت معلومة له (عليه السلام) فيستبعد أن يكون الغرض من الاستفهام استعلام حال باطنه وحسن اعتقاده كما ذكره هذا الفاضل بل الغرض منه استعلام أنه هل يعلم حكم ما يترتب على العمل بالتقية وعلى تركه أم لا؟ فلما أظهر الرجل عدم علمه بذلك وفوض العلم به إليه (عليه السلام) بين الحكم له وإنما لم يعلمه أولا بدون سؤال لأن التعليم بعد العلم بأن المخاطب لا يعلم أثبت وأنفع من التعليم ابتداء.

(وفي رواية اخرى إن أخذ به اوجر) أوجر على البناء للمفعول وقراءته على صيغة التفضيل بمعنى أشد أجرا بعيد.

(وإن تركه والله أثم) لأن التقية دين الله تعالى وضعها لعباده الصالحين فمن أخذ بها استحق الأجر ومن تركها وألقى نفسه إلى التهلكة استحق الإثم والأظهر أن «أثم» من المجرد ويجوز قراءته بالمد من باب الإفعال للدلالة على كثرة الإثم لأن هذا الباب قد يجيء للدلالة على الكثرة كما صرح به أصحاب العربية.

لا يقال: ثبوت الإثم لترك التقية ينافي ما يجيء في باب التقية من قول الباقر (عليه السلام) في رجل من الشيعة قتل لترك التقية: إنه تعجل إلى الجنة (1).

لأنا نقول: ثبوت الإثم له لا ينافي دخول الجنة، أو نقول: المراد بالإثم قلة الأجر بالنسبة إلى العمل بالتقية، وفي الرواية السابقة إشعار به على احتمال.

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا بن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: «يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم»; قال: ثم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه».

ص: 326


1- 1 - الكافي - كتاب الإيمان والكفر، باب التقية، تحت رقم 23.
* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة ابن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر) فسأله عنها.

(فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا بن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟) إنما لم يقل: رجال لأن مقصوده معرفة سبب اختلاف الأجوبة وذلك يحصل بذكر الاثنين أو لعلمه بأن ما أجابه هو حكم الله على وجهه فسأل عن سبب اختلاف جواب الآخرين لكونه لا على الوجه الظاهر عنده.

(فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا) الجملة الشرطية مستأنفة على وجه البيان الموجب للسابق كأنه قيل: لم كان ذلك خيرا وأبقى؟ فأجاب بأنه لو اجتمعتم على أمر واحد في روايته عنا وأخبرتم الناس بأنكم سمعتموه منا لصدقكم الناس علينا ويعتقدون أنكم صادقين في روايته عنا لتوافق شهاداتكم وتماثل أخباركم وتواتر رواياتكم وأنكم موالينا وشيعتنا وفي ذلك فتنة وشهرة لنا ولكم عند أعدائنا.

(ولكان أقل لبقائنا وبقائكم) أي ولكان اتفاقكم في الرواية عنا أو تصديقهم لكم فيها سببا لقلة بقائنا وبقائكم لأنه موجب لسرعة هلاكنا وهلاككم بخلاف ما إذا اختلفتم في الرواية عنا فإنهم لا يصدقونكم علينا ولا يعتقدون أنكم موالينا وفي ذلك بقاء لنا ولكم (1).

وتلك الأجوبة المختلفة عن مسألة واحدة يحتمل أن يكون بعضها أو كلها من باب التقية لعلمه (عليه السلام) بأن السائل قد يضطر إليها، ويحتمل أن يكون كلها حكم الله تعالى في الواقع إذ ما من شيء إلا وله ذات وصفات متعددة متغايرة يترتب عليها أحكام مختلفة فلو سئل العالم النحرير عنه مرارا وأجاب في كل مرة بجواب مخالف للجواب السابق كانت الأجوبة كلها صادقة في نفس الأمر وإن لم يعلم السائل وجه صحتها ولا يقدح عدم علمه في صحتها لأن الواجب عليه بعد معرفة علو شأن المسؤول وتبحره في العلوم والمعارف هو التسليم واعتقاد أنها صدرت منه لمصلحة قطعا.

ص: 327


1- 1 - مثل أن يسأل هل عندكم شيء غير الكتاب والسنة؟ فيقولون: لا، وهو حق، فإن جميع علومهم في الكتاب والسنة ويعتقد العامة من ذلك أنه لا يزيد علم أهل البيت عن علم علمائهم ثم يسأل آخر فيجيبون بأن عندنا الجفر والجامعة فيها كل شيء حتى الأرش في الخدش، وهذا حق ويتوهم أنه مخالف للأول إذ ليس هذان عند علمائهم ويصير مثل ذلك سببا لعدم قطع المخالفين على شيء من اعتقاد الشيعة فيهم (عليهم السلام). (ش)

(قال: ثم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة) جمع سنان، وهو الرمح.

(أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه) الأحكام كلها مبنية على مصالح العباد دنيوية كانت أو اخروية ومن مصالحهم الدنيوية اختلاف الكلمة والأخذ بالتقية للنجاة من شر الكفرة الفجرة، ومن أنكر ذلك فقد أنكر ما يقتضيه العقل والنقل.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي، قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا; فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن نصر الخثعمي، قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا) يعني أن كل من عرف أنا أهل الصفوة والعصمة والرحمة، وأنا لا نقول إلا حقا ثابتا فليكتف بما يعلم ويتيقن أنه من مذهبنا وطريقتنا في الاصول والفروع وليعتقد أنه حق لا ريب فيه وإن لم يعلم مأخذه ومستنده.

(فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه) أي فإن سمع منا خلاف ما يعلم من مذهبنا فليعلم أن مقصودنا من ذلك القول رفع ضرر أهل البدعة والطغيان عنه وأنه صدر من باب التقية لا من باب الجهل والنسيان.

وفي قوله: «عنه» اقتصار، والمقصود عنه أو عنا، واعلم أن الأمرين المختلفين الصادرين عنهم (عليهم السلام) إما أن يكون مذهبهم معلوما في أحدهما كالمسح والغسل أو لا كحرمة التكفير وجوازه وهذا الحديث مشتمل على حكم الأول وحكم الثاني يستفاد من حديث عمر بن حنظلة ونحوه وسيجئ ذكره.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: «يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه. وفي رواية اخرى: «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك».

* الشرح:

ص: 328

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟) أي كيف يصنع ذلك الرجل المقلد في هذه الصورة التي اختلف فيها المجتهدان المفتيان عليه؟ كما يشعر به ظاهر قوله: «أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه» أو كيف يصنع ذلك الرجل المجتهد المفتي إذا اختلف عليه الراويان؟ كما يشعر به ظاهر قوله:

«في أمر كلاهما يرويه»، والاحتمال الأخير أظهر من الأول.

(فقال: يرجئه) بالياء أو بالهمزة من أرجيت الأمر أو من أرجأته إذا أخرته يعني يؤخر العمل بأحد الخبرين وترجيحه على الآخر.

(حتى يلقى من يخبره) أي من يخبره بما هو الحق منهما، وهو الإمام (عليه السلام) أو من يخبره بخبره يرجح أحدهما على الآخر.

(فهو في سعة) في ترجيح أحدهما على الآخر والعمل به.

(حتى يلقاه) من يخبره ويخرجه عن الحيرة.

(وفي رواية اخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم) للإمام المروي عنه والانقياد له والرضا به لا باعتبار اعتقادك بأنه حكم الله أو ظنك به.

(وسعك) أي جاز لك، وفي هاتين الروايتين دلالة واضحة (1) على قول من ذهب من الاصوليين إلى أن الحكم عند تعارض الدليلين هو الوقف أو التخيير، وفي هذا المقام شيء وهو: أن الإرجاء مشكل فيما إذا كان الخبران متناقضين كالأمر والنهي في شيء واحد وما أجاب عنه بعض الأفاضل من أن الرواية الاولى المتضمنة للإرجاء في حكم غير المتناقضين والرواية الثانية المتضمنة للأخذ من باب التسليم في حكمهما مدفوع: بأن قول السائل: «في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه» يأبى هذا التوجه لأنه صريح في أن السائل سأل عن حكم المتناقضين، ويمكن الجواب عن أصل الإشكال: بأن المراد بالإرجاء التوقف في الحكم المتعلق بذلك الأمر يعني لا يحكم بوجوبه ولا بتحريمه بل يتوقف فيه حتى يلقى الإمام (عليه السلام) وعلى هذا لا اختلاف بين الروايتين إلا في العبارة.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي

ص: 329


1- 1 - بل الأوضح أن هذا فيما لا يتعلق بالعمل إذ لا يعقل إرجاء الأحكام العملية المشكوكة المحتاج إليها حالا، وإن سلم شمول الروايتين لما يتعلق بالعمل فالواجب تخصيصها بما إذا فقد المرجحات. (ش)

عبد الله (عليه السلام) قال: «أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟» قال: قلت: كنت آخذ بالأخير، فقال لي: «رحمك الله».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن الحسين بن المختار) وهو القلانسي، قال العلامة: الحسين بن المختار القلانسي من أصحاب أبي الحسن موسى (عليه السلام) واقفي، وقال ابن عقدة عن علي بن الحسن: إنه كوفي ثقة والاعتماد عندي على الأول. انتهى.

وقال الفاضل الأسترآبادي في كتاب الرجال: وفي الكافي: قال الحسين بن المختار: قال لي الصادق (عليه السلام): رحمك الله.

أقول: إن أشار به إلى ما في آخر هذا الحديث ففيه: أن هذا لبعض الأصحاب لا للحسين على أن التمسك به في مدحه يستلزم الدور.

(عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أرأيتك) أي أخبرني عنك.

(لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: قلت: كنت آخذ بالأخير) قال: ذلك لعلمه بأن الحكم قد تبدل في شأنه لمصلحة يعلمها (عليه السلام).

(فقال لي: رحمك الله) استرحمه لتصويب رأيه وتصديق قوله، وهذا الحديث على تقدير حجيته دل على أنه لو حدث المعصوم رجلا بحديث ثم حدثه بعد ذلك بحديث يخالف الأول وجب عليه الأخذ بالثاني والوجه فيه ظاهر لأن صدور أحد الحديثين إنما يكون للتقية والدفع عنه فإن كانت التقية في الأول كان الثاني رافعا لحكمها فوجب عليه الأخذ بالثاني، وإن كانت في الثاني وجب الأخذ به أيضا، وأما لو بلغ هذان الحديثان إلى الغير على سبيل الرواية عنه (عليه السلام) فلا يجب على ذلك الغير الأخذ بالثاني على الإطلاق لجواز أن يكون عالما بأن الثاني صدر على سبيل التقية مع ارتفاع التقية عنه، فإنه يأخذ بالأول كما إذا علم أن المعصوم أمر بالمسح أولا ثم أمر بالغسل ثانيا، فإنه يأخذ بالمسح إذا انتفت التقية عنه وأن يكون نسبة التقية إليهما سواء عنده فإن حكمه هو التخيير أو الوقف كما مر في الخبرين السابقين.

* الأصل:

9 - وعنه، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن معلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال:

«خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله» قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنا والله لا

ص: 330

ندخلكم إلا فيما يسعكم». وفي حديث آخر: «خذوا بالأحدث».

* الشرح:

(وعنه، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن معلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ فقال:

خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله) مفاده ومفاد قوله سابقا: «وفي رواية اخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» واحد يعني خذوا بأيهما شئتم من باب التسليم حتى يبلغكم التفسير عن المعصوم الحي فإن بلغكم التفسير والبيان عنه فخذوا بقوله واتركوا الآخر.

(قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم) الغرض منه التنبيه على فائدة اختلاف الأحاديث وهي التوسعة في الدين ونفي الحرج عمن أراد التفصي عن ضرر المخالفين فإنه لو لم تكن التقية مشروعة ولم يتحقق الاختلاف في الأحاديث لما أمكن التفصي عن ضررهم ففي شرع التقية واختلاف الأحاديث سعة في الدين ورحمة عظيمة للمؤمنين.

(وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث) الأمر بالأخذ بالأحدث إما على سبيل الإباحة أو على سبيل الندب (1) لا على سبيل الوجوب بدليل قوله: «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»، وقوله:

«خذوا به حتى يبلغكم عن الحي» وقوله: «لا ندخلكم إلا فيما يسعكم» فإن كل واحد من هذه الثلاثة يفيد جواز الأخذ بكل واحد من الأقدم والأحدث فالأخذ بالأحدث ليس بواجب بل هو جائز أو هو أولى لاشتماله على مصلحة زائدة مفقودة في الأول.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود ابن

ص: 331


1- 1 - ويحتمل كون الأحدث راجحا بقلة الواسطة، ويحتمل أن يكون هذا في الأوامر المتعلقة بأحكام تتغير بحسب الأزمان والموضوعات مثل أن ينهى عن الاجتماع لصلاة الجمعة في زمان شدة التقية ويأمر به في وقت لا تقية فيه، أو يأمر بالجهاد مع المخالفين إذا علم خطرا متوجها إلى الدين يدفع بجهادهم وينهى عنه إذا علم ضرر ذلك الجهاد، أو ينهى عن جلود بلد لعلمه بعدم التذكية بعد تجويزه إذا علم التذكية ففي أمثال ذلك يجب الأخذ بالأحدث وأما احتمال النسخ فبعيد جدا، وقد روى الشيخ الصدوق في العيون عن المسمعي عن الميثمي عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: «لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو نحرم ما استحله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يكون ذلك أبدا لأنا تابعون لرسول الله مسلمون له (صلى الله عليه وآله) كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تابعا لأمر ربه مسلما له». (ش)

الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له; لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به). قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»، قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على [الآخر] قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الامور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم»، قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة». قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: «ما خالف العامة ففيه الرشاد»، فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر». قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين) قال العلامة: داود بن الحصين الأسدي مولاهم كوفي روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام). قال الشيخ

ص: 332

الطوسي (رحمه الله): إنه واقفي وكذا قال ابن عقدة، وقال النجاشي: إنه ثقة، والأقوى عندي التوقف في روايته، وفي الإيضاح: الحصين بالحاء المضمومة والصاد المفتوحة.

(عن عمر بن حنظلة) من أصحاب الباقر (عليه السلام) ونقل توثيقه عن الشهيد الثاني، وسيجئ في باب وقت الظهر والعصر من هذا الكتاب ما يدل على مدحه عن الصادق (عليه السلام) قال الشهيد (رحمه الله): في طريق هذا الخبر ضعف لكنه مشهور بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونه بينهم (1)، فكان ذلك جابرا للضعف عندهم.

(قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث) أي في أصل الدين والميراث أو في قدرهما وكأن ذكرهما على سبيل التمثيل للاقتصار (2) في السؤال أو كان السؤال عن قضية وقعت بين الرجلين.

(فتحاكما) أي فتخاصما ورفعا حكمهما.

(إلى السلطان وإلى القضاة) الجائرين والسلطان الوالي (3) وهو فعلان يذكر ويؤنث من السلاطة بمعنى القهر والغلبة سمي بذلك لكمال قهره وغلبته على الناس وجريان حكمه عليهم، والقضاة جمع القاضي وهو الذي يحكم بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينة ويجري الأحكام الجزئية عليهم ويقطع المنازعة المخصوصة بينهم، والمفتي هو الذي يبين الأحكام الشرعية على وجه العموم.

(أيحل ذلك؟) ويجوز للمدعي أخذ ما انتزعه بحكمهما والتصرف فيه؟ (قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل) الحق ما كان لرافع الحكم إليهم في نفس الأمر والباطل بخلافه، سواء كان دينا أو ميراثا أو عينا أو نكاحا أو قصاصا أو حدا أو غيرها.

ص: 333


1- 1 - فيما العقل يشهد بصحته فقط.
2- 2 - هذا من باب ذكر الخاص وإرادة العام، كما سبق، وذلك أنه لا يحتمل جواز الرجوع إليهم في البيع والنكاح والطلاق وليس إلحاق غير المنصوص بالمنصوص منها قياسا. (ش)
3- 3 - بل السلطان مصدر وإطلاقه على الوالي مجاز بمنزلة إطلاق العدل على العادل ولم يستعمل في القرآن إلا في المعنى المصدري، وكانوا يستعملون الكلمة في المعنى الذي يطلق عليه في زماننا الحكومة، وهو المراد هنا وأوردنا أشياء كثيرة مما يتعلق بشرح هذه الأحاديث في حاشية الوافي. إن قيل: إذا كان الرجوع إلى القاضي المنصوب من قبلهم في الحقيقة رجوعا إلى السلطان الجائر فما تقول في الترافع إلى القاضي الشيعي المنصوب من قبلهم مثل القاضي ابن البراج قاضي طرابلس الذي ينقل فتاواه في الفقه، والشيخ جعفر محشي شرح اللمعة المعاصر للمجلسي وغيرهم؟ قلنا: إذا كان القاضي مستقلا في حكمه وفتواه ويحكم بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولو بالحيل كالقاضي نور الله التستري فلا بأس وأما المجبور بأن يحكم بقوانين الملاحدة أو المخالفين كما قد يتفق في زماننا وعصر الأئمة (عليهم السلام) فلا. (ش)

(فإنما تحاكم إلى الطاغوت) أي إلى الشيطان، أو إلى ما يزين لهم الشيطان أن يعبدوه من الآلهة والأصنام، أو الطاغوت يكون واحدا وجمعا وتسمية سلطان الجور وقضاته بالشيطان والآلهة من باب الحقيقة عند أهل العرفان لكونهم من إخوان الشياطين في الدعاء إلى الضلالة وتمردهم عن الحق وكونهم آلهة يعبدهم أوغاد الناس وأهل الجهالة بمتابعتهم في القول والعمل.

(وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا) أي يأخذ مالا سحتا أو أخذا سحتا والأول أولى لعدم الاحتياج فيه إلى تقدير المفعول به. والسحت بالضم في الأصل الاستئصال والإهلاك والمراد به هنا الحرام الذي لا يحل اكتسابه لأنه يستحت البركة أي يذهبها ويهلكها وإذا كان كذلك فلا يجوز أخذ شيء بحكم هؤلاء الطغاة وإعانة هؤلاء العصاة ولا يجوز التصرف فيه.

(وإن كان حقا ثابتا له) يفيد بظاهره عدم الفرق بين الدين والعين وقد يفرق بينهما بأن المأخوذ عوض الدين مال للمدعي عليه انتقل إلى المدعي بحكم الطاغوت فلا يجوز له أخذه ولا التصرف فيه بخلاف العين فإنها مال للمدعي وحق له فهي وإن حرم عليه أخذها بحكم الطاغوت لكن يجوز له التصرف فيها.

(لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به) أي يتبرأ منه، هذا التعليل أيضا يفيد عدم الفرق بينهما.

(قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) قيل: نزل في منافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهذا جار إلى يوم القيامة في كل من يدعو إلى من ليس أهلا للقضاء والحكومة ولم توجد فيه شرائطهما وإن كان على المذهب الحق (1).

وقال الشهيد الثاني: يستثنى منه ما لو توقف حصول حقه عليه فيجوز كما يجوز تحصيل الحق بغير القاضي والنهي في هذا الخبر وغيره محمول على الترافع إليهم اختيارا مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق، وقد صرح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه 338


1- 1 - لا ريب أن إعانة الظلمة والاستعانة منهم والتقرب إليهم والتودد معهم من أعظم الموبقات حتى نقل من بعض أهل الورع أنه ترك التجارة لئلا يفيد العشارين ويستبعد بعض الناس هذا الحكم من الشارع ويقولون لا بد للناس من حكومة ودولة وخراج وعسكر وضابط وإلا لزم الهرج والمرج والفتن والهتك والنهب وغيرها ولو كان الخراج حراما وإعانتهم عظيمة موبقة لاختل النظام. قلنا: لو اجتمع الناس على ترك إعانة الظلمة لتركوا الظلم وتقيدوا بأحكام الإسلام وليس الظلم من لوازم الحكومة. (ش)

إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء إلا كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) انتهى. وظني أنه دلالة فيه على مطلوبه أصلا (1) فضلا عن أن يكون صريحا فيه والله أعلم.

(قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم) أي من أهل ملتكم ومذهبكم.

(ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا) أي عرف أحكامنا كلها على الظاهر أو بعضها مما يحتاج إليه في الحكومة من مأخذها على احتمال وهو الكتاب والسنة معرفة بالفعل أو بالقوة القريبة منه، وهذا هو المعبر عنه بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكومة بين الناس ولا يجوز لمن نزل عن مرتبته تصدي الحكومة وإن اطلع على فتوى الفقهاء بلا خلاف عند أصحابنا (2).

(فليرضوا به حكما) الحكم بفتح الحاء والكاف الحاكم وهو القاضي.

(فإني قد جعلته عليكم حاكما) فيه دلالة على أن الراوي الموصوف بالصفات المذكورة والفقيه المنعوت بالنعوت المسطورة منصوب للحكومة على وجه العموم من قبلهم (عليهم السلام) في حال حضورهم وغيبتهم وعلى

ص: 334


1- 1 - ظاهر الحديث حرمة الترافع إليهم وإن كان الحق له وانحصر استنقاذه على استعانة الظالم واختاره الشارح وهو حسن لأن ضرر تسلط الظالم في الدين والدنيا أعظم من أن يحيط به العقول والأوهام ولا يقاس بأي ضرر آخر، والظاهر أن الشهيد (رحمه الله) استدل على مطلوبه بأن الإمام (عليه السلام) خصص الذم والتقريع بصاحبه الذي أجبره على الترافع إلى الظلمة وسكت عن أمره بعدم اتباع صاحبه في مقام البيان وهذا كالصريح في مطلوب الشهيد (رحمه الله) مثل أن يقول أحد منعني فلان من الماء حتى لو أتمكن من الوضوء وتيممت فقيل بئسما فعل فلان إذ منعك من الماء وسكت عن الحكم بإعادة الصلاة. والتجري عن عظماء المجتهدين من سوء الظن. (ش)
2- 2 - بينا ذلك في حاشية الوافي وأشرنا إليه فيما سبق، وقلنا: إن أسامي الصناعات لا تطلق على أربابها عرفا إلا على المجتهدين فيها فلا يطلق النجار على من يجمع الأخشاب والدروب ويبيعها وكذلك الحذاء على بائع الأحذية والنعال والمطلع على فتاوى الفقهاء بمنزلة بائع الأحذية لا بمنزلة الحذاء، والطبيب لا يطلق على من حفظ أسامي الأدوية والأمراض بل على من عرف تشخيص الأمراض بالعلامات وعلم ما يقدم وما يؤخر من العلاج وأن يميز زمان استعمال كل دواء وترجيح بعض العلاجات على بعض في مزاج مزاج وغير ذلك. ولعمري أن هذا واضح ولم يستشكل فيه من استشكل إلا لشبهة حصلت له ولعله ظن حفظ اصطلاحات المتأخرين والتدرب في المجادلات والحنكة فيها اجتهادا! ويدل على ظنهم هذا أنهم لا يعدون رواة عصر الأئمة مجتهدين لأنهم لم يصطلحوا على ما هو المتداول في زماننا من أصل البراءة والاستصحاب والترتب وإن كانوا عاملين بمعانيها مميزين لمواردها. وبالجملة: لا يجوز لغير المجتهدين التصدي للافتاء بغير خلاف. (ش)

أنه يجب عليه الإجابة والقيام بها عينا إن لم يوجد غيره وكفاية إن وجد، وعلى أنه يجب على الناس الرضا بحكومته والترافع إليه ومساعدته في إمضاء أمره عند الحاجة.

(فإذا حكم بحكمنا) المأخوذ من قول الله وقوله رسوله (صلى الله عليه وآله).

(فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله) لأن حكمنا حكم الله ومن لم يقبل حكم الله لم يقبل حكم من نصبناه للحكومة.

(وعلينا رد) حيث لم يقبل حكم من نصبناه للحكومة.

(والراد علينا الراد على الله) لأنا ألسنة الحق وسفراؤه بين عباده.

(وهو على حد الشرك بالله) أي المستخف بحكم الله والراد عليه على أعلى مراتب الضلالة وأدنى مراتب الإسلام بحيث لو وقع التجاوز عنه دخلا في مرتبة الشرك بالله كالمنافق أو المراد أنهما دخلا في مرتبة الشرك لأن من لم يرض بحكم الله ولم يقبله فقد رضي بخلافه وهو حكم الطاغوت وذلك شرك بالله العظيم.

(قلت: فإن كان كل رجل) من المتخاصمين.

(اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما) فحكم أحدهما بحكم وحكم الآخر بخلافه.

(وكلاهما اختلفا في حديثكم؟) يعني تمسك كل واحد منهما فيما حكم به بحديثكم مخالفا لحديث صاحبه. وإفراد الضمير في «اختلف» بالنظر إلى اللفظ وجزاء الشرط يحتمل أن يكون قوله:

«فاختلفا» ويحتمل أن يكون محذوفا، والتقدير فكيف يصنعان؟ (قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما) في أحكام القضاء أو مطلقا.

(وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر) لا بد للحاكم من أن يتصف بالعدالة والفقاهة والصدق والورع فمن اتصف بهذه الصفات الأربع فهو أهل للحكومة ومنصوب من قبلهم (عليهم السلام) ومن لم يتصف بشيء منها أو بعضها لا يجوز له الحكم بين الناس، وإن تعدد المتصف بها ووقع الاختلاف بينهما في الحكم والمستند فظاهر هذا الحديث يفيد تقديم من اتصف بالزيادة في جميعها على من اتصف بالنقصان في جميعها وتقديم من اتصف بالزيادة في بعضها على من اتصف بالنقصان في ذلك البعض بعينه مع تساويهما في الباقي لأن مناط الحكم هو غلبة الظن به، وهي في المتصف بالزيادة أقوى، وأما إذا اتصف أحدهما بالزيادة في بعض والآخر بالزيادة في بعض آخر ففيه إشكال لتعارض الرجحان وتقابل الزيادة والنقصان ولا دلالة فيه على تقديم أحدهما على الآخر، واعتبار الترتيب الذكري بناء على أولوية المتقدم على المتأخر لا يفيد لعدم ثبوت الأولوية. وقال بعض الأصحاب: الأفقه يقدم على الأعدل لاشتراكهما في

ص: 335

أصل العدالة المانعة من التهجم على المحارم وتبقى زيادة الفقاهة الموجبة لزيادة غلبة الظن خالية عن المعارض ومع تساويهما في الفقاهة يقدم الأعدل لثبوت الرجحان له.

ثم الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب أن الزيادة بهذه الصفات تقتضي رجحان تقديم المتصف بها وأما أنها هل توجب تقديمه بحيث لا يجوز تقديم المتصف بالنقصان عليه أم لا؟ ففيه قولان:

أحدهما: أنه لا يجب تقديمه لاشتراك الجميع في الأهلية، ورد ذلك: بأن اشتراكهم في أصل الأهلية بالنظر إلى أنفسهم لا يقتضي تساويهم بالنظر إلى الغير وهل ذلك إلا عين المتنازع فيه.

والثاني وهو الأشهر: أنه يجب تقديمه; لأن الظن بقوله أقوى (1)، ولدلالة ظاهر هذا الحديث ونظيره عليه.

(قال: قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على [الآخر]؟) في شيء من الصفات المذكورة ويفضل من الفضل بمعنى الزيادة أو من التفضيل تقول فضلته على غيره تفضيلا إذا حكمت له بالفضل والزيادة. وإذا كانا كذلك فكيف يصنع؟ وبحكم أيهما يؤخذ؟ (قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك) أي الرواية المشهورة من بين أصحابك أو الحكم المشهور عندهم. اسم «كان» ضمير الموصول و «من» بيان له و «المجمع عليه» خبر كان.

(فيؤخذ به من حكمنا) أي فيؤخذ بالمجمع عليه وهو من حكمنا، أو حال كونه من حكمنا أو من أجل حكمنا أو من متعلق بيؤخذ وحكمنا بالتحريك بمعنى حاكمنا.

(ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه) أي الخبر المشهور روايته أو الحكم المشهور.

(لا ريب فيه) فوجب اتباعه دون غير المشهور وهو حجة لمن ذهب من الاصوليين والفقهاء إلى أن

ص: 336


1- 1 - الرجوع إلى العلماء ثلاثة أقسام: الأول: الترافع للقضاء وهذا مورد الرواية. الثاني: الاستفتاء. الثالث: الرجوع إلى الراوي للسماع، والأخيران خارجان عن مورد النص فإن اريد إلحاقهما به كان من الخاص الذي يراد به العام بالقرينة كما مر وهو ليس بقياس. وبالجملة فلا ريب في مقام القضاء والفتيا أن الأعلم مقدم على غيره مطلقا، وأما في الرواية فالمرجحات لا تنحصر في موارد النص على حجية أخبار الآحاد وليس بينهما ترتيب وتقدم وتأخر بل المناط قوة الظن في جانب بما يرجحه، وهذا عمل الأصحاب ويتنبه لقرائن الضعف والقوة المجتهد الماهر المتتبع، راجع في ذلك حواشي الوافي. (ش)

الشهرة مرجحة عند تعارض الدليلين، واستدل به بعض العلماء على حجية الإجماع لأن كلية الكبرى في مثله من شرائط الانتاج.

أقول: فيه نظر لأنا لا نسلم أن المراد بالمجمع عليه هنا هو المعنى المصطلح بل المراد به الأمر المشهور كما أشرنا إليه ودل عليه سياق الكلام وإن سلمنا فنقول: تقرير الدليل بقرينة السياق هكذا هذا الخبر ما دل على حكم مجمع عليه وكل ما دل على حكم مجمع عليه وجب اتباعه: أما الصغرى فظاهرة وأما الكبرى فلأن ما دل على المجمع عليه لا ريب فيه، فالمستفاد منه أن الإجماع مرجح لأحد الخبرين على الآخر عند التعارض ولا نزاع فيه وإنما النزاع في جعل الإجماع دليلا مستقلا (1)، وهذا الخبر لا يدل عليه فليتأمل.

(وإنما الامور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع) أي أمر ظاهر مكشوف وجه صحته وحقيته لوضوح مأخذه من الكتاب والسنة فيجب اتباعه.

(وأمر بين غيه فيجتنب) أي أمر واضح بطلانه وعدم حقيته للعلم بأنه مخالف لما نطق به الكتاب والسنة فيجب اجتنابه.

(وأمر مشكل) لا يعلم وجه صحته ولا وجه بطلانه ولا يعلم موافقته للكتاب والسنة ولا مخالفة لهما.

(يرد علمه إلى الله وإلى رسوله) ولا يجوز فيه الاعتقاد بشيء من طرفي النقيض والحكم به قبل الرد، واستدل بعض الأفاضل بهذا الحصر على أن الإجماع حجة وقال: المراد بالبين رشده وغيه المجمع عليه وبالمشكل المتنازع فيه لأنه الذي وجب رد علمه إلى رسوله لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، وفيه نظر لأنا لا نسلم أن المراد بالبين رشده وغيه المجمع عليه لجواز أن يكون المراد به ما ظهر وجه صحته ووجه بطلانه، ويؤيده قوله فيما مر «الحكم ما حكم أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» ولا نسلم أيضا أن كل المتنازع فيه مشكل، بل الظاهر أن المشكل هو الذي لا يظهر وجه صحته ولا وجه بطلانه وهذا هو الذي وجب رده إلى الله وإلى الرسول

ص: 337


1- 1 - روى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) في حديث طويل قال: اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي (صلى الله عليه وآله): «لا تجتمع امتي على الضلالة» فأخبر أن ما أجمعت عليه الامة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب وتحقيق الآيات الواضحات النيرات». انتهى ما أردنا نقله وهو يدل على حجية الإجماع وكونه دليلا مستقلا وإمكان العلم به وتصديق لصحة الحديث المشهور «لا تجتمع امتي على ضلالة». (ش)

فليتأمل.

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)) هذا بيان للسابق واستشهاد له ولذا ترك العطف.

(حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك) محتملة للحلال والحرام، وفيه دلالة واضحة على أن المراد بالمشكل الشبهات أعني ما لا يظهر وجه حليته ولا وجه حرمته لا المتنازع فيه مطلقا كما زعم.

(فمن ترك الشبهات) أي لم يفت ولم يحكم ولم يعمل بها.

(نجا من المحرمات) التي هي الفتوى بالشبهات والحكم بها والعمل بها على أنه مطلوب للشارع.

(ومن أخذ بالشبهات) أي بالإفتاء أو الحكم أو العمل بها.

(ارتكب المحرمات (1) وهلك من حيث لا يعلم) «من حيث» متعلق بارتكب وهلك، أو تعليل لهما يعني ارتكابه للمحرمات وهلاكه باستحقاقه للعذاب لأجل عدم علمه بحقيته وما أخذ به وحقيقته.

(قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين) لعل خطاب الاثنين للصادق والباقر (عليهما السلام) على سبيل التغليب وإنما خصهما بالخطاب لظهور أكثر الأحكام الشرعية منهما وكثرة الروايات عنهما لا عن آبائهما الطاهرين لشدة التقية في زمانهم وقيل: يحتمل أن تكون التثنية في الخطاب باعتبار التثنية في الخبر وفي بعض النسخ: عنهما.

(قد رواهما الثقات عنكم؟) فبقول أيهما يؤخذ؟ وهذا كالتأكيد والتقرير للسابق فإن الكلام في رواية العدلين المرضيين.

(قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة) موافقة معلومة أو مظنونة أو محتملة لاحتمال دخوله فيما هو المراد منهما باعتبار العموم أو الإطلاق أو نحو ذلك.

(وخالف العامة فيؤخذ به) لأنه حق وصواب لكونه موافقا للكتاب والسنة بعيد عن التقية لكونه مخالفا للعامة.

(ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة) لكونه بعيدا عن الصواب وقريبا من التقية وهذا القسم من الترجيح في غاية الصعوبة لتوقفه على العلم بسرائر الأحكام والسنة وخفياتها وعلى معرفة أحكام العامة وقوانينها وجزئياتها.

(قلت: جعلت فداك، أرأيت) أي أخبرني عن حكم ما أسألك.

(إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد) أي الهداية والسداد; لأن الموافق لهم محمول على

ص: 338


1- 1 - كذا.

التقية ولعدم اشتمال الكتاب على التناقض علم أن الفقيه الموافق لهم أخطأ في استنباط حكمه عن الكتاب.

(فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعا؟) ضمير التثنية في قوله: «وافقهما» راجع إلى الكتاب والعامة، وقيل: إلى فرقتين من العامة يعني وافق كل خبر فرقة منهم.

(قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل) في بعض النسخ: «ينظر إلى ما هم إليه حكامهم وقضاتهم»، وفي هذه النسخة: (حكامهم وقضاتهم) بيان أو بدل عن الضمير المنفصل وهو «هم».

(فيترك ويؤخذ بالآخر) لأن التقية فيما إليه ميل أكثرهم أشد وأولى (1).

(قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟) من غير تفاوت في ميلهم إليهما فبأيهما يؤخذ؟ (قال: إذا كان ذلك فأرجه) أمر من أرجيت الأمر بالياء أو من أرجأت الأمر بالهمزة وكلاهما بمعنى أخرته فعلى الأول حذف الياء في الأمر وعلى الثاني ابدلت الهمزة ياء حذفت الياء، والهاء ضمير راجع إلى الأخذ بأحد الخبرين يعني فأخر الأخذ بأحد الخبرين فتوى وحكما وعملا على أنه مطلوب للشارع.

(حتى تلقى إمامك) وتسمع منه حقية أحدهما ورجحانه على الآخر.

(فإن الوقوف عند الشبهات) التي لا يعرف وجه صحتها وفسادها وعدم الحكم فيها بشيء أصلا والتعرض لها نفيا وإثباتا.

(خير من الاقتحام في الهلكات) هي جمع هلكة محركة بمعنى الهلاك أي خير من الدخول فيما يوجب الهلكات الأبدية والعقوبات الاخروية.

ص: 339


1- 1 - اختلف علماؤنا في العمل بهذه المرجحات إن لم يستفد منها العلم بصحة أحد الخبرين وبطلان الآخر وممن لم يعمل به من المتأخرين صاحب الكفاية، وقال بالتخيير في كل خبرين جامعين لشرائط الحجية من غير نظر إلى المرجحات ودليله عموم روايات التخيير وإطلاقها من غير تعرض للتخيير واختصاص هذه المقبولة بمقام الحكومة والقضاء وعلى القول بالترجيح فالصحيح أن يقال: المرجح على قسمين: قسم يستفاد منه بطلان أحد الخبرين يقينا كمخالفة الكتاب والسنة على ما يأتي، وقسم يستفاد منه قوة الظن في أحدهما، والظاهر أنما نص عليه من المرجحات مثال يتنبه منه على غيره مما لم ينص عليه وكلاهما من باب المقتضي لا العلة التامة والاعتماد على قوة الظن، فربما يكون أحد الخبرين مشهورا والشهرة مرجحة والآخر راوية أعدل وأوثق ويتعارض المرجحان فربما يقوى في ظن المجتهد بقرائن تنبه لها قوة الشهرة في مورد وقوة العدالة في مورد آخر وهذا أمر لا يمكن ضبطه وبناء على الاعتناء بالظنون في ترجيح الروايات ينبغي التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدم الترتيب بينها تعبدا وللبحث في ذلك محل آخر. (ش)

باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا) لعل المراد بالحق الخبر المطابق للواقع، والمراد بحقيقته ماهيته الموجودة فيه وكلمة «على» مع أن الظاهر أن يقول: لكل حق إما للتنبيه بالاستعلاء على أن حقية كل خبر باعبتار حقيقته الموجود في نفس الأمر إذ لو لم يكن له تلك الحقيقة لم يكن حقا، وإما باعتبار المجانسة مع قوله: «وعلى كل صواب نورا» أي وعلى كل اعتقاد مطابق للواقع وصور علمية مطابقة لما في نفس الأمر برهانا فيه (1) وسمي البرهان نورا لأن البرهان آلة للنفس في ظهور المعقولات كما أن النور آلة للحواس في ظهور المحسوسات ولا ريب أن ما هو صواب كان برهانه موجودا فيه وإلا فلا يكونان موجودين في نفس الأمر بناء على أن كل موجود في نفس الأمر موجود في الكتاب فما لم يكن موجودا في الكتاب لم يكن موجودا في نفس الأمر فإذن كتاب الله تعالى ميزان عدل لتمييز الحق عن الباطل والصواب عن الخطأ فإذا أردتم التمييز بين هذه الأشياء فزنوا عقائدكم وما ورد عليكم من الروايات بكتاب الله تعالى.

(فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) فإنه باطل وخطأ وليس له حقيقة ونور

ص: 340


1- 1 - لا ريب في أن العقل مما يميز به الصحيح من السقيم وعليه عمل علمائنا ويدل عليه غير واحد من الروايات، وقد روى الشيخ أبو الفتوح في تفسيره ج 3، ص 392 (الطبعة التي عليها تعاليقنا) حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما هذا نصه: «إذا أتاكم عني حديث فأعرضوه على كتاب الله وحجة عقولكم فإن وافقهما فأقبلوه وإلا فاضربوا به عرض الجدار» وقد رد أو أول أخبار الجبر والتجسيم ونسبة المعاصي إلى الأنبياء لهذه العلة. (ش)

وملخص القول فيه: أنكم إن أردتم أن تعرفوا حقية الخبر والاعتقاد فانظروا فإن كان له حقيقة ونور - أي أصل - اخذ منه ذلك الخبر والاعتقاد وذلك الأصل هو الكتاب فهو حق وصواب وإلا فهو باطل وخطأ والله العالم.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: وحدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به؟ قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلا فالذي جاءكم به أولى به».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: وحدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)) الظاهر أن فاعل قال في قوله: «قال: وحدثني» أبان بن عثمان فهو يروي هذا الحديث تارة عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، واخرى عن حسين بن أبي العلاء، أنه - أي الحسين - حضر ابن أبي يعفور في مجلس الصادق (عليه السلام) وقد سأله ابن أبي يعفور وفاعل «قال» في قوله «قال: سألت» عبد الله بن أبي يعفور.

(عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به) الظاهر أنه سؤال عن الأحاديث المختلفة التي نقلة بعضها ثقات ونقلة بعضها غير ثقات، والمقصود طلب ترجيح بعضها على بعض وقوله: «ومنهم من لا نثق به» لبيان أمر آخر وهو أن بعض رواة الحديث غير ثقة وحاله مكشوف لا إشكال فيه لعدم الاعتماد بحديثه.

(قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)) جزاء الشرط محذوف أي فخذوه أو فاقبلوه.

(وإلا فالذي جاءكم به أولى به) أي بذلك الحديث وينبغي أن لا يتعداه إليكم وأن لا تأخذوا به فتيا وحكما وعملا واللازم عليكم في مثله الإرجاء إلى لقاء الإمام (عليه السلام) كما يستفاد ذلك من أخبار كثيرة، وقيل: اللازم عليكم تركه ورده لأنه مخالف للكتاب والسنة وفيه نظر; لأن عدم وجدان الشاهد لا يستلزم عدم وجود الشاهد حتى تتحقق المخالفة لجواز أن يكون فيهما شاهد لم نعرفه.

اللهم إلا أن يجعل عدم الوجدان كناية عن المخالفة وفيه ما فيه، وهذا الحديث والأربعة الآتية بعده يدل

ص: 341

على ما سبق من أن كتاب الله أصل كل حق وصواب وأن كل ما صدقه كتاب الله وجب الأخذ به وكل ما خالفه وجب تركه، وكل ما لم يعلم موافقته ولا مخالفته وجب التوقف فيه، وفيه أيضا دلالة على أن خبر الواحد من حيث هو ليس بحجة ولا يخصص به الكتاب (1) وعلى أن الأحاديث المختلفة وإن كان الراوي في أحدهما ثقة ورعا دون الآخر وجب موازنتها مع الكتاب.

وهذا ينافي في الجملة ما مر في حديث عمر بن حنظلة من قوله (عليه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» ثم حكم على تقدير تساويهما (2) بوجوب النظر إلى الكتاب والسنة فالأولى أن يحمل السؤال على الاحتمال الأخير رفعا للتنافي بينه وبين ما سبق.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة) أي وجب رده إليهما أو هو إخبار بأنهما أصل كل شيء ومصيره ومرد كل حكم ومنتهاه.

(وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) أي قول فيه تمويه وتدليس وكذب فيه تزوير وتزيين ليزعم الناس أنه من أحاديث النبي وأهل بيته (عليهم السلام).

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب ابن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف».

* الشرح:

ص: 342


1- 1 - هذا مذهب بعض علمائنا وهو مبني على كون الخاص مخالفا للعام عرفا، وفيه تأمل وقال العلامة في النهاية: يخصص الكتاب بالخبر الواحد الثابت حجيته وهذا موافق للقاعدة وإن لم نجد له مثالا. (ش)
2- 2 - هذا بعيد جدا; لأن النظر إلى الكتاب والسنة مقدم على كل مرجح إذ الخبر الذي يخالفهما باطل لا يعتمد عليه وإن كان راويه عادلا اشتبه الأمر عليه، فليس المقصود من الترتيب الذكري في رواية عمر ابن حنظلة الترتيب في التكليف بالترجيح. (ش)

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف) لا ريب في أن كل حديث غير موافق للقرآن فهو مزخرف من القول مزور مموه (1) لأن غير الموافق للحق باطل لكن العلم بعدم الموافقة في نفس الأمر قد يكون مشكلا متعسرا لنا لأن للقرآن ظواهر وبواطن وأسرارا لا يعلمها إلا أرباب العصمة (عليهم السلام).

* الأصل:

5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «خطب النبي (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله».

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خطب النبي (صلى الله عليه وآله) بمنى) بكسر الميم والتنوين اسم للموضع المعروف بمكة زادها الله شرفا وتعظيما والغالب عليه التذكير والصرف وقد يكتب الألف.

(فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته) لأن كل ما قال (صلى الله عليه وآله) فهو في القرآن لأنه (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، وكل ما أوحى إليه ربه فهو في الكتاب.

(وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله) لأنه (صلى الله عليه وآله) مظهر للكتاب ومبين لأحكامه فكيف يقول ما يخالفه؟ وهذا وإن كان بحسب اللفظ خبرا لكنه بحسب المعنى أمر برد الأحاديث المنقولة عنه إلى الكتاب والأخذ بما يوافقه والإعراض عما يخالفه لعلمه بأنه يكثر عليه أكاذيب الكذابين.

* الأصل:

6 - وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«من خالف كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كفر».

ص: 343


1- 1 - الظاهر أن المراد بما لا يوافق الكتاب ما يخالفه فإن الحديث إما أن يكون مخالفا أو موافقا أو لا موافقا ولا مخالفا; لعدم كونه مذكورا فيه مثل الرواية التي تدل على خيار المجلس ورواية غسل الحائض والنفساء، والزخرف والباطل إنما هو المخالف فقط، فإن قيل: مقتضى الحديث الأول أن يوجد عليه شاهد من الكتاب، قلنا: بل مقتضى الحديث الأول أن يوجد شاهد من الكتاب أو من السنة المشهورة المتواترة لا من الكتاب فقط، وهذا يدل على كون السنة التي لا توجد في الكتاب حجة، ورواية خيار المجلس وغسل الحيض من السنة المتواترة المجمع على صحتها التي يصح أن يجعل نفسها شاهدا. (ش)
* الشرح:

(وبهذا الاسناد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من خالف) في الفتوى والحكم والعمل.

(كتاب الله وسنة محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كفر) الكفر يطلق على خمسة معان:

الأول: إنكار الربوبية كما هو شأن الزنادقة والدهرية.

الثاني: إنكار الحق مع العلم بأنه حق كما هو شأن المنافقين والمنكرين للرسول (صلى الله عليه وآله) مع علمهم بحقيته كما قال الله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

الثالث: ترك ما أمر الله به كما قال الله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك) فكفرهم بترك ما أمرهم به ونسبتهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم.

الرابع: كفر النعم كما قال الله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر).

الخامس: كفر البراءة كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) يعني تبرأنا منكم. إذا عرفت هذا فنقول:

الكفر في هذا الحديث يمكن حمله على كل واحد من هذه المعاني لأن مخالفة الكتاب والسنة (1) إن كانت من الفرقة الاولى أو الفرقة الثانية كان الكفر بالمعنيين الأولين وإن كانت ممن يقر بالربوبية والرسالة وحقية القرآن وهو الأظهر في هذا المقام فمن حيث إنه ترك ما فيهما يتحقق الكفر بالمعنى الثالث، ومن حيث إنه لم يعرف قدر هذه النعمة الجليلة أعني القران والسنة ولم يعمل بما فيهما يتحقق الكفر بالمعنى الرابع، ومن حيث إن هذا الترك وعدم معرفة قدر هذه النعمة يستلزمان البراءة من الله ومن رسوله - أعاذنا الله من ذلك - يتحقق الكفر بالمعنى الخامس، والمخالفة بهذا المعنى كفر إذا كانت عمدا أو في اصول العقائد الدينية.

* الأصل:

ص: 344


1- 1 - ويستفاد من هذه الروايات أن السنة - أي الكلام المروي عن الحجة - على قسمين: قسم يصح أن يكون شاهدا على غيره وأن يحكم ببطلان ذلك الغير إن خالفه، وقسم لا يصح أن يعتمد عليه بنفسه بل يجب أن يعتبر بغيره وظاهر أن القسم الأول متيقن الصدور لا يشك في صحته، والثاني مظنون يحتمل بطلانه وإلا فإن كان كلاهما مظنونين لا يمكن أن يجعل أحدهما شاهدا على صحة الآخر أو بطلانه. وبالجملة التي تجعل شاهدا هي السنة المتواترة أو المجمع عليها أو المقترنة بالقرائن القطعية. (ش)

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس رفعه قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «إن أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسنة وإن قل».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس رفعه قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام):

إن أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسنة وإن قل) «ما» مصدرية أو موصولة والعائد إلى المبتدأ محذوف أي ما عمل بالسنة فيه وذلك لأن السنة كالكتاب ميزان يتميز به الصواب عن الخطأ والحق عن الباطل فكل عمل موزون بها متصف بالفضيلة والكمال وإن قل إذ كثرة العمل ليس من شرائط اتصافه بالفضيلة والقبول وكل عمل لم يتزن بهذا الميزان فهو خطأ عند أرباب الإيمان وأيضا اتصاف العمل بالفضيلة إنما يتحقق إذا كان موجبا للقرب بالمبدأ والانقياد له ولا يتحقق هذا إلا إذا كان موافقا لما جاء في السنة النبوية والمراد باسم التفضيل هنا أصل الفعل إذ لا فضيلة للعمل المخالف للسنة.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال:

فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا فقال: «ويحك وهل رأيت فقيها قط؟! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله)».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد) وهو من أصحاب موسى بن جعفر (عليهما السلام) ومجهول الحال، وقال المحقق الشوشتري:

كذا فيما عندنا من النسخ، ولا يبعد أن يكون الواو زائدا.

(عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا) أراد الفقهاء فقهاء العامة أو فقهاء الشيعة أيضا على بعد، وأراد بهذا الكلام إظهار مخالفتهم له (عليه السلام) وبيان خطئهم لا رد قوله (عليه السلام) وإنكاره لكونه مخالفا لقولهم لأنه كفر، وعلى التقديرين فقد أخطأ في تسميتهم فقهاء ولذلك خطأه (عليه السلام).

(فقال: ويحك) أي يا فلان أو يا رجل ويحك.

(وهل رأيت فقيها قط؟! إن الفقيه حق الفقيه) أي الفقيه الكامل في علمه وفقاهته.

ص: 345

(الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله)) لأنه إذا اشتغل نور العلم في قلبه أحرق كل ما فيه من حب الدنيا وزهراتها ولذاتها الفانية وهداه إلى امور الآخرة الباقية والسنة الثابتة النبوية، ونقول لزيادة التوضيح: الفقه في اللغة الفهم وفي عرف المتأخرين العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وليس شيء منهما مرادا هنا لأنه لا يناسب المقام ولأن الثاني مصطلح جديد لم يكن معروفا عند الأئمة (عليهم السلام) بل المراد به البصيرة في أمر الدين.

وقال بعض المحققين: أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هو صاحب هذه البصيرة وما قال ورام الحلي (رحمه الله) والغزالي من أن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب إشارة إلى هذه البصيرة، ثم هذه البصيرة إنما تتم وتتكامل بعلوم ثلاثة:

الأول: العلم بأحوال الدنيا وانصرامها وعدم بقائها وثباتها.

الثاني: العلوم بأحوال الآخرة من عذابها وثوابها وحورها وقصورها وعجز بني آدم بين يدي الله تعالى إلى غير ذلك من أحوالها وأهوالها.

الثالث: العلم بالسنة النبوية لقصور عقل البشر عن إدراك نظام الدنيا والدين بنفسه من غير توسط رسول قوله قول الله تعالى المنزل إليه بالوحي، فهذان العلمان من توابع العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله وثمرة العلم الأول وفائدته هي الزهد في الدنيا والإعراض عن نعيمها وعدم الاغترار بزخارفها والتنزه عن حلالها (1) فضلا، عن حرامها، وثمرة العلم الثاني هي الرغبة في الآخرة وصرف العقل إليه وقصر الأمل عليه، وثمرة العلم الثالث التمسك بالسنة النبوية والعمل بها للتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل لأن كمال

ص: 346


1- 1 - أعلم أن كثيرا من القوى والآلات التي ركب الله تعالى في وجود الإنسان إنما هي مما يحتاج إليها في الحياة الدنيوية ولم يعط مثلها الملائكة المقربون والمدبرات أمرا ولذلك ليس التمتع بنعم الدنيا جميعها مما يخالف إرادة الله تعالى فبعضها حلال قطعا والمقدار الذي توقف عليه حفظ البنية التي خلق الله تعالى الإنسان عليها واجب والتنزه عنه مضادة لإرادة الله وحكمه، وأما التنزه المرغوب فيه فهو عن الزائد عن ذلك الذي يقصد منه التلذذ وهو مانع عن امور اخر خلق لها الإنسان أيضا من التوجه إلى الله والتمتع بالنعم العقلية ومعرفة ما لا يتوقف المعاش الدنيوي عليه، فإن وجود هذه الرغبات في الإنسان دليل على عدم قصر فائدة وجوده وغاية تكونه على عمارة الدنيا والاستمتاع بنعيمها وأهل الخلوة والمناجاة مع الله وتهذيب النفس والتفكر يتلذذون بعملهم أكثر مما يتلذذ به أهل اللهو فكما أن وجود شهوة الأكل وأمثالها لغرض وغاية فكذلك وجود الرغبة إلى الله تعالى وأوليائه لغرض وغاية والتهالك على التلذذ بالنعم الدنيوية التي لا تحتاج إليها في بقاء البنية يمنع من التوجه إلى الله تعالى والتلذذ بالنعيم العقلي (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه). (ش)

القوة العلمية إنما هو بارتكاب الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والاجتناب عن أضدادهما وهو إنما يحصل بالأخذ بالسنة والعمل بما فيها، ويظهر مما ذكرنا أن تعريف الفقيه بما ذكر تعريف بالغاية والثمرة المطلوبة منه للتنبيه على أن وجود الفقه بدون هذه الثمرات كعدمه بل عدمه خير من وجوده.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي إسماعيل إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن أبي عثمان العبدي، عن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي إسماعيل إبراهيم بن إسحاق الأزدي، عن أبي عثمان العبدي، عن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل) أي لا يعتبر القول المتعلق بالعمليات والاعتقاديات ولا ينفع إلا باقترانه بالعمل، وقد دلت الآيات والروايات على ذم القول بلا عمل. قيل: هذا الاستثناء مفرغ والتقدير لا قول معتبر بوجه من الوجوه إلا بعمل وهو يفيد عدم اعتبار القول بشيء من الوجوه واعتباره مع العمل وحده بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات وفي كليهما نظر لأنهما يستلزمان أن لا يكون لاعتبار القول شرط غير العمل وأنه باطل; لأن النية وإصابة السنة أيضا من شرائطه، واجيب عنه بوجوه:

الأول: أن نفي غير العمل وحصر الاشتراط فيه للمبالغة في اشتراطه لكونه من أقوى الشرائط فكأن غيره في جنبه معدوم.

الثاني: أن هذا الكلام وقتية منتشرة فهو يفيد عدم اعتبار القول بدون العمل في الجملة، وفي وقت ما وهو وقت عدم العمل واللازم في طرف الاثبات اعتباره مع العمل في الجملة في وقت ما وهو وقت اقترانه لسائر الشرائط.

الثالث: أن المقدر في هذا التركيب فعل الإمكان والتقدير لا قول ممكن بوجه من الوجوه إلا بعمل واللازم منه في الإثبات أن القول المقرون بالعمل ممكن لا أنه متحقق وتحققه إنما يكون باقترانه بسائر الشرائط.

أقول: في هذه الوجوه نظر:

أما الأول فلأن كون العمل أقوى من النية وإصابة السنة غير ظاهر مع أنه لا يناسب القرائن الآتية.

ص: 347

وأما الثاني فلأن هذا الكلام يتعارف استعماله في إفادة معنى اشتراط المستثنى في حصول المستثنى منه وهو أن عند عدمه ينعدم المستثنى منه، وأما أنه يوجد معه في الجملة فلا دلالة للكلام عليه.

وأما الثالث فلأن القول بإمكان القول مع العمل وعدم إمكانه مع غيره من الشرائط تحكم إلا أن يتمسك بالمبالغة المذكورة وقد عرفت ما فيه والأحسن أن يقال: الحصر فيه إضافي بالنسبة إلى القول بدون العمل فيفيد عدم اعتبار القول بدونه لا عدم اعتباره مع سائر الشرائط أيضا، وكذا الحصر في القرائن الآتية، أو يقال: وجب على السامع أن لا يحمل الكلام على شيء إلا بعد انقطاعه وسكوت المتكلم ولا شك أن هذا الحديث بعد انقطاعه يفيد أن اعتبار القول مشروط بالعمل والنية وإصابة السنة.

(ولا قول ولا عمل إلا بنية) أي لا يعتبر القول والعمل إلا بنية خالصة متعلقة بهما وهي قصد إيقاع الفعل مخلصا لله تعالى وأما قصد الوجوب أو الندب ومقارنتها لأول الفعل وغير ذلك مما اعتبره كثير من المتأخرين فأصالة البراءة وعدم وجود دليل عليه وخلو كلام المتقدمين عنه دلت على أنه غير معتبر (1) وخلوصها عبارة عن إرادة وجه الله تعالى وقد يعبر عنه بالقربة بمعنى موافقة إرادته وبالطلب لمرضاته

ص: 348


1- 1 - هذا كلام غير معقول لي، ولا أتصور له وجها صحيحا أحمله عليه، واعلم: أن النية هو القصد دون اللفظ ودون إخطار الألفاظ بالبال، بل يكفي كون المعاني التي شرطوها في النية حاضرة في القلب وعلى هذا فيجب أن يكون عنوان العمل حاضرا في ذهنه، فلو صلى أربع ركعات ولم يكن معينا في قلبه أنه ظهر أو عصر أو أداء أو قضاء عنه أو عمن آجر نفسه للصلاة عنه أو أربعا مطلقا حتى يعينها بعد ذلك لم يصح، والدليل على وجوب كون العمل معينا كثير جدا والفعل الذي يمكن أن يقع على وجوه كثيرة صحيحة أو باطلة لا يتعين لأحدها إلا بالنية فلو أعطى مالا لفقير ولم ينو كونه زكاة أو كفارة أو فطرة أو صدقة أو نذرا أو غير ذلك لم يتعين لأحدهما إلا بالنية ولو كانت النية منفصلة عن العمل كان العمل بلا نية وهو واضح، فمن نوى الغسل قبل دخول الحمام ونسي عند الارتماس في الماء صدق عليه أنه لم يغتسل فيجب أن تكون النية مقارنة، وهذا واضح فقد رأيت العوام يسألون عن هذه المسألة فيقولون: إني دخلت الحمام بنية الغسل فنسيت أن أغتسل كأن وجوب مقارنة النية للعمل مركوز في ذهنهم حتى أنهم لا يعدون الارتماس غير المقارن للنية غسلا. وأما كون العمل واجبا أو ندبا فلا أظن العلماء يوجبونه إذا لم يتوقف التعين عليه كأن ينوي غسل الجمعة ولا يعلم أنه واجب أو ندب، وأما نية الوجه غاية فلا ريب في عدم وقوع الفعل حسنا إلا إذا كان الداعي إليه جهة حسنه مثلا الصدقة إنما يحسن إذا كان داعي المصدق إعانة الفقير مثلا فلو تصدق على مرأة حسناء فقيرة ودعاه إلى الصدقة جمالها لم يقع الفعل حسنا وجهة حسن العبادات عندنا أمر الشارع بها وجوبا أو ندبا. قال العلامة في القواعد في نية الصلاة: هي القصد إلى إيقاع الصلاة المعينة كالظهر مثلا أو غيرها لوجوبها أو ندبها أداء وقضاء قربة إلى الله وتبطل لو أخل بإحدى هذه، والواجب القصد لا اللفظ ويجب انتهاء النية مع ابتداء التكبير بحيث لا يتخللها زمان وإن قل وإحضار ذات الصلاة وصفاتها واجب. انتهى. (ش)

والامتثال لأمره والانقياد له والاحتياط يقتضي تجردها عن قصد الثواب والخلاص من العقاب لأنه ذهب كثير من العلماء المحققين إلى أنه مناف للإخلاص ومبطل للعبادة كما أشرنا إليه سابقا.

لا يقال: لو ترك القول وقال: ولا عمل إلا بنية لفهم أن اعتبار القول بالنية أيضا لأنك قد عرفت أن اعتبار القول بالعمل فإذا كان اعتبار العمل بالنية كان اعتبار القول بالنية أيضا.

لأنا نقول: المقصود بيان أن اعتبار القول بالنية بالذات فلو لم يذكر القول لما فهم أن النية معتبرة فيه.

(ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة) (1) والأخذ بها من مأخذها وهو النبي (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام) وذلك لأن كل قول بالأحكام وعمل بها إذا لم يكن موافقا للسنة النبوية والطريقة الإلهية فهو باطل لا ينفع بل يضر، وكذا لا ينفع نيته وقصد التقرب به لأن نية الباطل باطلة غير نافعة مثله.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: «ما من أحد إلا وله شرة وفترة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: ما من أحد إلا وله شرة وفترة) الشرة بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المشددة والتاء المثناة الفوقانية: النشاط والرغبة، ويحتمل أن يقرأ بفتح الشين والراء المخففة والهاء ليكون مصدرا يقال: شره على الطعام شرها إذا اشتد وغلب حرصه. والفترة بفتح الفاء وسكون التاء الضعف والسكون، وفي كنز اللغة فترة: «بريدن و شكسته شدن و سست شدن و كند شدن».

(فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى) هذا الحديث يحتمل وجوها:

الأول: أنه ما من أحد إلا وله نشاط في تحصيل المطالب يحركه إليه، وهو يسكن عند الوصول إليها ويستقر فيها، فمن حركه نشاطه في الامور الدينية إلى السنة النبوية وكانت فترته وسكونه إليها واستقراره فيها فقد اهتدى، ومن حركه نشاطه إلى البدعة وكانت فترته وسكونه إليها واستقراره فيها فقد غوى.

الثاني: ما من أحد من المكلفين إلا وله نشاط في الأعمال وغلبة عليها وقوة لها كما في أيام الشباب وله

ص: 349


1- 1 - ولا نية إلا بإصابة السنة يدل على بعض ما اشترطوه في النية مثلا إذا نوى دائم الحدث بوضوئه رفع الحدث لم يصح وإن نوى به استباحة الصلاة صح وكذا التيمم. (ش)

ضعف وسكون كما في أيام الكهولة والشيخوخة، فمن كانت فترته منتهية إلى السنة بأن يقول ما فيها ويعمل به وتكون نيته خالصة موافقة لها فقد اهتدى ومن كانت فترته منتهية إلى البدعة بأن يأمر بها ويعمل بها ويقصد إليها فقد غوى وهلك، ففيه إخبار بأن الهداية والغواية إنما تعتبران وتحققان في الخاتمة والتحريض على طلب حسن العاقبة والاجتناب عن سوء الخاتمة وكلام الأكابر مشحون بالترغيب فيهما.

الثالث: أن يكون الشرة إشارة إلى زمان التكليف والفترة إلى ما قبله لأن النفس قبل البلوغ إلى زمان التكليف أضعف منها بعده ولذلك يتوجه إليها التكليف بعده لا قبله، والمعنى من كانت فترته منتهية إلى السنة واستعد للتمسك بها عند البلوغ فقد اهتدى ومن كانت فترته منتهية إلى البدعة واستعد للتوجه إليها فقد غوى، ولعل هذه الوجوه أحسن مما قيل: المراد أن كل واحد من أفراد الناس له قوة وسورة في وقت كوقت الصحة والسلامة واليقظة والحركة وله فترة وضعف في وقت كوقت المرض والنوم والدعة والسكون فمن كان فتوره إلى سنة للنهوض إليها والعمل بمقتضاها فقد اهتدى، ومن كانت فتوره وكلاله إلى بدعة أي استعد لطلبها وسعي في تحصيلها فقد غوى، أو المراد من قوله: «فمن كانت فترته إلى سنة» أن السنة والعمل بها منشأ لفترته وضعفه، يعني من كانت فترته وضعفه لأجل تحمل المشاق الدينية والطاعات الشرعية فقد اهتدى، ومن كانت فترته وضعفه لأجل البدعة وتحمل مشاق الأحكام المبتدعة كنسك الجاهلين ورهبانية المتصوفين المبتدعين فقد غوى (1).

* الأصل:

11 - «علي بن محمد، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن حسان; ومحمد بن يحيى، عن سلمة ابن الخطاب، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال:

«كل من تعدى السنة رد إلى السنة».

ص: 350


1- 1 - إن في الإنسان قوة يدرك بها المعاني الكلية والامور العقلية وهي القوة الناطقة التي يمتاز بها عن سائر الحيوانات وهذه القوة تفيده في استخراج قواعد كلية علمية متعلقة بالدنيا كالهندسة والحساب والطب أو متعلقة بالآخرة كمعرفة الله تعالى وكتبه ورسله والدار الآخرة والإنسان يتردد بينهما ويضطرب شائقا إلى تحقيق الحق فيما يتعلق بالدين قصدا إلى إرضاء داعيته القلبية وشوقه إلى التطلع على الحقائق وتحدث فيه شرها أي حركة واضطرابا فربما يؤدي فكره إلى التمسك بالسنة النبوية فيحصل له السكون واطمئنان القلب بأنه الحق وهو الفترة أي زوال الاضطراب إلى الهداية وربما يؤدي فكره - نعوذ بالله - إلى الإلحاد والزندقة والبدعة والكفر وعدم المبالاة والفسق فيريح نفسه ويزول اضطرابه أيضا وهو فترة مغوية، وهذا الاضطراب والاطمئنان يحصل غالبا للإنسان بعد سن التكليف إلى نحو عشرين والشبان يظهر صلاحهم وفسادهم وهم أبناء عشرين غالبا. (ش)
* الشرح:

(علي بن محمد، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن حسان; ومحمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: كل من تعدى السنة رد إلى السنة) المراد بالسنة الطريقة الإلهية الشاملة لكل ما في الكتاب والأحاديث يعني كل من جاوز هذه الطريقة المستقيمة الموصلة إلى السعادة الأبدية بالزيادة أو النقصان أو بتركها رأسا أو بتغيير شيء من أحكامها وحدودها وجب على العالم بها رده إليها، وفيه دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أنها كفائي حيث لم يذكر فاعل الرد للتنبيه على أن المقصود وجود حقيقته من أي فاعل كان وله شرائط سيجيء ذكرها إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): السنة سنتان: سنة في فريضة الأخذ بها هدى وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير خطيئة».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): السنة سنتان:) أي الطريقة النبوية الشاملة للكتاب والحديث وتخصيصها بالحديث كما تخصص به حيث وقعت في مقابل الكتاب بعيد ينقسم إلى قسمين (1) كانقسام الجنس إلى النوعين ويسمى كل واحد من القسمين سنة بالمعنى الأخص كما يسمى كل واحد من قسمي العلم المطلق علما، ثم فسر القسمين على سبيل التوشيع (2) بقوله:

(سنة في فريضة) أي في بيانها وتعدادها وهذا القسم يسمى سنة فريضة.

(الأخذ بها هدى وتركها ضلالة) مجموع الجملتين وصف لسنة وتفسير لها يعني هذه السنة هي التي يكون الأخذ بها تعلما وقولا وعملا هداية وتركها ضلالة لأنها الصراط المستقيم الذي يصل سالكه إلى مقام القرب والكرامة ويضل تاركه عن طريق الحق ويقع في الحسرة والندامة. بالجملة:

هي ما يوجب الأخذ به ثوابا وتركه عقابا، ثم هي جنس يندرج تحتها جنسان: أحدهما، سنة في بيان فعل الواجبات

ص: 351


1- 1 - للسنة معنيان: أحدهما مرادف الاستحباب والآخر الطريقة النبوية، وتشتمل الواجب.
2- 2 - أي اللف والنشر. (ش)

وثانيهما سنة في بيان ترك المحرمات; لأن ترك المحرمات يعني كف النفس عنها أيضا فريضة ويندرج تحت كل واحد من هذين الجنسين أنواع مختلفة متكثرة كفعل الصلاة والصوم ونحوهما وترك شرب الخمر وترك الشتم ونظائرهما.

(وسنة في غير فريضة الأخذ بها) بأحد الوجوه المذكورة.

(فضيلة) توجب زيادة القرب والثواب.

(وتركها إلى غير خطيئة) أي تركها يرجع إلى غير خطيئة ولا يوجب البعد والعقاب وهي أيضا جنس يندرج تحته الأخلاق والمندوبات والمكروهات والمباحات لانتفاء الفرض فيها وتحقق الفضيلة في تعلمها وفي العمل بالأولين وترك الثالث، ثم كل واحد منها جنس يندرج تحته أنواع كثيرة، وقد ظهر مما ذكرنا أن الأحكام الخمسة والأخلاق النفسانية مندرجة تحت القسمين ولا يخرج شيء منها عنهما، فمن أراد معرفة شيء من الامور الدينية والأحكام الشرعية والأخلاق النفسانية ليعمل بها أو يحكم بين الناس فليرجع إلى السنة النبوية وليأخذها من معدن الأسرار الإلهية وهو سيد الوصيين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومن يقوم مقامه إلى يوم الدين من أولاده الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وإن تركها وترك الأخذ منهم واعتمد برأيه ورأي من أضله فعليه لعنة الله والملائكة ولعنة اللاعنين.

تم كتاب العقل (1) والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد نبيه وآله الطاهرين.

يقول المفتقر إلى الله الغني محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد فرغت من شرح كتاب العقل وفضل العلم من الكافي في 14 شهر صفر الموافق سنة 1963.

ويتلوه شرح كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى وتقدس. اللهم وفقني لإتمامه واهدني إلى مقاصده ومراميه بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 352


1- 1 - سقط هاهنا من النسخ: «وكتاب فضل العلم».

ص: 353

فهرس الآيات

(أتتخذنا هزوا) البقرة 67... 182

(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 13... 229 - 232

(إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين

لكاذبون) المنافقون 1... 314

(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك) البقرة 85... 347

(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية 23... 232

(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) ص 24... 316

(الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله) التوبة 97... 14

(التي جعل الله لكم قياما) النساء 5... 284

(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الشعراء 227... 141

(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر 18... 211

(الرحمن على العرش استوى) طه 5... 235

(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس 60... 230

(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى

الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) النساء 60... 336

(ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) الأعراف 169... 128 - 129 - 203

(أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) الزمر 60... 67

(إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) الانفطار 13... 70

(إن الذين يكتمون ما أنزل الله) البقرة 174... 208

(إن الله عنده علم... الساعة الآية)... 323

(إن صلاتي ونسكي) الانعام 162... 74

(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب الذين يذكرون الله

قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك

فقنا عذاب النار) آل عمران 191... 24

ص: 354

(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الأنبياء 99... 169

(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) النساء 17... 167 - 168

(إنما المشركون نجس) التوبة 28... 296

(إنما أموالكم وأولادكم فتنة) الأنفال 28... 233

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر 29... 30 - 67 - 186

(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان 44... 204

(أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا وما للظالمين من نصير) فاطر: 37... 153

(أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) الرعد 41... 94

(أومن ألقى السمع وهو شهيد) ق 37... 299

(بل ران على قلوبهم) المطففين 14... 113

(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس 39... 128

(تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل

عمران 30... 172

(ثم يتوبون من قريب فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما) النساء 18... 167

(حتى إذا بلغ بين السدين) الكهف 93... 199

(حتى إذا جعله نارا) الكهف 96... 199

(حتى إذا ساوى بين الصدفين) الكهف 93... 199

(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة) المائدة 3... 293

(خذ بيدك ضغثا) ص 43... 234

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) المائدة 54... 140

(ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا) السجدة 12

(سنشد عضدك بأخيك) القصص 32... 36

(طبتم فادخلوها خالدين) الزمر 73... 124

(غير الذي كنا نعمل) الأعراف 53... 153

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29... 269

(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) المؤمنون 99... 273

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل 43... 7 - 11 - 111 - 198 - 199 - 263

(فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا) الكهف 70... 283

(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) النساء 59... 340

ص: 355

(فاولئك يتوب الله عليهم) النساء 18... 168

(فريق في الجنة وفريق في السعير) الشورى 7... 190

(فطرة الله التي فطر الناس عليها) الروم 30... 117

(فكبكبوا فيها هم والغاوون) الشعراء 94... 168 - 169

(فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89... 347

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم

يحذرون) التوبة 122... 29

(فلينظر الإنسان إلى طعامه) عبس 24... 195

(فمستقر ومستودع) الأنعام 98... 147

(فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الانعام

144... 260

(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة 8... 56 - 70

(فيه تبيانا كل شيء) النحل 89... 298 - 300

(قد شغفها حبا) يوسف 30... 243

(كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين...) البقرة 211... 259

(كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) الممتحنة 4... 347

(كونوا ربانيين) آل عمران 79... 8

(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) المائدة 101... 281 - 283 - 284

(لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) النساء:

114... 279 - 283

(لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف 3... 203

(لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) الكهف

109... 299

(ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122... 14

(ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) النحل 25... 244

(ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا) الحشر 7... 306 - 319

(ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام 38... 277

(ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الأعراف: 20... 127

(ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم 3... 346

(مثلهم كمثل الكلب...) الأعراف 176... 204

(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة

من

ص: 356

نصيب) الشورى 20... 159

(نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) الزخرف 32... 10

(واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة 13... 169

(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) النساء 1... 294

(وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت) التكوير 8... 295

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا

بلى) الأعراف 172... 117

(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون 4... 305 - 314

(واسئلوا الله من فضله) النساء 32... 11

(واشربوا في قلوبهم العجل) البقرة 93... 237

(وأضل فرعون قومه وما هدى) طه 79... 310

(وأضله الله على علم) الجاثية 22... 310

(وأطيعوا الله وأطيعوا النساء 59... 199

(والشمس والقمر بحسبان) الانعام 96... 24

(والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) يس 39... 24

(والنجوم مسخرات بأمره) الأعراف 54... 24

(وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) العنكبوت 41... 248

(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) التوبة 49... 261

(وإنه لقرآن كريم * في لوح محفوظ) البروج 22... 296

(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) الزمر 54... 70

(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الاسراء 105... 287

(تلك حدود الله فلا تعتدوها) البقرة 229... 277

(وخاب كل جبار عنيد) إبراهيم 15... 62

(ورتل القرآن ترتيلا) المزمل 4... 72

(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) الشعراء 227... 81

(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) آل عمران 122... 273

(وفاكهة وأبا) عبس 31... 313

(وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76... 158

(وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات

22... 10

ص: 357

(وقالت النصارى المسيح ابن الله) التوبة 30... 290

(وقالت اليهود عزير ابن الله) التوبة 30... 290

(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) المائدة 18... 290

(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) المائدة 64... 290

(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) غافر: 28... 209

(وقليل من عبادي الشكور) سبأ 13... 316

(وكان الله عليما) النساء 18... 168

(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) الشورى 52... 111

(ولا تتخذوا من دون الله وليجة) التوبة 16... 273

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود 113... 237

(ولا تزر وازرة وزر اخرى) الانعام 163... 56

(ولا تصعر خدك للناس) لقمان 18... 117

(ولا تقل لهما اف) الإسراء 23... 109

(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين

يفترون على الله الكذب * متاع قليل ولهم عذاب أليم) النحل 116... 130

(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) النساء 5... 281 - 283

(ولله على الناس حج البيت) آل عمران 97... 284

(وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم) النحل 25... 56

(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها... وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة 177... 279

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56... 171

(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) الأنفال 33... 32

(وما من دابة إلا على الله رزقها) هود 6... 10

(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) آل عمران 7... 23

(ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل) البقرة 97... 296

(ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة 32... 115

(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) الأنعام 21... 274

(ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) الاسراء 72... 48

(ومن يضلل الله فما له من هاد) الرعد 33... 242

ص: 358

(ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) البقرة 269... 93 - 286

(ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي) هود 45... 62

(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) النحل 89... 274

(هذا فراق بيني وبينك) الكهف 78... 283

(هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) النمل 40... 347

(يا أبت لا تعبد الشيطان) مريم 44... 230

(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم

الخاسرون) المنافقون 9... 273

(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو

الغفور الرحيم) الزمر 53... 70

(يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) النساء 60... 336

(يوم يفر المرء من أخيه *

وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن

يغنيه) عبس 37... 273

ص: 359

فهرس المطالب

کتاب فضل العلم

باب فرض العلم...3

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ... 21

باب أصناف الناس ...39

باب ثواب العالم والمتعلم ...47

باب صفة العلاء ...57

باب حق العالم ...83

باب فقد العلماء ...87

باب مجالسة العلماء وصحبتهم ...97

باب سؤال العالم وتذاکره ...105

باب بذل العلم...115

باب النهي عن القول بغير علم ...121

باب من عمل بغير علم...135

باب استعمال العلم ...139

باب المستأكل بعلمه والمباهي به ...157

باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه ...165

باب النوادر ...171

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب ...211

باب التقليد ...229

باب البدع والرأي والقياس...233

باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس من الحلال والحرام ...275

باب اختلاف الحديث ...305

باب الأخذ بالستة وشواهد الكتاب ...343

* فهرس الآيات ...357

ص: 360

المجلد 3

اشاره

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

كتاب التوحيد

باب حدوث العالم

اشاره

بسم الله الرحمن الرحيم

کتاب توحید يبين فيه وجود الصانع ووحدته وصفاته الذاتية والفعلية وسائر ما يصح له ويمتنع عليه (باب حدوث العالم) (1) المراد بالعالم ما سوى الله وهو مع تكثره منحصر في الجوهر والعرض، وبحدوثه أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم، وقد اختلف الناس فيه فذهب المسلمون واليهود والنصارى والمجوس إلى أن الأجسام حادثة بذواتها وصفاتها (2) وذهب أرسطو وأتباعه إلى أنها قديمة بذواتها وصفاتها (3)

ص:3


1- 1 - قوله حدوث العالم وعطف إثبات المحدث عليه وجعله عنوانا لباب إثبات الواجب يدل على أن حدوث العالم ملزوم عرفا لإثباته تعالى. (ش)
2- 2 - عرفوا مذهب اليهود والنصارى والمجوس باتفاقهم على إثبات صانع للعالم والمجبول في الفطرة أن كل مصنوع يجب أن يكون حادثا وكل قديم مستغن عن الصانع ولذلك يذهب أذهان العامة من إثبات وجود الله تعالى إلى أن العالم حادث والمعنيان متلازمان في ذهنهم حتى أنهم يعدون القول بمخلوقية العالم مناقضا للقول بقدمه زمانا ولذلك نسبوا إلى المليين الاتفاق على الحدوث مع أنهم لم يتفقوا إلا على إثبات الله تعالى فالحدوث من لوازم المخلوقية عرفا لا عقلا وأما الفلاسفة وجماعة من محققي أهل الكلام كالعلامة الحلي وساير شراح التجريد والمواقف وأمثاله فلم يروا مناقضة بين مخلوقية العالم وكونه قديما زمانا حيث قالوا إن علة احتياج الممكن إلى الواجب إنما هي إمكانه لاحدوثه وعلى هذا فلا يلزم من القول باثبات الصانع القول بحدوث العالم زمانا ولا يعلم اتفاق المليين عليه لأنهم لم يتعرضوا للبحث عن الحدوث ولم يجعلوه أصلا من أصول دينهم وإنما الدين هو الاعتراف بوجود الله تعالى ورسوله والحدوث من لوازم الاقرار بالله تعالى عرفا لا أصل من أصول الدين برأسه; نعم زعم بعض المتكلمين أن مخلوقية العالم يوجب كونه تعالى فاعلا مختارا وأن كونه تعالى علة تامة يستلزم كونه فاعلا مضطرا فالتزموا بأنه تعالى علة غير تامة ولا يلزم من وجوده وجود المعلول وهذا أيضا غير وجيه إذ المعلول المقارن لوجود العلة دائما يتصور على قسمين الأول المعلول الصادر بالاضطرار كالنور بالنسبة إلى الشمس لو فرض وجود الشمس دائما كان نورها دائما مع أنه مخلوق الشمس والشمس فاعل مضطر; الثاني كالعلم بالنسبة إلى الله تعالى أن فرض تعلق إرادته تعالى بكونه خالقا ومفيضا دائما فإن مخلوقه حينئذ دائم نوعا مع كونه تعالى فاعلا مختارا وبالجملة فالقول بالفاعل المختار لا ينافي القول بتعلق إرادته بدوام خلقه فالحق أن القول بحدوث العالم إن ثبت كونه من الدين فإنما هو لملازمة عرفية بينه وبين إثبات الصانع وصفاته لا كونه أصلا برأسه تعبدا ويؤيد ذلك كله عدم وجود حديث في هذا الباب دال على حدوث العالم زمانا مع كونه عنوانه. (ش)
3- 3 - هكذا نقل كثير من الناقلين مذهب أرسطو وهو مشتبه المراد والقدر المتيقن أن أرسطو كان قايلا بتركب الجسم من الهيولى والصورة والهيولي غير مستقلة بنفسها في الوجود بل هي مقومة بالصورة والصورة أيضا غير مقومة بنفسها بل هي مقومة بفاعل مفارق يقيمها ويقيم الهيولى بها فالأجسام التي نراها ونعلم وجودها جميعها معلولة للموجود المجرد الروحاني المسمى عنده بالعقل الفعال وهذا مذهبه المصرح به ويجب حمل كل ما يشتبه من كلام الناس على محكمة ثم أن بعض الناقلين غير العارفين بأصول الحكمة ذهب ذهنه من القديم في كلام أرسطو إلى كون عالم الأجسام غير مخلوق أصلا أو إلى كونه تعالى فاعلا موجبا وقد قلنا إن القديم الزماني عنده لا يوجب شيئا من ذلك أصلا وإنما خص الشارح الكلام بالأجسام مع عدم انحصار الممكنات فيها لأن اختلاف عامة الناس إنما هو فيها وأما غير الأجسام فلا يخطر ببال أكثرهم وجوده فكل ما تكلموا فيه إنما يتبادر منه الجسم وإن ثبت وجوب الاعتراف بحدوث شئ تعبدا فإنما هو الجسم لا غيره. (ش)

وذهب أكثر الفلاسفة إلى أنها قديمة بذواتها ومحدثة بصفاتها وقالوا لتوجيه ذلك ما لا طايل تحته (1) وأما العكس فالظاهر أنه لم يقل به أحد لأنه باطل بالضرورة، وذهب جالينوس إلى التوقف في جميع ذلك.

(وإثبات المحدث) أي إثبات موجود بالذات غير متصف بالحدوث موجد للعالم بالقدرة والاختيار وفي هذا الباب يثبت وجوده بالدلايل العقلية والبراهين الإنية ويتمسك بآثاره من الحوادث اليومية والأحوال السفلية والعلوية التي لا يقدم منصف ذو حدس إلى إنكار حدوثها (2) واستنادها إلى الصانع الحكيم القادر المختار.

* الأصل:

1 - أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال: حدثني علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي بن منصور قال: قال لي هشام ابن الحكم كان بمصر زنديق تبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أشياء فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل له إنه خارج بمكة فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله فضرب كتفه كتف أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له أبو

ص:4


1- 1 - يعني لا فائدة في نقل تفاصيل كلام الفلاسفة وتوجيهها لما يأتي من أن إثبات الواجب لا يتوقف على تحقيق أقوالهم في القدم والحدوث. (ش)
2- 2 - يعني أن الدليل العقلي يكفي في إثبات أصل وجود الواجب وتتبع الحوادث والآثار التي لا يشك في حدوثها يكفي في إثبات كونه قادرا مختارا ولا يحتاج إلى تحقيق البحث في القدم والحدوث تفصيلا ولا ضرورة في إثبات الحدوث الزماني في الجميع وفيما لا اختلاف في حدوثه كفاية وهكذا قال الرفيع (رحمه الله). (ش)

عبد الله (عليه السلام): ما اسمك؟ فقال: اسمي عبد الملك، قال: فما كنيتك؟ قال: كنيتي أبو عبد الله، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل: ما شئت تخصم. قال هشام بن الحكم: فقلت: للزنديق: أما ترد عليه؟ قال: فقبح قولي، فقال أبو عبد الله: إذا فرغت من الطواف فأتنا فلما فرغ أبو عبد الله أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم. قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها: قال: لا أدري إلا أني أظن أن ليس تحتها شئ، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): فالظن عجز لما لا يستيقن (1) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أفصعدت السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا، قال. عجبا لك لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فنعرف ما خلفهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟! قال الزنديق: ما كلمني بهذا أحد غيرك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت من ذلك في شك فلعله هو ولعله ليس هو؟ فقال الزنديق: ولعل ذلك; فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيها الرجل! ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ولا حجة للجاهل يا أخا أهل مصر! تفهم عني فإنا لا نشك في الله أبدا، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرا ليس لهما مكان إلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما والذي اضطرهما أحكم منهما وأكبر.

فقال الزنديق صدقت، ثم قال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردهم وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرون، يا أخا أهل مصر لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة لم لا يسقط السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق: أمسكهما الله ربهما وسيدهما، قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له حمران: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفار على يدي أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله (عليه السلام): اجعلني من تلامذتك.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام بن الحكم خذه إليك، وعلمه.

ص:5


1- 1 - في بعض النسخ [لمن لا يستيقن].

فعلمه هشام فكان معلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان، وحسنت طهارته حتى رضي بها أبو عبد الله (عليه السلام).

* الشرح:

(أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب) قد مر توجيه هذا القول في صدر الكتاب (قال: حدثني علي ابن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن عبد الرحمن، عن علي ابن منصور، قال: قال لي هشام بن الحكم، كان بمصر زنديق) الزنديق معرب والجمع الزنادقة، والهاء عوض عن الياء المحذوفة والأصل الزناديق وقد تزندق والاسم الزندقة، والمراد به الكافر النافي للصانع، ويطلق على الثنوية وهم الذين يقولون بأن النور والظلمة هما المدبران للعالم المؤثران فيه ومنشأ شبهتهم أنهم وجدوا العالم صنفين خيرا وشرا وهما ضدان فأنكروا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده. فأثبتوا للخير صانعا وسموه يزدان، وللشر صانعا وسموه أهرمن; وعلى الدهرية وهم الذين يقولون بأن الدهر هو الفاعل وأنه دائم لم يزل وأبد لا يزال، وأن العالم دائم لا يزول ومنشأ شبهتهم في نفي الصانع أنهم لا يحكمون إلا بوجود ما يشاهدونه، فلما لم يروا صانعا حكموا بعدمه، ولما لم يروا للعالم حدوثا وانقضاء حكموا بقدمه.

وفي مفاتيح العلوم أن الزنادقة هم المانوية وكان المزدكية يسمون بذلك ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباد وزعم أن الأموال والحرم مشتركة أظهر كتابا سماه زندا (1) وهو كتاب المجوس الذي جاء به زردشت الذي يزعمون أنه نبي فنسب أصحاب مزدك إلى زند وأعربت الكلمة فقيل:

زنديق، وقيل: هذه الكلمة معرب زن دين يعني من كان دينه دين المرأة في الضعف وهو ضعيف (يبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أشياء) من أحاديث وجود الصانع وتوحيده أو من أخبار كمال فضله وعلمه (عليه السلام) بالمعارف الإلهية والشرايع النبوية أو من ذمائم الزنادقة وقبايحهم ولؤمهم (فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها وقيل له: إنه خارج بمكة) أي مقيما بمكة أو الباء بمعنى إلى (فخرج إلى مكة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله فضرب كتفه كتف أبي عبد الله (عليه السلام)) أي حاذاه أو الضرب معناه (فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما أسمك؟ فقال: اسمي عبد الملك: قال فما كنيتك؟ قال: كنيتي أبو عبد الله، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) فمن هذا الملك الذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض قل ما شئت

ص:6


1- 1 - عبارة كتاب مفاتيح العلوم هكذا: «وأظهر كتابا سماه زند وزعم أن فيه تأويل الأبستا وهو كتاب المجوس الذي جاء به زردشت» انتهى. (ش)

تخصم) (1) تخصم على البناء للمفعول مجزوم بعد الأمر أي إن تقل ما شئت تكن مخصوما محجوجا بقولك، وأما البناء للفاعل وحذف المفعول أي تخصم نفسك فهو محتمل لكنه بعيد ووجه كونه مخصوما أنه إن أقر بوجود ملك وإله هو وابنه عبداه فقد أقر بما ينافي مذهبه من نفي المعبود والعبودية له، وإن قال: ليس هناك ملك وإله يكذبه ما دل عليه هذان الاسمان باعتبار الوضع الإضافي لأن لهما بحسب اللغة والعرف مفهومات وحقيقة تركيبية من أجل الإضافة والظاهر المتبادر أن الواضع لاحظ وجودها حال الوضع فلا ينبغي للعاقل أن ينكره وهذا الوجه من الوجوه الإقناعية التي تورث الشك فيما ذهب إليه من نفي الإله وهذا هو المقصود في هذا المقام لأن الحكيم يداوي من به مرض الجهل المركب أولا بما يوجب شكه ليرجع من الجهل المركب إلى الجهل البسيط ويستعد لقبول الحق، ثم يداوي مرض الجهل البسيط بالدلايل والبراهين (قال هشام بن الحكم فقلت للزنديق) حين رأيته متحيرا في الجواب.

(أما ترد عليه؟ قال: فقبح قولي) قبح مجرد من القبح و «قولي» فاعله وضمير «قال» للزنديق وإنما حكم بقبح قوله لعلمه بأنه مخصوم لو أجاب، ويحتمل أن يكون مزيدا من التقبيح وضمير فاعله يعود إلى الزنديق أو إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وفاعل قال على الأول يعود إلى هشام وعلى الثاني إلى الزنديق (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا فرغت من الطواف فأتنا) فيه دلالة على جواز دخول الزنديق في المسجد لأنه (عليه السلام) لم يأمر بإخراجه وحمل عدم الأمر به على عدم الاقتدار وعلى التقية محتمل كما أن حمل النهي عن الدخول على ما إذا كان الدخول موجبا للتلويث محتمل أيضا (2).

(فلما فرغ أبو عبد الله (عليه السلام) أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن مجتمعون عنده فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم) أعلم لأن الأرض متناهي المقدار وكل جسم متناهي المقدار له تحت وفوق قطعا (قال: فخدلت تحتها) من جانب الشرق أو من جانب الغرب أو من النزول في عمقها (قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها) أي أي شئ يجعلك عالما بما تحتها (قال: لا أدري إلا أني أظن ليس تحتها شئ) أنت تعلم أن هذا الظن لا مستند له إلا عدم الرؤية والتمسك به من سخافة العقل لأن عدم رؤية شئ لا يدل على عدم وجوده بوجه من

ص:7


1- 1 - لم يكن غرضه (عليه السلام) من هذا الكلام إقامة الدليل عليه بل هو نظير المزاح المسكت، وقال بعد تبكيته إذا فرغت من الطواف فأتنا حتى نقيم عليك الدليل. (ش)
2- 2 - هذا غير محتمل جدا إذ لا يجوز دخول الكافر في المسجد الحرام بعد آية التوبة (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ويحتمل أن دخوله كان كدخول ساير المنافقين لظاهر الاسلام وأما التقية التي ادعاها الشارح فغير صحيح إذ لا تقية في إخراج الكافر من المسجد الحرام ولم يكن يمنع منه المخالفون. (ش)

وجوه الدلالات.

(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) الظن) في المطالب اليقينية (عجز لمن لا يستيقن) أي من لم يحصل له اليقين بوجود شئ أو لم يقدر على طلب اليقين به وظن بمجرد ذلك أنه ليس بموجود فذلك الظن نشأ من عجزه وضعف عقله لعدم علمه بأن عدم العلم بوجود شئ ليس علما بعدم وجوده ولا مستلزما له وحمل العجز على الظن من المبالغة، وفي بعض النسخ لما لا يستيقن» بلفظة «ما» وهي مصدرية وفاعل الفعل ضمير يعود إلى الظان المفهوم من الظن.

(ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أفصعدت السماء) وشاهدت أطباقها (قال: لا، قال فتدري ما فيها؟ قال: لا، قال: عجبا لك) نصبه على المصدر أي عجبت عجبا لحالك وشأنك أو على النداء بحذف أداته أي يا عجبا لك فنادى العجب منكرا ليحضر له وقد أشار على سبيل الاستيناف إلى ما هو محل التعجب بقوله (لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فتعرف ما خلقهن وأنت جاحد بما فيهن وهل يجحد العاقل ما لا يعرف (1) فيه توبيخ له في نفيه وجود الصانع لأنه لم يره وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنك لم تر جميع هذه الأماكن فكيف تنفي وجود الإله الصانع إذ لعل في شئ منها إلها لم تره.

وثانيهما أنك تنفي وجود الصانع لأنك لم تره كما أنك تنفي وجود شئ في هذه الأماكن لأنك لم تره ولا ريب في أن الثاني مما لا ينبغي أن يعتقد به العاقل لأن عدم رؤية شئ لا يدل على عدم وجوده فكذا الأول لجواز أن يكون الصانع للعالم موجودا، وعدم رؤيته لا يدل على عدم وجوده.

فكيف يعتقد به العاقل (2) وعلى الوجهين حصل للزنديق شك في مذهبه فلذا (قال الزنديق ما كلمني بهذا أحد غيرك) للإشعار برجوعه عن الجهل المركب إلى البسيط وعن الظن بعدم وجود

ص:8


1- 1 - حاصل كلام الإمام (عليه السلام) أن عدم الوجدان لا يجعل دليل على عدم الوجود وبذلك يدفع قول أهل الظاهر حيث يبطلون بزعمهم أقوال المجتهدين في الأصوليين والمتكلمين وأصحاب العقول والمعارف بأنهم لا يعرفون تحقيقاتهم الدقيقة وبأنها بعيدة عن أذهان العامة والجواب أن عدم فهم بعض الناس بعض الأمور لا يدل على بطلانه وهل يجحد العاقل ما لا يعرف وليس لمن لا يعلم حجة على من لا يعلم. (ش)
2- 2 - هذا الرجل من القائلين بأن كل موجود محسوس وأن كل ما لا يدرك بحواسنا فهو غير موجود، وكان أيضا قائلا بالبخت والاتفاق، قال الشهرستاني عند بيان مذهب المانوية: قال بعضهم إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق نظير مذهب ذي مقراطيس فرد (عليه السلام) على اعتقاده الأول بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، ثم شرع (عليه السلام) في الرد على اعتقاده. الثاني بأنا تتبعنا الموجودات ودققنا النظر في أحوالها حصل لنا اليقين بأنها لم تحدث بالبخت والاتفاق بل بسبب موجب وعلة مرجحة لغاية معلومة إذ لا يحدث من الاتفاق شئ منتظم وبالجملة السماء والأرض وحركاتهما والليل والنهار وكل شئ مثلها حاصل بسبب موجب لا يمكن أن يكون على غير هذا الذي عليه ونظمها ناظمها وسيأتي لذلك تتمة ان شاء الله تعالى. (ش)

الصانع إلى الشك في وجوده وعدمه (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) طلبا لتصريحه بالشك ورجوعه عن الإنكار الصرف.

(فأنت من ذلك) أي من وجود الصانع أو من وجود ما لم تر وجوده (في شك فلعله هو ولعله ليس هو) أي لعل الصانع موجود بالهوية الشخصية الذاتية ولعله ليس بموجود وكلمة «لعل» للرجاء والطمع وأصلها عل واللام في أولها زايدة (فقال الزنديق) إظهارا لشكه (ولعل ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة») أي غلبة أو برهان (على من يعلم) لأن الحجة مبنية على مقدمات وثيقة وأفكار دقيقة وانتقادات صحيحة ومناسبات لطيفة بين المطالب والمبادي إلى غير ذلك من الأمور والشرائط المعتبرة فيها والجاهل بعيد عن إدراك هذه الأمور فكيف يكون له حجة على العاقل العالم بها (ولا حجة للجاهل) أي لا حجة للجاهل على العالم فهذا تأكيد للسابق أو لا حجة للجاهل على القيام بالجهل والبقاء عليه إذ الواجب عليه التهيؤ والاستعداد لقبول الحق والتعرض للتعلم والتفهم عن العالم ولذا قال (عليه السلام) (يا أخا أهل مصر تفهم عني) ما أقول لك من الحق والبيان وما ألقي إليك من الحجة والبرهان.

(فإنا لا نشك في الله أبدا) أي في وجوده وصفاته وإبداعه لهذا العالم وانتهاء سلسلة الممكنات إليه وينبغي أن يعلم أن معرفته تعالى على ثلاثة أقسام (1) يندرج في كل قسم مراتب غير محصورة الأول المعرفة الفطرية وهي حاصلة للعوام أيضا إذا ما من أحد إلا وهو يعرف ربه بحسب الفطرة الأصلية لما ركب فيه من العقل الذي هو الحجة الأولى، ولو أنكر وجوده تعالى منكر فإنما هو لغلبة الشقاوة المكتسبة المبطلة للاستعداد الفطري وهو مع ذلك قد يعترف به في حال الاضطرار كما أشار إليه سبحانه بقوله (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه - الآية) الثاني

ص:9


1- 1 - قال بعض من تصدى لشرح الكافي ممن لا معرفة له بهذه الأمور أن إثبات وجوده تعالى ليس ممكنا بالاستدلال المنطقي وترتيب المقدمات كما هو طريقة المشائين وليس بالتجربة كما هو طريقة أهل العلوم الطبيعية ولا بالوجدان، والشهود على ما يدعيه الصوفية. بل بالوجدان الساذج وهو سهل وصعب، وقال: هو حاصل من التصادف بين العقل الانساني والموجدات ويحدث من هذا التصادف شرارة كما يحدث من تصادم الحجر والحديد وهي الاعتقاد بالله تعالى. انتهى. وعند المؤمنين بالله تعالى وجوده يثبت بالوجدان والشهود العرفاني وبالاستدلال العقلي وبالفطرة السليمة كما ذكره الشارح وأما التجربة كما هو طريقه الطبيعيين فهي بمعزل عن الوجود المجرد الكامل المحيط بكل شئ الذي لا يناله الحس بل هي خاصة بالأمور الجسمانية الطبيعية. وأما التصادم بين العقل والوجود فلا معنى له إلا أن ينظر الإنسان في الأشياء بنظر العبرة ويشاهد الحكم والمصالح والتدبير المتقن فيها فيعرف بذلك أن لها خالقا عالما قادرا حكيما ومرجعه إلى الاستدلال المنطقي الذي أنكره أولا. (ش)

المعرفة بالنظر والاستدلال من الآثار وهذا القسم للخواص، الثالث المعرفة الشهودية والمشاهدة الحضورية التي هي مرتبة عين اليقين وهذا القسم لخاص الخاص الذي يعرف الحق بالحق، ولا يبعد أن يكون قوله (عليه السلام) «فإنا لا نشك» إشارة إلى هذا القسم لأنه الذي حري بأن لا يتطرق الشك إلى ساحته أصلا وأبدا، ثم فيه إشارة إلى آداب المناظرة فإن المريد لاثبات الحق لا بد أن يوصي صاحبه بالتفهم وترك التعنت وأن يظهر حاله بأنه على يقين فيما يقول ويتكلم لأن ذلك موجب لزيادة إصغاء السامع، ثم بعد تمهيد هذين الأمرين وتأصيل هذين الأصلين شرع في الاستدلال.

(وقال: أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان) الظاهر أن الواو للعطف وأن الولوج والرجوع متعلقان بالشمس والقمر والليل والنهار جميعا، والمراد بولوج الشمس والقمر دخولهما بالحركة - الخاصة (1) في بروجهما ومنازلهما المعروفة على نحو لا يشتبه أوقات الدخول لكونها معلومة مضبوطة والمراد برجوعهما إلى الحالة الأولى بعد تمام الدور أو رجوعهما إلى جزء معين من الفلك بعد المفارقة عنه فإن الشمس تذهب من الانقلاب الصيفي إلى الانقلاب الشتوي، ثم ترجع من الانقلاب الشتوي إلى الانقلاب الصيفي (2) والقمر يذهب من المقارنة إلى المقابلة، ثم يرجع من المقابلة إلى المقارنة، أو رجوعهما بالحركة اليومية في نصف الدور من الشرق إلى الغرب وفي نصف آخر من الغرب إلى الشرق، أو رجوعهما عن جهة الحركة الخاصة إلى جهة الحركة اليومية في كل آن مع تحقق الحركة إلى هاتين الجهتين في نفس الأمر.

والمراد بولوج الليل والنهار دخول تمام كل منهما في الآخر واستتاره به فيستتر ظلمة الليل بضوء النهار ويستتر ضوء النهار بظلمة الليل على سبيل التعاقب بحيث لا يشتبه شئ منهما بالآخر مع التغاير بين النور والظلمة، كما يشير إليه قوله تعالى (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) أو دخول بعض من كل واحد منهما في الآخر ففي ستة أشهر يدخل جزء من الليل في

ص:10


1- 1 - الحركة الخاصة للشمس والقمر ما يرى منهما من الانتقال من المغرب إلى المشرق على التوالي فإذا نظرت إلى القمر ليلة ورأيته قريبا من كوكب من الكواكب ثم نظرت إليه في الليلة التالية رأيته بعيدا عن ذلك الكوكب نحو المشرق نحو ذراعين تقريبا وهذه حركته الخاصة وكذلك مثله للشمس ولساير السيارات. ثم إن لهذه الحركة أجلا مسمى ومقدارا خاصا لا يتجاوزه البتة. (ش)
2- 2 - الانقلاب الصيفي رأس السرطان والشتوي رأس الجدي وانتقال الشمس من أحدهما إلى الآخر ظاهر محسوس فتراها تقرب أول السرطان إلى سمت الرأس وتبعد بعده إلى أول الجدي إلى غاية البعد عنه والزمان الواقع بينهما ثابت لا يزال وفي القمر أيضا زمان سيره من مقارنته للشمس وانمحاق نوره إلى مقابلته لها وهي حالة البدر ثابت لا يتغير ورجوعه من البدر إلى المحاق كذلك والأولى أن يحمل مراد الإمام (عليه السلام) على جميع هذه الحركات وعدم تخصيصها ببعضها. (ش)

النهار وفي ستة أشهر يدخل جزء من النهار في الليل ولا يشتبه الداخل في كل منهما في الآخر لكون أقداره معلومة محدودة دائما (1) والمراد برجوعهما رجوع كل منهما بعد الاستتار عقب صاحبه أو رجوع كل منهما عما أعطاه الآخر فيرجع الداخل من الليل في النهار إلى الليل ويرجع الداخل من النهار في الليل إلى النهار أو رجوعهما إلى التساوي والتكافؤ في الاعتدالين بعد التزايد والتناقص، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يتعلق «يلجان» بالليل والنهار ويرجعان بالشمس والقمر، ويحتمل أيضا أن يكون الواو للحال، وعلى هذا الاحتمال كل واحد من الولوج والرجوع متعلق بالليل والنهار وخبر لهما (قد اضطرا) (2) هذا على الاحتمالين الأولين حال عن المفعول الأول ل «ترى» لبيان أن اتصافه بالمفعول الثاني أعني الولوج والرجوع على سبيل الاضطرار ليثبت أن لهما فاعلا قادرا مختارا يحملهما على ذلك بقدرته واختياره، والتثنية باعتبار أن الشمس والقمر شئ والليل والنهار شئ آخر فهما شيئان وعلى الاحتمال الأخير مفعول ثان لترى وإشارة إلى اضطرار الشمس والقمر في أحوالاتهما، وقد أشار إلى وجه اضطرارهما أو اضطرار الجميع بقوله

ص:11


1- 1 - ولكون هذه الأقدار معلومة محدودة صح للمنجمين أن يخبروا بما يبتني على التسييرات من الحوادث كرؤية الهلال والخسوف والكسوف والمقارنات ومقادير الليل والنهار في الآفاق المختلفة وغير ذلك. (ش)
2- 2 - قلنا في حاشية الوافي إن المنكرين للصانع ليس مبنى شبهتهم واحدا ولا طريقتهم متشاكلة فعلى المثبت أن يبين في كل باب ما يليق به فمن يرى أن العالم قديم يزال شبهته بأن يثبت إمكانه وحدوثه ومن يرى أن العالم بالبخت والاتفاق تجب أن تزال بأن الترجيح بلا مرجح محال وأن الشئ ما لم يجب لم يوجد، ومن يرى أن كل موجود محسوس يزال شبهته بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وظاهر أن الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث يرد القول بالبخت والاتفاق لأن السائل كان منهم. والشمس والقمر والكواكب عندهم أجسام جامدة نظير الأجسام الأرضية ولو خلى الجسم وطباعه لم يتحرك البتة إلا بمحرك جاذب أو دافع وإن تحرك بسبب خارج عن هويته لم يحدث فيه تكرر ونظام مقرر، ولا يبتدل ولا يختلف ومعنى كون الجسم الجامد مضطرا أنه متحرك بتحريك غيره، ومعنى عدم اضطراره كونه مخلى وطباعه ولو كان قول الملاحدة صحيحا ولم يكن في الوجود شئ خارج عن الأجسام محرك لها وكانت الأجسام أنفسها مخلاة وطبائعها من غير قوة خارجة تضطرها إلى شئ لم يكن يوجد هذا النظم بالبخت والاتفاق بل كانت الشمس تطلع يوما ولا تطلع يوما والقمر يسير مرة شهرا ومرة ثلاثة أشهر إذا الأمور بالبخت والاتفاق وكانت البرة تنبت مرة برا ومرة شعيرا، وشجرة التفاح تثمر مرة عنبا ومرة تمرا إذ المادة قابلة للتشكل بكل صورة والشمس قابله للتحرك إلى كل جانب فما الباعث لاختيار واحد من أمور غير متناهية مع أن الترجيح بلا مرجح باطل، فإن تمسك أحد بأن في كل جسم طبيعة تضطره إلى شئ قلنا هؤلاه الزنادقة الذين كان الكلام متوجها إليهم كانوا نظير ذي مقراطيس ولم يكونوا قائلين باضطرار الطبيعة ولرد القائلين بالطبيعة حجة أخرى مذكورة في محلها سيأتي إن شاء الله وقد نقلنا في حاشية الوافي كلام أبي علي بن سينا في الشفا في رد قول ذي - مقراطيس ومن قال بالبخت والاتفاق بما يشبه كلام الإمام (عليه السلام) فارجع إليه. (ش)

(ليس لهما مكان إلا مكانهما) فإن لكل واحد من الشمس والقمر من حيث الحجم والجسمية مكانا مخصوصا من الفلك هو مركوز فيه لا يخرج منه أبدا إلى مكان آخر ومن حيث الحركة أمكنة معلومة هي مداراته اليومية التي يتحرك فيه ذاهبا من الشمال إلى الجنوب وعائدا من الجنوب إلى الشمال دائما من غير تخلف ولا وقوف وكذا لكل واحد من الليل والنهار محل مخصوص لا يقع فيه التبادل والتعاكس بالكلية بأن يستقر الليل كله في محل النهار ويستقر النهار كله في محل الليل ومن تفكر فيه تفكرا صحيحا واستعان بالحدس الصايب علم يقينا أنهما مضطران في ذلك.

(فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعا) دائما على النظام المشاهد من غير تخلف أصلا ولم لا يذهبان على وجههما وقتا ما كما هو شأن صاحب الإرادة (وإن كانا غير مضطرين) في الذهاب والرجوع وكان لهما اختيار فيهما (فلم لا يصير الليل نهارا) بأن ترجع الشمس باختيارها فوق الأفق من الغرب إلى الشرق فيكون النهار سرمدا (والنهار ليلا) بأن ترجع تحت الأفق من الشرق إلى الغرب فيكون الليل سرمدا فدل ذهابهما ورجوعهما واتساق حركتهما وانضباط أمرهما وانضباط الليل والنهار دائما على أنهما مضطران في هذه الأمور وفي دوامهما، كما أشار إليه مؤكدا بالقسم ترويجا له لكون المخاطب في مقام الشك بعد بقوله (اضطرا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما) على الأوصاف المذكورة وعلى النحو المشاهد فلهما فاعل قدير عليم خبير قاهر مدبر دبر في أمرهما كيف شاء لمنافع جليلة ومصالح كثيرة يعجز عن عدها اللسان ويقصر عن وصفها البيان وفيه دلالة على أن حركتهما ليست إرادية ولا طبيعيه لأن كون حركة المتحرك دائما على نهج واحد من غير تبدل وتغير وإلى جهة ووضع، ثم تركهما بعد البلوغ يدل على أن تلك الحركة ليست مستندة إلى الإرادة والاختيار كما يحكم به العقل مع الانصاف والحدس الصايب وليست طبيعية لأن الطبيعية لا تقتضي شيئا والصرف عنه بالضرورة.

فإن قلت: دوامهما على ذلك لكونهما مركوزين في الفلك والفلك يحركهما كذلك.

قلت: هذا اعتراف بالاضطرار وأما الفلك فحركته أيضا على هذا النحو دائما اضطرارية وإلا فلم لا يتغير ولا يتبدل ولا يسرع ولا يبطي ولا يعكس ولا يسكن وقتا ما مع تجويز العقل حركته على أنحاء متفاوتة وجهات مختلفة فاستقراره على هذا النحو دل على أنه مضطر مقهور وله فاعل قاهر خارج عنه وليس لمن قال: بأن حركته إرادية لقصد التشبه بالكامل دليل يعتد به ولو ثبت ذلك ثبت المدعى أيضا (1) لأن وجوب الممكن وكونه قادرا على الإرادة من جانب الغير وهو الفاعل المختار

ص:12


1- 1 - هذا هو الصحيح في هذا الموضع بل إثبات نفس وعقل بإزاء كل فلك مما يأبى عنه ذهن الماديين والملاحدة وإثبات الإرادة للفلك يساوق إثبات وجود الله تعالى إذ المنكرون منهم للصانع تعالى ينكرون العقول والنفوس ويستغربون الحركة الإرادية في الأفلاك أشد من استغراب عامة المسلمين والحق أن كل من رأى جسما متحركا على الاستدارة كالرحى من غير أن يكون هناك ماء أو هواء وأي سبب محرك آخر لا بد أن ينسب حركته إلى موجود غيبي جن أو ملائكة يدبره بالإرادة والاختيار ولا يذهب الفكر السليم إلى نسبة الحركة الدورية إلى فاعل غير إرادي البتة فالطبيعة ليست فاعل بنفسها بل هي مضطرة لفاعل غير طبيعي فهو إله أو ملائكة. (ش)

الواجب وجوده لذاته دفعا للتسلسل (والذي اضطرهما) على ذلك (أحكم منهما وأكبر) الظاهر أن «أحكم» اسم تفضيل من الحكم بمعنى القضاء ومنه يا أحكم الحاكمين لا من الاحكام كأفلس من الإفلاس ليرد أنه شاد، والمراد بكونه أحكم وأكبر أنه حاكم عليهما مؤثر فيهما فلا محالة يكون أشد قضاء وأتم حكما وأكبر رتبة منهما أو المراد أن فعله ليس مثل فعلهما بالاضطرار وإلا دار أو تسلسل أو المراد أن وجوده من ذاته لا من الغير والإمكان مثلهما غير محكم في حد ذاته لانه حينئذ ممكن وكل ممكن باطل غير محكم في حد ذاته أو المراد أن ذاته وصفاته أحكم من ذاتهما وصفاتهما لأن ذاتهما من الأجسام وصفاتهما من الجسمانيات وكل جسم وجسماني فيه ضعف وذلة من جهات شتى (فقال الزنديق صدقت) لا بد لهما من محرك يضطرهما على ما ذكر وهو أحكم وأكبر منهما (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام)) لدفع ما يذهب إليه وهم الزنديق من أن ذلك المحرك هو الدهر كما قالت الزنادقة «وما يهلكنا إلا الدهر».

(يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنون أنه الدهر) «أنه الدهر» خبر «أن» أو هو مفعول «تظنون» أو بيان للموصول بتقدير «من» ومفعوله محذوف وخبر «أن» حينئذ قوله (إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يرد هم؟ وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم) ضمير «بهم» إما راجع إلى ذوي العقول المدركة مطلقا سواء كانت نفوسا قدسية مجردة عن التعلق بالأبدان أو نفوسا بشرية متعلقة بها أو راجع من باب التغليب إلى الكائنات من العلويات والسفليات كلها، ولعل المراد أن للكاينات وجودات وصفات وكمالات هي ذاهبة إليها تاركة لأضدادها، مثلا للإنسان موت وحياة، وللشمس والقمر وساير الكواكب حركات بالأصالة دائما من الغرب إلى الشرق وهي تذهب إلى جهات حركاتها ولا ترجع إلى خلافها ولا ترد والدهر لا شعور له فإن صدر منه بمقتضى طبعه إذهاب الكائنات إلى جهاتها وصفاتها وكمالاتها يرد أنه لم يقتضي طبعه إذهابها إليها دون ردها إلى خلافها وأضدادها وإن صدر منه الرد إلى خلافها يرد أنه لم يقتضي طبعه الرد إلى خلافها دون الإذهاب إليها؟ ولا يمكن التخلص منه إلا بأن يقال اقتضاء طبعه ذلك باعتبار مبدء قادر قاهر أعطاه ذلك الطبع باختياره، وهذا مع كونه مثبتا للمطلوب مدفوع بأنه لا يجوز إسناد (1) هذه الافعال المختلفة

ص:13


1- 1 - قوله «لا يجوز إسناد هذه الأفعال اه» تفسير الشارح خلاف ظاهر عبارة الحديث كما يشعر به كلامه أخيرا لأن الإمام (عليه السلام) في مقام إثبات الضرورة في الطبيعة وتوجه نظام العالم الجملي إلى شئ واحد لا يختلف حتى يثبت به وحدة المبدء نظير قطيع واحد من أغنام كثيرة تروح إلى جانب واحد أو جنود كثيرة متوجهين إلى جهة بنظام واحد يدل على وجود راع وقائد يسوقهم ولولا ذلك لذهب كل شاة إلى جانب وكل جندي إلى جهة بل يقوم بعضهم ويمشي بعضهم وينام بعضهم وبالجملة راد (عليه السلام) رد من يذهب إلى البخت والاتفاق وهم طائفة من الملاحدة ينكرون ثبوت غرض وغاية للطبيعة ولم يكن (عليه السلام) في مقام رد طائفة أخرى منهم يثبتون الضرورة للطبيعة ولا يعترفون بوجود إله قادر مختار كما فهمه الشارح (رحمه الله) وتكلف في تطبيق كلام الإمام (عليه السلام) فمقصوده (عليه السلام) إثبات الضرورة الطبيعية المسخرة بأمر الله تعالى لا إنكار الضرورة أصلا وفي توحيد المفضل بعد أن أنكر (عليه السلام) على الطائفة الثانية نفي الواجب تعالى اكتفاء بالطبيعة قال وقد كان من القدماء يعني من قدماء فلاسفة اليونان طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق وكان مما احتجوا به هذه الآفات التي تلد غير مجرى العرف والعادة كالإنسان يولد ناقصا أو زائدا أصبعا ويكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون وقد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال: ان الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شئ يأتي بالفرط مرة مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا انتهى. وأورد الشيخ أبو علي سينا في الفصل الرابع عشر من المقالة الأولى من الفن الأول من طبيعيات الشفا تفصيل هذا. فانظر إلى شرف العقل والعلم كيف بلغ بهذا الرجل أرسطو مبلغا ذكره سليل النبوة واستشهد بكلامه وألهم إليه من عالم الملكوت قوله وحجته. (ش)

والآثار المتفاوتة المتباينة إلى الطبع لأن الطبع لا يصدر منه الضدان ولا ينشأ منه الفعلان المختلفان ولو في محلين فإنه لا يمكن أن تسخن النار في موضع وتبرد في موضع آخر، فوجب إسنادها بلا واسطة إلى فاعل قادر مختار يفعل ما يشاء بمجرد الإرادة والمشية، ولهذه العبارة احتمال آخر أظهر تركناه خوفا للإطناب وحوالة على أفهام أولي الألباب.

(القوم مضطرون) إلى الاعتراف بذلك والإقرار، فالمراد بالقوم الإنسان أو ذووا العقول على الإطلاق ويحتمل أن يراد بهم الموجودات الممكنة كلها من باب التغليب: يعني أن الموجودات مضطرون في الوجود وما يتبعه من الصفات ولوازم المهيات وما يتصف به المتحركات كالشمس والقمر وسائر السيارات من الذهاب والعود والطلوع والغروب إلى غير ذلك من الأحوال وهذا الكلام على هذا الاحتمال تأكيد لما سبق وتقرير لما مر من أن هذه الآثار لا يجوز إسنادها إلى المتصف بالاضطرار مثل الشمس والقمر والليل والنهار والدهر وغيرها بل يجب إسنادها إلى الفاعل المختار القاهر على الممكنات يفعل فيها ما يشاء كيف يشاء ثم شرع في إثباته تعالى بدليل آخر وقال:

(يا أخا أهل مصر لم السماء) على عظمة حجمها ومقدارها (مرفوعة) على بعد مخصوص لا

ص:14

يزيد ولا ينقص (والأرض موضوعة) في حاق وسط السماء على بعد معين بينهما مع اشتراكهما في الجسمية المقتضية للتحيز فرفع إحداهما ووضع الأخرى دل على وجود قادر قاهر لهما على ذلك، فإن قيل. طبع السماء يقتضي الرفع وطبع الأرض يقتضي الوضع، قلنا: الرفع والوضع يتصوران على أنحاء مختلفة ووجوه متباينة فاختصاصهما، بهذا الرفع والوضع المخصوصين لا بد أن يكون مستندا إلى الغير على أن اقتضاء طبعهما ذلك لا بد أن يكون من الغير وهو المبدء الغالب على الأشياء (لم لا تسقط السماء) بالحركة المستقيمة أو مع الحركة الدورية التي لها في نفس الأمر (على الأرض) إذ الحركة المستقيمة لا تنافي الحركة الدورية وما ذكره الفلاسفة من امتناع حركة السماء على الاستقامة (1) فهو ممنوع لم يقم عليه برهان.

(لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها) تقول حدرت السفينة أحدرها إذا أرسلتها إلى أسفل والانحدار الانهباط وطباق الأرض طبقاتها التي بعضها فوق بعض، المراد بفوق طباقها الطبقة الفوقانية المكشوفة التي هي مسكن للحيوانات المتنفسة، يعني لم لا تنحدر الأرض إلى الماء من فوق طباقها أو لم لا ينحدر فوق طباقها على أن يكون فوق طباقها بدلا من الأرض، ويحتمل أن يراد بطباقها ما يحيط بها من العناصر والأفلاك يعني لم لا تنحدر الأرض فوق العناصر بل إلى فوق الأفلاك أيضا وإرجاع ضمير طباقها إلى السماء أيضا محتمل والمراد بالطباق حينئذ طبقات السماوات وإطلاق لفظ الانحدار على حركة الأرض إلى صوب المحيط صحيح لأن حركتها من المركز إلى المحيط في سمت أقدامنا انحدار وهبوط بالنظر إلينا وصعود بالنظر إلى من يقابلنا (فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليها) (2) في بعض النسخ ولا يتماسكان بالواو وهي للحال عن

ص:15


1- 1 - قوله «حركة السماء على الاستقامة ممنوع» حركة السماء على الاستقامة أو الاستدارة وامكانها أو امتناعها أجنبي عن المقام على ما ذكرنا فإن الغرض من جميع هذه الجمل إثبات الاضطرار وعدم وجود شئ إلا بعلة فاعلة وغاية كما قيل: الشئ ما لم يجب لم يوجد وأنه لا بخت ولا اتفاق كما سبق من بيانه (عليه السلام) في توحيد المفضل والمقصود حاصل سواء كان الحركة المستقيمة ممتنعة على الفلك أو ممكنة. (ش)
2- 2 - قوله: «ولا يتماسك من عليها» هذا الكلام أيضا رد على القائلين بالبخت والاتفاق منكري العلة ولا يخفى أن الإلهيين يثبتون وجود واجب الوجود بأن كل شئ يحدث في العالم فهو بسبب وعلة ولا يمكن التسلسل في العلل فينتهي بالآخرة إلى واجب الوجود. ثم يثبتون علمه وقدرته واختياره تعالى بالنظر في أفعاله تعالى والحكم والمصالح فيها فإذا أنكر أحد أصل العلية والتزم بامكان الترجح من غير مرجح وأن تركب الأجسام بالبخت والاتفاق فقد سد باب إثبات الواجب تعالى، ومما قالوا: إن كل جسم حصل من تركب أجزاء صغار صلبة منبثة في الفضاء فاتفق أن اجتمع منها أجزاء غير محصاة في أحياز غير محصاة في خلأ غير متناه كما نقله الشيخ في الشفا ولو كان هذا صحيحا لزم منه عدم تماسك أجزاء الأرض والسماء لأن الأجزاء المجتمعة في الفضاء بالبخت والاتفاق في معرض أن تتفرق بالاتفاق مع أنا نرى تماسك أجزائهما آلافا من السنين فلا بد أن يكون التماسك والاجتماع بعلة كما في ساير الحوادث وقال بعض قدماء اليونانيين إن الأجسام متجاذبة طبعا تميل بعضها إلى بعض وهذا اعتراف بأن التماسك بعلة لا بالاتفاق. وأما تفسير الشارح أن لا يتماسكان أي لا يملكان - إلى آخر ما قال - فتكلف مبنى على ما زعمه من أن الزندقة طريقة واحدة هي الالتزام بجبر الطبيعة ونفي القادر المختار. (ش)

المنفي وهو السقوط والانحدار وفي بعضها بالفاء وهذا الكلام حينئذ إما متفرع على النفي يعني علم من عدم سقوط السماء وعدم انحدار الأرض أنهما لا يتماسكان أي لا يملكان أمرهما من الرفع والوضع ولا يقدران على ذلك وإن كل من على الأرض من الإنسان والحيوان وغيرهما لا يتمالك أمره من تحيزه بحيزه ووضعه فيه، لأن وضعه تابع لوضع الأرض ووضع الأرض بالجبر من الفاعل القادر المختار فوضعه أيضا منه أو متفرع على المنفي وعدم تماسكهما حينئذ بالرفع والوضع وعدم ثباتهما عليهما ظاهر، وكذا عدم تماسك من على الأرض وعدم ثباتهم عليها لغرقهم في الماء وانفلات الأرض من تحتهم سريعا فينقطع التعلق بينهما وبينهم ولو بقي التعلق لاضطربوا بالحركة العنيفة اضطرابا شديدا، كما يشاهد مثل ذلك عند الزلازل الشديدة.

لا يقال: هذا الدليل والذي قبله إنما يدلان على أنه لا بد لهذا النظام وتلك الحركات من مدبر قادر خارج عن عالم الجسم والجسمانيات، وأما أنه واجب الوجود لذاته فلا، لجواز أن يكون هذا المدبر، جوهرا، مجردا، مفارقا، لأنا نقول: هذا الجوهر على تقدير وجوده ممكن بالاتفاق فهو لا يفيد الوجود ولواحقه إلا إذا استفاد وجوده من وجود خارج عنه لأن وجود الممكن ليس من قبل ذاته المعراة عن مرتبة الوجود، ولا من قبل وجوده بالضرورة، بل هو من قبل موجود مباين له حاكم عليه، وهو الله تعالى شأنه (فقال الزنديق أمسكهما الله ربهما وسيدهما) الرب في اللغة المالك والمدبر والسيد والمربى والمتمم والمنعم والمولى والصاحب والحافظ، والسيد في اللغة الرب والمالك والشريف والكريم والحليم والحاكم والمقدم والمتحمل للأذى ممن دونه، (قال فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: له حمران: جعلت فداك إن آمنت الزنادقة (1) على يديك فقد آمن الكفار على يدي أبيك) المراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحتمل غير من آبائه الطاهرين (فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله (عليه السلام)) لم يطلق عليه الزنديق هنا تعظيما له وإشعارا بأنه لا يجوز ذلك ولو على سبيل المجاز باعتبار ما كان (اجعلني من تلامذتك فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام بن الحكم خذه إليك) أي منضما إليك على التضمين (فعلمه هشام) الأحكام الدينية

ص:16


1- 1 - قوله «ان آمنت الزنادقة» المفهوم من هذا الكلام أن الزنادقة غير الكفار فلعل الفرق بينهما الفرق بين العام والخاص أو الزنادقة كانوا يتظاهرون بالاسلام ولم يكونوا مؤمنين بقلوبهم نظير جماعة من ملاحدة زماننا ويأتي الإشارة إلى مذهب الزنادقة في الحديث الآتي إن شاء الله. (ش)

والمعارف الإلهية وفيه مدح عظيم لهشام والروايات في مدحه عن الصادق والكاظم (عليهما السلام) كثيرة وترحم عليه الرضا (عليه السلام) بعد موته وكان ممن فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب بالنظر وكان حاذقا بصناعة الكلام حاضر الجواب وفي ذمه أيضا روايات جوابها مذكور في كتب الرجال وغيرها (وكان) أي هشام أو المؤمن الذي آمن (معلم أهل الشام وأهل مصر الإيمان) وأركانه وأحكامه (وحسنت طهارته) القلبية والدينية بتحصيل الأخلاق والأحكام (حتى رضي به أبو عبد الله (عليه السلام)) لحسن طهارته وكمال إيمانه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن أحمد بن محسن المثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب فقال:

أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله ابن المقفع في المسجد الحرام فقال ابن المقفع، ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) - فأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم فقال له ابن أبي العوجاء: لا بد من اختبار ما قلت فيه منه: قال: فقال له ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفت، فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه و تحفظ ما استطعت من الزلل ولا تثني عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال وسمه مالك أو عليك.

قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال:

ويلك يا ابن المقفع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا، فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون - يعني أهل الطواف - فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم. فقلت له: يرحمك الله، وأي شئ نقول وأي شئ يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحدا، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا؟ وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم

ص:17

الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الايمان به؟ فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك وعزمك بعد أناتك وأناتك بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ورجائك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن أحمد بن محسن الميثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب) أي العارف بالطب العالم به (فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء) اسمه عبد الكريم وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد فقيل: له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ قال: إن صاحبي كان مخلطا يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر فما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه، وكان يكره العلماء مجالسته، لخبث لسانه، وفساد ضميره (وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام فقال ابن المقفع ترون هذا الخلق وأومأ بيده إلى موضع الطواف ما منهم أحد اوجب) بضم الهمزة أي أثبت.

(له اسم الإنسانية) اسم الإنسان يطلق على هذا الهيكل المحسوس الذي يشترك فيه الجاهل والعالم، وعلى النفس الناطقة المجردة الفاضلة (1) بالعلوم والمعارف وعلى المجموع، والأخيران أولى بإطلاق هذا الاسلام عليها من الأول لهذا صح النفي عنه في مثل زيد ليس بإنسان أو زيد

ص:18


1- 1 - قوله «وعلى النفس الناطقة المجردة» أكثر أهل التحقيق والتحصيل من علماء الإسلام صرحوا بتجرد النفس الناطقة كالشارح وبعض المتكلمين ذهبوا إلى ماديتها والتفصيل موكول إلى محله، بل صرح بعض أهل الظاهر بكفر من قال بتجرد النفس وقال الفاضل المجلسي (رحمه الله) ما يحكم به بعضهم من تكفير القائل بالتجرد إفراط وتحكم وقد ذكر قبل ذلك من القائلين بالتجرد معمر بن عباد السلمي والغزالي وأبا القاسم الراغب والشيخ المفيد وبنى نوبخت والأسواري ونصير الدين الطوسي (رحمه الله) ويلزم مما ذكر أن بعضهم كفر هؤلاء والعجب أن البيضاوي ذكر في تفسيره اتفاق أهل الإسلام على التجرد وفي تفصيل ذلك كلام لا يليق بهذا الموضع. (ش)

حمار (إلا ذلك الشيخ الجالس) الشيخ يطلق على المسن بعد الكهل وهو من انتهى شبابه، وعلى العالم الماهر المتبحر في العلوم (يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأما الباقون فرعاع وبهايم) الرعاع بالفتح جمع رعاعة، وقيل: اسم جمع وهي ألأحداث الطغام والأراذل من الأوباش واللئام وشبههم بالبهائم في اتصافهم بالجهالات وفقدانهم للقوة المدركة للمعقولات: فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ الواو لمجرد اللصوق والربط لا للعطف، وكيف سؤال عما يقتضي تخصيصه بهذا الاسم دون غيره (قال: لاني رأيت عنده ما لم أره عندهم) من العلوم والمعارف وكمال القوة الفكرية (فقال له ابن أبي العوجاء لا بد من اختبار ما قلت فيه منه) إضافة الاختبار إلى الموصول إضافة المصدر إلى المفعول والعائد محذوف وضمير فيه ومنه عائد إلى الشيخ ومنه متعلق بالاختبار (قال: فقال له ابن المقفع لا تفعل) ما أردت من اختباره والتكلم معه (فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك) من مذهبك وما تستدل به عليه لكمال قوته في المناظرة (فقال: ليس ذا رأيك) أي ليس خوف الإفساد رأيك وزعمك في المنع من الاختبار (ولكن تخاف أن يضعف رأيك) أي اعتقادك أو عقلك (عندي في إحلالك) أي إنزالك من أحله إذا أنزله (إياه المحل الذي وصفت) من كمال العلم والمعرفة وتمام القوة في الكلام والمناظرة.

(فقال ابن المقفع أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه) أي ذاهبا أو متوجها إليه وأما بالتخفيف حرف التنبيه وهذا أولى من قراءتها بالتشديد على أن تكون للشرط وفعلها محذوف، ومجموع الشرط والجزاء بعدها جواب لذلك الشرط كما زعم فإنه بعيد لفظا ومعنى أما لفظا فلإحتياجه إلى التقدير والأصل عدمه، وأما معنى فلأن أما الشرطية للتفصيل باتفاق النحاة مثل أما زيد فذاهب وأما عمرو فمقيم أي مهما يكن من شئ فزيد ذاهب وعمرو مقيم وذكر التفصيل والأقسام وإن لم يكن واجبا لجواز أن يذكر قسم واحد ويترك الباقي كما في قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيع) الآية إلا أنه وجب أن يكون لتفصيل في نفس المتكلم كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل، وإرادة التفصيل هنا أي أما إذا لم تتوهم علي هذا فمكانك، لا يخلو من بعد، بل لا وجه لها (وتحفظ ما استطعت من الزلل) تحفظ مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر ومن متعلق به أي وإن قمت إليه تحفظ نفسك من الزلل في المقال وفيما تسمعه منه من دقائق عقايده ولطايف فوايده ما استطعت (ولا تثني عنانك) «لا» للنفي وتثني بفتح التاء من باب ضرب أو بضمها من باب الإفعال والمعنى واحد تقول: ثنيت الشئ ثنيا وأثنيته إذا صرفته وعطفته، والعنان بالكسر: سير اللجام وهو

ص:19

الذي يتمسك به الراكب لحفظ الدابة وضبط أمرها والمراد به هنا ما تمسك به النفس في ميدان المناظرة والمجادلة، والجملة خبر بمعنى النهي، وفي بعض النسخ «لا تثن» بصيغة النهي من أحد البابين (إلى استرسال) في النهاية: الاسترسال: الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحده، وأصله السكون والثبات إنتهى، ويحتمل أن يكون هنا من الرسل بالكسر بمعنى اللين والرفق والتأني (فيسلمك) من التسليم أو الإسلام قال في النهاية: أسلم فلان فلانا إذا ألقاه في الهلكة. وهو عام في كل من أسلمته إلى شئ لكن دخله التخصيص وغلب عليه الإلقاء في الهلكة، وفاعل يسلمك عايد إلى الشئ أو إلى ذلك الشيخ (إلى عقال) وهو بالكسر الحبل الذي يشد به ذراعي البعير وبالضم والتشديد وقد يخفف داء في رجلي الدواب والمعنى لا تعطف عنان نفسك ولا تصرفه في ميدان المناظرة إلى الاستيناس بذلك الشيخ والطمأنينة إليه والثقة به فيما يقول، أو لا تصرفه إلى التأني والرفق به والمساهلة معه فيسلمك ويلقيك ذلك الشئ والصرف أو ذلك الشيخ إلى عقال يمنعك من الحركة فيما أنت عليه من مذهبك والدلايل عليه أو إلى مكروه ومرض شديد وهو خروجك من مذهبك إلى مذهبه وغرضه من هذا الكلام وصيته بالحفظ والثبات على دينه وعدم خروجه عنه بكلامه (عليه السلام) وإغراؤه بالمناظره على قدر الإمكان (كذلك يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) (وسمه مالك وعليك) نقل عن الشيخ العارف بهاء الملة والدين إن سمه من السوم.

أقول: يريد أنه أمر من سام البايع السلعة يسوم سوما إذا عرضها على المشتري وذكر ثمنها وسامها المشتري بمعنى استامها سوما والمساومة المحادثة بينهما على السلعة وقطع ثمنها والضمير المنصوب راجع إلى ذلك الشيخ واتصاله من باب الحذف والإيصال وما الموصولة مفعوله والجملة معطوفة على قم والمقصود اعرض عليه مالك عليه وماله عليك وساومه في المعاملة والمناظرة التي تقع بينكما على بصيرة منك لئلا تصير مغلوبا مغبونا كما يقع ذلك بين البايع والمشتري لطلب كل منهما نفعه وفراره من الغبن والخسران ففي الكلام استعارة تمثيلية، ونقل عن المحقق الشوشتري أن سمه بضم السين وفتح الميم المشددة أمر من سم الأمر يسمه إذا سبره ونظر إلى غوره والمسبار ما يسبر به. أقول: الضمير يرجع إلى ما يجري بينهما بقرينة المقام والموصول بدل عنه، والمقصود انظر إلى غور مالك وعليك بمسبار عقلك ولا تأخذ بظاهرهما وذلك لزعمه أن غور ما عليه صاحبه حق وغور خلافه باطل ويحتمل أن يكون أمرا من سممت

ص:20

سمتك أي قصدت قصدك أو من سممت بينهما سما أي أصلحت والهاء حينئذ للوقف، يعني اقصد مالك وعليك وتكلم فيهما على بصيرة ومعرفة أو أصلح بينهما بقدر الإمكان لئلا تصير مغلوبا محجوجا، ونقل عن بعض الأفاضل ولعله الفاضل الأسترآبادي أنه أمر من شم يشم بالشين المعجمة يقال: شاممت فلانا إذا قاربته لتعرف ما عنده بالكشف والاختبار، والضمير عايد إلى الشيخ وما استفهامية أي قاربه لتعرف مالك وما عليك من أنواع الكلام والمناظرة، أقول في نهاية ابن الأثير ما يؤيد هذا الاحتمال قال في: حديث علي (عليه السلام) حين أراد أن يبرز لعمرو بن عبد ود قال:

أخرج إليه فاشاممه قبل اللقاء أي أختبره وأنظر ما عنده بالاختبار والكشف وهي مفاعلة من الشم كأنك تشم ما عنده ويشم ما عندك لتعملا بمقتضي ذلك. وقال بعض الأصحاب: هو على وزن عدة بمعنى أثر الكي في الحيوان معطوفة على عقال مضاف إلي الموصول والمعنى فيسلمك إلى عار مالك وعليك.

(قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين، فلما رجع إلينا ابن أبي العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفع) الويل: الحزن والهلاك وقد يرد بمعنى التعجب وهو إذا لم يضف يجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب على إضمار الفعل وإذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب (ما هذا ببشر) لأن ماله من الكلام الرايق والكمال الفائق غير معهود للبشر (وإن كان في الدنيا روحاني) الروحاني بضم الراء وفتحها منسوب إلى الروح أو الروح والألف والنون من زيادات النسب أي إن كان في الدنيا جسم لطيف لا يدركه البصر أو ملك كريم (يتجسد إذا شاء ظاهرا) أي يصير ذا جسد وبدن إذا أراد ظاهرا يدرك بالأبصار (ويتروح إذا شاء باطنا) أي يصير روحا صرفا بلا جسد إذا أراد باطنا لا يدرك بالأبصار فقوله ظاهرا وباطنا مفعول المشية (فهو هذا) أي فذلك الروحاني هو هذا الشيخ الذي وصفته بما وصفته.

(فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه) أي جلست متوجها إليه وبين يديه (فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني) بالكلام وسبقني قبل أن أتكلم (فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا وعطبتم) العطب بالتحريك الهلاك وقد عطب بالكسر إذا هلك أي فقد سلموا من الآفات وخلصوا من العقوبات وهلكتم في الدنيا بموت نفوسكم بالأمراض القلبية وفي الآخرة بالعقوبات الأخروية (وإن يكن الأمر على ما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم) في السلامة ولا يضرهم صلاتهم وصومهم وطوافهم وسائر ما يفعلون من العبادات، وإنما بنى الكلام على صورة الشك لقصد سياقه على نحو لا ينافي كثيرا اعتقاد المخاطب مع كونه مستلزما لإلزامه لأن سوقه على هذا النحو أدخل في استماعه وأبلغ في

ص:21

إصغائه وأتى بالجملة الحالية بين الشرط والجزاء للإشارة إلى الحق والباطل وإرشاده إلى الحق وإبعاده عن الباطل، وعطف «هم» على الضمير المرفوع المتصل دل على جواز ذلك (1) بدون التأكيد والفصل (فقلت له: يرحمك الله) أجرى الدعاء لا على حسب اعتقاده فإنه لم يكن قائلا بالله تعالى إظهارا لحسن حاله عنده (عليه السلام) كما أشار إليه بقوله (وأي شئ نقول وأي شئ يقولون ما قولي وقولهم إلا واحدا) لا اختلاف بيننا في العقايد.

(فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا وهم يقولون إن لهم معادا) بعد فناء أبدانهم (وثوابا وعقابا) بفعل الطاعات والمنهيات (ويدينون) أي يعتقدون ويصدقون (بأن في السماء إلها) أي (2) معبودا مستحقا لأن يعبد وفيها و «في» هنا بمعنى على للاستعلاء كما هي بمعناها في قوله تعالى (ولاصلبنكم في جذوع النخل) على ما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل على أنها لو كانت بمعنى الظرفية لكان لها وجه أيضا لصحة إرادة الظرفية المجازية باعتبار أن إلهيته ومعبوديته في السماء (وأنها عمران) أي معمورة بأهلها وسكانها من الملائكة والنفوس القدسية وهم يعبدون إلههم ويطيعونه فيما يأمرهم به ولا يفترون في عبادته (وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد) لا إله معبود ولا عابد مألوه وإنما ذكر السماء (3) دون غيرها من أطباق الكائنات لأن ذلك أدخل في ذمهم على القول بأن مثل هذا البناء وما فيه من عجايب الخلق مثل الشمس والقمر وغيرهما من الثوابت والسيارات أنحاء متفاوتة وجهات مختلفة ليس له مدبر.

(قال: فاغتنمتها منه) أي اغتنمت هذه الكلمات منه لكونها فاتحة لباب المناظرة ولكون قوله (عليه السلام) «وهو على ما يقولون» في حيز المنع بزعمه فلذلك قال (فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون) من أن لهم إلها صانعا مدبرا ولهم معادا وثوابا وعقابا (أن يظهر لخلقه ويدعوهم) بنفسه (إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان) في وجوده (ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل) ودعاهم إلى الإقرار به والطاعة له بتوسطهم.

(ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى إلى الإيمان به) هذا الكلام يحتمل أن يكون منعا لقوله (عليه السلام) «وهو

ص:22


1- 1 - بناء على ان كلام الإمام (عليه السلام) محفوظ في الرواية. (ش)
2- 2 - خص السماء بالإله لأن الله تعالى مجرد غير جسماني والمراد بالسماء عالم المجردات فهو أولى بأن ينسب إلى الله تعالى وأما عالم الأجسام فغير عارف جاهل لا يشعر بشئ وليس له قوة على فعل وبهذا الاعتبار بعيد عن الله تعالى. (ش)
3- 3 - والمراد من السماء هنا العالم المجرد من المادة يعني أن الموحدين قائلون بوجود عالم مجرد غير محسوس والزنادقة لا يعترفون به ويلزم من إنكارهم إنكار وجود الصانع والملائكة والوحي والجنة والنار لأن كل ذلك غير محسوس. (ش)

كما يقولون» مع السند تقريره أن ما يقولون من أنه موجود ممنوع والسند أنه لو كان موجودا لم يحتجب (فقال لي ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك) بحيث لا تقدر على إنكار ذلك لو رجعت إلى صراحة عقلك فقد أنكر (عليه السلام) احتجابه عن الخلق وعدم ظهوره لهم وأشار إلى ظهوره بظهور آثار قدرته القاهرة في أنفسهم وهذا كما هو دافع للسند مثبت للمطلوب أيضا فإن الموجود الظاهر من جهة آثاره لا يجوز أن ينكر وجوده عاقل، ألا ترى أن من أنكر وجود المصوت والمتكلم عند سماع الصوت والكلام من مسافة بعيدة ينسب إلى السفه والجنون وإنما قلت يحتمل ذلك لأنه يحتمل أيضا أن يكون قياسا استثنائيا لإثبات أنه ليس بموجود، تقريره أنه لو كان موجودا لظهر ولم يحتجب وإذا قد احتجب ولم يظهر علم أنه ليس بموجود فمنع (عليه السلام) بطلان التالي وأشار إلى ظهوره بظهور آثاره وأفعاله الاختيارية المحكمة المتقنة التابعة لقدرته الكاملة هذا إذا أراد الزنديق بلزوم ظهوره على تقدير وجوده لزوم ظهوره في الجملة.

وأما إن أراد به لزوم ظهوره ذاته بذاته بمعنى تجليها لكل أحد أو بمعنى رؤيتها ومشاهدتها بالعين فجوابه (عليه السلام) راجع إلى منع الشرطية بأن اللازم على تقدير وجوده هو ظهوره وجوده بالآثار لا بما ذكر لأن رؤيته محال وتجلى الذات لا يحصل إلا للعارفين البالغين حد الكمال لانهم يعرفون الحق بالحق لا بالخلق وأما القاصرون فظهوره لهم إنما يحصل بظهور آثاره وربما يرشد إليه قوله (عليه السلام) «وكيف احتجب عنك» (نشوك ولم تكن) النشو مصدر نشأ نشوا ونشوءا على فعل وفعول إذا خرج وابتدأ وهو منصوب على أنه بدل من قدرته أو مرفوع على أنه خبر مبتدء محذوف يعود إليها وهو هي يعني من آثار قدرته في نفسك هي وجودك بعد العدم مع ما فيك من الأعضاء والجوارح والعروق والقوى وغيرها ومتى تأملت فيها وفي ترتيبها ووضعها ومنافعها التي لا تعد ولا تحصى علمت أن ذلك ليس من قبل ذاتك (1) المعراة عن الوجود في نفسها ولا من قبل وجودك لضرورة أن المعدوم لا يوجد شيئا سيما نفسه وأن الوجود قبل تحققه ليس علة لنفسه ولا لانضمامه إلى غيره وأيقنت أنه من مبدء مباين قادر يفعل بقدرته وإرادته ما يشاء وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» يعني (2): عرف ربه بضد ما عرف به نفسه لا بمثله لامتناع

ص:23


1- 1 - بل معنى الحديث أن هذه الأحوال المختلفة تدل على عدم كونها من النور والظلمة لأن أحدهما إذا غلب غلب بجميع مظاهره على ما يأتي إنشاء الله. (ش)
2- 2 - هذا الخبر نقله العلامة المجلسي (رحمه الله) في المجلد الرابع عشر من البحار ص 415 نقلا عن كتاب «الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح» تأليف الشيخ الفاضل الرضي علي بن يونس العاملي (رحمه الله) والكتاب بتمامه أورده العلامة المجلسي في هذا المجلد من ص 412 إلى 416.

التشبيه فمن عرف نفسه بالحدوث والإمكان والعجز والجهل مثلا عرف ربه بالقدم والوجود والقدرة والعلم (وكبرك بعد صغرك) فإنك إذا تفكرت في انتقالاتك من مقدار إلى مقدار وفي ترقياتك من مرتبة الطفولية إلى سن الوقوف، علمت أن ذلك مستند إلى قادر مدبر بحكمته وإنك مخلوق مقهور تحت حكمه وقدرته.

(وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك) القوة مبدء الآثار والأفعال والضعف عدم ذلك المبدء بالكلية أو فتوره، ولا يبعد أن يراد بالقوة القوة التي في سن الشباب وبالضعف الضعف الذي في سن الكهولة والشيخوخة وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك) (1) السقم المرض وهو ما يزيل عن كل عضو مزاجه اللايق به، والصحة خلافه يعني استقامة كل عضو على ما يليق به (ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك) الرضا المعافاة عن العقوبة أو انفعال النفس عن المعافاة والغضب حركة النفس نحو الانتقام أو انفعالها عن تلك الحركة، وكونهما من آثار قدرته تعالى باعتبار المعنى الأخير ظاهر، وأما باعتبار المعنى الأول فباعتبار اتصاف النفس بكونها قابلة لهما فإنه من آثار القدرة القاهرة (وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك) الحزن انفعال النفس عن توارد المكروهات أو عن تخيلها وقد يتحقق لا عن سبب ظاهر، والفرح انفعالها عن توارد المرغوبات أو عن تخيلها وقد يتحقق لا عن شئ (وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك) الحب انفعال النفس عن الميل المفرط إلى ما تستحسنه أو نفس هذا الميل وهما من آثار قدرته تعالى ومن ثم قيل: الحب المفرط لا يلام صاحبه إذ لا اختيار له ولو فرض أن له اختيارا فلا ريب في أن كونه

ص:24


1- 1 - قوله: «صحتك بعد سقمك» قد يذهب الأوهام العامية إلى أنه لا يمكن إثبات وجود الله تعالى إلا بوجود حوادث لا علة طبيعية لها ظاهرة ويتعجب من استدلال الإمام (عليه السلام) على وجود واجب الوجود تعالى بهذه الأحوال التي لها أسباب ظاهرة كالسقم بعد الصحة والصحة بعد السقم فيقال: إن السقم بعلة طبيعية كانحراف المزاج عن التعادل أو بنقص عضو أو زيادة أو سد منفذ أو جراثيم صغار وغير ذلك وله أسباب بادية وغير بادية وكذلك عود الصحة بإعانة الطبيعة وتأثير الدواء والمعالجات ولا يثبت وجود الله تعالى إلا بأن يرى في بدن الإنسان مرض أو صحة من غير سبب وهذا وهم باطل جدا مخالف للكتاب والعقل أما الأول فلان القرآن الكريم استدل على وجوده تعالى بأمور لها أسباب طبيعية كاختلاف الليل والنهار وإنزال الماء من السماء وجري الرياح وغير ذلك وصرح في القرآن أيضا بوجود الأسباب الطبيعية في كثير منها مثل قوله «يرسل الرياح فتثير سحابا» ومثل قوله تعالى «جعل الشمس ضياء والقمر نورا» ومثل قوله تعالى «كمثل غيث أعجب الكفار نباته» وأما الثاني: فلأن العقل يشهد باحتياج كل ممكن إلى واجب الوجود في ذاته وصفاته ولو كان له أسباب طبيعية فإنها معدات لا علل فاعلية فالصحة والمرض وساير الأحوال من الله تعالى لأن الأسباب أيضا ممكنات ليست وجودها بأنفسها إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لبطلان التسلسل. ولنا في تفسير الحديث وجه آخر ذكرناه في حواشي الوافي ونشير إليه في حديث أبي سعيد الزهري إن شاء الله تعالى. (ش)

قابلا من قدرته.

(وعزمك بعد أناتك وأناتك بعد عزمك) العزم تأكد ميل النفس إلى فعل من الأفعال (1) والقطع عليه وهو سبب قريب له تابع للإرادة التابعة للشوق التابع للتصور والأناة على وزن القناة اسم من تأنى في الأمر إذا ترفق وتنظر واتأد فيه وأصل الهمزة الواو من الوني وهو الضعف والفتور، وضبطه بعض المحققين «بعد إبائك» بالباء الموحدة التحتانية والهمزة بعد الألف والإباء الامتناع والاستنكاف، فإن قلت: العزم فعل اختياري للنفس فلا يكون فعله تعالى، قلت: نعم ولكن كون النفس قابلة للاتصاف به وبضده من أثر قدرة الله تعالى وهذا القدر كاف هنا، وقد يجاب بأن العزم لو كان فعلا اختياريا للنفس كان مسبوقا بعزم آخر لأن كل فعل اختياري لها سببه القريب هو العزم له، ثم ننقل الكلام إلى ذلك العزم فإما أن يذهب سلسلة العزمات المترتبة إلى غير النهاية أو ينتهي إلى عزم ليس هو فعلا اختياريا لها، والأول باطل لبطلان التسلسل ولحدوث النفس ولعلمنا علما ضروريا بأن ليس لنا فيما يصدر عنا من الأفعال إلا عزم واحد فتعين الثاني وهو المطلوب.

أقول: لو تم هذا لجرى في الإرادة أيضا فإن اعترف به لزم عليه أن لا يكون العبد فاعلا مختارا أصلا إذ لا قدرة له في الإرادة ولا في العزم الواقع بعدها، وإن أجاب بأن الإرادة واحدة وتعلقها متعددة والتعلق أمر اعتباري والتسلسل في الأمور الاعتبارية جايز أو أجاب بأن الإرادة لا تفتقر إلى الإرادة أو بوجه آخر فهو جواب عن أصل الدليل أيضا والمفهوم من كلام بعض الأصحاب، وهو شارح كشف الحق للعلامة الحلي: أن العزم من اختيار العبد والإرادة صادرة عنه بلا اختيار حيث قال أصل القدرة والإرادة مخلوقتان في العبد لكن الفعل إنما يتحقق بالإرادة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع وهي يعني الإرادة الجامعة اختيارية.

بيان ذلك: أنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل تتعلق به الإرادة بلا اختيارنا لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير الإرادة جازمة

ص:25


1- 1 - قوله «إلى فعل من الأفعال» لا ريب أن إرادة الإنسان متوقفة على العلم والتصور وأنه لا يريد شيئا إلا إذا عرف منه منفعة أو دفع ضرر والنفع والضرر بأسبابهما مخلوقان لله تعالى ولو لم يكن الطعام شهيا ولم يكن للإنسان حس يدركه لم يتعلق إرادته بأكله وكذلك ساير ما يريده الإنسان فصح أن يقال إرادة الإنسان من فعل الله تعالى وإن لم يستلزم كونه مجبورا في أفعاله والفرق بين الإرادة والعزم تكلف مستغنى عنه بل لعله غير صحيح لأن الإنسان يتصور أولا فعلا من الأفعال ويتصور كونه مفيدا أو مضرا ولا يسمى ذلك عزما ولا إرادة وقد يحصل بذلك له شوق ونزوع إلى الفعل وهذا أيضا لا يسمى عزما ولا إرادة إذا رأى مانعا من ارتكابه والحركة إليه كالحياء أو الدين يمنعه من الحرام مع شوقه إليه، ثم إن لم يمنعه شئ وقصد ارتكابه وتحريك عضلاته فهو إرادة وعزم وهذه الإرادة حاصلة بمقدمات غير اختيارية هي شروط لا علة تامة حتى يستلزم الجبر. (ش)

موجبة للفعل فإنا قد نريد شيئا ومع هذا نتأني ونكف نفسنا عنه لحياء وحمية، وذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه وعدمه إلى عدم هذا الداعي فإن عدم علة الوجود علة العدم وعدم هذا الداعي إلى عدم الداعي إلى هذا الداعي وهكذا وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لاستناد عدم الكف المعتبر فيها بالاختيار وإن لم يكن نفس الإرادة إرادية ولا يلزم التسلسل المحال انتهى، ولاخفاء في دلالته على ما ذكرنا فإن الإرادة الجازمة هي الإرادة المؤكدة بالعزم والقطع على الفعل فأصل الإرادة اضطرارية والعزم اختياري.

(وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك) الشهوة للشيء حالة فائضة على النفس من المبدء بعد تصور ذلك الشئ وتصور منافعه والكراهة للشيء حالة فائضة عليها بعد تصوره وتصور مضاره كما تجد ذلك عند شهوتك للطعام وكراهته مثلا.

(ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك) الرغبة انبساط النفس وحالتها الفائضة من المبدء عند مشاهدة شئ مرغوب أو تصوره والرهبة يعني الخوف انقباض النفس وحالتها الفائضة عليها عند مشاهدة شئ مؤذ أو تخيله كما تجد ذلك في نفسك إذا رأيت شبحا في مغارة وظننت أنه أسد، ثم ظهر ذلك أنه إنسان صديق لك (ورجاؤك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك) الرجاء كيفية نفسانية فائضة من المبدء بملاحظة نافع شديد النفع واليأس انقطاع الرجاء كما تجد ذلك في نفسك إذا كنت محتاجا إلى الماء للشرب أو الزرع ورأيت سحابا ممطرا، ثم انكشفت وتفرقت أجزاؤه قبل أن يمطر فإنك تجد لنفسك يأسا بعد رجاء من غير أن يكون لك اختيار فيهما.

(وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك) العزوب بالعين المهملة والزاي المعجمة الغيبة والذهاب والبعد يقال: عزب عني فلان من باب منع وضرب إذا غاب وذهب وبعد والخطور الحصول، يقال: خطر أمر بباله وعلى باله خطورا من باب طلب إذا حصل فيه والخاطر اسم فاعل منه بمعنى الحاصل في الذهن وقد يطلق على الذهن كما يقال: أليس في خاطرك كذا، والمراد به هنا هو الشعور والإدراك بقرينة تعديته بالباء وإضافته إلى الفاعل وهو كاف الخطاب ويجوز استعمال الفاعل في المصدر كما يجوز عكسه والمقصود أن شعورك بما لم يكن حاصلا في ذهنك وحصوله في وهمك بعد ما لم يكن وذهاب شئ عن ذهنك بعد ما كان فيه ونسيانك إياه من غير أن يكون لك اختيار فيه دل على أن ذلك بإفاضة مفيض وإزالة مزيل وهو القادر الذي أنت مقهور تحت قدرته وإرادته فقد أشار (عليه السلام) إلى ظهور المبدء القادر (1) بأن هذه

ص:26


1- 1 - قوله «ظهور المبدء القادر» لا بد لمعلم التوحيد أن يدفع هذا الوهم العام أو لا وهو أن كل موجود محسوس وأن ما لا تدركه الحواس فلا حقيقة له ولذلك بدء في سورة البقرة بعد الفاتحة التي هي بمنزلة خطبة الكتاب الإلهي بأول واجب في تعليم الدين وهو قوله تعالى «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب»، يعني بما لا يدخل في الحس فالإيمان بوجود شئ غير محسوس أول الشروط لتحقق الإيمان، واقتبس من الكتاب الإلهي الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فبدء إلهيات الإشارات بدفع هذه الشبهة، فقال: قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن مالا يناله الحسن بجوهره ففرض وجوده محال، ثم شرع في رد أوهامهم وكذلك مبنى شبهة ابن أبي العوجاء أن الله تعالى غير مدرك بالحس فليس بموجود وأن السماء خراب وليس عالم وراء هذا العالم المادي وقد حكى الله تعالى قولهم في كتابه وقال «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» ودفع شبهتهم موقوف على بيان أساس وهمهم وهو أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا لأن الحس في البدن يتأثر بشئ خارج عن البدن والإنسان مجبول على أن يصدق بأن التأثر لا يكون إلا عن سبب موجود مثلا تتأثر العين بالنور فيصدق بوجود المرئي وتتأثر الأذن بأمواج الهواء فيعلم وجود الصوت ويتأثر جلد البدن بغمز الملموس فيصدق بحرارة وبرودة. وأما المجردات كالملائكة والله تعالى فلا يتأثر البدن بوجودهم بمزاحمة وضغط وصدم ولا يصدق بهم لذلك فقال (عليه السلام): إن بدنك يتأثر بموجودات غيبية كما تتأثر حواسك بالجسمانيات ويجب عليك التصديق بها جميعا إذ ملاك الاعتماد على الحس موجود في المجردات أيضا ولذلك خص الكلام بالأحوال الطارية على البدن دون المصالح والحكم وآثار القدرة في الأكوان من السماء والأرض وغيرها وإنما كثر الأمثلة مما رواه الراوي ولم يروه لتسجيل الإحساس بمغلوبية البدن وتأثره أضعاف ما تتأثر الحواس بالمحسوسات وإذا أيقن الإنسان من تأثر يده بالحرارة بوجود نار قريبة منه كيف لا يتيقن من التأثرات العديدة في جميع جوارحه ونفسه وروحه بوجود مؤثر خارج عنه. وإن قيل لعل المؤثر فيها شئ غير الله تعالى قيل في جوابه: هو مؤثر غير محسوس بالحواس الخمس المعروفة ولا بد من الاعتراف بوجوده فيثبت أنه لا يصح إنكار شئ بعلة أنه غير محسوس بالحواس الخمس وهو المقصود هنا ثم يثبت انتهاء الأسباب أياما كانت إلى واجب الوجود تعالى شأنه. (ش)

الصفات النفسانية الفائضة على النفس ليست مستندة إلى الطبيعة لأن الطبيعة لا يصدر منها الضدان ولو في وقتين ولا إلى إرادة النفس إذ لا مدخل لإرادتها فيها كما يظهر بالتأمل والوجدان بل إلى قادر قاهر يفعل بها ما يشاء، وقد اعترف الزنديق به حيث قال (وما زال يعدد علي قدرته التي هي في نفسي) أي آثارها (التي لا أدفعها) أي لا أنكرها ولا أقدر على دفعها (حتى ظننت أنه) أي المبدء لتلك الآثار (سيظهر فيما بيني وبينه) كظهور المحسوسات وإنما لم يذعن به طبعه الدني وذهنه الغبي لسواد قلبه وفساد لبه وزوال استعداده لقبول الحق «ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور».

* الأصل:

3 - حدثني محمد بن جعفر الأسدي، عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي عن الحسين بن

ص:27

الحسن بن برد الدينوري، عن محمد بن علي، عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو - كما تقولون ألسنا وإياكم شرعا سواء، لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت الرجل، ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): وإن كان القول قولنا - وهو قولنا - ألستم قد هلكتم ونجونا؟ فقال: رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو؟ فقال: ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ. فقال الرجل: فإذن إنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس؟ فقال: أبو الحسن (عليه السلام): ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء. قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان، قال الرجل: فما الدليل عليه؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا.

* الشرح:

(حدثني محمد بن جعفر الأسدي) رحمة الله عليه هو محمد بن أبي عبد الله الذي يروي عنه المصنف كثيرا.

قال النجاشي: محمد بن جعفر بن عون الأسدي يقال له: محمد بن أبي عبد الله (عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي) ربما قيل: إن فيه دلالة على أن محمد بن إسماعيل الذي وقع في صدر بعض السند واختلف الأصحاب فيه هو البرمكي لأن المصنف إذا روى عنه بواسطة واحدة جاز أن يروي عنه بلا واسطة أيضا لقرب العهد (1).

(عن الحسين بن الحسن بن برد الدينوري، عن محمد بن علي، عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أيها الرجل أرأيت) أخبرني (إن كان القول قولكم) من أنه ليس لهذا العالم مدبر ولا

ص:28


1- 1 - قوله «لقرب العهد، والصحيح أن محمد بن إسماعيل بن صدر الإسناد الذي يروي عن الفضل بن شاذان هو النيشابوري من أصحاب الفضل كما حققه السيد الداماد (رحمه الله) في الرواشح وذكر البرمكي هنا لا بدل على كونه المذكور مطلقا في صدور الأسانيد. (ش)

لهذا الخلق معاد ولا ثواب ولا عقاب (وليس هو كما تقولون) الهمزة لإنكار النفي أو لتقرير المنفي (وإياكم شرعا) بفتح الشين وسكون الراء أو فتحها ويستوي فيه الواحد والمذكر والمؤنث والاثنان والجمع (سواء) تأكيدا لشرعا يقال: الناس في ذلك شرع أي سواء والمعنى أنا وإياكم متساوون في الأحوال لا فضل لنا عليكم ولا لكم علينا (لا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا) من العقايد المتعلقة بأحوال المبدء والمعاد والحشر والنشر والثواب والعقاب (فسكت الرجل) ولم يجب شيئا لعلمه بالمساواة وعدم إضرار هذه الأمور على هذا التقرير إذ إضرارها إنما يتصور إذا كان هناك رب قاهر طالب لتركها وهم لا يقولون بذلك.

(ثم قال أبو الحسن (عليه السلام) وإن كان القول قولنا وهو قولنا) من أن لهذا العالم مدبرا وعلى الخلق تكليفا يترتب عليه الثواب والعقاب (ألستم قد هلكتم ونجونا) من الهلاك والعقوبات وأمثال هذا الكلام الصادر عن الحكيم من الخطابيات والموعظة الحسنة والمحرضة للقلوب القاسية على سلوك سبيل الاحتياط، وقد قيل «من سلك سبيل الاحتياط فليس بناكب عن الصراط».

(فقال: رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو) الإيجاد الإظفار يقال: أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وكيف سؤال عن الأحوال والكيفيات وأين سؤال عن المكان إذا قلت أين زيد تسأل عن مكانه والمعنى أظفرني بمطلوبي وأوصلني إليه وهو أنه كيف هو وأين هو يعني بين لي كيفيته وأظهر لي مكانه.

(فقال: ويلك إن الذي ذهبت إليه) من أن له كيفا وأينا (غلط) نشأ من فساد عقيدتك وضعف بصيرتك وتقيدك بقيد الحواس وعدم تجاوزك من المحسوسات إلى قدس الحق فشبهته بالخلق وظننت المساواة بينهما فأجريت حكم الخلق عليه وحكمت بثبوت الكيف والأين له (هو أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف) أي جعل الأين أينا بلا أين له أو بلا أين قبله وجعل الكيف كيفا بلا كيف له أو بلا كيف قبله وفيه دلالة على أن المهيات مجعولة (1) أو أحدث الأين والكيف بالجعل البسيط أعني إفاضة الوجود.

ص:29


1- 1 - قوله: «المهيات مجعولة» المهيات مجعولة بالجعل البسيط تبعا لجعل الوجود والوجود مجعول أصالة، وكل من جعل شيئا لا يتعقل أن يكون محتاجا في وجوده إلى ذلك الشئ المجعول وإلا لزم الدور. والأين نسبة الشئ إلى المكان وكل ما هو في المكان فهو محتاج إلى المكان والمكان متقدم عليه، وهذا يدل على بطلان وهم من يقول بقدم المكان وأن الفضاء غير مخلوق كان ثابتا أزلا وأبدا لا يعقل عدمه وفناؤه وأن الأجسام حاصلة فيه وإذا كان كذلك سقط البحث عن كونه متناهيا أو غير متناه لأن وهم من يذهب إلى عدم تناهيه مبني على وهم آخر وهو وجوب وجوده إذ لو لم يكن وجوده واجبا كيف علم وجوده ولم يحس به ولم يدل عليه شئ في بعد غير متناه خارج عن منال حواسنا وإدراكنا. (ش)

(فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية) لأنه كان موجودا قبلهما خاليا عنهما لما عرفت من أنه موجد لهما فلو اتصفت بهما لزم نقصه في ذاته واستكماله بخلقه ولزم أن يتحرك ويتغير من وصف إلى وصف وأن يحتاج إلى خلقه وأن يشوب عالم الوجوب الذاتي بعالم الإمكان وأن يكون جسما أو عرضا لأن ذا المكان والكيف يجب أن يكون أحدهما وهذه اللوازم كلها باطلة في شأنه تعالى (ولا يدرك بحاسة) لتخصص إدراكها بالأجسام وكيفيتها وتنزهه تعالى عن الجسمية ولواحقها ويمكن حمل الحاسة على القوى المدركة كلها لأنه تعالى لا يمكن إدراكه بشئ من أنحاء الإدراك إلا أن التخصيص أنسب بمقام السؤال (ولا يقاس لشئ) لتقدسه عن التشبه بخلقه في الجسمية والكيفية وغيرهما من توابع الإمكان.

(فقال الرجل فإذن أنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس) يريد أن الذي وصفته ليس بموجود إذ كل موجود فهو مدرك بالحواس وهذا بناء على أن الزنادقة لا يحكمون بالوجود إلا على المحسوسات (1) فيجزمون بعدم وجود ما ليس بمحسوس لعدم كونه محسوسا ولا يعلمون أن عدم الإحساس بشئ لا يدل على عدم وجوده.

(فقال أبو الحسن (عليه السلام) ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه) لتقدسه عن نيل الحواس وتنزهه عن دخوله في حيز المحسوسات (أنكرت ربوبيته) للممكنات وافتقار الممكنات إليه في ذواتها وصفاتها وكمالاتها (ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء) لأن مذاهب العقول والأفهام ترتفع إلى كل شئ سواه وطرق الحواس والأوهام ترتقي إلى كل موجود عداه أما إليه فقد قصرتا عن الارتفاع والارتقاء وضلتا في بيداء العظمة والكبرياء، وأيضا كل معقول يمكن أن يدركه العقل ويحده بحد وكل محسوس يمكن أن يناله الحس ويصفه بوصف

ص:30


1- 1 - قوله «إلا على المحسوسات» هذا من أوهى المتمسكات لهم لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود أترى أن الخراطين وأمثالها من الحيوانات التي ليس لها الحواس التامة يجوز لها إنكار النور لعدم القوة الباصرة؟ وقد فتح الله على عقول الإنسان بابا إلى عالم آخر وراء هذا العالم المحسوس وهو الرؤيا الصادقة لمن أنصف من نفسه ونظر بعين الاعتبار إذ قد يتفق له أن يرى أمرا غائبا لم يأت بعد ولم يوجد مثل موت أحد وولادة مولود وإعلاء منصب ووجدان مال بحيث لا يمكن أن ينسب إلى الصدفة ويقع ما رأى في منامه كما رأى ولا يمكن أن يكون هذا باطلا محضا إذ وقع كما رأى فهو ثابت في عالم غير محسوس وفي علم موجود عاقل يعرف ما سيأتي قبل أوانه وليس هذا العاقل العارف بالغيوب من موجودات عالمنا هذا إذ ليس فيهم من يعرف الغيب وليس من تجسم خيالاتنا لأنه حقيقة كما في رؤيا فرعون لسني القحط وقد اهتم الإنسان منذ أول الخليقة باكتشاف تأويل الرؤيا لأنهم عرفوا كون الرؤيا انذارا بشئ سيقع فإذا ثبت وجود عالم غير محسوس وموجود غير محسوس في ذلك العالم ثبت أن ذلك الموجود العالم بالغيوب أعلى وأشرف من موجودات عالمنا هذا وأن نفس الإنسان مرتبطة بذلك في الجملة. (ش)

والرب ليس بمحدود ولا موصوف وأيضا كل محسوس لكونه جسما وجسمانيا مفتقر في الوجود وتوابعه إلى الغير والرب غني من الغير من جميع الوجوه فوجب أن يكون غير مدرك ولا محسوس، فالتنزه عن الإدراك والإحساس الذي جعلته دافعا للربوبية مصحح لها عندنا.

(قال الرجل: فأخبرني متى كان) لما عرف الرجل اندفاع سؤاله من جهة الكيف والأين استأنف سؤالا آخر من جهة «متى» وهو سؤال عن الزمان وحصول الشئ فيه، فقال: أخبرني عن أول زمان كونه ووجوده وهذا أيضا غلط نشأ منه لظنه أنه يدخل في وجود الرب متى تشبيها له بالزمانيات.

(قال أبو الحسن (عليه السلام) إني لما نظرت إلى جسدي) هكذا في النسخ التي رأيناها وإنما لم يجب (عليه السلام) عن هذا السؤال وأشار إلى أدلة وجوده لأن الجواب عنه يعلم من الجواب عن السؤال السابق، والظاهر أنه سقط في البين جواب وسؤال والذي يدل على السقوط والساقط جميعا ما رواه الصدوق من هذه الرواية في كتاب التوحيد بعد هذا السؤال.

«قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان (1) قال الرجل فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن (عليه السلام) إني نظرت إلى جسدي» وهذا الجواب الساقط بحسب الظاهر من باب المعارضة بالمثل وبناؤه على ما هو الحق الصحيح من أن كل شئ له وجود حادث، له عدم سابق فكما يصح أن يقال متى كان صح أن يقال متى لم يكن أما ما لم يكن له وجود حادث لم يكن له عدم سابق فكما لا يصح أن يقال متى لم يكن لا يصح أن يقال: متى كان، فمتى لا يصح تعلقه بالوجود إلا إذا صح تعلقه بالعدم وأما بحسب التحقيق فالمقصود أنه متى لم يكن ربي حتى يقال متى كان، كان ربي قبل القبل في أزل الآزال وبلا قبل ولا غاية فلا يصح أن يقال متى كان ومتى لم يكن ولا تجري فيه مقولة متى وإنما يجري في الحوادث والزمانيات.

ولما عرف الرجل اندفاع سؤاله عن مقولة متى أيضا سأل عن الدليل على وجوده بقوله «فما الدليل عليه» أي على وجود الرب.

قال (عليه السلام) لإثبات وجوده بالدليل الإني المفيد لليقين «إني لما نظرت إلى جسدي» الذي هو البناء العظيم والعالم الكبير لاشتماله على أعضاء مخصوصة وأركان معينة وقوى معلومة وعروق ساكنة ومتحركة على نضد عجيب وتركيب غريب لمصالح كثيرة ومنافع جليلة التي يعجز عن تحريرها

ص:31


1- 1 - قوله «متى كان، واجب الوجود عين حقيقة الوجود ولا يمكن سلب الوجود عن الوجود ولا يقال في حقه متى كان لأنه تعالى لم يتطرق احتمال العدم فيه حتى يسأل عن زمان وجوده وعلته كما لا يتطرق احتمال كون البياض أسود والنور ظلمة ولا يقال متى صار النور نورا لأنه لم يكن النور ظلمة قط بل كان النور معدوما وصار موجودا وكان البيت مظلما فصار منيرا وكذلك لا يقال لم يكن الوجود وجودا وهكذا. (ش)

لسان البيان وعن تحديدها عقول أصحاب العرفان (ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ورفع المكاره عنه) المكاره جمع المكروه وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه والمكره بالضم والفتح المشقة مثل المصايب والنوايب الواردة على الإنسان.

(وجر المنفعة إليه) النفع ضد الضر يقال: نفعته بكذا فانتفع والاسم المنفعة (علمت أن لهذا البنيان) المشتمل على عجايب الخلقة ولطايف الفطرة (بانيا) بناه على عمد وتدبير وعلم وتقدير (1) وفيه استعارة مصرحة ترشيح (فأقررت به) أي بوجوده وربوبيته وقدرته ألا ترى أنك إذا رأيت بناء مركبا من آلات مثل الطين والحجر والجص والآجر والخشب ونحوها جزمت بأن له بانيا بناه وإن لم تشاهده ونسبت من قال: إنه حدث بنفسه ووجد من قبل ذاته إلى السفه والجنون. وفي كتاب درة التاج إنه كان لبعض الملوك شك في وجود الصانع وتنبه به وزيره وكان عاقلا فأمر ببناء قصور عالية وإجراء مياه جارية وإحداث بساتين عامرة في مفازة من غير أن يعلم الملك ذلك ثم ذهب بالملك إلى ذلك المقام فلما رآه الملك قال: من بناه قال الوزير: حدث تلقاء نفسه وليس له بان، فغضب عليه الملك فقال الوزير: يطول عمرك ايها الملك إن كان وجود هذا البناء بلا بان ممتنعا فكيف يصح وجود هذا البناء العظيم أعني الأرضين والسماوات وما فيهن من العلويات والسفليات بلا فاعل؟ فاستحسن الملك وتنبه وزال عنه الشك (2).

ص:32


1- 1 - «قوله وعلم وتقدير» إن قيل قد علمنا أن لبدننا خالقا غيرنا إذ لا يمكننا أن نزيد في بدننا وننقص عنه ونجر إليه منفعة أو ندفع عنه ضررا فعلمنا أن فاعل ذلك في بدننا غيرنا وأما أنه فاعل صاحب علم وتقدير فلم يعلم من عجزنا عنه فلعله طبيعة الحر والبرد والهواء والماء وطبيعة الكل المحيطة بنا كما يقول به أصحاب الطبائع ، قلنا: هذا الاعتراض مبني على وهم غلط سار في أكثر الناس وهو أنا نحتاج إلى واجب الوجود في أمور لا علة طبيعية لها وهذا الوهم مما تصالح العوام عليه سواء كانوا من الملاحدة أو من المتدينين فإذا علم أحدهم السبب الطبيعي للمطر والسحاب والبرق والنبات وتكون النطفة وغير ذلك جعلوه علقة واحتج الملحد على الموحد بأن هذه الأسباب تغني عن علة غيرها ويحتج الموحد العامي بإنكار هذه الأسباب مطلقا حتى يمكن نسبتها إلى الله تعالى والحق أن جميع ما يقع في العالم فهو بقدرة الله تعالى، وتأثيره والطبيعة آلة كالمنشار في يد النجار مؤثرة بالتسخير جعلها الله تعالى واسطة لمصالح يعلمها والقول بتأثير الطبيعة ولكن بتسخير الله تعالى صريح القرآن الكريم وأظن أني رأيت في مروج الذهب «قال أهل الديانات: أن كل ما لا يعلم له في الطبيعة مجري فهو فعل إلهي يدل على توحيد الله عز وجل وحكمته وليس للجزر والمد علة في الطبيعة البتة). وهذا غلط إذ كل ما يعلم له في الطبيعة علة فهو يدل على توحيد الله وحكمته أيضا وللجزر والمد علة طبيعية. (ش)
2- 1 - قوله «وزال عنه الشك» استدلال حسن من تتبع صفات الفعل على صفات فاعله وإذا احتمل وقوع الشئ على وجوه كثيرة جدا واتفق واحد منها بصفة على وفق حكمة ومصلحة وغرض تيقن الإنسان أن فاعله مريد قادر والمتفكرون لما رأوا النظم والتدبير في هذا العالم عرفوا منه قدرة فاعله وحكمته. وفي توحيد المفضل «واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والاتقان على غاية الحسن والبهاء» انتهى وكذلك رأينا في كتب الإفرنج في تفسير كلمة قوسموس والآن يطلقون على علم الهيئة قوسمغرافي وقوسموس يدل في اللغة اليونانية على الزينة والنظام فأطلق على العالم بالمناسبة واستشهاده (عليه السلام) باللغة اليونانية وتطابق فلاسفتهم يدل على جواز الاهتمام بعلومهم والنظر فيها. (ش)

(مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته) (1) في الهواء مع كمال العظمة شرقا وغربا على أنحاء مختلفة من البطوء والسرعة وأحوال متنسقة من الذهاب والرجعة وهذا الدوران وما فيه من المنافع الكثيرة والمصالح الجليلة والأسرار الخفية التي تعجز العقول عن إدراك تفاصيلها ويحتاج في معرفة بعضها إلى دقة تفكر ولطف تدبر دليل واضح على وجود الصانع وحسن تدبيره وثبوت القادر ولطف تقديره ألا ترى أن من أنكر أن يكون دوران الدولاب الأصغر المركب من الخشبات لإصلاح الحديقة مستندا إلى صانع ومحرك له وقال: إنه وجد بنفسه وتحرك بذاته، ويزجره كل سامع أشد زجرة وينكر قوله أشد إنكار ويصر على تجهيله أشد إصرار وما ذلك إلا لأن دلالته على صانعه ومحركه ظاهرة بالضرورة وإذا كان الحال في هذا الدولاب ما عرفت فدلالة دوران ذلك الدولاب الأعظم الذي يدور على بسيط الأرض لإصلاح هذا العالم على وجود الصانع أظهر وعلى ثبوت

ص:33


1- 2 - قوله «دوران الفلك بقدرته» قد أقر الشارح في هذا المقام بما أنكره سابقا على الحكماء وهو بعيد منه وجملة القول أن الحركة المستديرة عندهم إرادية البتة إذ لا يمكن أن يقتضي الطبيعة توجها إلى شئ وإعراضا عنه وهذا مجبول في فطرة الإنسان فإذا رأى رحى أو دولابا يدور مستمرا من غير علة محركة نسبه إلى جن أو ملك كما ذكرنا سابقا ولذلك قالوا: إن حركة السماء بإرادة محرك سموه نفسا فلكية أو عقلا ونسبها أهل الشرع إلى ملك أو ملائكة مأمورين من الله تعالى لإدارة الأفلاك وهذا صحيح سواء قلنا بكون الأرض أو بحركتها كما في الهيئة الجديدة أو على قول بعض القدماء بخلاف الحركة المستقيمة يمكن أن تكون بالدفع والجذب أو بالميل والنفرة ولم يخف هذا الأصل على فلاسفة الإفرنج في عصرنا مع عدم اهتمامهم بهذه المسائل فإنهم لما رأوا حركة السيارات حول الشمس ولم يمكنهم أن ينسبوا الحركة المستديرة إلى فاعل واحد طبيعي التزموا بأن علتها مركبة من قوة جاذبة في الشمس لا تترك السيارات تذهب بعيدا وعلة محركة في نفس السيارات تحركها على الاستقامة إن تركها الشمس، فدورانها نظير دوران الشعلة الجوالة والمعلاق إن رمى الحجر منه بعد الدوران ذهب مستقيما، ويبقى السؤال في علة الحركة المستقيمة في الكواكب إذ ليست إلى جهة واحدة معينة البتة فهي في حكم المستديرة لا يمكن أن يستند إلى طبيعة فلا بد أن يستند إلى قاسر بأن يدفعها لا بأن يجذبها والقاسر غير ممكن أن يؤثر إلا فيما له ميل طبيعي ويجرى دليل القدماء في إثبات الإرادة في حركة الكواكب فيه أيضا وصرح بعضهم بأن الحركة لما أودع الخالق فيها من القوة المحركة. ولذلك تتمة سننبه عليها إن شاء الله تعالى. (ش)

المحرك له أولى وأجدر (وإنشاء السحاب) أي إيجادها وتحريكها في جو السماء إلى جهات مختلفة وبلاد متباعدة وهي حاملة للماء لإحياء الأرض وإنبات الزرع وغيرهما من المنافع التي لا تخفى على أرباب البصاير وأصحاب الضماير.

(وتصريف الرياح) شرقا وغربا جنوبا وشمالا وهو سبب عظيم لبقاء الحيوان والنبات واستعداد الأمزجة للصحة والنمو والثبات حتى قال كثير من الأطباء: إنها تستحيل روحا حيوانيا، ومن جملة المنافع أنها تحمل السحاب المترعة بالماء بين الأرض والسماء وتسوقها على وفق الحكمة البالغة إلى الأقطار لتصيب الأرض الميتة وتملأ العيون والأنهار.

(ومجرى الشمس والقمر والنجوم) (1) جريا مخصوصا في منازلها ومداراتها إلى جهات مختلفة تارة إلى الشمال وتارة إلى الجنوب وعلى أحوال متغايرة من السرعة والبطوء والإقامة والاستقامة والرجعة وعلى أوضاع متباينة من التقابل والتقارن والتربيع والتسديس إلى غير ذلك من آثار القدرة التي يتحير فيها أولو الأبصار يقولون (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).

(وغير ذلك من الآيات العجيبات) العلوية والسفلية (المبينات) أي الكاشفات المظهرات لوجود الصانع وقدرته وحسن تدبيره إن قرئت بكسر الياء، أو المكشوفات الموضحات في العقول أو في العلوم الباحثة عن الأمور السماوية (2) والأرضية إن قرئت بفتحها (علمت أن لهذا مقدرا منشئا) قدره على عمد وتدبير، وأنشأه على علم وتقدير، والعجب أنك ترى هذا الصنع العجيب والإبداع الغريب ولا تدهشك قدرة صانعه وعظمته ولا تحيرك جلالة مبدعة وحكمته.

ص:34


1- 1 - قوله «إنشاء السحاب» نسبته إلى الله تعالى باعتبار إيجاده لا ينافي ارتباطه بما يذكر من علله الطبيعية فإنها مسخرات بأمر الله تعالى وكذلك تصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر ولا يخفى أن الناس لا يعلمون العلل الطبيعية لأكثر هذه الأمور على التحقيق ولكن يجب الكلام في إثبات التوحيد على فرض علمهم لا على فرض جهلهم فلا يجوز أن يقال للطبيعي إذا لم تعلم علة الريح والزلزلة والمطر أو إذا كان ما ظننته علة باطلا فيجب عليه الاعتراف بالله تعالى إذ لا نريد تخصيص قدرة الله تعالى وتأثيره بما لا نعلم له علة بل نريد تعميمها لكل شئ علمنا سببه الطبيعي أو لم نعلم كما ذكرنا ولهذا الخبر زيادة في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) وعيون أخبار الرضا (عليه السلام). (ش)
2- 2 - قوله «العلوم الباحثة عن الأمور السماوية» وهذا ترغيب في تعلم علوم الكون وما يتوهم العامة أن الدين منع من تعلمها واضح البطلان بل إنما أمر به في الآيات الكريمة والروايات وليكن الغرض من التعلم النظر والتدبر ومعرفة حكمته تعالى في كل شئ. نعم قال بعض علمائنا عند ذكر العلوم الطبيعية: لم يكلف الإنسان الخوض فيها والتفكر في حقائقها ولو كان مما ينفع المكلف لم يهمل صاحب الشرع بيانها وقد ورد في كثير من الأخبار النهي عن تكلف ما لم يؤمر المرء بعلمه انتهى. وقول الواحد منهم لا يجعل حجة على الكل. (ش)
* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن إسحاق الخفاف، أو عن أبيه، عن محمد ابن إسحاق قال:

إن عبد الله الديصاني سأل هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ فقال: بلى، قال أقادر هو؟ قال: نعم قادر قاهر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام: النظرة فقال له: قد أنظرتك حولا، ثم خرج عنه، فركب هشام إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له: فقال له: يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): عما ذا سألك؟ فقال: قال لي كيت وكيت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) يا هشام كم حواسك؟ قال: خمس قال: أيها أصغر؟ قال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها فقال له: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى، فقال:

أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إن الذي» يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منه قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يا ابن رسول الله وانصرف إلى منزله.

وغدا عليه الديصاني فقال له: يا هشام إني جئتك مسلما ولم أجئك متقاضيا للجواب فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب. فخرج الديصاني عنه حتى أتى باب أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له فلما قعد قال له؟ يا جعفر بن محمد! دلني على معبودي؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك؟ قال: لو كنت قلت له عبد الله كان يقول: من هذا الذي أنت له عبد، فقالوا: له عد إليه وقل له:

يدلك على معبودك ولا يسألك عن اسمك، فرجع إليه فقال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): اجلس، وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة فناوله إياها فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني، هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟ قال: فأطرق مليا ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأنك إمام وحجة من الله

ص:35

على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن إسحاق الخفاف أو عن أبيه عن محمد بن إسحاق) الشك من المصنف (قال: إن عبد الله الديصاني) الديصاني بالتحريك عن داص يديص ديصا إذا زاغ ومال، ومعناه الملحد (1).

(سأل هشام بن الحكم فقال: ألك رب؟ فقال بلى قال: أقادر هو؟ قال: نعم قادر) على ما يريد ولا يعجزه شئ (قاهر) يقهر الممكنات بما يشاء من الإنفاذ فيها ولا تطيق الأشياء الامتناع منه، فإن قلت: نعم قد وقع في موضعه لأنه للتصديق والإثبات لما بعد الهمزة أما بلى فلا لأنه للايجاب بعد النفي ولا نفي هناك، قلت: النفي أعم من أن يكون صريحا أو مفهوما من سياق الكلام كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل والثاني هنا متحقق لأن السائل كان منكرا للرب ووجوده.

(قال: يقدر أن يدخل الدنيا) أي السماوات والأرضين وما بينهما (كلها البيضة) أي في البيضة بحذف حرف الجر منها ونصبها بالمفعولية (لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا) في محل النصب على الحالية.

(قال هشام: النظرة) أي أطلب منك النظرة وهي بفتح النون وكسر الظاء الإمهال والتأخير يقال أنظره أي أمهله وأخره واستنظره أي استمهله (فقال له قد أنظرتك حولا) أي إلى حول قال ذلك لظنه بصعوبة الجواب.

(ثم خرج فركب هشام إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له فقال له يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسئلة ليس المعول فيها) المعول بكسر الواو الصارخ والأظهر أنه بفتح الواو

ص:36


1- 1 - قوله «ومعناه الملحد» وعبر بعين هذه العبارة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول أخذها من الشارح إلا أنه لم ينسبه إليه والاشتقاق الذي ذكراه في لفظ الديصاني غير مطابق للواقع والصحيح أن ديصان اسم رجل وقد نقل السيد المرتضى (رحمه الله) في أماليه قوله مساور: لو أن ماني وديصانا وعصبتهم * جاؤوا إليك لما قلناك زنديق أنت العبادة والتوحيد مذ خلقا * وذا التزندق نيرنج مخاريق وقال أصحاب الملل والنحل إن ديصان اسم رجل وهو صاحب مذهب قريب من مذهب ماني وكانا يقولان بأصلين النور والظلمة وبينهما فرق في بعض الفروع. وذكرهم ابن النديم، وقال: ديصان اسم نهر كان ولد صاحب هذا المذهب عنده. وكان من مشاهيرهم أبو شاكر الديصاني ذكره ابن النديم، أيضا وربما يروى هذا الحديث الذي نسبه في الكتاب إلى عبد الله عن أبي شاكر والله العالم وذكرنا شيئا فيهم في حواشي الوافي من صفحة 8 إلى 22 من المجلد الثاني وكأن الشارح والمجلسي وغيرهما لم يطلعوا على أخبارهم ومذهبهم. (ش)

مصدر ميمي بمعنى الاعتماد والاستعانة من عولت به وعليها إذا استعنت أي ليس الاعتماد والاستعانة في تلك المسألة لصعوبتها.

(إلا على الله وعليك فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) عما ذا سألك فقال: قال كيت وكيت) هي كناية عن الأمر والقول في النهاية قال أهل العربية أصلها كية بالتشديد والتاء فيها بدل من إحدى الياءين والهاء التي في الأصل محذوفة وقد تضم التاء وتكسر.

(وقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام كم حواسك قال: خمس) هي الباصرة والسامعة والشامة والذائقة واللامسة يدرك بها المبصرات والمسموعات والمذوقات والملموسات.

(قال: أيها أصغر؟ قال الناظر قال: وكم قدر الناظر؟ قال: مثل العدسة أو أقل منها فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى؟ فقال أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري) الدور بضم الدال وسكون الواو جمع الدار وهي المنازل المسكونة والمحال وقد يطلق على القبايل المجتمعة في محلة مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل ويمكن أن يقال: إن إطلاقها على المحلة من باب الاستعارة لأن المحلة جامعة لأهلها كالدار كما يشعر به كلام صاحب المغرب، والبر خلاف البحر ويجمع على براري مثل صحاري بفتح الراء على الأفصح.

(وجبالا وأنهارا فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة وأقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة فأكب هشام عليه) أي أقبل إليه أو ألقى نفسه عليه.

يقال: كبه بوجهه أي صرعه أو فأكب هو على وجهه. ومن النوادر أن يكون الثلاثي المجرد للتعدية وبناء الإفعال منه للزوم.

(وقبل يديه ورأسه ورجليه) ابتهاجا وسرورا وتعظيما وقضاء لحق التعليم والإرشاد (وقال حسبي) أي يكفيني (هذا) في الجواب عن سؤاله (يا ابن رسول الله وانصرف إلى منزله وغدا إليه) أي جاءه غدوة في أول النهار.

(فقال: يا هشام جئتك مسلما) أي لأسلم عليك (ولم أجئك متقاضيا للجواب) طالبا.

(فقال له: هشام إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب) ها بالقصر وهاء ساكنة الألف وهاء بمدها وفتحها وهاك كلها اسم فعل بمعنى خذ ولهذا الجواب وجهان.

أحدهما وهو المقصود انطباع صورة المرئي في الجليدية على نحو الوجود الظلي كما هو مذهب الطبيعيين من أن الإبصار بالانطباع.

وثانيهما دخول عين المرئي المتقدر بالمقدار الكبير فيها من غير أن يصغر أحدهما أو يكبر

ص:37

الآخر وهذا محال والمحال لا يتعلق به القدرة وعدم تعلقها به لا يوجب العجز كما يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد باسناده عن عمر بن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا وتكبر البيضة؟ قال:

«إن الله لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا تكون» يعني أن الله لا يعجز عن شئ من الممكنات والذي سألتني عنه محال لا يتعلق به القدرة وعدم تعلقها به لا يوجب العجز والنقص إذ لا نقص فيها وإنما النقص في المحال لعدم كونه قابلا للوجود.

فإن قلت: الديصاني سأل عن قدرته على إدخال عين المقدار الكبير في الصغير لا على إدخال صورته فيه فليس هذا الجواب جوابا عنه قلت: الجواب صحيح واقع على وفق الحكمة والمقام.

بيان ذلك أن الديصاني لما كان منكرا لوجود الرب القادر وكان غرضه من هذا السؤال إلزام القائلين بوجوده فلو أجيب بأنه يقدر على الإدخال العيني كان الجواب غير مطابق للواقع لكون هذا الإدخال محالا فلم يكن له مصداق في المحسوسات والسائل لا يحكم إلا بما فيها ولو أجيب بأنه لا يقدر عليه لأنه محال وعدم تعلق القدرة لا يوجب العجز كما أجاب به أمير المؤمنين (عليه السلام) رسخ بذلك عدم قدرته على الإطلاق في ذهنه وازداد جهله وحصل غرضه على زعمه (1) فالحكمة والمقام يقتضيان أن يجاب بجواب متشابه مجمل له وجهان يصح باعتبار أحدهما.

ثم السائل لما عرف من هذا الجواب قدرته على إدخال كبير المقدار في صغير المقدار لم يكن له الإقدام على الإنكار ولم يكن عارفا بحقيقة الأبصار ولا فارقا بين عين المرئي وصورته سكت ولم

ص:38


1- 1 - «غرضه على زعمه» قلنا في غير هذا الموضع: إن لبعض المعاني لوازم عرفية يتبادر الذهن منه إليها وإن لم تلزمه عقلا وقد مثل لذلك أهل المنطق بالحاتم والجود ومثله الياقوت يتبادر منه اللون الأحمر وإن وجد منه قسم أصغر أو أبيض ومخلوقية العالم يتبادر منه الحدوث وقدمه يتبادر منه الاستغناء عن المؤثر وإن لم يلزمه عقلا وقد يعكس فيلزم شئ عقلا ولا يلزمه عرفا مثل الجسمية فإنها تستلزم الحدوث عقلا لا عرفا ولذلك يمكن للناس أن يتصوروا الواجب تعالى جسما حتى يثبت عليهم بالبرهان أنه ليس بجسم وعلى العالم أن يلاحظ ذلك ولا يتكلم بشئ يذهب ذهن السامع منه إلى خلاف مراده باللزوم والعرف، فإن قال أحد إن العالم قديم زمانا ذهب ذهن المستمع إلى أنه غير مخلوق وإن قال: إن الله تعالى تحت قدمي ذهب الذهن إلى قصد التوهين وإساءة الأدب، وإن قال إنه تعالى فوق رأسي لم يذهب إلا إلى التعظيم وكلاهما باطلان بمعنى التحيز وصحيحان بمعنى استيلاء القدرة والقرب بالعلم أيضا وليس كل أحد يفرق بين الممكن والمحال فيقولون إن صعود الجسم الثقيل إلى فوق محال وفلق البحر لموسى (عليه السلام) محال وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص محال وإن قيل لهم إن قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال ذهب ذهنهم إلى جميع هذه الأمور فأنكروا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فلا بد أن يعرفهم أولا معنى المحال وإثبات أن هذه أمور ممكنة ثم لا بأس بأن يقال قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال إذا فرق بين إحياء الموتى وإدخال العالم في بيضة. (ش)

يقل مرادي غير ما أردت من هذا الجواب وقد وجه سيد الحكماء الإلهيين جوابه (عليه السلام) بوجهين آخرين أحدهما أن الذي يقدر أن يدخل ما تراه العدسة لا يصح أن ينسب إلى العجز ولا يتوهم فيه أنه غير قادر على شئ أصلا وعدم تعلق قدرته بإدخال الدنيا في البيضة من غير أن تصغر تلك وتكبر هذه ليس من تلقاء قدرته وقصور فيها ولا من حيث أنه ليس قادرا على شئ بل إنما ذلك من نقصان ما فرضته حيث أنه محال ليس له حظ من الشيئية والإمكان ولو تصح له حظ منهما لكان تعلق القدرة به مستمرا كتعلقها بكل شئ وثانيهما أن ما يتصور من إدخال الدنيا في البيضة من غير أن تصغر تلك وتكبر هذه إنما هو بحسب الوجود الانطباعي والله سبحانه قادر على ذلك حيث أدخل ما تراه في الجليدية وأما ذلك بحسب الوجود العيني فليس هو شيئا يتصور ويعبر عنه بمفهوم أصلا إنما الشئ والمفهوم منه هو المعبر به فقط لا المفروض المعبر عنه.

وقال بعض المحققين رفع الله تعالى قدره (1) في توجيه الجواب: أن الديصاني سأل أنه هل يقدر ربك على إدخال الكبير في الصغير من غير التفات إلى إدخال عين الكبير أو صورته وأنه هل لهذا الإدخال مصداق في الخارج فأجاب (عليه السلام) بأن لهذا النحو من الإدخال مصداقا فيه وهو إدخال الصورة المحسوسة المتقدرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلي في الحاسة ولا استحالة فيه إذ كون الصورة الكبيرة فيها بالوجود الظلي لا يوجب اتصافها بالمقدار الكبير وإنما يوجب اتصافها به

ص:39


1- 1 - «رفع الله قدره» هو الميرزا رفيعا النائيني (قدس سره) وقبره في أصفهان في المقبرة المعروفة بتخت فولاد والآن واقع في محطة الطيارات. واعلم أن انطباع العظيم في الصغير في الصورة المرئية والمتخيلة من مشكلات الفن وفي شرح الإشارات نقل عن الفاضل الشارح مما اعترض به على القول بالخيال إن انطباع ما يراه الإنسان طول عمره في جزء من الدماغ يقتضي أما اختلاط الصور أو انطباع كل واحد في جزء هو في غاية الصغر وأجاب الطوسي (رحمه الله) بأنه استبعاد محض وذلك لقياس الأمور الذهنية على الخارجية انتهى. وأما صدر المتألهين فقد قال: أما كون تلك الصور العظيمة منطبعة في جزء من الدماغ فنحن ننكره غاية الإنكار إذ قد أقمنا البرهان على كون الصور الخيالية غير موجودة في هذا العالم. انتهى وما ذكره رفيعا (رحمه الله) من أن الكبير منطبع في الصغير بوجوده الظلي لا بوجوده العيني فمفاده أن انطباع الكبير في الصغير ممكن في الجملة وهو غير معقول لنا إلا بأن يقال ما نراه كبيرا ليس حالا في جزء صغير من البدن بل هو موجود مستقل عند النفس والذي ينطبع في جزء صغير يكبر في نظر النفس كما نرى بالآلات المصنوعة في زماننا لرؤية الصغير كبيرا ويرجع حاصله إلى أن المنطبع في آلة الحس صغير والمرئي كبير فينتج بالشكل الثاني أن المرئي ليس بمنطبع فإن قيل: إن الكبير المرئي ليس بموجود وإنما الموجود هو الصغير المنطبع في الآلة وأخطأ الحس إذا رأى الشئ على غير صفته الحقيقية قلنا في خطأ الحس أيضا كالدائرة المضيئة في الشعلة الجوالة لا بد أن يقال بوجود ما نراه في صقع من أصقاع النفس وإن لم يكن موجودا في الخارج فلا محيص عن قول صدر المتألهين من تجرد هذه الصور وإن كانت الآلات الجسمانية معدة. (ش)

إدخال المتقدر بالمقدار الكبير فيها بالوجود العيني ولما كان منظور السايل ما يشمل هذا النحو من الإدخال ولم يكن نظره مقصورا على الإدخال العيني لم يقل بعد ما سمع الجواب: مرادي الإدخال العيني والإدخال في الحاسة ليس من هذا القبيل فيتأمل.

(فخرج الديصاني عنه حتى أتى باب أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فإذن له فلما قعد قال له يا جعفر بن محمد دلني على معبودي) الذي عرفت قدرته أو إستحق العبادة مني بزعمك أو وجب علي عبادته إن علمت وجوده.

(فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما اسمك; فخرج عنه ولم يخبره باسمه فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك قال: لو كنت قلت له: عبد الله كان يقول من هذا الذي أنت له عبدا) وهذا دفع لما أنا فيه ولا مفر لي عنه (فقالوا: عد إليه وقل له يدلك على معبودك ولا يسألك عن اسمك فرجع إليه فقال له: يا جعفر بن محمد دلني على معبودي ولا تسألني عن اسمي فقال له أبو عبد الله (عليه السلام):

اجلس وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا غلام ناولني البيضة فناوله إياها فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني هذا حصن مكنون) أي مستور ما فيه أو مصون من جميع جوانبه لا فرجة فيه ولا باب له من كننت الشئ أي سترته وصنته وإنما استدل (عليه السلام) على وجوده الصانع بالجزئي المحسوس لأنه أقرب إلى فهم المخاطب ولذلك شاع في تفهم المطالب العالية ذكر الأمثلة الجزئية ولأن المخاطب كان زنديقا والزنادقة لا يحكمون إلا في المحسوسات ولا يقبلون إلا ما يدركون بحواسهم.

(له جلد غليظ) كسور الحسن لحفظه عن تطرق الفساد إليه بسهولة (وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق) لمنع المايع الذي فيه من السيلان إن وقع كسر ما في الجلد الغليظ ولمنافع أخرى يعرفها أرباب البصاير.

(وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة) الذهب مؤنث معنوي لأن تصغيره ذهيبة والتاء في ذهبة على نية القطعة منها (وفضة ذائبة) ذاب الشئ يذوب ذوبا وذوبانا نقيض جمد وإذا به غيره وفضة مذوبة وإن كانت أنسب ليكون إشعارا بصدور الذوب عن المبدء لكن قال فضة ذائبة لرعاية المناسبة مع قوله ذهبة مايعة وإطلاق الذهبة والفضة هنا على سبيل التشبيه والاستعارة وإنما اعتبر الميعان في الذهبة والذوبان في الفضة مع أن الأولى أن يعتبر الذوبان فيما يشبه بالذهبة والميعان فيما يشبه بالفضة لأن الميعان أنسب بالذهبة والذوبان أنسب بالفضة بالنظر إلى المعنى الحقيقي إذ الذهب ألين من الفضة والفضة أجمد وأصلب من الذهب وعلى هذا فذكر الميان والذوبان ترشيح للاستعارة لا تجريد.

ص:40

(فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة) مع أن تقارن المايعين وتلاقيهما يقتضي اختلاط كل منهما بالآخر (فهي على حالها) أي مصونة منتظمة ومتقنة غير خارجة عما فيه صلاحها. (لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها) أخبرته بكذا وخبرته بمعنى فالأصل في الإخبار والتخبير التعدية إلى المفعول الثاني بالباء وقد شاع التعدية أيضا بعن فعن هنا في موضعها أبو بمعنى الباء لأن الحروف الجارة قد يجيء بعضها في موضع بعض، ويحتمل أن يكون بمعنى المجاوزة كأنة جعل الخارج منها صلاحها تاركا بحالة وجاوزه إلى خارج يخبره به (ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها) في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي «عن إصلاحها وعن إفسادها» وهاتان الفقرتان ناظرتان إلى قوله «حصن مكنون» يعني لم يخرج من البيضة موجود مصلح لها فيخبرك عن صلاحها الناشي منه ولا دخل فيها موجود مفسد لها فيخبرك بعد خروجه عن فسادها الناشي منه وزوالها عن نظامها، والمقصود نفي أن يكون صلاحها وفسادها مستندين إلى شئ من أجزاء هذا العالم ليثبت أنهما مستندان إلى رب قادر ليس بجسم ولا جسماني (1) ولقد أعجبني نسبة الإصلاح إلى ما يخرج منها ونسبة الإفساد إلى ما يدخل فيها لأن هذا شأن أهل الحصن الحافظ له وحال الداخل فيه بالقهر والغلبة.

(لا يدرى أللذكر خلقت أم للأنثى تنفلق عن مثل ألوان الطواويس) ضمن تنفلق معنى الكشف

ص:41


1- 1 - قوله «ليس بجسم ولا جسماني» ما ذكره الشارح لا يفي بتفسير الحديث ولا ينطبق على كلام الإمام (عليه السلام) إلا بتكلف لأنه (رحمه الله) لم يكن يعرف مذهب الديصانية حتى يتنبه لنكات احتجاج الإمام (عليه السلام) في الرد عليه وقد ذكرنا في حاشية الوافي في الصفحة 14 من المجلد الثاني شيئا في ذلك وحاصله أن مذهب الديصاني أن النور والظلمة اختلطا بنفسهما من غير أن يختار ذلك فاعل غيرهما وأن تكون الأشياء وحصولها باختلاط النور والظلمة وأن الميل إلى التركيب من مقتضى ذواتها فاختار (عليه السلام) البيضة إذ يتكون فيها الفرخ باعتقاد هؤلاء من اختلاط النور والظلمة وبياض البيض وصفرته نفسهما اختلاط منهما أيضا وإذا كان الميل إلى التركيب والاختلاط واجبا في العالم الكبير والفضاء الواسع بين النور المحض والظلمة المحضة مع شدة التضاد كان في حصن مكنون ذي فضاء ضيق كالبيضة أوجب وإذا كان مقتضى طبيعة النور والظلمة الاختلاط والتجاذب امتنع أن يقتضيا شيئا يخالف مقتضى طباعهما وهو إيجاد الجلد الرقيق، فإن قيل: إن الفرخ إنما يتكون باختلاط النور والظلمة الخارجين عن البيضة دون المنحصرين فيهما فقط، قيل: هذا باطل إذ البيضة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة لا تفرخ ولا يعلم أحد ما فيها ولا يعلم ذلك النور ولا الظلمة الخارجان عنها قطعا فإن كان حدوث الفرخ باختلاط النور والظلمة لزم أن تفرخ البيضة مطلقا بأن ينفذ النور والظلمة من مسام الجلد فيها بمقدار ما يدخلان في البيضة الصحيحة ويحصل بالبخت والاتفاق ما يحدث ولا ينقسم البيضة إلى الصحيحة والفاسدة ولم يكن الديصانية معترفة بالله الحكيم ولا بالطبيعة الملزمة واقتضاء الأمزجة والتراكيب على مقتضى حكمة الله تعالى وقد نفوا الاضطرار نظير ما مر في الحديث الأول. (ش)

فعدى بعن أي تنشق كاشفة عن حيوان له ألوان الطواويس في حسن الهيئة وكمال الحلقة الدالين على كمال قدرة المدبر والطاؤوس طاير معروف ويصغر على طويس بعد حذف الزيادات.

(أترى لها مدبرا) صانعا قادرا قاهرا يفعل فيها ما يشاء والا ستفاهم لحقيقته أو للتقرير.

(قال فأطرق مليا) أي أرخى رأسه وجفونه إلى الأرض زمانا طويلا راجعا إلى نفسه يشاورها فلما أخذت يده العناية الأزلية والرحمة الربانية مال عما كان عليه إلى الإيمان بالله.

(ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله) وأكد الحصر المفيد للتوحيد المطلق بقوله (وحده لا شريك له) للمبالغة في نفي الشركة (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) إلى عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور (وأنك إمام وحجة) من الله (على خلقه) لئلا يكون لهم حجة على الله يوم القيمة (وأنا تائب) أي راجع (مما كنت فيه) من الزندقة وإنكار الرب الصانع القادر والحمد لله رب العالمين.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام) وكان من قول أبي عبد الله (عليه السلام)، لا يخلو قولك: إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه ويتفرد بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني.

فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا والتدبير واحدا والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد، ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.

قال هشام: فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام)، وجود الأفاعيل دلت على أن صانعها صنعها. ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده، قال: فما هو؟ قال: شئ بخلاف الأشياء أرجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان.

ص:42

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عباس بن عمرو الفقيمي) فقيم حي من كنانة والنسبة إليه فقيمي مثل هذيل وهذيلي.

(عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (عليه السلام)) وقال: لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد قال القطب العلامة: حجة الزنادقة أنا نرى في العالم خيرا وشرا والواحد لا يكون خير أو شريرا والجواب أن الخير إن لم يكن قادرا على دفع الشرير فهو عاجز والعاجز لا يصلح للربوبية وإن كان قادرا عليه ولم يدفعه فهو أيضا شرير وهذا الجواب إقناعي صالح لدفع قولهم، وشبهتهم في غاية الخسة وظهور فسادها غني عن البيان.

(كان من قول أبي عبد الله (عليه السلام)) إنما جاء بحرف التبعيض لأنه كان للزنديق سؤالات متكثرة وكان له (عليه السلام) أجوبة متعددة يظهر ذلك لمن نظر في كتاب الاحتجاج.

(لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين) لا أول لوجودهما (1) (قويين) أي متساويين في القوة: القدرة على فعل كل واحد واحد من الممكنات مستقلين بإرادته ودفع كل ما يمنع نفاذها كما هو شأن واجب الوجود بالذات حيث أنه يجب أن يكون قاهرا على جميع ما سواه (أو يكونا ضعيفين) ليس لواحد منهما تلك القوة والقدرة والاستقلال (أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا) هذه احتمالات ثلاثة لا يزيد ولا ينقص وكلها باطل وفي بطلان الثالث إثبات للوحدة.

(فإن كان قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه) عن التصرف.

(وينفرد بالتدبير) والربوبية ويتخلص عن نقص المشاركة، والحاصل أن كونهما قويين على الاطلاق يقتضي جواز دفع كل واحد منهما صاحبه لأن من شأن القوي المطلق أن يكون قاهرا على جميع ما سواه كما عرفت وجواز ذلك يوجب بالضرورة ضعف كل واحد منهما وعدم استقلاله

ص:43


1- 1 - قوله «قولك إنهما اثنان» الزنادقة كما سبق هم المانوية أعني ماني الذي ادعى النبوة في عهد شابور ويلحق بهم الديصانية والمرقونية ومذاهبهم متقاربة ويجمعهم الاتفاق على القول بأصلين النور والظلمة وحصول كل شئ من اختلاطهما بالبخت والاتفاق وما كانوا قائلين بإله حكيم ولا بنبوة ومعاد ولم يكونوا أيضا قائلين باضطرار الطبيعة كما يقول به المتأخرون من الطبيعيين بل يشبه مذهبهم من هذه الجهة مذهب ذي مقراطيس في تكون العالم من ذرات صغار واجتماعها بالبخت والاتفاق إلا أنهم يجعلون النور والظلمة مبدئين وذيمقراطيس يجعل الذرات مبادي، ولكن الشارح (رحمه الله) وكل من عثرنا على كلامه في تفسير هذه الأخبار وجههوا كلام الإمام (عليه السلام) إلى رد الطبيعين المتأخرين القائلين باضطرار الطبيعة ونسبة كل موجود إلى العلل المعدة قهرا وتكلفوا كثيرا في تطبيق كلام الإمام على ما فسروه وقد فصلنا الكلام في ذلك في حواشي الوافي من الصفحة 8 إلى 18 ولا نطيل بإعادته وأن ههنا تصريحا بمذهبهم في الثنوية ومن كان متهما بالزندقة حماد عجز وقال فيه بشار على ما نقله السيد المرتضى «فادع غيري إلى عبادة ربين فإني بواحد مشغول». (ش)

وكماله في القدرة والقوة وهذا نقيض المفروض وكل ما يلزم من فرضه نقيضه فهو باطل، ثم يلزم من تساويهما في القوة والدفع إما عدم التكوين والإيجاد إن توافقت إرادتهما وإليه يشير قوله تعالى (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله تعالى (ولعلا بعضهم على بعض) أو تحقق الضدين معا إن تخالفت بأن يريد أحدهما شيئا والآخر ضده أو عدمه فإنه إذا منع كل واحد منهما صاحبه عن مراده لزم تحقق الضدين فإن قلت: تحقق الضدين غير محتمل إذ لا يقع بينهما مخالفة في الإرادة (1).

أما أولا فلأن كل واحد منهما حكيم والحكيم لا يريد إلا ما هو الأفضل والأفضل من الطرفين ليس إلا واحدا.

وأما ثانيا: فلعلمهما في الأزل بالكاينات كلها والكاين من الطرفين ليس إلا أحدهما فلذلك العلم يمنع وقوع المخالفة بينهما، قلنا الأول مدفوع لأن الفعل لو لم يتوقف على الدواعي والمصالح ويحصل بمجرد الإرادة جاز وقوع المخالفة بينهما في الإرادة وكذا إن توقف عليها لأن الدواعي والمصالح قد تتعلق بالطرفين من جهتين والثاني أيضا مدفوع لأن العلم لا يمنع وقوع الاختلاف بينهما في الإرادة إذ العلم تابع للإرادة فلو كان سببا لها لزم الدور هذا وأما القول بأن المقصود من هذا القسم هو أنه لو كانا قويين لزم إما استناد كل معلول شخصي إلى علتين مستقلتين في الإفاضة وذلك محال أو لزم الترجيح بلا مرجح وهو فطري الاستحالة أو لزم كون أحدهما غير واجب بالذات وهو خلاف المفروض وفيه إثبات المطلوب فظني أن هذا التفصيل لا يستفاد من منطوق كلامه (عليه السلام) ولا من مفهومه فليتأمل.

(وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه) أي الصانع (واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني) والعاجز لا يقدر أن يعارض القوي ويدعي الربوبية لنفسه أو يدعي المشاركة فيها

ص:44


1- 1 - قوله «مخالفة في الإرادة» هذا الذي ذكره الشارح أجنبي عن المقام لأن الزنادقة لم يكونوا قائلين باتفاقهما في الإرادة بل أكثرهم لم يكونوا قائلين بالإرادة أصلا وكان اعتقادهم أن النور والظلمة ضدان لكنهما يختلطان وباختلاطهما تكونت الموجودات ورد عليهم الإمام (عليه السلام): بأن النور والظلمة إن كانا قويين ومع ذلك كانا ضدين وشأن الضد التمنع من الانفعال وتأثير الضد فيه لم يحتملا الاختلاط بل استقل كل منهما بنفسه وانفرد بتدبير معلولاته ولم يأذن للآخر أن يداخله أو يداخل معلولاته وإن كان أحدهما قويا والآخر ضعيفا كان نقضا لمذهبكم في الثنوية وإن كان كلاهما ضعيفين ولذلك تمكن كل منهما لمداخلة الآخر ثبت العجز لكل منهما وخرجا من أن يكون مبدءين ولم يصرح بالتوالي الباطلة في بعضها لوضوحها واستدل على الحق وهو أن المبدء واحد بوجود النظام كما بينه الشارح بأبين وجه. (ش)

بل هو في وجوده ولوازم ذاته وسائر كمالاته محتاج إليه والمحتاج لا يكون واجبا لذاته ويعلم منه حكم ما إذا كانا ضعيفين إذ ليس شئ منهما واجبا لذاته ولهذا لم يذكره ثم استدل على نفي الاثنينية بدليل ثان لا يعتبر فيه التفصيل المذكور وهو أن النظام المتسق بين أجزاء هذا العالم وارتباط بعضها ببعض ارتباطا تاما يقتضي أن يكون مدبره واحدا كما أشار إليه بقوله (فإن قلت إنهما اثنان) في كتاب الاحتجاج «وإن قلت» بالواو وهو عطف على «لا يخلو قولك».

(لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة) الظاهر أن هذا كلامه (عليه السلام) وفائدة ذكره في التنبيه على أن الدليل الآتي يبطل الاثنينية على التقديرين والمراد باتفاقهما من كل جهة اتفاقهما في ايجاد الممكنات واستناد كل واحد واحد منهما إليهما كما يقتضيه الوجوب والإمكان الذاتيين فإن الوجوب الذي يقتضي نفاذ تصرف الموصوف به في جميع الممكنات والإمكان الذاتي يقتضي استناد الموصوف به إلى من هو واجب بالذات، أو المراد باتفاقهما أن يكونا شخصين مشاركين في تمام المهية مندرجين تحت نوع الواجب لذاته متساويين في الآثار المترتبة على تلك المهية ولوازمها ولا تفاوت بينهما إلا بإلهوية المشخصة والافتراق خلاف الاتفاق بالمعنيين فهو بأن يستند بعض الممكنات إلى أحدهما وبعض آخر إلى الآخر بحيث يحصل من المجموع هذا النظام المشاهد أو بأن يكون الاثنان نوعين متباينين في المهية مندرجين تحت جنس الواجب لذاته مختلفين من جهة المهية وآثارها ولوازمها والتمايز بينهما حينئذ بفصول وجودية الامتناع تقوم الموجود بالمعدوم وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون كلام السائل ووصفا لاثنان ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا.

(فلما رأينا الخلق منتظما) على نظام مخصوص ونضد معلوم كما ترى من نضد الأجسام الكروية بعضها فوق بعض وتركيب الأجسام المركبة من العناصر وغير ذلك من نظام هذا العالم (والفلك جاريا) على نحو خاص من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق بحيث إذا انتهت حركته إلى ما بدأ منه عاد إلى الحالة الأولى مع حفاظ حركته دائما على أقدار معينة من السرعة والبطؤ وبذلك يتفاوت أزمنة الحركة الدورية على الضبط المعلوم للمتفكر في الحركات الفلكية.

(والتدبير واحدا) إذ نسبة أجزاء هذا العالم بعضها إلى بعض كنسبة أجزاء هذا البدن بعضها إلى بعض في الارتباط والانتظام فالتدبير فيه كتدبير النفس في البدن وستعرف لهذا زيادة توضيح (والليل والنهار) يتعاقبان فجيء هذا ويذهب ذاك ويجيء ذاك ويذهب هذا ويتفاوتان في القدر فمن أول الصيف إلى أول الشتاء يزيد الليل وينقص النهار ومن أول الشتاء إلى أول الصيف يزيد النهار وينقص الليل مع انضباط الزيادة والنقصان في جميع الأوقات والأزمان كل ذلك لمنافع غير

ص:45

محصورة يعرف جلها أو كلها أصحاب العرفان (والشمس والقمر) لهما تأثير عظيم في السفليات ومنافع جليلة في نشو الحيوانات والنباتات وبهما ينتظم الليل والنهار بالحركة الأولى والسنة والشهر بالحركة الثانية ويتعادل الحر والبرد والرطوبة واليبوسة في الهواء إذ الشمس توجب حرارة الهواء ويبوسته والقمر يوجب برودته ورطوبته ومن ثم كان الليل أبرد وأرطب من النهار.

وقال قطب العلامة لليل ثلاث صفات الظلمة والبرودة والرطوبة وتلك الصفات من علامات الموت ولذلك يموت الحيوانات في الليل ومنه «النوم أخ الموت» ثم إذا ظهر ضوء الشمس وطلع الفجر وحصل للعالم شئ من الحرارة يقومون من مراقدهم ويتحركون إلى مقاصدهم ويزداد قوتهم إلى أن يبلغ الشمس غاية الارتفاع فإذا مالت إلى الغروب نقصت قوتهم إلى أن يزول الشفق الذي هو من أثر ضوئها ثم يموتون ويعود الحالة الأولى وهكذا إلى ما شاء الله العليم القدير.

(دل صحة الأمر والتدبير) أي دلنا فلا يرد أن مدخول لما يجب أن يكون مؤثرا في جوابه وههنا ليس كذلك وعطف التدبير على الأمر إما للتفسير أو المراد بالأمر انتظام الخلق وجريان الفلك واتساق الليل والنهار وحركة الشمس والقمر وسائر النجوم وبالتدبير ربط هذه الأمور بعضها ببعض وملاحظة منافعها ورعاية مصالح هذا العالم من الحيوان وغيره.

(وايتلاف الأمر) أي ارتباط أجزاء هذا العالم وانضمام بعضها ببعض بحيث حصل من مجموعهما شخص مركب من أجزاء متلايمة مناسبة متناسقة، بيان ذلك أن هذا العالم مركب من الجواهر والأعراض والجواهر بعضه متحيز وبعضه مجرد، والمتحيز بعضه بسيط وبعضه مركب والبسيط بعضه عنصري وبعضه فلكي والمركب بعضه حيوان وبعضه نبات وبعضه جماد، والعرض مفتقر إلى الجوهر باعتبار، والجوهر مفتقر إلى العرض باعتبار آخر، وكذا كل واحد من المتحيزات والمجردات وكل واحد من العنصريات والفلكيات مفتقر إلى الآخر بوجه ما والحيوان مفتقر إلى النبات وبالعكس وهما يفتقران إلى العناصر في التركيب والعناصر يفتقر بعضها إلى بعض في تكوين المركبات وأنواع الحيوان وأشخاصه يفتقر بعضها إلى بعض كما يظهر ذلك ظهورا تاما في أفراد الإنسان فإنه لا يتم نظامهم وبقاؤهم ومعاشهم بدون التمدن والتعاون وبالجملة إذا تأملت في هذا العالم تأملا صحيحا كاملا وجدت كل واحد من أجزائه مرتبطا بالآخر ومفتقرا إليه بوجه ما ومنتفعا به انتفاعا محسوسا أو معقولا بحيث يختل نظامه في نفسه بل نظام الكل لولا ذلك الآخر كما يختل نظام أحوال الشخص الإنساني المركب من الإجراء المتشابهة والقوى الظاهرة والباطنة باختلال بعض هذه الأمور.

(على أن المدبر واحد) صنعه على النظام الأحسن والقوام الأتقن بعلمه الشامل وتدبيره

ص:46

الكامل وذلك إما لما قيل من أن التناسب والتلازم بين الشيئين لا يتحقق إلا بعلية أحدهما للآخر أو بمعلوليتهما العلة واحدة موجبة لهما فلو تعدد المدبر اختل الأمر وفسد النظام كما يشير إليه قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).

وإما لأن التدبير الواحد لا يجوز استناده إلا إلى مدبر واحد لامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد شخصي، وإما لأن المدبر الواحد كاف لصدور التدبير الجملي وإذا لاحظنا معه أن المشاركة نقص لا يليق بالواجب بالذات أو لاحظنا لزوم التعطيل علمنا أنه لا مدبر غيره، لا يقال هذه الوجوه إنما تنفي وجود مدبرين متفقين مستقلين في صدور الكل وصدور كل واحد واحد ووجود مدبرين يستقل أحدهما كذلك ويستقل الآخر في البعض لا وجود مدبرين غير متفقين بأن يستقل أحدهما في بعض والآخر في بعض آخر بحيث يحصل من المجموع هذا النظام والتدبير لانا نقول: كل واحد إذا لم يستقل في الكل، فإن استقل مجموعهما لزم أن يكون المجموع هو المدبر وهذا مع كونه باطلا لاستحالة التركيب في الواجب دافع للاثنينية، وإن استقل أحدهما في بعض والآخر في بعض آخر لزم النقص المحال على الواجب بالذات وارتفاع التلازم والايتلاف بين البعضين وإلا لزم عدم استقلال كل واحد في البعض أيضا هذا خلف.

ثم استدل على نفي الاثنينية بدليل آخر من غير ملاحظة هذا العالم ونظامه وايتلافه وهو قوله (ثم يلزمك) وإنما أتى بثم للإشارة إلى بعد مرتبته عن الأولين إذ فيه مع إبطال الاثنين إلزام للقايل بهما ما لا يلزمه هو ولا عاقل غيره فثم للعطف على قوله «فإن قلت إنهما اثنان» وهذا أحسن من جعله عطفا على قوله «فلما رأينا» وجعل المعطوف عليه دليلا على إبطال الاثنين في صورتي الاتفاق والافتراق جميعا أو في صورة الافتراق فقط وجعل المعطوف دليلا على إبطالهما في صورة الاتفاق فقط.

(إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين) متفقين في تمام الحقيقة أو مختلفين إلا أن ما به الامتياز والانفصال وهو المعبر عنه بالفرجة على الأول بالهويات وعلى الثاني بالفصول وإنما عبر عنه بالفرجة الفاصلة بين المحسوسات تقريبا له إلى فهم المخاطب الزنديق إذ وهمه مربوط بالمحسوسات وفهمه متعلق بالجسم والجسمانيات فخاطبه بما يليق بحاله.

(فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما) أي موجودا قديما مع الاثنين أما وجوده فلأنه لو كان أمرا عدميا لزم أن لا يكون لكل واحد منهما مميزا إذ ليس لكل واحد منهما الأمر العدمي الذي للآخر لتحقق معنى الامتياز فلا بد أن يكون له الأمر الوجودي الذي يقابله فلا يرد أنه يجوز أن يكون

ص:47

الفرجة أمرا عدميا فلا يلزم وجود إله ثالث وأما قدمه فلأن الاثنين القديمين ممتازان به فهو أيضا قديم بالضرورة وإنما لم يقل ثالثة قديمة لأنه نظر إلى المعنى وهو مذكر (فيلزمك ثلاثة) أي فيلزمك القول بوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة أو قدماء ثلاثة (فإن ادعيت) في أول الفرض أو بعد الإلزام (ثلاثة لزمك ما قلت ما في الاثنين) من وجوب تحقق الفرجة بينهم ليتحقق الثلاثة (حتى تكون بينهم فرجة) أي فرجة آخري غير المذكور أو أراد بالفرجة الجنس فيصدق على الفرجتين فصح قوله (فيكونوا خمسة) فيكون الثلاثة مع الفرجتين خمسة، فإن قلت: المراد بالفرجة ما به الامتياز ولا شبهة في أنه لا بد لكل واحد من الثلاثة ما يمتاز به عن الآخرين فاللازم حينئذ أن يكونوا ستة لاخمسة، قلت المراد بالفرجة هنا الأمر الوجودي الذي يقع به الامتياز واللازم حينئذ ثبوت الفرجتين لجواز امتياز الثالث عن الأولين بأمر عدمي أي بعدم وجود هذين الفرجتين فيه ولذلك لزم في الفرض الأول ثلاثة لا أربعة، فإن قلت: إذا جاز ذلك في الثالث جاز في الأولين أيضا فلا يتجاوز العدد عن ثلاثة.

قلت: قد عرفت مما ذكرنا أن امتياز كل واحد من الثلاثة بأمر عدمي يقتضي امتياز كل واحد منهم بأمر وجودي ولا أقل امتياز الاثنين منهم به، فإن ادعيت خمسة لزمك ما لزمك في الثلاثة حتى يكون بينهم فرج أربعة فيكونوا تسعة.

(ثم يتنامى في العدد) أي ينتهي المدبر في العدد أو ينتهي القول في عدده (إلى ما لا نهاية له في الكثرة) فيلزمك أن لا تستقر في عدد المدبر على مرتبة معينة من مراتب العدد فإن كل ما ادعيت يلزمك زايدا عليه وأن تقول بأن عدد المدبر يكثر كثرة غير متناهية وهو باطل قطعا، ولعل ما قلناه في شرح هذا الذليل أولى مما قاله بعض الأفاضل (1) من أن المراد أنه يلزمك إن ادعيت

ص:48


1- 1 - قوله: «أولى مما قاله بعض الأفاضل» القدر المعلوم المسلم في هذا الحديث أنه رد على رجل مانوي قائل بالنور والظلمة وتركب كل شئ منهما والمعلوم من مذهبهم أنهم لا يعترفون بوجود شئ غير جسماني أصلا كما مر في مطاوي الأحاديث السابقة، فالنور والظلمة عندهم كانا موجودين جسمانيين في صقع من أصقاع هذا الفضاء ويجب شرح الحديث بما يرجع إلى رد هذا المذهب أو لا وبالذات، فإن إستفيد منه شئ ينفع في رد سائر الأوهام والمذاهب فهو وإلا فلا يجب التكلف لحمله على استدلال أعاظم الحكماء في التوحيد وكلام الشارحين وإن كان في غاية التدقيق فإنه غير واف بالغرض الأصلي ولا ريب أن أمثال الزنادقة يتصورون المبدء الأول غير ما لئ للفضاء سواء كان نورا أو ظلمة أو أجزاء ذي مقراطيسية أو ماء أو نارا بل يجعلونه في جانب والباقي خال مطلقا من أي شئ ثم أن الفرجة في كلام الإمام (عليه السلام) يحتمل معنيين الأول: الفرجة في الفضاء بين جسم وجسم آخر بينهما مسافة فاصلة. والثاني: المتوسط بين شيئين متضادين كاللون الأحمر والأصفر بين الأسود والأبيض، والاحتمال الثاني أقرب في الحديث لأن الفرجة في الفضاء ليس بشئ موجود عند الطبيعيين والزنادقة وأيضا لهم أن يجيبوا بأن المبدئين متلاصقان ولئن سلموا المسافة الفاصلة بين المبدئين وكونها شيئا موجودا قديما لا يلزم تسليمهم بوجود مسافة ثانية وثالثة بين هذه المسافة والجسمين، وأما النور والظلمة فإنهما متضادان يتصور بينهما فرجة ليست بالنور المحض ولا بالظلمة المحضة ولا وجه لعدم كونها واجبة مع تماثلها جميعا مثلا إذا قيل إن الأبيض والأسود قديمان ولكن الأحمر حادث من اختلاطهما فليس قوله أولى ممن يقول: إن الأحمر قديم وحصل الأبيض والأسود من تشديد وتخفيف فيه بل الأصوب أن يجعل الجميع أصلا ومن التزم بذلك لزمه القول بكون الأقتم الواقع بين الأحمر والأسود والأصفر الواقع بين الأبيض والأحمر أيضا قديمين وهكذا إلى غير النهاية فالأقرب عند الطبيعيين أن يجعل الأصل شيئا واحدا كالماء على قول ثاليس والنار على قول هراقليطوس أو أمورا غير متناهية كذيمقراطيس وأما حصر المبدء في عدد معين كالاثنين على ما اختاره المانوية أو خمسة كما هو قول الحرنانيين فيحتاج إلى مؤونة كثيرة يعجزون عنه والبرهان العقلي على التوحيد مطلقا على ما ذكره الحكماء والمتكلمون في كتبهم مشهور ولا حاجة إلى ذكره هنا. (ش)

اثنين متفقين من كل جهة في استدعاء كل فرد من الممكن من حيث الوجوب الذاتي والطباعي الإمكاني فرجة ما بينهما إذ امتياز الممكنات باستناد بعضها إلى أحدهما وبعضها إلى الآخر يحتاج إلى إله يفيد التميز والاستناد لامتناع الترجيح من جهة الأولين لفرض اتفاقهما من كل جهة وذلك الإله الثالث الذي هو مصدر التميز والاستناد هو المراد بالفرجة بينهما ثم بمقتضي طباع الوجوب:

الإمكان يكون نسبة جميع الممكنات إلى الآلهة الثلاثة سواء، ولما كان كل من الأولين مع الثالث اثنين احتاج إلى فرجتين وهما إلهان آخران والأمر يتمادى إلى ما لا يتناهى.

وجه الأؤلية أن فيه نظرا، أما أولا فلأن اتفاق الاثنين في جواز استناد جميع الممكنات إلى كل واحد منهما لا يقتضي امتناع استناد الترجيح والتخصيص إليهما لأنهما فاعلان بالاختيار فيفعل كل واحد منهما بعضا بمجرد إرادته واختياره ولا يفعل بعضا آخر، وهذا كما أن وجود الممكن وعدمه بالنظر إلى الواجب سواء وهو يختار أحدهما بإرادته.

وأما ثانيا فلأن نسبة جمع الممكنات إليهما في جواز الصدور عنهما وإن كانت سواء لكن يجوز أن يكون كيفية النسبة متفاوتة كافتقارها إلى الواسطة ونحوها ولعل هذا القدر من التفاوت يكفي في تخصيص بعضها ببعض فلا يلزم ثبوت إله ثالث.

وأما ثالثا فلأن الإله الثالث على تقدير ثبوته يجوز أن يكون نسبته إلى الأولين متفاوتة بتفاوت ما به الامتياز في القوة والضعف وبهذا الاعتبار يقسم الممكنات ويخصص بعضها ببعض.

وأما رابعا فلأن هذا الدليل على هذا التفسير بعد تمامه لا يبطل إلهين اثنين في صورة افتراقهما واستقلال كل واحد منهما في بعض دون آخر بخلاف ما ذكرناه فهو أولى منه وكذا أولى مما قاله بعض المحققين من أن المقصود أنك لو ادعيت اثنين كان لا محالة بينهما انفصال في الوجود

ص:49

وافتراق في الهوية ويكون هناك موجود ثالث هو المركب من مجموع ذينك الاثنين وهو المراد بالفرجة، لأنه منفصل الذات والهوية وهذا المركب لتركبه من الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل كان لا محالة مستغنيا عن الجاعل موجودا لا من تلقاء الصانع إذ افتقار المركب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه فإذا لم تفتقر أجزاؤه لم يفتقر هو بالضرورة فإذن قد لزمك أن يكون ذلك الموجود الثالث أيضا قديما فيلزمك ثلاثة وقد ادعيت اثنين فإن ادعيت ثلاثة لزمك بمثل ما قلته في الاثنين أن يكون خمسة ثلاثة آحاد وحدانية ورابع مركب من الاثنين وخامس مركب من الثلاثة وعلى هذا القياس، فيلزمك ما لا يتناهى في العدد.

وفيه نظر من وجوه: الأول أن إطلاق الفرجة على هذا المركب لم يثبت لا لغة ولا عرفا، الثاني أن لزوم هذا الثالث من فرض إلهين اثنين ممنوع لجواز أن يكون الوجوب الذاتي مانعا من قبول التركيب، الثالث أن كون هذا المركب واجبا بالذات قديما ممنوع كيف وكل مركب فهو حادث لافتقاره في تركب وتألفه إلى الأجزاء والمؤلف، الرابع أن المركب من الاثنين على فرض الثلاثة ثلاثة فيكون العدد سبعة.

(قال هشام فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟) أي على وجوده (1) (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وجود الأفاعيل) المحكمة المتقنة المنتظمة في الآفاق والأنفس (دلت على أن صانعا صنعها) فإنك إذا تأملت في عالم الأجسام من الأفلاك والكواكب والعناصر والمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية وفي اختلاف صفاتها وأفعالها وإمكانها وحدوثها وفي أحوال نفسك وجوارحك وأعضائك وانقلاباتك من طور إلى طور ومن حال إلى حال علمت أن ذلك مستند إلى صانع عليم خبير.

(ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني) البناء مصدر بمعنى المبني فذكر المبني تأكيد.

والمشيد بفتح الميم وكسر الشين وسكون الياء المعمول من الشيد بالكسر والسكون وهو كل شئ طليت به الحائط من جص أو ملاط وبضم الميم وفتح الشين وتشديد الياء المطول يعني إذا نظرت إلى بناء محكم مبني من آلات مثل الطين والجص والأحجار وغيرها (علمت) علما يقينا لا تشك

ص:50


1- 1 - قوله «فما الدليل عليه» فإن قيل الطريقة الصحيحة أن يثبت وجوده تعالى أو لا ثم يثبت توحيده لا إثبات توحيده لا إثبات توحيده أو لا ثم الرجوع إلى الدليل على أصل وجوده قلنا كان الكلام أو لا في عدم كون كل واحد من النور والظلمة واجبا مبدء للعالم فإذا ثبت طلب السائل الدليل على وجود المبدء الذي يقول به المسلمون وأصحاب الملل وهذا يؤيد ما ذكرنا من أن مجرى الكلام ليس إثبات التوحيد على ما تصدى له أعاظم الحكماء، بل رد الثنوية فقط وإن استفيد من كلامه (عليه السلام) ما يمكن أن ينتفع به الحكماء أيضا في غرضهم. (ش)

فيه (أن له بانيا) بناه على علم وتدبير.

(وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده) فكما أنك تحكم بأن لهذا البناء بانيا ولا يمنعك عن هذا الحكم عدم مشاهدته حتى أنك تنسب من قال لك: هذا البناء حدث بنفسه ووجب بذاته إلى السفه والجنون كذلك وجب عليك أن تحكم بأن لبناء هذا العالم الذي لا بناء أعظم منه وأتقن ولا صنع أكمل منه وأحسن بانيا بناه على علم وتدبير وصنعه على حكمة وتقدير (1) وإلا لكنت مكابرا لما يقتضيه صريح عقلك.

ولما سمع الزنديق دليلا على وجود الصانع (قال: فما هو؟) سأل بما هو عن كنه حقيقته وذاته أو عن خواصه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره (قال: شئ) أجاب (عليه السلام) بهذا العنوان للتنبيه على أنه لا يبلغ إدراك كنهه عقل الإنسان وينبغي أن يعلم أن كل ما له حصول في الخارج أو في الذهن فهو شئ فيهما كما أنه موجود فيهما بالوجود المطلق وقد يفرق بينهما بأن المتصف بالحصول من حيث هو شئ ومن حيث اتصافه بالوجود أو كون الوجود عينه موجود فهما متساويان في الصدق كما أن الشيئية والوجود المطلق متساويان في التحقق، ويمكن إرجاع قول الأشعري بأن الشئ يختص بالموجود، وقول المعتزلي بأن الشئ ما يصح أن يوجد إلى ما ذكرنا بأن يراد بالوجود الوجود المطلق، ثم الظاهر أن المراد بالشيء هنا الموجود بالوجود الخارجي يعني أن الصانع شئ موجود في الخارج.

(بخلاف الأشياء) أي مخالف للأشياء الممكنة الموجودة في الذات والصفات والوجود والوجوب إذ ذاته قائمة بالذات وصفاته عيينة ووجوبه ذاتيان يستحيل انفكاك ذاته عنهما بوجه من الوجوه في مرتبة من المراتب وأما الممكنات فذواتها قائمة بغيرها وصفاتها مغايرة لها ووجودها ووجوبها من غيرها حتى أنها كانت في وقت من الأوقات عارية عن جميع ذلك، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لأنه يمكن أن يراد بالشيء الموجود بالوجود المطلق بل هو أولى بالإرادة ليكون إشارة إلى أنه تعالى مخالف للأشياء في الذهن والخارج إلا أن الكلام حينئذ خال عن الإيماء إلى وجوده في الخارج والأمر فيه هين لأن وجوده في الخارج علم من الدليل السابق، ولما كان إطلاق الشئ عليه

ص:51


1- 1 - الاستدلال بإحكام الصنع ومراعاة المصالح في خلق كل شئ على ما ورد في الآيات الكريمة والأخبار وخصوصا توحيد المفضل والإهليلجة من أهم ما يعتمد عليه في هذا الباب فإن الفرق بين المتأله والملحد إنما هو في القول والاعتقاد بالعمد والتدبير في الخلق ووجود العلم والحكمة في المبدء الأول والأفاصل وجود شئ واجب الوجود ينتهى إليه ساير الأشياء مما لم ينكره أحد دفعا للدور والتسلسل لكنهم يجعلون المبدء طبيعة غير شاعرة ونحن نعتقد فيه كمال العلم لأنا إذا نظرنا إلى المصنوع عرفنا أن صانعه فعله عن عمد وعلم وكذلك صفات كل صانع تعرف من النظر في صنعه. (ش)

يوهم أن له ذاتا متصفة بشيئية خارجة عنها رفع ذلك الوهم بقوله (أرجع بقولي) هو شئ (إلى إثبات معنى) صحيح مقصود من هذا القول إذ ليس المقصود أنه نفس المركب من هذه الحروف ولا الموصوف بمفهومه. وقد فسر ذلك المعنى بقوله (وأنه شئ بحقيقة الشيئية) يعني أنه شئ وشيئيته عين ذاته الحقة الأحدية (1) المنزهة عن التكثر والتعدد لا معنى خارج عنها قائم بها كما أنه موجود وعليم مثلا ووجوده وعلمه عين ذاته وفيه إشارة إلى نفي زيادة الصفات والأحوال عن الذات وسيجئ تحقيق ذلك إن شاء الله.

ثم إن فهم الزنديق لما كان متوجها إلى المحسوسات ووهمه متعلقا بالجسم والجسمانيات بالغ (عليه السلام) في نفي مشابهته بشئ منها فقال (غير أنه لا جسم) لأن كل جسم ذو جزء وكل ذي جزء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره وكل مفتقر ممكن فلو كان الصانع جسما كان ممكنا وهو واجب بالذات فيلزم أن يكون واجبا وممكنا جميعا وأنه محال (ولا صورة) (2) لأن كل صورة سواء كانت جسمية أو غيرها محتاجة إلى محل والصانع الحق لا يحتاج إلى شئ أصلا فضلا عن أن يحتاج إلى محل يحل فيه (ولا يحس) أن أحسست فلانا إذا رأيته أي لا يمكن إدراكه بحاسة البصر لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المدرك بالبصر بالذات هو الألوان والأضواء وبالعرض المتلون والمضيء أعني الجسم القابل لهما وهو سبحانه لما كان منزها عن الجسمية ولواحقها وجب أن يكون منزها عن الإدراك بحاسة البصر وإنما أفرد عدم إدراكه بالبصر بالذكر مع ذكر الحواس لظهور تنزهه تعالى عن ساير الحواس ووقوع شبهة في أذهان كثير من الجهلة في جواز إدراكه بالبصر، حتى ذهب كثير منهم إلى أن تنزيهه تعالى عنه ضلال بل كفر (3) تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون.

(ولا يجس) الجس بالجيم اللمس باليد للتعرف يقال جسه الطبيب إذا مسه ليعرف حرارته من

ص:52


1- 1 - حقيقة الشيئية هي الوجود الحق الذي لم تحدده ماهية إذ ليس وجوده تعالى عارضا لمهية وإلا لزم كون مهيته ممكنة في ذاتها استفادت الوجود من غيرها وهذا باطل ومثل تعبير الإمام (عليه السلام) كثير في بيان خلوص الشئ فإذا أردنا التعبير عن الماء الخالص قلنا هذا ماء بحقيقة المائية وهذا كاف في إثبات التوحيد أيضا لأن حقيقة الشئ تأبى عن التكثر كما سيجيء إن شاء الله. (ش)
2- 2 - «ولا صورة» لعله (عليه السلام) ذكر الصورة بعد الجسم ليشمل الأشباح أي الأجسام المثالية والبرزخية. (ش)
3- 1 - «تنزيهه تعالى عنه ضلال وكفر» الأشاعرة متفقون على أنه تعالى يرى بالبصر في الآخرة وتكلف علماؤهم في توجيهه، ووجه ذهاب الأشعري إليه توهمه أن ما ليس بجسم فليس بموجود فهو وسائر الماديين متفقون على شئ واحد ولكن علمائهم ذهبوا إلى أنه غير جسم ومع ذلك يرى. وقولنا واضح فأنا ننكر الجسمية والرؤية وننكر أن يكون الموجود منحصرا في الأجسام والحس الظاهر عبارة عن تأثر بدننا وانفعاله عن شئ خارج عنه ومعلوم أن الشئ الذي يؤثر في الجسم جسماني والحس الباطن انفعال البدن عن شئ داخل فيه والماديون لا يعترفون بوجود شئ إلا أن يكون محسوسا بالحس الظاهر. (ش)

برودته، وجس الشاة ليعرف سمنها من هزالها، يعني أنه تعالى لا يلمس باليد لأن الملموسية من لواحق الأمور الممكنة والموجود الأزلي منزه عنها.

(ولا يدرك بالحواس الخمس) لأن الحواس إنما تدرك الجسم والجسمانيات والكيفيات المختصة بها وهو تعالى ليس بجسم ولا جسماني ولا كيفية له.

(لا تدركه الأوهام) لأن الوهم إنما يدرك المعاني المتعلقة بالمادة ولا يترفع إدراكه عن الأمور المربوطة بالمحسوسات وشأنه فيما يدرك أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار مخصوص وكمية معينة وهيئة مشخصة ويحكم بأنها مبلغه ونهايته فلو أدركته الأوهام لقدرته بمقدار معين في محل معين والمقدر محدود مركب محتاج إلى المادة والتعلق بالغير وبراءة قدس الحق عن أمثال ذلك أظهر من أن يحتاج إلى البيان ويمكن أن يقال لما أشار بالفقرة السابقة إلى عدم إمكان إدراكه بالحواس الخمس الظاهرة أشار بهذه الفقرة إلى عدم إمكان إدراكه بالحواس الخمس الباطنة لأن الوهم أعم إدراكا يدرك كل ما يدركه ساير القوى الباطنة من غير عكس، فإذا نزهه عن أن يكون مدركا بالوهم فقد نزهه عن أن يكون مدركا بغيره من القوى الباطنة.

ومما ذكرنا يظهر وجه ترك العطف لأنه كالنتيجة للسابق وفي بعض النسخ «ولا تدركه الأوهام» بالواو وهو أظهر (ولا تنقصه الدهور) لأن القابل للزيادة والنقصان إما مقدار أو ذو مقدار قابل للانفعال وكل ذلك من لواحق الامكان (ولا تغيره الأزمان) لأن التغير من توابع الإمكان المنزه قدسه عنها والدهر والزمان واحد، وقيل: الدهر الزمان الطويل وقيل: الدهر الأبد، ولما كان تعالى شأنه غير واقع في الدهر والزمان ولا متعلقا بما فيهما تعلقا يوجب الاتصاف بصفاته سلب عنه الاتصاف بالنقصان والتغير اللازمين لما فيهما أزلا وأبدا.

* الأصل:

6 - محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كفى لاولي الألباب بخلق الرب المسخر، وملك الرب القاهر وجلال الرب الظاهر ، ونور الرب الباهر، وبرهان الرب الصادق، وما أنطق به ألسن العباد، وما أرسل به الرسل، وما أنزل على العباد دليلا على الرب.

* الشرح:

(محمد بن يعقوب قال: حدثني عدة من أصحابنا) الظاهر أن يقول ابتداء (عدة من

ص:53

أصحابنا) بدون ذكر اسمه خصوصا في مثل هذا الموضع الذي ليس صدر الكتاب ولا صدر الباب.

(عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كفى لأولي الألباب) أي لذوي العقول الناقدة الخالصة عن شبهات الأوهام (بخلق الرب المسخر) الخلق الإيجاد (1) يقال: خلقه الله خلقا أي أوجده وشاع استعماله أيضا في المخلوق، والتسخير التذليل والمسخر على الأول بكسر الخاء صفة الرب وعلى الثاني إما بكسرها صفة له أو بفتحها صفة للخلق وإنما خص أولي الألباب بالذكر لأنهم الذين يعلمون لاستعداد أذهانهم النقادة وطبايعهم الوقادة أن السماوات والأرضين والشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والجبال والحيوانات والنباتات والجمادات والمعدنيات وغيرها من البسايط والمركبات مسخرات بأمر الله مذللات لحكمه مضطرات لقدرته متحركات وساكنات لإرادته، وأما غير هؤلاء فلإبطالهم الاستعداد الفطري صاروا بمنزلة البهائم فطمع النظر

ص:54


1- 1 - قوله: «الخلق الإيجاد» بل هو التقدير فإنا نرى كل شئ في العالم مقدرا بقدر مناسب له بحيث يدل على أن فاعله عالم حكيم مدبر. مثلا سعة مجاري الدم في العروق كل بقدر ما يحتاج إليه بحيث لو ضاق عن مقداره أو اتسع أوجب أمراضا صعبة وهكذا غيره من تقادير الأعضاء والعظام واللحم والدم وأجزاء كل منها في الإنسان والحيوان والنبات وساير الأمور. وهذا آخر أحاديث الباب وهي كما ترى لا تدل على حدوث العالم ولا ذكر فيها لهذه الكلمة ولا لمعناها مع أن الباب معقود له ومعنون به ولكن لما كان مفاد هذه الأحاديث وجوده تعالى فهم منه الحدوث بالملازمة التي ذكرناها واتفاق المليين على حدوث العالم زمانا هو بمعنى اتفاقهم على وجوده تعالى وكون العالم مخلوقا له ومن أنكر على القدم فإنما أنكر لأنه يستلزم عنده عدم مخلوقية العالم أو كون الواجب تعالى فاعلا موجبا، واعلم أن بعض أهل الحديث استدل على حدوث العالم بظواهر الأحاديث والإجماع ولم يعلم أن الإجماع والأخبار حجة بعد ثبوت الشرع وصحة النبوة وثبوت الشرع والنبوة متوقف على علمه تعالى وحكمته ولطفه حتى لا يجري المعجزة على يد المدعي الكاذب وهذا متوقف على إثبات أصل وجوده تعالى فإن كان إثبات وجوده تعالى متوقفا على حدوث العالم الثابت بالإجماع توقف إثبات حدوث العالم على نفسه بهذه المراتب وهو واضح البطلان والحق وجوده تعالى بأدلة أخرى غير حدوث العالم كما في أحاديث هذا الباب وغيره من الأحاديث والآيات مع أني ما رأيت حديثا واحدا يدل على حدوث العالم بأسره تعبدا ومضى زمان غير متناه عليه وهو معدوم بل غاية ما يدل عليه بعض الأخبار حدوث السماء والأرض والإنسان وأمثال ذلك لإثباته تعالى من غير أن يدل على عدم شئ غيرها قبلها فلعل هذه حادثة بعد إيجاد غيرها وإعدامه، وهكذا ولنا كلام أوردناه في حاشية الوافي في إثبات تناهي الحوادث المتعددة بالفعل وأنها متناهية من الابتداء لا من جهة أنه أمر ديني اعتقادي يجب الإيمان به في الشرع بل من جهة أنه مسألة علمية كبطلان الخلاء وتناهي الأبعاد مما ليس إثباته ونفيه ضروريا في الدين مستقلا وإن ثبت كون الحدوث الوارد في الأحاديث زمانيا فأما أن يكون لتوقف إثبات الواجب تعالى عليه عرفا وأما أن يكون تأدبا نظير أن ينهى أن يقال: الله تعالى تحت رجلي إذ ينصرف الذهن منه إلى الباطل. (ش)

في صنايع الحق والاستدلال بها على وجوده ووحدته وقدرته كطمع النظر من البهائم بل هم أضل.

(وملك الرب القاهر) (1) الملك بالكسر مصدر وقد شاع استعماله فيما يملك قال في المغرب:

ملك ملكا وهو ملكه وأملاكه وبالضم العز والسلطنة وجاز هنا إرادة هذه المعاني كلها، والقهر الغلبة والقاهر من أسمائه تعالى لأنه قهر الخلائق بالإيجاد والإفناء بحيث لا يطيق شئ منها الامتناع من نفاذ إرادته (وجلال الرب الظاهر) (2) الجلال العظمة والرفعة ومنه الجليل للعظيم الرفيع وإذا أطلق

ص:55


1- 1 - «ملك الرب القاهر» القاهر صفة الملك وقهر الرب محسوس مدرك للإنسان في نفسه إذا اعترف به تفطن بشعوره الباطني لما هو مخمر في طبعه من الإيمان بربه وإذا انهمك في لذات الدنيا وشهواتها وظن نفسه قادرا متمكنا في ما يريد تكبر واستكبر وغفل من مستجن ما في كمونة وزعم استغناءه عن الله تعالى فهذا الدليل راجع إلى وجدان الإنسان ربه بقلبه كما قال تعالى (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) إلى غير ذلك من الآيات وقد مر في الحديث الثاني من هذا الباب قوله (عليه السلام) لابن أبي العوجاء «كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوك ولم تكن وكبرك بعد صغرك وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك» إلى آخر ما قال (عليه السلام) فإنه رد على المانوية وإثبات لوجود الله تعالى بأن اختلاف هذه الأحوال لا يمكن أن تنسب إلى غلبة النور أو الظلمة فإن أحدهما إذا غلب غلب بجميع مظاهره ولا يعقل غلبة بعضها دون بعض مثلا السقم من مظاهر غلبة الظلمة والصحة من مظاهر غلبة النور والغضب من مظامر الظلمة والرضا من مظاهر النور فإن كان هذا هكذا وجب أن يكون الغضب دائما مع المرض والرضا دائما مع الصحة وليس كذلك ومع ذلك فاختلاف الأحوال الطارية يوجب شعور الإنسان بمقهوريته وهذا يوجب التفاته إلى باطن قلبه فيجد الاعتراف به مخمرا في طينته. (ش)
2- 2 - قوله «وجلال الرب الظاهر» والظاهر صفة الجلال والجلال جمال وزينة مع هيبة وظهور جلاله تعالى إنما هو في مخلوقاته ألا ترى أنك إذا نظرت إلى أمواج البحر وسعة الماء بهجة الحدائق وخضرة المروج وألوان الأزاهير كيف يعتريك شوق ولذة ممزوجة بهيبة وتدركها شبه الخوف يقشعر منه جلدك لا خوفا تتقيه وتفر منه بل خوفا ممزوجا بلذة تشتهيه. وهذا صفة الجلال الظاهر وإذ ليس الجمال والجلال شيئا ماديا موجودا في الأجسام فهو في نفسك حاصل من الشعور بجلال العلة وجمالها، وإنما قلنا ليس موجودا ماديا لأنه يختلف إدراكه باختلاف المدركين فما يستحسنه الإنسان لا يستحسنه الحيوانات الأخر وبالعكس مثلا النور جمال يستحسنه الإنسان ويستقبحه الخفاش والحشرات تفر منه إلى الظلام وجمال الخضرة يدركه بعض الحيوانات ولا يدركه بعضها وتدرك ذكور الخنفساء جمالا في إناثها وإناثها في أولادها لا تدركه غيرها وقد أشير إلى هذا الاستدلال في آيات كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى (أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) وقوله (لله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) وقوله (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) وقال (لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) إلى غير ذلك ولعلك رأيت أشكال الثلج خصوصا بالمنطار وألوان قوس قزح ومن المعجب زهرا صفر عندنا يسمى بالطاووسي كأنه سورة طاووس نشر ذنبه، ونقل عن فيثاغورث أن الله يفعل الهندسة في كل شئ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن الله جميل يحب الجمال» وقال فيثاغورث أيضا أسمع النغم من حركات السماء موزونة وقال المولوي: شاهدي كز عشق أو عالم گريست * عالمش ميراند از خود جرم چيست زانكه بر خود زيور عارية بست * كرد دعوى كاين حلل زان من است والفرق بين الملك القاهر والجلال الظاهر أن الإنسان يستشعر بملك ربه عجزه في الوجود الخارجي وبجلال ربه عجزه في فكره وتعقله فإذا تفكر في كبر الخلق العظيم تحير من عظمة الخالق وكبريائه أو في صغر الخلق الصغير تحير من عظمة خالقه أيضا وحكمته مثلا في العالم كواكب يصل نورها إلى أرضنا هذه بعد مأتي مليون سنة من حين انفصاله عنها فما أعظم هذا الفضاء وفيه موجودات صغيرة يجتمع خمسة أو ستة ملائين منها في فضاء نحو ميليمتر مكعب ويوجد في قطرة من دم الإنسان وهي نحو سانتيمتر ستة آلاف ألف ألف حيوان صغير، أعني ضعف أفراد الإنسان على الكرة الأرضية وكل واحد من هذه الأحياء الصغار له جلد وبدن وتركيب ومزاج «فسبحان من أعطى كل شئ خلقه ثم هدى». (ش)

الجليل يراد به الله سبحانه، لأن العظمة المطلقة والرفعة الكاملة له، والظاهر بمعنى الواضح البين وقد يكون بمعنى الغالب كما في قوله تعالى (فأصبحوا ظاهرين) وهو على المعنيين إما صفة للجلال أي جلاله الواضح بشواهد كمال قدرته أو جلاله الغالب على جلال كل جليل لإطلاق عظمته وإما صفة للرب أي الرب الواضح وجوده بأعلامه الدالة على ربوبيته، أو الرب الغالب على الجبابرة في إجراء سطوته. (ونور الرب الباهر) (1) النور الضياء وهو ما ينكشف به الظلمات ويبصر به المبصرات، والباهر الغالب، يقال: بهره بهرا إذا غلبه، وبهر القمر أضاء حتى غلب ضوؤه ضوء الكواكب والباهر أيضا الظاهر وهو إما صفة للنور أو للرب والمراد بنوره النور الذي خلقه في الأجرام النورانية مثل الشمس والقمر وسائر النجوم أو المراد به ما اهتدى به أهل السماوات

ص:56


1- 1 - قوله «ونور الرب الباهر» الباهر صفة النور ونور الرب هدايته لخلقه إلى مصالحها كما قال الشراح من العقول والنفوس وقواها ويهتدي بالنور وقال بعض المؤلفين إن «القول بالعقول لا يطابق أصول الإسلام» وهو غير صحيح وعلى كل حال فنوره هدايته قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) إنه تعالى أجرى على نفسه هذا الاسم توسعا ومجازا لأن العقول دالة على أن الله عزوجل لا يجوز أن يكون نورا ولا ضياء ولا من جنس الأنوار والضياء وقال أيضا لو كان النور بمعنى الضياء لما جاز أن توجد الأرض مظلمة في وقت من الأوقات لا بالليل ولا بالنهار لأن الله هو نورها وضياؤها على تأويلهم وهو موجود غير معدوم فوجودنا الأرض مظلمة بالليل ووجودنا داخلها أيضا مظلما بالنهار يدل على أن تأويل قوله تعالى (الله نور السماوات) هو ما قاله الرضا (عليه السلام) انتهى ويجوز عند الصدوق (رحمه الله) اخراج اللفظ عن ظاهره وحمله على المعنى المجازي بدليل العقل وعلى كل حال فإذا فتشنا عن حال الحيوان والنبات وسائر الموجودات وجدناها تفعل أمورا يقصر فكرهم وشعورهم عن الاهتداء لوجهها كالنحل تصنع بيوتا مسدسة ويشكلها بوجه يصرف أقل مادة من الشمع لأكثر ما يمكن أن يسع والنمل والعناكب وغيرها يختار لمصالحها ما يقصر عن إدراكها عقول أعاظم الحكماء بنور الاهتداء الساري في جميع أفراد الموجودات كما هو مقرر في محله وقد أشير في القرآن إلى هذا الدليل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى (ربي الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى). (ش)

والأرضين إلى مصالحهم وشدهم من العقول والنفوس وقواها كما يهتدي بالنور، أو المراد به صفاته الذاتية التي هي المبادي لظهور الوجودات في الممكنات وشروق الكمالات في الموجودات وإشراقات الحالات اللايقة بها، أو المراد به الحجج (عليهم السلام) (وبرهان الرب الصادق) (1) البرهان الحجة والمراد به الرسول لأنه حجة الله على عباده، أو المراد به الحجة المركبة من المقدمات الضرورية الصادقة الدالة على التوحيد الفايضة من المبدء على النفوس البشرية بلا تجشم كسب وزيادة كلفة.

(وما أنطق به ألسن العباد) (2) المراد به اللغات المختلفة الدالة على وجود القادر المختار كما قال سبحانه (ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم) أو المراد به آلات النطق من المعضلات ومخارج الحروف والأصوات، أو المراد به ما نطق به العباد الهادين للخلق من الكلام المشتمل على الحكمة البالغة والنصيحة الكاملة التي بها يهتدون إلى طريق الهداية ويجتنبون سبيل الضلال.

ص:57


1- 1 - قوله «وبرهان الرب الصادق» الصادق صفة البرهان كما في سائر القرائن والظاهر أنه ليس استدلالا من حال الخلق على الخالق لأنه أضاف البرهان إليه تعالى بعدما سبق بل هو استدلاله عليه بالنظر في أصل الوجود الحق وهو برهان الصديقين إذ لا ريب أن في الحقيقة وجودا فإن كان واجبا فهو وإن كان غير واجب فينتهي إليه ، أو نقول إن كان موجودا بنفسه فهو وإلا فهو متعلق بموجود بنفسه أو نقول إن كان الوجود مستقلا فهو وإن كان غير مستقل فهو مرتبط بوجود مستقل نظير ساير الأشياء والصفات فالنور الموجود إن كان بنفسه منيرا فهو وإلا فساطع عن منير بنفسه والبياض الموجود إن كان بنفسه أبيض فهو وإلا ففي الوجود شئ أبيض بذاته أخذ هذا البياض لونه منه وهكذا فالوجود نفسه برهان على واجب الوجود بذاته وبالجملة كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ومن أسمائه تعالى يا برهان. (ش)
2- 2 - قوله «وما أنطق به ألسن العباد» ذكر الشارح ثلاثة وجوه في معناه وذكر الفاضل المجلسي (رحمه الله) احتمالين آخرين الأول الاحتجاج باتفاق الأنبياء والأوصياء والعلماء والحكماء بل كافة العقلاء على وجود الصانع فيحصل العلم الضروري بوجوده والثاني دعاؤهم وتضرعهم والتجاؤهم إلى الله تعالى في الشدائد والمحن بمقتضى فطرة عقولهم وهذا يدل على أن عقولهم بصرافتها تشهد بخالقهم ومفزعهم في شدائدهم وهذا الوجه الأخير قوى جدا لأنا إذا تتبعنا غرائز الإنسان وشعورهم وقوتهم النزوعية التي يسميه أهل عصرنا بالعواطف جميعها لأغراض حكمية وغايات حقيقة كشهوة الطعام والخوف من المضار والرغبة إلى النسل ومحبة الأولاد والتوحش من الانفراد والتأنس بالأهلين وأبناء النوع واستحسان الخضر والماء والابتهاج بالأشجار والعمران وكل ما هو نافع لبقاء الشخص والنوع وكذلك الميل إلى الإحسان واستحسان أفعال الصلحاء والتنفر من القبائح فالتوجه إلى الله تعالى وحب الخلوة به والمناجاة معه في كل جيل وقبيل في المشركين والموحدين لا يمكن أن يكون غريزة باطلة وفطرة عبثا حاصلا لغير غاية والغاية هو الله تعالى الذي هو حقيقة الحقايق وغاية الغايات ومبدء المبادئ ويتحرك كل شئ للوصول إليه. (ش)

(وما أرسل به الرسل) المراد به المعجزات والكرامات وخوارق العدات الخارجة عن قدرة البشر الدالة على وجود الصانع المختار، أو المراد به الشرايع المشتملة على القوانين العدلية والأحكام الإلهية المبتنية على الحكم والمصالح الجلية والخفية التي بها يتم نظام العالم وسعادة بني آدم.

(وما أنزل على العباد) المراد الماء الذي به حياتهم ومعاشهم وحياة الحيوانات والنباتات أو النعماء الظاهرة والباطنة أو المصايب والنوايب التي لا يقدرون على دفعها على أنفسهم أو أنواع الخزي والنكال على الأمم السابقة مثل الطوفان والغرق وغيرهما.

(دليلا على الرب) أي كل واحد من هذه الأمور الثمانية دليل قاطع وبرهان ساطع (1) لمن له عقل سليم وطبع مستقيم على وجود الرب وربوبيته وعلمه وقدرته وتوحيده في الذات والصفات.

ص:58


1- 1 - قوله «دليل قاطع وبرهان ساطع» لم أجد في كلام أحد ممن تعرض لهذا الأصل الأصيل أجمع وأكمل وأوضح مما في هذا الحديث فقد جمع أدلة معرفة الله تعالى في لفظ وجيز بليغ غاية البلاغة فاعرف قدره وانظر فيه بعين البصرة وتأمل فيما ذكرته في شرحه، ونفس صدور هذا الكلام من صاحبه دليل على صدق قائله (عليه السلام) فابتدء بالبرهان الإنى أعني بخلق الرب المسخر ثم ذكر منبهات ثلاثة وجدانية يبعث النفس على الشهود بقدر ما يمكن للناس من سنخ ما يحصل لكمل الأولياء من الوجدان العرفاني، ثم ذكر البرهان اللمي وهو برهان الصديقين هذا كله لأن يجد الإنسان في نفسه دليل ربه ثم ذكر ثلاثة براهين من اعتبار وجدان غيره وهو ما نطق به ألسن العباد وما أرسل به الرسل وما أنزل على العباد. وأني أرى أن مراده (عليه السلام) بما أنزل على العباد البراهين والأدلة التي ألهم الحكماء والعقلاء والأسرار التي تنبه لها العرفاء وما اتفق للناس من الرؤيا الصالحة والتجارب المكررة وما حصل من الفتوح للصالحين واستجيب من دعاء الداعين وعوفي من مرضى المتوسلين وغير ذلك مما لا يحصى فإن جميع ذلك دلالة على المبدء المبدء الحق جلت قدرته «وما أرسل به الرسل» وإن قال الشارح إنه المعجزات وأخذ منه المجلسي (رحمه الله) ولكن الحق تخصيص ذلك ببعض معجزاتهم كالأخبار بالغيب والبراهين المنطقية وأما المعجزات الكونية فلا يدل على وجوده تعالى بل يدل على صدق النبي بعد الاعتراف بوجوده تعالى وبكونه حكيما لا يريد اضلال الناس وأنه لا يجري المعجزة على يد الكاذب فأثبته تعالى بصدق النبي وإثبات صدق النبي بالمعجزة وإثبات المعجزة بأنه تعالى حكيم لا يريد إضلال الناس مستلزم للدور وإن أصر بعضهم على خلافه وأما الأخبار بالغائبات فقد تواتر عن موسى وعيسى (عليهما السلام) ونبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرائن قطعية لا يدخلها شك، ولا ريب أنه لا يعلم ما سيقع بعد سنين أحد من موجودات هذا العالم الجسماني وأفضلهم الإنسان ولا يتأثر الحواس عما لم يوجد بعد فهو من الله والملائكة المقربين الذين أزمة الأمور طرا بيدهم ويعلمون ما يعملون فيما يأتي من الزمان. (ش)

باب اطلاق القول بأنه شئ

اشاره

ذهب القاضي وغيره من الأشاعرة إلى أن الشئ يختص بالموجود وأن المعدوم لا شئ ولا ذات ولا مهية وهو أيضا مذهب الحكماء على ما نقل عنهم من أنهم قالوا الشئ اسم لما هو حقيقة الشيئية ولا يقع على المعدوم والمحال ولا علم بالمحال أصلا إذ لا شيئية له ولا هو مما يتمثل في ذهن أو يتصور في وهم، وإنما المعلوم المتصور المتمثل في الذهن عنوان للمفهوم من لفظه وهو ممكن ما من الممكنات ليس في إزائه حقيقة من الحقائق وشئ من الأشياء أبدا، وذهب صاحب الكشاف وغيره من المعتزلة إلى أن الشئ ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا كما صرح به صاحب الكشاف حيث قال: الشئ أعم العام كما أن الله أخص الخاص يجري على الجسم والعرض والقديم، نقول شئ لا كالأشياء أي معلوم لا كسائر المعلومات وعلى المعدوم والمحال.

ثم قال: فإن قلت: كيف قيل: «على كل شئ قدير» وفي الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل. قلت: مشروط في حد القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر الأشياء كلها فكانه قيل: على كل شئ مستقيم قدير، ونظيره فلان أمير على الناس أي على من وراءه منهم ولم تدخل فيهم نفسه وإن كان من جملة الناس، وقال القطب العلامة: كل من قال بأن الوجود عين المهية مثل الأشعري وأتباعه قال: إن المعدوم شئ لانتفاء المهية عند العدم ومن قال بأن الوجود غيرها فهم قد اختلفوا في ذلك والنزاع إنما هو في المعدوم الممكن لا في المعدوم الممتنع فإنه ليس بشئ عند الفريقين وهذا كما ترى يخالف ما صرح به صاحب الكشاف.

* الأصل:

1 - محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التوحيد فقلت: أتوهم شيئا؟ فقال: نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه، لا يشبهه شئ ولا تدركه الأوهام، كيف تذكره الأوهام وهو خلاف ما يعقل، وخلاف ما يتصور في الأوهام؟! إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود».

ص:59

* الشرح:

(محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام)) وهو الجواد (1) (عليه السلام) (عن التوحيد) أي طريقه وسبيل معرفته (فقلت: أتوهم شيئا؟) أي أتوهم في حقه أنه شئ أو أتوهمه وأدركه من حيث أنه شئ وأصفه بالشيئية فشيئا على الأول مفعول وعلى الثاني تمييز، والمفعول محذوف، والفاء تفصيل للسؤال على الظاهر.

(فقال: نعم غير معقول ولا محدود) نعم تصديق وقع موقع الجملة أي توهمه وتصوره شيئا غير معقول بكنه ذاته المقدسة ولا بالحد المشتمل على الأجزاء التي هي بمنزلة المادة للحقيقة ولا بالصورة الذهنية المتصفة بالإمكان وكذلك توهمه وتصوره شيئا غير محدود بحدود عقلية أو حسية وهي حدوده التي يقف العقل عندها وأجزاؤه التي ينتهي التحليل إليها ونهاياته التي يعتبرها الوهم ويشير إليها، فإنك إذا توهمته وتصورته بما ذكر لم توحده وشبهته بخلقه وجعلت له شريكا أشار إليه بقوله (فما وقع وهمك عليه من شئ فهو خلافه) أي كل شئ وقع عليه وهمك وأشار إليه عقلك والعقل بالنظر إليه تعالى كالوهم في عدم إمكان تناولهما إياه فهو سبحانه غيره، لأن الإشارة الوهمية مستلزمة للوضع والهيئة والشكل والتحيز وكل ذلك على واجب الوجود محال والإشارة العقلية لا يخلو من الخلط بصفات الإمكان لأن النفس إذا توجهت إلى أمر معقول من عالم الغيب فلا بد أن يستتبع القوة الخيالية والوهمية للاستعانة بهما على إثبات المعنى المعقول وانضباطه فإذن يستحيل أن يشير العقل إلى شئ من المعاني الإلهية إلا بمشاركة من الوهم والخيال واستثبات حد أو هيئة أو كيفية أو صفات له وهو سبحانه منزه عن الكيفيات والصفات والحدود والهيئآت، فكان المشير إليه والمدعي لإصابته قاصدا في تلك الإشارة إلى ذي كيفية وحال ليس هو واجب الوجود ولو فرض تجردها عن أحكام الوهم والخيال فالصورة الحاصلة فيها موصوفة بحدود عقلية صرفة منعوتة بصفات الإمكان من جهات شتى فهو أيضا غيره تعالى (لا يشبهه شئ) في الذات والصفات لأن المشابهة بالممكن نقص والنقص عليه محال، ولأن المشابهة عبارة عن الاتفاق في الكيفية ولا كيفية له وأيضا لو وقعت المشابهة فما به التشابه إما نفس

ص:60


1- 1 - قوله: «سألت أبا جعفر وهو الجواد (عليه السلام)» وزعم بعض المتظاهرين بالعلم أنه الباقر (عليه السلام) وهو غلط لأن عبد الرحمن بن أبي نجران متأخر عنه جدا وأبو نجران أبوه أدرك الصادق (عليه السلام) وكانت رحلة الصادق (عليه السلام) سنة 148 ورحلة الرضا (عليه السلام) سنة 203. (ش)

الحقيقة أو جزؤها أو خارج عنها فإن كان الأول كان ما به الامتياز عرضيا فيلزم احتياج الواجب لذاته إلى أمر عرضي يمتاز به عن غيره وهو محال، وإن كان الثاني لزم تركيب الواجب وهو أيضا محال، وإن كان الثالث فإن كان ما به التشابه كمالا للواجب كان الواجب في مرتبة ذاته ناقصا ومستفيدا لكماله من غيره وإنه باطل وإن لم يكن كمالا له كان إثباته له نقصا لأن الزيادة على الكمال نقصان والنقص عليه محال (ولا تدركه الأوهام) لأن الوهم يتعلق بالأمور المحسوسة ذات الصور والأحياز حتى أنه لا يدرك نفسه إلا ويقدرها ذات مقدار وحجم فلو أدركه لأدركه في جهة وحيز ذا مقدار وصورة وهذا في حق الواجب المنزه عن شوائب الكثرة محال، وهذه الفقرة والتي قبلها كالدليل والبيان لما تقدمهما.

(كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام) لأن مدرك العقل محدود بحدود كلية ومصور بصورة كلية ومدرك الوهم محدود بحدود جزئية ومصور بصورة شخصية متعلقة بالمحسوس وكل واحد من هذين المدركين ليس بواجب والواجب خلافه وفيه إشارة إلى أن الواجب خلاف الموهوم والمعقول، وفي السابق وهو قوله «فما وقع» إشارة إلى أن الموهوم والمعقول خلاف الواجب فقد ظهر أنه لا سبيل للعقل والوهم إلى ساحة الواجب ثم أشار إلى كيفية طريق معرفته تأكيدا لما مر بقوله (إنما يتوهم شئ غير معقول ولا محدود) يعني ينحصر طريق معرفته بأن يتوهم ويتعقل أنه شئ بحقيقة الشيئية موجود في الخارج لذاته لا يعرضه وجود ولا شيئية (1) ولا يلحقه صفات ولا كيفية ولا يكون معقولا بالكنه قطعا ولا محدودا بحد أصلا ولا منعوتا بصفات الممكنات ولا مشابها بشئ من المخلوقات وسيجئ لهذا زيادة توضيح إن شاء الله.

* الأصل:

ص:61


1- 1 - قوله «لا يعرضه وجود ولا شيئية» وجود الواجب عين ذاته ووجود الممكن عارض له ولو فرض كونه تعالى شيئا غير الوجود ويعرضه الوجود لكان ثبوت صفة الوجود له بعلة فإن كانت العلة ذاته كانت ذاته موجودة قبل وجودها وإن كانت العلة غير ذاته لزم كونه تعالى معلولا لغيره وخرج عن كونه واجبا لذاته وقد زعم بعض من لا خبرة له تبعا للإمام الرازي أن هذا يوجب كون ماهية الحق تعالى معلوما للبشر لأنه وجود والوجود معلوم له وأجاب عنه المحقق الطاوسي (رحمه الله) بأن الوجود مشكك ولا يلزم من كون بعض مراتبه معلوما كون جميعها معلوما، وقال بعض الحكماء: إن حقيقة الوجود مطلقا غير معلومة وإنما المعلوم مفهومه العام لأن كل وجود خارجي إن فرض محالا وروده في الذهن انقلب وجودا ذهنيا بخلاف المهيات فإنها محفوظة في الخارج والذهن وكذا صفاته كالقدرة والحياة فإنها إن لم تكن عين ذاته لوجب بعلة ولا يمكن أن تكون علة اتصاف ذاته ذاته ولا غيره وبالجملة كل ما بالعرض يجب أن ينتهي إلى ما بالذات. (ش)

2 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسين بن سعيد قال: سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام): يجوز أن يقال لله إنه شئ؟ قال: نعم، يخرجه من الحدين: حد التعطيل وحد التشبيه.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل) وهو البرمكي (عن الحسين بن الحسن بن بكر بن صالح عن الحسين بن سعيد) الحسين بالتصغير في بعض النسخ الحسن بن سعيد بالتكبير.

(قال: سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام) يجوز أن يقال لله: إنه شئ؟ قال: نعم) (1) يجوز ذلك، ولما كان هناك مظنة أن يقال: كيف يجوز ذلك وهو يوجب الاشتراك بينه وبين خلقه في الشيئية أجاب عنه بقوله: (يخرجه) ضمير الفاعل للقائل وضمير المفعول لله أو للشيء، ويحتمل أن يكون الجملة حالا عن فاعل يجوز الدال عليه نعم، ويبعد أن يجعل ضمير الفاعل للشيء وضمير المفعول للقائل (من الحدين) المذمومين اللذين أحدهما كفر وإنكار للصانع والآخر شرك.

(حد التعطيل) أي نفيه وإنكار وجوده وربوبيته وإبطال صفاته على الوجه الذي يليق به، والقول بأن هذا العالم معطل ليس له صانع مدبر.

(وحد التشبيه) أي تشبيهه بخلقه وتوصيفه بصفاتهم والحاصل أنه يجب عليه عند إطلاق الشئ عليه سبحانه أن ينزه إدراكه عن إدراك الأشياء الممكنة وذلك بأن يدرك أنه شئ موجود لذاته لا يشابه شيئا من الموجودات في الذات والصفات ليخرج بذلك عن حد الإنكار وحد التشبيه ويتصف بالتوحيد المطلق.

* الأصل:

ص:62


1- 1 - قوله «أن يقال لله إنه شئ» هذا الحديث صريح في عنوان الباب وهو اطلاق لفظ الشئ على الله تعالى بخلاف الحديث الأول والإطلاق أما تسمية أو توصيف والفرق بينهما أن التسمية توقيفية وأما التوصيف أي الإسناد فكل لفظ يوجد معناه فيه تعالى يصح وصفه به مثلا قال تعالى: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون» فجرى وصف الزراعة عليه تعالى ولا يجوز لنا أن نقول في أسمائه تعالى يا زارع، وقال «الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم ولا يجوز لنا أن نقول يا مستهزىء ويا ماد وأما إطلاق الشئ عليه تعالى بعنوان أنه من أسمائه تعالى فلا يجوز ولا يقال له: يا شئ وأما اطلاقه عليه بعنوان وجود معناه فيه فيصح باعتبار أن الشئ يطلق على الوجود وتوهم عدم الجواز نشأ من أن الشئ ما هية محدودة فدفع الإمام وهم السائل بأنه يجوز اطلاق الشئ عليه وتجريده عن معنى الماهيات فقل إنه شئ ولا تحدده بمعاني تدركها وبالجملة إن خص الشئ بالماهيات فلا يجوز اطلاقه عليه تعالى وإن أريد به الوجود صح. (ش)

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغرا رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغرا) نقل عن الحسن بن داود ضبطه بالمد وفتح الميم، وعن العلامة في الإيضاح بالقصر وهو حميد بن المثنى بالتصغير (رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) الخلو بالكسر والسكون الخالي.

يقال: فلان خلو من كذا أي خال بريء منه يعني أن بينه وبين خلقه مباينة في الذات والصفات لا يتصف كل واحد منهما بصفات الآخر (1) وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه» (2).

ذكر (عليه السلام) في بينونته من مخلوقاته ما ينبغي له من الصفات وفي بينونتها منه ما ينبغي لها فالذي ينبغي له كونه قاهرا لها غالبا عليها مستوليا على إيجادها وإعدامها والذي ينبغي لها كونها خاضعة في ذل الإمكان والحاجة لعزته وقهره وراجعة في وجودها وكمالاتها إلى وجوده وبذلك حصل التباين بينه وبينها.

ص:63


1- 1 - قوله «لا يتصف كل منهما بصفات الآخر» أخذ الشارح هذا المعنى من الكلام المنقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «دليله آياته ووجوده اثباته وتوحيده تمييزه عن خلقه وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة فهو رب ونحن مربوبون» ومقتضى هذا الكلام الشريف بينونته تعالى بينونة صفة أي بينونة لا يتصف بها كل من المتباينين بصفات الآخر وأما معنى ساير الفقرات فيؤيد هذا المعنى قوله «وجوده إثباته» معنى الوجود الإدراك في أصل اللغة العربية وهو فعل متعد ويقال: وجده أي أدركه وهو واجد له وأما المعنى المصطلح عندنا فليس في أصل اللغة بل منقول وهذا يدل على أن هذا الحديث الشريف ليس موضوعا ولو كان موضوعا من ناحية بعض الصوفية لاستعمل الوجود على اصطلاحهم فمعنى قوله (عليه السلام) وجوده إثباته أن إدراكه غير ممكن وغايته أن تعترف بأنه ثابت وأما كيفيته وماهيته فغير ممكن ثم بين (عليه السلام) حكم البينونة بأن صفاته غير صفات خلقه لا أنه معزول عنهم ومباين منهم والدليل على ذلك أنه رب ونحن مربوبون ولا يمكن التربية إلا بالإحاطة والقرب فهو أقرب إليكم من حبل الوريد ومقتضى القادرية والغالبية والاستيلاء أن لا يكون بينه وبين خلقه بينونة عزلة وهذا المعنى مكرر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة وغيره كما قال «داخل في الأشياء لا بالممازجة وخارج عنها لا بالمباينة، وهذا أصل وحدة الوجود التي يقول بها الصوفية لكن بعبارة لا يشمئز الطبع منه. (ش)
2- 2 - النهج قسم الخطب تحت رقم 150 أولها «الحمد لله الدال على وجوده بخلقه».

(وكل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله) لأن الله كان ولم يكن معه شئ فكل شئ غيره محدث مخلوق، وهذا كالتعليل السابق لأنه يفيد أنه لا يجوز اتصافه تعالى بصفات خلقه لأن صفات خلقه مخلوقة ولا يجوز اتصافه بما هو مخلوق لاستحالة لحوق النقص به وافتقاره إلى الممكن وأنه لا يجوز اتصاف الخلق بصفاته وإلا لكان له صفة زائدة مشتركة فتكون تلك الصفة غيره فتكون مخلوقة، وقد عرفت أنه لا يتصف بما هو مخلوق وهذا كما ترى دل على أن صفاته تعالى عين ذاته يعني ليس لصفته معنى موجود مغاير لذاته فليس له مثلا قدرة موجودة ولا علم موجود إلى غير ذلك بل ذاته المقدسة من حيث التعلق بالمقدورات قدرة وبالمعلومات علم من غير تكثر للذات أصلا وهذا كما أن الواحد نصف للاثنين وثلث للثلاثة وربع للأربعة إلى غير ذلك من أن ذلك لا يوجب تعدده وتكثره أصلا والتكثر إنما وقع في الإضافة والمضاف إليه الخارجين عنه والمقصود من هذا الحديث ومن اللذين يأتيان بعده هو ما يفيد الاستثناء وهو ما خلا الله منه أنه تعالى شئ.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله فهو مخلوق والله خالق كل شئ تبارك الذي ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي. عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله فهو مخلوق والله خالق كل شئ) إن أريد بالشيء المشيء وجوده وهو مختص بالممكن فالعموم باق بحاله وإن أريد به ما يصح له الوجود وهو يعم الواجب أيضا أوما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يعم الممتنع أيضا فلا بد من تخصيصه بالممكن بدليل العقل لخروج الواجب والممتنع عن هذا الحكم، يعني أن الله تعالى خالق كل شئ من الممكنات على ما يقتضيه إرادته وتتعلق به مشيته ومحركها من كتم العدم إلى الوجود ولو بواسطة في بعضها لانتهاء سلسلة الممكنات على نظامها وترتيبها إليه وهو الخالق المطلق الذي ينفرد بالاختراع والتدبير ويستغني عن غيره في الخلق والتقدير وكل خالق سواه كالعبد بالنسبة إلى أفعاله إنما ينسب إليه إيجاد شئ لأنه فاعل أقرب وواسطة بين الفاعل الأول وبين ذلك الشئ فهو

ص:64

فاعل ناقص مفتقر في فاعليته إليه سبحانه من جهات شتى ويمكن إخراج أفعال العباد عن الشئ أيضا بالدليل العقلي والنقلي الدالين على أنهم خالقوا أعمالهم وعلى التقديرين لا دلالة فيه على خلق الأعمال ومن الأصحاب من فسر هذا الكلام بأن المراد أنه خالق كل شئ ابتداء لا أنه خالق خالق شئ واستدل على ذلك بأنه لو خلق غيره لكان مثله في الخالقية والإيجاد وهو منزه عن أن يشاركه ويماثله أحد فيهما وبقوله تعالى «ليس كمثله شئ» وفيه نظر لأنا نمنع الشرطية لأن خالقيته عبارة عن انتهاء سلسلة جميع المخلوقات إليه والخالقية بهذا المعنى مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وفيه دلالة على أنه واجب الوجود بالذات لأن خالق الجميع لا يجوز أن يكون ممكنا.

(تبارك الذي) البركة الزيادة من الخير والثبات عليه والطهارة من العيب.

(ليس كمثله شئ) أي ليس مثل مثل شئ في الذات والصفات وهو مستلزم لنفي المثل على سبيل الكناية التي هي أبلغ من الصريح لأن الكلام في نفي مثله فإذا نفي مثل مثله فقد نفي مثله بالالتزام إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله فلا يصح نفي مثل مثله مع القول بوجود مثله وقيل:

الكاف زائدة وإنما لم يكن له مثل إذ كل ما كان له مثل ليس هو بواجب الوجود لذاته لأن المثلية إما أن يتحقق من كل وجه فلا تعدد لأن التعدد يقتضي المغايرة في أمر ما وذلك ينافي الاتحاد والمثلية من كل وجه وإما أن يتحقق من بعض الوجوه وحينئذ ما به التماثل إما الحقيقة أو جزؤها أو خارج عنها وكل ذلك باطل لما مر وعلى هذا وجب على كل من طلب معرفته أن ينزهه عن المماثلة للأشياء الممكنة ليكون موحدا وأصلا إلى مقام التوحيد المطلق وكل من حكم بالمماثلة تبع عقله وهمه إذ الوهم لكونه متعلقا بالمحسوسات غير متجاوز عنها يدرك في حق الصانع صورا وحالات مناسبة لها ثم يساعده العقل ويحكم بأنه تعالى شأنه مثلها ويجري عليه صفاتها وأحكامها بناء على أن حكم الشئ حكم مثله ذلك مبلغهم من العلم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(وهو السميع البصير) بذاته المقدسة بمعنى أنه لا يخفى عليه شئ من المسموعات والمبصرات وسيجئ لهذا زيادة توضيح إن شاء الله.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن خيثمة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن خلو من خلقه وخلقه خلو منه وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله تعالى فهو مخلوق والله خالق كل شئ.

* الشرح:

ص:65

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن خيثمة) قال العلامة في الخلاصة: خيثمة بالثاء المنقطة فوقها ثلاث نقط بعد الياء ابن عبد الرحمن الجعفي، قال علي بن أحمد العقيقي: إنه كان فاضلا. وهذا لا يقتضي التعديل وإن كان من المرجحات.

(عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلو من خلقه وخلقه خلو منه) إذ ليس في عالم الوجوب الذاتي الإمكان الخاص ولو احقه، ولا في عالم الإمكان الخاص الوجوب الذاتي وصفاته وإلا لوقع الخلط بين العالمين واشتبه الخالق بالمخلوق والمخلوق بالخالق وأنه باطل قطعا.

(وكل ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله تعالى فهو مخلوق) يفيد الاستثناء أنه تعالى شئ وهو المقصود في هذا المقام (والله خالق كل شئ) وهو سبحانه وإن كان شيئا إلا أنه لا يدخل في شئ كما لا يدخل الأمير في الناس في قولهم: «فلان أمير على الناس» كما مر.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق حين سأله: ما هو، قال: هو شئ بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنى وأنه شئ بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صوره ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان، فقال له السائل: فنقول إنه سميع بصير؟ قال: هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه، ليس قولي: إنه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا: فأقول: إنه سميع بكله لا أن الكل منه له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.

قال له السائل: فما هو؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الرب وهو المعبود وهو الله وليس قولي: الله إثبات هذه الحروف ألف ولام وهاء لا ولا راء ولا باء ولكن ارجع إلى معنى وشئ خالق الأشياء وصانعها ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمي به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود جل وعز. قال له السائل فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف غير موهوم ولكنا نقول:

كل موهوم بالحواس مدرك به تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق، إذا كان النفي هو الإبطال والعدم.

والجهة الثانية: التشبيه إذا كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف فلم يكن بد

ص:66

من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار إليهم أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لبيانها ووجودها، قال له السائل: فقد حددته إذا أثبت وجوده، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحده ولكني أثبته إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة. قال له السائل: فله إنية ومائية؟ قال: نعم لا يثبت الشئ إلا بإنية ومائية قال له السائل: فله كيفية؟ قال: لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة ولكن لابد: من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه لأن من نفاه فقد أنكره ودفع ربويته وأبطله، ومن شبههه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره. قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيء الأشياء له إلا بالمباشرة والمعالجة وهو متعال نافذ الإرادة والمشيئة فعال لما يشاء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم عن أبيه، عن العباس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق حين سأله ما هو) أي ما حقيقته أو ما صفاته وخواصة المميزة له عن غيره (قال: هو شئ بخلاف الأشياء) أي معلوم لا كساير المعلومات أو هو موجود لا كسائر الموجودات يعني لا يعرف أحد حقيقة ذاته وصفاته وإنما يعرف بمفهوم سلبي وهو أنه موجود مغاير لخلقه في الذات والصفات مثل الإمكان والحدوث والتحيز والاحتياج وغيرها.

(ارجع بقولي) هو شئ (إلى إثبات معنى) معبر عنه بالشيء (وأنه شئ بحقيقة الشيئية) أي بالشيئية الحقة الثابتة في حد ذاتها أو المراد أن شيئيته عين ذاته لا خارجة عنها ووصف لها كما في الممكنات (غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان) مر شرحه مفصلا (1) في آخر الباب السابق وقوله «لا

ص:67


1- 1 - قوله «مر شرحه مفصلا» وهو حديث واحد نقل صدره في الباب السابق وذيله هنا وبينهما كلام نقله في الموضعين. واعلم أن ما سيأتي من كلام الإمام (عليه السلام) مبني على أن الألفاظ إذا خليت ونفسها وألقيت على السامع وأحيل على ما يتبادر ذهنه إليه ربما غلط وذهب إلى مرتكزات خاطره وذلك لأن المعاني أكثر من الألفاظ أضعافا مضاعفة ولا بد للمتكلم أن يستعير اللفظ الموضوع لمعنى ويطلقه على ما يقرب إليه ويناسبه مثلا العلو موضوع للعلو الجسماني ولله تعالى غلبة وعلو معنوي على الخلق فيستعار لفظ العلو ويطلق عليه تعالى ويذهب ذهن الناس منه إلى العلو الجسماني حتى إذا قيل أنه تعالى فوق رؤوسنا لم يستوحش منه وإذا قيل إنه تعالى تحت أرجلنا استوحش مع أن العلو المعنوي يقتضي أحاطته بخلقه مطلقا. ولكن لما لم يكن في اللغة لفظ موضوع للعلو المعنوي غير ما هو موضوع للعلو الجسماني لم يكن بد من الاستعارة والتنبيه على المقصود حتى لا يلزم الغلط وضلال المجسمة ناشئ من ذلك واختلاف الناس في وحدة الوجود أيضا من ذلك لأن الذهن الساذج يفهم من وحدة الوجود حلول جسم في جسم كنفوذ الماء في المتخلل والهواء في الرية بالتنفس. (ش)

يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس» هنا وفي السابق على صيغة المجهول ويحتمل احتمالا بعيدا أن يكون هنا على صيغة المعلوم.

(فقال له السايل فنقول: إنه سميع بصير) هذا على الاحتمال الأول إيراد على قوله لا جسم يعني أن له سمعا وبصرا باعتقادك فيكون جسما لأنهما من لواحق بعض الأجسام وعلى الثاني إيراد على نفي الأفعال المذكورة عنه يعني أنك تقول هو سميع بصير فيدرك بالحواس.

(قال: هو سميع بصير سميع بغير جارحة) (1) هي الاذنان والصماخان والقوة المخلوقة فيهما (وبصير بغير آلة) هي العينان والقوة الباصرة وذلك لتنزهه عن الجوارح والالآت الجسمانية وقواها، ولما بين أن سمعه وبصره ليسا من باب سمع الإنسان وبصره في الاحتياج إلى الآلة أشار إلى توضيح المقصود دفعا لاتوهم السائل أنه تعالى يفتقر في سمعه وبصره إلى شئ آخر غير هذه الآلات المعلومة بقوله (بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه) (2) لا بشئ آخر غيرها ولما توهم من

ص:68


1- 1 - قوله «بغير جارحة» يذهب ذهن السامع من لفظ السميع إلى الأذن إذ لم يعهد الاستماع إلا بجارحة تقبل أمواج الهواء الحاصلة من قرع عنيف فيتأثر العضو بها فلا بد أن يتبادر إلى ذهنه من هذا اللفظ هذا المعنى فاستدركه الإمام (عليه السلام) ونبهه على فساد الاعتماد على ما يتبادر إلى الذهن من هذه اللفظة ومثله الكلام في البصير بغير آلة وفي البصر خصوصية أخرى وهو أن الإنسان يرى في نومه بغير باصرته أشياء وأمورا بحسه المشترك وهو أقرب إلى تصور العوام من سماع الأصوات بغير سامعة إذ لا يعهد مثله إلا لبعضهم نادرا. (ش)
2- 2 - قوله: «يسمع بنفسه ويبصر بنفسه» وفيه من نقص المستمع وغلطه في فهم المقصود ما في الأول لأن المتبادر إلى الذهن أن النفس شئ ومن له النفس شئ آخر ولذا احتيج إلى تأويل قوله تعالى (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فاستدرك الإمام (عليه السلام) نقصانه بالبيان وقال: إن النفس لفظ مستعار عبرت به وكنت مجبورا أن أعبر بلفظ حتى أجيبك لأني مسؤول فاعلم أنه ليس الله تعالى شيئا ونفسه شيئا آخر بل مقصودي من النفس كله أعني لا يسمع بجارحة هي بعضه بل يدرك بكله ولكن لفظ الكل أيضا يوهم خلاف المقصود إذ يتبادر الذهن منه إلى ماله جزء وليس المقصود ذلك بل يرجع ذلك إلى عدم الاختلاف وحاصل ذلك الجام ذهن المستمع ومنعه عن الانطلاق إلى ما يذهب إليه بحسب عادته ومثل ذلك صفة الخلق فإنك إذا قلت الله خالق الأشياء ومثلته بالبناء والبناء ذهب ذهن السامع إلى أن الخلق مستغن عن الله تعالى بعد الوجود كما أن البيت مستغن عن البناء الذي بناه وأن مثلته بالشمس والنور حيث أن النور محتاج إلى الشمس حدوثا وبقاء ذهب الذهن إلى أن الله تعالى مضطر في فعله كما أن الشمس مضطره فلا بد لك أن تأخذ من هذا ضغثا ومن ذلك ضغثا فتركبه وتقول هو في العلم والاختيار نظير البناء وفي دوام احتياج المعلول إليه نظير الشمس وأيضا إطلاق الظاهر والباطن والقريب والبعيد عليه تعالى يوهم كونه جسما فإن قيل إنه معك في كل مكان أو في قلبك فهم منه الجاهل الحلول والقول بوحدة الوجود منكر لذلك فإن الذهن يتبادر من اتحاد شئ بالأجسام إلى حلوله فيها إذ لا يحل في الجسم إلا جسم أو جسماني فيلزم من وحدة الوجود كونه تعالى جسما أو جسمانيا فالغلط فيه ناش من قصور اللفظ وليس مرادهم من وحدة الوجود إلا مفاد قوله تعالى (نحن أقرب إليه من حبل الوريد) وهو الظاهر والباطن وللبحث في ذلك محل آخر إن شاء الله تعالى ونعم ما قيل: معاني هرگز اندر حرف نايد * كه بحر قلزم اندر ظرف نايد (ش)

إضافة النفس إلى ضميره سبحانه أنه شئ ونفسه شئ آخر وأن السماع والإبصار يقعان بذلك الشئ الآخر كما أن الشئ وقوته السامعة والباصرة شئ آخر يقع سماعه وإبصاره بهما دفع ذلك التوهم بقوله (ليس قولي إنه سميع يسمع بنفسه وبصير يبصر بنفسه، أنه شئ والنفس شئ آخر ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما) عطف على عبارة أي أردت إفهاما (لك إذ كنت سائلا) فوقع التعدد والتركيب في العبارة على أنه يسمع ويبصر ببعضه وليس المقصود ذلك (فأقول: إنه سميع بكله) وكذا بصير بكله لا ببعضه كما يشعر به ظاهر العبارة، ويحتمل أن يكون المقصود من قوله لكن أردت عبارة عن نفسي أني أردت عبارة أخرى يفيدك انضمامها إلى العبارة المذكورة ما هو المقصود منها وهيأتها لإفهامك إذ لا بد للمسؤول من إفهام السائل وتلك العبارة هي أنه سميع بكله، ولما كان لفظ الكل أيضا مشعرا بالتركيب دفعه بقوله (لا أن الكل منه) أي منه تعالى (له بعض) يعني ليس المقصود أنه مركب من أجزاء يسمع مجموع المركب أو يسمع بعض أجزائه بل المقصود أنه يسمع هو من غير تجزئة وتركيب فيه (لكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك) هذه العبارة أيضا يحتمل الوجهين والمرجع مصدر بقرينة تعديته بإلى أي ليس رجوعي في كونه سميعا وبصيرا بكله.

(إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير) العالم الخبير تفسير وتوضيح للسميع البصير وبيان لحملها على المجاز وهو العلم والخبر بالمسموعات والمبصرات إطلاقا لاسم السبب في على المسبب إذ كان السمع. البصر فينا من أسباب العلم والإحاطة بهما يمكن أن يقال: ذكر العالم الخبير على سبيل التمثيل للإشارة إلى أن ما ذكر في السميع البصير جار في غيرهما من الصفات الكمالية وحينئذ ذكر الخبير وهو العالم بالأخبار بعد العالم من باب ذكر الخاص بعد العام.

(بلا اختلاف الذات) أي ليس في ذاته أجزاء يسمع ببعضها ويبصر ببعضها أو لا يختلف ذاته

ص:69

باعتبار السماع والإبصار (ولا اختلاف المعنى) أي ليس لذاته صفات مختلفة زائدة عليها قائمة بها لاستحالة التركيب فيه وتعدد الواجب وافتقاره إلى الغير.

واعلم أن بحر التوحيد لما كان بعيد الغور غامض الأسرار كان طريق الفناء فيه هو العيان دون البرهان إذ السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله يستغرق في بحر التوحيد ويغشاه نور العرفان بحيث يضمحل في ذاته وصفاته ويغيب من كل ما سواه فلا يرى في الوجود إلا هو، وأما الناقصون الذين لم يشاهدوا بعد ساحله فإذا سألوا العارف بالله وجب عليه الإتيان بعبارات لائقة وكلمات رايقة تدلهم إلى ساحل القدس ليغترفوا من بحره بقدر الإمكان، ثم إنه وإن بالغ في تصحيح العبارات وتنقيح الكلمات عما لا يليق بجناب الحق كانت العبارات والكلمات لا محالة مغياة بغيات خيالية ومحدودة بحدود وهمية ومربوطة بصور عقلية يتنزه قدس الحق عنها لأنه وراء ما يدركه العقل والوهم والخيال فوجب عليه الإشارة إلى تقدس الحق عما يفيده ظاهر العبارة ليهتدي السائل إلى ما هو المقصود منها ولا يذهب وهمه إلى ظاهرها فلذلك نبهه (عليه السلام) على براءة ساحة الحق عما يفيده ظاهر هذه الكلمات وكرره على سبيل التأكيد والمبالغة حتى بلغ الكلام إلى توحيد الذات والصفات وهو التوحيد المطلق إلا أن السائل لما كان عاجزا قاصرا لألف نفسه بالمحسوسات لم يتأثر ذهنه بهذا البرهان الصحيح والنص الصريح فلذا (قال له السائل: فما هو) يعني إذا لم يكن لذاته اختلاف أجزاء ولم يكن له صفات زائدة فما ذاته وما صفاته وأي شئ يكون له حتى يعرف هو به والحاصل أن تعريف الشئ إما بالحد المشتمل على الذاتيات أو بالرسم المشتمل عل الصفات وحيث لا جزء له ولا صفة له لا يمكن معرفته بوجه.

(قال أبو عبد الله (عليه السلام) هو الرب وهو المعبود وهو الله) يعني يعرف هو بأنه مالك الممكنات ومربيها ومخترع ذواتها وصفاتها وكمالاتها وحالاتها وبأنه هو المعبود لهم المستحق لعبادتهم وغاية خضوعهم وتذللهم له وبأنه هو الله المستجمع الكمالات اللايقة به على الوجه الأتم والأكمل لا باعتبار أنها أجزاء أو خارجة عنه عارضة له، بل باعتبار أنها عينه، فذاته ينبغي أن يعرف بذاته وبصفاته الإضافية التي لا تقتضي التعدد والتكثر فيه أصلا والتكثر إنما هو في الخارج المضاف إليه وإنما اختار (عليه السلام) هذه الأسماء الثلاثة لأن لمعرفته تعالى طريقين أحدهما وهو طريق أكثر الخلائق أن يعرف بخلقه لأن كل ذرة من مصنوعاته مرآة يتجلى فيها سبحانه لخلقه وهم يشاهدون على قدر عقولهم لتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعة أبصار بصائرهم. وثانيهما وهو طريق الصديقين أن يعرف ذاته بذاته لا بخلقه وفائدة معرفته على الوجهين هي الطاعة والانقياد والتقيد بذل العبودية فأشار (عليه السلام) إلى الأول بقوله هو الرب وإلى الثاني بقوله وهو الله وإلى الفائدة بقوله وهو

ص:70

المعبود، ثم قال (عليه السلام) دفعا لتخيل السائل لكون طبعه متعلقا بالمتخيلات.

(وليس قولي الله) أي ليس القصد في قولي هو الله ولا في قولي هو الرب وهو المعبود ولم يذكرهما لدلالة سياق الكلام عليه.

(إثبات هذه الحروف ألف ولام وهاء ولا راء ولا باء) أي إثبات مركب منها (ولكن ارجع) يحتمل الأمر والتكلم (إلى معنى) أي إثبات معنى قائم بذاته (وشئ خالق الأشياء وصانعها الذي أخرجها من العدم وأعطى وجوداتها وكمالاتها بلا آلة ولا استعانة ولا روية ولا حركة وهو معنى الرب.

(ونعت هذه الحروف) بالجر عطفا على الأشياء أو على ضمير التأنيث في صانعها على مذهب من جوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وهم البصريون وإضافة النعت إلى هذه الحروف إما لامية، والمراد بنعتها تركيبها القائم بها فإذا كان تركيبها من مخلوقاته والمؤلف منها من مصنوعاتها لا يجوز أن يكون تعالى شأنه عينه، وإما بيانية أي خالق النعت الذي هو هذه الحروف فإن أسماؤه تعالى مخلوقة ونعوت له كما سيجيء في باب حدوث الأسماء عن الرضاء (عليه السلام) «أن الاسم صفة لموصوف» ولعل المراد أن كل اسم من أسمائه نعت لدلالته على صفة لمسماه فإن الله دل على الوهيته والرب على ربوبيته والمعبود على كونه مستحقا للعبادة وقس عليها البواقي وقيل: «نعت» مبتدء مضاف إلى هذه و «الحروف» خبره يعني نعت هذه أي ألف ولام وهاء الحروف إذ يطلق عليها أنها حروف. وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: «الحروف» مبتدء «ونعت» خبره مقدم عليه أي هذه الحروف نعت وصفة دالة على ذاته تعالى وقيل: «نعت» مجرور عطف (1) على معنى أي ارجع إلى كون هذه الحروف نعتا وصفة دالة عليه.

(وهو المعنى سمي به) الظاهر أن اللام للعهد و «سمي» حال بتقدير «قد» أي هو سبحانه المعنى

ص:71


1- 1 - قوله: «وقيل: نعت مجرور عطف على معنى» هذا أوضح من الاحتمالات السابقة لكن النعت بمعنى المنعوت كالخلق بمعنى لمخلوق والذكر بمعنى المذكور يعني أرجع إلى منعوت هذه الحروف وما هذه الحروف نعت له والمعنى الذي يوصف به رب ومعبود وإله وهو المعنى وقوله سمى به الله يعني جعل الله اسما لهذا المعنى ونعتا له وهذا عكس المتداول في عرفنا لأنا نقول سمي هذا الجرم المضئ بالشمس ولا نقول سمي الشمس بهذا الجرم ولكنه صحيح ومعناه جعل اسم الشمس خاصا بهذا الجرم كان يقال وسم السواد ببني العباس وسمي الخضرة ببني علي (عليه السلام) أي جعل اللون الأخضر سمة لأولاد علي (عليه السلام) والحاصل من جميع ذلك إلزام الإمام (عليه السلام) الزنديق باعترافه بوجود شئ لا يمكن إدراك حقيقته وغرض الزنديق أن يستنكف عن ذلك ويقول لا أقر بشئ حتى أدرك حقيقته ولكن ما كان يدرك غير الجسم والجسماني. (ش)

قد سمى بالاسم المركب من هذه الحروف فهو غيرها وغير المركب منها (الله الرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه) اختارها لنفسه ليعرفه الخلائق ويدعوه بها وأسماؤه غيره لأن الدال غير المدلول وقوله «الله» وما عطف عليه مبتدء.

وقوله «من أسمائه» خبره وإنما ترك العطف لأنه بمنزلة التأكيد للسابق (وهو المعبود جل وعز) أي ذلك المعنى المسمى بهذه الحروف هو المعبود لا هذه الحروف.

(قال له السائل) لظنه أن الأمور الموهومة كلها مخلوقة متلبسة بصفات الخلق مدركة بحقايقها وحقايق صفاتها أو بصورها وحدودها وكيفياتها (فإنا لم نجد موهوما (إلا مخلوقا) وأنت أيضا معترف به حيث قلت: لا تدركه الأوهام فالموهوم الذي أثبته مخلوق فلم يثبت وجود الخالق.

(قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان ذلك) أي كل موهوم مخلوق (كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا لأنا لم نكلف غير موهوم) (1) خال عن صفات الخلق مبدء للموجودات منزه عن تعلق الإدراك بحقيقة ذاته وصفاته فإذا لم يكن لنا إدراك شئ على هذا الوجه سقط عنا التكليف بمعرفته.

وهذا الجواب في قوة المنع لما ادعاه السائل: ثم أشار إلى تفسير قوله: «لا تدركه الأوهام» على وجه يندفع عنه وهم الزنديق بقوله (ولكنا نقول كل موهم بالحواس) الظاهرة والباطنة (مدرك به) أي بالوهم الدال عليه الموهوم (تحده الحواس) بالذاتيات أو بالحدود والغايات (وتمثله) بصور المخلوقات وتمثله مضارع معلوم من التفعيل أو من التفعل بحذف إحدى التائين قد يجيء للتعدية (فهو مخلوق) لا خالق لتنزهه عن صفات المخلوقين وقد علم من هذا البيان أن الموهوم المدرك على جهتين الجهة الأولى هي كونه مجردا عن صفات الخلق حتى عن الصور الوهمية والعقلية وهذا هو المبدء الأول وهو الذي وقع التكليف بمعرفته والتصديق بوجوده والتذلل به بذل العبودية.

(إذ كان النفي هو الإبطال والعدم) أي نفي هذا الموهوم إبطال للمبدأ الواجب لذاته وعدم له أو نفي التكليف بمعرفته إبطال للكتب والرسل والشرايع والآداب وعدم لجميع ذلك فقوله «إذ كان» تعليل لما علم ضمنا (والجهة الثانية) وهي كونه محدودا بالحواس ممثلا بصورة وكيفية (التشبيه)

ص:72


1- 1 - قوله «لم نكلف غير موهوم» ليس الوهم في كلام العرب خاصا بالباطل بل عام لكل ما يدرك، بل في كلام أهل المنطق أيضا عام قرب معنى جزئي يدرك بالوهم وهو صحيح ومعنى الحديث أنا لم نكلف بعبادة شئ لم ندركه أصلا بل بشئ ندركه بوجه ونجهل حقيقته وهذا نظير النفس فإن وجوده معلوم وإلا لم يكن فرق بين الحي والميت ولكن حقيقته مجهولة لأكثر الناس وكثيرا من الأدوية نعرفها بخاصتها في العلاج وآثارها ولا نعرف حقايقها وكذلك نعرف الله بوجه ولا نعرفه بكل الوجوه. (ش)

أي تشبيه بالخلق.

قولنا لا تدركه الأوهام إشارة إلى بطلان إدراكه على هذا الوجه (إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب) العقلي أو الوهمي أو الخارجي (والتأليف) فيما إذا كان بين الأجزاء ملايمة يتسبب بعضها ببعض كما بين المادة والصورة وبين الجنس والفصل وبين الحال والمحل وذلك التشبيه يكون من القاصرين العادلين عن طريق الحق بقياس وهمي إذ الوهم يحكم أولا بأن الباري عز سلطانه مثل المصنوعات التي يتعلق إدراكه بها من المتحيزات وما يقوم بها، ثم يحكيه الخيال بصورة منها، ثم يساعده العقل في مقدمة أخرى وهي أن حكم الشئ حكم مثله فيجري حينئذ عليه صفات مخلوقاته التي حكم بمثليته لها، وقال بعض المحققين: الجهتان أولاهما أن يكون الموهوم مما تحده الحواس وتحيط بحقيقته وأخراهما أن تمثله بصورته وشبحه وقوله: «إذ كان النفي - إلى آخره» دليل على مخلوقية الموهوم بإحدى هاتين الجهتين والمعنى أن كل موهوم بالحواس بإحدى هاتين الجهتين مخلوق أما الجهة الأولى فلان حصول الحقيقة بعد النفي ونفيها بعد الحصول في الوهم إبطال وعدم للحقيقة وكل ما يطرأ عليه العدم أو يكون معدوما يكون ممكن الوجود محتاجا إلى الفاعل الصانع له فلا يكون مبدأ أولا، وأما الجهة الثانية فلأن حصوله بالشبح والصورة يتضمن التشبيه والتشبيه صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، أو المراد بالجهتين جهتا الاستدلال بالمحدودية والممثل فيه على المخلوقية إحداهما جهة النفي ثانيهما جهة التشبيه انتهى.

والذي يظهر من كتاب التوحيد للصدوق وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي، أن في نسخة هذا الكتاب خللا وساقطا وكان السقوط نشأ من الناسخ الأول وفيهما هكذا «ولكنا نقول: كل موهوم بالحواس مدرك مما تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق ولا بد من إثبات صانع للأشياء خارج من الجهتين (1) المذمومتين إحداهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم والجهة الثانية التشبيه إذ كان

ص:73


1- 1 - قوله «خارج من الجهتين» والمعنى على فرض صحة المتن وعدم سقوط شئ منه واتصال قوله إذ كان النفي بقوله فهو مخلوق أن ما تقوله لو كان حقا ولم يمكن لنا إدراك واجب الوجود بوجه وإن تحصيل الدليل على إثباته عبث لا يحصل منه الإنسان على شئ أصلا ويرجع عنه بخفي حنين لكأن التكليف عنا مرتفعا لأن نفي إدراك واجب الوجود مطلقا إبطال وعدم للتكاليف والشرايع ولا يمكن أن نلتزم نحن به مع إصرارنا على ترويج التوحيد ونشر الشرايع وإن كانت الجهة الأخرى وهي إمكان إدراك حقيقة الواجب من كل جهة أيضا مستلزما للتشبيه وقد ذكرنا في حواشي الصفحة 46 من المجلد الثالث احتمالا آخر في عبارة الحديث وهذا من شبه الماديين الشكاكين في عصرنا ويرون أن العلم الإلهي أوهام لا طائل تحته وأن ما ينسجه الفلاسفة بأفكارهم خيالات واهية إذ لا يعرف الإنسان شيئا لا يدخل في حواسه ولا يتأثر به جوارحه ونرد عليهم بأنا كما لا ندعي الإحاطة بحقيقة وجود الحق كذلك لا نقول إنا لا ندرك شيئا منه بوجه حتى يكون العلم الإلهي أوهاما بل نقول علمنا بوجود الحق من العلم بالآثار كعلم الطبيعيين بوجود قوة في المغناطيس جذابة للحديد يعترفون بها للعلم بأثره وإن لم يعلموا حقيقة القوة وكيفيتها وأنها لم تجذب الحديد ولا تجذب الأجسام الأخر وهكذا نعترف بوجود مبدء للعالم أوجده وحركه ويسيره إلى غاية وغرض ولا نعلم حقيقته وذكرنا في حواشي الصفحة 46 من المجلد الثاني من الوافي شيئا يتعلق بذلك. (ش)

التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف».

(فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين) الفاء للتفريع أو للتوضيح والتفسير (والاضطرار) الراجع (إليهم) على تضمين معنى الرجوع ويحتمل ان يكون إلى بمعنى اللام أو بمعنى «من» حرف الجر يستعمل بعضه في معنى بعض آخر.

وفي الكتابين المذكورين «والاضطرار منهم إليه» وهو يؤيد الاحتمال الأخير أي والاضطرار لهم أو منهم إلي وجود الصانع (أنهم مصنوعون) وكل مصنوع مضطر إلى صانع غيره ينتج أنهم مضطرون إلى صانع غيرهم.

(فقوله (وأن صانعهم غيرهم) إشارة إلى نتيجة هذا القياس أما الصغرى فلشاهدة كل جزء من أجزاء هذا العالم الذي هو بمنزلة شخص واحد بلسان إمكان ذاته وصفاته وحدوثه على أنه مصنوع مقدر بتدبير وتقدير، وأما الكبرى فلاستحالة أن يكون الشيء صانعا لنفسه بالضرورة أو يكون صانعه مصنوعا مثله لاستحالة الدور والتسلسل فوجب الانتهاء إلى الصانع القادر الذي يقوم بذاته وينظم سلسلة الموجودات ويضع كل موجود في مرتبته من النظام المشاهد.

(وليس مثلهم) في محل الرفع عطفا على غيرهم وتفسيرا للمغايرة أي ليس صانعهم مثلهم في الذات والصفات بوجه من الوجوه. (إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف) أي في التركيب والتأليف الظاهرين فيهم فالإضافة من باب جرد قطيفة أو في أمر ظاهر فيهم هو التركيب والتأليف فالإضافة من باب ختم فضة.

(وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا) أي من وجودهم بعد العدم (وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها) أي تفسير تلك الأحوال وتعدادها مفصلة (لبيانها) أي لظهورها (ووجودها) فينا وفي غيرنا من المصنوعات وتلك المشابهة تقتضي أن يكون خالق جميع المصنوعات بحيث لا يشد منها شيء مصنوعا وهو باطل بالضرورة فقد ثبت أن في الوجود صانعا عاريا من المشابهة بمصنوعه ذاتا وصفة مجردا عن الحدوث ولواحقه.

ص:74

(قال له السائل: فقد حددته إذ أثبت وجوده) لأن إثبات الوجود له فرع لحصوله في الذهن محدودا به معلوما له، وأيضا القول باتصافه بالوجود تحديد له بالوجود وهذا مناف لقولك إنه لا يحد.

(قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم أحده) (1) لأن تحديده على وجهين أحدهما الإشارة العقلية بمعنى إدراك ذاته وصفاته المقدسة بأمر بسيط أو بمركب من أجزاء المهية، وثانيهما وصفه بصفات الخلق مثل النهاية المحيطة بذي مقدار كالجسم والجسمانيات ومثل التركيب والحدوث والتنقل من حال إلى حال وغيرها، ولم يلزم شيء من ذلك من الكلام المذكور ولم أثبته (ولكني أثبته) أي أثبت وجوده بنفي الإبطال والتشبيه وثبوت احتياج الخلق واضطرارهم إليه، وإثبات وجوده لا يقتضي حصول حقيقة ذاته وصفاته في الذهن واتصافه بصفات الخلق، ووجوده ليس أمرا مغايرا لذاته فكما أنا لا نعلم حقيقة ذاته كذلك لا نعلم حقيقة وجوده فلم يقع تحديده بالوجود أيضا (إذ لم يكن بين النفي والإثبات منزلة) هذا دليل على قولنا أثبته يعني ليس بين النفي والاثبات واسطة وهذا من أجلى الضروريات إذا أبطلنا النفي تحقق الإثبات بالضرورة.

(قال له السائل: فله إنية ومائية؟) أي فله وجود وحقيقة (قال: نعم لا يثبت الشيء) في الأعيان (إلا بإنية ومائية) (2) لا يقال فعلى هذا يقع المشابهة بينه وبين خلقه في الوجود المشترك بينهما لأنا نقول: المراد بالوجود مبدء الآثار ومبدء الآثار فيه جل شأنه هو ذاته المقدسة الحقة الأحدية المنزهة

ص:75


1- 1 - قوله «لم أحده» حد الوجود هو الماهية، لأن الماهيات تميز موجودا عن موجود كحدود الدار تميز دارا عن دار أخرى، فالحجر ماهية والشجر ماهية ولا يترتب على الحجر خواص الشجر ولا على الشجر خواص الحجر، وكل واحد منهما ممتاز عن الآخر بماهيتهما ومعناهما وإن كل الوجود مشتركا بينهما ولو لم يكن اختلاف الماهية لترتب خواص الشجر على الحجر وبالعكس فالوجود في ذاته مع قطع النظر عن الماهيات غير محدود أي يترتب عليه جميع الآثار وإنما يتحدد آثاره بعروض الماهية ومفاد سؤال الزنديق أنك إذا أثبت وجوده تعالى فقد أثبت له حدا إذ كل موجود له آثار تترتب عليه خاصة ولا تترتب تلك الآثار على غيره فكل موجود محدود والجواب أن إثبات وجوده تعالى لا يستلزم إثبات المحدودية له إذ يتعقل أن يثبت وجود يترتب عليه جميع الآثار ويفيض منه جميع الكمالات فيكون غير محدود وهذا يشبه ما أثر عن بعض الحكماء أن بسيط الحقيقة كل الأشياء. ويتوجه هنا رد سؤال وهو أن الله تعالى هل هو محدود الوجود إلا أنا لا نعلم حده أو ليس بمحدود أصلا، والجواب الصحيح أنه ليس بمحدود أصلا إذ لا ماهية له لا أنه محدود ولا نعلم حده كما يقول به من قال له ماهية مجهولة الكنه. وقال صاحب المنظومة: الحق ماهيته إنيته * إذ مقتضى العروض معلوليته فهو نفس حقيقة الوجود وأصل التحقق لا شيء له التحقق وعرض له الوجود. (ش)
2- 1 - قوله «لا يثبت الشيء إلا بإنية ومائية» لا ينافي ما يقال من أن وجوده عين ماهيته. (ش)

عن التكثر والتعدد مطلقا وفي الخق أمر زايد على ذواتهم عارض لها موجب لحصولها في الأعيان وهو الذي يعبر عنه بكونهم في الخارج سواء كان متحققا فيه أو أمر اعتباريا محضا منتزعا من المهيفات على اختلاف القولين (1) فعلى هذا لا تشارك بينه وبين خلقه في الوجود إلا باعتبار الاسم كما في العالم والقادر وسائر الأسماء المشتركة لا يقام: هذا لا ينفع لوقوع التشابه حينئذ بينه وبين وجود الأشياء في كون كل منهما مبدء للآثار لأنا نقول: هو مبدء الآثار بحيث لا يحتاج في صدورها إلى غيره أصلا ووجودات الأشياء في المبدئية لآثارها تحتاج إلى غيرها من جهات شتى كما لا يخفى، فلا تشارك في المبدء أيضا إلا باعتبار الاسم، لا يقال: ما ذكرته من أن وجوده عين ذاته (2) مناف لقوله (عليه السلام): «نعم» أي نعم فله إنية ومائية لأنه يفيد أن وجوده مغاير لذاته، لأنا نقول:

المراد بالمغايرة المغايرة الاعتبارية فإنه ذات من حيث هو ووجود من حيث أنه مبدء كما أنه ذات وقدرة وعلم باعتبار الحيثيات ولا يوجب ذلك التكثر في الذات وإنما التكثر في الأمور الخارجة عنها، وقد يقال: المراد بإنيه الواجب وإنية الممكن الأمر المنتزع من الحقيقة العينية الذي يعبر عنها بحصولها في الأعيان وهذا الأمر المنتزع مغاير لجميع الحقايق العينية حتى لحقيقة الواجب أيضا ولا يلزم أن يكون للواجب صفة زايدة عن ذاته لأن هذا المنتزع أمر اعتباري (3) لا تحقق له في الخارج.

(قال له السائل: فله كيفية؟) كأنه توهم من ثوبت الإنية له ثبوت الكيفية له وقصده من ذلك

ص:76


1- 2 - قوله «على اختلاف القولين» يعني بهما أصالة الوجود وأصالة الماهية. (ش)
2- 1 - قوله «من أن وجوده عين ذاته» لا يريب أن وجوده تعالى عين ذاته كما ذكره الشارح والأنية في كلام الإمام (عليه السلام) بمعنى الوجود والمائية بمعنى الماهية بلا إشكال وأثبت (عليه السلام) لكل شيء حتى لواجب الوجود ماهية وهذا ينافي ما اختاره الشارح من أنه لا ماهية له تعالى غير الوجود وأيضا يخالف أظهر الاحتمالين في قوله (عليه السلام) «لم أحده ولكني أثبته» إذ معناه أني أثبت وجوده من غير أن أثبت له ماهية، والجواب أن الماهية قد تطلق ويراد بها ما به الشيء هو وأن كل نفس الوجود وبهذا المعنى يقال: الحق ماهيته إنيته، فلواجب الوجود إنية أي وجود وهو واضح وماهية أي ما به هو ولكنه عين وجوده بخلاف الممكنات فإن ما به هو فيها غير الوجود. (ش)
3- 2 - قوله «لأن هذا المنتزع أمر اعتباري» وبذلك يدفع إشكال الفخر الرازي وغيره من أمثاله. بيانه أنكم تقولون لا يمكن معرفة حقيقته تعالى وذاته للانسان ثم تقولون إن حقيقته عين الوجود وتقولون إن الوجود بديهي وهو أعرف الأشياء وهذا يوجب أن يكون ذاته تعالى معلومة للبشر والجواب أن مفهوم الوجود العام البديهي ليس عين ذات الواجب تعالى بل حقيقة الوجود الخاص به وهذا نظير مفهوم المرض والدواء فإن هذين بديهيان يعرفهما جميع أفراد الإنسان من البدوي والقروي والجاهل والعالم وقد يشتري من الصيادلة دواء يعرفه باسمه ويعلم أنه دواء ولا يعرف حقيقته وأنه مركب من أي أجزاء وعناصر أو بسيط ومأخوذ من أي نبات أو معدن بالجملة فمعرفة الوجود العام نظير معرفة الدواء العام لا يوجب معرفة حقيقته المشخصة. (ش)

السؤال هو التقرير وإلا لزم بأن ثبوت الكيفية له مناف لما ذكرته من أنه لا يشابه خلقه.

(قال: لا لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة) يعني أن كيفية الشيء منشأ لاتصافه بصفة وتحديده بها وإحاطتها به (1) مثل اتصافه بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللينة والصلابة واللزوجة والسلاسة والمقاومة والدفع والضوء واللون والصوت والرايحة والحلاوة والدسومة، والحموضة والملوحة، والمرارة والعفوصة والقبوضة والتفاهة، والعلم والجهل، واللذة والألم، والصحة والمرض، والفرح والحزن والغضب والخوف والهم والعجل، والحقد، والاستقامة والانحناء، والتقعير والشكل، والزوجية والفردية.

ويحتمل أن يراد بجهة الصفة تغير موضوعها فان هذه الصفات كلها توجب تغير موضوعاتها إما بالفعل والتأثير أو بالانفعال والتأثر أو بالاستعداد والقابلية، وكل ذلك من صفات الخلق وتوابع الإمكان والله سبحانه منزه عنها، ولما كان السائل منكرا لوجود الصانع ولذلك كلما بلغ الجواب إلى غاية الإيضاح أعاد السؤال عن أصل وجوده أو عن أحواله وكيفيته المقتضية لتشبهه بخلقه اقتضى المقام زيادة التأكيد والمبالغة في إثبات وجوده ونفي الكيفية عنه، فلذلك قال (عليه السلام): (ولكن لا بد) للمتأمل في ذات الصانع وصفاته (من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه) أي عن نفيه وتشبيهه بالخلق في الذات أو في الصفات الذاتية والفعلية (لأن من نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيته وأبطله) وهذا خلاف ما يقتضيه العقل الصحيح واضطرار المصنوعين.

(وقد شبهه بغيره) من الموجودات في الذات والصفات بعدما أثبت وجوده (فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية) وهذا باطل لامتناع أن يكون صانع جميع المصنوعات مصنوعا مثلهم مشاركا لهم في ذاتهم وصفاتهم التابعة لحدوثهم وإمكانهم، وقد ثبت من هاتين المقدمتين أنه يجب الاعتقاد بأنه موجود مبدء لذوات جميع الموجودات وصفاتهم وأن ذاته ووجوده وصفاته ليس كذوات سائر الموجودات ووجوداتهم وصفاتهم وأن كل ماله من صفات الكمال أرفع وأجل من أن يدركه العقول أو يناله الأوهام أو يحيط به الأفهام، وإليه أشار بقوله (ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها

ص:76


1- 3 - قوله «واحاطتها به» والأظهر أن يقال المراد إحاطة ذهن الإنسان به لأنه إذا كان له تعالى كيفية جاز للإنسان أن يصفه بتلك الكيفية ويحيط ذهنه به علما ولذلك قال بعده «لا بد له من إثبات أن له كيفية لاستحق لها غيره» وبينه الشارح بأبلغ وجه ولكن يجب أن يحمل الاشتراك الاسمي في كلامه على اختلاف مصاديق الألفاظ لا اختلاف المفاهيم إذ ليس مفهوم الوجود المطلق على الله تعالى غير مفهومه المطلق على الممكنات حتى يثبت الاشتراك اللفظي بل الاختلاف في المصاديق وكذلك العلم والقدرة وغير ذلك. (ش)

غيره) لم يرد بكيفيته المعنى المعروف لغة وعرفا وهي الهيئة الحاصلة للشيء باعتبار اتصافه بالصفات التابعة للحدوث الموجبة لتغير موصوفاتها وتأثر موضوعاتها فإن هذا المعنى محال في شأن الواجب بالذات بل أراد بها ما ينبغي له من الصفات الذاتية والفعلية والسلبية المخصوصة به سبحانه بحيث لا يستحقها وغيره لا على سبيل الانفراد ولا على سبيل الاشتراك، ولا تكون خارجة عن ذاته ولا يحاط ذاته بها ولا يعلم حقيقتها غيره وإطلاق لفظ الكيفية عليها على سبيل التوسع والتجوز لتعاليه عما يتبادر إلى الأذهان من إطلاق هذا اللفظ وغيره من الألفاظ المشتركة مثل الذات والموجود والعالم والقادر والسميع والبصير فوجب علينا أن نحملها عند إطلاقها عليه على المعنى اللايق به ونعتقد أن ذاته ووجوده وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ليست مثل ذاتنا ووجودنا وعلمنا وقدرتنا وسمعنا وبصرنا وأن المراد منها في شأنه ما هو أشرف وأعلى مما يصل إلى عقولنا وأن الاشتراك ليس إلا بمجرد الاسم فقط من غير مشاركة في المعنى بوجه من الوجوه ولما أثبت (عليه السلام) أنه صانع وغيره مصنوع توهم السائل أن فعله في الصنع كفعلنا في الاحتياج إلى الحركة والمباشرة وتحريك الآلات فلذا (قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟) (1) أي يلامسها ويباشر خلقها بنفسه

ص:78


1- 1 - قوله «فيعاني الأشياء» ليس تصور كيفية صدور المعلول من العلة عند الماديين أسهل من تصور أصل العلة لأن المعهود عندهم في الفواعل أن يباشروا التحريك والضم والتفريق كالنجار والبناء والمباشرة لا يتصور إلا أن يكون الفاعل جسما كالمنفعل، والمعقول عندهم من الفاعل غير المباشر أن يأمر عبيده وخدمه وعماله والماديون المتدينون أعني المجسمة والحشوية أيضا لا يعقلون غير ذلك فيتصورون خالق العالم جسما في السماء يحوطه خدمه وعماله وهم الملائكة وهم أجسام أيضا ينفذون أوامر الله تعالى كعمال السلطان وينكر ذلك المادي الملحد، وظن السائل أنه يمكن إفحام الإمام (عليه السلام) بهذا السؤال كما كان أفحم غيره من محدثي العامة وحشويتهم. فأجاب (عليه السلام) بأنه تعالى لا يحتاج إلى المعاناة والمعالجة كما يحتاج إليه صناع الإنس إذ لا يطيع الموجودات أحدا بصرف إرادته ولا يمكن أن يوجد الباني بيتا بالنية فيتوسل بالتصرف والمعالجة ولكن الله تعالى يوجد كل شيء بالمشيئة ولا يحتاج إلى شيء آخر وأما الملائكة وساير الوسائط كالطبايع والقوى والنور والمطر والشمس والريح والأدوية وغير ذلك فليس لعجز واجب الوجود جلت قدرته واستعانته بهم بل لنقصان بعض الممكنات عن قبول الفيض بلا واسطة ولا يليق بكونه أول ما خلق الله إلا أشرف الموجودات وهو الإنسان الكامل وساير الأشياء وجدت بواسطته وقلنا: إن صدور المخلوق عن الخالق تعالى لا يقاس بأي شيء مما نراه فإن مثلنا بالباني والبيت توهم منه استغناء المخلوق عنه في البقاء. وإن مثلناه بالنور والشمس توهم عنه كونه تعالى فاعلا مضطرا غير عالم بما يفعل وكونه بعيدا غير حاضر، وإن مثلناه بالبحر وظهوره في أمواجه توهم منه الحلول وإن كان حسنا من جهة بيان عدم استقلال المخلوق في وجوده وفي قربه من معلوله وحضوره معه، وأما الزنديق السائل فكان معتقدا للنور والظلمة وتكون الأشياء بامتزاجهما وهذا معنى معقول للماديين كما أن النور والظلمة ماهيتان معقولتان لهم ولو مثل لهم بفعل النفس في البدن أو في الافكار والمتخيلات كان أقرب إلى ذهنهم لأن النفس معنى معقول لهم في الجملة، فيخترع كالمهندس صورا ويوجدها في ذهنه بحيث تنعدم وتنمحي إذا قطع توجهه إليها باختياره. (ش)

ويتعب في إيجادها باستعمال الآت وقوة قائمة به في النهاية معاناة الشيء ملابسته ومباشرته، وفي المغرب العناء المشقة، وفي الصحاح عني بالكسر عناء أي تعب ونصب.

(قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة) أي بمباشرة بالأعضاء والجوارح ومزاولة بالحركة والانتقال ومعاملة بالآلات والقوى (لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيء الأشياء له) أي لا تنقاد له ولا يتمكن هو على فعلها (إلا بالمباشرة والمعالجة) لعجزه وضعف قدرته وعدم ترتب فعله على مجرد إرادته فيحتاج في تنفيذ مشيته إلى المباشرة والحركات واستعمال القوى والآلات (وهو متعال) عن الاتصاف بصفات المخلوق (نافذ الإرادة والمشية) في جميع الممكنات (فعال لما يشاء) بمجرد إرادته ومشيته بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس (1) اضطرب فيها، ولا مباشرة يتأثر بها ولا معالجة يتعب منها فسبحان من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون، بلا صوت يقرع. ولا نداء يسمع فهو متوحد في ذاته إذ لا تكثر فيه ومتوحد في أفعاله إذ لا شريك له من الآلات والقوى غيرها.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى، عمن ذكره قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام): أيجوز أن يقال: إن الله شيء؟ قال: نعم يخرجه من الحدين حد التعطيل وحد التشبيه.

* الشرح:

قد مر شرحه مفصلا.

ص:79


1- 1 - الرواية: الفكر. وأجالها أي أدارها وردها، وهمامة النفس - بفتح الهاء - اهتمامها بالأمر، وقصدها إليه.

باب انه لا يعرف إلا به

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عمن ذكره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن حمران عن الفضل بن السكن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان ومعنى قوله (عليه السلام) اعرفوا الله بالله يعني أن الله خلق الأشخاص والأنوار والجواهر والأعيان، فالأعيان: الأبدان، والجواهر: الأرواح، وهو جل وعز لا يشبه جسما ولا روحا، وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح والأجسام فإذا نفى عنه الشبهين: شبه الأبدان وشبه الأرواح فقد عرف الله، وبالله وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله.

* الشرح:

(علي بن محمد، عمن ذكره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن حمران) أبو جعفر الكوفي روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثقة (صه) (عن الفضل بن السكن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة) أي بأنه متصف برسالته تعالى إلى عباده لتكميل نظامهم مع الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والشرايع الإلهية والنواميس الربانية (واولي الأمر) وهم القائمون مقامه وحجج الله على عباده وخزانة علمه (بالمعروف) في بعض النسخ «بالأمر بالمعروف» يعني اعرفوا الإمام بهذا الوصف وهو كونه متصفا بالمعروف (والعدل والإحسان) أو كونه آمرا بها، والمعروف حدود الله وأحكامه وأخلاقه التي حدها الناس ومنعهم من التجاوز عنها والتعطيل لها، والعدل الانصاف أو التحلي بالأوساط الحميدة في باب التوحيد كالتوحيد المطلق بين التعطيل والتشبيه والقول بكسب العبد بين الجبر والتفويض وفي باب الأعمال كأداء الواجبات والسنن بين البطالة والترهيب وفي باب الاخلاق كالحكمة بين البلاهة والدهاء والعفة بين العنة والشره والسخاء بين البخل والتبذير، والشجاعة بين التهور والجبن، والإحسان أن يعبد الله كأنه يراه أو التفضل ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «عاتب أخاك بالإحسان إليه واردد شره بالإنعام عليه (1)» أراد أن العتاب القولي قلما يفيد، والفعلي من الإحسان يجذب القلوب ويوصل إلى المطلوب. ومن ثم أمر الله سبحانه بالإحسان فإنه يستعبد الإنسان.

ص:80


1- 1 - النهج قسم الحكم والمواعظ تحت رقم 158.

(ومعنى قوله (عليه السلام): اعرفوا الله بالله) هذا كلام المصنف يدل عليه أنه نقل الصدوق هذا الحديث بسنده في كتاب التوحيد إلى قوله: «والإحسان» ثم قال بعد كلام حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق (رحمه الله) قال: سمعت محمد بن يعقوب يقول: معنى قوله: «اعرفوا الله بالله - إلى آخره» (يعني أن الله خلق الأشخاص) المتلبسة بالخصوصيات الشخصية (والأنوار) اللايحة في الأجرام النورية (والجواهر) القائمة بذاتها الغير المفتقرة إلى الموضوع (والأعيان، فالأعيان) التي لها هيئة وجثة معلومة (الأبدان) التي لها جوارح وأعضاء مخصوصة (والجواهر) الصرفة العارية عن العلايق المادية ذاتا وفعلا (والأرواح) التي هي الملائكة أو النفوس البشرية. وفي بعض النسخ «والجواهر الأرواح» بترك العاطف بينهما ورفعهما على الابتداء والخبر.

قال عياض: الروح والنفس بمعنى واحد لقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن الله قبض أرواحنا» وقوله تعالى (الله يتوفى الأنفس حين موتها) وقيل: الروح جسم لطيف (1) مودع في البدن محل للأخلاق الملعونة كما أن الروح محل للأخلاق المحمودة والإنسان يطلق على ذلك كله وقيل: الروح هو النفس المتردد في الجسد.

وقيل: الروح أمر مجهول لا نعلم حقيقته. وقيل غير ذلك.

(وهو جل وعز لا يشبه جسما) وكذا لا يشبه جسمانيا (ولا روحا) لتنزهه عن الجسمية ولواحقها وعن التشبه بالخلق المحتاج (وليس لأحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب، هو المتفرد بخلق الأرواح) السماوية والحيوانية (2) (والأجسام) الأرضية والفلكية، وفيه رد على من نسب خلقها إلى العقول المردة والمبادي العالية زعما منهم أنه تعالى واحد لا يصدر عنه إلا واحد، وتنبيه على استحالة مشابهته بمخلوقاته الحادثة (فإذا نفي عنه الشبهين: شبه الأبدان وشبه الأرواح) يمكن إدراج الأجسام والجسمانيات كلها في الأبدان وإدراج المجردات ولواحقها كلها في الأرواح للاشتراك في علة النفي فيكون المراد حينئذ نفي مشابهته عن جميع ما سواه.

ص:81


1- 1 - قوله: «وقيل النفس جسم لطيف، ومذهب الشارح تجرد النفوس الناطقة كما مر عنه مكررا وغرضه هنا صرف نقل الأقوال. (ش)
2- 2 - قوله «بخلق الأرواح السماوية والحيوانية» فرق الحكماء بين النفوس السماوية والحيوانية بكون الثانية آلية والسماوية غير آلية فإن الحيوانات إذا نظر إليها رأى فيها آلات مختلفة لأفعال مختلفة كالبصر والسمع واليد والرجل ويعلم بذلك أنها أحياء وأما السماوات عند القدماء فلا يرى فيها آلات فهي كرحى متشابه الأجزاء فيه حركة مستديرة من غير محرك ظاهر لا يشك من رآه أن محركه موجود شاعر وهو النفس السماوية وبهذا يعرف حياتها. (ش)

(فقد عرف الله بالله) أي بما يليق به وهو أنه هو الله المبدء المسلوب عنه صفات الخلق ومشابهتهم كما قال: ليس كمثله شيء (وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور) أو بغير ذلك من الجواهر والأعراض (فلم يعرف الله بالله) إذ كل ما اتصف بمشابهة شيء من ذلك فهو مصنوع مثله ليس هو الله الصانع جل شأنه وإنما اقتصر في معرفة الله بالله على ذكر الصفات السلبية ولم يذكر معرفته بالصفات الثبوتية الذاتية إما لأن الصفات الذاتية أيضا عند التحقق راجعة إلى السلب فإن قدرته عبارة عن عدم عجزه عن شيء وعلمه عبارة عن عدم جهله بشيء وعلى هذا كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «كمال التوحيد المطلق والإخلاص المحقق لا يتقرر إلا بنفض جميع ما عداه عنه ونفي مشابهته بالغير ويسميه أهل العرفان بمقام التخلية (1) ولما كان مقام التخلية مقدما على مقام التحلية وكان الغرض من هذا الحديث تعليم كيفية السلوك إليه سبحانه وكانت العقول البشرية القاصرة عن إدراك حقيقة وحقيقة صفاته سائرة من هذا العالم المحسوس إليه مع رفاقه الوهم والخيال وكان الوهم حاكما بمثليته تعالى لمدركاته من المحسوسات ومشابهته بالمخلوقات اقتصر على ذكر السلب للتنبيه على أنه يجب على السالك أن يغسل درن الحكم الوهمي في شأنه تعالى عن لوح الخيال فهو أهم بهذا الاعتبار.

وإن أردت زيادة توضيح فنقول: لمعرفته تعالى طريقان (2) الأول معرفة الحق بالحق ومعرفة ذاته الحقة بذاته أو بجميع الصفات الكمالية التي هي نفس ذاته الأحدية لا بواسطة أمر خارج عنه وحيثيات مغايرة له، وهذه المعرفة ليست لمية لتعاليه عن العلة ولا إنية لعدم حصولها بواسطة المعلول وأيضا المعرفة اللمية والإنية إنما تحصلان بالنظر والاستدلال وهذه المعرفة إنما تحصل بالكشف والظهور للكمل من أوليائه كما قال سيد المرسلين «لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل» وهي مرتبة الفناء في الله (3) بحيث لا يشاهد فيها غيره فهو معروف بالذات لا بغيره

ص:82


1- 1 - قوله «ويسميه أهل العرفان بمقام التخلية» شبه تنزيه الله تعالى عن النقائص بتخلية القلوب والنفوس عن الرذائل والانهماك في حب الدنيا. (ش)
2- 2 - قوله «لمعرفة الله طريقان» والأحسن أن يثلث الطريق كما فعل في شرح الحديث الأول وأحسن منهما أن لا يحد بعدد كما أشار إليه هناك وقوله «وليست لمية لتعاليه عن العلة» لأن البرهان اللمي هو الاستدلال من العلة على المعلول ولا علة له تعالى وبرهان الصديقين الذي أشار إليه الشارح فيما سبق شبيه باللم عندهم إذ ليس استدلالا من المعلول وإن لم يكن من العلة وهو النظر في أصل الوجود والحق أن الكليني لا يريد من معرفة الله بالله إثبات وجوده به بل تصور ذاته بذاته لا بمشابهة ما سواه. (ش)
3- 3 - قوله «هي مرتبة الفناء» قلنا في حواشي الوافي إن الجسم والجوهر الذي يجعل جنسا للتعاريف إنما حصل في ذهننا من مقايسة الموجودات بعضها مع بعض وملاحظة اشتراكها في معنى عام كالجسمية المشتركة بينها ولا يجوز تعريف ماهيته تعالى بالجسمية والجوهرية وهذه المعاني المنتزعة من الممكنات إذ يثبت التشبيه. بل يجب في مقام التعريف أن يقال هو هو وهو ذاته ولا يحكى عنه ولا يشبه شيئا غيره لا مجردا كالروح حتى يقال في جنسه إنه جوهر ولا ماديا كالأبدان حتى يقال إنه جسم انتهى ما أردنا نقله وبالجملة إذا عرفناه بالجسم والجوهر وهذه الأمور فقد عرفناه بغيره، وأن قلنا إنه هو ولا يشبه شيئا فقد عرفنا الله بالله وليس المقصود إثبات وجوده بوجوده. (ش)

وكما قال سيد الوصيين أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» إذ لا شبهة في أن هذه الرؤية ليست رؤية ظاهرية بل هي رؤية قلبية ولا في أنها ليست مستندة إلى واسطة لاستلزامه بطلان الحصر ومثله قول بعض الأولياء «رأيت ربي بربي ولولا ربي ما رأيت ربي» والظاهر أن قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) إشارة إلى هذه المرتبة لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ إلى مقام يرى فيه الرب بالرب وبه يستشهد على كل شيء، ثم الظاهر أن هذا إشارة إلى أنه يمكن لكل أحد أن يعرف ربه بربه بلا نظر واستدلال كما قال بعض الأكابر «إن وجود الحق ضروري».

الثاني معرفته بالنظر والاستدلال بما دل به على نفسه من الآثار العجيبة والأفعال الغريبة كما هو طريق المتكلمين الذين يستدلون بوجود الممكنات وطبايعها وصفاتها وإمكانها وحدوثها وتكونها وقبولها للتغير والتركيب على المبدء الأول وإلى هذا الطريق أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «الحمد لله الذي دل على وجوده بخلقه» (1) وقد أشار إليه جل شأنه في مواضع كثيرة من القرآن العزيز وكيفية معرفته تعالى من هذين الطريقين والواجب على أهل كل طريق أن يعرفوا أنه تعالى مبدأ أول لجميع الموجودات لا يشابه شيئا منها في الذات والصفات وأن ينزهوه عما لا يليق به والمصنف (رحمه الله) حمل قوله (عليه السلام) «اعرفوا الله بالله» على كيفية معرفته الحقة الحقيقية التي تليق بجناب قدسه الأحدي الذات والصفات المنزه عن المشابهة لشيء من الممكنات ليفيد أن معرفته بخلاف ذلك ليست بمعرفة بل هي شرك بالله، العظيم ويمكن حمله على الطريق الأول للمعرفة لأنه أكمل وأحسن بل على الطريق الثاني أيضا لأن معرفته تعالى بأي طريق كان حاصله بالله ومن جانبه ومما يؤيد ذلك ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد بقوله «الصواب في هذا الباب أن يقال عرفنا الله بالله» لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها، وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه (عليهم السلام) فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فيه عرفناه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): بم عرفت ربك؟

ص:83


1- 1 - النهج قسم الخطب تحت رقم 50 وقد تقدم.

قال: بما عرفني نفسه، قيل: وكيف عرفك نفسه؟ قال: لا يشبهه صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه. فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كل شيء ولا يقال: له أمام داخل في الأشياء لا كشيء داخل في شيء، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ولكل شيء مبتدأ.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن عقبة) الظاهر أن عقبة هذا (1) هو الذي ذكره العلامة في قسم المعتمدين وصححه بضم العين وإسكان القاف وقال: هو أبو عمرو الأنصاري صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفة علي (عليه السلام) (ابن قيس بن سمعان بن أبي ريحة) بالراء المهملة المضمومة، والباء المنقطة تحتها نقطة، ثم الياء المنقطة تحتها نقطتين ثم حاء مهملة بعدها هاء وفي بعض النسخ «أبي زيحة» بالزاي المعجمة المفتوحة والياء الساكنة المثناة من تحت ثم حاء مهملة بعدها هاء.

(مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) بم عرفت ربك؟ قال: بما عرفني نفسه) مما ذكره في القرآن أو مما ألهمنيه (قيل: وكيف عرفك نفسه؟ قال) عرفني بأنه (لا يشبهه صورة) لأن كل صورة تفتقر إلى ما تحل فيه والله سبحانه لا يفتقر إلى شيء. وفيه رد على المصورة (ولا يحس بالحواس) المراد بالحواس المشاعر فيندرج فيها العقل وذلك لأنه تعالى كما لا يقبل الإشارة الحسية لكونها متعلقة بجسم وجسماني وماله وضع وهيئة كما بين في موضعه، كذلك لا يقبل الإشارة العقلية لاستلزامها تحديد المشار إليه وتوصيفه بصفات كلية وأوضاع عقلية وإنما غاية كمال العقل في معرفته أن يتصوره من جهة صفاته السلبية والإضافية أو من جهة عنوانات صفاته الثبوتية الذاتية لا من حيث أنه عين تلك العنوانات أو معروض لها بل من حيث أنه عين فرد منها في الخارج ويصدق بوجوده بالمشاهدة الحضورية والبراهين القطعية

ص:84


1- 1 - قوله «الظاهر أن عقبة هذا، لا أدري من أين استظهر هذا الظاهر وما هي القرائن التي فهم الشارح منها كون عقبة هذا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحق أنه سهو - منه قدس سره - ولم يكن دأبي التكلم في رجال هذه الأحاديث والنظر في إسنادها لأن الرواية في الأصول والاعتماد فيها على المتن والمضمون وإلا فأكثر أحاديث أصول الكافي ضعيف الإسناد ولو كان إسنادها معتبرا لم يكن حجة أيضا ولكن معانيها ومتونها غالبا مطابقة لما تواتر من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولما دل عليه العقول فإن وجد فيها شيء يشك في صحته وجب التوقف فيه وأما عقبة هذا فليس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لأن أحمد بن محمد بن خالد الذي كان في آخر المائة الثالثة روى عنه بواسطة واحدة فلا بد أن يكون علي بن عقبة في أوائل المائة الثالثة أو أواخر الثانية ويكون في طبقة بن أبي عمير وأمثاله في عصر الرضا أو الجواد (عليهما السلام) وبالجملة علي بن عقبة هذا مجهول لا نعرفه وليس علي بن عقبة ابن خالد الثقة المشهور ولا ضير فيه. (ش)

منزها له عما يتلقاها الحس والوهم من توابع إدراكاتها مثل التعلق بالمواد والوضع والأين والمقدار والإشارة والتحديد وغير ذلك.

(ولا يقاس بالناس) لأن قياسه بهم إما في الحقيقة أو في الجنس أو في الفصل أو في الصفات والكيفيات وكل ذلك على الواجب بالذات المنزهة عن التشابه بالممكنات محال (قريب) من كل شيء بالعلم والإحاطة بكلياته وجزئياته (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) ولما كان المتبادر من إطلاق القريب هو الملابسة والإلصاق والمشابهة نزه قربه تعالى عن هذه الامور بقوله (في بعده) أي في حال بعده عن كل شيء بالمقارنة والملابسة والمشاركة معه في ذاته وصفاته فأخرجت هذه القرينة لفظ القرب عن الحقيقة إلى المجاز وكسرت الأحكام الوهمية في ذاته وصفاته (بعيد) عن مشابهة الخلائق ذاتا وفات وعن تناول العقول له حدا وكيفية وعن العلم بحقيقة ذاته وصفاته تفصيلا وإجمالا ولما كان المتبادر من إطلاق البعد هو البعد بحسب المكان والمسافة والجهة نزه بعده تعالى عن هذه المعاني بقوله (في قربه) أي حال قربه من كل شيء بالمعنى المذكور وفيه إشارة إلى أنه تعالى ليس بزمان وزماني (1) ولا مكان ومكاني إذ لا يمكن اتصاف شيء منها بالقرب والبعد من جميع الأشياء من كل وجه (فوق كل شيء) بالقهر والغلبة إذ كل شيء مسخر لحكمه وقدرته ومقهور لإرادته ومشيته إن شاء أوجده وأبقاه وإن شاء أعدمه وأفناه.

(ولا يقال شيء فوقه) لأن كل شيء مقهور له والمقهور لا يكون قاهرا عليه ولو وصف غيره بالقهر والقدرة فإنما هو بالنسبة إلى ضعيف دونه وإذا نسب إلى من فوقه كان ضعيفا بالنسبة إليه وكذلك من وفوقه إلى أن ينتهي إلى تمام القدرة القاهرة قدرة الله الذي هو الفوق على الإطلاق القاهر الغالب على جميع من عداه وكل من عداه في رق الحاجة إليه وذل العبودية بين يديه.

(أمام كل شيء) (2) أي قبل كل شيء ومتقدم عليه بالعلية لاستناد جميع الموجودات على

ص:85


1- 1 - قوله «وفيه إشارة إلى أنه تعالى «ليس بزمان وزماني» وذلك لأن الشيء المكاني لا يمكن أن يكون قريبا وبعيدا معا وهو تناقض وأما المجرد فنسبته إلى جميع الأشياء نسبة واحدة كالنفس بالنسبة إلى جميع أجزاء البدن فالله تعالى ليس في مكان وكذلك الزماني لا يمكن أن يكون قريبا من زماني آخر بعيدا عنه فالله تعالى ليس في زمان ولذلك نسبته إلى جميع الأمكنة والأزمنة واحدة. (ش)
2- 2 - قوله «أمام كل شيء» فإن قيل فكيف ورد في القرآن «والله من ورائهم محيط» بل كيف ورد أنه بكل شيء محيط ومعنى الإحاطة كونه في جميع الجهات. قلنا إذا نفينا عنه المكان لم يكن فوق ولا تحت ولا أمام ولا خلف حقيقة وإذا أريد المعنى المجازي فالأمام بالمعنى المجازي هو التقدم بالعلية فهو يوجب نفي كونه من وراء أي كونه معلولا وأما الإحاطة بمعنى العلم وعدم اختفاء شيء عنه فصحيح مجازا. (ش)

تفاوت مراتبها وكمالاتها إليه (ولا يقال له أمام) لأنه مبدء كل موجود ومرجعه فهو المتقدم الذي لا يتقدمه شيء في الوجود والكمال والرتبة والشرق، والفرق بين هذه الفقرة وما تقدمها أن المقصود فيما تقدم هو الإشارة إلى وصف قدرته بالتمام على كل مقدور وإظهار عجز ما سواه، والمقصود في هذه هو الإشارة إلى أنه مبدء لجميع الموجودات ومتقدم عليها مع اشتراكهما في الإشارة إلى مطالب آخر وهي وجوب وجوده لذاته وأزليته وأبديته ووحدته وعينية صفاته وعدم الحلول والتحيز والتركيب والافتقار إلى شيء كل ذلك ظاهر.

(داخل في الأشياء) (1) بالعلم والإحاطة بكلياتها وجزئياتها وكيفياتها والتصرف كيف يشاء ولما كان المتبادر من الدخول هو الظرفية والحلول أشار إلى تقدسه عن هذا المعنى بقوله (لا كشيء داخل في شيء) أي لا كدخول الممكنات بعضها في بعض كدخول الجزء مثلا في الكل ودخول الحال في المحل ودخول الجسم في المكان فإن الدخول بهذا المعنى من لواحق الإمكان وتوابع الافتقار وهي على واجب الوجود لذاته محال.

(وخارج من الأشياء) المراد بخروجه منها مباينة ذاته المقدسة وصفاته الكاملة عن مشابهة شيء منها ولما كان المتبادر من خروج شيء من شيء اختصاصه بالوضع والتحيز وخروج الجسم والجسماني من مكانه نزهه تعالى عن هذا المعنى بقوله (لا كشيء خارج من شيء) كخروج الجسم من مكانه وخروج الحال من محله وخروج ذي الهيئة من هيئته إلى هيئة اخرى فإن أمثال ذلك من خواص الإمكان، ثم أتى بالتنزيه المطلق عن جميع ما لا يليق به على سبيل الإجمال فقال:

(سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره) سبحان مصدر مضاف إلى المفعول من سبحه إذا نزهه أي انزه تنزيها عن جميع المعايب والنقايص من اتصف بهذه الصفات ولا يتصف بشيء منها غيره، ويحتمل أن يكون سبحان للتعجب من كمال تنزهه وبعده عن صفات المخلوقين وبعدهم عن صفاته. وفيه إشارة إلى أنه كما لا يكون له مشارك في صفاته الذاتية الكمالية كذلك لا يكون له مشارك في صفاته السلبية.

ص:86


1- 1 - قوله «داخل في الأشياء» لا بالحلول كما يتبادر إلى أذهان العامة بل بمعنى كونه وجودا قائما بذاته وساير الأشياء أظلالا وعكوسا وروابط لا تستقل ولا تتقوم إلا بقيوميته كصور تتخيله في ذهنك لا وجود لها إلا بان تحفظها بقوتك المتخيلة وقد مثله العرفاء بالبحر والأمواج حيث لا وجود مستقلا للأمواج إلا تبعا للبحر ويوهم تمثيلهم الحلول كما يوهم تمثيل غيرهم بالبناء والبناء والنور والشمس لوازم باطلة أخر على ما مر وقد يمثلون بالعكس والعاكس وأحسن العبارات ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء» وهذا هو المعنى الصحيح لوحدة الوجود. (ش)

(ولكل شيء مبتدأ) الظاهر أنه مبتدأ وخبر ويحتمل أن يكون عطفا (1) على قوله هكذا يعني سبحان من هو لكل شيء من الموجودات الممكنة مبتدء يبتدء منه وجود ذلك الشيء وكمالاته وما يليق به وإذا كان هو مبدء لجميع الموجودات كان واجب الوجود لذاته لاستحالة أن يكون مبدء الجميع ممكنا.

* الأصل:

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله جل جلاله أجل وأعز وأكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله، فقال رحمك الله.

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني ناظرت قوما) في باب معرفة الله تعالى (فقلت لهم: إن الله جل جلاله) ليس «جل جلاله» في بعض النسخ (أجل وأعز وأكرم من أن يعرف بخلقه) أي بإرشاد خلقه والحجج (عليهم السلام) هم المرشدون إلى سبيل المعرفة وأما الهداية فموهبية كما دل عليه بعض الروايات، ودل عليه أيضا قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) أو بصفات خلقه لأن معرفته بها شرك بالله العظيم.

(بل العباد يعرفون بالله، فقال: رحمك الله) (2) أي يعرفون الله بهدايته وتوفيقه أي بما عرفهم به

ص:87


1- 1 - قوله «ويحتمل أن يكون عطفا» وهنا احتمال ثالث أظهر منهما نقله المجلسي عليه الرحمة قال: وقيل الجملة حالية أي كيف يكون هكذا غيره والحال أن كل شيء غيره له مبتدء وموجد وهو متبدئه وموجده والمبدء لا يكون مثل ما له ابتداء. (ش)
2- 2 - قوله «بل العباد يعرفون بالله» معرفة الله بالله يحتمل أحد ثلاثة، معان، لأن المعرفة إما أن يكون معرفة وجوده تعالى أي العلم بأنه موجود، وإما أن يكون بمعنى معرفة ذاته، ثم الباء السببية في قوله «معرفة الله بالله» يحتمل معنيين الأول أن سبب المعرفة هو الله تعالى لكونه دليلا على وجود نفسه، والثاني أن الدليل عليه هو مخلوقاته بهدايته فالأول من المحتملات الثلاثة أن معرفة وجوده ينبغي أن يكون بالنظر في أصل وجوده بالدليل اللمي أو البرهان الصديقي لا بالدليل الإني والنظر في معلولاته. الثاني: أن العلم بوجود الله تعالى سواء كان بالنظر في أصل الوجود أو بالدليل الإني فإنما تحصل للإنسان بهدايته وتوفيقه. الثالث: معرفة ذاته تعالى لا يمكن للإنسان بتشبيهه بخلقه وذكر الجنس والفصل على ما هو دأب المنطقيين في الحدود بل معرف ذاته ذاته بأن يقال هو هو لا يشبه شيئا غيره. والمعنى الثالث اختيار الكليني والثاني اختيار الصدوق والأول يستفاد من كلام المتأخرين من الشراح على اضطراب والمعاني الثلاثة كلها صحيحة في أنفسها إلا أن الظاهر من أكثر الروايات إرادة ما اختاره الكليني، ولا يحمل هذا الحديث إلا المعنى الثاني الذي نسبناه إلى الصدوق عليه الرحمة أو معنى رابعا أدق أشار إليه الشارح وما ذكره كاف لأهل البصائر لا حاجة إلى زيادة بيان فيه وحام حوله العلامة المجلسي (رحمه الله) ونقل دعاء عرفة لسيد الشهداء (عليه السلام) «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا - إلى آخر الدعاء» ومع ذلك ذكر كلاما يوهم أنه أراد الاستدلال بالآفاق والأنفس وهو ما يقال له دليل الإن أي معرفة الله بخلقه ضد ما قاله منصور بن حازم. وروى الشيخ الصدوق في التوحيد في حديث طويل أن النصراني سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال أخبرني عرفت الله بمحمد أم عرفت محمدا بالله عز وجل؟ فقال علي بن أبي طالب: «ما عرفت الله عز وجل بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن عرفت محمدا بالله عز وجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف». (ش)

من نفسه من الصفات اللايقة به كما مر في الحديث الثاني من هذا الباب ويحتمل أن يقرأ يعرفون على البناء للمفعول ويكون المقصود حينئذ أنه تعالى لا يعرف حق المعرفة بالنظر إلى خلقه والاستدلال بهم عليه بل الخلق يعرفون بنور ربهم كما تعرف الذرات بنور الشمس دون العكس وليس نور الله في آفاق النفوس أقل من نور الشمس في آفاق السماء قال عز من قائل (وأشرقت الأرض بنور ربها) فضوؤه قاطع لرين أرباب الضماير، ونوره ساطع في أبصار أصحاب البصاير، ولا يبعد أن يكون قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحمد لله المتجلي لخلقه» (1) إشارة إلى هذا القسم من المعرفة وهذه المعرفة تنقسم إلى قسمين أحدهما أن يرى الصانع أولا والمصنوع ثانيا. / وفي هذا القسم قد يقع الالتباس (2) فيظن أن الرؤية القلبية تعلقت بهما معا كما يقع الالتباس في الرؤية العينية للناظر إلى المرآة فإنه يظن أنه يرى نفسه والمرآة معا مع أن رؤية المرآة مقدمة على رؤيته، وثانيهما أن لا يرى مع الصانع غيره، وهذا القسم هو الفناء المطلق في الله ونظيره غفلة الناظر إلى المرآة عن رؤية شخصه إذا كان قصده من النظر إليها مشاهدة جوهرها وحسن هيئتها وسائر كمالاتها مع توجه ذهنه إلى التأمل في هذه الامور وتوغله في التعمق في محاسنها.

ص:88


1- 1 - النهج قسم الخطب تحت رقم 106. وفيه «الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه».
2- 2 - قوله «قد يقع الالتباس» يظهر في هذا المقام الشطحيات من أصحابه ويظهرون ألفاظا يشمئز منه طبع العامة ويضيق عن اقتنائها حوصلة أوهامهم وربما يشم منها رائحة الكفر لو لم يعلم من أربابها التوغل في الإيمان ولكن يدفع المتشابه بالمحكم والظاهر بالنص ويحمل كلام الناس على الصحيح مهما أمكن. (ش)

باب أدنى المعرفة

* الأصل:

1 - محمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي; وعلي بن إبراهيم عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني جميعا، عن الفتح بن يزيد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن أدنى المعرفة فقال: الإقرار بأنه لا إله غيره ولا شبه له ولا نظير، وأنه قديم مثبت، موجود غير فقيد وأنه ليس كمثله شيء.

* الشرح:

(محمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي: وعلي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني جميعا) همدان قبيلة من اليمن وبلد في العجم (عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (عليه السلام)) قال العلامة: الفتح بالتاء المنقطة فوقها نقطتين ابن يزيد بالياء المثناة التحتانية الجرجاني صاحب المسائل لأبي الحسن (عليه السلام).

واختلفوا فيه أهو الرضا (عليه السلام) أو الثالث (عليه السلام) والرجل مجهول والإسناد إليه مدخول وقيل: إنما اختلفوا فيه لوقوع اختلاف في الفتح بن يزيد الجرجاني (1) والشيخ في كتاب الرجال إنما ذكره في أصحاب أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وحكم عليه بالجهالة والصدوق رحمه الله روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بسنده عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار في التوحيد (2).

ص:89


1- 1 - قال في جامع الرواة رواية فتح عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في التهذيب في «باب تفصيل أحكام النكاح» وفي الاستبصار في «باب أن ولد المتعة لاحق بأبيه» وفي الكافي: «باب وقوع الولد من أبواب المتعة» تدل على أن أبا الحسن هذا هو الرضا (عليه السلام).
2- 2 - قوله بسنده عن الفتح بن يزيد. هذا لا ينافي كلام الشيخ إذ لعل الرواية عن الرضا (عليه السلام) بواسطة لم يذكر في رواية الصدوق أو لعل الصدوق عليه الرحمة سهى في تطبيق أبي الحسن على الرضا (عليه السلام) وأورده في باب ما جاء عن الرضا لهذه العلة. والطبقة تدل على صحة ما ذكره الشيخ في الرجال لأن الكليني روى عنه بواسطتين وهذا وإن كان ممكنا مع كون الرجل من أصحاب الرضا (عليه السلام) لكنه بعيد ولا فائدة في التكلم في الأسانيد في أخبار أصول الدين كما قلنا سابقا. (ش)

(قال: سألته عن أدنى المعرفة) الأدنى من الدنو بمعنى القرب يقال: فلان داني المنزلة أي قريبها كما يقال في ضد ذلك فلان بعيد المنزلة فالمعنى سألته عن أقرب منازل المعرفة ومقاماتها.

(فقال: الإقرار) بالله أي بوجود ذاته المقدسة الملحوظة معها جميع الكمالات على سبيل الإجمال بالعينية دون الزيادة والملحوظة معها استيلاؤها على مادق وجل وسيجئ عن الكاظم (عليه السلام) إن الله بمعنى المستولي على ذلك».

(بأنه لا إله غيره) بدل أو بيان لقوله بالله للدلالة على نفي الشريك الموجب للتوحيد المطلق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «فقال له: الإقرار بأنه لا إله غيره» (ولا شبه له) أي لا يشبهه شيء من الأشياء في صفاته الذاتيه والعقلية والسلبية ولا يشبه هو شيئا منها في صفات الخلق ولواحق الإمكان ولم يعرفه من شبهه بخلقه بل أشرك معه إلها آخر (ولا نظير) له أي لا يماثله شيء في ذاته المنزهة عن دنس الإمكان ولواحق الافتقار، ويمكن أن يراد بالأول نفي المشابهة في الصفات الذاتية وبالثاني نفي المماثلة في الصفات الفعلية، وبالجملة لكل من الخالق والمخلوق ذات وصفات تخص به ولا يتحقق في الآخر لتنزه الغني المطلق عن لحوق نقص الإمكان به وتطرق معنى الافتقار إليه (وأنه قديم) إذ لو كان حادثا لكان مفتقرا إلى موجود فلا يكون واجبا بالذات، ولا يكون مبدء لجميع الموجودات ولا ينتهي إليه سلسلة الممكنات وإذا أقر بأنه قديم فقد أقر بأنه لا شيء قبله وهو ظاهر ولا شيء معه إذ لو كان معه شيء في الأزل لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا له، وإلى ذلك أشار مولانا الرضا (عليه السلام) بقوله «اعلم علمك الله الخير إن الله تعالى قديم والقديم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميته».

(مثبت) أي معلوم وجوده بالأدلة العقلية والنقلية وبالمشاهدة الحضورية أو غيره متغير من حال إلى حال إذ التغير أمر يلحق الزمان بالذات والزمانيات بتوسطه وهو سبحانه ليس بزمان ولازماني فلا محالة لا يلحق ذاته المقدسة وماله من صفات الكمال ونعوت الجلال تغير أصلا، فلا يجوز أن يقال مثلا: كونه عالما قبل كونه قادر أو كونه حيا قبل كونه عالما وكونه قويا بعد كونه ضعيفا وكونه أولا قبل كونه آخرا (موجود غير فقيد) أي موجود لذاته بمعنى أنه غير مفتقر في وجوده إلى غيره غير فاقد لوجوده أزلا وأبدا أو غير فاقد لذاته ولغيره من الموجودات بمعنى أنه عالم بذاته غير غافل عنها وبذوات الأشياء وصفاتها وخواصها قبل إيجادها وبعده فسبحان الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

(وأنه ليس كمثله شيء) لأن عالم القدس أجل من أن يدخل فيه صفات الخلق ولواحق الإمكان

ص:90

وعالم الامكان لا يصلح ان يتصف بصفات الواجب وخواص الملك الديان.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن طاهر بن حاتم - في حال استقامته - أنه كتب إلى الرجل: ما الذي لا يجتزئ في معرفة الخالق بدونه؟ فكتب إليه: لم يزل عالما وسامعا وبصيرا،وهو الفعال لما يريد. وسئل أبو جعفر (عليه السلام) عن الذي لا يجتزئ بدون ذلك من معرفة الخالق فقال: ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء لم يزل عالما سميعا بصيرا.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن طاهر بن حاتم في حال استقامته) طاهر بن حاتم بن ماهويه بفتح الهاء والواو غال كذاب كأخيه فارس بن حاتم، وطاهر بن أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن موسى (عليه السلام)، وأخوه فارس من أصحاب الرضا (عليه السلام) قيل: هما كانا مستقيمين ثم تغيرا وتفسدا وأظهر القول بالغلو، وقال ابن الغضايري: طاهر بن حاتم بن ماهويه القزويني أخو فارس كان فاسد المذهب ضعيفا وكانت له حالة استقامة كما كانت لأخيه ولكنها لا تثمر.

وفيه أنه إن أراد أنها لا تثمر في قبول ما رواه بعد التغير فهو كذلك وإن أراد أنها لا تثمر مطلقا فهو ممنوع لإنها تثمر في قبول ما رواه قبل التغير كما في هذا الحديث.

(أنه كتب إلى الرجل) هو الكاظم أو الصادق (عليه السلام) (ما الذي لا يجتزء في معرفة الخالق بدونه) أي بأقل منه (فكتب إليه لم يزل عالما) بذاته وبالأشياء قبل إيجادها ولا يعزب عنه شيء منها كليها وجزئيها وحقايقها ولوازمها وعوارضها وجوانبها وحدودها التي تنتهي إليها.

روى الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بسنده عن الحسين بن يشار بالياء المنقطة تحتها نقطتين والشين المعجمة المثلثة المشددة (1) عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قال: سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون فقال إن الله هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال عز وجل: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وقال لأهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) فقد علم عز وجل أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه.

وقال للملائكة لما قالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك

ص:91


1- 1 - كذا في أكثر النسخ ولم أجد ضبطه مع الشين المعجمة بالياء المنقطة تحتها نقطتين إنما الموجود في كتب الرجال «الحسين بن بشار» بالباء الموحدة والشين المعجمة أو بالياء المثناة من تحت مع السين المهملة، وجعل الأخير في بعض المصادر نسخة.

ونقدس لك قال: إني أعلم ما لا تعلمون.

فلم يزل الله عز وجل علمه سابقا للأشياء قديما قبل أن يخلقها، وفيه رد على من زعم أنه ليس عالما بذاته لوجوب المغايرة بين العالم والمعلوم ولم يعلم أن التغاير الاعتباري كاف كعلمنا بأنفسنا فهو عالم ومعلوم وعلم وعلى من زعم أنه ليس بعالم بغيره لأن علم أحد بغيره عبارة عن صورة مساوية له مرتسمة في العالم ولم يعلم أن علم أحد بغيره قد يكون حضوريا (1) بمعنى حضور ذلك الغير بنفسه لا بمثاله وصورته عند العالم وعدم غفلة العالم عنه وأن العلم الحضوري أقوى من العلم الحصولي ضرورة أن انكشاف الشيء على أحد لأجل حضوره بنفسه أقوى من انكشافه عليه لأجل حصول مثاله وصورته فيه.

وعلى من زعم أنه ليس عالما بالجزئيات (2) لأن الجزئيات متغيرة فعلمه بها يوجب التغير في ذاته، ولم يعلم أن التغير أمر اعتباري يقع في الإضافة لا في ذاته ولا في صفاته ولا أن علمه

ص:92


1- 1 - قوله «قد يكون حضوريا» حقق ذلك الحكيم الطوسي (قدس سره) في شرح الإشارات واستحسنه العلامة في شرح التجريد واختاره المتأخرون وأصله من الشيخ شهاب الدين وبيانه أن المعلوم يجب أن يكون متعلق الوجود بالعالم وتعلق المعلول بالعلة أقوى من تعلق الصور الذهنية بالنفوس فإذا كان هذا التعلق يوجب العلم كيف لا يوجب ذلك ولكن فيما ذكروه شيء وهو أنه لا يكفي حصر علم الواجب فيما ذكر، إذ يلزم منه عدم علمه بالأشياء قيل وجودها وهذا أفحش من العلم الحصولي الارتسامي ولا يندفع المحذور إلا بما حققه أستاد الحكماء المتألهين صدر الدين الشيرازي في الأسفار وغيره من العلم الإجمالي في الكشف التفصيلي فهو تعالى يعلم بعلمه بذاته بجميع الأشياء مفصلا ولا يلزم من ذلك تكثر في ذاته وليس ههنا موضع بيان. (ش)
2- 2 - قوله «ليس عالما بالجزئيات» هذا أحد الأمور الثلاثة من معتقدات الفلاسفة التي عدها الغزالي مخالفة لدين الإسلام; الأول قولهم بقدم العالم، والثاني عدم علم الواجب بالجزئيات، والثالث إنكارهم المعاد الجسماني. وأقول بناء على ما حققه الحكيم الطوسي (قدس سره) من العلم الحضوري ارتفع الإشكال وانتفى المخالفة، وأعلم أن مبنى توهم جماعة منهم عدم علمه تعالى بالجزئيات أن العلم بالجزئي إنما يحصل بالحس، والحس بتأثر الجوارح عن الموجودات الجسمانية وليس لله تعالى جوارح تتأثر والجواب أن ذلك في العلم الحصولي لا الحضوري. وقال المتكلمون أن أبصاره بمعنى العلم بالمبصرات وسمعه علمه بالمسموعات وقالوا إن له علما بالمذوقات والمشمومات والملموسات أيضا لكن لا يطلق عليه الذائق والشام واللامس تعبدا شرعيا أو لغويا وبالجملة له تعالى علم بالحلاوة ولا يذوق الحلاوة كما يعرف اللذة والألم ولا يتألم نظير من يعرف وجع الضرس ولكن لا يجد الألم فعلا لأنه لا يوجع ضرسه وهذا الذي قاله المتكلمون عين ما قاله جماعة من الفلاسفة، إلا أن الفلاسفة قالوا لا علم له بالجزئيات إلا بوجه كلي وقال المتكلمون له علم بالجزئيات لا بأن يحس أي بوجه جزئي وكلاهما واحد في المعنى، ويشمئز طباع السذج من التعبير الأول من دون الثاني وبناء على العلم الحضوري يسقط بالبحث. (ش)

بالكليات والجزئيات لعدم كونه زمانيا مستمر على نحو واحد أزلا وأبدا من غير تغير وتبدل أصلا.

(وسامعا بصيرا) بالمسموعات الجلية والخفية والمبصرات الضعيفة والقوية وإن لم يكن شيء منها موجودا في الأزل لقيام البراهين العقلية والنقلية على (1) حدوث العالم فهو لذاته يسمع ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى «وإن تجهر بالقول فإنه يعلم الجهر وأخفى» لا للآلات كما يسمع ويبصر لأجلها الإنسان وساير الحيوانات لاستحالة اتصافه بالجسمية ولواحقها، وفيه رد على من زعم أنه لا يسمع ولا يبصر لأن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة والآلة أو أمر مشروط به وليس له حاسة ولم يعلم أن ذلك قياس للغايب على الشاهد مع الفارق بينهما لأن ذاته تعالى مغايرة لذواتنا وصفاته مخالفة لصفاتنا فجاز أن لا يكون سمعه وبصره نفس التأثر عن الحاسة ولا أمرا مشروطا به ولإنكار هؤلاء الفرق الضالة المضلة علمه وسمعه وبصره خص (عليه السلام) هذه الثلاثة بالذكر لتثبيت قلوب العباد بها وتسديدها (وهو الفعال لما يريد) بمجرد الإرادة من غير حركة ولا آلة ولا تعب ولا صوت وهو نافذ الإرادة لا يمتنع عن إرادته شيء وفيه رد على من زعم أنه واحد لا يصدر عنه إلا واحد (2).

ص:93


1- 3 - قوله «البراهين العقلية والنقلية» البرهان العقلي المشهور هو دليل الحركة والسكون هو خاص بالأجسام وبيانه أن الجسم لا يخلو من الحوادث وأقلها الحركة والسكون وهما حادثان لأن الحركة كون الجسم في مكان ثان بعد كونه في مكان أول والسكون كونه في مكان بعد كونه في ذلك المكان بعينه، وقالوا إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فالجسم حادث ولم يقيموا دليلا على كون غير الأجسام حادثا، والبرهان النقلي آيات وروايات كثيرة تدل على خلق الأرض والسماوات وما فيها وغيرها واجماع أهل الملة على الحدوث ولكن لم نر حديثا أو آية تدل على إثبات الحدوث تعبدا بل على إثبات واجب الوجود وأن الحدوث ملازم له كما أشرنا إليه سابقا، وقال بعض المتكلمين بعد اعترافهم بأن الحدوث الذاتي كاف في المعلولية وفي ثبوت الواجب تعالى: أن الفاعل المختار يجب أن يكون معلوله حادثا زمانيا وإلا لزم كونه تعالى فاعلا مضطرا يصدر عنه العالم بغير اختياره وعلمه كصدور النور عن الشمس ونحن لا نتعقل ذلك إذ يمكن أن يكون الفاعل المختار أراد إفاضة الوجود على شيء بعد شيء دائما باختياره ولا يجب تشبيه فعله تعالى بالشمس والنور، نعم لو كان الشمس عاقلة عالمة مختارة فاعلة الإرادة وكان صدور النور منها باختيارها وكونه دائما لم يبعد المثل ولكنه المثل الأعلى. (ش)
2- 1 - قوله «رد على من زعم أنه واحد» قولهم «الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» ليس مما عده الغزالي مخالفا للشرع وإن عد كثيرا من قواعدهم غير تامة وأدلتهم غير وافية لكن حصر المخالفة في ثلاثة ذكرناها. والحق أنه يرد بعض الأقوال لا لأنها باطلة بل لأنها تستلزم عرفا أمرا باطلا أو لأن عبارته توهين وتهجين كما حكي أن بعض الملوك رأى في المنام سقوط أسنانه فسأل بعض المعبرين فقال: هذا دليل موت الأقارب فساء الملك، ثم عرضه على معبر آخر فقال هذا دليل طول عمر الملك وكونه أكثر من عمر أقاربه، ومثله روى عن بعض الخلفاء سأل صحابيا عن عمره وأنه كان أسن من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أصغر قال الصحابي: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكبر مني ولكني ولدت قبله، والتعبيران واحد من جهة المعنى لكن أحدهما حسن والآخر قبيح، إذا عرفت هذا فاعلم أن كون بعض مخلوقاته تعالى أشرف وأفضل من سايرها وكون الأشرف أول صادر عنه وكون سائر الأشياء مخلوقا بعده وكون فاعليته تعالى لبعض الأمور بواسطة ملك أو سبب معد جسماني كالشفاء بالدواء، وتحريك السحاب بالرياح، وعذاب الكفار بأيدي المؤمنين وعدم صدور بعض الأمور عنه تعالى أصلا لقبحه ومفسدته كالظلم والكذب ليس شيء من ذلك مبائنا لقواعد الإسلام ومفاد قولهم «الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» ليس إلا ما ذكرنا ومع ذلك إنه عبارة يشمئز منها الطبع ولو قيل إنه خلق أشرف الموجودات أولا وخلق غيره بعده لم يشمئز كما ورد خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها وفي نهج البلاغة «نحن صنائع الله والناس بعد صنائع لنا» وهذا من جهة المعنى نظير قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ولكن أداة النفي تهيج السذج. (ش)

(وسئل أبو جعفر (عليه السلام)) الظاهر أنه ليس من تتمة حديث المكاتبة وأن الراوي عنه (عليه السلام) غير معلوم ويؤيده أن الصدوق (رحمه الله) روى هذه المكاتبة بعينها ولم يذكر هذه اللاحقة وقيل: الأظهر أنه من رواية طاهر بن حاتم في حال استقامته مرفوعة ولا يخفى بعده (عن الذي لا يجتزء بدون ذلك) أي بدونه فوضع الظاهر موضع الضمير (من معرفة الخالق) «من» بيان للموصول أو متعلق بلا يجتزء وعلى التقديرين خبر الموصول محذوف وهو ما هو.

(فقال: ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء) إذ لو كان ذا شبه من خلقه لكان محتاجا إلى المؤثر والمدبر مثله، وأيضا التشابه هو الاتفاق في الكيفية ولا كيفية له (لم يزل عالما سميعا بصيرا) إنما ترك العاطف هنا للتنبيه على كمال المناسبة بين الأخيرين وبين الأول لأن السمع والبصر في حقه تعالى نوعان من علمه المطلق وهما العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات وجئ بالعاطف سابقا للتنبيه على المغايرة بحسب الاعتبار.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن يوسف بن بقاح، عن سيف ابن عميرة. عن إبراهيم بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أمر الله كله عجيب إلا أنه قد احتج عليكم بما قد عرفكم من نفسه.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن يوسف بن بقاح، عن سيف بن عميرة، عن إبراهيم بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أمر الله كله عجيب) حيث أنه فاعل العجايب والغرايب من ملكوت السماوات والأرض والعناصر والمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية وغير ذلك على النظام المشتمل على العجب العجيب الذي يحير أبصار بصائر الخلائق

ص:94

ويضطرهم إلى الإقرار بوجوده وقدرته وعلمه والاذعان لإرادته وأمره وحكمته وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «عجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله (1)» (إلا أنه» إلا بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف تنبيه، وجعلها بكسر الهمزة وتشديد اللام من أداة الاستثناء بمعنى لكن للاستدراك ودفع توهم أن من لم يحصل له المعرفة لا حجة عليه بعيد جدا.

(قد احتج عليكم بما عرفكم من نفسه) يشير إليه قول الصادق (عليه السلام) أيضا ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا (2) توضيح ذلك أن الله عرفهم وجوده وعلمه وقدرته وحكمته أولا بما يدل على ذلك بالضرورة فإن من تأمل خلق السماوات والأرض وما بينهما سيما في بدء خلقه في ظلمات الأرحام ومتضاعفات الأستار واستقراره في قرار مكين إلى قدر معلوم وأجل معين وانقلابه في بطن امه من حال إلى حال وهو لا يعلم دعاء ولا يسمع نداء وخروجه من ذلك المضيق إلى منزل لم يشهده ومقام لم يعرفه، واجترار غذائه من الثدي عند الحاجة يعلم أن له إلها صانعا قادرا حكيما عليما وهذا العلم ضروري وإن احتاج إلى تنبيه كما ورد في مواضع من القرآن العزيز.

ثم عرفهم ما وراء ذلك من صفات الكمال وعينيتها ونعوت الجلال التي لا يطلع عليها العقول بالاستقلال إلا بالإشراقات القلبية وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام ليحيى من حي بينة ويهلك من هلك عن بينة ولئلا يكون للناس على الله حجة فوجب عليهم أن يعرفوه كما عرفهم وأن يصفوه بما وصف به نفسه، ومن وصفه بغير ذلك فقد أشرك به وألحد في أمره وتعدى في حقه.

ص:95


1- 1 - النهج قسم الحكم والمواعظ تحت رقم 126.
2- 1 - سيأتي في باب حجج الله على خلقه من كتاب التوحيد.

باب المعبود

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فاولئك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب، وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من عبد الله بالتوهم) أي بتوهم أن له حدا أو كيفية أو صورة أو مقدارا أو أينا أو وضعا إلى غير ذلك من المعاني الوهمية والصور الخيالية والمفهومات العقلية (فقد كفر) لأنه اتخذ معبودا باطلا، إذ المعبود الحق لا ينال له الأوهام ولا يدركه الأفهام ولا يعرضه لواحق المحسوسات ولا يلحقه عوارض الممكنات ولا يشبهه شيء من المخلوقات، فمن تصوره أو توهمه أو تخيله بنحو من هذه الأنحاء وعبده فقد كفر.

(ومن عبد الاسم) المركب من الحروف (1) مثل الله والرحمن والرحيم والقادر وغيرها (دون

ص:96


1- 1 - «من عبد الاسم المركب من الحروف» عبادة الاسم المركب من الحروف بعيد من العقلاء إذ لم نر أحدا عبد الاسم أو نقل عبادته من أحد إلا أن بعض جهلة عصرنا يعدون كل تشريف وتعظيم عبادة ويرون زيارة قبور الأولياء شركا، والتختم بخاتم عليه نقش اسم الله أو أحد الأنبياء والأولياء كفرا أو يقولون من استشفى أو تبرك باسم من أسماء الله تعالى فهو عابد غير الله تعالى وينكرون تأثير الأدعية والأسماء على ما ورد في الأحاديث والروايات والحق أن التبرك والتوسل شيء والعبادة شيء آخر وعلى هذا فالمراد من الاسم المعبود هو المفهوم المتبادر من الأسماء لا نفس الحروف، وسيأتي في باب حدوث الأسماء رواية محمد بن سنان قال: «سألته عن الاسم ما هو قال صفة لموصوف» فمعنى قوله (عليه السلام) من عبد الاسم من عبد المفهوم وهذا أحد الاحتمالين الذين ذكرهما المجلسي عليه الرحمة وفي مقابلة من عبد المصداق وهو المعنى في كلام الإمام (عليه السلام) والحاصل أن عبادة المفهوم كفر وعبادة المفهوم والمصداق معا شرك وعبادة المصداق بإشارة المفهوم ايمان حق فمن عرف الله تعالى بصفة القدرة فقط وعبده باسم القادر فقط فقد عبد صفة واحدة بشرط لا عن غيرها والواجد لصفة القدرة الفاقد لغيرها من الصفات ليس هو الله تعالى نظير من أضاف أخاه وأحسن إليه ولا يعرف أنه أخاه لا يصدق عليه صلة الرحم. (ش)

المعنى) المراد منه وهو الذات المقدسة المنزهة عن التركيب والحدوث (فقد كفر) لأن المعبود الحق هو المعنى والاسم غيره فمن عبد الاسم فقد عبد غيره ومن عبد غيره فهو كافر.

(ومن عبد الاسم والمعنى) أي المجموع من حيث هو أو كل واحد منهما والأخير أنسب بقوله (فقد أشرك) حيث جعل الاسم مشاركا للمعنى في استحقاق العبادة فقد اتخذ إلهين اثنين بل آلهة لتعدد الأسماء وتكثرها.

(ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه) أي من عبد المعنى وحده وذكر اسما من أسمائه باعتبار أنه دال عليه على ما جرت عليه العادة من انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى لا باعتبار تعلق العبادة به (بصفاته) متعلق بعبد أو حال عن فاعله أو عن مفعوله أو حال عن الأسماء يعني من عبد المعنى حال كون ذلك العابد آخذا بصفاته أو حال كون المعنى مأخوذا بصفاته أو حال كون الأسماء متلبسة بصفاته (التي وصف بها نفسه) في القرآن وبينها لرسوله وعلمها الرسول أوصياءه وعلمه الأوصياء سائر الخلائق كما تعرف من أحاديثهم (فعقد عليه قلبه) أي فعقد على المعنى المأخوذ مع صفاته على الوجه اللايق به قلبه عقدا جازما (ونطق به لسانه) بسبب ذكر أسمائه (في سرائره وعلانيته) السر متعلق بالعقد والعلانية بالنطق، وتعلق المجموع بالمجموع أو كل واحد بكل واحد بعيد، وفيه إشارة إلى اعتبار خشوع القلب والجوارح في العبادة.

(فأولئك أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا، وفي حديث آخر: أولئك هم المؤمنون حقا) حقا مفعول مطلق حذف ناصبه وجوبا كما في زيد قايم حقا أي حق حقا يعني ثبت.

وفي قوله «بصفاته التي وصف بها نفسه» إشعار بأن صفاته توقيفية وأن الحقيقة الإلهية غير معلومة لنا وإنا أنما نعلمها من جهة صفاتها وآثارها الظاهرة في عالم الإمكان وأنها مختلفة فإن أثر العلم والحكمة شيء وأثر الصنع والقدرة شيء آخر وهكذا في ساير الصفات، ثم لما كان هذا العالم عالم الكثرة والتفرقة الذي يقف فيه الأوهام على حد لا يليق بجناب الحق لأن عالم الوجوب الذاتي عالم وحدة لا كثرة فيه أصلا ولا سبيل فيه لاحكام الوهم.

وكانت هذه الصفات التي اختلفت آثارها ومفهوماتها غير مفيدة لمعرفته تعالى على أي وجه أخذناه، وأي طريق تصورناه بل قد تصير حجابا بيننا وبينه تعالى فلذلك ترى كثيرا من الناس بقوا متحيرين من وراء ذلك الحجاب فبعضهم شبهوه بالجسم وبعضهم شبهوه بالصورة وبعضهم

ص:97

اعتقدوا أن صفاته أمور موجودة في الخارج زائدة على ذاته عارضة لها إلى غير ذلك من المذاهب الباطلة وجب على العبد السالك إلى الله الطالب لمعرفته من جهة صفاته على ما ينبغي له أن يرفع ذلك الحجاب بقوة الإشراقات القلبية (1) الحاصلة من أجل متابعة النواميس الإلهية والقوانين الشرعية التي بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وبينها أمير المؤمنين (عليه السلام) للامة وهداهم إليها فمن عرف صفاته بتعليمه (عليه السلام) وجردها عن شوائب الأوهام ومفتريات الأفهام فهو من أصحابه (عليه السلام) ومن عرفها برأيه وأخذها بوهمه فهو ضال مضل شبه ربه بالخلق وظالم لنفسه ولمن تبعه ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون، ثم هذا طريق المتوسطين (2) في معرفته تعالى وأما الكاملون بالنفوس القدسية كالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) فهم يعرفونه بذاته ويشاهدونه بأبصار القلوب الصافية، ثم يعرفون آثاره وأفعاله كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله».

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها، الله مما هو مشتق؟ قال: فقال لي: يا هشام الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الله الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام،

ص:98


1- 1 - قوله «إن يرفع ذلك الحجاب بقوة الإشراقات» أجاد البيان غايته في شرح الحديث ولم يبق لأحد كلاما إلا توضيحا وتمثيلا والحاصل إن الإنسان لكونه في عالم الفرق والكثرة يرى كل شيء متميزا عن الآخر مباينا عنه وعلى اصطلاح المنطقيين يلاحظ كل مفهوم بشرط لا عن الآخر وأسامي الله تعالى ومفاهيم صفاته كالعلم والقدرة والحياة وغيرها متميز والمصداق واحد وكذلك معرفة الأئمة (عليهم السلام) فمن الناس من كان يعرفهم بأنهم من أولاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكرمهم كما نكرم الذرية الطيبة ومنهم من كان يعرفهم بأنهم علماء محدثون ويجعلونهم في رتبة الشافعي وربيعة الرأي ومنهم من يقول بعصمتهم وطهارتهم ووصول أحكام الله إليهم من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسناد واستحقاقهم الخلافة لأنهم أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كبعض الزيدية ومنهم من يعتقد فيهم الولاية والإلهام والرابطة مع الله تعالى وكونهم مؤيدين بروح القدس وعدم انحصار علومهم في النقل والرواية، وإمامتهم بالنص والتعيين من الله تعالى ومنهم من يجاوز ذلك حتى يقول بتصرفهم في الأكوان والإماتة والإحياء وغير ذلك والمعرفة الحقيقية أن يعلم ما هم عليه وكذلك عبادة الله تعالى باعتبار صفة من صفاته ليس عبادة له تعالى ومعرفة بل عبادة تلك الصفة خاصة إلا أن تقصد المعنى أي المصداق والحقيقة وتجعل الصفة إشارة إليه وليس ذلك سهلا على أكثر الناس فصح أن يقال هذه الصفات حجب. (ش)
2- 2 - قوله «هذا طريق المتوسطين» أي من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته وأما الكاملون فهم يعرفونه بذاته ثم يعرفون آثاره. (ش)

قال: فقلت زدني قال: إن لله تسعة وتسعين إسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين (1) مع الله جل وعز غيره؟ قلت: نعم، قال: فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام: فهو الله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها) أي سأل عن كل واحد منهما أو سأل عن اشتقاقها وذكر أسماء من باب التمهيد على أن يكون هذا الكلام من قبيل سأل عن زيد وحاله أي سأل عن حاله، ولعل ذلك السؤال نشأ من العلم بأن أسماءه تعالى لا تدل على ذاته بذاته بل إنما تدل عليها مع ملاحظة صفاته فلذلك سأل عن اشتقاقها والاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب فيفيد ذلك أن الأول مأخوذ من الثاني وأن الثاني أصله.

(الله مما هو مشتق من إله) بكسر الهمزة على فعال بمعنى مفعول فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تحقيقا لكثرته في الكلام ولو كانتا عوضا منها لما اجتمعتا مع المعوض منه في قولهم الإله، وإنما قطعت الهمزة مع كونها زايدة غير أصلية في النداء مثل يا الله للزومها تفخيما لهذا الاسم الشريف وقال أبو علي النحوي الألف واللام عوض منها ولهذا قيل: يا الله بقطع الهمزة لكونها عوضا عن الهمزة الأصلية المحذوفة التي هي همزة قطع لكونها جزء كلمة، ورد الأول بأنه لا يجوز أن يكون قطعها لكثرة الاستعمال لأن ذلك يوجب أن يقطع الهمزة في غير هذا الاسم مما يكثر استعمالهم له فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصت به ليس في غيرها ولا شيء أولى بذلك المعنى من أن يكون عوضا من الحرف المحذوف الذي هو الألف والفرق بين المشتق والمشتق منه أن المشتق وهو الله مختص بالمعبود بالحق لا يطلق على غيره أصلا والمشتق منه وهو الإله اسم جنس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق ومع الغلبة يستعمل في المطلق أيضا كما في قولنا لا إله إلا الله وأما الإله فقد اختلفوا في أصله المشتق منه فقال صاحب الكشاف وإنه مشتق من أله بفتح الهمزة وكسر اللام إذا تحير لأنه ينتظمها معنى التحير والدهشة وذلك لأن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش العقول فيها ولذلك كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح، وقيل من أله بفتح الهمزة واللام إلاهة بمعنى عبد لأن الناس يعبدونه وهو

ص:99


1- 1 - في أكثر النسخ [والملحدين].

معبود وإليه ميل الجوهري وقيل: من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله إذ أفزع من أمر نزل عليه لأن العابد يفزع إليه في النوائب أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصل إله ولاها قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها فقيل إليه، وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه لاها إذا احتجب وارتفع لأنه تعالى محجوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به.

ويحتمل أن يقرأ أيضا إله في هذا الحديث بفتح اللام وكسرها فيرجع اشتقاق الله منه (1) إلى المعاني المذكورة بلا واسطة وبالجملة المستفاد من هذا الحديث ان الله أصله إله على فعال أو فعل بفتح العين أو كسرها وأنه يجري فيه ما يجري في أصله من المعاني المذكورة وأنه صفة كأصله وإن صار علما لذاته المقدسة كالنجم للثريا وبذلك يظهر بطلان قول من قال: إن الله غير مشتق من شيء وأنه علم في الأصل لذاته المخصومة لانه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته ولا يصلح لذلك ما يطلق عليه من الأسماء سوى الله ولأنه لو كان وصفا لم يكن لا إله إلا الله توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة بحسب أصل الوضع الوصفي، قال القاضي:

والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار كالعلم مثل الثريا أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله تعالى «وهو الله في السماوات وفي الأرض»

ص:100


1- 1 - قوله «فيرجع اشتقاق الله منه اه» في كليات أبي البقاء اختلف في لفظة الجلالة على عشرين قولا أصحها أنه علم غير مشتق على ما هو اختيار المحققين لاستلزم الاشتقاق أن يكون الذات بلا موصوف لأن ساير الأسامي الحقيقية صفات وهذا إذا كان مشتقا يلزم أن يكون صفة وليس مفهومه المعبود بالحق كالإله ليكون كليا بل هو اسم للذات المخصوص المعبود بالحق الدال على كونه موجودا وعلى كيفيات ذلك الوجود أعني كونه أزليا أبديا واجب الوجود لذاته - إلى أن قال - وانما الكلام في أنه من الأعلام الخاصة أو الغالبة واتفقوا على أن لفظ الله مختص بالله واصل اسم الله الذي هو الله إله ثم دخلت عليه الألف واللام إلى آخر ما قال وهذا الذي اختاره ونقله عن المحققين هو الصحيح ولا ينافيه الحديث كما زعمه الشارح حتى ضعفه صونا لكلام الإمام (عليه السلام) وذلك لأن الاشتقاق في عرف المتأخرين غيره في اصطلاح الإمام (عليه السلام) والإمام (عليه السلام) أثبت الاشتقاق بمعنى والمتأخرون نفوا الاشتقاق بمعنى آخر والاشتقاق في كلامه أقرب إلى لغة العرب الفصحى ومقصوده الأخذ بالمناسبة كما قالوا إن الروح مشتق من الريح وليس الروح مشتقا في اصطلاح الصرفيين بل هو مناسب في المعنى واللفظ مع الريح فكأنه مأخوذ منه أي مشتق بهذا المعنى وفي رواية علاء بن عبد الرحمن «إن اسم فاطمة مشتق من فاطر السماوات». (ش)

معنى صحيحا ولأن الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة.

(والإله يقتضي مألوها) أي حايرا متحيرا مهوشا في أمره أو عابدا متعبدا له أو ساكنا إليه مطمئنا بذكره أو فارغا إليه مولعا بطاعته متضرعا له أو متحيرا متخبطا متفكرا في شأنه وعلو قدره أو محتجبا عن إدراكه، فالله لكونه مشتقا من الإله يقتضي مألوها بهذه المعاني أيضا والغرض من هذا الكلام هو التنبيه على اعتبار ما يقتضيه المشتق منه في المشتق أيضا، ويحتمل أن يراد بالمألوه المألوه فيه بتقدير في وهو المعبود وهذا أنسب بقوله (والاسم غير المسمى) فالله يعني المركب من ألف ولام وهاء غير معناه المقصود منه، وقد اختلفوا في أن الاسم غير المسمى أو عينه والأول هو الحق وهو مذهب المعتزلة والثاني هو الباطل وهو مذهب الأشاعرة قال الراغب من قال بالأول نظر إلى قولهم سميته زيدا وزيدا اسم حسن، ومن قال بالثاني نظر إلى قولهم رأيت زيدا وزيد رجل صالح فإن مرادهم هو المسمى أقول: فيه نظر لأن مرادهم في هذا اللفظ (1) مسماه باعتبار أن الحكم

ص:101


1- 1 - «قوله فيه نظر لأن مرادهم من هذا اللفظ» نظر الشارح غير وارد على الرغب بل هو إبطال لزعم الأشاعرة واستنادهم، فكم للأشاعرة من أقوال غير معقولة تمسكوا بها بتعصب شديد مثل أن الله تعالى ليس بجسم ومع ذلك يرى بالبصر، وقولهم بالجبر وأنه تعالى يجري الأفعال على أيدي العباد ويعاقبهم عليه، ومثل قولهم بنفي الحسن والقبح العقليين، ومثل قولهم بنفي الأسباب وجواز الترجيح من غير مرجح. ومن قولهم بالكلام النفسي وبقدم القرآن، وبالكسب وهذا أيضا أعني قولهم بأن الاسم عين المسمى مثل تلك الخزعبلات ليس لها معنى البتة وليس مستندهم في عقائدهم عقل ولا نقل صحيح بل عواطف العامة واستعدادهم لقبول الإغراق والمبالغات في تعظيم ما ينسب إلى خالف المعقول والمنقول مثلا رأوا نسبة كل شيء إلى الله تعالى حتى أفعال العباد تعظيما له تعال واستبشعوا أن يقال أن العباد يفعلون أفعالهم بغير إرادة الله، ورأوا قدم القرآن تعظيما للقرآن، وحدوثه توهينا له ونظير ذلك قد يتفق في الغلاة والمفوضة من المنتحلين إلى الشيعة فيرون أن الأئمة شركاء في الألوهية وأن الله تعالى حل فيهم أو فوض أمر الرزق والخلق إليهم ولا يلتفتون إلى الدليل العقلي والنقلي على بطلانه والأشاعرة رأوا تعظيم الناس لأسماء الله الحسنى والتبرك بها فدعاهم إلى القول بأن الاسم عين المسمى كما دعاهم مثله إلى القول بقدم القرآن وإن اعترض عليهم أحد بالعقل طعنوا في العقل، وقبل العامة عنهم لكون العواطف فيهم مقدمة على العقل واعلم أن المعتزلة كانوا أقدم من الشيخ الأشعري وكان الأشعري معاصرا للكليني - عليه الرحمة - واصل الاعتزال من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري في المائة الأولى وأوائل الثانية ووفات واصل سنة 131 والمعتزلة أصحاب نظر وفكر وفي مقابلهم أصحاب الحديث يسمون أنفسهم أهل السنة وكانوا يرون النظر في الدين بدعة مهلكة ولما ظهر شيخ الأشاعرة وتتبع أميال أصحاب الحديث وعواطف العامة وأجال النظر في غرضهم وميز بين ما يستحسنه العوام ويكون أقرب إلى ميولهم ورغباتهم وبين ما يستبشعونه ويتنفرون منه فركب مذهبا في أصول الدين ووضع قواعد ولم يلتفت كثيرا إلى العقل فيها مثلا نفي التجسم صريحا في الله تعالى ومع ذلك صرح بأنه تعالى على عرشه وأن له يدين وعينين ووجها وأنه تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون، ويصدقون بأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: «هل من مستغفر» وكل ذلك يثبت التجسيم واستوجه المتأخرون كلامه بأن المصلحة التي اقتضت أن يعبر في القرآن والأحاديث بألفاظ كالوجه واليد كونه تعالى على العرش هي مصلحة باقية مستمرة أبد الدهر فيجب الاعتراف بهذه الألفاظ وعدم تأويلها حفظا لتلك المصلحة كما يقال في عدم جواز تأويل ساير ما ورد في الشريعة من المعراج وعذاب القبر وأمثالهما. (ش)

مترتب عليه لا أن اللفظ نفس مسماه فلا دلالة فيه على العينية، وقال الشيخ (رحمه الله) في الكشكول: إعلم أن أصحاب القلوب على أن الاسم هو الذات مع صفة معينة وتجلي خاص، وهذا الاسم هو الذي وقع فيه التشاجر أنه هل هو عين المسمى أو غيره وليس التشاجر في مجرد اللفظ كما ظنه المتكلمون (1) فسودوا قراطيسهم وأفعموا كراريسهم بما لا يجدي بطائل ولا يفوق العالم به على الجاهل.

زهر بازيچه رمزى ميتوان خواند * زهر افسانه فيضى ميتوان يافت وفيه أيضا نظر لأنه إن أراد بالذات المأخوذة مع صفة معينة ذات المعنى فهي المراد بالمسمى وكونها عين الاسم أول النزاع على أنه لا معنى للتشاجر المذكور بعد تسليمه (2) وإن أراد بها ذات اللفظ الحاصلة من الحروف ودلالتها على صفة مخصوصة فهذا عين ما ذكره المتكلمون فليتأمل.

ص:102


1- 1 - قوله «كما ظنه المتكلمون» ظاهر كلام الشيخ أن التشاجر كان أولا بين العرفاء ثم أخذه المتكلمون من غير تحقيق وحملوه على غير وجهه ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس بأن يكون الاختلاف أولا بين أصحاب الحديث والظاهريين من العامة وبين المعتزلة ثم أخذ منهم العرفاء وتكلموا فيه بمعنى أعلى وأشمخ على اصطلاحهم وصرفوا البحث عن الاسم اللفظي إلى الاسم في اصطلاحهم. قال القيصري الذات مع صفة معينة وتجل من تجلياته تسمى بالاسم فإن الرحمن ذات لها الرحمة. والقهار ذات لها القهر، وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء وقد مر حديث محمد بن سنان موافقا لاصطلاح العرفاء، وهو أن الاسم صفة لموصوف فمرجع تشاجر أصحاب القلوب إلى أن صفات واجب الوجود عين ذاته باعتبار وغيرها باعتبار وافعمه ملاء والكراريس جمع كراسة بمعنى الأجزاء. (ش)
2- 2 - قوله «لا معنى للتشاجر المذكور بعد تسليمه» التشاجر بين العرفاء ليس كالتشاجر بين المتكلمين لأن الذات مع الوصف هي الذات باعتبار وليست هي هي باعتبار ولم يختلف العرفاء في ذلك إلا في تعبيرهم مع التصديق بصحة التعبير الآخر ومثال ذلك قد سبق فإن من عرف جاره بعنوان أنه زيد بن عمرو ولم يعرفه أنه من العلماء أو أنه من أقربائه ثم عرف ذلك إن قال بعد أني كنت أعرفه صدق وإن قال ما كنت أعرفه صدق أيضا لأنه عرف ذاته ولم يعرفه بصفة والذات مع الصفة غيرها بغير صفة وأما الأشاعرة فهم أنذل وأنزل من أن يفهموا هذه المعاني بل كلامهم في الاسم الملفوظ ولا يبعد نسبة ذلك إليهم بعد أن رأينا منهم القول بأن الله ليس جسما ومع ذلك يراه المؤمنون بأبصارهم لا ببصائرهم في الآخرة ولا يراهم الكفار وغير ذلك من مخالفات العقول. (ش)

ثم لهذه المسألة فوائد كثيرة وما يقال من أن النزاع (1) فيها وتحقيق الحق منها لا طائل تحته ليس بشيء، وسيجئ لهذا زيادة تحقيق في باب معاني الأسماء واشتقاقها إن شاء الله تعالى ولما أشار إلى أن الاسم غير المسمى أشار إلى أقسام العبادة وإثبات واحد من الأقسام وإبطال ما عداه بقوله (فمن عبد الاسم) واتخذه معبودا لنفسه (دون المعنى) المقصود من هذا الاسم الذي هو المعبود بالاستحقاق (فقد كفر) بالله حيث جعل ما ليس برب ربا معبودا (ولم يعبد شيئا) أي ليست عبادته هذه عبادة أو لم يعبد شيئا موصوفا بالشيئية الحقة الحقيقية المجردة عن شوائب الإمكان ولواحق الحدود وعدم استحقاق الاسم للعبادة المختصة بالصانع القديم لا ينافي استحقاقه باعتبار أنه اسمه للثناء والتعظيم.

(ومن عبد الاسم والمعنى) أي مجموعهما من حيث المجموع أو كل واحد منهما بالاستقلال (فقد كفر وعبد اثنين) كفر باعتبار أنه عبد المجموع أو جعل ما ليس بمعبود معبودا وأشرك باعتبار أنه عبد كل واحد منهما واعتقد أن المعبود اثنان.

(ومن عبد المعنى دون الاسم) وإن ذكر الاسم فإنما ذكره لينتقل منه إلى معناه ويدعوه به (فذاك التوحيد) المطلق الذي اعتبر فيه تجرده عن جميع ما سواه حتى عن اسمه الذي هو من أخص الأشياء.

(أفهمت يا هشام) معنى هذا الكلام، استفهم عن ذلك لما فيه دقة باعتبار وجوب تجرده عن

ص:103


1- 1 - قوله «وما يقال من أن النزاع» يعني كلام الشيخ البهائي ليس بشيء وهذا جرأة عظيمة سبق إليها قلم الشارح من غير عمد وقال الإمام في التفسير الكبير إن هذا البحث يجري مجرى العبث وهو من المتعصبين للأشعري فإذا اعترف هو بكون البحث عبثا فحق للشيخ عليه الرحمة أن يقول لا طائل تحته ولا معنى لتعصب الشارح لهم ولم يأت بشيء هنا ولا هناك ولم يكن غرض شيخ الأشعريين إلا مماشاة عواطف العامة كما نرى في زماننا من بعض الناس يلتزمون بكل شيء يخالف العقل من مذهب الأشاعرة إن كان فيها رضى العامة مثلا إذا قلت كل شيء بإرادة الله كان أدل على إيمانك من أن تقول فعلي باختياري وإرادتي وإذا قلت إن الله قادر على أن يدخل الجسم المادي من الباب المسدود والجدار المرصوص كما هو مذهب الأشاعرة كان أظهر لإيمانك وأسهل قبولا من أن تقول هذا محال كما هو مذهب أهل الحق وإذا قلت إن ثواب الله تفضل من الله على العباد من غير استحقاق منهم كما هو مذهب الأشعري كان أقرب إلى أوهام الناس من أن تقول يجب على الله تعالى ثواب المطيع وإلا لزم القبيح منه تعالى فنرى كثيرا ممن لا علم لهم بأصول المذهب ملتزمين بمذهب الأشاعرة من غير أن يعرفوه وغرضهم أن لا ينسبوا إلى فساد العقيدة وضعف الإيمان ويذهب جاههم عند العوام فيختارون من محتملات كل عقيدة أقربها إلى قبول العامة إذ ليس عندهم ما يميزون به الحق من الباطل بأنفسهم والغرض من هذا التطويل إن حسن ظن الشارح بالأشاعرة وطعنه على الشيخ البهائي - عليه الرحمة - لدلالة كلامه على أفضلية العرفاء من المتكلمين في غير محله. (ش)

جميع ما ينافي التوحيد المطلق من شوائب الأوهام.

(قال: فقلت: زدني قال: إن لله تسعة وتسعين اسما) مثله ما رواه الصدوق بإسناده مرفوعا عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لله عز وجل تسعة وتسعين إسما من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنة» (1) وفي كتاب مسلم أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة (2)».

أقول: هذا العدد من أسمائه تعالى ذكره صاحب العدة فيها وشرحه، وفي هذه الأخبار دلالة على أن «الله» هو أشهر أسمائه تعالى لإضافة الأسماء إليه ولأنه يعرف كل الأسماء الحسنى به فيقال: مثلا الرحمن اسم الله ولا يقال الله اسم الرحمن ولا دلالة فيها على حصر أسمائه تعالى في هذا العدد إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة اتفاقا فلا ينافي ما يدل على أن أسماءه تعالى أزيد من ذلك كما سيأتي في باب حدوث الأسماء وثبت ذلك أيضا من طرق العامة وإنما اقتصر على هذا العدد لكونه من أشرف الأسماء الحسنى، وقال بعض العامة هذه التسعة والتسعون مخفية من جملة أسمائه كالاسم الأعظم وليلة القدر ورد هذا القول بأنه بعيد لا يكاد يعقل لقوله «من أحصاها دخل الجنة» وكيف يحصي ما لا يعلم (3) وههنا شيء من كلام العامة لا بأس أن نشير إليه فنقول قال

ص:104


1- 1 - راجع التوحيد باب أسماء الله تعالى ص 189.
2- 2 - صحيح مسلم ج 8 ص 63 من حديث أبي هريرة.
3- 3 - قوله «كيف يحصي ما لا يعلم» وفيه أن خصوص هذه الأسماء غير مذكورة في حديث ولا نعلمها على أي حال إلا أن الترمذي من العامة ذكر بطريق ضعيف عندهم أسماء لم يقطع به الحجة. والحق أن بعض الأمور مما كلف به العباد وجوبا أو ندبا وهذا حقه أن يكون مبينا حتى يمتثل ويتمكن المكلف من الإتيان به وبعضها أخبار لا تكليف مثل إن في الجمعة ساعة ان اتفق الدعاء فيها استجيب وهذا خبر لم نكلف بأن نجتهد حتى نعلم تلك الساعة ولعل الأسماء التسعة والتسعين من ذلك. ثم أن في بعض روايات العامة، بعد ذكر التسعة والتسعين وأنه مائة إلا واحد «إن الله وتر يحب الوتر» وهذا وجه نقص الأسماء عن المائة، ويحتمل أن يكون إحصاء تلك الأسماء نظير طلب الاستجابة بها كما في الدعاء أسألك باسمك الذي دعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت الخ». وذلك لأن تأثير الأسماء ليس بمعنى تأثير الألفاظ والحروف بل بمعنى تأثير صفاته تعالى وذاته بمشيته وإرادته لكون كل ممكن مظهرا لصفة من صفاته واسم من أسمائه والمقصود من الإحصاء توجه القلب إليها وفناؤه فيها من سيره كما أن دعاءه باسمه كذلك وهذا أيضا معنى تأثير الاسم الأعظم وسيجئ لذلك تتمة إن شاء الله تعالى. ورد «أن آصف بن برخيا علم حرفا منه فنقل عرش ملكة سبأ في لحظة من اليمن إلى الشام وأن الحجج عليهم السلام يعلمون تسعة وتسعين حرفا، وليس هذا وصف الحروف إذ ليس في أسماء الله تعالى كلمة فيها مائة حرف. وفي شرح الأسماء: إن للذكر صورة ومعنى وحقيقة وإن شئت سم الثالثة غاية فصورته اللفظ ومعناه المفهوم التفصيلي وغايته التوجه إلى المتوجه إليه الواحد والمفهوم الإجمالي. (ش)

القشيري في حديث مسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما» دلالة على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغير الله تعالى وهو باطل لقوله تعالى «ولله الأسماء الحسنى» وقال أبو عبد الله الآبي: استشكل شيخي وأهل مجلسه كلام القشيري هذا وقالوا من أين يلزم أن يكون الأسماء لغيره؟ ومضى المجلس على استشكال ذلك ثم قال الآبي وبيانه والله أعلم: إن الحديث دل على أن التسعة والتسعين اسما لله تعالى لإسناده إليه تعالى فإن كان الاسم هو المسمى صح الإسناد وإن لم يكن الاسم هو المسمى لم يصح الإسناد وكانت لغيره وكونها لغيره باطل، وأجاب بأن الاسم غير المسمى ولا يلزم ما ذكر بل أسماء لله ولا يلزم منه تعدد في الإله لأن الذات الواحدة يكون لها أسماء كثيرة يختلف بحسبها وبحسب الاعتبارات الزايدة عليها كالله والقادر والعالم وغير ذلك من أسمائه تعالى فلفظ الله اسم اللذات من غير زيادة على القول بأنه غير مشتق وعالم وقادر كل منهما يدل على ذلك مع زيادة ما اتصف به من العلم والقدرة وكذلك في بقية الأسماء.

(فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها) فلزم تعدد الإله على قدر تعدد الأسماء والتالي باطل باتفاق الامة فالمقدمة مثله، لا يقال المسمى بهذه الأسماء إله فلو كان المسمى متعددا لزم تعدد الإله وإن لم يكن الأسماء نفسه وإن كان واحدا لزم على تقدير أن يكون الأسماء نفسه اتحاد تلك الأسماء لا تعدد الإله لأنا نقول اتحاد تلك الأسماء المختلفة المتغايرة أيضا باطل على أن اتحادها مما لا يعقل فلذلك جعل اللازم تعدد الإله.

(ولكن الله معنى) قايم بنفسه موجود لذاته لا تركيب فيه ولا تكثر بحسب الذات والصفات (يدل عليه بهذه الأسماء) فهذه الأسماء جعلت دليلا عليه وعلامة له ليدعوه الخلائق بها، لا يقال:

مدلول هذه الأسماء ليس أمرا واحدا لأن مدلول الله هو الذات وحدها، أو مع اعتبار المعبودية معها مثلا ومدلول العالم هو الذات الموصوفة بالعلم ومدلول القادر هو الذات الموصوفة بالقدرة وهكذا مدلولات سائر الأسماء. ولا شك أن هذه المدلولات متغايرة لأنا نقول: هذه المدلولات مفهومات وعنوانات ينتقل منها الذهن إلى الذات المقدسة المنزهة عن التجزي والتعدد والاتصاف بصفة زايده هي تلك المفهومات وغيرها إلا أن ذاته لما لا يخفى عليها شيء ولا يعجز عن شيء أطلق عليها العالم والقادر بهذا الاعتبار وملاحظة الاعتبار لا يوجب اختلاف الذات أصلا.

(وكلها غيره) هنا أربعة أشياء الاسم والمسمى والمسمي والتسمية، فالاسم الكلمة الدالة على معنى كلفظ بيت والمسمى الذات الموضوع لها تلك الكلمة والمسمي الواضع لتلك الكلمة لتلك الذات والتسمية جعل تلك الكلمة إسما لتلك الذات كوضع البيت لمسماها وقد يطلق التسمية

ص:105

على ذكر الاسم هكذا بيت والأربعة متغايرة كما ترى وهو مقتضى اللغة والعرف وقد يكون التغاير بين المسمى والمسمي بالاعتبار، ثم ذكر من أسماء الشاهد لتوضيح المقصود فقال:

(يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق) فإن من قال: أكلت الخبز وشربت الماء ولبست الثوب وأحرقت النار، أراد بها هذه المسميات دون الأسماء واستدل من وافقنا من العامة على مغايرة الاسم للمسمى بقول عائشة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أهجر إلا اسمك حين قالت غضبا عليه لا ورب إبراهيم ولم تقل لا ورب محمد لأنه لو كان الاسم نفس المسمى لكانت هاجرة له، وأجاب من ذهب منهم (1) إلى العينية بأن هذا في المخلوق ولا نزاع فيه وإنما النزاع في الخالق وفي أن اسمه هو المسمى لأنه تعالى في ذاته وصفاته وأسمائه لا يشبه ذوات المخلوقين وصفاتهم وأسمائهم، وأنت خبير بأن هذا الفرق تحكم.

(أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل) أي تجادل وتخاصم وتسبقه وتغلبه به (أعداءنا والملحدين) المائلين العادلين عن دين الله من الإلحاد باللام على ما رأيناه من النسخ (2) حال كونهم

ص:106


1- 1 - قوله «وأجاب من ذهب منهم» أقول مقتضى كلامهم أن يجيبوا بأن عائشة هجرت اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي عاهدت أن لا تجري اسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) على لسانها فعدلت عن إضافة كلمة الرب إلى محمد إلى الإضافة إلى إبراهيم حتى لا تتلفظ بمحمد وليس لفظ اسم إبراهيم ومحمد ولا مسماهما واحدا ولا يلزم من كون رب إبراهيم ورب محمد واحدا كون محمد وإبراهيم واحدا كما لا يلزم من كونهما مفترقين كون محمد وأحمد أعني اسمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مفترقين. (ش)
2- 2 - قوله باللام على ما رأيناه من النسخ، وكذلك رأينا وعندنا نسخة عليه خط المجلسي (رحمه الله) والمحدث الجزائري رحمه الله وإجازته لبعض تلاميذه وتصريحه بالمقابلة في مواضع كثيرة وفي مرآة العقول شرح كلمة الإلحاد كما هنا وعلى كل حال فليس المراد هنا الزنادقة أو المشركين بالمعنى الحقيقي لأن كون الاسم عين المسمى قول حشوية العامة وأهل الحديث منهم لا قول المشركين وهذه المسألة وإن كانت بمرتبة من الوضوح لا يناسب تبحج هشام بالغلبة فيها على كل أحد لكن لما كان أصحاب الحديث في الجاه والمنزلة وقبول العوام بحيث ما كان الغلبة عليهم سهلا إلا أن يكون البرهان عليهم واضحا جدا يفهمه كل أحد تبحج هشام به وأنت ترى أكبر كبراء القوم كالغزالي والقاضي لم يتجرؤا في مسائل كثيرة على مخالفتهم لئلا يتهموا بمخالفة السنة ويترك ساير تحقيقاتهم بذلك. وذكرنا سابقا أن كون الاسم عين المسمى نسب إلى الأشاعرة وكونه غيره إلى المعتزلة ولكن الأشعري أيضا تبع أهل الحديث السابقين عليه وهذا الحديث دليل عليه لأن الأشعري كان متأخرا عن هشام بن الحكم جدا وكان معاصرا للكليني عليه الرحمة مع وجود قوله في عصر هشام، قال الإمام في تفسيره قالت الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة الاسم غير المسمى ونفس التسمية والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، ثم قال: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها وتلك الحقايق بأعيانها فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى. (ش)

آخذين (مع الله تعالى غيره) على تضمين معنى الأخذ ونقل الشيخ الطبرسي (رحمه الله) هذا الحديث بعينه في كتاب الاحتجاج وفيه «والمتخذين مع الله تعالى غيره» من الاتخاذ بالتاء المثناة من فوق والذال المعجمة وهو الأظهر.

(قلت: نعم، قال: فقال نفعك الله به) في الدنيا والآخرة (وثبتك يا هشام) في الدنيا عند المناظرة (قال هشام: فوالله ما قهرني) أي ما غلبني (أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) الظاهر أن «حتى» ههنا للعطف ومعناها الغاية والانتهاء كإلى، وما قبلها ينقضي شيئا فشيئا إلى أن يبلغ إليه فلذلك وجب أن يكون جزءا من المعطوف عليه وحكم الجارة حكم العاطفة في المعنى المذكورة إلا في شيئين أحدهما أن الجارة بعدها جزء أخير مثل سرت اليوم حتى وقت المغرب أو ما يلاقي جزءا أخيرا مثل سرت اليوم حتى المغرب بخلاف العاطفة فإن بعدها لا يكون إلا جزءا أخيرا، وثانيهما أن الجارة بعدها اسم مفرد بخلاف العاطفة فإن بعدها جملة فعلية أو اسمية، إذا عرفت هذا فنقول قوله «حتى قمت مقامي هذا» معناه حتى قمت في مقامي هذا المقام الذي أنا فيه الآن أو حتى بلغت مرتبتي هذه أو حتى قمت مقامي هذا المقام الذي هو مقام تعليمه ودعائه (عليه السلام) على اعتبار الابتداء من زمان التكلم بقوله فوالله ما قهرني أحد، واعتبار الانتهاء إلى زمان القيام من مجلسه (عليه السلام).

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) أو قلت له: جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد؟ قال فقال: إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئا بل أعبد الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء: إن الأسماء صفات وصف بها نفسه.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) (1) أو قلت له) الشك من العباس أو من علي، وكونه من عبد الرحمن بعيد.

(جعلني الله فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد) المراد بالواحد نفي التركيب والأجزاء الخارجية والذهنية عنه وبالأحد نفي الشريك عنه في ذاته وصفاته (2) وقال ذو المفاخر

ص:107


1- 1 - قوله «قال كتبت إلى أبي جعفر» هو الجواد (عليه السلام) على ما مر لأن عبد الرحمن لم يدرك أبا جعفر الباقر (عليه السلام). (ش)
2- 1 - قوله «في ذاته وصفاته» قال القيصري حقيقة الوجود إذا أخذت بشرط أن لا يكون معها شيء فهي المسماة عندهم بالمرتبة الأحدية المستهلكة جميع الأسماء والصفات فيها ويسمى جمع الجمع وحقيقة الحقائق والعماء أيضا وإذا أخذت بشرط شيء فإما أن يؤخذ بشرط جميع الأشياء اللازمة لها كليها وجزئيها المسماة بالأسماء والصفات فهي المرتبة الإلهية المسماة عندهم بالواحدية ومقام الجميع، انتهى ما أردنا نقله، وتفسيره الشارح مأخوذ من العرفاء وهذا اصطلاح خاص بهم وحمل كلام الإمام (عليه السلام) على الفرق بين الواحد والأحد بهذا الوجه محتاج إلى تتبع وإقامة شاهد. (ش)

صاحب العدة هما اسمان يشملهما نفي الأبعاض والأجزاء.

والفرق بينهما من وجوه الأول أن الواحد هو المتفرد في الذات والأحد هو المتفرد بالمعنى يعني الصفات.

الثاني أن الواحد أعم موردا لأنه يطلق على من يعقل وغيره والأحد لا يطلق إلا على من يعقل، الثالث أن الواحد يدخل في الضرب والعدد ويمتنع دخول الأحد في ذلك وسيجئ زيادة تحقيق لهما، والصمد وهو السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوايج والنوازل وأصل الصمد القصد، تقول صمدته أي قصدته، وقيل: الصمد الذي ليس بجسم ولا جوهر وسيجئ أيضا زيادة توضيح له ولما كان كلام السائل يحتمل أمرين أحدهما أنا نعبد هذه الأسماء ومفهوماتها وعنواناتها وثانيهما أنا نعبد مسماها أمره (عليه السلام) بالثاني ونهاه عن الأول على الوجه الأتم كما أشار إليه بقوله (قال فقال:) على سبيل الكتابة أو من باب المشافهة.

(إن من عبد الاسم دون المسمى بالأسماء فقد اشرك) لأنه عبد آلهة لتعدد الاسم (وكفر وجحد) أي كفر بربه المستحق للعبادة وجحده لأنه لم يعبده ولم يتخذه إلها (ولم يعبد شيئا) لأن عبادته هذه هباء لا يترتب عليها ثواب، أو لم يعبد شيئا هو المعبود بالحق لأن اسمه غيره.

(بل أعبد الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء دون الأسماء) «أعبد» يحتمل أن يكون أمرا وأن يكون متكلما وحده، ثم أشار إلى أن أسماءه غيره، وأن ليس لها استحقاق العبادة بقوله (إن الأسماء صفات وصف بها نفسه) المراد أن أسماءه تعالى كلها دالة بحسب الوضع على صفات وصف بها نفسه وصفا اعتباريا أو صفاته عين ذاته والدال على صفات الذات ليس نفس تلك الذات ولا نفس تلك الصفات والمستحق للعبادة والذات دون غيرها، أو المراد أن الأسماء علامات وأدلة وضعها لنفسه ليعرفه الخلائق ويدعوه بها فهي مخلوقة وكل ما هو مخلوق لا يستحق العبادة.

ص:108

باب الکون و المکان

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة قال: سأل نافع بن الأزرق أبا جعفر (عليه السلام): فقال أخبرني عن الله متى كان؟ فقال: متى لم يكن حتى اخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة قال: سأل نافع ابن الأزرق أبا جعفر (عليه السلام) فقال أخبرني عن الله متى كان) أي في أي وقت وزمان ثبت وتحقق وجوده (فقال: متى لم يكن حتى اخبرك متى كان) يعني كل ما يصح أن يسأل عن وجوده بمتى، يصح أن يسأل عن عدمه بمتى لأن الشيء لا يدخل في مقولة متى بوجوده فقط بل إن دخل فيها دخل بوجوده وعدمه جميعا، ولكن لا يصح أن يسأل عن عدم واجب الوجود لذاته بمتى لأن وجوده أزلي غير مسبوق بالعدم أصلا فلا يصح أن يسأل عن وجوده بمتى أيضا، والحاصل أن السؤال عن كون الشيء بمتى إنما يصح إذا كان كونه زمانيا (1) ووجود الواجب تعالى شأنه ليس بزماني لا يجوز

ص:109


1- 1 - قوله «كونه زمانيا» الزمان أمر موهوم لا تحقق له في الخارج إلا عرضا لحركة والحركة عرض من عوارض الجسم فما لم يكن جسم متغير لم يكن للزمان مفهوم يتصور والأوهام العامية ترى الزمان والمكان واجبي الوجود وإن لم يتفوهوا به فهو مرتكز في خواطرهم فلا يعتقدون إمكان فنائهما وذلك لرسوخ مفهومهما في أذهانهم بمقتضى العادة وتكرار ما يوجب تصورهما وهذا نظير ما يتوهمون في العالم جهة الفوق والتحت حقيقة وأن كل شيء يجب أن يسقط من العلو إلى السفل وأن الأرض لا بد أن تكون على شيء حتى لا تسقط وبالجملة لا يمكن أن يتصور مفهوم الزمان قبل خلق الأجسام المتغيرة والله تعالى منزه عن الجسمية والتغير فلا يتصور له زمان ولا يتعقل متى كان إلا في وصف موجود متغير يمكن أن يقال في حقه متى لم يكن، فإن قيل إنكم تقولون: الزمان مقدار حركة فلك الأفلاك وبعد ما ثبت في الهيئة عدم وجود لذلك الفلك بطل قولكم في الزمان ويلزم أن لا يكون زمان على قولكم أصلا قلنا الكلي لا يبطل بعدم بعض أفراده وقولنا الزمان مقدار حركة ثابت مستمر ولا فرق بين أن ينسب إلى حركة فلك الأفلاك أو الأرض أو طبيعة الأجسام على القول بالحركة الجوهرية أو غير ذلك ألا ترى أنك في تصور مقدار الزمان تحتاج إلى آلة الساعة وحركة أجزائها ولو فرض أن لم يكن في العالم شيء متغير لم يكن الزمان أصلا. (ش)

أن يسأل عنه بمتى.

(سبحان من لم يزل ولا يزال) نزه (عليه السلام) من ليس لوجوده ابتداء ولا لكونه انتهاء ولا لذاته انتقال من العدم إلى الوجود ولا من الوجود إلى العدم عن أن يدخل في مقولة متى وجودا وعدما أو عن جميع النقائص ولواحق الإمكان (فردا) حال من فاعل لم يزل أي فردا في ذاته وصفاته فلا تركيب فيه أصلا ولا يشابهه شيء قطعا (صمدا) أي مقصدا لجميع المخلوقات ومرجعا لجميع الممكنات إذ كل مخلوق فهو في قيد الفاقة لديه وكل ممكن فهو في ذل الحاجة إليه.

(لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) لأن اتخاذ الصاحبة تابع للقوة الشهوية والمماثلة والمجانسة والجسمية والتركيب والانتقال من حال إلى حال وقد ثبت تنزهه تعالى عن هذه الأمور، وكذا اتخاذ الولد مقتض للمجانسة والمشاركة في النوع والافتقار إلى من يعينه أو يخلف عنه ولحوق مرتبتة بمراتب الأجسام التي هي في معرض الزوال وقد وجب طهارة ذاته وصفاته عن جميع ذلك. وفيه رد على من قال: الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وعزير ابن الله.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ فقال: إني أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك. فقال أبو الحسن (عليه السلام): سل عما شئت فقال: أخبرني عن ربك متى كان؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء كان اعتماده؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين وكيف الكيف بلا كيف وكان اعتماده على قدرته، فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن عليا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والقيم بعده بما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنكم الأئمة الصادقون وأنك الخلف من بعدهم.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ فقال: إني أسألك عن مسألة) كأنه أراد بالمسألة جنسها لأن ما سأل عنها ثلاث مسائل (فإن أجبتني فيها بما عندي) أي الجواب الحق الذي عندي، ولعل الرجل كان من أهل الكتاب وأخذ ذلك من الكتب الإلهية.

ص:110

(قلت بإمامتك، فقال أبو الحسن (عليه السلام): سل عما شئت فقال أخبرني عن ربك متى كان) متى سؤال عن حالة تعرض الشيء بسبب نسبته إلى الزمن وكونه فيه أو في الآن، والأظهر بالنظر إلى الجواب «أين» بدل «متى» وهو سؤال عن حالة تعرض الشيء بسبب نسبته إلى مكان وكونه فيه كأن «متى» وقع سهوا من الناسخ ويؤيده أنه نقل الصدوق رحمه الله هذا الحديث بعينه في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) مع تغيير يسير عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وفيه «أين كان» بدل «متى كان» (وكيف كان) أي هو على وصف وكيفية من الكيفيات المتكثرة التي لا يخلو موجود من الموجودات عنها.

(وعلى أي شيء كان اعتماده فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين (1) وكيف الكيف بلا كيف) أي خلق مهية الأين والكيف وأفاض الوجود عليها فهو بلا أين ولا كيف لاستحالة اتصافه بخلقه وأيضا عدم كونه في الأين وعدم اتصافه بالكيف قبل إيجادهما يجب أن يكون كمالا له لاستحالة اتصافه بالنقص فلا يجوز أن يتصف بضد ذلك بعد إيجادهما لاستحالة انتقاله مطلقا فضلا عن الكمال إلى النقص. وبهذا تم الجواب عن السؤال الأول والثاني سواء وقع في السؤال الأول أين أو وقع متى، أما الأول فظاهر وأما الأخير فلوقوع التلازم بين الزمان والمكان حتى أنه قيل: كلما كان الشيء في الزمان كان في المكان، وبالعكس، فإذا أفاد عليه أنه تعالى شأنه ليس في مكان فقد أفاد أنه ليس في زمان أيضا بطريق الكناية والكناية أبلغ من التصريح وبالجملة أفاد أنه ليس في زمان مع شيء زايد وهو أنه ليس في مكان وبقي الجواب عن السؤال الثالث فأشار إليه بقوله (وكان اعتماده على قدرته) (2).

ص:111


1- 1 - قوله «أين الأين بلا أين» استدلال بأنه تعالى لم يكن له مكان بأنه لو كان له مكان لزم الدور فان المكان متقدم عليه ولكن المكان مخلوق له تعالى فهو متأخر عنه فيلزم أن يكون المكان متقدما عليه ومتأخرا عنه وهذا دور واعلم أن المكان في أوهام العوام واجب لا يتصورون إمكان عدمه وهو فضاء غير متناه خال عن الأجسام وقبل أن يخلق الله تعالى هذه الأجسام كان الفضاء الخالي موجودا والدليل على أنهم يتوهمونه واجبا أنهم يحكمون بكونه غير متناه والإنسان لا يحكم بشيء من غير إحساس به أو قيام دليل عليه إلا أن يكون واجبا في نظره، ألا ترى أنه لا يحكم أحد بوجود ماء غير متناه أو تراب غير متناه أو رمل غير متناه وراء فلك الأفلاك أو فوق السماوات أو على أكناف المجرة لعدم إحساسه به وعدم دليل عليه ولكن يحكم بوجود فضاء خال غير متناه وما ذلك إلا لتوهمه واجبا مثل حكمه بكون الأربعة هناك زوجا وكلام الإمام (عليه السلام) يدل على أن المكان مخلوق لله تعالى وهو مذهب أكثر الفلاسفة وبينه الشيخ في الشفاء بأبين وجه لأن الفضاء الذي يتوهمه العوام باطل عندهم والمكان عندهم هو السطح الحاوي المماس للمحوي وتوهم الفضاء نظير توهم الزمان وتوهم العلو والسفل وسقوط كل شيء من العلو إلى السفل. (ش)
2- 2 - «وكان اعتماده على قدرته» الاعتماد ما يسميه الحكماء ميلا وهو الذي يحس به الإنسان من الثقل وضع يده تحت جسم ثقيل، ويذهب أوهام العوام إلى أن في الفضاء الخالي الذي يتصورونه جهة علو وجهة سفل وأن كل شيء لابد أن يعتمد على شيء تحته وإلا يسقط، وإن قلت للعامي أول مرة إن الأرض كرة وإن الإنسان موجود على سطحها من جميع جوانبها تعجب منه وسأل كيف لا يسقط الذي على الطرف الأسفل من الأرض وكيف لا تسقط الأرض نفسها وكذلك يسأل السائل عما يعتمد الله تعالى عليه لئلا يسقط لأن ما يعتمد عليه مخلوقه ولم يكن قبل أن يخلقه الله تعالى شيء يعتمد عليه، فأجاب (عليه السلام) بأن الاعتماد للعاجز وأما القادر على أن يقوم بنفسه لا يسقط وهذا جواب على فرض صحة المقدمات المرتبة في وهم السائل وإلا فالله تعالى لا يحتاج إلى مكان ولا يجري عليه التغيير ولا يعتريه اختلاف الحالات ولا يتحرك ولا يتصور له ثقل على أن المكان ليس له فوق وتحت بالمعنى الذي توهمه السائل، وإن فرضنا صحة جميع ذلك فالقدرة تمانع الثقل وتقاومه وترفع الحاجة إلى ما يعتمد عليه كالطائر القادر على أن يمسك بجناحه ولا يسقط وبالجملة الجواب تمثيل وتشبيه وإلا فليس له تعالى اعتماد لا أن له اعتمادا على شيء وهو قدرته، ونظيره ما يقال إن الملائكة طعامهم التسبيح فإنه تشبيه لما به قوام الشيء بالغذاء وليس هناك طعام بالمعنى المتبادر، كذلك ليس لله تعالى اعتماد بالمعنى المتبادر. (ش)

قال القاضي: القدرة هي التمكن من إيجاد الشيء، وقيل صفة تقتضي التمكن، وقيل: قدرة الإنسان هيئة يتمكن بها من العقل، وقدرة الله عبارة عن نفي العجز عنه والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري جل شأنه، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته أو على مقدار ما تقتضيه مشيته، وقال الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «يعني (عليه السلام) بقوله واعتماده على قدرته أي على ذاته لأن القدرة من صفات ذات الله تعالى».

(فقام إليه فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وأن عليا وصي الله والقيم بعده بما أقام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) من النواميس الإلهية والقوانين الشرعية والأحكام الربانية والأخلاق النفسانية والمراد بكون علي (عليه السلام) قيما بعده أنه الذي قام بإجراء هذه الأمور على الخلق وتقلد سياسة أمورهم بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم).

(وإنكم الأئمة الصادقون) في كل ما أخبرتموه من أمور الدين والدنيا (وإنك الخلف من بعدهم) الخلف من جاء بعد آخر وإذا أطلق يراد به خلف الصدق سيما إذا كان ذلك الآخر معروفا به.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم ابن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: أخبرني عن ربك متى كان؟ فقال: ويلك إنما يقال لشيء لم يكن; متى كان، إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيا بلا كيف ولم يكن، له كان ولا كان لكونه كون كيف ولا كان له أين، ولا كان في شيء ولا

ص:112

كان على شيء ولا ابتدع لمكانه مكانا ولا قوي بعدما كون الأشياء ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا ولا يشبه شيئا مذكورا ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه، لم يزل حيا بلا حياة وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا وملكا جبارا بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف ولا له أين ولا له حد ولا يعرف بشيء يشبهه ولا يهرم لطول البقاء ولا يصعق لشيء بل لخوفه تصعق الأشياء كلها، كان حيا بلا حياة حادثة ولا كون موصوف ولا كيف محدود ولا أين موقوف عليه ولا مكان جاور شيئا بل حي يعرف وملك لم يزل له القدرة والملك أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، ولا يحد ولا يبعض ولا يفنى، كان أولا بلا كيف ويكون آخرا بلا أين وكل شيء هالك إلا وجهه، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، ويلك أيها السائل إن ربي لا تغشاه الأوهام ولا تنزل به الشبهات ولا يحار [من شيء] ولا يجاوره شيء (1) ولا تنزل به الأحداث ولا يسأل عن شيء ولا يندم على شيء ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له أخبرني عن ربك متى كان) سأل عن أول زمان وجوده (فقال ويلك) الويل كلمة تقال لمن وقع في مهلكة.

وقيل: هو واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لذابت من حره (إنما يقال لشيء لم يكن متى كان) ضرورة أن حدوث الشيء مسبوق بعدمه (إن ربي تبارك وتعالى كان) في الأزل بلا ابتداء فلا يجوز أن يقال في حقه متى كان (ولم يزل حيا) عطف على كان أو حال عن اسمه، والحياة قيل: هي صفة توجب صحة العلم والقدرة وقيل هي كون الشيء بحيث يصح أن يعلم ويقدر، وقال قطب المحققين في درة التاج هي عبارة عن إدراك الأشياء وهو تعالى شأنه لما كان عالما بذاته وبمعلولاته كما هي على الوجه الأتم الأبلغ كان حيا وليست حياته أمرا زايدا على ذاته قايما بها بل هي عين ذاته كالعلم وساير صفاته، وقال صاحب العدة الحي هو الفعال المدرك وهو حي (2) بنفسه

ص:113


1- 1 - في بعض النسخ [ولا يجاوزه شيء].
2- 2 - «وهو حي بنفسه» الألفاظ الموضوعة لمان كلية مجردة إذا اعتيد مصاحبتها لأمور لا مدخلية لها في معناها وتبادرت إلى الأذهان مع تلك الأمور الزائدة ربما توهم منه أن تلك الأمور من أجزاء المعنى الموضوع بحيث إذا جرد منها كانت الألفاظ مستعملة في غير معناها مجازا، مثلا الدار عندنا صحن غير مسقف حول بيوت لكن كونها مشتملة على صحن غير مسقف أمر زائد لا دخل له في مفهوم الدار وإنما ينصرف ذهننا إليه للعادة ولذلك إذا رأينا دور مكة شرفها الله أو بلاد أخر غير مشتملة على صحن غير مسقف وأطلق عليه لفظ الدار كان مستعملا في معناه وليس مجازا وكذلك الميزان يتبادر ذهننا منه إلى كفتين معلقتين بسيور وأرسان إلى طرفي خشبة أو حديد وليس ذلك داخلا في معناه وإنما يتبادر منه للعادة وفيما نحن فيه أيضا الحي يتبادر إلى الذهن منه جسم مركب من آلات مختلفة يتصل بعضها ببعض بالعروق والأعصاب وجريان الدم والروح العصبي والنفس وحركة النبض والحرارة الغريزية ولذلك اشترط المتكلمون في الحياة البنية الخاصة ولكن جميع تلك زائدة على أصل معنى الحياة وإنما المعتبر فيها أن لا يكون الموجود جمادا لا يعقل ولا يفعل باختيار فكل موجود عاقل فاعل مختار هو حي وإن لم يكن له جسم مادي كالجن والملك أو كان جسم بلا عروق ودم وتنفس كالفلك عند الحكماء والله تعالى حي بمعناه الحقيقي دون انضمام هذه الكيفيات والضمائم التي قد تفارق الموضوع فيصير جمادا بل حياته عين ذاته لا يتصور انفكاكها عن الذات ولذلك لما قال الإمام (عليه السلام) «لم يزل حيا» كان في معرض أن يتوهم السائل من الحياة تلك الأمور المصاحبة فاستدرك وقال: «بلا كيف». (ش)

لا يجوز عليه الموت والفناء وليس محتاجا إلى حياة بها يحيى (بلا كيف) لأن الكيفيات على أقسامها مخلوقة حادثة ومن البين أنه يستحيل أن يتصف القديم الأزلي الغني على الإطلاق بالمخلوق الحادث (ولم يكن له) (1) أي ولم يكن الكيف ثابتا له والواو إما للعطف والتفسير أو للحال.

(كان ولا كان لكونه كون كيف) لفظة كان أولا تامة بمعنى ثبت وجوده والواو للحال عن اسمه، وثانيا ناقصة وكون كيف بالرفع والإضافة اسمه والظرف المقدم خبره يعني كان أزلا والحال أنه ما كان كون كيف وحصوله ثابتا لكونه ووجوده والحاصل أنه ما كان كونه الأزلي كونا مكيفا بكيفية بل كان كونا منزها عن الاتصاف بها وإذا كان كذلك وجب تنزهه عنه أبدا لأن أبده كأزله، وأزله كأبده.

(ولا كان له أين) أي كان أزلا ولا كان له حيز وجهة أو حصول فيهما لأن ذلك من صفات الخلق وهو منزه عن الاتصاف بها أزلا وأبدا، ويحتمل أن يكون المراد بهاتين الفقرتين أنه كان أزلا وما كان لكونه استعداد الاتصاف بالكيف ولا استعداد الحصول في الأين حتى ينتقل من الاستعداد إلى الفعل بعد إيجاد الكيف والأين فيقال كيف هو وأين هو تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(ولا كان في شيء) هذا تعميم بعد تخصيص لأنه كما ينفي عنه الحصول في الأين كذلك ينفي عنه الحلول في الشيء أما الأول فقد عرفت وأما الثاني فلأن الحلول في الشيء هو الحصول فيه على سبيل التبعية وهو على الله تعالى شأنه محال لأنه إن افتقر إلى ذلك المحل في وجوده وكماله

ص:114


1- 1 - قوله «ولم يكن له» جمل الشارح هذه الكلمة تماما للجملة السابقة أي لم يزل حيا بلا كيف لاحق بحيث يكون هذا الكيف حادثا ولا يكون سابقا بل كان قديما أزلا ويحتمل أن يكون كلمة لم يكن متعلقا بالجملة التالية أي لم يكن له كان يعني لم يكن لفظ كان لائقا به فإن كان فعل ماض يدل على حدوث شيء في الزمان الماضي ولم يكن الله تعالى حادثا وتفسير الشارح أوضح. (ش)

لزم الاحتياج المنافي للوجوب الذاتي والفناء المطلق وإن لم يفتقر كان الحلول فيه نقصا له لأن ما ليس بكمال فهو نقص وهو جل شأنه منزه عن الاتصاف بالنقص، وهذا رد على النصارى القائلين بحلوله في عيسى (عليه السلام) وعلى بعض المتصوفة القائلين بحلوله في العارفين.

(ولا كان على شيء) على سبيل الاستقرار عليه لأنه لو كان على شيء لزم الافتقار والنقص واختصاصه بجهة معينة وخلو بعض الجهات عنه وهو محال وفيه رد على من تشبث بالظواهر مثل قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وقوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).

(ولا ابتدع لمكانه مكانا) الظاهر أن المكان الأول مصدر والمراد أنه ما أوجد لكونه مكانا إذ لو كان كونه مكانيا لما كان بلا مكان أصلا فلما كان بلا مكان قبل إيجاد المكان علم أنه ليس مكانيا أو المراد أنه ما أوجد لعلو كونه ومرتبة جلاله مكانا يحصره وحدا يحده وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يمكن أن يكون المكان محمولا على الظاهر ويكون الكلام لدفع توهم من يتوهم أن له مكانا باعتبار أنه موجودا وكل موجود له مكان وتوجيه الدفع أن مكانه بزعمك موجود وليس له مكان فإذا كان المكان المخلوق ليس له مكان فالخالق للمكان أولى أن لا يكون له مكان.

(ولا قوي بعد ما كون الأشياء) ليس الغرض من تكوينها تحصيل كمال قوته والاستعانة بها في سلطانه على ند مشاور أو شريك مكابر أو ضد منافر بل كونها لإظهار علمه وحكمته وانفاذ قدرته وقوته وإمضاء تقديره وتدبيره.

(ولا كان ضعيفا بل أن يكون شيئا) فلم يكونه لجبر ضعفه وتشديد قدرته ورفع العجز عنه كما يفعله المشاق منا لتحصيل القوة والقدرة على تحصيل الخط وصرف العجز عن نفسه. لأنه إنما يحتاج إلى ذلك العاجز الناقص في القدرة والقوة وأما الله تعالى شأنه فقوته التي هي عبارة عن كمال القدرة وتمامها ويقابلها الضعف تامة كاملة قاهرة أزلا وأبدا لا يعلم كمالها وتمامها وحقيقتها إلا هو وهو القوي المطلق الذي كل شيء مقهور تحت حكمه وقدرته إن شاء أوجده وأبقاه وإن شاء أعدمه وأفناه من غير أن يتغير بذلك قوته في الشدة والضعف.

(ولا كان مستوحشا) أي مغتما بتفرده والاستيحاش ضد الاستيناس (قبل أن يبتدع شيئا) فلم يبتدع الخلق ليستأنس بهم ويرفع عن نفسه ألم الوحشة لأن الوحشة من توابع المزاج ولواحق الحيوان الذي يأخذ من جنسه أو من غير جنسه أنيسا يستأنس بصحبته ويغتم بفقده والله سبحانه منزه عن ذلك.

ص:115

(ولا يشبه شيئا مذكورا) في الأشياء ومعدودا منها وصادقا عليه اسم الشيء لتنزهه تعالى عن المشابهة بخلقه في ذاته وصفاته إذ الوجوب الذاتي يتأبى عن الاتصاف بصفات الإمكان ولواحقه.

(ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه) وذلك لأن وجود المنشآت وإن كان متأخرا عن عدمها ومتقدما عن ذهابها وفنائها كما أن وقت الإنشاء متأخر عن وقت عدمه ومتقدم على وقت ذهابه وفنائه لتحقق الترتيب والتقدم والتأخر والتوسط بين أجزاء الزمان بالذات وبين الزمانيات بالعرض إلا أن نسبته تعالى إلى المتقدم والمتأخر والمتوسط من الزمان والزمانيات نسبة واحدة لا يصلح أن يتعرض لها بالنظر إليه قبلية وبعدية وحالية وماضوية واستقبالية لأن هذه الأمور تلحق الزمان لذاته والزمانيات بتوسطه وقد ثبت أنه تعالى منزه عن الزمان ولواحقه فلا يجري فيه شيء من لواحقه ولا يجوز أن يقال: نسبته إلى الأزل متقدمة على نسبته إلى الأبد ونسبته إلى وقت إنشاء الملك متأخرة عن نسبته إلى ما قبل ذلك الوقت ومتقدمة على ما بعده، وكذا لا يجوز أن يقال كونه مالك، الملك حصل له حين إنشائه ولم يكن له قبله ولا بعد ذهابه ولا أن يقال كونه عالما بالملك محيطا به لم يكن قبل إنشائه ولا بعد ذهابه بل الأشياء كلها كلياتها وجزئياتها حاضرة بذواتها وصفاتها عنده أزلا وأبدا لا باعتبار أنها كانت قديمة لبطلان ذلك بل باعتبار أنه لا يجري فيه عز وجل الزمان وأحكامه إلا أن الوهم لألفه بالمحسوسات وانسه بالزمانيات يتأبى عن قبول ذلك ويتخيل أن الشيء كيف يكون حاضرا عنده قبل كونه. قياسا له تعالى بخلقه فأن ما حضر عندنا الآن لم يكن حاضرا عندنا في الزمان السابق فيتخلف نسبته إلينا ونسبتنا إليه بالتقدم والتأخر والحضور وعدمه، وأما العقل الصريح والذهن الصحيح إذا عري عن شبهات الأوهام وجرد الباري عن توابع الإمكان ولواحق الزمان ولاحظ أنه لا امتداد في جانب قدس الحق (1) وأن الامتداد إنما هو في هذا العالم يحكم حكما جازما بأنه تعالى عالم قادر مالك قاهر قبل إيجاد الخلق وبعده وبعد إفنائه بلا تغير ولا تبدل ولا انتقال من حال إلى حال، ويمكن أن يقال: المراد من لفظ الملك في قوله (عليه السلام) «ولا يكون خلوا من الملك قبل إنشائه» السلطنة ومن ضميره الخلق والمملوك على سبيل الاستخدام والمقصود أنه لا يخلو من السلطنة قبل إيجاد الخلق إذ سلطنته بعلمه وقدرته على الممكنات عند أصحاب العصمة (عليه السلام) سواء أوجد الممكنات أو لا.

ص:116


1- 1 - قوله «لا امتداد في جانب قدس الحق» أي لو فرضنا أنه تعالى موجود بدون الخلق لم يتصور امتداد حتى يتصور زمان. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «سبق الأوقات كونه والعدم وجوده» وقد شبه بعض علمائنا تساوي نسبة جميع الأزمان إليه تعالى بخيط مختلف اللون تمشي عليه نملة ولا يدرك لونا إلا بعد الوصول إليه وأما الإنسان المشرف على الخيط فيدركه بألوانه مرة واحدة فالماضي والحال والاستقبال بالنسبة إليه تعالى سواء في إحاطته وقدرته وملكه. (ش)

(لم يزل حيا بلا حياة) قائمة بذاته وفيه تنزيه لحياته عن التشابه بحياة خلقه فإن حياة خلقه صفة زائدة على ذواتهم منشأ لعلمهم وقدرتهم، وأما حياته تعالى بعين ذاته باعتبار أنه يصدر عنه أفعال الأحياء على وجه الكمال.

(وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا) أما أنه ملك فلما عرفت أنه لا يكون خاليا من الملك قبل إنشائه. وأما أنه قادر فلأن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهو الله سبحانه كذلك لأن فعله مترتب على إرادته ومشيته إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.

(وملكا جبارا بعد إنشائه للكون) في تعلق الإنشاء بالكون إشارة إلى الجعل البسيط بإفاضة الوجودات وفي صحة تعلق الجعل بالمهيات كلام طويل مذكور في موضعه والجبار من أسمائه تعالى مبالغة من الجبر لأنه يجبر مفاقر الخلق ويكفيهم أسباب الرزق ويصلح نقائص حقايق الممكنات بإعطاء الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات أو لأنه يجبر طبايع الموجودات على لوازمها وآثارها التي ليست في وسعها وقدرتها أو لأنه يجبر الممكنات على الطاعة والانقياد (ولله يسجد ما في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) أو لأنه يقهر الأشياء في الإيجاد ويوجدها كيف يشاء والله خالق كل شيء وهو الواجد القهار أو لأنه لا يناله لعلوه أيدي المتفكرين من قولهم للنخل الطويل العالي: جبار، لبعده عن تناول اليد، أو لأنه يكسر أعناق الجبابرة ويقمع شوكة القياصرة بالنوايب والمصايب.

(فليس لكونه كيف ولا له أين) إذ الكيف والأين خلقان من خلقه فلو كان لكونه كيف وأين لكان هو محتاجا إلى خلقه في ملكه وقدرته وإنه ينافي كونه ملكا قادرا جبارا على الإطلاق قبل الإنشاء وبعده.

(ولا له حد) عرفني لأنه لا أجزاء له، والحد العرفي إنما يتألف من أجزاء الحقيقة ولا لغوي وهو النهايات المحيطة بالجسم والجسمانيات مثلا، فيقف عندها لأن ذلك من لواحق الكم وتوابعه، والواجب بالذات ليس بكم ولا محل، فامتنع أن يوصف بالنهاية.

(ولا يعرف بشيء يشبهه) هذا في اللفظ خبر وفي المعنى نهي عن تشبيهه بخلقه وأدعاء معرفته بذلك، ردا على الفرق المجسمة والمصورة تعالى الله عما يقول الظالمون.

(ولا يهرم لطول البقاء) الهرم بالتحريك كبر السن، وقد هرم الرجل من باب لبس وأهرمه الله فهو هرم، ووجه ذلك أن الهرم إنما يحصل بتغير المزاج وانفعاله وانكسار القوى وضعفها لطول الزمان وتوارد نوائبه وتواتر مصائبه والله سبحانه سرمدي لازماني، وليس له مزاج ولا يعرض له انفعال

ص:117

وانكسار وضعف.

(ولا يصعق لشيء) أي لا يفزع أو لا يموت أو لا يغشى عليه للخوف من شيء لأنه تعالى فوق كل شيء قاهر عليه يقدر على إعدامه طرفة بل أقل من ذلك فكيف يصعق خوفا منه ولأن الصعق تابع للانفعال وهو سبحانه منزه عنه.

(بل لخوفه تصعق الأشياء كلها) نواطقها وصوامتها وبناتاتها وجماداتها ومجسماتها ومجرداتها وهذا مما لا شبهه فيه فإن من رفع حجاب الغفلة بينه وبين ربه ونظر إلى كمال كبريائه وعظمته وقدرته وقهاريته وغنائه من الخلق، ثم نظر إلى حال نفسه وغاية فقره وفاقته وعجزه وشدة احتياجه إليه سبحانه ونظر إلى ما يأتي عليه في القبر والحشر من أحوال البرزخ وأحوال القيمة وهو لا يدري أمن أهل الكرامة والثواب أو من أهل الخذلان والعقاب لصار مغشيا عليه من الخوف أو مات فجأة.

ولكن قساوة القلوب في الأكثر جعلتها فارغة من الخوف بل صيرتها أشد من الحجارة كما قال سبحانه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعلمون).

(كان حيا بلا حياة حادثة) أي مسبوقة بالعدم لأن حياته لو كانت حادثة لكان تعالى شأنه قبل حدوثها غير حي وكان محتاجا في حدوثها إلى غيره ضرورة أن الشيء لا يقدر على إيجاد حياة نفسه وكان قابلا للتغير ومحلا للحوادث واللوازم كلها باطلة بالعقل والنقل، والفرق بين هذا الكلام وبين ما سبق أنه نفي بهذا الكلام أن يكون له حياة حادثة ونفي بما سبق أن يكون له حياة قديمة زايدة على ذاته.

(ولا كون موصوف) (1) النفي راجع إلى القيد والمراد أنه ليس له وجود موصوف بكونه زايدا عليه لأن وجوده عين ذاته أو بكونه في زمان أو مكان لأن وجوده منزه عنهما أو المراد أنه ليس له وجود موصوف محدود بحد حقيقي يخبر عن ذاتياته أو بحد ونهاية إذ ليس لوجوده أجزاء ولا حد ولا نهاية، وبالجملة وجوده لا يتصف بصفة أصلا كما لا يتصف ذاته بها إذ كل صفة مغايرة

ص:118


1- 1 - «ولا كون موصوف» قال صدر المتألهين في شرح عنوان الباب: إن المراد بالكون هنا هو الكون في زمان ويؤيده قول أبي جعفر (عليه السلام) في الحديث الثالث «ولم يكن له كان» أي لم يكن له إمكان ان يقال في حقه كان أي بلفظ الماضي الدال على الزمان وهكذا هنا يحتمل أن يكون المراد ليس له خروج من العدم إلى الوجود في زمان ولا يكون القيد بكونه موصوفا احترازيا والمعنى الذي ذكره الشارح أيضا صحيح موجه لأن الوجود المطلق الذي هو حقيقة ذات الباري غير موصوف ووجود الممكنات لتقيدها موصوف. (ش)

للموصوف لأن قيام الصفة بالموصوف وقيام الموصوف بذاته لا بالصفة وإذا كان بين الصفة والموصوف مغايرة فلو اتصف وجوده بصفة لزم التكثر والاحتياج المنزه عنهما عالم القدس وجلال الحق.

(ولا كيف محدود) الظاهر أنه أراد بالكيف المعنى المعروف والنفي راجع إليه لوجوب تنزيه الخالق عن الكيفيات التي هي من خواص خلقه، وإنما وصفه بما هو من لوازمه أعني المحدودية بالنهاية أو الحد الحقيقي أو توارد الأفراد على سبيل التعاقب للإشعار بأن هذا الوصف في الحقيقة علة لوجوب تنزيه الحق عن الموصوف به لبراءته عن الحد والنهاية وقبول توارد أفراد الكيف عليه، ويحتمل أن يراد بالكيف المعنى الأعم الشامل لمطلق الصفات والنفي حينئذ راجع إلى المجموع باعتبار القيد فيكون فيه إشارة إلى أن له كيفا غير محدود. أعني الصفات اللايقة بذاته تعالى وأن إطلاق الكيف عليه على سبيل التجوز وقد أشار إليه أبو عبد الله (عليه السلام) في باب إطلاق القول بأنه شيء بقوله «ولكن لا بد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره».

(ولا أين موقوف عليه) (1) ضمير المجرور إما راجع إليه سبحانه ومعنى وقوف الأين عليه إحاطته به أو راجع إلى الأين ومعنى وقوفه على الأين استقراره فيه وذلك لاستلزامه أن يكون تعالى شأنه محتويا بالحواية ومتحيزا بحيز ومستقرا في جهة وكل ذلك محال بالضرورة.

(ولا مكان جاور شيئا) ضمير «جاور» إما راجع إلى المكان والوصف للكشف والإيضاح أو راجع إلى الله سبحانه بحذف العايد، وذلك لأن كونه حالا في المكان ومجاورا فيه لشيء تابع للجسمية ومستلزم للنقصان اللازم للإمكان فليس سبحانه في الأين والمكان بمعنى الوقوف عليهما والحلول فيهما وهو في كل أين ومكان بمعنى العلم والإحاطة وهذا تأكيد للسابق، ويمكن الفرق بينهما بأن المقصود هنا نفي أن يكون في مكان وفي السابق أنه لا يجوز أن يسأل عنه بأين، ويقال: أين هو، قال الجوهري: أين سؤال عن مكان إذا قلت أين زيد فانما تسأل عن مكانه.

أو باعتبار الوصف فإن المقصود هنا نفي أن يكون مجاورا لشيء دون شيء باعتبار كونه في مكان قريب من الشيء الأول والمقصود في السابق نفي أن يكون واقفا على المكان حالا فيه والله أعلم.

(بل حي يعرف) الفعل إما على البناء للفاعل أي يعرف الأشياء والأمكنة وما فيها قبل إيجادها وبعده، وللإضراب حينئذ وجه ظاهر كأنه قال: وليس له مكان بمعنى الحلول فيه بل هو حي في

ص:119


1- 1 - «قوله ولا أين موقوف» المكان في العرف هو ما يعتمد عليه الشيء ويقف ويستقر عليه. (ش)

جميع الأمكنة بالمعرفة والإحاطة بها، أو على البناء للمفعول يعني بل هو معروف في جميع الأمكنة أو معروف عند اولي الألباب بتعقل صرف بريء عن علايق المواد، مجرد عن إدراك الحواس وتوابع إدراكاتها من الوضع والأين والمكان والإضراب على هذا أظهر.

(ومالك لم يزل) ذكر الملك ثلاث مرات الأول لبيان أنه ملك قبل الإنشاء، والثاني لبيان أنه ملك بعد الإنشاء. والثالث - وهو هذا البيان أنه ملك أزلا وإذا كان ملكا أزلا كان ملكا أبدا فهو ملك دايما وسلطان أولا بلا غاية وآخرا بلا نهاية.

(له القدرة والملك) تقديم الظرف لقصد الحصر أي له القدرة الكاملة على جميع الأشياء إذ كل موجود فهو منته في سلسلة الحاجة إليه وهو تعالى مبدء وجوده وساير ما يعد سببا له فإنما هي واسطة بجعله وله الملك على الإطلاق وكل مالك مع ما في يده فهو مملوك له فإذن لا قدرة ولا ملك في الحقيقة إلا له.

(أنشأ ما شاء حين شاء بمشيته) أي بمجرد مشيته وإرادته بلا آلة ولا حركة ولا روية ولا مادة فقد ظلم نفسه وكفر بالله العظيم من قال: أنه تعالى فاعل بالايجاب (1) لا قدرة له على فعله، ومن قال: إنه لم يوجد إلا شيئا واحدا ولم يقدر على إيجاد غيره (2) ومن قال: إنه يحتاج في خلق شيء

ص:120


1- 1 - «من قال إنه فاعل بالايجاب» مبني هذه الشبهة أن بعضهم تمثل لتصوير احتياج الممكن إلى الواجب حدوثا وبقاء بالشمس والضياء وقال: كما أن الضياء محتاج إلى الشمس في حدوثه وبقائه كذلك العالم محتاج إلى الواجب في حدوثه وبقائه، وقالوا: ليس نسبة العالم إليه تعالى نظير نسبة البناء إلى الباني حيث يهلك الباني ويبقى البناء فذهب ذهن بعض جهلة المتفلسفين إلى أن الله تعالى لا اختيار له في خلقه بل يصدر عنه العالم قهرا بغير اختياره كالشمس ولم يعلموا أن المشبه والمشبه به لا يجب أن يكونا متماثلين من جميع الوجوه كتشبيه الوجه الحسن بالشمس والشجاع بالأسد، بل لا يقتضي إلا اشتراكهما في وجه الشبه فقط فيجب الجمع بين التمثيلين فيقال: إن العالم في الاحتياج المستمر إلى الله نظير الشمس والنور وفي تعلقه بالاختيار والمشية نظير الباني والبناء ومن جهة عدم الاستقلال في الوجود نظير الموج والبحر. (ش)
2- 2 - قوله «ولم يقدر على ايجاد غيره» اعلم أن ما لا يجوز صدوره عن الله تعالى لكونه محالا أو قبيحا أو لعدم وجود المصلحة فيه وأمثال ذلك لا ينسب إلى عجزه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل هو قادر على كل شيء ولكن القبيح لا يصدر منه فلا يكذب، ولا يجري المعجزة على يد المدعي الكاذب في النبوة والإمامة، ولا يعذب البريء ولا يجبر العباد، ولا يفعل شيئا يخالف الحكمة والمصلحة، ولا ينصب إمامين في عهد واحد، ولا يختار المفضول للإمامة، ولا يقدم الأخس على الأشرف، وكل ذلك وأمثاله محال على الله تعالى ويقول فقهاء زماننا إن القطع حجة بنفسه لا بجعل الشارع ولا يمكن أن يسقطه عن الحجية إذ ليس جعل حجيته ولا رفعه باختيار الشارع. إذا تبين ذلك فنقول: قد ثبت في الحكمة الحقة الإلهية أن لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وأن جميع ما يرى من الأسباب والوسائط مثل الدواء لرفع الأمراض والنار للإحراق والشمس للنهار كل ذلك معدات والإيجاد إنما هو فعل الله تعالى ولكن جهلة المتفلسفين فهموا من قول أعاظم الحكماء أن الواحد إنما يصدر عنه الواحد خلاف مقصودهم كما أشار إليه الشارح والحق أن مقتضى حكمة الباري وعنايته أن يقدم الأشرف في الإيجاد ولا ريب أن العقل أشرف من الجسم الجامد فبدأ الخلق بالعقل ثم خلق كل شيء بعده بسببه كسائر الوسائط لا بأن يفوض أمر الخلق إلى مخلوقه الأول لعجزه لأن الذي يقدر على خلق الأشرف والأعظم والأقوى لا يتصف بعجز عن خلق الأصغر والأضعف كما أن شفاء المرض بالدواء لا يدل على عجزه عن الشفاء بغير دواء والماديون يجعلون وجود الأجسام مقدما على العقل وأن العقل من توابع الجسم والمزاج والإلهيون بالعكس. (ش)

إلى مادة فإن ذلك ليس من صفة ربنا جل شأنه (1).

(لا يحد ولا يبعض) بأجزاءه مقدارية لأن القابل للتحديد والتبعيض له جزء وكل ذي جزء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره وكل مفتقر إلى غيره ممكن، في ذاته وكل ممكن في ذاته يفتقر في وجوده إلى غيره والواجب الوجود لذاته لا يفتقر إلى الغير أصلا لا في الوجود ولا في غيره.

(ولا يفنى) يريد أن وجوده أزلي أبدي سرمدي لا يطرأ عليه العدم والفناء لأن الوجوب الذاتي

ص:121


1- 1 - قوله «في خلق شيء إلى مادة» هذه شبهة أخرى في ذهن الجهلة أيضا ولا ريب أن كل موجود ممكن يستوي نسبته إلى الوجود والعدم سواء كان جسما أو روحا أو عقلا أو مادة أو صورة ولا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح والمادة ممكن الوجود أيضا فلا بد أن تكون مخلوقة ويكون وجودها مستفادا من العلة ولا يحتاج تعالى في إيجاد المادة إلى مادة أخرى يخلقها منها وإلا لذهب الأمر إلى غير النهاية وتسلسل المواد، وهذا يؤدي إلى كون المادة واجب الوجود بالذات وهو باطل فثبت أن الله تعالى خلق المادة الأولى من العدم وأيضا ثبت عند المشائين أن المادة هي أضعف الموجودات وأخسها ووجودها بالقوة محضا وليس لها فعلية أصلا وهي أضعف في الوجود من الأعراض والقوى الفاعلة فإذا كانت الأعراض مثل البياض والسواد والحرارة والعدد والشكل لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى محل أو شيء يقيمها وكذلك القوى مثل الغاذية والنامية غير قائمة بذاتها فالمادة الضعيفة أولى بالاحتياج إلى شيء يقيمها ولذلك قالوا الصورة مقدمة على المادة في الوجود وبالجملة فلا ريب في كون المادة مخلوقة، وأما سائر الأشياء فأما أن تكون مجردات لا تحتاج إلى مادة تحل فيها كالعقل وإما أن تكون أمورا متعلقة بالمادة لا يمكن وجودها في الواقع إلا في مادة مصورة بصورة فعلية كالحرارة والبرودة والأشكال والصور النوعية، أما المجردات فأمرها واضح، وأما ما لا يمكن وجودها إلا في مادة فيخلق الله تعالى المادة ثم يخلقها فيها وهذا لا يدل على احتياج الواجب تعالى إلى شيء ولا عجزه عن شيء، وقولنا كل شيء مادي لا يمكن وجوده إلا في مادة مثل قولنا كل شيء مكاني لا يمكن وجوده إلا في مكان وكل شيء متغير زماني لا يمكن وجوده إلا في زمان، ولو كان الموجود المادي يمكن وجوده لا في مادة أي مجردا لم يكن ماديا وخرج عن الفرض. قال أبو علي بن مسكويه: المني من الدم والدم من الغذاء والغذاء من النبات والنبات من الاستقصات والاستقصات من البسائط والبسائط من الهيولي والصورة، والهيولي والصورة لما كانا أول الموجودات ولم يصح وجود أحدهما خلوا من الآخر لم ينحلا إلى شيء موجود بل إلى العدم فيكون وجودهما لا عن شيء وذلك ما أردنا أن نبين. (ش)

والقدم مناف لطريان الفناء والعدم ولأن الفناء إما لانقطاع القوة المزاجية أو لميل كل شيء بطبعه (1) إلى مبدئه ليعود إليه كما بدء منه أو لإعدام الفاعل إياه أو لطريان شيء آخر من الحوادث عليه وكل ذلك عليه سبحانه محال.

(كان أولا بلا كيف ويكون آخرا بلا أين) أوليته عبارة عن كونه قبل وجود الممكنات وآخريته عبارة عن بقائه بعد فنائهم وما وقع في بعض الروايات من نفي الأولية والآخرية عنه فانما المقصود منه نفي الأولية والآخرية الزمانيتين. واقتران سلب الكيف مع الأولية وسلب الأين مع الآخرية إما لمجرد الذكر لا لأمر يقتضيه (2) إذ لو عكس لكان أيضا صحيحا أو لأن إقدام الوهم إلى اعتبار الكيف له مثل زيادة الصفات المختصة القائمة به في مرتبة الأولية الحاصلة قبل إيجاد الأين والأينيات أظهر من إقدامه إلى اعتبار الأين له في تلك المرتبة، فلذلك ذكر سلب الكيف مع الأولية، ويمكن أن يقال: أوليته عبارة عن اعتبار كونه مبدءا لكل موجود وآخريته عبارة عن اعتبار كونه غاية ومقصدا لكل ممكن.

والحاصل أنهما اعتباران إضافيان يحدثهما العقول لذاته المقدسة، وذلك أنك إذا لاحظت ترتيب الموجودات في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته بالإضافة إليها أنه أول إذ كان انتهاؤها في سلسلة الحاجة إلى غنائه المطلق فهو أول بالعلية والشرف وإذا اعتبرته بالنظر إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين في منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين ومعرفته والوصول إليه هي الدرجة القصوى والمنزل الآخر للسالكين في حيز الإمكان وعلى ما ذكرنا لا يرد أن كل ما يصح له من الصفات كان له تعالى استحقاق واحد لجميعها دائما ولا يكون استحقاقه لبعضها سابقا على استحقاقه لبعض آخر، فلا يصح أن يقال: مثلا استحقاقه للأولية قبل استحقاقه للآخرية ولا استحقاقه للعالمية قبل استحقاقه للقادرية لاستحالة تغير الأوصاف واستحقاقها فيه، وإنما لا يرد ذلك لأن استحقاقه تعالى لها بالنظر إلى ذاته سواء لا ترتب فيه ولا

ص:122


1- 2 - قوله «لميل كل شيء بطبعه» سيأتي معنى الفناء في شرح قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) إن شاء الله تعالى. (ش)
2- 1 - قوله «لمجرد الذكر لا لأمر يقتضيه» وهو بعيد بل الأظهر أن يقال هو جار على عادة الناس إذ كثيرا ما يرد الكلام في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة عل مجرى كلام الناس خصوصا العرب والناس لا يسئلون غالبا عن كيفية ما يأتي بل ينتظرون حتى يأتي بل يهتمون بمعرفة ما مضى مثلا يسألون عن مجلس ضيافة كانت كيف كانت ولا يسألون عن مجلس سينعقد بعد ذلك لأن السائل والمسؤول كليهما متساويان في الإخبار بالحدس والتخمين فنفى (عليه السلام) كونه أولا عن الكيف وكونه آخرا عن الأين فإن الأين مما يسأل عنه غالبا فيما يأتي. (ش)

تقدم ولا تأخر ولا ينافي ذلك التفاوت بحسب الاعتبار لأن اعتبار التفاوت لا يستلزم التفاوت بالنظر إلى الواقع.

لا يقال: قد ثبت أنه تعالى لا يتصف بصفة زايدة فكيف يوصف بالأولية والآخرية؟ لأنا نقول: الأولية والآخرية من الأوصاف الإضافية الصرفة والنعوت الاعتبارية المحضة على أنهما راجعتان إلى السلب كالصفات الذاتية فإن الأولية راجعة إلى أنه ليس للموجودات مبدء غيره والآخرية راجعة إلى أنه ليس لها غاية ومقصد غيره وأما أنه تعالى بلا كيف ولا أين في لحاظ الأولية والآخرية له تعالى فلأنه لا كيف ولا أين له في مرتبة عليته للكاينات والكيف والكيفيات والأين والأينيات بالضرورة، وإذا خلا من الكيف والأين في تلك المرتبة لم يجز اتصافه بهما أبدا وإلا لزم انتقاله من نقص إلى كمال أو من كمال إلى نقص وهو على الواجب بالذات محال.

(وكل شيء هالك إلا وجهه) اقتباس من القرآن المجيد وحجة لما ذكره من أنه أول بلا كيف وآخر بلا أين، بيان ذلك أن ضمير وجهه راجع إليه سبحانه، والوجه بمعنى الذات والمعنى أن كلا من الموجودات وإن كان مأخوذا مع الوجود فهو هالك باطلا أزلا وأبدا (1) في ذاته لعدم استحقاق الوجود نظر إلى ذاته القابلة للعدم إلا ذاته المنزهة عن الاحتياج إلى الغير فإن وجوده الواجبي لكونه عين ذاته حق ثابت باق أزلا وأبدا ومنه نشأ وجود سائر الموجودات على النظام الأفضل والترتيب الأكمل، وإذا كان كذلك فهو المسحق لأولية الوجود لكونه مبدءا وآخريته لكونه غاية ومقصدا وهو المستحق أيضا لعدم اتصافه بالكيف والأين هذا الذي ذكرناه في تفسير هذه الآية الكريمة أشار إليه بهمنيار في التحصيل حيث قال: الحق يطلق على شيء يكون الاعتقاد صادقا بسبب ذلك الشيء، ومع صدق الاعتقاد يكون ذلك الشيء دائما.

ومع دوامه يكون لذاته لا غير، وإذا كان كذلك فكل شيء بالقياس إلى ذاته باطل وبه حق وهو

ص:123


1- 1 - قوله «فهو هالك باطل أزلا وأبدا في ذاته» الذي تبادر إلى الذهن من قوله تعالى هالك إلا وجهه إنه سيهلك بعد ذلك لا أنه هالك فعلا وفي كل زمان والمعنى الذي ذكر الشارح ونقله عن بهمنيار حسن يشبه ما روى عن جنيد لما سمع قول القائل «كان الله ولم يكن معه شيء» قال الآن كما كان والمراد بالهلاك والفناء إن حملناه على ظاهر اللغة هو التفرق وزوال الصورة والاسم لا العدم المحض، مثلا إذا مات الحيوان صح أن يقال هلك وفنى لزوال الصورة الحيوانية عنه وخصوصا إذا تلاشى وتفرق والظاهر من الآيات والروايات في الحشر أن مواد الأشياء باقية ولا يعدم عدما محضا قال تعالى (إذا بعثر ما في القبور) وقوله تعالى (من الأجداث إلى ربهم ينسلون) والروح أيضا باق كما ورد خلقتم للبقاء لا للفناء ويعود الروح إلى العظام النخرة وبالجملة فلا يعدم شيء عدما محضا وإنما تنقلون من دار إلى دار ومن حال إلى حال، وأما إن حملناه على المعنى الذي نقله عن بهمنيار فيهلك كل شيء بل كل شيء هالك فعلا ولا يستثنى منه روح ولا ملك ولا أرض ولا سماء بل كل شيء سوى الباري تعالى هالك قبل يوم القيمة ويوم القيامة وبعد الحشر أيضا. (ش)

أحق بأن يكون حقا، فلذلك «كل شيء هالك إلا وجهه» انتهى.

ولهذه الآية تأويل آخر (1) ذكره الصدوق في أول كتاب الاعتقادات حيث قال: ومعنى الوجه في هذه الآية الدين (2) والوجه الذي يؤتى الله منه ويتوجه به إليه، وهذا الذي ذكره (رحمه الله) نقله المصنف في باب النوادر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(له الخلق والأمر) أي له إيجاد الأشياء لا يشاركه أحد وله الأمر النافذ الذي لا يتأبى منه شيء والمشهور أن الأول إشارة إلى عالم الخلق وهو عالم الجسم والجسمانيات والثاني إشارة إل عالم

ص:124


1- 1 - قوله «وفي هذه الآية تأويل آخر» قال العلامة (رحمه الله) في شرح التجريد: المحققون على امتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد وههنا قد بين أن الله تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة - إلى أن قال -: فقد تأول المصنف معنى الإعدام بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به أو يقال أنه هالك بالنظر إلى ذاته إذ هو ممكن ومتن التجريد هكذا المسألة الثالثة في وقوع العدم وكيفيته والسمع دل عليه ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم (عليه السلام). والمجلسي (رحمه الله) بعد أن نقل القولين في أن الفناء هل هو بمعنى الإعدام المطلق أو تفريق الأجزاء قال: والحق أنه لا يمكن الجزم في تلك المسألة بأحد الجانبين لتعارض الظواهر فيها، قال: وأكثر متكلمي الإمامية على عدم الانعدام بالكلية لا سيما في الأجساد انتهى. وإنما لم يجزم المجلسي (رحمه الله) تعالى كما جزم العلامة والطوسي رحمها الله لأن إعادة المعدوم ممتنعة عندهما فالتزما بأنه لا يعدم المكلف حتى لا يكون المعاد محالا وغير ممتنعة عند المجلسي (رحمه الله) قال في البحار: وقد نفاه أي المعاد أكثر ملاحدة الفلاسفة تمسكا بامتناع إعادة المعدوم ولم يقيموا دليلا عليه بل تمسكوا تارة بادعاء البداهة وأخرى بشبهات واهية لا يخفى ضعفها على من نظر فيها بعين البصيرة واليقين وترك تقليد الملحدين من المتفلسفين انتهى. واعتقادي أن صاحب التجريد وشارحه نظرا بعين البصيرة ولم يقلدا الملحدين وسوء الظن بهما غير صحيح. (ش)
2- 2 - قوله «ومعنى الوجه في هذه الآية الدين» والوجه مذكور في آيات كثيرة كقوله تعالى (أينما تولوا فثم وجه الله) (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) ولا يناسب حمل جميعها على الدين أو على الإمام ولا يصح حمله على المعنى الجسماني وهو ظاهر، وليس مراد من حمله على الذات الذات بغير اعتبار صفة كما أن اليد والعين يراد بهما الذات باعتبار صفة القدرة أو العلم كذلك هنا يراد بالوجه الذات باعتبار صفة ولا بد أن يكون الصفة عنايته وإضافته الإشراقية وقيوميته لوجود الممكنات والفناء لا يتصور في وجهه لأن ما يفنى إنما يفنى بعدم علته والعلة الفاعلية هو واجب الوجود لا يتطرق إليه العدم وكذلك الغاية المطلقة فما يفنى ليس فناؤه لعدم علته الفاعلية والغائية البتة بل إما العدم استعداد العلة المادية كفناء النفس النباتية بزوال استعداد مزاجها أو لزوال العلة الصورية بطريان الضد كزوال البياض بعروض السواد وأما الفناء الذي يقول به العرفاء فهو مقتضى طبع كل موجود يسير إلى الله تعالى وهو غاية الغايات وهو خارج عن محل الكلام ولعل جميع مجردات عالم الغيب وجه الله الباقي ومنه النفوس الناطقة الإنسانية لبقائها بعد فناء الجسد. (ش)

الأمر وهو عالم الروح والروحانيات، ولا يبعد أن يراد بالأول خلق الممكنات مطلقا وبالثاني وضع الشرايع والأمر التكليفي.

(تبارك الله رب العالمين) أي تنزه عن النقصان والاتصاف بصفات الإمكان، الله الذي أحدث عالم الخلق وأخرجه من حد النقص إلى حد الكمال وربى كل شيء وإعطاء ما يليق به من الصفات والأحوال.

(ويلك أيها السائل) أعاد كلمة الويل لشدة غيظه (عليه السلام) والوجه من السائل لما سمع منه في شأن الباري ما لا يليق به (إن ربي لا تغشاه الأوهام) الغشاء الغطاء والغشيان بالكسر الإتيان تقول غشيته إذا أتيته يعني لا تأتيه الأوهام ولا تحيط به إذ الوهم إنما يدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات ويمكن أن يراد بالأوهام النفس وقواها لأن النفس في معرفة الصانع كالوهم في أن ما أحاطت به ليس هو الصانع جل شأنه.

(ولا تنزل به الشبهات) لأن الشبهة إنما تحصل من مزج الباطل بالحق وعدم التميز بينهما والله سبحانه عالم السر والخفيات فلا ينزل في ساحة علمه الجهل والشبهات، ويحتمل أن يراد لا ينزل به شبهات الأوهام فإن كل ما مثله الوهم فهو بعيد عن قدسه جل ذكره (ولا يحار) من شيء أما من حار الرجل يحار حيرة إذا تحير في أمره ولم يعرف وجه الفصل فيه فهو حيران فيكون فيه إشارة إلى كمال علمه بالأشياء أو من أجاره بالجيم يجير إجارة إذا أغاثه من شدة وأنقذه منها «ولا يجار» حينئذ مبني للمفعول، يعني أنه سبحانه لا ينزل به مصايب حتى يغيثه أحد وهو الذي يغيث من يشاء ويحرسه وقد أشار إليه جل شأنه بقوله «قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه» أي لا يغيثه ولا يمنع منه أحد، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة (ولا يجاوزه شيء) إما بالجيم والزاي المعجمة أي لا يسير عليه شيء ولا يخلفه وراءه لأن ذلك من صفات الأينيات أو لا يتجاوز شيء عن حكمه وقدرته لأن حكمه جار على جميع المخلوقات وقدرته شاملة لجميع الممكنات وإما بالجيم والراء المهملة أي لا يستقر شيء في جواره إذ ليس له مكان، ونسبته إلى الأماكن بالعالم والإحاطة على السواء.

(ولا تنزل به الأحداث) أي لا تنزل به نوايب الزمان وحوادثه لأنه ليس بزماني ولاستحالة انفعاله عن الغير وتغيره من حال إلى حال، أو لا تنزل به الأعراض لاستحالة أن يكون محلا للعوارض.

(ولا يسأل عن شيء) فعله أو لم يفعله لأنه مالك قوي على الإطلاق وسلطان عظيم بالاستحقاق، ومتوحد بالعظمة والجبروت، وعليم خبير بالملك والملكوت، وكل ما سواه فهو مملوك له، وليس للمملوك أن يسأل مالكه لم فعلت هذا وتركت ذاك، سيما إذا كان المالك عدلا

ص:126

عليما بالمصالح والمفاسد كلها.

(ولا يندم على شيء) فعله أو تركه لتمام أمره وكمال علمه واستقامة فعله وإتقان حكمه فلا يعرضه فيما قضاه غلط ولا يلحقه فيما قدره شك وندامة لأن ذلك من توابع نقص العلم ولوازم قبول للشدة والضعف وهو سبحانه متنزه عن جميع ذلك.

(ولا تأخذه سنة ولا نوم) لأنهما من خواص الحيوانات القابلة للفتور والتعب والراحة إذ السنة فتور يعرض القوي قبل النوم وسببها وقوف الأعضاء عن العمل بسبب تحلل الأرواح البدنية وضعفها ورجوعها إلى الاستراحة، والنوم حال يعرض الحيوان من استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس وتعطل عن أفعالها لعدم انصباب الروح الحيواني إليها.

(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) من المجردات والمركبات وغيرها.

(وما تحت الثرى) أي التراب الندي يعني به الأرض، والغرض من ذكر الآيتين نهي تشبهه بخلقه والدلالة على كمال قدرته وإرادته وتفرده في الإلهية والربوبية وتوحده في الخالقية والمالكية ولقد راعى (عليه السلام) في هذا الحديث حفظ المقصود وهو تنزيه الواجب عن صفات خلقه من أن يتلقاه وهم المخاطب بنفيه بالكلية حيث كلما نفى عنه صفات غير لايقة به أردفها بذكر صفات لايقة لئلا يتبادر وهمه إلى أن نفي الصفات باعتبار نفي الموضوع فليتأمل.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت فقالوا له: إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام - فانطلق بنا إليه نسأله فأتوه فقيل لهم: هو في القصر فانتظروه حتى خرج، فقال له رأس الجالوت: جئناك نسألك.

فقال: سل يا يهودي عما بدا لك، فقال: أسألك عن ربك متى كان؟ فقال: كان بلا كينونية، كان بلا كيف، كان لم يزل بلا كم وبلا كيف كان ليس له قبل، هو قبل القبل بلا قبل ولا غاية ولا منتهى انقطعت عنه الغاية وهو غاية كل غاية، فقال رأس الجالوت: امضوا بنا فهو أعلم مما يقال فيه.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه رفعه قال اجتمعت اليهود إلى رأس الجالوت) وهو من أعاظم علمائهم وأحبارهم، وقيل: الرأس سيد القوم ومقدمهم وجالوت اسم

ص:126

أعجمي والمراد به مقدم بني الجالوت (1) في العلم.

(فقالوا له إن هذا الرجل عالم - يعنون أمير المؤمنين (عليه السلام) - فانطلق بنا إليه نسأله، فأتوه فقيل لهم:

هو في القصر فانتظروه حتى خرج) وفي بعض النسخ «حتى يخرج» وهو يفتقر إلى اعتبار حذف في الكلام كما لا يخفى على العارف بالعربية.

(فقال له رأس الجالوت: جئناك نسألك، فقال: سل يا يهودي عما بدا لك فقال أسألك عن ربك متى كان) لما سأل عن زمان وجوده وكان السؤال عنه مختصا بالموجودات الزمانية التي لا تخلوا من كون حادث وكيف وكم وغاية ونهاية وقبل وبعد نفي عنه تعالى هذه المعاني للتنبيه على أنه لا يصح السؤال عنه بمتى.

(فقال كان بلا كينونية) أي بلا كون حادث (2) قال الجوهري: تقول كان كونا وكينونة، شبهوه بالحيدودة والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجيء من ذوات الواو على هذا إلا أحرف كينونة وهيعوعة، وديمومة، وقيدودة وأصله كينونة بتشديد الياء فحذفوه كما حذفوه من هين وميت ولولا ذلك لقالوا: كونونة ثم إنه ليس في الكلام فعلول، وإما الحيدودة فأصله فعلولة بفتح العين فسكنت.

ولعل المراد أن وجوده تعالى شأنه نفس ذاته المقدسة القديمة باعتبار أنها مبدء للآثار العجيبة والأفعال الغريبة وليس وجوده حادثا ولا زايدا حتى يسأل عنه بمتى إذ لو كان حادثا أو زايدا، فإما أن يكون منه أو من غيره، والأول باطل لاستحالة أن يكون الشيء علة لوجود نفسه وإلا لزم تحقق الوجود قبل تحققه وكذا الثاني لامتناع احتياج الواجب بالذات في وجوده إلى الغير.

(كان بلا كيف) كان المراد أنه كان بلا صفة زايدة (3) عليه وإلا لزم تعدد الواجب إن كانت تلك

ص:127


1- 1 - قوله «مقدم بني الجالوت» كان الشارح (رحمه الله) زعم أن جالوت اسم رجل وأن جماعة من بني إسرائيل من أولاده ورأس الجالوت رئيسهم والصحيح ما في مفاتيح العلوم أن الجالوت هم الجالية أعني الذين جلوا عن أوطانهم ببيت المقدس ويكون رأس الجالوت من ولد داود (عليه السلام) انتهى. ويشبه أن يكون جميع روايات هذا الباب عن رأس الجالوت أو خبر من أخبار اليهود حديثا واحدا بعبارات مختلفة. (ش)
2- 2 - قوله: «بلا كون حادث» كان لفظ كينونة يدل على صيروة الشيء موجودا بعد أن لم يكن فإنه مصدر والمصدر دال على الحدوث وإنما اختار لفظة كينونة للدلالة على هذا المعنى مع أن الكون أيضا مصدر لأن الكون قد اشتهر استعماله في أصل معنى الوجود من غير دلالة على الصيرورة وفي الكائن والمكون فيقال الكون ويراد به العالم مطلقا وأما الكينونة فلم يستعمل إلا في المصدر فهو صريح في الحدوث ومزاد الشارح بالحدوث هنا التأخر المعلولي كما دل عليه قوله بعد ذلك فأما أن يكون منه أو من غير إلى آخر الاستدلال وهو ما ذكره الحكماء في إثبات أن وجوده عين ذاته والتفسير مقتبس من صدر المتألهين (قدس سره). (ش)
3- 3 - قوله: «كان بلا صفة زائدة» وزاد صدر المتألهين (قدس سره) بعد هذه الكلمة بل علمه وقدرته وإرادته وحياته كلها نفس ذاته فكما هو موجود بذاته فهو عالم بذاته قادر بذاته مريد بذاته حي بذاته وكذلك في جميع صفاته الوجودية انتهى. (ش)

الصفة واجبة بالذات أو احتياجه إلى الغير إن كانت ممكنة، أو المراد أنه كان ولم يكن كونه مكيفا بكيفية أصلا فلا يسأل عن كونه بمتى لأن هذا السؤال إنما يصح فيما له كيفية.

(كان لم يزل بلا كم) متصل ومنفصل مثل الجسم والسطح والخط والزمان والعدد (1) والحاصل أن كونه لم يزل منزه عن الكمية والامتدادية والعددية لأن الكمية أمر عرضي والوجود الأزلي بريء منه ولأن الكم مطلقا يقبل القسمة والتجزئية والمساواة واللا مساواة وقد تنزه قدس الحق الثابت أزلا عن قبول هذه الأمور.

(بلا كيف) ولعل المراد بسلب الكيف هنا سلب جنسه الشامل للكيفيات المحسوسة والكيفيات الاستعدادية والكيفيات النفسانية والكيفيات المختصة بالكم، وفي السابق سلب صفاته تعالى باعتبار الزيادة، أو المراد به هنا سلب الكيفيات المختصة بالكم بقرينة مقارنته معه وفي السابق سلب ما عداها من الأقسام الثلاثة الاول، أو المراد به هنا لم يزليته غير مكيفة بكيفية وفي السابق أن كونه ووجوده غير مكيف بها; وعلى التقادير لا يلزم التكرار مع أن الاتحاد والتأكيف أيضا محتمل.

(كان ليس له قبل) لاستحالة حدوثه ولكونه مبدء لجميع الموجودات على تفاوت مراتبها في الوجود والكمال فليس شيء منها قبله.

(هو القبل بلا قبل) أي هو قبل كل من يفرض له القبلية من غير أن يكون شيء قبله والحاصل أنه متقدم على كل ما له تقدم على شيء من غير أن يتقدم عليه شيء يعني هو الأول على الإطلاق ولا شيء قبله لما عرفت من وجوب انتهاء سلسلة الوجود والحاجة إليه، ويحتمل أن يكون المراد أنه قبل كل من يتصف بالقبلية ولا يتصف هو بها لامتناع اتصافه بالصفات بل قبليته عبارة عن عدم تقدم شيء عليه، أو المراد أنه قبل كل شيء وليست قبليته قبلية زمانية بل قبلية سرمدية، ولما لم تكن قبليته المطلقة ظاهر الدلالة على بقاء وجوده أبدا وعدم انتهائه في جانب الأبد إلى غاية وعلى كونه أزلا وعدم انتهائه في جانب الأزل إلى نهاية أشار إليهما بقوله.

(ولا غاية ولا منتهى) بالجر عطفا على قبل، والمنتهى النهاية وقد يطلق على امتداد محل لها يعني هو قبل القبل بلا غاية ينقطع وجوده عند البلوغ إليها لأن انقطاع الوجود من لواحق الامور الزمانية المحدثة الكاينة الفاسدة وقد بينا أنه تعالى ليس بزماني وأيضا هو واجب الوجود فيمتنع

ص:128


1- 1 - قوله: «مثل الجسم والسطح والخط» والأصح أن يخصص بالزمان بعد قوله (عليه السلام) «كان لم يزل» فإن لم يزل يدل على ما يوهم كونه مقارنا لزمان فاحتيج إلى دفع هذا الوهم. (ش)

أن ينقطع وجوده ويلحقه العدم وكذلك هو بلا نهاية ينتهي إليها وجوده في لحاظ أوليته وإلا لكان مسبوقا بالعدم، وهو على واجب الوجود لذاته محال، وينبغي أن يعلم أن الغاية كما صرح به علماء العربية وغيرهم لها معان الأول النهاية، والثاني المسافة الملحوظة معها الامتداد الكمي، والثالث الباعث على الفعل وهو الذي يسمونه بالعلة الغائية وهو قد يكون في الوجود الخارجي متأخرا عنه مثل التأديب في قولنا ضربت تأديبا، وقد يكون متقدما عليه مثل الجبن في قولنا قعدت عن الحرب جبنا، وقد تكرر ذكر الغاية في هذا الباب والعاقل اللبيب يعرف من هذه المعاني ما يناسب كل موضع.

(انقطعت عنه الغاية) أي انقطعت عنه المسافة الحسية والعقلية أو انقطعت عن وجوده النهاية وزالت قبل الوصول إليه، وهذا تأكيد للسابق أو انقطعت عنده العلة الغائية ولم تتجاوزه إلى غاية اخرى فوقه لأنه غاية فوق الغايات كما أشار إليه بقوله (وهو غاية كل غاية) لأنه تعالى آخر ما يقصده السالكون في سكناتهم وغاية ما يطلبه العارفون في حركاتهم في الوصول إليه، بل هو غاية فوق غاياتهم ومآربهم، ومقصد فوق مراداتهم ومطالبهم كما دل عليه قوله تعالى (وإن إلى ربك المنتهى) وقوله تعالى (وإلي الله مرجعكم جميعا) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وأنت المنتهى فلا محيص عنك وأنت الموعد لا منجا منك إلا إليك» (1) والمنتهى هو الغاية وبالجملة هو الله تعالى غاية لكل موجود ونهاية لكل غاية، ومقصود ومرجع لكل مضطر مطرود، ولا معدل عنه ولا مقصد فوقه ولا ملجأ إلا هو ولا منجا منه إلا إليه.

(فقال رأس الجالوت: امضوا بنا فهو أعلم بما يقول فيه) أي في وصف ربه (2) ولعل اليهودي لم يفهم حقيقة كلام معدن العلوم النبوية ومخزن الأسرار الإلهية فلذلك لم ينظر إليه بعين الطاعة والانقياد أو فهمه ولكن أعرض عنه للرئاسة والعناد والله ولي التوفيق وإليه هداية الطريق.

* الأصل:

5 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟

ص:129


1- 1 - النهج قسم الخطب والأوامر تحت رقم 107.
2- 2 - قوله «أي في وصف ربه» تفسير للضمير المجرور وإنما أرجعه إلى الوصف بناء على النسخة التي عنده - طاب ثراه - ففيها «فهو أعلم بما يقول فيه» بالباء والمضارع المعلوم وفي بعض النسخ المصححة «فهو أعلم مما يقال فيه» بلفظ «من» بدل الباء والمضارع المجهول فضمير فيه راجع إليه (عليه السلام) وإنما قال رأس الجالوت ذلك إقرارا لفضله ه ق (كذا في هامش بعض النسخ).

فقال له: ثكلتك امك ومتى لم يكن؟ حتى يقال: متى كان، كان ربي قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية، فقال: يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟ فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وروي أنه سئل (عليه السلام): أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء وأرضا؟ فقال (عليه السلام): أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان.

* الشرح:

(وبهذا الإسناد) ليس لهذا مرجع ظاهر، كأنه أراد بهذا الإسناد عن أحمد بن محمد بن خالد (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر من الأحبار) الحبر بالكسر أو الفتح عالم من علماء اليهود والكسر أفصح لأنه يجمع على الأفعال دون الفعول وهو الراجح عند القراء وتوقف الأصمعي في الترجيح، وقال أبو عبيدة: والذي عندي أنه الحبر بالفتح ومعناه العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه ويرويه المحدثون كلهم بالفتح.

(إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا أمير المؤمنين) خاطبه بذلك على الرسم والعادة وإلا فاليهود لا يعتقدون بإيمان هذه الأمة. (متى كان ربك؟ فقال له: ثكلتك أمك) ثكلت المرأة ولدها مات منها ثكلا وثكلا كذا في المغرب والدعاء بذلك شايع عند العرب وإن لم تكن الأم موجودة.

(ومتى لم يكن حتى يقال متى كان) يمكن إرجاعه إلى قياس استثنائي تقريره لو صح السؤال عنه بمتى كان صح السؤال عنه بمتى لم يكن، والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بيان الشرطية فلأن متى كان سؤال عن أول وجوده وكلما كان شيئا حادثا في وقت كان عدمه سابقا عليه فكما صح أن يقال: متى كان صح أن يقال: متى لم يكن، وأما بطلان اللازم فلأن وجوده قديم أزلي ليس مسبوقا بالعدم فلا يصح أن يقال: متى لم يكن.

(كان ربي قبل القبل بلا قبل) قد مر شرحه (1) (ولا بعد البعد بلا بعد) يعرف بالمقايسة وقد أكد

ص:130


1- 1 - قوله «قبل القبل بلا قبل» كان الحديثين واحد وانما اختلف لفظه باختلاف الرواية ورأس الجالوت هو الحبر ومقصود عالم اليهود امتحان المسلمين هل يعرفون المعنى الذي علمهم الأنبياء من الله وواجب الوجود أوهم على جاهليتهم من تصوير الأوثان وآلهة مخلوقة مجسمة ومعنى قبل القبل بلا قبل يزيح أساس ظنهم في المسلمين ويثبت أنهم عرفوا معنى وجوب الوجود وانتهاء الممكنات إليه وقبل القبل هنا القبلية بالعلية أي هو علة العلل ولا علة له وكذلك بعد البعد أي غاية الغايات وليس المراد القبلية بالزمان إذ لا شرف فيها، فقد يكون المتأخر في الزمان أشرف، ولا القبلية بالمكان إذ لا مكان له ولا القبلية بالطبع إذ ربما يكون القبل انقص ولكنه تعالى قبل بالعلية ويلزمه السابقية بالشرف والفضل وإن لم يكن اللازم مرادا هنا. (ش)

كل واحد من القبلية والبعدية بكمالها فكان قبليته سلب قبلية شيء عنه وكمال بعديته سلب بعدية شيء عنه فلا يكون شيء قبله ولا بعده (ولا غاية) أي ولا نهاية لوجوده في جهتي القبلية والبعدية لكونه أزليا وأبديا.

(ولا منتهى لغايته) أي ليس نهاية لامتداد أو ليس محلا لغاية ونهاية إذ ليس له كمية مقتضية لاتصافه بالأطراف والنهايات واقترانه بالامتدادات: الغايات، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله «ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما، ولا بذي عظم تناهت به الغايات به الغايات فعظمته تجسيدا» (1).

(انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية) لأنه منتهى رغبة الخلائق ومفزعهم في المهمات والمقاصد وفي الأدعية المأثورة «يا منتهى غاية السائلين وفي الصحيفة السجادية «اللهم يا منتهى مطلب الحاجات» وسر ذلك أن لكل شيء مستقرا يستقر فيه إذا بلغ إليه ومستقر القلوب والفؤاد الذي إذا بلغت إليه تطمن ولا تطلب سواه هو الله تعالى شأنه.

(فقال يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟) لعل منشأ الاستفهام أن السائل كان قد قرأ من الكتب الإلهية أن ما ذكره (عليه السلام) من صفات الرب (2) وأنه لا يخبر به إلا نبي بتعليم رباني.

(فقال ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) وما ذكرته فإنما سمعته منه وهو أخبرنا به من طريق الوحي، قال الصدوق (رحمه الله) يعني بذلك عبد طاعة لا غير ذلك (وروي أنه سئل (عليه السلام) أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء وأرضا فقال (عليه السلام) أين سؤال عن مكان) أي عن حصول شيء في المكان لا عن حقيقته، تقول: أين زيد تسأل عن حصوله في المكان المعين (وكان الله ولا مكان) إذ المكان أمر حادث مخلوق (3) فلا يصح أن يسأل عنه بأين.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن يحيى عن محمد بن

ص:131


1- 1 - النهج قسم الخطب والأوامر تحت رقم 183.
2- 2 - قوله «من صفات الرب» قد ورد في التوراة الموجودة عند أهل الكتاب إن موسى (عليه السلام) قال لله تعالى أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم أرسلني إليكم إله آبائكم فإن قالوا لي ما اسمه ما أقول لهم؟ فقال الله لموسى أهيه أشر أهيه (قد يصحف في كتب الأدعية بآهيا شراهيا) أي أكون الذي أكون وقال هكذا تقول لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم يعني أكون أرسلني (خروج 3: 14) وهذا من أعظم تعاليم التوراة يشير إلى أنه (تعالى) عين الوجود ولا يمكن أن يحيط بحقيقته أحد وأيضا اسمه عندهم يهوه أي يكون. (ش)
3- 3 - قوله: «إذ المكان أمر حادث مخلوق» هذا حق ولا يعترف به الماديون والطبيعيون في عصرنا ويزعمون الفضاء الغير المتناهي الخالي عن كل شيء مكانا للأشياء وقد سبق ويأتي أيضا كلام فيه. (ش)

سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رأس الجالوت لليهود: إن المسلمين يزعمون أن عليا (عليه السلام) من أجدل الناس وأعلمهم، اذهبوا بنا إليه لعلي أسأله عن مسألة واخطئه فيها فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن مسألة قال: سل عما شئت، قال: يا أمير المؤمنين متى كان ربنا، قال له: يا يهودي إنما يقال: متى كان لمن لم يكن، فكان متى كان، هو كائن بلا كينونية كائن، كان بلا كيف يكون، بلى يا يهودي ثم بلى يا يهودي كيف يكون له قبل؟! هو قبل القبل بلا غاية ولا منتهى غاية ولا غاية إليها انقطعت الغايات عنده، هو غاية كل غاية فقال: اشهد أن دينك الحق وأن ما خالفه باطل.

* الشرح:

(علي بن محمد عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن محمد بن يحيى عن محمد بن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رأس الجالوت لليهود إن المسلمين يزعمون أن عليا من أجدل الناس) أي أقواهم في المجادلة والخصام وأشدهم في المناظرة والكلام وأفصحهم بيانا وأطلقهم لسانا (وأعلمهم) في فنون العلم كلها بحيث لم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق.

(اذهبوا بنا إليه لعلي أسأله عن مسألة وأخطئه فيها) أخطأ وخطأ إذا لم يصب الصواب كذا في تاج المصادر وخطأه تخطئة إذا نسبة إلى الخطأ فقال له: أخطأت.

(فأتاه فقال يا أمير المؤمنين إني اريد أسألك عن مسألة قال: سل عما شئت) دل هذا على أنه (عليه السلام) كان بحرا زاخرا في العلوم وإنه كان لا يخفى عليه شيء كما يدل عليه قوله (عليه السلام) «سلوني» (1) قال بعض العامة هو أول قائل بهذه الكلمة ولم يقلها أحد غيره وفيه دلالة على أنه ليس لعلمه نهاية.

(قال: يا أمير المؤمنين متى كان ربنا؟ قال له: يا يهودي إنما يقال: متى كان لمن لم يكن فكان) أي لمن لم يكن موجودا فوجد فيسأل بمتى عن زمان وجوده. وأما من كان موجودا في الأزل قبل وجود الزمان بلا بداية لوجوده فلا يصح أن يسأل عنه بمتى كان (متى كان) الظاهر أنه بدل عن مقول إنما يقال وهو متى كان أو تأكيد له، ويحتمل أن يكون إعادة للسؤال بعينه للمبالغة في إنكاره وعدم استقامته لثبوت ما ينافيه كما أشار إليه بقوله (هو كان بلا كينونية كاين) أي هو موجود بلا كون حادث فلا يدخل كونه في مقولة متى لأن «متى» سؤال عن الكون الحادث المسبوق بالعدم، وفيه تنبيه على أنه ليس المراد بكونه ما يتبادر من مفهوم الكون عند الإطلاق أعني الحدوث بل الوجود المجرد عن الحدوث والزمان.

(كان بلا كيف) من الكيفيات المعروفة في خلقه لأن اتصافه بها نقص لايق بالممكنات المفتقرة

ص:132


1- 1 - النهج قسم الخطب تحت رقم 287.

من جميع الجهات. ولما كان هنا مظنة أن يقول اليهودي كيف يكون الشيء بلا كون حادث وبلا كيف أجاب عنه (عليه السلام) على سبيل الاستيناف بقوله (يكون) أي يكون جل شأنه بلا كون حادث وبلا كيف.

(بلى يا يهودي ثم بلى يا يهودي) كرر بلى لأن بلى آلة لإثبات ما أنكره المخاطب ونفاه صريحا أو ضمنا ولما كان ما نفاه المخاطب هنا شيئين أتى (عليه السلام) بآلة الإثبات مرتين ثم أوضح ذلك بقوله (كيف يكون له قبل) يعني لا يكون له قبل فلا يكون له حدوث ولا كيف لأن الكيف من الأوصاف الحادثة التي لا يتصف بها غير الحادث وأما أنه لا قبل له فأشار إليه بقوله (هو قبل القبل بلا غاية) أي بلا نهاية في جانب الأزل.

(ولا منتهى غاية) أي لا نهاية لامتداده أو لا امتداد له نهاية (ولا غاية إليها) الإضافة بيانية والمقصود نفي الانتهاء عنه في جانب الأبد وبالجملة نفي أولا أن يكون له ابتداء، وثانيا أن يكون له امتداد ونهاية، وثالثا أن يكون له انتهاء. وبهذا ظهر أنه مباين للخلق إذ الخلق لا يخلو من هذه الأمور فلا يجوز أن يوصف بالحدوث والكيفيات التي من صفات الخلق.

(انقطعت الغايات عنده) أي ليست له تلك الغايات المذكورة على أن يكون اللام للعهد وقد مر له احتمالات اخر.

(هو غاية كل غاية) لأنه ينتهي إليه جميع الخلائق ومقاصدهم كما عرفت آنفا (فقال: أشهد أن دينك الحق) الحق الأمر الثابت المطابق للواقع وتعريفه باللام لقصد الحصر ثم أكد الحصر بقوله (وإن ما خالفه باطل) أي زايل غير مطابق للواقع والظاهر أن المراد بالدين هنا ما ذكره (عليه السلام) من العقايد الصحيحة في وصف الباري، ويحتمل أن يراد به الشريعة النبوية وحينئذ يراد ببطلان ما خالفها بطلانه بعدها لا مطلقا كما في الأول.

* الأصل:

7 - علي بن محمد رفعه، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أكان الله ولا شيء: قال: نعم كان ولا شيء قلت: فأين كان يكون؟ قال: وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: أحلت يا زرارة وسألت عن المكان إذ لا مكان.

* الشرح:

(علي بن محمد رفعه، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أكان الله ولا شيء) قبله ومعه والاستفهام يحتمل الحقيقة والتقرير (قال: نعم كان ولا شيء قلت فأين كان يكون) كأنه لكونه في

ص:133

مبادي التعلم لم يقصد بذلك مجرد السؤال عن كونه تعالى في المكان بل قصد مع ذلك أن كونه ولا شيء معه مستبعد لتوهمه أن له مكانا بناء على أن الف النفس بالمتحيزات والمحسوسات أعجز عن إدراك شيء بلا تحيز ولا مكان ولم يعلم أن المكان أيضا شيء وليس له مكان فخالق المكان أولى أن لا يكون له مكان ويحتمل أنه كان عالما بأنه لا مكان له تعالى ولكن سأل عن ذلك ليعلم سر ذلك ويهتدي إلى طريق المناظرة مع المخالفين.

(قال: وكان متكئا فاستوى جالسا) دل على عدم قبح اتكاء المعلم عند المتعلم ولعل سبب الاستواء هو عروض التغير والاضطراب له من استماع هذا الكلام.

(وقال أحلت يا زرارة) أي تكلمت بالكلام المحال وهو الذي ليس له وجه صحة أصلا (وسألت عن المكان إذ لا مكان) (1) لأن المكان سواء كان بالمعنى اللغوي كالأرض للسرير، أو

ص:134


1- 1 - قوله «عن المكان إذ لا مكان» يحتمل أن يكون المراد بالمعنى اللغوي أعني ما يعتمد عليه الشيء وهو بعيدا والمكان المصطلح عند الخواص وهو ما يتبدل على الجسم عند الحركة وهو أوضح والفرق أن السهم المرمى والطائر وكل ما لا يعتمد على شيء ليس له مكان بالمعنى الأول وله مكان بالمعنى الثاني وقد مر حديث ابن ميثم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في اختلاف زرارة وهشام بن الحكم في الهواء أنه مخلوق أو غير مخلوق وأن أبا عبد الله (عليه السلام) جعل اختلافهم مما لا يضر بالدين وفي هذا الحديث دلالة على قول زرارة وأن الفضاء أو المكان مخلوق وكان الله تعالى ولا مكان ثم خلق المكان. وأعلم أن الحكماء اختلفوا في ماهية المكان فالمحققون منهم أنه السطح الحاوي المماس للمتمكن وزعم بعضهم أنه الفضاء الذي يشغله الجسم بحيث لو لم يكن الجسم فيه لكان خاليا ويسمونه البعد المفطور، على الأول هو مخلوق بخلق الأجسام ولو لم يكن جسم في العالم لم يكن فضاء ومكان أصلا وعلى الثاني هو غير مخلوق عند قائليه إذ لا يتصورون إمكان عدمه وكل ما لا يحتمل عدمه فهو واجب الوجود وإنما جعل الصادق (عليه السلام) خلافهم مما لا يضر بالدين مع أن إثبات واجب غير الله تعالى ينافي التوحيد الثابت في كل دين إلهي لأن هؤلاء يعتقدون أن الفضاء الخالي لا شيء ولا يلتزمون بأنهم أثبتوا شريكا في القدم وليس لزوم الشرك بديهيا ولا هو من اللوازم البينة لثبوت الخلاء وفهم بطلان الخلاء صعب على ذهن الأكثرين وتكليفهم به تكليف بما لا يطاق، فالحق أن المكان مخلوق كما في هذا الحديث، وإن كان قول مثبتي الخلاء مما لا يضر بالدين، ثم أن القائلين بالخلاء لتزمون بأمور عجيبة الأول ان الفضاء الخالي غير متناه وهذا فرع كونه واجب الوجود فإن الحكم بكون الشيء غير متناه في العظم من غير أن يحس به أو يدل عليه دليل باطل ألا ترى أنه لا يمكن أن يحكم أحد بأن جسما كقطعة حجر أو تراب أو سلسلة حديد غير متناه من الجانب الذي لا يلينا ولا نراه ولكن يحكم بأن الخلاء غير متناه فيعلم بذلك أن الخلاء في ذاته واجب الوجود عندهم لا يحتمل عدمه حتى يحتاج وجوده إلى الاثبات وقد يلهج أهل زماننا بأنه قد ثبت الخلاء وعدم التناهي ولم نقف على دليل مثبت بل لم نقف فيهم على من فهم معنى الدليل ويميز بين الثابت وغير الثابت. الثاني من العجائب أنهم يلتزمون بأن الخلاء لا شيء ومع ذلك يتأثر بأمواج النور والكهرباء ويجعلون الواسطة في إيصال نور الشمس والقمر والكواكب إلينا أثير الخلاء ويقولون إذا سطع نور الشمس حدث في الأثير تموج نظير تموج الماء بسقوط حجر فيه فينقل الموج سريعا من الشمس إلى الأرض مثلا وهو النور ولا أدري أن اللا شيء كيف يتموج وينفعل. الثالث أنهم لا يجوزون على الخلاء أو على أثير الخلاء الخرق والالتيام والتنحي والحركة فإذا تحرك كرة من هذه الكرات في الفضاء الخالي خرج من مكان ودخل إلى مكان مستمرا والمكان باق ثم يقولون إن أوجدنا الخلاء في إناء مسدود ونقلناه من مكان إلى آخر انتقل الخلاء الذي في الإناء من مكانه فيلزم إثبات خلاين متطابقين أحدهما ينقل بنقل الإناء والآخر لا ينقل، وإن فرضنا عدة أواني صغار وكبار كل واحد في الآخر وأوجدنا الخلاء في الجميع وتحرك الأول في الثاني والثاني في الثالث وهكذا وحركت الجميع في الخلاء يتعدد الخلاء بتعدد الأواني واختلاف الحركات فاحدس من ذلك أن الخلاء الذي يتوهمونه أمر اعتباري يتعدد بتعدد الاعتبارات، نظير الفوق والسفل ويتوهم خلاء في خلاء في خلاء كما يتوهم فوق على فوق على فوق، وأما من يلتزم بأن الفضاء مملوء من الأثير المتموج كما قلنا فهو منكر للخلاء البتة والأثير عندهم بمنزلة الأجسام الفلكية التي كان يعتقد بها القدماء. (ش)

بمعنى البعد المجرد عن المادة أو بمعنى السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي لم يكن موجودا في الأزل فاستحال أن يسأل عن الموجود الأزلي بأنه في أي مكان كان وأيضا لو كان هو في المكان بأي معنى كان، كان قابلا للتجزية والتقسيم والزيادة والنقصان وهو منزه عن هذه الامور.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى حبر من الأحبار أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك؟ قال: ويلك إنما يقال: متى كان لما لم يكن فأما ما كان فلا يقال: متى كان. كان قبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا منتهى غاية لتنتهي غايته، فقال له: أنبي أنت؟ فقال: لامك الهبل إنما أنا عبد من عبيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن ابن أبي نصر. عن أبي الحسن الموصلي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)) في بعض النسخ عن أبي الحسن الموصلي: عن أبي إبراهيم، عن

ص:135


1- 1 - قوله «عن أبي الحسن الموصلي» هذا هو الحديث الخامس بعينه والاختلاف في بعض كلماته يدل على ما ذكرنا في المجلد الثاني (278 و 257) من أن جميع ألفاظ الأحاديث غير محفوظة في الروايات وكلتا الروايتين عن أحمد بن محمد بن أبي نصر أحداهما بنقل محمد بن وليد عنه والثاني بنقل البرقي عن أبيه عنه والاختلاف هكذا: أتى حبر من الأحبار. فقال له ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال متى كان. جاء حبر من الأحبار. قال ويلك إنما يقال متى كان لما لم يكن فأما ما كان فلا يقال متى كان. ولا غاية ولا منتهى لغايته انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية. ولا منتهى غاية لتنتهى غايته. (ش)

أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(قال: أتى حبر من الأحبار أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك قال: ويلك إنما يقال: متى كان لما لم يكن) يعني لما لم يكن فكان وإلا فما لم يكن يشمل المعدومات الصرفة ولا يصح أن يسأل عنه بمتى كان (فأما ما كان) أزلا بلا سبق العدم على وجوده.

(فلا يقال متى كان) لاختصاص هذا السؤال بالكائنات الحادثة (كان قبل القبل بلا قبل وبعد البعد بلا بعد ولا منتهى غاية لتنتهي غايته) أي ليس هو منتهى مسافة وهمية أو حسية أو عقلية أو زمانية أو مكانية لتنتهي مسافته إليه ويقال: هو هناك وليس قبله حتى يسأل عنه بأبين أو متى وإنما كون الأزلي كون سرمدي مجرد في الواقع وفي لحاظ العقل عن هذه الامور ولواحقها.

(فقال له أنبي أنت؟ فقال لامك الهبل) في الصحاح الهبل بالتحريك مصدر قولك هبلته امه أي ثكلته، وفي المغرب يقال: فلان هبلته أمه إذا مات ثم قال في دعاء السوء هبلتك أمك ثم استعمل في التعجب كقاتلك الله.

(إنما أنا عبد من عبيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) مطيع لأقواله وأفعاله، والقصر من باب قصر الموصوف على الصفة قصرا إضافيا بالنسبة إلى النبوة.

ص:136

باب النسبة

اشاره

النسبة بكسر النون مصدر يقال نسبته ينسبه من باب ضرب ونصر نسبا بالتحريك ونسبة بالكسر أي ذكر نسبه ووصفه.

* الأصل:

1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربك، فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت قل هو الله أحد إلى آخرها.

* الشرح:

أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنسب لنا ربك أي اذكر نسبه وصفه لنا حتى نعرفه بصفته وكأنهم سألوه اختبارا بأنه هل يقول شيئا من قبله أو يقول ما هو مذكور في التوراة (فلبث ثلاثا) أي ثلاث ساعات أو ثلاث ليال مع أيامها والليل مما يذكر ويؤنث بحسب السماع كما صرح به بعض الأفاضل في حاشيته على المطول فلا يرد أن حذف التاء في الثالث لا وجه له.

(لا يجيبهم) وهو ينتظر الوحي لأنه كان لا ينطق عن الهوى وفيه حث للناس على السكوت فيما لا يعلمون.

(ثم نزلت قل هو الله أحد إلى آخرها) وفيها من جوامع التوحيد ما يعجز عنه عقول العارفين ومن لوامع التنزيه ما يتحير فيه فحول السالكين فقد كتب العلماء ودون الفضلاء شيئا جميلا من حقايقها وأمرا جزيلا من دقايقها ولم يجدوا مع ذلك معشار ما فيها فمن تمسك بها وتفكر فيها فقد رشد ومن أعرض عنها وقال بخلافها فهلك وقد فسد.

* الأصل:

2 - ورواه محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب [وعن]

ص:137

محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسين عن ابن محبوب عن حماد بن عمرو النصيبي. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قل هو الله أحد فقال (عليه السلام): نسبة الله إلى خلقه أحدا صمدا أزليا صمديا لا ظل له يمسكه وهو يمسك الأشياء وبأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، فردانيا، لا خلقه فيه ولا هو في خلقه، غير محسوس ولا مجسوس، لا تدركه الأبصار، علا فقرب ودنا فبعد وعصي فغفر واطيع فشكر; لا تحويه أرضه ولا تقله سماواته، حامل الأشياء بقدرته، ديمومي أزلي لا ينسى ولا يلهو ولا يغلط ولا يلعب ولا لإرادته فصل. وفصله جزاء وأمره واقع، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك ولم يكن له كفوا أحد.

* الشرح:

(ورواه) أي روى هذا الحديث بمضمونه (1) وهو أن قل هو الله أحد نسبة الرب (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد) وهو ابن خالد البرقي (عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب [وعن] محمد بن يحيى، (2) عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسين) يعني ابن أبي الخطاب وهو عطف على أحمد بن محمد بن عيسى لا على محمد بن يحيى.

(عن أبن محبوب، عن حماد بن عمرو النصيبي) نسبة إلى نصيبين اسم بلد والرجل مجهول الحال (عن أبي عبد الله (عليه السلام)) الظاهر أن رواية أبي أيوب عنه (عليه السلام) بلا واسطة فليتأمل (قال) يعني حماد أو أبي أيوب أيضا على تأويل كل واحد.

ص:138


1- 1 - قوله «هذا الحديث بمضمونه» يعني أن الحديث الثاني الذي رواه حماد بن عمرو النصيبي هو عين الحديث الأول الذي رواه محمد بن مسلم معنى ومضمونا إذ كل واحد منهما بيان أن قل هو الله أحد نسبة الرب تعالى. (ش)
2- 2 - قوله «أبي أيوب ومحمد بن يحيى» هكذا في النسخ بإثبات واو العطف بين أبي أيوب ومحمد بن يحيى فيصير المفاد أن الحديث الأول رواه أيضا محمد بن يحيى إلى آخر الإسناد وقال رفيعا النائيني (قدس سره): الأولى ترك الواو يعني أن يكون محمد بن يحيى أول الحديث الثاني وهو استيناف على اصطلاح المحدثين إذ لا يعطفون الإسناد اللاحق على الحديث السابق بالواو ولكنه خلاف ما في النسخ المنقولة والأولى ما ذكره الشارح هنا وعليه بنى أستاد الحكماء المتألهين في شرحه والعلامة المجلسي (رحمه الله) وافق النائيني ولكن كان في نسخته «وعن محمد بن يحيى» فقال: و «عن» زيادة من النساخ ولا ريب في زيادة كلمة «عن» إذ يروي الكليني (رحمه الله) عن محمد بن يحيى بغير واسطة وتصديره بها غير معهود منه على أنها غير موجودة في النسخ التي رأيناها ومنها نسخة مصححة مقروءة على المحدث الجزائري وشهادته عليه بالمقابلة بخطه وعليه خط المجلسي (رحمه الله) أيضا وأما زيادة حرف الواو فبعيدة لوجوده في النسخ ولا يجوز الاعتماد في العلوم المنقولة إلا على النقل إلا إذا حصل اليقين بخلافه. (ش)

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قل هو الله أحد فقال نسبة الله إلى خلقه) أي صفاته الذاتية والتنزيهية المنزلة إلى خلقه ليعرفوه ويميزوه بها عن غيره من الممكنات (أحدا) حال عن الله أو منصوب بفعل مقدر أي ذكر الله في وصفه أحدا لا ثاني له في الوجود والوجوب ولا كثرة في ذاته وصفاته ذهنا وخارجا).

(صمدا) الصمد السيد المصمود فعل بمعنى مفعول كالحسب والقبض يعني أنه السيد الذي يصمد إليه في طلب الامور والنوائل ويقصد في دفع الحوائج والنوازل ويلاذ به في السراء والضراء ويلتجا إليه في الشدة والرخاء ولذلك يوصف به سبحانه لأنه المستغني عن الغير على الإطلاق وكل ما سواه يحتاج إليه من جهات متكثرة، وأنت إذا تأملت في معنى الأحد والصمد علمت أن جميع ما ذكره (عليه السلام) إلى قوله لم يلد مندرج تحتهما ومستخرج منهما.

(أزليا) إذ لو كان حادثا لكان الموجد له هو الصمد لا هو ولأن وجوب وجوده لذاته يستلزم استحالة عدمه أزلا وأبدا وأزله عبارة عن سلب الابتداء والأولية عنه.

(صمديا) أي ليس بجسم ولا جسماني ولا مفتقر إلى شيء بل يفتقر إليه كل ما سواه والنسبة للمبالغة مثل الأحمري.

(لا ظل له) أي لا سبب (1) أو لا صورة أو لا مثل أو لا ظل بالمعنى المعروف له (يمسكه) عن عروض الزوال وحدوث التغير.

(وهو يمسك الأشياء بأظلتها) أي بأسبابها، أو بصورها، أو بغير ذلك مما ذكر ونقل من الشيخ العارف بهاء الملة والدين أن المراد بأظلتها رب أنواعها انتهى (2) ولا يبعد أن يراد بالظل هنا

ص:139


1- 1 - قوله «ظل له أي لا سبب» ذكر للظل أربعة معان: الأول: السبب، والدليل عليه قوله (عليه السلام) بعد ذلك «يمسكه» إذ ضمير الفاعل في يمسكه راجع إلى الظل وضمير المفعول إلى الله تعالى فالظل ما يمسك الأشياء وهو السبب، الثاني: الصورة والمراد منه دفع توهم من يزعم أن كل شيء غير مجسم يحتاج إلى جسم يقوم فيه كالقوة الباصرة فإنها محتاجة إلى العين فقال (عليه السلام) لا ظل له يمسكه أي لا صورة ولا جسم يقوم الله تعالى، الثالث: المثال واطلاق الظل على الأشباح والأجسام البرزخية غير عزيز، الرابع: الظل بالمعنى المعروف ونفيه عن الله تعالى كناية عن نفي التجسم ويبعد المعنيين الأخيرين استلزامه التعسف في تفسير يمسكه إذ لا يمكن إبداء معنى صحيح لإمساك المثال أو الظل المعروف شيئا. (ش)
2- 2 - قوله «رب أنواعها» هكذا نقل المجلسي (رحمه الله) عن الشيخ بهاء الدين (رحمه الله) ومرجعه إلى التفسير الأول للظل أعني السبب إذ ليس تفسير الظل بالسبب تفسيرا لمفهومه لأنه لم يعهد إطلاق الظل على معنى السببية حقيقة ولا مجازا بل هو تفسير مصداقي أي هذا الظل مصداقه السبب ومفهومه الشبح وشئ مماثل للأصل في شكله وحركاته وسكناته وهو رب النوع، ويؤيد كونه رب النوع أن الظل واسطة بين الله تعالى وبين خلقه فيمسك تعالى الأشياء بواسطة الأظلة، ويلزمه أن تكون الأظلة أشرف في الوجود وليس القول برب النوع مستبعدا من الشيخ (رحمه الله) إذ هو عبارة عن الملائكة الموكلة بالأشياء والظاهر أن صدر المتألهين - قدس سره - اقتبس القول بتجرد الخيال وبوجود المثل النورية من أستاده الشيخ (رحمه الله) وقال الحكيم السبزواري: وعندنا المثال الإفلاطوني * لكل نوع فرده العقلاني إلى أن قال: وذلك الأصل وذي فروع * وذلك الكلي أي وسيع ورب النوع والمثل والعقول العرضية والملك الموكل كل ذلك واحد. (ش)

الكنف (1) من قولهم فلان يعيش في ظل فلان أي في كنفه وحفظه وصيانته يعني لا حامي له يحفظه ويصونه ويعينه وهو يحمي الأشياء مع حاميها وحافظها ومعينها.

(عارف بالمجهول) عن الخلق لغاية صغر أو لبعده عنهم كالكاين في القفار والساكن في البحار أو لعدم وصول فكرهم إليه وعدم وقوع ذهنهم عليه كحقايق الأشياء وأجناسها وفصولها إلى غير ذلك فسبحان من يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات.

(معروف عند كل جاهل) من أصحاب الملل الباطلة كالملاحدة والدهرية وعبدة الأوثان وأضرابهم فإن كلهم يعرفونه عند نزول الشدايد والضراء، وتوارد المصايب والبلاء، ولا يلوذون حينئذ بما سواه ولا يدعون إلا إياه كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود» (2) وهذه الأمور الخمسة من لوازم الصمد لأن أزلية وجوده وصمديته وكونه حافظا للأشياء بأظلتها وعارفا بما لا يعرفه الخلق حتى ضماير القلوب ووساوس الصدور، ومعروفا عند كل جاهل يقتضي أن يكون رجوع الخلق كلهم إليه.

(فردانيا) الألف والنون زايدتان في النسب للمبالغة في فرديته بحسب الذات والصفات والوجود والوجوب والربوبية بحيث لا يشابهه في ذلك شيء ولا يشاركه أحد وهذا ناظر إلى الأحد ومن لوازمه.

(لا خلقه فيه) لاستحالة حلول الحوادث فيه إذ لو جاز ذلك لكان ناقصا.

والتالي باطل بالإجماع والعقل والنقل فالمقدم مثله بيان الملازمة أن ذلك الحادث إن كان من صفات كماله لزم نقصه لخلوفه عنه قبل حدوثه وإن لم يكن من صفات كماله لزم نقصه أيضا

ص:140


1- 1 - قوله «بالظل هنا الكنف» الحامي الذي يحفظ وجود الممكن هو السبب ومرجعه إليه ونقل المجلسي (رحمه الله) هذا التفسير من الشارح ونقل أيضا تفسير الفيض (رحمه الله) وأن المراد بالظل الجسم، واختار أن الظل هو الروح إذ يقال الروح في الأظلة وبالجملة هذا الحديث من غوامض علوم أهل البيت (عليهم السلام) ولم يعهد مثله عن غيرهم بفتح منه على العقول أبواب منها أن سبب كل شيء أي الواسطة بين الله تعالى وبينه فرد من نوعه وطبيعته لا من نوع مبائن إذ عبر عنه بالظل وظل كل شيء مثله واطلاق الظل عليه بهذا الاعتبار لا باعتبار أن الظل فرع الشخص ووجوده اعتباري لأن السبب لا يكون فرعا. (ش)
2- 2 - النهج قسم الخطب تحت رقم 49.

للاتفاق على أن كل ما يتصف (1) به الواجب يجب أن يكون من صفات الكمال وفيه إشارة إلى أن صفاته عين ذاته فهو ناظر إلى الأحد.

(ولا هو في خلقه) لما مر من أن حلوله في شيء هو حصوله فيه على سبيل التبعية وهو مستلزم لافتقاره إلى المحل وأنه على الواجب بالذات محال وهذا من لوازم الصمد الذي هو الغني المطلق، وفيه رد على الفرق المبتدعة فإن بعضهم جوزوا حلول الحوادث فيه كالكرامية على ما هو المشهور عنهم ولهم وجوه أوهن من بيت العنكبوت، وبعضهم قالوا بحلوله في الحوادث كطائفة من المتصوفة والعيسوية وقد نقل قطب المحققين عن الرازي أنه قال: ناظرت مع بعض النصارى وقلت له: هل تعرف أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول، قال: نعم.

فقلت له: ما الدليل على أنه لم يحل في زيد وعمرو وذبابة ونملة وحل في عيسى؟ قال: لأنه وجدنا في عيسى أنه أبرء الأكمة والأبرص وأحيى الموتى ولم نجد ذلك فيما ذكرت فعلمنا أنه حل فيه ولم يحل في غيره فقلت: هذا مناف لما سلمت أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول فسكت، ثم قلت له: لقد صارت العصا في يد موسى حية عظيمة تسعى وهذا أعظم مما ذكرت في عيسى فلم لا تقول أنه حل في موسى أيضا فلم يقل شيئا.

هذا ويمكن أن يكون قوله «لا خلقه فيه ولا هو في خلقه تفسيرا لقوله «فردانيا» وبيانا له.

(غير محسوس) بالحواس الظاهرة والباطنة وقد علمت أنه منزه عن إدراكها غير مرة (ولا مجسوس) أي غير ملموس باليد لاستحالة الجسمية وتوابعها من الكيفيات الملموسة عليه.

(لا تدركه الأبصار) لأنه ليس بضوء ولا لون ولا ذي وضع ولا في جهة وقد مر وجه تخصيص عدم إدراك البصر بالذكر بعد ذكر عدم إدراك الحواس له والظاهر أن هذه الثلاثة من لوازم الأحد.

(علا) كلا شيء بالوجود الذاتي والشرف والعلية (فقرب) من كل شيء بالعلم والإحاطة لا

ص:141


1- 3 - قوله «للاتفاق على كل ما يتصف» التمسك بالاتفاق أجنبي عن هذه المباحث لأنا ننقل الكلام إلى الاتفاق من أين حدث أن كان من دليل عقل وجب بيانه حتى ننظر فيه ولعله غير تام وإن كان للتعبد بقول المعصوم وكشف هذا الاتفاق عنه فلا نسلم ثبوت هذا الاتفاق أولا وانما نسلم عدم ثبوت صفة النقص فيه تعالى ولا نسلم إمكان التمسك في التوحيد بما يتفرع على مسألة الإمامة فالأولى التمسك بأن المتبادر من حلول الحوادث انفعال المحل والانفعال من صفات المادة فيلزم كونه تعالى جسما كما أن حلوله في خلقه أيضا يستلزم كونه جسمانيا لأن الشيء إذا أحل جسما لا بد أن يتصف بالوضع والمكان وهو منزه عنه، وأما الحلول عند المتصوفة والكرامية فظاهر أنهم لا يلتزمون بلوازم الحلول اعتباطا وتعنتا ولذلك أنكر المحصلون من المتصوفة الحلول كما نقل الشارح والكرامية تأبى عن الاعتماد على العقول في مقابل ظواهر أدلة المنقول. (ش)

بالمجاورة والإلصاق.

(ودنى فبعد) أي يكون في المكان، أو يتناوله المشاعر، أو يشبهه شيء، فذاته المقدسة مباينة لجميع الممكنات إذ ليس لشيء منها الدنو من كل شيء من كل وجه.

(وعصى فغفر) لمن جذبته النفس الأمارة والشيطان إلى مهاوي الهلاك والعصيان، فعجز عن مقاومتها بعد أن كانت له مسكة بجناب الله وإن كان ذلك الغفران متفاوتا بحسب قوة المسكة وضعفها.

(واطيع فشكر) قابل اليسير من الطاعة بالكثير من الثواب إن ربنا لغفور شكور، والشكر في اللغة هو الاعتراف بالإحسان والله سبحانه هو المحسن إلى عباده والمنعم عليهم، فالشكر حق الله تعالى على العباد ولكنه لما كان مجازيا للمطيع على طاعته بجزيل ثوابه جعل مجازاته شكرا لهم على سبيل المجاز.

(لا تحويه أرضه) لأنه ليس بذي مكان يحويه ويحيط به لأن ذلك من خواص الأجسام فما ليس بجسم ولا جسماني كانت الحواية مسلوبة عنه سلبا مطلقا لا سلبا مقابلا للملكة.

(ولا تقله سماواته) أي لا ترفعه من قله وأقله إذا حمله ورفعه (حامل الأشياء) أي حفيظها ومقيمها (1) (بقدرته) الكاملة التي لا يمتنع من نفاذها شيء من تلك الأشياء.

(ديمومي) أي دايم باق أبدا والديمومة مصدر دام يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة حذفت

ص:142


1- 1 - قوله «حامل الأشياء أي حفيظها ومقيمها» المذهب الصحيح أن الممكن لا يستغني عن العلة بعد الإيجاد فهو من هذه الجهة نظير النور بالنسبة إلى السراج إذا طغى انتفى النور وليس نظير البناء والباني وقد تفوه بعض المعتزلة بخلاف ذلك وقالوا لو جاز على الواجب العدم لما ضر عدمه وجود العالم يعنون أنه لو لم يكن الواجب تعالى بعد إيجاد العالم بقي السماء والأرض والحيوان والإنسان والنبات وساير المتغيرات بحالة واحدة فلم يتفق موت ولا فساد ولا مرض ولا حياة جديدة ولا كون جديد ولا يشفى مريض ولا يولد أحد إلى غير ذلك نعوذ بالله من الجهل فتشبيه العالم بالبناء والله تعالى بالباني صحيح من جهة أصل الاحتياج لا من جهة استمراره ولا يجب من تشبيه شيء بشيء مشاركة المتشابهين في جميع الصفات بل في وجه الشبه فقد، وزيد كالأسد في الشجاعة لا في عدم النطق وأما تصور كيفية الارتباط بين الواجب الممكن الذي يقتضي عدم الممكن بفرض انتفاء ارتباطه فغير ممكن لنا، وقد تكرر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المعنى حيث قال «داخل في الأشياء لا بالممازجة وخارج عنها لا بالمباينة» وكل مثال نتمثل به غير كلامه مقرب من وجه ومبعد من وجه وقد يعبر عن الارتباط بالإضافة الإشراقية، وقد تحقق أن الوجود الحق واحد وساير الكثرات موجودات غير مستقلة بأنفسها وربط محض لا قيام لها بذاتها وكل من يعتقد أنه تعالى خارج عن الأشياء بالمباينة بينونة عزلة يلزمه أن يعتقد عدم احتياج الممكن إليه تعالى في استمرار الوجود فبينونته بينونة صفة لا بينونة عزلة. (ش)

التاء في النسب (أزلي) أي كان في الأزل بلا بداية لوجوده (لا ينسى) لأن ذاته بذاته علم بجيمع الأشياء لا يعزب عنه مثقال ذرة ولأن النسيان بالكسر وهو خلاف الذكر وذهاب الصورة العلمية من صفات النفس المدركة بالآلات البدنية فربما يشغل عنها وينسبها لاشتغالها بتدبير البدن.

(ولا يلهو) اللهو: اللعب، يقول: لهوت بالشيء ألهو لهوا إذا لعبت به وقد يكنى به عن الجماع قال الله تعالى (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) قالوا امرأة (ولا يغلط) أصلا لا في القول والفعل ولا في الحكم والتدبير إذ الغلط إنما ينشأ من نقص العلم وهو سبحانه منزه عنه.

(ولا يلعب) قال الله تعالى (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) (ولا لإرادته فصل) الفصل القطع، والمراد به هنا القاطع، يعني ليس لإرادته قاطع يمنعها عن تعلقها بالمراد إذ كل شيء مقهور له فلا يقدر شيء ما على أن يمنعه مما أراده، وقيل: معناه ليست إراداته فاصلة بين شيء وشئ بل تتعلق بكل شيء، وهذا قريب مما ذكره الفاضل الأسترآبادي من أن معناه أنه تعالى يريد كل ما يقع من الخير والشر.

وليست إرادته المتعلقة بأفعال العباد فاصلة بين المرضي وغير المرضي بل متعلقة بهما جميعا إذ لا يقع شيء ما إلا بإراداته كما سيجيء.

(وفصله جزاء) أي فصله بين أفعال العباد هو جزاء لهم على أفعالهم فيثيب من أطاعة ويعاقب من عصاه كما قال (إن الله يفصل بينهم يوم القيمة) ولذلك سمي يوم القيمة يوم الفصل لا جبر بأن يجبر المطيع على الطاعة والعاصي على المعصية كما زعمه الجبرية فإن ذلك يوجب فوات فائدة التكليف وبعث الرسل وإنزال الكتب كما بين في موضعه.

(وأمره واقع) أي أمره التكويني واقع بلا مهلة ولا تخلف الأثر عنه كما قال سبحانه (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) والظاهر أن ما ذكره من قوله «علا» إلى هنا راجع إلى معنى الصمد لأن كل ذلك يقتضي صرف الحوائج إليه وأنه المستحق لذلك دون غيره، ويمكن إرجاع بعضها مثل «لا يحويه أرضه ولا تقله سماواته» إلى معنى الأحد كما لا يخفى على المتأمل.

(لم يلد فيورث) الفعل إما مبني للفاعل أو مبني للمفعول والمآل واحد. يعني لم يلد فيكون مورثا أو موروثا. وهو تنزيه له تعالى عن صفات البشر، إذ العادة أن الإنسان يهلك فيرثه ولده.

(ولم يولد فيشارك) مع أبيه في العز والالوهية والربوبية والملك. إذ العادة تقتضي أن يكون ولد العزيز عزيزا مثله، والبرهان أنها من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسمية والتلذذ والانتقال والتغير

ص:143

والانفعال المنزه قدسه تعالى عنها.

(ولم يكن له كفوا أحد) الكفيء على وزن فعيل النظير، وكذلك الكفؤ بضم الكاف وسكون الفاء، والكفؤ بضمتين على فعل وفعول، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد، وكل شيء ساوى شيئا يكون مثله.

والمقصود أنه تعالى لم يماثله أحد في ذاته وصفاته الذاتية والفعلية والاعتبارية وهو تنزيه مطلق له عن المشابهة بالخلق من الأنحاء كما قال أيضا: «وليس كمثله شيء» العجب العجيب من بعض أهل هذه الملة (1) كيف رضيت نفوسهم واستقرت عقولهم على أن شبهوه بخلقه في الجسمية والصورة والكيفية وغيرها خلافا لما وصف الله تعالى به نفسه وما ذاك إلا لمتابعة أوهامهم وأحكامهم وعدم رجوعهم في وصف الباري إلى العالم المعلم الرباني تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد عن عاصم بن حميد قال: قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وهو عليم بذات الصدور» فمن رام رواء ذلك فقد هلك.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن السويد، عن

ص:144


1- 1 - قوله «العجب من بعض أهل هذه الملة» سيجيء الروايات في تخطئتهم في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى ورأينا في عصرنا ما هو أعجب مما رأى الشارح في عصره خصوصا من المصلحين والمجددين منهم فقد صرحوا بنفي التجسيم وإثبات الجهة والمكان والرؤية وهو تناقض صريح قال القاسمي في تفسيره المسمى بمحاسن التأويل (المجلد السابع 2720) من الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذ أكربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته انتهى. وقال أيضا: فإن احتجوا بقوله تعالى (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) وبقوله تعالى (وهو الله في السماوات والأرض) وبقوله تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم الآية) وزعموا أنه سبحانه في كل مكان بنفسه وذاته، فأجاب عنه بالتأويل بإحاطة علمه ولا أدري كيف حرم تأويل قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وأجاز تأويل تلك الآيات وأيضا كيف أثبت جميع صفات الأجسام وحرم التلفظ بكلمة الجسم فقط. (ش)

عاصم بن حميد) بضم الحاء مصغرا (قال: قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد) بم يحصل (فقال: إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون) في ذات الله وصفاته (1) أو في مصارف العقول كلها.

(فأنزل الله «قل هو الله أحد» والآيات من سورة الحديد إلى قوله «والله عليم بذات الصدور» فمن رام) أي قصد وطلب في باب معرفة الرب وتوحيده.

(وراء ذلك) أي خلافه أو فوقه أو دونه (فقد هلك) فإن ذلك منتهى حق الله تعالى على خلقه وغاية مطلوبة منهم ولو كان المطلوب غير ذلك لهداهم إليه ولدلهم عليه فوجب في الحكمة أن يصفوه بما وصف به نفسه (2) وأن لا يخوضوا فيما وراء ذلك ليثبت قواعد التوحيد في قلوبهم وتترسخ في نفوسهم ولا يخرجهم البحث عما وراءها إلى مهاوي الهلاك ومنازل الشرك.

* الأصل:

ص:145


1- 2 - قوله «متعمقون في ذات الله وصفاته» قال الحكيم المتأله صدر الدين الشيرازي (قدس سره) في شرح هذا الحديث: ثم من النوادر الغريبة أن هذا العبد المسكين كان في سالف الزمان متأملا متدبرا على عادتي عند تلاوة القرآن في معاني آياته ورموزها وإشاراتها وكان المنفتح على قلبي من آيات هذه السورة وإشاراتها أكثر من غيرها فحداني ذلك مع ما سبق من الخواطر الغيبية والدواعي العلمية والإعلامات السرية إلى أن أشرع في تفسير القرآن المجيد والتنزيل الحميد فشرعت وكان أول ما أخذت في تفسيره من السور القرآنية هذه السورة لفرط شغفي وقوة شوقي باظهار ما ألهمني ربي من عنده وإبراز ما علمني الله من لدنه من لطائف الأسرار وشرائف الأخبار وعجائب العلوم الإلهية وغرائب النكت القرآنية والرموز الفرقانية والإشارات الربانية ثم بعد أن وقع إتمام تفسيرها مع تفسير عدة أخرى من السور والآيات كآية الكرسي وآية النور واتفقت عقيب سنتين أو أكثر مصادفتي بهذا الحديث والنظر فيه بعين الاعتبار فاهتز خاطري غاية الاهتزاز وانبسط نشاطي آخر الانبساط في النشاط لما رأيت من علامة الاهتداء بما هو أصل الهدى والسلوك في المحجة البيضاء من طريق التوحيد فشكرت الله على ما أنعم وحمدته على الفضل والكرم انتهى كلامه (قدس سره) بألفاظه ولا يخفى أن التعمق قد يكون مذموما وقد يكون ممدوحا وأما المذموم فالتعمق فيما لا يصل إليه العقول من الكلام في الذات وتشبيهه تعالى بالأجسام وأما الممدوح فالتفكر في علته وقدرته وحكمته وما يصل إليه العقول من صفاته، وأما السؤال عن التوحيد فهو بقرينة ما سيأتي إن شاء الله في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف الله به نفسه في الحديث العاشر هو السؤال عن اختلاف الناس في كونه تعالى جسما أو صورة فأجاب الإمام (عليه السلام) بمضمون سورة التوحيد وآيات سورة الحديد هي هذه (ش)
2- 1 - قوله «أن يصفوه بما وصفت به نفسه» مثلا يجوز أن يقال أنه حكيم ولا يجوز أن يقال إنه فقيه إذ وصف نفسه بالحكمة في آيات كثيرة وروايات متواترة ولم يصف نفسه بالفقاهة وهكذا لا يقال أنه تعالى سخي ويقال أنه كريم وغير ذلك وقال في سورة التوحيد «لم يكن له كفوا أحد» أي ليس شيء مثله فليس بجسم ولا صورة ولا متحيز وقال أهل الظاهر: أنه جسم وليس مثل سائر الأجسام وفي سورة الحديد «وهو معكم أينما كنتم» فليس جسما إذ لا يمكن أن يكون الجسم في جميع الأمكنة وهكذا. (ش)

4 - «محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ: «قل هو الله أحد» وآمن بها فقد عرف التوحيد. قلت: كيف يقرؤها؟ قال:

كما يقرؤها الناس وزاد فيه «كذلك الله ربي كذلك الله ربي».

* الشرح:

(عن محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن عبد العزيز بن المهتدي) قمي ثقة وكان وكيل الرضا (عليه السلام) قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) خرج فيه «غفر الله لك ذنبك ورحمنا وإياك ورضي عنك برضاي عنك» (قال سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد) إذ فيها وجوه الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وتفرده في الالوهية وكمال احتياج الخلائق إليه وتنزهه عن المشابهة بهم إلى غير ذلك مما تعرفه العقول السليمة.

(قلت كيف يقرؤها) كأنه سأل عن كيفية القراءة لاحتمالها وجوها متعددة مثل التدرس والتعلم والتفكر وقراءتها على الوجه المعروف من تلاوة القرآن.

(قال كما يقرؤها الناس وزاد فيه) هذه الزيادة تفسير لقوله «وأمن بها» وفي بعض النسخ «فيها» (كذلك الله ربي كذلك الله ربي) فيه إظهار للتصديق بها والإيمان بمضمونها والشهادة عليها مرتين.

وقال الفاضل الأردبيلي قيل فائدة ذلك ليثاب بثواب تلاوة القرآن كله لأن كل مرة بمنزلة قراءة هذه السورة الشريفة وقد ورد «أن من قرأها ثلاث مرات كان له ثواب تلاوة القرآن كله (1) والصدوق روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) مع تغيير يسير إسناده عن عبد العزيز ابن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد قلت: كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرأ الناس» وزاد فيه كذلك [الله] ربي، كذلك [الله] ربي.

ص:146


1- 1 - رواه الصدوق (رحمه الله) في المجالس في حديث طويل.

باب النهي عن الكلام في الكيفية

اشاره

أی فی کیفیّة ذاته و صفاته و حقیقتهما

* الأصل:

1 - «محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا».

«وفي رواية اخرى عن حريز: تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله»

* الشرح:

(محمد بن الحسن) قال الفاضل الشوشتري: كأنه القمي الذي قيل في شأنه إنه نظير ابن الوليد، وفي بعض النسخ محمد بن الحسين بالتصغير.

(عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): تكلموا في خلق الله) لتعرفوا أنه موجود واحد حي عالم قادر مدبر حكيم لطيف خبير بيده أزمة وجود الخلائق ونواصيهم وإليه مرجعهم ومصيرهم وذلك لأن آياته الباهرة وآثاره الظاهرة في العالم دالة على وجوده الظاهر في كل صورة منها وفي كل شيء من الأشياء له آية تدل على أنه واحد لكل ذرة من الذرات لسان يشهد بوجوده وتدبيره وتقديره لا يخالف شيء من الموجودات شيئا في تلك الشهادات.

وقد أشار إليه جل شأنه بقوله (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وهذا الطريق من الاستدلال هو طريق المليين وسائر فرق المتكلمين (1) فإنهم يستدلون أولا على حدوث الأعراض. ثم يستدلون بحدوثها وتغيراتها على وجود الخالق ثم بالنظر في أحوال

ص:147


1- 1 - قوله «وسائر فرق المتكلمين» قد يطلق السائر ويراد الجميع وقوله على حدوث الأعراض يعني أن حدوث الأعراض يجب أن يثبت بدليل لأن كل واحد واحد من الأعراض وإن كان حادثا بالحس من غير حاجة إلى الاستدلال لكن حدوث النوع يحتاج إلى دليل إذ يحتمل في بادي النظر أن يكون نوع الحوادث قديما إذ لا ينافي ذلك حدوث الأفراد ويستدل على حدوث النوع ببرهان التطبيق على ما هو مقرر في محله. وقيل حدوث كل واحد واحد يكفي في إثبات الواجب وإن لم يثبت حدوث النوع والحق أنه لا يحتاج إلى التمسك بهذه الأمور أصلا بل الأولى أن يتمسك بأحكام الصنع واتقانه كما في توحيد المفضل. (ش)

المخلوقات على صفاته واحدة واحدة مثلا بإحكامها وإتقانها على كون فاعلها عالما وبتخصيص بعضها بأمر ليس في الآخر على كونه مريدا. ونحو ذلك الحكماء الطبيعيون (1) يستدلون بوجود الحركة على محرك، وبامتناع اتصال الحركات لا إلى أول على وجود محرك أول غير متحرك، ثم يستدلون من ذلك على وجود مبدأ أول.

وأما الإلهيون فلهم في الاستدلال طريق آخر وهو أنهم ينظرون أولا في مطلق الوجود أهو واجب أم ممكن يستدلون من ذلك على إثبات موجود واجب ثم بالنظر في لوازم الوجوب من الوحدة الحقيقية على نفي الكثرة بوجه ما المستلزم لعدم الجسمية والعرضية والجهة وغيرها ثم يستدلون بصفاته على كيفية صدور أفعاله عنه واحدا بعد آخر وقالوا: هذا الطريق أعلى واجل من الطريق الأول لأن الاستدلال بالعلة على المعلول أولى البراهين بإعطاء اليقين لكون العلم بالعلة المعينة مستلزما للعلم بالمعلول المعين من غير عكس (2).

وقال بعض العلماء هذه طريقة الصديقين الذين يستدلون بوجوده على وجود كل شيء إذ هو منه ولا يستدلون عليه بوجود شيء لأنه أظهر وجودا من كل شيء فإن خفي مع ظهوره فلشدة ظهوره وظهوره سبب بطونه ونوره هو حجاب نوره والواجب على أهل كل طريق ترك التعرض لمعرفة ذاته وصفاته ومقدار عظمته كما أشار إليه على وجه العموم بقوله.

(ولا تتكلموا في الله) أي في ذاته وصفاته (فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا) (3)

ص:148


1- 1 - قوله «نحو ذلك الحكماء الطبيعيون» أي الماهرون في العلوم الطبيعية لا منكروا الألوهية أو الشاكون في ما وراء الطبيعة والإلهيون هم الحكماء الإلهيون من سائر الأمم ونقل قولهم وأدلتهم ليس للاعتماد عليهم تعبدا بل النظر والتأمل، والاطمينان النفس في الجملة بأنهم لم يكن إيمانهم بالله واليوم الآخر تقليدا ولا لمتابعة الأنبياء تعبدا فإن أفلاطون وأرسطو وأمثالهما كانوا قبل عيسى (عليه السلام) بمئات من السنين ولم يكونوا من اليهود ولا من أمة موسى (عليه السلام) بل لم يعتمدوا إلا على عقولهم فإذا رأيناهم مؤمنين بالله واليوم الآخر ولا نتهمهم بتقية وتقليد ورأينا دليلهم متقنا أخذناه كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها». (ش)
2- 2 - قوله «المعلول المعين من غير عكس» فإنا إذ رأينا بيتا بعينه علمنا أن له بانيا وأما أن بانيه من هو فلا نعلم بعينه بخلاف ما إذا عرفنا الباني بعينه من حيث أنه بان بالفعل فإنه يستلزم العلم بالبيت المعين فإن قيل قد نعرف الباني بعينه ولا نعرف البيت الذي بناه بعينه قلنا المراد من العلم بالعلة العلم بها من حيث هي علة بالفعل كما قلنا لا العلم بشخص من يمكن أن يكون علة بالقوة. (ش)
3- 3 - قوله «لا يزداد صاحبه إلا تحيرا» لأن البشر يعتقد في بدء أمره أن الموجود جسم متحيز في مكان ومتصف بقدر وكيفية فإذا أراد معرفة ذاته تعالى فكل ما يتبادر إلى ذهنه هو من صفات الأجسام وهذا يؤدي إلى التشبيه بل التجسيم، فإما أن يعترف به وبجسمه وهو التشبيه المنهي عنه أو ينكر وجوده نعوذ بالله وهو حد التعطيل المنهي عنه أيضا، وأما أن يتوقف ويقول ما أدري ما أقول فيميل تارة إلى هذا وأخرى إلى ذاك وهو التحير فإذا اعتقد أنه جسم عظيم على العرش لا يدري كيف يعتقد بأنه مع كل شيء كما قال «نحن أقرب إليه من حبل الوريد» «وهو معكم أينما كنتم» فالعلاج أن يعترف بالعجز عن معرفة ذاته تعالى والتكلم فيه والاكتفاء بما ورد في الآيات والروايات من صفاته تعالى ولا يتجاوز عنه فإن قيل هذا شأن الحنابلة والمجسمة حيث اكتفوا بظواهر النصوص واثبتوا له اليد والوجه والعلو على العرش بمعناه الجسماني والرؤية ونزوله كل ليلة جمعة إلى غير ذلك، قلنا هذا ليس تسليما بل هو التشبيه بعينه ولا فرق بين من يبقى ألفاظ التجسيم على ظاهرها ويأول ما يدل على أنه تعالى في كل مكان ومع كل أحد، وبين من يبقى هذه على ظاهرها ويأول ألفاظ التجسيم، فكلاهما قد خرج عن الظاهر في الجملة والعامي المعتمد على الجسم أبقى التجسم وأول التجرد والخاصي بالعكس ولا حاصل لقول الأولين إنا لا نقول بالجسم إذ لا فرق بين أن يقال هو جسم أو هو صاحب طول وعرض وعمق أو جالس في المكان أو متحيز وأمثال ذلك من أشباه الترادف فمن قال: إنه ليس بجسم. وقال: مع ذلك إنه يرى بالبصر فكأنه قال: إنه جسم لا جسم وهم يتأبون عن الاكتفاء برؤية القلب قال النظامي عن لسانهم: هست وليكن نه مقرر بجاى * هر كه چنين نيست نباشد خداى ديد محمد نه بچشم دگر * بلكه بدان چشم كه بودش بسر بخلاف ما قاله الطوسي: به بينندگان آفريننده را * نه بيني مرنجان دو بيننده را وليس من يحمل اليد والوجه والعلو على المعنى الجسماني ممن يسلم بل الذي يعترف بما أراد الله تعالى منها. (ش)

وبعدا وبعدا عنه (وفي رواية اخرى عن حريز تكلموا في كل شيء) سواء كان التكلم فيه لمعرفة ذات ذلك الشيء وصفاته وآثاره وخواصه أو لمعرفة خلقه (ولا تكلموا) أي لا تتكلموا بحذف إحدى التائين وفي بعض النسخ بدون الحذف.

(في ذات الله) ولا في تحقيق حقيقة صفاته وتحديدها. نبي عن الخوض في ذات الله تعالى وصفاته وتحقيق حقيقتها فإن ما يتعلق بهما بحر زاخر لا يصل إلى أطرافه النظر ولا يدرك قعره البصر ولا يجري فيه فكر البشر فكل سابح في بحار عزه وجلاله غريق، وكل طالب لأنوار كبريائه وكماله حريق، فإن تصور من ذاته شيئا فهو يشابه ذوات المخلوقات وإن تعقل من صفاته أمرأ فهو يناسب صفات الممكنات، وإن لم يتصور منهما شيئا ولم يستقر عقله على أمر صار ذلك موجبا للهم والغم والتدله والحيرة حتى يؤدي ذلك إلى الجنون كما يجد ذلك من نفسه من حركها مرارا إلى تحصيل ما ليس في وسعها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج،

ص:149

عن سليمان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: وأن إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن سليمان ابن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل يقول: (وأن إلى ربك المنتهى)) أي الانتهاء (فإذا انتهى الكلام إلى الله تعالى) أي إلى ذاته وصفاته (فأمسكوا) ولا تتكلموا فيهما يعني ينبغي لكم النظر إلى أحوال الخلق وعظمته وإحكامه وإتقانه وحسن نظامه لتعلموا أن له خالقا عظيما حكيما قادرا حيا قيوما واحدا فإذا انتهى كلامكم إلى هذا وعلمتم ذلك وصدقتم به فأمسكوا ولا تتكلموا بعد ذلك في ذاته وصفاته ولا تقولوا ما هما فإن معرفة حقيقتهما ليست في وسع البشر.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق) المنطق: الكلام، يعني يجوز لهم الكلام في أفعال الله تعالى وآثاره الدالة على وجوده ووحدته وعظمته وسائر صفاته.

(حتى يتكلموا في الله) بالتشبيه والتصوير والكيفية والتحديد وأمثال ذلك.

(فإذا سمعتم ذلك فقولوا لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء)، قد مر تفسير هذه الكلمة التي هي الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في العقل والنقل غيره.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي صاحبها وعسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له، إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى أن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من يديه. وفي رواية اخرى: حتى تاهوا في الأرض.

ص:150

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك والخصومات) المخاصمة المجادلة لا لإثبات الحق، بل للترفع وإظهار الفضل والكمال والتسلط على الأقران في المجالس بكثرة القيل والقال وأما الجدال لإثبات الحق بطريق صحيح فليس بمنهي عنه (1) كيف وقد قال الله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).

(فإنها تورث الشك) في الحق وزيغ القلب عنه بإلقاء الشبهات عليه فإن شرك الشبهة أما منسوج (2) من أوتار الباطل فقط أو من الحق والباطل جميعا وعلى التقديرين قلما يتخلص منه النفس المأنوسة بمفتريات الأوهام.

(وتحبط العمل) حبط عمله حبطا بالتسكين وحبوطا بطل ثوابه، وحبط الله أبطله واسناد الإحباط إلى الخصومات إسناد مجازي باعتبار أنها سبب له وفيه دلالة على إحباط العمل الصالح

ص:151


1- 1 - قوله «ليس بمنهي عنه» حكى عن مالك وأحمد بن حنبل بل الشافعي وجميع أصحاب الحديث النهي عن علم الكلام وقالوا إنه بدعة فكان هذا العلم في الصدر الأول عند المتشرعين بمنزلة الفلسفة في العصر الأخير وقد أفرط في ذلك كثير ممن تأخر كابن حزم وابن تيمية والمتعصبين لمذهب السلف من بعده حتى أنهم ينكرون التلفظ بمصطلحات علم الكلام كالجسم والجوهر والعرض والتحيز والمكان وأمثال ذلك والحق أن تقييد فكر الإنسان بغل الجمود خلاف فطرة الله تعالى التي خلق الناس عليها وكما لم يتوقف النحو والعروض والأدب بل اصطلاح المحدثين والقراء على ما كان عليه السلف بل زاد وتفنن وتفرق كذلك اصطلاح الكلام والأصول. قالوا لم يبحث السلف عن الصفات وأنه عين ذاته أو غيره ولم يتكلموا في أنه تعالى جسم أو جوهر أو متحيز أو علة تامة أو ناقصة وليس في كلامهم هيولى ولا صورة ولا نفس وأمثال ذلك، نقول كما أنهم لم يبحثوا عن إسناد الحديث أنه مسلسل أو مرفوع أو مقطوع أو مرسل ولم يتكلموا في موانع صرف الاسم أنها تسع ولم يتكلموا في تواتر القراءات والاكتفاء بالسبع أو العشر بل لم نر لفظ التجويد في كلام السلف ولا أقسام الوقف التام والكافي فإذا جازت زيادة الاصطلاح في ذاك جاز في الكلام والأصول إلا أن يقال إن ذاك سهل نفهمه والكلام أو الأصول دقيق لا نفهمه فالإيراد على قصور الفهم لا على المعنى ولم نر في أمة ولا طائفة من يجوز أن يجتمع سفهاؤهم ويمنعوا عقلائهم عن التدبر في أمور لا يفهمونها ولم يوجب أحد أن يكون الكلام والفكر منحصرا فيما يفهمه جميع الناس من العامة والخاصة لأن في ذلك إبطال لجميع العلوم ونظير ذلك الإخباريون منا فإنهم يستبشعون اصطلاحات الأصول كالاستصحاب وأصل البراءة ولا يستبشعون المناولة والوجادة والمدابجة في اصطلاح المحدثين مع أنها لم تكن معهودة بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام). (ش)
2- 2 - قوله «منسوج» شبه الشبهة بشرك الصياد والباطل الذي تتألف منه بالأرسان التي تنسج منها الشرك. (ش)

بالشك ونحوه هذا إذا لم يرجع عنه كما يدل عليه ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة ولا بعد في ذلك إذ كما أن الذنوب الظاهرة قد توجب سلب النعمة الواصلة على ما روي ما أنعم الله على عبد نعمة فسلبها إياها حتى يذنب ذنبا يستحق بذلك السلب ودل عليه أيضا قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) كذلك الذنوب الباطنة (1) قد توجب سلب نعمة الثواب التي حصلت بعمل آخر كما ورد أن الخلق السيء يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل وتخصيص الشك هنا بالشك في الله وتخصيص العمل بالجدال الصحيح قبل بلوغه إلى حد المخاصمة أيضا محتمل.

(وتردي صاحبها) الردي الهلاك ردي بالكسر يردى رديا أي هلك وأرداه غيره أهلكه يعني الخصومات تهلك صاحبها باستحقاق العذاب فإن من تصدى لها لا يكتفي بسلوك سبيل الدفع وذلك لغلبة القوة الشهوية والغضبية وشوق التسلط والترفع عليه.

(وعسى أن يتكلم بالشيء) من ذات الواجب وصفاته أو غير ذلك من من الأمور الدينية وفي بعض النسخ في الشيء (فلا يغفر له) لفخامة قبحه وسوء عاقبته كما قال سبحانه (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) وقال الصادق (عليه السلام): «من هم بسيئة فلا يعملها إنه ربما عمل العبد السيئة فسيراه الرب تبارك وتعالى فيقول:

وعزتي وجلالي لا غفر لك بعد ذلك أبدا».

(إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به) أي تركوا علم ما فوض إليهم وطلب منهم من الأحكام والمعارف التي كانت لايقة بالحق وكانت مقدورة لهم.

(وطلبوا علم ما كفوه) (2) كفوا على صيغة المجهول إما ناقص يائي أصله كفيوا فعل به ما فعل

ص:152


1- 1 - قوله «كذلك الذنوب الباطنة» ما ذكره الشارح عليه الرحمة خروج عن مذهب الطائفة في إبطال الإحباط وكان سهو من قلمه أو لم يرد ظاهر ما يدل عليه كلامه وأما الحبط في كلام الإمام (عليه السلام) فهو اصطلاح خاص غير اصطلاح المتكلمين، وبالجملة إبطال ثواب العمل الصالح بذنب لا يؤدي إلى الكفر ظلم قبيح على الله تعالى والمراد بالحبط في الحديث منع الجدال والخصومة عن صدور عمل صحيح عن الإنسان فلا يترتب عليه الثواب لعدم الصحة. (ش)
2- 2 - قوله «علم ما كفوه» مفاسد علم الكلام خمسة في هذا الحديث: الأول: أنه يورث الشك، الثاني: يحبط العمل، الثالث: يردي صاحبه، الرابع: الحرمان من المغفرة، الخامس: تضييع العمر فيما لا يعني وترك ما يعني، ولا ريب أن في كل علم مفاسد إذا لم يؤت من بابه ولم يصرفه في وجهه كالاجتهاد إذا بنى على القياس وترك السنة والإخباريون يتمسكون بما ورد في ذم الاجتهاد ويقدحون في علماء الأمة وأمناء الملة قدس أسرارهم باجتهادهم وكذلك محدثوا العامة على ما سبق طعنوا في علم الكلام وعلمائه. والكلام المبني على الخصومة مذموم لأنه جدال بالتي ليست بأحسن، وأما المفاسد الخمس فالشك يحصل لمن لا يقدر على تميز الحق من الباطل وأما القادر فلا يحصل له الشك، وحبط العمل نتيجة الشك إذ العبادة مع الشك في الإيمان غير صحيحة لا يترتب عليها ثواب لا أنه يترتب الثواب ويحبطه الكلام فإن الحبط بهذا المعنى غير صحيح في مذهبنا. أما هلاك صاحب الكلام فإنما هو بأن يتعصب لإثبات الباطل لأن حب الغلب على الخصم والعار من المغلوبية ربما يدعوان إلى الالتزام بما يعلم بطلانه وهذا شر من الشك وحبط العمل وشر من ذلك أن يكون تعصبه والتزامه بالباطل مما لا يغفر أي مما لا يحتمل بمقتضى العادات أن يندم صاحبه ويعترف بتقصيره حتى يغفر له كرؤساء الفرق المبتدعة بعد إضلال جماعة كثيرة، وأما تضييع العمر فيما لا يعني فكثير مثل التكلم في بعض تفاصيل المبدء والمعاد وقصص الأنبياء وفي فضائل رجال بأعيانهم والاختلاف فيهم مثل أن زبير بن العوام أفضل أم عبد الرحمن بن عوف وأبو موسى الأشعري كان عاقلا أم مغفلا وتفصيل حياة صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه من طعامه ومسكنه ومزاجه وبلده وأمثال ذلك وقد نهينا عن تسميته فكيف تلك الأحوال وأحوال الرجعة وكيفياتها وتفاصيلها وغير ذلك وإذا خلا علم الكلام من هذه المفاسد فهو من أشرف العلوم إذ به النجاة في الآخرة لما فيه من الاستدلال على أصول العقائد وأحكام الأيمان، وكذلك كل علم ورد فيه ذم ومدح وكل صنعة كذلك مثل الحياكة والصرف وغيرهما مما يحتاج إليه الناس وعلم جوازه بالتواتر بل الضرورة ولا يمكن حمل الذم فيه على المنع الأمن بعض الوجوه والاعتبارات وإذا خلا عنها لم يكن مرجوحا، ومن مفاسد علم الحديث اقتصار المحدث على الرواية وترك الدراية كما مر ومن مفاسد الاجتهاد الاعتماد على الرأي والقياس، ومن مفاسد الفلسفة التقليد وترك الدليل والإعراض عن السنة، ومن مفاسد علم النجوم الاعتماد على الأحكام ودعوى علم الغيب، ومن مفاسد التصوف البدع والمحالات، ومن مفاسد الأنساب وأشعار العرب الخوض في الفضول، ومن مفاسد علم التفسير الاعتماد على رأي من ليس قوله حجة. ولا يحرم شيء من تلك العلوم لوجود هذه المفاسد فيها بل يجوز الخوض فيها والاجتناب عن المفاسد. (ش)

برموا بضم الراء والميم أو مهموز اللام من كفأت القوت كفاء إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه يعني طلبوا على ما كفاهم الله تعالى مؤنته وأغناهم عنه أو علم ما كفأهم الله وصرفهم عنه ومنعهم منه كالعلم بكنه ذاته وصفاته تعالى.

(حتى انتهى كلامهم إلى الله عز وجل) فتكلموا في كنه ذاته وصفاته تعالى وتعمقوا فيه (فتحيروا) لعدم وصول عقلهم إليه (حتى أن كان الرجل) لفظ أن ليس في بعض النسخ (ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه) لذهاب عقله وتحيره في أمره فكان لا يميز بين الجهات والمحسوسات فضلا عن أن يميز بين المعاني والمعقولات ويحتمل أن يكون هذا الكلام تمثيلا لإيضاح حاله في التحير والتدله.

(وفي رواية اخرى حتى تاهوا في الأرض) أي ذهبوا فيها متحيرين وضلوا مبهوتين مدهوشين سبحان من تاهت في ذاته نواظر العقول وحارت في صفاته بصائر الفحول.

ص:153

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن الحسين بن المياح، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من نظر في الله كيف هو، هلك.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أحصابه، عن الحسين بن مياح، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من نظر في الله كيف هو هلك) إما بالشرك إن استقر نظره على كيفية لتعاليه عنها أو بالتحير وذهاب العقل إن اضطرب في سرادق العز؟ ولم يجد شيئا يركن إليه إذ عظمة الرب أجل وأعظم من أن يضبطها عقل بشري.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن ملكا عظيم الشأن كان في مجلس له فتناول الرب تبارك وتعالى ففقد فما يدري أين هو.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن ملكا عظيم الشأن) عظمة شأنه إما بحسب الدنيا أو بحسب الفضل والكمال (كان في مجلس فتناول الرب تبارك وتعالى) أي تكلم في كيفية ذاته وفتش في حقيقة صفاته وصرف نظر الفكر إلى مطالعة كنه كبريائه وعظمته وأجال بصر العقل إلى مشاهدة منتهى علمه وقدرته وأرسل الفهم إلى عميقات أسرار كماله وحرك الفهم إلى تحديد كيفية جلاله فعادت تلك المتحركات قبل الوصول إلى مطالبها خائبة كليلة ورجعت هذه المدركات قبل الوصول إلى مقاصدها خاسئة حسيرة لكونها قاصرة عن إدراك ما طلبته من هذه المطالب الجزيلة وعاجزة عن تناول ما تمنته عن هذه المقاصد الجليلة فلذلك غلب عليه التدله والحيرة (ففقد) من بين قومه (1) وتاه في الأرض. (فما يدري أين هو) سبحان من تولهت القلوب من تقدير جلال عزته

ص:154


1- 1 - قوله «ففقد من بين قومه» كان هذا الملك النعمان الأول جد ملوك العراق وهو الذي بنى قصر الخورنق والسدير وتربى بهرام جور عنده وفيه يقول عدي بن زيد: وتدبر رب الخورنق إذ أش * - رف يوما وللهدى تفكير سره حاله وكثرة مايم * - لك والبحر معرضا والسدير فارعوى قلبه وقال وما غب * - طة حي إلى الممات يصير وقال أبو الفرج كان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومتهاجه ولم تخل الأرض من قائم لله بحجة في عباده فقال أيها الملك.... أرأيت هذا الذي أنت فيه أشي، لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثا وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك قال كذلك هو... فإذا كان السحر فاقرع علي بابي... فقرع عليه عند السحر بابه فإذا هو قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، وسماه أبو الفرج المنتصر السائح على وجهه ولم يشر أحد من شراح الكافي إلى شيء من قصة هذا الملك وما يتبادر إلى الذهن من كلام أبي الفرج من ترك الملك في حال سلامة العقل اختيارا للزهد بعد ما سبق منه من الشر والظلم ضعيف والصحيح ما نقل عن الإمام (عليه السلام) من عروض الحيرة بعد إيمان الملك وتفكره في الله تعالى وهذا الملك هو الذي رمى سنمارا من قصر الخورنق بعد بنائه لئلا يبني لغيره أحسن منه أو مثله. (ش)

وتحيرت العقول من طلب كنه عظمته.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إياكم والتفكر في الله) تحذير عن طلب معرفة كنه ذاته وصفاته، وتبعيد عن التفكر في منتهى علمه وكمالاته، هيهات هيهات إن من يعجز عن إدراك ذي الهيئة والأدوات ويضعف عن نيل ما جبلت عليه نفسه من الصفات ومن تعقل دقايق جزئيات أعضائه وتصور حقايق محسوسات قواه فهو من إدراك ذات الله وصفاته وتعقل حقائق أوصافه وكمالاته التي هي أبعد الأشياء عنه مناسبة وأظهرها مباينة أعجز وأضعف ومن تصوره بقدر فهمه وتخيله بحسب وهمه فقد حده بحدود المخلوقات وعده من قبيل المصنوعات فهو خارج عن مقام التوحيد والتعظيم وداخل في حد الشرك بالله العظيم.

(ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته) العظيم يطلق على كل كبير محسوسا كان أو معقولا، عينا كان أو معنى، وإذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكثير يقال في المنفصلة ثم قد يقال في المنفصل عظيم نحو قولهم جيش عظيم ومال عظيم، والعظيم المطلق هو الله سبحانه لاستيلائه على جميع الممكنات بالإيجاد والإفناء وليست عظمته عظمة مقدارية ولا عظمته عددية لتنزهه عن المقدار والمقداريات والكم والكميات بل هي عبارة عن علو شأنه وجلالة قدره وكمال شرفه وشدة غنائه عن الخلق ونهاية افتقارهم إليه في الوجود والبقاء والكمال.

(فانظروا إلى عظيم خلقه) فإنه أظهر عظمته للعقول بما أراها من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم، فمن شواهد عظمته خلق السماوات المرفوعات بلا عمد القايمات بلا سند.

ص:155

دعاهن فأجبن طايعات لقدرته القاهرة وأتين مذعنات لإرادته الكاملة. ومنها خلق النجوم السايرات والكواكب الساكنات التي يستدل بها الحاير في فجاج الأقطار والساير في لجج البحار، ومنها خلق الحيوانات وإرشادها إلى مطالبها وإلهامها السعي إلى مقاصدها، ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كالنملة كيف أحكم خلقها وأتقن وتركيبها وأقامها على قوايمها وبناها على دعايمها، وفلق لها السمع والبصر وسوى لها العظم والبشر وجعل لها مجاري أكلها كالحلق والإمعاء وشراسيف بطنها كالعظام والأضلاع، وخلق في رأسها عينا باصرة وإذنا سامعة وشامة قوية تدرك بها من مسافة بعيدة وهي مع صغر جثتها ولطافة هيئتها بحيث لا تكاد تنال بلحظ النظر ولا بقوة الفكر تدب على الأرض وتطلب الرزق وتنقل الحبة إلى حجرها وتعدها في مستقرها وتجمع في حرها لبردها لا يغفل عنها المنان ولا يحرمها الديان في الصفا اليابس والحجر الجامس، فإنكم إذا نظرتم إلى ما ذكر، وإلى غيره من عجايب الخلق وغرايب التدبير ولطايف التقدير علمتم أن خالقها موصوف بالكبرياء والعظمة ومنعوت بالعلو والرفعة، وقلتم سبحان من لا يعرف منتهى عظمته العارفون ولا يعلم نهاية قدرته العالمون.

* الأصل:

8 - محمد بن أبي عبد الله رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) [يا] ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق أبرة لغطاه تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض، إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) [يا] ابن آدم) بحذف حرف النداء في النسخ المشهورة وبذكرها في بعض النسخ وفي كتاب الاعتقادات للصدوق (رحمه الله) (لو أكل قلبك طاير) صغير مثل العصفور ونحوه (لم يشبعه) لغاية صغره وحقارته.

(وبصرك) وهو ما يرى من العين لا كلها (لو وضع عليه خرق أبرة لغطاه) ومنعه من الرؤية، والخرق بالفتح والتسكين مصدر خرق الثوب والخف ونحوهما من باب ضرب، ثم سمي الثقبة ولذا يجمع فيقال: خروق وقد لا يجمع نظرا إلى الأصل وفي بعض النسخ «خرت إبرة» والخرت بفتح الخاء المعجمة أو ضمها وسكون الراء المهملة والتاء المثناة من فوق ثقب الإبرة والفاس والاذن ونحوها والجمع خروت وأخرات.

(تريد أن تعرف بهما) أي بهذا القلب الصغير والبصر الحقير (ملكوت السماوات والأرض) أي مالك ملكوتهما على حذف المضاف بقرينة المقام.

ص:156

(إن كنت صادقا) فيما تقول من إمكان رؤيتك له وجوار معرفتك إياه بكنه ذاته وحقايق صفاته على وجه الكمال (فهذه الشمس خلق من خلق الله (1) فإن قدرت أن تملأ عينك منها) حتى ترى جرمه كما هو (فهو كما تقول) يعني كما لا تقدر على رؤية جرم الشمس وإكمال تحديق النظر الظاهر إليه كذلك لا تقدر على رؤية الله ظاهرا وباطنا وإكمال تحديق البصر والبصيرة إليه لاحتراقهما بنوره الغالب على جميع الأنوار وإنما غاية كمالك في معرفته أن تعرف أنك لا تقدر على معرفته كما هو، وهذا الكلام بحسب المعنى في قوة شرطية يستثنى منها نقيض تاليها لينتج نقيض المقدم أي إن كنت صادقا في رؤيته فقد قدرت على رؤية جرم الشمس لأن رؤية آثاره أسهل من رؤيته والتالي باطل بشهادة الحس فالمقدم مثله.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي، عن بعض أصحابنا عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يهوديا يقال له: سبحت جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله! جئت أسألك عن ربك، فإن أنت أجبتني عمأ أسألك عنه وإلا رجعت قال:

سل عما شئت، قال: أين ربك؟ قال: هو في كل مكان وليس في شيء من المكان المحدود، قال:

وكيف هو؟ قال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق والله لا يوصف بخلقه، قال فمن أين يعلم أنك نبي الله؟ قال: فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين يا سبحت إنه رسول الله فقال سبحت: ما رأيت كاليوم أمرا أبين من هذا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي) الظاهر أنه داود بن

ص:157


1- 1 - قوله «فهذه الشمس خلق من خلق الله» حاصل الكلام أن الإنسان يزعم نفسه جامعا لجميع آلات الحس يدرك بها جميع ما يمكن وجوده في العالم فإذا ادعى وجود شيء لا يدركه أنكر إمكان وجوده والشمس أحسن مثال لتنبيه الإنسان وإذا قست نفسك مع الحيوانات التي ليس لها آلات تامة كالخراطين حيث لم يكن لها إلا اللامسة ولا يدرك الألوان والأنوار والريح والطعم وليس للفرس قوة عاقلة فلا يدرك ما يدركه الإنسان من العلوم كالحساب والهندسة الطبيعي وكل ما يحتاج إلى إدراك الكليات ولا يجوز لهؤلاء الحيوانات إنكار ما لا يدركونه لعدم وجود قوة حاسة لدركه كذلك حال الإنسان يجوز أن يكون في الواقع أمور حقيقية ليست له قوة أو حاسة لإدراكها كما تحقق في زماننا من أمواج النور الغير المرئي بالبصر ولا بسائر الحواس، وأما الشمس فلا شك في وجودها ولا يقدر القوة الباصرة على النظر إليها والإحاطة والدقة فثبت ضعف قوة الإنسان عن الإدراك واحتمل وجود أمور كثيرة نحن بالنسبة إليها كالخراطين بالنسبة إلى الألوان ولا يتعجب من الإيمان بوجود إله لا يحيط بذاته حواسنا بل عقولنا. (ش)

علي اليعقوبي (1) الهاشمي الثقة الذي من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، وقيل: من أصحاب الرضا (عليه السلام) وقيل: من أصحابهما لا جعفر بن داود ولا أخوه الحسين بن داود وهما من أصحاب الجواد (عليه السلام).

(عن بعض أصحابنا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يهوديا يقال له:

سبحت) بضم السين والباء وسكون الحاء المهملة (2) كذا سمعت ورأيت في بعض النسخ المصححة وفي بعضها بضم السين وسكون الباء وفتح الحاء المهملة، وفي بعضها أيضا كذلك إلا أنه بضم الخاء المعجمة، وقد نقل الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد حديث سبحت بإسناده مع تغيير يسير في المتن عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إنه كان فارسيا وكان من ملوك فارس وكان دريا يعني صاحب دراية وعلم وفهم وفصاحة.

(جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله) قال: ذلك على الرسم الذي كان معهودا بين الصحابة، وفي بعض النسخ فقال: يا محمد (جئت أسألك عن ربك) الذي تدعوننا إليه (فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه) أي فإن أجبتني بالجواب الصحيح، حذف الشرط لوجود المفسر وأبدل الضمير المتصل بالمنفصل فأنت فاعل فعل محذوف لا مبتدأ لأن حرف الشرط لا يدخل على الاسم فالتركيب نظير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك) وحذف أيضا جواب الشرط وهو آمنت بك وقلت برسالتك بقرينة المقام.

(وإلا رجعت) على ما أنا عليه من التهود (قال: سل عما شئت قال: أين ربك؟) من الأمكنة، أفي السماء أو في الأرض أو في غيرهما (قال: في كل مكان) لا بمعنى الحصول والاستقرار فيه كحصول الجسم في مكان لاستحالة حصول شيء واحد في جميع الأمكنة (3) بالضرورة وليس له

ص:158


1- 1 - اليعقوبي بالباء الموحدة نسبة إلى يعقوبا وهي قصبة في ساحل نهر الديالة ببغداد وهو كما قال المصنف أبو علي داود بن علي اليعقوبي.
2- 2 - قوله «وسكون الحاء المهملة» والأصح الخاء المعجمة وبخت كلمة كانت تدخل في أعلام أهل الكتاب وفيهم صهار بخت أي چهار بخت وبختيشوع وسبخت مركب من بخت وسه بمعنى الثلاثة. (ش)
3- 3 - قوله «لا ستحالة حصول شيء واحد» لا يستحيل وجود شيء واحد في جميع الأمكنة إذا كان عظيما يملأها وهو واضح ولذلك استدركه الشارح بقوله: «وليس له طبيعة امتدادية - إلى آخر ما قال» وهذا يناقض كونه تعالى في مكان واحد أيضا لأن المتمكن في المكان لا بد أن يكون له طبيعة امتدادية وبالجملة إما أن يكون له تعالى طبيعة امتدادية نعوذ بالله تعالى أو لا يكون فإن كان فلا يستحيل كونه في جميع الأمكنة وإن لم يكن له استحال كونه في مكان واحد أيضا فالحق أن وجوده في كل مكان ليس بمعنى التحيز بل بمعنى القيومية والإحاطة وإشراق الوجود على كل شيء، وأما إحاطة العلم بكل شيء فهي وإن كانت صحيحة ولكنها غير كافية في مقصود السائل والمجيب إذ يمكن أن يكون موجود كالانسان في بعض الأمكنة كالدار ويحيط علمه بالسوق والبلد كما يكون الله تعالى عند المجسمة على العرش ويحيط علمه بكل ما في العالم، فالإحاطة بالعلم لا يكفي هنا بل لا بد مما حققه صدر المتألهين في تحقيق الوجود ووحدته الذاتية وكثرة شؤونه وأطواره، وإن شئت تمثل بحال النفس - ولله المثل الأعلى - فإن النفس في وحدتها كل القوى فهي مع القوة الباصرة والسامعة واللامسة وتفكر وتحرك وتمشي وتهضم الغذاء وتدبر في الملكوت. (ش)

أيضا طبيعة امتدادية عظيمة تملأ جميعها، بل بمعنى الحضور والعلم والإحاطة فإن علمه محيط بجميع الأشياء وهي حاضرة عند ذاته تعالى وتقدس فكما أن المكاني حاضر عنده كذلك المكان حاضر عنده لأن المكان أيضا شيء غير محجوب عنه.

(وليس في شيء من المكان المحدود) أي المعين بأن يقال مثلا هو في السماء أو في الأرض أو في غيرهما لأن ذلك يوجب احتياجه إلى المكان وخلو بعض الأمكنة عنه وجواز انتقاله عنه بالطبع أو بالقسر واتصافه بصفات الجسم، وكل ذلك محال، وأشار بهذا الكلام إلى أن المراد بقوله في كل مكان هو إحاطة علمه به كما أشرنا إليه ولما علم السائل أن الرب ليس له مكان (قال: وكيف هو؟) سأل عن كيفيته لالف نفسه وتعلق وهمه بالموجودات التي لا تخلو عن الكيفيات فتوهم أن الموجود المطلق الذي هو مبدأ تلك الموجودات حكمه حكمها، أو سأل عنها على سبيل الاختبار مع علمه بأنه لا كيفية للرب.

(قال: وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق والله لا يوصف بخلقه) أشار إلى أن السؤال عن كيفيته سؤال عن أمر محال لأن الكيف مخلوق والمخلوق ناقص من جهات شتى فالله المنزه عن النقايص لا يوصف به لاستحالة اتصافه بالنقص ولأن الكيف إن كان من صفات كماله كان عدم اتصافه به في مرتبة العلية محالا لأن كل كماله بالفعل وليس له كمال منتظر، وإن لم يكن من صفات كماله كان اتصافه به محالا، ولما علم السائل أن له ربا منزها عن الأين والكيف بل عن صفات الخلق كلها كما يرشد إليه الجواب عن الكيف (قال: فمن أين يعلم) غايب مجهول أو متكلم مع الغير.

(أنك نبي الله؟) سأل عن الآيات والمعجزات الدالة على صدقه في دعوى النبوة لعلمه بأن النبوة رئاسة عظيمة مطلوبة لكل أحد لا تثبت إلا بتصديق الرب تبارك وتعالى والعجب أن اليهودي كان يعلم ذلك وجماعة من هذه الامة لا يعلمون أن الإمامة التي هي أيضا رئاسة عظيمة مثل النبوة لا تثبت إلا بتصديق الرب حتى فعلوا ما فعلوا أخزاهم الله في الدنيا والآخرة.

(قال: فما بقي حوله) أي حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو حول سبحت (حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين) أي واضح الدلالة (يا سبحت إنه رسول الله) شهدوا بالرسالة مع أن السؤال في النبوة لكون الرسالة فوق النبوة ومستلزمة لها.

وفي كتاب التوحيد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «قال سبحت: فكيف لي أن أعلم أنه أرسلك فلم يبق

ص:159

بحضرتنا ذلك اليوم حجر ولا مدر ولا جبل ولا شجر ولا حيوان إلا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» (فقال سبحت: ما رأيت كاليوم أمرا أبين) أي أظهر (من هذا) في الدلالة على رسالة رسول من الرسل، وهذا واضح لأن كل معجزة من معجزات الرسل إنما نطقت بلسان الحال وهذه المعجزة نطقت بلسان الحال والمقال جميعا.

(ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله) لما كانت نيته صادقة كما أومأ إليه أولا هداه الله تعالى بفضله. والحمد لله رب العالمين.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من الصفة فرفع يده إلى السماء ثم قال: تعالى الجبار، تعالى الجبار، من تعاطى ما ثم هلك.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من الصفة) أي تحقيق شيء من صفات ذاته وكمالاته أو عن بيان شيء من كيفياته أو عن مائيته وحقيقته.

(فرفع يده إلى السماء) في رفع يده إلى السماء مع تساوي رفعها وخفضها بالنسبة إليه سبحانه وإلى علمه الشامل إيماء إلى علو شأنه ورفعة قدره.

(ثم قال: تعالى الجبار، تعالى الجبار) من أن يحيط الواصفون بحقيقة صفاته أو يتحرك السالكون إلى طلب كيفياته أو يقدر العارفون على معرفة كنه ذاته، والجبار من أسمائه تعالى وقد عرفت معناه آنفا.

(من تعاطى ماثم هلك) التعاطي التناول والجرأة على الشيء والخوض فيه يعني من تعرض لتحقيق ذات الحق وصفاته وخاض في معرفة حقيقتهما وأثبت له كيفية هلك هلاكا أبديا.

ص:160

باب في ابطال الرؤية

اشاره

أي رؤيته تعالى بالأبصار في الدينا والآخرة.

* الأصل:

1 - محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (عليه السلام) يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي أن يرى، قال: وسألته هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم عن يعقوب بن إسحاق قال كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام)) هو الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) (أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه؟) إن استبعد ذلك فليس بمستبعد لأن الرؤية القلبية أقوى من الرؤية العينية والنسبة بينهما عند أهل العرفان كالنسبة بين القلب والعين في القوة والشرف وإن سأل عن ذلك تثبيتا لما اعتقده وطلبا للقدرة على المناظرة مع الخصم فله وجه والثاني أنسب بحال هذا الرجل لأنه كان من أصحاب أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليهما السلام) وكان مقدما عندهما فقيها صدوقا لا يطعن عليه بشيء وقد قتله المتوكل لأجل التشيع (1) ويستبعد من مثله أن يخفى عليه أمر الرؤية في زمن الإمامين إلى زمان

ص:161


1- 1 - قوله «وقد قتله المتوكل» حمله الشارح على ابن السكيت تبعا لإسناد الموحدين وصدر المتألهين (قدس سره) وقال المجلسي (رحمه الله) إن ابن السكيت قتل في عصر الهادي (عليه السلام) ولم يدرك زمان أبي محمد (عليه السلام) وهو حق، وحملته أنا في حاشية الوافي على يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب وقلت هناك أنه أراد اختبار أبي محمد (عليه السلام) ولم يكن الفيلسوف يعرف الإمام حق المعرفة فأجاب (عليه السلام) بما يوافق أصول الفلاسفة فاستحسنه الفيلسوف ونقله لأصحابه وقد أورد المجلسي (رحمه الله) في احتجاجات العسكري (عليه السلام) عن المناقب كلاما منه (عليه السلام) أداه إلى ابن إسحاق الكندي بواسطة بعض تلاميذه لما أراد تأليف كتاب في تناقض القرآن فقال الإمام (عليه السلام) للتلميذ المذكور قل له لعله قد أراد أي لعل الله تعالى قد أراد من ألفاظ القرآن غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعا لغير معانيه فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أعد علي فأعاد عليه فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغا في النظر، والغرض من نقل ذلك أن الرابطة بين الإمام وهذا الرجل غير مستبعدة والعجب إن ذهن الشارحين لم يذهب إليه حتى حملوه على ابن السكيت. (ش)

العسكري (عليهم السلام).

(فوقع (عليه السلام)) قال الجوهري التوقيع ما يوقع في الكتاب (يا أبا يوسف جل سيدي) الذي وجبت علي طاعته (ومولاي) الذي هو ربي وناصري في جميع الأحوال (والمنعم علي وعلى آبائي) بالعلم والشرف والتقدم على العباد وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة (أن يرى) بالإبصار.

(قال: وسألته) من باب المكاتبة أيضا كما دل على الجواب (هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليه السلام) أن الله تعالى أرى رسول الله بقلبه من نور عظمته ما أحب) أي ما أحب الله أوما أحب رسوله ونظيره ما رواه مسلم بسنده أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «رآه بقلبه» وبسند آخر عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: «رآه بقلبه» وبسند آخر عن أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رآى.

ولقد رآه نزلة اخرى» قال: رآه بقلبه مرتين (1) قال بعض العامة في تفسيره: إنه (2) رآه بعين قلبه.

قال أبو عبد الله الآبي: ولا يعني قائل ذلك إنه خلق له إدراك بصري في قلبه لأن ذلك لا يخرجه

ص:162


1- 1 - راجع صحيح مسلم ج 1 ص 109.
2- 2 - قوله «قال بعض العامة في تفسيره» إن المرتكز في ذهن الإنسان - ما لم يصل إلى مقام يقتدر على التمييز بين الوهم والعقل - انحصار الموجود في الجسم المتحيز في مكان المقارن لزمان. قال القاضي سعيد القمي في شرح توحيد الصدوق - رحمهما الله تعالى -: لا يمكن للوهم بل لأكثر أرباب الفهم تصور أمر موجود من دون أن يتلبس بهما في الوجود حتى أن كثيرا من السوفسطائية من الفلاسفة وجما غفيرا من أرباب الديانة سيما في هذه الأمة المرحومة زعموا أن لا موجود إلا وهو فيهما - إلى قال - كما ذهب إليه أهل زماننا من المتسمين بالفضل والذكاء والمتسنمين ذرى الرئاسة العظمى إلى أن الزمان الموهوم الذي اخترعوه لتصحيح الحدوث الزماني أمر ينتهي طرفه إلى العالم وينتزع من بقاء الله تعالى القيوم وهذا عند أهل المعرفة فرية على فرية بل في الحقيقة كفر وزندقة وكل ذلك إنما نشأ من عدم تتبع الآثار النبوية وعدم الاقتداء في جميع الأمور بالعقايد المعصومية والاستبداد بالرأي الفاسد انتهى موضوع الحاجة وهو حسن جدا إلا الحكم بكفر هؤلاء لأن اقتران واجب الوجود بالزمان والمكان وإن كان ملزوما لكونه ممكنا ومحتاجا تعالى الله عن ذلك وقد صرح في الأخبار الكثيرة بنفيهما عنه تعالى إلا أن الملازمة بين الزمان أو المكان والاحتياج ليست بينة كما اعترف به ولا يكفر الإنسان إلا باللوازم البينة. وقال والد المجلسي - رحمه الله تعالى - إن المكان ملازم في ذهن العامة للموجود حتى أنهم إذا قالوا الله تعالى في لا مكان توهموا مكانا اسمه لامكان وبالجملة فلم يكن عند السلف غالبا تمييز بين المحسوس والموجود وكان يتبادر إلى ذهنهم من أن الله موجود أنه يمكن أن يكون مرئيا بالبصر وفي جهة وكان هذا بديهيا عندهم بحيث كانوا يستحلون تأويل ما ينافيه ولا يستحلون تأويل ما يوافقه فالتزموا بأن المؤمنين يرونه يوم القيمة ورآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المعراج وخالفهم عايشة وقليل من السلف وأنكروا الرؤية ثم لما وصلت النوبة إلى الأشاعرة والمعتزلة ذهب الأشاعرة إلى الرأي العام والمعتزلة إلى خلافه، واستمر الأمر إلى زماننا هذا. (ش)

عن كونه بصريا إذ لا يشترط في الإدراك البصري البنية المخصوصة لجواز أن يخلق في العصب أو غيره عن الأعضاء وإنما يعني أن العلوم تتفاوت فخلق له ليلة الإسراء أو في وقت مخصوص من الإدراك العلمي ما لم يكن له قبل وقد كانت حالاته في الأوقات متفاوتة كما قال: «لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرب، ولا نبي مرسل» وبما ذكرناه اندفع ما قال النووي إنه جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رآه كما يراه بالعين لأن ذلك لا يخرجه عن الرؤية العينية ولا يدخله في الرؤية القلبية.

وقال محي الدين البغوي: الحق أن الله تعالى يرى في الآخرة لما رواه مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم حذر الناس من الدجال «إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله، ويقرؤه كل مؤمن (1)» وقال: «تعلمون أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت» (2) إذ لو استحالت رؤيته فيها كما يقوله المعتزلة لم يكن للتقيد بالموت معنى.

وقال عياض: الحق أن رؤيته جايزة في الدنيا واختلف هل وقعت أم لا، لظاهر هذا الحديث ولقوله تعالى «لا تدركه الأبصار» على تأويل أنها في الدنيا وللسلف ومن بعدهم في ذلك اختلاف كثير وهل رآه النبي ليلة الإسراء، وعلل منعها بضعف هذه البنية (3) عن احتمال كمالها كما لم يحتمله موسى (عليه السلام) في الدنيا انتهى.

أقول: تقييد عدم الرؤية في حديث الدجال بقوله «حتى يموت» باعتبار أن الدجال يدعي الربوبية في الدنيا فكأنه قال: لا يرى أحد ربه في الدنيا فوجب أن لا يعتقد بربوبية الدجال ولا دلالة فيه على رؤية الرب في الآخرة إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة إتفاقا.

* الأصل:

2 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن ادخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرفة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام) فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس؟ لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء، أليس محمد؟ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: بلى، قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله

ص:163


1- 1 - الصحيح ج 8 ص 195 بدون ذكر قوله «يقرؤه من كره عمله».
2- 2 - رواه الترمذي ج 9 ص 87 في كتاب الفتن باب الدجال.
3- 3 - قوله «بضعف هذه البنية» وليس عدم الرؤية عندنا لضعف البنية بل لعدم كون الواجب جسما ولا بد في الرؤية أن يكون المرئي جسما. (ش)

وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما، وليس كمثله شيء، ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر، أما تستحيون، ما قدرت الزنادقة ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، قال أبو قرة: فإنه يقول:

(ولقد رآه نزلة اخرى) فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى. فآيات الله غير الله وقد قال الله: (ولا يحيطون به علما) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة، فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء؟.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث) هو صاحب شبرمة (1) كما صرح به الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج، وقال بعض الأصحاب اسمه علي بن أبي قرة أبو الحسن المحدث رزقه الله تعالى الاستبصار ومعرفة هذا الأمر أخيرا انتهى.

وإنما وصفه بالمحدث لئلا يتوهم أنه أبو قرة النصراني اسمه يوحنا صاحب الجاثليق وقد سأل أبو قرة هذا أيضا صفوان بن يحيى أن يدخله على الرضا (عليه السلام) فأدخله فسأله عن النبوة كما هو المذكور في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام).

(أن ادخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنما روينا) في بعض النسخ إنا بدل «إنما» قال في المغرب رويته الحديث حملته على روايته ومنه إنا روينا في الأخبار بضم الراء وشد الواو وكسرها.

(أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين (2)) على صيغة التثنية (فقسم الكلام لموسى ولمحمد

ص:164


1- 1 - «وهو صاحب شبرمة» أبو قرة وشبرمة كلاهما مجهولان وليس عبد الله بن شبرمة المتوفى سنة 144 على عهد الصادق (عليه السلام) لأنه لم يدرك الرضا (عليه السلام) وقد ذكر ابن حجر في التقريب موسى بن طارق القاضي المكنى بأبي قرة من الطبقة التاسعة وهو معاصر للرضا (عليه السلام) فلعله هو. (ش)
2- 2 - قوله «بين نبيين» كذلك في الاحتجاج، وفي التوحيد «بين اثنين» واعلم أنه قد روى هذا الحديث في الكتاب وفي توحيد الصدوق وفي الاحتجاج وهو أجمع وأطول وينبغي لمن أراد أن يعرف مقدار اختلاف الروايات في الألفاظ وحفظ المعنى وحده أن يقابل بين الرويات المختلفة لخبر واحد كهذا الخبر حتى يعلم أن طريقه أهل عصرنا في التمسك بمزايا الألفاظ المروية ودقائقها ودعوى الظن الاطميناني بصدورها غير معتمدة. وروى في الاحتجاج قبل السؤال عن الرؤية السؤال عن كلام الله وأنه قديم أو حادث وكذلك عن الكتب المنزلة ثم أتى بما في هذا الكتاب ثم نقل مسائل أخرى نحو ثلاثة أمثال ما في الكتاب وجميعها شبهات في التجسيم: الأولى: المعراج فإنه لم يكن الله تعالى في السماء كيف اسرى به إليه وما فائدة المعراج؟. الثانية: ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟. الثالثة: من أقرب إلى الله؟ الملائكة أو أهل الأرض؟. الرابعة: ان الله تعالى محمول على أي شيء؟. الخامسة: إن الله تعالى إذا غضب ثقل فثقل العرش على كواهل الحملة وإذا ذهب الغضب خف؟ فأجاب الرضا (عليه السلام) عن شبهتهم الأولى بأن الإسراء لم يكن لتحصيل القرب المكاني إلى الله تعالى بل ليريه من آيات ربه الكبرى وآيات الله غيره فرأى (صلى الله عليه وآله وسلم) في المعراج أمورا نقلته الرواة من صفوف الملائكة وطبقاتهم ومراتب الأنبياء والجنة والنار وثواب كل عمل صالح وعقاب كل فعل قبيح وغير ذلك، وعن الشبهة الثانية بأن رفع اليد إلى السماء تذلل واستكانة نظير التوجه إلى القبلة في الصلاة والحج إلى البيت لا لأن الله تعالى هناك، وعن الشبهة الثالثة بأن قرب الملائكة ليس بالشبر والذراع بل تقرب بالوسيلة وقد روي «أن أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى وهو ساجد» ولو كان التقرب بالمكان لكان القيام أقرب بل كان الإنسان على المنارة أقرب منه على الأرض، وعن الشبهة الرابعة بأن المحمول محتاج وهو صفة نقص بل هو يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وعن الشبهة الخامسة بأن الله تعالى دائم الغضب على إبليس واتباعه ويجب أن لا يخف العرش أبدا وأن التغير لا يجوز عليه تعالى. هذا خلاصة تمام الحديث على ما في الاحتجاج أوردناه تكميلا للفائدة. (ش)

الرؤية) تخصيص الكلام بموسى (عليه السلام) غير ثابت لثبوته لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاتفاق كما دل عليه حديث المعراج.

(فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء) قوله «لا تدركه الأبصار» وما عطف عليه مفعول المبلغ (أليس محمد؟) مبلغ هذه الآيات بحذف الخبر والاستفهام للتقرير، وجعل محمد خبر مبتدء محذوف واسم ليس ضمير المبلغ أي أليس المبلغ هو محمد بعيد (قال بلى) هو محمد (قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول «لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كملثه شيء» ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر؟!) كما رويتم أنه خلق آدم على صورته.

(أما تستحيون) من الله فيما ذهبتم إليه؟ (ما قدرت الزنادقة) الظاهر أن «ما» نافية (أن ترميه) أي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) (بهذا أن يكون) بدل لهذا (يأتي من عند الله بشيء) هو أنه لا يدركه الأبصار.

ص:165

(ثم يأتي بخلافه من وجه آخر) وهو أني رأيته ببصري والحاصل أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ إلى الإنس والجن هذه الآيات التي دلت على أنه لا تتعلق به الرؤية ولا يدركه بصر من الأبصار ومن المحال أن يقول بعد هذا أنا رأيته ببصري لاستحالة أن يأتي بالمتناقضين فقد رميتموه بشيء لا تقدر الزنادقة أن ترميه به، أما دلالة الآية الأولى على نفي الرؤية فلأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياقه فيعم النفي كل إدراك بالبصر سواء كان يكنه الحقيقة أو لا، فاندفع ما قيل: من أن الإدراك أخص من الرؤية ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، لا يقال: يجوز تخصيص هذه الآية بكنه الحقيقة للأخبار الدالة على جواز الرؤية لأنا نقول جواز تخصيص القرآن بخبر الواحد على تقدير صحته ممنوع، ولو سلم فنقول: تخصيص الرؤية في الأخبار بالرؤية القلبية أسهل وأولى (1). لا يقال:

الرؤية القلبية ثابتة لجميع الأنبياء فلا وجه لتخصيصه بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنا نقول: الرؤية القلبية تتفاوت فيجوز أن يخلق الله تعالى له من الإدراك العلمي ما لم يخلقه لغيره من الأنبياء والرؤية التي قسمها الله تعالى له هي هذه الرؤية الكاملة، ثم هذا على تقدير أن يكون الإدراك في الآية أخص من الرؤية وهو ممنوع، لأن المنفي هو الإدراك بالبصر وهو يساوي الرؤية.

وأما دلالة الآية الثانية على نفي الرؤية فلأن المقصود منها نفي إحاطة العلم: به مطلقا أي كما وكيفا وجهة وكنها، فلو تعلقت الرؤية به لكان معلوما بأحد الوجوده المذكورة وهي كالسابقة سؤالا وجوابا، ثم احتياجنا إلى هذه المقالات لأن كلامنا مع الخصم وإلا فتفسير المعصوم حجة، ولما لم يكن للخصم مفسر عالم يرجع إليه ذهب إلى ما اقتضاه رأيه فوقع في هذه المفاسد من جواز الرؤية وأمثالها مما يمتنع عليه سبحانه، وأما دلالة الآية الثالثة فلأن المقصود منها نفي المماثلة عنه مطلقا فلو تعلقت به الرؤية لكان مصورا بصورة وممثلا بكيفية ومتحيزا بحيز وواقعا في جهة فيكون مماثلا لخلقه من وجوه متعددة، تعالى الله عن ذلك.

ص:166


1- 1 - قوله «بالرؤية القلبية أسهل» في الجزء التاسع من تفسير المنار الصفحة 150 «والحق في ذلك ما هدانا إليه دين الحق وهو أن إدراك أبصار الخلق له سبحانه وتعالى وأحاطة علمهم به من المحال الذي لا مطمع فيه «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما» ولكن العجز عن الإدراك والإحاطة يستلزم العجز عما دون ذلك من العلم والمعرفة التي ترتقي إلى الدرجة التي عبر عنها بالتجلي والرؤية. انتهى موضع الحاجة. وأطال بعد ذلك الكلام بما يرجع إليه وهذا عين تأويلنا وتأويل المعتزلة وقد خالف في ذلك أصحابه والحاصل أن المعرفة التامة والكشف الضروري ليس رؤية كما أنا نعلم أن الكل أعظم من الجزء وهذا واضح لدينا كالشمس مشرقة والنار محرقة بل أوضح، ولا يسمى هذا رؤية إلا مجازا فإن كان مراد المدعين للرؤية هذا الكشف التام فمرحبا بالوفاق ولكن لا يكتفي بذلك أصحابه بل يدعون الرؤية الحقيقة بالبصر وهذا شأن الجسم. (ش)

(قال أبو قرة: فإنه يقول: «ولقد رآه نزلة اخرى») قال القاضي مرة أخرى فعلة من النزول اقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعارا بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضا بنزول ودنو، وقيل: التقدير ولقد رآه نازلا نزلة اخرى، ونصبها على المصدر والمراد نفي الريبة عن المرة الأخيرة.

(فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال) أولا قبل هذه الآية (1)، فهذا بيان للدلالة على ما رأى وتمهيد لها لا إشارة إلى البعد وبيان له.

(«ما كذب الفؤاد ما رأى» يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه) وما شك فيه بل عرفه حق المعرفة وصدق به تصديقا جازما (ثم أخبر) بعد هذه الآية (بما رأى فقال: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فآيات الله غير الله) استدل أبو قرة على أن النبي (عليه السلام) رآه سبحانه بالعين بقوله تعالى «ولقد رآه نزلة اخرى» بناء على أن ضمير المفعول راجع إلى الله تعالى، فأجاب (عليه السلام) بأن الضمير ليس براجع إليه سبحانه بل إلى آية من آياته الكبرى ومخلوق من مخلوقاته فهي مرئية كما دل عليه ما بعده هذه الآية وقد ذهب إلى هذا أيضا بعض العامة لما رواه مسلم في كتابه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن زر، عن عبد الله «ما كذب الفؤاد ما رأى» قال: رأى جبرئيل (عليه السلام) له ستمائة جناح (2)» وقال أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثني علي ابن مسهر، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة «ولقد رآه نزلة اخرى» قال: «رأى جبرئيل (عليه السلام) (3)» بصورته التي له في الخلقة الأصلية على أن لقائل أن يقول على تقدير أن يكون الضمير راجعا إليه سبحانه يكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية على الوجه الكمال إلا أن الحق الذي لا ريب فيه ما ذكره (عليه السلام).

(وقد قال الله «ولا يحيطون به علما» فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت (4) به العلم وقعت المعرفة) أي المعرفة الضرورية المستلزمة للإحاطة بالضرورة ولما قرر أولا دليل الخصم على وجه لا يدل على مطلوبه وبين غلطه أورد هذا دليلا على نقيض مطلوبه وهو عدم جواز رؤيته تعالى ووجه دلالته على ذلك ما ذكرنا آنفا.

(فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟) أي بالروايات الدالة على رؤيته (فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن) بحيث لا يمكن الجمع بينهما (كذبتها) لأن كل خبر مخالف للقرآن

ص:167


1- 1 - لنا في هذا المقام كلام يأتي الإشارة إليه قريبا إن شاء الله. (ش)
2- 2 - الصحيح ج 1 ص 109 والمراد بالزر زر بن حبيش - بكسر الزاي المعجمة وتشديد الراء المهملة - والمراد بعبد الله عبد الله بن مسعود.
3- 3 - المصدر ج 1 ص 109.
4- 4 - وفي نسخة أحاط بالتذكير وهو الأصح (ش)

فهو مردود باتفاق الامة (1).

(وما أجمع المسلمون على أنه لا يحاط به علما (2)، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء)

ص:168


1- 1 - قوله «فهو مردود باتفاق الأمة» صرح (عليه السلام) بأن الروايات إذا كانت مخالفة للقرآن وجب ردها وكذلك إذ كان مخالفا لإجماع المسلمين وهذه الروايات مخالفة لكليهما وفيه رد على الأخباريين أيضا. فان قيل كما جاء في القرآن الكريم امتناع الرؤية كذلك ورد فيها إمكان الرؤية مثل قوله تعالى «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» قلنا: نعم ورد ذلك أيضا لكن القاعدة في أمثاله أن يتأول ما يحتمل المجاز دون ما لا يحتمل وإطلاق النظر والرؤية مجازا على الكشف التام شائع جدا ويحتمله الآيات والروايات ولكن ما يدل على عدم الرؤية نص صريح لا يحتمل إرادة المعنى المجازي منه وغاية ما يمكن فيه من المجاز أن يرى الإنسان شيئا ولا يعمل بمقتضى الرؤية فيقال إنه ما رآه ولا يحتمل ذلك قوله تعالى «لا تدركه الأبصار» وكلام الإمام (عليه السلام) صريح في أن ما يخالف القرآن مردود بالاتفاق. (ش)
2- 2 - قوله «وما أجمع المسلمون عليه» حجة على حجية الإجماع وانه يرد به الخبر الواحد وخالف فيه الإخباريون فشكوا في وجوده أولا وإمكان العلم به ثانيا وحجيته ثالثا وفي كلام الرضا (عليه السلام) رد عليهم في دعواهم بحذافيرها، فإن قيل: كيف تمسك الإمام (عليه السلام) بالإجماع في محل الخلاف وهذا مما يعيب به الفقهاء بعضهم بعضا؟ قلنا قد يتفق أن يجتمع الأمة على حكم كلي ويختلفوا في تطبيقه على بعض المصاديق فيصح دعوى الإجماع على الحكم الكلي ولم يعب به فقيه فقيها وإنما عاب به الإخباريون أعاظم المجتهدين لعدم تدبرهم في الأمور وبالجملة أجمع المسلمون على وجوب قبول مدلول قوله تعالى «لا تدركه الأبصار» أما النافون للرؤية فظاهروا أما المثبتون فلانهم الظاهريون الذين لا يجوزون التأويل حتى في يد الله ووجه الله وأن الرحمن على العرش استوى و «أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض» و «إليه يصعد الكلم الطيب» وغيرها وكذلك أجمعوا على وجوب قبول ما دل عليه قوله تعالى: «لا يحيطون به علما. وليس كمثله شيء» ومضامين هذه الآيات مجمع عليها بين المسلمين وينافيه إمكان الرؤية وخالف من خالف لا لمخالفته في الحكم الكلي بل لأنه زعم عدم منافاته للرؤية. قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في صلاة البحار ص 733 بعد كلام لا أحب نقله لأنه قدح في فقهائنا رضوان الله عليهم أن السيد وأضرابه كثيرا ما يدعون الإجماع فيما ينفردون به في القول به أو يوافقهم عليه قليل من أتباعهم وقد يختار هذا المدعى للإجماع قولا آخر في كتابه الآخر، وكثيرا ما يدعى أحدهم الإجماع على مسألة ويدعي غيره الإجماع على خلافه. انتهى موضع الحاجة وقد تبين من كلام الإمام (عليه السلام) حل هذه الشبهات لأنه (عليه السلام) تمسك بالإجماع في محل الخلاف وقال أيضا طاعنا أنهم ادعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء ظهر الاختلاف فيها أم لا، وافق الروايات المنقولة فيها أم لا. وظهر دفع هذه الشبهة أيضا لأن الرؤية إن كانت مخالفة للإجماع وجب ردها والعجب أنه (قدس سره) مع كثرة تتبعه لكلام علمائنا رضوان الله عليهم لم يعتن بما رأى منهم كثيرا في جميع أبواب الفقه من رد الروايات المخالفة للإجماع وهذا دأبهم وطريقتهم ولا يتوقع منهم غيره ولا يحتمل سواه. وبالجملة إذا أثبت الإجماع فلا يعبأ بمخالفة الروايات المنقولة، وقال أيضا حجية الأخبار ووجوب العمل بها مما تواترت به الأخبار واستقر عليه عمل الشيعة بل جميع المسلمين في جميع الأعصار بخلاف الإجماع الذي لا يعلم حجيته ولا تحققه ولا مأخذه ولا مراد القوم منه انتهى ويستفاد من كلام الإمام (عليه السلام) أيضا جوابه فإنه (عليه السلام) رد الرواية بمخالفة الإجماع وهذا غير ممكن إلا مع إمكان تحققه والعلم به وقد سبق منا كلام في المجلد الثاني الصفحة 290. (ش)

والروايات المخالفة لذلك باطلة مصنوعة فمن تمسك بها وقال إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رآه بالعين خالف القرآن وإجماع المسلمين وخرج عن الإسلام، على أن الروايات على تقدير صحتها لا نص فيها على أنه رآه بالعين فيجوز حملها على أنه رآه بالقلب، وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (رحمه الله) «قال صفوان فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج».

* الأصل:

3 - أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سيف، عن محمد بن عبيد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة وسألته أن يشرح لي ذلك، فكتب بخطه: اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة ضرورة ثم لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان لأنها ضده، فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول ولا تزول في المعاد فهذا دليل على أن الله عز وجل لا يرى بالعين إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سيف، عن محمد بن عبيد قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة) من جواز رؤيته في الآخرة (والخاصة) من عدم جوازها (وسألته أن يشرح لي ذلك) أي يوضح إلي عدم جوازها بالبرهان والبرهان الذي ذكره (عليه السلام) يتضح بعد تمهيد مقدمات (1) كلها ضرورية الاولى أن الشيء الواحد له 169


1- 1 - قوله «بعد تمهيد مقدمات» إن الله تعالى خلق لإدراك كل شيء قوة وآلة تختص به فللصوت السمع وللأرواح الشم واللون والضوء الباصرة ولغير المحسوس العقل والإنسان مجبول على تميز المدركات باختلاف الإدراك وأضرب مثالا يتضح لك الأمر إن شاء الله، مثلا كلمة جمل بالضم قد يكون علما لا مرأة وقد يكون جمع جملة، فإن قلت رأيت جملا ما أجملها حمله السامع على المرأة لمكان رأيت وإن قلت سمعت جملا ما أجملها حمله على الكلام لمكان سمعت حيث أن المرئي جسم والمسموع صوت فالشيء القابل للرؤية غير الشيء القابل للسمع وكذلك سائر الحواس والمدارك والله تعالى إن كان من شأنه أن يدرك بالبصر فهو غير الذي ليس من شأنه ذلك ولا شك أن الله تعالى الذي آمنا به في الدنيا وعبدناه ليس شيئا من شأنه أن يدرك بالبصر في الدنيا باتفاق من المسلمين إلا جماعة من المجسمة ومذهبهم مردود باتفاق أهل التحقيق ولاشك أيضا أنه تعالى في الآخرة هو الذي كنا عبدناه في الدنيا ولو كان شيئا من شأنه أن يدرك بالبصر في الآخرة كان غير الذي من شأنه أن لا يدرك به في الدنيا كما أن المسموع في مثالنا غير المرئي ويغلط من حمل أحدهما على الآخر ولا يمكن التغير في ذاته تعالى بأن يكون في الدنيا غير قابل لأن يدرك بالبصر لكونه مجردا، ثم يتغير ويصير في الآخرة جسما كثيفا ملونا يليق بأن يبصر ولا يمكن التغير في باصرة الإنسان أيضا بأن يصير قابلا لأن يبصر غير الضوء واللون في نشأة من النشآت فإن قيل لا نسلم هذا الأخير فلعل القوة الباصرة تصير أقوى في الآخرة بحيث يرى ما لم يكن يرى كما في المنظار والآلات المكبرة. والتلسكوبات في عصرنا، قلنا القوة الباصرة كلما قويت لم تقدر على رؤية غير الضوء واللون ولا يمكن أن يرى الأصوات والطعوم بل يرى اللون والضوء فقط ولو بالآلات المكبرة. وقد روى الصدوق (رحمه الله) في الأمالي عن إسماعيل بن الفضل قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا يا ابن الفضل الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية والله تعالى خالق اللون والكيفية». أقول: الكيفية هنا الشكل نعم يجوز أن يقوي مدارك المؤمن في الآخرة بحيث يكشف لديه بغير الأبصار الخفيات من الأمور ولكن لا يسمى ذلك أبصارا إذ ليس فيه حقيقة معنى الأبصار وهو تأثر الباصرة بالنور الساطع من الجسم المرئي بآلة أو غير آلة وأقرب الأمور إلى الأبصار الرؤيا بالحس المشترك ما ينعكس فيه من الخيال كما في القطر النازل والشعلة الجوالة وما يراه المبرسمون وهو أيضا لا يجوز عليه تعالى لعدم كونه صورة تنطبع في الخيال. وبالجملة خلق الله تعالى لإدراك كل شيء قوة أو جارحة فالمعقول يدرك بالعقل والضوء بالبصر والصوت بالسمع وهكذا ولا يطلق الأبصار على إدراك الصوت كلما وضح وكذلك على إدراك المعقول بطريق أولى. (ش)

حقيقة واحدة ولا يجوز أن يكون له حقايق متعددة متخالفة كانت أو متضادة، الثانية: أن كل حقيقة إما نظرية حاصلة بالاكتساب أو ضرورية غير مفتقرة إليه ولا يجوز أن تكون نظرية وضرورية معا لأنهما نوعان متباينان من العلم، الثالثة أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد نظريا وضروريا في وقت واحد لاستحالة اجتماع الضدين في ذات واحدة في وقت واحد.

(فكتب بخطه اتفق الجميع لا تمانع بينهم) أي اتفق جميع الامة ولا تنازع بينهم (أن المعرفة من جهة الرؤية) أي التصديق بوجود شيء من جهة رؤيته (ضرورة) (1) غير محتاجة إلى النظر والاستدلال ألا ترى أنك إذا رأيت شيئا عرفت وجوده من غير نظر حتى أن من طلب منك الدليل على وجوده نسبته إلى السفه والجنون.

ص:170


1- 1 - قوله «ضرورة غير محتاجة» هذا يدل على جواز استعماله اصطلاح أهل المنطق والفلسفة ولا يصغي إلى كلام بعض الجهال إن هذه الاصطلاحات لم يوجد في أخبار البيت (عليهم السلام) كالهيولى والصورة والعلة والمعلول فلا يجوز لنا التكلم بها بل أفرط الغزالي في بعض كتبه حتى غير اصطلاحاتهم في الأشكال الأربعة وقياس الخلف أيضا تقربا إلى الجهلة. (ش)

(فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة) بوجوده (ضرورة) (1) بلا خلاف والمناسب «لو» بدل «إذا» إلا أنه بنى الكلام على المماشاة مع الخصم القائل بجواز الرؤية.

(ثم لم تخل تلك المعرفة) الضرورية من جهة الرؤية (من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان) لا ثالث لهما إذ لا واسطة بين النفي والإثبات وكل واحد من هذين القسمين باطل، أما الأول فأشار إليه بقوله (فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان) والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بيان الشرطية فأشار إليه بقوله (لأنها ضده) أي لأن الرؤية ضد الاكتساب لأن الرؤية تفيد العلم الضروري والاكتساب يفيد العلم الكسبي فإن كان الأول إيمانا لم يكن الثاني إيمانا لأن الإيمان له حقيقة واحدة بحكم المقدمة الأولى وتلك الحقيقة إن كانت ضرورية لم تكن نظرية بحكم المقدمة الثانية.

وأما بطلان التالي فأشار إليه بقوله (فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره) في الدنيا وإذا لم يروه لم يكونوا مؤمنين إذ الفرض أن الايمان هو المعرفة من جهة الرؤية وهذا باطل بالاتفاق فقد ثبت أن المعرفة من جهة الرؤية ليست بإيمان.

وأما بطلان القسم الثاني فأشار إليه بقوله (وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة) التي حصلت في الدنيا (من جهة الاكتساب أن تزول) (2) أي لا بد من أن تزول

ص:171


1- 1 - قوله «المعرفة بوجوده ضرورة» قسم أهل المنطق التصديقات الضرورية إلى ستة أقسام الأوليات، المشاهدات، التجربيات، المتواترات، الحدسيات، الفطريات، ولا ريب أن التصديق بوجود الواجب تعالى ليس أوليا إلا لبعض الكمل من الأولياء وهم خارجون من محل النزاع ومعنى الأولى أن يكون تصور الموضوع والمحمول كافيا في الجزم بالحكم نحو الكل أعظم من جزئه وأما ساير الأقسام فليس علم أحد بوجوده تعالى مشاهدا ولا معلوما بالتجربة والتواتر ولا من القضايا التي قياساتها معها أعني الفطري وكونه فطريا له معنى آخر وليس معلوما بالحديث إلا للأوحدي من الناس فالعلم بوجوده تعالى اكتساب وإذا أخرجنا الأوليات والحدسيات من الضروريات صدق قولنا لا يمكن أن يكون شيء من الضروري اكتسابا في وقت ولا شيء من الاكتساب ضروريا في وقت أي لا شيء من المدرك بالحس مدركا بالعقل في وقت، ولا شيء من المدرك بالعقل مدركا بالحس في وقت، وإنا نعلم في الدنيا وجود الواجب مجردا مدركا بالعقل غير قابل لأن يدرك بالحس فإن كان هذا صحيحا كان إيمانا وإن لم يكن صحيحا لم يكن إيمانا بل كفرا وجعل ما ليس بإله إلها وفي الآخرة إن وجدناه بالبصر كان شيئا محسوسا غير مجرد وهو غير ما آمنا به في الدنيا. (ش)
2- 2 - قوله «من جهة الاكتساب أن تزول» قال الشارح في بيانه: أن المعرفة بالاكتساب تزول بالمعرفة الضرورية للتضاد بينهما وفيه منع ظاهر إذ ربما يحصل الإنسان العلم بوجود شيء بالدليل كالعلم بالباني من مشاهدة البناء، ثم يشاهد ذلك الباني فيكمل الدليل بالوجدان والبرهان بالعرفان فالأصح في بيانه ما قلناه. وأورد المجلسي (رحمه الله) ثلاثة وجوه في تفسير هذا الحديث في مرآة القول وقال الوجه الثالث ما حققه بعض الأفاضل ومراده صدر المتألهين (قدس سره) وذكر كلامه في شرح الأصول وكذلك في البحار (المجلد الثاني ص 122) وأورد الاعتراض على الوجه الأول والثاني وضعفهما دون ما نقله عن الصدر (قدس سره) وقال: جميع هذه الوجوه لا تخلو عن تكلف. وليس بين ما ذكرنا وما حققه صدر المتألهين كثير فرق في أصل المعنى وبما ذكرناه يزول ما يتوهم من التكلف في تفسيره إن شاء الله ثم أن قوله (عليه السلام) «لم تخل هذه المعرفة» من جهة الاكتساب أن تزول لا يحتاج إلى عدل ومعناه أن هذه المعرفة الاكتسابية في الدنيا لا بد أن تزول بسبب الرؤية لأنا إذا رأيناه في الآخرة بأبصارنا تبين لنا أنه لم يكن مجردا غير جسماني كما كنا علمناه في الدنيا بالاكتساب وزعم بعض الشراح أنه لا يصح الكلام إلا بضميمة عدل هكذا: لم تخل هذه المعرفة من الاكتساب من أن تزول، أو لا تزول وحذف لا تزول لدلالة الكلام عليه ولا حاجة إليه. (ش)

في المعاد لاستحالة اجتماع المعرفة الضرورية التي من الرؤية والمعرفة النظرية التي هي ضدها في شخص واحد في وقت واحد بحكم المقدمة الثالثة.

(ولا تزول في المعاد) أي والحال أن هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب لا تزول في الآخرة لأن حشر المؤمن بلا إيمان باطل بالاتفاق، لأن ما اكتسبته النفس في الدنيا من الكمالات والمعارف كان معها بعد فراق البدن (1) وفي الآخرة بلا خلاف وإذ كانت هذه المعرفة باقية غير زايلة في الآخرة امتنع أن تحقق تلك المعرفة الضرورية التي هي ضدها بحكم المقدمة الثالثة فقد ثبت بطلان القسم الثاني أيضا فإذن بطل القسمان كلاهما وإذا بطلا بطل جواز رؤيته بالعين لأنه منحصر فيهما كما أشار إليه بقوله (فهذا دليل على أن تعالى الله ذكره لا يرى بالعين إذ العين تودي إلى ما وصفناه) من أنه يلزم على تقدير تحقق الرؤية العينية أن يكون في الدنيا مؤمن أو يزول الإيمان المكتسب في الآخرة، وقد عرفت بطلانهما بالعقل والإجماع وبطلان اللازم دليل على بطلان الملزوم، فإن قلت:

كما يلزم على تقدير أن تكون تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا أن لا يكون في الدنيا مؤمن كذلك يلزم أن تزول المعرفة الكسبية في الآخرة لاستحالة اجتماع العلم الضروري والعلم النظري بشيء واحد في وقت واحد وكما أن اللازم الأول باطل كذلك اللازم الثاني أيضا باطل فلم لم يذكر (عليه السلام)

ص:172


1- 1 - قوله «كان معها بعد خراب البدن» من القوى ما يتوقف على البدن ويفنى بفساد البدن كالقوة الهاضمة والنامية والباصرة التي في العين والسامعة التي في الأذن فإذا فسد مزاج العين والأذن بطل البصر والسمع كما هو مشاهد في الأعمى والأصم. ومنها ما لا يتوقف على البدن ولا يفنى بخراب البدن كالقوة العاقلة ومدركاتها وملكاتها والإيمان من هذا الأخير وكلام الإمام (عليه السلام) أن المعرفة الاكتسابية لا تزول في المعاد يدل على أن الجزئي المدرك بالحس لا يكون اكتسابا كما قال صاحب المنطق: الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا بل المعرفة الاكتسابية كلية والكلية تدرك بالعقل وكذلك المجرد والعقل لا يفنى بفساد البدن لأنه يدرك الكليات والمجردات وأما الحافظة للمحسوسات أعنى الخيال وحافظة المعاني الجزئية والحس المشترك فتكلموا واختلفوا فيها وفي حال النوم يبطل الحواس الظاهرة دون الحس المشترك والخيال وأما الحافظة فقد يبقى وقد يبطل فيرى الإنسان رجلا يعرفه في النوم وينسى أنه مات فإذا استيقظ تذكر موته وللبحث في ذلك محل آخر إن شاء الله تعالى. (ش)

اللازم الثاني في القسم الأول أيضا؟ قلت: إما لأنه لا فساد في زوال المعرفة الكسبية في الآخرة على تقدير أن لا يكون تلك المعرفة إيمانا، أو لأن ما ذكره في القسم الأول كاف لإبطاله وما ذكره لإبطال القسم الثاني يستفيد منه العارف اللبيب وجها آخر لإبطال القسم الأول فأحال ذلك إلى فهمه.

ويخطر بالبال هنا إشكال في غاية الصعوبة (1) وهو أن هذا الدليل يجري فيما يجوز رؤيته بالاتفاق من أحوال القيامة مثل السؤال عن القبر والجنة والنار والصراط والميزان فإن معرفة هذه الامور عند مشاهدتها ضرورية وفي الدنيا كسبية فيجري فيه هذا الدليل بعينه، اللهم إلا أن يقال معرفة هذه الامور في الدينا أيضا ضرورية لحصولها بقول الرسول الصادق الأمين كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ولا يجري مثل هذا الجواب فيما نحن فيه لأن معرفة وجود الباري لا يمكن أن تحصل بقوله لاستحالة الدور فليتأمل.

* الأصل:

4 - وعنه عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم يصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

* الشرح:

(وعنه عن أحمد بن إسحاق) في مرجع الضمير خفاء يزول بعد التأمل (قال كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسألة عن الرؤية وما اختلف فيه الناس) من جوازها واستحالتها قد ذكرنا آنفا

ص:173


1- 1 - قوله «إشكال في غاية الصعوبة» كان الشارح - رحمه الله تعالى - لم ينل وجه الكلام على ما هو عليه ولم يعطه حق النظر ولذلك خطر هذا بباله وإلا فلا إشكال فيه فضلا عن صعوبته لأن الذي حصل لنا من المعرفة الاكتسابية بالدليل العقلي في المعاد أمر إجمالي وهو العقاب في الجملة والثواب في الجملة ولا ينافي ذلك كونهما بالصفات التي بينها الشارع لنا تفصيلا وإذا رأينا في المعاد ما بين لنا لم يتغير علمنا وإيماننا بخلاف ايماننا بالله تعالى المجرد الذي لا يمكن أن يرى بالبصر فإنا إذا رأيناه في الآخرة بالبصر تغير علمنا وتبين لنا أن الذي كنا آمنا به غير ما هو حق وواقع وبالجملة ليس كون شيء معلوما بالضرورة وكونه بعينه معلوما بالاكتساب موجبا لتغير العلم والمعلوم إذ قد يكون شيء واحد بعينه معلوما بالاكتساب ثم بالضرورة ولكن كون شيء، غير ممكن أن يعلم بالمشاهدة ينافي كونه مشاهدا لعدم احتمال تغير الشيء عن ماهيته والأصل في تفسير هذا الحديث صدر المتألهين (قدس سره) وكان يجب على الشارح إمعان النظر فيه أكثر من هذا حتى لا يرد عليه الإشكال. (ش)

بعض شبه المجوزين مع الجواب عنه ولا بأس أن نشير هنا إلى بعض آخر من شبهاتهم مع الجواب على سبيل الإجمال لتحصل الإحاطة بجهات كلامهم فنقول نقل الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن بعض علمائهم أنه قال: رؤية الله تعالى جايزة في الدنيا عقلا لأنه تعالى علق رؤية موسى (عليه السلام) على استقرار الجبل وهو في نفسه أمر ممكن والمعلق على الممكن ممكن ولأنها لو كانت ممتنعة لم يسألها بقوله «رب أرني أنظر إليك» لأن العاقل لا يطلب المحال فسؤالها دل على أنه كان يعتقد جوازها فتكون جايزة وإلا لزم جهل النبي العظيم المعزز بالتكليم بما يجوز عليه ويمتنع واختلف في وقوعها وفي أنه هل رآه ليلة الإسراء (1) أم لا فأنكرته عايشة وجماعة من الصحابة والتابعين والمتكلمين وأثبت ذلك ابن عباس وقال: إن الله اختصه بالرؤية وموسى بالكلام وإبراهيم بالخلة، وأخذ به جماعة من السلف والأشعري في جماعة من أصحابه وابن حنبل وكان الحسن يقسم لقد رآه وتوقف فيه جماعة، هذا حال رؤيته في الدنيا وأما رؤيته في الآخرة فجايزة عقلا وأجمع على وقوعها أهل السنة للآيات وتواتر الأحاديث وأحالها المعتزلة والمرجئة والخوارج والفرق بين الدنيا والآخرة أن القوى والإدراكات ضعيفة في الدنيا إذا كانوا في الآخرة وخلقهم للبقاء قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته (2)

ص:174


1- 1 - قوله «هل رآه ليلة الإسراء» قال السهيلي في الروض الآنف شرح السيرة: قد تكلم العلماء في رؤية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لربه ليلة الإسراء فروى مسروق عن عايشة أنها أنكرت أن يكون رآه وقالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية واحتجت بقوله سبحانه «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» وحكى عن أبي الحسن الأشعري أنه قال رآه بعيني رأسه في تفسير النقاش عن ابن حنبل قال: رآه رآه رآه حتى انقطع صوته - إلى أن قال - لا استحالة فيه لأن حديث الإسراء إن كان رؤية رآها بقلبه وعينه نائمة كما في حديث أنس فلا إشكال فيما يراه في نومه (عليه السلام) فقد رآه في أحسن صورة ووضع كفه بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه ولما كانت هذه رؤيا لم ينكرها أحد من أهل العلم ولا استبشعها وقد بينا آنفا أن حديث الإسراء كان رؤيا ثم كان يقظة انتهى ما يهمنا من كلامه. وفيه إشكالات ليس غرضنا البحث فيها وإنما نقلناه لأنه غاية جهد المنصفين منهم في توجيه مقالة أسلافهم فالسهيلي مع كمال فطنته وتبحره لم يجد بدا من أن يتأول رؤية الرب ووضع يده برؤيا النوم ورؤيا النوم خارج عن محل الكلام إذ ليس رؤية بالعين مع أن كون الإسراء في النوم وإن ورد في روايات من طرقهم ونقل عن قدمائهم لكنه خلاف المشهور بينهم وعايشة كانت تقول بالمعراج الروحاني فقط ومع ذلك أنكرت الرؤية فلا ملازمة بين الرؤية والمعراج الروحاني ولا بين إنكارها والمعراج الجسماني كما يستفاد من كلام السهيلي، ثم أن رؤيا الأنبياء ليست إلا حقيقة ولو احتمل الخطأ فيها لم يكن وحيا وقد أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده في النوم كما قال «إني أرى في المنام أني أذبحك». (ش)
2- 1 - قوله «قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته» لا ريب أن الموجودات الغيبية والملائكة المقربين والعقول المجردة أقوى وأكمل من النفوس المتعلقة بالأبدان بدليل أنهم الملهمون والمكملون للنفوس وأيضا أنهم العالمون بالأسرار والغيوب ويطلع نفوسنا على الغيب في المنام والرؤيا الصادقة بارتباطها معهم كما سبق وكذلك نفوس المؤمنين إذا فارقت الأبدان وانخرطت في سلك المجردات لا بد أن يكونوا أكمل وأقوى فلو كان وجود الأبدان والجوارح والقوى الجسمية كالباصرة والسامعة كما لا ينقص بفقدانها لزم كون النفوس البشرية المتعلقة بالأبدان أكمل من الله تعالى والعقول المجردة بوجود الجوارح الحساسة وليس كذلك فلا بد أن يكون لهم إدراك أكمل وأقوى من إحساس الجوارح بحيث لا يحتاج إلى جوارح فيرون بلا عين رؤية أقوى مما نراه بأعيننا فيرون البعيد غاية البعد والصغير غاية الصغر ولا يحجبهم الزمان ولكن لا يسمى ذلك أبصارا وإن كان أكمل وأوضح من الأبصار. قال صدر المتألهين يشتد نور العلم وقوة الإيمان حتى يصير العلم عينا والإيمان عيانا والمعرفة مشاهدة ولهذا قيل المعرفة بذر المشاهدة لكن يجب أن يعلم أنه لا ينقلب مشاهدة بصرية حسية والتعقل إذا اشتد يصير مشاهدة قلبية ورؤية عقلية لا خيالية ولا حسية انتهى بتلخيص. (ش)

سبحانه. انتهى كلامه.

الجواب عن الشبهة الاولى أنا لا نسلم أن المعلق عليه هو استقرار الجبل مطلقا فإن الجبل كان مستقرا مشاهدا وقت هذا التعليق بل استقراره حال التجلي وإمكانه حينئذ ممنوع وإثباته أشد من خرط القتاد، وعن الثانية بالمعارضة والحل، أما المعارضة فلأن رؤيته لو كانت جايزة لما عد طلبها أمرا عظيما ولما سماه ظلما أرسل عليهم صاعقة، ولما قال «فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم» ولما سمعوا هذه المعارضة اضطربوا فقالوا إن رؤيته جايزة في الدنيا لا على طريق المقابلة والجهة كما هو المعروف في رؤية الممكنات وممتنعة على هذه الطريقة فدمه وإنكاره بناء على أنه طلبها من هذه الطريقة الممتنعة. وأنت خبير بما في هذا الجواب من الركاكة لأن طلبه للرؤية من هذه الطريقة كيف يصلح أن يكون دليلا على جواز الرؤية من غير هذه الطريقة على أنه يلزم أن يكون النبي المعزز بالتكليم جاهلا بما يجوز عليه سبحانه ويمتنع.

وأما الحل فلأن الأمر في قوله (عليه السلام) «أرني» ليس محمولا على طلب الرؤية لعلمه (عليه السلام) بأنه لا يمكن رؤيته بل على إظهار حاله جل شأنه على الجماعة الحاضرين معه الطالبين لرؤيته تعالى القائلين له (عليه السلام) «أرنا الله جهرة» فقال ذلك القول ليسمعوا قوله تعالى «لن تراني» ويعلموا أنه لا يمكن رؤيته ويرجعوا عن اعتقادهم، والجواب عما نقل عن ابن عباس أنه ليس صريحا في الرؤية العينية لجواز أن يكون المراد بالرؤية التي اختصت به (صلى الله عليه وآله وسلم) الرؤية القلبية يعني الإدراك العلمي على الوجه الكمال، وقد نقلنا سابقا من طريقهم عن ابن عباس أنه قال: «رآه بقلبه» وعما نقل عن الحسن أنه إن كان قول الحسن من عند نفسه فليس حجة وإن كان من ظاهر الآيات والروايات فكذلك لأن فهمه ليس حجة على غيره، والظاهر قد لا يعمل به، والجواب عن وقوع الرؤية في الآخرة إن كثيرا من

ص:175

الآيات والروايات مأولة عن ظاهرها اتفاقا مثل ما وقع في القرآن من قوله تعالى (ومكر الله) (الله يستهزيء بهم) وما وقع في رواياتكم عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن من العبيد يوم القيمة يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تبارك وتعالى فإذا ضحك منه قال: أدخله الجنة (1)» وعن ابن مسعود أن بعض أهل النار حين خرج منها ووصل إلى باب الجنة يقول «أي رب أدخلنيها، فيقول يا ابن آدم أيرضيك أن اعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزىء مني وأنت رب العالمين (2)» وأمثال ذلك كثيرة وأنتم قد أولتم المكر والضحك والاستهزاء بالجزاء والرضا والخذلان، فإذا جاز التأويل فكيف تتمسكون بالظواهر في الأمور العقلية وتجزمون عليها.

(فكتب لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر) (3) أي هواء شاف ينفذ فيه شعاع البصر ويتصل بالمرئي وهذا دل بحسب الظاهر على مذهب الرياضيين القائلين بأن الإبصار بخروج الشعاع لا على مذهب طايفة من الحكماء القائلين بأن الإبصار باعتبار أن المشف الذي بين البصر والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر ويصير بذلك آلة للإبصار ولا على مذهب الطبيعيين القائلين بأن الإبصار بانطباع صورة المبصر في الباصرة عند مقابلته لها، ويمكن أن يقال: المراد بنفوذ البصر في الهواء توقفه في الرؤية عليه وتوسله به فينطبق على المذاهب الثلاثة.

(فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي) بحايل أو بكمال القرب أو بغيرهما (لم تصح الرؤية بالضرورة وفي كتاب الاحتجاج «فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية» (وكان في ذلك الاشتباه) أي وكان في توسط الهواء والضياء بين الرائي والمرئي اشتباه كل منهما بالآخر في

ص:176


1- 1 - راجع الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 291.
2- 2 - رواه أحمد في مسنده ج 1 ص 377 بنحوه.
3- 3 - قوله، هواء ينفذه البصر الهواء في لغة العرب هو الخلاء العرفي قال الله تعالى (وأفئدتهم هواء) أي خالية من العقل والتدبر، وقال جرير «ومجاشع قصب هوت أجوافه» أي خلت أجوافه. وفي الصحاح: كل خال هواء. وهذا هو المراد هنا لا الهواء المصطلح للطبيعين وهو جسم رقيم شفاف كما حمله عليه صدر المتألهين (قدس سره) وهذا الهواء الذي هو جسم رقيق عند العرف بمنزلة العدم والحاصل أن لا بد للرؤية من فاصلة بين الرائي والمرئي ويتحقق الفاصلة بعدم وجود جسم كثيف والأجسام الفلكية غير مانعة للرؤية لأنها أشف وأرق من هذا الهواء المكتنف للأرض فهي بمنزلة الهواء. فيكون الهواء في لغة العرب أقرب من البعد المفطور الذي يقول به بعض الفلاسفة وهذا النوع من الاستدلال من الإمام (عليه السلام) غير معهود من علماء الشريعة من العامة في ذلك الزمان بل المعهود منهم الوقوف على مفاهيم الروايات فالمثبت للرؤية أو المنكر لها لم يتمسك إلا برواية ابن عباس وأبي هريرة أو برواية عايشة ولكن أئمتنا (عليهم السلام) فتحوا باب الاستدلال العقلي على الربوبيات وحاصل الدليل أن الأبصار لا يمكن إلا بهواء فاصل بين المرئي والرائي فلا بد أن يكون المرئي طرفا لمسافة فهو ذو جهة وكل ذي جهة جسم. (ش)

الاحتياج إلى ذلك المتوسط وفي كونه في جهة وفي طرف منه وعلل ذلك بقوله (لأن: الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه (1)) المراد بالسبب الموجب للرؤية الواقع بينهما هو الهواء المتوسط وكون كل واحد منهما واقعا في طرفه مقابلا للآخر ومتى ساوى الرائي من حيث أنه راء المرئي من حيث أنه مرئي في ذلك السبب ثبت مشابهة المرئي بالرائي.

(وكان ذلك التشبيه) اسم كان - وهو «ذلك» - إشارة إلى وجوب الاشتباه والتشبيه خبره يعني وكان ثبوت المشابهة بينهما تشبيه الحق الثابت بالذات وهو واجب الوجود المنزه عن صفات الخلق بالرائي الباطل بالذات في كونه طرفا من الهواء وواقعا في حيز وموصوفا بالجسمية ولواحقها مثله، وقد مر أنه وجب إخراجه تعالى عن الحدين حد الإبطال وحد التشبيه.

(لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات) يحتمل أن يكون تعليلا لقوله «وكان ذلك التشبيه» يعني أن اعتبار المشابهة بينهما يستلزم التشبيه المذكور لأنها سبب له والسبب لا بد أن يكون متصلا بالمسبب غير منفك عنه وأن يكون تعليلا لجميع ما ذكر في هذا الدليل، توضيحه أن الهواء المتوسط سبب للرؤية ولكون هذا رائيا من حيث أنه راء وذاك مرئيا من حيث أنه مرئي فوجب اتصاله بهما واتصاله بهما سبب لكون كل واحد منهما واقعا في حيز، وفي طرف منه وموصوفا بالجسمية ولواحقها فوجب اتصال هذا الاتصال بكونهما على هذه الأوصاف، وكونهما على هذه الأوصاف سبب لوقوع المشابهة بينهما فوجب أن يتصل به وتلك المشابهة سبب للتشبيه فوجب

ص:177


1- 1 - قوله «وجب الاشتباه» الاشتباه هو الشبه يعني يلزم أن يكون المرئي شبيها للرائي في كونه طرفا للهواء الفاصل وهو التشبيه الممنوع ونقل صدر المتألهين (قدس سره) اعتراضات للغزالي على مثل هذا الدليل وأجاب عنه: الأول: أنا لا نسلم أن الإبصار لا يكون إلا بفاصل هو الهواء إذ لم يقم عليه دليل ولم يكن بينا بنفسه إلا أنا لم نعلم إبصارا إلا بفاصلة وجهة وهذا لا يدل على الانحصار. الثاني: أن الله تعالى يرى الأشياء ولا جهة ولا هواء فاصلا بينه وبين الأشياء فالرؤية لا يتوقف على الفاصلة. الثالث: أن الإنسان يرى نفسه في المرآة ولا فاصلة بينه وبين نفسه. والجواب عن الأول: أن الجسم لا يمكن أن ينفعل إلا بوضع ومحاذاة بينه وبين ما يؤثر فيه وقد ثبت ذلك في محله وهذا كاف فالحاسة والعضو الحامل لقوة الحس لا بد أن ينفعل بما يؤثر فيه من النور الثائر من المحسوس، وعن الثاني: أن إبصار الله تعالى ليس بعضو وجارحة وليس له جسم يتأثر عن المحسوس حتى يقال فيه بنظير ما يقال في إبصار الإنسان والكلام في إبصار العين أعني الجارحة الخاصة، وعن الثالث أن الإنسان مقابل المرآة يرى نفسه لأن بين الرائي والمرئي مقابلة بوجه فيخرج الشعاع من جسم المرئي إلى المرآة وينعكس منه إلى عين الرائي فالهواء الفاصل بين المرآة والرائي إذ ضوعف كان بمنزلة رؤية الإنسان غيره وما ذكره الغزالي سفسطة فعلم أن دليل الإمام (عليه السلام) لا يختل بهذه الشبهة الواهية.

اتصالها به كل ذلك لوجوب اتصال الأسباب بالمسببات واقترانها معها وعدم انفكاكها عنها.

والأشعرية يقولون: الرؤية ليست بأشعة ولا انطباع وليس لها سبب (1) ولا شرط سوى حياة الرائي ووجود المرئي وإنما هي إدراك والإدراك معنى يخلقه الله تعالى في المدرك فإن خلق في جزء من العين سمي إبصارا وفي جزء من القلب سمي علما وفي جزء من الاذن سمي سمعا وفي اللسان سمي ذوقا وفي الجسد سمي حسا واختصاص خلقه بهذه المحال إنما بحكم العادة ويجوز أن تنخرق العادة فيخلق الإبصار في اليد، وأنت تعلم أن بناء هذا الكلام على نفي الأسباب مطلقا وقد تبين بطلانه في موضعه وأنه لا ينفعه هذه المزخرفات لأن الإبصار العيني في أي عضو خلق لا بد له من مشار إليه بالإشارة الحسية إما بالذات أو بالعرض وكل مشار إليه كذلك إما جسم أو حال كما تشهد به دفاتر الحكماء وعقول العلماء، فلو تعلقت به الرؤية لحق به التشبيه، تعالى الله عن ذلك

ص:178


1- 1 - قوله «وليس لها سبب» هذا أصل من أصول الأشاعرة زعموا أنه الديانة والتوحيد والحق أن العوام وأكثر الخواص والعلماء الذين لا إلمام لهم بأصول الدين كثيرا ما يستحسنون رأي الأشاعرة وقد رأينا جماعة كثيرة منهم ينكرون التسبيب. وحاصل مرامهم أنه ليس شيء سببا لشيء إلا النار سبب للإحراق ولا الشمس للإضاءة ولا الماء لرفع العطش ولا غير ذلك بل الله تعالى يخلق بالإرادة الجزافية الإحراق عند وجود النار إن أراد ويخلق الضوء عند طلوع الشمس وهكذا من غير تأثير لشيء ودعاهم إلى ذلك زعمهم أن إثبات الأسباب استغناء عن الواجب تعالى وإنكار لمعجزات الأنبياء وأوهام باطلة مثل ذلك وكلام الإمام (عليه السلام) صريح في الرد عليهم ولو كان ما زعموه حقا لزم سلب الاطمينان عن الناس في معاشهم ومعادهم وعقولهم وعلومهم مثلا سبب الإنبات والزرع والسقي والمطر والشمس والرياح ولو جاز التخلف لم يقدم أحد على الزراعة في معرض الشمس والرياح ولم يعبد أحد ربه إذ لعل العبادة لا تكون سببا لتهذيب النفس المنجي في المعاد ولعل المعاصي لا تكون سببا للعقاب، ولم يطمئن الأطباء والمنجمون وأصحاب الصنائع بما يدلهم عليه أدلة علومهم فلم يعلم الطبيب أسباب المرض وأسباب العلاج إذ جاز التخلف دائما كما يدعيه الأشاعرة، وبالجملة فلا يجوز تخلف المسببات عن الأسباب ويأبى الله إلا أن تجري الأمور بأسبابها، وأما المعجزات والكرامات فليست بغير سبب بل بسبب لا يتفق إلا بدعاء نبي أو ولي وهمة إنسان إلهي ولا يستغنى بالأسباب عن الله تعالى إذ الأسباب الطبيعية معدات كما يستفاد من أمثال قوله تعالى (أرسل الرياح فتثير سحابا) (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) فنسب إثارة السحاب وإنبات الزرع إليه تعالى وإلى المطر والرياح أيضا بالتسبيب وتفصيل الكلام في كتب الكلام وأبان ذلك كل البيان القاضي في أوائل إحقاق الحق فراجع. واعلم أن الظاهريين من أصحاب الحديث والحشوية وإن كانوا ينكرون الأسباب المعروفة لكن ما كانوا ينكرون أصل التسبيب وحكى عنهم السيد المرتضى الرازي عليه الرحمة أن الرعد صوت ملك والبرق وقع مقرعة الملك يزجر بها السحاب وينكرون تسبيب الرياح كما في القرآن وليس ذلك إنكار التسبيب كما هو رأي الأشاعرة بل إثبات سبب وإنكار سبب آخر كما يقال بمثل ذلك في الزلزلة والمطر والصواعق وغيرها وللتفصيل محل آخر ولعلنا نوفق له في الروضة إن شاء الله تعالى (ش).

علوا كبيرا.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه، قال: حضرت أبا جعفر (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى، قال: رأيته؟ قال: بلى لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو. قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى) أي الله أعبد أو أعبد الله فحذف الفعل بقرينة السؤال.

(قال رأيته قال: بلى) قال المازري: صح الجواب ببلي في غير النفي وجاز الإقرار بها في الإثبات ومن شرط النفي وقال: لا يجوز الجواب بها إلا بعده يقدره في أمثال هذا الكلام أي ما رأيته، ولما كان مظنه أن يقول السائل: وكيف رأيته أجاب عنه بقوله (لم تره العيون بمشاهدة الأبصار) قيل:

الإبصار بالكسر على المصدر في مقابلة الإيمان لا بالفتح على الجميع في مقابلة القلوب، وفي كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «بمشاهدة العيان» مكان «بمشاهدة الأبصار».

(ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان) هذا تنزيله له تعالى عن الرؤية بحاسة البصر وشرح لكيفية الرؤية الممكنة له تعالى ولما كان تعالى شأنه منزها عن الجسمية ولواحقها من الجهات والكيفيات وتوجيه الحدقة إليه وإدراكه بها وإنما يرى ويدرك بحسب ما يمكن لبصيرة العقل لا جرم نزهه عن تلك وأثبت له هذه، وأراد بحقايق الأيمان أركانه وهي التصديق بوجوده وتوحده وأسمائه الحسنى وسائر صفاته الثبوتية والسلبية وقد أشار إلى جملة منها بقوله (لا يعرف بالقياس) على الخلق لانتفاء المشاركة بينه وبينهم في أمر من الأمور (ولا يدرك بالحواس) لأن أقدام تصرفات الحواس لا تتجاوز عن طرق المحسوسات، وأيدي إدراكاتها لا تتناول غير الجسم والجسمانيات، وعالم القدس بعيد عن عالم الممكنات، وجناب الحق منزه عن تحديده بالصفات والكيفيات.

(لا يشبه بالناس) لا بالذات والصفات ولا بالصور وكيفياتهم (موصوف بالآيات) إشارة إلى

ص:179

طريق معرفته يعني أنه موصوف بأن له آيات دالة على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته كما أشار إلى تلك الآيات بقوله (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

(معروف بالعلامات) لأنه أرانا من علامات قدرته وعجايب حكمته وآثار إرادته مثل السماوات العلى والأرضين السفلى وغيرها من الصنايع الغريبة والبدايع العجيبة ما ينطق بوجوده وإن كان صامتا وينادي إلى وحدانيته وإن كان ساكتا ويدعو إلى ربوبيته وإن كان خافتا إلا أن أبصار الناظرين في إبصار هذه الآيات وقلوب العارفين في مطالعة هذه العلامات على درجات متفاوتة ومقامات متباعدة.

(لا يجوز في حكمه) التكويني والتشريعي لأن كل حكمه صواب يترتب عليه مصالح غير معدودة ومنافع غير محصورة، وأيضا الجائز في الحكم ناقص في العلم ضعيف في الحلم يطلب به جلب المنفعة ودفع المضرة أو تشفي النفس، وقدس الحق منزه عن جميع ذلك فسبحان الذي كل شيء آمن من ظلمه خائف من عدله.

(ذلك الله لا إله إلا هو) «ذلك إشارة إلى الموصوف بالصفات المذكورة لكمال ظهوره و «الله» خبر وكلمة التوحيد خبر بعد خبر أو بدل عنه أو حال والعامل معنى الإشارة وفيه تنزيه له عن الشريك والنظير وتخصيص له بالإلهية والتدبير.

(قال فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته) هذا تصديق بأن الرسالة ليست للشوكة والمال ولا للكسب والمنال ولا لكثرة العشيرة والإخوان ولا لتعدد الأنصار والأعوان بل هي بفضايل نفسانية وكمالات روحانية يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده، فيختار لرسالته من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه، والظاهر أن هذا لرجل آمن به (عليه السلام) واعتقد بإمامته.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين! هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن احمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء حبر) أي عالم من علماء اليهود (إلى أمير

ص:180

المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره) لما كان أره محتملا لمعنيين أحدهما الرؤية بالبصيرة القلبية وثانيهما الرؤية بالمشاهدة العينية وكان الثاني أشهر وأعرف حمله السائل على المعنى الثاني والمرئي بهذا المعنى لا يخلو من كيفية ووضع وجهة فلذلك (قال: وكيف رأيته) أي على أي وضع وكيف أبصرته وفي أي حيز وجهة رأيته.

(قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) مر شرحه.

وفي كتاب الاحتجاج «سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام) كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال: رأته القلوب بنور الإيمان وأثبته العقول بفطنتها إثبات العيان وأبصرته البصاير بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته.

قال: أليس هو قادرا على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين:؟ قال: ليس للمحال جواب».

* الأصل:

7 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يروون من الرؤية فقال الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر فإن كانوا صادقين فليملؤا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يروون من الرؤية أي رؤية الله بالعين (فقال:

الشمس) أي نور الشمس أو أطلق المحل على الحال مجازا.

(جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي (1) والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش) قال

ص:181


1- 1 - قوله «جزء من سبعين جزء من نور الكرسي» تأول العلامة المجلسي (رحمه الله) هذا الحديث بالتمثل مع أنه (رحمه الله) لم يكن من عادته إخراج الألفاظ من ظواهرها وكان يقدح فيمن يرتكب التأويل أشد قدح وأفظعه وإن بلغ في العلم ما بلغ وذلك لاتفاق علمائنا رضوان الله عليهم في جواز التأويل وإخراج الألفاظ من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي إذ قام الدليل العقلي على امتناع إرادة الحقيقة مثل ما رأيت أسدا في الحمام وقمرا في البيت إلا أنهم يختلفون فبعضهم يعد شيئا قرينة عقلية يجوز به التأويل وبعضهم لا يعده مثلا شيخنا البهائي (قدس سره) كان يعتقد أن الخسوف والكسوف للحيلولة وقد أورد المجلسي (رحمه الله) في المجلد الرابع عشر ص 126 كلاما طويلا في تخطئة من يعتقد مثل اعتقاده وذلك لرواية رواها عن تفسير علي ابن إبراهيم أن الكسوف والخسوف بأن يدخل الله تعالى الشمس والقمر في بحر فيطمس ضوئهما ثم أراد الدوائر على من أول البحر بظل الأرض في الخسوف وظل القمر في الكسوف كما يؤوله المجددون في عصرنا وجعلهم شرا من المشركين وعبادة الأوثان. والحق عندي أنهم إذا كانوا متفقين على جواز التأويل وكان اختلافهم في الموارد والصغريات وكان الأنظار مختلفة في كون شيء قرينة عقلية على إرادة خلاف الظاهر فلا طعن على الناس باختلافهم في فهم القرائن والله الموفق. (ش)

الصدوق (رحمه الله) «الكرسي وعاء جميع الخلق (1) وكل شيء خلقه الله تعالى في الكرسي» وفي وجه آخر «هو العلم والعرض حملة جميع الخق» وفي وجه آخر «هو العلم».

أقول: ويقرب من ذلك قول من قال: الكرسي يطلق على الفلك الثامن لأنه وعاء السماوات السبع وما فيهن وما بينهن وما تحتهن والعرش يطلق على الفلك الأقصى وهما يطلقان أيضا على العلم مجازا تسمية للشيء باسم مكانه لأنهما مكان لعلم العالم القاعدة عليهما ولذلك يسمى

ص:182


1- 2 - قوله «الكرسي وعاء جميل الخلق، وقد ثبت في محله أن غير المتناهي في الأبعاد محال والفضاء غير المتناهي الذي يلهج به أهل عصرنا باطل والاستدلال عليه بأدلة منها البرهان السلمي وبيانه أنا إذا فرضنا زاوية مقدرة بستين درجة وضلعاها غير متناهي وتقرر في الهندسة أن الفاصلة بين ضلعي هذه الزاوية مساوية لكل واحد من الضعلين وإذا كان الظلعان غير متناهيين بالفرض كانت الفاصلة غير متناهية مع أنها محصورة بين الحاصرين وهو مجال فالبعد غير المتناهي محال. ومنها البرهان الترسي وبيانه: أنا نفرض قطر دائرة موازيا لخط غير متناه ثم ندير الدائرة على مركزها فلا بد أن يخرج القطر من الموازاة للخط غير المتناهي إلى المسامتة ولا بد أن يكون للمسامته أول لأنها حادثة بعد العدم فليس ما فرضناه غير متناه غير متناه إذ له أول هو أول نقطة المسامتة الحادثة. ومنها برهان التطبيق وبيانه أنا نفرض سلسلتين غير متناهيتين من أفراد غير متناهية كل واحد من إحديهما يقابل فردا من أخرى مثلا سلسلة من رجال غير متناهية وسلسلة من دنانير غير متناهية بإزاء كل واحد دينار فيأخذ كل رجل دينارا واحدا ثم نفرض إخراج عدة دنانير من أول السلسلة الذي يلينا ونجعل الدينار الأول من الباقي للرجل الأول وهكذا الثاني للثاني على الترتيب فيلزم أن يبقى من الرجال بعدة الدنانير المخرجة من لا يصيب دينارا في آخر السلسلة الذي لا يلينا وهذا يستلزم التناهي وبالجملة الفضاء محدود والكرسي منتهى الفضاء ولا فرق فيما ذكرنا بين أن نقول بالهيئة القديمة أو الهيئة الجديدة فالعالم الجسماني كلما فرض عظمته لا بد أن يكون متناهيا إلى حد وظهر في زماننا رجل من مشاهير فلاسفة الإفرنج وبين تناهي أبعاد هذا العالم بأصول له لا فائدة في بيانها. (ش)

العالم أيضا كرسيا (1).

ويدل على المعنى الأول ما روي من طرقنا «إن الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة» (2) ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما السماوات السبع مع الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة،وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة (3) ويدل على المعنى الثاني ما سيجيء قريبا من الروايات المعتبرة وبالجملة هذان المعنيان مشهوران (4) في ألسنة الأصحاب

ص:183


1- 1 - قوله «يسمى العالم أيضا كرسيا». هكذا قال المفسرون واستشهدوا بقول الشاعر: تحف بهم بيض الوجوه وعصبة * كراسي بالأحداث حين تنوب أي علماء بالوقائع. (ش)
2- 2 - قوله «إن الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة» بناء على أن الكرسي وعاء العالم الجسماني على ما ذكره الصدوق (رحمه الله) يكون العرش وعاء لغير هذا العالم فالكرسي حد العالم الجسماني والعرش حد عالم من العوالم المجردة. وإن كان الكرسي بمعنى العلم فهو من العوالم المجردة أيضا إلا أن الكرسي أقرب إلى العالم الجسماني من العرش كما أن العرش أقرب من الحجاب والحجاب من الستر على ما يستفاد من الحديث ولا ينبغي أن ينكر أو يستبعد تعدد العوالم الروحانية وترتبها ولا عبرة بما يدعيه المشاؤون من انحصار العقول في العشرة بل «لا يعلم جنود ربك إلا هو» وما يقوله الإشراقيون من عدم تناهي العقول ومراتبها أقرب إلى الحق وقد ورد في كثرة الحجب والملائكة الموكلين بها أخبار وذكر الأربعة في هذا الحديث بيان للكلي مثل ما نقول: الأرض سبعة أقاليم، وكل إقليم يشتمل على بلاد ونواح وقرى، وكذلك الحجاب والستر مشتمل على عوالم كثيرة. إذا تبين ذلك فنقول أما العالم الجسماني فقد ذكر أصحاب الهيئة في سعته وعظمته ما يتحير فيه الأوهام قالوا: إن في هذا الفضاء العظيم ألوفا من الكواكب الثابتة وأقربها إلى الأرض يصل نوره إلينا بعد ثلاث سنين ولو نظر ناظر منه إلى شمسنا وأرضنا لرأى الأرض ملصقة بالشمس كأنهما نقطة واحدة وهذا البعد العظيم بيننا وبين الشمس يصير كان لم يكن لبعده عنا. ثم أن في هذا العالم كواكب بعيدة يصل نورها إلينا بعد آلاف ألوف من السنين وبناء على كون الكرسي وعاء هذا العالم كم يكون مقدار عظمه ومع ذلك هذا العالم الجسماني بعظمته بالنسبة إلى العالم الروحاني الأقرب كحلقة في فلاة ولعل تقدير نوره إلى نوره بجزء من سبعين للدلالة على الكثرة كقوله تعالى (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) يعني كلما استغفرت. وشدة نور الوجود في كل عالم بنسبة عظمته، وأضعف الأنوار نور الشمس إذ هو المعلول الأخير وما قبله أشد منه جدا لكونه علة وكذلك قس عليه كل ما في الدنيا بالنسبة إلى ما في الآخرة كنار الدنيا بالنسبة إلى نار الآخرة ونعيم الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة فإن النسبة بينهما كتلك النسبة. (ش) والخبر سيأتي في كتاب الروضة تحت رقم 143 في حديث زينب العطارة.
3- 1 - راجع الدر المنثور للسيوطي ج 1 ص 328.
4- 2 - قوله «هذان المعنيان مشهوران» يعني أن العرش والكرسي إما جسمانيان وهما الفلك الثامن والتاسع وإما روحانيان بمعنى العلم، واعترض على المعنى الأول: بأن الفلك الثامن والتاسع الجسمانيين ليس لهما نور محسوس فكيف يقال إن نور الشمس مستفاد منهما وعلى الثاني: بأن العلم وأن كان نورا غير محسوس لنا نظير نور الحجب ولكن لا يبعد أن يكون نور غير محسوس سببا لوجود نور محسوس فإن جميع موجودات العالم المحسوس معاليل ومسببات لعالم غير محسوس والنور على ما تحقق في زماننا تموج نظير تموج الماء بسقوط شيء فيه وقد يؤثر في الباصرة فيرى وقد لا يؤثر فيها مع تأثيره في شيء آخر وهو النور غير المرئي ويسميه أهل زماننا الأشعة المجهولة ويؤخذ منه التصوير من الأحشاء ويستعملها الأطباء وغرضنا بيان التوسعة في إطلاق النور والجواب عن الثاني أنا لا نسلم عدم المقايسة بين المحسوس والمعقول كيف وقد ورد في الشرع من ذلك أمثلة كثيرة بل وظيفة الشارع تقريب المعقول إلى الأذهان الساذجة كما ورد أن الإيمان بنى على أربع دعائم فشبه الإيمان بسقف مبني، وورد في بعض المعاصي أنه يسقط به الإنسان أبعد من السماء إلى الأرض. وقيل أن الذنب الفلاني أعظم من الجبال وغير ذلك مما لا يحصى فلا يبعد أن يقال: إن إدراك نور الشمس لباصرة الإنسان أسهل وأخف سبعين مرة أو أكثر من إدراك تموجات حاصلة من أجسام آخر كالأشعة المجهولة أو من الأنوار المجردة الموجودة في عالم النفوس والعقول ويقال إن الأشعة المجهولة أقوى وأشد إذ تعبر من الأجسام غير الشفافة والأنوار المجردة أقوى وأشد أيضا إذ بها يرى البعيد والقريب والصغير جدا وما لا يحصى كثرة كعدد الرمال وأمواج البحار. (ش)

وغيرهم معروفان في الأخبار. وأنت تعلم أن حملها على المعنى الأول بعيد إذ لو كان لجرم الفلكين نور كما للشمس لكان نورهما مرئيا كنور الشمس، اللهم إلا أن يقال: إن لهما نورا في الواقع ولكن رؤيته مشروطة بالتجرد والتنزه عن الهيئات البشرية والغواشي الناسوتية كما في نور الحجاب والستر، وعلى المعنى الثاني أبعد لانتفاء النسبة بين نور الشمس ونور علم الحق جل شأنه ولاستحالة تفضيل الشيء على نفسه ولعدم صحة المضمون في الكلام الآتي، اللهم إلا إن يراد بالكرسي علم النفوس المجردة، وبالعرش علم العقول المقدسة; ويمكن حملهما هنا على الجوهرين المجردين (1) النورانيين الموكلين بالفلك الثامن والتاسع مجازا من باب تسمية الشيء باسم متعلقه، وتفاوت نورهما بالذات أو باعتبار تفاوت تجلي نور الحق عليهما على النسبة المذكورة بل على الجوهرين الآخرين (2) وإن لم يكونا متعلقين بالفلكين، وتسميتهما بالكرسي

ص:184


1- 3 - قوله «على الجوهرين المجردين» يعني النفس الفلكية المتعلقة بكل واحد من العرش والكرسي. (ش)
2- 4 - قوله «بل على الجوهرين الآخرين» يعني: العقل الكلي للفلك الثامن والتاسع وكلام الشارح مبني على أن حركات الكرات السماوية إرادية لا طبيعية وقال الأوائل إن السماوات أحياء لها نفس تحركها لا نظير نفوس الحيوانات الأرضية فإن الحيوان يشترط في حياته بنية خاصة من النبض والشريان والقلب والنفس والغذاء لبدل ما يتحلل ودماغ وأعصاب وجوارح للإدراك وليس تلك البنية للأفلاك أصلا، بل هي أجسام لطيفة متشابهة بغير آلات ولا يمكن رؤيتها بالبصر لغاية لطافتها فإنها أشف من الهواء ومن كل جسم لطيف يفرض، ولذلك لا يمنع تراكم هذه الأبعاد القاصية من رؤية الكواكب كما يمنع قطعة من البلور والماء الصافي بل الهواء من النظر إذا تراكم وبالجملة أن أمكن رؤية الأفلاك للإنسان رآه جسما لا يفرق بينه وبين الجماد لعدم ظهور آلات وجوارح فيها ولكنها متحركة بالحركة المستديرة والمجبول في طبع البشر أنه إذا رأى جسما يتحرك مستديرا أن ينسبه إلى فاعل إرادي ألا ترى أن الرجل إذا رأى رحى مستديرا يتحرك من غير ماء أو ريح أو سبب طبيعي نسبه إلى الجن أو الملك البتة، وبالجملة مذهبهم أن نفسا تحرك الفلك وغرضه من الحركة أن يتقرب إلى عقل فوقه كما أن حركات الإنسان أيضا للتقرب إلى عقل فوقه، وكما أن سعي الإنسان لتكميل عقله يدل على وجود عاقل مطلق يقصد التشبه به كذلك حركات الكرات السماوية إذا كانت إرادية. قال الشيخ البهائي (قدس سره) في الحديقة الهلالية لم يرد في الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل الصلوات وأكمل التسليمات ما ينافي ذلك القول ولاقام دليل عقلي على بطلانه، وإذا جاز أن يكون لمثل البعوضة والنملة وما دونها حياة فأي مانع من أن يكون لتلك الأجرام الشريفة أيضا ذلك وقد ذهب جماعة إلى أن لجميع الأشياء نفوسا مجردة. وقال السيد الداماد في خطاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) للهلال تنصيص على إثبات الحياة للسماويات جميعا وليس هنا موضع تفصيل الأقوال والمقصود بيان مراد الشارح ولعلنا نبحث عن ذلك في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش)

والعرش باعتبار أنهما محلان لأنوار العظمة الإلهية والله أعلم بحقيقتهما.

(والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الشمس) ليس المراد من الحجاب والستر المعنى الحقيقي المعروف الواقع بيننا وبين ما هو محجوب ومستور عن أبصارنا، إذ ليس هناك حجاب وستر بهذا المعنى (1) بل المراد بهما مقامان من مقامات تجليات نور عظمة الرب والثاني وهو فوق الأول لم يصل إليه نور بصائر أحد إلا من شاء الله تعالى فأراه بقدر ما أحب، وأما مشاهدة نور عظمته على وجه الكمال فلا يقدر عليه إلا هو، والأول هو المانع من انكشاف نور العظمة على الخلق على وجه الكمال وإلا لانهدموا واحترقوا وقد تجلى نور العظمة من ذلك الحجاب على الجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا، والظاهر أن هذا الحجاب هو الذي كان بين نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الله تعالى في المعراج وقد كان قاب قوسين أو أدنى كما روي عن أبي

ص:185


1- 1 - قوله «إذ ليس هناك حجاب وستر» العرش والكرسي والستر والحجاب كلها من آلات الملوك استعيرت للتعبير عن عظمة الله تعالى لأن الملوك لهم عرش يجلسون عليه ولهم كرسي أيضا والكرسي أصغر من العرش غالبا ويختار العرش لمجلس أهم وأعظم والكرسي لمجلس أدون والستر والحجاب على باب دار أو بيت فيه الملك وعرشه وعليه رجل من مقربي الملك ومعتمد به يسمى الحجاب ولعل لبعض الملوك حجابا عديدة على دور متكثرة لا يجوز من يريد حضرة الملك من تلك الحجب إلا بإذن الحجاب واحدا بعد واحد ويرفع الستور له سترا بعد ستر والستر أقرب إلى الحضرة وربما يسمى صاحب الستر بالفارسية (پرده دار) والله تعالى منزه عن الجسم والمكان والحجاب والستر، وهو محجوب عن أبصارنا بعظمته وكمال وجوده، وبين وجود الممكن ووجوده تعالى مراتب غير متناهية من الممكنات الأقوى فالأقوى وليس الترقي من النقص إلى الكمال إلا للإنسان ولن يصل بنفسه إلى رتبة الوجوب ولكل مرتبة من مراتب الوجود نور مأخوذ من نور فوقه أي معلول له، وبالجملة لا يمكن للإنسان أن يرى نور الشمس فكيف ما هو أقوى منه بتلك المراتب التي كلياته أربعة الكرسي والعرش والحجاب والستر (ش).

عبد الله (عليه السلام) قال: «كان بينما حجاب يتلألأ فينظر مثل سم الأبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة (1)» الحديث طويل أخذنا بعضه.

ثم هذا الذي ذكرناه على سبيل الاحتمال دون الجزم (2) ولا يعلم أمثال هذه الأسرار إلا هو وولية وأنا أستغفر الله مما أقول.

(فإن كانوا صادقين) مما يدعونه من قدرتهم على رؤيته (فليملؤا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب) فإنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن رؤيتها باعتبار أن النور القوي مانع من الرؤية كعادة الأنوار الشديدة الساطعة في أنها تغشي البصر عن رؤية ما خلفها فإذا عجزوا عن رؤيتها لمنع نورها مع أن نورها جزء من ألف ألف ألف - ثلاث مرات - وستمائة وثمانون ألف ألف - مرتين - وسبعمائة ألف من نور الستر الذي هو من تجليات نور العظمة كما يظهر ذلك من ضرب السبعين

ص:186


1- 1 - الكافي كتاب الحجة باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت رقم 13.
2- 2 - قوله «على سبيل الاحتمال دون الجزم» القدر المسلم أنا نعلم تقسيم الوجود إلى عالمين عالم الأجسام وعالم المجردات، ونعلم أن عالم الأجسام مشتمل على موجودات لا تحصى مرتبة في العظم والصغر والكمال والنقص ولا بد أن يكون عالم المجردات أيضا كذلك وهو منقسم عندنا إلى العقل والنفس لأن المجرد إما أن يتعلق بجسم في الجملة وهو النفس أو لا يتعلق وهو العقل ولا واسطة بين النفي والإثبات والنفس لها مراتب عديدة لا تحصى من النفس النباتية والحيوانية بمراتبها كالخراطين إلى النفوس الكاملة الإنسانية وإن أردنا قياسها في النقص والكمال والقوة والضعف بالأشياء المقدرة للتقريب إلى الأذهان قلنا نسبة نفس الخراطين إلى نفس أبي علي بن سينا وإدراكها إلى إدراكه كحلقة في فلاة، ولا يبعد عقلا أن يكون مراتب العقول المجردة أيضا كذلك ويكون نسبة موجود عاقل إلى عاقل آخر كحلقة في فلاة ويكون عالم العقول مشتملا على مراتب لا تحصى منها ولا عبرة بما هو المشهور من حصر العقول في العشرة إذ لم يقصد القائلون به الحصر ولا أقيم عليه دليل وقد ورد في الشرع من طبقات الملائكة ومراتبهم ما ورد، ثم أن استعارة لفظ النور للعقل والإدراك من أحسن الاستعارات فان الظلمة سبب الخفاء والجهل والنور سبب الدرك والعلم فيستعار لعالم العقلاء عالم الأنوار ولعالم المواد عالم الظلمات وهذا كله صحيح معلوم أما أن المراد بالكرسي وعاء العالم أو الفلك الثامن أو النفس المتعلقة به أو العقل وأمثال ذلك فاحتمال لا يمكن لنا القطع عليه بل نعلم أن هذه الألفاظ تعبير عن مراتب الوجود في الجملة وقد ذكر صدر المتألهين (قدس سره) تأويلا نقله صاحب الوافي بتصرف في الجملة ونقله المجلسي في مرآة العقول وهو تطبيق الكرسي على الصدر والعرش على القلب والحجاب والستر على الروح والسر وهذه الأربعة هي النفس الحيوانية والناطقة والعقل النظري والعقل الفعال فإن الكرسي صدر الإنسان الكبير والعرش قلبه وليس لما بعدهما أعني الحجاب والستر مظهر في هذا العالم. وكلام الشارح يؤيد ما سبق منا مرارا أن بيان الأمور الدقيقة وذكر اصطلاحات أصحاب الفنون وتحقيقات الفلاسفة يجب أن يخصص بالعلماء دون عامة الناس إذ لكل شيء في أذهانهم لوازم باطلة تتبادر إليها وقد يوجب ضلالهم فراجع الصفحة 104 من المجلد الثاني. (ش)

في نفسه ثم الحاصل في السبعين ثم السبعين في الحاصل ثم الحاصل في السبعين فهم عن رؤية الله تعالى أعجز وهذا الكلام دل على امتناع رؤية الله تعالى بالعين.

وهذا القدر كاف في إلزامهم، وأما امتناع رؤيته بالذات فمستفاد من الأخبار الماضية والآتية.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، وغيره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما اسري بي إلى السماء سرى بالليل من باب ضرب بمعنى سار ليلا وأسرى مثله وأسراه وأسرى به مثل أخذ الخطام وأخذ بالخطام، وإنما قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وان كان السرى يكون بالليل للتأكيد كقولك سرت أمس نهارا والبارحة ليلا.

(بلغ بي جبرئيل (عليه السلام) مكانا لم يطأه قط جبرئيل) ولا غيره من الخلق ثم تخلف جبرئيل ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حيث شاء الله تعالى.

وذكر جبرئيل ثانيا من باب وضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم ولدفع توهم أن فاعل لم يطأ غيره لاهو، وللتصريح بأن وطأه ذلك المكان إنما هو ببركة مشايعته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دل على ما أضفناه من الأمرين ما رواه علي بن أبي حمزة «قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل [موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت] موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي - الحديث» (1) وما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى به جبرئيل (عليه السلام) إلى مكان فخلى عنه فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟ فقال: امضه فوالله لقد وطئت مكانا ما وطئه بشر وما مشي فيه بشر قبلك».

(فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب) أي ما أحبه الله تعالى أو ما أحبه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا الكلام إما قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) لبيان الواقع وحكاية قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل نفسه أو هو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على غيبته في مشاهدة جلاله سبحانه

ص:187


1- 1 - و (2) الكافي كتاب الحجة باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت رقم 13 و 12.

وضمير «له» و «أراه» على الاحتمالين يعود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوهم عودهما إلى جبرئيل (عليه السلام) على الاحتمال الثاني خطأ، والمقصود من هذا الحديث بقرينة ذكره في هذا الباب هو الدلالة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يره في المراجع كما زعمه طائفة من المبتدعة بل على أن رؤيته تعالى محال وإلا لرآه ولكن لم يره وإنما رآى من نور عظمته.

(في قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار») أي الكلام في تفسيره هذه الآية وذكر الأحاديث المروية فيه. وهذا عنوان مستقل غير مربوط بالسابق ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر والخبر الأول هو قوله «في إبطال الرؤية» أي باب في قوله «لا تدركه الأبصار» وتعدد الخبر بلا عاطف جايز.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران. عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: لا تدركه الأبصار. قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم) ليس يعني بصر العيون (فمن أبصر فلنفسه) ليس يعني من البصر بعينه (ومن عمي فعليها) ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: «لا تدركه الأبصار» قال: إحاطة الوهم) أي الإدراك المنفي (1) إحاطة الوهم له وإدراكه إياه دون الإدراك العيني لأن عدم إدراك العين له ظاهر لا سترة فيه والمراد بالوهم الإدراك المتعلق بالقوة العقلية المتعلقة بالمعقولات والقوة الوهمية المتعلقة بالمحسوسات جميعا وقد شاع ذلك في الاستعمال، ودل عليه مضامين الأخبار دون الأخير فقط ولما كان المتعارف من

ص:188


1- 1 - قوله «الإدراك المنفي إحاطة الوهم» إضراب أو تعميم لأن كثيرا استدلوا بقوله (لا تدركه الأبصار) على نفي الرؤية البصرية. فالمراد ههنا أنه كما لا تدركه الأبصار كذلك لا تدركه البصائر أو بل لا تدركه البصائر. فإن قيل قد ورد في حديث آخر قد مر «أنه تعالى يدركه القلوب بحقائق الإيمان» وما ههنا يناقضه، قلنا: المراد هنا إحاطة العقل به وهناك إدراكه بوجه ما. (ش)

الإبصار عند الناس هو الإبصار بالعين دون الإبصار بالقلب نبه (عليه السلام) على صحة إرادة الثاني بالآية والعرف فقال (ألا ترى إلى قوله «قد جاءكم بصائر من ربكم» ليس يعني بصر العيون) بل يعني بصر القلوب وإدراك العقول، والبصائر جمع البصيرة وهي للنفس كالبصر للعين (فمن أبصر فلنفسه) أي فمن أبصر الحق وتبعه فقد أبصر لنفسه لأن نفعه لها.

(ليس يعني من البصر بعينه) بل عنى منه البصر بقلبه (ومن عمي فعليها) أي ومن عمى عن الحق وضل عنه فعلى نفسه يرجع وباله وإليها يعود نكاله (ليس يعني عمى العيون) بل يعني عمى القلوب عن الحق وعدم إدراكها له (إنما عنى) من الإدراك المنفي في قوله «لا تدركه الأبصار» (إحاطة الوهم) يعني لا تدركه أوهام القلوب ولا يحيط به إدراك العقول، وهذا تأكيد لما ذكره أولا ولما أشار إلى إطلاق البصر على الإدراك القلبي في القرآن الكريم أشار إلى إطلاقه عليه في العرف أيضا بقوله (كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب) أي عليم بهذه الأمور عارف بأحوالها مدرك لجيدها ورديها مميز بين صحيحها وسقيمها، ثم أشار إلى أن حمل الآية على نفي الإدراك القلبي أولى من حملها على نفي الإدراك العيني بقوله (الله أعظم من أن يرى بالعين) فعدم إمكان رؤيته بالعين أمر ضروري لا ينكره إلا شرذمة قليلون ممن لا يعتد بهم، وأما إدراكه تعالى بأوهام العقول فهو شأن جمع العوام وحال أكثر أهل العلم فإنهم يتصورونه بوجه ويتخيلونه بأمر لا يليق به ويجب تنزيهه عنه فهو أولى بالنفي، ويحتمل أن يكون هذا الكلام بمنزلة النتيجة للسابق توضيحه أن الإدراك العقلي أكثر اتساعا من الإدراك العيني إذ كل ما يدركه العين يدركه العقل دون العكس فإذا لم يدركه العقل فهو أعظم من أن يراه العين.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الله هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قال: أما تقرأ قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)؟ قلت بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر (1) من أبصار العيون فهو لا تدركه

ص:189


1- 1 - قوله «أوهام القلوب أكبر» نفى إحاطة القلوب يستلزم نفي إحاطة البصر إذ نفي قدرة الأعم إدراكا يستلزم نفي الأخص كما في كل عام وخاص ونفي الحيوان يوجب نفي الإنسان وهذا شيء صريح في الرواية لم يغفل عنه أحد وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) إن الأشاعرة وافقونا في أن كنهه تعالى يستحيل أن يتمثل في قوة عقلية وجوزوا ارتسامه وتمثله في قوة جسمانية، وتجويز إدراك القوة الجسمانية لها دون العقلية بعيد عن العقل مستغرب وأشار (عليه السلام) إلى أن كل ما ينفي العلم بكنهه تعالى من السمع ينفي الرؤية أيضا قال ذلك في شرح الخبر الثاني عن أبي قرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، وقد أشار في الخبر إلى دقيقة غفل عنها الأكثر، وأقوال أخرنا نقله إلى هنا لأن هذا الخبر أصرح منه وأما الأشاعرة فكانوا متأخرين عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وكان شيخهم معاصرا للكليني تقريبا. (ش)

الأوهام وهو يدرك الأوهام.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري) هو داود بن القاسم بن إسحق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) من أهل بغداد، ثقة جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) شاهد أبا الحسن وأبا جعفر وأبا محمد (عليهم السلام) وكان شريفا عندهم (1) له موضع جليل عندهم.

روى أبوه عن الصادق (عليه السلام) (عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الله هل يوصف) أي هل يدرك ذاته وصفته ويقال ذاته كذا وصفته كذا «فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تقرأ قوله «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» قلت: بلى) الاستفهام في الموضعين يحتمل الحقيقة والتقرير (قال: فتعرفون الأبصار) من باب تغليب الحاضر على الغايب أو من باب إدخال جماعة حاضرين في الخطاب معه، والغرض من هذا السؤال هو الحث على استماع ما يلقي إليه والكشف عن مقدار فهمه ومبلغ علمه (قلت. بلى، قال: ما هي قلت: إبصار العيون فقال: إن أوهام القلوب) أي النفوس المجردة والعقول المقدسة وأهل العرفان كثيرا ما يعبرون عن النفس والعقل بالقلب.

(أكبر من إبصار العيون) أكبر إما بالباء الموحدة أو بالثاء المثلثة. يعني إدراكات النفوس أكبر وأعظم من إدراكات العيون أو أكثر محلا وأبلغ اتساعا منها لأن كل ما تدركه العين تدركه النفس بل إدراك العين ليس إلا إدراك النفس وقد تدرك النفس متقلة ما لا تدركه العين والمنفي في الآية هو إدراكات النفوس على جميع أنحائها ويندرج فيه إدراكات العيون أيضا لأن نفي العام مستلزم لنفي الخاص وإليه أشار بقوله (فهو لا تدركه الأوهام) أي أوهام القلوب لأن الإدراك إما حسي أو عقلي ولا يجري شيء منهما في ساحة الحق عز شأنه لأنه لما كان منزها عن الجسمية والوضع والجهة وساير

ص:190


1- 1 - قوله «وكان شريفا عندهم» وربما عد من السفراء للحجة (عليه السلام) وهذا يدل على عمر طويل فإن روايته عن الرضا (عليه السلام) يستلزم كون ولادته في حدود سنة ثمانين ومائة حتى يكون له عند وفاة الرضا (عليه السلام) نحو عشرين سنة وكونه من السفراء يستلزم كونه في حدود سنة سبعين بعد المائتين حيا ولكن لم يعده بعض أصحاب الرجال من أصحاب الرضا (عليه السلام) وممن روى عنه وهذا الحديث صريح في روايته عنه (عليه السلام) ولعلهم حملوه على سهو بعض الرواة وأن المروي عنه أبو الحسن الثالث أعني الهادي (عليه السلام) أو هو أبو جعفر (عليه السلام) لأن هذه الرواية وبعدها متحد المضمون ويحتمل كونهما حديثا واحدا بروايتين لكن أصالة صحة النقل تمنع عن الاقتحام في الحكم بذلك. (ش)

لواحقها استحال أن يدركه شيء من الحواس الظاهرة والباطنة، ولما كان مقدسا عن أنحاء التركيب الخارجية والذهنية وبعيدا عن عالم مدركات النفوس البشرية امتنع أن يكون للنفس إطلاع عليه بكنه ذاته أو بحقيقة صفاته، فإذن لا يناوله شيء من الإدراكات، وفي نسبة الأوهام إلى القلوب إشارة إلى أن القلوب البشرية لا يمكنها تعقل شيء بدون الاستعانة بالوهم وتعقلها للكليات باعتبار التجريد للموجودات والتفتيش في المحسوسات (وهو يدرك الأوهام) إذ لا يعزب عنه شيء وهو اللطيف الخبير.

* الأصل:

11 - محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من إبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولاتدركها ببصرك وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار») ما أراد الله سبحانه بهذا القول؟ ويحتمل أنه أراد بالأبصار أبصار العيون واستبعد وتعجب من عدم إدراكها له، فأجاب (عليه السلام) بما يرفع استبعاده وتعجبه فقال: (يا أبا هاشم أوهام القلوب) وإدراكاتها (أدق) أي ألطف وأسرع تعلقا (من أبصار العيون) لأن إدراك القلب ينفذ فيما لا ينفذ فيه أبصار العين وقد بين ذلك بقوله (أنت قد تدرك بوهمك) أي بعقلك (السند والهند والبلدان التي لم تدخلها (1) ولم تشاهدها

ص:191


1- 1 - قوله «والبلدان التي لم تدخلها» المراد بالوهم العقل إذ قد يطلق عليه، وأما تخصيص الوهم بالباطل فهو اصطلاح أخر اقتبسه أهل النظر من الوهم بمعنى الخطأ في اللغة، وبالجملة فنقص الإدراك البصري بأمور: الأول: أنه لا يدرك في الظلمة والعقل بخلافه، الثاني: أنه لا يدرك الصغير جدا ويحتاج إلى آلة مكبرة لرؤية جراثيم الأمراض وخلايا الأعضاء وغيرها. الثالث: أنه لا يدرك مع الحاجب كما وراء الجدار والستر وما في قمر الأرضين وبواطن الأجسام، الرابع: أنه لا يدرك البعيد جدا. الخامس: أنه لا يحيط بالكثير جدا كعدد الرمال في الأحقاف وعدد الحبات في الصبرة والعقل في جميع هذه الأمور كامل يدرك ما يدركه البصر ولو كان الفضل بقوة الأبصار كان بعض الحيوانات أقوى بصرا من الإنسان ولكن الإنسان مدرك بعقله وبهذا فضل على ساير الحيوانات وكذلك موجودات عالم الغيب كالعقول المجردة والمؤمن بعد فراق البدن والملائكة المقربون أكمل وأقوى وأصح وأكثر إدراكا من الإنسان في الدنيا إذ يرون مع الفواصل والأبعاد والحجاب وفي الظلمة ويحيطون بالكثير وبغير المتناهية ولا يحتاج إلى آلة وجارحة نظير أعيننا، وأيضا لا يحتاجون إلى ترتيب المقدمات واستنتاج النتايج منها كما يكون لنا في الدنيا لدرك ما لا يصل إليه حواسنا فيدركون بالإحاطة والإبصار الحقيقي كل شيء لا يمكن لنا فهمه إلا بالدليل ويكون ما ندركه بالدليل في الكمية بالنسبة إلى ما أدركوه بالبديهة كحلقة في فلاة، أو كمدركات الخراطين بالنسبة إلى مدركات أرسطو، وقد علمنا بالحس في ما نرى من الرؤيا الصادقة إحاطة موجودات عالم الغيب على بواطن الأمور وغيوبها ونعلم بهذا القياس مقدار علوم القوة العاقلة أعني العقول الكلية المدبرة كمية وكيفية، ومع ذلك فلا يقدر العقول على إدراك كنه حقيقة الباري تعالى. (ش)

بعينك ومع ذلك تعتقد بوجودها اعتقادا جازما بحكم وهمك ومقتضى عقلك.

(ولا تدركها ببصرك) لأنك لم تشاهدها ومن هنا ظهر لك أن إدراك القلب أدق من إبصار العين (وأوهام القلوب لا تدركه) لعجز القلوب عن ذلك واعترافها بأن ذاته تعالى وصفاته وجلاله وكماله أشرف وأعلى من أن تدركه وتعقله وأن كل ما أدركته وأحطت به فهو منزه عنه وأن السبيل إلى معرفة كنه عظمته مسدود وأن غاية معرفته هي العلم بأنه مقدس عن تعلق الإدراك به وعن الإحاطة بذاته وصفاته وعن المشابهة بخلقه في ذواتهم وصفاتهم وكيفياتهم.

(فكيف أبصار العيون) تدركه لأن عدم إدراك القوي دليل على عدم إدراك الضعيف وعدم تحقق الأعم حجة على عدم تحقق الأخص، وينبغي أن يعلم أن سؤاله هذا نشأ من نسيان ما سمعه (1) من الرضا (عليه السلام) أو الغرض منه زيادة التقرير والاستبصار.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام بن الحكم قال: الأشياء [كلها] لا تدرك إلا بأمرين: بالحواس والقلب، والحواس إدراكها على ثلاثة معان: إدراكا بالمداخلة وإدراكا بالمماسة وإدراكا بلا مداخلة ولا مماسة، فأما الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعون. وأما الإدراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث ومعرفة اللين والخشن والحر والبرد. وأما الإدراك بلا مماسة ولا مداخلة فالبصر فانه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة في حيز غيره ولا في حيزه، وإدراك البصر له سبيل وسبب فسبيله الهواء وسببه الضياء فإذا كان السبيل متصلا بينه وبين المرئي والسبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة فإذا لم يكن له سبيل رجع راجعا، يحكي ما وراءه وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعا فيحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره، فأما القلب فانما سلطانه على الهواء

ص:192


1- 1 - قوله «من نسيان ما سمعه» بناء على تعدد الحديث كما هو الظاهر ويحتمل اتحادهما والاختلاف في الرواية كما ذكرنا. (ش)

فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهمه، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا رجع راجعا فحكى ما في الهواء، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جل الله وعز فانه إن فعل ذلك لم يتوهم إلا ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى الله أن يشبهه خلقه.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابه عن هشام بن الحكم قال:) أي قال: هشام من قبله لا من جهة الرواية عن المعصوم، ويحتمل أن يكون من مسموعاته عنه (1).

(الأشياء لا تدرك إلا بأمرين بالحواس والقلب) الغرض منه أن المبدء تعالى شأنه لا يمكن إدراكه بشيء منهما كما سيتضح ذلك ولعل ذكره في هذا المقام باعتبار أنه يصلح أن يكون تفسيرا للآية المذكورة وبيانا لحملها على نفي الإدراك مطلقا.

(والحواس إدراكها على ثلاثة معان) يشمل هذه المعاني الثلاثة إدراك الحواس الخمس الظاهرة كما ستعرفه ويعرف حكم الحواس الباطنة بالقياس إليها بأدنى تأمل.

(إدراك بالمداخلة) أي بدخول المدرك في المدرك وحصول المحسوس في مكان الحاسة (وإدراك بالمماسة) أي بمماسة المدرك بالمدرك واتصافه به (وإدراك بلا مداخلة ولا مماسة فأما الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات) أي فإدراك الأصوات (والمشام) قيل: هي المشموم من باب استعمال المفاعل في المفاعيل، وقيل: هي جمع المشم وهو ما يشم (والطعوم) هذه الثلاثة يتحقق إدراكها بدخولها في الحاسة أما الصوت فإن إدراكه مشروط بدخول الهواء المتكيف به في

ص:193


1- 1 - قوله «ويحتمل أن يكون من مسموعاته» جميع ما هو حق وصواب مأخوذ من الأئمة (عليهم السلام) خصوصا ما عند الشيعة ولكن احتمال أن يكون هذا رواية احتمال باطل وظاهر الكلام أنه قول هشام بن الحكم ونقل أقوال غير الأئمة معهود من الكليني فقد أورد في باب الميراث كلام الفضل بن شاذان في العول وفي باب الطلاق كلام جماعة. وأما قوله «بالحواس والقلب» القلب في اصطلاح العرفاء وفي كثير من الأحاديث هو النفس الناطقة ولهم لطائف سبع مشهورة: الطبع، والنفس، والقلب، والروح، والسر، والخفي. والأخفى، فالطبع: النامية والنفس: القوة الحيوانية وهي الصدر، والقلب: النفس الناطقة، والروح: العقل بالفعل أو المستفاد، والسر: هو العقل الفعال المتحد بالانسان، والخفي: معرفة الصفات، والأخفى: فناء السالك في مقامه لسطوع نور الأحدية. وهذا كثير التداول عندهم إلا أن اطلاق القلب على النفس الناطقة أكثر تداولا جدا قال تعالى «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، أي نفسين، وينبغي أن يكون مراد هشام بن الحكم هنا أعم من النفس الناطقة والحواس الباطنة. (ش)

الصماخ ووصوله إلى القوة المنبثة في العصب المفروش في مقعره وأما المشموم فإن إدراكه متوقف على دخول الهواء المتكيف به في الخيشوم ووصوله إلى القوة الكاينة في الزايدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي، وأما الطعم فإن إدراكه مفتقر إلى تكيف الرطوبة اللعابية به ووصول تلك الرطوبة إلى القوة المنبثة في العصب المفروش على جرم اللسان.

(وأما الإدراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث) الشكل هيئة حاصلة من إحاطة حد أو حدود، وعدة بعضهم من المبصرات.

(ومعرفة اللين والخشن والحر والبرد) الخشونة عند أهل اللغة ضد اللين وقد خشن الشيء بالضم فهو خشن إذا اختلفت أجزاؤه الظاهرة في الارتفاع والانخفاض وعند جماعة من الحكماء والمتكلمين ضد الملاسة دون اللين، واللين عندهم ضد الصلابة دون الخشونة، وقالوا: الخشونة اختلاف الأجزاء في ظاهر الجسم بأن يكون بعضها نباتا وبعضها غايرا والملابسة عبارة عن استوائها.

واللين كيفية تقتضي سهولة قبول الغمز في الباطن ويكون للشيء بها قوام غير سيال فينتقل عن وضعه ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة وإنما يكون الغمز بسبب الرطوبة وتماسكه بسبب اليبوسة والصلابة بخلافه، وإدراك هذه الكيفيات متوقف على مماستها بالقوة اللامسة.

(وأما الإدراك بلا مماسة ولا مداخلة فالبصر) أي فإدراك البصر (فإنه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة) أي بلا مماسة تلك الأشياء ولا مداخلتها فيه (في حيز غيره) الجار متعلق بيدرك أي يدرك البصر في حيز غيره، وهو الحيز الذي فيه المرئي بأن يخرج من البصر شعاع يمتد إلى المرئي ويراه في موضعه أو يحدث في سطح المرئي عند مقابلته بالباصرة شعاع مثل الشعاع البصري ويصير آلة لإدراك البصر له في حيزه، وقد رجح الثاني على الأول بأن الأول مستلزم لانتقال العرض عن موضعه وقد برهن على امتناع ذلك في موضعه، وهذا كما ترى منطبق على أن الإبصار بخروج الشعاع حقيقة كما في الأول أو توهما كما في الثاني، ويمكن انطباقه على مذهب من قال بأن الإبصار باعتبار أن الهواء المشف الواقع بين البصر والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع البصري ويصير بذلك آلة لإبصار المرئي في موضعه ولكن الأنسب بسياق العبارات الآتية هو الأول.

(ولا في حيزه) عطف على قوله «في حيز غيره» أي البصر يدرك الأشياء لا في حيزه بأن يدخل من المرئي شيء في حيز البصر كما يقوله أصحاب الانطباع فليس هناك مماسة بين البصر والمرئي ولا مداخلة.

(وإدراك البصر له سبيل وسبب، فسبيله الهواء) الواقع بين البصر والمرئي (وسببه الضياء) المحيط بالمرئي إذ لو لم يكن الضياء لم يتحقق الإدراك (فإذا كان السبيل متصلا بينه وبين المرئي)

ص:194

غير منقطع بحايل كثيف مانع من نفوذ الشعاع فيه إلى ما وراءه (والسبب قايم) موجود (أدرك ما يلاقي) أي أدرك البصر ما يلاقيه شعاعه (من الألوان والأشخاص) الواقعة في منتهى المسافة الشعاعية (فإذا حمل البصر) يعني أرسلت خطوطه الشعاعية (على ما لا سبيل له) بأن يكون المرئي كثيفا صقيلا ليست فيه مسامات وفرج صغار يدخل فيها شعاع البصر (رجع راجعا) أي رجع البصر عند وصوله إليه راجعا وانعكس انعكاسا والمراد بالبصر شعاعه (فحكى ما وراءه) أي فأدرك ما وراءه وأخبر عنه.

(كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة) أي شعاع بصره (فإذا لم يكن له سبيل) في المرآة لعدم الفرج والمسامات فيها (رجع راجعا يحكي ما وراءه) مما وضعه من المرآة كوضعها من البصر فيكون زاوية رجوع الشعاع منها كزاوية وصوله إليها، فإذا وقعت المرآة في مقابل الرائي رجع الشعاع منها إلى وجهه فيراه ولا شعور له بالرجوع فيتوهم أنه يراه على الاستقامة فيحسب أن صورة وجهه منطبعة في المرآة فإذا كان الوجه قريبا منها كانت الخطوط الشعاعية الراجعة قصيرة فيظن أن صورته قريبة من سطحها، وإذا كان بعيدا كانت الخطوط طويلة فيحسب أن صورته غائرة في عمقها.

(وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع) شعاع بصره (راجعا فيحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره) إلا أنه فرق بين المرآة والماء فإن الشعاع البصري لا ينفذ في جرم المرآة أصلا فلذلك يرجع صافيا غير مضطرب فيرى به على وجه الكمال بخلاف الماء فإن الشعاع ينفذ في جرمه في الجملة فلذلك لا يرجع على وجه الكمال، وقد ظهر مما ذكر أن الله جل شأنه لا يمكن إدراكه بالحواس لانتفاء المماسة والمداخلة فيه واستحالة أن يكون في حيز وطرف الخطوط الشعاعية والهواء المتوسط لأن ذلك من لواحق الجسمية وتوابعها.

(فأما القلب) أي النفس الناطقة (فإنما سلطانه على الهواء (1)» أي الهواء بالمد ما بين الأرض

ص:195


1- 1 - قوله «وأما القلب فإنما سلطانه على الهواء» مقصود هشام بن الحكم أن يبين لمية عدم إدراك الإنسان حقيقة ذات الباري وحاصله أن العادة كالحاجب الجسماني فكما أن الإنسان في بيت فيه مرآة لا يمكن أن يدرك ما هو خارج عن البيت لحجب الجدر والمرآة لا ينفذ فيها أيضا شعاع البصر بل يرجع فيرى ما في البيت كذلك العادة حجاب على بصيرة العقول لا يمكن أن ينفذ بصيرة الإنسان ويخرق حجاب العادة ومن العادات أنه لم يدرك شيئا قط إلا في مكان وحيز وعبر عنه هشام بن الحكم بالهواء وقد سبق أن الهواء في لغة العرب هو المكان عند أصحاب البعد أعني البعد المفطور، وبالجملة إذا أراد عقل البشر أن يدرك كنه ذاته تعالى منعته عادته من أن يتصور شيئا خارجا عن المكان بل يتصور موجودا جسمانيا في مكان وحيز ويزعم أنه إلهه ولا يمكنه تصور شيء إلا في مكان بمنزلة من في بيت مسدود حيث لا يمكنه أن يرى شيئا ليس في البيت. وهذا الكلام من هشام بن الحكم يدفع ما نسب إليه من التجسيم كما سيجيء إن شاء الله في محله. (ش)

والسماء، ويطلق أيضا على الفضاء وهو البعد الخارجي وعلى كل خال وعلى الباطل ولعل المراد به هنا عالم الإمكان طولا وعرضا وتسميته بالهواء إما من باب تسمية الكل باسم الجزء أو باعتبار أنه بعد معين وفضاء في الخارج أو باعتبار خلوه عن الوجود في حد ذاته وبطلان حقيقته باعتبار نفسه إذ الحق بالحقيقة الحقة الثابتة هو الذي وجوده لذاته كما يرشد إليه قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه).

(فهو يدرك) أي فهو قابل لأن يدرك (جميع ما في الهواء ويتوهمه) سواء حصل له إدراك الجميع بالفعل أو لا وذلك لأن النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم وقد خلقت لها آلات بدنية لتتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها وتتنبه لمشاركات بينها ومباينات فيحصل لها التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة كلا أو بعضا على تفاوت مراتبها.

(فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا) وبلغ شعاع بصيرته إلى العدم الذي يمنع من نفوذه وفيما بعده (رجع راجعا) إلى ما وراءه (فحكي ما في الهواء) من المهيات والحقايق والكيفيات (فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جل الله وعز) إذ ليس ذاته تعالى وماله من صفات كماله ونعوت جلاله موجودة في الهواء.

(فإنه إن فعل ذلك لم يتوهم من أمر التوحيد إلا ما في الهواء موجودا) وذلك بسبب رجوع البصيرة عما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد إلى ما هو موجود فيه من الأمور الممكنة (كما قلنا في أمر البصر) من أنه إذا حمل على ما لا سبيل له رجع راجعا فحكى ما وراءه فيلزم حينئذ أن يدرك الله تعالى على صفات خلقه.

(تعالى الله أن يشبهه خلقه) والحاصل أن صنع القلب هو التصرف في الممكنات والتقلب في الماديات والتعقل للمهيات وجزئياتها بتوسط الآلات فإذا تصدى لإدراك الواجب بالذات لا يدركه إلا على سبيل إدراك المخلوقات وهو سبحانه متنزه عن المادة والمهية والمشابهة بالخلق فقد ظهر أنه تعالى لا يمكن إدراكه بالقلب كما لا يمكن إدراكه بالحواس.

ص:196

باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جل وتعالى

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أن قوما بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد؟ فكتب إلي: سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السيمع البصير، تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جل وعز فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه هو الله الثابت الموجود تعالى الله عما يصفه الواصفون ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن قوما بالعراق يصفون الله تعالى بالصورة وبالتخطيط) فمنهم من يقول أنه مركب من لحم ودم، ومنهم من يقول: هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء طوله سبعة أشبار من شبر نفسه، ومنهم من يقول هو على صورة إنسان فبعضهم يقول: هو شاب مخطط مجعد وبعضهم يقول: هو شيخ أشمط الرأس ونقل أبو عبد الله الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن محيي الدين شارح مسلم أنه قال: قال ابن قتيبة: الله صورة لا كالصور واستدل على ذلك بظاهر ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته» (1) وقد غلط في ذلك وهل قوله إلا كقول المبتدعة أنه تعالى جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة قالوا: هو شيء لا كالأشياء طردوا ذلك فقالوا: هو جسم لا كالأجسام والفرق أن لفظ شيء لا يشعر بالحدوث والصورة تشعر بالتركيب والتركيب خاص بالأجساد والأجساد حادثة، والعجب منه أن لآدم (عليه السلام) عنده صورة وقد أبقى الحديث على ظاهره في أن لله تعالى صورة كصورة آدم (عليه السلام) فكيف يقول لا كالصور وهل هذا إلا

ص:197


1- 1 - الصحيح ج 8 ص 32 من حديث أبي هريرة.

تناقض، ثم يقال له: إن أردت بقولك لا كالصور أنه ليس بمركب فيرد أنه ليس بصورة وإن اللفظ لا يفيد ذلك وإن الحديث غير محمول على ظاهره وإنك وافقت القائلين بتأويله والتأويل فيه أن الضمير يعود إلى الأخ المضروب كما صرح به القرطبي، قال. معناه خلق آدم على صورة المضروب فكان الضارب ضرب وجه أبيه آدم (عليه السلام). فإن قيل فينبغي أن يجتنب ما سوى الوجه من الأعضاء لأنه يشبه أعضاء آدم فالجواب أن الوجه قد اختص بما ليس في غيره إذ فيه البصر الذي يدرك به العالم وما فيه من العجاب الدالة على عظم قدرة الله تعالى، والسمع الذي يسمع به أمر الله تعالى ونهيه ويتعلق به العلوم التي منها معرفة الله ومعرفة الرسول وفيه النطق الذي شرف به الإنسان على سائر الحيوان، وعلى تقدير أن يكون الضمير عايدا إليه سبحانه فنقول: الإضافة لتشريف آدم (عليه السلام) كقوله تعالى (ناقة الله وسقياها) وبيت الله، وقد اختص آدم بأن خلقه بيده ولم يقلبه في الأرحام ولم يدرجه من حال إلى حال.

ونقول: المراد بالصورة الصفة كقولهم صورة فلان عند الأمير أي صفته لاختصاصه (عليه السلام) بصفات من الكمال والفضائل وسجود الملائكة له تعظيما وإن كان سجودهم كان لله حقيقة فصفاته شبيهة بصفاته تعالى ومثل هذه التأويلات إلا منع عود الضمير إليه سبحانه يجري فيما رواه البخاري (1) في باب السلام وخرجه مسلم في باب خلق آدم (عليه السلام) «من أنه قال تعالى لما خلق آدم على صورته:

إذهب فسلم على اولئك النفر من الملائكة» على أن الضمير فيه يجوز أن يعود على آدم (عليه السلام) ومثل ذلك متعارف فلا يرد أن الكلام حينئذ غير مفيد لأنه معلوم أنه خلق على صورته وأيضا يجري مثل هذه التأويلات فيما روي «أن الله تعالى خلق آدم (عليه السلام) على صورة الرحمن» ونقل الآبي عن بعض علمائهم أنه قال: هذه الرواية لم تثبت عند أهل النقل ولعل راويها توهم أن الضمير في الرواية الأولى المعتبرة عايد إليه سبحانه فأبدل الضمير بالرحمن من باب النقل بالمعنى. وإنما بسطنا الكلام بنقل رواياتهم وأقاويلهم لأن معرفة ذلك لا يخلو من فائدة عند المناظرة مع أهل الخلاف.

(فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد) جزاء الشرط محذوف أي فعلت (فكتب إلي) الصحيح والذي عليه جمهور المحدثين من العامة والخاصة وأكثر الفقهاء والاصوليين جواز العمل بالكتاب عن الكتاب إذا علم أنه خطه وهو عندهم معدود في المتصل لإشعاره بمعنى الإجازة وقال السمعاني هو أقوى من الإجازة ودليلهم ما صح واشتهر من كتبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى نوابه وعماله وكذلك الخلفاء والأئمة (عليه السلام) بعده ومنه هذا الحديث وغيره، ولكن الراوي يقول: كتب إلي وأخبرني بكتابه أو في كتابه أو فيما كتب به إلي كما في هذا الحديث، ولا

ص:198


1- 1 - الصحيح: ج 8 ص 62 كتاب الاستيذان ح 1.

يجوز أن يطلق ويقول: حدثني أو أخبرني، وجوز الإطلاق طايفة من المتقدمين من محدثي العامة.

(سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك) بكسر القاف وفتح الباء أي من هو عندك فالعايد إلى من مبتدء محذوف والظرف خبر له والموصول مع صلته فاعل ذهب (فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء) فيه تنزيه له تعالى عما يقولون وإشارة إلى مخالفتهم في وصفه تعالى لنص القرآن.

(وهو السميع البصير) بلا سمع لا بصر فيسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ويعلم ما يعتقدون، وفيه وعيد لهم على ما يصفون ثم صرح بتنزيهه تعالى عما يقولون تأكيدا لما سبق بقوله (تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله) ما لا يليق به. والتشبيه في الحقيقة جحود وإنكار لأن ما يتصوره المشبهون ويعتقدون أنه إليه ليس هو الإله الذي يثبته العقلاء ويقرون به ثم أشار بعد تنزيهه تعالى عما يصفون إلى المذهب الصحيح بقوله (فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله تعالى) التي بعضها صفات كمالية وبعضها صفات فعلية وبعضها صفات تنزيهية اشتملت على جميعها إجمالا قوله تعالى (ليس كمثله شيء).

(فانف عن الله تعالى البطلان) كما زعمه الملاحدة والثنوية وعبدة الأوثان والنيران وعبدة الشمس والمشتري وغيرهم من أصحاب الملل الفاسدة النافية للصانع (والتشبيه) بخلقه كما زعمه المجسمة والمصورة والكرامية والقايلون بأنه في جهة ومكان وبأن له كلاما ككلامنا وصوتا كصوتنا وسمعا وبصرا كسمعنا وبصرنا وصفات زايدة كصفاتنا وأصحاب البطلان والتشبيه هم المحجوبون عن ربهم بالمقايسات الحسية والاعتبارات الوهمية (فلا نفي ولا تشبيه) في أمر التوحيد وهذا في اللفظ إخبار وفي المعنى نهي عن القول بهما.

(هو الله الثابت الموجود) الذي لا يعرضه التغير من وصف إلى وصف والتحول من حال إلى حال ولا يسبقه عدم ولا يلحقه انقطاع وهو الموجود أزلا وأبدا (تعالى الله عما يصفه الواصفون) من صفات الخلق ولواحق الإمكان، وهذا إعادة لما مر تأكيدا له.

(ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان) إذ مدار القرآن على التوحيد المطلق والتنزيه التام وبيان القواعد الكلية التي بها كون صلاح نوع الإنسان في معاده ومعاشه فلا يجور لأحد التجاوز عما نطق به لأن كل ما فيه وثيق الأركان رفيع البنيان متين البرهان معدن الإيمان فكل وصف لا يوافقه باطل، وكل قول لا يطابقه كاذب، وكل أمر لا يناسبه ساقط وإنما قال «بعد البيان» لأن الضلال بعده أقبح من

ص:199

الضلال قبله والإثم المترتب عليه أتم وأشد لا لأن الضلال قبله لا إثم فيه كما ظن.

* الأصل:

2 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة قال: قال لي علي بن الحسين (عليهما السلام): يا أبا حمزة إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة قال: قال لي علي بن الحسين (عليه السلام): يا أبا حمزة إن الله لا يوصف بمحدودية) أي لا يكون له هذه الصفة في الواقع فلا يجوز لأحد أن يصفه بها ولا بما يستلزمها من كونه جسما أو صورة أو ذا أطراف ونهايات أو ذا أجزاء وكيفيات إلى غير ذلك من الأمور الموجبة لتحديده.

(عظم ربنا عن الصفة) أي من أن يكون له صفة لأن كل ذي صفة مفتقر إلى الغير ناقص في حد ذاته، وفيه دلالة على أن صفاته الكمالية عين ذاته المقدسة.

(وكيف يوصف بمحدودية من لا يحد) أي من ليس له حد عرفي ولا لغوي لتنزهه عن الأجزاء والنهايات وتقدسه عن الأطراف والغايات، وقد روي «أن رجلا من الزنادقة قال لمولانا الرضا (عليه السلام):

فحده لي، قال: لا حد له قال: ولم؟ قال: لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزي ولا متوهم» (1).

(ولا تدركه الأبصار) لتنزهه عن قبول الإشارة الظاهرة الحسية والإشارة الباطنة العقلية كما عرفت.

(وهو يدرك الأبصار) لإحاطة علمه بالمبصرات والمعقولات (وهو اللطيف) أي البعيد عن إدراك الخلق له أبو البر بعباده، الذي يلطف بهم ويرفق من حيث لا يعلمون أو العالم الكامل في الفعل والتدبير أو الخالق للخلق اللطيف الذي يعجز عن إدراك أعضائه وجوارحه أبصار الناظرين ومن تعقل خواصه ومنافعه عقول العارفين أو فاعل اللطف رأفة بعباده وهو ما يتقرب معه العبد من فعل الطاعة ويبعد عن المعصية كإنزال الكتب وإرسال الأنبياء ونصب الأوصياء.

(الخبير) أي العالم بحقائق الأشياء وغوامضها ودقايقها، والخبر بالضم العلم يقال لي خبر به أي

ص:200


1- 1 - احتجاج الطبرسي ص 216.

علم وفلان خبير بالشيء أي عالم بكنهه ومطلع على حقيقته، واللطيف بالمعنى الأول يناسب قوله «لا تدركه الأبصار» والخبير يناسب قوله «وهو يدرك الأبصار».

* الأصل:

3 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الخزاز ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فحكينا له أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة وقلنا: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنه أجوف إلى السرة والبقية صمد، فخر ساجدا لله ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبهوك بغيرك، اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ولا اشبهك بخلقك، أنت أهل لكل خير، فلا تجعلني من القوم الظالمين. ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره، ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي، يا محمد إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة، يا محمد! عظم ربي عز وجل أن يكون في صفة المخلوقين، قال: قلت: جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة؟ قال: ذاك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب، إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك. يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن) علي بن موسى (الرضا (عليه السلام) فحكينا له أن محمد أرأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة) قيل: الشاب الموفق هو الذي أعضاؤه موافقة بحسن الخلقة، وفي النهاية الأثيرية الشاب الموفق الذي وصل إلى الكمال في قليل من السن.

وقال الفاضل الأسترآبادي: يحتمل أن يكون الشاب الموفق من باب الاشتباه الخطي وأن يكون في الأصل الشاب الريق كما هو المتعارف في كتب اللغة.

أقول: الموفق كما هو المصحح في جميع النسخ له معنى مناسب للمقام وهو المروي عن طرق العامة رووا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه في صورة الشاب الموفق من أبناء ثلاثين سنة ورجلاه في خضرة

ص:201

وباقي جسده خارج» فالحكم بالاشتباه خطأ وكانه حكم به باعتبار أن الريق له معنى مناسب هنا لان الريق على وزن ضيق ذو بهجة وبها من راق الشيء إذا بلغ.

(وقلنا إن هشام بن سالم) قال العلامة في الخلاصة هو ثقة ثقة وكان الحديث ضعيفا لا يقدح فيه (صاحب الطاق) هو محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر الأحول الصراف في طاق المحامل بكوفة (والميثمي يقولون إنه أجوف إلى السرة) أي ذو جوف وخالي الداخل وجوف كل شيء قعره (والبقية صمد) أي مصمد مصمت لا جوف له (فخر) أي سقط على الأرض (ساجدا لله) تخشعا لعظمته (ثم قال) في سجوده على الظاهر (سبحانك) أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من التشبيه والتوصيف (ما عرفوك) على ما ينبغي من معرفتك (ولا وحدوك) (1) على ما وجب لك

ص:202


1- 1 - «ولا وحدوك» إن كان هذا الخبر صحيحا موافقا للواقع بجميع ما فيه لزم كون مؤمن الطاق وهشام ابن سالم والميثمي - وهو أحمد بن حسن بن إسماعيل من أولاد ميثم التمار - غير موحدين وهذا ينافي ثقتهم ومنزلتهم عند الأئمة (عليهم السلام) وربما ينسب مثل قولهم إلى هشام بن الحكم على ما يأتي إن شاء الله ويأتي ما عندنا في ذلك ونقدم بيان أمور: الأول: أن الكفر والإيمان يدور مدار الإقرار بالتوحيد والرسالة فمن اعترف بهما مؤمن ومن أنكر أحدهما كافر وقد يستلزم اعتقاد شيء نفي أحدهما لزوما بينا فصاحب ذلك الاعتقاد كافر، وقد يستلزم لزوما غير بين وهذا لا يوجب الكفر إذ لا يدل على إنكار صاحبه التوحيد أو الرسالة، مثال الأول قول من يذهب إلى أن أحكام الشريعة الصادرة من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت بمقتضى فكره وعقله مناسبة للمصالح في عصره فإنه من اللوازم البينة لإنكار النبوة وكذلك من يعيب أحكامه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويظن أن عند الناس أحكاما وقوانين أحسن منه. مثال الثاني: القول بالتجسيم فإنه يستلزم إنكار الواجب تعالى لزوما غير بين إذ لا يعلم أن القائل به يفهم أن الجسم مركب والمركب محتاج إلى الأجزاء فهو ليس بواجب الوجود، وهذا ليس مما يفهمه جميع الناس فالحق عدم الحكم بكفر أهل التجسيم أن لم يكن ممن له إلمام بهذه المسائل. الأمر الثاني: أن كثيرا من محدثي العامة والكرامية بل الأشاعرة يثبتون له تعالى صفات الجسم ولوازم الجسمية ويتبرؤون من التجسيم مثلا يقولون إنه على العرش حقيقة، وإنه يرى في الآخرة، ورآه نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بعيني رأسه وانه ينزل في كل ليلة جمعة ولكن ليس جسما، وهذا تناقض يلتزمون به ولا يبالون، وهذا يدل على عدم تفطنهم لكثير من اللوازم البينة أيضا وعندنا هو عين التجسيم. الأمر الثالث: قد مر من كلام هشام بن الحكم دليل على نفي التحيز والتمكن ومع ذلك نقلوا عنه القول بالتجسيم فإن صح النقل فلا بد أن يحمل قوله وقول أمثاله بالجسم على خلاف ظاهره إذ الجسم لا يوجد إلا في مكان وحيز بالبديهة وهم نفوا المكان فكأنهم أرادوا بالجسم الموجود المستقل بذاته إذ لم يجدوا لفظا في التعبير عنه أقرب في التفهيم من لفظ الجسم كما رأينا في تعبيرات المتأخرين أنه تعالى جوهر، أوله ماهية، ولم يريدوا به الجوهر المصطح من قسمي الممكن ولا الماهية التي هي حد الوجود، أو قالوا أنه تعالى شيء يعنون أن له حقيقة ووجود أو ليس عرضا واعتباريا وعلى هذا فيكون تخطئة الإمام (عليه السلام) إياهم في تعبيرهم الموهم الباطل لا في أصل اعتقادهم. الأمر الرابع: الوجود حقيقة واحدة والماهيات حدود واعتبارات عارضة وبما شبهت ذلك بما ثبت في عصرنا من أن النور والصوت والكهرباء تموجات في الهواء أو الأثير نظير تموج الماء بإلقاء شيء فيه فهي حقيقة واحدة يظهر في أذهاننا تارة في الصوت وتارة في النور وأخرى الكهرباء وكذلك الوجود بناء على أصالته حقيقة واحدة يختلف بالشدة والضعف والماهيات مظاهر لمراتبه في فكرنا وذهننا، وأيضا تحقق في عصرنا نوع من النور غير مرئي بالبصر وينفذ في أجسام غير مشفة ويؤخذ به التصوير من باطن الإنسان كما رآه كل أحد ومع ذلك لا نرى هذا النور وهو نور فلا يبعد أن يكون مجبولا في فطرة كثير منهم وإن لم يمكنهم التعبير عنه أن الجسم يختلف اختلافا بحسب العوالم المختلفة مع حفظ حقيقة واحدة فليكن هذا على ذكر منك حتى يحين حينه إن شاء الله. (ش)

من توحيد وتنزيهك عن المشابهة بخلقك.

(فمن أجل ذلك وصفوك) بصفات المخلوقين ونعوت المصنوعين.

(سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك) في قولك وهو اللطيف الخبير. وليس كمثله شيء. ولم يكن له كفوا أحد. ولا تدركه الأبصار إلى غير ذلك من النعوت الجلالية والصفات الكمالية.

(سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبهوك بغيرك) مخالفا لكتابك وسنة نبيك بل لصراحة عقولهم (اللهم لا أصفك إلا بما وصفت به نفسك ولا اشبهك بخلقك أنت أهل لكل خير) يعني كل خير أنت مبدؤه ومنشأه، أو المراد أنت أهل لكل صفات حسنة كاملة دون صفات قبيحة باطلة كما زعموا.

(فلا تجعلني من القوم الظالمين) دعاء لحفظ عصمته مع تقدس ذاته عن الاتصاف بالظلم تواضعا لله وهضما لنفسه. أو تعليم لخواص شيعته، أو ابتهال لدفع ما استحقوا من العذاب عن نفسه المقدسة لأن شوم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم لقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وربما يستفاد من هذا الكلام أن أسماءه تعالى وصفاته توقيفية (1) بمعنى أنه لا يجوز أن يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله ويندرج فيه ما انعقد على التسمية به إجماع فما لم يرد فيه إذن ولا منع لا يجوز.

ص:203


1- 1 - قوله «وربما يستفاد من هذا الكلام أن أسماء وصفاته» لقد أحسن الشارح إذ ربط بين توفيقية الأسماء وبين هذه المسألة. ولا شك أن الإنسان لا يعرف من صفاته تعالى شيئا إلا ما عرفه القرآن والسنة، أما ما دل عليه العقل من علمه وقدرته وحياته فليس خارجا عما في القرآن والمقصود من صفاته الممنوعة ما يوجب تحديد ذاته تعالى بحدود الممكنات وإنما منع من إطلاق أسماء لم يرد بها نص عليه تعالى لدلالتها على صفة لا نعلم ثبوتها وإذا علم ثبوت صفة له تعالى لا يمنع من إطلاق اسم يدل على تلك الصفة. (ش)

واختلفت العامة في هذا القسم فقيل فيه بالوقف وقيل بالمنع، وقيل: إن أوهم معنى يستحيل امتنع وإن لم يوهم جاز.

وقال الباقلاني: يجوز أن يسمى بكل ما يرجع إلى ما يجوز في صفته كسيد وحنان ما لم يجمع على منع ما يجوز مثل عاقل وفقيه وسخي قال: وكره مالك التسمية بسيد وحنان بناء على أنه لم يرد عنده فيهما إذن ولا مانع وأما ما لا يجوز في أصله فلا يسمى به وإن كان الله تعالى وصف به نفسه بالفعل المشتق منه ذلك الاسم نحوه «الله يستهزئ بهم» و «سخر الله منهم» ومكر الله فلا يقال: يا مستهزىء ويا ساخر ويا ماكر لأن ما يستحيل عليه تعالى لا يجري منه عليه إلا قدر ما أطلقه السمع.

وهم أيضا اختلفوا في صبور ووقور فمنعه الباقلاني لأن الوقور الذي يترك العجلة في دفع ما يضره، والصبور الذي يتحمل الأذى. وبعضهم أجاز ذلك بناء على أن معناهما يرجع إلى الحلم.

(ثم التفت إلينا فقال: ما توهمتم من شيء فتوهموا الله غيره) أي فاعلموا واعتقدوا أنه تعالى غير ما توهمتموه وذلك لأن الآلات البدنية والعقول البشرية لكونها قاصرة عن إدراك ذاته وتناول صفاته كل ما أدركته فهو مخلوق محدود مثلها بعيد عن جناب الحق وساحة القدس، وسر ذلك أن النفس الناطقة لا تدرك الجزئيات الموجودة في نفس الأمر ومهياتها إلا بالآلات الجسمانية فلا تقدر أن تدرك الجزئي المجرد المنزفه عن المهية والمواد بالكلية.

(ثم قال: نحن آل محمد النمط الأوسط) أي الجماعة القايمين على الوسط يعني العدل في العلم والعمل، وينبغي أن يعلم أن طريق السالكين إلى الله تعالى إنما يستقيم بالعلم والعمل، والعلم طريق القوة النظرية والعمل طريق القوة العملية وكل واحد منهما واقع بين رذيلتين رذيلة الإفراط ورذيلة التفريط كالإبطال والتشبيه في معرفته تعالى والوسط بينهما هو العدل وهو طريق آل محمد (عليهم السلام) (الذي لا يدركنا الغالي) الموصول صفة للنمط الأوسط وإفراده باعتبار اللفظ والأصل أن يقول لا يدركه بالضمير للموصول إلا أنه أتى بضمير المتكلم من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتصريح بالمقصود كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنا الذي سمتني أمي حيدرة» والعالي بالعين المهملة المتجاوز عن حد الفضايل الإنسانية التي مدارها على الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وبالغين المعجمة من الغلو الواقع في طرف الإفراط من الأمور المذكورة فهو قريب مما ذكر.

(ولا يسبقنا التالي) أي لا يسبق إلينا التالي، بالحذف والإيصال ليوافق قوله: «لا يدركنا»، والتالي هو المقصر عن بلوغ هذه الفضائل والواقع في طرف التفريط منها، والمقصود من هاتين الفقرتين هو الشكاية بعدم رجوع المفرطين إليهم وعدم لحوق المقصرين بهم، مع الإشارة إلى أن ولاية امور

ص:204

العباد ووراثة علم النبوة وخلافة الامة موجودة فيهم وأن بهم يكتسب الشخص تلك الفضائل ويستحق تلك الخصائل ولا ريب في ذلك فإن الفضائل وإن وجد بعضها في غيرهم فعنهم مأخوذ وإليهم منسوب وبالله التوفيق.

(يا محمد إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نظر إلى عظمة ربه) ورأى نورها ببصيرة قلبه (كان في هيئة الشاب الموفق وسن أبناء ثلاثين سنة) يعني أن الظرف حال عن فاعل رأي لا عن الرب ومعناه أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عند رؤية نور عظمته تعالى في هذه الهيئة والصورة دون الرب جل شأنه كما زعموا لتعاليه عن الهيئة والصورة والوجود المحدود بزمان، فإن قلت نظره هذا إلى عظمة ربه كان بعد البعثة وقد بعث بعد ما مضى عن عمره الشريف أربعون سنة فكيف صح أنه كان حينئذ في سن أبناء ثلاثين قلت: كون هذا النظر بعد البعثة غير معلوم على أنه لو ثبت ذلك فلا منافاة لأنه قال: كان في هيئة الشاب الموفق وفي هيئة سن أبناء ثلاثين لأنه كان له حينئذ ثلاثون سنة ويحتمل أن يعود. ضمير كان إلى الرب ويكون هذا الكلام واردا على سبيل الإنكار ولكنه بعيد جدا.

(يا محمد عظم ربي عز وجل) أي جاوز قدره ورفع شأنه (أن يكون في صفة المخلوقين) لوجوب التباين بين الخاق والمخلوق وامتناع اتصافه بما هو من لواحق الإمكان.

(قال: قلت: جعلت فداك من كان رجلاه في خضرة؟ قال: ذلك محمد) يعني أن الضمير في قوله «ورجلاه في خضرة وباقي جسده خارج» راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا إلى الرب تعالى شأنه كما فهموه لتعاليه عن أن يكون له جسد ورجل وتشابه بخلقه.

(كان إذا نظر إلى ربه بقلبه) وعرفه حق المعرفة الذي هو في أعلى مراتبها المقدورة للبشر (جعله في نور) أي جعل الرب محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جعل قلبه في نور من تجليفاته (مثل نور الحجب) (1) الذي هو أيضا من تجليات عظمته وكبريائه لتحصل المناسبة التامة بينه وبين الرب.

ص:205


1- 1 - قوله «مثل نور الحجب» قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار اعلم أنه قد تظافرت الأخبار العامية والخاصية في وجود الحجب والسرادقات وكثرتها، ثم قال: وظاهر أكثر الأخبار أنها تحت العرش ويلوح من بعضها أنها فوقه وروي من طريق المخالفين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «أن لله تبارك وتعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه ما دونه» إلى أن قال: والتحقيق أن لتلك الأخبار ظهرا وبطنا وكلاهما حق فأما ظهرها فإنه سبحانه كما خلق العرش والكرسي مع عدم احتياجه إليهما كذلك خلق عندهما أستار أو حجبا وسرادقات. وقال أما بطنها فلأن الحجب المانعة عن وصول الخلق إلى معرفة كنه ذاته وصفاته أمور كثيرة منها ما يرجع إلى نقص المخلوق وقواه ومداركه بسبب الإمكان والافتقار والاحتياج والحدوث وما يتبع ذلك من جهات النقص والعجز وهي الحجب الظلمانية، ومنها ما يرجع إلى نوريته وتجرده وتقدسه ووجوب وجوده وكماله وعظمته وجلاله وساير ما يتبع ذلك وهي الحجب النورانية إلى آخر ما قال. (ش)

(حتى يستبين له ما في الحجب) من العظمة وصفات الكمال ونعوت الجلال. وإضافة النور إلى الحجب إما بيانية لأن نور عظمته حجاب مانع من رؤيته، أو لا مية إن أريد بالحجب مقامات العارفين إذ لكل مقام نور من عظمته يظهر للعارف إذا بلغه وأرفع تلك المقامات وأعلاها هو الذي بلغه سيد العارفين حتى شاهد نوره على أكمل ما يتصور للبشر ببصيرة قلبه بل ببصر عينه، ولا يبعد ذلك كما يرشد إليه حكاية موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام في رؤيته لنور شجرة الطور، والنور في الموضعين على هذا التفسير محمول على ظاهره ويمكن أن يراد بالنور الأول منتهى ما عرف المقربون منه تعالى وقد شاع تسمية العلم بالنور ومنتهاه معرفة ما يليق به سبحانه وتنزيهه عمالا يليق به وقد تضمن على جميع ذلك قوله تعالى «ليس كمثله شيء» وهذه المعرفة تحجب عن معرفة ما وراء ذلك من تخييله وتمثيله وتجسيمه وتصويره وتشبيهه ورؤيته، فمعنى الحديث - والله أعلم - أنه كان إذا نظر إلى ربه بقلبه اللطيف وعقله الشريف جعل الرب قلبه في نور هو منتهى معرفته سبحانه وقد عرفت أن منتهى معرفته حجاب فلذلك قال: مثل نور الحجب بتشبيه ذلك النور بنور الحجب في المنع من الرؤية بل من جميع ما لا يليق بذاته المقدسة فإن ذلك النور مانع منها كما أن نور الحجب الذي هو نور العظمة ما منع منها، وغاية تلك المعرفة التي عبر عنها بالنور أن يستبين له (صلى الله عليه وآله وسلم) ما في الحجب مما يجوز له تعالى شأنه وما لا يجوز وكون رجليه في خضرة كناية عن أن قلبه في سبيل المعارف الإلهية كان مستغرقا في بحار معرفة ما يليق به من الصفات الكمالية والنعوت الجلالية لم يكن في وسعه التجاوز عنها إلى ذاته الحقة الأحدية.

ويمكن أيضا أن يراد بالنورين العلم وبالحجب الملائكة القدسية والجواهر العقلية (1) وإلى هذا أشار سيد المحققين بقوله من ضروب ملائكة الله تعالى جواهر قدسية وأنوار عقلية وهم حجب أشعة جمال نور الأنوار ووسائط النفوس الكاملة في الاتصال برب الأرباب والنفس الإنسانية إذ استكلمت ذاتها الملكوتية ونفضت الجلبات الهيولاني ناسبت نوريتها نورية تلك الأنوار وشابهت جوهريتها جوهريتها فاستحقت الاتصال بها والانخراط في زمرتها والاستفادة منها ومشاهدة أضوائها ومطالعة ما في ذواتها من صور الحقايق المنطبعة فيها، وإلى ذلك أشار (عليه السلام) بقوله «جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب» (2) يعني جعله في نور العلم والكمال مثل نور

ص:206


1- 1 - قوله «الملائكة القدسية والجواهر العقلية» عطف تفسير فإن الجواهر العقلية هم الملائكة والاختلاف بينهما بحسب الاصطلاح فقط. (ش)
2- 1 - قوله «حتى يستبين له ما في الحجب» قال المجلسي (رحمه الله) في البحار بعد ما سبق نقله وبعد كلام لا حاجة إلى نقله: فترتفع الحجب بينه وبين ربه سبحانه في الجملة فيحترق ما يظهر عليهم من أنوار جلاله تعيناتهم وإراداتهم وشهواتهم فيرون بعين اليقين كماله سبحانه ونقصهم وبقائه وفنائهم وذلهم وغناه وافتقارهم بل يرون وجودهم المستعار في جنب وجوده الكامل عدما وقدرتهم الناقصة في جنب قدرته الكاملة عجزا بل يتخلون عن إرادتهم وعلمهم وقدرتهم فيتصرف فيهم إرادته وعلمه وقدرته سبحانه فلا يشاؤون إلا أن يشاء الله، ولا يريدون سوى ما أراد الله، ويتصرفون في الأشياء بقدرة الله فيحيون الموتى ويردون الشمس ويشقون القمر كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية» إلى آخر ما قال. (ش)

الحجب حتى يناسب جوهر ذاته جوهر ذاتهم فيستبين له ما في ذواتهم من الحقايق والعلوم. أقول:

هذه التأويلات غاية ما يصل إليه أفهامنا والله أعلم بمراد وليه.

(إن نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك) من الألوان هذا تعليل لوصف النور الذي كان رجلاه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخضرة وتحقيق له وينبغي أن لا يشك في أن لله تعالى في عالم الغيب أنوارا متصفة بالصفات المذكورة ولكن لا يراها إلا أصحاب القلوب الصافية الخالصة عن غواشي الأوهام وعلائق الأبدان وقد يظهر لبعض المجردين شيء (1) من ذلك كالبرق الخاطف، وصح أيضا أن يراد بالنور الأخضر علمه تعالى باعتبار تعلقه بما اخضر من الكائنات وبالنور الأحمر علمه باعتبار تعلقه بما احمر منها وبالنور الأبيض علمه باعتبار تعلقه بما ابيض منها، ويؤيده ما في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) في هذا الحديث «أن نور الله منه أخضر ما اخضر ومنه أحمر ما احمر ومنه أبيض ما أبيض وغير ذلك» ويحتمل أن يراد بتلك الأنوار صفاته تعالى فيراد بالنور الأخضر قدرته (2) على الممكنات وإفاضة الأرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة وبالنور الأحمر

ص:207


1- 2 - قوله «وقد يظهر لبعض المجردين» قال صدر الحكماء المتأليهن (قدس سره) في شرح الحديث ما حاصله أن تلك الحجب الإلهية متفاوتة النورية بعضها أخضر ومنه أحمر وأبيض ومنه غير ذلك فالنور الأبيض ما هو أقرب إلى نور الأنوار والأخضر ما هو أبعد منه فكأنه ممتزج بضرب من الظلمة لقربه من ليالي حجب الأجرام الفلكية وغيرها والأحمر هو المتوسط بينهما وما بين كل اثنين من الثلاثة من الأنوار ما يناسبها وتلك واقعة في طريق الذاهب إلى الله بقدمي الصدق والعرفان لا بد من مروره عليها حتى يصل إليه تعالى فربما يتمثل لبعض السلاك في كسوة الأمثلة الحسية وربما لا يتمثل انتهى وكلام الشارح ناظر إليه ومقتبس منه ونقله المجلسي (رحمه الله) أيضا. (ش)
2- 3 - قوله «فيراد بالنور الأخضر قدرته اه» الملازمة العرفية بين الخضرة والحياة ناشئة من عادة الإنسان حيث رأى النبات أخضر وكل أرض كثر فيها الخضرة كثر فيها الحياة. وأما الملازمة بين الحمرة والغضب فلان الغضب يؤدي إلى الجرح والقتل وإراقة الدماء والملازمة بين البياض والرحمة للصفاء من الكدورة وكل ذلك حاصل في ذهن الإنسان بتكرار المشاهدات، والأنوار المعنوية الفايضة على الموجودات إذا تجلى على روح الإنسان تصور بصورة تناسب ما في ذهنه فالانصاف بالخضرة والحمرة شيء يحصل بعد وروده في ذهن الإنسان لا أن النور في ذاته أحمر أو أخضر أو أبيض هذا عند الشارح. وأما التأويل الذي نقلناه عن صدر المتألهين فهو يصرف الألوان إلى ذات النور في ذاته لا باعتبار ذهن الإنسان وهو الصق بعبارة الحديث فإن الظاهر منه أن النور بذاته أخضر أو أحمر، ومثال تأويل الشارح أن يرى الإنسان نورا واحدا تارة أخضر وتارة أحمر من وراء زجاج ملون. ومثال تأويل صدر المتألهين أن يكون النور نفسه بألوان مختلفة كما في البلورة البيضاء ولكن كلامه يبتني على حفظ الحقائق في عوالم مختلفة، كما أن الجسم في عالم المادة جسم وفي عالم البرزخ جسم وفي العوالم بعده أيضا جسم لا ينفك عنه ماهيته وإن تغير بوجه بمقتضى كل عالم ونظيره في الطبيعيات أن الماء الحار ينبث بخارا في الهواء وليس في حرارة ما دام بخارا فإذا اتفق أن رجع من حال البخارية إلى حال الميعان دفعة وجد فيه الحرارة أعني أحس به فالحرارة محفوظة في حال الميعان وحال التبخير وليس محسوسا حال التبخر نظير الحرارة التي يقول بها الأطباء في بعض الأدوية كذلك الخضرة والحمرة في الأنوار المعنوية أمر حقيقي إذا تمثل للعارف ظهر بلون ذاته والماهيات جميعها في عالم العقول تحفظ ذاتها وحقيقتها وقد صرح صدر المتألهين في مواضع من كتبه بما ذكر. ثم إن العلامة المجلسي نقل في تفسير ألوان الحجب في مرآة العقول قول صدر المتألهين أولا وتأويل الشارح ثم حكى عن والده وجها آخر وحاصله أن لكل شيء مثالا في عالم الرؤيا والمكاشفة وتظهر تلك الصور والأمثال على النفوس مختلفة باختلاف مراتبها في النقص والكمال وشأن المعبر أن ينتقل منها إلى ذواتها. والنور الأصفر عبارة عن العبادة ونورها كما هو المجرب في الرؤيا فإنه كثيرا ما يرى الرائي الصفرة في المنام فيتيسر له بعد ذلك عبادة يفرح بها والنور الأحمر المحبة كما هو المشاهد في وجوه المحبين وقد جرب في الأحلام أيضا والنور الأخضر المعرفة كما تشهد به الرؤيا ويناسبه هذا الخبر لأنه (عليه السلام) في مقام غاية العرفان كانت رجلاه في خضرة إلى آخر ما قال وهذا حكاية الواقع وتحقيق صدر المتألهين بيان سره جزى الله جميعهم عن الإسلام والعلم خير الجزاء. (ش)

غضبه وقهره على جميع الكائنات بالإعدام والتعذيب وبالنور الأبيض رحمته ولطفه على عباده أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله إلى غير ذلك من الاعتبارات المناسبة ولا يبعد أن يوصف علم البشر ومعرفته بتلك الأنوار على هذين المعنيين بما يوصف به تلك الأنوار باعتبار المناسبة بين العلم والمعلوم.

(يا محمد ما شهد له الكتاب والسنة فنحن القائلون به) وقد شهدا له بأنه لا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء ولا يشبهه خلقه ولا يوصف بصفاتهم.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن بشر البرقي: قال:

حدثني عباس بن عامر القصباني قال: أخبرني هارون بن الجهم عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال: لو اجتمع أهل السماء والأرض أن يصفوا الله بعظمته لم يقدروا.

* الشرح:

(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن بشر البرقي) في بعض النسخ أحمد بن بشير بالياء المثناة من تحت بعد الشين.

ص:208

(قال حدثني عباس بن عامر القصباني) ثقة كثير الحديث (قال أخبرني هارون بن الجهم، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال: لو اجتمع أهل السماء والأرض وتعاونوا وتظاهروا (أن يصفوا الله بعظمته) التي له (لم يقدروا) إذ قد ضربت حجب العزة وأستار المنعة بينها وبينهم لأن عظمتها بحر لا قعر لها يصل إليه النظر ولا ساحل لها يقع إليه البصر ولا غاية لها يقف عندها الفكر، فالعقل لا يجد حقيقتها وإن غاص في أعماقها ولا يبصر ساحلها وإن نظر إلى أطرافها ومن البين أن ما يستحيل إدراكه وتحديده لا فرق في العجز عنهما بين أن يتوجه إليه عقل واحد أو عقول متكثرة على سبيل التعاون والتظاهر، ثم هذا الكلام وإن كان في اللفظ إخبارا عن كمال عظمته جل شأنه لكنه في المعنى نهي عن الخوض في معرفة حقيقتها وتحديد قدرتها.

* الأصل:

5 - سهل، عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام): أن من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: جسم ومنهم من يقول صورة فكتب (عليه السلام) بخطه، سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم - أو قال: البصير -.

* الشرح:

(سهل) الظاهر أن روايته عن سهل بلا واسطة، ويحتمل أن يكون صدر السند محذوفا بقرينة السابق يعني علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد (عن إبراهيم بن محمد الهمداني) فهذا الحديث على الأول من عوالي الإسناد بلا خلاف لكونه من الثنائيات وعلى الثاني من عوالي الإسناد على الأشهر لكونه من الثلاثيات.

(قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام)) قال الصدوق في كتاب التوحيد بعد هذا القول: يعني أبا الحسن (عليه السلام) (أن من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد فمنهم من يقول جسم) أي جسم كسائر الأجسام أو جسم لا كسائر الأجسام كما هو مذهب جماعة من العامة، وكل من قال: هو جسم قال: ساكن في أشرف الأماكن وأعلاها وهو العرش وقال: تعاليه يمنع من السكون في أدناها.

(ومنهم من يقول صورة) أي هو صورة كسائر الصور، وجوهر حال في جوهر آخر، أو هو صورة لا كسائر الصور كما هو أيضا مذهب جماعة من العامة وهؤلاء الموالي قد أصابوا في بعض الاصول وهو أمر الرسالة والإمامة وأخطأوا في بعضها، وهو أمر التوحيد، وإنما منشأ خطائهم هو عدم معرفتهم بشيء من الحقايق كما في أكثر العوام أو التشبث بظواهر بعض الآيات أو بتقرير بعض من لم يعرفوه من العامة وعدم رجوعهم إلى إمامهم وقد وقعت البراءة من أضرابهم في بعض الروايات.

(فكتب بخطه سبحان من لا يحد) إذ ليس له جزء ولا نهاية فليس له حد عرفي ولا حد لغوي

ص:209

(ولا يوصف) إذ ليس له صفة حتى يوصف بها وكل ما اعتبرته العقول من صفات كماله فهو ليس من صفاته وكل ما هو من صفات كماله فهو عين ذاته ولما نزهه عن الحد والوصف بحيث يفهم منه فساد مذهب هؤلاء أشار إلى أن الواجب عليهم اتباع القرآن بقوله (ليس كمثله شيء) فان من نظر إليه علم أن كل قول يقتضي مماثلته بشيء من الأشياء كاذب وكل عقد يوجب مشابهة بنحو من الأنحاء باطل، ثم أشار إلى أنه ليس بغافل عما يقولون ولا بجاهل عما يعتقدون فيجزيهم بما كانوا يعملون بقوله (وهو السميع العليم) يسمع ما يقولون بأفواههم وما يفترون، ويعلم ما يسرون وما يعلنون.

(أو قال: البصير) بدل العليم والبصير العالم بالخفيات وقيل: العالم بالمبصرات، وهو على التقديرين نوع من العلم المطلق.

* الأصل:

6 - سهل، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم، عن محمد بن حكيم، قال: كتب أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) إلى أبي: أن الله أعلا وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه وكفوا عما سوى ذلك.

* الشرح:

(سهل، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم، عن محمد بن حكيم قال: كتب أبو الحسن: موسى ابن جعفر (عليهما السلام) إلى أبي أن الله أعلا وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته) أي نهايته إذ ليس لما يعتبره العقول من كماله سبحانه نهاية يقف عندها أو حقيقتها إذ ليس لصفته حقيقة ملتئمة من أجزاء خارجية أو ذهنية فصفوه بما وصف به نفسه (1) وهو أنه خالق كل شيء وله الخلق

ص:210


1- 1 - قوله «فصفوه بما وصف به نفسه» المعروف بين العلماء أن أسماء الله تعالى توقيفية وهذا الحديث يبين معناه ومفاده وعلته وذلك لأن كل اسم يدل على صفة ولا يعلم أحد ثبوت تلك الصفة لذات الواجب تعالى لعدم إحاطته بحقيقته نعم يثبت بالعقل له صفات كالعلم والقدرة والحياة والعدل وعدم فعل القبيح وغير ذلك ولكن جميع ذلك مما دل عليه الكتاب أيضا فيصدق أن ما ليس في القرآن الشريف من أسمائه وصفاته يمنع عنه لعدم طريق للبشر للعلم به وقد يتوهم أن بعض الألفاظ مما نعلم ثبوت معناه لذات الواجب تعالى ومع ذلك لا يجوز إطلاقه عليه كالزارع والماكر والمستهزئ والسخي والمستطيع والعارف مع أنه تعالى وصف نفسه في القرآن بتلك الصفات نحو «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون» «والله يستهزئ بهم» و «هل يستطيع ربك أن ينزل علينا» قلنا أمثال تلك أيضا مما يتضمن معنى عند الاطلاق لا يناسب قدس ذاته وإنما أطلق عليه في بعض العبارات بتجريد عنه بالقرائن ولا يتجرد عند الإطلاق، وأما ما علم ثبوت معناه فيه تعالى ولا يتضمن معنى غير مناسب فلا دليل على المنع ونحن نرى أن العلماء لا يتوقفون في إطلاق أسمائه تعالى عليه على ثبوته بنص ثبتت حجيته فهذا دعاء الجوشن يشتمل على أسماء كثيرة لم يرو باسناد صحيح ودعاء الجوشن أيضا غير ثابت بإسناد صحيح وليس توقيفية الأسماء من الأحكام المكروهة أو المستحبة حتى يتمسك فيها بالتسامح في أدلة السنن. (ش)

والأمر ولا شريك له ولا نظير له، ولا والد له ولا ولد، وليس كمثله شيء، وهو السميع العليم إلى غير ذلك مما ذكره في القرآن الكريم.

(وكفوا عما سوى ذلك) من التوصيف والتحديد والتفتيش عن الكنه لئلا تعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.

* الأصل:

7 - سهل، عن السند بن الربيع، عن ابن أبي عمير، عن حفص أخي مرازم، عن المفضل قال:

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الصفة فقال: لا تجاوز ما في القرآن.

* الشرح:

(سهل عن السندي بن الربيع، عن أبن أبي عمير، عن حفص أخي مرازم، عن المفضل قال:

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الصفة) أي من صفة الرب وهل يجوز أن أصفه بوصف (فقال: لا تجاوز ما في القرآن) من صفاته، وصفه بما وصف به نفسه فإن ذلك منتهى ما يجوز لك من الصفة.

* الأصل:

8 - سهل، عن محمد بن علي القاساني قال: كتبت إليه (عليه السلام) أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد قال: فكتب (عليه السلام): سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

* الشرح:

(سهل، عن محمد بن علي القاساني قال: كتبت إليه (عليه السلام) أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد قال:

كتب سبحان من لا يحد) بحد حقيقي ولا نهاية إذ ليس له حقيقة مركبة ولا طبيعة امتدادية.

(ولا يوصف بصفة أصلا لا بالجسمية والمقدار ولا بالتناهي والأقطار ولا بالعوارض والأحوال، وكل ما يوصف به من الصفات ليس له معنى موجود قائم به، فليس له علم موجود قائم به، وقدرة موجودة قائمة به، بل ذاته المقدسة علم من حيث عدم الجهل بشيء، وقدرة من حيث عدم العجز عن شيء، وهكذا سائر الصفات الكمالية.

(ليس كمثله شيء) ما يستفاد من هذه الكلمة الشريفة من التنزيه المطلق وجب الركون إليه والتصديق به وهو كمال الإيمان بالله وغاية معرفة الإنسان له، فمن زعم مشابهته بشيء فقد أشرك به بل أنكر وجوده وأثبت إلها آخر بمقتضى هواه النفسانية والوساوس الشيطانية (وهو السميع البصير) يسمع المسموعات بلا أداة، ويبصر المبصرات بلا آلة.

ص:211

* الأصل:

9 - سهل، عن بشر بن بشار النيسابوري قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام): أن من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: [هو] جسم، ومنهم من يقول: [هو] صورة، فكتب إلي سبحان من لا يحد ولا يوصف، ولا يشبهه شيء، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.

* الشرح:

(سهل، عن بشر بن بشار النيسابوري قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام)) هو أبو الحسن (عليه السلام) كما صرح به الصدوق في كتاب التوحيد (ان من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد منهم من يقول جسم ومنهم يقول صورة) هؤلاء لعدم تجاوز عقولهم عن عالم المحسوس مع متابعة أوهامهم زعموا أن ربهم جسم متحيز بحيز متصف بالجسمية ولو احقها ذو مقدار وصورة.

(فكتب إلي: سبحان من لا يحد) بالجسمية والصورة لأن التحديد بهما مستلزم للتجزية والتكثر والمقدار المنافية للوجوب الذاتي وعدم الافتقار (ولا يوصف) لأن الصفة مغايره للموصوف لقيام الموصف بالذات وقيام الصفة بالغير فلو وصف كان الواجب إما نفس المجموع أو نفس الموصوف فعلى الأول يلزم افتقاره إلى الجزء وعلى الثاني يلزم افتقاره إلى الغير وكل ذلك محال.

(ولا يشبهه شيء) لاستحالة اتصافه بصفة الإمكان وتوابعه (وليس كمثله شيء وهو السميع البصير) في اقتباس هذه الآية مع ما فيها من الإفصاح عن المقصود والإرشاد إلى المطلوب من نفي المماثلة والمشابهة على الإطلاق إيماء إلى أنه تعال عالم بما يقولون وبصير بما يفترون، فيجزيهم بما فرطوا في جنب الله حيث لا ينفع مال ولا بنون وذلك حين تزول عنهم غواشي الأوهام وتطرح نفوسهم بالموت جلابيب الأبدان.

* الأصل:

10 - سهل، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد، منهم من يقول: هو جسم ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولا على عبدك، فوقع بخطه (عليه السلام): سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، الله واحدا أحد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، وليس بجسم يصور ما يشاء وليس بصورة، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

* الشرح:

(سهل قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام)) يعني العسكري (سنة خمس وخمسين

ص:212

ومائتين) هذا الحديث على تقدير أن يكون الرواية عن سهل بلا واسطة عن أعلى الأسانيد العالية الاتحاد الواسطة بين المصنف والمعصوم ولكن ذلك بعيد لأن المصنف بقي بعد تاريخ هذه الرواية ثلاثا وسبعين سنة لما نقل من أنه مات (رحمه الله) ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة سنة وذلك مستبعد.

(قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد منهم من يقول هو جسم ومنهم من يقول هو صورة فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك) أي من التوحيد (ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولا على عبدك) فعلت جواب الشرط متطولا حال عن الفاعل من الطول وهو المن، وفي بعض النسخ فحلت بالحاء المهملة من الحيلولة أي صرت حايلا متطولا على عبدك بينه وبين قلبه في الميل إلى الباطل من أمر التوحيد.

(فوقع (عليه السلام) بخطه سألت عن التوحيد وهذا معزول عنكم) أي التوحيد يعني التوغل في ذاته وصفاته معزول عنكم لأنه خارج عن طاقة البشر وإنما عليكم الأخذ بما وصف به نفسه في القرآن كما أشار إليه بقوله (الله واحد أحد) الله يدل على أنه مستجمع لجميع صفات الكمال أعني الصفات الثبوتية والواحد يدل على أنه جامع لجميع صفات الجلال أعني الصفات السلبية إذ الواحد الحقيقي منزه عن التركيب والتعدد والجسمية والتحيز وغير ذلك من لواحق الإمكان والأحد يدل على أنه لا شريك له ولا نظير له.

(لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) لامتناع الشهوة والمجانسة وتقدم الغير والافتقار والمماثلة عليه (خالق وليس بمخلوق) إذ خالق كل شيء يمتنع أن يكون مخلوقا وإلا لكان خالق الكل غيره ولاستحالة استناد الوجود الذاتي إلى الغير.

(يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم) لأن خالق الأجسام وموجد حقيقتها ووجودها لا يجوز أن يكون جسما ولأنه لو كان جسما لكان محتاجا إلى الجزء والمحيز والجهة وكل ذلك ممتنع.

(ويصور ما يشاء وليس بصورة) لأن جاعل حقيقة الصورة ومفيض وجودها يمتنع أن يكون صورة ولأنه لو كان صورة لافتقر إلى محل يحل فيه وهو منزه عن الافتقار (جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه) لاستحالة اتصاف القديم بالحادث أو اتصاف الحادث بالقديم وامتناع تطرق التكثر والتعدد والكيفية في الواحد على الإطلاق.

(هو لا غيره) هذا الكلام يحتمل أمرين بينهما تقارب أحدهما أنه تعالى هو وحده لا يلاحظ معه غير أصلا فلو كان له شبه لكان معه غيره وهو وجه المشابهة بل من يشابهه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا تنزيه له على الإطلاق عن جميع ما سواه فافهم، وثانيهما أنه المتصف بالهوية المطلقة بالوحدانية دايما لا غيرها فلو لوحط معه غيره من المعاني والكيفيات لم يكن هو بل انتقل

ص:213

من هوية إلى اخرى وهذا محال، توضيحه أن المتصف بالهوية المطلقة هو الذي لا تكون هويته موقوفة على غيره ومستفادة منه فإن كل ما كان مستفادا من الغير لم تكن له هوية مطلقة إذ ما لم يعتبر ذلك الغير لم يكن هو هو فكل ما كانت هويته مطلقة كان هو هو لذاته وكل ما كان هو هو لذاته كان هو هو دايما من غير تغير وتبدل في هويته ولما كان الواجب هويته مطلقة كانت هويته المطلقة باقية دايما فلو طرد عليه المعاني والكيفيات لزم انتقاله من الهوية المطلقة إلى هوية إضافية لأن هوية المجرد عن الكيفيات غير هوية المقترن بها هذا خلف مع أنه على الله تعالى محال.

(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) هذه الآية أفضل الآيات في معرفة الصانع ولما علم الله تعالى أنه يجيء أقوام متفرقون في الآراء والعقايد يصفه كل قوم بما يفتريه أذهانهم السقيمة وعقولهم العقيمة أنزل هذه الآية حجة عليهم (1) لئلا يكون لهم على الله حجة بعد البيان.

* الأصل:

11 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن الله لا يوصف كيف يوصف وقد قال في كتابه: «وما قدروا الله حق قدره» فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.

* الشرح:

محمد بن إسماعيل، عن الفصل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله عن الفضيل ابن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله لا يوصف) أصلا أو بوصف لا يقال به والأخير أنسب.

(وكيف يوصف وقد قال في كتابه «وما قدروا الله حق قدره») أي ما قدروا عظمته وعظمة وصفه حق قدره اللائق به والقدر بالفتح والسكون في الأصل مصدر بمعنى تعيين الشيء وتقديره بأمر لائق به ويطلق كثيرا ما على مبلغ ذلك الشيء ومقداره والأول هنا أنسب.

(فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك) لأن صفات كماله ونعوت جلاله في أغوارها وعدم

ص:214


1- 1 - قوله «أنزل هذه الآية حجة عليهم» تفسير الشارح لهذا الحديث خصوصا لقوله (عليه السلام) «هو لا غيره» حسن جدا لم أر مثله في سائر الشروح وهو مبني على بعض أصول صدر المتألهين (قدس سره) في الوجود المطلق واعتبارية الماهيات العارضة له فاعرف قدره، وأما صدر المتألهين نفسه فقد تعسف في قوله «هو لا غيره» من جهة التركيب النحوي فارجع الضمير إلى الشبه، وقال: إن الله تعالى أجل من أن يكون له شبه متفق معه في معنى ما ومفهومه أن له شبيها هو غيره من كل جهة; ولا يخفى ما فيه من التكلف فإن سياق الكلام نفي الشبه مطلقا من غير تقييد، ومع ذلك كله فلو لم يكن تحقيق الصدر (رحمه الله) في الوجود لم يمكن لغيره شيء معتمد في هذه المباحث فالفضل في الحالين له وبالجملة هو تعالى أصل حقيقة الوجود والهوية المطلقة وكل ما أثبت له فهو غير الوجود مع أنه هو لا غيره. (ش)

إمكان الوصول إلى غور حقايقها يشبه البحر الخضم الذي لا يمكن الوصول إلى ساحله المسائرين ولا إدراك ما في باطنه للغائصين.

* الأصل:

12 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، [أ] وعن غيره، عن محمد بن سليمان، عن علي ابن إبراهيم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغون كنه عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث، وكيف أصفه بالكيف؟! وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين؟! وهو الذي أين الأين حتى صار أينا فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث؟! وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، لا إله إلا هو العلي العظيم، وهو اللطيف الخبير.

* الشرح:

علي بن محمد، عن سهل بن زياد، أو عن غيره، عن محمد بن سليمان) الظاهر أنه محمد بن سليمان ابن الجهم الثقة لا محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي (عن علي بن إبراهيم) الظاهر أنه علي بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله جعفر بن أبي طالب وهو ثقة صدوق والعلامة ذكره في ترجمة ابنه عبد الله وقال: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) (عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عظيم رفيع) (1) أشار به إلى أن عظمته باعتبار الشرف

ص:215


1- 1 - قوله «إن الله عظيم رفيع» قال الصدر - قدس الله تربته - هذا الكلام مشتمل على عدة مباحث إلهية ومباحث حكمية فعد ثلاث عشرة مسألة: الأولى: العظمة من صفاته لأن وجوده فوق ما لا يتناهى عدة ومدة وشدة وليس له عدة ولا مدة ولا شدة ولكن يوصف كل قوة بعدم التناهي وبالعظم والصغر مطلقا باعتبار آثارها، الثانية: أنه رفيع بمعنى أن بينه وبين المخلوق مراتب لا يتناهى كما ورد «أن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة». الثالثة: إلى الخامسة عجز المخلوق عن وصفه وكنه عظمته ورؤيته. السادسة أنه يدرك الأبصار فضلا عن المبصرات. السابعة أنه لطيف خبير أي عالم بكل شيء وعلة علمه لفظة أي تجرده. الثامنة والتاسعة: أنه لا يوصف بأين ولا كيف. العاشرة والحادية عشرة: إقامة البرهان على أنه لا أين له لأن كل ما في الأين محتاج إلى الأين وهو خالق الأين فهو غير محتاج إليه فلا أين له وكذلك الكيف لأن كل ما له كيف له ماهية فإن الكيف ماهية دخل معناه في ذهننا من ملاحظة اتصاف الوجود بشيء يحدده وهو تعالى خالق كل ماهية وذاته مقدم على كل ماهية فلا بد أن يكون في المرتبة المتقدمة على الماهية خاليا عن الماهية وعن كل كيف وبالجملة كل علة لشيء يجب أن يكون ذاتها مقدمة على ذلك الشيء فلا يكون علة الأين ذات أين ولا علة الكيف ذات كيف أقول فإن قيل كيف يكون علة النور ذات نور وعلة الحرارة ذات حرارة ولا يكون علة الكيف ذات كيف قلنا بينهما فرق لأن ما في الأين يحتاج إلى الأين وما له الكيف ينفعل بالكيف وهذا محال على الله تعالى وأما علة النور كالشمس فلا يستحيل عليها الانفعال ثم أنها لا تحتاج إلى الأنوار المعلولة لها والبرهان الذي ذكر الإمام (عليه السلام) لم يعهد نظيره من أرباب علوم الشريعة من سائر أطباق الفريقين. الثانية عشرة والثالثة عشرة أنه تعالى داخل في الأشياء وخارج عنها قال الصدر (رحمه الله) فإن غاية العظمة كما يستلزم الدخول في كل شيء فكذا يستلزم الارتفاع عن كل شيء. أقول: هذا هو المعنى الصحيح لوحدة الوجود بعبارة لا يشمئز منها الأذهان الساذجة وأصل التعبير عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان الناس قبل صدر المتألهين يظنون كلام الأئمة (عليهم السلام) خطابيا مناسبا لأذهان العامة إلا قليلا مما تعرض لشرحه أعاظم علمائنا فلما شرح الصدر أحاديث الأصول ثبت أن جميع ما ذكروه برهانية مبينة لدقائق علم التوحيد. ثم ذكر في كلامه الحجب وقد رأيت في كلام القاضي سعيد تحقيقا أحببت إيراد حاصله وهو أنه ورد في الخبر أن بينه وبين خلقه سبعا أو سبعين أو سبعمائة حجابا إلى غير ذلك من عقود السبعة وتلك الحجب ليست لله إذ لا يحجبه شيء بل هي للخلق في سيرهم إلى الله تعالى فإن قيل ورد في طرق العامة والخاصة أن لله سبعين أو سبعين ألف حجاب من نور» وظلمة فكيف التوفيق قلت اللام في قوله لله للتملك كما في قوله تعالى: «له الخلق والأمر» وتلك الحجب هي مراتب خلقه فالخلق أنفسهم حجب لا يصلون إلى الله ما داموا مقيدين بأنفسهم وفي حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) «ليس بينه وبين خلقه حجاب» لأنه معهم أينما كانوا انتهى كلامه. ونظيره في الإنسان أن الباصرة محجوبة عن إدراك النفس والنفس غير محجوبة عن إدراك الباصرة. (ش)

وعلو الرتبة لا باعتبار الكمية والمقدار.

(لا يقدر العباد على صفته) إذ لا يصل أقدام عقولهم إلى ساحة حقايق صفاته ولا يتناول أيدي أذهانهم ذيل مراتب كمالاته لأن ذلك موقوف على تعقلها كما هي، وهو بعيد عن ساحة العقل الواهي فما هو دأب الوصافين من وصف رب العالمين بما هو أشرف طرفي النقيض ليس كمال وصفه في نفسه لعدم اطلاعهم على ما يليق به من المدح والثناء، فهم وإن بالغوا في الوصف والتعظيم كان له وراء ذلك أطوار من استحقاق الثنا والتكريم كما أشار إليه سيد المرسلين بقوله (لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (1) (ولا يبلغون كنه عظمته) لإنهم لا يقدرون على تحديد كنه عقولهم وتعيين حقيقة نفوسهم فكيف يقدرون على معرفة كنه عظمة الباري وعلى البلوغ إلى مالها من كمالها مع أنها أرفع الأشياء عنهم رتبة وأبعدها منهم منزلة فمن قدر كنهها بعقله الضعيف فقد ضل وهلك وهو من الجاهلين» كما أشار إليه سيد الوصيين بقوله «ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين (2)».

(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي لا تدركه العقول الثاقبة والمشاعر الظاهرة والباطنة وهو يدرك هذه القوى ومدركاتها (وهو اللطيف الخبير) يعلم كاشفات الأمور وجلياتها وأسرار

ص:216


1- 1 - أخرجه الترمذي وقد تقدم.
2- 2 - النهج قسم الخطب تحت رقم 85.

القلوب وخفياتها.

(ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث) لأن الاتصاف بالكيفيات والاستقرار في المكان من لوازم الجسمية وتوابع الإمكان وقدس الحق منزه عنها (وكيف أصفه بالكيف) كيف هنا للإنكار أو للتعجب كما في قوله تعالى (وكيف تكفرون بالله) (وهو الذي كيف الكيف) أي جعله جعلا بسيطا أو جعلا مركبا (حتى صار كيف فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف) والكيف معروف لنا وحال فينا أحوال بعضها نقص وبعضها كمال تتم به ذواتنا وتكمل هيئاتنا، وشئ من ذلك لا يليق بقدس الحق ولا نعرف كيفا غير ذلك.

(أم كيف أصفه بالأين) أي بالحصول فيه (وهو الذي أين الأين حتى صار أينا فعرفت الأين بما أين لنا من الأين) والأين المعلوم لنا هو الذي نحن مستقرون فيه ومفتقرون إليه، ولا نعلم أينا سواه، وجناب الحق منزه عن أن يحل في شيء ويفتقر إليه.

(أم كيف أصفه بحيث) يحتمل أن يراد منه نفي وصفه بحيثية تقييدية توجب التكثر في ذاته أو في صفاته لكن هذا داخل في نفي وصفه بالكيف لأن هذه الحيثية من جملة الكيفيات، ويحتمل أن يراد منه نفي الحصول في المكان وهذا بحسب الظاهر وإن كان داخلا في نفي الحصول في الأين لكن يمكن الفرق بينهما بأحد الوجهين أحدهما أن المراد بالأين نفي النسبة إلى المكان المطلق، وبحيث نفي النسبة إلى المكان المخصوص، وثانيهما أن حيث يضاف إلى جملة يحتاج إليها بخلاف أين وذلك لأن وضع حيث كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل لمكان منسوب إلى نسبة لا تحصل إلا بالجملة ووزانه في احتياجه إليها كاحتياج الذي إليها من أن وصفه لمن قامت به هذه النسبة.

(وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث) أي من الحيثيات التقييدية الثابتة لنا أو من المكان المخصوص القائم به نسبة ما مثل جلست حيث زيد جالس ولا نعرف حيثا غير ذلك وامتناع اتصاف خالق الحيث به ضروري لا يقبل الإنكار.

(فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان) لا كدخول الجسم والجسمانيات فيه بل بمعنى العلم والإحاطة به (1) والحفظ وليس علمه بالأمكنة وما فيها كعلم المخلوق الذي يحتاج إلى الانتقال من مكان إلى آخر ليعلمه ويعلم ما فيه، لأن الله العظيم المتعال لا يحتاج في العلم بها إلى الحركة

ص:217


1- 1 - قوله «بل بمعنى العلم والإحاطة» هذا غير كاف على ما سبق إذ يجوز أن يكون أحد في مكان ويختص بذلك المكان ويكون عالما بسائر الأمكنة ولا يجب فيها الانتقال. (ش)

والانتقال، ولا يخرج من علمه مكان، ولا يشتغل هو بمكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان بل نسبة جميع الأمكنة إلى قدس ذاته على السواء (1) وهذا الكلام كالنتيجة للسابق ولذلك فرع عليه بالفاء ووجه التفريع ظاهر لأنه إذا كان خالقا للأمكنة كان عالما بها بالصرورة، ولما كان المتبادر من الدخول في كل مكان هو الحلول فيه أشار إلى ما يخرجه عن هذا المعنى إلى المعنى المجازي الذي ذكرناه بقوله (وخارج من كل شيء) لا كخروج الجسم والجسمانيات وغيرهما من المخلوقات لاستحالة ذلك على الله سبحانه بل بمعنى تقدس ذاته عن الكون في شيء ويحتمل أن يقال معناه أنه متميز بذاته وصفاته عن كل شيء، لا يشاركه شيء بوجه من الوجوه.

(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أشار بذلك إلى بعده عن مدارك عقول العارفين فضلا عن عقول الجاهلين، وقربة إلى جميع المخلوقين والعلم بأحوالهم وأسرارهم، ولما ذكر جملة من صفاته التي تقتضي تفرده بالإلهية والعلو والعظمة المطلقة صرح بذلك وقال: (لا إله إلا هو العلي العظيم اللطيف الخبير) تنبيها على أن هذا غاية معرفته وأن به يتم نظام التوحيد والإخلاص، ويحصل التصديق بعلمه بجلائل الأمور وخفياتها.

ص:218


1- 2 - قوله «بل نسبة جميع الأمكنة إلى قدس ذاته على السواء» هذا كلام جيد صحيح كاف بخلاف ما سبق وفي توحيد الصدوق (رحمه الله) عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما (عليهما السلام) إنما منظره في القرب والبعد سواء لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد لم يحتج بل يحتاج إليه إلى آخره» وعلة القول بثبوته في كل مكان أنه علة مبقية كما أنه علة موجودة ولو كان خلوا من خلقه كان خلقه غير محتاج إليه بعد الحدوث كما قال به بعضهم، إذ لا يتعقل تعلق شيء في الوجود استمرارا بما هو مباين عنه، وقال تعالى «هو معكم أينما كنتم» وأما كونه في كل مكان ليس بمعنى حلوله وتمكنه ولذلك قال «خارج من كل شيء» حتى لا يتوهم الحلول. (ش)

باب النهي عن الجسم والصورة

* الأصل:

1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن علي بن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري، معرفته ضرورة، يمن بها على من يشاء من خلقه فقال (عليه السلام): سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه [الأبصار ولا] الحواس، ولا يحيط به شيء. ولا جسم، ولا صورة، ولا تخطيط، ولا تحديد.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن علي ابن أبي حمزة) قال العلامة: علي بن أبي حمزة أحد عمد الواقفية. قال الشيخ الطوسي في عدة مواضع إنه واقفي، وقال أبو الحسن علي بن الحسن بن فضال، علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون قد رويت عند أحاديث كثيرة إلا أني لا أستحل أن أروي عنه حديثا واحدا، وقال ابن الغضايري: علي بن أبي حمزة لعنه الله أصل الوقف وأشد عداوة للمولى من بعد أبي إبراهيم موسى (عليه السلام) فقوله ضعيف لا يقدح في جلالة قدر هشام بن الحكم (1) وقد رويت روايات كثيرة في مدحه عن الصادق

ص:219


1- 1 - قوله «لا يقدح في جلالة قدر هشام» قد سبق في آخر باب الرؤية كلام هشام بن الحكم واستدلاله على عدم إمكان الرؤية بأنه تعالى ليس في مكان وقلنا هناك إن هذا تصريح بنفي الجسمية فما نقل عنه من أنه تعالى جسم أما مطروح لعدم الاطمينان بصدق الراوي وأما مأول بشيء يصح إسناده إليه بأن يريد بالجسم غير معناه المتبادر كما يأتي إن شاء الله وتخطئة الإمام له في سوء تعبيره لا في مقصوده، ولا يخفى أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا معصومين بل كان يمكن لهم وقوع خطأ لا يقدح في فضلهم وجلالتهم وكان الأئمة (عليهم السلام) أن يردعوهم وينبهوهم على خطائهم إن اتفق لهم وكان هشام بن الحكم يتكلم ويحتج على المخالفين باجتهاده وبما كان يستنبطه بفكره الدقيق وفطنته النافذة كما يعلم مما روى عنه في احتجاجاته وليس ردعه إن أخطأ في بعضها دليلا على طرده من الأئمة (عليهم السلام)، وما ذكر في قدحه. وروى في رجال الكشي يرجع إلى شيئين الأول: قوله بالجسم وقد عرفت ما فيه، والثاني: عدم انتهائه عن الكلام عند نهي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عنه تقية وقد عرفت ما في القول بالجسم، وأما نهى الامام (عليه السلام) إياه عن الكلام فلعله فهم اختصاص النهي بوقت خاص وتكلم في غير ذلك وأما تسبيبه لقتل موسى بن جعفر (عليه السلام) بادعاء الإمامة له فيشبه أن يكون دعوى جزافية إذ لم يكن يخفى فضل الإمام وعلمه وأولويته بالخلافة على مثل هارون الرشيد ولم يكن كثرة الشيعة في أنحاء العالم خصوصا في العراق واعتقادهم الإمامة في موسى بن جعفر (عليهما السلام) وحمل أموالهم إليه مما لا يعمله أحد من المسلمين في ذلك العصر فكيف يمكن أن يدعى أن تكلم هشام في مجلس الخليفة في الإمامة كان سببا للقبض عليه وقد روى في بعض الأخبار أن هارون كان يتحسس حتى يجد ما يكون عذره في حبسه (عليه السلام) وقتله حتى رأى أن يغر محمد بن إسماعيل بن جعفر حتى يشكي إلى هارون عن عمه ويدعى عليه انه يريد الخروج على الخليفة وأرسل إليه مالا فأجاب محمد بن إسماعيل وكان هذا عذره ظاهرا في القبض عليه (عليه السلام) وكان نهى هشام عن التكلم لعلة أخرى لا لأنه يصير سببا لقتله وإن ورد في رواية وكذلك نهى أبي جعفر (عليه السلام) عن الصلاة خلف أصحاب هشام بن الحكم لا يدل على قدح فيه على فرض صحته، وفي رواية عن الرضا (عليه السلام) في معنى هشام كان عبدا ناصحا وأوذي من قبل أصحابه حسدا منهم له، ومما يعجبني من فطنة هشام كلامه مع النظام حيث ادعى النظام أن أهل الجنة غير مخلدين إذ يكون حينئذ بقاؤهم كبقاء الله تعالى ومحال يبقون كذلك فقال هشام إن أهل الجنة يبقون بمبق لهم والله يبقى بلا مبق يعني أن دوام الوجود واستمراره لا يستلزم وجوب الوجود حتى يكون أهل الجنة بخلودهم واجبين بل المستلزم للوجوب أن يكونوا مستغنين عن العلة كما يقوله المتكلمون في الحدوث وأن استمرار الممكن من الأزل لا يستلزم الوجوب والاستغناء، ومما يعجبني منه استنطاقه الأطباء في مرضه الذي مات فيه كلما حضر عنده طبيب ووصف له دواء سأله عن مرضه فإن قال أعرف مرضك سأل عن عوارض هذا المرض وأسبابه فلا يجده موافقا لما به، وقال: جهلك بالمرض يدل على جهلك بالعلاج ويأتي لذلك تتمة إن شاء الله. (ش)

والكاظم (عليهما السلام) وترحم عليه الرضا (عليه السلام) بعد وفاته.

(قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي) مصمت لا جوف له أصلا أو مصمت من تحت السرة كما مر في الباب السابق (نوري) له نور يعلو وهو نور مجسم (معرفته ضرورة) تقذف في القلب بلا اكتساب أو تعلم بالمشاهدة العينية.

(يمن بها على من يشاء من خلقه) أهل هذا المذهب يقولون يجوز أن يراه من كان بينه وبينه تعالى تشابه في نورية الذات وقد سمعت بعض من أثق به قال: رأيت في الهند رجلا ينظر إلى السماء جالسا وماشيا فسألته عن ذلك فقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون يجوز رؤيته فأنا أنظر إلى السماء لعله يتجلى لي فأتشرف برؤيته كذلك زين للذين كفروا سوء أعمالهم.

(فقال (عليه السلام): سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) نزهه عما لا يليق به مثل القول المذكور وغيره مع الدلالة على أنه أرفع وأجل من أن يقدره أحد من خلقه ويشير إلى كيفية هويته إذ القديم الكامل في ذاته وصفاته ليس بينه وبين خلقه مشابهة، ولا بينه

ص:220

وبين عقولهم ملائمة بها يتمسك في تعيين هويته وتشخيص خصوصيته فمن ساواه بشيء فقد كفر بما نطق به محكم آياته، ومن قال يمكن معرفة هويته فقد عدل عما دل عليه شواهد حججه وبيناته (لا يحد) بأن يقال: هذا ذاته، وتلك نهايته، وهذه كيفيته (ولا يحس) بالبصر (ولا يجس) باليد وغيرها (ولا تدركه الحواس) الظاهرة والباطنة (ولا يحيط به شيء) من الأوهام والعقول وغيرها (ولا جسم) كما زعمه المجسمة لاستحالة حدوثه وافتقاره إلى الغير (ولا صورة) كما زعمه المصورة لا متناع حلوله في شيء (ولا تخطيط) بأن يكون خطا أو سطحا يفرض فيه الخطوط أو شابا مخطا كما زعمه طائفة (ولا تحديد) بأنه جسم صمدي نوري ولا بغير ذلك من الأمور المقتضية لتحديده.

وفي هذا الحديث تنزيه له عما نسب إلى هشام وعن غير ذلك من التشابه بصفات المخلوقات والاتصاف بكيفية المصنوعات.

* الأصل:

2 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن حمزة بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة، فكتب: سبحان من ليس كمثله شيء لا جسم ولا صورة. ورواه محمد ابن أبي عبد الله إلا أنه لم يسم الرجل.

* الشرح:

(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن حمزة بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الجسم والصورة; فكتب سبحان من ليس كمثله شيء) نزهه عن الجسمية والصورة وأشار إليه دليله، ثم صرح بالمطلوب وقال: (لا جسم ولا صورة) لاستحالة اتصافه بالكمية والأقدار، واتسامه بالنهاية والأقطار، وركونه إلى المنازل والمساكن وسكونه في المواطن والأماكن (ورواه محمد بن أبي عبد الله) الظاهر مكاتبة ويحتمل غيرها (إلا أنه لم يسم الرجل) يعني قال:

كتبت إلى الرجل ولم يصرح باسمه.

* الأصل:

3 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن زيد، قال: جئت إلى الرضا (عليه السلام) أسأله عن التوحيد فأملى علي: الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء، متوحدا بذلك لاظهار حكمته وحقيقة ربوبيته; لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام ولا

ص:221

تدركه الأبصار ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية ووصف بغير صورة ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال.

* الشرح:

(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع; عن محمد بن زيد) (1) قال العلامة محمد بن زيد بتري من أصحاب الباقر (عليه السلام) ولم يذكر غيره (؟).

(قال: جئت إلى الرضا (عليه السلام) أسأله عن التوحيد فأملى علي: الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء) الفطرة الخلق يقال: فطره يفطره بالضم أي خلقه والفطرة أيضا الشق يقال: فطرته فانفطر أي شققته فانشق ومنه فطر ناب البعير، وقال بعض العلماء الفطر حقيقة هو الشق في الأجسام ونحوها واستعماله في الخلق والإيجاد استعارة.

ووجهها ان المخلوق قبل دخوله في الوجود كان معدوما محضا والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا شق فإذا أخرجه الموجد المبدع من العدم إلى الوجود فكأنه بحسب التخيل شق ذلك العدم وأخرج من بطنه نور الوجود فيكون التقدير فاطر عدم الأشياء بإخراج وجوداتها.

(ومبتدعها ابتداء) (2) لما كان الله ولم يكن معه شيء كانت الأشياء منه، فصح أن إنشأها وابتداؤها منه، فلذلك أتى بالمصدرين تأكيدا لنسبتهما إليه سبحانه ثم الإنشاء والابتداء في اللغة بمعنى واحد وقد اختلفوا في الفرق بينهما حيث اجتمعا صونا للكلام في التكرار فقيل: الإنشاء هو الإيجاد لا عن مادة والابتداء هو الإيجاد لا لعلة، ففي الأول إشارة إلى نفي العلة المادية وفي الثاني إلى نفي العلة الغائية في فعله تعالى.

وقيل: الإنشاء هو الإيجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله والابتداء هو الإيجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله، وقيل: الإنشاء هو الإيجاد من غير مثال سابق، والابتداء هو الإيجاد من غير صورة إلهامية فايضة على الموجد، والغرض نفي المشابهة بين صنعه تعالى وصنع البشر، وذلك لأن الصنايع البشرية إنما تحصل بعد أن ترسم في الخيال صورة المصنوع، وتلك الصورة تحصل تارة عن مثال خارجي يشاهده الصانع ويحذو حذوه وتحصل تارة بمحض الإلهام والاختراع فإنه كثيرا ما يفاض على أذهان الأذكياء صور الأشكال لم يسبقهم إلى تصورها غيرهم

ص:222


1- 1 - قال الصدر الرزامي خادم الرضا (عليه السلام) ش
2- 2 - كذا في جميع النسخ عندنا بالهمزة وقد تقدم في المجلد الأول ص 2.

فيتصورونها ويبرزونها في الخارج، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياتها ونظام وجوداتها منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين.

أما الأول فلأنه تعالى شأنه لا قبل له وكان ولم يكن معه شيء، فلا يكون مصنوعاته مسبوقة بأمثلة من صانع آخر عمل هو بمثل صنع ذلك الآخر.

وأما الثاني فلأن الفاعل على وفق ما الهم به وإن كان مخترعا مبتدعا في العرف لكنه في الحقيقة مفتقر إلى الغير الذي هو المخترع والمبتدع، وإنما الفاعل يفعل على وفق ما حصل في ذهنه من الشكل والهيئة وهما مستفاد أن من ذلك الغير والله سبحانه منزه عن الصنع بهذا الوجه أيضا لعدم احتياجه إلى الغير.

(بقدرته وحكمته) أي فاطر الأشياء ومبتدعها بمجرد قدرته القاهرة على وفق ما تقتضيه حكمته البالغة من كمال نظام العالم وتمام مصالح الخلق وحدود الأشياء ومقاديرها وأشكالها ونهاياتها وآجالها وغاياتها ومنافعها وكيفياتها، وفيه تصريح بأن صدور تلك الآثار عنه بطريق الاختيار دون الايجاب لأن الايجاب ينافي القدرة وأيضا صدور الحادث عن القديم بطريق الإيجاب يوجب تخلف المعلول عن تمام علته حيث وجدت العلة في الأزل دون المعلول (لا من شيء) أي لا من مثال سابق يكون بمنزلة المنتسخ أو لا من أصل أزلي من مادة وصورة (فيبطل الاختراع) ضرورة أن خلقها من شيء ليس اختراعا هذا خلف مع لزوم النقص في قدرته لاحتياجه في التأثير إلى غيره.

(ولا لعلة) أي لا لعلة غائية تعود إليه سبحانه مثل الاستيناس بتلك الأشياء لرفع وحشة، والاستعانة بها لدفع شدة، والاستغاثة بها في دفع محنة، أو لا لصورة فايضة عليه من الغير وباعثة على الإيجاد وسماها علة لأنها بمنزلة العلة الغائية في البعث على الفعل.

(فلا يصح الابتداع) أما على الأول: فلأن الصانع لنفع يعود إليه كان ناقصا في حد ذاته مفتقرا إلى غيره وكل ناقص مفتقر مخلوق ومن البين أن المخلوق ليس مبتدعا لجميع الخلائق، وأما على الثاني فلأن الفاعل لشيء باعتبار صورة إلهامية غير حاصلة لغيره فايضة من المفيض وإن كان في العرف مبتدعا لذلك الشيء من جهة أن وجود ذلك الشيء لم يكن من غيره لكن في الحقيقة ليس هو مبتدعا وإنما المبتدع هو مفيض تلك الصورة وملهما، وأما حمل نفي العلة على نفي العلة الغائية الراجعة إلى الخلق ففيه كلام ذكرنا في شرح الخطبة.

(خلق ما شاء كيف شاء) بمجرد المشية والإرادة على سبيل الاختيار، لا بالإيجاب والاضطرار، ولا بتوسط أصوات ولا بتحريك آلات.

(متوحدا بذلك) الخلق المشتمل على الصنع العجيب والرتيب الغريب لا يشاركه أحد ولا

ص:223

يعينه صفة وفيه إشارة إلى نفي الشريك وعدم زيادة الصفة لأن التوحيد الحقيقي يقتضي نفيهما، ولاستحالة احتياجه في الإيجاد إلى غيره.

(لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته) تعليل لخلقه ما شاء وتوحده بذلك، يعني كان الله ولم يكن معه شيء، وكان أزلا عالما بحقائق الممكنات ومنافعها وخواصها، قادرا على إيجادها على نحو مشيته فخلقها وهو واحد في ذاته وصفاته بلا شريك ولا نظير ولا مشير ولا وزير وأبرزها من حد الكمون والتقدير إلى حد العقل إذا تفكر في هذه المصنوعات العجيبة والمخلوقات الغريبة وفي تدبير ما فيها من النظام الأكمل والاتقان والترتيب الأفضل والأحسن، وتأمل في مصالحها ومنافعها وآثارها الموجبة للحيرة والعجب العجيب علم أن صانعها عالم حكيم قادر رب مالك، بيده نواصيها يصرفها كيف يشاء على وفق الحكمة.

وما توهمه بعض الزنادقه والملاحدة من أن بعض أجزاء هذا العالم من الدود والبعوض والحيات والعقارب لا حكمة في خلقه فيقال: له أولا إن ذلك جهل منك بالباري وحكمته وإن عدم وجدان الحكمة لا يقتضي نفيها، وثانيا وهو ما أجاب به الصادق (عليه السلام) للزنديق الذي أنكر حكمته تعالى في الامور المذكورة وأن فيها حكما ومصالح أما العقارب فانها تنفع من وجه المثانة والحصاة ولمن يبول في الفراش، وأما الحيات فأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي وأن لحومها إذا أكلها المجذوم نفعه، وأما البعوض والبق فقد جعلها الله أرزاقا للطيور وأهان بها جبارا تمرد على الله وأنكر ربوبيته فسلطها الله عليه فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته، وأما الدود الأحمر الذ ى تحت الأرض فإنه نافع للآكلة.

(لا تضبطه العقول) ولو كان بعضها لبعض ظهيرا لقصورها عن الإحاطة بكنه ذاته وصفاته وعجزها عن إدراك ماله عن عظمته وكمالاته، وكلما أدركته من أمر التوحيد بالاستقلال أو بمعونة الوهم والخيال فهو أمر اعتباري لا وجود له في جانب الحق وإنما غاية كمالها في معرفته نفي الإبطال والتشبيه.

(ولا تبلغه الأوهام) لأنك قد عرفت آنفا أن الوهم لا يصدق حكمه إلا فيما كان محسوسا أو متعلقا به فأما الأمور الغايبة عن الحس المجردة عن المادة والوضع وعلايقهما فالوهم ينكر وجودها فضلا عن أن يدركه ويصدق بوجوده.

(ولا تدركه الأبصار) لأنه ليس بلون ولا ضوء ولا متلون ولا مضيء والبصر إنما يتعلق بهما (ولا يحيط به مقدار) إشارة إلى نفي الكمية عنه لأن الكم من لواحق الجسم، وهو سبحانه ليس بجسم ولا كم وإلا لكان قابلا للتجزية والتقسيم والتبعيض وقدسه بريء منها.

(عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار) بفتح الهمزة أو كسرها والأول أظهر يعني عجزت

ص:224

قبل البلوغ إلى صفاته عبارة الواصفين وأعيت قبل الوصول إلى ذاته أبصار الناظرين وإسناد العجز والكلال إلى العبارة والأبصار إسناد مجازي والمقصود بيان عدم إمكان تناول العبارة له وتعلق الأبصار به على سبيل المبالغة.

(وضل فيه تصاريف الصفات) يعني كل ما وصفوه تعالى به فهو غير موجود فيه وبعبارة اخرى ضل في طرق صفاته الحقة تصاريف صفات الواصفين وأنحاء تعبيراتهم عنها لأنهم وإن بالغوا في وصفه تعالى بها وانتقلوا من صفة إلى ما هو أعظم وأشرف عندهم لم يبلغوا كنه صفاته ولم يصفوه بما هو وصفه ولم ينعتوه كما هو حقه كيف ولسان التعبير يخبر عما في الضمير وكل ما هو في الضمير مخلوق مثله كما يرشد إليه ما روي عن الباقر (عليه السلام) «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم» أو المعنى ضل في الوصول إلى منتهى بسيط بساط ثنائه وإحصائه أقدام تصاريف صفات الواصفين لأنها كلما بلغت مرتبة من مراتب المدح والتكريم كان وراءها أطوار من استحقاق الثناء والتعظيم.

(احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور) محجوب خبر مبتدء محذوف والظرف المتقدم متعلق به والجملة استيناف لدفع ما يتوهم من قوله «احتجب» من أن له حجابا حسيا وهو ما يحجب الحواس عن الجسم والجسمانيات أو حجبا عقليا، وهو ما يحجب العقل عن المعاني والصور العقلية وكذا الكلام في نظيره، والمعنى احتجب سبحانه عن العقول وهو محجوب بغير حجاب عقلي يحجبه، واستتر عن الحواس وهو مستور بغير ستر حسي يستره، لأن الحجاب والستر بهذا المعنى من لواحق الصورة والجسمية وعوارضها وإذا تنزه قدس الحق عنها فقد تنزه عنهما بالضرورة، وإنما احتجابه واستتاره لكونه خارجا عن عالم مدركات العقول والحواس وكون غاية ظهوره في بطونه ونهاية جلائه في خفائه، وهو الظاهر والباطن.

ومما يرشد إلى سبب خفائه مع كمال ظهوره هو ما اشتهر من أن ظهور الأشياء بأضدادها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى أن ضوء النهار ضد لظلمة الليل وأن الأول يتحقق ما دامت الشمس على وجه الأرض ويزول عند غيبتها بطريان الظلمة علمت علما قطعيا أن ضوء النهار مستند إلى الشمس ولو بقيت الشمس على وجه الأرض دائما لا مكن أن تتوهم أن ضوء النهار غير مستند إليها.

ولما لم يكن لجناب الحق جل شأنه ضد ولا انتقال وكان نور وجوده ظاهرا فأيضا صار ذلك سببا لخفائه حتى أنكره من أنكره عذبهم الله تعالى في الدنيا والآخرة.

ولهذه العبارة احتمال آخر ذكرناه في شرح الخطبة (1) وهو أن الظرف متعلق باحتجب

ص:225


1- 1 - قوله «في شرح الخطبة» خطبة كتاب الكافي مقتبس من هذا الحديث الشريف إذ ليس في قدرة آحاد الرعية وإن بلغ ما بلغ في العلم والبلاغة الإتيان بمثل هذه العبارات وكنت أستبعد صدور منه من المؤلف حتى وقفت على هذا الحديث وشرح قوله «احتجب بغير حجاب مستور» مذكور في الصفحة 12 من الجزء الأول فراجع. (ش)

ومحجوب بالجر صفة لحجاب والغرض منه دفع ما يتوهم من قوله «احتجب» من أن احتجابه عن العقول بحجاب غليظ مانع من إدراك وجوده بالكلية يعني احتجابه ليس بحجاب محجوب ومستور به بأن يكون بعضه وراء بعض وهذا كناية عن نفي كون حجابه غليظا مانعا عن مشاهدة وجوده نظير ذلك قوله تعالى (حجابا مستورا) قال الجوهري في تفسيره أي حجابا على حجاب والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب والله أعلم.

(عرف بغير رؤية) الفعل إما مبني للمفعول أو مبني للفاعل و «رؤية» على التقديرين إما بضم الراء وسكون الواو أو بفتح الراء وكسر الواو وشد الياء فهذه احتمالات أربعة أما الأول: وهو المراد في ظني والباقي من الاحتمالات البعيدة فمعناه أنه تعالى عرف وجوده بغير رؤية بالأبصار، بل بآياته وآثاره وقد سبق مرارا أنه منزه عن الرؤية بحاسة البصر، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله «المعروف بغير رؤية» وأما الثاني: فمعناه عرف وجوده بغير فكر واستدلال وفيه إشارة إلى أن وجوده بديهي (1) كما ذهب إليه بعض المحققين أو إلى أن عرفانه بالحقيقة ليس إلا بالمشاهدة الحضورية كما هي لبعض العارفين وأما الثالث: فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء بغير رؤية بحاسة البصر لتنزه قدسه عنها، وأما الرابع: فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء بغير رؤية بحاسة البصر لتنزه قدسه عنها، وأما الرابع فمعناه أنه تعالى عرف الأشياء من غير استعمال روية وفكر وشوق وقصد، متوسط بينه وبين معلوماته كمعرفتنا للأشياء بل معرفته للأشياء عبارة عن انكشافها وحضورها عند ذاته بذاته.

(ووصف بغير صورة) أي وصف بأنه ليس بصورة ولا شكل ولا كيفية أو وصف بغير صفة فإنه وصف مثلا بأنه قادر بغير قدرة زائدة على ذاته وإطلاق الصورة على الصفة شايع أو وصف بغير حد لأنه بسيط ليس له مهية مركبة فليس له حد.

(ونعت بغير جسم) أي بأنه ليس بجسم ولا جسماني لتقدسه عنهما ولما ذكر (عليه السلام) من صفاته

ص:226


1- 1 - قوله «فيه إشارة إلى أن وجوده بديهي» قد مر في الحديث الثالث من باب نفي الرؤية أن معرفته في الدنيا اكتساب وفي الآخرة ضروري إن كانت بالرؤية قلنا هناك أن الضروريات منحصرة في ست ولا يحتمل في معرفة وجود الباري إلا الحدس وهو غير حاصل إلا للأوحدي من الناس ولا يناسب قوله (عليه السلام) هنا «عرف بغير روية» إلا أن يكون لجميع الناس فالمتعين قراءة لفظ رؤية بضم الراء والهمزة بمعنى الأبصار لا الروية بمعنى التفكر وإن حمله عليه أستاد الحكماء صدر المتألهين (قدس سره). (ش)

الفعلية والتنزيهية (1) ما دل على كمال عظمته ونهاية علوه وشرف رتبته أشار إلى التوحيد المطلق بقوله (لا إله إلا الله) نفيا لمشاركة الغير معه في الصفات المذكورة المقتضية لإلهيته واستحقاقه للعبادة.

(الكبير المتعال) أي العظيم الذي لا يستنكف شيء عن عظمته ولا يمتنع عن نفاذ حكمه وقدرته ولا يخرج عن علمه وسلطنته والمتعالى الذي تعالى بشرف ذاته وصفاته على أن يتصف بصفات المخلوقات ونعوت المصنوعات أو أن تدركه دقايق الأفكار ونواظر الأبصار.

* الأصل:

4 - محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن علي بن العباس، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم (عليه السلام) قول هشام بن سالم الجواليقي وحكيت له قول هشام بن الحكم أنه جسم فقال: إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحش أو خنى أعظم من قول من

ص:227


1- 1 - قوله «من صفاته الفعلية والتنزيهية» المستفاد من كلام صدر المتألهين في شرح هذا الحديث الشريف أنه مشتمل على ثلاثة أقسام: الأول: في عد بعض صفاته الفعلية وما يتعلق بخالقيته وإلهيته، الثاني: في تعاليه عن منال إدراك خلقه، الثالث: أن علة اختفائه ظهوره، ثم عد من صفاته ستا: الأولى: أنه فاطر الأشياء، الثانية: أن إيجاده للأشياء لم يكن من مادة سابقة بل خلق الصورة وخلق المادة، الثالثة: أنه خلق الأشياء بقدرته وحكمته لدلالة أفعاله المحكمة وكون العالم على أشرف نظام وأحكم ترتيب على ذلك، الرابعة: ليس لفعله غرض غير ذاته وهو مفاد قوله «لا لعلة» إذ الظاهر منه الغرض والغاية المغايرة لا العلة المادية والفاعلية إذ لو كان المراد هذا لقال لا بعلة أو لا في علة أو من علة ولكن قال (عليه السلام): لعلة وقال: بعد ذلك «لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته» وهذا يدل على أن غاية فعله إظهار حكمته وأن مقتضى الكمال الإفاضة وهذا أصل من أصول العلم الإلهي، وبيان ذلك أن كل فاعل لشيء لا يخلو أما أن يكون قبل فعله أنقص ويصير بعد الفعل أكمل كطالب العلم يتعلم والسالك يهذب والتاجر يصير مثريا وهكذا. وأما أن يكون قبل الفعل أيضا كاملا ولا يتغير بفعله عما كان وليس فعله سببا لكماله بل كماله سببا لفعله كما قيل مقتضى ملأ الإناء أن يفيض منه وكلما نراه من الفواعل الممكنة من قبيل الأول وواجب الوجود لا يمكن أن يكون مثلها بل هو من الثاني وهذا هو المراد بقولهم أن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض وغايته ذاته. الخامسة: أنه خلق ما شاء كيف شاء أي خلق الأشياء بالمشية ومشيته عين ذاته ومحبته للأشياء ليس غيره. السادسة: بيان لما مر من الغاية لفعله. والقسم الثاني من قوله لا تضبطه العقول - إلى قوله - تصاريف الصفات» يدل على عدم إدراك أحد ذاته إذ لا يدرك العقل الوجود الحق الواقع في الأعيان بل إنما يتصور صورة من الوجود الخارجي وهذه الصورة ماهية قد تكون في الذهن وقد تكون في الخارج وليس الوجود إلا عارضا من عوارضها المفارقة فليس بواجب الوجود والقسم الثالث من قوله «احتجب» إلى آخر الحديث يدل على أن عدم إدراك الإنسان له تعالى ليس لكونه مفهوما مبهما ولا لوجود حائل ومانع بينه وبين خلقه بل لشدة نوريته وغاية ظهوره. (ش)

يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن علي بن العباس (1)، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم (عليه السلام) قول هشام بن سالم الجواليقي) مقول القول محذوف وهو أنه صورة.

والجواليق بفتح الجيم جمع جولق بضمها وفتح اللام معرب جوال وهو وعاء ينسج من الشعر والصوف وكان النسبة لكونه بايعها.

(وحكيت له: قول هشام بن الحكم إنه جسم فقال: إن الله تعالى لا يشبهه شيء) كما قال: «ليس كمثله شيء» و «لم يكن له كفوا أحد» (أي فحش أو خنى) الخنا الفحش والفساد والعطف يقتضي المغايرة، ولعل الثاني أغلظ من الأول والشك من الراوي أيضا محتمل.

(أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء) مثل الوجه والعين واليد والساق وغير ذلك من الأعضاء والجوارح التي للإنسان وإنما نشأ ذلك الوصف

ص:228


1- 1 - قوله «عمن ذكره، عن علي بن العباس» وصفه صدر المتألهين بالجراذيني بالراء بعد الجيم والذال المعجمة بعد الألف قبل الياء المنقطة تحتها نقطتين وبعدها النون الرازي رمى بالغلو وغمز عليه، ضعيف جدا له تصنيف في الممدوحين والمذمومين يدل على خبثه وتهالك مذهبه لا يلتفت إليه ولا يعبأ بما رواه (صه). قال النجاشي روى عنه أحمد بن أبي عبد الله انتهى ولم يكن دأبي في هذه التآليف التعرض لأحوال الرجال لأن أمثال هذه المباحث غنية عن ذكر الأسانيد وانما الاعتماد فيها على المعنى فما وافق أصول المذهب ودليل العقل فهو صحيح وإن ضعف إسناده وما خالف أحدهما كان ضعيفا وإن صح بحسب الإسناد ولذلك نرى أكثر أحاديث الأصول ضعافا وهو من أهم كتب الشيعة وأصحها معنى وأوفقها لأصول المذهب لكن اقترح علينا بعض الأحبة لا أعرفه بشخصه ولكن أعرفه بخطه وكتابه أن أغير دأبي وطريقتي لا بأن أذكر إجمالا أن الحديث الفلاني ضعيف أو مرفوع أو مسند أو صحيح أو حسن كالصحيح وأمثال ذلك كما مرآة العقول ولكن أذكر الفوائد الرجالية من تعيين الأسامي المشتركة وضبط الأسماء والأزمان والمعاصرين والكتب والتآليف وغير ذلك مما يفيد المحدث كثيرا كما سلكه صدر المتألهين (قدس سره) فإنه إن لم يفد ههنا أفاد في مباحث أخر وصدر المتألهين (قدس سره) كما فاق غيره في تحقيق المعاني والدقائق وتطبيق كلام الأئمة (عليهم السلام) على الأصول النظرية ودفع أوهام جماعة ظنوا أن أحاديثهم (عليهم السلام) خطابيات تناسب العوام، لا برهانيات تناسب أهل النظر، كذلك فاق من جهة علم الحديث والتدبر فيه تدبرا علميا وأهم ما في الأسانيد تشخيص المشتركات للقراين فإنه لا يتيسر إلا للمتفطن العارف الدقيق فانتدبت لإجابته في الجملة أن ساعدنا التوفيق بأن أفرق المهم منها على الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى. (ش)

من استيلاء أوهامهم على عقولهم، وقد عرفت أن حكم الوهم لا يترفع عن المحسوسات وما يتعلق بها وأنه إن حكم في المجردات بحكم يقدرها محسوسة ذات أحجام ويجري عليها أحكام المحسوسات ولذلك كانت غاية معرفة المشبهة هي تشبيهه بالأصنام وتمثيله بالأجسام وتصويره بالصور والهيئات وتقديره بالحدود والغايات. (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) لتحقق المباينة بين الواحد الحق الثابت بالذات وبين المتكثر الباطل بالذات من جميع الجهات.

* الأصل:

5 - علي بن محمد رفعه، عن محمد بن الفرج الرخجي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان.

* الشرح:

(علي بن محمد (1) رفعه عن محمد بن الفرج الرخجي) بضم الراء وفتح الخاء المعجمة والجيم بعدها في النسبة إلى الرخج وفي المغرب الرخج بوزن زفر اسم كورة استولى عليها الترك وفي حاشيته «قد يشدد الخاء كما في قول الشاعر:

الرخجيون لا يوفون ما وعدوا * والرخجيات لا يخلفن ميعادا قول بعض أصحابنا الرخج قرية بكرمان.

(قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب: دع عنك حيرة الحيران) حار يحار حيرة أي تحير في أمره فهو حيران والمراد بالحيرة تردد الذهن في أن أي الأمرين أولى بالطلب والاختيار وقد يطلق على الميل إلى الباطل والتصديق به وكان منشأ ذلك معارضة الوهم والخيال للعقل حتى لا يعرف جهة الحق ليقصده.

(واستعذ بالله من الشيطان) أي من إبليس أو من كل متمرد فيشمل الاستعاذة من شياطين الإنس مثل المجسمة والمصورة وغيرهما من الفرق المبتدعة أيضا.

ص:229


1- 1 - قوله «علي بن محمد» قال صدر المتألهين وتبعه تلميذه الأعظم الفيض صاحب الوافي أن علي بن محمد في صدر روايات الكافي هو ابن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف بعلان، وأقول هو خال الكليني وله كتاب أخبار القائم نقل عنه في الكافي في أخبار القائم (عليه السلام) والظاهر أن رواياته عنه مختصة بذلك الباب وأما في سائر المواضع فقلنا في حاشية الوافي أنه علي بن محمد بن عبد الله المعروف بابن بندار الرازي والله أعلم. (ش)

(ليس القول ما قال الهشامان (1) أقول: إن أراد الهشامان بالجسم والصورة المعنى المعروف منهما فيرد عليهما أن كل واحد منهما مستلزم للتركيب والحدوث والله سبحانه منزه عنهما وإن أرادا غيره وقالا: إن الإطلاق مجرد التسمية من غير تحقق معناهما المتعارف كما ذهب طايفة إلى أنه تعالى جسم لا كالأجسام وطايفة إلى أنه صورة لا كالصورة لما رأوا أهل الحق يقولون هو شيء لا كالأشياء طردوا ذلك في الجسم والصورة فيرد عليهما أن لفظ شيء لا يشعر بالحدوث بخلاف الجسم والصورة على أن جواز إطلاق الاسم عليه موقوف على الإذن وقد وقع الإذن بإطلاق الشيء عليه في القرآن والحديث ولم يقع الإذن بإطلاق الجسم والصورة عليه.

واعلم أنه بالغ العلامة في الخلاصة في مدح الهشامين وتوثيقهما وقال ابن طاووس (رضي الله عنه) الظاهر أن هشام بن سالم صحيح العقيدة معروف الولاية غير مدافع، وقال بعض العلماء: ما رواه الكشي - من أن هشام بن سالم يزعم أن لله عز وجل صورة وأن آدم مخلوق على مثال الرب - ففي الطريق محمد ابن عيسى الهمداني وهو ضعيف وقال بعض أصحابنا: لما رأى المخالفون جلالة قدر الهشامين نسبوا إليهما ما نسبوا ترويجا لآرائهم الفاسدة، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا لا حاجة في الاعتذار (2) عما نسب إلى هشام بن سالم إلى ما ذكروه من ضعف الرواية، لأن القول بأن

ص:230


1- 2 - قوله «ما قال الهشامان» نقل العلامة المجلسي وقبله صدر المتألهين - قدس سرهما - في شرحهما ما نسب إلى الهشامين مفصلا وقال: إن الرجلين ممدوحان مقبولان لا ريب في ذلك وقال الصدر إنما القدح في القول المنقول عنهما ورب قول فاسده من قائل صحيح الاعتقاد، وقال أيضا ولعل الأقوال المنقولة عنهما رموزات وتجوزات ظواهرها فاسدة وبواطنها صحيحة ولها تأويلات ومحامل أولهما في التقول بها مصلحة دينية أو غرض صحيح والله أعلم بسرائر عباده. وقال المجلسي (رحمه الله) لعلهم نسبوا إليهما... لعدم فهم كلامهما فقد قيل: أنهما قالا بجسم لا كالأجسام وبصورة لا كالصور فلعل مرادهم بالجسم الحقيقة القائمة بالذات وبالصورة المهية وإن أخطأ في إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى. ونقل المجلسي (رحمه الله) كلام صاحب الوافي أيضا فكلهم مجمعون على وجوب تأويل ما حكى عن الهشامين وفي كلامهما شيء ينبغي التنبيه عليه وهو أن صاحب الوافي احتمل وتبعه المجلسي (رحمهما الله) أن يكون قوله بالتجسيم قبل انتقاله إلى مذهب الإمامية فإنه كان قبله جهميا من أتباع جهم بن صفوان، وهذا غير صحيح لأن جهم بن صفوان لم يكن مجسما بل كان من أهل التنزيه مبالغا فيه حتى أنه أنكر الرؤية في المعراج وفي القيامة، وقد يعترض على من يأول كلام الهشامين بأن هذه المعاني الدقيقة التي يحمل كلامهما عليها لم يكن مناسبة لسذاجة السلف وقال صدر المتألهين إن لكلامه - أي ابن الحكم - وجها صحيحا ومسلكا دقيقا ومعنى عميقا سواء انكشف ذلك له وانفتح على قلبه أم لا فلم يدع علمه التفصيلي بل الارتكازي نظير علم امرئ القيس بأوزان العروض. (ش)
2- 1 - قوله «قال بعض المتأخرين من أصحابنا» لم يتفق لي العثور عليه في شرح صدر المتألهين وإن كان لغيره أو له فهو كلام كامل في هذا الباب وكاف في المقصود ولا يقدح فيه ما أورد عليه الشارح أما قول هشام بن سالم أنه أجوف إلى السرة والبقية صمد فليس بثابت والقدر المسلم المشترك فيه الروايات أنه قال بالجسم أو الصورة والغرض تأويل أصل ما نسب إليه مستفيضا لا تفاصيل ما حكى. وأما عدم جواز اطلاق لفظ الصورة عليه تعالى فمسلم إن لم يقيد بما يخرجه عن المعنى المتبادر ولعل المأولين لا يأبون من تخطئة هشام في إطلاق لفظ الصورة عليه تعالى وإنما يأبون عن دلالة ذلك على كونه مجسما كما مر من المجلسي (رحمه الله) وصدر المتألهين (قدس سره) وأما حديث خلقة آدم على صورته فمؤول البتة ومن تأويلاته أن الله تعالى خلق الإنسان خليفة له والاستشهاد إنما هو بقوله على صورته حيث أطلق الصورة عليه تعالى وهو مجاز البتة وقال الشارح في أول الباب السابق: المراد بالصورة الصفة لاختصاصه - أي آدم - بصفات من الكمال والفضائل وسجود الملائكة له وبالجملة كون ظاهر الحديث مؤولا لا يضر بالمقصود بأن الغرض إمكان إطلاق الصورة مع التأويل لا بدون التأويل. (ش)

الله تعالى صورة لا يستلزم القول بالتجسيم والتركيب فإن مثله قد يصدر عن العرفاء الكاملين إذ لفظ الصورة مشترك عند العلماء بين معان غير ما وقع في العرف من معنى الشكل والخلقة فإنهم يطلقونها تارة على ما هية الشيء، وتارة على وجوده في العقل، وتارة على كمال الشيء وتمامه، وتارة على الموجود البحت الذي لا تعلق له بجسم ولا جسماني كالذوات المفارقة عن المواد والأجرام، فيقولون: ذاته صورة الصور وحقيقة الحقائق كأن غيره سبحانه بالقياس إليه ناقص الوجود والحقيقة حيث يحتاج إلى مصور يصوره ويخرجه من حد القوة والإمكان إلى حد الفعل فلا يلزم من إطلاق الصورة عليه اعتقاد الجسم كيف؟ وقد ورد الحديث المشهور بين العامة والخاصة «أن الله خلق آدم على صورته» انتهى.

أقول: هذا الرجل يقول نصرة لهشام بأن الرواية على تقدير صحتها لا تدل على فساد عقيدته لما ذكره وفيه نظر أما أولا: فلأن هذا التوجيه لا يتمشى من قبل هشام لأنه يقول: هو صورة أجوف إلى السرة والبقية صمد أي مصمت كما مر وأما ثانيا: فلأنه لا يجوز إطلاق الصورة عليه سبحانه إما لأنها مشعرة بالتجسيم والتركيب أو لأن إطلاق الاسم والصفة عليه متوقف على الإذن ولذلك وقع الإنكار على القائلين بالصورة في الروايات مطلقا من غير تفصيل، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من الحديث المشهور بين العامة ونسبه إلى الخاصة أيضا فهو على تقدير صحته مأول عند الخاصة وعند أكثر العامة وقد استقصينا في ذكر تأويله، في أول الباب السابق وسيجئ بعض تأويلاته في باب الروح عن أبي جعفر (عليه السلام) والله ولي التوفيق.

* الأصل:

6 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن زياد قال: سمعت يونس ابن ظبيان

ص:231

يقول: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما إلا أني أختصر لك منه أحرفا، فزعم أن الله جسم لأن الأشياء شيئان: جسم وفعل الجسم، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه والصورة محدودة متناهية فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا، قال: قلت: فما أقول؟ قال: لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزء ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ولا بين المنشئ والمنشأ لكن هو المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح) في كتاب التوحيد للصدوق (رضي الله عنه) عن الحسين بن الحسن، والحسين بن علي، عن صالح بن أبي حماد، عن بكر بن صالح (عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن زياد قال:

سمعت يونس بن ظبيان (1) يقول دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما) صدور ذلك القول منه قبل دخوله في دين الحق محتمل.

(إلا أني أختصر لك منه أحرفا فزعم أن الله جسم لأن الأشياء شيئان) أي نوعان (جسم وفعل الجسم (2)) أي فعل صادر من الجسم، الحصر ممنوع (3) ولا دليل عليه عقلا ونقلا (فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل) لاستحالة احتياج الصانع إلى الفاعل والمحل.

(ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل) وهو الجسم لخلوه عن المحذور المذكور، وفيه أنه يلزم احتياج الصانع إلى علة مادية هي الأجزاء، وعلة فاعلية هي المؤلف بين تلك الأجزاء، وعلة

ص:232


1- 1 - قوله «يونس بن ظبيان» ضعفه أصحاب الرجال وقالوا أنه كان يضع الأحاديث والعبرة في هذا الحديث بما صح من معناه ومضمونه وأما القدح به في هشام بن الحكم فلا. (ش)
2- 2 - قوله، جسم وفعل الجسم» هكذا نقل أبو محمد بن الحزم دليل المجسمة وتأويل كلام هشام أن الموجود إما أن يكون موجودا قائما بذاته كالجوهر بالنسبة إلى العرض وإما فعل الجسم أي حالات وعوارض للموجود القائم بالذات فإذا لم يكن الواجب حالا في غيره فهو قائم بذاته وأراد بالجسم الشيء القائم بذاته. (ش)
3- 3 - قوله «الحصر ممنوع» إن كان الجسم في كلامه بمعنى الشيء المستقل بذاته فليس الحصر ممنوعا وأما إن كان المراد منه الجسم اللغوي بمعناه المتبادر فالحصر ممنوع بل يمكن أن يكون الموجود مجردا قائما بذاته. (ش)

صورية هي الصورة الحاصلة باعتبار التأليف.

(فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه) (1) أي له أطراف ونهايات (والصورة) الجسمية والنوعية والشخصية (محدودة متناهية) لوجوب تناهي الأبعاد والأقطار.

(فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان) لأن كل قابل للحد والنهاية أعني المقدار قابل للزيادة أو النقصان، لا يتأبى عنهما في حد ذاته، وإن استقر على حد معين فإنما استقر عليه من جهة قسر القاسر وجعل الجاعل لا من جهة ذاته.

(وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا) خلقه قادر مريد حكيم وصرفته القدرة القاهرة على وفق الإرادة إلى القبول للجهات المختلفة وساقته الحكمة البالغة إلى الحدود والنهايات المعينة ولم يمكنه التخلف والاستصعاب عن ذلك التصرف فيلزم أن يكون صانع جميع الأشياء مصنوعا مخلوقا وأنه محال.

(قال: قلت: فما أقول؟ قال: لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور) الواو للحال يعني كيف يكون هو جسما أو صورة والحال أنه فاعل الأجسام والصور كلها والفاعل مباين للمفعول (2) بالبرهان والوجدان.

ص:233


1- 4 - قوله «أما علم أن الجسم محدود متناه» أثبت الحكماء أن كل جسم متناه وقد سبقت الإشارة إلى بعض أدلتهم في الصفحة 239 و 240 من هذا الجزء ولعل هشام بن الحكم كان يعرف ذلك بالدليل العقلي ولعله لم يكن يعرف ولكن الإمام (عليه السلام) استدل بتناهي بعض أفراد الجسم فأن كثيرا منها متناهية على ما يشاهد وكل شيء متناه يحتمل الزيادة والنقصان إذ لا يمتنع أن يكون أقل أو أكثر مما هو والواجب تعالى لا يتطرق إليه هذا الاحتمال فإن الزائد على مقداره الفعلي لم يوجد فهو ممكن لا واجب والنقصان منه ممكن بأن ينفصل منه شيء وهذا المنفصل ليس بواجب والا لتعدد وهذا الكلام جار في جميع أجزاء الجسم إلى أن ينتهي إلى أقل جزء - إن فرض - لا يتجزي وجميع هذه ممكن العدم. فالجسم الواجب ممكن العدم بأن ينفصل منه شيء بعد شيء، ونقول أيضا كل ما هية من شأنها أن تقبل المقادير المختلفة فنخصصها ببعضها ليس بمقتضى ذاتها بل يحتاج إلى فاعل خارج عن طبيعته يرجح له بعض المقادير دون بعض، وهذا يقتضي الاحتياج وخروج الواجب عن كونه واجبا، وإنما عدل الإمام (عليه السلام) عن إمكان العدم إلى إمكان الزيادة والنقصان لأن تصور عدم الجسم ليس سهلا على العوام أما تصور الزيادة والنقصان فسهل عليهم، ولا فرق بين العدم والوجود والزيادة والنقصان إلا أن الأولين يشملان كل الجسم والثانيين يختصان بالأبعاض. والحاصل أن ما ليس الوجود عين ذاته أمكن تصور عدمه والجسم ليس الوجود عين ذاته ومن أراد تحقيقا زائدا على ما ذكر فعليه بشرح صدر المتألهين عليه الرحمة ونقله المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول بعين عبارته. (ش)
2- 1 - قوله «والفاعل مباين للمفعول، فإن قيل لا بد أن يكون بين الفاعل والمفعول مناسبة فإن الشيء لا يفعل ضده والحرارة لا توجد البرودة إلا بالعرض والنور لا يكون علة للظلمة وهكذا قلنا الغرض التباين في الرتبة لا في الحقيقة ولا يمكن أن يكون نواقص المعلول في العلة وليس في العالم إلا سنخ واحد وهو الوجود فالعلة وجود والمعلول وجود وليس بين الوجود والوجود تباين إلا بالكمال والنقص والشدة والضعف، وأما الجسم فمعناه وحقيقته مقومة بمعان عديمة نقصية مثلا يشغل حيزا ولا يشغل حيزا آخر وهذا معنى عدمي ومحدود وهو أيضا عدمي وبعيد عن كل شيء غيره، وهو معنى عدمي وله أثر وخاصة معينة لا تتجاوزها إلى خاصة أخرى. هذه كلها معان عدمية لا يتحصل حقيقة الجسم إلا معها وأما علته وهو واجب الوجود فمنزه عن جميع هذه الأعدام وواجد لجميع المعاني الوجودية في كل شيء. (ش)

(لم يتجزء ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص) خبر آخر لهو بترك العاطف فهو تعليل ثان لما ذكر.

يعني كيف يكون جسما أو صورة والحال أنه ليس بقابل للتجزئة والتناهي والتزايد والتناقص في حد ذاته وصفاته إذ هذه الأمور من لواحق الإمكان وتوابع الحدوث ولوازم المقدار، وساحة القدس منزه عنها.

(لو كان كما يقولون) من أنه جسم أو صورة (لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق) إذ الخالق على قولهم مثل المخلوق في الذات والصفات والاحتياج إلى المجسم والمصور والمدبر فكون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا ليس بأولى من العكس، ويتسع حينئذ دايرة مناقشة الملاحدة، إذ لهم أن يقولوا: إذ كان هو جسما مستغنيا عن الموجد جاز استغناء غيره من الأجسام وعوارضها عن الموجد أيضا.

(ولا بين المنشئ والمنشأ) أي ولم يكن بين الموجد بلا مثال والمخلوق لا من شيء فرق وهو باطل بالضرورة (لكن هو المنشئ) (1) هذا في الحقيقة استثناء لنقيض التالي لينتج نقيض المقدم يعني لكن بين الخالق والمخلوق والمنشئ والمنشأ فرق بالضرورة والله سبحانه هو المنشئ وحده وكل ما عداه مخلوق منشأ فبطل قولهم بالتشابه المفضي إلى عدم الفرق بينهما، ثم أشار إلى دليل

ص:234


1- 1 - قوله «لكن هو المنشئ» الأوضح في معنى العبارة أن يعود الضمير إلى الجسم والمنشأ بصيغة اسم المفعول يعني لكن الجسم منشأ وفرق بينه وبين من أنشأه وجسمه وصوره ويلزمه حذف كلمة «بينه» للوضوح وهذا تفسير صدر المتألهين وعلى هذا فقوله (عليه السلام) فرق بصيغة المصدر وعلى تفسير الشارح ضمير هو يرجع إلى الله تعالى والمنشئ بصيغة اسم الفاعل يعني أن الله تعالى هو المنشئ، و «فرق» بصيغة الماضي والمعنى أنه تعالى ميز بين الأجسام والصور بين كل واحد من أفرادها وهو معنى لطيف جدا إلا أن إطلاق ما هنا كان أنسب من كلمة من بأن يقول فرق بين ما جسم وما صور وما صور وما أنشأ وكأنه أريد بما جسم الماديات وبما صور المثاليات والبرزخيات وبما أنشأ مطلق الموجودات الشامل للمجردات المحضة وتقريب الاستدلال أن الذي أنشأ الأمور المتباينة كالجسم والصورة والمجرد يجب أن يكون نسبته إلى جميعها نسبة واحدة، وقال بعض الشارحين هذا رد على بني العباس وأتباعهم حيث نسبوا الأفاعيل السفلية إلى العقل الفعال وهو عجيب. (ش)

آخر على بطلان قولهم وعدم تحقق المشابهة بقوله (فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) «فرق» ماض معلوم من الفرق أو من التفريق و «إذ» ظرف للفرق يعني أنه فرق بين الأشياء وميزها في الإيجاد بأن جعل بعضها جسما وبعضها صورة وبعضها غير ذلك وأنشأها على وفق الحكمة حين كان الله ولا شيء معه حتى يشبهه شيء ويشبه هو شيئا في ذاته وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يقع المشابهة بعد الإيجاد في أمر من الأمور لأن ذلك الأمر إن كان من كماله كان خلوه عنه قبل الإيجاد نقصا وإذا لم يكن من كماله كان اتصافه به بعده نقصا والنقص عليه محال وجب تنزيه قدسه عنه.

* الأصل:

7 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن العباس، عن الحسن ابن عبد الرحمن الحماني قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله شيء، عالم سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقا فقال: قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام ولا تردد نفس ولا نطق بلسان.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن العباس) قال العلامة: إنه رمي بالغلو وغمز عليه، ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعبأ بما رواه (عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني) بفتح الحاء المهملة منسوبا إلى حمان وهو اسم رجل، ويحتمل أن يكون بضم الجيم وتشديد الميم منسوبا إلى الجمة، قال الجوهري: الجمة بالضم مجتمع شعر الرأس وهو أكثر من الوفرة ويقال للرجل الطويل الجمة الجماني بالنون على غير قياس وأن يكون بالجيم أيضا منسوبا إلى الجمانة وهي حبة تعمل من الفضة وفي كتاب التوحيد الحمامي بالميم قبل الياء نسبة إلى حمام أعين وهو اسم بستان قريب من الكوفة وفي بعض النسخ الحسين بدل الحسن ولا أعرف حالهما (1).

(قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله

ص:235


1- 1 - قوله «وفي بعض النسخ الحسين» والظاهر أنه تصحيف في الكتابة والحسن بن عبد الرحمن في كل موضع رأيناه في إسناد الأحاديث مكبر لكن لم يذكر في كتب الرجال ولم يصرحوا في حقه بشيء من المدح والذم وذكره الشيخ (رحمه الله) في رجال الصادق (عليه السلام) بعنوان الحسن بن عبد الرحمن الأنصاري الكوفي واقتصر على نقله صدر المتألهين في شرحه. وهو حسن. (ش)

شيء) يعني أنه جسم ممتاز عن غيره من الأجسام لا يماثله شيء منها في نورية ذاته وصفات كماله ونعوت جلاله.

(عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق) كأنه أراد بذلك أنه سميع بذاته وبصير بذاته وهكذا (والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد) في أنها نفس الذات (ليس شيء منها مخلوقا) فالكلام عند غير مخلوق لكونه عين الذات مثل العلم والقدرة.

(فقال: قاتله الله) كناية عن مقته وإبعاده عن الرحمة (أما علم أن الجسم محدود) بحدود ونهايات وأطراف وغايات (1) وأقطار وكيفيات وبأجزاء وتركيب وأوضاع وتأليف وصور وترصيف وكل ما هذا شأنه فهو ممكن مفتقر إلى الغير من جهات شتى، والله سبحانه هو الغني المطلق لا يفتقر إلى شيء أصلا.

(والكلام غير المتكلم) (2) عطف على الجسم اه. يعني أما علم أن الكلام غير المتكلم بالضرورة ليعلم قبح ما ذهب إليه من أنه عين ذاته كالعلم والقدرة وأنه غير مخلوق مثلهما (معاذ الله) يقال عذت بفلان واستعذت به أي لجأت إليه، وهو عياذي أي ملجائي، وقولهم معاذ تقديره أعوذ بالله معاذا فهو مصدر مضاف مثل سبحان الله.

(وأبرء إلى الله من هذا القول) ومن دان به، لكون فحشا عظيما على الله سبحانه، وربما يتوهم أن فيه مدح هشام حيث قال (عليه السلام): أبرء من هذا القول ولم يقل أبرء من هذا القائل للتنبيه على أنه

ص:236


1- 1 - قوله «بحدود ونهايات وأطراف وغايات» ألفاظ مترادفة وقوله: كيفيات يدل على أن الجسم يتأثر بقبول الكيف وقوله: بأجزاء وتركيب يدل على احتياجه لتركبه إلى الأجزاء وقوله: أوضاع يدل على احتياجه إلى المكان وقوله: تأليف وصورة توصيف يدل على نسب بعض أجزائه إلى بعض وجميع هذه الأمور تدل على الافتقار إذ كل ما ذكر من هذه الأمور لها أقسام وأنواع وأفراد مختلفة لا يمكن أن يجتمع في جسم واحد جميعها وليس بعضها أولى له من بعض فلا بد أن يكون ثبوت واحد من هذه المقادير والكيفيات الغير المتناهية بعلة وليس الواجب معلولا ثم أن هذا يدل على أن علة احتياج الممكن إلى الفاعل إمكانه لا حدوثه ولا يجب الفاصلة الزمانية بين العلة والمعلول إذ لا فاصلة بين المركب وأجزائه أي الصورة والمادة فإذا حصل المادة والصورة حصل المركب من غير فاصلة زمانية ومع ذلك المركب مفتقر إلى الأجزاء وكذلك الحصول في المكان والتكيف بكيف معين غير منفصل زمانا عن الجسم ومع فرض كونه واجب الوجود كان قديما مع كيفه ومكانه وهو محتاج فالقديم بالزمان لا ينافي إمكان الوجود فليكن هذا في ذكرك. (ش)
2- 2 - قوله «والكلام غير المتكلم» فلا يمكن أن يكون من صفات الذات لأن صفات الذات عين الذات وخالفت الأشاعرة فجعلوا الكلام من الصفات القديمة كالعلم والقدرة. وبيان بطلانه وأنه غير معقول مبسوط في الكتب الكلامية. (ش)

نسب إليه هذا القول وهو ليس بقائل به (1) وهذا التوهم مدفوع بأنه ينافي قوله «قاتله الله» والتوبيخ المذكور بعده، ولما فرغ من توبيخه بعدم علمه بقبح ما ذهب إليه أشار إلى نفي ما اعتقده بقوله (لا جسم ولا صورة ولا تحديد) وهو وإن لم يقل بالصورة والتحديد صريحا لكن يلزمه ذلك من حيث لا يعلم لأن الجسم لا يخلو عنهما.

(وكل شيء سواه مخلوق) لاستحالة أن يكون له شريك في الوجوب الذاتي فكلامه مخلوق لأنه غيره فليس الكلام مثل العلم والقدرة وسائر الصفات الذاتية، وإنما قلنا كأنه أراد بذلك كذا لأنه يحتمل أن يكون مراده بقوله عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق أن له علما وسمعا وبصرا وقدرة وكلاما ونطقا زايدة على ذاته، بها يعلم ويسمع ويبصر ويقدر ويتكلم وينطق وأن هذه الصفات مشتركة في أنها قديمة غير مخلوقة وحينئذ قوله (عليه السلام) «وكل شيء سواه مخلوق بيان لفساد هذا القول إذ القول بزيادة الصفات لا يجامع بأنها غير مخلوقة إذ كل شيء سواه مخلوق، وآخر الحديث يناسب هذا الاحتمال وقوله (عليه السلام) «والكلام غير المتكلم» يناسب الاحتمال الأول وحمله على الاحتمال الثاني حينئذ لا يخلو من دقة وخفاء فليتأمل.

(إنما يكون الأشياء بإرادته ومشيئته) «يكون» بسكون الواو من الكون أو بكسرها وتشديدها من التكوين يعني إذا تعلقت إرادته بوجود شيء أذعن له ذلك الشئ وتحقق وجوده على غاية من السرعة بلا تخلف ولا بطؤ وما أمره في ذلك إلا واحدة كلمح بالبصر أو هو أقرب.

(من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان) سيجيء أن الكلام والإرادة حادثان والمقصود هنا نفي أن تكوينه للأشياء بأن يصدر عنه الحرف والصوت وينطق بكلمة كن ونحوها لأن ذلك من صفات الخلق وهو سبحانه منزه عنها، وكلمة كن في قوله تعالى (كن فيكون) كناية عن تسخيره للأشياء وجريان حكمه في إيجادها وإحداثها وبأن يصدر عنه إرادة مترددة في النفس وتكفر في عواقب الأمور ليعلم وجوه مصالحها كإرادة أحدنا شيئا فإنها متوقف على تصور الفعل والنظر إلى مصالحه والتفكر في منافعه ليحصل اعتقاد النفع وانبعاث الشوق إلى أن يبلغ حدا يرجح الفعل منه

ص:237


1- 3 - قوله «وهو ليس بقائل به» هذا مذهب الشارح بعينه إذ قد مر منه في صدر الباب أن ما نسب من التجسيم إلى هشام بن الحكم غير ثابت بل غير صحيح لكنه أراد هنا المناقشة في العبارة فقط وفي المقام كلام آخر نبه عليه فيما مضى وهو أن القول قد يكون مقدوحا من غير قدح في قاتله وربما يكون الرجل غير قائل بجسميته تعالى حقيقة بل يعبر بلفظ الجسم مريدا به الموجود المستقل كما حمل عليه المجلسي (رحمه الله) كلام الهشامين وحينئذ فالقدح في قوله لا في قائله نظير من قال: له ماهية. ولم يرد الماهية المصطلحة ومن قال أنه تعالى مستطيع وسخي بدل أن يقول قادر وجواد، أو عارف بدل أن يقول عالم وهكذا. (ش)

على الترك وما ذلك إلا لنقصان العلم المنزه جناب الحق عنه، بل إرادته لإيجاد الأشياء عبارة عن إيجادها وإحداثها، ولذلك لا يلزم أن يكون محلا للحوادث مع أن الإرادة حادثة، وبالجملة فيه تنزيه له جل شأنه أن يعرض له من جهة ما هو فاعل شيء من هذه الكيفيات فإنها من عوارض الإمكان، ولواحق الحركة التي هي من عوارض الجسم الذي يفعل بالآلة والتفكر ويحتاج في فعله إلى الحركة التي تشتد وتضعف والله سبحانه منزه عن جميع ذلك.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي الحسن (عليه السلام) قول هشام الجواليقي وما يقول في الشاب الموفق ووصفت له قول هشام بن الحكم فقال: إن الله لا يشبهه شيء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عن محمد بن حكيم قال: وصفت لأبي الحسن (عليه السلام) قول هشام الجواليقي وما يقول في الشاب الموفق) فقد عرفت تفسيره سابقا (ووصفت له قول هشام بن الحكم) من أنه جسم.

(فقال: إن الله لا يشبهه شيء) (1) هذا من أوجز الكلام في تنزيه الواجب عما لا يليق به مثل

ص:238


1- 1 - قوله «إن الله لا يشبهه شيء» يمكن أن يكون دليلا نقليا في مقابلة أهل الظاهر المتمسكين ببعض الاخبار في تجسيم الواجب تعالى وبيانه أنه لو كان جسما كان شبيها بخلقه وقد نص الكتاب على أنه ليس كمثله شيء، فإن قالوا نحن أيضا نقول هو جسم لا كالأجسام ونعترف بأنه ليس كمثله شيء؟ قلنا هذا الكلام مشتمل على التناقض إذ لو كان جسما كان له مثل. ويمكن أن يكون دليلا عقليا بأنه لو كان جسما كان شبيها بمخلوقاته وهذا محال لأن وجه الشبه صفة مشتركة بينه وبين خلقه البتة فيلزم تركيب ذاته مما به الاشتراك وما به الامتياز، فإن قيل ما تقول في سائر الصفات المشتركة كالعلم والقدرة؟ قلنا هذه الصفات مشتركة في المفهوم فقط كالوجود لا في الحقيقة وأما الجسمية عند أهل التجسيم فهو حقيقة فينا وحقيقة في الباري تعالى والاشتراك في الحقيقة لا في صرف المفهوم وننقل هنا متن كتاب الإشارات في نفي الجسمية عنه تعالى وفي عدم شبيه له أصلا وعلى القارئين تطبيق ما قاله الشيخ على ما ورد في الأحاديث ولا اختلاف بينهما في المعنى، قال الشيخ: كل متعلق الوجود بالجسم المحسوس يجب به لا بذاته وكل جسم محسوس فهو متكثر بالقسمة الكمية وبالقسمة المعنوية إلى هيولى وصورة وكل جسم محسوس فنجد جسما آخر من نوعه أو من غير نوعه إلا باعتبار جسميته فكل جسم محسوس وكل متعلق به معلول. وقال أيضا: واجب الوجود لا يشارك شيئا من الأشياء في ماهية ذلك الشيء لأن كل ماهية لما سواه مقتضية لإمكان الوجود وأما الوجود فليس بماهية لشيء ولا جزء من ماهية شيء أعني الأشياء التي لها ماهية لا يدخل الوجود في مفهومها بل هو طار عليها فواجب الوجود لا يشارك شيئا من الأشياء في معنى جنسي ولا نوعي فلا يحتاج إلى أن ينفصل عنها بمعنى فصلي أو عرضي بل هو منفصل بذاته. انتهى كلامه. وبقى في هذه المسألة غموض وهو أن المنقول عن هشام بن الحكم القول بالجسم وعن ابن سالم القول بالصورة ويدل النقل على أن القولين مختلفان كما مر «أن أصحابنا اختلفوا في التوحيد منهم من يقول: إنه جسم ومنهم من يقول صورة» ولا ندري ما أرادوا بالصورة في مقابل الجسم وروى أن القائل بالصورة قال: بالشاب الموفق. وقال: بأنه أجوف إلى السرة والباقي صمد وهل الشاب الموفق الأجسم والأجوف كذلك، فلعل القائل بالجسم قال بالجسم المادي والقائل بالصورة بالجسم المثالي ولا ينافيه وصفه بالشاب والأجوف إذ اطلق على الأجسام المثالية أمثال ذلك قال تعالى (إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) وقال (رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) وقال (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) ولكن لا فائدة في تحقيق القولين مع أن النسبة غير ثابتة. (ش)

الجسمية والصورة والتحديد وغيرها من صفات الممكنات المحدثة وكمالاتها المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان والافتقار وإذا كان منزها عن أمثال هذا مما يوجب النقصان والزوال كان باعتبار اتصافه بأشرف طرفي النقيض في المرتبة الأعلى من الكمال وهو العلي الكبير.

ص:239

باب صفات الذات

اشاره

باب صفات الذات (1) صفات الذات عند الأشاعرة (2) ما قام به أو اشتق عن معنى قائم به كالعلم وعندنا ما لا يجوز سلبه عنه قط فإن العلم مثلا عندهم صفة زايدة قائمة بذاته تعالى ولا ينفك ذاته عنها أبدا وأزلا، وهذا غير صحيح عندنا إذ لا قديم إلا هو بل ذاته المقدسة علم بكل معلوم وجد أو لم يوجد، فالتغير إنما هو في المعلوم وهو معدوم تارة وموجود أخرى والعلم واحد في الحالتين لا تغير فيه بالزيادة والنقصان والظهور.

وصفات الفعل عندهم ما اشتق منه من أمر خارج عن الذات كالخالق والرازق فإنهما مشتقان من الخلق والرزق، وعندنا ما يجوز سلبه عنه في الجملة فانه كان في الأزل ولم يكن خالقا ورازقا، ولا نريد أنه يتجدد له صفاته حادثة كما زعمه طائفة من المعتزلة لأنه أجل وأعظم من أن يكون محل الحوادث بل نريد أنه يفعل هذه الأشياء ويوجدها من غير تغير في ذاته وحدوث صفة له، وزيادة البحث في باب صفات الفعل.

ص:240


1- 1 - قوله «صفات الذات» قال صدر المتألهين وتبعه المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول واللفظ لهما رحمهما الله، إن صفاته على ثلاثة أقسام: منها سلبية محضة كالقدوسية والفردية، ومنها إضافية محضة كالمبدئية (والخالقية) والرازقية ومنها حقيقة سواء كانت ذات إضافة كالعالمية والقادرية أو لا كالحياة والبقاء ولا شك أن السلوب والإضافات زائدة على الذات وزيادتها لا توجب انفعالا ولا تكثرا (وقيل [لكن يجب أن يعلم] أن السلوب كلها راجعة إلى سلب الإمكان [فإنه يندرج فيه الجوهرية وسلب الجسمية وسلب المكان والحيز والشريك والنقص والعجز والآفة وغير ذلك] والإضافات راجعة إلى الموجدية... وأما الصفات الحقيقية (فالحكماء والإمامية) على أنها غير زائدة. ما بين الهلالين زيادة للمجلسي وبين المعقفتين زيادة لصدر المتألهين. (ش)
2- 2 - «صفات الذات» بالغ أبو محمد بن الحزم على سائر خزعبلاته في إنكار إطلاق الصفة على الله تعالى فقال لم ينص قط في كلامه المنزل على لفظة الصفات ولا على لفظ الصفة ولا حفظ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لله تعالى صفة أو صفات نعم ولا جاء قط عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من خيار التابعين ولا عن أحد من خيار تابعي التابعين ومن كان هكذا فلا يحل لا حد أن ينطق به، ولو قلنا إن الإجماع قد تيقن على ترك هذه اللفظة لصدقنا فلا يجوز القول بلفظ الصفات ولا اعتقاده بل هي بدعة منكرة، وقال: وإنما اخترع لفظ الصفات المعتزلة وهشام ونظراؤه من رؤساء الرافضة وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى. وما أشبه كلامه بكلام بعض الأخباريين في إنكار اصطلاحات أهل الأصول والحق أن النظر في الصفات أهم وأوجب من إثبات الذات إذ ما من أحد من العقلاء إلا أثبت ذاتا هو واجب الوجود حتى الماديين والملاحدة والدهرية، وإنما الخلاف بين المليين وبينهم في الصفات فالأنبياء والحكماء يثبتون له العلم والقدرة وغيرهما والماديون وأمثالهم يجعلون المادة أو الأجزاء المنبثة والمكان والزمان واجب الوجود فالاختلاف في صفة العلم والقدرة والحياة. (ش)
* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع، والبصر على المبصر، والقدرة على المقدور، قال: قلت: فلم يزل الله متحركا؟ قال: فقال: تعالى الله، إن الحركة صفة محدثه بالفعل، قال: قلت فلم يزل الله متكلما؟ قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان الله عز وجل ولا متكلم.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ألم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم) قيل: علمه بالشيء قبل وجوده هو العلم بأنه سيقع لا العلم بأنه واقع لأنه جهل، أقول: الجهل إنما يلزم لو علم أنه واقع في غير وقته والحق أن علمه بما وقع وما هو واقع وما سيقع على نحو واحد من غير ترتب بالنظر إلى ذاته المقدسة المنزهة عن الامتداد الزماني ولواحقه من الماضوية والحالية والاستقبالية والتقدم والتأخر وإنما هذه الأمور يتحقق في المعلومات المتغيرة الزمانية المترتبة في حد أنفسها، فعلمه بما في القيمة كعلمه بما هو واقع الآن، وعلمه بما هو واقع الآن كعلمه بما وقع في زمن الطوفان من غير تغير وتفاوت في علمه أصلا.

(والسمع ذاته ولا مسموع (1) والبصر ذاته ولا مبصر) اختلف العلماء في أن السمع والبصر نفس

ص:241


1- 1 - قوله «والسمع ذاته ولا مسموع» من الثابت في الديانات الحقة والشرائع الإلهية الاعتقاد بالدعاء وإن الله تعالى يسمع كل من يدعوه وبذلك يعبدون الله ويوحدونه ويثنون عليه ويمجدونه وكذلك يبصر عمل كل عامل في الخير والشر والسر والعلانية ولولا ذلك لم يجتنبوا المعاصي وإنه يعلم سرائر القلوب وأسرار الضمائر وأما اللمس والشم والذوق فلم يرد التعبد باطلاقها عليه فلا يجوز وإن كان له العلم بالمذوقات والمشمومات والملموسات كما له علم بالمبصرات والمسموعات من غير فرق. هنا خلاف بين أتباع المشائين وأصحاب الكلام، فقال الأولون علمه تعالى بالجزئيات بوجه كلي وقال الآخرون معنى بصره علمه بالمبصرات وسمعه علمه بالمسموعات ولم يتبين لي إلى الآن ما الفرق بين القولين مع أنهما متفقان على عدم الاحساس وأن علمه بغير آلة وحاشا أن يتوهم في أكابر القوم اعتقاد كون الواجب تعالى أنقص في العلم من المخلوقين لكن العوام يظنون العلم بالحس البصري أقوى العلوم وأوضحها ويلزمها أن يكون الواجب تعالى الفاقد للآلة الحاسة أدون في العلم من مخلوقاته وهو باطل، وليس الحكيم المشائي ولا المتكلم بهذه المرتبة من الغباوة حتى يظن في حقهما أنهما يريدان بما قالا نقص علمه تعالى وأكملية الحيوان بالقوة الباصرة عليه بل مقصودهم أن هذا العلم والكشف الذي يحصل لنا بالبصر حاصل له أوضح وأكمل وأقوى أضعافا مضاعفة ومراتب غير متناهية من غير احتياج إلى آلة، وعبر عنه المتكلم: بأنه علم المبصرات. والمشائي: بأنه علم بوجه كلي أي بغير آلة ولتحقيق على مذهب الإشراقي محل آخر. (ش)

العلم بالمسموعات والمبصرات أو صفة اخرى غيره؟ فذهب المحققون إلى الأول وذهب طائفة إلى الثاني وقالوا: ذكرهما مع العلم في كثير من الآيات والروايات وإثباتهما بالدليل بعد إثبات العلم بجميع المعلومات دليل على المغايرة والحق هو الأول لدلالة كثير من الروايات الآتية عليه وذكر الخاص مع العام شايع وإثباتهما بالدليل بعد إثبات عموم العلم للدلالة على تحقق هذا العلم المخصوص له سبحانه أعني العلم بالمسموع والمبصر من حيث أنه مسموع ومبصر حتى أنهما حاضران عنده على هذه الحيثية بالمشاهدة الذاتية بلا آلة كما أنهما حاضران عندك بالمشاهدة العينية والملاحظة الآلية، فإثبات السمع والبصر من حيث أنهما علم داخل تحت إثبات العلم مطلقا ومن حيث الخصوصية المذكورة مفتقر إلى دليل على حدة، فإن قلت: كما أنه تعالى عالم بالمسموع والمبصر بالحيثية المذكورة كذلك هو عالم بالملموس مثلا من حيث أنه ملموس فلم لا يطلق عليه اللامس للدلالة على أنه عالم بالملموسات بالحيثية المذكورة، قلنا: لا ريب في أنه عالم بها من هذه الحيثية لكن إطلاق الاسم عليه موقوف على الإذن حتى أنه لو لم يقع الإذن على إطلاق السميع والبصير عليه لما أطلقناهما عليه.

وقال بعض أصحابنا فإن قلت: لم يكن شيء من المسموعات والمبصرات في الأزل فلم يكن الله سميعا وبصيرا في الأزل (1) إذ لا يعقل سماع المسموعات الحادثة وإبصار المبصرات الحادثة

ص:242


1- 1 - «فلم يكن الله سميعا وبصيرا في الأزل» لا يخفى أن الإدراك يوجب ارتباطا بين المدرك والمدرك والعالم والمعلوم وأن هذا الارتباط في الحس عبارة عن تأثير المحسوس في الحاس بأن يكون الأشياء علة في الجملة والحواس معلولة في حيثية ما ولا شك أن هذا الإدراك الحسي يستلزم وجود المحسوس بالفعل إذ لو لم يكن بعد موجودا لم يتعقل تأثيره في الحس ولذلك لا يجوز لنا رؤية أمور لم توجد بعد وتوجد في الزمان المستقبل وأما الذي وجد في الزمان الماضي وانقضى فربما أمكن تأثيره بالأعداد مثلا ما تنبه له القدماء من سماع صوت الرعد بعد حدوث سببه بزمان وما يعتقده أهل زماننا من أنه يمكن رؤية كواكب كانت موجودة سابقا وأرسلت نورها إلينا قبل سنين ثم عدمت الكواكب وبقي النور فيمكن لنا رؤية شيء كان في الزمان الماضي وأما المستقبل فرؤيته غير ممكنة إذ لا يمكن تأثير ما لم يوجد بعد بوجه ثم أن هذا النوع من الارتباط غير متصور بين الواجب تعالى ومخلوقاته إذ لا يمكن أن يكون ذاته متأثرة من الأشياء حتى يدرك بل الواجب أن يكون الارتباط الموجب للعلم هو علية الواجب تعالى لمخلوقاته فسمعه وبصره وعلمه راجعة إلى الارتباط العلي بينه وبينها وقد حقق ذلك المحقق الطوسي (قدس سره) في موضعه فيرجعا لكلام إلى أن الارتباط بين العالم والمعلوم والسميع والمسموع والبصير والمبصر الذي هو مناط الإدراك قد يكون بتأثير المعلوم في العالم وحينئذ لا يمكن إبصار ما لم يوجد وقد يكون بتأثير العالم في المعلوم فلا مانع من إبصار ما سيأتي والحاصل أن الإدراك متفرع على الارتباط والارتباط متوقف على التأثير فإن كان بتأثير المعلوم في العالم لم يمكن إدراك ما في المستقبل وأمكن إدراك ما في الماضي حسا وإن كان بتأثير العالم في المعلوم جاز إدراك ما في المستقبل والماضي جميعا. (ش)

في الأزل، قلنا إنه تعالى سميع وبصير في الأزل بمعنى أنه كان على وجه إذ أوجد المسموع والمبصر لأدركهما عند وجودهما.

أقول كل واحد من السؤال والجواب ليس بشيء أما السؤال فلأن السمع والبصر عبارة عن العلم والعلم بالشيء غير متوقف على وجوده. وقد يتحقق ذلك في أفراد البشر فكيف الباري الذي لا يخفى عليه شيء، وأما الجواب فلأن فيه اعترافا في الحقيقة بورود السؤال وأنه تعالى لا يدرك المسموع والمبصر قبل وجودهما وإشعارا بأن فيه جل شأنه استعدادا لحصول العلم والإدراك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(والقدرة ذاته ولا مقدور) لأنه تعالى كان في الأزل قادرا على الإيجاد في لا يزال (1) ولأن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، وهذا أمر متحقق له في الأزل قبل وجود المقدور، وقد ظهر مما قرر أن هذه الصفات أزلية وأما أنها نفس ذاته المقدسة فلأنها لو كانت زائدة عليها فإن كانت وجوداتها واجبة لزم تعدد واجب الوجود بالذات وإن كانت ممكنة لزم افتقار الواجب الذات إلى الممكن، وبالجملة كان جل شأنه عليما سميعا بصيرا قديرا في الأزل بذاته المقدسة الأحدية لا بالمعنى المتعارف فينا، وإن لم يكن شيء من المعلومات والمسموعات والمبصرات والمقدورات موجودا فيه فذاته وعلمه وسمعه وبصره وقدرته شيء واحد وإنما يختلف بحسب اعتبارات يحدثها العقول بالقياس إلى المخلوقات، فإن ذاته المقدسة من حيث أنه لا يخفى عليها

ص:243


1- 1 - قوله «كان في الأزل قادرا على الإيجاد في لا يزال» هذا الذي ذكره الشارح راجع إلى القادر بالقوة والاستعداد الذي زيفه بالنسبة إلى السمع والبصر كما أن أحدا منا قادر بالقوة والاستعداد على الكتابة والصنعة وإن لم نكتب بالفعل ولم نصنع بالفعل ومثله رازق ولا مرزوق وخالق ولا مخلوق وهو بعيد بل الظاهر أن المراد أنه القادر بالفعل وحين لا مقدور كما أنه العالم حين لا معلوم والسميع حين لا مسموع والبصير حين لا مبصر كذلك ومرجع الجميع إلى ربط الحادث بالقديم والأشكال المختلج في ذهن الانسان هنا هو الأشكال المعروف في مسألة ربط الحادث بالقديم وتأخر الحادثات عن أزليته مع كونه تعالى علة تامة ولا يحل الخوض فيه إلا للعقول الخالية عن شوائب الأوهام وعلى ساير الناس الإقرار بما ورد عن الأئمة المعصومين وتفويض معناه إليهم (عليهم السلام) وما ذكرناه في السمع والبصر كاف هنا قال صدر أهل التحقيق في الأمة وشارح غوامض أسرار الأئمة (عليهم السلام). هذا المقصد في غاية الغموض والدقة فإن العلم والقدرة والسمع والبصر من الصفات الحقيقية التي يلزمها الإضافة وقد علمت أن إضافاته تعالى كلها راجعة إلى إضافة القيومية فكيف يتصور علم ولا معلوم وقدرة ولا مقدور وسمع وبصر ولا مسموع ولا مبصر وقيوم ولا متقوم به وهذه مسألة ربط الحادث بالقديم انتهى. وحله بما ذكر في محله (ش)

المعلومات علم ومن حيث أنه لا يخفى عليها المسموعات سمع وكذا البواقي.

(فلما أحدث الأشياء) بواسطة أو بغيرها (1) (وكان المعلوم) الظاهر أن «كان» تامة بمعنى وجد وإن في الكلام اختصارا أي كان المعلوم والمسموع والمبصر والمقدور (وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور) يعني وقع العلم على ما كان معلوما في الأزل وانطبق عليه لا على أمر يغايره ولو في الجملة، والمقصود أن علمه قبل الإيجاد هو بعينه علمه بعد الإيجاد والمعلوم قبله هو المعلوم بعينه بعده من غير تفاوت وتغير في العلم أصلا، وليس هناك تفاوت إلا تحقق المعلوم في وقت وعدم تحققه قبله. وليس المراد بوقوع العلم على المعلوم تعلقه به تعلقا لم يكن قبل الإيجاد لأن علمه تعالى متعلق به قبل الإيجاد وبعده على نحو واحد، وهذا الذي ذكره (عليه السلام) هو المذهب الصحيح الذي ذهب إليه الفرقة الناجية الإمامية وأكثر المخالفين، قال قطب المحققين في درة التاج: ذهب جمهور مشايخ أهل السنة والمعتزلة إلى أن العلم بأن الشيء سيوجد نفس العلم بذلك الشيء إذا وجد لأن من علم علما قطعيا بأن زياد يدخل البلد غدا عند طلوع الشمس مثلا يعلم بذلك العلم بعينه عند طلوع الشمس أنه دخل البلد، ولو احتاج أحدنا إلى تعلق علم آخر به فإنما احتاج إليه لطريان الغفلة عن العلم الأول والغفلة على الباري ممتنعة.

(قال: قلت: فلم يزل الله تحركا؟ قال: فقال: تعالى الله) من أن تعرضه الحركة (إن الحركة صفة محدثة بالفعل) لعل المراد بالتحرك التغير والانتقال من حال إلى حال فكان السائل توهم أن العلم والسمع والبصر والقدرة إذا كانت عين الذات ومتعلقها وهو المعلوم والمسموع والمبصر والمقدور يتغير ويتبدل من حال إلى حال كان العلم يعني الذات يتغير بتغيره من حال إلى حال أيضا فأجاب (عليه السلام) بأن الحركة صفة حادثة متعلقة بالفعل الحادث وهو المعلوم وأخواته دون الفاعل أعني الذات المقدسة (2) المنزهة عن طريان التغير والانتقال.

ص:244


1- 1 - قوله «بواسطة أو بغيرها» أو للتقسيم فإن الموجود قسمان الأول ما صدر منه تعالى بغير واسطة كالعقل الأول على مذهب المشائين والثاني ما صدر منه بواسطة كساير الممكنات وليس معنى الوساطة التفويض كما توهمه بعض المغفلين بأن يكون الأول تعالى أوجد العقل الأول ثم فوض أمر إيجاد غيره إليه بل لا مؤثر في الوجود إلا الله كما قال الحكماء ووساطة الوسائط نظير شفاء الأمراض بالأدوية وإزهاق النفس بالمسموم. (ش)
2- 1 - قوله «أعني الذات المقدسة» لا ريب أن ذاته تعالى لا يتصف بالتغير لأن كل ما هو لائق به من صفات الكمال حاصل له أزلا وأبدا وهذا ضروري في العقل وضروري في مذهبنا وإن تفوه أحد من أهل الظاهر بما ينافيه فهو تعبير من غير التزام بمفاسده، قال القاضي سعيد القمي في شرح حديث مروي في الأسماء والصفات عن أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) عند شرح قوله (عليه السلام) والله واحد لا متجزي ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزي أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق قال القاضي في عد فوائد هذا الكلام أن هذا الحكم منه (عليه السلام) صريح في كفر من زعم أن العالم مسبوق بزمان موهوم نفس أمري ينتزع من بقاء الواجب تعالى سواء قال بعينية الصفات أو لا، إذ يلزم كونه تعالى متوهما بالقلة والكثرة، ومن البين أن المتوهم بهما مخلوق عقلا ونقلا وهذا كفر محض أما النقل فواضح وأما العقل فلان منشأ الانتزاع في نفس الأمر لا بد أن يكون حيثية يصح منها انتزاع ذلك دون هذا كما أن الجسم عند من يقول باعتبارية الأطراف بحيث تنتزع هي منها وكونه ذا امتدادات مخصوصة بحيث لو كانت موجودة لكانت هذه التي يشير إليها القائل بوجودها إشارة حسية، فتوهم الزمان في شيء يقتضي أمرين أحدهما كونه ذا امتداد وأجزاء وحصص يفرض فيه النصف والثلث وغيرهما ويمكن انطباقه لشيء آخر وإلا لم يصح الانتزاع وذلك مثل ما يقول بوهمية الزمان الذي نحن فيه فإنه لا يأبى من توهم الإنصاف والانطباق والزيادة والنقصان وغير ذلك وثانيهما كون أبعاضه المتوهمة مختلفة الأحوال غير مستقرة على حال وإلا لم يصح متوهم الزمان المنقضي فيه انتهى كلامه. وهو حسن دقيق وإني لا أوافقه في تكفير القائل بالزمان المتنزع من ذات الواجب وإن كان قولا فاحشا في الفساد بل أفحش وأفسد من قول المجسمة لأن ما ذكره القاضي من الأدلة الدقيقة التي لا يتوقع من حشوية أهل الظاهر التنبيه لها وفهم معانيها، وقلنا إن الكفر يثبت بإنكار التوحيد والرسالة صريحا أو بمقدمات مفضية إليه بملازمة بينة وقد أمرنا الشارع بحمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة، وقد رأينا من أهل الظاهر وغيرهم الالتزام بالمتناقضين وبطلانه أظهر من انتزاع مفهوم الزمان من ذات ثابت لا يتغير ورأيت رجلا لا أتهمه في الدين والورع ولا أعتقد فيه غير التقوى والصلاح ويلتزم بإمكان انتزاع الزمان من بقاء الواجب تعالى أزلا كما حكى القاضي وكان يعتقد نزول الملائكة من خروق الأفلاك ويقول لا يمكن عبورهم عن الأفلاك من غير خرق والتيام فقيل له كيف يدخلون القبور للسؤال من الأموات أم كيف يدخلون من الجدر والأبواب المسدودة كل السد بحيث لا يكون فيه منفذ للهواء قال: إن الله قادر على أن يدخلهم من وراء الموانع والسدود فقيل له كيف يقدر تعالى على ذلك ولا يقدر على إجازتهم من الأفلاك من غير خرق وجسم الفلك عندهم ألطف من كل جسم. (ش)

وقيل: المراد بالتحرك والحركة هنا الإيجاد والخلق ومنشأ السؤال أن السامع لما سمع أن صفاته تعالى مثل العلم والسمع وغيرهما عين ذاته الأزلية، توهم أن الخلق والإيجاد أيضا عينها فتوهم أنه تعالى لم يزل خالقا موجدا فأجاب (عليه السلام) بأن صفاته القديمة الذاتية عين ذاته والخلق والإيجاد من الصفات الحادثة والفعلية.

أقول: لا مجال لهذا التوهم بعد سماع السائل قوله (عليه السلام) ولا معلوم ولا مسموع ولا مبصر ولا مقدور وقوله فلما أحدث الأشياء (قال: قلت: فلم يزل الله متكلما) توهم أن الكلام من الصفات الذاتية وأنه مثل العلم ونحوه عين ذاته (قال: فقال: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان الله تعالى ولا متكلم) اتفقت الامة على أنه تعالى متكلم وقد دلت عليه الآيات، والروايات من طرق العامة والخاصة وهم بعد ذلك اختلفوا في حدوثه وقدمه ومحله فذهب الإماميون رضوان الله عليهم أجمعين إلى أنه حادث لدلالة هذه الرواية وغيرها من الروايات المتكثرة المروية عن العترة

ص:245

الطاهرة على حدوثه ولأن الكلام عبارة عن الألفاظ المركبة والمعاني المرتبة ولا يعقل منه غيرهما ولا شك أن كل واحد منهما حادث وأيضا لو كان الكلام قديما لزم تحقق الخطاب والطلب في الأزل بدون المخاطب وأنه سفه لا يليق بجناب القدس، وإذا ثبت حدوثه ثبت أنه ليس عين ذاته تعالى لأن صفاته الذاتية الأزلية عين ذاته دون غيرها من الصفات الحادثة الفعلية ولا قايما بذاته تعالى لاستحالة حلول الحوادث فيه، بل هو قائم بالهواء أو بجبرئيل أو بالشجر أو بغيره من الأجسام الجمادية، وكونه تعالى متكلما عبارة عن إيجاد الكلام في هذه الأمور وأمثالها.

وأورد عليهم بعض متعصبي الأشاعرة الإيراد المشهور بين أصحابه وهو أنه لو جاز إطلاق المتكلم على شيء باعتبار كلام قائم بغيره لجاز إطلاق المتحرك عليه باعتبار حركة قائمة بغيره، ثم قال: والحق أن هذه المناقشة ضعيفة أما معنى فلأنه لا يمنع منه تعالى أن يخلق الأصوات المخصوصة في جسم حيواني أو جمادي ويجعلها دليلا على أنه تعالى مريد لشيء أو كاره له وأما لفظا فلأن النزاع إنما يرجع إلى أمر لغوي وهو أنه هل يصح بحسب اللغة إطلاق المتكلم على خالق تلك الأصوات في الأشياء المذكورة أم لا يصح بل يعتبر في صحة الإطلاق قيام المبدء المشتق منه به والأمر فيه هين فهذه المناقشة ليست بدافعة لقولهم وإنما الدافع له هو ثبوت الكلام النفسي القديم القايم بذاته تعالى.

أقول: لا دليل على اعتبار قيام المبدء ولا على ثبوت الكلام النفسي كما ستعرفه، وذهب الأشاعرة إلى أن له تعالى كلاما نفسيا قديما قايما بذاته كساير الصفات الذاتية عندهم ونحن لا نعرفه وهم أيضا لا يعرفونه وقد صدر ذلك عن لسان الأشعري مخالفا لجميع العقلاء السابقين، قال بعض أصحابنا ويؤيده ما نقل السيد معين الدين الايجي الشافعي في بعض رسائله عن بعض العلماء أنه قال ما تلفظ بالكلام النفسي أحد إلا في أثناء المائة الثانية ولم يكن قبل ذلك في لسان أحد انتهى.

ولا ريب في أن هذا إيراد على الأشاعرة واستدلوا على ذلك بأن كلامه تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلامه قديم وإذ ليس هو هذه الحروف المركبة ومعانيها المرتبة الدال عليها الفظ بحسب الوضع والتأليف لحدوثهما فهو أمر آخر، وهو المراد بالكلام النفسي القائم بذاته تعالى وأنت تعلم أن هذا الكلام لا طايل تحته لأن قولهم كلامه تعالى صفة له ممنوع وإنما يتم ذلك لو ثبت الكلام النفسي فإثباته من باب المصادرة على المطلوب ولو أثبتوه بأنه تعالى متكلم بالاتفاق والمتكلم في اللغة من قام به صفة التكلم والكلام، قلنا أولا لا نسلم أن المتكلم معناه ما ذكرته بل معناه فاعل الكلام واسم الفاعل معناه فاعل الفعل سواء قام به الفعل أو لا، ويؤيده ما ذكره الفخر الرازي في أوايل تفسيره الكبير من أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص جعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الاعتقادات والإرادات وعند هذا يظهر أن المراد من

ص:246

كون الإنسان متكلما بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص انتهى.

وثانيا أن الموجود يطلق على الموجودات حقيقة مع أن الوجود عندكم عين تلك الموجودات لا صفة قائمة بها، وذهب الكرامية إلى أن كلامه (1) حادث قائم بذاته تعالى وهو يخلق الأصوات والحروف في ذاته. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان الله عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان الله عز وجل ولا شيء غيره (2))

ص:247


1- 1 - قوله «وذهب الكرامية إلى أن اه» في المنظومة: ونغمة الحدوث في الطنبور * قد زادها الخارج عن مفطور فالتزمت الكرامية بإمكان كون ذاته تعالى محلا للحوادث، وهذا مما يؤيد ما ذكرنا من أن ما يستلزم إنكار الألوهية استلزاما غير بين لا يوجب الحكم بالكفر فإن الكرامية مع بشاعة مذهبهم واستلزام قولهم نفي الوجوب الذاتي عن الله تعالى لا يجوز الحكم بكفرهم فإن النفي ليس من اللوازم البينة لقولهم ولو كان كل ما يستلزم إنكار الواجب كفرا لكان القول بالجبر والتفويض وإثبات الصفات والاعتراض بتعدد القدماء، بل نفي الصفات أيضا موجبا للكفر وفي زماننا جماعة ينكرون وجوب اللطف على الله تعالى ويستلزم قولهم إنكار الرسالة والإمامة استلزاما غير بين عندهم ولا يوجب كفرهم بل ليس من فرق المسلمين أحد إلا وعندهم ما يلزم بالمقدمات الدقيقة نفي الألوهية أو نفي الرسالة ولو لم يكن خوف التطويل لعددت كثيرا من الطوائف وأقوالهم خصوصا أصحاب الحشو من محدثي العامة إلا أنهم لا يتفطنون للوازم أقوالهم وليس الدين الحق الخالص إلا ما ثبت متواترا عن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين وبالله التوفيق. (ش)
2- 1 - قوله «كان الله ولا شيء غيره» الاحتمال المعقول عند القائل بالصفات الزائدة أن تكون الصفات قديمة مع كونها متفرعة على الذات ويعبر عنها بالحدوث الذاتي إذ معنى الحادث الذاتي أن يكون الشيء مخلوقا ومع ذلك دائما بدوام العلة نظير أن تكون الشمس يفيض منها النور دائما والنور معلول لها ولا تكون فصل زمان بين وجود الشمس والنور إلا ما يتوهم من لزوم السابقية والعلية وصفات الباري جل شأنه عند أصحاب الصفات أمور غير الذات فإما أن تكون متفرعة على الذات بحيث لا يحتمل لها وجود ما لم تكن الذات أولا تكون متفرعة بل كل واحدة موجودة بذاتها وعلى حيالها وعلى الثاني يلزم تعدد الواجب بالذات نعوذ بالله ، وعلى الأول إما أن تكون حادثة زمانا أو قديمة، فإن كانت حادثة لزم خلو ذات الواجب عن الصفات زمانا غير متناه بأن لا يكون عالما ولا قادرا ولا حيا وهكذا هو باطل وإن كانت قديمة زمانا مع كونها متفرعة على الذات ثبت الحدوث الذاتي باعتراف المتكلم الأشعري وعلى ما ذكرنا فلا يناسب كلام الشارح بطوله هنا إذ لا ينكر القائل بالصفات كان الله ولا شيء غيره وليس هذا ردا عليه ويصدق مع كون الصفات حادثة بالحدوث الذاتي كان الله ولا شيء غيره بل الصحيح أنه يريد إثبات العلم والقدرة وأمثالهما لذات الواجب قبل وجود المعلوم والمقدور كما في الحديث السابق وهذا هو المستفاد من كلام الشارحين الصدر والمجلسي رحمهما الله. (ش)

ذكره في هذا الباب لإفادة أن صفاته الذاتية عين ذاته إذ لو كانت زايدة لكان معه غيره وأن جميع ما سواه حادث وقد دلت الأخبار المتواترة عن أهل الذكر (عليهم السلام) على أن من يقول بزيادة الصفات وتكثر المعاني فهو مشرك وأستدل الفخر الرازي على زيادتها بوجوه:

الأول: أن صفاته تعالى معلومة لنا وذاته غير معلومة لنا وغير المعلوم غير المعلوم فصفاته غير ذاته.

الثاني: لو كانت صفاته عين ذاته لكان قولنا الذات عالمة قادرة بمنزلة قولنا: الذات ذات فاستحال أن يكون ذلك محل البحث وأن يقام البرهان على نفيه وإثباته فإن من قال الذات ذات علم بالضرورة صدقه ومن قال: الذات ليست بذات علم بالضرورة كذبه، ولما كان قولنا الذات عالمة أو ليس بعالمة ليس بمثابة قولنا الذات ذات أو الذات ليس بذات علمنا أن هذه الصفات أمور زائدة على الذات.

الثالث: لو كان الصفات عين الذات والذات شيء واحد كان الاستدلال على كونه قادرا يغني عن الاستدلال على كونه عالما وعلى كونه حيا، فلما لم يكن كذلك بل افتقرنا في كل صفة إلى دليل خاص علمنا أن الصفات امور زائدة على الذات.

الرابع: أن هذه الصفات ليس أمورا سلبية بل ثبوتية فهي امور حقيقية زايدة على ذاته قائمة بها.

ثم أورد على نفسه إشكالات، أحدها: أن اللازم من هذه الأدلة أن حقيقة الإله مركبة من أمور كثيرة فكيف القول فيه، وثانيها: أن الوحدة صفة زائدة على الذات قائمة بها وإذا كانت حقيقة الحق واحدة فهناك ثلاثة امور تلك الحقيقة والوحدة واتصاف الحقيقة بها، وكذا في الوجود والوجوب كثرة حاصلة بسبب الوجود والوجوب والمهية واتصاف المهية بهما، وثالثها: أن هذه الحقيقة هل يمكن الإخبار عنها أم لا والثاني محال لأن كل شيء يمكن الإخبار عنه ولو بالشيئية ونحوها فتعين الأول فهناك مخبر به ومخبر عنه لا أمر واحد، ثم أراد التفصي عنها بما أوحي الخبيث إلى نفسه فقال: والواجب عن الأول أنه تعالى ذاته موصوفة بهذه الصفات ولا شك أن المجموع مفتقر في تحققه إلى أجزائه إلا أن الذات قائمة بنفسها وواجبة بنفسها ثم إنها بعد وجوبها بعدية بالرتبة مستلزمة لتلك النعوت والصفات، وهذا مما لا امتناع للعقل فيه.

وعن الثاني أن لزوم التثبيت حق لكن فرق بين النظر إليه من حيث هو وبين النظر إليه من حيث

ص:248

أنه محكوم عليه بأنه واحد، فإذا نظرت إليه من حيث هو مع ترك الالتفات إلى أنه واحد، فهناك يتحقق الوحدة، وهنالك حالة عجيبة، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة وهذا هو الجواب أيضا عن إشكال الوجود والوجوب.

وعن الأخير أنك إذا نظرت إليه من حيث هو من غير أن تخبر عنه بنفي أو إثبات فهناك حق الوصول إلى مبادئ عالم التوحيد. انتهى كلام ذلك الفاضل الذي فضله الشيطان أفضل من فضلة فيه.

والجواب عن الأجوبة المذكورة أنها مشتملة على التناقض حيث جعل الذات الخالية عن الوحدة واحدة والذات المعراة عن الوجود والوجوب موجودة واجبة، وهكذا في سائر الصفات.

وعن الأدلة المذكورة أنه إما لم يفهم معنى عينية الصفات أو لم يفرق بين المفهومات الكلية وأفرادها أما الأول فلأن معنى كون صفات الواجب عين ذاته عند المحققين أن ذاته تنوب مناب تلك الصفات (1) ويرجع ذلك عند التحقيق إلى نفي الصفات وإثبات ثمراتها ونتايجها للذات وحدها بمعنى أن ما يترتب في الممكنات على الذات مع الصفات يترتب في الواجب على الذات وحدها على الوجه الأتم والأكمل وليس معناه أن تلك الصفات عين الذات حقيقة وحينئذ لا يدل شيء مما ذكر على نفي العينية بهذا المعنى وأما الثاني فلأن من قال أن تلك الصفات عين الذات حقيقة لم يرد أن المفهومات الكلية التي لهذه الصفات عين الذات حقيقة، مثلا لم يرد أن الوجود الذي يعبر عنه ببودن، والعلم بالمعنى الذي يعبر عنه بدانستن، وهكذا البواقي عين الذات بل أراد بالوجود مبدء الآثار وبالعلم مبدء الانكشاف، وقال: إن أفرادها في الممكنات زائدة على ذواتها بأن الوجود الخاص أعني مبدء الآثار في زيد زائد على ذاته والعلم الخاص أعني مبدء الانكشاف فيه

ص:249


1- 1 - قوله «ذاته تنوب مناب تلك الصفات» ليس هذا قول المحققين بل قولهم ما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى قال صدر المتألهين (قدس سره): ليس معنى عينيتها وعدم زيادتها مجرد نفي أضدادها عنه تعالى حتى يكون علمه تعالى عبارة عن نفي الجهل وقدرته عبارة عن نفي العجز، وعلى هذا القياس في السمع والبصر وغيرهما ليلزم التعطيل ولا أيضا معنى كون عالما وقادرا أن يترتب على مجرد ذاته ما يترتب على الذات والصفة بأن ينوب ذاته مناب تلك الصفات ليلزم أن يكون اطلاق العلم والقدرة وغيرهما عليه تعالى على سبيل الحقيقة فيكون عالما قادرا سميعا بصيرا بالمجاز فيصح سلبها عنه لأنه علامة المجاز ولازمه. انتهى. وقال المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول: وليس عينيتها وعدم زيادتها بمعنى نفي أضدادها عنه تعالى حتى يكون علمه سبحانه عبارة عن نفي الجهل ليلزم التعطيل فقيل معنى كونه عالما قادرا أنه يترتب على مجرد ذاته ما يترتب على الذات والصفة بأن ينوب ذاته مناب تلك الصفات والأكثر على أنه تصدق آه. انتهى، وهو مأخوذ من الصدر (قدس سره). (ش)

زايد على ذاته فزيد ليس بوجود وعلم بل هو موجود وعالم بوجود وعلم زائدين على ذاته، وأما أفرادها في الواجب فهي عين ذاته، يعني أن ذاته بذاته مبدء الآثار ومبدء الانكشاف لا بصفة زائدة عليه فذاته بذاته وجود ووجوب (1) ووحدة وعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر إلى غير ذلك وكذا موجود وواجب وواحد وعالم وقادر حي وسميع بصير، لا يقال المشتق إنما يصدق على شيء باعتبار اتصافه بالمشتق منه لا على نفسه المشتق منه لأنا نقول: الحصر ممنوع إذ ليس من شرط صدق المشتق على شيء كالموجود والعالم أن يكون بإزائه في الخارج أمور ثلاثة موصوف وصفة واتصاف فلو فرض بياض مجرد قائم بذاته كان أبيض كما كان بياضا وكذا لو فرض ضوء كذلك كان مضيئا كما كان ضوء وكذا الحال في الوجود والعلم ونحوه خصوصا إذا أريد بهما معنى يعم العرض وغيره فإذا ثبت عقلا ونقلا وجود فرد منهما قائم بذاته وجب اتباعه وحينئذ لا دلالة فيما ذكره أولا على نفي العينية بهذا المعنى أيضا فإن ما نعلمه من كل صفة هو المفهوم الكلي دون كل فرد منه فلا يبعد أن يكون لهذا المفهوم فرد لا يكون معلوما لنا لغاية جلالته وعظمته فالدليل دل على أن تلك المفهومات الكلية ليست عين ذاته الواجب ولا نزاع فيه والنزاع إنما هو في عينية أفرادها مع الذات والدليل يدل على نفيها.

وكذا لا دلالة فيما ذكره ثانيا وثالثا على نفيها لأن ذلك مبني على الخلط بين المفهوم الكلي والفرد إذ لو كان المراد أن الذات بذاتها عين المفهومات الكلية كان لما ذكره وجه في الجملة، وأما إذا كان المراد أن الذات بذاتها عين أفراد تلك المفهومات فهو في غاية السقوط لأن قولنا الذات عالمة حينئذ بمنزلة قولنا الذات عين فرد لهذا المفهوم لا أن الذات ذات والاستدلال عليه لا يغني عن الاستدال على أنها عين فرد لمفهوم آخر كما لا يخفي والعينية بين الأفراد لا ينافي التغاير بين المفهومات والشبهة نشأت من سوء اعتبار الحمل أيضا فإن المفهومات المتغايرة لا يحمل بعضها على بعض وقد يحمل كل واحد منها على أفراد الباقي بالحمل المتعارف.

ص:250


1- 1 - قوله «فذاته بذاته وجود آه» قال صدر المتألهين هذه المفهومات ليست صفات له تعالى بل صفاته ذاته وذاته صفاته.... فذاته وجود وعلم قدرة وحياة وإرادة وسمع وبصر وهو أيضا موجود عالم قادر حي مريد سميع بصير. فإن قلت الموجود ما قام به الوجود والعالم ما قام به العلم وكذا في سائر المشتقات قلنا ليس كذلك... فإنا لو فرضنا بياضا قائما بنفسه لقلنا إنه مفرق لنور البصر وإنه أبيض وكذا الحال فيما سواه من العالم والقادر فالعالم ما ثبت له العلم سواء كان بثبوت عينه أو بثبوت غيره انتهى. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله): فذاته وجود وعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر وهو أيضا موجود عالم قادر حي سميع بصير ولا يلزم في صدق المشتق قيام المبدء به فلو فرضنا بياضا قائما بنفسه لصدق عليه أنه أبيض. انتهى، وهذا الكلام مأخوذ من الصدر أيضا والغرض من نقل كلامهم تسهيل تصور كون الصفات عين الذات. (ش)

فنفس مفهوم الموجود لا يحمل عليها مفهوم الواحد ولا بالعكس بأن يقال مفهوم الموجود مفهوم الواحد، ولكن يقال: كل موجود واحد وكذا العكس، فهكذا قياس صفاته الكمالية.

وأما ما ذكره أخيرا من أن تلك الصفات أمور حقيقية زايدة على ذاته قائمة بها فهو أول البحث لأن القائل بالعينية يمنع ذلك ويقول: يجوز أن يكون لتلك الصفات فرد قائم بذاته من غير قيام بشيء به (ولم يزل عالما بما يكون) من الكليات والجزئيات وقد أنكر بعض المبتدعة علمه بالجزئيات وقال: لو علم أن زيدا في الدار فإن بقي هذا العلم بعد خروجه عنها كان ذلك العلم نفس الجهل لزوال المعلوم دون العلم وإن لم يبق بل زال وحدث علم آخر بخروجه لزم مع حدوث التغير في علمه كونه محلا للحوادث.

أقول: ولقد كان احتباس نفسه عند التكلم بهذا الكلام بالموت ونحوه خيرا له من الدنيا وما فيها أما علم أن الله تعالى لما كان عالما بكل شيء كما هو كان عالما بكون زيد في الدار في وقت معين وبخروجه عنها بعد ذلك الوقت، وكان هذا العلم ثابتا لم يزل وباقيا لا يزال.

وقال قطب المحققين في درة التاج: زعم هشام بن الحكم أنه تعالى يعلم المهيات في الأزل ويعلم أفرادها عند وجودها (1) واستدل عليه بأنه لو علم الجزئيات قبل وجودها لزم سلب القدرة عنه تعالى وعن العبد لأن ما علم وجوده وجب وجوده وسلب القدرة ينفي الربوبية والعبودية والوعد والوعيد والثواب والعقاب وبعث الرسل وإنزال الكتب وأجاب عنه بأن العلم تابع للمعلوم

ص:251


1- 1 - «ويعلم أفرادها عند وجودها» قال الشهرستاني في الملل والنحل: ومن مذهب هشام أنه تعالى لم يزل عالما بنفسه ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا يقال فيه محدث أو قديم. وهذا يخالف ما نقل عنه القطب بعض المخالفة لأنه تعالى على ما حكاه القطب عنده يعلم جميع المهيات بوجه كلي وعلى حكاية الشهرستاني لا يعلم شيئا إلا نفسه ولعل هشام بن الحكم قال شيئا لم ينل السامعون والحاكون حقيقة مراده لأن المؤسسين من أولي الفكر يختلج في ذهنهم أمور لم يسبق إليه غيرهم فيخترعون لما يرد في أذهانهم ألفاظا غير معهودة الاستعمال قبلهم فيتبادر ذهن السامعين إلى معنى ليس مطابقا لمقصود القائل. ألا ترى إلى قوله في العلم لا محدث ولا قديم فإنه لا يفهم منه العامة شيئا أصلا فإن الشيء أما محدث أو قديم ولا واسطة بينهما لكن هشاما اختلج بباله معنى متوسط بين المحدث المتبادر منه الحادث الزماني وبين القديم الذاتي والمتوسط الحادث الذاتي فعبر عنه بما عبر، وكذلك كثير من أساطين الحكمة والشرع لهم اصطلاحات خاصة في معان اختصوا بتعقلها وربما يذهب ذهن السامع إلى شيء بحسب الاصطلاح العام فيورث سوء الظن بهم حاشاهم عن ذلك ثم أن ما حكي عن هشام ربما يشبه في ذهن السذج بما ينسبه غير المتدبر إلى بعض الفلاسفة من أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي وليس به. وبالجملة فلا يترك المعلوم وهو جلاله قدر هشام بن الحكم بما لا يعلم صحته ويظن عدم فهم الناقلين لمراده ونقل مقصوده محرفا كما نرى في الأزمنة المتأخرة من نقل الأباطيل من أساطين العلم لسوء فهم الناقل حتى أني رأيت من يقدح في الفيض (قدس سره) بأنه مروج طريق الصوفية أو معتقد لمقالاتهم وهو عجيب. (ش)

لا علة له، فإن قلت: علمه بالأشياء في الأزل عبارة عن حضورها بعينها عنده وعدم غيبتها عنه وكيف يصح ذلك مع القول بحدوثها قلت: قد عرفت وجه ذلك فيما ذكرناه آنفا ونحن نقتصر هنا على كلمة إذا تأملت فيها حق التأمل وجردت ذهنك اللطيف عن الأحكام الوهمية علمت أن علمه الأزلي بالحوادث لا ينافي حدوثها ولا يقتضي قدمها وتلك الكلمة هي أنه تعالى شأنه عالم اليوم بالشيء الذي يوجد غدا وذلك الشيء حاضر عنده اليوم (1) كما أنه حاضر عنده غدا لا لأنه موجود اليوم بل لأنه تعالى لما لم يكن زمانيا (2) كان نسبته إلى اليوم والغد على السواء تأمل تعرف.

(فعله به) أي بما يكون (قبل كونه كعلمه به بعد كونه) لأن علمه عين ذاته تعالى فكما أن ذاته لا تتغير ولا تتبدل ولا تزيد ولا تنقص ولا تشد ولا تضعف أزلا وأبدا بوجود الكائنات وعدمها كذلك علمه بالكائنات قبل وجودها وبعد وجودها على نحو واحد وانكشاف تام لا يعزب عنه مثال ذرة، والتغير إنما هو في المعلومات لاتصافها بالعدم تارة وبالوجود اخرى، واما ما كان علمه بها بنفس ذاته المقدسة التي هي العلم بجميعها فلا يزداد بوجودها بعد عدمها ولا يختلف بوجه من الوجوه ولا يتجدد ولا يتحقق التفاوت فيه بين الحالين بالإجمال والتفصيل.

ص:252


1- 2 - قوله «وذلك الشيء حاضر عنده» الشيء الموجود في الزمان المستقبل لا يمكن أن يكون حاضرا مشاهدا لنا الآن لأن مشاهدتنا عبارة عن تأثير ذلك الشيء في حاستنا وهو غير موجود الآن حتى يؤثر ولا يجوز قياس علم الله تعالى وإدراكه على مشاهدتنا لأن علمه تعالى ليس بتأثر حاسة بل برابطة العلية فجاز أن يكون الحاضر والمستقبل والماضي سواء عنده في الحضور فإنه علة للجميع. (ش)
2- 3 - قوله «لأنه لما لم يكن زمانيا» قد تواتر هذا المعنى عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) خصوصا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فنفوا عنه الزمان كما نفوا عنه المكان وكان أن الأوهام العامية لا تتصور وجود موجود لا في مكان كذلك لا تتصور وجود موجود لا في زمان والواجب في ذلك متابعة الدليل العقلي وأقوال الأئمة (عليهم السلام) وإن لم تخضع الواهمة لها، نظير أن الميت جماد، والجماد لا يخاف عنه فإنه ثابت بالعقل وإن لم يعترف به الواهمة وفي كتاب أثولوجيا لبعض اليونانيين الشيء الزماني لا يكون إلا في الزمان الذي وافق أن يكون فيه فأما الفاعل الأول فقد كان لأنه ليس هناك زمان فإن الشيء الملاقى في الزمان المستقبل قائم هناك فلا محالة أنه هناك إنما يكون موجودا قائما كما سيكون في المستقبل، فالأشياء إذن عند الباري جل ذكره كاملة تامة زمانية كانت أو غير زمانية وهي عنده دائما وكذلك كانت عنده أولا كما تكون عنده أخيرا انتهى. وما أشبه هذا الكلام بقوله (عليه السلام) في هذا الحديث فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه ولا يمكن أن يكون أحد الكلامين مأخوذا من الآخر بسهو الراوي وبأن ينسب ما رآه في أثولوجيا عن الباقر (عليه السلام) أو يثبت ما سمعه من الإمام في كتاب أثولوجيا فإن الإمام (عليه السلام) مقدم على ترجمة هذا الكتاب أكثر من مائة سنة وكتاب أثولوجيا باللسان اليوناني قديم كان قبل الإسلام متواترا وليس هذا إلا لتطابق الوحي والعقل وكلام الحكماء والمتكلمين وعلماء الشريعة وأصحاب الحديث من الإمامية في نفي الزمان عنه تعالى كثير لا حاجة إلى نقلها. (ش)
* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن الكاهلي قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: الحمد لله منتهى علمه، فكتب إلي: لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى ولكن قل: منتهى رضاه.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن الكاهلي) عبد الله بن يحيى الكاهلي وكاهل أبو قبيلة من أسد وهو كاهل بن أسد بن خزيمة (قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام)) يعني الأول (في دعاء: الحمد لله منتهى علمه فكتب إلي لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى) ينتهي إليه لأن علمه من الصفات الذاتية التي ليس لها حد ونهاية ولدلالة هذا الحديث على أن العلم من الصفات الذاتية دون الفعلية التي لها نهاية ذكره في هذا الباب.

(ولكن قل: منتهى رضاه) من الصفات الفعلية التي لها نهاية لكونه متعلقا بأفعال العباد وهي متناهية ومن ثم قيل: إن تمام الكمالات الإنسانية هو منتهى رضاه من عباده، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأوصاكم - يعني الله سبحانه - بالتقوى وجعلها منتهى رضاه (1)» وقال أيضا «جعل الله فيه - يعني في الإسلام - منتهى رضوانه (2)» وذلك لأن فيه أتم وسيلة للوصول إليه جل شأنه وهو منتهى رضاه من خلقه، وبالجملة منتهى رضاه من عباده هو إتيانهم بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات وذلك أمر له نهاية.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله; عن محمد بن عيسى، عن أيوب بن نوح

ص:253


1- 1 - النهج قسم الخطب تحت رقم 181.
2- 2 - المصدر تحت رقم 196.

أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عز وجل أكان يعلم الأشياء قبل أن يخلق الأشياء وكونها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كون عندما كون؟ فوقع بخطه: لم يزل الله عالما بالأشياء، قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله (1)، عن محمد بن عيسى، عن أيوب بن نوح أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله تعالى أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كون عندما كون؟) إنما سأل عن ذلك لوقوع الخلاف فيه ممن لا يعتد به كما ستعرفه.

(فوقع (عليه السلام) بخطة: لم يزل الله تعالى عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء) أزلية علمه تعالى بالأشياء عقيدة أهل الإسلام (2) والدليل عليه وراء الأحاديث الإجماع والأدلة العقلية المذكورة في كتب الكلام قال أبو عبد الله الآبي في كتاب إكمال الإكمال:

ولم يخالفهم في ذلك إلا شرذمة قليلون نشأوا في آخر زمن الصحابة وقالوا الأمر انف أي مستأنف مبتدأ، يعني أن الله تعالى يعلم الأشياء أزلا وهم قد اختلفوا فقال بعضهم أنه يعلمها قبل أن يخلقها بمعنى أنه إذا أراد إيجاد شيء أحدث لنفسه علما خارجا عن ذاته قبل إيجاده ذلك الشيء بزمن ثم يوجده إذ لا يتأتى الإيجاد بدون العلم، فالعلم عنده متقدم على الوقوع، وقال بعضهم: إنه يعلمها بعد وقوعها وهما اتفقا في حدوث العلم واختلفا في التقدم والتأخر، وقيل: إنهم لقبح مذهبهم رجعوا عنه، وقال البلخي: إن القائلين بهذا المذهب انقرضوا جميعهم ولم يبق منهم أحد وكانوا

ص:254


1- 3 - قوله «سعد بن عبد الله» قال صدر المتألهين ابن أبي خلف الأشعري القمي يكنى أبا القاسم جليل القدر واسع الأخبار كثير التصانيف ثقة شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ولقى أبا محمد العسكري، قال النجاشي ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقائه لأبي محمد (عليه السلام) ويقولون: هذه حكاية موضوعة عليه والله أعلم، ثم ذكر وفاته في سنة 299 أو 301 أو 300 انتهى. أقول وأما حديث ملاقاته للعسكري فرواه الصدوق في الإكمال ويتضمن رؤيته الحجة (عليه السلام) وسؤاله عن مسائل منها علة إيمان الشيخين قبل ظهور الإسلام وقبل غلبة المؤمنين، ومنها تفسير كهيعص وأنه منزل على شهادة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وقال الشهيد الثاني (قدس سره) في حاشية الخلاصة الحكاية ذكرها الصدوق في كمال الدين وأمارات الوضع عليها لائحة. وأقول مع ذلك راويها جماعة من المجاهيل أو الغلاة، وقال بعض أهل الحديث إن هذا الخبر يشهد متنه بصحته وقال معترضا على الشهيد رد هذه الأخبار للتقصير في معرفة شأن الأئمة الأطهار إذ وجدنا أن الأخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصل إليهم فهم إما يقدحون فيها أو في راويها بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلا نقل مثل تلك الأخبار انتهى. وهذه جرأة عظيمة وطعن في علمائنا بعدم المعرفة وضعف الإيمان وأصحاب الرجال الذين حكم هذا الرجل بعضهم في الإيمان هم الشيخ والنجاشي وابن الغضائري والعلامة الحلي وابن داود والشهيد الثاني الذين لم نعرف الدين وأولياءه إلا ببركتهم وبركة تصانيفهم. (ش)
2- 1 - قوله «أزلية علمه تعالى بالأشياء، فإن قيل العلم إضافة لا بد له من منتسبين العالم والمعلوم وما لم يكن كلاهما موجودين لم يعقل حصول العلم. قلنا لئن سلمنا كونه إضافة لا نسلم افتقار الإضافة إلى وجود طرفيها في زمان واحد كالمتقدم والمتأخر فإن بينهما إضافة وقلنا سابقا إن الإنسان يسمع الرعد بعد أن وجد وعدم ويتأخر السماع عن المسموع بل قد يتأخر الإبصار عن المبصر، وإذا لم يمتنع أن يتقدم المعلوم على العلم عند كون المعلوم علة للعلم لم يمتنع أن يتأخر المعلوم إذا كان العالم علة للعلم فيعلم الله تعالى كل شيء في الزمان المستقبل ويكون علمه حاليا كأنه حاضر عنده كما أن صوت الرعد الماضي حاضر عندنا بعد مضيه وانعدامه وبالجملة فنسبة ذات واجب الوجود إلى الماضي والحال والاستقبال سواء وإنما التغير والمضي في الممكنات والله من ورائهم محيط والحق أن العلم فيه تعالى لا يقتضي تغاير المنتسبين بل علمه بذاته عين ذاته وعلمه بساير الأشياء علم تفصيلي في عين الكشف الإجمالي وبيانه موكول إلى محله. (ش)

احتجوا عليه بأنه تعالى لو كان عالما بالتكذيب لكان في الإرسال عابثا واحتج عليهم البخاري بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سئل عن أولاد الكفار الله أعلم بما كانوا عاملين يعني لو بلغوا سن التكليف والجواب عن استدلالهم العبث ممنوع لأن في الإرسال قطعا لعذرهم وإكمالا للحجة عليهم ولأن تعذيبهم منوط بالإرسال لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله: أن مواليك اختلفوا في العلم فقال بعضهم: لم يزل الله عالما قبل فعل الأشياء، وقال بعضهم:

لا نقول: لم يزل الله عالما، لأن معنى يعلم يفعل فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا. فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟ فكتب (عليه السلام) بخطه: لم يزل الله عالما تبارك وتعالى ذكره.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله: أن مواليك) أي شيعتك وأنصارك (اختلفوا في العلم فقال بهم: لم يزل الله عالما (1) قبل فعل الأشياء وقال بعضهم لا نقول لم يزل الله عالما لأن معنى يعلم يفعل) أي يفعل العلم ويوجده بناء على أن العلم إدراك والإدراك فعل وكان هذا القائل توهم أن العالم من الصفات الفعلية مثل الخالق ونحوه وتحقق الصفات الفعلية يقتضي أن يكون معه غير فلذلك قال (فإن أثبتنا العلم) وقلنا إنه كان لم يزل عالما (فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا) وهو العلم الذي مصنوع له وزايد عليه وهذا باطل لأنه متفرد بالوجود في الأزل حيث كان ولم يكن معه شيء وأنت تعلم أن هذه الشبهة نشأت من مزج الحق بالباطل كما هو حال جميع الشبهات، أما الحق فهو الاعتقاد بأن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، وأما الباطل فهو الاعتقاد بأن العالم صفة فعل يطلق على من يوجد العلم، كما أن الخالق يطلق على من يوجد الخلق ووجه بطلان أن العالم إذا أطلق عليه سبحانه كان من صفاته الذاتية التي يراد بها نفس الذات دون الذات مع صفات موجود قائمة بها

ص:255


1- 1 - قوله «لم يزل الله عالما» إن قلت كيف يصير كلام الإمام (عليه السلام) جوابا لشبهة الخصم لأن مبنى شبهته على أن علمه تعالى في الأزل يستلزم ثبوت المعلوم في الأزل وهذا إثبات الشريك له تعالى في الأزلية وجواب الإمام (عليه السلام) أنه تعالى كان عالما في الأزل ولا يدفع بذلك شبهته إلا أن يضاف إليه أن علمه في الأزل لا يستلزم ثبوت المعلوم في الأزل ولم يشر إليه الإمام (عليه السلام) قلت: عن ذلك جوابان، الأول: أنه (عليه السلام) لم يكن بصدد دفع الشبهة بل في مقام تعيين الحق من القولين وكان هذا مراد السائل منه. والثاني: أن مفاد قولنا لم يزل الله عالما غير المفاد من قولنا أنه يفعل العلم في الأزل ومقصوده (عليه السلام) الاكتفاء بالعبارة الأولى وترك الثانية ولا ريب أن قولنا لم يزل الله عالما لا يوجب إثبات شيء معه تعالى إلا أن ذاته بهذه الصفة. (ش)

نعم ما ذكره له معنى إذا أطلق العالم على الإنسان فقد اشتبه عليه حال الواجب بحال الممكن وقد يوجه قوله «معنى يعلم يفعل» بوجه آخر وهو أن معنى يعلم بحسب اللزوم يفعل يعني يعلم يستلزم يفعل بناء على أن العلم بالمعدوم ممتنع، فإذا قلنا بتحقق العلم في الأزل وجب أن يتحقق المفعول المعلوم فيه أيضا بعينه ووجوده فقد أثبتنا مع الله غيره وهو المعلومات.

(فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه) جواب الشرط محذوف أي فعلت أو تطولت أو نحو ذلك (فكتب (عليه السلام) بخطه لم يزل الله عالما تبارك) أي تطهر عن عيب الجهل وغيره (وتعالى ذكره) عما ينسبه إليه ألسنة الجاهلين ومنهم أبو الحسين البصري.

قال القطب في كتاب درة التاج: ذهب أبو الحسين البصري إلى أن ذاته تعالى تقتضي العلم بالأشياء بشرط وجودها فيحدث له العلم بها عند وجودها لتحقق الشرط ويزول العلم عنه عند زوالها ويحدث علم آخر لزوال الشرط، وما أفاد (عليه السلام) من أن ذاته تعالى في الأزل علم بذاته وبجميع الأشياء يبطل أمثال هذه الأقاويل المزخرفة.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عبد الصمد بن بشير، عن فضيل بن سكرة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) جعلت فداك إن رأيت أن تعلمني هل كان الله جل وجهه يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده؟ فقد اختلف مواليك فقال بعضهم: قد كان يعلم قبل أن يخلق شيئا من خلقه وقال بعضهم: إنما معنى يعلم يفعل فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء فقالوا: إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته؟ فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره؟ فكتب: ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عبد الصمد ابن بشير، عن فضيل بن سكرة) بضم السين المهملة وفتح الكاف المشددة.

(قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) الظاهر أن قلت على سبيل المكاتبة كما يشعر به آخر الحديث (جعلت فداك إن رأيت أن تعلمني هل كان الله جل وجهه) أي عظمت ذاته المقدسة وارتفعت عن إدراك العقول والحواس لها (يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده) أي أنه متفرد في الوجود الذاتي لا شريك له، أو أنه موجود حال كونه متفردا في الوجود فوحده على الأول خبر «أن» وعلى الثاني حال والخبر محذوف. (فقد اختلف مواليك فقال بعضهم: قد كان يعلم) نفس ذاته ووحدته لاستحالة الجهل عليه (قبل أن يخلق شيئا من خلقه) وإذا علم ذلك علم جميع الأشياء قبل أن

ص:256

يخلقها لأن ذاته الحقة علم بجميع الأشياء فعلمه بذاته علم بها أيضا (1) كما بين في موضعه.

(وقال بعضهم إنما معنى يعلم يفعل) فلو علم قبل الخلق أنه وحده لزم أن لا يكون وحده لما ستعرفه (فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء) أي فهو اليوم بعد خلق الأشياء يعلم أنه كان واحدا قبل خلق الأشياء، لم يشاركه شيء في الوجود الأزلي لأن علمه بحدوث الأشياء يستلزم علمه بعدم مشاركة شيء معه في الوجود الأزلي وهذا معنى علمه بوحدته (فقالوا) لإثبات ما ادعوه من أنه لا يعلم في الأزل أنه وحده، وهذا القول بناء على ما زعموا من أن العالم من الصفات الفعلية الدالة على ثبوت صفة زائدة على الموصوف كما في الإنسان أو أن علمه بأنه وحده لا غيره يقتضي وجود ذلك الغير لأن تعلق العلم بلا شيء ممتنع. (إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته) وذلك الغير هو العلم الذي هو فعله تعالى أو المعلوم، وهذا باطل لأنه متفرد بأزلية الوجود ولأن علمه بأنه لا غيره يستلزم جهله لثبوت الغير معه.

(فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره؟ فكتب (عليه السلام) ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره) أشار (عليه السلام) إلى المذهب الصحيح الذي لا يجوز لأحد التجاوز عنه وهو أنه تعالى كان

ص:257


1- 1 - قوله «فعلمه بذاته علم بها أيضا» إشارة إلى القاعدة المعروفة بينهم وهي أن بسيط الحقيقة كل الأشياء والأنسب لأذهان الأكثرين أن يقال العلم بالعلة التامة مستلزم للعلم بالمعلول فإذا علم أحد بوجود النار في مخزن القطن من غير مانع علم بوجود الإحراق والله تعالى علة كل شيء ويعلم ذاته فيعلم كل شيء ضمن علمه بذاته وعلمه التفصيلي بكل واحد واحد ليس بوجود كل واحد واحد متعينا بشرط لا عن الغير في ذاته حتى يستلزم التركيب والتجزئة في ذاته بل علمه التفصيلي في عين الكشف الإجمالي لذاته على ما بين في محله فانقطع مادة الشبهة بحذافيرها. فإن قيل هؤلاء الموالي أي التابعون للأئمة (عليهم السلام) كيف خفى عليهم مذهب أئمتهم وذهبوا هذا المذهب الباطل وإنا إذا سمعنا قول بعض مقلدة الفلاسفة أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بوجه كلي نستوحش ونستغرب ونتبرأ منهم وقولهم أقل فحشا وبشاعة من قول أولئك الموالي لأن مقلدة الفلاسفة أثبتوا علمه تعالى بذاته وبكل شيء بوجه وأولئك أنكروا علمه تعالى بكل شيء غير ذاته في الأزل قلنا أولئك لما لم يكونوا معصومين جاز عليهم الخطأ وكان ردعهم واجبا على الأئمة (عليهم السلام) وليس الخطأ والتنبيه من الأئمة قادحا فيهم إلا إذا أصروا ولم يقبلوا بعد العلم ثم أن بعضهم مثل هشام بن الحكم على فرض صحة نسبة القول إليهم لم يكن تخطئتهم إلا في التعبير وسوء اختيار الاصطلاح وقد يتفق للعلماء استعمال اصطلاحات لا يستحسنه الناس من غير قصد مثل قول المجتهدين هذا رأيي وهذا مذهبي واجتهادي مع قول الإخباريين ليس لنا رأي واجتهاد بل لا نقول إلا بما قاله الأئمة (عليهم السلام) ولا ريب في رجحان الثاني عند العوام، وقول بعضهم إعادة المعدوم ممتنعة، والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وأن الله تعالى لا يدرك الجزئيات أي لا يحس بها بالجوارح وأمثال ذلك اصطلاحات يذهب ذهن السامع الجاهل إلى أمور غير مرادة مستبشعة وعلى ذلك ينبغي حمل كلام أمثال هشام بن الحكم في العلم والتجسيم وما ينقل من سائر العلماء ويزعم به الطعن عليهم فإنها جميعا يحمل على كونها اصطلاحات خاصة بهم. (ش)

في الأزل عالما بذاته وبأنه وحده لا غيره (1)، ولا بالأشياء قبل وجودها كليها وجزئيها، وحقايقها المتميزة بعضها عن بعض، وخواصها وآثارها، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ص:258


1- 1 - قوله «كان في الأزل عالما بذاته وبأنه وحده» قد مر سابقا أن الله تعالى منزه عن الزمان وأن أوهام الناس لا تقدر على تصور ذلك، وقد تكرر في أحاديث هذا الباب عدم جواز التغير في ذاته وعدم جواز الحدوث في علمه وقد ناسب هنا الإشارة إلى بعض أوهام الناس في الزمان لتوضيح المقام فنقول إن الأوهام العامية تزعم المكان والزمان شيئين ثابتين لا يتطرق احتمال العدم فيهما أي لا يمكن فرض عدم الفضاء وعدم الوقت حتى يكونا محتاجين إلى الإيجاد ولولا أن الموجود عندهم منحصر في الجسم لحكموا بأن المكان والزمان واجبا الوجود لكنهم يتلزمون بأمرين متناقضين فيقولون إن الزمان أمر موهوم يعنون ليس موجودا ثم يقولون لا يمكن فرض عدمه والتحقيق أن الزمان الموهوم متصور على وجهين: الأول: أن لا يكون له منشأ انتزاع مثل وجود ألف سنة في أن الزوال بين ما قبل الظهر وما بعده نظير تصور ألف فرسخ في نقطة في منتصف خط. الثاني: أن يكون له منشأ انتزاع بأن يترتب حوادث متلاحقة سابقة ولاحقة فيتصور الذهن من ترتبها شيئا متصلا غير قار الذات فإن فرضنا ذات واجب الوجود المنزه عن التغيرات وحده قبل أن يخلق شيئا لم يمكن توهم زمان منتزع من التغير إذ لا تغير في ذاته تعالى ولا شيء آخر متغير حتى ينتزع الزمان منه وينطبق على استمرار ذات الواجب تعالى ولا يمكن حينئذ إلا توهم زمان لا يكون له منشأ انتزاع مثل توهم ألف سنة في آن واحد، فما يقال إنه مضى على ذات واجب الوجود أزمنة غير متناهية من غير أن يكون خلق شيئا وهم في وهم فيقال لهم هل هذه الأزمنة الغير المتناهية أمر محقق أو أمر موهوم فإن قالوا أمر محقق ناقضوا أنفسهم وأثبتوا قديما مع الله تعالى وإن قالوا أمر موهوم قلنا هو من الأمور الموهومة التي ليس لها منشأ انتزاع فإن قالوا نعم سلمنا لهم ذلك وقلنا إنه نظير تصور ألف سنة في آن الزوال ولا فائدة في البحث عنه، وإن قالوا لا بل هو أمر موهوم من منشأ انتزاع متغير قلنا ما هذا المتغير الذي ينتزع منه الزمان قبل خلقه الخلائق؟ إن كان هو الله تعالى الله عن التغير وإن كان غيره لم يكن غيره بحسب الفرض موجودا بعد فليس بين الله تعالى وأول المخلوقات الصادر عنه زمان البتة إلا ما هو موهوم بغير منشأ الانتزاع كما يمكن توهم زمان غير متناه بغير منشأ الانتزاع بين حركة اليد وحركة المفتاح وبالجملة فالزمان مخلوق ولم يكن قبل أن يخلق الله الأشياء زمان أصلا وربما التزم بعضهم بامكان انتزاع الزمان من الشيء الثابت المستمر كوجود الله تعالى وهذا يرجع إلى إنكار ما تواتر من الأحاديث في نفي الزمان عنه تعالى وما هو مرتكز في الأذهان من أن الزمان متغير ولا ينتزع إلا من متغير. وقد أصر القاضي سعيد القمي (رحمه الله) في شرح التوحيد على دفع هذا الوهم بل حكم بكفر من يقول بانتزاع الزمان من ذاته تعالى فقط، وقد قلنا سابقا إنا لا نحكم بكفر من يعتقد شيئا يستلزم الكفر لزوما غير بين وهذه المسائل الدقيقة ليست مما يوجب إثباتها أو نفيها كفرا وتكليف الناس جميعا بإدراك الحق في هذه المسائل تكليف بما لا يطاق ولا ينافي ذلك إثبات تناهي الحوادث ببرهان التطبيق على ما ثبت في محله. (ش)

باب آخر وهو من الباب الأول

اشاره

ذكر فيه ما في الباب الأول من الصفات الذاتية وعينيتها مع زيادة، وهي أنه لا تشبيه ولا تركيب ولا تجزئة ولا تبعيض ولا صفة فيه جل شأنه وأنه مرجع جميع ما سواه.

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن حماد، عن حريز عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال في صفة القديم: إنه واحد صمد أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة، قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر ويبصر بغير الذي يسمع قال: فقال: كذبوا وألحدوا وشبهوا تعالى الله عن ذلك، إنه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه، قال فقال: تعالى الله إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال في صفة القديم أنه واحد) متنزه عن التركيب الخارجي والذهني والتعدد وما يتبعها من الجسمية والتحيز وغيرهما (صمد) مرجع لجميع الكائنات لكون وجوده وكماله نفس ذاته ووجوداتها وكمالاتها مستندة إليه.

(أحدي المعنى) قد يراد به أنه لا يشاركه شيء في وجوده ووجوبه وربوبيته وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية وقد يراد به أنه ليس له صفات زايدة على ذاته فعلى الأول قوله (ليس بمعاني كثيرة مختلفة) تأسيس، وعلى الثاني تفسير وتأكيد يعني ليس هو موصوفا بصفات متعددة مختلفة زايدة عليه لتنزهه عن الاتصاف بالصفات والاحتياج إليها، ولحوق النقص به في مرتبة ذاته، ومشاركة الغير معه في القدم والوجود الأزلي، ولما علم محمد بن مسلم أنه لا يتصف بالمعاني المختلفة استعلم عن قول من أثبتها له فلذلك:

ص:259

(قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع) يعني يزعمون أن له معنيين مختلفين ووصفين متغايرين يسمع بأحدهما ويبصر بالآخر فهو عندهم موصوف بمعاني مختلفة وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أنهم يزعمون أنه يسمع بالأذن ويبصر بالعين كالإنسان، وثانيهما أنهم يزعمون أن سمعه وبصره إدراكان قائمان به من غير آلة (قال: فقال كذبوا) على الله «ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة» (وألحدوا) حيث عدلوا عن منهج الصواب في معرفة الصانع (وشبهوا) حيث أجروا عليه أحكام الخلق، وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «قال الله عز وجل ما آمن بي من شبهني بخلقي» (1).

(تعالى الله عن ذلك، إنه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر يما يسمع) أي يسمع بما به يبصر ويبصر بما به يسمع، يعني يسمع ويبصر بنفس ذاته الحقة المجردة عن شائبة التكثر والتوصيف، وهذا الجواب دافع لكلا الاحتمالين ولكن لما فهم ابن مسلم من قوله (عليه السلام) شبهوا أنه أجاب عن سؤاله على الاحتمال الأول وحكم بأن ذلك يوجب تشبيهه تعالى بخلقه في الجسمية والافتقار إلى الآلة أعاد السؤال لبيان أن المراد هو الاحتمال الثاني فلذلك:

(قال: قلت: يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه) (2) أي يزعمون أنه بصير على الوجه الذي يعقلونه من معنى البصر وهو الذي يعبر عنه بالفارسية ب (ديدن) ويعقلون الواجب بهذا الوجه ويقولون لا معنى للبصر غير هذا المعنى وهذا المعنى أمر متحقق ثابت له قائم به بلا آلة العين ويزعمون أنه سميع على مثل هذا الوجه.

(قال: فقال تعالى الله إنما يعقل) على البناء للمفعول أي إنما يعقل بهذا الوجه (ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك) أي بصفة المخلوق فتعقله بهذا الوجه أيضا تشبيه له بخلقه وفي بعض 260


1- 1 - رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج من حديث الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا «ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي - «الحديث».
2- 1 - قوله «على ما يعقلونه» الظاهر أنه تمام لأول السؤال فإنه سأل أولا عما يوجب اختلاف الصفات وتجزي الذات بتكثرها فأجاب (عليه السلام) بالنفي فأتم السائل سؤاله بأن الناس يرون أنفسهم ويقيسون الواجب تعالى عليهم فإن سمعهم غير بصرهم فأثبتوا لله تعالى ما يعقلونه فأبطل الإمام زعمهم وقال أنه تعالى لا يقاس بالمخلوقين فسمعه وبصره شيء واحد. قال أبو علي بن سينا: الأول تعالى لا يتكثر لأجل تكثر صفاته لأن كل واحد من صفاته إذا حقق يكون الصفة الأخرى بالقياس إليه فيكون قدرته حياته وحياته قدرته ويكونان واحدة فهو حي من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حي وكذلك ساير صفاته. انتهى. (ش)

النسخ على ما يفعلونه وإنما يفعل بالفاء والعين المهملة بعدها يعني يزعمون أنه بصير على ما يفعلونه ويوجدونه من الإدراك البصري الذي يقوم بهم فمعنى أنه تعالى بصير أنه يوجد الإدراك الذي يقوم به فيكون البصير من الصفات الفعلية كما قيل مثل ذلك في العلم وتقرير الجواب واضح.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم قال في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) أنه قال له: أتقول: إنه سميع بصير؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه، ويبصر بنفسه وليس قولي: إنه سميع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول: يسمع بكله لا أن كله له بعض لأن الكل لنا [له] بعض ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك كله إلا أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم، قال: في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) أنه قال له أتقول: إنه سميع بصير) توهم أنه يقول هو سميع بصير بالآلتين المعروفتين وقصده من هذا السؤال هو حمله (عليه السلام) على الإقرار به ليورد عليه أنه حينئذ شبيه بالخلق.

فكما أنه لا يحتاج إلى الموجد كذلك الخلق لا يحتاجون إلى الموجد فلا يثبت وجود الصانع (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) لدفع ذلك التوهم وإرشاده إلى الحق الصريح والقول الصحيح (هو سميع بصير سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة) لتنزهه عن الأحوال البشرية والعوارض البدنية واللواحق الحيوانية (بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه) ولدفع ما عسى أن يتوهم من إضافة النفس إليه أنه شيء والنفس شيء آخر قال: (وليس قولي إنه سميع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر) وهو يسمع بذلك الشيء الآخر كالإنسان.

(ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك) أي أردت إفهاما لك (إذ كنت سائلا) الخبير العارف إذا سئل عن البسيط الصرف لا بد له من الإتيان بعبارات مناسبة لتفهيم السائل جاذبة له إلى الطريق الحق ولكن لما كانت العبارات مغياة بغايات خيالية ومشعرة بتركيب

ص:261

وأجزاء عقلية أو خارجية يتنزه ذات ذلك البسيط عنها وجب عليه جذب السائل عما يفيده ظاهر العبارة وهدايته إلى ما هو المقصود منها فلذلك نبهه (عليه السلام) على براءة الحق عما يفيده ظاهر الكلام المذكور وأرشده إلى ما هو المقصود منه بقوله (فأقول يسمع بكله) لا ببعضه كما يفهم من ظاهر الكلام المذكور ولما كان لفظ الكل أيضا مشعرا بالتركيب دفعه بقوله (لا أن كله له بعض) يسمع هو بجميع أجزائه أو ببعضها.

(لأن الكل لنا بعض) تعليل للنفي يعني أن الكل لنا بعض فإن الإنسان مركب من أجزاء خارجية هي الأعضاء والجوارح والنفس ومن أجزاء ذهنية هي الجنس والفصل فلو كان كله له بعض وقع التشابه بيننا وبينه وليس كمثله شيء، ويحتمل أن يكون تعليلا للمنفي يعني لا يتوهم أن كله له بعض لأجل أن الكل المعروف لنا له بعض لأن الكل فينا عبارة عن مجموع الأجزاء والكل فيه عبارة عن ذاته المقدسة المنزهة عن أنحاء التركيب والتعدد.

(ولكن أردت إفهامك) بما يناسبك (والتعبير عن نفسي) فوقع توهم التركيب في العبارة لا في المقصود منها (وليس مرجعي في ذلك كله) أي في قولي يسمع بنفسه ويسمع بكله (إلا أنه السميع البصير) لانكشاف المسموعات والمبصرات على أكمل وجه عند ذاته المجردة عن شوائب التكثر (العالم الخبير) تفسير للسميع البصير وتوضيح لما هو المقصود منهما (بلا اختلاف الذات) بالتركيب والتجزئة والتبعيض (ولا اختلاف معنى) أي ولا اختلاف الصفات فإن صفاته عين ذاته فإن ذاته علم باعتبار حضور المعلومات وسمع وبصر باعتبار ظهور المسموعات والمبصرات وكذلك البواقي، وهذا هو التوحيد المطلق الذي هو عبارة عن نفي الاختلاف والتعدد والتكثر بحسب الذات والصفات على الإطلاق وقد مر شرح هذا الحديث في باب إطلاق القول بأنه شيء.

ص:262

باب الإرادة أنها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل

اشاره

الظاهر أن «باب الإرادة» مبتدء و «أنها» خبره ويحتمل أن يكون «باب الإرادة» خبر مبتدأ محذوف و «أنها» بدل الإرادة (وساير صفات الفعل) عطف على الإرادة وهو رحمه الله يذكر في هذا الباب ضابطة للفرق بين صفات الفعل وصفات الذات.

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت: لم يزل الله مريدا؟ قال: إن المريد لا يكون إلا لمراد معه، لم يزل [الله] عالما قادرا ثم أراد.

* الشرح:

(محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لم يزل الله تعالى مريدا؟ قال: إن المريد لا يكون إلا لمراد معه) فلو كانت إرادته أزلية كان مراده أيضا أزليا فلزم أن يكون معه غيره في الأزل وهو باطل.

(لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد) فالإرادة من صفات الفعل التي يصح سلبها عنه في الأزل. ولا يلزم منه نقص لا من صفات الذات المعتبرة له في الأزل مثل العلم والقدرة، فان نفيهما عنه يوجب النقص عنه وهو الجهل والعجز، وثبوتهما لا يوجب وجود المعلوم والمقدور معه، لا يقال قوله: ثم أراد دل على اتصافه بإرادة حادثة كما هو مذهب طايفة من المعتزلة وهو باطل لا ستحالة اتصافه بالحوادث لأنا نقول المراد بالإرادة الحادثة نفس الإيجاد والإحداث كما ينطق به الحديث الآتي، لا يقال تخصيص الإيجاد بوقت دون وقت لا بد له من مخصص والمخصص هو الإرادة فلو كانت الإرادة نفس الإيجاد دار لأنا لا نسلم أن المخصص هو الإرادة بل هو الداعي أعني العلم بالنفع والمصلحة والإيجاد في هذا الوقت دون غيره وفي الحديث دلالة واضحة على أن الإرادة غير العلم والقدرة كما هو مذهب الأشاعرة خلافا للمحققين منهم المحقق الطوسي (رحمه الله) فانهم ذهبوا إلى

ص:263

أن الإرادة هي الداعي يعني العلم بالنفع والمصالح، ويمكن أن يقال، الإرادة يطلق على معنيين كم صرح به بعض الحكماء الإلهيين (1) أحدهما الإرادة الحادثة وهي التي فسرت في الحديث بأنها نفس الإيجاد وإحداث الفعل، وثانيهما الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا تتصف الذات بنقيضها أزلا وأبدا وهي التي وقع النزاع فيها فذهب جماعة منهم المحقق إلى أنها نفس علمه الحق بالمصالح والخيرات وعين ذاته الأحدية، وذهب الأشاعرة إلى أنها صفة غير العلم.

* الأصل:

2 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن بكير بن أعين قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): علم الله ومشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال: العلم ليس هو المشيئة ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول: سأفعل كذا إن علم الله فقولك إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء وعلم الله [ال] - سابق المشيئة.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن بكير بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) علم الله ومشيته هما مختلفان أو متفقان فقال: العلم ليس هو المشية) الظاهر بالنظر إلى عنوان الباب وآخر الحديث أن المراد بهذه المشيئة الإرادة الحادثة التي هي نفس الإيجاد لا الإرادة القديمة بكل خير التي هي ذاته وعين علمه بالخيرات عند المحققين والمغايرة بين الإرادة الحادثة والعلم ظاهرة لأن الإرادة الحادثة من الصفات الفعلية والعلم من الصفات الذاتيه، ثم أشار إلى توضيح الفرق بمثال هو بمنزلة التعليل له فقال:

ص:264


1- 1 - «بعض الحكماء الإلهيين» قال صدر المتألهين والتحقيق أن الإرادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين أحدهما ما يفهمه الجمهور وهو الذي ضده الكراهة ولا يجوز على الله تعالى بل إرادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه وكراهته عدم صدور القبيح عنه تعالى، وثانيهما كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته لا كاتباع الضوء للمضيء والسخونة للمسخن انتهى ملخصا. أقول ويستفاد من كلامه (قدس سره) بعد ذلك أن الإرادة بالمعنى الثاني: وهو العلم بالأصلح اصطلاح خاص بالمتكلمين وهي من صفات الذات ولا يجوز حمل ألفاظ الحديث على هذا الاصطلاح الخاص بل الإرادة في الحديث هي ما يفهمه الجمهور وهو المعنى الأول ولا ريب أنه من صفات الفعل وأنه حادث في الحيوان ولما لم يمكن الالتزام بالحدوث فيه تعالى أولوه بنفس الفعل الصادر ولم ننقل أصل عبارته لطولها وضيق المجال وأن كانت متضمنة لفوائد كثيرة. (ش)

(ألا ترى أنك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله (1) ولا تقول: سأفعل كذا إن علم الله) ولو كانت المشيئة بمعنى العلم لصح هذا القول كما صح ذلك، ولما لم يصح علم أنها غيره، أما الملازمة فظاهرة وأما صحة ذلك القول فلأنه لا خلاف فيها ولأن قولك إن شاء الله دل على عدم مشيته بمعنى الإيجاد بتوسطك الفعل المطلوب بعد وإلا لكان ذلك الفعل واقعا موجودا وهو خلاف الغرض وأنت في تعلقها به في الاستقبال شاك غير عالم به.

وهذا معنى صحيح ولو قلت بدل ذلك: إن علم الله دل هذا القول على عدم تعلق علمه بذلك الفعل في الحال وعلى شكك في تعلقه به في الاستقبال وكل هذا باطل لأنك تعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة أزلا وأبدا وإلى ما ذكرنا أشار إجمالا بقوله (فقولك إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ) أي لم يشأ ذلك الفعل المطلوب لك بعد، ووجه الدلاله أنه لو شاءه لكان موجودا لا متناع تخلف متعلق مشيته عنها وليس كذلك وإلى هذا الوجه أشار بقوله (فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء) فالفاء للتعليل وبيان لدلالة إن شاء الله على ما مر، ويحتمل أن يكون هذا الكلام إشارة إلى شيء آخر دل عليه إن شاء الله وهو أن إن شاء الله دل على أنه لم يشأ بعد وعلى أنه إذا شاء في الاستقبال وجد ما شاء كما شاء من غير أن يتخلف عن مشيته بنحو من الأنحاء ومثل هذا المعنى الذي دل عليه إن شاء الله لا يجري في علم الله، فلا يجوز استعمال إن علم الله بدلا عنه فعلم المغايرة بين العلم والمشية.

(وعلم الله سابق المشية) يحتمل نصب المشية على المفعولية وجرها بالإضافة من باب إضافة الصفة إلى المفعول فعلى الأول سابق ماض معلوم من المسابقة، وعلى الثاني اسم فاعل من السبق.

وفي بعض النسخ المصححة المعتبرة «السابق المشية» بنصب المشية على أنها مفعول اسم

ص:265


1- 1 - قوله «سأفعل كذا إن شاء الله» حرف أن الشرطية دخلت على صيغة الماضي فنقلته إلى الاستقبال والمعنى إن شاء الله في المستقبل فعلت كذا في المستقبل وهذا صحيح وأما إن علم الله في المستقبل فعلت كذا في المستقبل غير صحيح لأن المشية تحدث في المستقبل والعلم حاصل من الأزل ولا يحدث والقياس من الشكل الثاني هكذا المشية تحدث والعلم لا يحدث فليست المشية علما. واعلم أن الغرض من إثبات صفة الإرادة أنه تعالى ليس مضطرا في الفعل نظير الفعل نظير الفاعل الطبيعي والفاعل في بدء النظر قسمان: فاعل طبيعي كالشمس للضوء والنار للحرارة، وفاعل إرادي كالإنسان والمقصود أن فعله تعالى ليس نظير فعل الطبايع بغير شعور وإرادة وأما كونه نظير الإنسان في جميع خصوصيات الإرادة فغير مقصود فإن إرادة الإنسان متحقق بأمور يستحيل على الله تعالى مثل حدوث العلم والتصور والشوق وطلب الفائدة وربما يقال ثبوت الإرادة متوقف على تقدم الزمان على الفعل وليس كذلك إذ يمكن أن يريد الفاعل المختار صدور الفعل عنه دائما بمشيئته وإرادته وقد يقال لا يمكن الإرادة إلا مع إمكان صدور طرفي النقيض وقوعا وليس كذلك إذ يصدر العبادة من الأنبياء بإرادتهم ويستحيل صدور الفسق منهم. (ش)

الفاعل المعرف باللام، وفي بعضها «سابق للمشية» ومعنى الجميع واحد وهو أن علم تعالى سابق على مشيته وإرادته التي هي الإيجاد فليست مشيته المتأخرة نفس علمه المتقدم عليها وهذا الكلام كالتأكيد لما فهم من الكلام السابق أو كالنتيجة له أو دليل آخر على أن مشيته غير علمه.

فإن قلت هل يجوز أن يراد بالمشية في السؤال والجواب الإرادة التي هي عين ذاته المتعلقة بكل خير ومصالح أم لا؟ قلت: الظاهر لا لأن هذه الإرادة هي عين علمه بكل خير عند المحققين لا صفة زائدة عليه ولأن إرادة هذه الإرادة لا توافق ظاهر قوله: «إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ» إذ معناه حينئذ سأفعل كذا إن كان هذا الفعل من الخيرات التي تعلقت إرادته الذاتية الحقة بأنها خير وعدم وجود هذا الفعل في زمان التكلم لا يدل على أنه لم يتعلق إرادته الذاتية بأنه خير من الخيرات وإنما يدل ذلك على أنه لم تتعلق به الإرادة الحادثة التي هي عين الإيجاد وكذا لا توافق ظاهر قوله «وعلم الله سابق المشية» لأن سبق علمه تعالى على المشية بهذا المعنى غير ظاهر بل غير متصور.

* الأصل:

3 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: قلت: لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل. وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):

أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق) سأل عن الفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الخلق وطلب معرفة حقيقتهما.

(قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير) أي تصور الفعل وتوجه الذهن إليه (وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل) «من» صلة ليبدو لا بيان لما، لأن الفعل هو المراد دون الإرادة، اللهم إلا أن يراد بالفعل مقدمات الإرادة (1) مثل تصور النفع والإذعان به والشوق إليه والعزم له وتحريك القدرة إلى

ص:266


1- 1 - قوله «مقدمات الإرادة» أول ما يبدو للمريد تصور المعنى فإنه إن لم يتصور المعنى لم يكن فاعلا بالإرادة بل هو فاعل طبيعي بلا شعور، ثم أنه ليس كل من تصور المعنى يطلبه كشبعان يتصور الطعام بل لا بد من ضم صفة أخرى إلى التصور وهو الشوق ولكن ليس كل من تصور معنى واشتاق يطلبه كجائع يتصور الطعام ويشتاق إليه ولا يكون عنده الثمن ليشتريه مثلا بل لا بد له وجود أسباب وفقد موانع حتى يعزم فإذا عزم لا بد أن يحرك عضلاته في طلبه فربما تطاوعه العضلات وربما لا تطاوعه فهذه مقدمات أربع يتخللها التصديق بحصول نفع أو دفع ضرر وهذا سبب حصول الشوق. والإرادة في اصطلاحهم تطلق على ثلاثة أمور: الأول: هذا المعنى المركب من المقدمات الأربع التي تترتب عليه الفعل البتة، الثاني: مرتبة الشوق المذكور وهي في مقابل الكراهة ويستعملها الفقهاء كثيرا في هذا المعنى، ويمكن اجتماع الكراهة والإرادة بالنسبة إلى شيء واحد باعتبارين كصلاة في بيت مغصوب فإنها مطلوبة ومرادة باعتبار ومكروهة باعتبار ولا يمكن الاجتماع فيها بالمعنى الأول، الثالث: العلم بالنفع في اصطلاح المتكلمين. فإن قيل إذا كان التصديق بجلب نفع أو دفع ضر يتخلل مقدمات الإرادة وكانت إرادة الله تعالى على ما ورد في الأخبار وتطابق عليه علماؤنا خالية عن هذه المقدمات مطلقا بل ليست إلا العلم بالنفع وصدور الفعل لزم كون أفعال الله تعالى خالية عن الأغراض والغايات كما يقول به الحكماء. أقول خلو الأفعال عن الغاية مذهب المعطلة والملاحدة والقائلين بالبخت والاتفاق وأما الحكماء الإلهيون فأبطلوا قولهم وردوا عليهم كما مر استشهاد الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) بقول أرسطو في ردهم وفي الشفا أبواب وفصول في نقض مذهبهم وفي القانون أيضا في باب منافع الأعضاء والتشريح أثبت العناية الإلهية في خلق كل عضو بل في مقداره وشكله وتركيبه وشقوقه وغير ذلك فراجع، وأما نفي الغرض فلأن اصطلاحهم وقع واستقر على ما يكمل به الفاعل وليس واجب الوجود يفعل ليكمل بل كماله سبب لفعله بخلاف الممكن فإن فعله سبب كماله. (ش)

تحصيل الفعل المراد والحاصل أن إرادة الخلق عبارة عن تصور الفعل ثم تصور النفع سواء كان النفع عقليا أو خياليا أو عينيا أو دنيويا أو اخرويا، ثم التصديق بترتب ذلك النفع على ذلك الفعل والإذعان به إذعانا جازما أو غير جازم، ثم الشوق إليه، ثم العزم الراسخ المحرك للقوة والقدرة المحركة للعضو إلى تحصيل الفعل على ما ينبغي فالفعل يصدر عن الخلق عن هذه المبادي المترتبة التي هي عبارة عن إرادتهم التامة المستتبعة له.

(وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك) يعني أن إرادته بسيطة وهي إحداث الفعل وإيجاده على وجه يوافق القضاء الأصلي ويطابق العلم الأزلي من الكمال والمقدار والخواص والآثار لا مركبة من الأمور المذكورة في إرادة الخلق ولا شيء منها (لأنه لا يروي) أي لا يفعل باستعمال الروية يقال: رويت في الأمر تروية أي نظرت فيه ولم أتعجل والاسم الروية بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء (ولا يهم) أي لا يقصده من هم الشيء يهم بالضم إذا قصده والاسم الهمة (ولا يتفكر) ليعلم حسنه وقبحه والحاصل أنه لا ينظر إلى الفعل ليعلم نفعه ووجه حسنه ولا يهمه بالشوق والعزم المتأكد ولا يتفكر ولا يتأمل فيه ليعرف حسن عاقبته لتنزه قدسه عن استعمال الرأي

ص:267

وإجالة الهمة وتحريك الشوق والعزم وارتكاب التعمق في الأمور والتفكر في أمر عاقبتها.

(وهذه الصفات منفية عنه) لأنها من لواحق النفوس البشرية وتوابع الجهل ونقصان العلم وهو سبحانه منزه عن جميع ذلك (وهي صفات الخلق) لاحتياجهم في تحصيل مقاصدهم وتكميل أفعالهم على وفق مطالبهم إلى حركات فكرية وهمة نفسانية وأشواق روحانية وآلات بدنية بحيث لو فقدت إحداها بقوا متحيرين جاهلين لا يجدون إلى وجه الصواب دليلا ولا إلى طريق الفعل سبيلا.

(فإرادة الله تعالى الفعل) أي الإيجاد (1) والاحداث (لا غير ذلك) من الضمير المشتمل على

ص:268


1- 1 - قوله «فإرادة الله تعالى الفعل أي الإيجاد» قال الشيخ المفيد (قدس سره): إن الإرادة من الله جل اسمه نفس الفعل ومن الخلق الضمير وأشباهه مما لا يجوز إلا على ذوي الحاجة والنقص وذلك لأن العقول شاهدة بأن القصد لا يكون إلا بقلب كما لا يكون الشهوة والمحبة إلا لذي قلب ولا يصح النية والعزم إلا على ذي خاطر يضطر معها في الفعل الذي يغلب عليه الإرادة له والنية فيه والعزم ولما كان الله تعالى يجل عن الحاجات بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود والعزمات وثبت أن وصفه بالإرادة مخالف في معناه لوصف العباد وأنها نفس فعله الأشياء، بذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى (عليه السلام) إلى آخر ما قال وهذا عين مذهب الحكماء ألا ترى إلى قوله «بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود والعزمات». وههنا شبهات مبنية على عدم تدبر الأمور كما هي أو على الاختلاف في الاصطلاح منها أنه لو كان الإرادة هي العلم بالأصلح ولا شيء يزيد عليه من هم وعزم لزم كون الحوادث الزمانية قديمة إذ العلم قديم وتعلق العلم قديما بشيء يوجب كون ذلك الشيء ما دام العلم إذ لا يؤثر في وجود الشيء من الباري إلا علمه، والجواب أن العلم مطابق للمعلوم فإذا تعلق علمه بوجود الشيء في الزمان المعين لم يحدث المعلوم إلا في الزمان المعين ومنها أن العلم بالأصلح حاصل للباري تعالى بل هو عين ذات الباري فلزم وجوب ترتب الأصلح على ذاته وامتناع ترتب غير الأصلح وهذا يوجب كونه تعالى فاعلا غير مختار كالطبايع يجب صدور ما يجب عنه ويمتنع ما يمتنع، والجواب ان للإمكان اصطلاحين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي والأول صفة الشيء في ذاته والثاني صفته بالنظر إليه مع جميع ما يصحبه ويحيط به من الأوضاع مثلا صدور المعصية عن الأنبياء غير ممكن بالنظر إلى عصمتهم واستلزام عدم حجية أقوالهم وأفعالهم وهذا نفي الإمكان الوقوعي ولا يوجب كونهم مضطرين إلى ترك المعصية حتى لا يكون هذا فضيلة، وكذلك نعلم أن الملحد الجائع في البيت الخالي والطعام حاضر لا يبالي بشهر رمضان ويفطر البتة ونقطع بذلك قبل الوقوع لعدم تطرق احتمال الصيام في حقه وهذا لا يوجب اضطراره إلى الإفطار مع عدم احتمال غير الإفطار منه فما يقال إن القادر المختار هو الذي يصح أو يحتمل أو يمكن صدور الفعل والترك منه مبنى على مسامحة ما إذ قد لا يصح أو لا يمكن بالإمكان الوقوعي منه إلا شيء واحد الفعل أو الترك ومع ذلك هو فاعل مختار لا يختار إلا الطرف الواحد، منها أن الفاعل المختار لا يمكن أن يكون فعله قديما وهذا غير متصور لنا إذ يمكن أن تتعلق إرادته بان يكون في كل زمان له مخلوق من الأزل ولا ينقض إرادة الفاعل المختار بذلك وإنما يثبت حدوث العالم زمانا عند من ثبت بدليل آخر. (ش)

المعاني المذكورة والفاء للتفريع لأن مدخولها نتيجة للمقدمات السابقة، ثم أشار إلى كيفية إيجاده للأشياء وتنزهه عن صفات الخلق تأكيدا لما سبق بقوله (يقول له) لما أراد وجوده لعلمه بما فيه من المصلحة (كن فيكون) قوله «كن» إشارة إلى حكمه وقدرته الأزلية ووجوب الصدور عن تمام مؤثريته. وقوله «فيكون» إشارة إلى وجود ودل على اللزوم وعدم التأخر بالفاء المقتضية للتعقب بلا مهلة.

(لا لفظ ولا نطق بلسان) أي يقول ذلك بلا صوت يقرع ولا نطق يسمع، لأن اللفظ والنطق واللسان من خواص الخلق المنزه قدسه عنها، وينبغي أن يعلم أن إطلاق القول عليه كإطلاق الكلام فأما اللفظ والنطق فلما كانا عبارة عن إخراج الحروف عن الآلة المعدة لهما وهي اللسان والشفة وغيرهما كانا لا يصدقان في حقه تعالى لعدم الآلة هناك والشارع لم يأذن في إطلاقهما عليه لأن دلالتهما على الآلة المذكورة أقوى من دلالة القول والكلام عليها.

(ولا همة) الهمة ملكة تحت الشجاعة وهي العزم الجازم المتأكد في تحصيل الإنسان ما ينبغي أن يحصله من تعرف الأمور واختيارها والنظر في مصادرها ومواردها وتحديق البصيرة نحو الأمور المعقولة وإرسال الوهم والخيال وسائر الحواس نحو المعاني والصور المحسوسة المعينة لدرك المقاصد والمطالب مع التألم والغم والهم بسبب فقدها والله سبحانه منزه عن هذه الامور.

(ولا تفكر) لأن التفكر عبارة عن حركة القوة المفكرة في طريق مبادي المطالب والأفعال والانتقال من ضمير إلى ضمير ثم الرجوع منها إلى تلك المطالب، وهي من خواص الإنسان، وأيضا فائدة التفكر تحصيل المجهولات والجهل على الله تعالى محال.

(ولا كيف لذلك) أي لإحداثه وإيجاده الذي هو من صفاته الفعلية (كما أنه لا كيف له) تعالى أي لله تعالى وإنما الكيفيات للمكنات الموجودة لا لإيجادها ولا لموجدها الواحد على الاطلاق.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية) بعدما عرفت أن المراد بالمشية الإرادة الحادثة وأن المراد بالإرادة الحادثة الإحداث والإيجاد جوزت أن يكون المراد هنا أن الله تعالى خلق مهية

ص:269

الايجاد (1) بنفسها من غير إضافة الوجود عليها بتعلق الجعل على نفس تلك المهية أولا.

ثم خلق الأشياء بتلك المهية بسبب إضافة الوجود عليها وجعلها متعلقة بتلك الأشياء ومربوطة بها فالمشية وخلقها من صفاته الفعلية، أو أن الله تعالى خلق المشية والإيجاد يعني قدرها تقديرا صالحا لنظام الكل بل لنظام كل شيء ثم خلق الأشياء بتلك المشية المقدرة في الأزل على ما يقتضيه التقدير الأزلي، فالمشية من صفاته الفعلية وخلقها يعني تقديرها ووزنها من صفاتها الذاتية الأزلية.

وقال سيد المحققين (رحمه الله): المراد بالمشية هنا إرادة المخلوقين (2) المراد أنه تعالى خلق إرادتهم بنفسها لا بمشية اخرى مباينة لها إذ قد عرفت أن الروية والهمة والشوق المتأكد التي منها يتقوم حقيقة المشية إنما يكون لاولى الاختيار من المخلوقات والخالق سبحانه متقدس عن ذلك «ثم خلق الأشياء» يعني أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشية بتلك المشية وبذلك تنحل تشكك المتشككين أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بإرادتهم واختيارهم سبقا بالذات لكانت الإرادة أيضا مسبوقة بإرادة اخرى وكان تسلسل الإرادات متماديا إلى ما لا نهاية له (3).

ص:270


1- 1 - قوله «خلق مهية الإيجاد» حاصله أن المجعول بالأصالة هو الوجود والمهيات مجعولة بالعرض والمعنى أنه تعالى خلق الأشياء بإفاضة الوجود عليها وخلق الوجود بنفسه إذ ليس جعل الوجود بإفاضة وجود عليه بل بإفاضته. وأما مصحح إطلاق المشيئة على الوجود وعلاقة المجاز التي روعيت فيه فيأتي في كلام صدر المتألهين (قدس سره). (ش)
2- 2 - قوله «إرادة المخلوقين» والشارح نقل عبارة السيد بالمعنى، وفي مرآة العقول وكذا الوافي نقل قوله هكذا «أن المراد بالمشية ههنا مشيئة العباد لأفعالهم الاختيارية لتقدسه سبحانه عن مشيئة مخلوقة زائدة على ذاته عز وجل آه». وقال الفيض (رحمه الله) ما ذكره خلاف الظاهر من الحديث وكيف لا يكون له مشيئة مخلوقة وحديث ابن مسلم الآتي نص في ذلك لا يحتمل التأويل ثم فسر هذا الحديث بوجه آخر لا حاجة إلى نقله وقال نظير ذلك ما يقال إن الأشياء إنما توجد بالوجود وأما الوجود نفسه فلا يفتقر إلى وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه فافهم راشدا ومرجعه إلى ما يأتي من تأويل صدر المتألهين (قدس سره). (ش)
3- 3 - قوله «إلى ما لا نهاية له» هذا آخر كلام المحقق الداماد واعلم أن العلامة المجلسي (رحمه الله) نقل خمسة وجوه في تأويل الحديث وتأويل السيد ثالثها، ثم قال الرابع ما ذكره بعض الأفاضل ونقل كلام صاحب الوافي إلى آخره بحذف قوله أخيرا «فافهم راشدا». ثم قال الخامس ما ذكره بعض المحققين ومراده صدر المتألهين (قدس سره) فإنه بعدما حقق في شرح الحديث السابق أن إرادة الله المتجددة هي نفس أفعاله المتجددة الكائنة الفاسدة فإرادته لكل حادث بالمعنى الإضافي يرجع إلى إيجاده وبمعنى المرادية ترجع إلى وجوده قال: نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا واختيارنا فأردناه أولا ثم فعلناه بسبب الإرادة فالإرادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بإرادة أخرى وإلا لتسلسل الأمر إلى لا نهاية فالإرادة مراده لذاتها والفعل مراد بالإرادة وكذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها وساير الأشياء مرغوبة بالشهوة فعلى هذا المثال حال مشيئة الله المخلوقة وهي نفس وجودات الأشياء فإن الوجود خير ومؤثر لذاته ومجعول بنفسه والأشياء مشيئة بالوجود وكما أن الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدة والضعف والكمال والنقص فكذلك الخيرية والمشيئة وليس الخبر المحض الذي لا يشوبه شر إلا الوجود البحت الذي لا يمازجه عدم ونقص وهو ذات الباري جل مجده فهو المراد الحقيقي إلى آخر ما حققه. انتهى كلام المجلسي (رحمه الله) وهو نفس عبارة صدر المتألهين وحكى بعده كلاما لابن سينا لم ينقله المجلسي (ره) ومن العجائب في هذا الحديث تفسير القزويني المشيئة بالماء فإنه مادة لأن كل موجود وهو ساقط لأن المجردات ليست من الماء. (ش)
* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عيسى، عن المشرفي حمزة بن المرتفع، عن بعض أصحابنا قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن عيسى، عن المشرفي) ضبطه بعض الأصحاب (1) بفتح الميم والشين المعجمة قبل الراء والفاء بعدها نسبة إلى مشارف الشام قرى بقرب المدين، وقيل: قرى بين بلاد الريف وجزيرة العرب تدنو من الريف، قيل لها ذلك لأنها أشرفت على السواد، والضبط بالقاف تصحيف وهو هاشم وقيل هشام بن إبراهيم العباسي روى عن الرضا (عليه السلام)، وفي كتاب الرجال في أصحاب الرضا (عليه السلام) ابن هاشم العباسي (حمزة بن المرتفع) بدل عن المشرفي هكذا في النسخ التي رأيناها وقال بعض الأصحاب هذا من تحريفات الناسخين والصحيح «عن حمزة بن الربيع» كما في كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله وهو حمزة بن الربيع المصلوب على التشيع (عن بعض أصحابنا) في كتاب التوحيد عمن ذكره.

(قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تعالى (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) ما ذلك الغضب؟) لما كان الغضب عبارة عن ثوران النفس وحركة قوتها الغضبية عن تصور المؤذي والضار لإرادة مقاومته ودفعه وهو يوجب ثوران دم

ص:271


1- 1 - قوله «ضبطه بعض الأصحاب» - والصحيح السكوت عن ترجمة هذا الرجل وعدم التعرض له كما فعله صدر المتألهين إذ لا يعلم من كتب الرجال فيه شيء يعتد به. (ش)

القلب وتحرك النفس من حال إلى حال لإرادة الانتقام وإيقاع السوء والعقاب بالمغضوب عليه وكان ذلك من خواص المخلوق القابل للانفعال والتغير من حال إلى حال أشكل ذلك على السائل فسأل عن المقصود منه.

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب) أي عقاب العاصي وعذاب المخالف لأوامره ونواهيه مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب والأثر على المؤثر وعلى هذا، المراد برحمته التي في الأصل رقة القلب إثابة المطيع والإحسان إليه بالإنعام والإكرام وقد فسر رحمته وغضبه بهذا الوجه جماعة من المتكلمين، وقال بعضهم: المراد بهما إرادة العقوبة والإثابة، ولعل هذا القول يعود إلى الأول لما عرفت من أن إرادته عبارة عن الإحداث والإيجاد، وبعض العامة حملها على الإرادة الأزلية التي هي العلم بعقوبة العاصي وإثابة المطيع ويلزم [ه] العقوبة والإثابة ولذلك قال الرحمة والغضب من صفاته الذاتية وهما على ما ذكره (عليه السلام) من الصفات الفعلية، ولما أشار (عليه السلام) إلى المقصود من الغضب أشار إلى عدم جواز حمله فيه جل شأنه على المعنى المعروف في الخلق بقوله (يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء) وانتقل من حال إلى حال بأي وجه وأي سبب كان.

(فقد وصفه صفة مخلوق) ومن وصفه بصفة مخلوق فقد أشرك به وأقر بإله سواه، وقوله «صفة مخلوق» إما مفعول مطلق أو منصوب بنزع الخافض (وإن الله تعالى) عطف على قوله «إنه زعم) (لا يستفزه شيء فيغيره) أي لا يستخفه ولا يفزعه شيء ولا يزعجه ولا يطيره أمر فيغيره من حال إلى حال ومن صف إلى وصف لأن ذلك من لواحق الإمكان القابل للانفعال من الغير وقدس الحق منزه عنها.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسخط؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نعم ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين وذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأن المخلوق أجوف معتمل مركب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه لأنه واحد واحدي المعنى فرضاه ثوابه وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال، لأن ذلك من صفة المخلوقين والعاجزين المحتاجين.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمرو، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق

ص:272

الذي سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسخط) غرضه من هذا السؤال إما الاستعلام أو الإلزام بتشبيهه بالخلق.

(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) نعم ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين) أي ليس رضاه وسخطه على المعنى الذي يوجد منهم (وذلك أن الرضا) من المخلوق (حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال) في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «وذلك أن الرضا والسخط دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال» وما ذكره (عليه السلام) من أن الرضا حال أو دخال مصرح به في الحكمة العملية ومبدؤه تصديق أحد بما يوافقه ويلائمه عند تصور كونه موافقا وملايما له وإذعانه بأن ما قضاه الله تعالى وقدره حق موافق للمصلحة وإن لم يعلم وجهها فانه إذا حصل له هذا التصديق والإذعان حصولا لا يعارضه الوهم والخيال ينفعل قلبه ويدخل فيه حالة راسخة وهيئة ثابتة فتنقله من حال الاهتزاز والاضطراب إلى وصف الاطمئنان والانقياد وهو يتلقى ما يرد عليه بالقبول ويرضى به وإن كان أمرا مستبشعا في بادي النظر، وقد أشار إليه (عليه السلام) إلى تعليل أن رضاء المخلوق حال مذكورة وأن ذلك يلائمه ولا يلائم ذاته وحقيقته بقوله:

(لأن المخلوق أجوف) (1) أي ذا جوف له مقدار بحسب البطون كالجسم أو خالي الداخل الذي فيه القلب، وجوف الإنسان وغيره بطنه (معتمل) اعتمل اضطرب في العمل لعل المراد أن في صنعه اضطرابا لبناء خلقته على امور متعادية متقاضية للافتراق، أو المراد أن له في عمل نفسه وإدراكاته وتحصيل كيفياته النفسانية اضطرابا وانقلابا من حال إلى حال (مركب) من أجزاء متباينة في الحقيقة متخالفة في الصورة والكيفية أو من ذات وصفات، ومن ثم قيل كل ممكن وإن كان بسيطا فهو مزدوج بالذات والوجود والصفات.

ص:273


1- 1 - «قوله أجوف» لا يجعل الشيء أجوف إلا لأن يكون وعاء لشيء يدخل فيه وابن آدم أجوف وجميع أعضاء بدنه وعاء لشيء يجري فيه حتى العروق والأعصاب وقوله معتمل أي شديد العمل فيأخذ كل عضو غذاءه ويحلله ويخرج فضله وهذا حياة البدن ومركب من أجزاء متباينة بنسبة معينة محدودة إذا قل بعض الأجزاء عن مقداره الطبيعي طلبه كالعطش يطلب به الماء أو زاد عنه طلب الدفع كالمني يطلب به الوقاع، وهذه الأمور الثلاثة سبب الرضا والغضب وليس لله تعالى مثل تلك. فإن قيل ليس كل الرضا والغضب ناشئا من حالات البدن فقد يرضى ويسر الإنسان لكمال روحاني كالعلم والتقوى والتقرب إلى الله تعالى ويغضب لنقص روحاني في نفسه أو غيره كجهل ومعصية. قلنا عن ذلك جوابان: الأول: أن الأجوف أعم من النقص الجسماني والروحاني والاعتمال أعم من حركات البدن الحيوية وجهد النفس للوصول النفسانية. الجواب الثاني: إنه ما من رضا روحاني أو غضب روحاني إلا ويؤثر في البدن كما يتأثر عن البدن لمكان ارتباطهما معا ولا يسمى رضا وغضبا في اللغة إلا باعتبار ظهوره في البدن والله منزه عنه. (ش)

(للأشياء فيه مدخل) يحتمل وجهين أحدهما أن يراد بالأشياء الإدراكات والكيفيات النفسانية مثل الرضا والسخط وغيرهما يعني أن حصول هذه الأشياء له بطريق دخولها فيه وتغييره من حال إلى حال، ولا ينافيه ذلك لأن وضعه وتركيبه على التغير والانقلاب، وثانيهما: أن يراد أن للأشياء المتغايرة في الصورة والكيفية التي يقتضي كل واحد منهما تغير الآخر وانكساره مدخلا في تحقق حقيقته وإذا كان كذلك فدخول الحالات والكيفيات فيه وتحريكه من حال إلى حال لا ينافيه في حقيقته وذاته.

(وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه) بأحد الوجهين المذكورين (لأنه واحد) لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا ولا خارجا وهذا معنى الواحد كما عرفت آنفا (وأحدي الذات) ليس وجوده زايدا على ذاته والعطف دل على المغايرة، ويحتمل التفسير أيضا، ويؤيده ترك العطف في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) حيث قال فيه لأنه واحد أحدي الذات.

(وأحدي المعنى) ليست له صفات متكثرة متغايرة زايدة على ذاته ففي الأول إشارة إلى نفي الكثرة قبل الذات لعدم تركبه من الأجزاء وفي الثاني إشارة إلى نفي الكثرة في مرتبة الذات لكون وجود عين ذاته وفي الثالث إشارة إلى نفي الكثرة بعد مرتبة الذات لكون صفاته عين ذاته فهو الواحد المطلق الحق من كل جهة.

(فرضاه ثوابه) للمطيع (وسخطه عقابه) للعاصي، وقيل: رضاه إرادة ثوابه وسخطه إرادة عقابه.

وقال بعض العامة: رضاه علمه بطاعة العبد وسخطه علمه بعصيانه (من غير شئ يتداخله فيهيجه) أي يثيره ويحركه من هاجه الشيء أو من هيجه إذا أثاره.

(وينقله من حال إلى حال لأن ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين) في ذواتهم إلى أجزاء وفي وجوداتهم إلى موجود وفي كمالاتهم إلى مداخلة وإنفعالات وأما الله القادر الخالق الغني المطلق فهو متنزه عن جميع ذلك ومتقدس عن التغير والانفعال والانتقال من حال إلى حال والحاصل أنه إذا نسب الرضا والسخط والحب والبغض والموالاة والمعاداة إلى الله سبحانه وجب تأويلها وصرفها إلى معنى يصح في حقه لأن نسبة معانيها المعروفة فينا إليه غير صحيحة إذ الرضا فينا حالة للنفس توجب تغيرها وانبساطها لإيصال النفع إلى الغير أو الانقياد لحكمه.

والسخط حالة أخرى توجب تغيرها وانقباضها وتحركها إلى إيقاع السوء به أو الإعراض عنه والمحبة حالة لها توجب ميلها إليه أو نفس هذا الميل والبغض حالة لها توجب الإعراض عنه وإيصال الضرر إليه وقريب منهما الموالاة والمعاداة وكل ذلك عليه سبحانه محال، فوجب التأويل والتأويل أن الرضا والمحبة والموالاة بمعنى الإثابة والإحسان وإيصال النفع، وأضدادها بمعنى

ص:274

العقوبة وعدم الإحسان إما على سبيل الاشتراك أو على سبيل التجوز.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المشيئة محدثة.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المشية محدثة) قد عرفت مما ذكر أن المراد بالمشية الإرادة الحادثة أعني إيجاد الشيء وإحداثه، فهي من الصفات الفعلية وللتميز بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية طريقان أحدهما أن كل صفة توجد فيه سبحانه دون نقيضها فهي من الصفات الذاتية وكل صفة توجد فيه مع نقيضها فهي من الصفات الفعلية، وثانيهما أن كل صفة لا يجوز أن يتعلق بها قدرته وإرادته فهي من صفات الذات وكل صفة يجوز أن يتعلق بها قدرته وإرادته فهي من صفات الفعل والمصنف أشار إلى الأول بقوله:

ص:275

جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل

اشاره

* جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل * (1)

* الأصل:

إن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعا في الوجود فذلك صفة فعل وتفسير هذه الجملة:

أنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد وما يرضاه وما يسخطه وما يحب وما يبغض فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضا لتلك الصفة، ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه وكذلك صفات ذاته الأزلي لسنا نصفه بقدرة وعجز [وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطأ وعز] وذلة، ويجوز أن يقال: يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه وإنه يرضاه ويسخط، ويقال في الدعاء اللهم ارض عني ولا تسخط علي وتولني ولا تعادني ولا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم ويقدر أن يملك ولا يقدر أن لا يملك، ويقدر أن يكون عزيزا حكيما ولا يقدر أن لا يكون عزيزا حكيما، ويقدر أن يكون جوادا ولا يقدر أن لا يكون جوادا، ويقدر أن يكون غفورا ولا يقدر أن لا يكون غفورا. ولا يجوز أيضا أن يقال: أراد أن يكون ربا قديما وعزيزا وحكيما ومالكا وعالما وقادرا لأن هذه من صفات الذات والإرادة من صفات الفعل ألا ترى أنه يقال: أراد هذا ولم يرد هذا وصفات الذات تنفى عنه بكل صفة منها ضدها. يقال: حي وعالم

ص:276


1- 1 - قوله «جملة القول من صفات الذات» قال صدر المتألهين (رحمه الله) ذكر الشيخ (رحمه الله) في هذا الحديث قاعدة علمية لها يعرف الفرق بين صفات ذاته وصفات أفعاله وهي أن كل صفة وجودية لها مقابل وجودي فهي من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفاته الذاتية كلها عين ذاته وذاته مما لا ضد له وهذا قانون جملي في معرفة صفات الذات وصفات الفعل، ثم فسره ومزجه بذكر الأمثلة المخصوصة المندرجة تحت الجملة انتهى. وقال الفاضل المجلسي (رحمه الله) غرضه الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل وأبان ذلك بوجوه الأول: أن كل صفة وجودية لها مقابل وجودي فهي من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفاته الذاتية كلها عين ذاته وذاته مما لا ضد له ثم بين ذلك في ضمن الأمثلة وأن اتصافه سبحانه بصفتين متقابلتين ذاتيتين محال انتهى. وهو عين كلام صدر المتألهين وإنما لم ينسبه إليه لأنه نقل آخر عبارته بالمعنى وإن أورد أول كلامه بلفظه. (ش)

وسميع وبصير وعزيز وحكيم، غني، حليم، عدل، كريم، فالعلم ضده الجهل، والقدرة ضدها العجز، والحياة ضدها الموت. والعزة ضدها الذلة. والحكمة ضدها الخطأ وضد الحلم العجلة والجهل، وضد العدل الجور والظلم.

* الشرح:

(أن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعا في الوجود فذلك صفة فعل) قوله «جملة القول» مبتدأ وقوله «في صفات الذات» متعلق بالقول أو بالجملة وقوله «أن» مع اسمه وخبره خبر المبتدأ.

وقوله «وصفت الله بهما» صفة لشيئين وقوله «وكانا» جملة حالية، وقوله «فذلك» خبر أن وإدخال الفاء باعتبار أن اسم «أن» مشتمل على معنى الشرط، وتوحيد اسم الإشارة باعتبار أنه إشارة إلى لفظ «كل» والحاصل أن كل شيئين متضادين وصفت الله تعالى بهما وهما في الوجود فهما من صفات الفعل كالمحبة والبغض فإنه يقال أحب من أطاعه وأبغض من عصاه وكلاهما موجود فالحب والبغض من صفات الفعل لا من صفات الذات لأنه لا يجوز وصفه تعالى بصفات الذات وبضدها فلا يجوز أن يقال مثلا هو عالم وجاهل وقادر وعاجز.

(وتفسير هذه الجملة) اختلف العلماء في أن هذه الجملة وتفسيرها من كلام المصنف أو من جملة الحديث فذهب بعض الأفاضل إلى أنهما من تتمة الحديث كما يقتضيه السوق ولا صارف هناك يوجب حملهما على أنهما من كلام المصنف، وقال السيد المحقق الداماد والفاضل الأمين الأسترآبادي أنهما من كلام المصنف فإن أحاديث هذا الباب مذكورة في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) وليس فيه جملة القول إلى آخره بل فيه بيان المعيار المميز بين صفات الذات وصفات الفعل بوجه قريب من كلام المصنف.

(إنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد وما يرضاه وما يسخطه وما يحب وما يبغض) قد عرفت معنى رضاه وسخطه وحبه وبغضه قبل ذلك، توضيح المقصود أن الشيء على خمسة أقسام لأنه إما خير محض أو خير غالب، أو شر محض أو شر غالب أو خير وشر على السواء وهو تعالى يريد الأولين بالذات من حيث أنهما خير وإرادته الشر التابع للثاني إنما هو بالعرض من جهة أنه تابع للخير للغالب لا بما هو شر ولا يريد الثلاثة الأخيرة أصلا لا بالذات ولا بالعرض، ومن ثم انحصر فعله تعالى في الخير المطلق والخير الغالب على الشر.

(فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة) أي

ص:277

صفة الإرادة وذلك لأن ما يريد على تقدير كون الإرادة من صفات الذات معناه أنه يريد جميع الأشياء ولا يريد معناه أنه لا يريد بعضها وهو نقيض لما يريد ضرورة أن الايجاب الكلي يناقضه السلب الجزئي.

(ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضا لتلك الصفة) أي صفة المحبة لمثل ما عرفت (ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه) أوضح بذلك أن كل واحدة من الإرادة والمحبة ليست من صفات الذات مثل العلم والقدرة فإن العلم والقدرة لما كانا من صفات الذات كانا متعلقين بكل ما يدخل في الوجود ولا يجوز نفيهما بالنسبة إلى بعض وإن كان شرا مطلقا فإنه تعالى عالم بالشرور بالذات كما أنه عالم بالخيرات بخلاف الإرادة والمحبة فانا نجد في الوجود ما لا يتعلقان به كالشرور والقبايح وإنما يتعلق به نقيضهما.

(وكذلك صفات ذاته الأزلي) الأزلي صفة للذات والتذكير باعتبار المعنى أو صفة للصفات والتذكير باعتبار الوصف (لسنا نصفه بقدرة وعجز) لأن العجز نقص ينشأ من عدم القدرة أو من انتهائها قبل التعلق بجميع المقدورات وذلك عليه جل شأنه محال ([وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطأ وعزة] وذلة) فيه حذف بقرينة المقام أي لسنا نصفه بعزة وذلة لأن الكلام في عدم جواز وصفه بصفة ذاتية وضدها، ويحتمل أن يكون الذلة مثل العجز ضد القدرة.

فإن قلت: تفسير هذه الجملة دل على أمرين كل واحد منهما خلاف ما هو المعروف عند المحققين: الأول أن الإرادة ليست من الصفات الذاتية، والثاني أن الإرادة غير العلم لأن علمه تعالى متعلق بالشرور بالذات وإرادته غير متعلق بها فلزم من ذلك أن الإرادة غير العلم.

قلت: المراد بالإرادة في هذا الباب الإرادة الحادثة التي هي وراء الصفات الذاتية ووراء الذات أعني الإيجاد والإحداث كما مر في حديث صفوان وأما الإرادة القديمة التي هي من الصفات الذاتية ونفس العلم بالخيرات عند المحققين فإنها مسكوت عنها نفيا وإثباتا.

(ويجوز أن يقال يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه وأنه يرضى ويسخط) جواز هذا القول دل على أن هذه الصفات صفات الفعل لما أن صفات الذات لا يجوز اتصافه بها وبضدها أزلا وأبدا.

فان قلت: حب خير نظام الوجود لا بمعنى ميل القلب إليه لاستحالته فيه بل بمعنى العلم به وبإفاضته في وقته من صفاته الذاتية التي لا تفارق الذات في مرتبتها.

قلت: نعم ولكن المراد بالحب والبغض هنا نفس الفعل، أعني الإحسان والإكرام والعقوبة

ص:278

والانتقام كما أشرنا إليه آنفا.

(ويقال في الدعاء اللهم ارض عني ولا تسخط علي وتولني ولا تعادني) استشهاد لما ذكره، وفيه دلالة على ما قلنا من أن المراد بالحب والرضا نفس الفعل أعني الإحسان والإكرام دون العلم الأزلي بالخيرات وبإفاضتها في أوقاتها وأشار إلى الطريق الثاني للفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية بقوله (ولا يجوز أن يقال يقدر أن يعلم (1) ولا يقدر أن لا يعلم) «ولا يقدر» عطف على «يقدر» «ولا» لتأكيد النفي يعني أن الصفات الذاتية هي التي لا يتعلق بها القدرة بخلاف الصفات الفعلية، فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ويقدر أن لا يعلم لان العلم من صفاته الذاتية التي هي عين ذاته فوجوده واجب بالذات وعدمه ممتنع ولا يتعلق القدرة بشيء منهما، وقس عليه حال نظايره الآتية.

(ويقدر أن يملك ولا يقدر أن لا يملك) أي لا يجوز أن يقال: يقدر أن يملك ويقدر أن لا يملك لأنه مالك لم يزل كما مر وكل ما كان لم يزل لا يكون مقدورا (ويقدر أن يكون عزيزا حكيما ولا يقدر أن لا يكون عزيزا حكيما، ويقدر أن يكون جوادا ولا يقدر أن لا يكون جوادا، ويقدر أن يكون غفورا ولا يقدر أن لا يكون غفورا) فان: قلت كما لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون جوادا ويقدر أن لا يكون جوادا ويقدر أن يكون غفورا ويقدر أن لا يكون غفورا كذلك لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون مريدا للخير مؤثرا إياه مختارا لإفاضته ويقدر أن لا يكون مريدا للخير مؤثرا إياه مختارا لإفاضته ويقدر أن يكون مريدا للجود مؤثرا إياه ويقدر أن لا يكون مريدا للجود مؤثرا إياه، ويقدر أن يكون مريدا للمغفرة مؤثرا إياها ويقدر أن لا يكون مريدا للمغفرة مؤثرا إياها مع أن عدم جواز هذا القول أظهر إذ مرتبة الجود بعد مرتبة إرادته ومرتبة الغفران بعد مرتبه إرادته وما ذلك إلا. باعتبار أن إرادة الخير والجود واختيار إفاضتهما من الصفات الذاتية التي ليست بمتعلقة للقدرة فالفرق بالوجه المذكور

ص:279


1- 1 - «ولا يجوز أن يقال يقدر أن يعلم» قال صدر المتألهين (رحمه الله) إشارة إلى وجه آخر في بيان الفرق بين صفة الذات وصفة الفعل وهو أن القدرة صفة ذاتية تتعلق بالممكنات لا غير ونسبتها بما هي قدرة إلى طرفي الشيء الممكن على السواء فلا يتعلق بالواجب ولا بالممتنع فكل ما هو صفة الذات فهو أزلي غير مقدور، وكلما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور وبهذا يعرف الفرق بين الصفتين انتهى. وقال المجلسي (رحمه الله): الثاني ما أشار إليه بقوله ولا يجوز أن يقال بقدر أن يعلم. والحاصل أن القدرة صفة ذاتية تتعلق بالممكنات لا غير ولا تتعلق بالواجب ولا بالممتنع فكل ما هو صفة الذات فهو أزلي غير مقدور وكلما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور، وبهذا يعرف الفرق بين الصفتين انتهى. وهو عبارة صدر المتألهين بعينها حذف منه جملة واحدة وهي قوله «ونسبتها بما هي قدره آه» ولم ينسبه إليه لذلك. (ش)

تحكم والحق ما ذهب إليه المحققون من أن إرادته تعالى من الصفات الذاتية الملحوظة في مرتبة الذات مثل العلم بل هي نفس العلم بالخيرات.

قلت: إن أردت بالإرادة في قولك «لا يجوز أن يقال يقدر أن يكون مريدا للخير - إلى آخره» الإرادة القديمة التي هي نفس العلم بالخيرات التي لنظام الوجود فالأمر كما ذكرت من عدم جواز هذا القول ولكن الظاهر أن كلام المصنف ليس في الإرادة القديمة كيف وهو لا ينكر علمه تعالى بالخيرات، والظاهر أنه لا يناقش تسميته بالإرادة وإنما كلامه في الإرادة الحادثة كما عرفت مرارا أو إن أردت بها الإرادة الحادثة فعدم جواز ذلك القول ممنوع لأن الإرادة الحادثة مما تتعلق بها القدرة فالفرق المذكور موجه تام والله أعلم.

ثم أشار إلى أن الصفات الذاتية كما لا يجوز أن تتعلق بها القدرة كذلك لا يجوز أن تتعلق بها الإرادة بقوله (ولا يجوز أيضا) كما لا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم ويقدر أن لا يعلم (أن يقال أراد أن يكون ربا وقديما وعزيزا وحكيما ومالكا وعالما وقادرا) (1) وأشار إلى عدم جواز هذا القول بقوله (لأن هذه) الصفات أي الرب وما بعده (من صفات الذات) وهي حاصلة في مرتبة الذات غير

ص:280


1- 1 - قوله «لا يجوز أيضا أن يقال أراد أن يكون ربا» قال صدر المتألهين (قدس سره) وجه آخر للفرق وذلك أنه لما كانت الإرادة فرع القدرة لأنها عبارة عن اختيار أحد طرفي المقدور والعزم عليه لأجل تحقيق الداعي، فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا وقد علمت أن الصفات الذاتية غير المقدورة فهي غير مرادة أيضا، ولكونها غير مرادة وجه آخر وهو قوله «لأن هذه من صفات الذات والإرادة من صفات الفعل» معناه أن الإرادة لكونها من صفات الفعل فهي حادثة وهذه الصفات يعني الربوبية والقدم والعزة والحكمة والملك والعلم والقدرة ونحوها (اكتفى المجلسي (رحمه الله) بقوله يعني الربوبية والقدرة وأمثالهما) لكونها من صفات الذات فهي قديمة ولا يؤثر الحادث في القديم فلا تعلق للإرادة بشيء منها، وقوله «ألا ترى أنه يقال أراد هذا ولم يرد هذا» (اكتفى المجلسي (رحمه الله) بقوله ألا ترى) توضيح لكون الإرادة لا تتعلق بالقديم بأن إرادة شيء مع كراهة ضده والقديم لا ضد له انتهى. وأورده المجلسي (رحمه الله) بعين عبارته إلا فيما أشرنا إليه. واعلم أن البحث عن الصفات لدقته وابتنائه على الأصول العقلية والبراهين المنطقية وبعده عن منال عقول السذج كان عند الظاهريين منكرا مغفورا نظير نفرة الإخباريين عن الأصول ولما يكن في وسعهم التكلم فيه والتدبر في مسائله وكان الاعتراف بعجز أنفسهم ووجود عقول أعلى مرتبة من عقولهم شاقا عليهم أنكروا أصل البحث وقالوا إنه بدعة لم يرد به الشريعة وقال أبو محمد بن الحزم مع كمال تبحره وعلمه واطلاعه أن إطلاق لفظ الصفات لله عز وجل لا يجوز، وقال لم يرد لفظ الصفة في حديث إلا ما انفرد به سعيد بن أبي هلال في روايته عن عايشة «في رجل كان يقرأ قل هو الله أحد في كل ركعة وقال هي صفة الرحمن فأنا أحبها فأخبره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله يحبه آه» فانظر إلى جمودهم وفرارهم عن المعضلات وتدبر رواياتنا ودقتها وكلام المحدثين والمتكلمين منا في الصفات أدرك الفرق بين علوم أهل البيت وغيرهم وراجع صفحة 314. (ش)

منفكه عنها.

(والإرادة من صفات الفعل) أي الإرادة الحادثة التي هي إحداث الفعل وإيجاده من صفات الفعل غير حاصلة في مرتبة الذات فلا يرد أن الإرادة أيضا من صفات ذاته الحقة لأن هذه الإرادة هي الإرادة القديمة التي ليس كلام المصنف فيها.

(ألا ترى أنه يقال أراد هذا ولم يرد هذا) تنبيه على أن الإرادة من صفات الفعل لأن معيار صفات الفعل عند المصنف كما عرفت جواز اتصافه تعالى بها وبضدها في الوجود وقد تحقق هذا في الإرادة فإنه يصح أن يقال: أراد هذا الفعل لاشتماله على الخير والمصلحة ولم يرد ذلك الفعل لاشتماله على الشر والمفسدة وإذا كانت الإرادة من صفات الفعل وتلك الصفات المذكورة من صفات الذات وصفات الذات أزلية فلا يجوز أن يتعلق بها الإرادة لأنها إنما يتعلق بالأمر الحادث.

ثم أشار إلى أن صفاته الذاتية عين ذاته تعالى وأن المراد بها نفي أضدادها لا إثبات صفة له بقوله (وصفات الذات تنفي عنه بكل صفة منها ضدها) لم يرد أن إثبات كل صفة من هذه الصفات له مستلزم لنفي ضدها عنه بأن يكون هناك إثبات صريحا ونفي ضمنا لأن هذا الحكم أعني كون ثبوت وصف لأحد مستلزما لنفي ضده عنه أمر ضروري لا يحتاج إلى البيان ولأن إرادة هذا المعنى يوجب القول باختلاف المعاني وقد ثبت استحالة ذلك بالعقل والنقل بل أراد أن صفات الذات عين الذات لا زايدة عليها كما زعمه الأشاعرة والقول بعينيتها راجع إلى نفي أضدادها عنه.

(يقال حي وعالم وسميع وبصير) المراد بالسمع هو العلم بالمسموعات لا بكل شيء والمراد بالبصر هو العلم بالمبصرات لا بكل شيء فهما أخص من علمه المطلق المتعلق بجميع الأشياء، ومن قال بالإرادة وبأنها نفس العلم بما هو خير لنظام الوجود كانت الإرادة عنده أخص من العلم المطلق (وعزيز) يغلب الأشياء بالإيجاد والإفناء ولا يغلبه شيء فيذله (وحكيم) يحكم خلق الأشياء بحسن التقدير ولطف التدبير (غني) عن الغير غير مفتقر إليه (ملك) نافذ الحكم والقدرة لا يقدر شيء على صرف أمره ورد حكمه (حليم) لا يغيره جهل جاهل ولا عصيان عاص (عدل) لا يجور في الحكم ولا يميل إلى الظلم (كريم) يحسن من غير استحقاق ويعطي من غير استخفاف وإنما ترك العاطف في الخمسة الأخيرة لمجرد الاختصار أو للتحرز عن الاستثقال.

(فالعلم ضده الجهل) والمراد بكونه عالما بالأشياء أنه ليس جاهلا بشيء منها (والقدرة ضدها العجز) والمراد بكونه قادرا أنه ليس بعاجز (والحياة ضدها الموت) والمراد بكونه حيا أنه ليس بميت (والعزة ضدها الذلة) والمراد بكونه عزيزا أنه ليس بذليل (والحكمة ضدها الخطأ) والمراد

ص:281

بكونه حكيما أنه ليس بمخطئ في التقدير (والاتقان وضد الحلم العجلة والجهل) والمراد بكونه حليما أنه ليس بمتسرع في المؤاخذة كما هو شأن الجهال (وضد العدل الجور والظلم) والمراد بكونه عدلا أنه ليس بجائر ولا ظالم، وتغيير الأسلوب لمجرد التفنن.

ص:282

باب حدوث الأسماء

اشاره

الدالة على ذاته وصفاته التي هي عين ذاته.

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي ابن أبي حمزة، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت، وباللفظ غير منطق وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها وحجب منها واحدا وهو الاسم المكنون المخزون، فهذه الأسماء التي ظهرت، فالظاهر هو الله [تبارك و] تعالى: وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان، فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس الخالق، الباري، المصور، الحي، القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر. العلي العظيم المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن [البارئ] المنشئ، البديع، الرفيع الجليل، الكريم، الرازق، المحيي: المميت، الباعث، الوارث. فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، وذلك قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى).

* الشرح:

(علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى خلق إسما) قيل هو الله (1)

ص:283


1- 1 - قوله «قيل هو الله» قال الحكيم السبزواري في شرح الأسماء، بعد نقل كلام الشارح إلى قوله «لكمال الملائمة بينهما»: وفيه مؤاخذة لأنه ينبغي أن يقال ذلك الاسم مجموع هو الله الرحمن الرحيم أو مجموع هو الله العلي العظيم لا أنه هو وحده مثلا انتهى. ومقصوده أنه (عليه السلام) صرح بكون الاسم الأول أربعة أجزاء وكل واحد من الأجزاء اسم وليس كل واحد من أجزاء كلمة هو أو الله اسما وقد عد المجلسي (رحمه الله) وقبله صدر المتألهين هذا الحديث من معضلات الأخبار وقالا: إن ما يذكر في شرحه ينبغي أن يكون على سبيل الاحتمال لا القطع بالمراد. ولا ريب أنه ليس المراد ترك جميع الناس أمثال هذا الخبر وترك التعرض لفهم معناه إذ لو كان كذلك لم يكن فائدة في بيان الأئمة (عليهم السلام) ونقل الرواة بل المراد ترك تعرض لكل ممن يستعد أو لا يستعد ويعرف الدقائق أو لا يعرف فإن الناس يختلفون في العلم والإيمان بعضهم يستعد لفهم بعض العلوم ولا يستعد لفهم غيرها كما نراه في الطب والهندسة والأدب ولو حمل إيمان بعضهم على بعض لم يطق كما ورد في الخبر ويجب أن يكون تفسير الأحاديث كتفسير القرآن على وجه يجوز في اللغة العربية وينطبق على العقل الواقع ويكون معنى صحيحا قابلا للتطبيق على عبارة الحديث لا إبداء كل معنى يريد المفسر وكل دعوى غير مؤيدة بدليل كما ارتكبه أتباع الإحسائي وقول من يدعي أن المسائل الدينية يجب أن يكون مما يفهمه جميع الناس. قول باطل والصحيح أن ما يجب إيمان جميع الناس به يجب أن يكون مما يفهمونه جميعا وأما إن كان في المسائل حكم غامضة فهي مختصة ببعضهم ولا يجب على غيرهم التعرض لفهمها كما لا يجوز لهم إنكارها وقد ورد أن حديثهم صعب مستصعب يعنون بعضها وأضعف التفاسير وأردؤها قول من جعل هذا الاسم الماء أي العنصر الرطب المعروف وينبغي أن يعد في الظرائف والمضاحك. (ش)

وقيل هو اسم دال على صفات ذاته جميعا وكان هذا القائل وافق الأول لأن الاسم الدال على صفاته جميعا هو الله عند المحققين، ويرد عليهما أن «الله» من توابع هذا الاسم المخلوق أولا كما يدل عليه هذا الحديث، ويحتمل أن يراد بهذا الاسم اسم دال على مجرد ذاته تعالى من غير ملاحظة صفة من الصفات معه وكأنه «هو» ويؤيده ما ذكره بعض المحققين من الصوفية من أن «هو» أشرف أسمائه تعالى وأن «يا هو» «أشرف الأذكار لأن هو إشارة إلى ذاته من حيث هو هو، وغيره من الأسماء يعتبر معه صفات ومفهومات لها إضافة ما إلى عالم الحدوث الذي هو عالم الكثرة والتفرقة حتى أن تلك المفهومات قد تكون حجابا بينه وبين العبد وأيضا إذا قلت هو الله الرحمن الرحيم الغفور الحليم كان «هو» بمنزلة الذات وغيره من الأسماء بمنزلة الصفات والذات أشرف من الصفات فهو أشرف الأسماء، ويحتمل أيضا أن يراد به العلي العظيم لدلالة الحديث الآتي عليه حيث قال (عليه السلام) «فأول ما اختاره لنفسه العلي العظيم» إلا أن ذكره في أسماء الأركان ينافي هذا الاحتمال ولا يستقيم إلا بتكلف وهو أنه مزج الأصل مع الفرع للإشعار بالارتباط ولكمال الملائمة بينهما، ويحتمل أن يكون المراد منه إسما آخر غير معروف عندنا لأن له تعالى أسماء مكنونة لا يعلمها إلا هو وخواص أوليائه كما يظهر لمن تصفح الآثار وحينئذ يراد بالأولية المذكورة الأولية بالإضافة إلى الأسماء الظاهرة لنا، وأما حمل الاسم هنا على المسمى يعني خلق مفهوما عظيما من

ص:284

مفهومات الأسماء وجعل ما بعده صفة له لدلالته على أن ذلك الاسم ليس من باب الحرف والصوت فبعيد جدا.

(بالحروف غير متصوت) (1) «غير متصوت» حال عن فاعل «خلق» (2) والجار متعلق بمتصوت يعني خلق الله سبحانه إسما والحال أنه لم يتصوت بالحروف ولم يخرج منه حرف وصوت لتنزه قدسه عن ذلك (وباللفظ غير منطق) بضم الميم وكسر الطاء من أنطق بالكلام إذا تلفظ به (وبالشخص غير مجسد) الجسد البدن، والمجسد من أكملت خلقته البدنية وتمت تشخصاته الجسمية (وبالتشبيه غير موصوف وباللون غير مصبوغ) (3) لاستحالة ذلك سبحانه (منفي عنه الأقطار) أي الأبعاد لاستحالة الامتداد والجسمية عليه (مبعد عنه الحدود) لامتناع التكريب والانقطاع والانتهاء عليه (محجوب عنه حس كل متوهم) لتعلق إدراك الحس بالجسم

ص:285


1- 1 - قوله «قوله بالحروف غير متصوت» يعني أن الاسم ليس من باب الألفاظ، فإن قيل كيف يصح إطلاق الاسم على ما ليس بلفظ، وما مصحح المجازية فيه؟ قلنا مصحح المجازية فيه علاقة الدال والمدلول كما تقول: هذا لفظ قبيح، وهذا لفظ ركيك، أي معناه قبيح ومعناه ركيك وهذا كلام موهن أي معناه يوجب الوهن وفي القرآن «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق». (ش)
2- 2 - قوله «حال عن فاعل خلق» قال الحكيم السبزواري (قدس سره): فيه بعد غاية البعد ولا سيما التنزيه عن الجسمية والكمية والكيفية وغيرهما ليس فيه كثير مناسبة بخلق ذلك الاسم ولا خصوصية له بل المتصوت والمنطق بصيغة المفعول والكل صفة الاسم على ما سنذكره انتهى. أقول جعل الشارح هذه الصفات كلها لله تعالى أي خلق تعالى هذا الاسم وهو تعالى منزه عن الحرف والصوت وأن يكون جسدا يخرج منه الصوت وغير مشبه إلى آخر وهذا بعيد من الشارح (رحمه الله) إلا أن في بعض نسخ التوحيد للصدوق على ما حكاه المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول زيادة توجب إرجاع الصفات إلى الله تعالى، فيه هكذا «خلق اسما بالحروف وهو عز وجل بالحروف غير منعوت» لا ريب في زيادة قوله عز وجل من النساخ. وأورد القاضي سعيد عبارة التوحيد هكذا «خلق اسما بالحروف غير منعوت» وجعل الفرق بينه وبين عبارة الكافي تبديل منعوت بمصوت وقال عبارة الكافي توجب إرجاع الصفات إلى الاسم وعبارة التوحيد إلى الله تعالى وكأنه لأن غير المصوت من صفات الاسم وغير المنعوت من صفات الله تعالى، والذي يظهر لي أن كل واحد منهما يمكن في نفسه أن يجعل صفة للواجب تعالى وللاسم أيضا لكن في هذا الحديث احتمال إرجاع هذه الصفات إلى الله تعالى بعيد غريب وأتعجب جدا ممن احتمله والصحيح الذي لا ريب فيه أنها صفات الاسم يعني أن الله خلق اسما هذا الاسم ليس ملفوظا ومتصوتا ومنطقا كالحروف ولا مصبوغا بلون ولا مقدرا بمقدار ومحسوسا بالبصر كنقوش الكتابة واصطلاح العرفاء في الاسم ذلك أيضا ويعدون الحروف الملفوظة اسم الاسم فالاسم اعتبار الذات مع صفة من صفاته ويدل على هذا المعنى روايات كثيرة ربما يأتي التنبيه عليها. (ش)
3- 3 - قوله «باللون غير مصبوغ» يشير إلى الكتابة وكذا قوله «منفي عنه الأقطار - إلى قوله - محجوب عنه حس كل متوهم» لئلا يزعم أن نقوش الكتابة عين أسماء الله تعالى. (ش)

والجسمانيات وألله سبحانه منزه عن الجسمية ولواحقها (مستتر غير مستور) (1) أي مستتر عن الحواس غير مستور عن القلوب الصافية، أو مستتر من غير ستر يستره، لأن الستر العرفي إنما يستر الأجسام وتوابعها.

(فجعله كلمة تامة) (2) أي فجعل ذلك الاسم كلمة تامة لكماله وتمامه بالذات وعدم كونه تابعا

ص:286


1- 4 - قوله «مستتر غير مستور» هذا أيضا صفة لواجب الوجود عند الشارح وللاسم عند غيره، وبناء على كونها من صفات الاسم كما هو الحق يجب تشخيص معنى الاسم من التدبر في هذه الصفات فقوله بالحروف غير متصوت يدل على أن المراد بالاسم هنا ليس لفظه بل هو شيء غير الكلام والحروف ولا بد أن يكون من الحقائق الخارجية وقوله «بالشخص غير مجسد» دليل على أن هذا المخلوق غير جسماني بل موجود مجرد روحاني إذ الممكن لا يخرج عن هذين القسمين وكذلك أكثر ما ذكره بعده يؤكد عدم كونه جسما وقوله بالتشبيه غير موصوف يدل على عدم كونه عقلا أو نفسا إذ لو كان أحدهما لكان شبيها بهما إلا أن يدعي تبادر عدم التشبه بالجسمانيات وقوله «محجوب عنه حس كل متوهم» ينفي كل شيء يمكن توهمه أي تصوره كالنفس والعرض إذ لو كان اللفظ صوتا لم يحجب عن حس السمع ولو كان نفسا لم يحجب عن الإدراك مطلقا فإن النفس معقول للناس عامة فبقى أن يكون شيئا فوق العقل أو في مرتبة العقل الكلي والأول أظهر فإن العقل معقول أيضا ثم أن الشيء الذي فوق العقل بناء على ما سبق من أن العقل أو ما خلق الله لا يكون غير الله تعالى وصفاته فتحصل من جميع ذلك أن الاسم هنا هو الذات باعتبار صفة وتتكثر الأسماء بتكثر الصفات وليس تكثر الصفات والأسماء تكثرا حقيقيا لأن صفاته تعالى عين ذاته بل تكثرها تكثر اعتباري وعلى هذا فمعنى قوله (عليه السلام) خلق اسما ليس بمعناه المتبادر من إيجاد شيء مباين مفارق لذات واجب الوجود بل بمعنى استلزام الذات للصفات المستلزمة للأسماء نعم يصح نسبة الخلق بمعناه المتبادر إلى الأسماء باعتبار مظاهرها، وقال القاضي سعيد (قدس سره) أن هذه الصفات لا توجد إلا في العقل الأول الكلي فذلك الاسم عبارة عنه قال أستادنا في العلوم الدينية في جامعة الوافي الاسم دل على الذات الموصوفة بصفة معينة سواء كان لفظا أو حقيقة من الحقائق الموجودة في الأعيان فإن الدلالة كما يكون بالألفاظ كذلك يكون بالذات إلى آخره. ثم قال القاضي ولك أن تحمل ذلك الاسم المقدس على الأمر النازل من المبدء الأعلى بظهور الصادر الأول بحيث يكون الصادر الأول مظهرا لذلك الأمر وعند محققي أهل العرفان بالوجود اللا بشرط وعند بعضهم بالمرتبة الواحدية وعند طايفة بمرتبة الألوهية وعند آخرين بالفيض الأقدس وبالجملة هو المعنى الذي يتحقق به الأشياء وهي تستفيده من المبدء الأعلى وهو حقيقة مجهولة. انتهى كلام القاضي. وله تحقيقات رشيقة لا يسع المقام وأما صدر المتألهين (قدس سره) فبعد ما أمعن في معاني أوصاف هذا الاسم في الحديث قال فلم يبق في الاحتمال العقلي إلا أحد أمرين أما الوجود المطلق والفضل الرحماني أو العقل المفارق وكل منهما صالح محتمل في جليل النظر بصدق هذه النعوت والأوصاف عليه إلا أن دقيق النظر يرجع الأول بوجوه من الترجيح بعضها ذكر وعلم وبعضها سيظهر انتهى كلامه وهو أصل كل تحقيق لغيره. (ش)
2- 1 - قوله «فجعله كلمة تامة» كل اسم يدل على الذات باعتبار صفة من صفاته تعالى كالعالم للذات باعتبار صفة العلم والقهار باعتبار صفة القهر لكن الاسم الأول سمة للذات باعتبار جميع الصفات الكمالية مما نعلمها أو لا نعلمها ولذلك سماه (عليه السلام) كلمة تامة فإن قيل كيف لم يصرح (عليه السلام) بهذا الاسم ولم يبين ما هو قلنا لأنه لا يوجد في لغة يفهمها الإنسان كلمة تدل أو اسم ينبئ عن الذات باعتبار جميع صفاته وإن كان قد يقال إنه هو الله ولكن الحق أنه يدلنا على الذات الجامع لصفات الكمال التي نعرفها ونستطيع أن نعبر عنها لا لجميع ما يتصف به ذات الواجب هذا بناء على اصطلاحهم في الأسماء وأما العقل الأول أو الفيض الأقدس أو المقدس على ما ذكره بعضهم فعدم التعبير عنه لعلة لا نعلمها أو لعدم الحاجة ولما علم من مطاوي الأخبار والآثار أن خلق كل شيء باسم من أسمائه تعالى وأن ذلك الشيء مظهر ذلك الاسم فالاسم الأعظم الذي وصفة الإمام بالكلمة التامة إن كان له مظهر في عالم الإمكان هو الفيض المقدس أو العقل الأول الذي هو أشرف الموجودات بعد واجب الوجود إذ لا بد أن يكون مظهر أكمل الأسماء أكمل الموجودات. (ش)

لغيره من الأسماء الحسنى أو لتمامه باعتبار كونه أصلا ومبدءا لجميع تلك الأسماء أن المسمى به وهو الله تعالى مبدء لجميع الأشياء أو لتمامه في الدلالة على ذاته الحقة من غير ملاحظة صفة من الصفات معه، وقيل: لتمامه باعتبار دلالته على ذات جامعة لجميع صفات الكمال.

(على أربعة أجزاء (1) معا ليس منها واحد قبل الآخر) أي جعله على أربعة أسماء باشتقاقها وانتزاعها منه وتلك الأسماء في مرتبة ذواتها ملحوظة معا من غير ترتب بعض على بعض كترتب الخالق والرازق على العالم والقادر (فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها) (2) في تحصيل

ص:287


1- 1 - قوله «على أربعة أجزاء» لا ريب أن أسماء الله تعالى بعضها أعم من بعض ويجوز إرجاع كثير منها إلى اسم واحد وكذلك الصفات ولذلك عد الأشاعرة الصفات الثبوتية سيما مع عدم انحصارها في هذا العدد لكنها حصروها بإرجاع كثير إلى واحد مثلا السميع والبصير إلى العالم، والخالق والرازق إلى القادر وهكذا الإمام (عليه السلام) أرجع جميع أسمائه تعالى إلى أربعة والأربعة إلى واحد وأما تعيين الأربعة فأحدها مكنون والثلاثة ظاهرة على ما يستفاد من تمام الحديث. (ش)
2- 2 - قوله «فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها» يستفاد من هذه العبارة أمور الأول: أن كل جزء من الأجزاء الأربعة التي مر ذكرها اسم من أسمائه تعالى فيستلزم أن يكون الاسم الأول مركبا من أربع كلمات نظير هو الله الرحمن الرحيم فيكون مجموع الأربعة اسما واحدا مركبا من أسماء أربعة لكن لما صرح الإمام (عليه السلام) سابقا بكونها معا لا يتقدم أحدها على الآخر والأسماء الملفوظة لا بد أن يكون بعضها مقدما على بعض وجب أن يستنتج منها أن الجزء بمعنى الخاص الواقع تحت العام وأن معيتها باعتبار مدلولها لأن كل واحد عبارة عن الذات مع صفة ولا يتقدم صفة على صفة واقعا وإن كان اللفظ الدال على أحد بها مقدما في التكلم ولا يجب أن يكون لكل جزء من الأجزاء أي لكل اسم من الأربعة مظهر متعين في عالم الإمكان نعلمه. الأمر الثاني: ظهور ثلاثة أسماء بمعنى علم المخلوقين بمفاهيم الصفات الكمالية وقدرة التعبير بلفظ يدل عليه وبقاء اسم واحد مخزونا عنده لعدم إمكان تعقل الناس له ويلزمه عدم قدرتهم على التعبير عنه. الأمر الثالث: أن الخلق مفتاقون إلى الأسماء الثلاثة قالوا: إن كل شيء يوجد في العالم فهو بتأثير اسم من أسمائه وفي دعاء السمات «اللهم إني أسئلك باسمك العظيم الأعظم الأعز الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت وإذا دعيت به على مضائق أبواب الأرض للفرج انفرجت - إلى آخره» وفي بعض أدعية ليلة عرفة «وباسمك الذي سخرت به البراق لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» وفيه أيضا «باسمك الذي شقت به البحار وقامت به الجبال واختلف به الليل والنهار» وفيه «أسألك باسمك الذي كتبته على سرادق المجد» وتجد مثل ذلك كثيرا في الأدعية ولذلك قالوا كل شيء مظهر لاسم من أسماء الباري لأنه تعالى خلقه بذلك الاسم. (ش)

كمالهم وتكميل نظامهم في الدنيا والآخرة.

(وحجب منها واحدا وهو الاسم المكنون المخزون) (1) الذي لا يعلمه إلا هو ولا ينطق به الخلق أبدا حتى الأنبياء (عليهم السلام) وقد استأثره الله تعالى في علم الغيب ولم يأذن لأحد الاطلاع عليه، وهذا الاسم من جملة الاسم الأعظم الذي لا يرد سائله والاسم الأعظم كثير ففي حديث الراهب المذكور في مولد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه سبعة وفي باب ما أعطى الأئمة (عليه السلام) من أسم الله الأعظم أنه ثلاثة وسبعون اسما قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا

ص:288


1- 1 - قوله «وهو الاسم المكنون المخزون» قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في وجه تربيع الأجزاء وكون واحد مخزونا عنده والثلاثة الباقية وظاهر الاسم الجامع هو الاسم الذي يدل على الذات مع جميع الصفات الكمالية ولما كانت أسماؤه تعالى ترجع إلى أربعة لأنها إما أن تدل على الذات أو الصفات الثبوتية الكمالية أو السلبية التنزيهية أو صفات الأفعال فجزى ذلك الاسم الجامع إلى أربعة أسماء جامعة واحد منهما للذات فقط فلما ذكرنا سابقا استبد تعالى به ولم يعطه خلقه وثلاثة منها متعلقة بالأنواع الثلاثة من الصفات فأعطاها خلقه ليعرفوه بها بوجه من الوجوه فهذه الثلاثة حجب ووسايط بين الخلق وبين هذا الاسم المكنون إذ بها يتوسلون إلى الذات وإلى الاسم المختص بها» انتهى كلامه. وهو مقتبس من كلام والده (قدس سره) كما يظهر من مطاوي كلامه. وقال صدر المتألهين (قدس سره) وأما كونه على أربعة أجزاء ليس منها واحد قبل الآخر فاعلم أن تلك الأجزاء ليست أجزاء خارجية ولا مقدارية ولا حدية بل إنما هي معان واعتبارات ومفهومات أسماء وصفات فيمكن أن يقال بوجه أن المراد منها صفة الحياة والعلم والإرادة والقدرة فإن أول الصوادر سواء اعتبر عقلا أو وجودا منبسطا يصدق عليه أنه في عالم مريد قادر فهذه الأربعة هي أمهات الأسماء الإلهية وما سواها كلها مندرجة تحت هذه الأربعة ثلاثة منها مضافة إلى الخلق لأن العلم والإرادة والقدرة من الصفات الإضافية فهي طالبة لمعلوم ومراد ومقدور وواحد منها ليس كذلك وإليه أشار بقوله (عليه السلام) «فأظهر منها ثلاثة لفاقة الخلق إليها وحجب منها واحدة» انتهى. وهذا أبين من كلام والد المجلسي (رحمه الله) فإنه بين أن فاقة الخلق إنما هي في الصفات الإضافية ثم أن الاسم الدال على الذات بغير اعتبار صفة لا يسمى في الاصطلاح اسما وعلى كلاهما مؤاخذة هو أن واحدا من الأسماء مكنون مخزون لا يعلمه أحد وكذا الاسم الجامع المشتمل على الأربعة فلا يصح التصريح بأن المكون هو اسم الحي أو لفظة «هو» كما صرح به المجلسي (رحمه الله) بعد ذلك. ولعله يمكن تأويل كلامهما بوجه صحيح وقد صرحا (رحمهما الله) بأن ما يذكر أن في تفسير هذا الحديث ليس على وجه الحكومة والتسجيل وفي بعض أدعية عرفة «وأسألك باسمك المخزون في خزائنك الذي استأثرت به في علم الغيب عندك لم يظهر عليه أحد من خلقك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد مصطفى». (ش)

اعطي محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه واحد». وقال أبو الحسن العسكري (عليه السلام): «اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب» أقول:

المراد بالحرف الاسم وإطلاقه عليه شايع والمراد بهذا الاسم المكنون هو هذا الحرف الذي عند الله تعالى مستأثر به في علم الغيب وقد سكت الناظرون في هذا الحديث وهم محققون في السكوت عن أمثال هذه الغوامض إلا أنهم أخطأوا في تعيين هذا الاسم المكنون فقال بعضهم إنه الهاء وقال بعضهم إنه اللام وقال بعضهم إنه الألف كذا نقل عنهم بعض الأفاضل ولا أدري ما يعنون بذلك.

(فهذه الأسماء التي ظهرت فالظاهر هو الله تعالى) أي الظاهر البالغ (1) إلى غاية الظهور وكماله من بينها هو الله تعالى، ويؤيد أنه يضاف غيره إليه ويعرف به، فيقال «الرحمن» اسم الله، ولا يقال «الله» اسم الرحمن، وليس المراد أن المتصف بأصل الظهور هو الله لأن غيره أيضا متصف بالظهور كما قال (وأظهر منها ثلاثة) وهذا صريح في أن أحد هذه الثلاثة الظاهرة هو الله وأما الآخران فلا نعلمهما على الخصوص، ويحتمل أن يراد بهما الرحمن الرحيم، ويؤيده آخر الحديث كما سنشير إليه، واقترانهما مع الله في التسمية ورجوع سائر الأسماء الحسنى إلى هذه الثلاثة عند التأمل لأن بعض تلك الأسماء دل على المجد والثناء فهو تابع لله، وبعضها دل على إفاضة الوجود والخيرات الدنيوية فهو تابع للرحمن، وبعضها دل على إضافة الخيرات الاخروية فهو تابع للرحيم إلا أن عد الرحمن الرحيم في جملة ما يتفرع على الأركان ينافي هذا الاحتمال ولا يستقيم إلا بتكلف مذكور، وكأن العبارة كانت في نسخة بعض الأفاضل هكذا «فالظاهر هو الله تبارك وتعالى» فلذلك قال يعني، أن الظاهر ما يفهم من هذا اللفظ فأحدها: ما يفهم من لفظ الله وهو إله وثانيها: ما يفهم من لفظ تبارك وهو جواد وثالثها: ما يفهم من لفظ تعالى وهو أحد، وأنت خبير بأن هذا القول من باب الرجم بالغيب (2).

ص:289


1- 1 - قوله «أي الظاهر البالغ» هذا الكلام من الشارح ينافي ما سبق منه من أن الاسم الأول المشتمل على أربعة أجزاء هو الله ويؤكد مؤاخذة الحكيم السبزواري (قدس سره) عليه. (ش)
2- 2 - قوله «من باب الرجم بالغيب» بعد ما اعترف الأعاظم بأن ما يذكرون في تأويل الحديث من باب الاحتمال لا على وجه التسجيل ينبغي أن لا يعترض على هذا القائل إذ المتيقن أنه مذكور من باب الاحتمال أيضا وبالجملة في تفسير قوله (عليه السلام) «الظاهر هو الله» وجوه الأول تفسير الشارح وهو أن الظاهر البالغ في الظهور من بين الثلاثة هو اسم الله واسمان غيره أيضا ظاهر أن لكن لا بذلك الظهور وهما الرحمن الرحيم. الوجه الثاني: ما ذكره هذا الفاضل وهو أن الظاهر ثلاثة أسماء الأول: الله، والثاني: تبارك، والثالث: تعالى، الوجه الثالث: ما ذكره الحكيم السبزواري أخذا من صدر المتألهين أن المراد أن الظاهر هو الله تعالى في ثلاثة أسماء هي ظهورات له لا أن الله اسم من الثلاثة وعلى ذلك فشئ من الثلاثة الظاهرة غير مذكور. الرابع: ما يختلج بالبال وهو أن الظاهر هو الله تعالى يعني أن جميع الأسماء الظاهرة مجتمعة في هذا الاسم كأنه (عليه السلام) قال الاسم الأول على أربعة أجزاء واحد مكنون مخزون والثلاثة الباقية مجتمعة في اسم الله تعالى فإنه جامع للكمالات التي نتعقلها. (ش)

(وسخر لكل اسم من هذا الأسماء) الثلاثة الظاهر (أربعة أركان) اعتبار الأركان لها إما على سبيل التخييل والتمثيل أو على التحقيق باعتبار حروف هذه الأسماء فإن الحروف المكنونة في كل واحد من الأسماء المذكورة أربعة وسميت حروفها أركانا باعتبار أن تمامها وقوامها إنما يتحقق بتلك الحروف، ويحتمل أن يراد بالأركان كلمات تامة مشتقة من تلك الكلمات الثلاثة أو من حروفها وإن لم نعلمها بعينها (فذلك اثنى عشر ركنا) حاصل من ضرب ثلاثة في أربعة.

(ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين إسما فعلا) (1) أي اسما دالا على فعل من أفعاله تعالى حتى حصل ثلاثمائة وستون اسما (منسوبا إليها) أي إلى الأركان الأربعة بأن يقال لها أسماء الأركان أو إلى الأسماء الثلاثة الظاهرة بتوسط الأركان كنسبة الفرع إلى الأصل ونسبة المشتق إلى المشتق منه ومن علم هذه الأسماء الثلاثة وأركانها الأربعة والأسماء المتعلقة بتلك الأركان ولا حظ المناسبات.

المخصوصة لو دعا بهن على الجبال لأطارها وعلى الأرض لأزالها (فهو الرحمن) بجميع الخلق في الدنيا (الرحيم) بالمؤمنين في الآخرة (الملك) في عالم الملك والملكوت لكونه متصرفا فيه كيف يشاء (القدوس) الطاهر عن النقايص والأضداد والمنزه عن الأولاد والأندار (الخالق) الموجد بلا مثال أو المقدر لهم لأن الخلق جاء بمعنى التقدير أيضا.

(الباري) الخالق بلا همة ولاروية وقد يخص بخلق النسمة، وقال في المغرب الباري في صفات

ص:290


1- 1 - قوله «ثلاثين اسما فعلا» أي اسما دالا على فعل قد علم مما سبق أن كل فعل من أفعال الله تعالى مظهر لاسم من أسمائه وهذا تصريح به ولما كان المظهر بوجه متحدا مع الظاهر صح إطلاق أحدهما على الآخر كما تشير إلى كتابة لفظ الماء وتقول هذا رطب بارد وإلى كتابة النار وتقول هي حارة يابسة وفعلا في عبارة الحديث بدل من قوله اسما بدل الكل من الكل أي هذه الثلاثون اسما ثلاثون فعلا من أفعاله تعالى وبذلك صح تطبيق بعض علمائنا الأسماء المذكور في هذا الحديث على مظاهرها مثل تطبيق الكلمة التامة في صدر الحديث على العقل الأول أو روح خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الفيض المقدس والأجزاء الأربعة على العقل والنفس والطبع والجرم احتمالا ولا تستغرب ذلك بعد تصريح لفظ الحديث بأن كل اسم هو فعل من أفعال الله تعالى ولكن بعض الناس يزعم كل شيء يستعر فهمه باطلا ثم أنه قد ورد في الأحاديث أن الأئمة عليهم السلام هم أسماء الله الحسنى ويظهر معناه بفضل هذا الحديث فإنهم (عليهم السلام) مظاهر لأسمائه تعالى. (ش)

الله تعالى الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت (المصور) الخالق للخلق على صور مختلفة ليتعارفوا بها، قال الشيخ بهاء الملة والدين في مفتاح الفلاح: قد يظن أن هذه الأسماء الثلاثة مترادفة لأنها بمعنى الإيجاد والإنشاء وليس كذلك بل هي أمور متخالفة ألا يرى أن البنيان يحتاج إلى التقدير في الطول والعرض وإلى إيجاد بوضع الأحجار والأخشاب على نهج خاص وإلى تزيين ونقش وتصوير فهذه امور ثلاثة مترتبة يصدر عنه جل شأنه في إيجاد الخلائق من كتم العدم، فله سبحانه باعتبار كل منها اسم على ذلك الترتيب.

(الحي القيوم) المدرك الدائم بلا زوال القائم على كل شيء بالحفظ والرعاية (لا تأخذه سنة ولا نوم) إشارة إلى اعتبارات سلبية، والسنة فتور يتقدم النوم (العليم) بجميع الأشياء كليها وجزئيها قبل وجودها وبعدها (الخبير) بدقائقها وحقايقها (السميع) العليم بالمسموعات (البصير) العالم بالمبصرات (الحكيم الموجد للأشياء على وفق المصالح والتقدير والمتقن لإيجادها على وفق الحكمة والتدبير (العزيز) الذي لا يعاد له شيء ولا يغلبه أحد (الجبار) الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما ليس لهم فيه اختيار، أو يجبر حالهم ويصلح نقائصهم (المتكبر) المنزه عن الحاجة والنقص (العلي) العالي على الخلق بالقدرة عليهم أو المرتفع عن الأشياء والاتصاف بصفاتهم (العظيم) الذي لا يدرك أحد كنه جلاله ولا يعرف نهاية كماله (المقتدر) الذي له اقتدار تام بحيث لا يجري شيء في ملكه بخلاف حكمه (القادر) الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل (السلام) وهو مصدر معناه ذو السلامة من كل عيب وآفة، أو معناه المسلم لأن السلامة تنال من قبله (المؤمن) الذي يصدق وعده أو يصدق ظنون عباده ولا يخيب آمالهم أو يؤمنهم من الظلم والجور أو يؤمن من عذابه من أطاعه (المهيمن) وهو الرقيب الحافظ لكل شيء أو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول وفعل وأصله مأءمن بهمزتين من أءمن قلبت الثانية ياء كراهة اجتماعهما فصار مأيمنا ثم صيرت الاولى هاء كما قالوا أهراق الماء وأراقه.

(الباري) الظاهر أنه مكرر من الناسخ (المنشئ) بلا مثال من الغير (البديع) بلا مثال سابق منه (الرفيع) لرفعة ذاته وصفاته من ذوات الممكنات وصفاتهم (الجليل) لجلال ذاته وقدرته على الإطلاق بحيث يصغر دونه كل جليل (الكريم) لإضافة جوده بلا استحقاق (الرازق) لجريان رزقه على كل بر وفاجر (المحيي) لإفاضة الحياة ابتداء وبعد الموت (المميت) لإزالة الحياة عن كل ذي حياة بلا مماسة ولا آلات (الباعث) لبعث الخلائق بعد الممات وإعادتهم بعد الوفاة (الوارث) لرجوع الأملاك إليه بعد فناء الملاك واسترداد أملاكهم ومواريثهم بعد موتهم كما قال جل شأنه (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).

ص:291

(فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستون إسما (1) فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة) النسبة بالكسر مصدر والحمل على سبيل المبالغة أو المصدر بمعنى المفعول (وهذه الأسماء الثلاثة أركان) لتلك الأسماء الحسنى واصول لها (وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة) الظاهر أن الجار متعلق بحجب والباء للسببية يعني حجب ذلك الاسم الواحد عن الخلق بسبب ظهور هذه الأسماء الثلاثة وكفايتها لهم في جميع حوائجهم.

والمقصود من هذا الحديث أن جميع أسمائه تعالى مخلوقة حادثة وأنه تعالى خلق أولا اسما واحدا ثم جعل هذا الاسم أصلا لأربعة أسماء وجعل واحدا من هذه الأربعة مكنونا مخزونا عنده مستأثرا به في علم الغيب وأظهر ثلاثة بين خلقه لحاجتهم إليها، ثم جعل هذه الثلاثة أصلا لاثني عشر اسما وجعل كل واحد من اثني عشر أصلا لثلاثين اسما حتى بلغ العدد ثلاثمائة وستين إسما فالثلاثمائة وستون يرجع إلى اثني عشر واثنا عشر يرجع إلى ثلاثة والثلاثة ترجع إلى ذلك الواحد

ص:292


1- 1 - قوله «حتى يتم ثلاثمائة وستون اسما» ما أشبه تقسيم الأسماء بهذا النحو تقسيم أهل علوم الرياضة الدائرة الفلكية مدار النجوم بالأرباع والبروج والدرجات فقسموا الدائرة على اثني عشر برجا وكل برج على ثلاثين درجة فيصير درجات الفلك ثلاثمائة وستين وكذلك قسم الإمام (عليه السلام) الأسماء وهي مدار عالم الوجود على اثني عشر اسما ثم كل اسم على ثلاثين فصار الحاصل ثلاثمائة وستين اسما، وكما أن أجزاء الفلك غير متناهية واقعا إذ ينقسم المقدار إلى غير النهاية لبطلان الجزء الذي لا يتجزأ ولكن يقسمونه بوجه على ما ذكر كذلك صفات الله تعالى وأسماؤه غير متناهية لا تنحصر في ثلاثمائة وستين قطعا وإنما هو تقسيم بوجه. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) ما معناه أنه تكلف بعض الناظرين في الخبر بأبعد من بين السماء والأرض فجعل الاثني عشر كناية عن البروج الفلكية والثلثمائة والستين عن درجاتها. وأقول: بعد ما سبق أن الاسم هو الفعل من أفعال الله تعال وأن فعله مظهر لاسمه لم يبعد التطبيق بين عدد درجات الفلك وبروجه وعدد الأسماء ولم يجعل أحد هذه الأسماء كناية عن هذه الدرجات بحيث يكون هي المراد بالبيان كما في الكنايات إذ ليس شأن الإمام (عليه السلام) تعليم الهندسة وتقسيم الدائرة ولا يصح إطلاق كل لفظ على كل معنى بأن يقول الكلمة التامة ويريد الدائرة ويطلق الركن ويريد البرج ويطلق الاسم ويريد الدرجة فإن هذه الاطلاقات غير معروفة توجب حيرة المستمع وإضلاله ومثل هذا العمل يناسب أصحاب المعمى واللغز فثبت أن مراد القائل تطبيق الأسماء على مظاهرها لا على سبيل التسجيل كما مر ولا ريب في ثبوت المناسبة كما قال بعد ذكر تقسيم الأسماء الحسنى ولهذه المناسبة انقسمت الأفلاك اه. وهذا الاستغراب بعيد من المجلسي (رحمه الله). وبيان الأمور بالمناسبة ضمن نقل آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية معهود معروف ألا ترى أنهم ذكروا عند نقل الآية الكريمة «أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا» عدد الأئمة (عليهم السلام) بمناسبة الاشتراك في العدد وعند قوله تعالى منها «أربعة حرم» أن أربعة منهم (عليه السلام) يسمون عليا وليس مرادهم أن لفظ الآية واقع على هذا المعنى. (ش)

فذلك الواحد مبدء ومرجع لجميع الأسماء كما أن الواحد الحق وهو سبحانه مبدء ومرجع لجميع الأشياء، والتصديق بهذا القدر واجب علينا (1) وكاف لما نحن بصدده من الحكم بحدوث الأسماء، وأما تعيين ذلك الواحد وما خرج منه بالغا ما بلغ فليس له مدخل في أصل المطلب وهو مع ذلك خارج عن أفهامنا فلو عيناه كان ذلك رجما بالغيب (2).

ص:293


1- 1 - قوله «والتصديق بهذا القدر واجب» ظاهره غير صحيح وغير مراد البتة إذ لم يقل أحد من المسلمين بوجوب التصديق بعدد أسماء الله تعالى وأنها ثلاثمائة وستون أو أقل أو أكثر وأن الأكثر منها يرجع إلى الأقل وغير ذلك مما ذكره بل لا يجب التعرض لتحقيق أمثال هذه الأمور والمسائل ولو كان العلم بها واجبا لم يكن هذا الخبر كافيا في البرهان عليه لأنه خبر واحد ضعيف الإسناد وإنما أتى به لتأييد حكم العقل فيما للعقل إليه طريق كحدوث الألفاظ الدالة على أسماء الله تعالى نعم يصح كلام الشارح (رحمه الله) بناء على فرض غير واقع وهو أن يعلم يقينا صدور هذا الخبر بجميع خصوصيات ألفاظه من المعصوم وفرض اطلاع جميع أفراد المؤمنين على هذا الخبر، نعم يجب الاعتراف بحدوث كل شيء غير الله تعالى أعني عدم وجود شريك له في القدم الذاتي وأما الاسم فقد يطلق على هذه الألفاظ كالألف واللام والراء والحاء والميم والنون ولا شك أنه حادث وقد يطلق على الذات بقيد الاتصاف بصفة لكون اللفظ دالا عليه كما يطلق الحاكي على المحكي ولا يجوز إطلاق الحدوث عليه فلا يقال الرحمن الرحيم حادث فإن معناه أن الله تعالى حادث وثالثة يطلق على مظهر الاسم من الممكنات كما يطلق الغيث على النبات والسماء على المطر قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وان كانوا غضابا فهذه الثلاثة احتمالات في المراد من الاسم في هذا الحديث أما الاحتمال الأول فقد صرح فيه بأنه غير مراد إذ قال وخلق اسما بالحروف غير متصوت وأما الاحتمال الثاني فليس بمراد قطعا إذ ليس ذات واجب الوجود وأو مع اعتبار صفاته مخلوقا إلا بتكلف غير مرضي فبقي الاحتمال الأخير وأن يكون المراد بأسماء الله تعالى مخلوقاته الممكنة باعتبار دلالة كل منهما على صفة من صفاته تعالى وليس استعمال مثله غريبا غير معهود في لغة العرب فإذا رأيت دخانا قلت انظر كيف احترق الموضع الفلاني وإذا نظرت إلى المطر قلت انظر إلى فضل الله ورحمته لأن المطر مظهره ولذلك اجتهد المحققون من الشراح لتطبيق اسم الله المخلوق أولا على مثل الوجود المنبسط أو العقل الأول والأسماء الأخر على ساير مخلوقاته واستغراب بعضهم ذلك في غير محله وإلا فليأتوا بشي خير منه وأحسن أنطباقا على الخبر ولا استغراب أيضا في تسمية المخلوق الأول بالعقل الأول إذ لا ريب في أن الصادر الأول عنه تعالى لم يكن موجودا طبيعيا جامدا بلا شعور بل هو عاقل وهو أول الموجودات فيصح أن نسميه بالعقل الأول سواء كان لوحا أو قلما أو ملكا أو غير ذلك. (ش)
2- 2 - قوله «كان رجما بالغيب» ولذلك لم يعينه أحد من المفسرين على البت والتعيين بل ذكروا ما ذكروا احتمالا وتمثيلا كما صرحوا به وقد مر، وإنما لم يصرح الإمام (عليه السلام) بالتعيين إذ قد لا يتعلق الغرض به كما يتفق لنا نظيره في الأمور العادية فنريد ضبط بعض الأمور إجمالا لعدم حاجة أو لعدم طريق لنا إلى التفاصيل كما نقول البحور العظيمة المسماة بالأقيانوس خمسة وكل واحد ينشعب إلى بحار، وأقاليم الأرض سبعة وكل واحد ينقسم إلى بلاد ونواح. واعلم أن هذا الحديث يحتاج إلى شرح أكثر مما ذكره الشارح (رحمه الله) ولكن نحن لم نأل جهدا من إضافة بعض ما يتضح به مقاصد الشارحين بقدر ما يسع المقام والله ولي التوفيق. (ش)

(وذلك قوله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) ذلك إما إشارة إلى فاقة الخلق والمقصود إثبات فاقتهم، وإما إشارة إلى كون الأسماء الثلاثة الظاهرة أركانا للبواقي وفيه إيماء لطيف إلى تلك الأسماء وإنما لم يذكر الثالث لقصد الاختصار أو لأنه أراد بالرحمن المتصف بالرحمة المطلقة الشاملة للرحمة الدنيوية والأخروية، ولعل المراد أنكم إن دعوتم الله فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على الذات المقدسة والمجد والثناء اللائق به فادعوه بها وإن دعوتم الرحمن فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على مطالبكم الدنيوية فادعوه بها، وإن دعوتم الرحيم فله أسماء حسنى تابعة له في الدلالة على مطالبكم الاخروية فادعوه بها، والحاصل أن دعاءكم إن كان راجعا إلى ذكر المجد والثناء فادعوا باسم الله وما يتبعه من الأسماء الشريفة وإن كان راجعا إلى طلب الخيرات الدنيوية فادعوه باسم الرحمن وما يتبعه من الأسماء العزيزة، وإن كان راجعا إلى طلب الخيرات الاخروية فادعوه باسم الرحيم وما يتبعه من الأسماء الكريمة، فطريق الدعاء واسع غير مضيق.

هذا ما خطر بالبال والله سبحانه أعلم بحقيقة أسمائه وبالمقصود من كلامه وكلام وليه، وللمفسرين في تفسير هذه الآية أقوال من أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى كتبهم.

* الأصل:

2 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله; وموسى بن عمر، والحسن بن علي بن عثمان، عن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام): هل كان الله عز وجل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال: نعم، قلت: يراها ويسمعها؟ قال: ما كان محتاجا إلى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها، هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها، فمعناه الله واسمه العلي العظيم هو أول أسمائه علا على كل شيء.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عبد الله وموسى بن عمر) هو عمر بن بزيع الكوفي وابنه موسى ثقة. هذا الحديث بهذا الاسناد المذكور في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام):

وفيه موسى بن جعفر والظاهر أنه موسى بن جعفر القمي الكمنداني بضم الكاف والميم وسكون

ص:294

النون وكان مرتفعا في القول ضعيفا في الحديث (والحسن بن علي بن عثمان) في كتاب العيون:

والحسن بن علي بن أبي عثمان، قال العلامة الحسن بن علي بن أبي عثمان يلقب السجادة ويكنى أبا محمد من أصحاب أبي جعفر الجواد (عليه السلام) غال ضعيف في عداد القميين، وقال الكشي علي السجادة عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ولقد كان من العليانية الذين يقعون في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس له في الإسلام نصيب.

(عن ابن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) (هل كان الله عز وجل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال: نعم) سؤال ابن سنان عن ذلك إما لضعف عقيدته في حق الباري جل شأنه وإما لأن طائفة من الفرق المبتدعة ذهبوا إلى أنه تعالى لم يكن عارفا قبل أن يخلق الخلق بنفسه وبأنه وحده لا غيره وإنما عرف ذلك عندما خلق الخلق كما مر في باب صفات الذات فسأل عن ذلك كشفا لفساد قولهم.

(قلت: يراها ويسمعها) أي يرى نفسه ويسمعها كلاما يصدر منه كما يرى أحدنا نفسه ويسمعها ويقول: أنا أفعل كذا في وقت كذا ويطلب منها شيئا ويقول أفعل كذا (قال ما كان محتاجا إلى ذلك) أي إلى أن يراها ويسمعها وفي ذكر الاحتياج إشارة إلى امتناع ذلك فيه عز وجل لامتناع تطرق الاحتياج إلى الغني المطلق.

(لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها (1) أي لم يكن من شأنه السؤال والطلب لأن السؤال والطلب وإن كانا من نفسه نقص والنقص عليه محال وهذا دليل على امتناع إسماعه نفسه (هو نفسه ونفسه هو) فهو هو يعني له هوية مطلقة معراة عن التجزي والتكثر والتعدد فليس له آلة النطق والسمع

ص:295


1- 1 - قوله «لأنه لم يكن يسألها ولم يطلب منها» الإنسان فاعل بالقصد الزايد ولا يحصل له العزم والتصميم على الفعل إلا بالتروي والتفكر في جهات حسن الفعل وقبحه ومنافعه ومضاره فإذا عزم كان يطلب هو من نفسه أن يفعله فيشمل فعله على حديث نفس وسؤال من عقله وطلب من قواه، وأما واجب الوجود فقدرته نافذة في كل شيء لا يحتاج إلى طلب من القوى العمالة في العضلات وغيرها أن تؤثر أثرها ولا إلى سؤال القوى الفكرية أن يصمم بعد التروي ولا ريب أن الإنسان لاحتياجه إلى ما ذكر يحتاج إلى أن يتصور نفسه فيكون المتصور بصيغة اسم الفاعل غيره بصيغة اسم المفعول قال صدر المتألهين (رحمه الله) نحن قد نتصور نفوسنا بعلم زائد على نفوسنا وقد نتكلم نحن في أنفسنا حديثا نفسيا فنسمع منها الحديث ونسألها وذلك لنقص ذواتنا وكونها محتاجة بالقوة ولو كانت نفوسنا تامة بالفعل من كل الوجوه كان جميع ما نطلبه وندعوه غير خارج عنها فلم نحتج إلى تصور زائد وروية زائدة وسماع كلام وإنشاء حديث في النفس للنفس فإذن هذه المعاني الزائدة مسلوبة عنه تعالى لكونه تام الذات من كل وجه فلا يسأل ذاته ولا يطلب منه شيئا لأن ما يطلبه هو نفسه ليس بخارج عنه بل هو فوق التمام لأنه بقدرته يفعل الأشياء ويفيض وجودها منه ونفسه هو قدرته الخ... (ش)

والإبصار وهذا دليل على امتناع الإسماع والإبصار بالمعنى المتعارف عليه وأما رؤية ذاته بمعنى العلم بها فليس السؤال عنها، وفيه دلالة على جواز إطلاق النفس عليه كما في قوله تعالى حكاية «ولا أعلم ما في نفسك» قال محي الدين البغوي النفس تطلق على الدم، وعلى نفس الحيوان، وعلى الذات، وعلى الغيب.

والأولان يستحيلان في حقه تعالى، والآخر أن يصح أن يرادا، ومنه «ولا أعلم ما في نفسك» أي في ذاتك أو في غيبك (قدرته نافذة) في جميع الأشياء بحيث لا يتأبى شيء من تلك الأشياء عن نفوذها فيه.

(فليس يحتاج أن يسمي نفسه) ويستعين بأسمائه الحسنى في إنفاذ قدرته كما يحتاج غيره لكونه نقاص القدرة إلى تسميته بتلك الأسماء والاستعانة بها (ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها) وفيه دلالة على ما هو المقصود بيانه في هذا الباب من حدوث أسمائه تعالى وعلى أن أسمائه تعالى توقيفية لا يجوز لأحد أن يدعوه إلا بما سمى به نفسه، وقد ذكرنا تفصيل ذلك سابقا.

(لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف) الضمير المنصوب راجع إليه سبحانه والفعلان مبنيان للمفعول وهذا تعليل لاختيار الأسماء، والوجه فيه ظاهر لأنه إذا لم يدع باسمه الذي اختار لنفسه ووصف نفسه به لربما يدعي بما لا يوصف به فلم يكن المعروف هو بل غيره، وأيضا من المعلوم بالضرورة أن معرفة الاسم وشهرته سبب لمعرفة المسمى بذلك الاسم وشهرته فعدم معرفة أسمائه تعالى سبب لعدم معرفته وقد كان المقصود الأصلي في إيجاد الخلق هو معرفتهم إياه وجعل التعليل تعليلا لقوله «يدعوه بها» وإرجاع الضمير المنصوب إلى الغير وبناء الفعلين للفاعل بعيد جدا وإن كان المآل واحدا للزوم تفكيك الضمير في قوله باسمه وحذف ضمير المفعول في الفعلين مع الغناء عنه بما ذكر.

(فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم) الظاهر أنه الأول بالإطلاق فهو إذن ذلك الاسم المذكور في الحديث السابق الذي هو الأصل للجميع ويحتمل أنه أول بالإضافة كما أشرنا إليه (لأنه أعلى الأشياء كلها) أي فوقها بالرتبة والعلية وشرف الذات وكل شيء سواه ناش منه مفتقر إليه من جميع الجهات وهذا إما تعليل لتسميته بهذا الاسم أو تعليل لكون هذا الاسم أول الأسماء أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنك قد عرفت أن اختيار الاسم لأجل غيره من المخلوقات فينبغي أن يكون الاسم الأول ما يدل على أنه أعلى منهم بحسب العظمة والذات.

(فمعناه الله) أي الذات المقدسة عن النقايص والحالات المتصفة بجميع الصفات والكمالات (واسمه العلي العظيم) الدال على كمال علوه وعظمته كما أشار إليه بقوله (هو أول أسمائه علا على كل شيء) علوا عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته ولا رتبة تساوي رتبته. بيان ذلك أن

ص:296

أعلى مراتب الكمال العقلية هو مرتبة العلية ولما كانت ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لايتصور النقصان فيها بوجه من الوجوه لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية وله الفوق المطلق في الوجود والعلو العاري عن الإضافة إلى شيء دون شيء، وعن إمكان أن يكون أحد يساويه في العلو أو يكون أعلى منه.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان قال: سألته عن الاسم ما هو؟ قال: صفة لموصوف:

* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان قال: سألته) يعني أبا الحسن الرضا (عليه السلام) (عن الاسم ما هو؟) طلب بيان أن اسمه عين ذاته أو غيره أو طلب حد اسمه ليعرف هل له اسم دل على مجرد الذات من غير دلالة على صفة من الصفات أم لا.

(قال: صفة لموصوف) (1) تقريره على الأول أن الاسم صفة لما يصلح أن يكون موصوفا به وهو اللفظ فإنه يقال مثلا «الله» أي هذا اللفظ المركب من ألف ولام وهاء اسم والرحمن أي هذا اللفظ المركب من الحروف المخصوصة اسم، فالاسم صفة لهذين اللفظين الموصوفين بالاسمية والتجزية والتركيب لا لذاته المقدسة المنزهة عن الاتصاف بصفة بأن يقال ذاته تعالى اسم فقد ثبت أن ذاته غير اسمه واسمه غير ذاته وأن الموصوف بالاسم مركب حادث مخلوق والله سبحانه قديم خالق لأسمائه، وتقريره على الثاني أن كل اسم من أسمائه دل على صفة كاينة لموصوف بها حتى «الله» فإنه دل على صفة باعتبار اشتقاقه من الإله الدال على اتصافه بالإلوهية ويفهم منه أيضا أن الاسم غير المسمى.

* الأصل:

4 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن بكر بن صالح، عن علي بن صالح، عن الحسن بن محمد بن خالد بن يزيد، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:297


1- 1 - قوله «صفة لموصوف» قال صدر المتألهين (قدس سره): هذا كتصريح بما ادعيناه مرارا من أن المراد من الأسماء في لسان الحديث وعرف أهل العرفان هي المعاني العقلية والنعوت الكلية الدالة على ذات الشيء وحقيقته ونسبتها إلى الذات نسبة المهية وأن الأسماء الموضوعة إنما وصفت أولا بالذات لهذه المعاني الكلية المعقولة لا للهويات الوجودية التي ليس للفهم سبيل إلى أدراكها إلا بالمشاهدة الحضورية انتهى. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله): المراد بالاسم هنا ما أشرنا إليه سابقا أي المفهوم الكلي الذي هو موضوع اللفظ انتهى. (ش)

اسم الله غيره وكل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله، فأما ما عبرته الألسن أو عملت [ه] الأيدي فهو مخلوق، والله غاية من غايته، والمغيي غير الغاية والغاية موصوفة وكل موصوف مصنوع وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمى، لم يتكون فيعرف كينونيته بصنع غيره ولم يتناه إلى غاية إلا كانت غيره، لا يزل من فهم هذا الحكم أبدا وهو التوحيد الخالص فارعوه وصدقوه وتفهموه بإذن الله، من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن حجابه ومثاله وصورته غيره، وإنما هو واحد متوحد، فكيف يوحده من زعم أنه عرفه بغيره وإنما عرف الله من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شيء والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله) هو محمد بن جعفر بن عون الأسدي الكوفي الثقة ساكن الري (عن محمد ابن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن بكر بن صالح، عن علي بن صالح، عن الحسن بن محمد خالد ابن يزيد) في كتاب التوحيد للصدوق «عن الحسن بن محمد عن خالد (عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اسم الله غير الله) في بعض النسخ «غيره» يعني اسم الله غير المسمى به وهو الذات المقدسة (وكل شيء) أي كل معنى أو ذات (وقع عليه اسم شيء) يعني أطلق عليه هذا اللفظ وهو الشيء فالإضافة بيانية (فهو مخلوق) حادث بعد العدم (ما خلا الله) فانه قديم غير مخلوق وقد ثبت مما ذكر أن أسماءه تعالى مخلوقة حادثة وهو المقصود هنا.

(فأما ما عبرته الألسن) عبرته إما بالتخفيف عن العبور بمعنى المرور أو بالتشديد عن التعبير (أو عملته الأيدي) أي أيدي الأبدان أو أيدي الأفكار (فهو مخلوق) يعني كل ما تناولته الألسن من الأقوال والأسماء وكلما عملته الأيدي من الصور والنقوش وكلما أدركته العقول العالية والسافلة من الحقايق والدقايق اللطيفة من صفاته فهو مخلوق محدث له نهاية ذكرية وحدود عقلية فمن اعتقد أنه هو الله فقد جعل إلهه ما بلغ إليه نظره واعتقد أن له نهاية وحدودا كما أشار إليه بقوله (والله غاية من غاياه) ضمير الفاعل راجع إلى الوصول وضمير المفعول إلى الله والمراد بالغاية نهاية ما تناوله الإنسان بالقلب واللسان يعني أن الله - نعوذ بالله - هو النهاية التي يتناولها كل من غياه وجعل له نهاية وحدودا ينتهي إليهما قلبه ولسانه، ثم أشار إلى فساد ذلك وصرح بأن الله ليس هذا بقوله (والمعنى غير الغاية) يعني المعنى الحق بذاته وهو ذاته المقدسة غير غاية ما يبلغ إليه نظر الخلق ونهايته

ص:298

المحدودة بالحدود المعلومة بوجه من الوجوه الاعتبارية والحقيقيه ويصفه من الصفات القولية والفعلية وإنما لم يقل والله غير الغاية لئلا يتوهم أن المراد هذا الاسم الشريف لأنه أيضا لا يخلو من غاية ذكرية وحدود قولية، وفي بعض النسخ «من غاياته» وفي بعضها «والمغيي» بضم الميم وفتح الغين المعجمة والياء المثناة المشددة والمراد به ذاته الأحدية التي جعلت لها غاية الكل متقاربة.

ولهذه العبارة احتمال آخر أسهل وهو أن «الله» اسم من أسمائه ومعناه غير هذا الاسم إلا أن إطلاق الغاية على الاسم غير متعارف فليتأمل ثم استدل على أن ذلك المعنى الحق بذاته غير الغاية الذكرية والنهاية الفكرية بالضرب الأول من الشكل الأول فقال (والغاية موصوفة) أي كل غاية ينتهي إليه نظر الخلق موصوفة بوصف معلوم أو موهوم ومحدودة بأطراف وحدود.

(وكل موصوف مصنوع) فكل غاية يبلغ إليها نظر الخلق مصنوعة فلا يجوز أن يقال: هي الله الذي هو صانع الأشياء لما أشار إليه بقوله (وصانع الأشياء) الواو للحال (غير موصوف بحد مسمى) المسمى إما مضاف إليه أو صفة لحد أي غير موصوف بحد مسمى مصنوع ملفوظا كان ذلك الحد أو معقولا محققا كان أو موهوما لاستحالة توارد الإحاطة عليه وامتناع تطرق الانتهاء إليه (لم يتكون) خبر بعد خبر لصانع الأشياء وفي بعض النسخ «لم يكن» يعني أن صانع الأشياء لم يتحصل وجوده من غيره.

(فيعرف كينونيته بصنع غيره) المصدر مضاف إلى فاعله أي بصنع غيره إياه وفيه إشارة إلى امتناع البرهان اللمي فيه إذ لا علة له حتى يعرف وجوده بعلته (ولم يتناه) خبر ثالث وضمير الفاعل راجع إلى صانع الأشياء أو إلى العقل والوهم بقرينة المقام والعايد إلى الصانع يأتي فيما بعد يعني ولم يتناه صانع الأشياء عند تصوره أو لم يتناه العقل والوهم في تصوره (إلى غاية إلا كانت غيره) إذ لا غاية لجناب العز ولا نهاية لحضرة القدس.

(لا يذل من فهم (1) هذا الحكم أبدا) الحكم بالضم الحكمة والعلم ومصدر بمعنى القضاء أيضا يعني لا يذل أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة من عرف هذا الذي أفدناه من العلم والحكمة أو هذا القضاء الذي قضينا به (وهو التوحيد الخالص) التوحيد الخالص هو الذي يرفع التعدد والتكثر عن جناب الحق باعتبار الأجزاء والوجود والصفات جميعا وهو التوحيد قبل الذات بنفي الأجزاء الذهنية والخارجية وفي مرتبة الذات بنفي زيادة الوجود وبعد الذات بنفي زيادة الصفات وإفادة ما ذكر (عليه السلام) هذا التوحيد ظاهرة لأنه لما نفى عنه التكون والمصنوعية علم أنه ليس له جزء ولا وجود زايد عليه وإلا لكان تركيبه واتصافه بالوجود من غيره ولما نفى عنه الموصوفية علم أن صفاته عين

ص:299


1- 1 - قوله «لا يذل من فهم» في بعض النسخ «لا يزال» كما في المتن ومرآة العقول. (ش)

ذاته وأن أسماؤه غيره وأن الغاية دون مرتبة قدسه وإلا لزم أن يكون موصوفا هذا خلف.

(فارعوه وصدقوه وتفهموه بإذن الله) ارعوه إما من الرعاية بمعنى الرقوب والحفظ أي فارقبوه واحفظوه أو من الإرعاء بمعنى الإصغاء يقال: أرعيته سمعي أي أصغيت إليه يعني فاسمعوه وأصغوا إليه، فالهمزة على الأول للوصل وعلى الثاني للقطع.

(من زعم أنه يعرف الله بحجاب) المراد بالحجاب ما يمنع الوصول إليه تعالى ومعرفته بما يليق به كالنور والظلمة عند الثنوية، والطبع عند الملاحدة فإنهم طلبوا لهذا العالم سببا فأحالوه لظلمة طبيعتهم على الطبع إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي من جملتها القول بالمعاني والصفات الزائدة عليه القائمة به فإنها تحجب أيضا عن الوصول إليه.

(أو بصورة) أي بجوهر حال في غيره أو بهيئة خيالية أو وهمية كما زعمه المصوره (أو بمثال) جسماني كما زعمه المجسمة (فهو مشرك) اتخذ إلها غيره وهذا هو الشرك بالله (وإنما هو واحد متوحد) موصوف بالوحدة المطلقة المنافية لتلك المقايسات الخيالية والوهمية والاعتبارات الحسية والعقلية.

(فكيف يوحده) أي يعتقد أنه واحد على الإطلاق (من زعم أنه عرفه بغيره) فإن هذه المعرفة شرك مناف للتوحيد (وإنما عرف الله من عرفه بالله) أي بما يليق به أي بما عرفه الله من نفسه وهو أنه خالق كل شيء وليس كمثله شيء وقد مر توضيح ذلك.

(فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره) لأنه تعالى لما تقدس أن يشبه خلقا في شيء كان العارف المشبه له بخلقه أو المكيف له بكيفيات تحويها الأوهام وبصفات تعتريها الأفهام غير عارف به بل متصور الأمر آخر هو في الحقيقة غيره فهو مقر بوجود الصانع صريحا ومنكر له لزوما فيندرج من جهة الإقرار في جملة المشركين ومن حيث الإنكار في زمرة الملحدين.

(ليس بين الخالق والمخلوق شيء) مشترك معنى واشتراك العالم والقادر والموجود وغيرها بينهما إنما هو بمجرد اشتراك الاسم كما سيجيء تحقيقه (والله خالق الأشياء) فلا يجوز أن يتصف بشيء منها مشتركا بينه وبين خلقه لامتناع اتصافه بخلقه (لا من شيء كان) خبر بعد خبر يعني الله لا من شيء كان وسيجئ أن من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا، ويحتمل أن يكون متعلقا بخالق الأشياء يعني أنه خالق الأشياء لا من شيء كان في الأزل فيشاركه في الأزلية.

وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي «قال الزنديق لأبي عبد الله (عليه السلام): من أي شيء خلق الأشياء؟» قال (عليه السلام): لا من شيء وفي بعض النسخ «من لا شيء» فقال: كيف يجيء من لا شيء

ص:300

شیء؟ قال (عليه السلام): إن الأشياء لا تخلوا أن تكون خلقت من شيء أو من غير (1) شيء فإن كانت خلقت

ص:301


1- 1 - قوله «من شيء أو من غير شيء» أن كثيرا من الأوهام ذاهبة إلى أن الشيء لا ينتقل من العدم إلى الوجود ولا يخرج من الوجود إلى العدم فلا يوجد معدوم ولا ينفى موجود وهذا شيء يعلمه الملاحدة أولادهم وتلامذتهم في مكاتبهم ومدارسهم من مبدء نعومة أظافرهم حتى ينشأوا على الكفر وإنكار المبدء والمعاد وبذلك شككوا أطفال المسلمين وأعدوهم للالحاد ولعمري أنه مزلة عظيمة للسذج خصوصا ولهم حبل في ردعهم عما يمكن تقريبهم إلى معرفة الله تعالى منها أن الدين خرافات وأن الأنبياء كانوا من أصحاب الفطنة ورجال السياسة أرادوا إصلاح أخلاق الناس بتدبيرهم لا بوحي من الله وأن المتكلمين والفلاسفة الإلهيين كانوا مخطئين غلبت عليهم الأوهام وأن أدلتهم كالدور والتسلسل غير مبنية على التجارب والمحسوسات فيجب أن يترك ويطرد وإذا اطلعوا على خطئهم في مسألة لا تضر ولا تنفع كحركة الأرض جعلوها دليلا على خطئهم في جميع المسائل ونسبوا العرفاء إلى التصوف وترك الدنيا وإخلالهم بحكمة الخلقة حتى لا يلتفت الناس إلى مواجيدهم وأقوالهم الذوقية ويتأثروا بأشعارهم ومقالاتهم في معرفة الله تعالى. وكان هذا الرأي الخبيث سايدا في رجال من قدماء فلاسفة اليونان قبل نضج الحكمة وقيل ظهور سقراط وأفلاطون والإلهيين منهم وردهم عليهم ونقل الشيخ في الفن الثالث من طبيعيات الشفاء أقوالهم وحججهم ونقض مذاهبهم بما لا مزيد عليه فمن مذاهبهم القول بالكمون والبروز قال الشيخ قد دعاهم إلى ذلك أنه من المستحيل أن يتكون الشيء عن اللاشيء إذ اللاشيء لا يكون موضوعا للشيء انتهى. مثلا إذا وجدت نار فليست من العدم بل كانت نارية كامنة في عناصر تصادمت فبرزت النار من باطنها وكذلك ظهور كل شيء لم يكن فكان إنما هو بروز كامن ثم رد الشيخ عليهم بأن أنواع الكائنات غير متناهية واستعداد المادة لحصول الصور غير متناه ويمتنع أن يكون جزء متناه مؤلفا من أجزاء غير متناهية وحاصل الرد أنا أثبتنا عدم كون جسم متناهي المقدار مؤلفا من أجزاء غير متناهية ونحن نرى أن الأصناف والأنواع في هذا العالم كثيرة كثرة تلحقها بغير المتناهي مثلا التراب يمكن أن يصير شجرا بأنواعها وأوراقا خضرا وثمرات مختلف ألوانها وطعومها وحيوانات بأنواعها ثم تموت وتحدث منها أمور غير متناهية ثم تموت ثم تحيى إلى غير النهاية فلا بد لأصحاب الكمون والبروز أن يلتزموا في ذرة صغيرة من التراب بوجود خشب وورق وثمر وحيوانات وغير ذلك كامنة ثم تبرز وهو بين الاستحالة، ويلزمهم أيضا أن يكون الحياة كامنة في الجماد والجمود كامنة في الحي وهذا كما قال الصادق (عليه السلام): «فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ومن أين جاء الموت إلى آخر الحديث». وهذا بعد بطلان الكمون على ما ذكر. فإن قيل فما قولكم فيه قلنا أما المادة فليست وأما عندنا عندنا موجودة واجبة قائمة بنفسها مستقلة بذاتها بل هي معلولة للصورة مقومة بها. وأما أصحاب الطبائع فيرون المادة غير معلولة وهذه صارت منشأ لشبهتهم فهذه الصور التي نراها عارضة كالنارية والمائية والحيوانية والخشبية وأمثالها ليست عوارض للمادة بل هي مقومة لها بحيث لولا الصورة لم تكن مادة كما لو لم تكن الشمس لم يكن نور والمادة من مظاهر الصورة ومرادنا بالصورة مبدء القوى لا الشكل وليس هذا خفيا على أكثر أهل عصرنا أيضا لأن المادة عندهم ليست إلا حالة يجدها الحس من حركة اجزاء قوة كهربائية يسمونها «ألكترون» فالجسم المادي شيء يتخيل من تتابع حركات كالشعلة الجوالة، القوة مهيمنة على المادة والمادة من توابع القوة وليست القوة من توابع المادة فرجع الأمر إلى أن المادة ليست قديمة واجبة بل هي تابة أو مظهر أو معلولة للصورة أي لمبدء القوى في كل جسم كما هو مذهب الشيخ وأمثاله فانهدم أساس الشبهة إذ هي مبنية على قدم المادة وكونها واجبة الوجود وغير مجعولة تعالى الله أن يكون له شريك. (ش)

من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم والقديم لا يكون حديثا ولا يفني ولا يتغير ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة (1) الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشأت منه الأشياء حيا، أو من أين جاء الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا؟ ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيا ولا يجوز أن يكون الميت قديما لم يزل بما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة ولا بقاء.

(والله يسمى بأسمائه) التي وضعها لنفسه واختارها لعباده يدعونه بها (وهو غير أسمائه والأسماء غيره) لضرورة أن القديم غير الحادث والحادث غير القديم، وفيه رد على طائفة من الحشوية حيث ذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى حقيقة واعتقدوا ذلك وقد الزموا أن من قال: النار لزم أن يحترق وتخصيص الاتحاد بأسماء الله تعالى دون أسماء المخلوقين تحكم، وهذه الطائفة من الخسة والخفة بحيث لا تخاطب.

ص:302


1- 1 - قوله «الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة، كان الإمام (عليه السلام) أراد بالألوان الأنواع والأصناف وبالجواهر ذوات المواليد من النبات والحيوان والمعادن ولا يجوز خلط اصطلاحات الفلسفة وساير العلوم باصطلاحات الأحاديث فإنها مزلة عظيمة كما أشرنا إليه في الصفحة 104 من المجلد الثاني إذ ربما يريد الأئمة (عليهم السلام) شيئا غير ما اصطلح عليه أصحاب الفنون فيضل الذهن، وأتذكر مسألة في الأصول استقر اصطلاحهم على أن يقولوا في الشك ابن على كذا، مثلا في الشك بين الثلاث والأربع، ابن على الأربع، وقد ورد في الحديث إذا شككت فابن على اليقين فحملوا كلام الإمام على اصطلاحهم واحتجوا به على حجية الاستصحاب مع أن مراد الإمام هو مراد أهل اللغة من مثل هذا القول فيقولون بناء أمر فلان على الدقة وفلان على المساهلة وفلان على طلب الدنيا والبخل وفلان على النجد وفلان على التعصب للقدماء وكذلك «فابن على اليقين» معناه ابن أمرك على تحري اليقين في إطاعة الحق وترك الشك، فتدبر وبالله التوفيق. (ش)

فهرس الآيات

(إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)... 152

(الرحمن على العرش استوى)... 115

(الله يتوفى الأنفس حين موتها)... 81

(الله يستهزيء بهم)... 176

(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).... 115

(إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)... 91

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)... 152

(إن الله يفصل بينهم يوم القيمة)... 143

(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)... 87

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)... 143

(أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)... 83

(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه

تعلمون).... 118

(حجابا مستورا)... 226

(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).... 34

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)... 187

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)... 147

(فأصبحوا ظاهرين)... 56

(فأما الذين في قلوبهم زيع)... 19

(قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا الانبیاء22...44

ولعلا بعضهم على بعض)... 44

(يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)... 20

ص:303

(كل شيء هالك إلا وجهه).... 196

(كن فيكون)... 237

(لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).... 291

(لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا)... 143

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).... 47

(ليس كمثله شيء).... 199

(ناقة الله وسقياها)... 198

(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)... 10

(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)... 203

(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه... 9

(وإلي الله مرجعكم جميعا)... 129

(وإن إلى ربك المنتهى)... 118

(وإن أحد من المشركين استجارك)... 158

(وأشرقت الأرض بنور ربها)... 88

(وجادلهم بالتي هي أحسن)... 151

(وكيف تكفرون بالله)... 217

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)... 151

(ولاصلبنكم في جذوع النخل)... 22

(ولله يسجد ما في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال)... 117

(ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)... 91

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا

يعلمون)... 143

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)... 255

(ومكر الله)... 176

(ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم)... 58

(ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)... 272

(وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير)... 85

ص:304

فهرس المطلب

کتاب التوحید...3

باب حدوث العالم...3

باب اطلاق القول بأنه شیء...59

باب انه لا یعرف إلا به...80

باب أدنی المعرفة...89

باب المعبود...96

باب الکون و المکان...109

باب نسبة...137

باب النهی عن الکلام فی الکیفیة...147

باب فی ابطال الرؤیة...161

باب النهی عن الصفة بغیر ما وصف به نفسه جل و تعالی...197

باب النهی عن الجسم و الصوره ...219

باب صفات الذات ...240

باب آخر و هو من الباب الأول ...259

باب الإرادة أنها من صفات الفعل و سائر صفات الفعل ...264

جملة القول فی صفات الذات و صفات الفعل ...276

باب حدوث الأسماء...283

ص:305

المجلد 4

اشاره

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب معاني الأسماء واشتقاقها

اشاره

المراد بمعاني الأسماء مفهوماتها اللغوية والعرفية.

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن ابن راشد عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) قال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم مجد الله. وروى بعضهم: الميم ملك الله، والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) قال: الباء بهاء الله) البهاء في اللغة الحسن ولعل المراد به حسن معاملته مع عباده بالإيجاد والتقدير والألطاف والتدبير وإعطاء كل ما يليق به.

(والسين سناء الله) السناء بالمد: الرفعة، والسني: الرفيع وأسناه: رفعه، والمراد بسناء الله: رفعته وشرفه بالذات على جميع الممكنات.

(والميم مجد الله) المجد: الكرم، والمجيد: الكريم، وقد مجد الرجل بالضم فهو مجيد وماجد، إذا كان واسع الكرم كثير العطاء.

وكون هذه الحروف إشارة إلى هذه المعاني إما بوضع الواضع واعتباره إياها عند وضع بسم الله، أو بمجرد مناسبة بين هذه الحروف وتلك المعاني بحيث يفهم منها تلك المعاني عرفا وإن لم يقصدها الواضع (1).

ص:3


1- 1 - قوله «بحيث يفهم منها تلك المعاني» فيه تكلف والوجه التوقف وايكال معناه إلى أهله ونعم ما قال صدر المتألهين انه توقيف شرعي وذلك لأنا لا نعقل الفرق بين الكلمات المبدوة بهذه الحروف حتى يجعل أحدها مدلولا دون الاخر كما اختلف الرواية في الميم انها مجد الله أو ملك الله. وفي توحيد الصدوق - عليه الرحمة - عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «الألف آلاء الله، والباء بهجة الله. والتاء تمام الامر بقائم آل محمد، والثاء ثواب المؤمنين على الاعمال الصالحة» وسرد الحروف إلى آخرها. وفي حديث آخر «ألف الله لا إله الا هو الحي القيوم، وأما الباء فالباقي بعد فناء الأشياء» إلى آخر الحروف هكذا فيختلج بالبال أن ما ورد في معنى حروف المعجم ليس الا على التمثيل لا الاختصاص وانه ينبغي أن يتنبه العارف من كل شيء يراه ويسمعه أو يدركه بوجه إلى الله تعالى وصفاته وحكمه وما يتعلق بمبدئه ومعاده فينتقل ذهنه إليه تعالى من الحروف كما ينتقل من الأشياء الممكنة إلى وجود الواجب وكذلك في تفسير الجمل كأبجد هوز حطي مثل أن حطي حطت الخطايا من المستغفرين. (ش)

(وروى بعضهم: الميم ملك الله) بدل «مجد الله» والمراد بملك الله سلطانه على جميع الكائنات أو نفس رقاب جميع المخلوقات وأصناف جميع الكائنات (والله إله كل شيء) أي معبوده الذي يستحق العبادة وغاية الخضوع والخشوع منه (الرحمن بجميع خلقه) في الدنيا مؤمنا كان أو كافرا، برا كان أو فاجرا بالإحسان والإلطاف وإعطاء الرزق وغير ذلك مما يتم به نظامهم ويتوقف به بقاؤهم (والرحيم بالمؤمنين خاصة) في الآخرة لأنهم المستحقون للرحمة الأخروية بحسن استعدادهم في الحياة الدنيوية، وذلك لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها، الله مما هو مشتق؟ فقال: يا هشام! الله مشتق من إله، وإله يقتضي مألوها، والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال:

قلت: زدني قال: الله تسعة وتسعون اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين (1) مع الله عز وجل غيره، قلت نعم، فقال: نفعك الله (به) وثبتك يا هشام! قال: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها; الله مما هو مشق) مر هذا الحديث بهذا السند بعينه في باب المعبود وشرحناه هناك على وجه الكمال فقال: (يا هشام الله مشتق من إله) المشتق مختص بالمعبود بخلاف المشتق منه (وإله يقتضي مألوها) أي متحيرا مدهوشا في أمره أو متعبدا له أو مطمئنا بذكره أو معبودا وهو الأنسب بقوله (والاسم غير المسمى) ذهب إليه المعتزلة والإمامية

ص:4


1- 1 - في أكثر نسخ الكافي «الملحدين».

خلافا للأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الاسم هو المسمى حقيقة (فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر) حيث جعل ما ليس بإله إلها (ولم يعبد شيئا) يستحق العبادة (ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك) حيث جعل معه إلها آخر مستحقا للعبادة (وعبد اثنين) باعتقاد أن كل واحد منهما أهل للعبادة (ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد) لصرف العبادة إليه وحده مجردا عما سواه (أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني) كأنه أراد الدليل على ما ذكر من أن الاسم غير المسمى (قال: لله تسعة وتسعون اسما) لا دلالة فيه على حصر أسمائه في هذا العدد فلا ينافي ما مر في الباب السابق من الزيادة عليه. وفي كتاب مسلم أيضا: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة». قال القرطبي: وقد اعتنى بعض العلماء فخرج ما منها في القرآن مضاف وغير مضاف مشتق وغير مشتق كقادر وقدير ومقتدر ومليك ومالك وعليم وعالم الغيب، فلم يبلغ هذا العدد. واعتنى غيره بذلك فحذف التكرار ولم يحذف الإضافات فوجدها تسعة وتسعين. واعتنى آخرون فجمعها مضافة وغير مضافة ومشتقة وغير مشتقة وما وقع منها في الأحاديث والروايات منثورا ومجموعا وما أجمع عليه أهل العلم على إطلاقها فبلغها أضعاف العدد المذكور في هذا الحديث.

وقال المازري نقل ابن العربي (1) عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم (فلو كان الاسم هو المسمى لكان لكل اسم منها إله) فيلزم تعدد الإله على قدر تعدد الأسماء إنه باطل. وفي بعض النسخ «لكان كل اسم منها إلها» وهو موافق لما مر آنفا (ولكن الله معنى) يعني ولكن المسمى بالله معنى قائم بنفسه موجود لذاته لا تعدد ولا تكثر فيه أصلا (يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره); لأن الدليل مغاير للمدلول قطعا.

ص:5


1- 1 - قوله «قال المازري نقل ابن العربي» كان المراد بالمازري شارح صحيح مسلم منسوب إلى مازر بلد بصقلية جزيرة في بحر الروم يعرف في بلادنا بسيسيل وابن العربي بالألف واللام القاضي أبو بكر المالكي شارح الترمذي محدث، وابن عربي بدون حرف التعريف هو صاحب الفتوحات المكية والكتب الأخر; صوفي. فإن كان متن الكتاب صحيحا فهو الأول، وإن كان مسامحا فيه - كما يتفق كثيرا من المؤلفين [الذين] لا يراعون هذا التدقيق -، فهو صاحب الفتوحات، ولا ضير في النقل عنه، إذ خطأوه في أمر لا يدل على خطائه في جميع الأمور، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها». وليس النقل عن محي الدين ابن عربي أو تعظيم علمه دليلا على تصديقه في جميع مطالبه، ورأيت في الفتوحات المجلد الأول تصديقه بأن المهدى (عليه السلام) قد ولد وقال: رأيته واجتمعت به فلا ولي بعده إلا وهو راجع إليه; وهذا تصريح بمذهب الشيعة لم يقل به أحد من غيرهم إلا نادرا يظن في حقهم التشيع أو اضطراب الذهن والانتقال والجربزة، على أني أرى القدح في دين العظماء تأييدا للملاحدة والنصارى نظير القول بتحريف القرآن ورأيت في كتبهم كثيرا أن دين الإسلام باطل خرافي لم يتدين به إلا الجهال، وأما الحكماء والعقلاء وأولو الأفكار والعلوم كالفارابي وابن سينا وأمثالهم لم يكونوا متدينين بهذا الدين باعتراف المسلمين أنفسهم; نعوذ بالله من الزلل والضلال. (ش)

(يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق) (1) وهذه الأسماء مغايرة للمسميات فكذا الحال في أسمائه تعالى، ومن قال هذه الأسماء للخلق ولا نزاع في المغايرة فيها وإنما النزاع في أسماء الخالق ورد عليه أن الفرق تحكم، ومن ادعاه فعليه الإثبات (أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناقل به) قال الجوهري: النقل المناقلة في المنطق، ومنه قولهم: رجل نقل وهو الحاضر الجواب، وناقلت فلانا الحديث إذا حدثته وحدثك، وفي بعض النسخ: «وتناضل» بالضاد المعجمة وهو بمعنى: تدافع وتجادل وتخاصم (أعداءنا الملحدين) العادلين عن دين الحق ومنهج الصواب. متخذين (مع الله تعالى غيره) على تضمين معنى الأخذ، ولو كان بدل الملحدين المتخذين بالتاء المثناة الفوقانية والذال المعجمة كما في الاحتجاج لما احتيج إلى التضمين. (قلت: نعم فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام. قال هشام: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) في بعض النسخ: «حين» بدل «حتى» وهو الأظهر.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله، فقال: استولى على ما دق وجل.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن القاسم بن يحيى، عن جده

ص:6


1- 1 - قوله «الخبز اسم للمأكول» هذا بحث حام حوله المتكلمون والحكماء، ومجمل الكلام فيه أن الوجود الذهني لكل شيء موافق للوجود الخارجي في الماهية ومباين له في نفس الوجود، فالنار في الذهن لها ماهية النارية لكن وجودها غير الوجود الخارجي، وعليه مبنى البحث في الوجود الذهني، وقالوا، إن حمل الماهية على نفسها في الوجود الذهني و هو الذي يسمى بالحمل الأولي الذاتي لا يعتبر في الصناعات وليس شايعا في متعارف الناس وإنما الحمل الشايع الصناعي حمل معنى على غير مفهومه وماهيته، وبعبارة أخرى: الحمل الشايع اتحاد المعنيين مصداقا لا مفهوما وعلى هذا، فالخبز لا يطلق بالحمل الشايع إلا على الموجود الخارجي الذي يؤكل لا على مفهومه الذهني، وكذلك الماء على ما هو ماء بالحمل الشائع، والاسم هو المفهوم والماهية والمسمى هو المصداق الخارجي وأحدهما غير الآخر وليس مفهوم الخبز خبزا ولا مفهوم الماء ماء. وبكلام الإمام (عليه السلام) يندفع توهم مجعولية الماهيات بالذات وكون الوجود مجعولا بالعرض إذ لو كانت المهيات مجعولة بالذات لزم كون الماهية في الذهن نفسها بالحمل الشائع فيؤكل الخبز الذهني ويشرب الماء الذهني ويندفع الإشكال المشهور وهو أن الجوهر في الذهن عرض ولا يمكن كون شيء واحد جوهرا وعرضا. والجواب: أن الخبز الذهني ليس مأكولا ولا جوهرا ولا جسما بالحمل الشائع بل هو غير المسمى، وهكذا. وقد بين ذلك صدر المتألهين في شرح هذا الحديث. (ش)

الحسن بن راشد (1) عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن معنى الله قال استولى على ما دق وجل) (2) من المشهور عقلا ونقلا أن الله اسم للذات المقدسة التي بعينها عين جميع الصفات الذاتية الملحوظة في مرتبة الذات ومن أعظم تلك الصفات هو استيلاؤه على جميع

ص:7


1- 2 - قوله: «عن جده الحسن بن راشد» سبق ذكر الحسن بن راشد في أسناد الحديث الأول ويذكر هنا بمناسبة كلمه راشد ثلاثة رجال يشتبه أحدهم بالآخرين، الأول الحسن بن راشد الطفاوي، وفي رجال ابن الغضائري «أسد» بدل «راشد» فقيل الأول صحيح والثاني مصحف، وقيل بالعكس، وهذا الرجل من رجال الصادق والكاظم (عليهما السلام) والطفاوة بالفاء قبيلة من قيس عيلان ولم يذكروا أنه مولى والظاهر أنه عربي صميم. وقال النجاشي: ضعيف له كتاب نوادر حسن كثير العلم، وقال ابن الغضائري: يروي عن الضعفاء ويروون عنه وهو فاسد المذهب وما أعرف شيئا أصلح فيه إلا رواية كتاب على بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم وقد رواه عنه غيره، انتهى. وقوله: شيئا أصلح فيه، يعني: ما رأيت كتابا أتى فيه جميعا بالمطالب الصالحة والآراء الصحيحة إلا أنه روى كتاب على بن إسماعيل، ولا ضير في ضعفه بالنسبة إلى هذا الكتاب فإنه مروي بطرق أخرى، والحاصل أنه لا يقدح ضعفه في شيء لأن كتاب على بن إسماعيل روي من غير جهته وسائر رواياته التي انفرد بها ليس مما يحتاج إليه كثيرا، وأما كتاب النوادر الذي ذكره النجاشي ووصفه بالحسن وكثرة العلم فلعله لا ينافي قول ابن الغضائري إذ لا خلاف بينهما في ضعف الرجل وأن كثرة العلم وحسن الترتيب في نوادره لا ينافي اشتماله على أمور صالحة كما ذكره ابن الغضائري، ولا يدل رد ابن الغضائري على عدم وجود شيء صحيح فيه أصلا إذ ربما يرد الكتاب ويحكم بعدم اعتباره لوجود مسائل معدودة باطلة فيه، ألا ترى أنه لو كان ثلث لغات القاموس بل عشره غلطا خرج عن الاعتبار. وليعلم أن كل ما روى الحسن عن علي بن إسماعيل وهو الغالب في الروايات فهو هذا الرجل. الثاني: الحسن أو الحسين بن راشد جد القاسم بن يحيى في أسناد هذا الحديث كنيته أبو محمد ولم يكن عربيا ولا من طفاوة بل مولى بني العباس فكان هاشميا بالولاء وكان من رجال دولتهم وقيل إنه وزير المهدي وموسى وهارون وفي تاريخ اليعقوبي كان الغالب على أموره (أي المهدي) علي بن يقطين والحسن بن راشد قال الشيخ - رحمه الله - له كتاب الراهب والراهبة رواه القاسم بن يحيى عن جده، وقال ابن الغضائري: الحسن بن راشد مولى المنصور أبو محمد روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى (عليهما السلام) ضعيف في روايته. وقال ابن داود: رأيت بخط الشيخ له (رحمه الله) في كتاب الرجال الحسين مصغرا. أقول: وفي فهرست النجاشي القاسم بن يحيى بن حسين بن راشد مصغرا أيضا وكذلك في بعض روايات الكافي، والعجب أن الأسترآبادي خطأ الشيخ رحمه الله ونسبه إلى السهو في تصغير الحسين، ولا أدري من أين حصل له العلم بخطائه، والظاهر أنه اشتبه عليه بالحسن بن راشد الطفاوي الذي اسمه مكبر يقينا وخلط بينه وبين جد القاسم بن يحيى; لأن اسم أبيه راشد، والذي يكثر ذكره في أسناد الروايات هو الطفاوي والبصري العربي وأين هو من البغدادي من موالي بني العباس وهل يمكن أن يكون أحد هاشميا وطفاويا معا أو عربيا وعجميا مولى؟ وتحقيق ساير ما يتعلق بهذا الموضوع موكول إلى كتب الرجل. الثالث: أبو علي بن راشد قيل اسمه الحسن وهو ثقة من وكلاء أبي الحسن العسكري (عليه السلام) وهو متأخر عن الأولين لا يشتبه بهما وكان مولى آل المهلب أزديا لا هاشميا ولا طفاويا. (ش)
2- 1 - استظهر العلامة المجلسي (رحمه الله) أن الخبر سقط منه شيء; لأن الكليني (رحمه الله) رواه عن البرقي والبرقي رواه بهذا السند بعينه في المحاسن هكذا: «سئل عن معنى قول الله: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استولى على ما دق وجل» وهكذا نقله الطبرسي في الاحتجاج. والمعنى استولى على الأشياء دقيقها وجليلها. ولكن الصدوق - رحمه الله - رواه في معاني الأخبار عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) كما في نسخة الكافي بلفظه.

ما سواه من الممكنات دقيقها وصغيرها، جليلها وكبيرها، عظيمها وحقيرها،; لأن هذه الصفة مستلزمة لجميع الصفات الكمالية كالعلم بالكليات والجزئيات والقدرة الشاملة لجميع الممكنات والرحمة الكاملة التي وسعت كل شيء. فلذلك فسر (عليه السلام) الله بذلك، تفسيرا له ببعض الوجوه الكامل الشامل.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله: (الله نور السماوات والأرض). فقال: هاد لأهل السماء وهاد لأهل الأرض.

وفي رواية البرقي: هدى من في السماء وهدى من في الأرض.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله (الله نور السماوات والأرض) فقال: هاد لأهل السماوات وهاد لأهل الأرض. وفي رواية البرقي: هدى من في السماء وهدى من في الأرض) النور وهو ينكشف به الأشياء يظهر وجودها عند الحس إما جسم كما ذهب إليه جماعة من المحققين أو عرض كما قيل وعلى التقديرين لابد من تأويل الآية إلا عند المجسمة والمصورة القائلين بأنه تعالى نور، تأويلها على وجوه منها ذكره (عليه السلام) وهو أن المراد بالنور الهداية لاشتراكهما في الإيصال إلى المطلوب، ومنها: الله خالق نورهما، ومنها: الله منور عقول من في السماء والأرض لرؤية الآثار الألوهية والحقائق الربوبية، ومنها: أن الله ذو البهجة والجمال، وهو يرجع إلى الثاني أي خالقهما (1).

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمان، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل، (هو الأول والآخر) وقلت: أما الأول فقد عرفناه وأما الآخر فبين لنا تفسيره، فقال: إنه ليس شيء إلا يبيد، أو يدخله التغير والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان

ص:8


1- 1 - قوله: «وهو يرجع إلى الثاني أي خالقهما» بذلك يعلم أن مراد القائل بأن الله خالق نورهما خالق وجودهما والنور هو الوجود، وقد سبق في المجلد الثالث كلام في أن الله نور السماوات، تفسير الشيخ الصدوق رحمه الله. (ش)

ومن نقصان إلى زيادة إلا رب العالمين فإنه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة، هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل (و) لا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف على غيره، مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة، ومرة لحما ودما، ومرة رفاتا ورميما. وكالبسر الذي يكون مرة بلحا ومرة بسرا ومرة رطبا، ومرة تمرا، فتتبدل عليه الأسماء والصفات والله عز وجل بخلاف ذلك.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل بن عثمان، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (هو الأول والآخر). قلت: أما الأول فقد عرفناه) وهو أنه قبل كل شيء لأنه مبدأ الجميع (أما الآخر فبين لنا تفسيره؟ فقال: إنه ليس شيء إلا يبيد) أي يهلك كالمركب الذي يفني بفناء بعض أجزائه أو جميعها (أو يتغير) من حال إلى حال كما أن النفس يتغير من جهل إلى علم ومن علم إلى جهل (أو يدخله التغير والزوال) وفي بعض النسخ الغير وهو - بالكسر - اسم من غيرت الشيء فتغير، وهذا قريب مما في الأصل، وقد يقال: هذه العبارة إشارة إلى العقول المقدسة العالية ودخول التغيرات فيها فإن صفاتها زايدة على ذواتها فقد دخلها التغير وزوال صفاتها عن مرتبة ذواتها (أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة، ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان، ومن نقصان إلى زيادة) كل ذلك معلوم مشاهد في عالم الإمكان (إلا رب العالمين فإنه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة) لا يدخله الهلاك والزوال ولا التغير ولا الانتقال لا بحسب الذات والصفات ولا باعتبار الأمور الخارجة والإضافات; لأن تلك الأمور من لوازم النقصان ولواحق الإمكان وقدس الواجب بالذات متعال عن الاتصاف بتلك الحالات (هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل) أي على نحو كان في الأزل يعني هويته التي هي وجوده الواجبي باعتبار كونه أولا قبل إيجاد الأشياء هي بعينها هويته باعتبار كونه آخرا بعد فناء الأشياء، ومن غير تغير وتبدل فيها بوجه من الوجوه (لا تختلف عليه الصفات والأسماء) (1) إذ لا يعرض له صفات متعاقبة متضادة يزول الأولى مع اسمها بعروض

ص:9


1- 1 - قوله «لا تختلف عليه الصفات والأسماء» الظاهر المتبادر إلى الأذهان الأول: بمعنى كونه في زمان ليس فيه شيء أصلا مقدما على الممكنات، والآخر: بمعنى كونه في زمان بعد فناء كل شيء وليس الفناء والعدم عند الناس بمعنى النفي الصرف بل بمعنى التبدد و التفرق وتنائر الأجزاء وزوال الهيئة، وأيضا أكثر المسلمين على خلود أهل النار في النار أبدا وعلى خلود أهل الجنة فيها كذلك. قال ابن حزم: الفناء المذكور ليس موجودا البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالأخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب نفي ويعقبه رضا ولو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده، انتهى. وإذا كان كذلك أشكل الأمر عليهم في تصور معنى الآخر وإطلاقه على الواجب تعالى، ومثله الباقي بعد فناء الأشياء، وحل الإشكال أن آخريته تعالى يعتبر بالنسبة إلى كل واحد واحد من التغيرات التي لا ينفك عنها الممكن البتة فهو تعالى بعد كل شيء لأنه بعد كل حالة وتغير وإن اعتبر بالنسبة إلى مجموع الممكنات فآخريته ليس بالزمان بل بالعلية الغائية كما أنه تعالى مقدم بالعالية الفاعلية، والدليل عليه أن كل ممكن متغير وكل متغير ناقص، والله تعالى كامل، وغاية الناقص التقرب إلى الكامل. (ش)

الأخرى مع اسمها (كما تختلف على غيره) أي كما تختلف الصفات والأسماء التي بإزائها على غيره لكون وضعه على الحدوث وبنائه على الانتقال والتغير (مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة ومرة لحما ودما ومرة رفاتا ورميما) الرفات الحطام وهو ما تكسر من اليبس والرميم العظم البالي وللإنسان صفات متعاقبة متكثرة وانتقالات متفاوتة متعددة، وله في كل مرتبة من المراتب رسم وفي كل مرحلة من المراحل اسم إلا أنه (عليه السلام) ذكر هنا ثلاث مراتب لاشتمالها على أمر غريب وصنع عجيب وهو الانتقال من الترابية إلى الحيوانية ومن الحيوانية إلى الجمادية وله في كل مرتبة من هذه المراتب وصف مخصوص واسم معلوم (وكالبسر الذي يكون مرة بلحا) البلح محركة بين الخلال والبسر والخلال (بفتح خاء نوعيست ازغوره خرما كذا في الكنز).

وقال الجوهري: البلح قبل البسر; لأن أول التمر طلع ثم خلال ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر (ومرة بسرا) وهو ما كان فيه شيء من الحموضة (ومرة رطبا) وهو ما فيه حلاوة خالصة من الحموضة (ومرة تمرا فتتبدل عليه الأسماء والصفات، والله بخلاف ذلك) المقصود بيان أن هو في الأبد هو هو في الأزل، إلا أن إثبات هذا لما كان متوقفا على عدم عروض التغير والتبدل له مطلقا تعرض له أولا مطلقا ثم أوضحه بأمثلة جزئية; تقريبا إلى الفهم.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمد بن حكيم، عن ميمون البان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد سئل عن الأول والآخر، فقال: الأول لاعن أول قبله، ولا عن بدء سبقه، والآخر لا عن نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ولكن قديم أول آخر، لم يزل ولا يزول بلا بدء ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ولا يحول من حال إلى حال، خالق كل شيء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن محمد بن حكيم، عن ميمون، البان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد سئل عن الأول والآخر فقال: الأول لا عن أول

ص:10

قبله ولا عن بدء سبقه) البدء والبديء بالهمزة أخيرا وقد يشدد الياء على فعل وفعيل: السيد الأول في السادة يعني هو الأول لكل شيء الذي لم ينشأ وجوده عن أول قبله وعن موجد سبقه لأنه الموجد لجميع الكائنات وإليه ينتهي سلسلة جميع الموجودات فهو الأول المطلق الذي ليس قبله شيء ليس لأوليته ابتداء ينتهي وجوده إليه فإذن وجوده أزلي (والآخر لا عن نهاية) يعني هو الآخر بعد كل شيء الذي لا يلحق لآخريته نهاية ينتهي إليها وجوده ويقبل العدم عندها، فإذن وجوده أبدي، والحاصل أنه ليس لأوليته بداية ولا لآخريته نهاية (كما يعقل من صفة المخلوقين) إذ من صفاتهم لحوق البداية والنهاية لوجوداتهم، وهذه الصفة لازمة للكل لامتناع مشاركتهم مع الواجب جل شأنه في الأزلية والأبدية، ثم أكد ما ذكره بقوله: (ولكن قديم أول آخر) أول باعتبار أنه مبدأ كل شيء ومنه نشأ وجود الأشياء كلها على النظام الأكمل، وآخر باعتبار رجوع جميع الأشياء وبقائه بعد فنائها، فما هو أول فهو بعينه آخر من غير اختلاف وتغير في ذاته وصفاته وهو بريء عن لحوق الوقت والمكان ووجوده في الحين والزمان فأوليته وآخريته تعودان إلى ما تعتبره الأذهان عن حالة تقدمه على وجود الأشياء وحالة تأخره عنها بعد عدمها، فهما اعتباران ذهنيان له بالقياس إلى مخلوقاته وليس هناك أولية وآخرية لأنهما فرع الوقت والزمان ولا وقت ولا زمان في عالم القدس.

(لم يزل ولا يزول) الظاهر أن «لم يزل» متعلق بالأول «ولا يزول» متعلق بالآخرة فيفيد أنه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء. ويحتمل أن يكون كل واحد متعلقا بكل واحد فيفيد أنه أول عند كونه آخرا وآخر عند كونه أولا من غير تقدم أحدهما وتأخر الآخر، ويرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): « الحمد الله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا» وسر ذلك أن القبلية والبعدية أمر يلحق الزمان لذاته والزمانيات بتوسط الزمان وقد ثبت أنه تعالى منزه عن الزمان فلا جرم لا يلحق ذاته المقدسة وما لها من صفات الكمال ونعوت الجلال شيء من لواحق الزمان فلا يجوز أن يقال مثلا: كونه أولا قبل كونه آخرا، وكونه ظاهرا قبل كونه باطنا، وكونه عالما قبل كونه قادرا، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لما يصح أن يعتبر له استحقاق واحد دائما، فلا حال يفرض إلا وهو استحق فيه أن يعتبر له الأولية والآخرية معا استحقاقا أوليا ذاتيا لا على وجه الترتيب وإن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، ويحتمل أيضا أن يكون كل واحد متعلقا بالقديم وهو ظاهر.

(بلا بدء ولا نهاية) الأول ناظر إلى قوله «لم يزل» والثاني إلى قوله «لا يزول». والوجه أن وجوب وجوده مستلزم لوجوده أزلا وأبدا وامتناع اتصافه ببداية ونهاية.

ص:11

(لا يقع عليه الحدوث) ناظر إلى ما قبله أو إلى قوله قديم; لأن الحدوث وهو الوجود بعد العدم ينافي القديم وعدم الابتداء والانتهاء.

(ولا يحول من حال إلى حال) أي لا يحول من صفة إلى صفة أخرى ولا من اسم إلى اسم آخر، وفيه إشارة إلى أن هويته الأبدية هي بعينها هويته الأزليه بلا تفاوت أصلا.

(خالق كل شيء) على تباين أو صافها وتضاد صورها وتخالف أشكالها، وهذا مما يشهد بإثباته العقل أيضا فإن العبد عند أخذ العناية الإلهية بضبعيه يعلم أن جميع الموجودات مستند إلى تدبير حكيم وتقدير عليم، والغرض من ذكره هو التأكيد والتعليل لجميع ما مر فإن كونه خالق كل شيء ينتهي إليه سلسلة الموجودات كلها ولو بوسائط يدل على أنه أول على الإطلاق وإلا لكان الأول الحقيقي غيره، فذلك الغير هو الذي ينتهي إليه سلسلة الإيجاد لا هو، هذا خلف، وقس عليه البواقي.

* الأصل:

7 - محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن لهذا الكلام وجهين، إن كنت تقول: هي هو أي أنه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل فإن (لم تزل) محتمل معنيين.

فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره وكان الله ولا ذكر والمذكور بالذكر وهو الله القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف وإنما يختلف ويأتلف المتجزىء فلا يقال: الله مؤتلف ولا الله قليل ولا كثير ولكنه القديم في ذاته; لأن ما سوى الواحد متجزىء، والله واحد لا متجزىء ولا متوهم بالقلة والكثرة، وكل متجزىء أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له، فقولك: إن الله قدير خبرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه، وكذلك قولك:

علم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ولا يزال من لم يزل عالما.

فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟

ص:12

فقال: لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ولا نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر لحظة العين وكذلك سميناه لطيفا لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك وموضع النشوء منها والعقل والشهوة للسفاد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف وإنما الكيفية للمخلوق المكيف وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصا كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزا. فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا ببصار بصر. ومحرم على القلوب أن تمثله، وعلى الأوهام أن تحده وعلى الضمائر أن تكونه جل وعز عن أدات خلقه وسمات بريته، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري) هذا الحديث مذكور (1) في كتاب التوحيد للصدوق - رحمه الله - مسندا قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق - رحمه الله - قال:

حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي: حدثني محمد بن بشير، عن أبي هاشم الجعفري (قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه) المراد بالأسماء ما دل على ذاته المقدسة مثل الله ولفظ «هو» الدال على الهوية المطلقة الصرفة الحقة وبالصفات ما دل على الذات الملحوظة معها صفة مخصوصة مثل الرحمن والرحيم والعالم والعليم والقادر والقدير وأمثال ذلك، ويحتمل أن يراد بالأسماء ما يحمل على الذات من المشتقات مثل العالم والقادر، وبالصفات المعنى المشتق منه مثل العلم والقدرة (وأسماؤه وصفاته هي هو) هذا هو الغرض من السؤال بقرينة المقام والجواب وليس الغرض من السؤال استعلام أن له أسماء وصفات في كتابه أيضا; لأن ذلك معلوم لكل من له مسكة من العقل ومتابعة للشرع (فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن لهذا الكلام وجهين) وعني أن له وجهين، ابتداء، ولا ينافي ذلك أن له ثلاثة أوجه باعتبار أن أحد الوجهين يحتمل أمرين وبيان احتماله لهذه الوجوه على

ص:13


1- 1 - قوله «هذا الحديث مذكور» وهو معجز من معجزات الإمام (عليه السلام) عند العارف الخبير إذ لا يمكن التنبه لهذه الدقائق يغير التعليم إلا للحجة المنصوب من الله تعالى وهو أقوى في الدلالة على علمهم (عليهم السلام) من الحديث المروي عنه في حكم الصيد للمحرم في بحثه مع يحيى بن أكثم في مجلس المأمون. (ش)

سبيل الإجمال أن قوله: «أسماؤه وصفاته هي هو» دل بحسب المنطوق على اتحادها معه وبحسب المفهوم على أزليتها، ثم على تقدير أن يكون مراد السائل أزليتها يحتمل أن يكون مراده أزلية علمه تعالى بها وأن يكون مراده أزلية نفسها فأشار (عليه السلام) إلى بطلان الأول والثالث وصحة الثاني بقوله (ان كنت تقول هي هو أي أنه) (1) أي الله جل شأنه (ذو عدد وكثرة) وذلك بأن تقول تلك الأسماء والصفات هي المسمى بها فإن هذا القول مستلزم للقول بتعدد الإله لما مر من أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم إلها (فتعالى الله عن ذلك) أي عن أن يكون ذا عدد وكثرة.

(وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل) يعني كانت في الأزل فإن لم تزل محتمل معنيين.

(فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها) في مرتبة ذاته الأحديه (فنعم); لأن علمه الأزلي محيط بجميع الأشياء قبل كونها كما هو محيط بها بعد كونها.

(وإن كنت تقول لم تزل تصويرها) بهذه الصور والهيئات (وهجاؤها) الهجاء - بكسر الهاء - مصدر; تقول: هجوت الحروف هجوا وهجاء وهجيته، وتهجيت كله بمعنى عددتها وتلفظت بها واحدا بعد واحد (وتقطيع حروفها) أي ذكر بعضها على أثر بعض من قولهم: جاء الخيل مقطوعات أي سراعا بعضها في أثر بعض، أو جعلها قطعة ثم تركيب بعضها مع بعض ومنه المقطعات من الثياب التي تقطع ثم تخاط.

(فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره) «معاذ الله» مثل «سبحان الله» منصوب على المصدر أي أعوذ بالله معاذا (بل كان الله ولا خلق) فكان الله ولا أسماء ولا صفات له (ثم خلقها) أي الأسماء

ص:14


1- 2 - قوله «إن كنت تقول هي هو أي أنه ذو عدد وكثرة» النظر إلى الألفاظ على وجهين الأول النظر إليها باعتبار وجودها في نفسه وهو أصوات مقطعة خارجة من الرية والحلقوم والفم والشفاه. والثاني النظر إليها باعتبار حكايتها عن المعاني، وهذا نظير الصكوك والأوراق المالية، تارة ينظر إليها باعتبار أنها قراطيس منقوشة وأخرى باعتبار حكايتها عن الذهب والفضة، فكما يختلف حكم المعاملات والبيوع إذا اختلف النظر كذلك يختلف حكم الحدوث والقدم في أسماء الله تعالى باعتبارين، فإن اعتبرت الألفاظ من حيث هي لفظ فهي حادثة البتة لأن الأسماء متعددة حسب اختلاف الحروف فلو كانت قديمة لزم تعدد القدماء وثبت شريك للباري تعالى في القدم، وإن اعتبرت من حيث حكايتها عن المبدأ الأول لم يتعدد لأن الاعتبار بالمحكي وهو واحد، كما أنك إن اشتريت طوابع البريد لنقشها وقدمتها بأضعاف القيمة المكتوبة عليها لم يكن ربا إذ قد اشتريت قرطاسا وإن اشتريت الطوابع باعتبار حكايتها عن مقدار من المال المكتوب عليها بأكثر من قيمتها لم يجز لأنك قد اشتريت المال المحكي عنه بأكثر منه، وبالجملة يختلف الحكم عقلا وشرعا وعرفا باختلاف الاعتبارات ولافرق في بطلان الحكم بقدم الأسماء بين إن يقال هذه الألفاظ عين ذات الباري أو يقال هي معه تعالى في الأزل. (ش)

والصفات (وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه) لئلا يجهلوه ولا يسموه من عند أنفسهم بما لا يليق به من الأسماء.

(وهي ذكرة) (1) بكسر الذال، والتاء أخيرا. قال الجوهري: الذكر: الذكرى نقيض النسيان وكذلك الذكرة ويحتمل أن يقرأ «ذكره» بالضمير الراجع إليه سبحانه، والحمل في الصورتين إما على سبيل المبالغة والتجوز في الإسناد أو على سبيل التجوز في الكلمة بأن يراد بالذكرة ما به الذكرى وهو آلتها.

(وكان الله ولا ذكر) إذ لم يكن في الأزل ذاكر، وإذا كان كذلك كان ما به الذكر وهو الأسماء والصفات حادثا وإن كان المذكور وهو الله جل شأنه قديما كما أشار إليه بقوله (والمذكور بالذكر هو الله (2) القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني) (3) الواو في قوله والمعاني بمعنى مع أو للعطف على الصفات أو على الأسماء يعني أن الأسماء والصفات ومعانيها اللغوية ومفهوماتها العرفية القائمة بالنفوس السافلة والعقول المقدسة العالية مخلوقة دالة على وجود الصانع القديم لأنك قد عرفت آنفا أن كل ما يتناوله اللسان أو يدركه الأوهام والأذهان فهو مخلوق. وفي بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب التوحيد للصدوق رحمة الله «مخلوقات المعاني» بالإضافة وهو الأظهر.

(والمعني بها) أي المقصود بتلك الأسماء والصفات (هو الله) يعني هو المسمى بالله (الذي لا يليق به الاختلاف والايتلاف) أي لا يليق به الانفكاك والتحليل ولا الانضمام والتركيب، أو لا يليق به الاختلاف من حال إلى حال ولا ايتلاف حال بحال، أو لا يليق به اختلاف الأجزاء وتباينها ولا ايتلاف الأجزاء وتناسبها، أو لا يليق به كونه معروضا لشيء ولا كونه مركبا من شيء، وبالجملة فيه كناية عن نفي التركيب مطلقا; إذ كل مركب لا يخلو من هذين الأمرين كما أشار إليه بقوله (وإنما

ص:15


1- 1 - قوله: «وهي ذكرة» يعنى أن الوجه الصحيح أن الأسماء حكاية ينظر إليها لدلالتها على المعبود وليتذكر بها العابد الله تعالى ولا ينظر إليها بنفسها بالنظر الاستقلالي بل بالنظر الآلي. والذكرى كلمة استعملها الامام (عليه السلام) للدلالة على ما نعبر عنه بالنظر الآلي والحكاية. (ش)
2- 1 - قوله: «والمذكور بالذكر» أي المحكي عنه لهذا الحاكي والمعنى المستقل المدلول عليه بهذا الذكرى هو الله تعالى وإنما الأسماء والصفات هي حكايات عنه تعالى مخلوقات حادثات. (ش)
3- 2 - قوله: «والمعاني» الأولى في تركيب العبارة ما اختاره صدر المتألهين وهو أن الواو لعطف الجملة والمعاني مبتدأ «والمعنى بها» عطف عليه «وهو الله» خبر، يعنى أن معاني الأسماء والصفات والمعنى لهذه المعاني هو الله تعالى كأنه جعل الألفاظ كالعالم والقادر والحي وغيرها في رتبة ومعانيها في رتبة والذات في رتبة فقال: أما الالفاظ فهي حادثة وأما المعاني التي مرجعها جميعا إلى معنى واحد وهو الذات هو الله تعالى القديم الأزلي. (ش)

يختلف ويأتلف المتجزي) بأجزاء خارجية أو وهمية أو عقلية أو اعتبارية صرفه كتجزئة البسيط مثلا إلى ذات وإمكان ووجود وغير ذلك (فلا يقال الله مؤتلف) يوجد فيه الايتلاف والتعدد والكثرة وهذا متفرع على السابق; لأن عدم جواز القول بأنه مؤتلف بمنزلة النتيجة لعدم كون الاختلاف والايتلاف لايقا به (ولا الله قليل ولا كثير) الظاهر أنه عطف على قوله «الله مؤتلف» ومندرج تحت القول فهو متفرع على السابق أيضا.

فإن قلت: تفريع المعطوف عليه على السابق ظاهر، وأما تفريع المعطوف فغير ظاهر لعدم اشتمال السابق عليه.

قلت: من البين أن الاختلاف والايتلاف لا زمان للقلة والكثرة وإذا ثبت أن اللازم غير لايق به فقد ثبت أنه لا يجوز وصفه بالملزوم.

وقال سيد المحققين: إنه عطف على صدر الجملة السابقة لا على متعلق القول منها، وهذه الجملة كالتعليل للجملة السابقة أي الله سبحانه ليس داخلا في جنس القلة والكثرة والقليل والكثير، ومن البين أنه لا يصح أن يقال: مؤتلف إلا لما كان داخلا في جنس الموصوف بالقلة والكثرة.

(ولكنه القديم في ذاته) دون غيره وهذا تأكيد للسابق لأن قدمه يقتضي عدم اتصافه بالاختلاف والايتلاف والقلة والكثرة، وإنما قال «في ذاته» للإشعار بأنه ليس له صفات زائدة على ذاته.

(لأن ما سوى الواحد متجزي والله واحد لا متجزي ولا متوهم بالقلة والكثرة) حجة لقوله «لا يليق به الاختلاف» أو لقوله «فلا يقال الله مؤتلف» وما بعده، أو للحصر المستفاد من قوله: «ولكنه القديم» يعني أن ما سوى الواحد الحق متجزي بالمهية والوجود والعوارض والكيفيات، والله جل شأنه واحد من جميع الجهات لا يتجزي بحسب الذات والصفات ولا يتوهم اتصافه بالقلة والكثرة; لأن التجزية والاتصاف بالقلة والكثرة يستلزمان الحاجة والنقصان اللازمين لطبيعة الإمكان.

لا يقال: قوله «واحد» ينافي قوله «ولا متوهم بالقلة والكثرة»; لأن الواحد مبدأ للكثرة عاد لها فلا محالة تلحقها الكثرة الإضافية فإن كل واحد بهذا المعنى هو قليل بالنسبة إلى الكثرة التي يكون مبدأ لها.

لأنا نقول: ليس المراد بالواحد هنا ما هو مبدأ للكثرة تعد به ولو كان كذلك لكان من جملة

ص:16

الآحاد المعدودة وكان داخلا في الكم المنفصل تعالى الله عن ذلك، بل هو تعالى واحد بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود وأنه لا كثرة في ذاته بوجه لا ذهنا ولا خارجا وأنه لم يفته شيء من كماله بل كل ما ينبغي له فهو له بالذات والفعل (وكل متجزي أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له; لأن كل متجزي ممكن مفتقر في وجوده ووجود أجزائه وانضمام بعضها إلى بعض إلى خالق وكذلك كل متصف بالقلة والكثرة فقد ثبت من هذه المقدمات (1) أن الله تعالى هو القديم وحده وأنه المبدأ لجميع الكائنات وأنه غير مختلف ولا مؤتلف ولا متجزي ولا متوهم بالقلة والكثرة.

(فقولك) الفاء للتفريع (إن الله قدير خبرت) أي خبرت به على حذف العائد. قال الجوهري:

أخبرته بكذا وخبرته بمعنى (أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة) أي بهذه الكلمة وهي «الله قدير» فاللام للعهد (العجز) على وجه العموم يعني أنه ليس عاجزا عن شيء من الأشياء فقدرته عبارة عن نفي العجز عنه مطلقا لا أنها صفة زائدة عليه قائمة به، بخلاف قدرة غيره فإنها صفة قائمة به وبينها وبين العجز نوع مصاحبة وملاءمة، فإن الممكن وإن كان ذا قدرة موصوف بالعجز قطعا (وجعلت العجز سواء) وزايدا عليه غير متطرق إليه أصلا.

ووجه ذلك التفريع أنه لما بين سابقا أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء وأنه القديم وحده وأنه واحد لا يتجزى ولا يأتلف، ظهر أن صفاته كلها راجعة إلى سلب أضدادها عنه لا إلى إثبات أمر له; لأن ذلك ينافي جميع الأمور المذكورة، وهذا مذهب الحكماء وصرح به بهمنيار في التحصيل وذهب إليه الإمامية والمعتزلة. (2) وهو الحق الذي لا ريب فيه، وقالت الأشاعرة: صفاته أمور

ص:17


1- 1 - قوله «فقد ثبت من هذه المقدمات» كلام الإمام يشير إلى نفى الجوهر الفرد، وبيان ذلك: أن الموجود إما واجب أو ممكن، والممكن إما جوهر أو عرض، وأيضا إما مجرد أو مادي. أما العرض فلا يتوهم كونه أزليا واجبا لاحتياجه إلى الموضوع. وأما الجوهر فإما أن يكون مركبا أو بسيطا ولا يتوهم كون المركب واجبا لاحتياجه إلى أجزائه وأما البسيط المادي وهو الجوهر الفرد أي الجزء الذي لا يتجزأ، إن كان موجودا كان متعددا، فإن كان كل واحد واجبا لزم تعدد الواجب، وإن كان أحدها واجبا كان ترجيحا من غير مرجح، وإن كان المجموع واجبا لزم التركيب في الواجب، وكذلك البسيط المجرد كالعقول والنفوس يحتمل الكثرة والقلة من حيث العدد، فثبت أن ما سوى الواجب تعالى متجز إن كان مركبا، واحتمل القلة والكثرة إن كان بسيطا والواحد غير المتجزي، ولا المحتمل للقلة والكثرة منحصر في ذات واجب الوجود تعالى. والحق أن الجوهر الفرد غير موجود وإن كل جسم ينقسم إلى غير النهاية. (ش)
2- 1 - قوله «ذهبت إليه الإمامية والمعتزلة» بين كلام الإمامية والمعتزلة فرق; لأن المعتزلة قائلون بنفي الصفات، والإمامية قائلون بإثباتها وكونها عين الذات، وبينهما اشتراك في نفي الصفات الزائدة على الذات على ما يدعيه الأشاعرة ويثبتون القدماء الثمانية زائدة على ذات الواجب، وقد مر في الجزء الثالث في الصفحة 326 أن إرجاع صفات الواجب إلى نفي أضدادها غير صحيح بتمام معنى الكلمة; لأن نفي النقص لا يوجب إثبات الكمال مطلقا، مثلا: الجمادات فاقدة لصفات العلم والقدرة والسمع والبصر ولأضدادها أيضا لعدم الشأنية فلا يقال: الجدار أعمى أو أصم أو أمي عاجز، ثم إن الحكماء موافقون للإمامية حتى أهل السنة منهم. (ش)

موجودة قديمة زائدة على ذاته تعالى قائمة بها. ويلزمهم مفاسد كثيرة في الزبر الحكمية والكتب الكلامية.

منها أنه يلزم خلوه عن الكمال واتصافه بالنقص في مرتبة ذاته الحقة وعليته المتقدمة. ومنها أنه يلزم أن يكون محلا لأعراض ينفعل عنها ويستكمل بها. ومنها أنه يلزم عليه الانتقال من حال إلى حال.

(وكذلك قولك عالم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه) لا أنك أثبت له علما زايدا عليه وكذا الحال في سائر الصفات الكمالية إنما يقصد منها نفي ما يقابلها، ثم أوضح أن علمه وقدرته وغيرهما مما يليق به إنما هو بنفس ذاته لا بالأسماء والصفات بوجه آخر مقابل للوجه الأول وهو أن العلم باق لا يزال، وتلك الأسماء والصفات يطرأ عليها العدم والفناء. فقال: (وإذا أفنى الله الأشياء) (1) أي إذا تعلقت إرادته الكاملة بفناء الأشياء التي هي في حد ذاتها باطلة غير مستحقة للوجود (أفنى الصورة) أي الصورة اللفظية والمعنوية يعني أفنى اللفظ ومفهومه القائم بالنفوس السالفة والعقول العالية (والهجاء والتقطيع) فيصير بعد الوجود معدوما كما صار بعد العدم موجودا مثل سائر الممكنات (ولا يزال عالما من لم يزل عالما) يعني أن الحق بذاته عالم لا يزال كما أنه عالم لم يزل من غير انتهاء لعلمه ولا ابتداء، فعلم أن علمه ليس باعتبار هذا اللفظ أعني العالم ولا باعتبار مفهومه الذي يدركه الخلق وكذلك بواقي الأسماء (فقال الرجل) إذا كان الله ولم يكن معه غيره (فكيف سمينا ربنا سميعا؟) وكونه سميعا في الأزل يقتضي وجود المسموع فيه والحال أنه ليس معه في الأزل شيء.

ص:18


1- 1 - قوله «إذا أفنى الأشياء» فناء الأشياء بمعنى تفرق أجزائها وزوال صورها وانتفاء منافعها لا بمعنى العدم الصرف وكذلك قوله تعالى (كل من عليها فان) و (كل شيء هالك إلا وجهه) وأمثال ذلك إلا أن يقال بأن المراد بالفناء الهلاك الذاتي للمكن فإنه من جهة ذاته ليس وإنما يصير موجودا بعلته، قال العلامة المجلسي - رحمه الله - في البحار: وأكثر متكلمي الإمامية على عدم الانعدام بالكلية، ثم نقل كلام المحقق الطوسي - رحمه الله - في التجريد: «والسمع دل عليه ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم (عليه السلام) انتهى» واختار المجلسي (رحمه الله) التوقف قال: والحق أنه لا يمكن الجزم في تلك المسألة بأحد الجانبين ثم طعن على الشيخ المفيد والطبرسي قدس سرهما أشد طعن وأفحشه وقال: إنهما خرجا عن صريح آيات القرآن في نفخ الصور إذ قالا إن الصور جمع الصورة، والنفخ في الصور بمعنى النفخ في صورة الأشباح والأجسام حتى يحيى نظير النفخ في صورة آدم وهو يدل على وجود الأجسام عند النفخ وعدم انعدامها. (ش)

(فقال): سمينا ربنا سميعا (لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع) (1) من الأصوات يعني سمعه عبارة عن علمه الأزلي بأصوات خلقه ولغاتهم ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر منها أو أصغر (ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس) لامتناع احتياجه إلى الآلة، والسمع بهذا المعنى هو الذي يقتضي وجود المسموع ولا يتحقق بدونه.

ولما كان سؤال الرجل مشعرا بأنه حمل صفات الخالق على ما هو المعروف في الخلق حتى قال ما قال وأجاب (عليه السلام) وهمه بالجواب المذكور زاده إيضاحا بذكر شيء من صفاته الذاتية والسلبية على وجه لائق به تعالى تقويما وتثبيتا له على منهج الصواب، فقال:

(وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك) من المبصرات بالذات أو بالعرض يعني أن المراد بكونه بصيرا كونه عالما بتمام المبصرات جليها وخفيها حتى أنه لا يخفى عليه أثر الذرة الصماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء (ولم نصفه ببصر لحظة العين) لتنزهه عن الآلة البصارة التي هي من خواص الحيوان، والإبصار بهذه الآلة هو الذي لا يمكن تحققه بدون وجود المبصرات دون الإبصار بالمعنى المذكور.

وفي كتاب التوحيد للصدوق: «ولم نصفه بنظر لحظ العين».

(وكذلك سميناه لطيفا) قد يراد باللطيف رقيق القوام، وقد يراد به صغير الجسم، وقد يراد به عديم اللون من الأجسام، والله سبحانه منزه عن إطلاق اللطيف عليه بأحد هذه المعاني لاستلزامها الجسمية والإمكان فبقي أن يكون إطلاقه عليه باعتبار آخر وهو علمه بذوات الأشياء الصغيرة الحقيرة وصفاتها وأفعالها وحركاتها كما أشار إليه بقوله (لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك) (2) مما لا يكاد تستبينه العيون وتدركه الأبصار ويفرق بين الذكر والأنثى وبين الحديث المولود والقديم لكمال صغره (موضع النشء منها والعقل) (3) النشء بفتح النون وسكون

ص:19


1- 2 - قوله: «لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع» وهذا معنى قول الحكماء أن علمه تعالى بالجزئيات بالوجه الكلي لا بالإحساس فإن الإحساس إنما هو بتأثر الآلات والجوارح (ش).
2- 1 - قوله: «وأخفى من ذلك، وقد تبين في عصرنا وجود حيوانات صغار جدا لا يدرك بالطرف ولها آلات وجوارح ولكل منها وظائف وقد ذكرها علماء الفن ولا مجال هنا لتفصيلها. (ش)
3- 2 - قوله: «موضع النشء منها» الحيوان من الأجسام النامية وفيه القوة النباتية الشاملة للغاذية والنامية والمولدة ويسميها الأطباء قوى طبيعية. وفيه القوة الحيوانية الشاملة للحس والحركة، وكل حيوان صغير أو كبير له موضع النشء أي آلة مهيئة لتنمية الحيوان بإيراد الغذاء كالكبد وله موضع العقل أي آلة مهيئة لضبط الحركات. وليس العقل هنا واردا على اصطلاح المعقول وهو إدراك الكليات كما قلنا مرارا: إن حمل الأخبار على اصطلاح أرباب الفنون مزلة; لأن عقد الاصطلاح كان مؤخرا عن زمان صدور الأخبار، وبالجملة لكل حيوان آلة للإدراك كالدماغ والعصب، فالبعوضة مثلا لابد أن يكون له جوارح وآلات للتنمية وجوارح وآلات للحس والإدراك، والله يعلم موضع كل واحد لأنه تعالى خلقها على وفق حكمته. (ش)

الشين المعجمة والهمزة أخيرا بالضمتين وتخفيف الواو قبل الهمزة على وزن فعول وبالضمتين وتشديد الواو مثل النمو على القلب والإدغام مصدر «نشأ الغلام» إذا شب وارتفع من حد الصبا وقرب من الإدراك وقد يسمى به النسل أيضا فيقال هذا نشء سوء، وبكسر النون وسكون الشين والواو أخيرا بمعنى شم الريح جمع نشوة، ويؤيد هذا وقوع نشوة في بعض النسخ والمراد أنه يعلم موضع القريب من الإدراك وموضع الإدراك منها يعني يعلم حال هاتين أو يعلم زمانيهما أو يعلم موضع نسلها يعني آلة التناسل من الذكر والأنثى أو يعلم موضع شم الريح منها يعني شامتها (والشهوة للسفاد) عطف على الموضع أو على النشء (1) أي يعلم الشهوة منها المعدة للسفاد أو يعلم موضعها، والسفاد بالكسر نزو الذكر على الأنثى، وفي بعض النسخ للسفاد، وكأنه نشأ من تحريف السفاد على أن له أيضا معنى صحيحا; لأن الشهوة علة للسفاد.

(والحدب على نسلها) عطفه أيضا يحتمل الأمرين، والحدب - محركة -: التعطف، يقال: حدب عليه أي تعطف، يعني يعلم موضع تعطفها على نسلها أو يعلم تعطفها عليه.

(وإقام بعضها على بعض) الإقام مصدر أصله إقامة حذفت التاء المعوضة عن العين وأقيمت الإضافة مقامها كما في نحو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يعني يعلم موضع إقامة بعضها على بعض أو يعلم قيام ذكورها وأقويائها بأمور إناثها وضعفائها وحفظ نظامها وأحوالها على قدر الطاقة والجهد.

(ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار) «في الجبال» إما حال عن الأولاد أو متعلق بالنقل. والمفاوز جمع المفازة، قال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأنها مهلكة من فوز إذا هلك.

وقال الأصمعي: سميت بذلك تفاولا بالسلامة من الفوز وهو الظفر والنجاة. والأودية جمع الوادي على غير قياس; لأن الفاعل لا يجمع على الأفعلة قياسا وإنما يجمع عليها الفعيل فكأنها

ص:20


1- 1 - قوله: «عطف على الموضع أو على النشء» فإن كان عطفا على الموضع كان المعنى يعلم الله تعالى سفادها والحدب على نسلها. آه. وإن كان عطفا على النشء كان المعنى يعلم موضع شهوة السفاد وموضع الحدب على النسل، وفيه تكلف ولا يمكن في قوله بعد ذلك: «ونقلها الطعام والشراب» إلا أن يقال الموضع مصدر ميمي أي يعلم وجود هذه الأمور، والحاصل أن الله تعالى ركب في الحيوان قوى لحفظ شخصه واليه أشار بقوله (عليه السلام) «موضع النشء والعقل» وقوى لحفظ نسله وبقاء نوعه وإليه أشار بقوله: «والشهوة للسفاد» فذكر (عليه السلام) أربعة أمور لها دخل في حفظ النوع ليتنبه للباقي. الأول الشهوة، والثاني الحدب على النسل، فكل حيوان يخطر بنفسه لحفظ أولاده بما هو عجيب، ذكره أصحاب هذا الفن. الثالث: قيام بعضها على بعض كالذكور على الإناث لحفظها كما في الحمامة أو قيام الملكة والعمال في النحل كل على وظيفته لحفظ نوعها، الرابع: نقل الطعام والشراب إلى أولادها وهذا كله بإلهام الله تعالى. (ش)

جمع ودي مثل سري وأسرية للنهر. والقفار جمع القفر وهو مفازة لا نبات فيها ولا ماء (فعلمنا أن خالقها لطيف) أي عالم بالأشياء اللطيفة الصغيرة والأمور الدقيقة الحقيرة لضرورة أن خلقها لا يتصور بدون العلم بها (بلا كيف) أي بلا علم زائد عليه (1) قائم به أو بلا كيف مطلقا لضرورة أن حصول الكيف له يوجب إمكانه ونقصانه والممكن الناقص في حد ذاته لا يصدر عنه مثل هذا الخلق العجيب والصنع الغريب (وإنما الكيفية للمخلوق المكيف) أي للمخلوق الذي بناه على اتصافه بالكيفيات والصفات الزايدة عن ذاته ولذلك كان في مرتبة ذاته خاليا عن جميع الكمالات مستعدا لها استعدادا قريبا أو بعيدا، وأما الخالق الكامل من جميع الجهات فليس له استعداد للصفات أصلا تعالى عن ذلك علوا كبيرا (وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق) وهو الأخذ الشديد عند ثوران الغضب والتناول عند الصولة.

وقيل: البطش قوة التعلق بالشيء وأخذه على الشدة، وإضافة القوة; على الأول لامية وعلى الثاني بيانية، وإنما قال: البطش المعروف من المخلوق; لأن البطش قد يطلق عليه سبحانه باعتبار معنى آخر وهو العذاب كما قال: (إن بطش ربك لشديد).

(ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه) بينه وبين المخلوق في البطش بهذا المعنى وفيما يتوقف عليه البطش من القوى الجسمانية مثل القوة الغضبية والشهوية ولو احقهما (ولاحتمل الزيادة); لأن القوة الجسمانية قابلة للزيادة إلى حد معين قطعا، ولأن قوة بطش الرب وجب أن تكون زايدة على قوة بطش المخلوق (وما احتمل الزيادة احتمل النقصان) ضرورة أن نصفه وربعه أنقص منه، ولأن ما يحتمل الزيادة يندرج تحت الكم المتصل مثل المقادير أو المنفصل مثل العدد، وكل واحد منهما محتمل للنقصان كما هو محتمل للزيادة (وما كان ناقصا كان غير قديم) (2); لأن القديم كامل من جميع الجهات فما كان ناقصا في ذاته أو في وجوده أو في

ص:21


1- 1 - قوله: «بلا علم زائد عليه» بل الظاهر أن معنى اللطيف ليس بمعنى رقة القوام كالهواء، فنعترف بأنه لطيف ولا نعلم كيفيته كما نعلم كيفية لطف الماء والهواء. (ش)
2- 2 - قوله: «ما كان ناقصا كان غير قديم» أي كان مخلوقا وما ليس بمخلوق لا بد أن يكون كاملا. (ش)

صفاته كان مفتقرا في استكماله إلى الغير وكل مفتقر ممكن وكل ممكن حادث (وما كان غير قديم كان عاجزا) وما كان عاجزا لا يصلح أن يكون مبدأ لجميع الموجودات، أما الثاني فظاهر.

وأما الأول فلأن كل ما كان غير قديم كان حادثا، وكل ما كان حادثا كان عاجزا مقهورا بين يدي من أحدثه، فقد ثبت من هذه المقدمات أن الرب المبدأ لجميع الخلق لا يجوز أن تقع المشابهة بينه وبينهم بوجه من الوجوه، كما أشار إليه بقوله: (فربنا تبارك وتعالى لا شبه له) يدل عليه أيضا أنه تعالى ليس بجنس فيعادله الأجناس، ولا بفصل فيشابهه الفصول، ولا بشبح فيضارعه الأشباح، ولا بعرض فيماثله الأعراض، ولا بمخلوق فيقع عليه الصفات ولا بمنعوت فيشاركه سائر الذوات.

(ولا ضد له) يدل عليه أيضا أن ربنا خالق الأضداد كلها فلو كان له ضد لكان هو ضدا لضده فيكون خالقا لنفسه ولضده وذلك محال، وأيضا المضادة من الأمور الإضافية التي تتوقف على وجود الغير فلو كان له ضد لكان وجوده تعالى متعلقا بوجود غيره (1) فلا يكون واجب الوجود، هذا خلف (ولا ند) الند - بالكسر - مثل الشيء في الحقيقة الذي يناده أي يخالفه في أموره من «ند البعير» إذا نفر واستعصى وذهب على وجهه شاردا (ولا كيف ولا نهاية) الكيفيات حالات وصفات عارضة لشيء ما، وقد عرفت مرارا أنه تعالى لا يحل فيه شيء ولا يتصف بصفات، والنهاية غاية لامتداد يقف عندها ولا امتداد فيه جل شأنه (ولا بصار بصر) لاستحالة أن يكون له قوة باصرة يبصر بها المبصرات، وفي بعض النسخ «ولا ببصار ببصر» بزيادة الباء على البصار والبصر، وفي بعضها «ولا تبصار بصر» على صيغة التفعال وإضافته إلى بصر (ومحرم على القلوب أن تمثله) مثله تمثيلا صوره حتى كأنه ينظر إليه، وكل من مثله فقد ألحد عنه إذ كل ما له مثل فليس هو الواجب لذاته; لأن المثلية إن تحققت من كل وجه فلا تعدد، وإن تحققت في تمام الحقيقة لزم تعدد الواجب، وإن تحققت في جزئها لزم تركيبه، وإن تحققت في عارض لزم حلول العرض فيه، وكل ذلك محال (وعلى الأوهام أن تحده) إذ ليس له ذاتيات ولا نهايات فلا يجري فيه الحد العرفي واللغوي أصلا.

(وعلى الضمائر أن تكونه) أي تتصور هويته وماهيته اللائقة به إذ تضل الضماير في أمواج تيار إدراك ذاته وتكل البصائر عن مشاهدة عظمة وجوده وصفاته (جل وعز عن أدات خلقه) لعل

ص:22


1- 1 - ويأتي أن شاء الله بيانه. (ش)

الأدات بفتح الهمزة وهي الآلة مثل السامعة والباصرة واللامسة وغيرها من القوى الحيوانية المشهورة وغير المشهورة.

فإن قلت: مد التاء في الأدات يمنع أن يراد منها الآلة; لأن الأداة بمعنى الآلة إنما هي بالتاء المدورة.

قلت: الأمر فيه هين سيما إذا كان المقصود رعاية المناسبة بينها وبين السمات.

وقال سيد المحققين الإدات هنا بكسر الهمزة بمعنى إثقال الخلق وإحماله وهي الصفات والهويات الزايدة والمهيات والأنيات الفاقرة والكميات والكيفيات الباطلة في حد ذواتها، أو بمعنى إثقال المخلوقات وإتعابها إياه في خلقها وإعطائها مؤن الوجود وكمالاتها، وهي جمع إدة بكسر الهمزة وتخفيف الدال المهملة المفتوحة، إما اسم الحاصل بالمصدر أو مصدر وأده يئده، والجمعية بحسب تكثر المضاف إليه، إذ المعنى المصدري يتكثر له حصص بتكثر ما يضاف إليه وإن لم يكن يتصور له حصص متكثرة بحسب نفسه لا من تلقاء الإضافة وأصلها الوأد وهو الثقل كما أن عدات جمع عدة وأصلها الوصف، أو هي بالكسر أيضا جمع الأدي بفتح الهمزة وكسر الدال المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت بمعنى الأهبة، أو هي بالكسر لفظة مفردة معناها المعونة وهي في الأصل مصدر آديته إذا أعنته. هذا كلامه مع تغيير يسير فتأمل فيه (وسمات بريته) السمات جمع سمة وهي علامة يعرف بها، يعني أنه جل وعز عن علامات بريته وخواصها من الأين والأينيات والكيف والكيفيات والأشباح وسائر الصفات والحيثيات التابعة لطبيعة الإمكان والناشئة من القوى الجسمانية والتصرفات النفسانية في الحيوان (وتعالى عن ذلك علوا كبيرا) لاستحالة المماثلة بينه وبين خلقه في شيء من الأمور المذكورة وإلا لما كان بينه وبينهم فصل ولا له عليهم فضل فيستوي الصانع والمصنوع، وتكافي البديع والمبتدع، وهو باطل بالضرورة العقلية، والتنبيهات النقلية، والبراهين الشرعية.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي

ص:23

عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل عنده: الله أكبر فقال: الله أكبر من أي شيء؟ فقال: من كل شيء، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): حددته فقال: الرجل: كيف أقول؟ قال: قل: الله أكبر من أن يوصف.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الرجل عنده: الله أكبر فقال: أكبر من أي شيء) الغرض استعلام حاله هل يعلم ذلك أم لا (فقال: من كل شيء) (1); لأن عظمته ذاتية مطلقة فإذا اعتبرت فيه الإضافة لحقته على الإطلاق غير مقيدة ببعض الأشياء دون بعضها (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): حددته) بالتخفيف من الحد وبالتشديد من التحديد يعني شرحت عظمته بوجه وجعلتها محدودة متعينة بنحو وهو أنه أكبر من كل شيء فإن فيه دلالة على أن في المفضل مثل ما في المفضل عليه من الكبر والعظمة مع زيادة وإن كانت تلك الزيادة هنا غير متناهية ولا شبهة في أن عظمة المفضل عليه محدودة متناهية، فإذا اعتبرتها في المفضل فقد حددته بأن له هذا المقدار من العظمة مع زيادة، وهذا نحو من تحديده وتوصيف عظمته والإحاطة بها (فقال الرجل: كيف أقول؟ قال: قل: الله أكبر من أن يوصف) بشيء من الأشياء وبنحو من الأنحاء حتى التوصيف بأنه أكبر من كل شيء. ففي هذه الكلمة الشريفة تنزيه كلي له بوصف من الأوصاف ونعت من النعوت وحد من الحدود.

وبالجملة تفسير السائل إشارة إلى أنا وجدنا عظمته فوق عظمة غيره على الإطلاق، وهذا لا يخلو من تحديد عظمته بوجه ما ولو بفرض العقل، وتفسيره (عليه السلام) إشارة إلى عجز العقل عن إدراك عظمته وغيرها من الصفات، وعن توصيفه بشيء منها وبينهما بون بعيد.

قال أبو عبد الله الآبي - وهو من أعاظم علماء العامة - في كتاب إكمال الإكمال: واختلف في «الله أكبر» فقيل: أن «أكبر» بمعنى كبير، وقيل: أنه على بابه والمعنى: أكبر من أن يدرك كنه عظمته.

* الأصل:

9 - ورواه محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن جميع ابن

ص:24


1- 1 - قوله: «فقال من كل شيء» وذلك لأن الظاهر المتبادر من لفظة «أكبر» وكل ما هو مشتق من الكبر العظمة الجسمانية ووظيفة المخاطب حمل الكلام على الظاهر المتبادر حتى يثبت خلافه بالدليل، وقد اتفق علماؤنا في التوحيد على تأويل ما ظاهره يعطي التجسيم وإن كان التأويل على خلاف الأصل، ولا ريب أن الظاهر حجة فيما يتعلق بالعمل ويحصل منه اليقين بضم مقدمة عقلية وهي أن الله تعالى لا يمكن أن يريد غير ما يدل عليه ظاهر كلامه مثلا قوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) ظاهره وجوب غسل الوجوه والأيدى بالماء ويحصل اليقين لنا بأنه المراد فإنه تعالى حكيم عادل عالم لا يأمر بشيء لا يفهمه المخاطب بخلاف أصول الدين إذ لعله تعالى لم يرد ظاهر كلامه ولا يكون في عدم فهم المخاطب غائلة ومفسدة فيجب فيه التوقف إلى أن يتبين فكان يجب على من سمع قوله تعالى (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ) مثلا أو (يد الله مبسوطة) التوقف في معناه حتى يسمعوه ممن قوله حجة; لأن الظاهر لا يفيد إلا الظن ولا معنى للتعبد به في أصول الدين إلا أن من حصل له الظن وجب عليه أن يكون له الظن وهو تحصيل الحاصل إذ الظن حاصل له قهرا ولا يمكن أن يقال: من حصل له الظن وجب عليه اليقين، فإنه محال لا يتعلق به التكليف. (ش)

عمير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أي شيء الله أكبر؟ فقلت: الله أكبر من كل شيء، فقال: وكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: وما هو؟ قال: الله أكبر من أن يوصف.

* الشرح:

(ورواه) أي روى مضمون الحديث المذكور (محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن جميع بن عمير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) أي شيء الله أكبر؟) الغرض تنبيه المخاطب على الخطأ وإرشاده إلى الصواب (فقلت الله أكبر من كل شيء فقال) على سبيل الإنكار (وكان ثم) أي في مرتبة ذاته الحقة ورتبته السابقة، أو في الأزل أو في نفس الأمر (شيء فيكون أكبر منه).

والحاصل أن الله أكبر في مرتبة ذاته وفي الأزل وفي نفس الأمر، ولا يصح التفسير المذكور - أعني من كل شيء - بوجه من هذه الوجوه، أما على الأولين فلأنه لم يكن في مرتبة ذاته المقدسة ولا في الأزل شيء حتى يتصور قياسه به ويقع فيه معنى التفضيل، وأما على الآخر فلأنه - تعالى شأنه - هو الحق الثابت بذاته وفي نفس الأمر وكل ما سواه فهو باطل صرف وهالك محض بذاته، فلا ينبغي أن يقاس الحق الثابت على الباطل الصرف ويفضل عليه لانتفاء النسبة بينهما (فقلت فما هو) أي أي شيء الله أكبر (قال: الله أكبر من أن يوصف) لأنه محرم على نوازع ثاقبات الفطن توصيفه وعلى عوامق نافذات الفكر تكييفه، وعلى غوايص سابحات النظر تصويره، وعلى لطايف الأوهام أن تكنيه، وعلى ثواقب الأفهام أن تستغرقه، وعلى مشاعر الأذهان أن تمثله، قد يئست عن الإحاطة به طوامح العقول ونضت عن الإشارة إليه بحار العلوم.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام ابن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سبحان الله فقال: أنفة لله.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سبحان الله فقال: أنفة لله) أنف من الشيء يأنف - من باب علم - أنفا وأنفة بفتح الهمزة والنون فيهما إذا استنكف عنه وكرهه وشرف نفسه عنه والمعنى استنكافه تعالى عما لا يليق به وتنزهه عما لا يجوز له وتقدسه عن كل ما يغاير ذاته وهو عبارة عن التنزيه المطلق.

* الأصل:

11 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن سليمان

ص:25

مولى طربال عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (سبحان الله) ما يعني، به؟ قال: تنزيهه.

* الشرح:

(أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن سليمان مولى طربال، عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله سبحان الله ما يعني به، قال: تنزيهه) عن النقايص والمعايب وغيرهما مما لا يليق بجناب الحق وساحة القدس مثل الضد والند والشريك والنظير والتشابه بالخلق والاتصاف بالصفات والتكيف بالكيفيات، وإنما حذف متعلق التنزيه للدلالة على التعميم.

* الأصل:

12 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد ابن محمد بن عيسى جميعا، عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني: (عليه السلام) ما معنى الواحد، فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى: (لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).

* الشرح:

(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني (عليهما السلام) ما معنى الواحد) سأل عن تفصيل معناه وتفسير مغزاه.

(فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية) (1) أي تفرده بالإلهية ووجوب الوجود وسائر ما يختص

ص:26


1- 1 - قوله: «اجماع الألسن عليه» هنا مسألتان; الأولى: عن معنى الواحد، والثانية: الدليل عليه. وظاهر السؤال أنه عن المعنى وتفسير الشارح يدل على أنه بصدد الاستدلال على إثبات هذه الصفة. إشكال آخر وهو أن اتفاق العقول وإجماع الألسن على وجود الله تعالى ليس دليلا على وحدته، كيف وأكثر الناس مشركون، وليس من شأن الإمام الاستدلال على التوحيد بإجماع الناس فالأوضح إرجاع الجواب إلى بيان معنى الوحدة ليستقيم المعنى ولا يرد عليه الإشكال. وذلك بأن يقال: ليس معنى الوحدة في صفته تعالى الوحدة العددية المتبادرة إلى الأذهان إذ ليس هو تعالى واحدا من الموجودات حتى يكون له ثان وثالث بل هو الموجود الحقيقي ليس غيره موجودا إلا غير مستقل بنفسه وحينئذ فيكون معنى الوحدة عين معنى التشخص فإن حقيقته تعالى عين حقيقة الوجود والوجود عين التشخص، والتشخص بمعنى عدم احتمال تعدد الأفراد; لأن هذا الاحتمال لا يتطرق إلا في ماهية كلية وليس وجوب الوجود ماهية كلية وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يشير أحد إلى فرد منه وآخر إلى فرد آخر، بل كل الناس يشير إلى فرد واحد كما في كل مشخص. ألا ترى أن المسيح (عليه السلام) رجل متشخص بعينه فكل من تلفظ بلفظ المسيح أراد ذلك الواحد بعينه بخلاف ما إذا تلفظ بلفظ النبي فإنه يمكن أن يريد أحد به موسى (عليه السلام) والآخر عيسى (عليه السلام) ومعنى الوحدة فيه (تعالى) أنه متشخص بذاته وكل من تلفظ بلفظ الله أو تصور معناه فإنما يشير إلى ذلك الواحد بعينه وإن كان مشركا. (ش)

به وإنما أجاب بالمشتق منه مع أن السؤال عن المشتق لأن المشتق لا يمكن معرفته إلا بمعرفة المشتق منه والمراد بإجماع الألسن المقالية على سبيل الاختيار والاضطرار أو إجماع الألسن الحالية بنطق العجز والافتقار (كقوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) انطباقه على الاحتمال الأول ظاهر; لأن الظاهر أنهم كانوا يقولون ذلك بلسان المقال على تقدير السؤال، وسر ذلك أن الله تعالى وهب كل نفس قسطا من معرفته حتى نفوس الجاحدين له فإنها أيضا معترفة بوجوده ووحدانيته وإيجاده لهم لشهادة أعلام وجوده وآيات صنعه في أنفسهم على ذلك بحيث تحكم صراحة عقولهم بالحاجة إلى صانع حكيم وخالق عليم وتقر باللسان عند الاضطرار والشدائد والكربات كما تشهد به التجربة والآيات والروايات وأما على الاحتمال الثاني فيحتاج إلى تأويل ذكره بعض المحققين وهو أنهم يقولون ذلك بألسنة مهياتهم وإنياتهم الشاهدة على أنفسهم بالليسية والبطلان، ولخالقهم بالقيومية والسلطان، وإن أنكرت ألسنة أفواههم وجحدت أفواه جثثهم.

ص:27

باب آخر وهو من الباب الأول المذكور فيه معاني الأسماء واشتقاقها

اشاره

(إلا أن فيه زيادة وهو الفرق) تذكير الضمير باعتبار الخبر (ما بين المعاني التي تحت أسماء المخلوقين) ليرتفع الاشتراك المعنوي بينه وبينهم وينتفي التشابه بالكلية.

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: وهو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ لكنه المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا.

قلت: أجل جعلني الله فداك لكنك قلت: الأحد الصمد وقلت: لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانية؟ قال: يا فتح أحلت ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني، فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دالة على المسمى وذلك أن الإنسان وإن قيل: واحد فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحد; لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزاة، ليس بسواء، دمه غير لحمه ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق، فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد.

قلت: جعلت فداك فرجت عني فرج الله عنك، فقولك: اللطيف الخبير فسره لي كما فسرت الواحد فإني أعلم أن لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل، غير أني أحب أن تشرح ذلك لي فقال:

ص:28

يا فتح إنما قلنا: اللطيف لخلق اللطيف ولعلمه بالشيء اللطيف أو لا ترى وفقك الله وثبتك إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان - لصغره - الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم، فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنه ما لا يكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله ابن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام)) قال: العلامة: الفتح ابن يزيد الجرجاني صاحب المسائل لأبي الحسن (عليه السلام) واختلفوا فيه (1) أنه هو الرضا أو الثالث (عليهما السلام) والرجل مجهول، والإسناد إليه مدخول. وقيل: المراد به إما الرضا (عليه السلام) كما يلوح من كتاب التوحيد للصدوق، وإما الثالث (عليه السلام) كما يلوح من كشف الغمة.

أقول: وقد نقل الصدوق - رحمه الله - في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) هذا الحديث بهذا السند عن الرضا (عليه السلام) (قال: سمعته يقول: وهو اللطيف الخبير) يعني هو اللطيف بدقائق الأشياء والخبير بحقايقها (السميع البصير) يعني هو السميع للأصوات الخفية من الحيوان الصغار في لجج البحار وبطون القفار، والبصير للأشياء الدقيقة مما لا يكاد يدرك بلحظ العيون وطرف الأبصار (2) (الواحد الأحد الصمد) يعني هو الواحد المطلق الذي لا تعدد فيه ذاتا وصفة، والأحد المستنكف عن الشريك والنظير، والصمد الذي يلوذ به جميع الكائنات ويرجع إليه جميع

ص:29


1- 1 - قوله: «واختلفوا فيه» روايته عن الرضا وعن الهادي (عليهما السلام) ممكن محتمل إذ لا يبعد بقاؤه من زمن الرضا (عليه السلام) إلى عصر الهادي (عليه السلام) ولم يكن الفاصلة بين قتل الرضا (عليه السلام) وإمامة الهادي (عليه السلام) إلا عشرين سنة وفتح بن يزيد مجهول الحال، وراويه مختار بن محمد بن مختار غير مذكور في الرجال وإنما ذكروا مختار بن بلال أو هلال بن مختار وأما ابن محمد بن مختار فكان متأخرا عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكره الشيخ منتجب الدين في الفهرست ويوجد رواية الفتح بن يزيد عن الرضا صريحا في كثير من أبواب الفقه يطلب من مظانه. (ش)
2- 2 - قوله: «في لجج البحار» فيه تعسف إذ ليس لحيوان الماء صوت. (ش)

الممكنات (لم يلد ولم يولد) يعني لم يكن له ولد وزوجة ولم يكن له والد وأم لتنزهه عن لواحق الشهوة وتوابع الجسم وخواص الإمكان ومعايب الافتقار وسمات الحدوث (ولم يكن له كفوا أحد) المقصود نفي إمكان وجود الكفؤ له لا بيان عدم وجوده مع إمكانه (ولو كان كما تقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ) إذ لو وقع التشابه بين الواجب والممكن فإن دخل الممكن في حد الواجب لزم أن يكون الممكن واجبا خالقا، وإن دخل الواجب في حد الممكن لزم أن يكون الواجب ممكنا مخلوقا، وعلى التقديرين يقع الاشتباه بين الخالق والمخلوق ولم يتميز أحدهما عن الآخر.

وفي كتابي التوحيد وعيون أخبار الرضا (عليهما السلام) للصدوق رضي الله عنه هكذا: «ولم يكن [له] كفوا أحد منشئ الأشياء ومجسم الأجسام ومصور الصور، لو كان كما تقول المشبهة» وفي العيون: «لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق - إلى آخر الحديث» (لكنه المنشئ) وحده لا يشاركه في الإبداع والإنشاء أحد، وكل ما سواه منشأ مخلوق (فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه) أي فرق بين مجعولاته وميز بين مخلوقاته بأن جعل بعضها جسما وبعضها صورة وبعضها غير ذلك، وميز أيضا بين الأجسام والصور بحيث لا يشتبه شيء منها بما يماثله من نظايره (إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا) «إذ» متعلق بفرق وظرف له يعني أن الفرق المذكور وقع في وقت لم يكن معه - عز شأنه - في ذلك الوقت شيء حتى يقع بينهما التشابه والتماثل، وإذا لم يكن التشابه واقعا في ذلك الوقت لا يجوز أن يقع في وقت من الأوقات، وإلا لزم النقص فيه جل وعز وأنه محال (قلت: أجل جعلني الله فداك) «أجل» بفتح الهمزة والجيم وسكون اللام: من حروف التصديق; لأن المخاطب يصدق بها ما يقوله المتكلم (لكنك قلت: الأحد الصمد وقلت: لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانية؟) توهم من قلة التدبير أن كلامه (عليه السلام) مشتمل على التناقض، ثم الاستفهام إن كان على حقيقته فالأمر فيه سهل لأن الغرض منه استعلام مجهول، وإن كان للتقرير أو التوبيخ ففيه سوء أدب بل كفر (قال: يا فتح أحلت ثبتك الله) أي تكلمت بالمحال، أو هل تحولت وانتقلت عن عقيدتك -

ص:30

على أن تكون الهمزة للاستفهام - والدعاء بالتثبت يناسب كلا الاحتمالين (إنما التشبيه في المعاني) هذا الحصر مما اتفق عليه أرباب العربية وأصحاب اللسان سواء أريد بالمعاني طرفا التشبيه أو أريد بها الجامع بينهما (فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دلالة على المسمى) في بعض النسخ «دالة» وفي بعضها «دليل».

ولا يرد أن اشتراك الأسماء يوجب الاشتراك والتشابه في المعنى فإن كون كل واحد منهما صاحب هذا الاسم ومسمى به معنى مشترك بينهما فيقع التشبيه بذلك المعنى; لأن هذا المعنى أمر اعتباري لا تحقق له بوجه، واعتباره وعدم اعتباره لا يوجب تغير الذات أصلا (وذلك) إشارة إلى ما علم سابقا وهو أنه لا تشبيه في المعنى (أن الإنسان وإن قيل واحد فإنه) (1) أي فإن القائل (يخبر) بقوله واحد (إنه جثة واحدة) الجثة شخص الإنسان (وليس باثنين) يعني أن الواحد إذا أطلق على الإنسان يراد به الواحد العددي الذي هو نصف الاثنين ومبدأ الكثرة وجزء لمراتب الأعداد الغير المتناهية، والمسمى به بهذا المعنى لا ينافيه التركيب والتأليف والتجزئة والايتلاف بمهية وإنية وصفة وكيفية وهيئة وأينية كما أشار إليه بقوله:

(والإنسان نفسه ليس بواحد) يعني اسمه واحد لا نفسه وشخصه (لأن اعضاء ه مختلفة) كالرأس واليد والرجل والأذن والأنف إلى غير ذلك (وألوانه مختلفة) كالبياض والسواد والحمرة والصفرة والكدرة إلى غير ذلك. (ومن ألوانه مختلفة غير واحد) في الكلام حذف بقرينة المقام أي ومن أعضاؤه وألوانه مختلفة ليس بواحد، كيف (وهو أجزاء مجزاة ليست بسواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشرته، وسواده غير بياضه) إنما اقتصر على الأعضاء الظاهرة التي لا جواز لإنكارها لكون دلالتها على التركيب أظهر وإلا فالإنسان أيضا مهيته غير إنيته، ونفسه غير مهيته، وذاته غير صفاته، وقواه غير ذاته، وجنسه غير فصله، وفصله غير تشخصاته (وكذلك سائر جميع الخلق) ذكر السائر مع الجميع للمبالغة في جريان هذا الحكم في

ص:31


1- 1 - قوله: «إن الإنسان وإن قيل انه واحد» الوحدة على أقسام: الأول: الواحد المجازي وهو اشتراك الاثنين أو أكثر في معنى واحد، كأن يقال: الإنسان مع الحمار واحد، أي متحد في الحيوانية، والسواد والبياض واحد أي مشتركان في كونهما عرضا أو لونا، ويشمل التجانس والتماثل والتساوي والتشابه والتناسب والتوازي وغيرها، وهي بالترتيب الاشتراك في الجنس والنوع والكم والكيف والنسبة والوضع وغيرها، وهذه كلها أقسام الواحد المجازي، القسم الثاني الواحد الحقيقي أي الحقيقي بحسب اللغة يشمل الوحدة الحقة أي الواحد الذي صفته عين ذاته وهو الله تعالى والوحدة غير الحقة أي الذي صفته زائدة كالنقطة والواحد العددي والمفارق مما موضوعه لا يقبل القسمة وكالجسم الواحد والإنسان الواحد مما موضوعه يقبله وفي جميعها شوب كثرة ولو من ماهية ووجود. (ش)

جميع المخلوقات بحيث لا يشذ منها شيء حتى البسايط فإنها أيضا مركبة من جنس وفصل ومن مهية وإنية وصفات وكيفية.

(فالانسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى) لما عرفت أنه مركب من الأمور المذكورة فهذا نتيجة للسابق (والله تعالى هو واحد لا واحد غيره); لأن الواحد إذا اطلق عليه سبحانه يراد به أنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه ولا تجزئة ولا تأليف من جنس وفصل ومهية وإنية وصفة وكيفية فهو الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه أصلا لا في الذات ولا في مرتبة الذات ولا بعد الذات، وهو متفرد بالواحد بهذا المعنى لا يشاركه أحد من الممكنات إذ شيء منها لا يخلو من تعدد وتكثر، ومن ثم اشتهر أن عالم الإمكان عالم الكثرة، لا يوجد فيه معنى الوحدة أصلا.

(لا اختلاف فيه ولا تفاوت) أي لا اختلاف في ذاته لانتفاء التركيب ولا تفاوت بين ذاته وصفاته لانتفاء الزيادة (ولا زيادة ولا نقصان) لامتناع اتصافه بالجسمية والمقدار (فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد) الظاهر أن قوله «من أجزاء مختلفة» متعلق ب «المؤلف» وأن «المؤلف» خبر المبتدأ وهو الإنسان وأن «المخلوق المصنوع» صفة للانسان يعني أن الإنسان المخلوق المصنوع مؤلف من أجزاء مختلفة كما عرفت ومن جواهر شتى وهي الجنس والفصل وغيرهما فليس بواحد في الحقيقة وإنما صار باجتماع هذه الأجزاء شيئا واحدا عدديا، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون متعلقا بالمصنوع ويكون المصنوع خبر المبتدأ، ويحتمل أيضا أن يكون خبر المبتدأ لكنه بعيد.

(قلت: جعلت فداك فرجت عني فرج الله عنك) (1) قال الجوهري: الفرج من الغم، تقول: فرج

ص:32


1- 1 - قوله: «فرج الله عنك» من التحيات في تعارف الناس ولم يقصد به غيره. وهذا الذي اختلج في ذهن السائل واستشكله حتى رفعه الإمام (عليه السلام) هو الذي يختلج في ذهن أكثر الناس لاشتباه الاشتراك بالتشكيك ولا يسهل عليهم تصور معنى واحد مختلف الأفراد في الكثرة والقلة كما ترى في اختلاف المتأخرين في الصحيح والأعم وتصوير الجامع في الأصول كالصلاة مختلف أفرادها في كثرة الأجزاء والشرائط، وقلتها بحسب اختلاف الحالات في السفر والحضر والصحة والمرض وواجد الماء وفاقده، فمفهومها مشكك وان كان واحدا وليس مشتركا لفظيا لمفاهيم متكثرة، وكذلك الواحد يطلق على الله تعالى وعلى الممكنات وليس مشتركا لفظيا وإن كان مشككا فبين الإمام (عليه السلام) الفرق بين الاشتراك والتشكيك، والحق أنها مشتركة معنى وإن اختلفت مصاديقها. ونقل الشارح القزويني عن المحدث الأسترآبادي أنها مشتركة لفظا وليس بشيء. وسيجئ لذلك تتمة في شرح الحديث اللاحق إن شاء الله عن اختيار الشارح الاشتراك اللفظي. (ش)

الله غمك تفريجا وكذلك فرج الله غمك يفرج بالكسر، فعلى هذا يجوز في فرجت وفرج الله التخفيف والتشديد، والمفعول محذوف للدلالة على التعميم (فقولك اللطيف الخبير فسره لي كما فسرت الواحد) (1) على وجه أزال الشبهة عني وانشرح بذلك صدري (فإني أعلم) على سبيل الإجمال (أن لطفه على خلاف لطف خلقه) الذي هو رقة القوام أو صغر الحجم أو عدم اللون أو التلطف في الأمر والرفق المستندين إلى لين الطبيعة (للفصل) بالصاد المهملة أي للفرق الظاهر بينه وبين خلقه فلا يجوز أن يكون لطفه كلطفهم، وفي بعض النسخ «للفضل» بالضاد المعجمة أي للفضل له سبحانه على خلقه (غير أني أحب أن تشرح ذلك لي، فقال: يا فتح إنما قلنا: اللطيف للخلق اللطيف) الخلق مصدر بمعنى الإيجاد، واللطيف صفة له، يعني إنما قلنا لله تعالى: إنه لطيف للإيجاد اللطيف، وإنما وصف

ص:33


1- 2 - قوله: «اللطيف الخبير فسره لي» يعلم من ذلك أن الغرض من تفسير هذه الأسماء دفع ما يوهم التشبيه وأن لا يعتقد في الله تعالى صفات الأجسام على ما كان عليه أهل الحشو أصحاب الحديث من العامة على مقتضى جمودهم على حمل الألفاظ على الظاهر المتبادر منها كما هو دأبهم والفرق بين ما يتعلق بالعمل وبين ما يتعلق بالتوحيد وأمثاله وأن ظاهر الالفاظ في الفروع والتكاليف حجة بخلاف التوحيد وأمثاله إذ يستحيل على الحكيم تعالى في الفروع أن يأمر عباده بألفاظ لا يفهمون معناها حتى يمتثلوا أو يدل ظاهرها على خلاف مراده بخلاف ما لا يتعلق بالتكاليف والعمل إذ لا يستحيل أن يريد بالألفاظ خلاف ظواهرها ويؤخر بيانها إلى وقت آخر. وقال علماؤنا في التكاليف أيضا: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ويجوز تأخيرها عن وقت الخطاب، وعلى هذا فما لا يتعلق بالعمل يجوز تأخير بيانه مطلقا; إذ ليس فيه وقت حاجة إلى العمل وعلى الناس أن يعترفوا بمفادها الواقعي إجمالا، ولذلك ترى أن تفسير الأسماء غير متواتر من صدر الإسلام عن جميع فرق المسلمين كتواتر تفسير الصلاة والصوم والحج وكان أكثرهم لا يعرفون معاني الواحد واللطيف وغيره من الصفات، وأما الشارح المولى خليل القزويني فقال: الغرض من هذا الحديث رد اليهود والفلاسفة والزنادقة وبنى العباس وبيان أن فاعل النفوس الناطقة وما تحت فلك القمر هو الله تعالى اللطيف الخبير وليس له كفو ونظير، وأما هؤلاء فقد أثبتوا التجرد لغير الله تعالى ونفوذ الإرادة وقالوا إن فاعلنا مجرد صادر بالإيجاب من مجرد... إلى آخر ما قال. وفيه أن اليهود لم يعهد منهم القول بالإيجاب بل الله تعالى في مذهبهم فاعل مختار خلق السماوات والأرض بإرادته، وأما بنو العباس فمقتضى التدبر والاعتبار أنهم كسائر الناس من بني عقيل وبني تميم وبني يشكر كان فيهم من العقايد ما كان في غيرهم لم يختصوا بمذهب ولعل بعضهم كانوا على مذهب الزنادقة وبعضهم على مذهب أهل السنة أو الشيعة، وأما الزنادقة فما كانوا يعترفون بموجود مجرد على ما مر لا بوجود الواجب تعالى ولا العقل ولا النفس ولم يقولوا بإيجاب في العلة والمعلول أصلا بل باختلاط النور والظلمة بالبخت والاتفاق، ولا يناسب هذا الحديث أقوالهم البتة، وأما الفلاسفة فليسوا على مذهب واحد بل بعضهم سني وبعضهم شيعي وبعضهم ملحد، وكثير منهم من النصارى أو اليهود أو المشركين، وإنهم وإن اعتقدوا تجرد النفوس والعقول ولكن ليس في الحديث إشارة إلى اعتقادهم أصلا وليس من مذهبهم الإيجاب والاضطرار في واجب الوجود ولا في العقول وإنما استفاد الشارح المذكور ذلك بقياس رتبه في ذهنه من الشكل الثاني هكذا: واجب الوجود علة تامة ولا شئ من الفاعل المختار بعلة تامة أنتج واجب الوجود ليس بفاعل مختار. والكبرى ممنوعة إذ لا يمتنع أن يريد الفاعل المختار صدور الفعل عنه دائما وانحصار العلة التامة في الفاعل غير الشاعر لفعله المضطر فيه ممنوع جدا. (ش)

الإيجاد باللطيف باعتبار تعلقه بشيء لطيف ولو لم يكن الخلق مصدرا بحرف التعريف وكان مضافا إلى اللطيف إضافة المصدر إلى المفعول كما وقع في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) حيث قال: «إنما قلنا اللطيف لخلق اللطيف» لكان أظهر في إفادة المقصود، ويحتمل أن يكون الخلق بمعنى المخلوق يعني إنما قلنا: إنه تعالى لطيف لمكان المخلوق اللطيف، ومحصل الاحتمالين أنه لطيف باعتبار أنه خلق خلقا لطيفا مع جميع ما يحتاج إليه في نشوئه وبقائه من القوة السامعة والباصرة واللامسة وغيرها من القوى الظاهرة والباطنة وأودع جميع ذلك فيه مع صغر حجمه بحيث لا تستبينه أحداق العيون ونواظر الأبصار (لعلمه بالشيء اللطيف) الظاهر أنه تعليل ثان لتسميته تعالى باللطيف، وفي بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «ولعلمه» بالواو، وهو الأظهر، وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون تعليلا لتسميته تعالى بالخبير; لأن السائل سأله عن تفسير اللطيف الخبير جميعا، إلا أن هذا الاحتمال بعيد نظرا إلى ظاهر قوله (عليه السلام): «إنما قلنا اللطيف» حيث لم يذكر الخبير، اللهم إلا أن يقال: اكتفى بذكر اللطيف عن ذكر الخبير تعويلا على قرينة السؤال، ولما أشار بقول كلي على سبيل الإجمال (1) إلى أنه تعالى لطيف باعتبار خلقه خلقا لطيفا وعلمه بالخلق اللطيف، أراد أن ينبه على ذكر بعض مخلوقاته اللطيفة على سبيل التفصيل ويبين لطف صنعه في صغر ما خلقه وأحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق سمعه وبصره وسوى عظمه وبشره على غاية صغره فقال:

(أو لا ترى) بالواو في أكثر النسخ وفي بعضها ألا ترى بدونها (وفقك الله وثبتك) حذف متعلق الفعلين للدلالة على تعميمه وشموله للخيرات كلها (إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف) قد ذكرنا في المجلد الأول من جملة ذلك الأثر ما دل على كمال علمه تعالى سبحانه بالأشياء الدقيقة والأمور الخفية، ومن أراد الاطلاع عليه على وجه أكمل فليرجع إلى كتاب توحيد المفضل المنقول عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار) بالضم الصغير، قال الجوهري: صغر الشيء وصغير وصغار بالضم (ومن البعوض) البعوض البق والواحدة البعوضة (والجرجس) بكسر جيمين بينهما

ص:34


1- 1 - قوله: «على سبيل الإجمال» وهذا الاعتقاد الإجمالي كاف في تفاصيل أصول الدين إذ لم يكن الراوي قبل أن يجيب الإمام (عليه السلام) ويفسر له معنى اللطيف ضالا بسبب إجمال الاعتقاد وإنما زادت معرفته بسبب التفسير، وكذا التكليف في جميع ما يشتبه على الانسان من تفاصيل المبدأ والمعاد وجب عليه الاعتراف به إجمالا وإيكال تفسيره وحقيقته إلى أهله وإلى أن يحين حينه. (ش)

راء ساكنة لغة في القرقس وهو البعوض الصغار، فذكره بعد البعوض من باب ذكر الخاص بعد العام (وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون (1) بل لا يكاد يستبان لصغره) الموجب لخفاء الامتياز وتقارب الجثث (الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم) الحدث بالتحريك: الحادث وذلك لغاية صغر القديم بحيث يكون الحادث مثله في الجثة فلا يتميز عنه (فلما رأينا صغر ذلك في لطفه) أي فلما رأينا صغر جسمه مع لطف هيئته التي عليها صورته وصورة أعضائه، ف «في» بمعنى مع، ويحتمل الظرفية أيضا (واهتداءه) عطف على صغر ذلك أو على لطفه (للسفاد) أي نزو الذكر على الأنثى قضاء للشهوة وطلبا للذة (والهرب من الموت) وما ذلك إلا لأن له قوة مدركة للموت والحياة ومنافعهما ومضارهما ولا يعلم قدر تلك القوة وقدر محلها إلا هو.

(والجمع لما يصلحه) يجمع في الحر للبرد وفي الصيف للشتاء وفي أيام تمكنه من الحركة لأيام عجزه عنها، وهو عارف بقوانين معاشه ونظام أحواله وتدبير وجوده وتحصيل بقائه (وما في لجج البحار) عطف على ما يصلحه لبيانه وتفسيره، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «مما في لجج البحار» وهو الأظهر في البيان وعطفه على صغر ذلك أيضا محتمل. (وما في لحاء الأشجار) اللحاء بالكسر والمد: قشر الشجر (والمفاوز والقفار) فكل وإن كان في غاية الصغر ونهاية الضعف وكمال دقة ما يقوم به شخصه من العظام والعصب والأوتار (2) والعروق والرباطات وغير ذلك من الأجزاء

ص:35


1- 2 - قوله: «ما لا يكاد يستبينه العيون» لما كان الغرض تفهيم معنى اللطيف للمخاطب والواجب الاستشهاد بحيوان يعترف بوجوده، ذكر (عليه السلام) أولا من الحيوان الصغار ما رآه المخاطب وكان من غاية الصغر بمثابة يقرب من أن لا يرى وقد ثبت في زماننا بمنظارات مكبرة وجود حيوان لا يرى بالبصر أصلا (غير ما يسمى بالميكروب والجراثيم وفيروس مما هو من خلية واحدة) بل حيوان تام ذي رأس وبدن وجوارح وأشار إليه (عليه السلام) بعد ذلك بقوله: لا تراه عيوننا، ومنه عامل الجرب في الإنسان والحيوان. وذكر الطنطاوي في المجلد الخامس والعشرين في الصفحة 136، هذا الحيوان قال: هي نوع من العنكبوت قلما ترى بالعين المجردة، وهذه تحدث تحت الجلد ثلمة تكون سببا للمرض الذي ذكرناه، ولقد كان الناس من قبل يظنون أن ذلك المرض الجلدي ليس له سبب من خارج، ولقد ثبت الآن ثبوتا قاطعا أن سبب ذلك المرض إنما هو وجود هذه الحشرة تحت الجلد. إن ذلك محل المرض الذي فتكت به تلك الحشرة بما يسمى مرهم الكبريت أودهن الكبريت كاف لطرد ذلك المرض انتهى. وما ذكره من العلاج بالكبريت مأخوذ من القدماء وإن نسبه الطنطاوي إلى الطب الجديد وخطأ السابقين، فقد عد الشيخ في القانون من خواص الكبريت قلعه للجرب بالجملة. هذا حيوان كامل من جنس العناكب رأيت تصويره منه ذكر وأنثى وله رأس وأرجل ويسفد ويبيض في النقب الذي يحفره على جلد الإنسان وكثير من الحيوانات ومع ذلك لا يرى بالبصر لصغره وربما يجتمع من ضم خمسة من أفرادها ميلميتر واحد. (ش)
2- 1 - قوله: «من العظام والعصب والأوتار» اختص المفسر الطنطاوي بذكر تفاصيل هذه الأمور، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بتفسيره، وقد أورد في تفسير سورة النمل الصفحة 154 وما بعدها من المجلد الثالث عشر في وصف عين النملة ما حاصله أن لها خمسة أعين; ثلاث بسيطة في مقدم الرأس واثنتين مركبتين كل واحدة من مائتي عين على جانبي الرأس وكل واحدة من هذه الأربعمائة تتركب من قرنية وحولها أهداب وتحت القرنية مخروط تحته العدسية كالبلور (وهي التي نسميها الرطوبة الجليدية وفي اصطلاح العامة إنسان العين) إلى غير ذلك من النسوج كالشبكية والغشاءات الفاصلة بين كل واحدة وأخرى وأعصاب يصل العين بالدماغ ليدرك الحيوان فما ترى في صغر هذه الأعضاء مع أن مجموع الأربعمائة لا ترى بالبصر لغاية صغرها. (ش)

والأعضاء التي لا يعلم تشريحها إلا هو، يطلب رزقه وما يصلح به أمره بإعلام إلهي وإلهام رباني حيث هيأ له الصانع القدير وقدر له العليم الخبير (وإفهام بعضها عن بعض منطقها) (1) الإفهام إما بكسر الهمزة أو بفتحها، ولفظة «عن» وفهم بعض منطقها كما في كتاب العيون يرجح الثاني وضمير «منطقها» يعود على الأول إلى البعض الأول وعلى الثاني إلى البعض الثاني، والتأنيث باعتبار إرادة البعوضة أو الحيوانات، والمراد بمنطقها إما ما دل على مطالبها ومقاصدها من الحركات والإشارات والأصوات على سبيل الاستعارة، أو المراد به النطق الحقيقي المشتمل على الصوت والتقطيع، ويؤيد الثاني ظاهر قوله تعالى: (وإذ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) (وما يفهم به أولادها عنها) من الحركات والرموز الخفية التي ألهمها الصانع الخبير (ونقلها الغذاء) بالمناقير والأفواه والأنياب (إليها) أي إلى أولادها قبل استكمالها تعطفا بها وتحننا عليها.

ص:36


1- 1 - قوله: «وإفهام بعض عن بعض منطقها» وذكر الطنطاوي تفصيلا في حياة النمل الاجتماعية ومنطقها وتربية صغارها لا نستطيع نقلها تفصيلا، ومما قال: إن الملكة إذا باضت تتجمع النملات العاملات حولها وتحمل البيوض بأفواهها وتمضي بها إلى المكان الدافئ الذي أعدته لها وهناك تشرع تعرف البيوض بحسب حجمها فتضع الكبيرات في صف والصغيرات في صف، ومتى نفقت بيوضها وخرجت تضعها العاملات في شكل دائرة وتجعل رؤوسها إلى خارج الدائرة لكي تسهل عليها تغذيتها، ثم إن المربيات تبالغ في تنظيف أوكارها ولا سيما أوكار الصغار وتضع في عشوش الصغار نوعا من الاسفنج تصنعه من المواد الناعمة المختلفة فمتى اتسخت خراطيم النملات وعلق الوحل على أفواهها تسرع المربيات إلى هذا الاسفنج وتمسكه وتمسح به أفواه الصغيرات وخراطيمها انتهى. وحكي في الصفحة 144 قصة حرب وقعت بين قريتين من قرى النمل بينهما مستنقع ماء صغير وألقي عليه خشبة صارت كالجسر، وكان من حكاية حربهم أن نملة من إحدى القبيلتين خرجت فرأت صفوف أخرى قادمة تتدفق على الجسر فأسرعت إلى عشها وأبلغت الخبر إلى قبيلتها فما لبثت هذه أن خرجت أيضا صفوفا للقتال وجرت المعركة الهائلة دامت أربعة أيام بلياليها وفي خلالها حدثت هدنة بضع ساعات، والظاهر أن نملة لم تستطع ضبط غضبها فخرقت شروط الهدنة واستؤنفت المعركة ثانيا، وشوهد عدد عديد من الجرحى تنتفض في مصارعها، وأما القتيلات فكانت مطروحة في مصارع مختلفة بلا حراك. انتهى بتلخيص. وأورد في الصفحة 162 رسم منازلها وصورة البيوت والحجرات ومخازن الأقوات والغرف المعدة لتربية الصغار وجمع البيوض وجبانة لدفن الموتى، فإن النمل تدفن أجساد موتاها. ولا يخفى أن هذه الحياة الاجتماعية لا يمكن إلا بأن يفهم بعضها ما يريده الآخر، قال: ان ذلك بتبادل الخواطر ويحدث بين أفكارها تيار نظير التلغراف اللاسلكي، وقال: إن السبب في ضعف هذه الملكة في الإنسان هو عدم استعمالها بعد أن تمكن من الكلام والخطابة. (ش)

(ثم تأليف ألوانها) عطف على صغر ذلك و «ثم» لمجرد التفاوت في الرتبة فإن تأليف الألوان وأشرابها وإظهار كل واحد منها مع كمال الاختلاط من أعظم الأدلة على كمال لطف الصانع وعلمه بدقائق الأشياء (حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة) حمرة بالجر بيان للألوان أي ثم تأليف حمرة مع صفرة، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى الألوان وما بعدها صفة لها، وفي كتاب العيون: «حمرة مع صفرة وبياضا مع خضرة» بنصب «بياضا» فوجب نصب «حمرة» أيضا بتقدير:

أعني، أو على أنها حال من الألوان (وأنه ما لا يكاد عيوننا تستبينه) وأنه بفتح الهمزة وتشديد النون عطف على «صغر ذلك».

وقال بعض الأفاضل: وأنه بسكون النون وفتح الهاء أمر من نهى ينهي، والموصول منصوب على المفعولية وعبارة عن الأجزاء والمعنى: اسكت عما لا تدركه عيوننا من أجزائها وتأليف بعضها مع بعض. شبه السكوت عن الشيء بالنهي عنه في عدم إجرائه على اللسان والأمر بالسكوت عنه لعدم إمكان تفصيله (لدمامة خلقها) الدمامة بفتح الدال المهملة: الحقارة، والدميم كأمير: الحقير، وتذكير ضمير الموصول تارة وتأنيثه أخرى باعتبار اللفظ والمعنى.

(لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا) لأن صغر الحجم وحقارة المقدار على وجه الكمال أخرجه من أن تدركه العين أو تناله اليد و «لا تراه» إما استيناف أو بمنزلة إضراب عن قوله «لا يكاد» ونصبه على الحال بعيد; لعدم ظهور عامل له (علمنا) جواب لما (أن خالق الخلق) الذي أقامه على قوائمه وبناه على دعائمه مع حقارة بنيته ولطافة هيئته وركب فيها من لطائف الصنعة وأودعها من طرائف الحكمة ما عرفت.

(لطيف لطف بخلق ما سميناه) أي رفق به ودقق خلقه وعلم دقائق مصالحه وأعطاه ما يليق بحاله من الحقير والنفير (بلا علاج) أي بلا مباشرة بالأعضاء والجوارح أو بلا تجربة ولا مزاولة ولا تدريج، تقول: عالجت الشيء معالجة وعلاجا إذا زاولته ومارسته (ولا أداة ولا آلة) العطف للتفسير. قال الجوهري: الأداة الآلة ويحتمل أن يراد بالأداة الأداة البدنية مثل القوى الجسمانية وبالآلة الآلة الخارجية كالمنشار والمنحت وغيرهما مما يحتاج إليه الصانع الزماني، ويحتمل أيضا أن يراد بالآلة المادة والمدة، وبالأداة الصفة الزايدة. وعدم استناد فعله تعالى إليهما على جميع التقادير ظاهر لأنهما من الأمور الحادثة المتعلقة بأمر حادث لا يتم فعله إلا بها ويفتقر في كماله

ص:37

إليها، والله جل شأنه قديم كامل في ذاته وفعله لا يفتقر إلى شيء أصلا (وإن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء) أشار بذلك إلى الفرق بين الصانع الحادث الناقص في حد ذاته وبين الصانع القديم الكامل في مرتبة ذاته الحقة القدوسية بأن الأول كما هو نفسه زماني ومادي ومدي وآلي كذلك فعله وصنعه زماني ومادي ومدي وآلي لاستحالة أن يفعل هو بلا علاج ولا مزاولة ولا أداة ولا آلة ولا مادة ولا مدة شيئا، وأما الثاني فكما أن ذاته الحقة منزهة عن جميع النقايص والافتقار كذلك صنعه للمجعولات المادية وفعله للمخلوقات المدية منزه عن النقص والافتقار (1) إلى العلاج والأداة والآلة والمادة والمدة، سبحان من إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون.

فإن قلت: عطف قوله «وإن كل صانع شيء» على جواب لما يشعر بأن هذا أيضا علمناه من السابق، وليس في السابق ما يدل عليه فما وجه ذلك؟ قلت: الوجه فيه أنا إذا علمنا من السابق أن الصانع الحق لطيف بالمعنى المذكور فقد علمنا أن كل صانع غيره ليس بلطيف بذلك المعنى; لاستحالة وقوع التشابه بينهما في أمر من الأمور، فقد دل السابق التزاما على أن كل صانع غيره تعالى فمن شيء صنع.

* الأصل:

2 - علي بن محمد مرسلا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال: اعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفته التي دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميته فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه، وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء، وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه. ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للأول، ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها فسمى نفسه سميعا، بصيرا، قادرا قائما، ناطقا، ظاهرا، باطنا، لطيفا، خبيرا قويا، عزيزا، حكيما عليما وما أشبه هذه الأسماء، فلما رأى ذلك من أسمائه القالون المكذبون وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شيء مثله ولا شيء من

ص:38


1- 1 - قوله: «عن النقص والافتقار» إذا كان صنعه من شيء لزم وجود شيء كالمادة قبل وجوده تعالى أو معه وهو يستلزم كون المادة واجب الوجود بالذات، ويلزم منه تعدد الواجب وهو باطل فلابد أن تكون المادة مخلوقة ولا يجوز أن يكون صنعه تعالى عن شيء. (ش)

الخلق في حاله قالوا: أخبرونا إذ زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له، كيف شار كتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها؟ فإن في ذلك دليلا على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض إذ جمعتم الأسماء الطيبة، قيل لهم: إن الله تبارك وتعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين، والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا فقد يقال للرجل: كلب وحمار، وثور، وسكرة، وعلقمة، وأسد كل ذلك على خلافه وحالاته لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليه; لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب، فافهم ذلك رحمك الله، وإنما سمي الله تعالى بالعلم بغير علم حادث علم به الأشياء، استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والروية فيما يخلق من خلقه ويفسد ما مضى مما أفنى من خلقه مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلا ضعيفا، كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا فيه جهلة وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلى الجهل. وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا.

فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت، وسمي ربنا سميعا لابخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به كما أن خرتنا الذي به نسمع لا نقوى به على البصر ولكنه أخبر أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات، ليس على حد ما سمينا نحن، فقد جمعنا الاسم بالسمع واختلف المعنى وهكذا البصر لا بخرت منه أبصر كما أنا نبصر بخرت منا لا ننتفع به في غيره ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وهو قائم ليس على معنى اتتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم يخبر أنه حافظ كقول الرجل القائم بأمرنا فلان. والله هو القائم على كل نفس بما كسبت. والقائم أيضا في كلام الناس: الباقي. والقائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل: قم بأمر بني فلان أي أكفهم.

والقائم منا قائم على ساق، فقد جمعنا الاسم ولم نجمع المعنى، وأما اللطيف فليس على قلة وقضافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد، أو يحد بوصف، واللطافة منا الصغر والقلة، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما الخبير فالذي لا يعزب

ص:39

عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فعند التجربة والاعتبار علمان ولولاهما ما علم ; لأن من كان كذلك كان جاهلا والله لم يزل خبيرا بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما الظاهر فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل: ظهرت على أعدائي وأظهرني الله على خصمي، يخبر عن الفلج والغلبة، فهكذا ظهور الله على الأشياء، ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده ولا يخفى عليه شيء وأنه مدبر لكل ما برأ، فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى، لأنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك، والظاهر منا البارز بنفسه والمعلوم بحده، فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى، وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا، كقول القائل: أبطنته يعني خبرته وعلمت مكتوم سره، والباطن منا الغايب في الشيء المستتر وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وأما القاهر فليس على معنى علاج ونصب واحتيال ومداراة ومكر، كما يقهر العباد بعضهم بعضا، والمقهور منهم يعود قاهرا والقاهر يعود مقهورا، ولكن ذلك من الله تبارك وتعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله وقلة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون، والقاهر منا على ما ذكرت ووصفت، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى، وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نستجمعها كلها فقد يكتفي الاعتبار بما ألقينا إليك. والله عونك وعوننا في إرشادنا وتوفيقنا.

* الشرح:

(علي بن محمد مرسلا، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)) هذا الحديث رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) وفي كتاب التوحيد من طريق المصنف مسندا قال: حدثنا علي ابن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنا علي بن محمد المعروف بعلان، عن محمد بن عيسى عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (قال: قال: اعلم علمك الله الخير) الخير مفهوم عام شامل لجميع القوانين الشرعية وجزئياتها سواء كانت متعلقة بنظام الدين أو بنظام الدنيا، وهذا الخطاب عام شامل للموجود والمعدوم ومن هو في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات (إن الله تعالى قديم) وجوده ذاتي (1) مستند إلى ذاته غير مسبوق بالعدم ولا معروض له

ص:40


1- 1 - قوله: «وجوده ذاتي» كذا فسر القديم المجلسي (رحمه الله) ورفيعا النائيني (رحمه الله) لأن الذي وجوده عرضي حاصل له من غيره لابد أن يكون مخلوقا كما مر في محله، وأما الشارح القزويني - رحمه الله - فقال: المراد بالله هنا فاعل الأجسام سواء كان واجب الوجود لذاته أم لا، سواء كان بسيطا أو مركبا من عدة بسائط مجردة، وهو عجيب إذ لم يعهد إطلاق كلمة الله على غير واجب الوجود بالذات ولا يصح لا حقيقة ولا مجازا; لأن المجاز أيضا يتوقف على تجويز اللغة ولا يجوز في لغة العرب إطلاق الله مجازا على غيره تعالى حتى عند المشركين، والحامل له على ذلك أنه زعم أن صدر الحديث تقرير مذهب باطل يريد الإمام (عليه السلام) نقضه وهو مذهب الفلاسفة والأشاعرة حيث زعموا أن غير الله تعالى أيضا قديم، أي العقول أو الصفات الثمان التي سموها القدماء الثمانية، وهذا أيضا عجيب; لأن الإمام (عليه السلام) قال: «أعلم علمك الله الخير أن الله قديم» ولو كان هذا تقرير مذهب باطل لم يقل (عليه السلام) أعلم علمك الله الخير; فإنه لا يأمر بتصديق شيء باطل. (ش)

(والقدم صفته التي دلت العاقل) إما بالاستقلال أو بملاحظة مقدمة مبرهنة متقررة في العقل مسلمة عند الكل وهي أنه تعالى مبدأ لجميع ما سواه (على أنه لا شيء قبله لا شئ معه في ديموميته) التي كانت له في مرتبة ذاته الحقة ومرتبة وجوده الذي هو نفس ذاته القدسية، وستعرف وجه دلالتها عليه (فقد بان لنا بإقرار العامة) أي بإقرار عامة الموجودات كلها بلسان الحال والإمكان وبعضها بلسان المقال والبيان والإقرار; إما من «أقر بالحق» إذا اعترف به، أو من «أقر الحق في مكانه» فاستقر هو. فقوله (معجزة الصفة) (1) على الأول منصوب بنزع الخافض وهو الباء وإن شذ نزعه في مثله، وعلى الثاني منصوب على المفعولية، والمعجزة اسم فاعل من «أعجزته»

ص:41


1- 1 - قوله: «معجزة الصفة» اتفق النسخ على إعجام الزاي وهي إما اسم فاعل أو مفعول أو مصدر ميمي. ويحتمل بعيدا أن يكون على وزن مفعلة التي يدل على تكثير الفعل وزيادته مثل «السواك مطهرة للفم» أي كثير التطهير «وصلة الرحم منماة للمال» أي يزيد في نمو المال «وقطعها مقربة للأجل» أي يزيد في قرب الأجل. والمعنى أن عامة الناس أقروا واعترفوا أو أثبتوا صفة القديم لله تعالى واعترفوا أيضا بأن هذه الصفة معجزة أي لا يقدرون على اكتناهها وعاجزون عن الاتصاف بها وتحصيلها لأنفسهم. والإمام (عليه السلام) يصوب هذا الرأي أي الإقرار من العامة ويستشهد بصحة كلامهم وقولهم على مطلوبه. وأما الشارح القزويني فقرأه «معجرة» بالراء المهملة والعجر ورم البطن واتساعه، وفسره بأن العامة وسعوا صفة القديم حتى شمل غير الله تعالى من العقول والأفلاك، وعلى هذا فلا يمكن استشهاد الإمام (عليه السلام) بهذا الإقرار من العامة وتصويب رأيهم، وهو خلاف عبارة الحديث، ولولا أنا نعلم كون القائل من أعاظم العلماء لذهب وهمنا إلى أنه من أقاصيص جحا. وأورد المجلسي رحمه الله في مرآة العقول عبارة الشارح ثم عبارة رفيع الدين النائيني في شرح هذا الحديث وأوردناها في حاشية الوافي، والفيض - رحمه الله - صوب نسخة عيون أخبار الرضا (عليه السلام) وهي هكذا: «فقد بان لنا بإقرار العامة مع معجزة الصفة أنه لا شيء، وقال: كأنه سقط كلمة «مع» من نساخ الكافي، ومقصوده: بأن لنا من شيئين: من إقرار العامة ومن معجزة الصفة أنه لا شيء من قبل الله. وأظن أن نسخة الكافي أصح وأوضح، ولو كان الأمر كما استصوبه لقال (عليه السلام) بإقرار العامة مع مفهوم الصفة أي المتبادر من معناها لا مع إعجاز الصفة بغير إعجاز، والعجز إنما يناسب الإقرار أي العامة أقروا بأنهم عاجزون عن إثبات شيء معه تعالى. وأما صدر المتألهين - قدس سره - فإنه جعل إعجاز الصفة فاعلا لقوله «بان» وجملة «أنه لا شئ» متعلقة بالإعجاز، والمعنى: أن بإقرار العامة بان لنا إعجاز الصفة إياهم عن إثبات قديم معه تعالى; لأن الصفة أعجزتهم وجعلتهم غير قادرين على أن يثبتوا قديما غيره تعالى وألزمتهم باختصاص الصفة به تعالى. (ش)

بمعنى: وجدته عاجزا، أو من «أعجزته» بمعنى:

جعلته عاجزا، أو من «أعجزه الشيء» بمعنى: فاته.

وإضافته إلى الصفة والمراد بها القدم من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. أي الصفة المعجزة وإنما وصفها بالإعجاز لأنها تجدهم، أو تجعلهم لنباهة شأنها عاجزين عن إدراكهم كنهها وحقيقتها أو عن اتصافهم بها أو عن إقرارهم بأنه تعالى قديم، أو لأنها تفوتهم وهم فاقدون لها، ويحتمل أن تكون المعجزة مصدر عجز عن الشيء عجزا ومعجزة بفتح الميم وكسر الجيم وفتحها للإضافة والانتساب وأدنى ملابسة أي إقرار العامة بعجزهم عن تلك الصفة وعدم قدرتهم على الاتصاف بها. هذا الذي ذكرناه في حل هذه العبارة هو ملخص ما ذكره جمع من المتأخرين منهم السيد الداماد والمحقق الشوشتري مع زيادات سنحت للخاطر، وقال بعض الأفاضل: متعلق الإقرار محذوف، والمعجزة اسم مفعول من أعجزه إذا فاته، وصفة للعامة ومضافة إلى الصفة، يعني بان لنا بإقرار العامة بفقدان تلك الصفة وفواتها فيهم بأنه تعالى قديم.

وفيه أن الأصل عدم الحذف وأن الإضافة اللفظية لا تفيد تعريف المضاف فلا تقع صفة للمعرفة.

وفي بعض نسخ لا يعتد به «بهذه الصفة» وهو أظهر. وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «مع هذه الصفة» والله أعلم.

(إنه لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه) (1) أزلا وأبدا جميعا، فلا ينافي ما تقرر من أن

ص:42


1- 1 - قوله: «ولا شيء مع الله في بقائه» عقد الباب لشرح أسمائه الحسنى والفرق بين معانيها إذ أطلق عليه تعالى أو على الممكنات ومنها القديم، ومعناه فيه تعالى أنه لا شيء معه ولا شيء قبله، وفي غيره أمد بعيد ومدة طويلة عن أول وجوده، وهذا في كل شيء بحسبه. والعرجون القديم هو الذي مضى عليه ستة أشهر، والإنسان إذا مضى عليه هذه المدة لا يسمى قديما. والبحث عن الحدوث عن المتكلمين يمكن أن يقرر على ثلاثة أوجه: الأول إثبات الحدوث للعالم حتى يستدل به على وجود الله تعالى وهذا لا يجوز أن يثبت بالقرآن والحديث وإجماع الملل بل يجب أن يثبت بدليل عقلي إذ حجية ظاهر الكتاب وقول المعصوم (عليه السلام) يتوقف على إثبات وجوده تعالى أولا ثم إثبات النبوة، وإذا لم يثبت وجود الله تعالى كيف يصدق بالنبي والقرآن والحديث والإجماع بل هو مصادرة. الثاني إثبات الحديث بعد الإقرار بالله والنبي والاعتراف بالقرآن وأقوال الأنبياء لا لاثبات وجوده تعالى بل تعبدا، وهذا معقول لكن الظاهر من الأحاديث والإجماع إثبات الحدوث لاثبات وجوده تعالى لا تعبدا من حيث إن الاعتقاد به أصل برأسه من أصول الدين، وكل من عد إنكار الحدوث كفرا فإنما ذهب إليه; لأنه يؤدى إلى إنكار الواجب أو اضطراره. الثالث إطلاق الحدوث على المخلوقية للزوم عرفي بينهما، فكلما قيل حادث أريد أنه مخلوق، وكلما قيل قديم أريد أنه غير مخلوق، وهو الظاهر من الروايات بل صريحها عدم كون الحدوث أصلا برأسه بل هو تساوق لاثبات الواجب. (ش)

الإنسان باق أبدا لا يموت بعد البعث (وبطل قول من زعم أنه كان قبله) كالقائلين بأنه مركب فإن الجزء قبل الكل (أو كان معه شيء) كالقائلين بزيادة الوجود والصفات، و «شيء» مرفوع على سبيل التنازع (وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له) وإذا لم يكن خالقا لذلك الشيء لزم تعدد الواجب لذاته ولزم أيضا أن لا يكون جل شأنه مبدأ لجميع ما سواه وكلاهما باطل (لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه) في مرتبة ذاته ووجوده، والمخلوق يجب أن يكون بحسب الذات والوجود متأخرا عن الخالق القادر، وذلك; لأن وجوده تعالى عين ذاته، فلو كان وجود شيء ما مع وجوده غير متأخر عنه كان أيضا مع ذاته غير متأخر عنها أصلا. فلا تكون ذاته التي تفعل بالاختيار علة له لوجوب تقدمها على المعلول بحسب الرتبة والوجود، فقد ظهر أن القديم لا يجوز أن يكون معلولا (1) للقادر خلافا للمبتدعة (2) (ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا) الذي هو

ص:43


1- 1 - قوله: «فقد ظهر أن القديم لا يجوز أن يكون معلولا» لم يظهر من كلامه (عليه السلام) من ذلك شيء إذ لم يفرق بين الفاعل المختار وغيره. وقوله «لم يزل معه فكيف يكون خالقا» يدل على كون صرف معيته علة لعدم مخلوقيته من غير تأثير للاختيار وقد ذكرنا سابقا أن الفاعل المختار لا يستحيل عقلا أن يريد صدور الفعل عنه دائما وأن يكون له في كل زمان مخلوق ولا يتصور مانع عن تجويز ذلك إلا أن يبين استحالة معلول مستمر باستمرار العلة ولم يبين، وإذا تعقل إمكان عدم الفصل الزماني بين المعلول والعلة كحركة اليد وحركة المفتاح، فإنه مع سابقية حركة اليد لا فصل بينهما زمانا، فمع إمكانه لا مانع من إرادة الفاعل المختار هذا الأمر الممكن، فالحق أن غرض الإمام (عليه السلام) إثبات مخلوقية كل شيء له تعالى وأنه ليس في دار الوجود شيء إلا وهو محتاج إليه ومتأخر عنه في الوجود سواء كان نظير تأخر حركة المفتاح عن حركة اليد أو تأخر خلق السماوات والأرض عن وجود الله تعالى أو تأخر خلق الإنسان عن خلق السماوات والأرض. (ش)
2- 2 - قوله: «خلافا للمبتدعة» البديع: الشيء الذي لم يعهد نظيره قبله، والمبتدعة كل طائفة تخترع في الدين أمورا غير معهودة فيه وإنما يتصور وجودهم بعد الإسلام لا قبله. ومراد الشارح هنا فرقة من أتباع المشائين مزجوا اصطلاحات الشرع باصطلاحات الفلسفة، وقلنا إن الخلط مزلة لا في خصوص اصطلاحات الفلسفة بل اصطلاح كل فن، كما أن بعض الناس أفتى بوجوب غسل الجمعة، إذ ورد في الحديث «أن غسل الجمعة واجب» ولم يعلم أن اصطلاح الأئمة في الوجوب غيره في اصطلاح أهل الأصول، وهكذا بعض أتباع المشائين لما رأوا قول أرسطو أن الإنسان كان مخلوقا لا أول لوجوده تأولوا قصة آدم وحواء وكذلك تأولوا خلق السماوات والأرض من الدخان أو من الماء وأمثال ذلك، وكان قول أرسطو هنا فرضا يستحسنونه لا أمرا برهانيا يتمسكون به وهكذا كانت الفلاسفة قديما وجديدا حتى في أيامنا هذه، فربما يستخرجون حقيقة برهانية لا يشك فيها ويستدلون عليها بأدلة موجبة للعلم مثل أن الأرض كرة وأن الخسوف لحيلولة وتارة يبدعون رأيا وفرضا استحسانا من غير دليل علمي على إيجابه مثل قولهم بأن الأرض كانت قطعة انفصلت من الشمس وأن الإنسان حصل بالنشوء من قرد أو غيره، وكما لا يجوز خلط اصطلاح الشرع باصطلاحات الفنون كذلك لا يجوز خلط البرهانيات بالاستحسانات وإنما يجوز تأويل الظواهر إذا ثبت خلافه بالبرهان اليقيني لا إذا خالف الاستحسانات. (ش)

القبل على الإطلاق وهو المسمى بالله وكان الأول بحسب هذا الفرض (أولى بأن يكون خالقا للأول) الذي هو الخالق لجميع ما سواه وهذا خلاف المتقرر الثابت من وجهين: الأول أن لا يكون المبدء للجميع مبدأ للجميع، والثاني أن يكون القديم الواجب حادثا ممكنا لأن كونه بعد أن لم يكن وصف له بالحدوث اللازم للإمكان.

(ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء) أي سمى نفسه بها أو عرف نفسه، وإنما قال بأسماء ولم يقل بمعانيها للدلالة على أنه ليس له صفة زائدة (دعا الخلق) بالنصب على أنه مفعول له مثل «حذر الموت» يعني وصف نفسه بالأسماء لأجل دعائهم إياه بتلك الأسماء (إذ خلقهم وتعبدهم) يعني طلب منهم العبادة والتذلل وغاية الخضوع، وأراد أن يكونوا عبيدا له (وابتلاهم) بالخير والشر واختبرهم بالمصائب والنوائب وألجأهم (إلى أن يدعوه بها) أي بتلك الأسماء التي وصف بها نفسه (فسمى نفسه) الفاء لتفسير الوصف المذكور لا للتفريع (سميعا بصيرا قادرا قائما ناطقا ظاهرا باطنا لطيفا خبيرا قويا عزيزا حكيما عليما وما أشبه هذه الأسماء) من الأسماء المشتركة بينه وبين خلقه الدالة على الذات مع ملاحظة شيء من الصفات (فلما رأى ذلك من أسمائه الغالون المكذبون) الغالي المتجاوز عن الحد من غلا في الأمر يغلو غلوا إذا جاوز فيه الحد وهم قد جاوزوا الحد في أسمائه تعالى حيث جعلوا مبادي اشتقاقها موجودة خارجية زائدة عليه قائمة به ، وفي بعض النسخ «القالون» بالقاف من القلى وهو البغض (وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شيء مثله) بحسب الذات (ولا شيء من الخلق في حاله) بحسب الصفات (قالوا أخبرونا إذا زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها) إذ هذه الأسماء وهي السميع والبصير إلى آخر ما ذكر تطلق عليكم أيضا (فإن في ذلك) أي في مشاركتكم في أسمائه (دليلا على أنكم مثله في حالاته) التي دلت عليها تلك الأسماء (كلها أو في بعضها دون بعض) الترديد إما لعدم تحقق المشاركة في جميع أسمائه تعالى أو لكون المشاركة في البعض كافيا في مقام المناظرة والإلزام (إذ جمعتم الأسماء الطيبة) وذلك دل على أنكم مثله في المعنى إذ الاشتراك في المشتق يقتضي الاشتراك في المشتق منه.

وفي كتاب التوحيد وكتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «إذ جمعتكم الأسماء الطيبة» ولما أشار إلى منشأ شبهتهم وتقريرها بأن مشاركتكم معه في الأسماء تقتضي مشابهتكم ومماثلتكم معه في المعنى لأن الاسم دليل على المعنى المشترك بينكما أشار إلى الجواب عنها وحاصله أن الاشتراك هنا من باب الاشتراك في اللفظ دون المعنى بقوله (قيل لهم: إن الله تعالى ألزم العباد أسماء من

ص:44

أسمائه على اختلاف المعاني) أي على سبيل الاشتراك في اللفظ دون المعنى (1) (وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين) من جميع الوجوه مثل العين للباصرة والذهب ولا يقع بذلك التماثل والتشابه بينهما، هذا إذا كان ذلك للتمثيل أما لو كان للتشبيه كما يشعر به ظاهر الكاف وظاهر الدليل الآتي المبتني على الحقيقة والمجاز، فالمراد بالمعنيين المختلفين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي والمختلفان في بعض الوجوه المتشابهان أو المتناسبان بوجه آخر، والمقصود من التشبيه هنا هو جهة المغايرة والمخالفة دون المناسبة والمشابهة، فإن المعنى المجازي للحمار مثلا هو الإنسان مخالف لمعناه الحقيقي وإن كان إطلاق الحمار عليه باعتبار مناسبة خارجة عنه، فإذا شبهنا العين بالحمار باعتبار المعنى أو شبهنا معناها بمعناه فلا شبهة في أن المقصود هو إظهار المخالفة وبيان المغايرة بين معنييها كما هي بين معنيي الحمار، وأما المناسبة التي بين معنيي الحمار فأمر غير مقصود في هذا التشبيه أصلا، فاندفع بذلك ما عسى أن يقال: هذا التشبيه يفيد اعتبار المناسبة أو المشابهة بين علمه تعالى مثلا وعلم غيره، وهذا مؤيد للشبهة لا دافع لها (والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشايع) بالشين المعجمة والعين المهملة وفي كتاب العيون: «قول الناس الجايز عندهم السايغ» بالسين المهملة والغين المعجمة بمعنى الجايز، والمذكور هنا أصوب لخلوه عن التكرار (وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة (2) في تضييع ما ضيعوا

ص:45


1- 1 - قوله: «على سبيل الاشتراك في اللفظ دون المعنى» هذا خلاف رأي أهل التحقيق; لأن الصفات عندهم مشتركة معنى كما بينوا في إطلاق الوجود على الله وعلى الممكنات لكن الاشتراك المعنوي لا يوجب التساوي من جميع الجهات فالنور الضعيف والشديد مشتركان في معنى النورية ويطلق النور عليهما بمعنى واحد وإن اختلفا في الشدة والضعف، كذلك الوجود وسائر الصفات في الواجب والممكن ليست نظير لفظ العين في معانيه بل هي معنى واحد اختلف أفراده ففي الواجب وجود شديد فوق ما لا يتناهى وعلم وقدرة وحياة كذلك وفي الممكن كل ذلك ضعيف غاية الضعف البتة ومقصود الإمام (عليه السلام) بيان اختلاف المصاديق في المعنى لتشكيكه، ويتفق الاشتراك اللفظي والمشكك مع الحقيقة والمجاز في إطلاق لفظ واحد على أمور مختلفة ولذلك شبهه (عليه السلام) بإطلاق سكرة وعلقمة على النبتين وعلى الإنسان مع الاختلاف لاشتراكهما في إطلاق لفظ على أمور مختلفة كذلك يطلق العالم على الله وعلى الإنسان مع الاختلاف لا أن هذا حقيقة وذاك مجاز، كما أن المراد من الاشتراك في اللفظ الاشتراك ففي المفهوم ومن الاختلاف في المعنى الاختلاف في أفراد المشكك بحسب المصاديق. قال الحكيم السبزواري إذا قلنا إنه عالم أو يا عالم بعنوان إجراء أسمائه الحسنى في الأدعية والأوراد إما أن يعنى من ينكشف لديه الشيء فقد جاء الاشتراك، أو لا فقد جاء المحذورات الأخر، يعني إن حملناه على ضد ذلك المفهوم وهو الجهل، لزم المحال، وإن لم نفهم شيئا لزم التعطيل. (ش)
2- 1 - قوله: «ليكون عليهم حجة» هذا يدل على أن خطاب الله وكلام حججه (عليهم السلام) وردا على مجرى كلام الناس بعضهم مع بعض وقواعدهم وسننهم، فما يتكلف بعض الناس من حمل ألفاظ القرآن وبعض الأحاديث على ما لا يسوغ في اللغة العربية غير جائز بل خروج عن طريقة الشرع ولا يرضى به الأئمة (عليهم السلام)، فإن قيل: قد ورد في تفسير الآيات من ذلك شيء كثير مثل (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) هم الأئمة (عليهم السلام) مع أن إطلاق الشهور وإرادة الأئمة إن احتمل صحته فهو مجاز لا يصح في لغة العرب إلا بقرينة، ولا قرينة بل القرينة على خلافه، قلنا نمنع صحة هذه الروايات أولا، ونحملها على التمثل وأن الشيء بالشيء يذكر ثانيا، أو على التصريح ببعض أفراد المعنى الكلى من غير نفي الأفراد الأخر ثالثا، كما في قوله تعالى (يؤمنون بالغيب) أنه الإمام الغائب لا انحصار المراد فيه بل هو وأفراده الأخر كالقيامة والملائكة والمعاد وكل ما لا يرى بالعين من الحقائق أيضا مرادة، وصرح ببعض أفراده دفعا لشبهة من لا يعترف بكونه مرادا وذكرنا شيئا مما يتعلق بهذا المعنى في الصفحة 380 من المجلد الثالث. (ش)

)من الإيمان والأحكام والأخلاق (1) (فقد يقال للرجل كلب وحمار وثور وسكرة) السكر - بضم السين المهملة وتشديد الكاف - فارسي معرب، الواحدة سكرة، وفي المغرب: السكر - بالتشديد -:

ضرب من الرطب مشبه بالسكر المعروف في الحلاوة (وعلقمة وأسد) العلقم شجر مر ويقال للحنظل ولكل شيء مر علقم (كل ذلك على خلافه وحالاته) أي على خلاف ما هو المقصود منه وضعا وخلاف حالاته وصفاته المطلوبة منه حقيقة. وحالاته عطف على الضمير المجرور بالإضافة بدون إعادة الجار كما في قوله تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) والدليل على امتناعه مدخول كما سنشير إليه في باب صلة الرحم إن شاء الله تعالى، ومن لم يجوز ذلك فليجعل الواو بمعنى «مع» أو ليقدر مضافا أي وخلاف حالاته.

وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «على خلافه» لأنه (لم يقع الأسامي على معانيها التي كانت

ص:46


1- 1 - قوله: «ما صنعوا من الإيمان» والإيمان ليس من الصنع والعمل بل الناظر في الأدلة إذا علم صحتها حصل له الإيمان قهرا وغير الناظر لا يحصل له وظاهر الألفاظ حجة في الصنع والعمل على ما صرح به الإمام (عليه السلام) لأن المكلف يجب أن يأتي بعمله على وفق مراده سبحانه، والشارح الحكيم يجب أن يصرح بمراده ويبينه حتى يتمكن العباد من الامتثال، فما يفهمه الناس من ظاهر كلامه هو مراده منهم، ولا يمكن أن يريد سواه بمقتضى الحكمة، وأما ما لا يتعلق بالعمل كتفاصيل المبدأ والمعاد ومراتب الأنبياء وكيفية الوحي فلا ضير أن يبقى مجملا ولا يعلمه الناس تفصيلا ولا يبينه الشارع لهم لعدم حاجتهم إليه في العمل مثل أنك إذا أردت تعليم الحج والزيارة لمن لم يزر بعد تبين له ما يحتاج إلى عمله وما ليس له طريق إليه إلا تعليمك إياه مثل شرايط الطواف والسعي وعبارة التلبية وطريق الزيارة وعبارتها، وأما ما لا يتعلق بالعمل ولا يتغير الواقع ببيانك ولا بجهل المخاطب بحقيقته فليس عليك تعليمها مثل أن حجر إسماعيل في جانب من الكعبة والحجر الأسود في جانب آخر فلو اشتبه الأمر على المخاطب وظن كليهما في جانب واحد وبقي على هذا الاشتباه حتى زار الكعبة لم يكن ضائرا به في علمه وعمله ولا يختل بذلك حجه ولا يعيب عليك أحد حيث أجملت الكلام ولم تبين له موضع الحجر. بخلاف ما إذا لم تبين له شرايط صحة الطواف مما يتعلق بعمله فإنه يضر بحكمتك وترى أن كثيرا من أعاظم أصحاب الأئمة عليهم السلام يسألون عن معاني أسماء الله ولم يكن مبينا لهم طول عمرهم ولم يكن جهلهم بها مخالفا لحكمة الله تعالى إذ ذكرهم بهذه الأسماء ولم يصر معناها مبينا إلا بعد حين كما مر ونقلنا في الصفحة 212 من المجلد الثالث كلام العسكري (عليه السلام) إلى ابن إسحاق الكندي أنه يمكن أن يكون الله تعالى أراد من ألفاظ القرآن غير الذي ذهبت أنت إليه. (ش)

بنيت عليه) هذا بيان وتوضيح لما قبله (لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب فافهم ذلك رحمك الله) أي ما يطلق عليه لفظ الإنسان حقيقة ليس ما يطلق عليه لفظ الأسد والكلب حقيقة. فقد تقرر مما ذكر أن معنى الأسماء في الواجب مخالف لمعناها في غيره كما أن المعنى الحقيقي للأسد مخالف لمعناه المجازي الذي هو الإنسان إلا أن الاسم فيما نحن فيه ليس في الواجب حقيقة وفي غيره مجازا بل في كليهما حقيقة من باب الاشتراك في اللفظ، فإن العالم مثلا موضوع تارة للعلم القديم الكامل بالذات لا بالغير، وتارة للعلم الحادث الناقص القابل للعدم سابقا ولاحقا القائم بالغير، ولا شبهة في أن هذا المعنى مخالف لذلك المعنى ولا اشتراك بينهما إلا في لفظ العلم. ولما نظر بعض المحققين إلى هذا الدليل ووجد الأسد ونحوه من الأسماء حقيقة في معانيها الأصلية ومجازا في الإنسان ظن أن الأسماء الكمالية أيضا كذلك فقال: معناه كما أن تلك الأسماء لا يستحقها حقيقة إلا معانيها الأصلية ولا تقع على الرجل حقيقة بل تقع عليه مجازا، كذلك الأسماء الكمالية لا يستحقها حقيقة إلا الذات القدسية ولا يقع على الكاملين من الخلق حقيقة بل تقع عليه مجازا من حيث إنهم مظاهر أسماء خالقهم، وفيه أنه إن أراد بالمجاز في قوله: «الأسماء الكمالية تقع على الخلق مجازا» الاستعارة ليوافق الأمثلة المذكورة في الدليل فإن الأسد ونحوه استعارة في الإنسان يرد عليه أن الاستعارة مبينة على التشبيه وقد مر مرارا أنه لا يجوز تشبيه شيء بالله سبحانه بوجه من الوجوه، وإن أراد مجازا مرسلا لعلاقة السببية والمسببية - كما يشعر به الظاهر - يرد عليه أنه على تقدير جواز ذلك، هنا فاتت المناسبة بين المقيس المقيس عليه فإن المقيس عليه استعارة، وإن اكتفى في المناسبة بمجرد التجوز وإن كان هذا نوعا منه وذاك نوعا آخر فليقل بالاشتراك اللفظي كما هو ظاهر سياق الحديث (1) وليكتف في المناسبة بما ذكرنا سابقا من مجرد الاختلاف بين المعنيين، ولما أشار إجمالا إلى اختلاف معاني الأسماء بين الخالق والخلق أراد أن يشير إلى تفصيل بعض ذلك

ص:47


1- 1 - قوله: «كما هو ظاهر سياق الحديث» بل سياق الحديث يدل على أن الإمام (عليه السلام) يريد الفرق بين حقيقة هذه الصفات في الواجب تعالى وفي المخلوق وأن علمه مثلا لكماله وشدته وكثرته لا يقاس بعلم المخلوق، ويكفي في ذلك كون اللفظ مشككا. وأما البحث اللفظي وأنه بعد الاعتراف بهذا الفرق هل لجميع الأفراد مفهوم واحد جامع وضع له اللفظ أو لا؟ فهو أجنبي عن المقام وليس من شأن الإمام، وهكذا الغرض في السميع والبصير بيان أن سمعه وبصره تعالى ليس مثل سمعنا وبصرنا في الواقع ونفس الأمر وأما أن هذين المعنيين المختلفين هل يوجد مفهوم جامع لهما وهل وضع اللفظ لهذا المفهوم؟ فهذا أمر تافه لا يضر ولا ينفع وليس بيانه على الإمام ولا يتبادر الذهن من كلامه إليه. وبالجملة فالاشتراك اللفظي قول ضعيف جدا حتى إن الشارح القزويني أيضا ضعفه، وأما الأشاعرة فإنما ذهبوا إلى الاشتراك اللفظي اما الاشتباه المعنى باللفظ وتوهم أن المفهوم الواحد لا يمكن أن يصدق على متباينين أو للتقرب إلى العوام في تعظيم شأن الله بحيث يكون اللفظ المطلق عليه تعالى غير مطلق على غيره ومع ذلك فخالف علماء الأشاعرة رؤساءهم في ذلك. (ش)

وتوضيحه ليقاس عليه في البواقي فقال:

(وإنما سمى الله بالعلم) المراد بالعلم العالم بذكر المشتق منه مقام المشتق، أو المراد بالتسمية الوصف أو قال ذلك للتنبيه على أن العلم عين ذاته، وفي كتاب العيون: «وإنما تسمى بالعالم على صيغة المشتق» (لغير علم حادث علم به الأشياء) يعنى سمي بعلم قديم كامل من جميع الجهات هو عين ذاته الحقة التي هي العلم بالأشياء كلها كليها وجزئيها على نحو واحد لا بعلم حادث زائد عليه قائم به علم به الأشياء لاستحالة الجهل عليه في مرتبة ذاته وامتناع اتصافه بالحوادث (استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره) كالبشر فإنه يستعين بعلم حادث له بالكليات على حفظ تفاصيل جزئياتها الواردة عليه في مستقبل أحواله (والروية فيما يخلق من خلقه) «ما» مصدرية والروية عطف على الحفظ وفيه إشارة إلى أن علمه بالأشياء علما إجماليا يستعين به على الروية والفكر ليجد وجه المصلحة فيما يخلق من خلقه كما هو شأن أرباب الصنايع فإنهم يتصورون أولا أمرا مجملا ثم يخطر ببالهم في أثناء الصنع ما له مدخل في تمامه وكماله ويصنعونه تكميلا لصنايعهم وعطفها على علم حادث، أي إنما سمى الله بالعلم بغير الروية إلى آخره أيضا محتمل، والمتكلمون بعدما قالوا: إنه تعالى عالم بجميع أفعاله قبل الإيجاد لا من طريق أصلا لا من حس ولا من روية ونظر واستدلال، سألوا أنفسهم وقالوا:

لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون قد فعل أفعالا مضبوطة ثم أدركها فعلم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بالرؤية بعد اختلالها واضطرابها؟ ثم أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل ذلك عالما بمفردات بعضها فوجب أن يعلم كذلك بأسرها لعدم التخصيص.

ورد هذا الجواب بأنه لا يلزم العلم بمفردات الفعل العلم بالفعل، فقولكم «لا بد أن يكون عالما بمفرداتها قبل فعلها» مصادرة على المطلوب.

والجواب الحق: أنه لو علمها بعد أن لم يعلمها لزم الجهل وهو نقص لا يليق بجناب القدس ولكان علمه بها حادثا في ذاته فيلزم أن يكون جل شأنه محلا للحوادث وهو محال.

(ويفسد ما مضى مما أفنى من خلقه) «يفسد» من أفسدت الشيء لعدم كونه على وجه المصلحة، والمفسدة خلاف المصلحة وهو عطف على يخلق، وصح ذلك; لأن «ما» مصدرية كما أشرنا إليه ولو جعلت موصولة أو موصوفة لم يصح و «ما مضى» مفعوله و «مما أفنى» بيان لما مضى والمقصود - والله أعلم - أنه ليس له علم حادث استعان به على الروية والتفكر في الخلق والإيجاد

ص:48

والإفناء والإفساد فكما لا يتفكر في استصلاح ما يخلق كذلك لا يتفكر في استصلاح ما يفسد لعدم وقوعه على وجه المصلحة كما هو شأن الفاعل بالعلم الحادث الناقص الذي يستكمل في الصنايع بالتجربة وتكرر الأفاعيل، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ومنشئهم بحكمه بلا اقتداء ولا تعليم، ولا احتذاء لمثال صانع حكيم، ولا إصابة خطأ» (1) ومعنى قوله (عليه السلام) «ولا إصابة خطأ» أنه يخلق أولا اتفاقا على سبيل الاضطراب والخطأ في المصلحة من غير علم منه على وجهها، ثم علمه بعد ذلك بالرؤية والتفكر فأفسد ما فعله واستدرك فعله على وجه المصلحة وأحكمه.

(مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلا ضعيفا). هذه الجملة إما في محل الجر على أنها صفة أخرى لعلم حادث أو في محل النصب على أنها حال عنه و «ما» في «مما» موصولة أو موصوفة، والعائد إليها اسم الإشارة، والضمير المنصوب في قوله «لم يحضره» راجع إليه سبحانه و «يغيبه» على صيغة المضارع بالغين المعجمة والباء الموحدة بعد الياء المثناة من تحت من الغيبة، والأصل يغيب عنه بالحذف والإيصال، وهو عطف على قوله «لم يحضره» وفي بعض النسخ «تغيب» على صيغة الماضي من باب التفعل، والأصل فيه تغيب عنه. وفي كتاب العيون «ويعنه» على صيغة المضارع المجزوم من الإعانة لكونه معطوفا على مدخول «لم» (كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم). في كتاب العيون أيضا «بالعلم» خلافا لما تقدم (لعلم حادث) قائم بذواتهم بعدما لم يكن (إذ كانوا فيه جهلة) بفتح الجيم والهاء جمع جاهل. وفي كتاب العيون «قبله» بدل «فيه» وكون علماء الخلق جاهلين أمر ظاهر فإن أكثرهم كانوا خالين عن العلم في بدء الفطرة ثم حصل لهم العلوم بالتجربة والممارسة، وبعضهم وإن لم يكن خاليا عنها كالنفوس الهيولانية العالية والعقول المجردة النورانية لكن في مرتبة ذاته الممكنة العارية عن حلية العلوم كان جاهلا، وإنما اتصف بالعلم بعد ملاحظة الذات وتكميلها فهو في مرتبة الذات كان جاهلا بخلاف الحق جل شأنه فإن علمه في مرتبة ذاته العالمة بكل شيء من كل جهة بالفعل لأنه عينها (وربما فارقهم العلم بالأشياء) لعروض النسيان والغفلة (فعادوا إلى الجهل) كما كانوا فيه أولا (وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا) (2) لأنه بذاته الحقة القديمة عالم بجميع الأمور

ص:49


1- 1 - النهج، قسم الخطب، تحت رقم 189.
2- 1 - قوله: «لأنه لا يجهل شيئا» وحاصل الفرق بين علمه تعالى وعلم غيره أنه عالم بذاته وساير الموجودات ان علموا شيئا بغيره، ولا يخفى أن كل ما بالعرض يجب أن ينتهى إلى ما بالذات، فإذا نظرنا إلى أفراد الإنسان وهم أعلم موجود في العالم الجسماني رأينا علمهم عرضيا حاصلا من غيرهم ولم نر قط إنسانا عالما بالذات; لأن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف، ولو كان علمهم ذاتيا لهم كان جميع أفراد الإنسان متساوين في العلم ولم يتخلف عنهم العلم أصلا بأن يكون أحدهم في زمان جاهلا ثم يصير عالما ثم يعود جاهلا فظهر أن علمهم عرضي حاصل لهم لا من ذاتهم فلا بد أن يلتزم إما بأن في الوجود موجودا عالما ذاته بكل شيء وهو الله تعالى، أو بأن ما بالعرض لا يجب أن ينتهي إلى ما بالذات، وهو محال. وبعبارة أخرى: إنا نعلم بالبديهة أن العلم ليس من صفات الجسم من حيث هو جسم وأن الانتقاش بصورة شيء ليس علما بذلك الشيء وأن الجدار لا يدرك النقوش التي عليه والآلة الفوتوغرافية لا ترى التصوير فيها، فالبصر الذي يدرك ويرى الأشياء ليس إدراكها بجسميته بل بإشراق قوة عليه من عالم آخر وراء عالم الأجسام، والعلم الذاتي الذي لا يطرء عليه الجهل أبدا إنما هو ذلك العالم الغير الجسماني فما دام إشراق تلك القوة كان علم وإدراك بحسب استعداد المحل، وإذا انقطع الإشراق انقطع العلم. (ش)

مستقبلها وماضيها كليها وجزئيها بحيث لا يتفكر ولا يتروى، ولا يزيد علمه ولا ينقص، ولا يتغير ولا يتبدل، ولا يجهل ولا ينسى، وبالجملة علمه هو الذات القدوسية الحقة وعلم غيره صفة فاقرة قائمة بذات فاقرة (فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت) فإطلاق العالم على الخالق والمخلوق كإطلاق العين على الباصرة والذهب فالاشتراك بينهما إنما هو في الاسم دون المعنى (وسمي ربنا سميعا لا بخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به) بل يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع وهو نفس ذاته المقدسة والخرت بفتح الخاء المعجمة وضمها وسكون الراء المهملة قبل التاء المثناة من فوق الثقب في الأذن وغيرها، وفي كتاب العيون «لا بجزء فيه» (كما أن خرتنا) في كتاب العيون: «كما أن جزءنا» (الذي به نسمع) الأصوات الداخلية فيه الواصلة إلى القوة المنبثة على العصب المفروش تحته، وهذا العصب محل لهذه القوة المدركة للصوت، والخرت طريق لوصول الصوت إليها (لا نقوى به على البصر) أي على إدراك المبصرات; لأن له خرتا آخر يختص به.

ولما أشار إلى أن سمعه للأصوات ليس بشق الأذن وخرته كما في الإنسان لتنزهه عن الجسمية وآلاتها أشار إلى ما هو المقصود منه بقوله (ولكنه أخبر) أي ولكن السميع أخبر، أو ولكن الله تعالى أخبر بإطلاق السميع عليه (أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات) حتى صوت الذرة في الفلاة وحسيس النملة على الصفاة (ليس على حد ما سمينا نحن) «سمينا» على صيغة المجهول و «نحن» تأكيد للضمير المرفوع المتصل يعني ليس تسميته تعلى بالسميع على حد تسميتنا به وعلى معناه (فقد جمعنا الاسم بالسميع) أي التسمية به. و «جمعنا» إما بسكون العين على صيغة المتكلم مع الغير أو بفتحها على صيغة الغائب المذكر، والاسم على الأول منصوب على المفعولية

ص:50

وعلى الثاني مرفوع على الفاعلية (واختلف المعنى); لأن السمع في الواجب هو العلم بالمسموعات بنفس الذات (1) لا بالأداة، وفينا إدراك المسموعات بالشقوق والأخرات، وهذا مخالف لذاك; لأن العلم بالمسموعات من جهة الآلات غير العلم بها لا من جهتها.

لا يقال: هذا إنما يثبت التخالف بين هذين المقيدين لا مطلقا; لوقوع التشابه بينه وبيننا في الجزء المشترك بينهما وهو العلم بالمسموعات.

لأنا نقول: قد عرفت آنفا أن علمه مخالف لعلمنا فلا نعيده.

(وهكذا البصر لابخرت منه أبصر) في كتاب العيون: «وهكذا البصير» على وزن فعيل «لالجزء به أبصر» يعني ليس إبصاره بالعين ولا إدراكه للمبصرات بحاسة البصر لتنزهه عن الحواس (كما أنا

ص:51


1- 1 - قوله: «هو العلم بالمسموعات بنفس الذات» قد يختلج في أذهان قوم أن السمع والبصر يختصان بأصحاب الآلات والجوارح وليس لواجب الوجود والعقول القادسة هذان الإدراكان البتة فيلزم كون الأجسام الحية بالعرض أكمل في الإدراك ممن هو أصل معنى الحياة والإدراك، ومن حياة غيره مأخوذة منه. وهذا مما لا يلتزم به ذو مسكة بل الحق أن كل من تعرض لهذه المسألة معترف بكمال العلة البتة وإنما يحذف الآلة فقط ولا ضير فيه، وأعلم أن أصل الإدراك لغير الجسم كما قلنا; إذ ليس من شأن الأجسام أن تدرك ما ينتقش فيها. فإن قيل: كيف وقد أثبت الحكماء جسمانية القوى الحاسة بل لا يشك فيه العوام أيضا فإن الحواس الظاهرة الخمس جسمانية بالبديهة وتعدم بفساد مزاج أعضائها وأيضا يعرض النوم على أعصاب الحس فيسلب قوة الإدراك الحسي ويعرض الإغماء على الدماغ فيسلب الادراكات الباطنة أيضا خصوصا الإغماء بأدوية الجراحين مثل كلرفورم تغلب على الدماغ فلا يدرك الإنسان شيئا حتى أنه يغفل عن نفسه ولا يرى رؤيا ولا حلما كما في النوم فإن النائم يملك المتخيلة والحس المشترك والواهمة وإن فقد الاختيار، ويمكن لليقظان أن ينصرف من التخيل في شيء إلى التخيل في آخر باختياره ولكن النائم يتخيل فيها قهرا بغير اختيار، والمغمي عليه لا يملك المتخيلة ولا الحس المشترك، نعم إن القوة الحافظة لا تعدم بعروض النوم والإغماء ولذلك إذا استيقظ الإنسان أو أفاق من غشيته وجد نفسه مع جميع مدركاته السابقة ولو كانت الحافظة معدومة استحال عودها وعود مدركاتها إذ لم تكن إلا في الحافظة وقد ينسى النائم بعض الأمور مع ذكره بعضها مثلا يرى أباه وأمه الميتين في المنام ويعرفهما لبقاء الحفظ في الجملة وقد ينسى أنهما ماتا وقد لا ينسى، وهذا لا يدل على فناء الحافظة بل على وجودها وإنما يفقد القوة الذاكرة أي ملكة التذكر واستخراج ما في الحافظة وإحضاره في الحس المشترك ولذلك قال بعض أهل عصرنا من فلاسفة الإفرنج: إن الحافظة مجردة غير جسمانية لوجودها مع تعطل جميع الأعضاء خلافا لقدمائنا حيث قالوا بجسمانيتها إذ قد تعدم في أواخر الشيخوخه أو تضعف، والضعف لا يعرض إلا لضعف الدماغ. قلنا جميع ذلك حق لأنا لا ننكر كون هذه الجوارح آلات للاحساس وكما يفقد الحس بفقد المدرك يفقد لفقد الآلة، ولكن نقول: ليس المدرك هذه الآلات بأنفسها كما يقول الطبيعيون بل المدرك شيء آخر وهذه آلاته ومثلنا مثل من يقول: الإنسان يدرك بالمنظار، ومثل الطبيعيين مثل من يقول: المنظار يدرك بنفسه، إذا ثبت هذا فإن قلنا بقول الطبيعيين امتنع إثبات معنى السمع والبصر لله تعالى إذ هما للجسم لا غير، وإن قلنا بقول الإلهيين لم يمتنع إثبات الكشف التام الواضح الذي يسمى سمعا وبصرا له تعالى بغير آلة، وهذا معنى قول المتكلمين: إن بصره علمه بالمبصرات وهكذا. (ش)

نبصر بخرت منا) في كتاب العيون: «بجزء منا» (لا ننتفع به في غيره) أي كما أنا نبصر المبصرات بخرت العين لا ننتفع بذلك الخرت في غير الإبصار لأنه طريق لإدراك المبصرات فقط (ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه) أي لا ينطبع صورة المنظورة إليه ومثاله في ناظره لعدم وجود الناظر له، فيه دلالة على أن الإبصار بالانطباع (1) ويمكن أن يراد بالشخص الآلة الباصرة التي يمكن النظر إليها، وقيل الاحتمال هنا بمعنى المشقة يقال: احتمله أي تكلف المشقة فيه يعني لا مشقة له في إبصار شخص منظور إليه، في بعض نسخ هذا الكتاب وفي كتاب العيون: «لا يجهل» من الجهل في موضع لا تحتمل، وهو الأظهر (فقد جمعنا الاسم) الفعل هنا أيضا يحتمل الوجهين (واختلف المعنى); لأن إبصارنا بالنواظر والأخرات، وإبصاره هو العلم بالمبصرات بنفس الذات، والحاصل أن البصر والبصير في الخلق نفس الذات، وفينا الآلة والنفس الفاقرة من جميع الجهات، فلا اشتراك هنا إلا في مجرد الاسم (وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء) الكبد بفتح الكاف والباء: الشدة والمشقة. والساق ساق قدم، ويمكن أن يراد بها هنا السبب، أي ليس قيامه على معنى قيام على سبب يقيمه كسائر الأشياء الموجودة القائمة بأسبابها. ويؤيده بقاء الأشياء على عمومها عدم الاحتياج إلى تخصيصها بذوات السوق (ولكن قائم يخبر أنه حافظ) أي ولكن قولنا هو قائم يخبر أنه حافظ للمخلوقات وأحوالهم وأفعالهم وآثارهم ومتول لحفظها وإصلاحها ورعايتها وتدبيرها.

ولما كان هنا مظنة أن يقال: إطلاق القائم على الحافظ غير متعارف، أشار إلى أنه شايع في المحاورات بقوله: (كقول الرجل القائم بأمرنا فلان) أراد بالقائم الحافظ الضابط المدبر في أمورهم لا القائم بالساق ولو أريد هذا لكان المقصود منه على سبيل الكناية هو الحفظ.

(والله هو القائم) أي الحافظ (على كل نفس بما كسبت) من الخير والشر. والواو إما للحال أو للعطف على قوله «كقول الرجل» أو على مقول القول وهو القائم (والقائم أيضا في كلام الناس الباقي) أي الثابت الوجود أزلا وأبدا على امتناع أن يسبقه أو يلحقه عدم، ويقال للباقي بهذا المعنى: الأزلي الأبدي، ولا يستحق هذا الاسم إلا هو (والقائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك

ص:52


1- 1 - قوله: «على أن الابصار بالانطباع» هذا هو الصحيح من مذهب الحكماء في الإبصار، والمذهب الآخر هو القول بخروج الشعاع، وتفصيل القولين والحجة على كل واحد في محله، وأورده الشيخ في علم النفس من طبيعيات الشفاء وأثبت هذا القول الذي يستفاد من الحديث ببراهين متقنة. (ش)

للرجل قم بأمر بني فلان أي أكفهم) مؤنتهم وسائر ما يحتاجون إليه والله سبحانه هو الكافي على الإطلاق لأنه يكفي بلا معاناة ولا آلة جميع ما يحتاج إليه، عالم الإمكان من الوجود والصفات والكمالات والأسباب والأرزاق وغيرها وإنما لم يذكره; لأن شهرته كفت مؤونة ذكره، وبالجملة القائم إذا أطلق عليه سبحانه يراد به الحفظ أو البقاء أو الكفاية لا القيام على ساق (والقائم منا قائم على ساق) أي على ساق القدم أو على سبب يقيمه، ولا يتحقق شيء من هذين المعنيين فيه جل شأنه لتنزهه عن الجسمية والقدم والساق والسبب.

فإن قلت: القائم قد يخبر في الخلق عن الحفظ والكفاية والبقاء، أما الأولان فقد صرح به (عليه السلام) وأما الأخير فلأن الباقي يصدق على الجنة والنار والنفوس المجردة والبدن بعد بعثه وغيرهما مما كان وجوده أبديا، بل يصدق على الموجود وإن كان منقطع الوجود في الطرفين، فصرف القيام عن ظاهره إلى هذه المعاني لا ينفع; لوقوع التماثل والتشابه فيها.

قلت: هذا مدفوع أما أولا فلأن هذه المعاني فينا تابعة للقيام على ساق لأنه قد يجعل كناية عنها، وفي الواجب غير تابعة له. وأما ثانيا فلأن هذه المعاني فينا صفات حادثة ناقصة قائمة بنا، مستندة إلى آلات وأسباب معتبرة في تحققها، وفي الواجب يعتبرها العقول على الوجه الأكمل لذاته المقدسة بذاته من غير اعتبار صفة زائدة قديمة أو حادثة تحل فيه لتعاليه عن التحديد والتوصيف فلا اشتراك فيها أيضا إلا بحسب الاسم (فقد جمعنا الاسم ولم نجمع المعنى) إن كان «جمعنا» بسكون العين كان «لم نجمع» بالنون وإن كان بفتحها كان لم يجمع بالياء المثناة من تحت، والتقدير: لم يجمعنا المعنى، والأخير وإن كان خلاف الظاهر لاحتياجه إلى الحذف ومخالفته لظاهر ما سبق لكن يؤيده ما نقله الصدوق في كتابي العيون والتوحد بقوله: «ولم يجمعنا المعنى».

(وأما اللطيف فليس على قلة) في الحجم (وقضف) في الجسم. والقضف - محركة كعنب - الدقيق والنحيف، وقد قضف بالضم قضافة فهو قضيف أي نحيف (وصغر) في المقدار; لأن كل ذلك من صفات الجسم والجسمانيات وقدس الحق منزه عنها (ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء) (1) أي ولكن الله لطيف على معنى نفاذ علمه وقدرته وحكمه في الأشياء الصغار والكبار،

ص:53


1- 1 - قوله: «على النفاذ في الأشياء» كان معناه ما تكرر في كلام أمير المؤمنيين (عليه السلام): «داخل في كل شيء لا كدخول شيء في شيء» وكما في قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقد عبر عنه الشارح بقوله على معنى نفاذ علمه وقدرته وحكمته، وبالجملة هو الوجود الأصل القائم بنفسه المستغني عن كل شيء وغيره وجود ربطي تعلقي غير مستقل لا ينظر إليه بذاته ولا يتحقق له حقيقة، إن قطع النظر عن علته فهو مع كل شيء، والخاصة الظاهرة للموجودات اللطيفة اثنتان; الأولى: النفاذ، والثانية: عدم كونه مدركا بالحواس، فإن اللطيف البالغ في اللطافة لا يحس ببصر ولا يدرك بلمس، وهاتان الخاصتان ثابتتان للبارى تعالى من غير أن يثبت له المقدار وساير لوازم الجسمية، وبهذا يعلم أن اللطيف قد يستعار في اصطلاح الشرع للموجود المجرد، وببالي أن صدر المتألهين - قدس سره - ذكر في شرح قوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) أن الله تعالى مجرد، ومقتضى التجرد العلم، ففهم من اللطف التجرد، وهذا الحديث يؤيده. (ش)

ألا ترى كيف نفذت في الذرة والبعوضة وما هو أصغر منهما وفي غيرهما من الحيوانات والنباتات والجمادات والمعادن والأرضين والسماوات وما فيهن وما بينهن مما يعجز عن إدراك قليل منها ومن منافعها وخواصها وآثارها أولو الألباب (والامتناع من أن يدرك) أي امتناعه من أن يدرك ذاته وصفاته من جهة العقل والحواس بحد ونهاية ورسم يحيط بها، وبالجملة لطفه عبارة عن نفوذ علمه وقدرته في الغير، وعدم نفوذ علم الغير وقدرته فيه، ثم أشار إلى أن إطلاق اللطيف على النفاذ غير بعيد لأنه مستعمل في محاورات الناس أيضا بقوله (كقولك للرجل) أي: لإعلامه وإخباره (لطف عني هذا الأمر) يعني لم ينفذ فيه فهمي ولم يبلغ إليه عقلي (ولطف فلان في مذهبه وقوله) إذا دق طريقهما وخفي مأخذهما ولم ينفذ فيهما العقل (يخبرك) في محل النصب على أنه حال عن مقول القول، أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا القول يخبرك (أنه غمض فيه العقل وفات الطلب) غمض بفتح الميم أو ضمها غار، والغموض الغور، والغامض من الكلام خلاف الواضح، والطلب بفتح اللام مصدر بمعنى المفعول، يعني غار فيه العقل وفات مطلوبه ولم ينله لدقته، ولو كان غمض بتشديد الميم من تغميض العين وهو إطباق أجفانها كان في الكلام استعارة مكنية وتخييلية وهو مع ذلك كناية عن عدم إدراك المطلوب، وفي كتاب العيون والتوحيد للصدوق - رحمه الله -: «أنه غمص فبهر العقل» بهر على البناء للمفعول من البهر بالفتح وهو الغلبة، يقال: بهره إذا غلبه فهو مبهور أي مغلوب. يعني هذا القول يخبرك أن ذلك الأمر غامض له غور شديد فبهر العقل وغلب لانقطاع إدراكه وانسداد سبيله قبل الوصول إليه وهذا أظهر وأنسب بالمقام لإفادته صريحا ما هو علة لفوات الطلب أعني غور ذلك الأمر (وعاد متعمقا متلطفا) أي صار ذلك الأمر ذا عمق ودقة (لا يدركه الوهم) لبعد عمقه وغاية دقته وخفاء سبيله.

(فهكذا لطف الله تعالى) الظاهر أن «لطف» على صيغة الفعل دون المصدر.

(عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف) أي عن أن يدرك شرح حقيقة ذاته أو ما له من كمال صفاته

ص:54

بالتحديد والتعيين، أما الأول فلأنه لا حد لحقيقته، وأما الثاني فلأنه ليس لما يعتبره العقول من كماله سبحانه نهاية يقف عندها فيكون العقل حادا له.

(واللطافة منا الصغر والقلة) المستلزمان لعسر إدراك المتصف بهما وصعوبة نفوذ العقل فيه، واللطافة في الواجب ليست بمعنى الصغر والقلة كما عرفت (فقد جمعنا الاسم) أي اسم اللطيف (واختلف المعنى; لأن اللطافة منا صفة حادثة قائمة بنا، وفيه جل شأنه علمه الذي هو نفس ذاته الحقة باعتبار نفوذه في جميع الأشياء، والاختلاف بينهما لا يشتبه على ذي عقل.

(وأما الخبير) إذا أريد سبحانه (فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء) يعني أنه تعالى خبير بمعنى أنه لا يبعد عنه شيء من الأشياء، ولا يغيب عنه أمر من الأمور، وليس خبره بالأشياء وعدم بعد شيء عنه مستندا إلى التجربة والتكرار ولا إلى النظر، والاعتبار هو العبور من علم إلى علم آخر، وفيه إشارة إلى أن علمه ليس بضروري ولا نظري (فعند التجربة والاعتبار علمان) أحدهما تجربي ضروري والآخر اعتباري نظري، وفي كتاب العيون: «فتفيد التجربة والاعتبار علما» وهو الأصوب والأظهر (ولولاها ما علم) أي لولا التجربة والاعتبار ما علم شيئا ضرورة أن انتفاء السبب يوجب انتفاء المسبب، والمراد بالتجربة ما عدا طريق الاكتساب فيشمل طرق الضرورة كلها.

ولما أشار إلى أن علمه ليس للتجربة والاعتبار بين ذلك وأثبته بقوله: (لأن من كان كذلك كان جاهلا) يعني من استفاد علمه بالتجربة والاعتبار كان جاهلا قبلهما بالضرورة (والله لم يزل) في مرتبة ذاته الحقة من كل جهة (خبيرا بما يخلق) غير المتصف بالجهل أصلا فليس علمه مستفادا منهما (والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم) (1) الاستخبار السؤال عن الخبر، ولعل المقصود أنه يعتبر في مفهوم الخبير إذا أطلق على الناس زيادة الاحتمال وهي الاتصاف بالخبر يعني العلم بعد الطلب والتعلم من الغير مع جهل سابق، ولا يبعد أن يكون الاستخبار إشارة إلى طلبه بالتجربة ونحوها، والتعلم إشارة إلى طلبه بالاعتبار، فيكون فيه إشارة إلى اعتبار مأخذ العلم وطريقه في هذا المفهوم

ص:55


1- 1 - قوله: «المستخبر عن جهل المتعلم» المتعلم صفة للمستخبر، والمعنى أن الخبير من الناس مستخبر متعلم واستخباره حاصل بعد جهله; لأن علمنا إما بديهي وإما نظري كما قسمه أهل المنطق، والبديهيات حاصلة بالتجربة بالمعنى الأعم الشامل للحس والحدس، والنظريات حاصلة بالاعتبار، وكلاهما بعد الجهل، وقال بعض من لا عبرة به في تفسير الجملة: الخبرة من الناس يفتش عن جهل تلاميذه، وهو عجيب، وقال الحكماء: كل متعجب ضاحك. (ش)

(وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) لما عرفت أن خبره تعالى في مرتبة الذات بل هو نفس الذات بلا استخبار ولا تعلم ولا جهل سابق، وخبرنا بعد مرتبة ذواتنا وبعد هذه الأمور فافترقا وتباينا ولا يبعد أن يكون الخبير أخص من العالم، أما في الواجب فلأنه عبارة عن العالم بدقائق الأشياء وحقائقها والعالم فيه أعم منه، وأما في غيره فلأنه عبارة عن العالم من جهة التجربة والاعتبار ومن جانب التعلم والاستخبار على أن يكون هذه الأمور معتبرة في مفهومه، والعالم في غيره أعم منه لعدم اعتبار هذه الأمور في مفهومه وإن كان لا يخلو عنها.

(وأما الظاهر) اعلم أن للظاهر ستة معان على ما يستفاد من سياق الحديث بعضها مختص بالخالق وبعضها مختص بالخلق، ومن هاهنا يظهر أن الاشتراك ليس إلا بحسب الاسم:

الأول: العالي المرتفع بمعنى الراكب فوق شيء، وهو من قولهم: ظهر فلان السطح، إذا علاه، وحقيقته صار على ظهره، كما صرح به في المغرب.

الثاني: البارز بنفسه المعلوم بحده وهو من قولهم: ظهر فلان إذا خرج وبرز، وهذان المعنيان مختصان بالخلق لاستحالة اتصاف الخالق بهما.

الثالث: الغالب على جميع الأشياء بالقهر والقدرة عليها من قولهم: ظهر فلان على عدوه إذا غلبه.

الرابع: البين وجوده بآثاره لكل أحد من قولهم: ظهر هذا الشيء إذا تبين وجوده بآثاره.

الخامس: العالم بجميع الأشياء بحيث لا يخفى عليه شيء منها.

السادس: المدبر لجميع الأشياء أو لكل ما يرى منها، وكأن هذين المعنيين مأخوذات من المعنى الثالث لاعتبار الغلبة فيهما بالعلم والتدبير وهذه الأربعة مختصة به سبحانه، وإلى هذا التفصيل أشار بقوله: (فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها) سنام كل شيء أعلاه، ومنه: تسنمه إذا علاه، وأسنم الدخان إذا ارتفع، والذرى بضم الذال المعجمة وكسرها جمع الذروة كذلك وهي أعلى الشيء وفوقه.

(ولكن ذلك) أي كونه ظاهرا أو علوه على الأشياء (لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها) فمعنى الظاهر أنه العالي على جميع الأشياء بمعنى أنه قاهر غالب قادر عليها، فلا يعجزه ولا يفوته شيء ولا يغلبه ولا يسبقه أحد (كقول الرجل: ظهرت على أعدائي) أي غلبت عليهم (وأظهرني الله على خصمي) أي غلبني عليه تغليبا (يخبر عن الفلج والغلبة) الفلج بالفتح الظفر، وقد فلج

ص:56

الرجل على خصمه إذا غلب، وأفلجه الله عليه إذا جعله غالبا والاسم الفلج بالضم (فهكذا ظهور الله على الأشياء) فظهوره ليس ظهورا مكانيا حسيا بل هو قهره وغلبته جميع الأشياء واستيلاؤه عليها بالإيجاد والإبقاء والإفناء.

(ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده) أي الظاهر لكل من أراده بحججه الباهرة وبراهينه الظاهرة وشواهد أعلامه النيرة الدالة على وجوده وثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته إذ لا موجود إلا وهو يشهد بوجوده، ولا مخترع إلا وهو يعرب عن توحيده.

(ولا يخفى عليه شيء) هذا وجه آخر غير ظهوره للغير وهو ظهور الغير له بنفس ذاته الحقة التي هي العلم بجميع الأشياء وقد عرفت أنه من توابع الغلبة إذ فيه غلبة على الأشياء بنفوذ علمه فيها وإحاطته بها.

(وأنه مدبر لكل ما برأ) على وفق الحكمة والمقتضية للنظام الأكمل، وهذا أيضا وجه آخر لظهوره غير ما ذكر وتابع للغلبة كما أشرنا إليه، وتخصيص المرئي بالذكر باعتبار أنه مناسب لوصفه تعالى بالظهور (فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تعالى) متفرع على الوجوه الأربعة أو تعليل لها (لأنك لا تعدم صنعته حيث ما توجهت) فهو الظاهر وجوده بعجائب تدبيره وغرائب تقديره للمتفكرين والواضح ثبوته وعلمه بإنشاء الأجرام العلوية، وإبداع الأجسام السفلية للناظرين.

(وفيك من آثاره ما يغنيك); لأن ما في الإنسان من ظرائف الصنع ولطائف التدبير يغنيه في معرفة صانعه عن سائر المبدعات العجيبة والمخترعات الغريبة.

(والظاهر منا البارز بنفسه) للناظرين وإنما قال بنفسه لأنه تعالى أيضا بارز لكن بروزه بحججه وآثاره (والمعلوم بحده) للحادين يعني المعلوم بشرح حقيقة ذاته وصفاته وبما له من أطرافه ونهاياته، والظاهر منا أيضا العالي على الشيء بالركوب عليه، ولم يذكره إما للاقتصار مع الإيماء إليه في صدر الكلام أو لأن البارز بنفسه يصدق عليه أيضا (فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى) للتغاير والتخالف بين معنييه في الموضعين; لأن ظهورنا حسي يحصل بمنشأ هذه العين أو بتحديد العقل وتعيين الوصف بخلاف ظهوره تعالى كما عرفت (وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها) كغور الغايص في الماء وغور بعض أجزاء الجسم في داخله على مقابل ما في ظاهره، وغور المتمكن ودخوله في مكانه، فلا يصح أن يقال: هو في كذا على الحقيقة (ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا) يعني أن الاستبطان منه تعالى محمول على استبطان كل واحد من علمه وحفظه وتدبيره للأشياء الجلية والخفية ودخوله فيها

ص:57

وتعلقه بباطنها كتعلقه بظاهرها فلا تفاوت بين التعلقين باعتبار كمون المتعلق وظهوره، إذ كل كامن بالقياس إلينا فهو ظاهر بالقياس إليه جل شأنه، ويقرب منه ما قيل من أن الباطن هو اللطيف; إذ المراد أنه يعلم بواطن الأمور وإن دقت ولطفت.

ولما أشار إلى أن الباطن بمعنى العالم بباطن الأشياء أشار إلى أن ذلك متعارف في اللغة والعرف دفعا لتوهم الإنكار بقوله: (كقول القائل أبطنته) على صيغة المتكلم وحده من باب الإفعال (يعني خبرته وعلمت مكتوم سره) يفهم منه شيئان أحدهما وهو ليس بمقصود هنا أن خبرته بمعنى علمته، قال الجوهري: تقول: من أين خبرت هذا الأمر؟ أي من أين علمت؟ والاسم الخبر بالضم وهو العلم بالشيء. والخبير العالم. الثاني وهو المقصود هنا ليكون دليلا على ما سبق من أن أبطنته بمعنى علمته ولما كان هذا الكلام من معدن الفصاحة والبلاغة لا يرد أنه لم يثبت في اللغة أن أبطنته بمعنى علمته وإنما الثابت أن بطنته على صيغة المجرد بمعنى علمته، ففي النهاية الأثيرية والصحاح: بطنت هذا الأمر: عرفت باطنه، ومنه الباطن في صفة الله تعالى، ولا حاجة إلى ما قيل من أن الصيغة من المجرد والهمزة للاستفهام والتاء ضمير الخطاب.

(والباطن منا الغايب في الشيء المستتر) المستتر خبر بعد خبر، أي المستتر بالشيء كاستتار الأجزاء الباطنة للجسم بالأجزاء الظاهرة، واستتار الجسم بالحجاب وأمثال ذلك (وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) إذ البطون فينا من جهة الاستتار والاحتجاب وهو سبحانه منزه عنهما، وفيه سبحانه علمه بنفس ذاته المقدسة بباطن جميع الأشياء وإن دق وبعد عن الحواس ولا تتصف به (وأما القاهر فليس على معنى علاج) أي عمل ومزاولة ومدافعة (ونصب) النصب بالتحريك:

التعب من «نصب» بالكسر نصبا إذا تعب وأنصبه غيره، وبالفتح والسكون: «المعاداة» من: «نصبت لفلان» بفتح العين، إذا عاديته، وبالضم والسكون: الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى حكاية: (مسني الشيطان بنصب وعذاب).

(واحتيال ومداراة ومكر) في الصحاح: «مداراة الناس» تهمز ولا تهمز وهي المداجات والملاينة، وفي المغرب: المداراة المخالطة، وبالهمزة: مدافعة ذي الحق عن حقه. والاحتيال والمكر متقاربان، قال في الصحاح: المكر: الاحتيال والخديعة. ولا يبعد أن يقال: الاحتيال هو استعمال الرؤية وأخذ الحيلة لدفع ضرر الغير عن نفسه. والمكر استعمال الرؤية وارتكاب الخديعة لإيصال الضرر إلى الغير (كما يقهر العباد بعضهم بعضا); لأن القاهرية على المعاني المذكورة ليست من الصفات

ص:58

اللازمة لذات القاهر، بل هي من العوارض التي يجوز انفكاكها عن المعروض فيجوز أن يصير القاهر في وقت ما لوقوع تدبيره على وفق مدعاه، مقهورا في وقت آخر لعدم وقوع تدبيره على ذلك أو لوقوع تدبير المقهور على نحو إرادته وغلبته على تدبير القاهر كما يشاهد ذلك من تدبيرات السلاطين بل من تدبيرات أفراد الناس في مقاصدهم (ولكن ذلك) أي معنى القاهر (من الله تعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله) «ملبس» اسم مفعول من الإلباس، والذل فاعله، وفيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه الذل باللباس وإثبات الإلباس له، ولفظ فاعله وقع موقع الضمير للإشارة إلى ما هو سبب لذل الجميع (وقلة الامتناع لما أراد به) الظاهر: أنه عطف على «الذل» وعطفه على «أن» أيضا محتمل، وذل الخلائق لفاعلهم القديم القاهر يعود إلى دخولهم في ذل الإمكان تحت غلبته واحتياجهم في أسر الحاجة إلى كمال قدرته، وحيث لا يقدرون على الامتناع لما أراد من صفاتهم وذواتهم وهيئاتهم ومقاديرهم وكمالاتهم ونفعهم وضرهم وخيرهم وشرهم للزوم حاجتهم في الذوات والصفات وجميع الحالات إليه ورفعهم أيدي الإمكان والافتقار من جميع الجهات بين يديه، ولعل لفظ القلة إشارة إلى صدور الامتناع عن بعضهم قليلا فيما أراد منهم من أفعالهم الاختيارية ولكن ليس ذلك لقهرهم وغلبتهم عليه بل لأنه تركهم على حالهم ولم يجبرهم تحقيقا لمعنى التكليف والاختيار (ولم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون) الظاهر أنه حال عن فاعله أو عن فاعل «أراد» وضمير «منه» راجع إليه و «أن يقول» فاعل لم يخرج يعني لم يخرج منه سبحانه (1) في سلطانه على الخلق وقهره عليهم طرفة عين هذا الوصف أعني قوله «كن فيكون» وفيه إشارة إلى أنه القاهر الذي لا يعود مقهورا أبدا، بخلاف القاهر منا وإنما قلنا:

ص:59


1- 1 - قوله: «لم يخرج منه سبحانه» تركيب العبارة وإعرابها لا يخلوان عن صعوبة. قال العلامة المجلسي في مرآة العقول في التوحيد - يعنى في توحيد الصدوق -: «طرفة عين غير أنه يقول له» وهو غير ظاهر. ومعنى قوله «لم يخرج منه» لم ينتف منه سبحانه هذا القول طرفة عين أيضا، وقال أيضا: لعله يدل على أن الأشياء في كل آن محتاجة إلى إفاضة جديدة وإيجاد جديد. وقال: قد أشار إلى ما أومأنا إليه بهمنيار في التحصيل وغيره حيث قالوا: كل ممكن بالقياس إلى ذاته باطل، وبه تعالى حق، كما يرشد إليه قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) فهو آنا فآنا يحتاج إلى ان يقول له الفاعل الحق: كن، ويفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول والإفاضة طرفة عين لعاد إلى البطلان الذاتي والزوال الأصلي كما أن ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد إلى ظلمته الأصلية. انتهى. وأعلم أن في احتياج الممكن في البقاء إلى المؤثر بحثا طويلا في علم الكلام، ومضمون هذا الحديث هو الحق الذي انتهى إليه بحثهم واختاره المحققون منهم; وذلك لأن علة الاحتياج إلى العلة إمكان الممكن، وهو صفة ثابتة له بعد الوجود، وغلط غير أهل الحق وتفوهوا بهذه الكلمة المنكرة: «لو جاز على الواجب العدم لما ضر عدمه وجود العالم» وفيمن أثبت الاحتياج في البقاء من لم ينل وجهه، وصدور هذه العلوم من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) معجزة عظيمة ولا يوجد مثلها في أحاديث مخالفينا البتة. (ش)

الظاهر ذلك; لأنه يحتمل أن يكون حالا عما ذكر، ويكون فاعل «لم يخرج» ضميرا راجعا إليه، ويعود ضمير «منه» إلى «القاهر» ويجعل «أن يقول» بدلا عن ضمير «منه» يعني: لم يخرج الفاعل وهو الله تعالى من كونه قاهرا على الخلق ومن أن يقول «كن فيكون» طرفة عين، وفيه أيضا إشارة إلى ما ذكر.

ويحتمل أيضا أن يكون حالا عن ضمير «به» أو عن مفعول ما خلق وضمير «منه» حينئذ راجع إلى لباس الذل إلا أن في ربط «أن يقول» بما قبله خفاء يزول بالتقدير أي أن يقول له يعني: لم يخرج المخلوق من لباس الذل في حدوث ذاته وصفاته ووجوده وبقائه، ومن أن يقول الله تعالى له: كن فيكون طرفة عين، وفيه إشارة إلى أن الممكن في بقائه يحتاج إليه سبحانه، وسر ذلك ما أشار إليه جماعة من المحققين منهم بهمنيار في التحصيل من أن كل ممكن بالقياس إلى ذاته باطل وبه تعالى حق كما يرشد إليه قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) فهو آنا فآنا يحتاج إلى أن يقول له الفاعل الحق:

كن، ويفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول والإفاضة طرفة عين لعاد إلى البطلان الذاتي والزوال الأصلي كما أن ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد إلى ظلمته الأصلية (والقاهر منا، على ما ذكرت ووصفت فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى) كيف وقهرنا ينادي بالعجز والنقصان، وقهره ينادي بكمال الغلبة والسلطان، فسبحان من قهر الجبابرة بالموت والنكال وغلب القياصرة بدون السيف والنصال (وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نستجمعها كلها) مثل الرازق والباري والقدوس والقيوم وغير ذلك من الأسماء التي لم يقع التسمية بها في الخلق (فقد يكتفي بالاعتبار بما ألقينا إليك) فإن العاقل اللبيب يعرف في جميع أسمائه ما يليق به بالقياس إلى ما ذكر، ولو وقعت التسمية بها في الخلق لعرف الفرق بين المعنيين (والله عونك وعوننا) العون الظهير على الأمر والجمع الأعوان (في إرشادنا) إلى الحق (وتوفيقنا) لقبوله. وفي تقديم الدعاء للمخاطب أولا وضمه إلى أنفسهم القدسية ثانيا تعطف به وإيماء إلى كمال القرب بينهم وبين شيعتهم التابعين لأقوالهم وأعمالهم.

ص:60

باب تأويل الصمد

اشاره

لعل المراد بالتأويل هنا معنى التفسير (1) وهو كشف معناه لا المعنى المصطلح وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى ما هو أخفى منه.

* الأصل:

1 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد ولقبه شباب الصيرفي، عن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير.

* الشرح:

(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد ولقبه شباب الصيرفي عن داود بن القاسم الجعفري) من أولاد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ثقة جليل القدر (قال:

قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام) جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير).

سأل ب «ما» عن شرح اسم الصمد فلذلك أجاب (عليه السلام) به وأشار بذكر القلة والكثرة إلى أن المعتبر في مفهوم الصمد هو كونه مرجوعا إليه في الحوائج كلها قليلها وكثيرها، حقيرها وكبيرها للتنبيه على أن الأحق بهذا الاسم هو الحق الغني عن الغير من كل وجه وأن إطلاقه على غيره إنما هو على سبيل التجوز والإضافة; إذ كل سيد سواه فهو في ربقة الحاجة إلى الغير فليس مصمودا إليه في الجميع.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن السري، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التوحيد. فقال: إن الله تباركت أسماؤه التي يدعى بها وتعالى في علو كنهه واحد توحد

ص:61


1- 1 - قوله: «لعل المراد بالتأويل هنا معنى التفسير» لا شبهة فيه، ولا يناسبه كلمة «لعل» وكذلك في أكثر الأحاديث وعرف القدماء، ولذلك ترى جميع ما نسميه تفسيرا من أقوال مشاهير المفسرين كقتادة وابن عباس ومجاهد سماه الطبري تأويلا. (ش)

بالتوحيد في توحيده، ثم أجراه على خلقه فهو واحد، صمد، قدوس، يعبده كل شيء ويصمد إليه كل شيء ووسع كل شيء علما.

فهذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد، لاما ذهب إليه المشبهة: أن تأويل الصمد:

المصمت الذي لا جوف له، لأن ذلك لا يكون إلا من صفة الجسم; والله (جل ذكره) متعال عن ذلك، هو أعظم وأجل من أن تقع الأوهام على صفته أو تدرك كنه عظمته، ولو كان تأويل الصمد في صفة الله عز وجل المصمت، لكان مخالفا لقوله عز وجل: (ليس كمثله شيء); لأن ذلك من صفة الأجسام المصمتة التي لا أجواف لها، مثل الحجر والحديد وسائر الأشياء المصمتة التي لا أجواف لها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فأما ما جاء في الأخبار من ذلك فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال، وهذا الذي قال (عليه السلام): إن الصمد هو السيد المصمود إليه هو معنى صحيح موافق لقول الله عز وجل: (ليس كمثله شيء) والمصمود إليه المقصود في اللغة، قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي (صلى الله عليه وآله) من شعره:

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل يعني قصدوا نحوها، يرمونها بالجنادل يعني الحصا الصغار التي تسمى بالجمار، وقال بعض شعراء الجاهلية (شعرا):

ما كنت أحسب أن بيتا ظاهرا * لله في أكناف مكة يصمد يعني يقصد. وقال ابن الزبرقان: ولا رهيبة إلا سيد صمد (1) وقال شداد بن معاوية في حذيفة بن بدر:

علوته بحسام ثم قلت له: * خذها حذيف فأنت السيد الصمد ومثل هذا كثير، والله عز وجل هو السيد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والإنس إليه يصمدون في الحوائج وإليه يلجأون عند الشدائد ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء ليدفع عنهم الشدائد.

* الشرح:

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن الحسن بن السري، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من التوحيد فقال: إن الله تباركت أسماؤه) أي تطهرت عن المعايب والنقائص، كذا فسره عياض،

ص:62


1- 1 - أوله: ما كان عمران ذا غش ولا حسد.

فقال القرطبي: تباركت أسماؤه معناه: كثرت صفات جلاله وعظمته (التي يدعى بها) أشار بهذا الوصف إلى فائدة وضع أسمائه تعالى وهي أن يدعوه الخلائق بها في حوائجهم كما مر (وتعالى في علو كنهه) أن يدركه أحد سواه، و كنه الشيء حقيقته التي هو بها هو هو (واحد) لا ثاني له في الوجود الذاتي ولا كثرة له في ذاته وصفاته فذاته ليست بمتجزية ووجوده وصفاته ليست بزائدة، ولم يفته شيء من كمالاته بل كلما ينبغي له فهو له بالفعل وفي مرتبة ذاته (توحد بالتوحيد في توحده) أي تفرد بتوحيده في حال تفرده بالوجود يعني أنه كان في الأزل قبل إيجاد الخلق يوحد نفسه بلا مشارك (ثم أجراه) أي توحيده (على خلقه) (1) بأن فطرهم عليه أو كلفهم به (فهو واحد) بالمعنى المذكور (صمد) يرجع إليه جميع الخلائق في جميع الحوائج (قدوس) طاهر من النقايص والعيوب ومتنزه عن الأولاد والأنداد غيرهما مما لا يليق به (يعبده كل شيء) ناظر إلى الواحد; لأن الوحدة المطلقة وعدم المشاركة في الوجود الذاتي يقتضيان عدم المشاركة في العبادة فكل شيء عابد له لا معبود (ويصمد إليه كل شيء) ناظر إلى الصمد، والصمد القصد، وفعله من باب طلب (ووسع كل شيء علما) ناظر إلى القدوس; لأن القدس يقتضي العلم بجميع الأشياء لئلا يلزم الجهل المنافي له.

(فهذا) أي ما ذكر من الصمد السيد المصمود إليه في القليل والكثير. والظاهر أن هذا كلام المصنف رضي الله عنه (هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد) (2) عرف المسند إليه بالإشارة لزيادة التميز والإيضاح وعرف المسند بلام التعريف لقصد الحصر وأتى بضمير الفصل لقصد المبالغة فيه; ولهذا أيضا صرح بالجزء السلبي فقال:

(لا ما ذهب إليه المشبهة أن تأويل الصمد المصمت الذي لا جوف له) هؤلاء لما رأوا أنه تعالى

ص:63


1- 1 - قوله: «ثم أجراه على خلقه» والصحيح في تفسير هذا الكلام أن الوحدة الحقة مختصة بذاته تعالى، والوحدة في ساير خلقه ظل لوحدته ومأخوذة منه، فهو المتوحد في التوحيد أي لا واحد بالوحدة الحقيقية إلا هو; وذلك لما مر أن كل ممكن يجري فيه التجزية بوجه. وأشار بقوله تعالى في علو كنهه أن حقيقته أعلى من منال أفكار البشر وهذا مقدمة لتفسير التوحيد الذي سأل عنه السائل أي دليل كون الوحدة صفة خاصة به تعالى أن ذاته تعالت عن فكرنا ونحن لا نتعقل شيئا واحدا لا يدخله التجزى بوجه. (ش)
2- 2 - قوله: «فهذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد» الظاهر أن الحصر في كلام الكليني إضافي بالنسبة إلى المعنى الآخر وهو الجسم المصمت الذي لا جوف له وهو تشبيه وتجسيم تعالى الله عنه. وقد نقلوا في تفسير الصمد قريبا من عشرين قولا على ما في البحار ومرآة العقول منها قول محمد بن الحنفية: الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره. ومنها قول زيد بن على (عليه السلام): الصمد الذي إذ أراد شيئا قال له: كن فيكن، ومنها قول الحسين بن على (عليهما السلام) أن قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد) تفسير الصمد. ومنها الصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب. ولا فائدة في نقل جميع ما ذكر، ومرجع الجميع إلى شيء واحد، كما قال المجلسي رحمه الله. (ش)

صمد وأن الصمد يطلق في اللغة على المصمت الذي لا جوف له أولوه به ومالوا إلى توصيفه بأنه مصمت وإلى تقديسه بأنه لا جوف له كإنسان ونحوه فلحقه التشبيه; لأن في الخلق ما هو بهذه الصفة.

فتأويل الصمد بهذا باطل لما أشار إليه بقوله: (لأن ذلك) أي تأويل الصمد بهذا (لا يكون إلا من صفة الجسم) الذي ليس له جوف وليس خالي الباطن (والله جل ذكره متعال عن ذلك) أي عن أن يكون صمدا بهذا المعنى ويتصف بصفة الجسم.

ثم بالغ في تعاليه عن ذلك بقوله (هو أعظم وأجل من أن تقع الأوهام على صفته); لأن غاية مراحل الأوهام هي أواخر عالم الأبدان، ونهاية منازل الأفهام هي أواخر عالم الإمكان، وصفة الواجب خارجة بالذات عن العالمين بمراحل غير معدودة ومنازل غير محصورة.

(أو تدرك كنه عظمته); لأن عظمته تعالى لا تتناهى قدرا وعرفانا، ولذلك كلما غاص العارف المتقرب إليه في البحر الزاخر من عظمته وعبر منزلا من منازلها ازدادت عظمته في نفسه وعلم منها فوق ما علمه أولا وهكذا حتى يكمل عقد يقينه بذلك ويبلغ إلى نهاية ما يتصور له من منازلها فينادي بالعجز عن معرفته ويقر بعلو عظمته كما نطق به لسان سيد الأنبياء وأشرف الأوصياء صلى الله عليهما وعلى أولادهما النجباء.

(ولو كان تأويل الصمد في صفة الله تعالى المصمت) الذي لا جوف له; فاللام للعهد (لكان مخالفا لقوله (1) تعالى ليس كمثله شيء) واللازم باطل فالملزوم مثله، وأشار إلى بيان الملازمة بقوله: (لأن ذلك من صفة الأجسام المصمتة التي لا أجواف لها مثل الحجر والحديد وسائر الأشياء المصمتة التي لا أجواف لها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). قوله: «مثل الحجر» - إلى قوله: «لها» في بعض الكتب نسخة وفي بعضها أصل.

فإن قلت: لا شبهة في أنه تعالى شيء لا جوف له، وهو المراد بقول من قال: إنه المصمت الذي لا جوف له لا ما هو الظاهر منه أعني الجسم المصمت فإن المصمت ما لا جوف له، وهو يعم الجسم وغيره.

قلت: هذا التوجيه لا يصح من جانب المشبهة لأنهم صرحوا بأنه تعالى جسم نوري صمدي كما مر، على أن الظاهر المتبادر من المصمت في اللغة والعرف هو الجسم الذي لا جوف له، فلا يجوز

ص:64


1- 1 - قوله: «لكان مخالفا لقوله تعالى» يعنى أن الخبر إذا خالف ظاهر الكتاب فهو مردود، وهذا يدل على حجية ظاهر الكتاب عند المصنف، وقوله: «لأن ذلك من صفة الأجسام» أن الخبر المخالف لصريح العقل أيضا مأول. (ش)

وصفه تعالى به قطعا (فأما ما جاء في الأخبار من ذلك فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال) (1) لم يرد بذلك ما هو المتبادر من أنه جاء في الأخبار تأويل الصمد بالمصمت الذي لا جوف له لأنه خلاف الواقع، بل أراد به ما جاء فيها من تأويل الصمد بالشيء الذي لا جوف له، مثل ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بالسند الصحيح «عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الصمد؟ قال: الذي ليس بمجوف» نقلنا بعض الحديث، وما رواه فيه أيضا بسنده «عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: الصمد الذي لا جوف له - الحديث» وما رواه فيه أيضا بسنده «عن الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه قال: الصمد الذي لا جوف له».

وقوله رحمه الله: «فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال» يشعر بأن ظاهر التأويل ليس بصحيح وذلك إما لأ نه بزعمه يرجع إلى التأويل بالمصمت (2) الذي لا جوف له أو لأنه لا يوافق اللغة، أو لأنه لا يظهر المقصود منه ووجه صحته في نفسه، فإن أراد الأول فهو ظاهر البطلان لظهور الفرق بين المصمت الذي لا جوف له وبين الشيء الذي لا جوف له، والأول جسم قطعا دون الثاني فهو أيضا ظاهر البطلان; لأن هذا التأويل على تقدير أن لا يكون معنى حقيقيا للصمد في اللغة فلا جواز لإنكار أن يكون معنى مجازيا له. فهو يوافق اللغة قطعا، على أن الصمد قد فسره علي بن الحسين (عليهما السلام) بأنه

ص:65


1- 2 - قوله: «فالعالم (عليه السلام) أعلم بما قال» تأويل الصمد بالذي لا جوف له وارد في الأخبار، وظاهره غير مراد البتة; لأنه يستلزم الجسمية فلابد أن يكون له تأويل لا ينافي التنزيه، ولما لم يتبين لصاحب الكافي رحمة الله ذلك التأويل أحاله إلى الأئمة (عليهم السلام). وقال صدر المتألهين: قد مر في الحديث السادس من باب الإرادة أنها من صفات الفعل أن المخلوق أجوف معتمل (وهو في طبعتنا هذه في الصفحة 357 من المجلد الثالث) قال الصدر: فإذا كان المخلوق بما هو مخلوق أجوف بالمعنى الذي من لوازم المخلوقية كان الخالق موصوفا بمقابله وهو الصمد بالمعنى الذي يقابل ذاك المعنى، وقال: كما أن لفظ اليد والجنب والأعين والمجيء والاستواء قد جاءت في القرآن وأن الأصل في الجميع أن يأول على وجه لا يخل بالتوحيد الخالص عن التشبيه. وقال معنى الصمد: أنه تعالى بريء عن القوة والإمكان، كما أن معنى الأجوف في المخلوق أن للحوادث مدخلا فيه كما مر، وذكر المجلسي (رحمه الله) نحوا مما نقلناه من الصدر، قال فهو كناية عن عدم الانفعال والتأثر عن الغير وكونه محلا للحوادث كما مر عن الصادق (عليه السلام) ونقل الحديث السادس الذي أشار إليه صدر المتألهين. (ش)
2- 1 - قوله: «لأنه يرجع بزعمه إلى التأويل بالمصمت» الفرق الذي ذكره الشارح بين قوله «الذي لا جوف له والمصمت الذي لا جوف له» غير ظاهر، واعتراضه على الكليني (رحمه الله) غير وارد، أما الأول فلأن الذي لا جوف له يطلق على المصمت لا غير، والمجرد الذي ليس له أجزاء وامتداد أصلا، وإن صدق عليه أنه لا جوف له بالمعنى السلبي لكن المتبادر من مثل هذه العبارة عدم الملكة كما أن قولنا لا يمشي ولا يطير لا يتبادر منه إلا الحيوان دون الحجر والنبات. وأما الثاني فلأن الكليني - رحمه الله - رد ظاهر هذا التفسير وتوقف في تأويله، وهكذا وظيفة العلماء وغيرهم في كل ما لا يمكن قبول ظاهره ولارد أصله، وليت الشارح راعى الأدب في اعتراضه على صاحب الكافي - رحمهما الله - (ش)

الذي لا شريك له،ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء، وأوله زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) بأنه الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وبأنه الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا، وتفرد بالوحدة بلا ضد ولاشكل ولامثل ولاند، وأوله ابن الحنفية بأنه القائم بنفسه، الغني عن غيره، وأوله غيره بأنه المتعالي عن الكون والفساد، وبأنه الذي لا يوصف بالتغاير، يظهر كل ذلك لمن نظر في كتاب التوحيد، ولم يقل أحد: هذه التأويلات ليست بصحيحة لأنها لا توافق اللغة (1)، وان أراد الثالث فأقول هذا التأويل له معنى صحيح ووجه ظاهر; إذ الجوف كما يطلق على فرجة في الباطن كذلك يطلق على الباطن وإن لم لكن له فرجة كما إذا قيل: هذا في جوف ذاك أي في تحته. فالجوف من الصفات اللازمة للجسم، فنفيه كناية عن نفي الجسمية عنه تعالى، بل لا يبعد أن يكون هذا التأويل تنزيها له تعالى عن التشبيه على الإطلاق وعن أن يكون له جزء ووجود وصفات زائدة وكمال بالقوة إذ كل ما كان له أحد هذه الأمور كان له فرجة عقلية وجوف معنوي يستقر فيه وجه التشبيه والأجزاء والوجود والصفات واستعداد الكمال، وبالجملة فيه إشارة إلى التوحيد المطلق ووجه نفي التشبيه بشيء من مخلوقاته أن كل مخلوق فهو ذو جوف وفرجة بماله من المهية والأجزاء (2) والوجود والاستعداد.

(وهذا الذي... قال (عليه السلام): «إن الصمد هو السيد المصمود إليه، هو معنى صحيح موافق لقول الله تعالى: ليس كمثله شيء) لأن تفسير الصمد بهذا المعنى لا يوجب تشبيهه بخلقه بخلاف تفسيره المصمت الذي لا جوف له، أو بالشيء الذي لا جوف له; فإنه يوجب تشبيهه بالأجسام المصمتة، وهو مخالف لما نطقت به الآية الكريمة، وأنت تعلم أن تفسيره بالمصمت يوجب ذلك دون تفسيره بالشيء الذي لا جوف له فإنه يوجب التوحيد المطلق والتنزيه التام.

(والمصمود إليه المقصود في اللغة) لا المصمت الذي لا جوف له. وفيه رفع لتوهم حمل المصمود إليه على المصمت. ثم استشهد لهذا بكلام البلغاء فقال:

قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي (صلى الله عليه وآله) (3) من شعره:

ص:66


1- 1 - قوله «ليست بصحيحة لأنها لا توافق اللغة» وذلك لأنها توافق اللغة وإن كانت مجازا، فإن المجاز أيضا موافق للغة والتأويل الباطل أن لا يصح حقيقة ولا مجازا. (ش)
2- 2 - قوله «بماله من المهية والأجزاء» هذا تأويل صدر المتألهين بعينه. (ش)
3- 3 - قوله «في بعض ما كان يمدح به النبي (صلى الله عليه وآله)» هذه قصيدة معروفة قاله أبو طالب بعد ما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الصحيفة وأن الأرضة أكلتها. قال ابن كثير هي قصيدة بليغة جدا لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت اليه وهي أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى، وفي خزانة الأدب للبغدادي عن الواقدي توفي أبو طالب في النصف من شوال في السنة العاشرة من النبوة وهو ابن بضع وثمانين سنة واختلف في إسلامه، قال ابن حجر: رأيت لعلي بن حمزة البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب وزعم أنه كان مسلما ومات على الإسلام، وأن الحشوية تزعم أنه مات كافرا. (ش)

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل الجمرة بالفتح والسكون واحدة جمرات المناسك وهي ثلاث جمرات يرمين بالجمار، والقصوى مؤنث الأقصى من القصو وهو البعد يقال: قصى المكان يقصو قصوا أي بعد. ولعل المراد بها جمرة العقبة (يعني قصدوا نحوها) تفسير ل «صمدوا لها» (يرمونها بالجنادل) جمع الجندل بسكون النون وهي الحجارة (يعني الحصا الصغار التي تسمى بالجمار) الحصا بالفتح والقصر جمع الحصاة، والصغار بالكسر جمع الصغير، والجمار بالكسر هي الصغار من الأحجار جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات مجازا; لما بينهما من الملابسة، وقيل: لتجمع ما هنالك من الحصا من: تجمر القوم إذ تجمعوا، كذا في المغرب.

(وقال بعض شعراء الجاهلية) أي الفرق الجاهلية (ما كنت أحسب أن بيتا ظاهرا لله * في أكناف مكة يصمد. يعني يقصد) الكنف بفتحتين: الناحية، وأحسب (بمعنى أظن) من الحسبان بالكسر، تقول: حسبته صالحا أحسبه من باب (علم) إذا ظننته صالحا، أو بمعنى أعد من الحساب تقول:

حسبته أحسبه من باب (طلب) إذا عددته.

(وقال ابن الزبرقان) بكسر الزاي والراء بينهما باء موحدة ساكنة، قال الجوهري: زبرقت الثوب:

صفرته، والزبرقان: القمر، والزبرقان بن بدر الفزاري.

وقال أبو يوسف: سمي الزبرقان لصفرة عمامته وكان اسمه حصينا. وقال صاحب المغرب: الزبرقان لقب ابن بدر واسمه الحصين يعني بالتصغير أو حصن بكسر الحاء، والدرهم الزبرقاني درهم أسود كبير.

(ولا رهيبة إلا سيد صمد) أي مصمود إليه في الحوائج، ورهيبة على التصغير اسم رجل (1) (وقال شداد بن معاوية (2) في حذيفة بن بدر) عند ملاقاته في القتال: (وعلوته بحسام ثم قلت له * خذها حذيف فأنت السيد الصمد).

ص:67


1- 1 - لم نر في رجال العرب اسم رهيبة وابن الزبرقان ليس ابن الحصين الفزاري الصحابي بل كان من طبقة ابن المقنع وعمران من الخوارج وكان رهين بالنون أحد رؤسائهم والله العالم. (ش)
2- 2 - قوله «قال شداد بن معاوية» ذكر البيت في الصحاح واللسان شاهدا ولم يسميا قائله وشداد بن معاوية هذا من رجال حرب داحس وغبرا، وذكره في الأغاني في الجزء السادس عشر ولولا مخافة التطويل والخروج عن المقصود لأوردنا قصتهم ويذكر في حرب الجمل أيضا اسم شداد بن معاوية وربما ينسب اليه قتل محمد بن طلحة بن عبيد الله وليس ذلك الشاعر الذي ذكره الكليني - رحمه الله - لتأخره جدا. (ش)

علوته بحسام أي رفعت الحسام فوق رأسه، والحسام: السيف القاطع، وحسام السيف أيضا: طرفه الذي يضرب به، و «حذيف» منادى مرخم بحذف الأداة و «خذها» أمر على سبيل التهكم، وضمير التأنيث راجع إلى الحسام باعتبار الضربة ونحوها.

(ومثل هذا كثير) في كلام الفصحاء والبلغاء.

(والله تعالى هو السيد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والإنس) ذكرهما على سبيل الاقتصار أو شدة احتياجهما إليه سبحانه، وإلا فالملائكة المقربون والخلائق والروحانيون أيضا محتاجون إليه في وجودهم وكمالاتهم (إليه يصمدون في الحوائج وإليه يلجأون عند الشدايد ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء) أي النعماء الظاهرة والباطنة، وتقديم الظرف في المواضع الثلاثة لقصد الحصر (ليدفع عنهم الشدائد) الظاهر أنه تعليل وغاية لقوله «وإليه يلجأون في الشدائد» وكونه تعليلا للجميع بعيد، وما ذكره من «لجأ الجميع إليه مؤمنا» كان أو كافرا» أمر يشهد عليه العقول ويحكم به التجربة ويدل عليه الخبر والآية، أما المؤمن فظاهر، وأما الكافر فلأنه إذا وقع في بلية أو دخل في مصيبة ولم يجد ملجأ سواه لم يدع في رفعها إلا إياه، كما دل عليه حكاية فرعون وقوله تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه).

ص:68

باب الحركة والانتقال

اشاره

من مكان إلى مكان ومن وضع إلى وضع.

* الأصل:

1 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، عن علي بن عباس الجراذيني، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا، فقال: إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه وهو ذو الطول، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أما قول الواصفين: إنه ينزل تبارك وتعالى فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين، (وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين).

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل البرمكي، عن علي بن عباس الجراذيني) بالراء المهملة بعد الجيم المضمومة وبالذال المعجمة بعد الألف قبل الياء المثناة من تحت وبالنون قبل الياء رازي ضعيف رمي بالغلو وغمز عليه (عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر الجعفري، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا) يعني يزعمون أن له تعالى مكانا أعلى الأمكنة وهو العرش وقد ينزل منه إلى هذه السماء طلبا لقربه من أهل الأرض وندائهم بما أراد.

نقل الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن بعض غلاة المجسمة (1) أنه نزل عند الوعظ من أدراج

ص:69


1- 1 - قوله: «عن بعض غلاة المجسمة» نقل مثل ذلك عن ابن تيمية وكان الآبي أراده، وقد يتكلف المتأخرون في نفي القول بالتجسيم عنه مع تصريحه بالنزول وأنه على المعنى الحقيقي وأن تأويله ضلال وخروج عن طريقة السلف، والحق أن من يثبت اللوازم البينة للجسمية فهو مجسم سواء صرح بالجسم أم لا، وظاهر أن من يعترف بأنه تعالى فوق العرش حقيقة وأنه ينزل إلى السماء الدنيا حقيقة ولكن يحرم استعمال لفظ الجسم لأنه لم يرد في الشرع إطلاق الجسم عليه وأسماء الله توقيفية فهو معتقد بأنه جسم حقيقة وإن لم يجز إطلاق الجسم عليه تعبدا، قال القاسمي في تفسيره المسمى بمحاسن التأويل وهو متعصب لابن تيمية عن الحافظ بن عبد البر: إن حديث «ينزل ربنا كل ليلة إلى آخره» ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، والدليل في صحة ما قال أهل الحق قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى.). قال ومن الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزل بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء، وفي التفسير المذكور نقلا عن الشيخ إبراهيم الكوراني هو يعنى ابن تيمية على مذهب السلف قائل بأن الله فوق العرش حقيقة مع نفى اللوازم، انتهى. وأقول: إثبات الملزوم مع نفي اللازم لا يصدر من العقلاء. وقال نقلا عن الشهاب الآلوسي المفسر: حاشا الله أن يكون - يعنى ابن تيمية - من المجسمة بل هو أبرأ الناس منهم، نعم يقول بالفوقية وذلك مذهب السلف وهو بمعزل عن التجسيم، انتهى. وأقول: الفوقية الحقيقية هو التجسيم بعينه، سواء أقر به القائل أم لا، وأما الفوقية المجازية أعنى كونه قاهرا على عباده فهو مما يتبرأ منه ابن تيمية واتباعه أشد التبري; وذلك لأن كونه تعالى قاهرا فوق عباده مما اتفق عليه أهل الإسلام وغيرهم ولا معنى لمخالفة ابن تيمية معهم إلا في المعنى الحقيقي. وقال نقلا عن عبد القادر الجيلاني في معنى الاستواء على العرش أنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة كما قالت المجسمة والكرامية، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشعرية،، ولا على الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة; لأن الشرع لم يرد بذلك ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين من السلف الصالح من أصحاب الحديث ذلك بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق. أقول: وهذا غير معقول لأن الفوقية إما حقيقي وإما مجازي وقد نفي كليهما إلا أن يريد وجوب السكوت، وقد جاء في الدين أمور يجب السكوت عنه وإيكال الأمر إلى أهله لكن لا يمكن الحكم بنفي النقيضين; لأن الحكم بنفي النقيضين ليس سكوتا بل تكلم بما فيه حماقة. (ش)

المنبر وقال: هكذا ينزل تمثيلا لنزوله تعالى - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - (فقال: إن الله لا ينزل) من مكان إلى مكان لتنزهه عن المكان; لأن افتقاره إلى المكان مستلزم للنقصان اللازم للإمكان (ولا يحتاج) في إمضاء ما أراد (إلى أن ينزل) دفع لما توهموه من احتياجه في إمضاء إرادته إلى تحصيل القرب المكاني من العباد وعلل عدم احتياجه إلى ذلك بقوله: (إنما منظره) أي مراقبته للأشياء بالعلم والإحاطة (في القرب والبعد سواء) (1) أي فيما يتصور فيه القرب والبعد بالنظر إلى

ص:70


1- 1 - قوله: «إنما منظره في القرب والبعد سواء» أصل شبهة المجسمة والمشبهة أنهم لا يتعقلون وجود موجود مجرد غير متحيز نسبته إلى جميع الأمكنة نسبة واحدة، وأما أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فمبنية على كون الوجود المجرد أقوى في تأصل الوجود وأكمل في الصفات ولم يكن في عصرهم (عليهم السلام) بعد عقد اصطلاح التجرد في هذا المعنى لكنهم (عليهم السلام) ذكروا من خواص التجرد وصفات المجرد ما فهم منه أصحابهم معناه مثل قولهم هذا «ولم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد» وغير ذلك مما مضى وما سيأتي. وأما هؤلاء المجسمة لما لم يعقلوا معنى التجرد توهموا أن الله تعالى إن لم يكن على العرش بائنا من خلقه لزم كونه في كل مكان بمعنى الحلول والتحيز، وزعموا أنه عين قول الحلوليين ولزم منه امتزاجه بالقاذورات، ولا يفهمون من التنزيه إلا كونه فوق العرش مبائنا لخلقه ومحيطا لا مخالطا ولا محاطا. قال ابن تيمية فيما نقل القاسمي: إن الذين قالوا إنه في كل مكان هم أهل الحلول وهم يعبدون كل شيء، والذين قالوا: لا هو داخل العالم ولا خارج ولا مباين ولا حال فيه ولا فوق العالم ولا فيه ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه بشيء ولا يدنو إليه شيء ولا يتجلى لشيء ولا يراه أحد ونحو ذلك فهم أهل نفي وجحود لا يعبدون شيئا، وهذا صريح في أنه لا يعترف بوجود شيء غير جسماني وأن ما ليس داخلا في العالم وإلا خارجا إلى آخره فهو ليس بموجود والقائل به منكر لوجود الحق، وفهم من الكلام الثاني معنى مناقضا للأول; لأن كونه في كل مكان يناقض عدم كونه في مكان أصلا لم يفهم أن جميع ذلك تعبير عن التجرد. (ش)

عالم الحواس والأوهام. وفيه رد لما اخترعته أوهام المبتدعة من قرب بعض الأشياء إليه وبعد بعضها عنه حتى أنه يحتاج إلى النزول تحصيلا للقرب من البعيد، وبهذا التقرير يندفع ما عسى أن يقال من أن قربه إنما هو بحسب علمه الذي لا يعزب عنه شيء، وهو بهذا الاعتبار أقرب من كل قريب، فما الوجه لذكر البعد والحكم بالمساواة بينه وبين القرب (لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد) كما هو شأن الممكن المحتاج إلى المكان فإنه إذا انتقل من مكان إلى آخر يبعد منه ما كان قريبا منه في المكان الأول ويقرب منه ما كان بعيدا (ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه) فلم يحتج إلى المكان والنزول وتحصيل القرب من الغير واستعمال الحيلة في إمضاء المراد بل كل شيء يحتاج إليه من جميع الجهات (وهو ذو الطول) أي ذو المن والإعطاء (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ذكر هذه الأوصاف أعني الطول على الإطلاق والوحدة المطلقة والغلبة القاهرة والحكمة البالغة كالتأكيد والتعليل لعدم احتياجه إلى شيء من الأشياء بنحو من الأنحاء; لأن إعطاء وجود جميع الموجودات ولواحقه وتفرده بالإلهية واتصافه بالغلبة على جميع الكائنات وبالحكمة البالغة والعلم بجميع الأشياء يقتضي عدم احتياجه إلى شيء منها بالضرورة.

ولا يخفى أن ظاهر هذا الحديث الآتي بعد حديثين يدل على ما روي أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كذب وافتراء، ويدل عليه أيضا إنكار الرضا (عليه السلام) على ما روى عنه الصدوق في الفقيه وقد بالغ (عليه السلام) في الإنكار حتى قال: لعن الله المحرفين للكلم عن مواضعه، ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك إنما قال: «إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل الحديث» ولكن روى المصنف في باب فضل يوم الجمعة وليلته (1) من هذا الكتاب ص:71


1- 1 - قوله: «روى المصنف في باب فضل يوم الجمعة» هذا هو الحديث السادس من ذلك الباب رواه «عن محمد بن يحيى العطار عن عبد الله بن محمد بن علي بن الحكم عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن للجمعة حقا وحرمة فإياك أن تضيع أو تقصر في شيء من عبادة الله تعالى والتقرب إليه بالعمل الصالح وترك المحارم كلها فإن الله يضاعف فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات، قال: وذكر (يعنى قال أبان: ذكر أبو عبد الله (عليه السلام)) إن يومه مثل ليلته فإن استطعت أن تحييها بالصلاة والدعاء فافعل فإن ربك ينزل في أول ليلة الجمعة إلى السماء الدنيا فيضاعف فيه الحسنات ويمحو فيه السيئات وإن الله واسع كريم» انتهى. وقال العلامة المجلسي - ره - في قوله «قال وذكر» كأنه سهو من النساخ أو الرواة، وعلى تقديره فهو على سبيل القلب، انتهى. ومقصوده: أن «قال وذكر» سهو، والصحيح «ذكر وقال»، والحق أن السهو منه - ره - والمعنى ما أشرنا إليه بين الهلالين ولا سهو من النساخ والرواة. وقال المجلسي - ره - يمكن أن يكون المراد نزوله من عرش العظمة والجلال إلى مقام التعطف على العباد وهو حسن جدا. ثم اعلم أن عمدة تمسك المجسمة بظواهر الألفاظ وعدم جواز التأويل فيها كما نقول به نحن أيضا في الفروع والعبادات، وحجتنا في الفروع عدم إمكان خطاب الناس وتكليفهم بشيء لا يفهمون أو يفهمون خلافه فيعملوا بما لا يريد منهم الله تعالى، وأكثر مجسمة المتأخرين نظير ابن تيمية لا يثبتون لله تعالى صورة معينة كصورة الإنسان بل يقولون إنه محيط بكل شيء من فوق العرش، والظاهر من كلام ابن تيمية المنقول في محاسن التأويل أنه يرجح كون العرش جسما في هيئة قبة موضوعة على السماوات كسقف البيوت وقباب المساجد والمزارات من جانب واحد وهو الجانب الذي يلي رؤوس أهل الأرض بين أقصى الشرق والغرب من البر القديم، وأما الجانب الآخر كأمريكة والجزائر في البحر المحيط الساكن فليس فوقهم عرش ولا يجوز لهم رفع أيديهم ورؤوسهم إلى السماء عند الدعاء، وأما القاسمي فيرجح إحاطة العرش من جميع الجوانب فيجوز لأهل الأرض من البر الجديد أيضا رفع أيديهم إلى السماء فإن الله تعالى يحيط بنا من جميع الجوانب، وعلى هذا فهو جسم غير متناه في العظمة محيط بالعالم، والعالم في جوفه، نظير ما كانوا يقولون في الفلك الأطلس ومقعره تعالى ينتهى إلى العرش ومحدبه تعالى أي الجانب الآخر يذهب إلى غير النهاية، ويبقى الكلام في نزوله فإن ابن تيمية يتأبى من كون ذاته تعالى محاطا متحيزا بل يقول: إنه فوق العرش ومحيط ولا يحويه شيء من المخلوقات، فإذا كانت ليلة الجمعة أو في جميع الليالي ينزل من فوق عرشه إلى جوف العرش أو إلى جوف نفسه فيصير محاطا بمخلوقاته بعد أن لم يكن ولم نعلم أنه ينزل بكليته فيسعه العالم لأنه يصير أصغر من المخلوق أو ينزل ببعض أجزائه فيتجزى، ولا عبرة عنده بقول المتكلمين والحكماء إن كل متجز ممكن، إذ لم ينقل من السلف الصالح وإنما أخذه المتكلمون من كفار اليونانيين وأئمة الرفضة وإنما طولنا الكلام مع عدم اقتضائه ذلك لأني أرى في زماننا جماعة كثيرة يتعصبون لابن تيمية وابن القيم وخرافاتهما خصوصا المدعين للإصلاح والتجديد. (ش)

بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «فإن استطعت أن تحييها يعني ليلة الجمعة بالصلاة والدعاء فافعل فإن ربك ينزل في أول ليلة الجمعة إلى السماء الدنيا الحديث» وقد أخذنا منه موضع الحاجة وفي طرق العامة روايات متعددة مذكورة في كتاب مسلم «أنه تعالى ينزل في كل ليلة» إلا أن في الروايات أنه ينزل الثلث الأخير، وفي بعضها بعد انقضاء الثلث الأول، وفي بعضها بعد انقضاء الشطر الأول أو ثلثيه، وإذ قد ثبت بالعقل والنقل عندنا وعند أكثر العامة استحالة الجسمية والحركة والانتقال عنه تعالى وجب التأويل في هذه الأخبار (1) على تقدير صحتها وعدم تحريفها، وقد

ص:72


1- 1 - قوله: «وجب التأويل في هذه الأخبار» ومن شبه المجسمة في إنكار التأويل أن ظاهر الكلام حجة وأن الشارع إن أراد من الكلام خلاف ظاهره لا يجوز أن يحيلهم على دليل خفى لا يستنبطه إلا أفراد الناس سواء كان سمعيا أو عقليا لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه ثم أوجب أن لا يقصدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره لأن هناك دليلا خفيا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، كان تدليسا أو تلبيسا وكان نقيض البيان وضد الهدى وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان اه. وهذا كلام ابن تيمية على ما نقل عنه القاسمي وبذلك أنكر تأويل آيات من القرآن أيضا مثل قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) يقوله: (إني متوفيك ورافعك إلي) و (بل رفعه الله اليه) و (يخافون ربهم من فوقهم) و (تعرج الملائكة والروح إليه) (وهو القاهر فوق عباده). وعن ابن عبد البر من حق الكلام أن يحمل على حقيقته، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شئ من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما يفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. وربما ينقل عن بعضهم أن تأويل ما تزعمون دلالته على التجسيم في الواجب تعالى يستلزم تجويز تأويل ما ورد في المعاد من المطاعم والمشارب والجنة والنار; إذ لا فرق بينهما في الخروج من الظاهر. أقول: فرق بين المبدأ والمعاد، إذ الأدلة العقلية والنقلية قامت في التوحيد على عدم كونه تعالى جسما فوجب تأويل اليد والعين والجنب والوجه والاستواء على العرش وغيرها، وأما المعاد فلم يقم دليل عقلي أو نقلي على استحالة التجسيم حتى يصير قرينة على تأويل ظاهرها، نعم إذا قامت أولوا ما يتعلق بالمعاد أيضا كالوزن وميزان العمل في الآخرة أوله كثير; إذ لم يتبين لهم تجسم الأعمال، وأما العبادات فالظاهر فيها حجة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن جاز عن وقت الخطاب، وأوامر العبادات وردت للعمل، والناس محتاجون إلى معرفة مراد الشارع عند العمل. (ش)

اختلف فيه، فقيل:

المضاف محذوف أي: فإن ملك ربك ينزل، وقيل: المفعول محذوف والتقدير: فإن ربك ينزل ملكا من الإنزال، وقيل: هو استعارة وتمثيل لتقريبه للداعين وإجابته دعاءهم وعبر بذلك لقصد إفهامهم القرب، وقيل: النزول بمعنى الإقبال على الشيء، فهو كناية عن إقباله تعالى على المؤمنين وفعله فعلا يظهر به لطفه بهم، والأخير مما ذهب إليه بعض العامة. وتجيء لهذا زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى. ولما أشار إلى أنه تعالى لا يحتاج إلى ما توهموه من النزول أشار إلى ما يرد عليهم من المفاسد بقوله:

(أما قول الواصفين) له بصفات خلقه (إنه ينزل تبارك وتعالى فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة) لأن تلك الحركة إن كانت من صفات كماله ولم تكن له قبل وكانت بالقوة (1) لزم القول بالنقص فيه إذ لم يكن له بعض صفات كماله بالفعل، وان لم تكن من صفات كماله لزم القول بزيادة في صفاته زائدة على صفات كماله، وكلاهما محال.

وأيضا: الحركة الأينية من لوازم الجسم، وكل جسم قابل للزيادة والنقصان (وكل متحرك محتاج إلى من يحركه) إن كانت الحركة قسرية (أو يتحرك به) (2) إن كانت إرادية أو طبيعية. وفي العطف

ص:73


1- 2 - قوله: «وكانت بالقوة» اقتباس من تعريف أرسطوطاليس للحركة وهو أنها كمال ما بالقوة من حيث هو بالقوة وظاهر أن كل ما يتحرك فإنما يطلب شيئا غير حاصل له مع كونه أولى به فإذا نزل الله تعالى - نعوذ بالله - طلب مكانا قريبا من مخلوقاته لم يكن هذا القرب حاصلا له وكان أولى به أن يكون قريبا، فالحركة تدل على الزيادة والنقصان سواء كانت أينية أو غيرها. (ش)
2- 1 - قوله: «إلى من يحركه أو يتحرك به» كلام ملوكي لا يمكن للسوقة أن يكلموا بمثله أو بما يقرب منه بل تعبير الهي لا يستطيع أن ينطق به إلا من ألهم به من عالم الملكوت. والمحرك على قسمين، إما أن يكون مبائنا كإنسان يرمي حجرا وإما غير مباين كحجر يسقط بطبعه، أو كانسان يمشي على الأرض، فالأول مصداق قوله «من يحركه» والثاني مصداق قوله «يتحرك به». وأما علة احتياج الحركة إلى علة فلأن الحركة عرضية للجسم، وكل حالة عرضية محتاجة إلى علة، وإنما قلنا هي عرضية لأنه لا يستحيل السكون على طبيعة الجسم من حيث هو جسم، فإذا كانت الحركة بعلة فلا بد أن تكون العلة إما طبيعة مقارنة لذات الجسم نظير الإحراق للنار أو غير ذاته كالبياض للجدار. فإن قيل استحالة احتياج الواجب إلى من يحركه مباينا واضحة وأما احتياجه إلى من يتحرك به أي كون حركته بطبيعة ذاته فما الدليل على استحالته؟ قلنا: عرف استحالته أولا من قوله (عليه السلام): من ينسبه إلى نقص أو زيادة; لأن كل متحرك يتحرك إلى كمال غير حاصل له ، وهذا يدل على نقصه أولا وزيادة بعد الحركة. وثانيا كل متحرك طبيعي متجز في الجملة; لأن القوة المحركة التي فيه وإن كانت طبيعية شيء غير الذي يتحرك ويقبل الحركة إذ يستحيل أن يكون الفاعل والمنفعل واحدا من جميع الجهات، ومعنى المنفعل من التحريك أنه لو لم يكن محرك لم يتحرك، ومعنى الفاعل أنه يلزم منه الحركة البتة فهما شيئان متباينان أحدهما محرك نظير الطبيعة، والثاني متحرك نظير الجسمية فيما عندنا من الأجسام، ولم يعهد مثل هذا الاستدلال من سائر علماء الإسلام، وهو دليل قوي على إمامتهم من الله تعالى. (ش)

مناقشة يمكن دفعها بتقدير الموصول أي ما يتحرك به أو يجعل «من» شاملة لغير العاقل على سبيل التغليب (فمن ظن بالله الظنون) أي الأنواع من الظن (هلك) هلاكا أبديا، وفيه وعيد لمن تمسك في ذات الواجب وصفاته بظنه ورأيه، فإن ظنون العباد مختلفة وآراءهم متباينة، فربما يظنون بجناب الحق ما لا يليق به فيهلكون ويهلكون ألا ساء ما يظنون.

(فاحذروا) أي تحرزوا (في صفاته من أن تقفوا له على حد) يحجزكم عنه تعالى ويمنعكم من التقرب به والوصول إليه (تحدونه) استيناف لبيان الوقوف أو حال عن فاعل تقفوا (بنقص أو زيادة) في صفاته التي لا يلحقها التحديد ولا يعرضها التعيين (أو تحريك أو تحرك) أي بتحريك الغير له أو بتحركه بطبعه أو بإرادته (أو زوال) أي بعدم وفناء أو بتغير من وصف إلى وصف (أو استنزال) أي نزول من مكان إلى مكان أو طلبه أو إنزال الغير إياه (أو نهوض) عن مكان بقيامه على ساق كنهوضنا عن مكاننا وقيامنا فيه على سوق (أو قعود) في مكان مثل قعودنا في أمكنتنا (فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين) لتعليه عن مدارك الوهم والحواس وتباعده من منازل العقل والقياس فلا يجوز للوهم تعيين صفة من صفاته ولا للعقل تحديد شرح حقيقة ذاته، والصفة مصدر تقول: وصفت الشيء أصفه وصفا وصفة، والهاء عوض من الواو. والنعت مصدر بمعنى الصفة تقول: نعت الشيء إذا وصفته، فالعطف للتفسير والتأكيد، ويحتمل تخصيص الصفة بصفة الذات وتخصيص النعت بصفة الفعل.

(وتوكل على العزيز الرحيم) أي توكل في الحذر عما لا ينبغي له أو في جميع الأمور على من يغلب الأشياء ويقهر الأعداء ويرحم الأولياء وينصر الأحباء (الذي يراك حين تقوم) إلى التهجد أو إلى الخيرات أو إلى الأمور كلها، وفيه نوع من التحذير

ص:74

عما لا يليق به.

(وتقلبك في الساجدين) أي ترددك وحركاتك فيما بين المصلين بالقيام والقعود والركوع والسجود. وفي اقتباس الآية إشارة (1) إلى أن الهداية لا تنال إلا بالتوكل عليه والتمسك به والرجوع إليه وإلى الداعي إلى التوكل، وهو أنه عالم بجميع الأحوال، وقادر على جميع الأشياء، وناصر للأولياء، وإلى غاية التوكل عليه في المعرفة والهداية وهي القيام بطاعته والجد في عبادته.

* الأصل:

2 - وعنه، رفعه عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) أنه قال: لا أقول:

إنه قائم فأزيله عن مكانه ولا أحده بمكان يكون فيه ولا أحده أن يتحرك في شيء من الأركان والجوارح، ولا أحده بلفظ شق فم ولكن كما قال (الله) تبارك وتعالى: (كن فيكون) بمشيئته من غير تردد في نفس، صمدا فردا، لم يحتج إلى شريك يذكر له ملكه، ولا يفتح له أبواب علمه.

* الشرح:

(وعنه رفعه، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) أنه قال: لا أقول: إنه قائم) بالمعنى المتعارف (2) من القيام على ساق (فأزيله عن مكانه) الظاهر من المكان معناه المعروف، ولما كان القول بقيامه على ساق مثل البشر مستلزم للقول بزواله عن مكانه، أشار بنفي اللازم إلى نفي الملزوم تنزيها له عن ذلك، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يراد بمكانه مكانته الحقة ومرتبته القدسية أي فأزيله عن مرتبته الحقة القدوسية الثابتة له; لأن القيام على ساق ينافي تلك المرتبة فالقول به مستلزم لإزالتها عنه تعالى، وفي بعض النسخ: «عن مكان» بدون الضمير وهو يؤيد الأول (ولا أحده بمكان يكون فيه) كما حده طائفة من المبتدعة

ص:75


1- 1 - قوله: «في اقتباس الآية إشارة» بل استدلال بها على نقض القول المزور ورد توهم من يزعم أنه ينزل إلى السماء الدنيا; لأن يسمع دعاء الناس من قريب، بأنه تعالى يسمع في جميع الأوقات ويرى العباد والساجدين والقائمين، ويكفي المتوكلين عليه في كل آن، فلا حاجة إلى أن ينزل ولا وجه للاعتقاد به، فإن قيل: لعله ينزل لغير غرض الاستماع. قلنا: هذا احتمال غير متبادر، بل تخرج وتحرج يعلم كل أحد أن القائل بالنزول لم يقل به إلا لأصل الاستماع أو لكماله ثم لو لم يكن (تعالى على عرشه) عالما بأحوال العباد كيف أمر بالتوكل عليه في قوله: (وتوكل على العزيز الرحيم) وشرط المتوكل عليه أن يكون عزيزا قادرا غالبا على كل شيء ورحيما بالمتوكل، وهذا يتوقف على أن يكون العرش والسماء الدنيا وقعر البحار متساوية لديه في العلم والقدرة. (ش)
2- 1 - قوله: «بالمعنى المتعارف» في مقابل المكانة والمكان المتعارف وهو المختص بالأجسام سواء عرف بأنه ما يعتمد عليه الشيء أو السطح الحاوي أو الفضاء المتوهم الذي يشغله الأجسام وقوله (عليه السلام): «أزيله عن مكانه» أي أحكم بزواله عنه وأقول: ينزل من العرش إلى السماء الدنيا. (ش)

حيث قالوا: هو جالس في العرش محدود به. وفي قوله «يكون فيه» إشارة إلى أنه حاضر في كل مكان لا بأن يكون مستقرا فيه بل بالعلم والإحاطة (ولا أحده أن يتحرك) أي بأن يتحرك - على حذف الجار وحذفه مع أن - وأن قياس (في شيء من الأركان والجوارح) بأن يتحرك رأسه أو عينه أو يده أو غيرها كما يشاهد مثل ذلك في الإنسان لقصد الإشارة وغيرها; وذلك لتنزهه تعالى عن الحركة والأركان والجوارح وغيرها من خواص الجسم والعطف للتفسير ويحتمل أن يراد بالأركان الأعضاء الباطنة وبالجوارح الأعضاء الظاهرة، ويحتمل أيضا أن يراد بالأركان النواحي والجوانب أي أصفه بأن يتحرك مثلا من السماء إلى الأرض وبالعكس، ومن المشرق إلى المغرب وبالعكس (ولا أحده بلفظ شق فم) الشق بالكسر : الناحية والمشقة ومنه قوله تعالى: (لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) وبالفتح: الفرجة والصدع مثل ما يوجد في اليد والرجل، يعني: لا أحده بلفظ خارج من ناحية الفم أو من مشقته أو من انفراجه وانفتاحه.

وتقييد اللفظ بذلك للتوضيح والتفسير; لأن اللفظ كما صرحوا به عبارة عن الكلمة الخارجة من آلة النطق، وهي الفم واللسان والشفة والحنجرة، ولهذا لم يأذن الشارع بإطلاقه عليه ولم يجوز أن يقال له اللافظ كما أذن في الكلام; لكون دلالته على الآلة المذكورة أقوى من دلالة الكلام عليها كما مر (ولكن كما قال تعالى: كن فيكون، بمشيته) أي ولكن أقول موافقا لما قال الله تعالى إذا أراد وجود شيء لما فيه من الحكمة والمصلحة يقول له: كن، فيكون ذلك الشيء بمجرد مشيته من غير لفظ ولا صوت (1) على نهاية سرعة لإجابة أمره، فقوله «كن» عبارة عن حكمه بالوجود وإرادته إياه،

ص:76


1- 2 - قوله: «من غير لفظ ولا صوت» هنا سؤالان: الأول كيف أجازوا تأويل قوله تعالى (كن فيكون) على خلاف الظاهر ولا استحالة في أن يكون هذا قولا حقيقة نظير ما كلم الله به موسى (عليه السلام). ولو جاز تأويل هذا الكلام لجاز تأويل غيره، الثاني أن كثيرا من المسلمين في الصدر الأول فهموا منه اللفظ الحقيقي وإن لم يكونوا من المجسمة، فما حالهم في الهداية والضلال وصحة الاعتقاد وفساده؟ والجواب عن الأول أن التأويل على خلاف الظاهر عند قيام الدليل عليه غير المنكر وإنما لا يجوز بغير دليل. وعن الثاني أن الخلاف في هذه الأمور وأن «كن» كان لفظا حقيقة أولا، مما لا يضر بالدين ولا يعد معتقد خلاف الحق فيه مبتدعا أو كافرا; لأن كثيرا من تفاصيل المعارف لم تكن معلومة لأكثر الناس وإلا لم يكن حاجة إلى الإمام (عليه السلام). فإن قيل: إذا احتمل الظاهر التأويل ولم نر عليه دليلا لم نقطع بكونه مرادا قطعا لجواز قيام دليل على خلافه لم نقف عليه. قلنا: لا ريب أن الظاهر يحصل منه الظن ولم يدع أحد حصول القطع واليقين منه من حيث هو ظاهر واحتمال قيام دليل على إرادة خلاف الظاهر ينقض اليقين، ولا ينقض الظن، فعلى الناس أن يتوقفوا وهو الأسلم أو يتعبدوا بظنهم الحاصل من ظواهر الألفاظ ويجروا عليه ما لم يروا دليلا على خلافه وليس عليهم أن يتكلفوا لتحصيل اليقين لعدم إمكانه. نعم يحصل من الظاهر اليقين في التكاليف الفرعية بضميمة مقدمة عقلية خارجية وهي أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فإذا أمرنا بالتطهير والظاهر أنه بالماء ولم يدل قرينة على خلافه كان هذا مرده قطعا ويقينا. فإن قيل: لعله أقام قرينة خفيت علينا بعد فلا نقطع بمراده. قلنا: هذا ممكن معقول لكنا وإن لم نقطع بمراده واقعا نقطع بأنه لم يرد فعلا منا غيره. (ش)

وقوله «فيكون» إشارة إلى وجوب ترتب الوجود من غير مهلة (من غير تردد فيه في نفس) أي من غير تفكر ونظر ليعلم وجه المصالح والمفاسد; لأن ذلك من توابع الجهل والنقص في العلم (صمدا فردا) في الوجود والوجوب والقدرة والإيجاد والحفظ (لم يحتج إلى شريك يذكر له) من التذكير أو الإذكار (ملكه) وهو حقايق الممكنات ووجوداتها وآثارها، يعني لم يحتج في أصل الإيجاد ولا في حفظ الموجودات إلى من يذكره وينبهه على النسيان والغفلة (ولا يفتح له أبواب علمه) يفتح عطف على يذكر و «لا» لتأكيد النفي يعني لم يحتج إلى شريك يفتح له أبواب العلم ويعلمه ما لم يعلم إذ لا يعرض لعلمه تغير وتجدد وزيادة ونقصان بل علمه كامل محيط بتفاصيل الأشياء أزلا وأبدا، وبالجملة الشركة بين الاثنين إما لعدم قدرة أحدهما على دفع الاخر أو لاحتياج كل واحد منهما إلى الاستعانة بالآخر في التدبير، وكلاهما على الله سبحانه محال.

* الأصل:

وعنه، عن محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن داود بن عبد الله، عن عمرو بن محمد، عن عيسى بن يونس قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله (عليه السلام) في بعض ما كان يحاوره:

ذكرت الله فأحلت على غائب، فقال أبو عبد الله: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ويعلم أسرارهم، فقال ابن أبي العوجاء: أهو في كل مكان؟ أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟ وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.

* الشرح:

(وعنه عن محمد بن أبي عبد الله) ليس للضمير مرجع ظاهر وقيل: هو إما راجع إلى محمد بن أبي عبد الله مثل السابق، وقوله عن محمد بن أبي عبد الله بدل لقوله «عنه» وبيان له، أو راجع إلى المصنف، والكلام من تلامذته

ص:77

(عن محمد بن إسماعيل عن داود بن عبد الله) لم يذكره العلامة في الخلاصة وقيل: هو أبو سليمان داود بن عبد الله الذي روى عن القاسم بن حمزة بن القاسم العلوي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عنه (عن عمرو بن محمد) قيل: هو عمرو بن محمد الأسدي من رجال الكاظم (عليه السلام) (عن عيسى بن يونس) لم يذكره العلامة في الخلاصة، وقيل: هو عيسى بن يونس بن عيسى بن حميد الشاكري الكوفي من رجال الصادق (عليه السلام)، وفي بعض النسخ «عن عمرو عن محمد بن عيسى بن يونس» بلفظة «عن» بعد عمرو بدل «ابن» وبلفظ «ابن» بعد «محمد» بدل «عن». وعمرو هو عمرو بن عثمان الثقفي الخزاز (قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله (عليه السلام) في بعض ما كان يحاوره) المحاورة والتحاور التجاوب يقال كلمته فما أحار لي جوابا واستحاره أي استنطقه (ذكرت الله فأحلت على غائب) وتلك المحاورة ما نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج أن ابن أبي العوجاء قدم مكة متمردا وإنكارا على من يحج فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد الله إن المجالس بالأمانات ولا بد لكل من به سعال أن يسعل أفتأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر؟ وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر؟ وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟ إن من فكر هذا علم أن هذا فعل أسسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسه ونظامه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق ولم يشغل به وصار الشيطان وليه، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره، وهذا بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه فحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله محل أوليائه وأنبيائه وقبلة للمصلين له فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه منصوبا على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر، الله المنشئ للأرواح والصور. فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت الله فأحلت على غائب (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد) أي حاضر مع خلقه (وإليهم أقرب من حبل الوريد) أي كيف يكون غائبا وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وهذا مثال لكمال القرب ومعنى التفضيل ظاهر; لأن وريد كل شخص يكون قريبا ببعضه دون بعض، وقربه تعالى لما كان بالعلم والإحاطه كانت نسبته إلى الجميع على السواء، والحبل العرق والإضافة

ص:78

للبيان، والوريد عرق تزعم العرب أنه من الوتين (1) وهما وريدان غليظان مكتنفان صفحتي العنق مما يلي مقدمه، ينتفخان عند الغضب، يتصلان بالوتين يردان من الرأس (يسمع كلامهم) وإن كان خفيا فإنه يسمع من الكلام ما أظهره المتكلم وأبداه وما أسره وأخفاه (ويرى أشخاصهم) بذاته التي ينكشف بها كمال المبصرات ويظهر الأسرار والخفيات فهو يشاهد ويرى حتى لا يغيب عنه ما تحت الثرى (ويعلم أسرارهم) فإنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (فقال ابن أبي العوجاء أهو في كل مكان) (2) الاستفهام لإنكار ما دل عليه قوله (عليه السلام) هو مع خلقه شاهد فإنه دل على أنه حاضر في كل مكان (أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض) أي لا يكون في الأرض. أورد النفي بصورة الاستفهام مع الرمز إليه; لأن «كيف» هنا للإنكار لغرض من الأغراض كترك التصريح بما يخالف اعتقاد المخاطب (وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء) أي لا يكون في السماء، والاستفهام في قوله «أليس» إما لإنكار السلب أو لحمله (عليه السلام) على الإقرار بمضمون الشرطيتين وهو الإقرار بأنه إذا كان في السماء لا يكون في الأرض وإذا كان في الأرض لا يكون في السماء ليورد عليه أن هذا مناف لكلامك أولا (فقال أبو عبد الله (عليه السلام)) توضيحا للمقصود وتنبيها بضعف عقله وسوء تفكره في وصف الباري (إنما وصفت) بقولك هو إذا كان في مكان لا يكون في مكان آخر (المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان) كان مستقرا فيه بالحواية (اشتغل به مكان) آخر انتقل إليه (وخلا منه مكان) انتقل منه (فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه) لبعده عنه وقصور علمه بالوقايع والحوادث إلا بالحواس، والحواس لا تدرك إلا ما يحضرها (فأما الله العظيم الشأن) الشأن الأمر والحال، والمراد به هنا أوصافه الكاملة (الملك الديان) الملك أصناف الموجودات كلها والملك من أسمائه تعالى لأنه مالكها والدين الجزاء والديان من

ص:79


1- 1 - قوله: «تزعم العرب أنه من الوتين» نسبه إلى زعم العرب للإشارة إلى بطلان زعمهم فإن الوريدين لا ينشعبان من الوتين ولم يكن العرب عالمين بالتشرح والوتين هو الذي يسميه الأطباء أورطي والوريدان من الأجوف الصاعد. (ش)
2- 2 - قوله: «أهو في كل مكان» الماديون لا يعتقدون بوجود موجود غير جسماني ولا يتعقلون شيئا لا يكون في مواضع هذا العالم قال تعالى (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) ولذلك لم يتصور السائل وجود مجرد نسبته إلى جميع الأمكنة نسبة واحدة وزعم أن الموجود إما أن يكون في مكان خاص فيكون بعيدا من الآخر أو في جميع الأمكنة على سبيل الاستغراق وهو غير ممكن إذ ليس لجسم واحد الإمكان واحد. (ش)

أسمائه تعالى لأنه يدين العباد أي يجزيهم بأعمالهم (فلا يخلو منه مكان) (1) لأنه لا يخلو مكان من علمه لتعلقه بجميع الأشياء وعلمه عين ذاته فلا يخلو منه تعالى مكان (ولا يشتغل به مكان) كإشغاله بالجسم المالئ له لا ستحالة الجسمية عنه ولأنه قبل حدوث المكان كان بلا مكان فهو أبدا كذلك لا متناع تغيره. وأيضا: عظمة شأنه على الإطلاق وافتقار جميع ما سواه إليه ينافي افتقاره إلى المكان (ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان) أي لا يكون هو بالقياس إلى مكان أقرب منه بالقياس إلى مكان آخر، والمقصود أن قربه من جميع الأمكنة سواء، إذ قربه بعلمه الذي لا يغيب عنه شيء فهو بعلمه قريب من الأمكنة كلها قربا متساويا لامتناع تحقق الاختلاف والزيادة والنقصان والشدة والضعف في علمه.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام): جعلني الله فداك يا سيدي! قد روي لنا: أن الله في موضع دون موضع على العرش استوى وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وروي أنه ينزل عشية عرفة ثم يرجع إلى موضعه، فقال بعض مواليك في ذلك: إذا كان في موضع دون موضع فقد يلاقيه الهواء ويتكنف عليه والهواء جسم رقيق يتكنف على كل شيء بقدره، فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال؟ فوقع (عليه السلام): علم ذلك عنده وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا، واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش، والأشياء كلها له سواء علما وقدرة وملكا وإحاطة.

وعنه، عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى مثله.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) جعلني الله فداك يا سيدي قد روي لنا أن الله في موضع دون موضع) ليس المراد أنه يسير في ملكه وأنه في كل آن الله في موضع منه، بل المراد أنه في موضع مخصوص لشرف ذلك الموضع وعلوه كما يرشد إليه قوله: (على العرش استوى) فإنه بدل لقوله في موضع. والعرش محيط بجميع الأجسام مع ما يتعلق بها من النفوس العالية والسافلة

ص:80


1- 1 - قوله: «فلا يخلو منه مكان» بين الإمام (عليه السلام) معنى الموجود المجرد بذكر صفات: الأولى أنه لا يخلو منه مكان، وهذا الكلام موهم حلوله في كل مكان دفع الوهم بقوله «لا يشتغل به مكان» وهي صفة ثانية وهو كالنفس الناطقة الإنسانية في بدنه لا يخلو منه موضع من البدن ولا يشتغل به مكان من البدن. والصفة الثالثة للمجرد أنه ليس أقرب إلى مكان منه إلى آخر. (ش)

والعقول المقدسة والأنوار المطهرة من أدناس عالم الطبيعة (وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليلة إلى السماء الدنيا) ليزداد قربه بالعالم السفلي لغرض من الأغراض.

(وروي أنه ينزل عشية عرفة) يعني إلى السماء الدنيا على الظاهر، ولعل المراد بعشية عرفة ما بعد الزوال إلى الغروب، ويحتمل أيضا وقت الغروب (ثم يرجع إلى موضعه) الأصلي وهو العرش.

(فقال بعض مواليك في ذلك) أي في إنكار ذلك المروي وتكذيبه (إذا كان في موضع دون موضع فقد يلاقيه الهواء ويتكنف عليه) تكنفه واكتنفه أي أحاط به ولعل التعدية بعلى لتضمين معنى الاحتواء (والهواء جسم رقيق) يتشكل بسهولة بشكل ظاهر ما يجاوره (يتكنف على كل شيء بقدره) أي بمقداره بلا زيادة ولا نقصان لاستحالة الخلأ والتداخل (فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال) الموجب لتحديده وتشبيهه بالخلق.

(فوقع (عليه السلام)) من غير تكذيب المروي بل مع الإشعار بتصديقه (علم ذلك عنده) (1) أي علم ذلك الذكور من الآية والرواية عنده تعالى لأنه من المتشابهات التي لا يستقل بتأويلها عقول البشر ولا يعلمها إلا الراسخون في العلم بتوفيق إلهي (وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا) والمفسر له بما هو أتقن تفسيرا والمعبر عنه بما هو أفضل تعبيرا بالوحي إلى الأنبياء والالهام للأوصياء أما الآية فسيجيء تأويلها في الأخبار الآتية، وأما الرواية فقد أولت بأن المراد أنه ينزل ملك بأمر ربه فأعطى الآمر حكم المأمور، ومثل هذا التأويل في الآيات والروايات غير قليل، ثم أشار إلى أنه تعالى ليس له موضع دون موضع ولا اختصاص له بمكان دون مكان لئلا يلاقيه الهواء ولا يحيط ولا يقع التشبيه كما ذكره بعض الموالي بقوله (واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش)

ص:81


1- 1 - قوله: «علم ذلك عنده» ظاهره تصديق المنقول وأنه تعالى ينزل وأن الهواء يتكنف أي يحيط به لكن لا يعلم كيفية إحاطته به ومقدار ما يشغل الفضاء إلا هو وهو يقدر ذلك أحسن تقدير، وتأويل الشارح لا يخلو عن تكلف ، ويصعب حمل العبارة عليه وإن كان أقرب من الرد. وأما صدر المتألهين (قدس سره) فأرجع هذا الكلام إلى قوله تعالى (على العرش استوى). وقوله «هو المقدر له» أي الله هو الذي قدر العرش أحسن تقدير، والغرض الاستدلال به على أن خالق العرش ومقدره لا يكون حالا في العرش أو محمولا عليه ومحتاجا إليه، وهذا أقرب من تأويل الشارح. والمولى خليل القزويني اختار تأويل صدر المتألهين ودفع الاستبعاد باحتمال قريب وهو أن توقيع الإمام (عليه السلام) كان بين سطور السؤال بحيث كان أول قوله (عليه السلام) علم ذلك عنده تحت قول السائل مبتدأ من كلمة (الرحمن على العرش استوى) ومعنى علم ذلك عنده أي علم تفسير (الرحمن على العرش استوى) عنده، والضمير المجرور في قوله «وهو المقدر له» راجع إلى العرش لكونه مكتوبا تحت كلمة العرش وهو حسن جدا، ولولا هذا الاحتمال لقلنا بسهو الراوي وخطائه في نقل مكتوب الإمام (عليه السلام) وعدم فهمه مراده، لكن في نسخة صدر المتألهين كان كلمة «يتكيف» بالياء لا بالنون، والصحيح النون. (ش)

نبه بذلك على نفي التحيز عنه وعدم الظرفية له إذ من كان نسبته إلى جميع الأمكنة سواء لا يكون له مكان لاستحالة ذلك في المتحيز.

(والأشياء كلها له سواء علما وقدرة وملكا وإحاطة) نبه بذلك على أن كونه فيهما ليس إلا المحيط بهما وجريان قدرته عليهما ونفاذ حكمه فيهما وإحاطة تصرفه بهما، وإن خطر ببالك شيء فانظر إلى عقلك اللطيف فإنه إذا لم يكن له مع تدنسه بغواشي الإمكان موضع معين تقول: هو هناك دون غيره من المواضع فجناب الحق المقدس عنها أولى بعدم الحاجة إلى مكان معين (وعنه عن محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى مثله) أي مثل هذا الحديث في السؤال والجواب بلا تفاوت. (في قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (وفي قوله) عطف على الحركة والانتقال فهو من كلام المصنف كسائر عنوان أبواب الكتاب أي باب الحركة والانتقال، وفي تفسير قوله تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) (1) أي يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها والنجوى اسم من النجو وهو السر بين اثنين يقال

ص:82


1- 1 - قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) في هذه الآية مباحث: الأول في دلالتها على عدم كونه تعالى على العرش بمعنى التمكن، ونقل في محاسن التأويل عن أحمد، قال: مما تأول به الجهمية من قول الله سبحانه (ما يكون من نجوى ثلاثة) الآية قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا، وفيه أيضا قال أحمد وقلنا للجهمية زعمتم أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان فقلنا لهم: أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) لم تجلى إذا كان فيه بزعمكم ولو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشيء لكن الله على العرش وتجلى لشيء لم يكن فيه ورأى الجبل شيئا لم يكن يراه قط قبل ذلك. وقال إن الله بعلمه رابعهم (ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) بعلمه. أقول: إن أحمد مع تأبيه عن التأويل حمل هذه الآية على خلاف ظاهرها. وأقول: إن قيل لهؤلاء المجسمة: كيف جوزتم حمل قوله تعالى (ما يكون من نجوى إلى آخره) على خلاف ظاهره ولا تجوزون حمل قوله تعالى (الله على العرش استوى) على خلاف ظاهره، لم يكن لهم جواب إلا أن يقولوا: نحن ماديون لا نعترف بوجود شيء غير متحيز ولا نتعقل كون الله تعالى وهو جسم في جميع الأمكنة، ولذلك نؤول ما دل عليه، أما كونه على العرش فمعقول لنا لا نؤوله. فنقول لهم: بناء على هذا يدور التأويل مدار كمال العقل ونقصه وليس خلاف في أصل التأويل إذا خالف العقل فمن كان ماديا هداه عقله إلى إبقاء كل ما دل على تجسيم الواجب على ظاهره وحمل ما دل على تجرده وتنزهه تعالى على خلاف ظاهره ومن كان روحانيا ومعتقدا لوجود موجودات أكمل وأشرف من الأجسام لم يمتنع من حمل ما يكون من نجوى وأمثاله على ظاهره، وحمل قوله (على العرش استوى) على خلاف ظاهره; لأن التمكن ينافي وجوب الوجود. المبحث الثاني في رد من يزعم أن هذه الآية تدل على التجسيم أيضا فإنه تعالى في كل مكان ومع كل أحد فيكون جسما متمكنا في مكان، وعقد كلام الإمام في هذا الحديث للرد على هذا الوهم. المبحث الثالث قوله تعالى (ما من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) إلى آخره لا ينافي ما نقل عن أمير المؤمنين في معنى الواحد وأن من قال إنه ثالث ثلاثة فقد كفر; لما سيظهر إن شاء الله. (ش)

نجوته نجوا أي ساررته قيل: إنما ذكر الثلاثة دون الاثنين مع أن الاثنين أقل عدد يقع فيه التناجي; لأن الله وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار التي يقع فيه التناجي ولذلك قال بعده ولا خمسة إلا هو سادسهم ثم عمم لدفع توهم الاختصاص بقوله (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم).

* الأصل:

5 - عنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن (عمر) ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) فقال: هو واحد وأحدي الذات، بائن من خلقه، وبذاك وصف نفسه وهو بكل شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة. لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات، لأن الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمها الحواية.

* الشرح:

(عنه، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن (عمر) ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله (وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) قيل لتوضيح الاستثناء: إن النجوى مؤول بالمتناجين، وثلاثة صفة لها، وقيل غير ذلك (فقال (عليه السلام): هو واحد واحدي الذات) ليس له شريك ولا نظير ولا جزء مادي ولا صوري (1) لا ذهنا ولا خارجا فليست وحدته وحدة عددية (2) بأن يكون - تعالى شأنه - مبدأ كثرة عادا لها معدودا من جملتها، فيزيد العدد بإضافته تعالى وينقص بإسقاطه منه وإلا لكان داخلا في الكم المنفصل موصوفا بالعرض.

(باين من خلقه (3)) ليس بينه وبينهم مشابهة بوجه من الوجوه ولا مشاركة في أمر من الأمور

ص:83


1- 1 - قوله: «لا جزء مادي ولا صوري» ما ذكره الشارح دقيق صحيح ولكن الأوضح في معنى العبارة أن يقال في دفع وهم من يظن أنه تعالى متمكن في مكان ومتحيز في حيز: إنه تعالى لو كان مع كل ثلاثة وكل خمسة لزم كونه في زمان واحد في أمكنة متعددة مع أنه واحد يتطرق إليه الكثرة فليس معنى كونه في كل مكان التمكن الجسماني. (ش)
2- 1 - قوله: «فليست وحدته وحدة عددية» هذا صحيح في الحقيقة ولعلنا نتكلم فيه في موضع أليق ولكنه غير مرتبط بهذا الموضع. (ش)
3- 2 - قوله: «بائن من خلقه» يعنى بينونة صفة لا بينونة عزلة فإن البائن بالعزلة لا يتعقل كونه عليه ولو كان شئ موجودا مستقلا بنفسه مبائنا لموجود آخر مستقل بنفسه لا يتصور كون أحدهما في وجوده محتاجا إلى الآخر، وإنما يتصور الاحتياج في شيء موجود غير مباين عن شيء كالعرض المحتاج إلى المحل، والنور المحتاج إلى جسم مضيء والمركب المحتاج إلى الأجزاء والصورة المحتاجة إلى المادة وبالعكس، ولا يتعقل كون جسم مستقل مباين عن جسم آخر متعلق الوجود به حدوثا وبقاء وكذا غير الجسم وإنما العلية نوع ارتباط ربما يطلق عليه الإضافة الإشراقية بين العلة والمعلول حتى يلزم من عدم العلة عدم المعلول ولذلك تكرر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه تعالى داخل في كل شيء لا كدخول شئ في شيء وخارج عنه لا كخروج شيء عن شيء. وهذا يجب أن لا يكون على وجه يلزم منه الاتحاد والحلول في الممكنات أو معها حتى يتكثر، لأن الوجود الصرف غير المتناهى في الشدة والعدة والمدة لا يعقل أن يحل في موجود له مهية محدودة فليس وحدته تعالى وحدة عددية إذ يلزم منها كونه تعالى مبائنا عن الموجودات وفي عرضها فتكون هذه غير محتاجة إليه تعالى حدوثا وبقاء، والنفس الناطقة بالنسبة إلى قواها المختلفة كذلك فإن الباصرة والسامعة والشامة والمحركة وغيرها متعلقة الوجود بالنفس ولا ينبغي أن تعد النفس من القوى وفي عرضها بل هي كالعلة لقواها وحاضرة معها ومشرفة عليها، ومع كونها في كل قوة لا يجوز أن يقال: حلت في الباصرة على طريق المحدودية، وهذا سر عظيم يجب أن يتدبر فيه حتى يتعقل وحدة النفس والفرق بين الوحدة العددية وغيرها. فإن قيل لا يبتني الدين على هذه التدقيقات ولو كان الواجب على الناس ذلك كان تكليفا بما لا يطاق. قلنا: لم ندع كون العلم بها والتدقيق فيها واجبا على كل مكلف ولكن ورد في كلام أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) أمور لا ينال مغزاها إلا بالتدقيق والتدبر فعلمنا أن في التوحيد وسائر مسائل المعارف أشياء خاصة بجماعة من الراسخين في العلم يتلذذون بمعرفتها ويدفعون شبهات المعاندين فيها وليعلم جهال الملاحدة أن التدين والإيمان ليس خاصا بالسذج وأن العقلاء غير متدينين كما قال شاعرهم: اثنان في الدينا فذو عقل بلا * دين وآخر دين لا عقل له فض فوه. وأي رجل أعقل وأعلم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ويدل على أن ليس جميع مسائل الدين لجميع الناس قول المفيد في النهي عن القدر أنه خاص بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم ويضلهم عن الدين ولا يصلحهم إلا الإمساك عنه وترك الخوض فيه، ولم يكن النهي عنه عاما لكافة المكلفين وقد يصلح بعض الناس بشيء يفسد به آخرون ويفسد بعضهم بشيء يصلح به آخرون إلى آخر ما قال. (ش)

(وبذلك وصف نفسه) كما قال (ليس كمثله شيء) وقال: (ولم يكن له كفوا أحد) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على التنزيه والمباينة على الإطلاق (وهو بكل شيء محيط بالإشراف) لا بمقدار لتعاليه عنه، والمراد بالإشراف الاطلاع عليه على وجه الاستعلاء من قولهم أشرفنا عليه إذا اطلعوا عليه من فوق (والإحاطة والقدرة) أي بإحاطة علمه وقدرته بجميع الأشياء.

(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات يعني أن عدم بعد شيء من الأشياء عنه باعتبار إحاطة علمه لا باعتبار حصول ذاته في مكان قريب من مكانه (لأن الأماكن محدودة (1) تحويها حدود أربعة، فإذا كان بالذات لزمها الحواية) ضمير التأنيث في لزمها للذات، وفي كتاب التوحيد للصدوق «لزمه» بتذكير الضمير، يعني إذا كان عدم بعد شيء عنه باعتبار حصول ذاته تعالى في مكان قريب منه لزم احتواء المكان عليه وكونه فيما يحيط به حدود أربعة كل حد مقابل لنظيره وأنه محال، فقد دل هذا الحديث على أن قوله تعالى (إلا هو رابعهم) ليس معناه أنه رابع الثلاثة بالعدد ومصيرها أربعة بضم الواحد العددي الذي هو هو إليها كما هو المعتبر في مرتبة الأعداد باعتبار التصيير; لتقدسه عن أن يكون

ص:84


1- 1 - قوله: «لأن الأماكن محدودة» ذكرنا أدلة تناهى الأبعاد في المجلد الثالث ص 239.

واحدا عدديا مبدأ لمراتب الأعداد، معدودا من جملة آحاد العدد بل معناه أنه تعالى رابع كل ثلاثة بمعية العلم والإحاطة الواحدة بالنسبة إلى جميع الأشياء المغايرة للمعية الذاتية التي هي المعية المكانية والزمانية.

(في قوله الرحمن على العرش استوى) (1) هذا مثل ما مر إلا أنه ترك العاطف هنا يعني هذا الباب أيضا في تفسير هذه الآية.

* الأصل:

6 - علي بن محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن (موسى) الخشاب، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال:

استوى على كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء.

* الشرح:

(علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن موسى الخشاب عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله تعالى: الرحمن على العرش استوى فقال: استوى على كل شيء) أي استولى عليه بالقدرة والغلبة أو استوت نسبته إليه بالعلم والإحاطة، فإن الاستواء مشتمل على هذين المعنيين، فعلى الأول: ضمير «استوى» يعود إلى الرحمن والعرش، إما العلم أو الجسم المحيط بجميع الأشياء و «على» للاستعلاء، وكذا على الثاني مع احتمال عود الضمير إلى العرش إن أريد به العلم (فليس شيء أقرب إليه من شيء) (2) متفرع

ص:85


1- 2 - قوله في قوله (الرحمن على العرش استوى) الآية من أقوى شبه المجسمة وقد ورد في سبع سور على ما قال الرازي في تفسيره: الأعراف. يونس. الرعد. طه. الفرقان. السجدة. الحديد. قال: وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغا كثيرا وافيا بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر. أقول: وقد نقل أكثرها صدر المتألهين في شرحه مهذبة من الجدليات ومبينة محكمة على ما هو دأبه وزاد عليها أمورا: ولا ريب أن أهل الإسلام يتأبون عن التجسيم إلا أن بعضهم كالحنابلة والكرامية يتبرأون عن اسم الجسم ويثبتون معناه مع جميع لوازمه، وحاصل كلام أكثرهم في تأويل هذه الآية أن (استوى) ليس بمعنى الاستقرار في المكان بل هو بمعنى الاستيلاء، وقال بعضهم: هو كناية عن استقرار ملكه وقدرته على كل شيء، واستبعده صدر المتألهين ولم يرتضه لأنه حمل للآيات القرآنية ونظائرها المذكورة في الكتاب والسنة على مجرد التخيل والتمثيل من غير حقيقة دينية وأصل إيماني، ثم اختار أن الاستواء على كل شيء بمعنى معيته القيومية واضافته الإشراقية، وهي من لوازم العلية وليس بينه وبين تأويل غيره كالقفال كثير فرق، إلا أن صدر المتألهين أجرى كل كلمة على معنى حقيقي أو مجازي صحيح، والقفال تأول في الجملة نظير من يقول طويل النجاد وكثير الرماد من غير أن يكون لكل من النجاد والرماد والعرش والاستواء معنى مراد، وبهذا كان تأويل الصدر أحسن إذ بين بإزاء كل من الاستواء والعرش معنى، ويأتي إن شاء الله شرح ذلك. (ش)
2- 1 - قوله: «فليس شيء أقرب إليه من شيء» لما ثبت تجرده تعالى عن الأحياز والأمكنة ثبت أن نسبته إلى الكل نسبة واحدة فالمراد «باستوى» استواء النسبة وصدر المتألهين (قدس سره) ذكر في شرح الحديث عشر حجج على نفي تجسيم الواجب مناسبة لأهل النظر ووجهين يناسبان أهل الحدس والذوق أحببت ايرادهما ملخصا الأول: كلما كان الكثافة الجسمية في شيء أقوى كان فاعليته ضعيفة، وكلما كان الجسمية - أعني الكثافة والثخانة - أقل وأضعف كانت الفاعلية أشد; مثلا: الأرض لكثافتها لا تفعل شيئا وفيها قوة الانفعال فقط، والماء أرق وأخف وهو أقوى تأثيرا بنفوذه، والهواء أرق من الماء، والنار أرق من الكل وهي قادرة على مزج العناصر مستولية قاهرة لها، والهواء يؤثر في الحياة أكثر من الماء، وإذا كان الأمر كذلك كان الخالق القاهر على الكل التام الفاعلية مطلقا مجردا عن الجسمية البتة. الثاني: أن القوى كلما كانت أعرق في المادية وأشد تعلقا بالجسم كانت أخس وأدون كاللامسة الحالة في جميع البدن فضلا عن الطبايع العنصرية والمعدنية والقوى النباتية والحيوانية، وكلما كانت أبعد من التعلق بالجسم كانت أشرف كالباصرة المتعلقة بجزء صغير من العين وهو الجلدية، والعاقلة لا تعلق لها بالبدن فلا بد أن يكون الواجب القادر على كل شيء الكامل في جميع صفاته غير جسم وغير جسماني وهذه كلها مقتبسة من كلام الفخر الرازي في تفسيره بينها وحققها صدر المتألهين (قدس سره) وهذبها حتى لا يرد عليه بعض شبهات الأوهام. (ش)

على السابق لضرورة أنه إذا تساوت نسبته إلى شيء بالعلم المحيط كان قرب كل شيء منه مثل قرب الآخر بلا تفاوت، وقد أول هذه الآية وأمثالها أيضا أكثر العامة، قال عياض: لم يختلف المسلمون إلا شرذمة قليلون في تأويل ما يوهم أنه تعالى في مكان أو في جهة مثل قوله تعالى (أأمنتم من في السماء) وقوله تعالى:

(الرحمن على العرش استوى) فمنهم من أول في ب «على» وجعل «على» للاستيلاء، ومنهم من توقف في التأويل وفوض أمره إلى الله، والوقف في التأويل غير شك بالوجود ولا جهل بالموجود، فلا يقدح بالتوحيد بل هو حقيقته والتمسك بالآية على التنزيه الكلي وهي قوله تعالى (ليس كمثله شيء) عصمة لمن وفقه الله تعالى للرشاد والهداية.

* الأصل:

7 - وبهذا الاسناد، عن سهر، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مارد أن أبا عبد الله سئل عن قول الله عز وجل: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.

* الشرح:

(بهذا الإسناد عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن مارد أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز وجل: الرحمن على العرش استوى، فقال: استوى من كل شيء (1)

ص:86


1- 1 - قوله: «استوى من كل شيء» قال في الحديث السابق: «استولى على كل شيء»، وفي هذا الحديث: «استوى من كل شيء» وفي الحديث التالي «استوى في كل شيء» وكل هذه الثلاثة مشتركة في كلمة «كل شيء» والغرض عدم تخصيص استوائه بجسم خاص يسمى بالعرش بل كل نسبة له إلى العرش فهي ثابتة بالنسبة إلى جميع الأشياء، وأما الفرق بين «في» و «على» و «من» فغير مقصود بالبيان، ولعل الإمام (عليه السلام) أتى بأحدهما ونقل الرواة بثلاثة عبارات، وليس غرضه (عليه السلام) استفادة هذا المعنى من لفظ الاستواء أو من لفظ العرش بل بيان المراد للأدلة الكثيرة على عدم تحيزه في مكان، وأما الاستواء فقيل جاء هذه الكلمة بمعنى الركوب، قال تعالى: (لتستووا على ظهوره) وقال: (إذا استويت أنت ومن معك على الفلك) وقال تعالى: (واستوت على الجودي) وجاء بمعنى الاعتدال وتمام الخلقة قال تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى) وجاء بمعنى ضد الاعوجاج وكأنه هو المعنى الحقيقي الأصلي; قال الشاعر: طال على رسم مهدد أبده * ثم عفا واستوى به بلده وساير اشتقاقات الكلمة يتضمن هذا المعنى كالسى والمساوى والتسوية والسوي وغير ذلك. وجاء «استوى» بمعنى القصد والإقبال، قال الجوهري: استوى إلى السماء أي قصد. قال الفراء: تقول: كان فلان مقبلا على فلانة ثم استوى على والى يشاتمني، وجاء بمعنى استولى; قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق يذكر بشر بن مروان أخا عبد الملك لما قتل مصعب وولي العراق لأخيه بشر، وقال النابغة: ألا لمثلك أو من أنت سابقه * سبق الجواد إذا استولى على الأمد وظن بعضهم أن العرش بمعنى كل شيء ولذلك فسر الإمام (عليه السلام) «استوى» على العرش بقوله: استوى على كل شيء. فإن أريد أنه المراد; لأن الاستيلاء على العرش يستلزم الاستيلاء على كل شيء غيره فله وجه، وإن أريد أنه المعنى المستعمل فيه اللفظ فهو غير صحيح ولا يدل كلام الإمام (عليه السلام) عليه، وبالجملة إذا كان الاستواء مستعملا في معان كثيرة ولو مجازا في بعضها لم يصح تمسك المجسمة به على غرضهم ونقول كما مر سابقا إنهم ماديون لا يعترفون بوجود شيء غير جسماني، ولا فرق بينهم وبين الملاحدة في ذلك أصلا، ويذهب ذهنهم من كل لفظ إلى المعنى الجسماني لا للتبادر اللغوي حتى يحتجوا به بل; لأن غير الجسم لم يدخل في ذهنهم قط حتى ينصرف إليه، ومثل هذا التبادر ليس بحجة مثل تبادر الذهن من كلمة الياقوت إلى الأحمر إذا لم ير السامع ياقوتا أصفر أو أبيض، والماديون إما ينكرون الواجب أصلا أو يقولون بجسميته وتحيزه وكذلك مذهبهم في الروح، فالملاحدة منهم ينكرون وجود شيء غير القوى الجسمانية مسمى بالروح، والمنتسبون للدين يجعلون الروح جسما مداخلا للبدن كالماء المتخلل في الورد ولازم قولهم أن لا يموت أحد إذا سد مسام بدنه، وفي الملائكة أيضا إما ينكرون وجودهم ويجعلونهم أجساما مادية وغير ذلك مما لا يحصى، وقد جاء في القرآن العظيم في مفتتح سورة البقرة اشتراط التقوى بالإيمان بالغيب; إذ بدونه يتحير عقول الناس في مسائل المعارف البتة، والإيمان بالغيب هو التصديق بوجود الشيء غير المحسوس. (ش)

فليس أقرب إليه من شيء إذ قربه باعتبار علمه الذي لا تفاوت فيه أصلا والأشياء كبيرها وصغيرها سواء في تعلق علمه بها، قال الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات: اعتقادنا في العرش أنه حملة جميع الخلق، والعرش في وجه آخر هو العلم. ونقل هذا الحديث بعينه، والظاهر أنه - رحمه الله - نقله استشهادا لتفسير العرش بالعلم. وقد صرح بذلك من تصدى لشرح كلامه حيث قال معنى قوله (عليه السلام) «استوى من كل شيء» أنه استوى نسبة العرش من كل شيء فليس شيء من الأشياء أقرب إلى عرشه من شيء آخر، ومن البين أن العرش على هذا التقدير عبارة عن علمه الكامل الذي نسبته إلى جميع الأشياء على السوية، لا عن الجسم المحيط بجميع الخلق، هذا نقل لكلامه بالمعنى; لأن كلامه فارسي.

أقول: هذا الاستشهاد إنما يتم لو رجع ضمير «استوى» إلى «العرش» وأما إن رجع إلى «الرحمن» ويكون «استوى» خبرا بعد خبر أو حالا عن فاعل الظرف بتقدير قد، فيجوز أن يراد بالعرش كلا

ص:87

المعنيين، وعلى التقديرين كلمة على للاستيلاء والاستعلاء، فلا يفيد الآية تشبيهه تعالى بالجسم واستقراره في المكان كما زعمه المجسمة.

* الأصل:

8 - وعنه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) فقال: استوى في كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب، استوى في كل شيء.

* الشرح:

(وعنه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (الرحمن على العرش استوى) فقال:

استوى في كل شيء) أي استوى نسبته إلى كل شيء علما وإنما ذكر لفظة في للأشعار بأن علمه نافذ في بواطن الأشياء كلها (فليس شيء أقرب إليه من شيء) نفي أقربية شيء من الأشياء يستلزم نفي أبعدية شيء من الأشياء أيضا فيلزم من ذلك تساوي جميع الأشياء بالنسبة إليه فقوله (لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب) تأكيد لما قبله ولذا ترك العاطف، ومعنى هذا القول نفي أن يكون شيء بعيدا منه وشئ قريبا منه، لأن نفي البعد عن البعيد والقرب عن القريب نفي البعيد والقريب، ضرورة أنه لو كان هناك قريب وبعيد لم يكن البعد والقرب منفيين (استوى في كل شيء) هذا من باب ذكر النتيجة بعد المقدمات إن كانت الفاء الداخلة على «ليس» للتعليل، ومن باب ختم الكلام مجملا بما يرجع إلى ما ذكر في السابق مفصلا إن كانت الفاء للتفريع أو للتفسير، وهذا من المحسنات البديعية عن علماء العربية.

* الأصل:

9 - وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر.

قلت: فسر لي؟ قال: أعني بالحواية من الشيء له أو بإمساك له أو من شيء سبقه.

وفي رواية أخرى: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا، ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.

ص:88

* الشرح:

(وعنه، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد عن النضر ابن سويد، عن عاصم بن حميد) بضم الحاء (عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء) أي من مادة أو من أجزاء بأن يزعم أنه ذو مادة أو ذو أجزاء أو من أصل له مدخل في وجوده كأبوين أو من مبدأ مفيض لوجوده كالفاعل (أو في شيء) كالصفة في الموصوف والصورة في المادة والعرض في الموضوع والجزء في الكل والجسم في الهواء المحيط به والمظروف في الظرف (أو على شيء) بالاستقرار فيه والاعتماد عليه كالملك على السرير والراكب على المركوب والسقف على الجدران والجسم على المكان أولا بالاستقرار والاعتماد عليه كالهواء على الماء والسماء على الهواء (فقد كفر) حيث وصفه بصفات المخلوقين وأنكر وجوده; لأن ما اعتقده ليس بإله العالمين.

(قلت فسر لي قال: أعني بالحواية من شيء له أو بإمساك أو من شيء سبقه) الأول ناظر إلى قوله «في شيء» والثاني إلى قوله «على شيء» والثالث إلى قوله «من شيء» فالنشر على غير ترتيب اللف وفيه كسر للأحكام الوهمية في وصف الباري; لأن الوهم لألفه بالمحسوسات وأنسه بالممكنات يتوهم أن كل شيء من شيء أو شيء أو على شيء فبين (عليه السلام) أن ذاته تعالت عن ذوات المخلوقات وصفاته تقدست عن صفات المحسوسات، وراء ما تجده هذه العقول المتلبسة بغواشي الأوهام وخلاف ما تستأنسه هذه النفوس والأفهام.

(وفي رواية أخرى من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا) (1); لأن كل من كان من شيء فقد افتقر وجوده إلى ذلك الشيء وكل من افتقر في وجوده إلى شيء فهو محدث مخلوق (ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا) بذلك الشيء ومحويا به فيكون له انقطاع وانتهاء وكل ذلك من لواحق الأمور الزمانية والمكانية والمادية وقد ثبت امتناع كونه تعالى زمانيا ومكانيا وماديا (ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا) وكل محمول يفتقر إلى حامل يحمله، وكل مفتقر ممكن،

ص:89


1- 1 - قوله: «فقد جعله محدثا» المراد بالمحدث هنا الحادث الذاتي; لأن من زعم أن الله تعالى من شيء يشمل من زعم أنه مركب من مادة وصورة أو من أجزاء أيا ما كانت، ومعلوم أن المركب قد لا يكون متأخرا عن أجزائه زمانا، وكما أنه لا يمكن تركب الواجب من أجزاء متقدمة عليه زمانا كذلك لا يمكن تركبه من أجزاء يكون مستمرة معه ومع ذلك حكم بكونه محدثا مطلقا، فكل متوقف في الوجود على غيره وكل محتاج حادث سواء كان فصل زماني بين وجود المحتاج والمحتاج إليه أولم يكن، وقد سبق في تعاليقنا على المجلد الثالث (الصفحة 289) كلام هشام بن الحكم في الحدوث الذاتي ويؤيده أيضا ما في (الصفحة 309) وسبق في (الصفحة 320) أيضا كلام أبي جعفر الثاني (عليه السلام): «كل متجزي أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق» وفي الصفحة 324 والصفحة

ولا شيء من الممكن بواجب لذاته، وبالجملة هذه الأمور من سمات المخلوقات وصفات المصنوعات فمن وصفه تعالى بشيء منها فقد جعله مماثلا لخلقه تعالى الله الذي ليس كمثله شيء.

في قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله).

هذا أيضا مثل ما مر كلام المصنف كسائر العنوانات، والظرف متعلق بإله، والراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف أي هو إله في السماء، وإنما حذف لطول الصلة بمتعلق الخبر وبالعطف عليه، ولو جعل «إله» مبتدأ والظرف خبره بقي الموصول بلا عائد. كذا ذكره بعض المفسرين.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا: قلت: ما هي؟ فقال: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلأن، فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي القفار إله وفي كل مكان إله.

قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني) (1) اسمه عبد الله (إن في القرآن آية هي قولنا) من أن الإله اثنان (قلت: ما هي فقال:

(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فهناك إلهان أحدهما في السماء وهو النور المعبر عنه بيزدان والآخر في الأرض وهو الظلمة المعبر عنها بأهرمن (فلم أدر بما أجيبه فحججت) - بفتح الحاء - أي فذهبت إلى مكة وفعلت أفعال الحج، ويجوز ضم الحاء على صيغة المجهول يعني صرت محجوجا مغلوبا لأبي شاكر (فخبرت) - بتشديد الباء - بمعنى أخبرت (أبا عبد الله (عليه السلام) فقال:

هذا كلام زنديق خبيث) هذا إخبار بالغيب إن كان هشام أخبره بمضمون الآية فقط، وتصديق قوله إن كان أخبره بمناظرة الديصاني (إذا رجعت إليه فقل له: ما اسمك بالكوفة فإنه يقول: فلان، فقل له: ما اسمك بالبصرة) يجوز حركات الباء والفتح أفصح وأشهر (فإنه يقول فلان) المقصود منه إرشاده إلى الجواب بأن تسمية شخص باسم في البلاد المتعددة والأماكن المختلفة لا يوجب

ص:90


1- 1 - قوله «أبو شاكر الديصاني» قد مر ذكر أبي شاكر والديصانية في الصفحة 46 من المجلد الثالث. (ش)

تعدده فلذلك قال (فقل: كذلك الله تبارك وتعالى في السماء إله وفي الأرض إله وفي البحار إله وفي القفار إله وفي كل مكان إله) ولا يوجب ذلك تعدد الإله.

والجواب واضح الدلالة على المقصود; لأن كونه تعالى إلها أمر يحلقه بالنظر إلى إيجاد السماء والأرض وأهلهما واستعباده إياهم وجريان ألوهيته واستحقاق عبادته عليهم فقد أشار الرب العظيم بهذا الكلام الكريم إلى نفي الآلهة السماوية والأرضية التي يعتقدها المشركون بأن عبر عن ذاته المقدسة ب «هو» الدال على هويته المطلقة التي هي محض الوجود الحق الواجب، ولما لم يكن تعريف تلك الهوية إلا باعتبار أمر خارج عنها أشار إلى تعريفها بكونه مستحقا بالذات لاسم الإله والألوهية، والعبادة بالنسبة إلى السماء والأرض وأهلهما ولا يستحق شيئا منها غيره تعالى الله عما يقول الظالمون.

(قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال هذه) أي هذه المناظرة أو هذه الحيلة في الجواب (نقلت من الحجاز) وليست من عندك. الحجاز بكسر الحاء بلاد سميت بذلك لأنها حجزت أي فصلت بين الغور والنجد وقيل: بين الغور وبين البادية، وقيل احتجز بالجبال والحرار الخمس أي أحاطت بها منها حرة بني سليم وحرة وأقم، من «احتجز الرجل بإزار» إذا شده في وسطه، وعن الأصمعي: إذا عرضت لك الحرار بنجد فذلك الحجاز.

ص:91

ص:92

باب العرش والكرسي

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي رفعه، قال: سأل الجاثليق أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال:

أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أم العرش يحمله؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وبينهما وذلك قول الله عز وجل: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) قال:

فأخبرني عن قوله: (يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فكيف قال ذلك؟ وقلت إنه يحمل العرش والسماوات والأرض؟ فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة:

نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ونور أبيض منه (ابيض) البياض وهو العلم الذي حمله وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع بنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

قال له: فأخبرني عن الله عز وجل أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، وذلك قوله تعالى: (وسع

ص:93

كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله (عليه السلام) فقال: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق) بفتح الثاء رئيس النصارى (أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أم العرش يحمله؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما) يعني حاملها بالقدرة الكاملة على ما يقتضيه الحكمة البالغة من وضع كل شيء في موضعه وتقديره بالقدر اللايق به وتحديده وتصويره بما يناسبه. وفيه تنبيه على حاجة الخلق إليه في أن يقيمهم (1) في الوجود بمساك قوته ويحفظهم في البقاء بكمال قدرته (وذلك قول الله: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) أي يمسكهما كراهة أن تزولا بالعدم والبطلان اللازم لطبيعة الإمكان وبانطباق السماء على الأرض ورسوب الأرض على الماء أو يمنعهما أو يحفظهما أن تزولا فإن الإمساك متضمن للمنع والحفظ، وفيه دلالة على أن الممكن (2) في بقائه واستمرار وجوده

ص:94


1- 1 - قوله: «حاجة الخلق إليه في أن يقيمهم» هذا مذهب الحكماء الإلهين اختاره الشارح وهو الصحيح من المذاهب، وأما المتكلمون فقد اختلفوا وذهب أكثرهم إلى أن الممكن بعد وجوده يستغني عن المؤثر في البقاء وإنما يحتاج إلى الخالق في بدء حدوثه نظير البناء والباني، وذهب بعضهم إلى أنه كما يحتاج في الحدوث يحتاج في البقاء أيضا نظير الضوء يحتاج إلى السراج حدوثا وبقاء، والفرق أن السراج ليس له علم واختيار في الإضاءة، والله تعالى يفعل بعلم واختيار، فإن قيل: إنا لا نتصور فناء الجواهر، قلنا هذا الثبات والاستمرار حاصل من تعلق إرادته تعالى بإبقاء ما يبقى، ومع تعلق هذه الإرادة لا نتعقل عدمه. (ش)
2- 2 - قوله: «وفيه دلالة على أن الممكن» دلالة الآية على ذلك ظاهر; إذ لا يمكن أن يراد من الإمساك المماسة باليد وأمثالها بل إمساك بعلية وتأثير. فإن قيل: لعل المراد من الزوال الانتقال من موضع إلى موضع آخر: قلنا: الانتقال من موضع إلى آخر ثابت في الجملة للأرض أو للسماء ولو في الوضع بل المراد إمساكهما حتى لا يفنيا ولا يحتمل هنا غيره. ثم إن الآية كما تدل على احتياج الممكن في البقاء إلى المؤثر تدل على أن العلة المبقية هي العلة الموجدة لا غيرها، ولا يمكن أن يوجد الشيء بعلة ثم يفوض إبقاؤها إلى علة أخرى حيث قال: (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) والدليل العقلي عليه أن تشخص المعلول بتشخص العلة ولا يمكن الاستبدال فيها. وبالجملة: الوجود للممكن شيء بالعرض كالملوحة لماء البحر لا بالذات كما للملح نفسه فإذا زال تأثير الملح زال الملوحة عن الماء، فإن قيل: نرى بعض الصفات يبقى بعد زوال العلة كالحرارة للماء بعد إطفاء النار في الجملة وكما يستحيل بقاء المعلول بعد زوال العلة مدة كثيرة كذلك يستحيل عندكم بقاؤه ولو في آن، قلنا: أمثال الحرارة في الماء لا تعد معلولة ولا النار علة لها بل النار من المعدات ويجوز تقديم المعد على المعلول زمانا، وبقاء المعلول بعد فنائه، ومثله تقدم الأب على الابن، والباني على البناء، والعلة المؤثرة في الوجود لا يعقل زوالها مع بقاء المعلول كزوال الأربعة مع بقاء الزوجية وزوال الجسم مع بقاء العرض، وزوال الأجزاء مع بقاء المركب، فإن هذه هي التي يتوقف وجودها على غيرها ولا يتعقل بقاؤها بعد فناء ما يتوقف عليها، وكذلك الممكن مع الله تعالى بل التعلق والربط بين الممكن والواجب واحتياجه إليه أشد من تعلق العرض بالجوهر; لأن وجود العرض في نفسه ووجود الممكن كالمعنى الحرفي ليس في نفسه. (ش)

ودوام هيئته يحتاج إلى حافظ (ولئن زالتا إن أمسكهما) أي ما أمسكهما (من أحد من بعده) أي من بعد الله أو من بعد الزوال. «من» الأولى زائدة للمبالغة في الاستغراق والثانية للابتداء (إنه كان حليما) لا يعاجل بالعقوبة على الغفلة والعصيان وسوء الأدب والجهالة (غفورا) يغفر لمن يشاء، والآية دلت على أنه أمسكهما مع كونهما جديرين، نظرا إلى ذواتهما الباطلة غير الثابتة ومع عصيان العباد، بأن تزولا وتهدا هدا كما قال: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض) ولذلك ذكر هذين الوصفين أعني الحلم والغفران (قال: فأخبرني عن قوله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فكيف قال ذاك وقلت: إنه يحمل العرش والسماوات والأرض) مراده أن ما قلت مناف لما دلت عليه هذه الآية من وجهين أحدهما أن حملة العرش ثمانية لا هو، وقلت: هو حامله. وثانيهما أن الثمانية إذا حملوا عرشه فقد حملوه أيضا لأنه على العرش، وقلت: إنه حامل جميع ما سواه (فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ونور أبيض منه ابيض البياض وهو) أي العرش (العلم (1) الذي

ص:95


1- 1 - قوله: «وهو أي العرش العلم» ولا ينافي إطلاق العرش على موجود جسماني عظيم يسمى بمحدود الجهات راجع الصفحة 240 من المجلد الثالث. إن قيل: لم يأت في لغة العرب العرش بمعنى العلم لا حقيقة ولا مجازا، فلا يقال: لا عرض لي بالنحو أي لا علم لي به مثلا. قلنا: المراد بيان المصداق لا تفسير المفهوم، ومعنى العرش في لغة العرب حقيقة هو السرير، ومجازا القهر والاستيلاء; لأن عرش الملك مساوق لاستيلائه. ولما كان إيجاد الخلق وإبقاؤه من الله تعالى لعلمه العنائي صح أن يقال: عرشه علمه مصداقا فإنه سبب إيجاده واستيلائه وقهره، وقد فتح أمير المؤمنين (عليه السلام) باب التأويل على العقول وهو (عليه السلام) أصل كل خير وأساس كل علم، وفائدة التأويل رفع الاستبعاد والاستنكار، إذ ربما ورد في كلام الله والرسول (صلى الله عليه وآله) مجازات واستعارات لتقريب المعقول إلى المحسوس كما في كلام سائر الناس فيقال: ذلك الشعر لطيف رقيق وذلك كلام عذب وهذا لفظ مليح، وأهل الظاهر لا يرضون بحمل كلام الشارع على المعنى المجازى ويقولون: فتح باب التأويل يهدم أساس الشريعة ويوجب الشك في أصول العقائد، والعلماء يرون التأويل واجبا في مورده; لأن الجمود على الظواهر يهدم أساس الدين أيضا; لأن العقلاء إذا رأوا ظاهر الحديث أو القرآن لا يوافق ما تحقق لديهم ولم يجز تأويل ظاهره شكوا في صدق الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أنكروا، مثلا علموا بعقولهم يقينا أن الله تعالى ليس بجسم ولا يحتاج إلى مكان وليس له يد وعين ووجه ولو لم يجوز لهم تأويل تلك الألفاظ نسبوا المسلمين ورؤسائهم إلى الجهل، ولذلك فتح أمير المؤمنين (عليه السلام) باب التأويل ولكن التأويل شيء يختص به الراسخون في العلم وليس لكل أحد أن يؤول كل شيء بهواه كما فعله الباطنية بل لكل شيء حد وقاعدة ومورد ومصدر يعرفه أهله. (ش)

حمله الله الحملة) الحملة بالتحريك جمع الحامل وحملته شيئا تحميلا إذا كفلته حمله وكلفته بحمله.

أقول: هذا الحديث من الأسرار والذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أن الموجود إما شر محض أو خير محض أو مشوب من الخير والشر، وهذا القسم إما الشر غالب أولا، فهذه أربعة أقسام، والعلم المسمى بالعرش لاستقرار الموجودات فيه وعلى وفقه متعلق بجميع هذه الأقسام، فمن حيث تعلقه بالأول يسمى بالنور الأحمر; لأن منه احمرت الحمرة أي الشرور إذ الشر يناسب وصفه بالحمرة لكونه محلا للغضب وكذا العلم المتعلق به لأدنى ملابسة ومن حيث تعلقه بالثاني يسمى بالنور الأبيض; لأن الخير من توابع الرحمة، والرحمة يناسب وصفها بالبياض، قال الله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) ومن حيث تعلقه بالثالث يسمى بالنور الأخضر لغلبة سواد الشر، والسواد إذا غلب النور مال النور إلى الخضرة، ومن حيث تعلقه بالرابع يسمى بالنور الأصفر; لأن فيه شيئا من سواد الشر، والسواد إذا خالط النور وساواه أو نقص منه مال النور إلى الصفرة. ومن هاهنا ظهر أن العرش الذي هو علم الحملة بالكائنات مخلوق من أنوار أربعة وإنما قدم الأول لغلبة الشرور في عالم الطبايع الظلمانية والنفوس البشرية ولذا أيضا قدم الثاني على الثالث وأخر الرابع لقلة الخير المحض في عالم النفوس الهيولانية، وقد مر شرح هذا في باب النهي عن الصفة (1).

(وذلك نور من عظمته) (2) لعل المراد أن العرش الذي هو علم الحملة بالكاينات نور في صدورهم نشأ من عظمة الله تعالى ودليل عليها ولذلك أيضا سمي بالعرش لاستقرار العظمة فيه (فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين) إشارة إلى النور الأبيض; لأن أبصار قلوب المؤمنين مصداق له إذ به تنورت قلوبهم بالأسرار والمعارف وحقايق الإيمان حتى أبصرت الخيرات كلها

ص:96


1- 1 - قوله: «وقد مر شرح هذا في باب النهي» في الصفحة 272 من المجلد الثالث وذكرنا في الحاشية كلام صدر المتألهين ووالد المجلسي - رحمهما الله - في تأويل الأنوار وزدنا في توضيحه بعض ما خطر ببالنا. (ش)
2- 2 - قوله: «وذلك نور من عظمته» استعار (عليه السلام) النور لما يسميه الحكماء الإضافة الاشراقية، وصرح بأن ليس المراد بالنور هنا المحسوس بأن أضافه إلى عظمته تعالى وصرح أيضا بأنه الرابطة بين العلة والمعلول بقوله «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون» إلى آخر ما قال، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا. (ش)

(وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون) (1) إشارة إلى النور الأحمر إذ به عاداه الجاهلون الملحدون،; لأن معاداتهم مصداق له، وبه انخسفت قلوبهم وعميت عيون بصائرهم عن مشاهدة عظمة الحق وأسراره (وبعظمته ونوره ابتغى من في السماء والأرض من جميع خلايقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة) إشارة إلى النور الأخضر والأصفر إذ بهما طلب المخلوقات الوسيلة والتقرب على أنحاء مختلفة، وأرشد إلى أن هذا من مصداق هذين النورين بذكر الاخلاف والاشتباه، ويمكن أن يكون الإبصار ناظرا إلى النور الأبيض، والمعاداة إلى الأنوار الثلاثة الباقية، والإبتغاء إلى الجميع، وبالجملة ذكر فرقا أربعة في مقابلة أنوار أربعة على سبيل التوزيع بحيث يناسب حال كل فرقة بنور من تلك الأنوار وتعلقه بها كتعلق العلم بالكائن في نفس الأمر (فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته) أي فكل شيء من الكائنات صغيرا كان أو كبيرا خيرا كان أو شرا محمول يحمله الله تعالى بعلمه المحيط به وبعظمته التامة وقدرته العامة (لا يستطيع) شيء منها (لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا) إذ كل ما تعلق علمه وقدرته بوقوعه فهو يقع ولا يقع خلافه لما سيجيء من أنه لا يقع شيء إلا بعلمه وقدرته ومشيته ولا يلزم من ذلك جبر العباد على أفعالهم; لأن العلم تابع للمعلوم وسيجئ تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (فكل شيء محمول) (2) يعني إذا كان كل شيء من الكائنات واقعا على وفق علمه فهو محمول يحمله الله

ص:97


1- 3 - قوله: «بعظمته ونوره عاداه الجاهلون» العداوة لا بد لها من موضوع تتعلق به إذ لا يمكن عداوة اللاشيء والمعدوم كما أنه لا يمكن عداوة ما لا يدركه الإنسان، وصرح (عليه السلام) بأن المنكر جاهل مع أنه يجهل الموحدين; وذلك لأن عمدة أدلة الملاحدة التشبث بعدم الوجدان ليثبتوا به عدم الوجود، وهذا دليل بديهي البطلان لا يتمسك به إلا الجاهل كما قال تعالى: (ما لهم بذلك من علم ان هم إلا يظنون) وبالجملة أدرك الجاهل شيئا فعاداه، وإدراكه بالإضافة الاشراقية التي بينه وبينه. (ش)
2- 1 - قوله: «فكل شيء محمول» كما قال الشارح على سبيل التمثيل إذ ليس الممكن موضوعا على الله تعالى ومستعليا عليه كجسم على جسم بل المحمول بمعنى المعلول المتعلق بغيره المتوقف وجوده على حفظ غيره، وبالجملة لا ريب في أن الممكن وجوده ربطي تعلقي لا يتعلق تحققه بغير مقيم يقيمه، والشيء المتوقف على غيره لا بد أن يكون بينهما علاقة إذ لا يعقل توقف وجود شيء على شيء بحيث ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر مع استقلال كل واحد وعدم رابطة بينهما ويسمى هذه الرابطة بالإضافة الاشراقية وعرفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقرائن المذكورة على الترتيب: الأولى الرابطة بين القلوب أي النفوس الناطقة وبينه تعالى، والنفوس أقرب موجودات العالم المحسوس إليه تعالى، والرابطة موجودة للنفوس العالمة والجاهلة. الثانية أن كل موجود في الأرض والسماء يتحرك نحوه، وهو تعالى غاية كل شيء، ويبتغى كل شيء إليه الوسيلة بذلك الإضافة الاشراقية التي سماها أمير المؤمنين (عليه السلام) نور عظمته، فالشاعر يعبده بشعوره وغير الشاعر بتكونه ووجوده. الثالثة ما يحمل به الله تعالى مخلوقه يسمى نورا وقدرة وعظمة، والنور استعارة للوجود الساري; لأن سبب لظهور كل شيء والقدرة هو ذلك أيضا إذ به أوجد الموجودات وهو العظمة وهو ظاهره. الرابعة لا يستطيع شيء من الممكنات لنفسه ضرا ولا نفعا اه. ولو كان الممكن موجودا في نفسه من غير ارتباط بالواجب لملك لنفسه نفعا وترتب على وجوده خواصه، وليس قهره واستعلاؤه تعالى على عباده نظير قهر الملوك واستعلائهم; لأن الرعية لا يحتاجون في أصل وجودهم إلى الملك ويستطيعون لأنفسهم نفعا وضرا في الجملة. الخامسة إمساك السماوات والأرض تمثيل وتفهم لكيفية تعلق المعلول بالعلة وأنه حاصل حدوثا وبقاء فكما أن الشيء الثقيل إذا رفعته عن الأرض وأمسكته بيدك يحتاج في رفعه إليك ويحتاج في بقائه أيضا إلى إمساكك إياه بحيث لو أطلقته من يدك آنا لسقط كذلك السماوات والأرض إن لم يمسكهما الله تعالى لحظة لزالتا وهما محتاجتان حدوثا وبقاء. السادسة المحيط بهما تمثيل آخر لتصور الرابطة بين الواجب والممكن وإن احتياج الممكن وتعلقه به إنما هو إلى ذاته المتعالية لا إلى أمره وعلمه فقط نظير احتياج الرعية في نظم أمور مدينتهم إلى نظر السلطان وتدبيره فقط، والإحاطة استعارة للحضور والقرب من كل شيء بذاته وبنور عظمته; لأن المحاط لا يمكنه أن يخرج من تصرف المحيط ويبان منه. السابعة هو حياة كل شيء ونور كل شيء تمثيل أيضا لتسهيل تصور الرابطة المذكورة; وذلك لأن حياة كل شئ إنما هي نفحة منه، ونور كل شيء أي وجوده شعاع منبجس من وجوده، ولما كان الحياة والوجود للأشياء بالعرض لا بالذات صح أن يقال هو حياة كل شيء ونوره، ولا يتصور بقاء ما بالعرض بدون ما بالذات. وبهذه الفقرات لكل من يتدبر فيها يظهر معنى كون الممكن محمولا ومتعلق الوجود بغيره برابطة تسمى إضافة اشراقية أو الوجود الساري أو نور عظمته كما سماه أمير المؤمنين (عليه السلام) وليست إحاطته وإضافته فرضا اعتباريا كالإضافات المقولية، ولا ملكه نظير مالكية الإنسان لأمواله، ولا خلقه للأشياء نظير الباني للبناء، ولا تدبيره ونظره وقدرته نظير قدرة السلاطين بل ليس في الوجود إلا هو، وسائر الأشياء أعدام وأوهام، ونعم ما قال بعض العرفاء لما قيل بحضرته: كان الله ولم يكن معه شيء: الآن كما كان «داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء وخارج عنها لا كخروج شيء عن شيء وليس بينونته بينونة عزلة». (ش)

تعالى والحمل هنا على سبيل التمثيل أو على تشبيه علمه بالعمود لقيام الممكنات به كقيام السقف بالعمود (والله تعالى الممسك لهما) أي للسموات والأرض (أن تزولا) الواو للعطف على «كل شيء محمول» والمجموع نتيجة للسابق.

(والمحيط بهما من شيء) يجوز جر المحيط بالعطف على ضمير لهما و «من» بيان له يعني الممسك للشيء المحيط بهما، أو متعلق بقوله «أن تزولا» يعني الممسك لهما وللمحيط بهما أن تزولا من الشيئية بالدخول في العدم الصرف، ويجوز رفعه بالعطف على الممسك و «من» بيان لضمير بهما لقصد زيادة التعميم أو بمعنى على، ومجئ «من» بمعناها ثابت كما صرح به الجوهري، يعني المحيط بهما على شيء حوتاه مما في عالم الكون والفساد أو بيان لمحذوف يعني المحيط بهما مع ما حوتاه من شيء (وهو حياة كل شيء) إذ به قيام جميع الأشياء وقوامه وكماله الذي هو عبارة عن الحياة، وذلك كما يقال: الماء حياة الأرض إذ به كمالها واهتزازها (ونور كل شيء) إذ به ظهور الأشياء من مكمن العدم والخفاء كما يظهر الأشياء المحتجبة بالظلمة بتوسط النور (سبحانه وتعالى عما يصفون) في بعض النسخ «عما يقولون» (علوا كبيرا)

ص:98

فيه تنزيه له عما يصفه الظالمون به من الصفات التي لا تليق بعز جنابه، وتنبيه على أنه وإن بالغ الواصفون في وصفه بما يليق به فهو أعلى من ذلك علوا كبيرا.

(قال له: فأخبرني عن الله أين هو) لما اعتقد الجاثليق أن لله تعالى مكانا وأن مكانه هو العرش وأجاب (عليه السلام) بأن العرش ليس مكانا له ولا حاملا إياه، سأل ثانيا بأن العرش إذا لم يكن مكانا له فأين هو من المواضع والأمكنة (فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا) إحاطة مغايرة لإحاطة نحو الهواء بالجسم والجسمانيات ومعية خارجة عن المعية التي بين الممكنات، بل إحاطة بالصنع والقدرة والتقدير، ومعية بالعلم والحفظ والتدبير كما قال: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) فقد أشار (عليه السلام) إلى أنه لا يصح السؤال عنه بأين هو، لأن السؤال عن شيء بأين هو سؤال عن مكانه باعتبار حصوله فيه واختصاصه به وهو في حقه - تعالى شأنه - محال لأنه في جميع الأمكنة لا باعتبار الحصول فيها والافتقار إليها; لأن الحال في المكان لا يجوز أن يكون (1) في آن واحد في جميع الأمكنة بالضرورة بل بالاعتبار العلم والإحاطة، ومن هاهنا ظهر أنه لا مكان له فلا يصح أن يقال أين هو (وهو قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم) أي ولا أقل من ذلك المذكور كالواحد والاثنين ولا أكثر من ذلك كالأربعة والستة وما فوقها إلا هو معهم بالعلم والإحاطة (يعلم ما يسرون وما يعلنون) (أينما كانوا) سواء كانوا في مقام طاعة الله تعالى أو في مقام معصيته، وسواء كانوا في أمكنة متقاربة أو في أمكنة متباعدة، لأن قربه بالأشياء ليس قربا مكانيا، وعلمه بها ليس لقرب مكاني حتى يختلف باختلاف الأمكنة في القرب والبعد، ومن البين أن من كان كذلك يستحيل أن يكون في مكان بمعنى الاستقرار فيه وإلا لاختلفت نسبة الأمكنة وغيرها إليه (فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى) لما أشار إلى أن العرش هو العلم بالموجودات أشار هنا بالتفريع للتنبيه على المماثلة إلى أن الكرسي أيضا بمعناه وهو العلم بها دفعا لتوهم السائل فيه أيضا، وقد سئل الصادق (عليه السلام) عن قوله عز وجل (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال:

ص:99


1- 1 - قوله: «لأن الحال في المكان لا يجوز أن يكون اه» إن تأولنا إحاطته بكل شيء بالعلم لم يناف ذلك تجسمه وحلوله في مكان واحد إذ يجوز أن يكون شئ حالا في مكان خاص ويعلم جميع الأشياء ويحيط بها إحاطة علمية فلا يصح قوله ظهر أنه لا مكان له، ألا ترى أن الإنسان يعلم البلاد البعيدة ويحيط علمه بالأفلاك والكواكب مع كونه في نقطة من الأرض، فما ذكره أولا من قوله «بل إحاطة بالصنع والقدرة والتقدير ومعية بالحفظ» أقرب إلى الواقع والمحيط الجسماني قاهر للمحاط ومانع له عن كل شيء يريد منعه بخلاف المحاط فإنه لا يقدر على المحيط، لذا استعير اللفظان للواجب والممكن. (ش)

علمه. (1) (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) من السر وهو حديث النفس، وفي اقتباس هذه الآية إشارة إلى أن المراد بالكرسي هو العلم المحيط بجميع الأشياء وأن العلم بجليات الأمور وخفياتها على السواء (وذلك قوله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض)) يريد أن الكرسي فيه بمعنى العلم ودل عليه أيضا الرواية المذكورة وما قبل هذه الآية ولذلك ذهب إليه بعض المفسرين، وينبغي أن يعلم أن كثيرا ما يطلق الكرسي على الجسم المحيط بالسماوات السبع وما بينهما ولعله الفلك المشهور بفلك البروج، ويطلق العرش على الجسم المحيط بالكرسي وما بينه ولعله الفلك الأعظم، فالعرش بهذا المعنى أعظم من الكرسي كما دل عليه ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج قال: «مما سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام) أن قال: فالكرسي أكبر أم العرش قال (عليه السلام): كل شيء خلقه الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي» (2).

وما رواه المصنف (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل قال: «والكرسي عن العرش كحلقة في فلاة قي وتلا هذه الآية (الرحمن على العرش استوى) وما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع مع الكرسي إلا كحلقة في فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» (4) ولذلك قيل الكرسي جسم بين يدي العرش ومن أجل ذلك سمي كرسيا وهو في الأصل ما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، إذا عرفت هذا فقد عرفت أن لكل واحد من العرش والكرسي معنيين أحدهما العلم المحيط، وثانيهما الجسم المحيط، وقد صرح بذلك الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات أيضا.

(ولا يؤوده) أي لا يثقله، يقال: آدني الحمل يؤودني أي أثقلني وأنا مؤود مثال مقول (حفظهما) أي حفظ السماوات والأرض بإضافة المصدر إلى المفعول (وهو العلي العظيم) أي هو المتعالي عن أن يؤوده حفظ شيء أو يحيط به وصف واصف ومعرفة عارف أو يشبه شيئا أو يكون له شريك ونظير، والعظيم المطلق الذي لا أعظم منه ولا يساويه أحد، وتعريف الخبر للحصر (فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله تعالى علمه) لما أشار سابقا إلى أن العرش هو العلم أشار هنا إلى أن حملته الثمانية هم العلماء، قال الصدوق - رحمه الله -: أما العرش

ص:100


1- 1 - رواه الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات.
2- 2 - المصدر ص 193.
3- 3 - في كتاب الروضة تحت رقم 143.
4- 4 - رواه الترمذي في السنن.

الذي هو العلم فحملته أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وأما الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة (عليهم السلام) في العرش وحملته، وإنما صار هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم; لأن الأنبياء الذين كانوا قبل نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) كانوا على شرايع الأربعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ومن قبل هؤلاء الأربعة صارت العلوم إليهم وكذلك صار العلم بعد محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين إلى من بعد الحسين من الأئمة (عليهم السلام) وأما العرش الذي هو حامل الخلق ووعاؤه فحملته ثمانية من الملائكة (1) لكل واحد ثماني أعين كل عين طباق الدنيا، واحد منهم على صورة بني آدم يسترزق الله تعالى لبني آدم وواحد منهم على صورة الثور يسترزق الله تعالى للبهائم كلها وواحد منهم على صورة الأسد يسترزق الله تعالى للسباع وواحد منهم على صورة الديك يسترزق الله تعالى للطيور، فهم اليوم هؤلاء الأربعة فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية.

(وليس يخرج عن هذه الأربعة) أي عن هذه الأنوار الأربعة (شيء خلق الله في ملكوته) أي في ملكه والتاء للمبالغة في عظمته (وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله (عليه السلام)) فرأوا بعين البصر والبصيرة كل شيء على ما هو عليه من الذوات والصفات وسائر الحالات (فقال: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض)) الدال على كمال الربوبية والقدرة والتدبير، والمشتمل على عجائب الخلقة وغرائب الصنعة والتقدير.

(وليكون من الموقنين) أي ليستدل بذلك على كمال الصانع وليكون من الموقنين، أو وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين.

ص:101


1- 1 - قوله: «فحملته ثمانية من الملائكة» قال الفاضل ابن ميثم في شرح النهج في صفة حملة العرش: أما من قال أن الملائكة أجسام كان حمل صفاتهم المذكورة في هذه الأخبار وفي كلامه (عليه السلام) على ظاهرها أمرا ممكنا وأنه تعالى قادر على جميع الممكنات، وأما من نزههم عن الجسمية فقال: إن الله سبحانه لما خلق الملائكة السماوية مسخرين لأجرام السماوات مدبرين لعالمنا عالم الكون والفساد وأسبابا لما يحدث فيه، كانوا محيطين بإذن الله علما بما في السماوات والأرض، فلا جرم كان منهم من ثبت في تخوم الأرض السفلى أقدام إدراكاتهم التي ثبتت واستقرت باسم الله الأعظم وعلمه الأعز الأكرم ونفذت في بواطن الوجودات خبرا ومرقت من السماء العليا أعناق عقولهم - إلى آخر ما قال - وإنما ذهبوا إلى تجردهم لأنهم رأوا وصفهم بأوصاف مختلفة لا تجتمع في الأجسام المادية، مثل ما روي أنهم في جميع الأمكنة كما في النهج، وما روي أنهم فوق السماء السابعة وأنهم في صورة بعض الحيوانات أو أنهم في صورة غيرها شبيهة بالانسان أو أنهم أربعة بألوان أربعة مع علم وقدرة كما مر، وأنهم لا يزاحمون الأجسام الأخر في المكان ويتمثلون بصور مختلفة ويدخلون من الباب المسدود وأمثال ذلك، ولم يمكنهم تكذيب جميع ذلك ونسبتها إلى الوضع والجعل لا جرم التزموا بتجردهم حتى يصح وصفهم بهذه الصفات باعتبارات مختلفة. (ش)

(وكيف يحمل حملة العرش الله) برفع «الحملة» على الفاعلية ونصب «الله» على المفعولية؟ وكيف للإنكار، وعلل الإنكار بقوله: (وبحياته حييت قلوبهم) الواو للحال (وبنوره) أي بهدايته وتوفيقه (اهتدوا إلى معرفته) توضيح ذلك أنه إذا كانت حياتهم ومعرفتهم بالله سبحانه كان الله في الأزل بلا حامل بالضرورة لعدم وجود الحامل فيه فيكون في الأبد أيضا كذلك; لأن كل ما كان له أزلا يكون له أبدا، وكلما لم يكن له أزلا لا يكون له أبدا لاستحالة التغير عليه (1) وفي نسخة السيد

ص:102


1- 1 - قوله: «لاستحالة التغير عليه» وجملة ما ينبغي أن يقال في هذا الحديث الشريف ملخصا: أن جاثليق لم يكن منظوره السؤال عن عدد الثمانية بل عن أصل الحمل، وغرضه الاعتراض على اعتقاد المسلمين بظنه من تجسيم الواجب وحلوله المكان واحتياجه إلى الحملة، ولذلك أجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بتوضيح المقصود من العرش ومعنى الحمل، فقال: المقصود من العرش العلم ويعبر عن العلم بالنور، ووجهه واضح، والمقصود من حمل العرش على الحملة إعطاء العلم للعلماء، والعلم أربعة أقسام بالتقسيم الجملي أحمر أخضر وأصفر وأبيض، والألوان مظاهر النور، إذ ليس اللون في الحقيقة إلا كيفية حاصلة من الأشعة على ما تبين في محله، والعلماء الحاملون إما من الملائكة المقربين وإما من علماء البشر المقتبسين علمهم من الملائكة. ويشمل كلامه (عليه السلام) بإطلاقه جميعهم، والعلماء وإن كانوا كثيرين فإنهم لا يخرجون عن أربعة أقسام كما قال: ليس يخرج عن هذه الأربعة شيء; لأن علماء البشر وأمثالهم تبع لما في عالم الملكوت، وعالم الملكوت عالم الغيب لا يراه إلا الأصفياء وأراه خليله (عليه السلام)، وما في ذلك العالم أربعة لا غير، ويدل على أن علماء البشر مقصودون بالكلام قوله (عليه السلام) فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين إلى آخره، حتى أن الجاهل المعادي أيضا أدرك بسره نورا فعاداه، والمنتحلون للأديان المشتبهة والباطلة أيضا أدركوا نورا فغلطوا وأخطأوا في تحقيقه لاختلاط الأوهام، نظير الشهوة التي جعلت في الإنسان لغاية صحيحة فانحرفت وصرفت إلى ما لا يجوز، وأما توجيه الألوان فقد ذكر فيا مر ولم يجب (عليه السلام) عن سر الثمانية في القيامة لعدم كون سؤال السائل متوجها إليه، وسيجئ إن شاء الله وجه له. وبما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) يظهر بطلان تأويل بعض المعتزلة في العرش وحملته وجعله بمنزلة الكنايات حيث لا يكون كل كلمة من الكناية تعبيرا حقيقيا أو مجازيا عن شيء مثل كثير الرماد وطويل نجاد السيف، وكذلك قالوا: ليس العرش تعبيرا عن شيء ولا الحملة تعبيرا عن أشخاص يحملون العرش بل الجملة تعبير يعنى به العظمة، وقد ذكر صدر المتألهين هنا كلاما جديرا بأن ننقله وإن طال بنا الكلام. قال - رحمه الله - ثم لا يخفى على أولي النهى ومن له تفقه في الغرض المقصود من الإرسال والإنزال أن مسلك الظاهريين الراكنين إلى إبقاء صور ألفاظ الكتاب وأوايل مفهوماتها أشبه من طريق المتأولين في صون عقائد المسلمين المكلفين بالطاعة والانقياد البدني لنيل السلامة والنجاة في النشأتين; وذلك لأن ما فهمه الظاهريون من أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد الله ومراد رسوله، وليس ما حصل للراسخين في العلم من أسرار القرآن وأغواره مناقضا لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه من قشره، وإلى روحه من قالبه كما ستعلم من حمل الكرسي على العلم كما حمله أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا هو المراد بعلم التأويل لا ما يناقض الظاهر كما ارتكبه القفال والزمخشري وغيرهما من قولهم لا كرسي ولا عرش ولا قعود ولا استواء، بل المراد تصوير وتخيل للعظمة والكبرياء إلى آخر ما قال. فإن قيل: إن كان الإيمان بالظاهر كافيا وهو قالب الحقيقة فما الفائدة في التأويل؟ قلنا فائدة التأويل دفع سورة استبعاد الناس لكثير مما ورد في الدين ومنع إنكار جماعة يرون بعض الظواهر مخالفا للواقع، لقد تأول أئمتنا (عليهم السلام) وجه الله وعين الله ويد الله والعرش والحملة لئلا يوجب تجسيم الواجب تنفير العقلاء عن الدين، ولو لم يكن التأويل مجازا لم بيق في العالم عاقل متدين قط وكفر العقلاء يوجب تزلزل العوام كما أن إيمانهم يقوي إيمانهم، فكم قد ضر بالدين من سد باب التأويل كما ضر به من وسع في فتح بابه، ولا فرق بين الحشوية المجسمة وأهل الظاهر والباطنية الملاحدة أهل التأويل في الإضرار بالدين. (ش)

الداماد:«وكيف يحمل حملة الله» بدون العرش قبل «الله» فقال: حملة بالنصب على المفعول المطلق أي كيف يحمل العرش الله حمله الذي في طوقه بالنسبة إلى محمولاته، ثم قال وفي بعض النسخ بل في كثير منها: «وكيف يحمل حملة العرش الله» وليس بذاك إذ كان السؤال أن الله سبحانه حامل العرش أم العرش حامل إياه لا أن حملة العرش حامل إياه سبحانه انتهى.

شرح أصول الكافي: 4 أقول: فيه نظر أما أولا فلأنه ليس لضمير الجمع في قلوبهم واهتدوا على النسخة التي رجحها مرجع ظاهر بل ليس للجملة الحالية معنى محصل. وأما ثانيا فلأن قوله «وليس بذاك» غير تام وما ذكره لبيانه غير سديد إذ ليس قوله (عليه السلام) «وكيف» إنكارا للسؤال الأول بل هو إنكار لما تضمنه السؤال الثاني الذي أورده السائل لإثبات التناقض في كلامه (عليه السلام) وهو أن الثمانية إذا حملوا العرش كما دل عليه الآية فقد حملوه تعالى أيضا لزعمه أنه في العرش، ولما كان بناء هذا السؤال على أمرين أحدهما أن العرش جسم والثاني أنه تعالى جالس عليه، ويلزم منهما أن من حمل العرش فقد حمله تعالى أجاب (عليه السلام) أولا بأن العرش هو العلم.

وثانيا حيث قال: وكيف بأن كونه تعالى محمولا محال وفيه إيماء إلى أن العرش على تقدير كونه جسما لا يلزم كونه تعالى جالسا عليه كما زعمه السائل وإنما إضافته إليه للتشريف كإضافة البيت والمسجد ونحوهما، والله ولي التوفيق.

* الأصل:

2 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته فأذن لي فدخل، فسأله عن الحلال والحرام ثم قال له: أفتقر أن الله محمول؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): كل محمول مفعول به، مضاف إلى غيره، محتاج، والمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة وكذلك قول القائل فوق وتحت وأعلى وأسفل، وقد قال الله: (وله الأسماء الحسنى فادعوه بها) ولم يقل في كتبه: إنه المحمول بل قال: إنه الحامل في البر والبحر والممسك السماوات والأرض أن تزولا، والمحمول ما سوى الله ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه: يا محمول، قال أبو قرة: فإنه قال: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وقال: (الذين يحملون العرش) فقال أبو الحسن (عليه السلام): العرش ليس هو الله والعرش اسم علم وقدرة، وعرش فيه كل شيء، ثم أضاف

ص:103

الحمل إلى غيره: خلق من خلقه، لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه وخلقا يسبحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه وملائكة يكتبون أعمال عباده، واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته والله على العرش استوى كما قال، والعرش ومن يحمله ومن حول العرش، والله الحامل لهم، الحافظ لهم الممسك القائم على كل نفس وفوق كل شيء وعلى كل شيء ولا يقال محمول ولا أسفل، قولا مفردا لا يوصل بشيء فيفسد اللفظ والمعنى، قال أبو قرة فتكذب بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف ورجعوا إلى مواقفهم؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه، فمتى رضي؟ وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى أتباعه كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين، سبحانه وتعالى، لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين ولم يتبدل مع المتبدلين، ومن دونه في يده وتدبيره وكلهم إليه محتاج وهو غني عمن سواه.

* الشرح:

(أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث) صاحب شبرمة وكان مذهبه أن الله تعالى جسم فوق السماء دون ما سواها (أن أدخله على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته فأذن لي فدخل فسأله عن الحلال والحرام) حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له: من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض قال (عليه السلام): إن كنت تقول بالشبر والذراع فإن الأشياء باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسلفه، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء ولا كلفة ولا مؤونة ولا مشاورة ولا نصب، وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة فأطوعهم له وأنتم تروون «أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد» ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق وأحدهم من شرق الخلق وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: من عند الله أرسلني بكذا وكذا، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل (ثم قال له: أفتقر أن الله محمول؟) لما سمع الجواب عن الأول بأن شيئا من الأشياء ليس أقرب إليه بحسب المكان أراد بهذا السؤال حمله (عليه السلام) على الإقرار بأنه تعالى محمول ليورد عليه أن هذا الإقرار مناف لذلك

ص:104

الجواب لأنه إذا كان محمولا كان بعض الأشياء أقرب إليه من بعض بالضرورة (فقال أبو الحسن (عليه السلام)) إنكارا لذلك على سبيل الاستدلال (كل محمول مفعول به) لأنك إذا قلت حملت شيئا كان ذلك الشيء مفعولا به وكل مفعول به متأثر منفعل (مضاف إلى غيره) وهو الحامل للتأثر والانفعال منه (محتاج) (1) إلى ذلك الغير في الاتصاف بالتأثر والانفعالية والمحمولية، وكل ذلك على الله محال (والمحمول) عطف على قوله كل محمول وإشارة إلى دليل آخر (اسم نقص في اللفظ) بحسب ظاهر مفهومه وصريح منطوقه فهو ليس من الصفات الكمالية (والحامل فاعل وهو في اللفظ مدحة) أي ما يمدح به من الصفات الكمالية فلو أطلق المحمول على الله سبحانه لزم إطلاق أخس طرفي النقيض عليه، وإطلاق أشرف طرفيه على خلقه وهو ممتنع (وكذلك قول القائل: فوق وتحت وأعلى وأسفل) (2) فإن التحت والأسفل نقص في اللفظ، والفوق والأعلى مدحة فلا يجوز إطلاق التحت والأسفل عله لما مر، والحاصل أن كل أمرين إضافيين وكل معنيين متقابلين يكون أحدهما أخس من الآخر لا يجوز إطلاق لفظه عليه سبحانه أصلا لا تسمية ولا وصفا، فلا يجوز أن يقال: هو محمول وتحت وأسفل ومرحوم ومغفور وأمثال ذلك، وأما إطلاق لفظ الأشرف فإن وجد له معنى صحيح له تعالى وورد الإذن مثل الحامل والفوق والأعلى صح فإنه حامل جميع الأشياء بالحفظ والعلم والإيجاد وفوقها وأعلاها بالقدرة والاستيلاء (وقد قال الله تعالى) الظاهر أنه دليل ثالث (وله الأسماء الحسنى فادعوه بها) المراد بها ما ورد الاذن بالتسمية والوصف به لا مطلق أشرف المتقابلين فإن السخي والفاضل مثلا أشرف مما يقابلهما وليسا من

ص:105


1- 1 - قوله: «مضاف إلى غيره محتاج» يشير (عليه السلام) إلى الحدوث الذاتي، والظاهر أن أبا قره لم يكن يعرف هذا المعنى قط وكان يظن أن واجب الوجود إذا كان قديما لم يناف وجوبه احتياجه إلى غيره فأبان (عليه السلام) أن نفس الاحتياج والتعلق والإضافة إلى غيره يباين ألوهيته، ووجوب وجوده، وأن المحتاج إلى غيره وإن كان قديما زمانا ليس واجب الوجود، ثم لا ريب انه كان يتصور واجب الوجود قديما زمانا لا أول له وكان يتصور العرش أيضا قديما لا أول له لعدم تصوره وجود الواجب من دون مكان له هو العرش والأمر كان دائرا بين أن يقول بوجود موجودين غير محتاجين أي واجبين أحدهما العرش والثاني الله تعالى أو باحتياج العرش إلى الواجب تعالى أو باحتياج الواجب تعالى إلى العرش، فالزمه (عليه السلام) بأن الحق هو الاحتمال الثاني وأن العرش محتاج إليه تعالى لأنه إن فرض احتياجه إلى عرشه ثبت له مع قدمه الزماني الحدوث الذاتي وهو ينافي الألوهية، وقد ذكر المتكلمون أن العالم محتاج إلى العلة لإمكانه لا لحدوثه. (ش)
2- 2 - قوله: «وكذلك قول القائل فوق وتحت» قد يكون المعنى مما يصح نسبته إلى الله تعالى واطلاقه عليه لكن يذهب ذهن السامع منه إلى نقص فلا يجوز اطلاقه لذلك ومثاله ما ذكر فإن الله تعالى في جميع الأمكنة بمعنى أن نسبته إلى جميعها نسبة واحدة فوق وتحت وأعلى وأسفل ولكن لا يجوز إطلاق التحت والأسفل عليه لأنه يلازم في ذهن الناس معنى التوهين والنقص ولذلك لا يجوز أن يقال إنه تعالى لا يبصر شيئا، ولا يسمع، ولا يدرك الجزئيات ولا يصدر عنه إلا واحد وأمثال ذلك، ويجوز أن يقال يبصر بلا عين ويسمع بلا إذن ويدرك الجزئيات بلا جارحة وأول ما خلق الله نور محمد (صلى الله عليه وآله). (ش)

أسمائه الحسنى.

(ولم يقل في كتبه إنه المحمول) فلا يجوز لأحد أن يطلق عليه هذا اللفظ لعدم الإذن مع اشتماله على النقص (بل قال: إنه الحامل في البر والبحر والممسك السماوات والأرض أن تزولا) ليس المراد بالحمل والإمساك المعنى المعروف فينا لتعاليه عنه، بل المراد بهما الحفظ بمجرد إرادته النافذة والإمساك بمساك قدرته الكاملة (والمحمول ما سوى الله) أي كل شيء سواه محمول لا هو أو كل محمول سواه (ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه: يا محمول) الظاهر أنه دليل رابع وفيه تعريض لمن قال: هو محمول، أنه ليس بمؤمن.

(قال أبو قرة فإنه قال: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وقال: (الذين يحملون العرش) تمسك بهاتين الآيتين على سبيل المعارضة لزعمه أن فيهما دلالة على أنه محمول باعتبار أن العرش جسم وهو جالس عليه فمن حمل العرش فقد حمله أيضا.

(فقال أبو الحسن (عليه السلام): العرش ليس هو الله، والعرش اسم علم وقدرة، وعرش فيه كل شيء) (1) يعني أن الآية لا تدل على أنه تعالى محمول وإنما تدل على أن العرش محمول، والعرش ليس هو الله بل العرش اسم علم محيط بجميع الأشياء واسم قدرة نافذة فيها واسم جسم فيه كل شيء وهو الفلك الأعظم، وعلى شيء من هذه المعاني لا يلزم أن يكون - تعالى شأنه - محمولا. أما على الأولين فظاهر وأما على الأخير فلأن إضافة العرش إليه سبحانه ليست لأجل افتقاره إليه وجلوسه عليه بل لأجل التعظيم والتشريف، وإنما نفى أن العرش هو الله مع أن المعارض لم يدع ذلك حسما لمادة النزاع بالكلية (ثم أضاف الحمل إلى غيره) أضاف إما بكسر الهمزة على أنه مصدر مبتدأ مضاف بحذف التاء لقيام المضاف إليه مقامها مع ثقل الإضافة كما في إقام الصلاة، أو بفتحها على أنه فعل فقوله (خلق من خلقه) على الأول مرفوع على أنه خبر، والخلق بمعنى التقدير، يعني إضافة حمل العرش إلى غيره تقدير من تقديراته، وعلى الثاني مجرور على أنه بدل لغيره والخلق بمعنى المخلوق يعني

ص:106


1- 1 - قوله: «وعرش فيه كل شيء» والحاصل أن للعرش معنيين. الأول: العلم والقدرة، والثاني: عرش فيه كل شئ وقوله «كل شيء» إما أن يعني به كل شيء جسماني فينطبق على محدد الجهات أعني الجسم المحيط بالكل، وقد بين كون الأبعاد محدودة ومر في المجلد الثالث. وأما أن يعني به كل موجود جسماني أو مجرد فيشمل عامة الممكنات وينطبق على الوجود الساري وهو بعينه العلم والقدرة باعتبار، وقد سبق في كلام الشارح تفسير الصدوق رحمه الله للعرش، وإن حملنا العرش على محدد الجهات لا يجب كون حملته أجساما مادية بل يصح نسبة حمله إلى الملائكة أيضا فإنهم يحملون الأجسام بالحفظ والإمساك والتدبير ووساطة العلية. (ش)

أضاف حمله إلى غيره الذي هو مخلوق من مخلوقاته (لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه) ضمير الجمع يعود إلى خلقه لأنه جنس يصدق على الكثير يعني أن المراد بالعرش العلم وهم حملة علمه أحاطوا بإذن الله تعالى علما بما في السماوات والأرض وما بينهما وبكل شيء يليق به سبحانه (وخلقا يسبحون حول عرشه) خلقا عطف على «خلقه» يعني استعبد خلقا بأن يسبحوا حول عرشه كما قال (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) وقال: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) أي يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الكمال ونعوت الجلال (وهم يعملون بعلمه) ضمير الجمع يعود إلى خلقه وخلقا جميعا أي حملة العرش ومن حوله يعملون بمقتضى علمه ولا يخالفونه طرفة عين (وملائكة يكتبون أعمال عباده) ملائكة بالنصب عطفا على خلقا أي: استعبد ملائكة يكتبون أعمال عباده كلها صغيرة كانت أو كبيرة خيرا كانت أو شرا ليكون شاهدا لهم وعليهم يوم القيامة (واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته) كما استعبد خلقا يسبحون حول عرشه، وإنما ذكر الطواف وحده مع أن عليهم عبادات كثيرة، لأن الطواف من أعظم العبادات المالية والبدنية جميعا.

وفي هذا الكلام إشارة إلى أن تفويض حمل العرش إلى غيره لا يخرجه عن التصرف في ملكه بل هو تدبير من تدبيراته وتقدير من تقديراته لأنه تعالى خلق أنواعا من الخلق واستعبد كل نوع بما يليق به من العبادة وهو حافظ رقيب عليهم يساوي نسبته إلى الجميع ونسبة الجميع إليه كما أشار إليه بقوله (والله على العرش) أي مستول عليه بالقدرة والحفظ (استوى كما قال) أي استوى على كل شيء بحيث لا يكون شيء من الأشياء أقرب إليه من شيء آخر كما قال: (الرحمن على العرش استوى) وقال ذلك في مواضع عديدة من القرآن الكريم.

(والعرش ومن يحمله ومن حول العرش) أي سواء في نسبتهم إليه سبحانه ونسبته إليهم بالحفظ والمراقبة فقوله «والعرش» وما عطف عليه مبتدأ خبره محذوف وهو «سواء» بقرينة السابق واللاحق وعطفه على الأرض بمعنى استعبدهم أيضا محتمل (والله الحامل لهم) بالعلم والإحاطة (الحافظ لهم) من المهالك والمعاطب والجهالة بالنصر والتوفيق والإعانة.

(الممسك) لهم عن الفناء والزوال والرجوع إلى ما يناسب طبيعة الإمكان من الفساد والبطلان.

(القائم على كل نفس) بالتدبير لأحوالها والحفظ لأعمالها والرعاية لحركاتها وسكناتها والعلم بقصودها ونياتها (وفوق كل شيء وعلى كل شيء) فوقية عقلية لا حسية وعلوا على الإطلاق لا

ص:107

إضافيا، وذلك أن أعلى مراتب الكمال هو مرتبة العلية، ولما كانت - تعالى شأنه - مبدأ كل شيء حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور النقصان فيها بوجه، لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية مطلقا، وله الفوق المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء دون شيء وعن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه أو في مرتبته ما يساويه، فهو المتفرد بالفوقية المطلقة والعلو المطلق ولا يلحقه غيره فيهما (ولا يقال: محمول ولا أسفل قولا مفردا لا يوصل بشيء) أي لا يوصل ذلك القول بشيء يكون قرينة صارفة له عن المعنى المعروف إلى معنى صحيح له تعالى فقوله: «لا يوصل» صفة مبينة لقوله «قولا مفردا».

(فيفسد اللفظ والمعنى) أما فساد اللفظ فلأن هذا اللفظ اسم نقص فالله بريء عن النقائص كلها لا يمدح به، وأما فساد المعنى فلأن معنى هذا اللفظ المجرد عن القرينة يوجب مفعوليته وتأثره عن الغير وافتقاره إليه وكون الشيء أعلى منه، وكل ذلك فاسد محال في حق الغني العالي على الإطلاق.

فإن قلت: هل يجوز ذلك القول عند القرينة كما يشعر به التقييد المذكور أم لا؟ قلت: لا، لبقاء الفساد اللفظي بحاله ففيه سوء أدب مع عدم ورود الإذن به، وهذا كما قالت طائفة من المبتدعة: هو جسم، وقالت طائفة أخرى: هو صورة، فلما أورد أهل الحق عليهم بأن هذا القول يوجب تماثله بخلقه وقد قال الله تعالى (ليس كمثله شيء) قالوا: جسم لا كسائر الأجسام وصورة لا كسائر الصور، وبهذا القيد يزول التشابه والتماثل بينه وبين خلقه، وهذا كما تقولون: هو شيء لا كسائر الأشياء، وأجاب المانعون بأن لفظ الجسم والصورة يشعر بالتركيب والحدوث، ففيه نقص لفظي لا يليق بجناب الحق بخلاف الشيء فإنه لا يشعر بشيء منهما، وقد ورد الإذن به مطلقا فكيف مقيدا فالقياس قياس مع الفارق.

فإن قلت: إذا لم يجز ذلك القول عند القرينة أيضا فلم قيد (عليه السلام) عدم جوازه بالإفراد وما فائدة هذا القيد؟ قلت: فائدته هي التنبيه على تحقق الفساد فيه من وجهين، والرد على السائل وإبطال مذهبه فإنه ذهب إلى جواز إطلاق المحمول عليه سبحانه مطلقا كما يشعر به صريح كلامه لا الإشارة إلى جوازه عند القرينة هذا، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يقال محمول ولا أسفل قولا واحدا لا خلاف فيه عند أهل الإيمان وحينئذ قوله «لا يوصل بشيء» استيناف كأنه قيل: هل يوصل ذلك اللفظ بشيء يكون قرينة لمعنى صحيح؟ فقال: لا يوصل بشيء يعني لا يجوز إطلاقه عليه سبحانه

ص:108

مع القرينة أيضا فحينئذ لا يرد السؤال المذكور إلا أن التفريع ينافي هذا الاحتمال نظر إلى الظاهر وإن أمكن دفعه بأن التفريع متعلق بالأول ويفهم منه عدم صحة الثاني أيضا لفساد اللفظ.

(قال أبو قرة) إنكارا لما ذكره (عليه السلام) تمسكا بالرواية المزخرفة عندهم (فتكذب) استفهام على سبيل الإنكار بحذف أداته (بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه، أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم) الكاهل كصاحب الخلف أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى (فيخرون سجدا فإذا ذهب الغضب خف) أي خف الله وخف بخفته العرش (ورجعوا إلى مواقفهم) زعم أن العرش جسم كالسرير، وأن الله تعالى جالس فيه، وأنه يعرضه الغضب من جهة عصيان العباد فيوجب ثقله، وأنه تعالى ينتقل من الخفة إلى الثقل ومن الثقل إلى الخفة (فقال أبو الحسن (عليه السلام)) تعريضا بكذب تلك الرواية للتصريح بفساد مضمونها (أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه فمتى رضي؟) وخف ورجع الحملة إلى مواقفهم، والاستفهام للإنكار (وهو في صفتك) الواو للحال أي والحال أنه تعالى في وصفك إياه (لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى أتباعه) وغضبه سبب لثقله كما زعمت، ووجود السبب مستلزم لوجود المسبب فيكون هو ثقيلا دائما (كيف تجترئ) (1) الاجتراء: الإقدام على الشيء من غير مبالاة، والاستفهام للتوبيخ (أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال) مثل التغير من الخفة إلى الثقل ومن الثقل إلى الخفة (وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين) من الغضب والثقل والحركة التابعة لهما (سبحانه وتعالى لم يزل مع الزايلين ولم يتغير مع المتغيرين ولم يتبدل مع المتبدلين) أي لم يتصف بالزوال والفناء ليكون مع الزايلين ومن جنسهم ولا بالتغير من الكيفيات الجسمانية ليكون مع المتغيرين فيها ولا بالتبدل من الوصف اللائق به إلى آخر ليكون مع المتبدلين في الأوصاف بل هو باق لا يطرأ عليه الزوال والفناء وثابت لا يعرضه التغير والفناء، وحق لا يتصف بالتبدل والرجاء ف «مع» في المواضع الثلاثة مع مدخولها في محل النصب على أنه حال

ص:109


1- 1 - قوله: «كيف تجترئ أن تصف ربك» والظاهر أن أبا قرة كان من المحدثين الذين لا يراعون في التمسك بالأحاديث المروية عدم مخالفتها للقرائن العقلية والنقلية اليقينية بل لا يبالون بمخالفة القرآن أيضا فنبهه (عليه السلام) على أن الرواية إذا كانت مخالفة للعقل الصريح لم يجز قبولها والتمسك بها، وهذه كما ترى تباين ما علم ضرورة من القرآن أن الله تعالى غضب على إبليس ولن يرضى عنه قط فيلزم كون العرش ثقيلا دائما لم يخف في زمان أصلا، وأيضا تخالف العقل الحاكم بأن محل الحوادث حادث وأن واجب الوجود لا يتغير عن حال إلى غيرها، ولو كان أبو قرة من حشوية المتأخرين لتحكم بأن العقل لا عبرة به في مقابل أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وأن ملفقات العقول أوهام وشبهات لا يعارض بها الوحي الثابت من المعصوم وأن ظاهر القرآن ليس بحجة لأنا لا نفهمه. (ش)

عن الفاعل وقيد للمنفي، ثم أشار إلى أن كونه على العرش عبارة عن جريان قدرته عليه ونفاد تدبيره فيه وإلى أنه لا يحتاج في نفاذ حكمه إلى الغضب بالمعنى المعروف وما يتبعه من الثقل والتغير والحركة; لأن ذلك من صفات الناقصين في القدرة والتدبير بقوله (ومن دونه في يده وتدبيره) (1) أي مقهورون في قدرته وتقديره ومغلوبون في إرادته وتدبيره، وتصرفه فيهم جار على حسب الحكمة، وأمره فيهم ماض على وفق المصلحة فإن شاء عذبهم وليس له دافع وإن شاء غفر لهم وليس له مانع، وذلك معنى غضبه ورحمته (وكلهم إليه محتاج) لاستناد جميع الآثار إليه، إذ كل أثر فهو عن مؤثره والكل منته في سلسلة الحاجة إليه، وإفراد الخبر باعتبار لفظ الكل (وهو غني عمن سواه) كما قال: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

وفي كتاب الاحتجاج: «قال صفوان فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا حتى قام وخرج».

* الأصل:

ص:110


1- 1 - قوله: «من دونه في يده وتدبيره» هذا مطلب مستقل بنفسه ويمكن أن يجعل دليلا على عدم تطرق التغير إلى ذاته تعالى وذلك لأنه تعالى كامل مطلقا ولا يجوز فقده لصفات الكمال في حال والتغير إن كان من نقص إلى كمال دل على النقص السابق، وإن كان من كمال إلى نقص دل على النقص اللاحق، ولا يتحقق التغير إلا بفقدان شيء حاصل أو وجدان شيء غير حاصل، وإذا كان كل شيء في يده وتدبيره لم يتصور تأثره وانفعاله عن شيء أبدا. وأما كون كل شيء في يده وتدبيره فلأن الممكن وجوده زائد عليه ويحتمل الوجود والعدم ولذلك لا نحكم بوجود ماهية نتصورها إلا بدليل، فإذا قيل لك إن في الموضع الفلاني جسما عظيما أو صغيرا لا تصدق به من غير دليل، ولو كان الوجود غير زائد عليه لم تشك فيه ومع ذلك فقد أقاموا الدليل على كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة وأن الصورة محتاجة إلى الهيولى، والهيولى محتاجة إلى الصورة فالجسم متعلق الوجود بأجزائه لكونه مركبا وكل واحد من أجزائه محتاج إلى الآخر فلا يتعقل وجود الجسم إلا بأن يكون موجود مفارق من الملائكة أو العقول هو علة لوجود الهيولي والصورة ولتركيب الجسم وتأليفه منهما وتعلق الجسم بذلك الموجود المفارق نظير تعلق النور بالسراج لا يتعقل له وجود مع فرض عدم ذلك المفارق كما لا يتصور مع عدم الهيولى والصورة والمفارق يقيم الهيولى بالصورة والصورة في يده وتدبيره كما أن الهيولى في يده وتدبيره، وأما قدماء الطبيعيين والماديين المنكرون لوجود المبدأ الأول فقد التزموا بعدم وجود الهيولى والصورة وبأن هذه الأجسام التي نراها ليست ذات اتصال بل هي مركبات اعتبارية يتراءى في النظر من اجتماع ذرات صغيرة لا يتجزى، وعلى هذا فلا يعقل تعلقها بعلة مفارقة أما الذرات الصغار فكانت عندهم قديمة ذاتا وغير مخلوقة وأما الجسم المركب منها فشئ اعتباري كالحجر الموضوع بجنب الإنسان، وإذا لم يكن الجسم باتصاله موجودا حقيقيا فلا يبحث عن تركبه ولذلك يصعب على الموحدين والإلهين إثبات المبدأ الأول لهم، فالقول بالجزء الذي لا يتجزى من شعار الملاحدة ولوازم مذهبهم وإن أخذه بعض المتكلمين منهم لغفلتهم عن اللوازم الفاسدة التي يلزمهم وزعموا أن القول بالجزء لا ينافي إثبات المبدأ الأعلى، والحق أنه ينافي تصور تعلق الأجسام بفاعل; ولذلك لا يتعقلون فناءها. أما أهل عصرنا فأكثرهم على أن الجسم وهيئته الاتصالية شيء يتمثل في الحس المشترك من الحركة السريعة لقوى ذات وضع غير جسمانية كما يتمثل الدائرة النارية من حركة الشعلة الجوالة والسطح المستوى من حركة خشبة سريعة ويسمون القوى المتحركة ألكترون ونوترون، وعليه فيسهل أيضا تصور التعلق والمعلولية للأجسام وتطرق الفناء إليها، إذ لا ريب أن هذه القوى نظير الكهربائية والنور والحرارة تفنى وليس الجسم إلا مظهرا لحركة هذه القوى يفنى بفنائها ويتعلق بالمبدأ بتعلق القوى به تعالى (ش).

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل وعز: (وسع كرسيه السماوات والأرض) فقال: يا فضيل كل شيء في الكرسي السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي.

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) يعني سألت عن المراد منه (فقال: يا فضيل كل شيء في الكرسي) والكرسي محيط به (السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي) السماوات وما عطف عليها مبتدأ، وقوله «في الكرسي» خبره، وهذه الجملة بيان أو تأكيد لقوله «كل شيء في الكرسي» ويفهم منه أن العرش أيضا في الكرسي، وهذا ينافي الروايات الدالة على أن العرش أعظم من الكرسي وقد ذكرنا بعضها آنفا.

والجواب أن الكرسي هنا تصوير لعظمته (1) تعالى وتخييل لها بتمثيل حسي، أو المراد به علمه المحيط بجميع الأشياء أو ملكه وسلطنته، والعرش بمعنى الجسم المحيط داخل في الكرسي بهذه المعاني وليس المراد به فلك البروج كما زعم، على أنه لو كان هذا لأمكن أن يقال المراد بالسماوات السبع وبكل شيء كل شيء فيها، فلا منافاة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة [بن ميمون] عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل وعز: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش وكل شيء وسع الكرسي.

ص:111


1- 1 - قوله: «والجواب أن الكرسي هنا تصوير لعظمته» وحاصل الجواب أن العرش والكرسي لو كانا كلاهما جسمين نافى كون كل واحد منهما أعظم من الآخر، وأما لو لم يكونا كذلك جاز نسبة الأعظمية إلى كل منهما باعتبار. وقال صدر المتألهين كون العرش في الكرسي لا ينافي كون الكرسي في العرش; لأن أحد الكونين بنحو والآخر بنحو آخر، فكون الكرسي في العرش كون عقلي إجمالى على وجه أعلى وأشرف من كونه في نفسه، وكون العرش في الكرسي كون بصورة نفسانية تفصيلية، انتهى. أقول: تارة يقال الإنسان أعظم من الأفلاك والكواكب أي بعقله، وأخرى أن الأفلاك أعظم منه أي بجسمه فإن كان الكرسي علما والعرش جسما كان الكرسي أعظم وإن كانا كلاهما علما فمراتب العلم مختلفة. (ش)

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: بل الكرسي وسع السماوات والأرض) سأل زرارة عن ذلك لعدم علمه بأن كرسيه مرفوع على الفاعلية بناء على أن القرآن الذي رآه لم يكن معربا أو سأل عنه مع علمه بذلك طلبا لتصحيح رفعه في الواقع وميلا لمعرفة كونه فاعلا في نفس الأمر، إذ الاعراب لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما نشأ بعده فلعلهم أخطأوا في رفعه فأزال (عليه السلام) شبهته بأن رفعه صحيح وأنه فاعل في نفس الأمر.

وبما ذكرنا لا حاجة إلى ما قيل من أن سؤاله على قراءة إسماعيل (وسع كرسيه) بضم الواو وسكون السين من باب إضافة المصدر فكأنه قال: إضافته إلى الفاعل أو إلى المفعول وإلا فزرارة أرفع شأنا (1) وأجل قدرا من أن يسأل عن معنى الآية الكريمة على تقدير رفع كرسيه على الفاعلية، وقد نقل هذا التوجيه أيضا عن الشيخ العارف بهاء الملة والدين قال: إني لما قرأت هذا الخبر على والدي - قدس الله روحه - سألته أن زرارة مع علو شأنه وعلمه بمسائل النحو كيف يجوز عليه مثل هذا السؤال الذي لا يخفى على آحاد الطلبة إذ القراء اتفقوا على رفع كرسيه ونصب السماوات والأرض وحينئذ لا مجال لهذا السؤال، فأجاب رحمه الله: أن بناء السؤال على قراءة (وسع) بضم الواو وسكون السين مصدرا مضافا، وعلى هذا يتجه السؤال وإني تصفحت كتب التجويد فما ظفرت على هذه القراءة إلا في هذه الأيام رأيت كتابا في هذا العلم مكتوبا بالخط الكوفي هذه القراءة وكان نسخة الأصل.

(والعرش وكل شيء وسع الكرسي) الظاهر أن العرش منصوب عطفا على السماوات، و «كل شيء» مرفوع على الابتداء، والجملة الفعلية بعده خبره بحذف العائد المفعول أي كل شيء وسعه الكرسي، والسؤال بالمنافاة يجاب بمثل ما مر. وأما رفع العرش بالابتداء ونصب الكرسي بالمفعولية وعطف «كل شيء» على الكرسي وجعل الجملة الفعلية خبرا فبعيد جدا مع امتناع تقديم المعطوف على المعطوف عليه إلا في ضرورة الشعر كما بين في علم العربية، وكذا رفع

ص:112


1- 1 - قوله: «فزرارة أرفع شأنا» لعل زرارة اشتبه الأمر عليه من جهة المعنى لا من جهة دلالة اللفظ فسأل الإمام (عليه السلام) عما يرفع شبهته. بيانه أنه لما نظر في الآية وفهم منها أن الكرسي أعظم من السماوات والأرض وكان في نظره أن الكرسي بعض أجزاء العالم ولا يمكن أن يكون الجزء أعظم من الكل ولم يهتد لوجه التخلص عن الشبهة سأل الإمام (عليه السلام) عن ذلك، وإن ظاهر القرآن يدل على أعظمية الكرسي فكيف يكون ذلك مع أن الكرسي يجب أن يكون أصغر. (ش)

العرش بالابتداء وعطف كل شيء بحذف العائد إليه ونصب الكرسي، وجعل الجملة خبرا يعني العرش وكل شيء منه مثل الأجزاء والدوائر الموهومة وسع الكرسي كما قيل بعيد أيضا مع أن السؤال لم يتعلق بالعرش وشموله.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: إن كل شيء في الكرسي.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والأرض؟ فقال: إن كل شيء في الكرسي (1)) العموم باق بحاله لما عرفت.

* الأصل:

6 - محمد [بن يحيى]، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حملة العرش - والعرش العلم - ثمانية: أربعة منا وأربعة ممن شاء الله.

* الشرح:

(محمد، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حملة العرش، والعرش العلم، (2)

ص:113


1- 1 - قوله: «فقال إن كل شيء في الكرسي» في كلام الإمام (عليه السلام) في الرواية السابقة زيادة على ما في هذه الرواية، وكلاهما نقل زرارة ويختلف الراوي عنه ففي الأولى ثعلبة وفي الثانية عبد الله بن بكير وقلنا سابقا في المجلد الثاني أن مثل هذا الاختلاف غير عزيز في الروايات. (ش)
2- 2 - قوله: «حملة العرش والعرش العلم» روى في حملة العرش في تفسير قوله تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) أقول وورد ذكر الحملة في نهج البلاغة وفي الصحيفة السجادية وأنهم ملائكة بالصفات المذكورة فيها، وعن الحسن: الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله، وروي أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر، وقد مر. وفي رواية: أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون، وروي ثمانية أملاك على صورة أوعال ما بين أظلافها إلى ركبتها مسيرة سبعين عاما. وهذه الروايات تدل على تجردهم من المادة الجسمانية ويتشكلون بالتمثيل كما قال الله تعالى (فتمثل لها بشرا سويا) ولا ريب أن المجرد يمكن أن يتمثل أي يتشكل بأشكال مختلفة، ولو لم نقل بتجردهم لم نقدر على تفسير هذه الروايات والجمع بينها، ولو كانوا أجساما كأجسامنا لم يتعقل كون أرجلهم في تخوم إلا بالخرق أو مداخلة جسمهم في سائر الأجسام وأن يكون في تركيب كل جسم سوى العناصر جزء من عنصر الملائكة، ولا يبعد أن يلتزم بذلك أهل الظاهر لكن المتعمق البصير إذا نظر بنظر الدراية في الروايات التي وردت في حال الملائكة علم أن صفاتهم وحالاتهم لا تجتمع مع كونهم أجساما مادية فهم من الجواهر المجردة قطعا أصلا وإن تمثلوا في صورة الأجسام، والجوهر المجرد بالتقسيم الحاصر بين النفي والإثبات أما عقل أو نفس إذ لا يخلو إما أن يكون له تعلق بجسم بوجه ما أو لا ولا واسطة; ولذلك فهم العقول أو النفوس وإن تأبيت عن التسمية فما شئت فسمه ولكن المعنى ما ذكر، وأما من قال: إنهم المثل النورية المعلقة لكل نوع فيرجع إلى تجردهم أيضا ومن قال إنهم أربعة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فلأنهم مظاهر العقول المجردة في عالمنا هذا ويجري حكم المظهر على الظاهر وبالعكس تقول للمصحف: هذا كلام الله تعالى وللصورة المنقوشة هذا أبي، وفي عدد الأربعة سر لا نعلمه وفي تكريرها في القيامة سر آخر والذي لا نشك فيه أن كل شيء في عالمنا الجسماني ظل لما في ذلك العالم، والغالب على أشكال المصنوعات المربع المطلق أو المستطيل فكأن بين نظم الصنع والتربيع مناسبة وارتباطا، وهذا التربيع ظل لتربيع أركان العرش وحملته، والملائكة المقربين أربعة والقوى العملية في الإنسان أربع وللقوى النظرية أربع مراتب، والأخلاط عن الأطباء أربعة، والأركان كذلك وفصول السنة أربعة إلا في خط الاستواء فثمانية وألوان أنوار العرش أربعة كما مر. فإن قيل هل يمكن أن ينسب حمل العرش على أنه جسم إلى الملائكة؟ قلنا لا يجب أن يكون حامل العرش الجسماني موجودا جسمانيا ماديا بل يمكن نسبة حمل الجسم إلى المجرد. (ش)

ثمانية، أربعة منا) محمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين (وأربعة ممن شاء الله) من السابقين وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وآله وعليهم الصلاة والسلام.

هذا التفسير مما جاءت به الروايات وصرح به بعض الأصحاب، وقيل: المراد بالأربعة الأولى محمد وعلي والحسن والحسين أو علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، وبالأربعة الثانية سلمان والمقداد وعمار بن ياسر وأبو ذر - رضي الله عنهم - هذا كلامه ولم يذكر مستندا لذلك.

* الأصل:

7 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن كثير، عن داود الرقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وكان عرشه على الماء) فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: إن العرش كان على الماء والرب فوقه:

فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه.

قلت: بين لي جعلت فداك.

فقال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو أنس أو شمس أو قمر، فلما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم: من ربكم؟ فأول من نطق، رسول

ص:114

الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة صلوات الله عليهم فقالوا: أنت ربنا، فحملهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون، ثم قال لبني آدم: أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة، فقالوا: نعم ربنا أقررنا، فقال الله للملائكة: اشهدوا، فقالت الملائكة: شهدنا على أن لا يقولوا غدا: إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون. يا داود، ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق.

* الشرح:

(محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن كثير، عن داود البرقي:

قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وكان عرشه على الماء) (1) فقال: ما يقولون؟ قلت: يقولون: إن العرش كان على الماء) أي على متن الماء قبل الأرض والسماء، وقيل: معناه أنه كان فوق الماء محاذيا له لم يكن بينهما حائل لا أنه كان موضوعا على متنه، واستدلوا بذلك على أن الماء أول حادث من أجرام هذا العالم وقيل: كان الريح أول حادث وكان الماء على متنه، أقول: ما قالوا من أن الماء أول حادث دل عليه ما رواه المصنف في كتاب الروضة بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: «ولكنه يعني الله تعالى كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، وخلق الريح من الماء» وهذا كما ترى دل أيضا على بطلان قول من

ص:115


1- 1 - قوله: «كان عرشه على الماء» نقل صدر المتألهين عن بعض العلماء تشبيها بديعا حاصله أن أعظم المخلوقات مهابة وجلالة المكان والزمان، أما المكان فهو الفضاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل في ظلمات عالم الأبد، فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ووسع الزمان أولا وآخرا، وإذا كان المدبر للزمان والمكان هو الله سبحانه كان منزها عن المكان والزمان، إذ عرفت هذا فنقول: الحق سبحانه له عرش وله كرسي فعقد الزمان بالعرش فقال (وكان عرشه على الماء) لأن جرى الزمان يشبه جرى الماء وعقد المكان بالكرسي; لأن مكانه أعلى الأمكنة وأوسعها والعرش لا مكان له فالعلو صفة الكرسي والعظمة صفة العرش انتهى. وفي تفسير المنار تأويل الماء بالمادة السائلة التي يعتقد أهل عصرنا أن تكون الكواكب والشموس والأرض كان منها باعتقادهم وهي مسماة عندهم بالسديم ومعنى كون عرشه على الماء أن تدبيره وملكه يجرى على الأشياء وكلامه مبنى على أن الفضاء غير متناه ولا يتصور إحاطة جسم واحد بكل ما في العالم، وقد ذكرنا الأدلة على التناهي سواء قلنا بالهيئة الجديدة أو القديمة، وقلنا: إن الحكم بعدم تناهي الفضاء من غير أن نحس به أو يدل عليه دليل أما تخرص على الغيب أو حكم بكون المكان واجب الوجود ذاتا غير مخلوق، وأقرب من هذا التأويل تشبيه الوجود المنبسط الساري وهو الإضافة الاشراقية بين المبدأ والممكنات بالماء، ولعله ألصق بكلام الإمام (عليه السلام) أيضا. (ش)

قال: الريح أول حادث قبل الماء (والرب فوقه) كما أن الملك فوق عرشه، أقول: هذا مذهب طائفة من العامة وأما أكثرهم فقد حملوا العرش على المعنى المعروف ولكن نزهوه تعالى عن أن يكون فوقه جالسا عليه مفتقرا إليه وقالوا: إنما إضافته إليه كإضافة البيت ونحوه إليه (فقال كذبوا) على الله حيث فسروا كلامه بآرائهم وحملوه على خلاف ما أراد منه، ثم بين كذبهم بقوله (من زعم هذا فقد صير الله محمولا) يحمله عرشه (ووصفه بصفة المخلوق) المفتقر إلى محل يعتمد عليه (ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه) وإنما غير الأسلوب. وقال: لزمه، لأن ذلك ليس مذهبه وإنما لزمه من حيث لا يعلم لأنه إذا اعتقد أنه محمول لزمه بالضرورة أن يكون حامله أقوى منه (قلت بين لي) ما هو المقصود من الآية (جعلت فداك فقال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء) أي حمل الماء عبادته وطاعته أو سلطانه ومعرفته وعلمه بحقايق الأشياء وخواصها وآثارها وكمياتها ومقاديرها وكلياتها وجزئياتها على ما هي عليه في نفس الأمر (قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو إنس أو شمس أو قمر) لا يبعد أن يقال: تحميل ذلك على الماء باعتبار أن فيه جزءا ماديا لمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وقال بعض المحققين: المراد بالماء هنا العقل القدسي (1) الذي هو حامل عرش المعرفة (فلما أراد أن يخلق الخلق) لعل المراد بالخلق ذوو العقول الدراكة مثل الملائكة والجن والإنس، وحمله على العموم بحيث يشمل الناطق والصامت والمتحرك والجامد أيضا محتمل إذ كل صامت وجامد بحسب الظاهر فهو ناطق بحسب الباطن بلسان الحال بل بلسان المقال كما يرشد إليه قوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) وقوله تعالى (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) ويرشد إليه أيضا نطق الكعبة والنملة والحصى وغير ذلك (نثرهم بين يديه) وذلك بأن قبض قبضة من تراب خلق منها آدم (عليه السلام) فصب عليها الماء العذب الفرات ونظر إليها بعين الرحمة أربعين صباحا ثم صب عليها الماء المالح الأجاج ونظر إليها بعين الغضب وقد سبقت رحمته غضبه فتركها أربعين صباحا فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله على صور ومثال وتحركوا بين يديه على هيئة شبح وظلال فأخذ منهم الميثاق ثم قال: كونوا طينا فصاروا طينا كما كانوا، ثم خلق منه آدم ومن ثم يخرج منه

ص:116


1- 1 - قوله: «العقل القدسي» لأن نسبة العبادة والعلم إلى الماء المعروف تكلف لا يتسق مع ألفاظ الحديث. (ش)

أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وقيل: المراد بنثرهم نثر ماهياتهم وحقايقهم وإنياتهم بين يدي علمه ونطقهم بعد السؤال الراجع إلى مجرد نفاذ القدرة وجريان الإرادة نطقهم بألسنة قابليات جواهرها واستعداد ذواتها (فقال لهم من ربكم فأول من نطق (1) رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) فقالوا أنت ربنا) فهم السابقون الأولون في الإيمان بالله. وقد سئل (صلى الله عليه وآله) بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ فكنت أول من قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل. والنطق محمول على الحقيقة على ما قلنا وعلى الاستعداد الفطري بلسان طباع الإمكان الذاتي على ما قيل.

وقال القاضي في تفسير قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست ربكم): إنه أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:

(ألست بربكم قالوا بلى) فنزل تمكينهم من العلم وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل، وعلى هذين القولين لم يكن هناك سؤال وجواب في الحقيقة والله أعلم.

(فحملهم العلم والدين) إما بانتقالهما من الماء إليهم أو بطريق تحميل المثل من غير انتقال والله أعلم.

(ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي) لا يزيدون ولا ينقصون ولا يفترون فيما يؤمرون ويحفظون نظام الخلائق وكمالهم وما به يتم أمر معاشهم ومعادهم. والغرض من هذا القول هو الإعلام بعلو منزلتهم والحث على تعظيمهم وتكريمهم والثناء عليهم (وهم المسؤولون) يوم القيامة عن أداء الأمانة وحفظها وطاعة الخلق وعصيانهم فيشهدون لهم وعليهم على وفق ما علموا وشاهدوا منهم.

(ثم قال) الظاهر بلا واسطة (لبني آدم أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة) جمع بين الإقرارين للتنبيه على أن بينهما تلازما وأن أحدهما لا ينفع بدون الآخر (فقالوا: نعم ربنا أقررنا) الظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان المقال لا بمجرد لسان الحال أجمعين، فيفيد عموم الإقرار ووجوده في جميع الخلق، وهذا ينافي ما يجيء في باب طينة المؤمن والكافر عن أبي جعفر (عليه السلام) «أن الله

ص:116


1- 1 - قوله: «فأول من نطق» سيأتي شرح عالم الذر والطينة في محله إن شاء الله. (ش)

تعالى دعاهم عند أخذ الميثاق إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها لله من أحب وأنكرها من أبغض» وقوله: (وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) «كان التكذيب ثم» ويمكن رفع المنافاة بحمل الإقرار هنا على التخصيص كما يقتضيه القاعدة الأصولية.

(فقال الله للملائكة اشهدوا) على إقرارهم، والإشهاد إنما هو لإجراء الأمور الأخروية على ما يقتضيه الحكمة الإلهية في الأمور الدنيوية من إثبات الحق بالشاهد وإلا فالله سبحانه كان شاهدا وكفى به شهيدا، وإنما أشهد الملائكة دون النبي والأئمة (عليهم السلام) لأن الحق كان لهم فلا بد لهم الشاهد من غيرهم.

(فقالت الملائكة شهدنا على أن لا يقولوا غدا) أي يوم القيامة عند مشاهدة سوء العاقبة ووخامة الإنكار (إنا كنا عن هذا غافلين) لم نسمعه ولم ينبهنا به أحد (أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) فأتبعنا آثارهم واقتفينا أطوارهم، وفي بعض النسخ: «وكنا ذرية ضعفاء من بعدهم» (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي بما فعل آباؤنا وأسس كبراؤنا من قوانين الشرك والضلال وأتبعناهم تقليدا للظن بأنهم كانوا على الحق وفيه قطع لعذرهم وذم لتقليدهم فإنه - تعالى شأنه - إذا أخذ الميثاق منهم أولا وأعطاهم العقل الفارق بين الحق والباطل ثانيا، وأرسل إليهم الرسول ثالثا، ونصب لهم دلائل التوحيد رابعا، وذكرهم بالميثاق خامسا لم يبق لهم معذرة في الشرك تقليدا للآباء والكبراء ولا حجة في ترك التمسك بذيل الهداة والأمناء (يا داود ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق) حين بعثهم في الظلال وأخرجهم على هيئة الصور والمثال ثم نسيها من نسيها لتوغله في ظلمة الطبائع البشرية، أو أنكرها من أنكرها لميله إلى الرياسة الظاهرة الفانية فأنكر العهد المأخوذ عليهم باطنا والنص النبوي المؤكد له ظاهرا.

ص:118

باب الروح

اشاره

الغرض من هذا الباب هو بيان أن الروح ليس هو الله سبحانه كما زعمه طائفة من أهل الضلال.

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الأحول قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الروح التي في آدم (عليه السلام) قوله: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) قال: هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الأحول قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الروح التي في آدم (عليه السلام) قوله) قوله مجرور بدلا عن الروح أو عن آدم.

(فإذا سويته) أي أكملت خلقته وعدلت هيئته بحيث صار قابلا لنفخ الروح فيه (ونفخت فيه من روحي) الروح بالضم يذكر ويؤنث، والمطلوب من هذا السؤال (1) هو معرفة أن الروح قديم واجب كما زعم أو حادث غير واجب لا معرفة معنى الإضافة والنفخ فإن المتضمن لهما هو الأحاديث الآتية، ولا معرفة أن مفهومه ماذا فإنه مسكوت عنه في هذا الباب ولا بأس أن نشير إليه إجمالا ليحصل ذلك زيادة بصيرة فنقول: المراد بالروح هنا ما يشير الإنسان إليه بقوله أنا أعني النفس الناطقة المجردة المتعلقة بالبدن (2) تعلق التدبير والتصرف، والحياة عبارة عن هذا التعلق،

ص:119


1- 1 - قوله: «والمطلوب من هذا السؤال» ليس سؤال السائل عن الروح التي بها حياة الإنسان والحيوان بل المقصود تفسير قوله تعالى: «ونفخت فيه من روحي» فإن المستفاد منه أن جزء من الله تعالى حل في آدم نعوذ بالله تعالى مع أنه يستحيل عليه تعالى التجزي والحلول فأجاب (عليه السلام) بأن هذه الروح مخلوقة بحكمته ومشيئته في آدم لا أن شيئا من الله تعالى انفصل منه ودخل في آدم. (ش)
2- 2 - قوله: «النفس الناطقة المجردة المتعلقة بالبدن» تصريح من الشارح - رحمه الله - بأن نفس الإنسان مجردة، والمجرد في اصطلاح الفلاسفة الجوهر القائم بنفسه غير قابل للأبعاد الثلاثة وهو ليس في مكان ولا له وضع ولا يشار إليه حسا وأكثر الناس لا يعترفون بوجود موجود هذه صفته إذ لا يؤثر الشيء غير الجسماني في حاستهم الجسمانية، وأنكر العلامة المجلسي رحمه الله في البحار تجرد النفس بل تجرد شئ غير واجب الوجود ولكن جما غفيرا من الخاصة والعامة صرحوا بتجرد النفس، قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين قتلوا...) الآية، تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، وقال في تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله...) في سورة البقرة. وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين وبه نطقت الآيات والسنن انتهى. وعرفوا مذهب الصحابة والتابعين بأنهم كانوا يزورون أمواتهم ويستغفرون لهم ويهدون لهم الثواب ويعبدون نيابة عنهم وكانوا يرون رسول الله يكلم الأموات فقد كلم أصحاب القليب وكلم سعد بن معاذ لما دفنه وقال: رأيته في قبره يعانق الحور العين، ومر على قبر سمع منه صوت صاحبه يعذب في البقيع وغير ذلك وآمن به الصحابة من غير أن يروا ويسمعوا ما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعه وعرفوا أن هذا نوع من الحياة غير الحياة الدنيوية التي يرى آثارها جميع الناس ولا يختص بالأنبياء ولو كان الحياة بعد الموت بالروح البخاري الذي يتحلل بفساد البدن لم يتعقل له بقاء وأما من قال إنه جسم لطيف مخالط للبدن ويدخل فيه ويخرج منه من غير أن يتحلل ويفسد، فقوله بمعزل عن قابلية النقل والتكلم فيه; لأن الحيوان إذا سد مسامه ومخارقه يموت سريعا مع أنه لا يمكن أن يخرج منه شيء. (ش)

والموت هو قطع هذا التعلق مع بقائها في ذاتها كما صرح به جم غفير من الخاصة والعامة، والروح بهذا المعنى هو المعروف في القرآن والأحاديث. وقد تحير العقلاء في حقيقته واعترف كثير منهم بالعجز عن معرفته حتى قال بعض الأكابر: إن قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «من عرف نفسه فقد عرف ربه» معناه أنه كما لا يمكن التوصل إلى معرفة النفس أعني الروح كذلك لا يمكن التوصل إلى معرفة الرب، وقوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (1) مما يعضد ذلك وحمل الروح هنا على ما هو مبدأ للتأثير والحركة والحياة سواء كان مجردا عن الكثافة الجسمانية أو منطبعا في مادة جسمانية ليشمل الأقسام الخمسة التي يجيء ذكرها في كتاب الحجة أعني روح القدس الذي به يعرفون الأشياء، وروح الإيمان الذي به يخافون الله تعالى، وروح القوة الذي به يقدرون على طاعة الله تعالى، وروح الشهوة الذي به اشتهوا طاعته وكرهوا معصيته، وروح المدرج الذي به يذهبون ويجيئون وإن كان محتملا لكنه بعيد جدا.

(قال: هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة) ولا يتوهم من إضافتها إليه سبحانه أنها هو وأنها قديمة; لأن الإضافة للإيجاد والتشريف وقد سمعت عن بعض الثقات ما يناسب ذكره

ص:120


1- 1 - قوله: (ما أوتيتم من العلم إلا قليلا) لا يدل على عدم علمهم بالروح أصلا أو على بطلان ما علموا بل على صحته وقلته بالنسبة إلى ما لا يعلمون، وإنما يدل على صحة علمهم بمفاد الاستثناء من النفي فإنه إثبات يعني أوتى الناس من قبل الله علم صحيح ولكنه قليل، وأهم ما عرفناه من الروح تجرده وبقاؤه بعد فساد البدن وتألمه وتلذذه كأشد ما يمكن أن يكون بعد فراق الدنيا فإنه يتخلص للإدراك والتألم والتلذذ من الإدراك ولا نعرف شيئا من تفاصيل الحياة الآخرة إلا من طريق الوحي. (ش)

في هذا المقام وهو أن بعض النصارى حضر بلدا من بلاد الإسلام وحضر عنده جماعة من أهل العلم وكلموه فقال لهم: اصبروا حتى أشرب خمرا فلما شربها وظهر فيه مبادى النشاط قال لهم: نبيكم أشرف أم عيسى؟ فقالوا: نبينا فقال: ما تقولون فيما نزل في كتابكم حيث سمى عيسى روح الله ونبيكم رسول الله، وروح الله أشرف من رسول الله; لأن المرسل أشرف من الرسول. فلما سمعوا ذلك سكتوا ولم يقولوا شيئا بيد ما قال بعضهم هذه شبهة متوجهة بحسب الظاهر ولم يعلموا أن إضافة الروح إليه سبحانه لا يقتضي أن يكون الروح نفسه تعالى ولا جزءه، لا وضعا ولا عرفا كما يقال: هذا فرسي وهذا كتابي وهذا بيتي وأمثال ذلك، غاية ما في الباب إفادتها الاختصاص باعتبار أن خلقها وإيجادها ليس بتوسط الأب.

لا يقال: من كان بلا واسطة كان أشرف ممن كان بواسطة; لأن ذلك ممنوع إذ للشرافة أسباب وشرائط أخر كما لا يخفى على أولي الألباب.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة عن حمران قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وروح منه) قال: هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة عن حمران (1) قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى) في وصف عيسى (عليه السلام) (وروح منه) قال: هي روح الله مخلوقة خلقها في آدم وعيسى) على نبينا وآله وعليهما الصلاة والسلام لا بتوسط أب وما يجري

ص:121


1- 1 - قوله: «حمران» بن أعين أخو زرارة كان من القراء ومشاهير النحاة ذكروه في رجال العربية ويناسب الحديث الذي رواه في معنى من فنه وصنعته، وغير خفي على أهل اللغة أن أكثر المواد في العربية تستعمل في معان متغايرة متباينة جدا لكنها مشتركة في شيء غالبا يحفظ به التناسب مثلا: الكلام هو القول واللفظ والكلم الجرح ويشتركان في معنى التأثير والحكم القضاء بالعدل والحكمة العلم الصحيح المتقن وحكمة اللجام للدابة تمنعها من الشرد والحكم بمعنى الرد والمنع والمحكم يقابل المتشابه والمحكم الشيخ المجرب وكلها تشترك في معنى الإتقان والإحراز، وفي الحديث ذكر تناسب الروح والريح معنى جامع يشتركان فيه وهو عدم الظهور بذاته، المعلوم بآثاره، فالريح لا ترى بنفسها ولكن لها آثار تعرف بها وكذلك الروح لا يرى بنفسه ولكن يظهر بأثره للفرق الظاهر بين الجماد والحي في آثارهما، ولابد لظهور آثار الحياة من مبدأ يعلم وجوده منها ولو لم يكن في بدن الأحياء شيء مسمى بالروح لم يكن حركة الحي ولم يفرق بين الحي والميت في الهضم والإمساك والدفع والتنفس وغيرها. وليكن على ذكر منك حتى يحين حينه. (ش)

مجرى الأصل والمادة كما هو المعروف في سائر الناس بل بمجرد إمضاء الإرادة ونفخ فم القدرة ولذلك نسبها إليه، وفي كتاب إكمال الإكمال للآبي سمع بعض عظماء النصارى قاريا يقرأ: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) فقال: هذا دين النصارى، يعني هذا يدل على أنه بعض منه، فأجابه الحسن بن علي الواقد صاحب كتاب النظائر بأن الله تعالى إنما أراد بروح منه أنه من إيجاده وخلقه وأراد بالحصر تعريضا بالنصارى فيما ادعت النبوة والتثليث وباليهود فيما قذفت به مريم (عليها السلام) وأنكرته من رسالته فأسلم النصراني.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الحميد الطائي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ؟ فقال: إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح; لأن الأرواح مجانسة الريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت: بيتي، ولرسول من الرسل: خليلي، وأشباه ذلك، وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الحميد الطائي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى (ونفخت فيه من روحي) كيف هذا النفخ) أي نفخ الروح والروح ليس بهواء قابلا للحركة والنفخ وإنما يتعلق بهواء; لأن صورته الحقيقة إخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فيه ليشمل فيه النار مثلا وإنما حملنا السؤال على هذا إلا على أنه كيف نسب النفخ إليه سبحانه مع أنه في حقه ممتنع; لدلالة الجواب عليه.

وتحقيق نسبة النفخ إليه على أحد وجهين; أحدهما: أن النافخ جبرائيل (عليه السلام) أو ملك من الملائكة بأمره جل شأنه وإنما نسب إليه اتساعا باعتبار أنه الآمر، وثانيهما: أن النفخ على تقدير أن يكون النافخ هو الله سبحانه استعارة حسية لأنه لما امتنع تحقق صورته الحقيقية وهي الإخراج المذكور فيه وجب صرفه إلى ما يشبهها بأن يقال: لما كان اشتعال نور النفس (1) في فتيلة البدن عن الجود الإلهى المعطي لكل قابل ما يستحقه يشبه بحسب محاكاة خيالنا ما يشاهد من اشتعال النار

ص:122


1- 1 - قوله: «لما كان اشتعال نور» مقتبس من صدر المتألهين (قدس سره). (ش)

في المحل القابل لها عن صورة النفخ فلا جرم حسن التجوز والتعبير بالنفخ عن إفاضة الجود الإلهي النفس على البدن لمكان المشابهة المتخيلة وإن كان الأمر أجل مما عندنا (فقال: إن الروح متحرك كالريح) يعني أن الروح متحرك سريعا في جميع أجزاء البدن (1) ويجري آثاره في تجاويف أعضائه فيصلح البدن ويحيى ما دام فيه كما أن الريح متحرك سريعا في أقطار العالم ويجري آثاره فيها فيصلح العالم بجريانه ويموت بفقدانه، فالروح بهذا الاعتبار يشابه

ص:123


1- 2 - قوله: «يعني أن الروح متحرك سريعا في جميع أجزاء البدن» حمله الشارح تبعا لصدر المتألهين (قده) على الروح الحيواني أي البخار الصافي الجاري في العروق على ما كان عليه الأطباء قديما وينكره أطباء عصرنا وهو غير النفس الناطقة المجردة بل هو شيء من أجزاء بدن الحيوان، والدليل على وجوده ما ذكر من أن الحي مغاير للميت في الخواص الجسمانية، ومما يدل على وجوده وإن لم يثبت كونه بخارا أن التجربة دلت على وجود قوة سيالة في أعصاب الحس والحركة نظير القوة الكهربائية فإذا انفعل بعض أعضاء بدن الإنسان من صدمة أو حرارة أو برودة أو لمس شيء انتقل الأثر منه إلى الأعصاب وينتهى إلى الدماغ فيدرك فيأمر الدماغ الأعصاب المحركة بالتقلص والتجنب ويصل أمره بواسطة الأعصاب إلى العضو المتأثر فيتقلص وقد وفق أصحاب التجارب من أهل عصرنا بآلاتهم الدقيقة لتقدير الزمان الفاصل بين التأثر والإدراك والتقلص وكان القدماء يسمون مثل هذه القوة السيالة الناقلة روحا نفسانيا، وأيضا إذا دار الإنسان على نفسه سريعا عرض عليه دوار فيسقط على الأرض ويرى كأن الأشياء حوله تدور عليه وليس تلك الحركة والدوران في الأشياء ولا في أحد أعضائه بل للروح الذي في دماغه فإنه إذا دار على نفسه دار الروح في دماغه فإذا سكن سكنت جوارحه ودماغه وبقي الروح متحركا مدة كإناء فيه ماء إذا أدرته سريعا ثم أسكنته دفعة بقي الماء دائرا بعد سكون الإناء هنيهة. ومما يدل على وجود الروح أيضا أن الإنسان إذا غضب توجه الروح بالدم إلى ظاهره للدفاع وتغير مزاج الدم واحمر الوجه والعين وإذا خاف فر الروح إلى الباطن واصفر اللون وليس الدم مما يقتضي بنفسه هذه الحركات وأيضا يتوجه الروح إلى الضياء ويهيج وينجذب إليه ويسكن في الظلمة ولذلك النوم في الظلمة أسرع وأهنأ ولا يمكن نسبة ذلك إلى الدم. وبالجملة الاستدلال على وجود الروح من تتبع آثاره كالاستدلال على وجود الريح بتحريكها الأشجار وإثارة الغبار وأمثال ذلك. وأطباء عصرنا على نفي وجود الروح الحيواني وعمدتهم عدم وجدانهم في تجزية أعضاء البدن وعناصره شيئا غير هذه الأمور المعلومة من الدم واللحم والعظم وأجزائها ولكن ليس البحث تجربيا محضا وماديا صرفا حتى نسلم لأهل العمل ونصدقهم في تجربتهم بل هو بحث فلسفي طبي عقلي يحتج عليه بالمقدمات الحكمية مع التجربة ولم يقع تجارب أطباء عصرنا إلا على الأعضاء الميتة، والدم إذا خرج من البدن وبقي مدة فهو ميت وكذلك اللحم والعظم والعصب والعروق المنفصلة عن بدن الحي أموات تحلل الروح الحيواني منها ولم يبق فيها شئ منه بالاتفاق، والكلام في وجود هذا الروح في الأحياء لا في الأموات، وتجاربهم قاصرة على المواد، ولافرق في المادة بين الحي والميت، ونحن ننسب جميع الخواص إلى الصورة النوعية لا إلى المادة والروح الحيواني من الصورة النوعية كما يقولون الماء مركب من الهيدروجين والأوكسجين وليس الممزوج من هذين العنصرين ماء ولا يظهر منه خواص الماء إلا بعد حصول الصورة المائية والسكر مركب من الفحم والماء بنسبة معينة ولا يترتب على الممزوج منهما أثر السكر ولا طعمه إلا بتعلق الصورة النوعية السكرية ويحتمل كون الروح قوة نظيرة الكهرباء حاصلة من تركيب بعض الأجسام مع بعض وإن لم نر تصريحا به من القدماء، وبالجملة فإنكار أصل وجود الروح غير موجه وإن شكك في ماهيته وهذا الحديث أيضا على وجوده صريحا إذ لا يحتمل حمل الروح فيه على النفس الناطقة بل هو الروح الحيواني كما صرح به صدر المتألهين قده. (ش)

الريح فيكون منفوخا كالريح.

فإن قلت: الاستعارة على ما ذكرت تمثيلية والاستعارة التمثيلية لا يعتبر فيها التشبيه في المفردات.

قلت: نعم ولكن لا بد من أن يكون للمفردات التي في طرف المشبه به نظائر في طرف المشبه بحيث يصح أن يقع بينهما التشبيه وبناء هذا السؤال والجواب على ذلك، ومما يناسب ذكره في هذا المقام.

ويوضح الجواب ما نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج وهو أن الزنديق سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسائل كثيرة - إلى أن قال له - فهل يوصف الروح بخفة وثقل ووزن؟ قال (عليه السلام): الروح بمنزلة الريح في الزق إذا نفخت فيه امتلاء الزق منها فلا يزيد في وزن الزق (1) ولوجها فيه ولا ينقصها خروجها منه كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن. قال: فأخبرني ما جوهر الريح قال: الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا فإذا سكن سمي هواء وبه قوام الدنيا ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن، وذلك أن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير (تبارك الله أحسن الخالقين).

(وإنما سمي روحا) هذا توضيح للجواب المذكور يعني إنما سمي الروح الجاري آثاره وتصرفه في البدن روحا (لأنه اشتق اسمه من الريح) قال صاحب كتاب الإكمال: وإنما سمي الريح الخارج من نفخ جبرائيل (عليه السلام) الداخل في البدن روحا لأنه يخرج من الروح يعني جبرائيل (عليه السلام) فهذا وجه آخر للتسمية. ثم أشار إلى وجه الاشتقاق بقوله (وإنما أخرجه) أي إنما أخرج اسم الروح (عن لفظه الريح) أي على وفقه، وفي بعض النسخ «عن لفظ الريح» يعني إنما اشتق اسم الروح عن لفظ الريح (لأن الأرواح مجانسة) بحسب المعنى والتحرك والتصرف وإصلاح ما تمر عليه (الريح) وإذا تحققت المجانسة المصححة للاشتقاق صح الاشتقاق كما هو المقرر عن أهله (وإنما أضافه إلى نفسه) حيث قال (من روحي) (لأنه اصطفاه على سائر الأرواح) الحيوانية والنباتية لكونه مبدأ لآثار شريفة وأطوار عظيمة لا تترتب عليها، فالإضافة للاختصاص والتشريف والإيجاد بلا واسطة شيء لا لإفادة أنه سبحانه أو بعضه لامتناع ذلك واستحالة حلوله عز وجل في غيره عقلا

ص:124


1- 1 - قوله: «ولا يزيد في وزن الزق» أقول: ثبت بالآلات الدقيقة في زماننا أن الهواء له وزن أيضا ويزيد وزن الإناء إذا ولج فيه الهواء على ما إذا كان خاليا فمراد الإمام (عليه السلام) على فرض صحة الخبر أن وزنه ضعيف غير محسوس ملحق بالعدم ويستأنس به للإقرار بوجود شيء لا وزن له. (ش)

ونقلا (كما قال لبيت من البيوت: بيتي ولرسول من الرسل: خليلي وأشباه ذلك) هذا الحديث بعينه رواه الشيخ في الاحتجاج مرسلا عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) إلا أن فيه كما اصطفى بيتا من البيوت فقال: بيتي، وقال لرسول من الرسل: خليلي (وكل ذلك) المذكور من الروح والبيت والرسول (مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر) خلقه وصنعه وأحدثه ورباه ودبره اللطيف الخبير على وفق الإدارة ومقتضى الحكمة.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بحر، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون أن الله خلق آدم على صورته، فقال: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور والمختلفة، فأضافها إلى نفسه، كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه. فقال: بيتي، (ونفخت فيه من روحي).

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بحر) كوفي ضعيف ولكن ضعفه لا يضر بصحة مضمون هذا الحديث لا عتضاده بالعقل والنقل (عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون) يعني العامة (أن الله تعالى خلق آدم على صورته فقال: هي صورة محدثة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة) كما قال:

(وصوركم فأحسن صور كم) (فأضافها إلى نفسه) تشريفا وتكريما وإظهارا لاصطفائها (كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال: بيتي، ونفخت فيه من روحي) تشريفا وتكريما وتبيينا; لأن المضاف مصطفاه ومختاره، وما يفيد هذا التشبيه من أن إضافة الروح إلى نفسه لأجل أنه اصطفاه واختاره على سائر الأرواح لا لأجل أنه هو الله عز شأنه هو المقصود بالإفادة في هذا الباب وقد روى الصدوق رحمه الله - في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن الحسين بن خالد وروى الشيخ الطبرسي رضي الله عنه في كتاب الاحتجاج مرسلا عن الحسين بن خالد أيضا قال:

قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله خلق آدم على صورته (1) فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر برجلين يتسابان فسمع

ص:125


1- 1 - قوله: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» مصرح به في التوراة، ورووه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإما أن يكون من الإسرائيليات التي دخلت في أحاديث المسلمين من أحبار اليهود وإما أن يكون له تأويل على خلاف ظاهره، والحق أن الإنسان هو الذي خلق صورة الله تعالى على وفق صورته فإنه يظن صورته على أكمل ما يمكن أن يكون فتوهم أن الله تعالى مثله. وقال صدر المتألهين: هذا الحديث مما لا خلاف في كونه مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله). أقول: ولكن الخلاف في صحة الرواية. ثم تأول في معناه بما هو صحيح في نفسه. وإن لم يكن الرواية صحيحة وطابق بين صورة الإنسان وصورة العالم الكبير فشبه القلب بالعرش والدماغ بالكرسي والحواس بالملائكة والأعضاء بالسماوات والقدرة في العضلة بالطبيعة في العناصر، ففي الحقيقة خلق الله تعالى آدم على صورة مخلوقه الكبير. وغرض الإمام (عليه السلام) نفي كون الله تعالى جسما على صورة الإنسان وغيره. ويلحق بمن يقول خلق الله آدم على صورته من يقول خلق الله آدم على صفات أو غرائز تشبه صفاته تعالى ويثبت له الغضب والرضا والمحبة والعشق والندامة والأسف وغيرها بالمعنى الذي يثبت للانسان وهو سبحانه بريء من كل تأثر وانفعال وربما يتعجبون مما ورد في عقاب العاصين بالنار أو ما ينزل على العباد من البلاء كالزلازل والطوفان والحرق والخسف وما يهلك به الصالح والطالح والشيخ الكبير والطفل الصغير لأنه يرى كل ذلك ينافي رقة القلب التي جعلت في الإنسان لتجنبه من الإفساد وتنفره من الظلم والله تعالى منزه من الإفساد والظلم والرقة والقسوة، وكل ما يفعل فهو بعلمه العنائي وحكمته الكاملة لا يمنعه من إنفاذه كما لم يمنع الأنبياء المجاهدين في سبيل الله عن إهلاك الكفار رقة، ورقته تنافي الحكمة، وأعلم أن كل غريزة وصفة خلقها الله في الإنسان لغاية حكمية يحتاج إليها فكل ما يستحسنه يميل إليه بطبعه أو يتنفر عنه ويفر منه فهو لحاجة مثلا يستحسن الماء والخضر والأشجار والأزهار جعله الله فيه ليرغب في عمران الأرض وتكثير الحرث وأرزاق العباد ويستحسن الرجل النساء الحسان والمرأة الرجل لبقاء النسل ويخاف من الظلمة; لأن النور معين له في جلب المنافع ودفع المضار ويتنفر من القذر والنتن لحفظ الصحة ويخاف من الموتى ليسهل عليه دفن أعزته في التراب وخلق فيه الترحم بالنسبة إلى الضعاف والصغار والمحبة للأصدقاء والرقة والغضب والحزن وغير ذلك ومرجع جميعها إلى الحاجة وجل الحق تعالى عن الحاجة فلا يعقل إثبات هذه الصفات له. وربما يعترض الملاحدة على الموحدين بأن الله أرحم الراحمين في اعتقادكم كيف يخلق الشر والآفة ونقص الأعضاء والأوجاع ونحن نعالج ونشفى يريدون بذلك أن ينسبوا تلك كلها إلى طبيعة لا تفعل ما تفعل لغرض، والجواب: أنه تعالى ليس على صفات البشر ولا يقاس فعله على فعله وما ذكرتم أمور يفعلها الله تعالى لمصلحة وان كانت تخالف رقة القلب التي في الإنسان وحب الحياة والبقاء فيه كما أنه ليس هذه الرقة لجراح يقطع الطفل الصغير قطعا في رحم المرأة لتسلم أمها. (ش)

أحدهما يقول لصاحبه «قبح الله وجهك ووجه من يشبهك» فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته» وفيما روياه دلالة واضحة على أن الرواية المذكورة كاذبة محرفة عن وجهها وأن الضمير المجرور في «صورته» يعود إلى الرجل المسبوب وإنما لم يجب الباقر (عليه السلام) بما أجاب به خلفه الطاهر الرضا وحكم بأن الضمير يعود إليه سبحانه وأن الإضافة للتشريف والاصطفاء للتنبيه على أن هذه الرواية على تقدير صحتها لا دلالة فيها على ما هو مطلوبهم من أن له تعالى صورة كصورة آدم، وبالجملة هم يستدلون بهذه الرواية على ذلك المطلوب ونحن ما نعون فنمنع أولا صحتها وثانيا دلالتها على ذلك المطلوب بإرشاد الأئمة (عليهم السلام) على أن لنا أيضا أن نقول يعود الضمير إلى آدم ولا يلزم خلوه عن الفائدة لما أشرنا إليه في باب

ص:126

النهي عن الصورة، ويؤيده ما رواه مسلم في آخر باب صفة الجنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذارعا فلما خلقه قال: إذهب وسلم على أولئك وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم فقالوا:

السلام عليك ورحمة الله، قال فزادوه: ورحمة الله. قال: فكل من دخل على الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن».

قال عياض ذكر الطول هنا يرفع الإشكال ويوضح أن الضمير في صورته يعود إلى آدم نفسه وأن المراد على هيئته التي خلق عليها لم يتردد في الأرحام ولم ينتقل في النشأة بتنقل بنيته أو يكون المراد أن صورته في الأرض هي التي كان عليها في الجنة ولا تختلف صورته اختلاف صورة الملائكة (عليهم السلام) في أصل صورهم وفي الصورة التي يتراؤون فيها للخلق غالبا.

ص:127

باب جوامع التوحيد

اشاره

يذكر فيه أنحاء من اعتبارات ثبوتية وسلبية للرد على الفرق المبتدعة منهم الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله وهم صنفان: الأول صنف طلبوا للعلم سببا فأحالوه على الطبع الذي هو صفة جسمانية مظلمة خالية عن المعرفة والإدراك.

الثاني: صنف لم يتفرغوا لذلك ولم يتنبهوا بطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم وعاشوا عيش البهائم. ومنهم عبدة الأوثان وهم قد علموا أن لهم ربا وجب طاعته ولكن حجبوا بظلمة الحس وكدورات النفس عن أن يتجاوزوا العالم الجسماني المحسوس في إثباته فاتخذوا ربا من هذا العالم، وهم أصناف: الأول صنف اتخذوا من الجواهر كالذهب والفضة أشخاصا مصورة وجعلوها آلهة، الثاني صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: هذه الصور منحوتة نحن نحتناها والرب أعز من ذلك وأجمل فإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو فرسا أو بقرا أو شجرا لها نوع اعتبار وخصوصية عبدوه وقالوا: هو ربنا.

الثالث: صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: ينبغي أن يكون الرب نورانيا فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفة.

الرابع: صنف ترقوا عن ذلك وقالوا: النار تطفأ وتقهر فلا تصلح أن تكون ربا والرب يجب أن يكون نورانيا موصوفا بالعلو، فعبدوا النجوم كالشمس والمشتري والشعرى وغيرها، ومنهم فصلوا فقالوا: إن في هذا العالم خيرات وشرورا والخير نور والشر ظلمة وبينهما منازعة فوجب أن يكون الخير مستندا إلى النور، والشر إلى الظلمة، فأحالوا العالم إليهما وهم الثنوية. ومنهم جاوزوا الحس وقالوا:

الرب أعز من أن يكون محسوسا ولكن لم يتجاوزوا مرتبة الوهم والخيال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش، وأخسهم رتبة المجسمة، ثم أصناف الكرامية، وأرفعهم درجة من نفى الجسمية وجميع عوارضها إلا الجهة فخصصوه بجهة فوق وهم المشبهة. ومنهم من ترقوا عن ذلك فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا منزها عن الجهات لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم، وربما صرح بعضهم فقال: كلامه صوت ككلامنا. وربما ترقى بعضهم فقال:

ص:128

لا بل هو كحديث أنفسنا ولا صوت ولا حرف ولذلك إذا حقق القول رجعوا إلى التشبيه في المعنى وإن أنكروه لفظا إذ لم يدركوا كيفية إطلاق هذه الألفاظ في حق الله تعالى. وكل هؤلاء مشتركون في أنهم يدعون مع الله إلها آخر (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) ووراء هذه المذاهب وغيرها من المذاهب الباطلة مذهب صحيح وهو أن الصانع موجود قديم أزلي أبدي، له نعوت جلالية وصفات كمالية غير زائدة ولا تشابه بينه وبين خلقة أصلا لا بحسب الذات ولا بحسب الصفات والمتمسكون به هم المتمسكون بذيل الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وهم الذين خرقوا بذلك حجب الطبايع الظلمانية والنفسانية، وتجاوزوا عن المقايسات الوهمية والخيالية، ووصلوا إلى عالم التوحيد المطلق وشاهدوا رتبة الحق وعظمته وكماله وجلاله وجماله بعين البصيرة وهم بعد ما خرقوا تلك الحجب في حجب من نور عظمته كما ورد «أن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كل من أدرك بصره» قيل: سبحات وجهه جلاله وعظمته.

وقيل: أضواؤه. وقيل: محاسنه. وقيل: غير ذلك. وإن أردت زيادة فيها فارجع إلى النهاية الأثيرية.

* الأصل:

1 - محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية، فلما حشد الناس قام خطيبا فقال: الحمد الله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان، قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه فليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات وضل هناك تصاريف الصفات وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور.

فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليست له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود، سبحان الذي ليس له أول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى، سبحانه هو كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته، وحد الأشياء كلها عن خلقه، إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها لم يحلل فيها فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن، ولم يخل منها فيقال له: أين؟ لكنه سبحانه أحاط بها علمه وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه لم يعزب

ص:129

عنه خفيات غيوب الهواء ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ولا ما في السماوات العلى إلى الأرضين السفلى.

لكل شيء منها حافظ ورقيب، وكل شيء منها بشيء محيط، والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد الذي لا يغيره صروف الأزمان ولا يتكأده صنع شيء كان، إنما قال لما شاء: كن فكان، ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب، وكل صانع شيء فمن شيء صنع، والله لا من شيء صنع ما خلق، وكل عالم فمن بعد جهل تعلم، والله لم يجهل ولم يتعلم، أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها، لم يكونها لتشديد سلطان ولا خوف من زوال ولا نقصان ولا استعانة على ضد مناو، ولا ند مكاثر، ولا شريك مكابر، لكن خلائق مربوبون وعباد داخرون.

فسبحان الذي لا يؤوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ ولا من عجز، ولا من فترة بما خلق اكتفى، علم ما خلق وخلق ما علم، لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق، لكن قضاء مبرم وعلم محكم وأمر متقن، توحد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية واستخلص بالمجد والثناء وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء وتوحد بالتحميد وتمجد بالتمجيد وعلا عن اتخاذ الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء، وعز وجل عن مجاورة الشركاء، فليس له فيما خلق ضد ولا له فيما ملك ند ولم يشركه في ملكه أحد، الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد، والوارث للأمد، الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور، الذي لا يبيد ولا ينفد، بذلك أصف ربي فلا إله إلا الله، من عظيم ما أعظمه، ومن جليل ما أجله، ومن عزيز ما أعزه، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام)) رواه الصدوق في كتاب التوحيد مسندا من طريقين عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) (استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية) النهوض القيام إلى أمر بسرعة ومنه نهض الطائر إذا نشر جناحيه ليطير واستنهضه أمره بالنهوض وحثه (فلما حشد الناس) أي اجتمعوا يقال حشدوا يحشدون من باب ضرب إذا اجتمعوا، وكذلك احتشدوا وتحشدوا جاء فلان حاشدا ومتحشدا أي مستعدا ومتأهبا وفي بعض النسخ: «فلما حشر الناس

ص:130

بالراء» يقال:

حشرت الناس أحشرهم من باب ضرب ونصر أي جمعتهم، فالناس في نسخة الأصل مرفوع على الفاعلية، وفي هذه النسخة إما منصوب على المفعولية إن كان الفعل مبنيا للفاعل أو مرفوع إن كان الفعل مبنيا للمفعول (قام خطيبا فقال: الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد) (1) أشار بذكر الله إلى الذات المقدسة الجامعة لجميع صفات الكمال، وبالواحد إلى تقدس ذاته عن التركيب والتجزية ذهنا وخارجا، وبالأحد إلى تنزه صفاته عن التكثر والاختلاف، وبالصمد وهو المرجع للجميع في جميع الحوائج إلى امتناع التجزية في ذاته والزيادة في صفاته لاستلزام ذلك افتقاره المنافي لكونه صمدا على الإطلاق، والمتفرد إلى نفي الشريك عنه في الذات والصفات واستحقاق الحمد من جميع الجهات (الذي لا من شيء كان) (2) فلا مادة له ولا أصل له ولا جزء له ولا موجد له كما كان ذلك للإنسان فإن له مادة هي التراب والمني وله أصل هو الأبوان وله أجزاء تأليفية وفاعل يوجده. وفي وصفه تعالى بالوجود رد على الصنف الثان من الملاحدة، وفي تنزيه وجوده عن الأمور المذكورة رد على جميع الفرق المبتدعة والمذاهب الباطلة فإنهم وإن لم يصرحوا بافتقار وجوده إلى الأمور المذكورة لكن يلزمهم ذلك من حيث لا يشعرون (3) (ولا من شيء خلق ما كان قدرة) (4) الظاهر أن «كان» تامة بمعنى وجد وقدرة بالنصب على التميز أو بنزع

ص:131


1- 1 - قوله: «الواحد الاحد الصمد» يشكل الفرق بين الأحد والواحد من جهة اللغة وإن قال بعضهم إن الأحد يختص بالنفي والحجود فيقال ما جاءني أحد، والواحد بالإثبات، وقيل: إن أحد يجعل في موضع الجمع، بخلاف الواحد قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله) ولا يصح لا نفرق بين واحد من رسله. قيل ينفى بأحد في النفي الاثنان والثلاثة أيضا، بخلاف الواحد تقول: ما جاءني أحد أي لا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة، وتقول: ما جاءني واحد، ولعله جاءك اثنان ولا تنفيه، فالواحد أخذ في مفهومه شرط الوحدة لا بشرط ويشمل الواحد المجتمع مع غيره ويحتمل في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) التأكيد أو الإشارة إلى كونه تعالى جامعا لجميع خصوصيات الوحدة، وفرق العرفاء بين الواحد والأحد بأن الأول يجامع ملاحظة الصفات الكمالية والأول مقام الذات فقط من غير ملاحظة الأسماء والصفات، وربما يقال: الواحد يشير إلى نفي الشريك، والأحد إلى نفي الأجزاء والتركب، والله العالم. وأما الصمد فقد سبق باب مفرد لتفسيره. (ش)
2- 1 - قوله: «لا من شيء كان» إذ لو كان من شيء كان ذلك الشيء أولى بوجوب الوجود، والكائن عن غيره محتاج إلى غيره ممكن مخلوق. (ش)
3- 2 - قوله: «لكن يلزمهم ذلك من حيث» أما المجسمة فواضح لأن الجسم مركب والمركب محتاج إلى أجزائه وأما المثبتون للصفة زائدة على الذات فلأنه يلزمهم ما يلزم القائلين بتعدد الواجب. (ش)
4- 3 - قوله: «لا من شيء خلق ما كان» إن قيل هذا مخالف للحس فإنا نرى أنه تعالى خلق كثيرا من الأشياء من شيء فإنه خلق الانسان من النطفة، والشجر من البذر، وخلق كل دابة من ماء، قلنا: ليس المراد أنه تعالى خلق جميع الكائنات ابتداء اختراعا لامن شيء، بل مراده أنه خلق أول ما خلق كذلك، وأما ساير ما خلقه بعد الموجود الأول فلا يستحيل أن يخلقه من شيء، والدليل عليه على ما ذكره صدر المتألهين - قدس الله تربته - أن المخلوق الأول لو كان خلق من شيء فلا يخلو إما أن يكون ذلك الشيء واجب الوجود أو ممكن الوجود فإن كان ذلك الشيء واجب الوجود ثبت الشريك له تعالى في وجوب وجوده; وهو باطل، وإن كان ممكن الوجود كان مخلوقا له تعالى قبل المخلوق الأول وهذا خلف. وقال (قدس سره): كل ما كان في وجوده محتاجا إلى شيء لم يكن أول مخلوق كالمركب المحتاج إلى الأجزاء والصورة المحتاجة إلى المادة والعكس والنفس المتعلقة بالبدن والزمان المحتاج إلى الحركة والحركة المحتاجة إلى الجسم والحادث الزماني المحتاج إلى معنى زمان، فالمخلوق الأول ليس مركبا ولا صورة ولا مادة ولا نفسا ولا يحتاج إلى مضي زمان قبله وإلا احتاج إلى حركة سابقة واحتاج إلى جسم متحرك فكان ذلك الجسم قبله ولم يكن أول مخلوق. (ش)

الخافض وإن كان شاذا في مثله.

وفي بعض نسخ هذا الكتاب وكتاب التوحيد للصدوق «بقدرة» وهو يؤيد الثاني أي لم يخلق ما وجد من الممكنات بقدرته الكاملة من مثال سابق يكون أصلا له ودليلا عليه ولا من مادة أزلية كما زعمت الفلاسفة من أن الأجسام لها أصل أزلي هي المادة (1) بل هو المخترع للمكنات بما فيها من المقادير والأشكال والنهايات والمبتدع للمخلوقات بما لها من الهيئات والآجال والغايات بمحض القدرة على وفق الإرادة والحكمة، ويحتمل أن يقرأ قدرة بالرفع (2) على الابتداء أي له قدرة (بان

ص:132


1- 1 - قوله: «من أن الأجسام له أصل أزلي هي المادة» هذا مذهب الدهريين والحرنانين يظنون أن المادة غير مخلوقة وأنها واجبة الوجود لا يتعقل عدمها وإنما تنتقل من حال إلى حال، ورد عليهم الفلاسفة الإلهيون بعد إبطال الجزء الذي لا يتجزى بأن المادة أمر بالقوة محتاجة في ذاتها إلى الصورة والصورة لا يمكن أن تكون علة مطلقة لها بل المادة والصورة والجسم المركب منها جميعا معلولات للموجود المفارق، وذكرنا شيئا يتعلق بذلك سابقا وذكرنا مذهب أهل عصرنا في تحصل المادة من القوى المتحركة المسماة عندهم بإلكترون ونيترون وبذاك ظهر أن مراد الشارح من الفلاسفة الذين قالوا بكون المادة غير مخلوقة الدهريون، والماديون منهم لا جميعهم. (ش)
2- 2 - قوله: «ويحتمل أن يقرأ قدرة بالرفع» وذكر صدر المتألهين (رحمه الله) وجها بعيدا من جهة اللفظ وإن كان صحيحا من جهة المعنى وهو أن الكلمة فدرة بكسر الفاء لا بضم القاف ومعنى الفدرة القطعة، والمعنى ما كان تعالى قطعة يمتاز بها من الأشياء نظير الخط الذي يمتاز عن الخطوط الأخر بقطعة منه، مثلا: الخط إذا كان بمقدار ذراع ونصف يمتاز عن الذي هو بمقدار ذراع بقطعة منه بمقدار نصف ذراع، ولا يستبعد صدور مثل ذلك من العلماء فقد رأينا منهم أغرب من ذلك فقد ذكر السيد الداماد - قدس سره - في شرح حديث في الكافي «التوكل وضده الحرص» الحرض بالضاد المعجمة. وفي قوله: «الفهم وضده الحمق» القهم بالقاف وقال المولى خليل في قوله «معجزة الصفة» أنه معجرة الصفة بالراء المهملة والعجر عظم البطن، وقد ذكرنا في حواشي الوافي عن أبي على القالي وهو إمام من أئمة الأدب أنه فسر اللحن وهو ضرب من الأصوات المصنوعة للغنا باللغة في أشعار لا يحتمل غير لحن الغناء. منها قول الشاعر: لقد تركت فوادك مستجنا * مطوقة على فنن تغنى يميل بها وتركبه بلحن * إذا ما عن للمحزون أنا وقول الآخر: وهاتفين بشجو بعد ما سجعت * ورق الحمام بترجيع وإرنان باتا على غصن بان في ذرى فنن * يرددان لحونا ذات ألوان وأبو علي هذا كان مشهورا في العالم في عصره حتى أن عبد الرحمن بن محمد الأموي خليفة الأندلس استقدمه إلى بلاده من بغداد ليتزين بوجوده ملكه ويفتخر به على ملوك المشرق. وبالجملة فليس هذا وأمثاله مما يطعن به على العلماء فإن الصارم قد ينبو. (ش)

بها) أي بتلك القدرة الكاملة التي لا يتأبى منها شيء (من الأشياء (1) وبانت الأشياء منه) لتحقق تلك القدرة له لا ليغيره (فليست له صفة تنال) أي ليس مطلق ما يوصف به من صفات الكمال أمرا تدركه عقول العقلاء وفهم الأذكياء لكمال عظمته، أوليست له صفة زائدة حتى تنال كما تنال صفاتنا الزائدة على ذو اتنا لتنزهه عن الكثرة مطلقا، أو ليست له صورة وهيئة تنالها الأفهام إذ العرب المثبتون للصفات إنما يعرفون منها الصور والهيئات، فنفي الصفة مستلزم لنفيهما في عرفهم (ولا حد يضرب له فيه الأمثال) حد الشيء منتهاه (2) والأمثال جمع المثل، ومثل الشيء بكسر الميم وفتحها نظيره كشبهة وشبهه، ولعل المقصود أنه ليس لوجوده نهاية يطرأ عليه العدم، ولا لذاته طبيعة امتدادية ينتهي إلى حد ونهاية، ولا لصفاته نهاية في القوة والكمال تقف عندها، ولا لحقيقته حد حقيقي يتصور بالكنه وإلا لجرى فيه حكم المخلوقات; لأن الحد بالمعاني المذكورة من صفاتهم ولو أحقهم، وصح أن يقال: هو مثلهم وأنه على الواجب بالذات محال (كل دون صفاته تحبير اللغات) تحبير الصوت والخط والشعر وغيرها تحسينه تقول: حبرت الشيء تحبيرا إذا أحسنته. والكلال: العجز والأعياء، تقول: كل اللسان عن البيان إذا أعيى عن أداء حقه وإسناده إلى التحبير مجاز يعني أعيى قبل الوصول إلى ذكر صفاته تحبير اللسان وعجز قبل البلوغ إلى وصف عظمتها تحسين البيان فعجز كل قائل عن ذكر كنه صفاته وأعيى كل واصف عن نيل حقيقة جلاله وكمالاته.

(وضل هناك تصاريف الصفات) قد استوفينا شرحه في الخطبة، وظهر لي الآن وجهان آخران; أحدهما: أنه ليس لجناب الحق تصاريف الصفات (3); لأن صفاته عين ذاته فلا صفات هناك.

ص:133


1- 3 - قوله: «بان بها من الأشياء» يشير إلى أن بينونته تعالى بينونة صفة لا بينونة عزلة حيث قال: بان بها من الأشياء أي بصفة القدرة. (ش)
2- 1 - قوله: «حد الشيء منتهاه» ليس له الحد الجسماني كالسطح والخط والنقطة ولا حد الزمان بأن ينتهى زمان وجوده في وقت معين وهو واضح بعد فرض تنزهه عن المكان والزمان والمقصود حد الماهية بدليل قوله (عليه السلام) «يضرب له فيه الأمثال»، إذ لو كان له تعالى ماهية والماهية معنى كلى يفرض له أفراد بعضها مثل بعض فكل حد نفرضه له أي كل معنى يحدد الوجود المطلق بقيد ويميزه عن أشياء أخر يمكن أن يكون في الوجود فردان منه، يضرب أحدهما مثلا للآخر، فلو قلت وهو نور يمكن ضرب مثل له هو نور الشمس. (ش)
3- 2 - قوله: «تصاريف الصفات» الظاهر أن الصفة هنا بالمعنى المصدري بمعنى الوصف، والوصف والصفة نظير الوعد والعدة، ويطلق على الحالة العارضة مجازا كما يطلق العدة على الموعود والمراد هنا هو نفس المصدر أي كل ما يتصرف المتصرف في أن يصف الله تعالى بصفة لم يقدر وذهب الذهن منه إلى غير صفاته حقيقة فيضل، وأما حمل الشارح الصفات على المعنى المصطلح بين المتكلمين ثم حمله التصاريف على تغيير الصفة من حال إلى حال ودعواه أنه وجه آخر غير ما ذكره في شرح الخطبة فبعيد. (ش)

وثانيهما: أنه ليس له تصاريف الصفات وتغيرها وتبدلها; لأن كل ما اعتبره العقل والنقل له من الصفات الكمالية فإنما هو أزلا وأبدا لا يتطرق إليه التغير والتبدل أصلا (وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير) الملكوت فعلوت من الملك كالرهبوت من الرهبة، وقد يخص الملكوت بعالم المجردات والروحانيات ويخص الملك بعالم الشهادة وعالم الماديات والجسمانيات والتعميم هنا أولى، والعميقات جمع العميقة وهي صفة لمحذوف وهو الأفكار، والتفكير: التأمل في الشيء ليجد غوره وأفكر في الشيء وفكر فيه وتفكر بمعنى، يعني حار في إدراك حقائق ملكوته وخواصها وآثارها وعظمتها وكيفية ترتيبها على النظام الأكمل وكيفية وقوعها عن القدرة القاهرة وغير ذلك مما هو محل التعجب والحيرة الأفكار العميقة الواقعة في مذاهب التفكير وطرقه الخفية والجلية، فسبحان من لا يكون لنا سبيل إلى إدراك ملكه وملكوته فكيف يكون لنا سبيل إلى إدراك عظمته وجبروته (وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير) الرسوخ: الثبوت، يقال: رسخ الشيء رسوخا إذا ثبت، وكل ثابت راسخ ومنه (الراسخون في العلم) وعلمه هنا مصدر مضاف إلى المفعول والضمير عائد إليه سبحانه، والجوامع وصف للكمالات المحذوفة يعني انقطع قبل تحقق الرسوخ في العلم بذاته وصفاته وأسراره سبحانه الكلمات الجامعة لأنحاء التفسير والتبيين لظهور أن تلك الكلمات لها معان ومفهومات حاصلة في الذهن وليس شيء منها هو الله تعالى ولا صفاته وإنما طريق معرفته والرسوخ في العلم به طور العقل العاري عن شوائب الأوهام (1) بأن يتلقى تلك

ص:134


1- 1 - قوله: «العقل العاري عن شوائب الأوهام» كلمة يتفوه بها الظاهريون لتغليط العقول والحكماء لتنقيص أصحاب الجدل والعلماء لتنفير العوام عن آراء أهل البدع، والمعنى أن العقل من حيث هو عقل طريق صحيح إلى الواقع فيدركه ويحكم بصحته فهو حق، إلا أن الإنسان قد تشتبه عليه مدركات عقله بمدركات وهمه ويظن ما أدرك بوهمه هو عين ما أدرك بعقله ولا يعرف قانونا يميز به أحدهما من الآخر وإنما يمكن التميز للمنطقي المتمرن الذي جرب أغلاط الناس وسبرها وعرف أقسام المغالطة مثل من يزعم أن كل موجود محسوس وأن كل شيء في مكان وأن الزمان موجود بنفسه غير مخلوق وأن المكان فضاء غير متناه وأن التسلسل ممكن وأن الجسم موجود بنفسه أزلا وأبدا ويمتنع عليه الفناء والعدم وأن كل شيء يجب أن يسقط إلى أسفل، وهذا كله نظير الخوف من الميت، وأقرب الناس إلى قبول الأوهام والتعبد بها العوام وأهل الظاهر، وأبعدهم منه أهل المنطق والممارسون للعلوم الفكرية والنظرية، ومع ذلك كله فالعقل العاري عن شوائب الأوهام أيضا لا يستطيع أن يدرك كنه حقيقة الباري تعالى وإنما يتعرف بوجوده وعجزه عن إدراك ذاته. (ش)

المفهومات لا على وجه شعوره بما يشعر به من تلك الكلمات بل على وجه أعلى وأشرف بتعقل صرف، بريء عن علائق المواد، مجرد عن إدراك الوهم والحواس وتوابع إدراكاتهما من الأين والوضع والمقدار والكيف وغير ذلك مما لا يليق بجناب الحق فإذا أطلق عليه شيئا من أسمائه الحسنى مثل: الله والموجود والعالم والقادر والحي وغيرها ينبغي أن يحمله على أشرف مما يتخيله وأعلى مما يتصوره، ويعتقد أن ذاته ووجوده وعلمه وقدرته وحياته ليست كذات سائر الموجودات ووجودهم وعلمهم وقدرتهم وحياتهم ليخرج بذلك عن حد التشبيه المتعالى قدس الحق عنه.

(وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب) المكنون المستور يقال: كننت الشيء فهو مكنون أي سترته فهو مستور. المراد بغيبه المكنون: الأسرار الربوبية والأنوار الإلهية والصفات الكمالية المستورة عن أبصار ذوي البصائر بحجب ظلمانية وأستار نورانية، أما الحجب الظلمانية فهي الهيئات البدنية والظلمات النفسانية الحاجبة للنفس عن مشاهدة أنوار جلال الله وأسراره بالكلية، وأما الحجب النورانية فهي أنور العظمة المانعة من مشاهدة ذاته وصفاته وجلاله وكماله كما هي لمن خرق تلك الهيئات وخلص من تلك الظلمات ونزل في ساحة العز والجلال وقد احتجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحجاب يتلألأ كما دل عليه حديث المعراج فكيف غيره.

كيف الوصول إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف (تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور) التيه: التحير، والدنو: القرب، وأدنى:

اسم تفضيل والأداني: جمع الدني وهو القريب، وضمير التأنيث للحجب، والإضافة في طامحات العقول ولطيفات الأمور من باب الإضافة في جرد قطيفة. و «في» متعلق بالطامحات، والطامح الأمر المرتفع يقال: طمح بصره إلى شيء إذا ارتفع إليه وبالغ ليراه: يعني تحيرت في أول حجاب من تلك الحجب وأقرب من تلك الأستار العقول الطامحة في الأمور اللطيفة للمبالغة في إدراكها وإدراك أسرارها فكيف حال العقول الغير الطامحة أعني العقول الناقصة وكيف حال بواقي الحجب التي هي أرفع وأعظم من المذكور، وفيه تنبيه على أنه لا يجوز للبشر أن يعتمد في معرفة الصانع بعقله وإن كان ذكيا فهيما بل يجب عليه أن يرجع إلى صاحب الوحي (1) وأهل الذكر وبالله

ص:135


1- 1 - قوله: «بل يجب أن يرجع إلى صاحب الوحي» قد سبق الكلام في هذا وأمثاله في مقدمة الكتاب وبعض التعاليق. وقلنا إن إثبات أصل وجود الباري تعالى لا يمكن أن يؤخذ من الوحي لاستلزامه الدور، وأما التفاصيل الأخر فيجب أن يثبت بالخبر المتواتر القطعي الدلالة لا برواية الآحاد ولا بالظواهر المظنونة، وما يدعيه الأخباريون في ذلك غير صحيح لم يتفوهوا به إلا تقريرا للعوام وجلبا لهم إلى تعظيم الآثار. (ش)

التوفيق.

(فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن) تبارك: إما مشتقة من البروك المستلزم للبقاء والثبات في موضع واحد أو من البركة وهي الزيادة، فهو بالاعتبار الأول إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه واستحقاقه قدم الوجود لذاته وثبوت وجوده لا عن ابتداء ولا إلى انقطاع، وبالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله وإحسانه ووجوه الثناء عليه. والنيل: الإصابة، والهمة: العزم الجازم يقال: فلان بعيد الهمة إذا كانت إرادته تتعلق بعليات الأمور دون محقراتها.

والغوص: الغور والحركة في عمق الماء. والفطن بفتح الفاء وكسر الطاء: الذكي المتوقد، وبالعكس جمع الفطنة وهي في اللغة: الفهم وعند العلماء: جودة الذهن المعدة لا كتساب المطالب العلية، ولما كانت صفات كماله ونعوت جلاله في عدم الوقوف على حقائقها وأغوارها تشبه البحر الخضم الذي لا يصل الغائص إلى قعره كانت الفطنة المتحركة فيها شبيهة بالغائص في البحر فاستعير الغوص لحركات الفطن في عميقات غيوب ملكوته وأسرار عالم الغيب العميقة طالبة لتصورها كما هي والبلوغ إلى كنهها، ويفهم منه استعارة البلوغ لحركات الهمم البعيدة إذ هو حقيقة في لحوق جسم وجسماني بجسم وجسماني آخر، وهاتان الإضافتان في معنى الصفة أي لا يبلغه الهمم البعيدة ولا يناله الفطن الغائصة، ووجه الحسن أن المقصود هو المبالغة في عدم إصابة ذاته وصفاته وأسراره تعالى بالهمة من حيث هي بعيدة وبالفطنة من حيث هي غائصة، فالحيثية مقصودة بالقصد الأول فلذا قدم، فسبحان الذي كل ذي همة بعيدة في أنوار كماله حريق، وكل ذي فطنة غائصة في بحار جلاله غريق (وتعالى الله الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود) أي ليس لو جوده زمان متناه ولا زمان غير متناه; لأن موجد الزمان (1) يمتنع تقدير وجوده بالزمان; لأن

ص:136


1- 1 - قوله: «لأن موجد الزمان» قد تكرر في الحديث نفي الزمان عنه تعالى ولا يمكن أن يكون المراد منه نفي الزمان المعين كساير الحوادث، والشارحون على أن ذاته تعالى غير مقترن بالزمان لا مستمرا ولا معينا بمعنى أنه لا يتغير حتى يكون زمانيا، وفي الزمان مذاهب مشهورة وهو عند بعضهم واجب الوجود بمعنى أنه لا يمكن عدمه فليس مخلوقا، وعند بعضهم هو أمر موهوم لا حقيقة له في الخارج وعلى هذين المذهبين لا يتصور له موجد والمشهور عن الحكماء والمتكلمين أنه مقدار حركة ما فيكون من عوارض الحركة والحركة من عوارض الجسم فموجد الزمان هو الذي أوجد الجسم وأوجد التغير فيه فيكون الزمان مخلوقا بخلق الجسم والحركة ولا يتصور وجود زمان قبل أن يخلق جسم. والعجب أن بعضهم يثبتون الزمان قبل أن يخلق الله تعالى جسما مع قولهم بأن الزمان أمر موهوم لا حقيقة له في الخارج وليس بنا حاجة إلى فهم كل ما قاله الناس وتصحيح أوهامهم، والمقصود هو عدم ثبوت التغير في ذاته حتى يكون له زمان. (ش)

وجوده لو كان زمانيا لزم تقدم الزمان عليه وإذا لم يكن زمانيا كان غنيا في وجوده عنه (ولا نعت محدود) أي ليس له نعت محدود بحد لغوي وهو النهاية ولا بحد حقيقي وهو المشتمل على الذاتيات أما الأول فلأنه ليس لمطلق ما يعتبر عقولنا من الصفات الكمالية والصفات السلبية والإضافية نهاية معقولة تنتهي عندها، وأما الثاني فلأن نعته تعالى ليس مركبا من الجنس والفصل وإلا لكان حادثا فيلزم نقصه تعالى وكونه محلا للحوادث وكلاهما باطل، ويمكن أن يؤول هذا القول بما يؤول به قولهم «ليس بها ضب ينجحر» أي: ليس بها ضب فينجحر، فيكون المراد أنه ليس له نعت فيحد، وهذا على ما هو الحق من أنه تعالى منزه من كل جهة عن الكثرة بوجه ما، وقد حصل في هذه القرائن الثلاث السجع المتوازي مع نوع من التجنيس (سبحان الذي) ترك العاطف لأنه تأكيد للسابق وتقرير لمضمونه (ليس له أول مبتدأ) بالرفع والتنوين معا أو بالرفع فقط لأنهم اختلفوا في صرفه (ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى) لأنه أزلي وأبدي فليس له ابتداء ولا انتهاء ولا فناء، والنفي راجع إلى القيد وإلا فهو الأول المطلق الذي لا شيء قبله، والآخر المطلق الذي لا شيء بعده، والغاية لكل شيء باعتبار أن مصاير الخلائق وعواقب الأمور إليه، فهو غاية مطالب السائرين ونهاية مقاصد الطالبين وهو الباقي بعد كل شيء، في وجوده الحق وكماله المطلق (سبحانه هو كما وصف نفسه) في القرآن الكريم وحين كان ولم يكن معه شيء لا كما وصف الظالمون المكذبون (والواصفون لا يبلغون نعته) وإن بالغوا; لأن عقول المقربين ونفوس المقدسين عاجزة عن إدراك كنه ذاته وحقيقة صفاته:

سبحان من تحير في ذاته سواه * فهم خرد بكنه كمالش نبرده راه از ما قياس ساحت قدسش بود * جنانك مورى كند مساحت گردون زقعر چاه (وحد الأشياء كلها عند خلقه (1) إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها) لعل المراد أنه ميز الأشياء عند خلقه لها في الأصول والمقادير والصور والأشكال والهيئات والصفات والأمزجة

ص:137


1- 1 - قوله: «وحد الأشياء كلها عند خلقه» كل شيء سوى الله له ماهية، والله تعالى وجود صرف لا ماهية له، وهذا هو الفارق بين الممكن والواجب كما قال الرئيس: كل ممكن زوج تركيبي له ماهية ووجود، وهذا عبارة أخرى عن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) «حد الأشياء كلها». وقوله (عليه السلام) «إبانة لها من شبهه» يدل على أن عدم الحد والمهية له تعالى لعدم كونه شبيها ببعض الأشياء إذ لها حد. فإن قيل: كيف يكون الماهية حدا، قلنا: لأنك إذا نظرت إلى شيء من الممكنات كالماء وجدته سيالا باردا بالطبع ولا يمكن أن يكون حارا بالطبع كالنار فهو محدود بخاصة متفرعة على طبيعته لا يتجاوزها وطبيعة المائية حدته أي منعته من ترتب آثار موجودات آخر عليه، بخلاف الوجود المطلق الذي يصدر عنه جميع الآثار والخواص ويقدر على جميع الأفعال فإنه غير محدود، ولو كان له ماهية كان محدودا. (ش)

والأخلاق وغيرها إبانة لها من أن تشبهه تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وإبانة له تعالى من أن يشبهها في شيء من ذلك; لظهور أن جميع ذلك من فيض الوجود الحق وجعل الجاعل المطلق فلو وقع بينهما تشابه في شيء منه لزم افتقاره تعالى إلى جعل جاعل وإفاضة مفيض، وساحة قدسه منزهة عن ذلك، والمراد أنه جعل للأشياء حدودا ونهايات أو ذاتيات هي محدودة ومعلومة بها ليعلم أنه تعالى لا يشبهها في ذلك لأنه لا يحد ولا يجري عليه صفات المصنوعات المحدودة بأحد الوجهين والله أعلم (لم يحلل فيها) أصلا لا على الجزئية ولا على الوصفية ولا على التمكن والتحيز (فيقال هو فيها كائن) (1) هذا بمنزلة قياس استثنائي تقريره إن حل فيها جاز أن يقال هو فيها كائن والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بطلان التالي فلاستحالة افتقار الواجب إلى الغير وتعينه به وامتناع دخوله في معلوله وكونه جزءا منه (ولم ينأ) أي لم يبعد (عنها فيقال هو منها بائن) أي هاجر بعيد بتراخي مسافة لأنه تعالى أقرب إلى كل شيء من نفسه ويحتمل أن يكون المراد بهاتين الفقرتين أنه لما كان الكون في المحل والنأي عنه والمباينة له أمورا إنما يقال على ما يصح حلوله فيه كان هو الله تعالى منزها عن الحلول وجب أن يمتنع عليه إطلاق هذه الأمور وإذ ليس هو بحال في الأشياء فليس هو بكائن فيها، وإذ ليس بكائن فيها فليس بناء عنها ولا مبائن لها (ولم يخل منها فيقال له أين) لما كان عدم خلوه من شيء من الأشياء سببا لعدم حصوله في أين ودليلا على عدم تحيزه، بحيز إذ الحاصل في أين والكائن في حيز قريب من بعض الأشياء وبعيد خال عن بعض آخر بالضرورة كان خلوه من الأشياء سببا لحصوله في أين وتحيزه بحيز، ودليلا عليه; لأن انتفاء السبب دليل على انتفاء المسبب فصح التفريع على المنفي وبعبارة أخصر هو مع كل شيء ولم يخل من شيء ما حتى يقال: أين هو (لكنه سبحانه أحاط بها علمه) إشارة إلى أن عدم خلوه من الأشياء عبارة عن إحاطة علمه بكلياتها وجزئياتها ومستقبلها وماضيها ونفوذه في كل مستتر وغايب بحيث لا يستره ساتر ولا يحجبه حاجب حتى أنه يعلم ما دق من عقائد القلوب وأسرار

ص:138


1- 2 - قوله: «فيقال هو فيها كائن» هذا متكرر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو تعالى ليس حالا في الأشياء ولا خارجا عنها، فإن قيل: هذا يستلزم ارتفاع النقيضين إذ لو لم يكن حالا كان خارجا لا محالة؟ قلنا: الدخول والخروج أو الحلول والبينونة بالمعنى المتبادر إلى الذهن خاص بالأجسام والجسمانيات وهو تعالى ليس جسما فهو خارج عن المقسم، ولا يستلزم قوله ارتفاع النقيضين والعلة المطلقة للوجود والبقاء لا يمكن أن يكون مبائنا عن المعلول بل المعلول لابد أن يكون متعلقا بها بوجه حتى يستلزم فرض عدم العلة عدم المعلوم ولو كان الممكن شيئا موجودا مستقلا بنفسه وعلته مستقلة مباينة عنه لم يعقل احتياج المعلول إليه في البقاء، ومن تعقل أصول صدر المتألهين في الوجود وتشكيكه وأن الممكنات وجودات تعلقية، ربطية، سهل عليه تصور كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأن كان لوحدة الوجود معنى صحيح هو ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المعنى. (ش)

الصدور وشخوص لحظة وصدور لفظة وانبساط خطوة وحسيس نملة في ليل داج وغسق ساج (وأتقنها صنعه) (1) على وفق الحكمة في أكمل نظام وأفضل قوام وأحسن أحوال وأزين أشكال بحيث يتحير فيه فحول الحكماء وعقول العلماء، سبحانه أعطى كل شيء خلقه وأحكم به أمره (وأحصاها حفظه) نبه بذلك على إحاطة حفظه بجميع الأشياء تفصيلا وشمول علمه بها كما وكيفا وإحصائه لها عددا كما قال: (لقد أحصاهم وعدهم عدا). وقال: (وأحصى كل شيء عددا) وفيه انجذاب للنفوس البشرية من مقتضيات الطبيعة الناسوتية إلى الطاعة والانقياد له والميل إليه والردع عن المشتهيات لظهور أن علم العصاة بأنه لا يشذ أحد منهم عن إحاطة علمه وإحصائه جذاب إلى تقواه وبالله التوفيق (لم يعزب عنه خفيات غيوب الهواء) وهو الفضاء ما بين الأرض والسماء. وإضافة الخفيات إلى الغيوب بيانية، وإضافة الغيوب إلى الهواء ظرفية بتقدير «في» والمراد بالخفيات: الذرات المبثوثة وغيرها، وجعل الإضافة الثانية من باب جرد قطيفة والإضافة الأولى ظرفية أي الخفيات التي في الهواء الغايب عن الأبصار يأباه جمع الغيوب على الظاهر وإن كان المعنى أحسن وأتقن.

(ولا غوامض مكنون ظلم الدجى) الغوامض: جمع الغامض وهو خلاف الواضح، والدجى بضم الدال والقصر جمع دجية بالضم والسكون، وهي: الظلمة عند جمهور أهل اللغة أو شيوع الظلمة وإلباسها كل شيء بحيث لا يصل إليه البصر ولا يدركه النظر، لا نفس الظلمة عند بعضهم، والإضافة الأولى بيانية أو بتقدير «في» والإضافة الثانية بتقدير «في»، والإضافة الثالثة بيانية يعني لم يعزب عنه الغوامض أي الخفيات والأسرار التي هي في الأمر المكنون المستور في الظلمة الشديدة المانعة لنفوذ شعاع البصر بالكلية وذلك لأنه - تعالى شأنه - يدرك بذاته المقدسة كل شيء بما هو عليه لا بالبصر (ولا ما في السماوات العلى) جمع العليا (إلى الأرضين السفلى) فلا يصرفه شخص عن شخص، ولا يلهيه صوت عن صوت ولا يحجزه شيء عن شيء ولا يمنعه أمر عن أمر، فيه تنزيه لعلمه تعالى عن أن يكون مثل علم المخلوقين إذ كانوا لإدراكهم بعض الأشياء الخفية وبعض

ص:139


1- 1 - قوله: و «أتقنها صنعه» كأنه (عليه السلام) ذكره دليلا على ثبوت علمه بكل شيء فإنا إذا رأينا الحكم والمصالح التي راعاها المبدىء الحكيم في كل عضو وتركيب من بدن الحيوان وغيره حكمنا بأن الفاعل عالم بما فعل وبما هو صالح أن يكون كل شيء عليه. وهذا لا يمكن إلا بالعلم بجميع الأمور من خواص المقادير وتركيب الطبايع والعناصر والمزاجات وغيرها. (ش)

الأجرام السماوية والأرضية إدراكا ناقصا محجوبين عن إدراك ما وراه، وأما علمه تعالى فهو المحيط بالكل على وجه الكمال بحيث لا يحجبه السواتر ولا يخفى عليه السرائر، وقد كرر (عليه السلام) بيان إحاطة علمه بجميع الأشياء دفعا للأحكام الفاسدة الوهمية، فإن بعض القاصرين توهموا أنه لا علم له (1) قبل الإيجاد وبعضهم توهموا أنه لا علم له بالجزئيات، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

(لكل شيء منها) أي من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما (حافظ ورقيب الحافظ والرقيب المنتظر، فالعطف على الأول للتفسير، وعلى الثاني للجمع، والتقسيم أي: لكل شيء منها حافظ يحفظه على مقداره وشكله وصورته وغير ذلك مما يناسبه من حاله ويليق به من كماله، ورقيب ينتظر آثاره المطلوبة منه. ولعل فيه إشارة إلى الملائكة المدبرات للعلويات والسفليات، فمنهم الموكلون على السماوات يدبرون أمرها بأمر ربهم، ومنهم الموكلون على الأرضين، ومنهم الموكلون على الجبال، ومنهم الموكلون على السحاب، ومنهم الموكلون على الرياح، ومنهم الموكلون على المياه، ومنهم الموكلون على النبات، ومنهم أمناء لوحيه يحفظونه ويبلغونه إلى رسله، ومنهم المترددون بقضائه وأمره مرة بعد أخرى، ومنهم الحفظة لعباده وأعمالهم، ومنهم الخزنة لأبواب جنانه ونيرانه إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده وأمره إلا هو (2).

(وكل شيء منها بشيء محيط) كما هو المعروف من نضد هذا العالم وتركيبه على وجه يحيط بعضه ببعض وهذا أغلبي لبطلان التسلسل ووجوب الانتهاء إلى محيط غير محاط بشيء، ويحتمل

ص:140


1- 1 - قوله: «توهموا أنه لا علم له» قد سبق نسبة ذلك إلى هشام بن الحكم وبينا وجه التأويل فيما ينسب إلى أعاظم القوم بأنه مبني على اصطلاح خاص بهم أرادوا به شيئا تبادر إلى أذهان غيرهم شيء آخر لعدم شهرة تلك المصطلحات وعدم تداولها بين الناس، وقلنا إن الجسم عنده بمعنى الشيء المستقل بنفسه استعار هذا اللفظ له لقربه من معنى الجسم في مقابل إعراضه، وكذلك نفى علمه بالأشياء قبل الإيجاد لعله أراد به طورا خاصا من العلم يتوقف على وجود المعلوم لا نفى العلم مطلقا وكذلك نفي علمه بالجزئيات عند بعضهم عدم إحساسه بالجوارح وتأثر القوى، فبصره علمه بالمبصرات وسمعه علمه بالمسموعات وهكذا، على ما قال المتكلمون. والحق ما ذكره الصدر من أن علم الأول سبحانه يجب أن يكون واحدا بسيطا لا كثرة فيه ومع وحدته وبساطته علم بكل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهذه المسألة بعينها كمسألة الوجود وزان كل منها وزان الآخر. وقال أيضا: إن علمه بالأشياء قبل كونها هو بعينه علمه بها بعد كونها. (ش)
2- 1 - قوله: «مما لا يعلم عدده وأمره إلا هو» إن قيل: الملائكة عند الشارح هم العقول القادسة على ما يصرح بذلك فيما يأتي قريبا، والعقول عند الحكماء عشرة لا غير، فكيف جعلهم كثيرة بما لا يحصى عددهم؟ قلنا: وافقهم الشارح في الأصل لا في العدد، ولا دليل على حصر العقول في العشرة، والمشاؤون أيضا لم ينفوا وجود أكثر منها بل قالوا: نعلم وجود العشرة لحركات الأفلاك والعناصر ولا نعلم دليلا على وجود أكثر، وأما الاشراقيون فقد أثبتوا عقولا غير متناهية، وأما الشارح فتمسك بما ورد في الأحاديث من كثرتهم ولا مانع من الالتزام به وإن كانوا هم العقول القادسة في اصطلاح الحكماء. (ش)

أن يراد بالمحيط الخواص والصفات وأن يراد به الحافظ والرقيب على أن يكون تأكيدا لما قبله (والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد) المحيط مبتدأ والواحد خبر يعني المحيط علما وحفظا بما أحاط من تلك الأشياء مع المحاط به هو الواحد الأحد الصمد وفي ذكر هذه الأوصاف إشعار بعلة هذا الحكم أعني كونه تعالى محيطا بالجميع لا غيره لأنه إذا كان هو موصوفا بالوحدة الحقيقية ونعت الصمدية لا غيره كان هو المحيط بالجميع دون غيره.

(الذي لا تغيره صروف الأزمان) أي حوادثها ونوايبها; لما عرفت مرارا أنه تعالى ليس بزماني يدخل تحت صروف الزمان حتى تغيره ولامتناع لحوق التغير به; لأن التغير من لواحق الأمور المادية (1) وهو سبحانه منزه عن المادة ولواحقها.

(ولا يتكأده صنع شيء كان إنما قال لما شاء: كن، فكان) تكأدني الشيء أو تكآدني أي شق علي على تفعل وتفاعل بمعنى لا يشق عليه ولا يعجزه صنع أي شيء كان; لأن ذلك إنما يعرض لذي القدرة الضعيفة الناقصة، وقدرته تعالى على غاية الكمال، منزهة عن الضعف والنقصان، وهو سبحانه إنما قال لما شاء كونه وأراد وجوده: كن، فيكون ذلك الشيء من غير مهلة وتراخي، والمراد بقوله للشيء «كن» حكمه وقضاؤه عليه بالوجود لا التلفظ بهذا اللفظ والنطق به.

(ابتدع ما خلق بلا مثال سبق) (2) يعني أنه اخترع الأشياء على ما لها من المقادير والأشكال والنهايات والآجال والصفات والكمال على وفق الحكمة بلا مثال امتثله ولا مقدار احتذى عليه من خالق كان قبله (ولا تعب ولا نصب) التعب والنصب الكلال والأعياء، فالعطف للتفسير والتأكيد، وحمل أحدهما على كلال القوة الآلية والآخر على كلال القوة المدركة النفسية ممكن، ولما كان شأن من فعل فعلا من سائر الفاعلين لا يخلو عن تعب وكلفة ومشقة نزه فعله تعالى عما يلزم غيره من الأمور المذكورة لأنها من توابع الانفعالات العارضة للآلات النفسانية والقوى الجسمانية وقدسه تعالى منزه عنها.

ص:141


1- 2 - قوله: «من لواحق الأمور المادية» كون التغير خاصا بالمادة ثابت واضح وبذلك أثبت المشاؤون وجود المادة للأجسام وقالوا: إن الجسم يتغير من حال إلى حال ولا بد أن يكون فيه شيء ثابت هو المادة وشىء يفنى ويتجدد غيره، وهو الصورة والحالات الطارية، وبيانه موكول إلى محله، ولو كان واجب الوجود أيضا متغيرا لزم إثبات شيئين فيه أحدهما ثابت مع تغير الحالات حتى يصدق عليه في الحالة الثانية أنه هو في الأول، وثانيهما متغير لا يبقى في الحالة الثانية حتى يصدق عليه أنه تغير، فثبت التركب فيه. (ش)
2- 1 - قوله: «ابتدع ما خلق بلا مثال سبق» قد يكون المخلوق من شأنه أن لا يكون له مثال سابق أو غير سابق كالمجردات المحضة وقد يكون من شأنه أن يكون له مثال كالا فلاك والابتداع يشمل كليهما بل يشمل الكائنات إذا نسبت إليه تعالى. (ش)

(وكل صانع شيء فمن شيء صنع، والله لا من شيء صنع ما خلق) إشارة إلى الفرق بين الصنايع البشرية وصنع الله تعالى بأن صنعه تعالى على سبيل الابداع والاختراع (1) دون الصنايع البشرية; وذلك لأن الصنايع البشرية إنما تحصل بعد أن ترسم في الخيال صورة المصنوع وتصور وضعه وكيفيته أولا وتلك الصور والتصورات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع وتصور مقادير وكيفيات خارجية له يشاهدها الصانع ويحذو حذوها، وتارة تحصل بمحض الإلهام كما يفاض على ذهن بعض من الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوره فيتصوره ويبرز صورته في الخارج وليس شيء من هذين الفعلين اختراعا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني مع أن الفاعل يسمى مخترعا في العرف فلأن التحقيق يشهد بأنه إنما فعل على وفق ما وجد في ذهنه من الشكل والهيئة والمقدار الفائضة من مفيض الحق فيكون في الحقيقة فاعلا عن مثال سبق من الغير فلا يكون مخترعا، وكيفية صنع الله تعالى للعالم وجزئياته منزهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين، أما الأول فلأن الله تعالى (2) كان ولم يكن معه شيء فلم يكن في مرتبة وجوده مثال ومقدار ولا ممثل ومقدر حتى يعمل هو جل شأنه بمثله ويحذو حذوه وأما الثاني فلاستحالة حصول الصور والمقادير في ذاته تعالى (3) ولامتناع استفاضتها من الغير، فكان صنعه لا كصنع الغير وكان فاعلا من غير مثال على أحد الوجهين، فإذن صنعه محض الإبداع وفعله مجرد الاختراع على أبعد ما يكون عن حذو مثال، بخلاف صنع المخلوقين تبارك الله رب العالمين، وإنما كرر (عليه السلام) إبداعه واختراعه تعالى للتأكيد والمبالغة في نفي الافتقار والعجز والحدوث عنه تعالى وفي نفي القدم عن العالم.

(وكل عالم فمن بعد جهل تعلم) أما الإنسان فظاهر لأنه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم، وإنما خلقت له هذه الآلات البدنية ليتصفح بها صور المحسوسات ومعانيها ويتنبه لمشاركات بينها

ص:142


1- 2 - قوله: «على سبيل الابداع والاختراع» جعل الشارع الابداع والاختراع بمعنى واحد ولعله في العرف كذلك إذ لا يفرقون بينهما وخص بعضهم كلمة الابداع بما لا يكون مسبوقا بمادة ولا مدة والاختراع بما لا يكون مسبوقا بمدة وان كان مسبوقا بمادة، فالعقول عندهم مبدعة والأفلاك مخترعة والمسبوق بالمادة والمدة جميعا كائن كالنفوس والمواليد ولا مشاحة في الاصطلاح. (ش)
2- 1 - قوله: «أما الأول فلان الله تعالى» يعنى كل مثال ومقدار يفرض فهو متأخر عن وجوده تعالى ذاتا لأنه ممكن والممكن مخلوقه، فان احتمل أنه تعالى خلق شيئا على وفق مثال بذلك المثال أيضا مخلوقه. (ش)
3- 2 - قوله: «والمقادير في ذاته تعالى» وحصول الصورة والمقدار حادث لابد له من علة لاستحالة ترجح أحد طرفي الوجود والعدم للممكن من غير مرجح ثم حصولهما في ذاته تعالى محال لوجهين: الأول: أن محل المقدار لا بد أن يكون جسما ذا طول وعرض ويستحيل حلوله في المجرد، والثاني أن وجود هذه الصور والمقادير في ذاته تعالى إن كانت علته ذات الواجب ثبت خلق هذه الصور بلا مثال سبق وإن كانت تعالى فهو محال إذ ليس غيره إلا ممكنا مخلوقا له. (ش)

ومباينات فتحصل له التجربة وسائر العلوم الضرورية والمكتسبة من المبدأ الفياض بلا واسطة معين ومرشد أو بواسطة، وعلى التقديرين فهو من بعد جهل تعلم من الغير، وأما العقول القادسة (1) فلأنهم في مرتبة ذواتهم لكون علومهم زائدة عليها جاهلون متعلمون من الفياض على الإطلاق، وبالجملة كل عالم سواه متعلم (والله لم يجهل ولم يتعلم) من الغير; لأن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل إنما هو لذاته المقدسة عن شوائب النقص والافتقار فهو العالم المطلق الذي لا يحتاج في علمه إلى غيره بوجه من الوجوه (أحاط بالأشياء) كما هي من حقائقها ولوازمها وعوارضها وخواصها وآثارها وأقدارها وجوانبها وأقطارها وغاياتها (علما قبل كونها) أي قبل وجودها من كتم العدم (فلم يزدد بكونها علما); لأن ذاته بذاته مناط لظهور الأشياء وانكشافها عند ذاته وعلم أزلي بجميعها من كل وجه فلا يتصور في علمه الزيادة والنقصان.

(علمه بها قبل أن يكونها كعلمه) بها (بعد تكوينها) ليس المقصود ما يستفاد من ظاهر التشبيه وهو تحقق المغايرة بين العلمين من وجه، وتحقق المشاركة من وجه آخر، بل المقصود أن علمه

ص:143


1- 3 - قوله: «وأما العقول القادسة» العالم في الممكنات إما إنسان ومثله، أو ملك، وعلوم هؤلاء بعد الجهل فعلم ما سوى الواجب بعد الجهل، أما الإنسان وأمثاله فواضح، وأما العقول القادسة وهم الملائكة فإنهم وإن لم يكن علمهم متأخرا عن الجهل بالتأخر الزماني لكن كان متأخرا بالتأخر الذاتي لأنهم في مرتبة ذاتهم غير عالمين لكون علومهم زائدة على ذاتهم وإنما أخذوا علومهم من الفياض على الإطلاق، ويمكن أن يكون بعض من خلق من البشر عالما من غير سبق جهل زمانا نظير العقول ونقول في تأخر علمهم ما قلنا في العقول وقد أجبنا بذلك عن سؤال ورد علينا في علم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مضمونه أنكم تقولون إنهم (عليهم السلام) كانوا عالمين بكل شيء منذ بدء وجودهم وقد قال الله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله): (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) وقال تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان). فقلت في الجواب: لا يدعي أحد من الشيعة الإمامية أن النبي والأئمة (عليهم السلام) كانوا مستغنين عن الله تعالى بلى ندعي استغناءهم عن الخلق فقط، علمهم بتعليم الله تعالى إياهم ولم يكن علمهم عين ذاتهم فإن هذه خاصة لواجب الوجود ولا ينافي ذلك كونهم عالمين منذ بدء خلقتهم من الله تعالى ولو لم يكن تعليمه إياهم لم يكونوا عالمين بذاتهم كما أن وجودهم من الله تعالى ولولا إيجاده لم يكونوا موجودين بذاتهم فعدم علمهم مقدم على علمهم; لأن عدم علمهم ذاتي وعلمهم مقتبس من العلة، وما بالذات مقدم على ما بالغير والآيتان لا تدلان على مضي زمان عليه (صلى الله عليه وآله) وهو جاهل إلا إن ادعى مدع اختصاص التقدم والتأخر عرفا ولغة بالزمانيين وليس كذلك بل يطلقان على الذاتيين أيضا إذ لا يختلف أهل العربية في أن الفاء وثم تدلان على الترتب ومع ذلك يصح في اللغة أن يقال: تحركت اليد فتحرك المفتاح دون العكس مع كون الحركتين معا زمانا وتأخر حركة المفتاح عن حركة اليد ليس بالزمان بل بالذات، فثبت أن أهل العرف واللغة يعرفون معنى التأخر الذاتي ويستعملونه في كلامهم ولا يجب حمل جميع ما ورد في الكتاب والسنة من الترتب والتأخر على الزماني ولا يصح دعوى من يدعي اختصاص التأخر الذاتي بأصحاب العلوم النظرية وأنه شيء لا يعرفه أهل اللغة والعرف فقوله تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان) أي ما كنت تعرفها بنفسك بل هو شيء عرفته بتعليم الله تعالى إياك منذ أول خلقتك. (ش)

بالأشياء في الصورتين واحد لا تفاوت فيه بوجه ما، وهذا تأكيد للسابق وتقرير لمضمونه.

(لم يكونها لتشديد سلطان) لأنه إنما يحتاج إلى الناصر والمعين ذو النقصان العاجز عن التصرف في ملكه وإجراء حكمه عليه، ولما كان - تعالى شأنه - هو الغني المطلق عن كل شيء وكان كل ما عداه مقهورا تحت قدرته القاهرة بالإيجاد والإبقاء والإفناء لم يحتج في سلطانه إلى أحد من خلقه.

(ولا خوف من زوال ولا نقصان); لأن ذلك الخوف من توابع الانفعالات ولواحق الممكنات القابلة في حد الذات للزوال والنقصان، ولما ثبت تنزهه تعالى عن ذلك لم يتصور أن يكون الغرض من إيجاده رفع ذلك الخوف عن نفسه (ولا استعانة على ضد مناو) أي معاد، من «ناوأه» مهموز اللام:

إذا عاداه، قال الجوهري: ناوأت الرجل مناوءة ونواء عاديته يقال: إذا ناوأت الرجال فاصبر. وربما لهم يهمز وأصله الهمز. وفي بعض النسخ على ضد مثاور بالثاء المثلثة بعد الميم والراء المهملة بعد الواو أي مواثب من ثار به الناس إذا وثبوا عليه (ولا ند مكاثر) أي متعرض للغلبة عليه، يقال:

كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة، والضد والند في اللغة بمعنى المثل والنظير، ولا يبعد أن يراد هنا بالأول أعم من المساوي والأدون بقرينة ذكر المعادة معه إذ المعاداة قد تكون من الأدون وبالثاني أعم من المساوي والأعلى بقرينة ذكر الغلبة معه إذ الغلبة تكون من الأعلى غالبا (ولا شريك مكابر) يطلب الكبر والعظمة عليه وكل ذلك لانتفاء مبدأ الاستعانة وهو العجز فيه; لأن العجز من تناهي القوة والقدرة وقدس الحق منزه عنه أيضا لا ضد ولا ند ولا شريك له حتى يحتاج في دفعهم إلى الاستعانة بغيره من مخلوقاته، وفيه تنزيه له تعالى عن صفات المخلوقين وخواص المحدثين.

ولما نفى أن يكون الغرض من الإيجاد ما ذكر، أشار إلى ما هو الغرض منه بقوله: (لكن خلايق مربوبون وعباد داخرون) الدخور: الصغار والذل، يعني: لكنهم خلايق مربوبون لهم رب قاهر وعباد ذليلون لهم معبود غالب. والحاصل أنه خلقهم ورباهم من حد النقص إلى حد الكمال لإظهار ربوبيته وإعلان قدرته وطلب منهم العبادة وحثهم على طاعته فقال: (يا عباد فاتقون) فيجب على الكل أن يرتبط بربقة الذلة والمسكنة والحاجة إليه، وينادي بلسان الحال والمقال بالثناء المطلق عليه، وفيه جذب للخلق بذكر جذب المربوبية والعبودية والدخور إلى ما خلقوا لأجله كما قال

ص:144

سبحانه: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون).

(فسبحان الذي لا يؤوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ) كما قال سبحانه: (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن) وذلك لأن إيجاده وتدبيره ليس بتحريك آلة جسمانية ولا استعمال روية نفسانية حتى يعرض له الثقل والكلال، إنما هو بمجرد العلم بالمصلحة (1) ومحض تعلق الإرادة والمشية وتدبيره يعود إلى تصريفه جميع الذوات والصفات وغيرها مما يناسب كل شيء ويليق به دائما تصريفا كليا وجزئيا على وفق حكمته وعنايته وإنما قال: ما ابتدأ ليكون سلب الثقل والأعياء عنه أبلغ; إذ ما ابتدئ من الأفعال يكون المشقة فيه أتم كما يرشد إليه قوله تعالى:

(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير).

(ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى) «من» علة ل «اكتفى»، وبما خلق متعلق بمدخولها أو ب «اكتفى»، والعجز والفترة متقاربان في المفهوم ولا يبعد أن يكون أحدهما لضعف القوة الفاعلية والآخر لضعف القوة الآلية أو يكون أحدهما لضعفهما والآخر لضعف العلم وقصوره عن تصور ما يريد العالم فعله، والحاصل أنه ليس الاقتصار على ما خلقه لعجزه عن الزائد وفتوره بسبب ما خلقه عن خلق ما سواه; لأن العجز والفتور من جهة تناهي القوة الجسمية وانفعالها وتأثرها مما يمانعها في التأثير، وهو منزه عن جميع ذلك (علم ما خلق وخلق ما علم) يعني علم في الأزل ما خلقه وخلق ما علمه في الأزل، والحاصل أن الاكتفاء بما خلق ليس لأجل العجز والفتور بل لأجل المصلحة واقتضاء الحكمة إذ كل ما قدره في الوجود من الممكنات فهو على طبق مصلحته ووفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار لاختل نظام الكل بل نظام كل واحد، فالاكتفاء بما خلق لوقوعه على وجه الحكمة والنظام الأتم الأكمل الذي ليس في الإمكان أن يكون على أتم منه وأحسن، ومن اعتبر القابلية والاستعداد في الإيجاد وإفاضة الوجود فهو يقول: الاكتفاء بما خلق

ص:145


1- 1 - قوله: «بمجرد العلم بالمصلحة» وهو معنى الإرادة بالنسبة إلى الله تعالى فإن قيل: هذا يستلزم أن يكون الواجب تعالى موجبا مضطرا لأنه إذا صدر الفعل عنه بمجرد علمه بالمصلحة كان نظير السقوط لمن هو على جذع بمجرد توهم السقوط وسيلان لعاب الفم بمجرد تصور الحموضة. قلنا: الغرض أن إرادته تعالى ليس باضطراب نفس واستعمال روية وليس فعله تعالى نظير المثالين بل فعله باختياره وإن لم يتوقف على ترديد سابق أو حصول عزم جديد بل أراد من الأزل ما أراد من غير لبث وتأمل وهمامة نفس وفكر وأمثال ذلك، ولا نوافق من يقول العلة التامة لا يكون مختارا في فعله والقديم الزماني لا يكون فعلا للقادر المختار. (ش)

دون الزايد عليه إنما هو لنقص في القابل لا لقصور في الفاعل لأنه مفيض الخير والجود والوجود من غير بخل ولا منع ولا تعويق على كل قابل بقدر ما يقبله ويستعد له، فكل ما أوجده أوجده لكونه قابلا مستعدا له. وكل ما لم يوجد لم يوجده لعدم كونه قابلا مستعدا له صالحا لإفاضة الوجود عليه.

(لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق) يعني خلق ما علم في الأزل وجه صلاحه لا بالرؤية والتفكر في تحصيل علم حادث أصاب جل شأنه بذلك العلم الحادث ما خلق وعلم وجه الصواب في خلقه لاستحالة أن يكون له علم حادث وإلا لكان جاهلا قبل حدوثه وإنه باطل، ولأن التفكر من لواحق النفوس البشرية بآلة بدنية وقد تنزه قدسه تعالى عن ذلك.

(ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق) وصار ذلك منشأ لعدم خلقه إياه بل عدم خلقه لعلمه بأنه لا مصلحة في وجوده. وفيه إشارة إلى كمال علمه وامتناع طريان الشبهة عليه. وسر ذلك أن الشبهة إنما تعرض العقل في الأمور المعقولة الصرفة الغير الضرورية; وذلك لأن الوهم لا يصدق حكمه إلا في المحسوسات (1) وأما الأمور المعقولة فحكمه فيها كاذب فالعقل حال استفصاله وجه الحق فيها يكون معارضا بالأحكام الوهمية، فإذا كان المطلوب غامضا فربما كان في الأحكام الوهمية ما يشبه بعض أسباب المطلوب فيتصوره النفس بصورة الحق ويعتقده مبدأ للمطلوب فينتج الباطل في صورة المطلوب وليس به، ولما كان - تعالى شأنه - منزها عن القوة البدنية والأحكام الوهمية وكان علمه الكامل الأزلي الفعلي من كل وجه لذاته المقدسة، لم يجز أن تعرض

ص:146


1- 1 - قوله: «إلا في المحسوسات» قال صدر المتألهين (قدس سره) لأنه - أي الوهم - لا يصدق حكم العقل إلا في المحسوسات لا في المعقولات فيعارضه ويدخل الشبهة عليه في المعقولات المحضة ولا يصدقه، فالعقل حال استفصاله وجه الحق فيها يكون معارضا بالأحكام الوهمية، فإذا كان المطلوب غامضا فربما كان في الأحكام الوهمية ما يشبه بعض أسباب المطلوب فيتصور النفس بصورته ويعتقد لما ليس بمبدأ فينتج الباطل في صورة المطلوب وليس به، ولما كان الباري جل مجده منزها عن صحبة القوى المتعلقة بالأبدان التي رئيسها الوهم وكان علمه لذاته، لم يجز أن يعرض لقضائه ولا لقدره وصمة شبهة أو يدخل عليه عيب شك وريب لكونهما من عوارض المعقول المقترنة بها، انتهى. ولا تتوهمن أن اقتباس المعنى ونقل عبارة الصدر عيب على الشارح وغيره من الشراح أو طعن فيهم وإن لم ينسبوا إليه; إذ من المعلوم أن المؤلف مطلقا يحتاج إلى ذكر ما سبقه إليه غيره في كتابه لتأييد أو رد أو توضيح فيكتفي بنقل عبارته من غير تغيير، وإنما العيب أن يذكر شيئا بديعا لغيره وينسبه إلى نفسه صريحا، ولم يصرح الشارح هنا بأن ما ذكره هنا من مستنبطات خاطره، ونقل كلام صدر المتألهين يدل على كثرة ممارسته لشرحه وفهمه غوامض تحقيقاته وأسرار أفكاره واختياره منه ما يناسب كتابه، وهذا من أعلى مدارج الكمال لا يوفق له إلا الأوحدي من الناس والاستخبار من الخبير كالاغتراف من البحر ليس دون شأن المرتاد. (ش)

له شبهة أو يدخل عليه شك لكونهما من عوارضها.

(لكن قضاء مبرم) أي بل إيجاد ما أوجده بدون الزيادة ودخول الشبهة عليه قضاء محكم وحكم موثق لا يحتمل الزيادة والنقصان (وعلم محكم) أي بريء من فساد الشبهة والشك والغلط، وهو إشارة إلى قدره الذي هو العلم الأزلي بوجود الكائنات على مقاديرها ومنافعها وخواصها وآثارها على ما هي عليه في نفس الأمر، وهذا كالأساس لبناء القضاء أعني خلق الأشياء وإيجادها في الأعيان، فالقضاء تابع للقدر كما أن بناء الباني بيتا تابع لتقديره أولا ذلك البيت ووضعه وهيئته ومقداره في نفسه، إلا أن الباني لقصور علمه قد يسنح له في أثناء البناء تغيير بعض ما قدره أولا، والصانع الحق لكمال علمه يوجد ما قدره أزلا من غير تغيير وتبديل وزيادة ونقصان.

(وأمر متقن) أي محكم لا يرد، لكونه واقعا على وفق الحكمة والمصلحة.

(توحد بالربوبية) أي تفرد بالربوبية المطلقة والتدبير في نظام العالم لا يشاركه أحد; إذ كل رب ومالك سواه فإنما تثبت له هذه الصفة بالإضافة إلى بعض الأشياء وهو مربوب مملوك له تعالى شأنه.

(وخص نفسه بالوحدانية) إذ الوحدانية المطلقة إنما هي له وحده، وكل ما سواه ولو كان بسيطا فهو زوج تركيبي ومركب حقيقي إذ له ذات وإنية، وصفات وأينية، وسمات وكيفية، فهو متكثر من جهات متعددة.

(واستخلص بالمجد والثناء) المجد: الكرم، والمجد أيضا: الشرف، والثناء: المدح والتعظيم وذكر الخير وأسبابه. إذا عرفت هذا فنقول: له المجد على الإطلاق وله الثناء بالاستحقاق، لا يشاركه فيهما موافق رشيد، ولا ينازعه فيهما مخالف عنيد، أما الأول فلأن وجوده أشرف الوجودات وأفضلها وذاته أشرف الذوات وأكملها، وموائد كرمه مبسوطة على ساحة الإمكان، وعوائد نعمه منشورة على أهل المنع والإحسان، وليست هذه الكرامة لأحد سواه ولا يدعي هذه الشرافة أحد عداه، وأما الثاني فلأن الثناء إما بإزاء شرف الذات والصفات والوجود أو في مقابل المن والإعطاء والجود، وقد عرفت أن شيئا من ذلك لا يوجد في غيره جل شأنه ولا يتحقق لأحد سواه عظم برهانه. وكل من عداه وإن كان شريفا فهو ذليل وإن كان كريما فهو بخيل، وكل من سواه إن استحق الثناء في الجملة فلأن الله تعالى أولاه، ومن المعلوم أن العبد وما في يده لمولاه.

(وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء) السناء بالقصر: الضوء، وبالمد: الرفعة، والسني: الرفيع، والأخير هو المراد هنا على الأظهر، أما تفرده بالتوحيد والمراد به التوحيد المطلق أعني التوحيد

ص:147

في عين الذات لانتفاء التركيب والأجزاء، والتوحيد في مرتبة الذات لانتفاء زيادة الوجود، والتوحيد بعد مرتبة الذات لانتفاء زيادة الصفات فظاهر; لأن غيره إما مركب أو بسيط، فإن كان مركبا انتفى عنه التوحيد بجميع أقسامه إذ له أجزاء ووجود وصفات زائدة عليه فهو متكثر من جميع الجهات، وإن كان بسيطا انتفى عنه التوحيد بالمعنيين الأخيرين. وأما تفرده بالمجد فقد عرفت وجهه ولا يبعد أن يراد بالمجد هنا الشرف والعز وفي السابق الكرم بقرينة ذكر الثناء معه; لأن الظاهر من الثناء أن يكون مقرونا بالكرم والإعطاء، وأما تفرده بالسناء أعني الرفعة والعلو على الإطلاق فلكونه أرفع وأعلى من غيره عموما بالرتبة والعلية إذ مصير جميع الخلائق في سلسلة الحاجة بذاوتهم ووجوداتهم وكمالاتهم إليه.

(وتوحد بالتحميد) أي بتحميده لنفسه كما هو أهله ولا يشاركه في تحميده كما هو حقه أحد حتى الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) كما يرشد إليه قوله (صلى الله عليه وآله) «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» أو بتحميد غيره له يعني لا يستحق أحد بتحميد الخلائق له هو، إلا هو. وأما تحميد غيره لنعمة أو كمال فيه فإنما هو تحميد له - تعالى شأنه - في الحقيقة كما بين في موضعه.

(وتمجد بالتمجيد) تمجيده يعني نسبته إلى المجد; يحتمل الأمرين مثل السابق (وعلا عن اتخاذ الأبناء) لأنه يمتنع لحوق مرتبته بمراتب الأجسام التي هي في معرض الزوال، ولأن مفهوم الابن هو الذي يتولد وينفصل عن آخر مثله في نوعه، وقدسه تعالى منزه عن المشابهة والمماثلة.

(وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء) لأنه يمتنع عليه الملامسة ولوازمها من الجسمية والشهوة والتركيب وطهارته تعود إلى تنزهه عن المواد وعلايقها من الملامسة والمماسة وغيرها.

(وعز وجل عن مجاورة الشركاء) المجاورة بالجيم على ما رأيناه من النسخ أو بالحاء على احتمال، ووجه ذلك أنه لو كان له شريك كان هو ناقصا في ذاته لافتقاره إلى ما به الامتياز، وفي فعله لعدم اقتداره على التصرف في ملكه إلا بإذن الشريك، والنقص عليه محال. وأيضا: لو كان له شريك يحاوره ويكالمه في خلقه ويستعين به في كيفية الإيجاد وحفظ نظام الموجودات حتى يكون إيجاده وحفظه أقرب إلى الصواب لكان محتاجا إلى معين وظهير، والحاجة يستلزم الإمكان المنزه قدس الواجب بالذات عنه.

(فليس له فيما خلق ضد) (1) يضاده في إمضاء إرادته ويمنعه من إجراء قدرته أو يرده عن الخطأ

ص:148


1- 1 - قوله: «فيما خلق ضد» المخلوق وجوده مأخوذ من الخالق ومحتاج إليه حدوثا وبقاء، والضد لا يمكن أن يكون وجوده مأخوذا من ضده وإلا لكان الشيء مضادا لنفسه. (ش)

إلى الصواب ويهديه إلى الرأي الصحيح في كل باب لبراءة ذاته وقدرته وعلمه عن النقصان التابع للإمكان (ولا له فيما ملك ند) (1) أي مثل ونظير في ذاته وصفاته ويفعل مثل فعله (ولم يشركه في ملكه أحد) لتقدسه عن المشاركة وتنزهه عن صفات المخلوقين (الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد) أي المهلك المفني للدهر والزمان والزمانيات (والوارث للأمد) أي للغاية ومنتهى المدة المضروبة للزمانيات، فالأبد والأمد والابتداء والانتهاء وجميع آثاره في عالم الأمر والخلق بأسرها تنتهي إليه انتهاء في أوليتها بالإيجاد وفي آخريتها بالإفناء، وهو أول كل شيء وآخره، ووارث كل شيء ومالكه وهو المستحق للأزلية والأبدية والبقاء وكل ما سواه مستحق للحدوث والعدم والفناء، وفيه رد على الدهرية وعلى من اعتقد قدم الزمان. وبالجملة كما أنه مبدأ الزمان والخلق فهو مرجعهما أيضا، ولما كان ذلك إشارة إلى أنه دائم متوحد موجود أزلا وأبدا، عقبه بقوله:

(الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا) أي منسوبا إلى الوحدة المطلقة للمبالغة في وحدته (أزليا) أي منسوبا إلى الأزل حيث لم يكن لوجوده أول (قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة أخيرا مصدر «بدأت الشيء»: فعلته ابتداء، والدهر: الزمان، وجمعه باعتبار أجزائه التي كل واحد منها زمان، والمراد بصروف الأمور إما إيجادها; لأن فيه صرفا لها من العدم إلى الوجود أو أعدامها; لأن فيه صرفا لها من الوجود إلى العدم، ولفظة قيل ظرف لقوله «لم يزل ولا يزال» أي لم يزل قبل بدء الدهور، ولا يزال بعد صروف الأمور أو لقوله «وحدانيا» أي هو واحد لا يشاركه أحد في ذاته ووجوده وصفاته وأفعاله وتدبيره قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور، ولما أشار بهذا إلى أنه باق أبدا أشار إلى سلب ما ينافي بقاءه للتأكيد والتقرير بقوله:

(الذي لا يبيد ولا ينفد) أي لا يهلك ولا ينفد وجوده; لأن الهلاك والنفاد من صفات الممكن الذي هو في مرتبة ذاته باعتبار اتصافه بوصف الإمكان موصوف بالعدم والبطلان، والحق الثابت بالذات بريء عن الاتصاف بأمثال هذه الصفات.

(بذلك أصف ربي) أي بما ذكرته من الثناء والتوحيد والتنزيه أصف ربي لا بما ذكره الواصفون المشبهون له بخلقة. ولما ظهر مما ذكر أنه المستحق للصفات الإلهية والمستجمع لها بحيث لا يوجد شيء منها في غيره أشار إلى التصريح بتفرده بها وتوحده بمقتضاها بقوله: (فلا إله إله الله) ثم وصفه بالعظمة والجلال، والغلبة على الإطلاق على سبيل التعجب بقوله: (من عظيم ما

ص:149


1- 2 - قوله: «في ما مالك ند» لأن المخلوق لا يمكن أن يكون نظيرا ومثلا لخالقه وفي رتبته. (ش)

أعظمه،ومن جليل ما أجله، ومن عزيز ما أعزه) للتنبيه على أن أحدا لا يقدر على معرفة حقيقة هذه الصفات وجلالة قدرها، ولإشعار بأنه وجب الانقياد له والإيمان به والطاعة له، ولفظة «من» بيان وتفسير لقوله «الله» وترجمة عنه.

(وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا) تنزيه لجناب الحق عما ينشب إليه المبتدعة من التشبه والتجسم والتصور بصورة وغير ذلك من الأقاويل الكاذبة وهؤلاء متشاركون في إنكار الصانع مثل الملاحدة وإن لم يصرحوا بإنكاره; لأن الثابت بزعمهم ليس بصانع، والصانع الحق ليس بثابت عندهم.

* الأصل:

وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فهم، فلو اجتمع ألسنة الجن والانس ليس فيها لسان نبي على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به - بأبي وأمي - ما قدروا عليه، ولو لا إبانته (عليه السلام) ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد. ألا ترون إلى قوله: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» فنفى بقوله: «لا من شيء كان» معنى الحدوث وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال، نفيا لقول من قال: إن الأشياء كلها محدثة بعضها من بعض وإبطالا لقول الثنوية الذين زعموا أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر إلا باحتذاء مثال، فدفع (عليه السلام) بقوله: «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنوية وشبههم،; لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا: لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم «من شيء» خطأ، وقولهم: «من لا شيء» مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه، فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة على أبلغ الالفاظ وأصحها فقال: «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا، ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا، لا من أصل أحدثه الخالق، كما قالت الثنوية: إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.

ثم قوله (عليه السلام): ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه إلا مثال، كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم: «متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم نثبت صانعا» ففسر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة.

ص:150

ثم قوله (عليه السلام): الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله (عليه السلام): لم يحلل - في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن فنفى (عليه السلام) بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة، ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.

ثم قال (عليه السلام): لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.

* الشرح:

(وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة) أي عظموها وأشهروها فيما بينهم حتى اشتهرت وصارت مبتذلة، غير متروكة.

(و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها) لاشتمالها على ما لا مزيد عليه من أمر التوحيد المطلق والتنزيه المحقق وتضمنها على إشارات لطيفة واعتبارات صحيحة من الصفات الكمالية والصفات الإضافية والسلبية.

(فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس) (1) وتعاضدت قلوبهم واستظهر بعضهم من بعض (ليس فيها

ص:151


1- 1 - قوله: «فلو اجتمعت ألسنة الجن والانس» قال صاحب المواقف - هو من مشاهير متكلمي أهل السنة وكتابه أشهر كتب الكلام: علي أعلم الصحابة لأنه كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم، ومحمد (صلى الله عليه وآله) أعلم الناس وأحرصهم على إرشاده، وكان في صغره في حجره وفي كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت، وذلك يقتضي بلوغه في العلم كل مبلغ - إلى أن قال - إن عليا ذكر في خطبه من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة ولأن جميع الفرق ينتسبون إليه في الأصول والفروع وكذا المتصوفة في علم تصفية الباطن، وابن عباس رئيس المفسرين تلميذه، وكان في الفقه والفصاحة في الدرجة القصوى، وعلم النحو إنما ظهر منه وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي بتدوينه. وقال أستاد الحكماء المتألهين صدر الدين الشيرازي (قدس سره): وشاهد ذلك أما جملة فقول النبي (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلى بابها» ولا شك أن المقصود أنه (عليه السلام) هو المنبع الذي يفيض عنه العلوم القرآنية والأسرار الحكمية التي اشتمل عليها القرآن الحكيم والسنة الكريمة - إلى أن قال -: فالمشهور على ألسنة الجمهور وفي الكتب مسطور أن جميع فرق الإسلام انتهوا في علومهم إليه. أما المتكلمون فمعظمهم المعتزلة وانتسابهم إليه ظاهر فإن أكثر أصولهم مأخوذة من ظواهر كلامه في التوحيد والعدل وأيضا فإنهم ينتسبون إلى مشايخهم كالحسن البصري وواصل بن عطاء وكانوا منتسبين إلى على (عليه السلام) ومتلقفين عنه العلوم، وأما الأشعرية واستنادهم إلى أبي الحسن الأشعري وقد كان تلميذا لأبي علي الجبائي وهو من مشايخ المعتزلة، وأما الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر، وأما الخوارج فهم وإن كانوا في غاية البعد عنه إلا أنهم ينتسبون إلى مشايخهم وكانوا تلامذة علي، وأما الفقهاء فمرجع انتساب فقه الجميع إليه كما هو مفصل في الكتب ككتاب الأربعين للفخر الرازي. وكفى في ذلك شاهدا قول النبي (صلى الله عليه وآله): «أقضاكم علي» والأقضى لا بد أن يكون أفقه وأعلم بالأصول والفروع، وأما الفصحاء فالجميع بمنزلة عياله في الفصاحة من حيث يملؤون أوعية أذهانهم من ألفاظه ويضمنونها خطبهم ورسائلهم فيكون بمنزلة درر العقود. وأما النحويون فأول واضع النحو أبو الأسود الدؤلي وكان ذلك بإرشاده، وأما علماء الصوفية وأرباب العرفان فنسبتهم إليه في تصفية الباطن وكيفية سلوكهم العلمي والعملي إلى الله تعالى ظاهرة الانتهاء إليه، انتهى بتخليص ما، ولا ينافي كون علم الخوارج من أعدائه منتسبا إليه كما أن علم الأخباريين مأخوذ من المجتهدين إذ لو لم يتمارسوا كتبهم لم يبلغوا ما أدركوا البتة. (ش)

لسان نبي) حال عن الألسنة (على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتي به - بأبي وأمي) صلوات الله عليه (ما قدروا عليه) لظهور أن علم التوحيد من جهة الوحي، والعقل البشري عاجز عن إدراك ما في عالم القدس بالاستقلال. وقوله: «بأبي وأمي» كلمة معتادة للعرب يقال لمن يعز عليهم، ولا يختلج في وهمك أنه كيف يحسن التفدية هنا بعد الموت وهي غير ممكنة لأنه لا بشرط في إطلاقها في عرفهم إمكان الفدية وليس الغرض منها تحقيق الفدية بل تخييلها وإيهامها للاسترقاق وتخييل المقول له أنه عزيز في نفس القائل إلى غاية أنه أرجح من أبيه وأمه بحيث يفديه بهما، وظاهر أنه مما يفعل في الطبع ميلا من المقول له (ولولا إبانته (عليه السلام)) وتمييزه للحق عن الباطل في أمر التوحيد (ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد); لأن سبيل التوحيد دقيق وبحر معرفته عميق يعجز الغواصون قبل الوصول وإن بالغوا ويضل الوصافون قبل البلوغ وإن جاهدوا، وقد ضل جمع كثير من المتكلمين بأوهامهم وجم غفير من المعتمدين بأفهامهم في أول مرتبة من مراتب السلوك وأول ظلمة من ظلمات الشكوك.

(ألا ترون إلى قوله) في وصف ذات الواجب (لا من شيء كان) (1) وفي وصف فعله إيجاده (ولا من شيء خلق ما كان فنفى بقوله لامن شيء كان معنى الحدوث) عن ذاته تعالى إذ حدوث كل حادث يستلزم أن يكون وجوده من شيء (2) ونفي اللازم مستلزم لنفي الملزوم.

(وكيف أوقع) عطف على قوله «نفى» عطف الإنشاء على الإخبار، ومن لم يجوز ذلك فله أن يقول:

هذا الكلام وإن كان بحسب الظاهر إنشاء للتعجب عن الإيقاع لكنه في الحقيقة إخبار

ص:152


1- 1 - قوله: «لا من شى كان» مناط الحدوث كون وجود الشيء مأخوذا عن غيره، والله تعالى منزه عنه; لأن كل شيء متعلق بغيره لا يكون واجب الوجود بذاته وإن كان قديما زمانا، فلو فرض ذات الواجب تعالى معلولا لغيره كالنور والشيء الآخر الذي تعلق به الواجب كالشمس لم يكن الواجب واجبا لذاته بل كان مخلوقا لغيره ولا يرضى أحد بأن يقول هو تعالى متعلق الوجود بشيء آخر نظير تعلق النور بالشمس وإن كان تعالى وما فرض علة له كلاهما قديمين زمانا. فإن قيل أن الحدوث الذاتي والتأخر الذاتي شيء لا يفهمه الناس، قلنا: الله تعالى منزه عن كل شيء ينافي وجوب وجوده سواء فهمه الناس أو لا، وفهم بعضهم كاف في ذلك، على أنا بينا في موضع آخر أنهما مما يفهمه العامة وإن لم يعرفوا الاصطلاح كساير الأمور العامة. (ش)
2- 2 - قوله: «أن يكون وجوده من شيء» الحادث سواء كان حادثا زمانيا أو ذاتيا فإن وجوده من غيره فليس واجب الوجود حادثا زمانيا وهو واضح ولا ذاتيا; لأن وجوده ليس من شيء. (ش)

بحصول التعجب له، وهذا القدر كاف في صحة العطف.

(على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال، نفيا لقول من قال) من الدهرية والملاحدة و «نفيا» مفعول له لقوله أوقع.

(إن الأشياء) أي الأشياء الجزئية (كلها محدثة بعضها من بعض) (1) على سبيل التسلسل والتعاقب في الجزئيات الغير المتناهية والنوع منضبط تحتها، فإنهم يقولون: كل واحد من أفراد الإنسان مثلا محدث ونوعه قديم (2) وليس ثم إنسان أول وإنما هو إنسان من نطفة والنطفة من إنسان لا إلى النهاية ولهذا ينكرون وجود الصانع، تعالى عما يقولون (وإبطالا لقول الثنوية) (3) وهم الذين يثبتون إلها نورانيا وإلها ظلمانيا ينسبون إلى الأول الخيرات وإلى الثاني الشرور، ولعل المراد بالثنوية هنا القائلون بالمادة وأزليتها وأنه لا يحدث شيء إلا من مادة أزلية بحسب استعداداتها وسموا ثنوية لأنهم حكموا بسرمدية المادة وأزليتها (الذين زعموا

ص:153


1- 3 - قوله: «كلها محدثة بعضها من بعض» هو رأي الملاحدة المنكرين للصانع المكتفين بالعلل المعدة في سلسلة الحوادث، وجعل صاحب الكافي عليه الرحمة قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لا من شيء خلق ما كان» إشارة إلى رد هذا الرأي، وتقريره أنه أطلق الخلق على كل موجود، وظاهر أن الخلق بمعنى الإيجاد بعد العدم فيلزم أن يكون كل شيء مخلوقا بعد العدم، وعلى قول الملاحدة: يلزم كون بعض الأشياء غير مخلوق وهو المادة التي تتعاقب عليها الصور، ويلزم أيضا أن يكون كل شيء من شيء لعدم تناهى الحوادث الماضية فلا يكون شيء لا من شيء وأما الاستدلال على بطلان رأيهم فموكول إلى ساير أقواله (عليه السلام). (ش)
2- 4 - «محدث ونوعه قديم» إن كان مرادهم أن نوع الإنسان على سطح هذه الأرض قديم فيرد عليه قبل كل شئ أن الأرض ليست قديمة فضلا عن ما هو عليها، ثم إن العلم الجديد يرجح كون الأرض في زمان قطعة من نار لم يمكن أن يعيش عليها أي موجود ذي حياة نباتي أو حيواني وإنما صارت قابلة بعد أن مضى عليها زمان طويل ولا بد أن يكون أول حي وجد على الأرض أبا لساير أفراد نوعه من غير أن يكون له أب قبله، وهذا بمنزلة الأسماك المتولدة في قنوات تحدث في الأرض من غير أن تتصل بمنبع ماء أو بحر إذ قد يتولد فيها أسماك بغير التوالد والتناسل ولا بد من القول بأول سمكة خلقت فيها من غير أب وأم. وإن كان المراد أن قبل وجود هذه الأرض خلقت أرض أخرى وخلق عليها موجودات حية وإنسان بقيت أو زالت وقبلها أرض وأحياء وهكذا إلى غير النهاية فهذا لا يستلزم على فرض صحته نفي الصانع إذ لا يمتنع في العقل أن يخلق الله عالما فيفنيه ويحدث عالما آخر وهكذا متواليا. والقول الصحيح في هذا المقام أن مراده (عليه السلام) إثبات مخلوقية كل شيء حتى المادة فإن أذهان العامة والملاحدة لا تعترف بكون مادة الأشياء مخلوقة بل يظنونها واجبة الوجود إذ لا يتعقلون إمكان عدمها أصلا فهي عندهم موجودة مستغنية عن الإيجاد وإنما الحادث التغيرات الطارية والحالات العارضة عليها فأصلها ثابت وأحوالها متغيرة فلم يوجد شيء إلا من شيء، وسيجئ بطلانه إن شاء الله تعالى. (ش)
3- 1 - قوله: «لقول الثنوية» أي بعضهم لا جميعهم فإنهم فرق عديدة ذكرهم الشهرستاني وغيره، والثنوية يشتركون في إثبات أصلين للعالم النور والظلمة أو يزدان وأهريمن وأمثال وذلك ومنهم المانوية وهم زنادقة ونسبتهم إلى الزردشتية نسبة الملاحدة إلى المسلمين، وأما احتمال كون المراد منهم الماديين على ما ذكره الشارح فغير صحيح إذ لم يعهد إطلاق هذا الاسم عليهم في موضع. (ش)

أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر) شيئا (إلا باحتذاء مثال) يحذو حذوه وينظر إليه ويعمل مثله وهم أيضا يقولون بقدم الأنواع والأصول (1) مثل الملاحدة إلا أنهم يقرون بوجود الصانع المحدث لأ فرادها على وجه الاحتذاء، بخلاف الملاحدة فإنهم يسندون حدوث الأفراد إلى الطبايع.

(فدفع (عليه السلام) بقوله: لا من شيء خلق ما كان جميع حجج الثنوية وشبههم) العطف للتفسير والتنبيه على أن ما هو حجة بزعمهم فهو شبهة منسوجة من الباطل في الحقيقة (لأن أكثر ما يعتمد الثنوية) المراد بالأ كثرية الأ كثرية بحسب القوة والاستعمال في مقام الاحتجاج لا الأ كثرية بحسب العدد فلا يرد أن ما نقله منهم واحد فلا يصح وصفه بالأ كثرية (في حدوث العالم) أي في حدوث العالم من أصل ومثال كما هو مذهبهم أو في نفي حدوث العالم على سبيل الإبداع والاختراع كما هو الحق (أن يقولوا: لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء) أي من مثال سابق بالاقتداء به وإجراء مثل ما وقع فيه من التدبير على خلقه (أو من لا شيء) والثاني باطل إذ لا يجيء من لا شيء شيء بالضرورة فتعين الأول وهو المطلوب.

الجواب أن كل واحد من شقي الترديد باطل وأن الشق الثاني ليس نقيضا للشق الأول حتى يلزم من بطلان الثاني كما قالوا ثبوت الأول ومن بطلانهما كما قلنا ارتفاع النقيضين، وإنا نختار شقا ثالثا هو النقيض للأول وهو: أنه خلق لا من شيء. أما وجه بطلان شقي الترديد فأشار إليه المصنف بقوله (فقولهم من شيء خطأ) لأنه يستلزم عجز الواجب وسلب التدبير عنه وافتقاره إلى الغير في تنفيذ

ص:154


1- 2 - قوله: «بقدم الأنواع والأصول» القول فيهم كالقول في من قال بقدم نوع الإنسان على ما مر. وهذه شبهة عجيبة مرتكزة في ذهن الناس، وتحير العقلاء في علة رسوخها فيهم; لأن الطبع البشرى مجبول على عدم التصديق بشيء لم يحسه بحواسه ولم يقم عليه دليل عقلي، ومقتضى عدم الدليل على شيء الشك فيه، ومع ذلك هم على قدم المادة ولا تناهي الفضاء من غير أن يدركوه بديهة أو يقوم عليه دليل، وقال الحكماء: إن المادة لا يمكن وجودها إلا بصورة وإن فرضنا أن لا صورة فلا مادة فالمادة متعلقة الوجود بالصورة والذي يتعلق وجوده بغيره لا يكون واجب الوجود على ما مر، ولا ريب أن كل أحد يمكن أن يتعقل كون صورة الإنسان مخلوقة للصانع وكذلك صورة الغذاء الذي تحصلت صورة الإنسان منه وصورة الماء الذي دخل في تركيب الإنسان وصورة الأشياء التي تركب منه الغذاء وهكذا كل صورة والمادة متعلق وجودها بصورة ما من هذه الصور المخلوقة فالمادة متعلقة الوجود بخالق الصور، نعم إن قلنا بالجزء الذي لا يتجزى وأنكرنا وجود الصورة الجسمية أصلا وأنكرنا إمكان استحالة الصور النوعية بعضها إلى بعض صعب تصور تعلق المادة الجسمانية بعلة مفارقة مجردة، ولكن ثبت بطلان الجزء بالدليل القطعي وهو كان هنا، وبالجملة فأزلية المادة واستغناؤها في الوجود عن العلة من أسخف الآراء وأضعفها، والقائل بقدم الأنواع والأصول ليست شبهته إلا تصور استغناء المادة عن العلة وكونها أزلية فيجب أن يكون في ضمن نوع دائما. (ش)

قدرته وثبوت قديم غيره وكل ذلك محال (وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة) المحال من الكلام بالضم ما عدل عن وجهه كالمستحيل وأحال وأتى بالمحال (لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه) يعني أن لفظة «من» الابتدائية توجب شيئا يقع الابتداء منه، ومدخولها وهو لفظة لا شيء ينفي ذلك الشيء ضرورة أن اللا شيء لا يصدق على شيء من الأشياء، فبين مفهوم «من» ومفهوم اللاشيء تناقض، فلا يصح قولهم «من لا شيء» أيضا، وإذا ثبت بطلان شقي الترديد كليهما ثبت أنه لا تناقض بينهما. وأما الشق الثالث فهو ما اختاره (عليه السلام) كما أشار إليه المصنف بقوله (فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة) أي هذه العبارة المشتملة على الترديد أو قولهم خلق الأشياء من لا شيء (على أبلغ الألفاظ وأصحها) من حيث اللفظ والمعنى (فقال (عليه السلام) لا من شيء خلق ما كان) فإنه رد عليهم بأن ترديدهم ليس بحاصر لعدم وقوعه بين النفي والإثبات فإن قولهم «من لا شيء» ليس رفعا ونقيضا لقولهم «من شيء» بل قولنا «لا من شيء» دفع ونقيض له فإن نقيض الابتداء من شيء سلب الابتداء من ذلك الشيء لما تقرر من أن نقيض كل شيء رفعه لا الابتداء من «لا شيء» إذ لا تناقض بين الموجبتين، وإن كان المحمول في إحداهما متضمنا للسلب، ولما لم يكون ترديدهم حاصرا اختار (عليه السلام) شقا ثالثا وهو أنه خلق الأشياء لا من شيء (فنفى من) بإدخال حرف النفي عليها وأنكر عليهم إدخال «من» على حرف النفي (إذ كانت) يعني «من» (توجب شيئا) (1) فلو دخلت على حرف النفي كما قالوا لزم التناقض في قولهم «من لا شيء» كما عرفت (ونفي الشيء) إشارة إلى أن النفي في قولنا «لا من شيء» راجع إلى مفهوم «من» الابتدائية، ومفهوم مدخولها وهو الشيء كليهما، لا إلى مفهوم من وحده حتى يلزم وجود شيء قبل خلقه للأشياء.

(إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا لا من أصل) تعليل لنفي «من» ونفي الشيء جميعا وهو في الحقيقة سند للمنع كما يظهر بالتأمل.

(أحدثه الخالق) (2) لا من أصل، وهذا تأكيد للسابق ومبالغة في أن خلقه بمحض الاختراع من

ص:155


1- 1 - قوله: «من توجب شيئا» «من» هذه حرف جر بمعنى ابتداء الغاية وقد يقال لها «من» النشوية وهي تقتضي شيئا منه يبتدأ وينشأ شيء آخر مثل ابتداء المسافة الحقيقية نحو: سرت من البصرة إلى الكوفة، أو الوهمية نحو: حفظت الكتاب من أوله إلى آخره، وقد تدل على العلة الفاعلية نحو أن يقال: وجود العالم من الله، أو على العلة المادية نحو: خلقكم من تراب ثم من نطفة، أو على العلة المعدة نحو: الابن من الأب، والعذاب من المعاصي، وإذا اغتسل الإنسان خلق الله من كل قطرة من ماء غسله ملكا يستغفر له، ونعيم الآخرة تتجسم من أعمال أهل الدنيا وأجسامهم من أجسامهم في الدنيا، ويجب الفرق بين العلة المادية والعلة المعدة، وخلق النفس المجردة من البدن من الثاني، والصورة النوعية من المزاج من قبيل الأول. (ش)
2- 2 - قوله: «لا من أصل أحدثه الخالق» مذهب أهل التوحيد أن الله تعالى خلق ما خلق من أصل وخلق ذلك الأصل أيضا وليس الأصل غير مخلوق بخلاف الثنوية أي المانوية منهم فإنهم قالوا بعدم مخلوقية الأصل وبمخلوقية ما تركب منه فقط وقوله «أحدثه الخالق» أي أوجده وأطلق الأحداث على الإيجاد للملازمة عرفا بين الحدوث والخلق. وقد تكرر البحث في الحدوث متفرقا في الحواشي، ونلخص لك هاهنا حاصل ما سبق وهو أن الحدوث يمكن أن يثبت للعالم لوجوه: الأول التعبد الشرعي في الاعتقاد به والدليل عليه ظاهر الكتاب والسنة والإجماع وهذا وجه حسن ولكن يتوقف على إثبات حجية الإجماع وظاهر الكتاب وقول الرسول والأئمة (عليهم السلام) فما لم يثبت ذلك أولا لم يصح التمسك بقولهم وإثبات ذلك كله متوقف على إثبات وجوده تعالى وعدله ولطفه وحكمته والنبوة وغير ذلك قبل إثبات الحدوث. الثاني إثبات حدوث العالم حتى يثبت به احتجاجه إلى الصانع ويثبت به وجوده تعالى ولا يجوز التمسك حينئذ في ذلك بالإجماع وأدلة الشرع; لأن المنكر أو الشاك في وجوده تعالى لا يعترف بالشرع ولا بدليله بل الصحيح أن يثبت الحدوث بالدليل العقلي أولا، ثم يثبت به وجود الواجب ثانيا، ثم بعد ذلك يثبت النبوة وحجية قول النبي وبعد ذلك الإمامة وحجية أقوالهم، ثم يثبت حجية الإجماع لدخول قول المعصوم فحجية الإجماع متأخرة عن إثبات الحدوث بهذه المراتب لا مقدمة عليه. الثالث إثبات الحدوث لا لتوقف إثبات الواجب تعالى عليه ولا للتعبد به شرعا بل لأنه مطلب علمي محض مثل عدم تناهي الأبعاد ومساحة الأرض وكرويتها ومقدار الأبعاد بين الكرات السماوية وأمثال ذلك. وبالجملة من يريد إثبات الحدوث لإثبات الصانع لم يجز له التمسك بالأدلة الشرعية، ومن يتمسك بالأدلة الشرعية لا يجوز له التمسك به لإثبات الواجب، وظاهر كلامهم أن الاعتقاد بالحدوث إنما هو لإثبات الواجب تعالى وأن انكار الحدوث مساوق لإنكار الصانع، وأن إثبات الصانع يكفي لاثبات الحدوث، وعلى هذا فلا يجوز التمسك به بالأدلة الشرعية كالإجماع، ولما كان ذهب أكثر المتكلمين أن علة احتياج الممكن إلى الواجب إمكانه لا حدوثه، وأن العقل لا يأبى أن يتعلق شيء قديم زمانا بشيء قديم مثله كما لو فرضنا الشمس قديمة كان نورها قديما مع تعلقه بالشمس التزموا بأن إثبات الصانع مطلقا لا يتوقف على إثبات الحدوث، نعم زعم كثير منهم أن الفاعل المختار لا يجوز أن يكون فعله قديما وأن واجب الوجود مختار ففعله حادث زمانا وإلا لزم اضطراره. والجواب: أن ذلك غير معقول لنا إذ لا يستحيل عند العقل أن يكون الفاعل المختار تعلق إرادته بأن يكون فاعلا دائما وأن يكون خلق عالما وأفناه، ثم خلق عالما آخر وأفناه وهكذا إلى غير النهاية أزلا وأبدا بحيث كان له في كل زمان مخلوق، فالوجه أن يقال: الحدوث أمر تعبدي ثابت بالدليل الشرعي لا لتوقف إثبات الواجب عليه بل هو مثل خلق العالم في ستة أيام، أو يقال حدوث الأجسام مسألة علمية مثل تركبها من الهيولى والصورة وأمثال ذلك، وبحث المتكلمون عنه كما بحثوا عن الجوهر والعرض والمقولات العشر لا لكونه مسألة شرعية، والحق أن يقال: غرض المتكلمين إثبات مخلوقية كل شيء للفاعل المختار وهو الأصل الذي لا محيص عنه وإنما عبروا بالحدوث لأنهم اعتقدوا ملازمة بين المخلوقية والحدوث ولا يهمهم إلا إثبات مخلوقية كل شيء له. قال العلامة الحلى (قدس سره) في نهج المسترشدين: الموجود إما أن يكون قديما أو محدثا فالقديم ما لا أول لوجوده، والذي لا يسبقه العدم وهو الله تعالى خاصة، والمحدث ما لوجوده أول وهو المسبوق بالعدم وهو كل ما عدا الله تعالى. وغرضه هنا القديم والمحدث الذاتيان، بقرينة أنه قال: والقديم لا يجوز عليه العدم لأنه إما واجب الوجود لذاته، فظاهر أنه لا يجوز عليه العدم، وإما ممكن الوجود فلا بد له من علة واجبة الوجود وإلا لزم التسلسل، ويلزم من امتناع عدم علته امتناع عدمه، فاعترف بأن الممكن يجوز أن يكون قديما زمانا مع كونه معلولا، ثم قال: إن علة احتياج الأثر إلى المؤثر إنما هي الإمكان لا الحدوث. وقال أيضا: الحدوث كيفية الوجود فتكون متأخرة عن الوجود تأخر عن الايجاد المتأخر عن الاحتياج المتأخر عن علة الاحتياج، فلو كان الحدوث علة الاحتياج لزم الدور بمراتب وهو محال. (ش)

ص:156

غيرأن يكون مأخوذا من شيء وكاينا على مثاله، والضمير المفعول في «أحدثه» يعود إلى كل شيء.

(كما قالت الثنوية) متعلق بالمنفي الذي في قوله «لا من أصل» (إنه خلق من أصل قديم) هو أصل للأشياء الحادثة ومادتها (فلا يكون تدبيرا لا باحتذاء مثال) صفة كاشفة لقوله «تدبيرا» إذ التدبير وهو رعاية كل ما له مدخل في نظام كل واحد من أجزاء العالم من الأمور الكلية والجزئية إنما يتحقق إذا لم يكن باحتذاء مثال وإلا فالتدبير لخالق المثال لا لمن تبعه. وفي بعض النسخ إلا بأداة الاستثناء وهو الأوفق بمذهبهم لأنهم يسمون رعاية المصالح على سبيل الاحتذاء تدبيرا كما يرشد إليه الكلام السابق.

(ثم قوله (عليه السلام)) «قوله» بالجر عطفا على قوله «لا من شيء كان» أي ألا تنظرون إلى قوله (عليه السلام).

(ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال، كل دون صفاته تحبير اللغات، فنفى (عليه السلام) أقاويل المشبهة) المتبعين لأوهامهم وأحكامها الفاسدة المحجوبين عن ربهم بظلمات نفوسهم (حين شبهوه بالسبيكة) أي بالفضة المذابة يقال: سبكت الفضة أسبكها سبكا أذبتها، والفضة سبيكه (والبلورة) البلور مثل التنور والسنور: جوهر معروف والجامع بينهما هو الصفاء واللون.

(وغير ذلك من أقاويلهم من الطول) قال بعضهم: طوله سبعة أشبار من شبر نفسه. وقال بعضهم غير ذلك (والاستواء) على العرش ونحوه حتى ذهب بعضهم إلى أنه قد ينزل عنه لأمر ما ثم يصعد إليه.

(وقولهم) بالنصب عطفا على الأقاويل أي فنفى (عليه السلام) قولهم.

(متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية) يكون هو عليها سواء كانت قارة أو غير قارة (ولم ترجع إلى إثبات هيئة) أي صفة قارة يكون هو عليها (لم تعقل شيئا فلم تثبت) أي العقول حينئذ (صانعا); لأن العقل لا يحكم بوجود شيء لا يدركه أصلا، وهم قالوا ذلك بحكم العادة في إدراك النفس للأمور المعقولة من الأمور الممكنة باستعانة الوهم والخيال، فإن النفس إذا توجهت إلى أمر معقول تستعين بالقوة الوهمية والخيالية على إثبات ذلك المعنى المعقول وضبطه وتتأبى عن الإشارة إليها إلا بمشاهدة الوهم والخيال واستثبات حد وكيفية وهيئة يكون هو عليها فظنوا أن عالم قدس الحق وعالم التوحيد مثل هذا العالم فأجروا فيه حكم هذا العالم واعتقدوا فيه بالمشابهة

ص:157

والمماثلة والكيفية والهيئة إلى غير ذلك من العقائد الباطلة الفاسدة (فعبر أمير المؤمنين (عليه السلام)) عبر من التعبير بالعين والباء الموحدة وفي بعض النسخ «ففسر» من التفسير بالفاء والياء والمثناة من تحت وهو الأظهر (أنه واحد بلا كيفية) من الكيفيات التي يثبتها المشبهة (وأن القلوب تعرفه بلا تصوير) من التصويرات التي يعقلها المبتدعة (ولا إحاطة) بكنه ذاته وصفاته.

فإن قلت: أين يفهم هذه الأمور من كلامه (عليه السلام).

قلت: يفهم من مجموع منطوق كلامه ومفهومه كما لا يخفى على المتأمل.

(ثم قوله (عليه السلام)) وهو أيضا عطف على قوله «لا من شيء كان» وكذا ما بعده («الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود» ثم قوله (عليه السلام) «لم يحلل في الأشياء (1) فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال: هو منها بائن» فنفى (عليه السلام) عنه بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام) والظاهر أن الكلمتين هما القولان ولكن الظاهر من سياق كلام المصنف فيما يذكره من الدليل أن نفي صفة الأعراض والأجسام بالقول الأخير وفي فهم هذا النفي من القول الأول خفاء يزول بالتأمل (لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة) أي تباعد بعضها عن بعض بحسب تباعد الأمكنة والمباينة بينها بتراخي مسافة وحيث لم يكن الله تعالى بعيدا عن شيء من الأشياء ولا مباينا له بهذا

ص:158


1- 1 - قوله: «لم يحلل في الأشياء» تفسير صاحب الكافي يرجع إلى بيان التجرد يعني أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بهاتين الكلمتين إلى أن الله تعالى ليس جسما ولا جسمانيا وقوله (عليه السلام) «لم يحلل في الأشياء» لنفي كونه تعالى عرضا، ولم ينأ عنها لنفي كونه جسما، ولكن كلامه (عليه السلام) أشمل وأعم فائدة مما فسره به (رحمه الله) لأن المجرد أيضا يمكن تباعده عن مجرد آخر نوع تباعد كنفسين مستقلين من النفوس الناطقة الانسانية لا ارتباط بينهما أصلا ولا تلازم بينهما ولا يحيط أحدهما بالآخر ولا يعلم أحدهما ما في ذهن الآخر، ويمكن ارتباط مجردين نظير ما يراه الحكماء من ارتباط النفوس الناطقة بالعقل الفعال والملائكة الملهمة، ولذا قد يتفق أن يرى في المنام أمورا من عالم الغيب باتصاله بهم، وبالجملة التباعد والاتصال كما يتصور في الأجسام كذلك يتصور في المجردات، وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشمل جميع الأشياء، والله تعالى جل وعز من أن يباين الأشياء وتستقل هي دونه بل هو محيط قاهر بها بحيث لا يتصور لها وجود مستقل وليس هو عينها، فكما هو محيط بالأجسام وقريب منها وقاهر عليها بالعلية من غير أن يكون عينها كذلك هو قاهر على المجردات وقريب منها من غير أن يكون حالا فيها أو عينها، ولو كان معنى كلامه (عليه السلام) منحصرا فيما أفاده صاحب الكافي لم يترتب عليه ما فرع عليه من قوله «لكنه أحاط بها علمه وأتقنها صنعه قال صدر المتألهين تنزيهه تعالى عن الكون في الأشياء والبون عنها مطلب غامض دقيق ومقصد خائض عميق وتوحيد تام وتقديس كامل وتنزيه بالغ وعلم فائق عظيم أعظم من بيان سلب العرضية الجسمية عنه تعالى، أما العرضية فشئ لم يحتمله ولم يجوزه في حقه أحد ممن له أدنى شعور، وأما الجسمية فنفيها محصل بأدنى بضاعة من العقل، والأولى حمل كلامه وهو سيد الموحدين وإمام العارفين على ما هو أولى وأقرب بكماله في المعرفة وحاله في التوحيد، انتهى. أقول: وما ذكرنا من تفريعه الإحاطة في العلم والصنع والقدرة يبين صحة قول صدر المتألهين صريحا. (ش)

المعنى لم يكن جسما (ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة) إذ مماسة شيء أن يلاقي بعض من ذاك بعضا من هذا مع قيام كل واحد منهما بذاته، والعرض قائم بغيره فلا يتحقق المماسة بينه وبين الجسم (ومباينة الأجسام على تراخي المسافة) المباينة عطف على المماسة فإن العرض الحال في الأجسام غير مباين لها على تراخي مسافة بينهما وحيث لم يكن الله تعالى حالا في الأجسام لم يكن عرضا.

(ثم قال (عليه السلام): «لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه») بإفاضته على كل شيء ما يليق به وإنما غير الأسلوب; لأن هذا القول ليس من قبيل الأقوال السابقة إذ المقصود من هذا القول هو الإثبات دون النفي (أي هو في الأشياء بالإحاطة) (1) أي بإحاطة علمه بها ونفوذه في بواطنها بحيث لا يخفى عليه ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين وحركة الجفون وخيانة العيون وأسرار القلوب وموارد الغيوب ورجع الحنين وانقلاب الجنين (والتدبير على غير ملامسة) أي بتدبير الأشياء ورعاية مصالحها من غير مماسة بها وملامسة لها; لأن ذلك من صفات الأجسام وقدسه تعالى منزه عن الاتصاف بها.

* الأصل:

ص:159


1- 1 - قوله: «أي هو في الأشياء بالإحاطة» تقريب لمعنى العلية إلى أذهان السامعين فإن تصورها لا يخلو عن صعوبة على أكثر الناس. وليس صرف الإحاطة العلمية كافيا في العلية إذ ربما يكون غير العلة عالما كعلمنا بالخسوف والكسوف وبأعضاء بدن الإنسان بالتشريح ولذلك أضاف أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله «أتقنها صنعه» على قوله «أحاط بها علمه» ولما كان بعض الفاعلين عندنا كالنجار والبناء يتقنون صنع ما يصنعون مع عدم كونهم عللا بالمعنى الذي يجب إثباته للباري أعني احتياج المعلول إليه حدوثا وبقاء أضاف (عليه السلام) إليه قوله «وأحصاها حفظه» ثم بين ذلك بما ذكره بعده إلى قوله «كل شيء منها بشيء محيط» يعنى كل واحد من الملائكة الحفظة والرقباء محيط بكل واحد من الأشياء التي فوض إليه تدبيرها وبذلك تم معنى العلية ووضح المقصود، ثم قال: علة العلل هو الذي أحاط بهؤلاء الملائكة الحفظة المحيطين بالأشياء وقد مر سابقا كيفية تعلق المادة بالصورة والصورة بالمبدأ المفارق أعني الملائكة على ما بينه الحكماء ويظهر ذلك ظهورا تاما بتدبر ما ذكروه في القوة المصورة فيقاس عليه غيره، مثلا: إذا تأمل الإنسان في خلق الجنين والحكم التي روعيت في تركيب أعضائه ومزاج كل عضو عرف أن الطبيعة غير الشاعرة غير كافية في تعليل هذه الأمور بل لا بد من موجود عاقل يكون هذه المصالح بتدبيره وإن كان هناك طبيعة فهي مسخرة لذلك الموجود العاقل. قال السبزواري في شرح المنظومة لبطلان استناد هذه الأفعال العجيبة المحكمة المتقنة إلى قوة عديمة الشعور بل هي مستندة إلى الملائكة المدبرين الفاعلين بالتسخير لأمر الله، انتهى. فإذا تصور الإنسان كون هذا الموجود العاقل مع طبيعة الرحم حافظا ورقيبا ومدبرا سهل عليه اثباته في كل موجود على ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) «كل شيء منها بشيء محيط والمحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد» لا يجب عزل الطبيعة عن التأثير بل عن الاستقلال كما قال الشيخ الرئيس: الصورة علة مع المفارق لإقامة الهيولى، ومثله الحكيم الطوسي بمن يقيم السقف بدعامات. (ش)

2 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره وجل ثناؤه سبحانه وتقدس وتفرد وتوحد ولم يزل ولا يزال وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لأوليته، رفيعا في أعلى علوه شامخ الأركان رفيع البنيان، عظيم السلطان، منيف الآلاء، سني العلياء الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته ولا يحدون حدوده لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم) مشترك بين ثلاثة (1) إبراهيم الصيقل وإبراهيم الكرخي البغدادي وإبراهيم بن إسحق البصري (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك اسمه) أي اسمه ذو بركة عظيمة، أو ثابت غير متغير، أو برئ عن العيوب النقائص والجملة الفعلية في محل الرفع على أنها خبر «إن» (وتعالى ذكره) عن ذكر المخلوقين أو عن الوصول إليه والإتيان به كما هو حقه عقول البشر وألسنتهم (وجل ثناؤه) أي عظم ثناؤه كما هو حقه وخرج عن طوق البشر (سبحانه) جملة اعراضية لكونه مصدرا لفعل محذوف، وفي حذف المتعلق دلالة على عموم تنزيهه عن كل ما لا يليق به (وتقدس) أي تطهر عن النقائص كلها (وتفرد) بالإلهية والتدبير (وتوحد) بالربوبية والتقدير (ولم يزل ولا يزال) فلم ينقطع أزليته بعدم سابق ولا ينقطع أبديته بعدم لاحق (وهو الأول) للأشياء كلها فلا شيء قبله (والآخر) للأشياء كلها فلا شيء بعده، وقد عرفت أن الأولية والآخرية أمر إضافى يعتبره العقل له بالنسبة إلى خلقه وأنه الأول حين كونه آخر والآخر حين كونه أول من غير زمان وامتداد بينهما إذ لازمان هناك (والظاهر والباطن) أي الظاهر وجوده بعجايب تدبيره للمتفكرين والباطن كنه ذاته وصفاته عن توهم المتوهمين أو الظاهر العالي على كل شيء والغالب عليه من «ظهر عليه» إذا علاه وغلبه، والباطن العالم بباطن كل شيء.

ص:160


1- 1 - قوله: «مشترك بين ثلاثة» بل الظاهر المتبادر إلى الذهن أنه إبراهيم بن عبد الحميد من مشاهير الواقفة لأن الحسن بن على هو ابن حمزة البطائني أيضا من مشاهيرهم وكان إبراهيم كثير الرواية فيهم وأما إبراهيم الصيقل فمجهول غير معروف في الروايات وأما إبراهيم بن إسحاق البصري فكان متأخرا جدا لا يمكن روايته عن أبي عبد الله (عليه السلام) بل روى عن الصفار وعلي بن إبراهيم ومن في طبقتهما، وأما الكرخي فلم يكن من الواقفة ولم نر رواية الحسن بن على بن أبي حمزة عنه ويحتمل أيضا كونه إبراهيم ابن ميمون بياع الهروي، والله العالم، وعلى كل حال فالرواية ضعيفة ولكن لا يضر ضعفها; لأن الاعتماد في هذه الأمور على المعنى لا على الإسناد. (ش)

(فلا أول لأوليته) أي لاحد لكونه أولا للأشياء تقف عنده أوليته وتنتهي به وإلا لكان محدثا فكان ممكنا فلا يكون واجب الوجود، هذا خلف. وكذا لا آخر لآخريته وإنما لم يذكره لأنه يعلم من سياق الكلام بل من قوله «فلا أول لأوليته» لما تقرر من أن ما ثبت قدمه (1) امتنع عليه عدمه.

(رفيعا) لرفعة شرف ذاته وصفاته عن ذوات المخلوقين وصفاتهم، وهو حال عن فاعل الظاهر أو عن الضمير المجرور في أوليته (في أعلى علوه) بحسب الرتبة والعلية لأنه مبدأ كل موجود حسي وعقلي، وإليه ينتهي سلسلة العلية في الممكنات، فكل عال سواه سافل في حد ذاته وبالنسبة إلى ما فوقه، الله سبحانه فوق كل عال وله العلو المطلق الذي هو العلو الأعلى. وهذا أيضا حال عما ذكر أو عن فاعل «رفعا» (شامخ الأركان) الشامخ المرتفع، وقد شمخ الرجل فهو شامخ أي مرتفع، وركن الشيء: جانبه الأقوى ومنه أركان البيت وقد يعبر به عن العز والمنعة، يقال هو يأوي إلى ركن شديد أي إلى عز ومنعة، وهذا الكلام إما استعارة تمثيلية بتشبيه المعقول بالمحسوس إيضاحا لعلوه ورفعته أو استعارة تحقيقية بتشبيه صفاته الكمالية مثل العلم والقدرة وغيرهما بالأركان في أن بناء تدبيره في هذا العالم على هذه الصفات كما أن بناء البيت على الأركان، وذكر الشامخ حينئذ ترشيح والمراد بارتفاع هذه الصفات ارتفاعها عن أن تكون مطارح لعقول الأذكياء.

(رفيع البنيان) وهو الحائط وهذا الكلام أيضا استعارة على سبيل التمثيل لتنزيل علوه المعقول منزلة العلو المحسوس لزيادة الإيضاح.

(عظيم السلطان) وهو التسلط والقهر على ما عداه أو الحجة والبرهان والوجه لوصف تسلطه وقهره على ما عداه أو وصف براهين ربوبيته وشواهد ألوهيته بالعظمة ظاهر لذوي البصائر.

(منيف الآلاء) أي جزيل الآلاء وشريف النعماء، وشرافتها باعتبار كمالها في الكمية والكيفية وكونها على حسب المصالح.

(سني العلياء) السني: الرفيع. والعلياء بالضم والمد: كل مكان

ص:161


1- 2 - قوله: «لما تقرر من أن ما ثبت قدمه» ذكرنا فيما مر قريبا عبارة العلامة في نهج المسترشدين حيث قال: القديم لا يجوز عليه العدم لأنه إما واجب الوجود لذاته فظاهر أنه لا يجوز عليه العدم وإما ممكن الوجود فلا بدله من علة وجبة الوجود وإلا لزم التسلسل ويلزم من امتناع عدم علته امتناع عدمه، وقوله هذا صريح في أنه يجوز أن يكون الممكن المعلول لغيره قديما زمانا باقيا ببقاء علته، وقال الصدوق رحمه الله في التوحيد على ما رواه في البحار (المجلد الثاني صفحة 104): إن الاستيلاء لله تعالى على الملك وعلى الأشياء ليس هو بأمر حادث بل كان لم يزل مالكا لكل شيء ومستوليا على كل شيء، فقولهم بالحدوث الزماني، لأمر آخر لا لاحتياج التأثير إليه. (ش)

مشرف. وأيضا استعارة على سبيل التمثيل لقصد الإيضاح والإفصاح.

(الذي يعجز الواصفون) العارفون له بترقي عقولهم في معارج المعارف (عن كنه صفته) لأن العقول البشرية وأفكارها لا تقدر أن تحيط بحقيقة ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال (ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته) إذ لو تجلت الحقيقة الإلهية والأنوار الربوبية لا نفطرت قلوبهم كما تنفطر البيضة على الصفا كيف والجبل الشامخ عجز أن يكون مظهرا لتجليها كما قال: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) (ولا يحدون حدوده) الضمير يعود إليه تعالى يعني لا يحد الواصفون حدود الرب; لأن تحديده يستلزم توصيفه بكيفية التناهي والتجزية والتحليل والتركيب إذ كان من شأن المحدود ذلك، ولما كانت هذه اللوازم باطلة في حقه تعالى كما أشار إليه بقوله (لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه) أي إلى حد كان ملزومها وهو وجدانهم بالتحديد باطلا أيضا.

وقال سيد المحققين: الضمير في «حدوده» يعود إلى الحمل، يعني لا يحدون حدود حمل معرفته إذ بالوصف لا يبلغ إلى مداه، وبالصفة لا يدرك منتهاه وبالكيفية لا يتناهى إلى حد.

* الأصل:

علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول: من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع، فتلطفت في الوصول إليه، فوصلت فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال: يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده، والأبصار عن الإحاطة به جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيف الكيف فلا يقال:

كيف، وأين الأين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونية.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد بن المختار، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (عليه السلام)) هو أبو الحسن الثاني مولانا الرضا (عليه السلام) كما يظهر من كتاب العيون للصدوق - رحمه الله -.

ص:162

وقال بعض الأفاضل: المعلوم من كتاب كشف الغمة أنه أبو الحسن الثالث (عليه السلام).

(الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول: من اتقى الله) بالعدل في القول والعمل سرا وعلانية (يتقى) لكمال الارتباط بينه وبين الحق ولهذا كان المتقون يمرون على السباع غير مكترثين بها، وإقبال الأسد الذي كان جاثما في الطريق مع اللبوة وأشبالها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وتبصبصه له بذنبه ودنوه منه إلى أن مسح قدمه بوجهه وتكلمه معه بكلام ذلق فصيح وتسليمه، أمر مشهور في كتاب العدة وغيره مذكور، ومثله وقع للصادق (عليه السلام) قال: ذو الفاخر صاحب العدة: حدث أبو حازم عبد الغفار بن الحسن قال: قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة وأنا معه وذلك على عهد المنصور وقدمها أبو عبد الله جعفر بن محمد العلوي فخرج جعفر بن محمد صلوات الله عليهما يريد الرجوع إلى المدينة فشيعه العلماء وأهل الفضل من الكوفة وكان فيمن شيعه ثوري وإبراهيم بن أدهم فتقدم المشيعون له فإذا هم بأسد على الطريق فقال لهم إبراهيم بن أدهم: قفوا حتى يأتي جعفر فننظر ما يصنع فجاء جعفر صلوات الله عليه فذكروا له حال الأسد فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) حتى دنا من الأسد فأخذ بأذنه حتى نحاه عن الطريق، ثم أقبل عليهم فقال: «أما الناس لو أطاعوا الله حق طاعته لحملوا عليه أثقالهم» وبالجملة التقوى سبب لنيل الأمن في الدنيا والآخرة وعدم الخوف من ساير المخلوقات وعامة المؤذيات، ولهذا قيل: التقوى سبب للنجاة من مخاوف دنيوية كما هي سبب للنجاة من مهلكات أخروية.

(ومن أطاع الله) في أوامره ونواهيه وآدابه (يطاع) هذا تفسير لما قبله; إذ الطاعة من وثايق التقوى وأجزائها وإنما حذف فاعل «يطاع» للدلالة على التعميم; وذلك لأنه يطيعه الله تعالى أولا كما ورد «من كان لله كان الله له» وكما قال جل شأنه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) فيسهل له الصعاب ويهيئ له الأسباب ويفيض عليه أنواع الكرامة، وينبت له رياض السلامة، ولباه إذا ناداه، ويجيبه إذا ناجاه، ويطيعه النفس الأمارة بالسوء والقوى الجسمانية والآلات النفسانية ثانيا لظهور أن ملكة الطاعة سبب لإطاعة النفس المطمئنة وإطاعة جموح الهوى في موارد الهلكة، ويطيعه جميع الخلائق وإن كانوا فجارا وكفارا ثالثا، لأنه لما ترك الدنيا وزهراتها واشتغل بالطاعة صار أبناء الدنيا الطالبون لها يحبونه ويطيعونه لإعراضه عن مطلوبهم، أو لأنه جبلت القلوب على حب المطيع لله، أو لأن كل شيء له رجوع إلى الله إذا اتصلت نفس المطيع بالله اتصالا معنويا حتى صار نطقه نطق

ص:163

الحق ولسانه لسان الحق وقدرته قدرة الحق وفعله فعل الحق صار كل شيء مطيعا له منقادا لأمره ومن هذا القبيل انشقاق القمر ونقل الشجر وتسبيح الحصى في كفه (صلى الله عليه وآله) إلى غير ذلك من المعجزات وخوارق العادات، وكان غرضه (عليه السلام) من هذا الكلام دفع ما خلد في قلب فتح بن يزيد من لحوق الضرر به (عليه السلام) من جانب الطاغي المأمون.

(فتلطفت في الوصول إليه) لطف بالضم: رفق، وتلطفوا: رفقوا (فوصلت وسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا فتح من أرضى الخالق) بالإتيان بما يوجب القرب منه ورضاه وإكرامه وإحسانه (لم يبال بسخط المخلوق) عليه وعدم رضاه عنه; لعلمه بأن المخلوق لا يضره مع رضا الخالق; لأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن آثر محامد الله على محامد الناس كفاه الله مؤونة الناس، وعلى تقدير إضراره فإنما إضراره في هذه الحياة الدنيا ولا قدر لها بالنظر إلى البقاء الأخروي الأبدي كما قال سحرة فرعون عند وعيده بالقتل والصلب: (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) فلم يبالوا بوعيده وإضراره لعلمهم بأنهم عند الله في زمرة المقربين. وكأنه (عليه السلام) عرف أن الغرض من وصول الفتح إليه أن يعرف حقيقة قوله (عليه السلام) من اتقى الله فإن هذا الكلام في الحقيقة تفسير له.

(ومن أسخط الخالق) بفعل ما يوجب غضبه وعقابه (فقمن) في المغرب: هو قمن بكذا وقمين به أي خليق، والجمع قمنون وقمناء، وأما قمن بالفتح فيستوى فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، وفي كتاب إكمال الاكمال قمن بكسر الميم صفة يثنى ويجمع ومعناه: خليق وجدير، وبفتحها مصدر لا يثنى ولا يجمع، وعلى هذا قول الجوهري: قمن أن يفعل كذا بالتحريك أي خليق وجدير، لا يخلو من شيء.

(أن يسلط الله عليه سخط المخلوق) ترتب استحقاق ذلك على إسخاط الخالق أمر ضروري وقد يكشف الله تعالى عن سره ظاهرا حتى يبغضه إليهم ويعرفهم أنه ممقوت عنده ليمقتوه أو يضربوه أو يقتلوه وقد يكشف عنه باطنا فيشاهدون حاله بمرآة قلوبهم فيمقتونه، ومن هذا القبيل ما روي أن رجلا من بني إسرائيل قال: لأعبدن الله عبادة أذكر بها، فمكث مدة مبالغا في الطاعات وجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا متصنع مرائي، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك وضيعت عمرك في لا شيء فينبغي أن تعمل لله سبحانه، فغير نيته وأخلص عمله لله فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا ورع تقي.

ثم أشار إلى بعض ما يسخط الخالق وهو وصفه بما لم يصف به نفسه بقوله: (وأن الخالق لا

ص:164

يوصف إلا بما وصف به نفسه) من الأسماء الحسنى والصفات العليا، ثم أشار إلى أن القوى المدركة الإنسانية عاجزة عن إدراك ما له سبحانه من الصفات كما هو حقه توضيحا لما ذكر بقوله: (وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه) لتعلق إدراكها بالأجسام وكيفياتها وتنزهه تعالى عن الجسمية ولواحقها (والأوهام أن تناله) لتعلق إدراك الوهم بالمعاني المتعلقة بالمادة ولا يترفع عن الأمور المربوطة بالمحسوسات (والخطرات أن تحده) لأن عظمة كماله في ذاته، وصفاته أجل وأرفع من أن تنالها الأفكار الدقيقة وتحدها بحد ونهاية (والأبصار عن الإحاطة به) لأن الإحاطة بالشيء فرع لانقطاعه وانتهائه وجانب الحق منزه عنهما (جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون) لأن كل وصف اعتبروه وإن كان كمالا وكل نعت تخيلوه وإن كان جلالا فهو موصوف بالنقصان ومندرج تحت الإمكان، ومن البين أن رتبة الواجب بالذات أعظم من أن تتصف بالنقصان وأرفع من أن يعرض له الإمكان.

(نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد) نأيته ونأيت عنه أي بعدت، يعني بعد من الأشياء في حال قربه منها وقرب منها في حال بعده عنها، فهو في حال بعده قريب وفي حال قربه بعيد، وسر ذلك أن قربه وبعده ليسا بالالتصاق والافتراق; لأن ذلك من خواص الجسمانيات وهو منزه عنها بل قربه باعتبار علمه المحيط بكل شيء، وبعده باعتبار عدم كونه من جنس مخلوقاته وعدم بلوغ العقل والحواس إلى كنه ذاته وصفاته، وفيه تأكيد لرد الأحكام الوهمية بالاحكام العقلية فإن الوهم يحكم بأن ما كان بعيدا عن شيء لا يكون قريبا منه، وما كان قريبا من شيء لا يكون بعيدا عنه لكون حكمه مقصورا على المحسوسات، ونحن لما بينا أن قربه وبعده من الخلق ليسا قربا وبعدا مكانيين بل بمعنى آخر، لا جرم لم يكن بعده بذلك المعنى منافيا لقربه ولا قربه بذلك المعنى منافيا لبعده، بل كانا مجتمعين.

(كيف الكيف فلا يقال كيف (1) وأين الأين فلا يقال أين) يعني هو جعل الكيف كيفا والأين أينا ولم يكن قبل ذلك الجعل كيف ولا أين فلا يجوز أن يسأل عن كيفيته وأينيته (إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونية) (2) قبل وجود الكيف والأين بالضرورة وإذا كان كذلك كان منقطعا عنهما بعد

ص:165


1- 1 - قوله: «كيف الكيف فلا يقال كيف» المعلول شيء لا يمكن أن يحتاج إليه العلة ولا يكون في مرتبته فإذا كان المكان مخلوقا له متأخرا عنه في الوجود لم يتصور احتياجه إلى المكان وإذا كان الكيف مخلوقا له لم يتصور له في ذاته كيف. (ش)
2- 2 - قوله: «منقطع الكيفوفيه» كلمة «منقطع» بصيغة اسم المفعول يحتمل كونه اسم مكان أي محل انقطاع سلسلة العلل إذا سئل عن الكيف بأي شيء حصل أجيب بعلته وإن سئل عن علتها أجيب بعلة العلة وينقطع السؤال إذا انتهى إلى واجب الوجود. (ش)

وجودهما أيضا لاستحالة انتقاله من حال إلى حال وامتناع اتصافه بوصف لم يكن له في وقت من الأوقات.

* الأصل:

4 - محمد بن أبي عبد الله رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه يقال له ذعلب، ذو لسان بليغ في الخطب، شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين! هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب! ما كنت أعبد ربا لم أره، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب، إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله وبعد كل شيء لا يقال: له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة في الأشياء كلها، غير متمازج بها، ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن ولا تضمنه الأوقات ولا تحده الصفات ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة واليبس بالبلل والخشن باللين والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها ومفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه، كان ربا إذ لا مربوب، وإلها إذ لا مألوه، وعالما إذ لا معلوم، وسميعا إذ لا مسموع.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا) قال الجوهري: «بينا» فعلى أشبعت الفتحة فصارت ألفا و «بينما» زيدت عليه «ما» والمعنى واحد تقول: بينا نحن نرقبه أتانا، أي أتانا بين

ص:166

أوقات رقبتنا إياه، والجملة مما يضاف إليها أسماء الزمان كقولك: أتيتك زمن الحجاج أمير، ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات وولي الظرف الذي هو «بين» الجملة التي أقيمت مقام المضاف كقوله تعالى (واسأل القرية) وكان الأصمعي يخفض ما بعد «بينا» إذا صلح في موضعه «بين» وغيره يرفع ما بعده بينا وبينما على الابتداء والخبر.

(أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب) ذعلب اليماني ضبطه الشهيد في قواعده بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر اللام (ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب) كان المراد أنه كان ذكيا فهيما متفكرا في الأمور ويحتمل أيضا حمله على الظاهر (فقال يا أمير المؤمنين: هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره) أثبت رؤيته إزراء للسائل، والظاهر أن السؤال عن الرؤية العينية والجواب بالرؤية القلبية من باب حمل السؤال على غير ما يترقبه السائل للتنبيه على أن الواجب هو السؤال عنها وأما الرؤية العينية فلكونها محالا لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها إلا أن المثبت لما كان هو الرؤية المطلقة وتوهم السائل أن المراد منها الرؤية العينية سأل عن كيفية وقوع هذه الرؤية (فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته) لا عن كيفية التي تعلقت بها الرؤية; لأن العاقل لا يعتقد أن له كيفية وإن كان السؤال عن كيفية الرؤية مستلزما لتجويز الكيفية له، والفرق بين اللازم من الشيء وبين اعتقاد ذلك اللازم صريحا ظاهر (قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار) إذ ليس بذي وضع وجهة، والرؤية البصرية إنما تتعلق به، والإبصار بكسر الهمزة أو فتحها، والإضافة على الأول بيانية وعلى الثاني لامية.

(ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان) المراد بالقلب: العقول القدسية، وبالإيمان: الإذعان الخالص، وبحقايق الإيمان: التصديقات اليقينية التي هي أركان الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مثل التصديق بوجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه إلى غير ذلك من التصديقات الداخلة في حقيقة الإيمان، أو المراد بها الأنوار العقلية الناشية من الإيمان، فإن الإيمان إذا حصل واستقر في قلب متقدس طاهر حصل في القلب نور يشاهد به الرب كمشاهدة العيان، والباء للاستعانة أو للملابسة.

(ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة) تأكيد للطافته، ولطافته باعتبارين، أحدهما: تصرفه في ذوات الأشياء الدقيقة الخفية وصفاتها تصرفا بفعل الأسباب المعدة لوجوداتها وإفاضة كمالاتها، والثاني: جلالة ذاته وصفاته عن أن يدركها العقول والحواس ويتطرق إليه التحديد والقياس

ص:167

(لا يوصف باللطف) المعروف في الخلق وهو رقة القوام وصغر الحجم وعدم اللون والاشتمال على الصنع الغريب (عظيم العظمة) عظمته عبارة عن تسلطه وجريان حكمه على جميع ما عداه لكونه مبدأ شأن كل ذي شأن ومنتهى سلطان كل ذي سلطان، فلا سلطان أعظم من سلطانه ولا شأن أرفع من شأنه (لا يوصف بالعظم) المعروف في الخلق وهو كبر الحجم والمقدار التابع لزيادة الامتداد في الجهات (كبير الكبرياء) أي رفيع القدر على الإطلاق إذ لا قدر أرفع من قدره (لا يوصف بالكبر) المعروف في الخلق وهو العلو في السن والبسطة في الجسم والزيادة في المقدار (جليل الجلال) أي عظيم القدرة وشديد القوة لا مانع لنفاذ قدرته ولا دافع لإمضاء قوته (لا يوصف بالغلظ) لأن الغلظ من نعوت الجسم، والفظاظة من صفات النفس الحيوانية وجلال الحق منزه عنهما، ولما كانت لهذه الألفاظ أعني اللطيف ونظايره المذكورة معان صحيحة له تعالى غير معروفة أخرج (عليه السلام) هذه الألفاظ بالسلوب المذكورة عن المعاني المعروفة إلى غيرها بل عن حقيقتها إلى مجازها لتنزيه الحق عن الكيفيات الجسمانية وتنبيه السائل على عدم إمكان رؤيته بالعين; لأن المرئي بالعين لا ينفك عن هذه الكيفيات.

(قبل كل شيء) لأنك إذا لاحظت ترتيب الوجودات في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته تعالى بالإضافة إليها أنه قبلها إذ كان انتهاؤها في تلك السلسلة إلى عنايته ووجوده الحق فهو قبل بالعلية والذات والشرف.

(لا يقال شيء قبله) إذ لما لم يكن بذي مكان فالتقديم بالمكان منفي عنه والزمان يتأخر عنه إذ هو من لواحق الحركة المتأخرة عن الجسم المتأخر عن علته فلم يلحقه القبلية والزمانية ولا القبلية المكانية، فلم يكن شيء قبله مطلقا لا من الزمانيات ولا من غيرها.

(وبعد كل شيء) لأنه الباقي بعد فناء الأشياء وهو وارث كل شيء، وأيضا: إذا نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت مراتب السالكين في منازل عرفانه وجدته بعد كل شيء وآخره إذ هو آخر ما يرتقى إليه درجات العارفين ومعرفته هي الدرجة القصوى والمنزل الآخر.

(لا يقال له بعد) لامتناع فنائه وبقاء شيء بعده ولأنه ليس فوقه شيء حتى يرتقى إليه سير العارفين ويكون هو آخر مقاماتهم، وبالجملة هو القبل المطلق الذي لا شيء قبله والبعد المطلق الذي لا شيء بعده.

(شاء الأشياء لا بهمة) شاء: فعل ماض أو اسم فاعل مع التنوين، ونصب الأشياء على المفعولية

ص:168

يعني أراد وجود الأشياء ولواحق وجودها بمجرد ذاته لا بعزم وإرادة زائدة على ذاته ولا بهمة فكرية إذ هي من لواحق النفوس البشرية وفيه تنزيه لإرادته عن مثلية إرادتنا في سبق العزم والهمة لها (دارك لا بخديعة) الخديعة بالخاء المعجمة اسم من خدع الضب في جحره إذا دخل أو من خدعت العين إذا غارت يعني يدرك الأشياء كلها لا بصور داخلة فيه فليس إدراكه بالانطباع، أو من خدعه إذا ختله يعنى يدركها من غير استعمال الحيلة وإجالة الرأي; لأن ذلك من خواص خلقه.

وقال الفاضل الشوشتري: لا يبعد أن يكون بالجيم قال في الصحاح: المجادعة والتجادع المخاصمة فيكون المقصود أنه يدرك من غير تعب كما أنه يشاء من غير همة ولا يخفى بعده (في الأشياء كلها غير متمازج بها) (1) إذ كونه في الأشياء ليس عبارة عن كونه جزءا منها أو وصفا لها أو داخلا فيها ومعدودا من جملتها حتى يكون متمازجا بها بل عبارة عن إحاطة علمه بها ونفوذه في جميعها، فهذا السلب قرينة صارفة للظرفية عن حقيقتها إلى مجازها (ولا باين منها) أي ليس بعيدا من الأشياء بالمسافة لتنزهه عن المكان، أو ليس بعيدا منها بالعلم والإحاطة فيكون تأكيدا لما قبله.

وفيه كسر للأحكام الوهمية بتقديس ذاته عن صفات الممكنات (ظاهر لا بتأويل المباشرة) أي لا بمعناها كظهور الجسم والجسمانيات بمباشرة الحواس لها وتناولها إياها بل بمعنى ظهور وجوده وقدرته بمشاهدة عجائب خلقه وغرايب تدبيره وهذا السلب أيضا قرينة لصرف الظاهر عن ظاهره وكذا السلوب الآتية.

(متجل لا باستهلال رؤية) التجلي: الوضوح والانكشاف، والاستهلال: التبيين يقال: استهل الصبي إذا تبين. والاستهلال أيضا: الإبصار. قال في المغرب: أهل الهلال واستهل - مبنيا للمفعول فيهما - إذا أبصر، يعني: أنه تعالى متبين منكشف لخلقه لا بالتبين والانكشاف الحاصلين من جهة رؤيته، ولا بالإبصار الذي هو الرؤية لتنزهه عن ذلك بل لظهوره في قلوب عباده من ملاحظة مصنوعاته حتى أشبهت كل ذرة من مخلوقاته مرآة ظهر وتجلى لهم فيها وهم يشاهدونه على

ص:169


1- 1 - قوله: «في الأشياء كلها» هو المعنى الصحيح لوحدة الوجود وقد تكلم الناس فيها كثيرا فمنهم من جعلها أصل التوحيد حتى قالوا إن من لم يكن معتقدا بها لم يكن موحدا حقا، ومنهم من أنكرها مطلقا لأنها توهم الحلول وأزال أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الوهم بقوله: «غير متمازج بها» وبين أن كونه تعالى في الأشياء لا يستلزم الحلول. ومنهم من أولها بتأويل بعيد، وبعضهم فرق بين وحدة الوجود ووحدة الموجود ولا محصل له. وتكرر هذا المعنى في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعبارات مختلفة، وسره أن ذاته تعالى عين حقيقة الوجود، والممكنات وجودات تعلقية ربطية لا حقيقة لها بذاتها مع قطع النظر عن علتها، والبحث في ذلك يطول ليس هنا محل تحقيقه. (ش)

استعداد قلوبهم لمشاهدته وتتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعة إبصار بصائرهم.

(ناء لا بمسافة أي بعيد من الأشياء لا بمسافة بينها وبينه; لأن ذلك من خواص المكانيات بل بذاته المقدسة المغائرة لذوات الممكنات المتصفة بعلو الشرف والرتبة; لأن رتبته فوق مراتب جميع الموجودات بالشرف والعلية فلا جرم رتبته بعيدة عن رتبتها.

(قريب لا بمداناة) أي قريب من كل شيء لا بالدنو في المسافة بل بالعلم والإحاطة ونفاذ قدرته وحكمه فيه; لأن كل شيء حاضر عند بذاته بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة.

(لطيف لا بتجسم) أي لطيف لا باعتبار كونه جسما له قوام رقيق أو حجم صغير أو تركيب غريب وصنع عجيب، أو لا لون له; لأن كل ذلك من شأن اللطيف المخلوق، والله سبحانه خالق ليس بمخلوق بل باعتبار كونه خالقا للخلق اللطيف، أو باعتبار كونه عالما بالأشياء اللطيفة مثل البقة وقواها والذرة وهواها والنملة وصداها.

(موجود لا بعد عدم) (1) إذ لو كان وجوده بعد عدم كان حادثا ولو كان حادثا كان ممكنا ولو كان ممكنا لم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف (فاعل لا باضطرار) (2) أي لا باضطراره إلى فعله لأنه فاعل مختار لا موجب، أولا باضطراره في فعله إلى الآلة إذ فعله بمجرد الإرادة والمشية (مقدر لا بحركة) كما يفتقر غيره في تقدير أفعاله وصنايعه إلى الحركة الذهنية والبدنية ليعلم وجه صحتها وكمالها، وذلك لأن الحركة إنما تعرض الجسم والجسمانيات والله سبحانه منزه عن الجسمية وعوارضها.

(مريد لا بهمامة) أي مريد للأشياء لا بهمامة النفس وهي اهتمامها بالأمور وترديد عزمها عليها

ص:170


1- 1 - قوله: «موجود لا بعد عدم» إطلاق الموجود على الواجب تعالى حجة صحة توصيفه به وإن لم يكن بعنوان إجراء الاسم، وقد ورد هذا الإطلاق في بعض خطب نهج البلاغة أيضا. (ش)
2- 2 - قوله: «بالاضطرار» وفي نهج البلاغة " فاعل لا بالاضطراب آلة " وقال ابن ميثم في شرحه: أما أنه فاعل فلأنه موجد العالم، أما أنه منزه في فاعليته عن اضطراب آلة فلتنزهه عن الآلة التي هي من عوارض الأجسام، وقال في شرح خطبة أخرى في الاستدلال على عدم الآلة: إنه لو كان كذلك لكانت تلك الآلة إن كانت من فعله فإما بتوسط آلة أخرى أو بدونها، فإن كانت بدونها فقد صدق أنه فاعل لا بمعنى الآلة، وإن كان فعله لها بتوسط آلة أخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى، ويلزم التسلسل، وإما إن لم تكن تلك الآلة من فعله ولم يمكنه الفعل بدونها كان الباري تعالى مفتقرا في تحقيق فعله إلى الغير. وبالجملة فالاضطراب أقرب من اضطرار، وإن كان لا بد من تصحيح هذه الكلمة فالأولى تفسيرها بأنه تعالى لم يكن في فعله محتاجا إلى المخلوق كما أن الإنسان إنما يفعل لاحتياجه واضطراره، وكل ممكن يفعل شيئا ليكمل ويصير بحالة أرجح من حاله قبل الفعل فهو فاعل محتاج بخلاف الواجب تعالى، لأن فعله منزه عن غرض التكميل وبعبارة أخرى يفعل لأنه كامل، لا لأن يكمل وكماله سبب فعله لا فعله سبب كماله. (ش)

مع الهم والغم بسبب فوتها; مأخوذة من الهمهمة وهي ترديد الصوت الخفي وهو سبحانه منزه عنها.

(سميع لا بآلة) وهي الأذنان والصماخات والقوة الكاينة تحتهما; لتعاليه عن الالآت الجسمانية بل سمعه عبارة عن علمه بالمسموعات فهو نوع مخصوص من العلم باعتبار تعلقه بنوع من المعلوم.

(بصير لا بأداة) لظهور أن المفتقر إلى المعونة بالأداة ممكن فلا يكون واجب الوجود، ولأنه تعالى خالق الأداة فيمتنع عليه الحاجة إلى الاستعانة بها.

(لا تحويه الأماكن) لبراءته عن الجسمية ولواحقها، وكل ما كان كذلك فهو بريء عن المكان ولواحقه من الحواية وغيرها.

(ولا تضمنه الأوقات) لأن الأوقات أجزاء الزمان الذي هو من لواحق الحركة التي هي من لواحق الجسم المتأخر وجوده عن وجوده تعالى، فكان وجود الزمان والوقت متأخرا (1) عن وجوده تعالى بمراتب فلم يصدق تضمن الأوقات لوجوده تعالى ولم يصح كونها ظرفا له وإلا لكان مفتقرا إلى وجود الزمان فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنه سابق فوجب استغناؤه عنه.

(ولا تحده الصفات) إذ ليس له صفات زائدة فيحده العقل بتحديدها وإحاطته بها، وكل ما اعتبره من صفاته فهو داخل تحت الإمكان لا سبيل له إلى ساحة ذاته.

(ولا تأخذه السنات) لأن السنة، وهي مبدأ النوم وفتور يتقدمه، حال يعرض الحيوان من أجل استرخاء أعصاب الدماغ بسبب تصاعد رطوبات الأبخرة، وهو سبحانه منزه عن ذلك.

(سبق الأوقات كونه) لأنه خالص الأوقات فوجب أن يتقدمها وجوده.

(والعدم وجوده) أي سبق وجوده عدم الممكنات; لأن عدمها لكونه ممكنا بالذات مستند إلى عدم الداعي إلى إيجادها المستند إلى وجوده تعالى سابقا على عدمها أو سبق وجوده على عدمه ; لأن وجوده لما كان واجبا لذاته كان عدمه ممتنعا لذاته فكان وجوده سابقا على عدمه لا لتحقق

ص:171


1- 1 - قوله: «فكان وجود الزمان والوقت متأخرا» فما أسخف قول من أثبت زمانا غير متناه قبل أن يخلق الله العالم وزعم أن معنى الحدوث تقدم الزمان الذي ينتزع من وجود الواجب تعالى قبل خلق العالم، بل الحق أن الزمان والجسم المتحرك كل مع الآخر لا يعقل وجود زمان قبل وجود الجسم، ولا يصح أن يقال: كان زمان لم يكن فيه جسم بل كان الله وحده، وقال الشارح ابن ميثم - قدس سره - بعد ذكر أن الزمان من لواحق الحركة: فكان وجود الزمان والوقت متأخرا عن وجوده تعالى بمراتب من الوجود فلم تصدق صحبة الأوقات لوجوده ولا كونها ظرفا له وإلا لكان مفتقرا إلى وجود الزمان فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنه سابق عليه فوجب استغناؤه عنه. نعم قد يحكم الوهم بصحبة المجردات للزمان ومعيته لها حيث يقيسها إلى الزمانيات إذ كان لا يعقل المجردات إلا كذلك، انتهى. وقد سبق منا في التعليقات السابقة شرح أكثر. (ش)

عدمه وسبق وجوده عليه بل لأن لحوق العدم له محال بالذات بخلاف سائر الموجودات، فإن كلها لما كانت محدثة كان عدمها سابقا على وجودها (1) ولو كان بعضها قديما (2) كما زعمه طائفة من المبتدعة، فلا شبهة في أنه قابل في مرتبة ذاته للوجود والعدم جميعا مستفيض للوجود من الموجد فيكون وجوده مسبوقا بعدمه اللاحق له في مرتبة ذاته.

(والابتداء أزله) أي سبق أزله الابتداء; وذلك لأن الأزل عبارة عن عدم الأولية والابتداء، وذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو بحسب الاعتبار العقلي وهو ينافي لحوق الابتداء والأولية لوجوده، فاستحال أن يكون له ابتداء لا متناع اجتماع النقيضين، بل سبق في الأزلية ابتداء ما كان له ابتداء وجود من الممكنات وهو مبدؤها ومصدرها.

(بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) (3) وذلك لأنه تعالى لما خلق المشاعر وأوجدها ذوات شعور وإدراك وهو المراد بتشعره لها امتنع أن يكون له مشاعر وإلا لكان وجودها إما من غيره وهو محال أما أولا فلأنه مشعر المشاعر، وأما ثانيا فلأنه يلزم أن يكون في كماله وإدراكه محتاجا إلى غيره وهو محال، وإما منه وهذا أيضا محال لأ نها إن كانت من كمالاته كان موجدا لها من حيث إنه

ص:172


1- 1 - قوله: «لما كانت محدثة كان عدمها سابقا» مأخوذ من شرح ابن ميثم (قدس سره) بتصرف فيه أوهم التناقض قال ابن ميثم: بيانه أنه تعالى مخالف لساير الموجودات الممكنة فإنها محدثة فيكون عدمها سابقا على وجودها، ثم إن لم يكن كذلك وجودها وعدمها بالنسبة إلى ذواتها على سواء كما بين في مظانه، ولها من ذواتها أنها لا تستحق وجودا ولا عدما لذواتها وذلك عدم سابق على وجودها فعلى كل تقدير فيكون وجودها مسبوقا بعدم بخلاف الموجود الأول جلت عظمته فإنه لما كان واجب الوجود لذاته كان لما هو هو موجودا فكان لحوق العدم له محالا فكان وجوده سابقا على العدم المعتبر لغيره من الممكنات آه. (ش)
2- 2 - قوله: «ولو كان بعضها قديما» يعنى لو كان قديما زمانا كان محتاجا إلى الواجب أيضا مع قدمه لكونه ممكنا وقد بينا مرارا أن علة احتياج الممكن إلى العلة هي الإمكان دون الحدوث فلا منافاة بين أن يكون شئ قديما زمانا ومع ذلك مخلوقا لواجب الوجود معلولا له تعالى وإنما نسبه الشارح إلى البدعة، لا لأن من التزم بقدم بعض الممكنات استلزم قوله إنكار الواجب تعالى، بل لأن الاعتقاد بالحدوث الزماني شيء دل عليه ظواهر الأدلة، والخارج عن الالتزام بالظواهر مبتدع، ولو كان مستلزما لإنكار المبدأ لم يكن مبتدعا بل كافرا صريحا فيرجع الكلام إلى دلالة الأدلة الشرعية على الحدوث الزماني، أعني سبق الزمان على وجود الأشياء وقد أنكره الشارح فيما مضى قريبا. وقال: لا يمكن تقدم الزمان على الجسم، ففي كلامه نوع تنافر فتارة يقول: الزمان متأخر عن الحركة المتأخرة عن الجسم، وأخرى يقول: الزمان متقدم على وجود كل شيء ممكن، وكيف يكون الزمان متأخرا عن الجسم ومتقدما عليه معا. وأما الأدلة الشرعية على الحدوث فالمتتبع فيها الناظر بعين بصيرة لا يستريب في أن المقصود منها إثبات الواجب تعالى لا تعبد الاعتقاد بالحدوث الزماني، والشارح (رحمه الله) صرح هنا بأن الحدوث الذاتي يكفى في الاحتياج، فلابد إما أن يقول المراد من الحدوث في الأدلة الشرعية الحدوث الذاتي أو يلتزم بأن علة احتياج الممكن حدوثه لا إمكانه أو ينكر - نعوذ بالله - علم الأئمة (عليهم السلام) بما لا يخفى على أصاغر الطلبة ونحن في غنى عن تفصيل هذا البحث بما سبق. (ش)
3- 1 - قوله: «بتشعيره المشاعر أن لا مشعر له» سيجيء إن شاء الله كلام في ذلك في بعض الخطب الآتية. (ش)

فاقد كمال فكان ناقصا بذاته وهو محال، وإن لم يكن من كمالاته كان إثباتها له نقصا; لأن الزيادة على كمال نقص فكان إيجادها له مستلزما لنقصانه وهو أيضا محال.

(وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له) أي بإيجاده المهيات الجوهرية وجعلها جواهر في الأعيان عرف أنه ليس بجوهر ولا مهية جوهرية إذ هي مهية إذا وجدت (1) في الخارج لم تفتقر في وجودها العيني إلى موضوع، ولا خفاء في أن وجودها زائد عليها، وليس وجود الواجب زائد عليه، بل هي عين ذاته الحقة الأحدية من كل جهة، فلا يكون له مهية جوهرية.

(وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له) يعني بجعله بعض الأشياء ضدا لبعض كالحرارة والبرودة (2) والرطوبة واليبوسة والسواد والبياض والنور والظلمة إلى غير ذلك مما لا يحصى، عرف أن لا ضد له تعالى لأنه الخالق للأضداد، فلو كان له ضد لكان خالقا لنفسه ولضده وهو محال ولأن الضدين هما الأمران اللذان يتعاقبان على محل واحد ويمتنع اجتماعهما فيه فلو كان بينه وبين غيره تضاد لكان محتاجا إلى محل يحل فيه وهو محال.

(وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) (3) لأنه تعالى لما كان خالقا للمقارنات ومبدأ المقارنة بينها لم يجز أن يكون له قرين وإلا لكان خالقا لنفسه ولقرينه وأنه محال، ولأن المقارنة من باب الإضافة والمضاف من حيث هو مضاف كان وجوده متعلقا بوجود الغير، فلو كان للواجب قرين كان وجوده متعلقا بوجود قرينه، فلم يكن واجب الوجود، هذا خلف.

(ضاد النور بالظلمة) تأكيد لقوله «وبمضادته بين الأشياء» وتقرير له، وفي كونهما ضدين خلاف

ص:173


1- 2 - قوله: «إذ هي مهية إذا وجدت» حمل الشارح (رحمه الله) الجوهر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على مصطلح الفلاسفة، ولا ريب أن اصطلاحهم متأخر عن زمانه (عليه السلام) ولا يجوز حمل ألفاظ الكتاب والسنة على اصطلاح أرباب الفنون الذي لم يكن معروفا في عهدهم، وليس هذا خاصا باصطلاح الفلاسفة بل يعم اصطلاحات الفقه والحديث وغيرهما أيضا، والأقرب أن يحمل الجوهر على الذوات المحدودة والمهيات المتميزة ويكون المراد كونه تعالى عين حقيقة الوجود المطلق كما ذكره الشارح أخيرا لأن إطلاق الجوهر في كلام العرب على المهيات والحقائق المعينة غير عزيز، ثم أن الجمل كما يتعلق بالوجود أصلا وبالذات يتعلق بالمهية ثانيا وبالعرض تبعا لجعل الوجود فيصح نسبة تجهير الجواهر إليه تعالى، وأما ما نقل من بعض الحكماء ما جعل الله المشمشة مشمشة بل أوجدها فليس مراده نفى الحمل مطلقا بل نفي الجعل أولا وبالذات. (ش)
2- 3 - قوله: «كالحرارة والبرودة» ربما يتوهم أن التضاد بين الحرارة والبرودة ذاتي غير مجعول كساير المتضادات فكيف نسب جعله إليه تعالى؟ والجواب أنه تعالى خلق الحرارة والبرودة وأمثالهما فتعلق خلقه بلوازمها كما ينسب الاحراق إلى من يشعل النار، ومن قال أن اللوازم غير مجعولة أراد بذلك جعلا مستقلا بعد جعل الملزومات لا نفي الجعل مطلقا ولا تفويض جعل شيء إلى غيره، وسيجئ الكلام في دلالة ذلك على نفي الضد له تعالى إن شاء الله، والكلام في حمل الشارح الضد على الاصطلاح الفلسفي ما مر. (ش)
3- 1 - «وبمقارنته بين الأشياء» مراده (عليه السلام) بقرينة مقابلته للضد ما لا يمتنع اجتماعها. (ش)

بين العلماء مبني على كون الظلمة أمرا وجوديا أو عدميا، والأقرب أنها أمر وجودي مضاد للنور على أنه لو كان أمرا عدميا فالظاهر أنها عدم الملكة لا عدم صرف، فجاز أن يطلق عليها أنها ضد للنور مجازا (1).

(واليبس بالبلل) اليبس بالضم مصدر وبالفتح اليابس، والثاني هنا أنسب بقرينة مقابلته مع البلل وهو بالتحريك: ما فيه الندى والرطوبة وهما متضادان باعتبار اتصافهما باليبوسة والرطوبة وقد يستعملان للكناية عن الشدة والرخاء، كما صرح به الزمخشري في الفايق، وبين هذين المعنيين أيضا تضاد.

(والخشن باللين) الخشن بفتح الخاء وكسر الشين واللين بالفتح والتشديد وقد يخفف متضادان باعتبار الخشونة واللين بالكسر والسكون.

(والصرد بالحرور) الصرد بالفتح والسكون البرد فارسي معرب والحرور بالفتح الريح الحارة وهي بالليل كالسموم بالنهار. وقال أبو عبيدة: الحرور بالليل وقد يكون بالنهار، والسموم بالنهار وقد يكون بالليل، وهما أيضا متضادان باعتبار اشتمالهما على البرودة والحرارة.

(مؤلف بين متعادياتها) مؤلف بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو مؤلف، وهو الموافق لما في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام). وفي بعض النسخ: مؤلفا بالنصب على أنه حال عن فاعل «ضاد» والمقصود أنه تعالى ألف بقدرته الكاملة بين العناصر الأربعة (2) فإن كيفياتها المتضادة

ص:174


1- 2 - قوله: «ضد للنور مجازا» كلام الشارح مبنى على أن الضد في لغة العرب مرادف له في اصطلاح الفلاسفة، وإلا فكل معنيين لا يجتمعان ضدان حقيقة في اللغة وإن كان أحدهما عدميا. (ش)
2- 1 - قوله: «بين العناصر الأربعة» العنصر: هو الجسم البسيط الطبيعة التي لم يبين قابلية انحلالها إلى طبيعتين مختلفتين وكان يزعم القدماء من اليونانيين وغيرهم أن العنصر واحد إما ماء وإما هواء أو غيرهما، ثم اتفق رأيهم على تربيع العناصر وتبين عند المتأخرين أن العناصر الأربعة المعروفة كلها مركبة من عناصر أخرى وكان جماعة منهم يعتقدون أن عدد العناصر خمسون ثم انكشف لديهم كونها أكثر حتى انتهى عددها في زماننا إلى قريب من مائة عنصر، ولا دليل على الحصر مطلقا ويظهر في كل زمان عنصر لم يكن معلوما للسابقين ولا طعن عليهم في ذلك; لأن العلم يزيد والإنسان ناقص وكلما كان عدد العناصر فلا ريب أن كل واحد منها يفعل وينفعل ويؤثر ويتأثر فما هو شديد التأثر يوصف بالحرارة وإن كان باردا في الحس في عرف الأطباء كالخردل والفلفل وفي مقابله بارد وبالقوة، وما ينفعل سريعا يوصف بالرطوبة وإن لم يكن مبلولا كالهواء ومقابله باليبوسة، وهذه الكيفيات الأربع الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة شاملة لجميع العناصر وإن كانت مائة، والمزاج حاصل من انفعال العناصر بعضها من بعض وكسر سورة خاصة كل بضدها والمزاج شيء روعي بالعناية الإلهية والحكمة المتقنة في توليد المواليد بحيث تحير فيه أفكار أولي الألباب كلما تعمقوا فيه انكشف لهم حكمة لم يكن منكشفة قبله ومصلحة لم يطلعوا عليها، فلو تفكرت في مزاج الدم مثلا في الإنسان أو مزاج اللحم في كل واحد من أعضائه والمصلحة في كل واحد من عناصر كل عضو ووجه الاحتياج إليها لتبين لك معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «مؤلف بين متعادياتها» ولا حاجة بنا ولا عناية للحكماء أيضا بعدد العناصر وأنها خمسون أو أكثر أو أقل، بل الغرض إثبات البساطة والتركيب والمزاج وحصول المواليد وإنما يهتم بالعدد أصحاب الصناعات والمتحرفون في حرفهم وصناعاتهم والأطباء في معالجاتهم لا الفلاسفة والمتكلمون في إثبات العناية الإلهية والحكمة الربانية وكلما ذكروه في العناصر الأربعة ثابت وإن تكثرت حتى صارت مائة. (ش)

يجتمع بقدرته وتنكسر سورة كل واحد منها بالآخر، فتحصل كيفية متوسطة هي المزاج، وبين الأرواح اللطيفة التي لا تحتاج في ذاتها إلى مادة أصلا، وبين الأبدان الكثيفة بإيجاد الربط والملائمة بينهما وبين القلوب المتعادية كما قال: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) إلى غير ذلك مما لا يخفى على المعتبر.

(مفرق بين متدانياتها) «مفرق» أيضا بالرفع، وفي بعض النسخ بالنصب، يعني هو المفرق بين المتدانيات والمتناسبات كما فرق بين كل واحد من العناصر وبين جزئه المأخوذ لغرض التركيب مع التناسب بين الجزء والكل في الطبيعة والكيفية وبين الأرواح والأبدان وبين أجزاء الأبدان بعد تدانيها وتقاربها بالموت والإفناء وبين قلوب متدانية لأمر مشترك بينهما كما قال (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) وبين أشياء متدانية بالأجناس والأنواع والأشخاص والحدود والأقدار والغرايز والصفات والخواص والآثار إلى غير ذلك مما يظهر على المتأمل.

(دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها) دالة حال من المتدانيات المتفرقة والمتعاديات المتألفة يعني دلت تلك المتدانيات والمتعاديات بسبب التفريق والتأليف الواقعين فيها على وجود مفرقها ومؤلفها وصفاته مثل العلم والقدرة والحكمة (1) والتقدير والتدبير فإن تفريق

ص:175


1- 1 - «مثل العلم والقدرة والحكمة» لا يقدر الانسان على إحصاء ما ضمنه أمزجة المواليد من الحكم والمصالح المختلفة كلما تكثر الوسائل والتجارب وتتبع الموجودات بأنحائها، ولا بد أن يعترف بعلم من ألف بين متعادياتها وقدرته وحكمته، وأشرنا إلى مزاج الدم في الانسان كيف ركبه الصانع من جزء مايع وحيوانات صغيرة غواصة، وقال أصحاب التجربة: إن في بدن الانسان نحو جزء من ثلاثة عشر جزءا من وزنه من الدم وفي كل ميليمتر مكعب منه نحو خمسة ملايين جرثومة حمراء صغيرة وستة عشر ألف جرثومة بيضاء وكلها غواصة في مائع يحتوى على قريب من نصفه جسما بخاريا هوائيا وأملاحا ودسومة وغير ذلك; كلها لخاصة فيها ومصلحة يترتب على وجودها، وعلم الخالق أن سلامة بدن الانسان إنما تتوقف على وجود تلك العناصر في الدم بحيث لو زاد على ذلك أو نقص أوجب أمراضا هائلة. ففي دم الانسان ثلاثة إلى خمسة غرامات من ملح الطعام مثلا وللدم خاصية الترويح بالنسيم في الرية ودفع الأدخنة، وهذه الخاصية من المزاج الذي اختار له الخالق بقدرته وحكمته، فلو لم يكن الدم مركبا من عناصره المشخصة بالمقادير المحدودة لم يكن لجراثيمه أخذ النسيم الذي هو العمدة في تركيب الروح الحيواني ويستعمل الأطباء كثيرا تجزية الدم وتميز المواد فيه في تشخيص الأمراض، وما هذا إلا لأن زيادة بعض العناصر أو نقصه فيه مضر بصحة البدن، فيعرف منه حكمة الخالق فيه وفي كل شيء غيره ومثله. (ش)

أجزاء العناصر منها مع وجود الداعي إلى الاجتماع (1) والالتصاق، وتأليف تلك الأجزاء مع وجود الداعي إلى الافتراق من أعظم الدلايل الدالة على ما ذكر، وكذا تفريق الأشياء المتدانية بأجناسها وأنواعها وأشخاصها وحدودها وحقيقتها وأشكالها وصفاتها مقاديرها وغرايزها وأخلاقها كما هي في نظام الوجود دليل واضح على ذلك، وكذا تأليف الأرواح بالأبدان مع كمال المعاداة بينهما بحسب الذات والصفات واللطافة والكثافة وإحداث الملايمة بينهما وتخصيص كل نفس ببدن من الأبدان على وجه تشتغل بتدبيره وإصلاحه واستعماله فيما يعود إليه من المصالح والمنافع على النظام الأقصد والطريق الأرشد، ثم التفريق بينهما بقطع الملايمة وإزالة الارتباط دليل قاطع على ذلك وقس على ما ذكرنا سائر التفريقات والتأليفات الواقعة في هذا العالم (وذلك قوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين (2) لعلكم تذكرون) أي ذلك المعنى المذكور أعني وقوع التأليف والتفريق في الأشياء ودلالتهما على وجود المؤلف والمفرق الصانع لهذا العالم مفاد هذه الآية الشريفة ومضمونها أما أولا فلما ذكره بعض المفسرين من أن المقصود أنه تعالى خلق كل جنس من أجناس الموجودات نوعين وهما زوجان; لأن كل واحد منهما مزدوج بالآخر كالذكر والأنثى،

ص:176


1- 2 - قوله: «مع وجود الداعي إلى الاجتماع» أراد بالداعي السبب، ولا يخفى أن أكثر العوام يطلبون دليل وجوده تعالى في الأمور النادرة والمخالفة للعادة كأنه لا يحتاج إليه تعالى في الوقائع المعتادة مثلا نبات الشجر من البذر معتاد لا ينسب إليه تعالى وأما ان نبت من الحجر مثلا فهو من الله ولا يجوز أن يحمل عليه كلام أمير المؤمنين (عليه السلام); لأن كل شيء من الله وإنما يستدل عليه بإحكام الصنع ونظام الوجود كما قال الشارح «كما هي في نظام الوجود». (ش)
2- 3 - قوله: «ومن كل شيء خلقنا زوجين» هذا في الحيوانات ظاهر للعامة وفي النباتات ثابت بالتجربة للعارفين بهذا الشأن إذ تحقق لديهم أن في كل نبات ذكرا وأنثى، والذكر يلقح الأنثى وكان يسمى في النخل تأبيرا وفي ما سواها يلقح بالرياح الحاملة لنطفة ذكران النبات إلى أناثها، وأما في ساير الموجودات فيستدل عليه بحجة، وهي أن إفاضة الصور الحادثة على المواد متوقفة على حصول الاستعداد لها إذ معلوم أن كل شيء إذا خلى وطبعه ولم يؤثر فيه شيء من الخارج بقي على ما هو عليه أبدا، فلو بقي التراب من غير أن يؤثر فيه حرارة أو برودة أو ماء أو نار أو أي قوة أخرى بقي ترابا لم يستحل إلى شيء آخر نبات أو معدن أو حيوان، ويتوقف استحالته على تأثير مؤثر فيه حتى يتغير أي حتى يحصل له استعداد لصورة كمالية جديدة، ويسمى في عرفهم بالامكان الاستعدادي، وقالوا: كل حادث في مادة متوقف على سبق استعداد ولا يمكن ذلك إلا بوجود مؤثر في متأثر، والمؤثر بمنزلة الذكور، والمتأثر بمنزلة الإناث اللهم إلا في المبدعات التي استعدادها حاصل لها من خالقها ولا بد من الانتهاء إليها; لأن قوله تعالى: (من كل شيء خلقنا زوجين) لا يشمل نفس الزوجين مطلقا; لأن كل زوج لو كان من زوجين وكل واحد منهما من زوجين أيضا لزم التسلسل فهو بمنزلة أن يقال من كل شيء خلقنا زوجين إلا نفس الزوجين فكل شيء إنما يحصل من زوجين لتحصيل الاستعداد إلى أن ينتهى إلى ما يكون الاستعداد حاصلا له من غير توقف على تأثير وتأثر وتغير من حال إلى حال ويسمى مبدعا. والمبدعات عناصر مركبة كل واحد منها من مادة وصورة نوعية وجسمية بل كل شيء سوى الله تعالى زوج تركيبي له ماهية ووجود. (ش)

والسواد والبياض (1) والنور والظلمة، والليل والنهار، والحار والبارد، والرطب واليابس، والسماء المرفوعة، والأرض الموضوعة، والشمس والقمر، والثوابت والسيارات، والسهل والجبل، والبر والبحر، والصيف والشتاء، والجن والإنس، والعلم والجهل، والشجاعة والجبن، والجود والبخل، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحلاوة والمرارة، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والضحك والبكاء، والفرح والغم، والحياة والموت، إلى غير ذلك مما لا يحصى، وفايدة هذا التفريق دلالتهم على التذكر بأن لهذه الأشياء موجدا وأن موجده واحد إذ التعدد والانقسام والأزواج من خواص الممكنات.

وأما ثانيا فلأن كل شيء سواه زوج تركيبي من الذات والوجود الزايد عليها مثلا وانحلاله إليهما وكل واحد منهما مزدوج بالآخر وزوج لصاحبه وهما زوجان، والتفريق بينهما مع كونهما متقاربين في قبول الإمكان والمجعولية بجعل هذا شيئا وذاك شيئا آخر، ثم التأليف بينهما بجعل الثاني عارضا للأول تحصيلا لتحققه في الخارج مذكر واضح ودليل قاطع على وجود الصانع المفرق والمؤلف بينهما لضرورة أن الذات القابلة للوجود الزائد عليها ليس التفريق بينهما ولا انضمام الوجود إليهما بمستندين إليها; لأن المعدوم لا يوجد نفسه فوجب استنادها إلى الغير، وهو ما ذكرنا.

(ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل ولا بعد له) هذا مثال للتفريق بين المتدانيات فإن الله سبحانه فرق بين أجزاء الزمان وبين الزمانيات مع التداني بينها في كونها زمانا وزمانية بأن جعل بعضها قبلا وبعضها بعدا حتى أن لكل قبل منها بعدا ولكل بعد منها قبلا ليعلم أن لا قبل له تعالى

ص:177


1- 1 - قوله: «والسواد والبياض» والمناقشة في بعض هذه الأمثلة غير ضارة بأصل المقصود، والغرض أن هذه الأمور المتضادة مؤثرة في تحصيل الاستعداد للمواد حتى تتهيأ لقبول الصورة الكمالية، فالنور مؤثر لدفعه الظلمة عن بعض المواد، وجرب أن النباتات لا تنمو في الظلمة وبعض الحشرات لا تتولد في النور المحض، فالظلمة مؤثرة فيها بدفعها النور عنها والحرارة مهيئة لبعض المواد حيث لا تقبل الصورة الكمالية إلا بالحرارة كبعض الحيوانات وبيض الدجاج لا تنفلق عن الفراريج إلا بحفظها مدة في حرارة ثابتة وهكذا كل شيء حاصل من مدافعة الأمور المتضادة بعضها بعضا، والحكم والمصالح التي روعيت بعناية الصانع الحكيم في هذا التفريق والتأليف دالة على حكمته وعلمه وقدرته، وزعم بعض الجهلة أن الاستدلال بجمع المتضادين من جهة خرق العادة وذلك لأنهم يظنون الطبيعة والعادة شيئا وإرادة الله ومشيئته شيئا مضادا لهما فإن رأوا الأشياء جارية على مجرى العادة كالنار تحرق والماء يسيل إلى المنحدر لم ينسبوا فعلهما إلى الله تعالى إلا بالمجاز والتخلية والتفويض، وإن رأوا النار صارت بردا وسلاما، والماء جرى إلى فوق نسبوه إلى الله تعالى وزعموا أن الجمع بين المتضادين بمعنى تركيب شيء من الثلج والنار مثلا بحيث لا يطفئ النار ولا يذاب الثلج، والحق أن جميع أفعال الطبايع ومجاري العادات بمشيئة الله تعالى وليست إرادته ضدا للطبيعة ولا الطبيعة ضدا لإرادته تعالى، ولا مؤثر في الوجود إلا هو سواء كان على مجرى العادة أو غيرها. (ش)

ولا بعد له وإلا لكان هو مشابها بخلقه فيكون ممكنا، والتالي باطل (شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها) شاهدة عطف على دالة بحذف العاطف فهي أيضا حال عما ذكر. والغريزة الطبيعة التي طبع عليها الأشياء (1) كأنها غرزت فيها، وضمير التأنيث في مغرزها يرجع إلى ذي الحال أو إلى الغرائز، والمراد بتغريز تلك الغرائز إيجادها في الأشياء على سبيل الاستعارة التحقيقية للمشابهة بينها وبين العود الذي يركز في الأرض من جهة الغاية ومن جهة المبدأ، فكما أن العود يثمر ثمرا منتفعا بها كذلك الغرائز تثمر الآثار الموافقة لنظام العالم كقوة التعجب والضحك والإدراك للإنسان والشجاعة للأسد والجبن للأرنب والمكر للثعلب (2) إلى غير ذلك مما تعلم ولا يعلم من آثار طبايع

ص:178


1- 1 - قوله: «والغريزة الطبيعة التي طبع عليها الأشياء» ولعل الغريزة أعم من الطبيعة المصطلحة فإن الأولى تشمل غرائز الحيوانات على ما مثل به الشارح كالشجاعة للأسد، والطبيعة في اصطلاح الحكماء في أكثر الأمر تختص بما يصدر عنه الفعل على نهج واحد من غير شعور وأما بيان شهادة الغرائز بنفيها عن المبدأ فقد قال صدر الحكماء المتألهين (قدس سره): كل أمر وجودي يتحقق في الموجودات الإمكانية فنوعه وجنسه مسلوب عنه تعالى ولكن يوجد له ما هو أعلى وأشرف منه، أما الأول فلتعاليه عن النقص وكل مجعول ناقص وإلا لم يكن مفتقرا إلى جاعل وكذا ما يساويه في المرتبة، وآحاد نوعه كأفراد جنسه. وأما الثاني فلأن معطي كل كمال ليس بفاقد له بل هو منبعه ومعدنه وما في المجعول رشحه وظله فهو سبحانه ذات الذوات ووجود الوجودات وحقيقة الحقائق وعلم العلوم إلى آخر ما قال. وقد نقله عنه المجلسي (رحمه الله) بعنوان بعض الأفاضل ونقل جملة من عباراته السابقة عليه واللاحقة، وربما يورد هنا شك وهو أنه ما الفرق بين هذه الأمور وبين الصفات التي تثبت له تعالى وكيف يصح وأن يقال «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره بالجواهر عرف أن لا جوهر له وبتغريزه الغرايز علم أن لا غريزة له» إلى غير ذلك ولا يصح أن يقال: بتعليمه العلماء عرف أن لا علم له وبتقديره القادرين عرف أن لا قدرة له؟ ويظهر جوابه من كلام صدر المتألهين (قدس سره): وبوجه تركيب هذه الحجة نظير تركيب قياس المساواة فيقال ألف مساو ل «ب» و «ب» مساو ل «ج» فألف مساو ل «ج» ولا يقال ألف نصف «ب» و «ب» نصف «ج» فألف نصف «ج»; لأن الحجة تكمل بمقدمة مطوية كلما صحت أنتج القياس وكلما لم تصح لم تنتج وهي مساوي المساوي مساو وهي صحيحة ونصف النصف نصف ليست بصحيحة وهكذا هنا بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وهو كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) صحيح. وبتعليمه العلماء عرف أن لا علم له غير صحيح; لأن هنا مقدمة مطوية صحيحة في الأول وغير صحيحة في الثاني، وهي وأن المشعر ليس إلا مخلوقا لنقصه وعدم تصور مشعر يكون واجب الوجود وهذا صحيح ولا يصح أن العلم ليس إلا مخلوقا، ولا يتصور علم يكون عين ذات الواجب، وسيأتي إن شاء الله لذلك تتمة في شرح حديث حارث الأعور. (ش)
2- 1 - قوله: «والمكر للثعلب» هذه الغرائز في الحيوان تارة تسمى فطنا وأخرى إلهاما وأخرى جبلة، وفي توحيد المفضل: «فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من الله عز وجل لهم لئلا يخلو من نعمه - جل وعز - أحد من خلقه لا بعقل وروية - إلى أن قال - والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها. فمن أعان الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه» وفي ذلك الكتاب أيضا: «انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ وليس لها بيض مجتمع ولا وكر موطى بل تنبعث وتنتفخ وتقوقي وتمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ فلم كان ذلك منها الا لإقامة النسل؟ ومن أخذها بإقامة النسل ولا روية ولا تفكر لولا أنها مجبولة على ذلك؟» وفيه أيضا: «ثم صار الطائر السابح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا وبعضها أسبوعين وبعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسع حوصلته للغذاء ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقر في حوصلته ويغذو به فراخه؟ ولأي معنى يحتمل هذه المشقة وليس بذي روية ولا تفكر ولا يأمل في فراخه ما يأمل الانسان في ولده من العز والرفد وبقاء الذكر إلى آخره؟ ومن ذلك كله تعرف أن الغريزة ومرادفاتها معان أخذت فيه قيد لا يمكن إثباته لواجب الوجود، وهذا القيد صدور فعل أعظم وأحكم من علم الفاعل وقدرته، وجل الحق تعالى من أن يصدر عنه فعل لم يتعلق به علمه وقدرته فليس فيه غريزة. (ش)

هذا العالم وخواصها فدلت تلك الأشياء بسبب الغرائز المركوزه فيها والطبايع المغروزة فيها أن لا غريزة لمغرز تلك الغرائز وموجدها ضرورة أن ذات الخالق الواجب بالذات مغايرة لذوات المخلوقات غير مشابهة بغرايزها المخلوقة وإلا لكان هو ممكنا مخلوقا مثلهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها) (1) يعني أن الله تعالى قدر الأشياء بالعلم الأزلي وربط كل ذي وقت بوقته بحيث لا يتأخر المتقدم ولا يتقدم المتأخر فهي تخبر بسبب كونها موقتة أن لا وقت لموقتها لامتناع تشبيهه بخلقه وارتباط وجوده بوقت وافتقاره إلى الموقت، وسبق العدم على وجوده (حجب بعضها عن بعض) (2) أما تحقق الحجاب بين المحسوسات بعضها عن بعض وبين

ص:179


1- 2 - قوله: «أن لا وقت لموقتها» نفي الزمان عن الواجب تعالى متواتر في الروايات موثق بالدلائل العقلية والحجج البرهانية وقد مر نبذة منها وبذلك يعلم أنه لا يمكن إثبات زمان بين وجود الواجب وأول الصوادر عنه ولا يصح أن يقال: مضى زمان كان فيه واجب الوجود وحده ولم يكن شيء من المخلوقات، ولا أن يقال: عدم الممكنات مقدم زمانا على حدوثها. وقد حكى العلامة المجلسي (رحمه الله) في المجلد الرابع عشر من بحار الأنوار تصريحات من العلماء ومؤكدات لذلك منها ما عن المحقق الطوسي قال: والعقل كما يأبى عن إطلاق التقدم المكاني كذلك يأبى عن إطلاق التقدم الزماني بل ينبغي أن يقال أن للباري تعالى تقدما خارجا عن القسمين وإن كان الوهم عاجزا عن فهمه. وعنه أيضا: أزليته تعالى إثبات سابقية له على غيره، ونفي المسبوقية عنه، ومن تعرض للزمان أو الدهر أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود، ونقل عن الكراجكي بعد نفى كون تقدم في الوجود التقدم المفهوم المعلوم الذي يكون أحدهما به موجودا والآخر معدوما، ولسنا نقول إن هذا التقدم موجب للزمان لأن الزمان أحد الأفعال والله تعالى متقدم جميع الأفعال، وليس أيضا من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان; لأن الزمان نفسه قد يتقدم بعضه على بعض، ولا يقال: إن ذلك مقتض لزمان آخر. وقال أيضا: لو قلنا أن بين القديم وأول الافعال أوقاتا بالحقيقة لناقضناه ودخلنا في مذهب خصمنا - نعوذ بالله - من هذا. وعن أبي القاسم البلخي: لا يطلق القول بأن بين القديم وأول المحدثات مدة ونقول إنه قبلها بمعنى أنه تعالى كان موجودا ثم وجدت. وعن المفيد (رحمه الله): الزمان اسم يقع على حركات الفلك فلذلك لم يكن الفعل محتاجا في وجوده إلى وقت ولا زمان، وعلى هذا القول ساير الموحدين. ونقل عن اثولوجيا كلاما ارتضاه: لابد للعلة أن يكون قبل المعلول فيتوهم المتوهم أن القبلية هي الزمان وليس ذلك كذلك ونقل في خلال ما سبق أمورا يوهم مناقضتها له لا حاجة بنا إلى ذكره ورده. وبالجملة فالحدوث الزماني بمعنى كون وجود الحادث الأول بعد عدمه زمانا باطل، ولعل من تلفظ بالحدوث الزماني أو بكون الزمان سابقا على كل موجود أراد بكلامه غير ما يدل عليه لفظه ولم يستطع التعبير عن غرضه. (ش)
2- 1 - قوله: «وحجب بعضها عن بعض» الزمان والمكان كلاهما حاجبان، والمناسبة بين الحجاب والزمان حيث ذكره بعده أن الزمان علة للحجاب والواقع في زمان معين لا يعلم ما في الماضي والمستقبل وكذا الواقع في مكان لا يعلم ما في مكان آخر، وأما واجب الوجود وما خلقه لا في زمان ومكان، فإن نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليهم واحد، ونفس الإنسان باعتبار جسمانيتها محجوبة كساير الجسمانيات فإنه لا يمكن لها الاطلاع على الغائبات بخلاف ذاتها المجردة. ألا ترى أن الإنسان في النوم أو في الرياضات إذا تخلى بنفسه وانصرف من عالم الطبيعة إلى باطنه قد يرى الأمور الغائبة والمستقبلة. (ش)

المحسوسات والحواس فظاهر، وأما تحققه بين المعقولات والعقل ويسمى ذلك الحجاب بالحجاب العقلي فلأن كثيرا من الأمور المعقولة لا يدركه العقل أصلا ولا يصدق بوجودها أبدا لعدم ارتباطها بما أدركه أو لبعد ارتباطها عنه أو لخفائها وغاية دقتها (ليعلم أن لا حجاب) أصلا (1) لا حسي ولا عقلي (بينه وبين خلقه) يمنعهم من مشاهدة

ص:180


1- 1 - قوله: «ليعلم أن لا حجاب أصلا» هذه العبارة وما شابهها تدل دلالة واضحة على صحة الاعتماد على الأدلة العقلية الحكمية ووجوب التفكر فيها; لأن دلالة كون الممكنات محجوبة بعضها عن بعض على عدم الحجاب بينه تعالى وبين خلقه متوقفة على مقدمات نظرية لا يهتدي إليها الظاهريون بمجرد مطالعة الألفاظ وفهم مداليلها لغة وعرفا، ومثلها قوله (عليه السلام) «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له» وغيره من أمثاله. قال العلامة المجلسي (رحمه الله): عن بعض الأفاضل يعني صدر المتألهين (قدس سره) في تقرير الدليل أن الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعض أفرادها علة لبعض آخر لذاته لأنه لو فرض كون نار علة لنار فعلية هذه ومعلولية تلك أما لنفس كونهما نارا فلا رجحان لأحدهما في العلية وللأخرى في المعلولية بل يلزم أن تكون كل نار علة للأخرى بل علة لذاتها ومعلولا لذاتها وهو محال، وإن كانت العلية لانضمام شيء آخر فلم يكن ما فرضناه علة علة بل العلة حينئذ ذلك الشيء فقط لعدم الرجحان في إحداهما للشرطية والجزئية أيضا لاتحادهما من جهة المعنى المشترك، وكذلك لو فرض المعلولية لأجل ضميمة فقد تبين أن جاعل الشيء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله - إلى آخر ما قال - وهذه عبارة صدر المتألهين بعينها. أترى أن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يمكن فهمه من دون التفكر في أمثال هذه المطالب الدقيقة ولو كان ممكنا لم يحتج المجلسي (رحمه الله) إلى نقل عبارة الصدر (قدس سره) مع أنه نقلها في مرآة العقول وفي البحار أيضا. واستدل أيضا صدر المتألهين هنا ببرهان أدق حاصله أن تأثير الجسم أن فرض تأثيره وتأثير قواه ومتعلقاته إنما يكون بمشاركة الوضع ولكن لا وضع لشيء بالقياس إلى ما لم يوجد بعد، إذ كل علة مقتضية للشيء فلها مرتبة في الوجود سابقة على وجود معلوله، وإذا كان تأثير العلة الجسمانية بمشاركة الوضع والوضع لا يتحقق إلا بعد وجود ما بالقياس إليه الوضع أو موضوعه أو مادته وأما ذات الجسم والمادة التي كلامنا فيه فلا يمكن أن يكون لموجدها وضع بالقياس إليها قبل وجودها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه، فإذن موجد الجسم يجب أن لا يكون جسما ولا جسمانيا فيكون مرتفع الذات عن عالم الاحتجاب والظلمات، فوجود المحتجبات دل على أن موجدها موجود غير محتجب عن الخلق. انتهى ما أردنا نقله. ولو كان مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) ما خطر ببال بعض أهل الظاهر من التمسك بصرف عدم الاشتباه بتقرير أن كل صفة وجدت في الممكنات دلت على عدمها في الواجب تعالى، مثلا: وجود الحجاب في الممكنات دال عدمه في الواجب ووجود الزمان والمكان والجسم والمشعر والغريزة والضد والمثل والقرين في الممكن دل على عدم جميع تلك في الواجب كان برهانا ناقصا وغير صحيح إذ يلزم منه أن ثبوت العلم في الممكن دال على الجهل في الواجب، والحياة فيه على عدم الحياة فيه، والسمع والبصر والقدرة وغير ذلك، فلا بد من الفرق كما قلنا. وما يقال من أن كلام الأئمة (عليهم السلام) لفهم جميع الناس البدوي والقروي والعالم والجاهل وأمثال هذه المطالب الدقيقة مما لا يمكن فهمه للعامة ولا يمكن أن يبتنى عليها أدلة العقائد في كلام الأئمة (عليهم السلام)، نقول في جوابه لا نسلم أن جميع ما ورد في الدين ورد لجميع الناس بل ورد بعضها لأهل العلم والفطنة لأن لهم حقا أداه الأئمة (عليهم السلام) إليهم ولا نوجب على الناس كافة فهم كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه المطالب بل نوجب اعترافهم بعلمه (عليه السلام) وإن لم ينالوه كما نعترف بفضل ساير العلماء والحكماء وإن لم نعرف جميع مطالبهم. (ش)

وجوده والتصديق بثبوته وإلا لكان مشابها بخلقه في الاحتجاب وذلك باطل لامتناع المشابهة ولظهور نور وجوده في كل ذرة من الموجودات وارتباط إشراق جوده بكل معقول من المعقولات كما قال:

(وأشرقت الأرض بنور ربها) وقال: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) ويحتمل أن يراد أنه حجب بعضها عن بعض بحجاب حسي ليعلم أنه ليس بينه وبين خلقه حجاب حسي وإلا لرفع التشبيه بالمحسوس في المحسوسية والوضع والجهة والجسمية، لأن الحجاب الحسي إنما يحجب من المحسوسات ذا الوضع والجهة والجسمية، والله سبحانه منزه عنها (كان ربا إذ لا مربوب) (1) إذ ظرفية على توهم الزمان أي كان ربا في الأزل ولم يكن شيء من المربوب موجودا فيه لأنه كان مالكا لأزمة الإمكان وتصريفه من العدم إلى الوجود ومن الوجود إلى العدم حيث شاء ومتى أراد.

(وإلها إذ لا مألوه) إذ كان في الأزل مستحقا للعبادة، ولا يتوقف هذا المعنى على وجود المألوه.

(وعالما إذ لا معلوم); لأن علمه بالأشياء عين ذاته وتقدم ذاته على معلولاته الحادثة ومعلوماته الكاينة ظاهر فظهر أنه كان عالما ولم يكن معلوم في الوجود سوى ذاته فهو كان في الأزل عالما ومعلوما وعلما ولم يكن معه شيء.

ص:181


1- 1 - قوله: «كان ربا إذ لا مربوب» هذا متفرع على نفي الزمان عنه تعالى وعدم الحجاب بينه وبين خلقه وبيانه: أن الموجودين إن كانا زمانيين وكانا محجوبين كل عن الآخر لم يتصور أن يكون أحدهما يربي الاخر أو يشاهده أو يسمعه وأما إذا لم يكن شيء زمانيا ولم يحجب عن غيره وكان نسبة جميع الأزمنة اليه على سواء لم يفرق الماضي والحال والاستقبال بالنسبة إليه وكما هو عالم بما في الحال والماضي عالم بما في المستقبل وكما يتعلق تصرفه وتربيته بالنسبة إلى ما في الحال كذلك يتعلق بما في الاستقبال فهو رب إذ لا مربوب وهذا جزئي من فروع مسألة ربط الحادث بالقديم ولا يتعقله الماديون وأهل الظاهر وأصحاب الأوهام البتة لكونهم في الزمان ولا يتصورون شيئا محيطا بالأزمنة كما لا يتصورون شيئا لا يكون في مكان أو حيز ولا يتعقلون كون الخلاء مخلوقا وكون الفضاء متناهيا كذلك لا يتصورون شيئا إلا في زمان حتى أن وجود الواجب تعالى عندهم شيء مستمر متصل قابل للتطبيق على الأزمنة وأجزائها وإن لم يكن فيه تغيير ظاهر، وإن تفوهوا بعدم ثبوت زمان له تعالى فإن معناه غير ثابت عندهم وغير معقول لديهم ويقولون لو لم يكن في الدنيا تغير وحركة أصلا بل كان أجسام ثابتة على حال واحدة جميعا يتصور زمان من استمرار وجودها وهذا غير معقول، نعم اننا لممارستنا طول حياتنا أمورا متغيرة ارتكز في أذهاننا معنى الزمان فإذا تصورنا شيئا غير متغير قايسنا بينه وبين الزمان المرتكز في ذهننا من سابق علمنا بالأشياء المتدبرة وظننا لزوم ثبوت الزمان واقعا للأشياء، ولو فرضنا رجلا خلق دفعة ولم ير متغيرا أصلا ولم يكن طفلا حتى يشب ويكهل ويشيب ولا يرى ليلا ولا نهارا وشمسا وقمرا ولا شيئا من هذه المتغيرات أصلا لم يكن معنى الزمان المنقضي مرتكزا في خاطره، ولم يضطر إلى تصور استمرار الوجود والزمان في الباري تعالى. (ش)

(وسميعا إذ لا مسموع) لأن سمعه عبارة علمه بالمسموعات وهو سبحانه كان في الأول عالما بها قبل وجودها وليس سمعه بالقوة السامعة حتى يتوقف تحققه على وجود المسموعات.

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد، عن علي ابن سيف بن عميرة قال: حدثني إسماعيل بن قتيبة قال: دخلت أنا وعيسى شلقان على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأنا فقال: عجبا لأقوام يدعون على أمير المؤمنين (عليه السلام) ما لم يتكلم به قط، خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بالكوفة فقال: الحمد لله الملهم عباده حمده وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزله وباشتباههم على أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته، الممتنعة من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه، لا تشمله المشاعر، ولا تحجبه الحجب والحجاب بينه وبين خلقه إياهم لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولإمكان مما يمتنع منه ولافتراق الصانع من المصنوع والحاد من المحدود والرب من المربوب، الواحد بلا تأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة، والبصير لا بأداة، والسميع لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والباطن لا باجتنان، والظاهر البائن لا بتراخي مسافة، أزله نهيه لمجاول الأفكار، ودوامه ردع لطامحات العقول، قد حسر كنهه نوافذ الأبصار، وقمع وجوده جوائل الأوهام، فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال أين؟ فقد غياه، ومن قال علام؟ فقد أخلا منه، ومن قال فيم؟ فقد ضمنه.

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد، عن علي بن سيف بن عميرة قال: حدثني إسماعيل بن قتيبة) عده العلامة من أصحاب الرضا (عليه السلام) وقتيبة بضم القاف وفتح التاء والياء بينهما ياء ساكنة مثناة من تحت وقال بعض المحققين: المظنون أن الذي في هذا السند إسماعيل بن حقيفة بالحاء المهملة والقاف ، وقال بعض الأفاضل إسماعيل بن جفينة بالجيم والفاء وهو رجل صالح من أصحاب الصادق (عليه السلام) (قال: دخلت أنا وعيسى شلقان) هو عيسى بن أبي منصور شلقان بفتح الشين واللام،

ص:182

واسم أبي منصور صبيح قال النجاشي عيسى بن صبيح العزرمي ثقة، وقال الكشي: سألت حمدويه بن نصير عن عيسى فقال: خير فاضل هو المعروف بشلقان وهو ابن أبي منصور واسم أبي منصور صبيح.

وقال الصادق (عليه السلام) في حق عيسى: إنه خيار في الدنيا وخيار في الآخرة، وقال فيه أيضا: من أحب أن يرى رجلا من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. والذي يظهر مما ذكرنا أن شلقان ليس اسما لأبيه.

وقال بعض المحققين: عيسى بن شلقان ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) ولعل ترك «ابن» في نسخ الكافي من تروك الناسخين والله أعلم.

(على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأ) بالكلام من غير سؤال (فقال عجبا) نصبه على المصدر أي عجبت عجبا (لأقوام يدعون على أمير المؤمنين (عليه السلام)) في باب التوحيد (ما لم يتكلم به قط) (1) سبب التعجب عن ذلك أن ما نسبوه إليه (عليه السلام) كان السبب الباعث لهم على ذلك أمرا خفيا فصار ذلك محلا للتعجب ولذلك كلما كان الأمر أغرب وأسبابه أخفى كان أعجب، ولعل الغرض إظهار هذا التعجب تنفير الحاضرين عن مقالة هؤلاء الأقوام وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار لئلا يقعوا فيما وقع هؤلاء.

ثم أشار على سبيل الاستيناف إلى براءة ساحته (عليه السلام) عما نسبوه إليه مع الإيماء إلى ذمهم في ترك ما ينبغي أن يأخذوه منه بقوله (خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بالكوفة فقال: الحمد لله الملهم عباده حمده) حمد الله تعالى باعتبارات لا ينبغي إلا له: الأول: أنه ألهم عباده حمده على ذاته المنزهة عن لواحق الإمكان وصفاته المقدسة عن الزيادة والنقصان ونعمائه الفائضة على الإنس والجان، وآلائه المنثورة في عرصة الإمكان إذ لا يخلو أحد من نعمه في شيء من الأحوال، فلا يخلو من حمده بلسان الحال أو المقال كما قال جل شأنه (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (وفاطرهم على معرفة ربوبيته) (2) إذ العقول البشرية مفطورة على الاعتراف بربوبيته كما دل عليه قوله تعالى (ألست بربكم؟ قالوا! بلى) وذلك لأنه تعالى وهب كل نفس قسطا من معرفته

ص:183


1- 1 - قوله: «ما لم يتكلم به قط» من دعوى الألوهية وهؤلاء الأقوام من الغلاة وربما ينسب هذه الدعوى إلى عبد الله بن سبأ ويقال إن أمير المؤمنين (عليه السلام) هم بإحراقه مع أتباعه أو أحرقهم. وهو بعيد، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يعذب بالنار إلا رب النار، وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني: أنه أظهر الدعوى بعد انتقال أمير المؤمنين (عليه السلام) فليس دعوى الإحراق صحيحة، والله العالم. (ش)
2- 2 - قوله: «وفاطرهم على معرفة ربوبيته» من الأمور التي فطر الله الخلق عليها اعترافهم بربوبيته وخضوعهم وهذا نظير فطرة الحيوان على معرفة الذكر من الأنثى، وما ينفع ويضر من الطعام، والهرب من الموت، ومحبة الأولاد، وهي غرايز طبيعية غير قسرية إذا خرج منها عاد إليها كما إذا سخن الماء قسرا رجع إلى البرودة. (ش)

وفطرها على استعداد قبول كمال إلهيته حتى نفوس الجاحدين له فإنها أيضا اعترفت بربوبيته لشهادة أعلام الوجود وآيات الصنع بصدورها عنه حتى حكم صريح بديهتها إذا لم ينخدع من الوهم بالحاجة إلى رب صانع حكيم (الدال على وجوده بخلقه) إشارة إلى طريق الطبيعيين وهو الاستدلال بالنظر في المخلوقات وطبايعها وإمكانها وتكونها وحدوثها وقبولها للتغير والانتقال والتركيب والتحليل على وجود المبدأ الأول، وإلى هذا الطريق أشار خليل الرحمن كما هو المذكور في القرآن، والمتكلمون فرعوا هذا الطريق إلى أربع طرق; لأن بعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات على إمكانها (1) وبإمكانها على حاجتها إلى موجد مؤثر، وبعضهم استدلوا بحدوث هذه الذوات فقط من غير نظر إلى الإمكان فقالوا:

الأجسام محدثة وكل محدث فله محدث والمقدمة الأولى استدلالية (2) والثانية بديهية،

ص:184


1- 1 - قوله: «بحدوث هذه الذوات على إمكانها» والفرق بين الأول والثاني توسيط الإمكان، والغرض منه أن الحدوث لا يمكن أن يكون علة للحاجة كما مر، نعم يمكن أن يكون دليلا على الإمكان إذ لو كان واجبا كان قديما لكنه ليس قديما فليس واجبا. (ش)
2- 2 - قوله: «والمقدمة الأولى استدلالية» إذ ليس حدوث الأجسام بديهيا، واستدلوا عليه بأن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث حادث فالجسم حادث، أما أن الجسم لا يخلو عن الحوادث فلأنه إما أن يكون ساكنا أو متحركا والسكون هو الكون في الآن الثاني في المكان الأول، والحركة كونه في الآن الثاني في المكان الثاني، والكون الثاني حادث لا محالة. أما أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث فلأن عدد تلك الحوادث لا يمكن أن يكون غير متناه ببرهان التطبيق وقد مر تقريره في المجلد الثالث. فإن ناقش أحد في استحالة عدم تناهى الأكوان بأن عدد الأكوان بين المبدأ والمنتهى في الحركة غير متناه أيضا; لأن المسافة التي يتحرك فيها الجسم والزمان ينقسمان إلى غير النهاية لبطلان الجزء الذي لا يتجزى ولو فرض أن أكوان هذا الجسم في كل نقطة من نقاط المسافة أمور بالفعل لها عدد حقيقة لزم كون غير المتناهى محصورا بين حاصرين وهو أفحش من التسلسل وإن فرض أن كثرة الأكوان بالقوة نظير تقسيم الجسم والمقادير إلى غير النهاية بالقوة لبطلان الجزء الذي لا يتجزى فليس عدم التناهي بالقوة باطلا. قلنا: في جواب المناقشة: يكفينا في إلزام الملاحدة وتبكيتهم الحوادث المتباينة المتفاصلة التي لها كثرة بالفعل وعدد بالحقيقة فإنهم معترفون بعدم تناهي تلك الحوادث أيضا مثل عدد الأيام والليالي وتوليد المواليد من النبات والحيوان ولا نحتاج إلى التمسك بالكثير بالقوة كأكوان الحركة والسكون فإن ناقشوا في تلك الحوادث المتفاصلة أيضا بأن عدم التناهي إنما يبطل فيما يجتمع في الوجود لا في المتعاقبات أو أنكروا عدم تناهيها أصلا، أجبنا بأنا لا نحتاج أيضا إلى البحث فيه بل نقول: الجسم مركب من المادة والصورة، ومحال أن توجد المادة بغير صورة فهي محتاجة إلى الصورة البتة، والصورة إما جسمية بمعنى الاتصال وتتغير بالافتراق إلى صورتين أو أكثر، وإما صورة نوعية كالنارية والمائية والحديدية والنحاسية والحيوانية والنباتية، ولا ريب أن تغيرها بالاستحالة، فمادة الجسم لا تخلو عن قبول الحوادث التي هي صورها وعدم خلوها عنها بمعنى احتياجها إليها، وما لا يخلو عن الحوادث محتاجا إليها مخلوق، وكل مخلوق حادث، فاحتاج إلى محدث واجب، وتبين بذلك كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) «الدال على وجوده بخلقه» وليس غرضنا إلا تفسير كلامه، وهذا يكفينا في هذا الغرض. (ش)

وبعضهم استدلوا بحدوث الصفات على وجود موجد لها، فقالوا: الأجسام كلها متماثلة، وقد اختص بعضها بصفات ليست للآخر، وذلك التخصيص ليس للجسمية ولا للوازمها لاشتراك الأجسام فيهما فوجب اشتراكها في الصفات ولا لعارض من عوارضها; لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض (1) مثل الكلام في الأول ويلزم التسلسل ولا للطبيعة لأنها لا تفعل في المادة البسيطة كالنطفة (2) مثلا أفعالا مختلفة فبقي أن يكون ذلك التخصيص من مدبر حكيم، وبعضهم استدلوا

ص:185


1- 3 - قوله: «لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض» تقرير الاستدلال أن للجسم عوارض وحالات لا ينفك عنها كالشكل والمقدار والأين وأمثال ذلك مما يتساوى نسبته إلى أفراد كل منها فيمكن أن يكون كرة أو مكعبا أو أسطوانة وذراعا أو شبرا أو ميلا، وفي هذا المكان أو ذلك المكان، وليس تخصصه بواحد منها لجسميته لتساوي الأجسام في الجسمية واختلافها في العوارض، ولو كانت العلية لنفس الجسمية لكانت جميع الأجسام في مكان واحد وعلى شكل ومقدار واحد وهو محال وليس لعارض من عوارضها; لأن الكلام في تخصيص ذلك العارض الذي أوجب كونه كرة بهذا الجسم والعارض الذي أوجب كونه مكعبا بذلك باق بحاله ولا يتسلسل، فوجب أن ينتهى إلى واجب الوجود، وحينئذ نقول: الجسم أيضا محتاج في وجوده إلى الواجب لأنه محتاج إلى هذه العوارض المحتاجة إلى الواجب والمحتاج إلى المحتاج محتاج. فإن قيل: لعل المخصص هو الطبيعة أي الصورة النوعية. قلنا: الطبيعة محتاجة إلى علة تنتهى إلى الواجب وقيل: هذا أيضا غير صحيح، لأنا نرى أجساما مشتركة في الصورة النوعية كالحديد والنحاس يتساوى نسبتها إلى الأشكال والمقادير، وكما يمكن أن يكون قطعة من نحاس كرة يمكن أن تكون مكعبة وعلى مقادير مختلفة فتعيين بعضها لهذه القطعة وغيره لتلك القطعة بمخصص لا محالة غير الطبيعة. فإن قيل: لعل المخصص صنعة الصانع أو المعدات السابقة فإنك ترى جسما كرة أو مكعبا بصنعة إنسان أو بتأثير العوامل الطبيعية السابقة واستعداد المادة فترى جبلا أعظم من جبل وبحرا أوسع من بحر لهذه المعدات ومعدن النحاس في أرض بمقدار والملح في مكان آخر بمقدار. قلنا: الكلام في الجسم البسيط الأول الذي لم يتركب من أجزاء، أخر أعني العناصر لا المواليد وما يتوهم نسبته إلى المعدات على فرض الصحة إنما هو المركب وأما البسيط الذي لم يتحصل ولم يستحل من جسم آخر باعتقاد هؤلاء وكان قديما عندهم فلا بد أن يكون في أزليته على شكل ومقدار معين مع احتمال كونه على غير ذلك المقدار وغير ذلك الشكل فلا يمكن نسبة تخصصه بشكل ومقدار بعلة معدة سابقة كالمركبات والمواليد ولا بد أن يلتزموا إما بعدم استحالة الترجح من غير مرجح أو إمكان وجود وجسم أزلي بغير مقدار وشكل، وقد ذكر الشيخ الصدوق ابن بابويه (رحمه الله) في كتاب التوحيد كلاما في حدوث الأجسام يقرب مما ذكرنا وتمسك باجتماع بعض الأجسام مع بعض وافتراق بعضها من بعض فإنهما مما لا يخلو منها الأجسام البتة أزلا لو فرض أزليتهما كما قلنا في الشكل والمقدار. وقال ليس إحدى الحالتين أولى بالجسم من الأخرى ولا بد لتخصيص إحداهما من موجب كما مر، وفي هذا الاستدلال مناقشة لأنه مبني على مسلمات الخصم فهو حسن في مقام الجدل لا في البرهان، إذ لقائل أن يقول: إني لا أعترف بوجود عناصر بسيطة مختلفة على ما عليه الحكماء قديما وجديدا ولعل العنصر الأصلي واحد يقتضي بطبعه شكلا معينا على مقدار معين يملأ الفضاء، ثم حصل غيره باستحالته وتركيبه وتغيره والتغير من الصفات اللازمة للأجسام ولما لم يكن نظير هذا القول مذهبا لأحد اكتفوا بما قالوا، ولو تمسكنا بما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب ابن العوجاء على ما يأتي كان أولى وأصح. (ش)
2- 1 - قوله: «لأنها لا تفعل في المادة البسيط كالنطفة» وفيه أنا لا نعلم بساطة النطفة بل نعلم تركبها من أجزاء مختلفة فالوجه أن يبين عدم كفاية الطبيعة بما نقلنا عن الصدوق عليه الرحمة وما قلنا في الحاشية السابقة. (ش)

بحدوث الصفات على وجود مدبر والمتكفل لبيان هذه الطرق وما لها وما عليها على وجه التمام هو علم الكلام.

(وبحدوث خلقه على أزله) إذ لو كان حادثا لكان مثلهم في الحدوث وليس كمثله شيء (1) وإذا بطل حدوثه ثبت أزله، وأيضا قد ثبت أن جميع المحدثات صادرة عن قدرته ومشيته متنهية إليه في سلسلة الحاجة، فلو كان - تعالى شأنه - محدثا لكان محدثا لنفسه وهو محال وباطل بالضرورة، وإذا لم يكن محدثا كان قديما أزليا.

(وباشتباههم على أن لا شبه له) (2) أي الدال باشتباه بعضهم ببعض ومشاركتهم في معنى

ص:186


1- 1 - «وليس كمثله شيء» قد مر سابقا أن مثل هذا البيان غير كاف لتفسير كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولو صح هذا لجرى مثله في العلم والقدرة والحياة فإن هذه الصفات موجودة في الممكنات ولو كانت في الواجب أيضا لكان مثلهم وليس كمثله شيء وقلنا سابقا: إن هذا نظير قياس المساواة يصح بمقدمة مطوية حيث صحت فيقال ألف مساو ل «ب» و «ب» مساو ل «ج» فألف مساو ل «ج» ولا يقال ألف نصف «ب» و «ب» نصف «ج» فألف نصف «ج»; لأن نصف النصف ليس نصفا. والوجه أن يطلب هاهنا المقدمة المطوية على أن حدوث خلقه كيف يدل على أزليته، ثم النظر في أن حدوث بعض الممكنات كأفراد الإنسان يكفي في الدلالة على أزليته أو يجب إثبات حدوث الجميع، والحق أنه يجب إثبات حدوث الجميع، ونورد هنا كلاما من الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أورده الصدوق في التوحيد جوابا عن سؤال ابن أبي العوجاء قال: ما الدليل على حدوث الأجسام فقال الإمام (عليه السلام): «إني ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلا إذا ضم إليه مثله صار أكبر وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ولو كان قديما ما زال ولا حال; لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث وفي كونه في الأزل دخوله في القدم ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد فقال عبد الكريم: هبك علمت في جرى الحالتين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها؟ فقال العالم (عليه السلام): إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره (أقول: وهذا صريح في أن المراد الحدوث الذاتي أعني الإمكان وتطرق احتمال العدم ثم قال (عليه السلام):) ولكن أجبتك من حيث قدرت أنك تلزمنا وتقول إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغير عليه خروجه من القدم كما بان في تغيره دخوله في الحدث ليس لك وراءه شيء يا عبد الكريم فانقطع وخزى» انتهى ما أردنا نقله من كلامه القدوسي الذي لا يمكن أن يصدر إلا من الروح الذي معهم كما ورد في الحديث. وبيانه أن كل شيء احتمل في حقه أن لا يكون فإثبات الوجود له إنما يكون بعلة وليس الواجب إلا من لا يحتمل في حقه العدم أصلا، ولما كان الجسم صغيرا أو كبيرا يحتمل عدمه ووجود شيء آخر مكانه لم يكن واجبا. وهذا معنى الحدث الذي يجب اثباته لما سوى الله، أعني عدم كون وجوده لذاته بل مقتبسا من غيره ويعلم من ذلك أن المراد بالحدوث الامكان وتعلق الوجود بالغير والمخلوقية إذ لا يستفاد من كلام الإمام أكثر من ذلك، وأما تقدم الزمان على وجود الممكن فغير معقول وتناقض أولا وغير مستفاد من كلامه

الإمكان والحدوث والافتقار إلى المؤثر والتكيف بالكيفيات التابعة للإمكان أن لا شبه له من خلقه إذ لو كان له شبه لكان - تعالى شأنه - موصوفا بالأمور المذكورة، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبالجملة تحقق هذه الأمور بين كل شيئين متشابهين دليل قاطع على أنه لا شبه له وإلا لتحققت هذه الأمور فيه تعالى وأنه باطل.

وقيل: أراد اشتباههم في الجسمية والجنس والنوع والأشكال والمقادير والألوان ونحو ذلك وإذ ليس داخلا تحت جنس لبراءته عن التركيب المستلزم للإمكان ولا تحت نوع لافتقاره في التخصيص بالعوارض إلى غيره ولا بذي مادة لاستلزامه التركيب والحاجة إلى المركب فليس بذي شبه في شيء من الأمور المذكورة، وما ذكرنا أعم في نفي التشبيه.

(المستشهد بآياته على قدرته) عطف بحذف العاطف (1) على الدال أو على الملهم والاستشهاد الاستدلال. وآياته هي السماوات وما فيها من الثوابت والسيارات والأرضون وما عليها من العناصر والمركبات وغير ذلك من العقول والنفوس وساير المجردات، ودلالة هذه الآيات على قدرته القاهرة التي لا يستعصى عليها شيء من الأشياء أمر بين للأذكياء.

(الممتنعة من الصفات ذاته) لاستحالة اتصافه بصفة زائدة على ذاته عارضة لها وإلا لكان ناقصا بدونها ومفتقرا في كماله إليها ومشابها بخلقه ومحلا للحوادث إن كانت صفاته حادثة، وغير متفرد بالقدم إن كانت قديمة، وكل ذلك محال، وكل ما اعتبره العقل له من الصفات الكمالية فإنما يرجع إلى نفي ضده عنه كما مر (2).

(ومن الأبصار رؤيته) لأن الرؤية البصرية إنما تتعلق بالمبصرات التي هي نوع من المحسوسات والله سبحانه ليس بمحسوس.

(ومن الأوهام الإحاطة به) لما كان تعالى غير مركب لم يمكن للعقل الإحاطة به، فالوهم أولى بذلك لأن الوهم إنما يتعلق بالمعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية فلا يمكن له إدراك الواجب المنزه عنها فضلا أن يحيط به ويطلع على كنه حقيقته.

ص:187


1- 1 - في بعض النسخ: بحذف العائد.
2- 2 - قوله: «إلى نفى ضده عنه كما مر» ومر أيضا ما عندنا في ذلك والحق أن له تعالى صفات هي عين ذاته ونفي الصفات بمعنى نفي الصفات الزائدة الحالة. راجع الصفحة 326 من المجلد الثالث. (ش)

(لا أمد لكونه) الأمد بالتحريك الغاية كالمدى يقال: ما أمده أي منتهى عمره، ولما كان الأمد هو الغاية ومنتهى المدة المضروبة لذي الزمان من زمانه، وثبت أنه تعالى ليس بذي زمان يعرض له الأمد، ثبت أنه دائم لا أمد لوجوده (ولا غاية لبقائه) لأنه منزه عن طريان العدم على وجوده، وهذا تأكيد للسابق ويحتمل أن يراد هنا بالأمد الأمر الممتد من الزمان وهو مدة العمر وهو يطلق على هذا المعنى أيضا كما صرح به الزمخشري في «الفائق» وهذا الاحتمال أولى; لأن التأسيس خير من التأكيد ومعناه حينئذ: لا زمان لوجوده لأنه منزه عن الزمان (1) ولأن وجوده قبل وجود الزمان.

(لا تشمله المشاعر) الظاهر أن المشاعر هي الحواس ويحتمل أن يراد بها المدارك مطلقا سواء كانت قوة مادية مدركة للحسيات والوهميات أو قوة عقلية مدركة للعقليات والفكريات إذ ليس للمدارك مطلقا إلى معرفة كنه ذاته سبيل ولا على الوصول إلى حقيقة صفاته دليل وإنما غاية كمالها هي الإيقان بوجوده بعد مشاهدة الآيات والبرهان منزها عن المشابهة بالخلق مجردا عن لواحق الإمكان.

(ولا تحجبه الحجب) لأن الحجب الجسمانية إنما تحجب الأجسام وعوارضها. وقد علمت أنه تعالى منزه عن ذلك، ولما أشار إلى أن المانع من رؤيته ليس هو الحجاب الجسماني، أشار إلى أن هناك نوعا آخر من الحجاب المانع بقوله: (والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إياهم) أي الحجاب المانع من رؤيته تعالى هو أن خلقهم على صفات ليست من صفاته، ثم أشار إلى تعليل هذا المجمل بقوله: (لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولإمكان مما يمتنع منه) قوله «ولإمكان» بالتنوين عوضا عن المضاف إليه أي لامتناع ذاته سبحانه من كل ما يمكن في ذواتهم من الصفات ولإمكان كل ما في ذواتهم مما يمتنع منه سبحانه، وهذا حجاب مانع من رؤيته بالبصر لأن كونهم بحيث يتعلق بهم رؤية البصر من صفاتهم الممكنة، ولهم باعتبار هذه الصفة صفات أخرى وهي الوضع والجهة واللون وغيرها من شرايط الرؤية، وإذا كانت هذه الأمور من صفاتهم وكانت ممتنعة في حقه تعالى علم أنه امتنع أن يكون جل شأنه محلا لنظر العيون ومرئيا مثلهم ووجب أن يكون محتجبا عن أبصارهم بهذا الحجاب الذي هو الامتناع الذاتي لا بالحجاب الجسماني.

ثم قال لتأكيد ذلك أو لتعميم المغايرة بينه وبينهم بحسب الذات والصفات كلها: (ولافتراق

ص:188


1- 1 - قوله: «لأنه منزه عن الزمان» هذا شيء لا يرضى به كثير من الظاهريين كما مر ويقولون: الزمان مقدم على كل شيء; لأن كل شيء كان معدوما في زمان وكان لم يكن فيه أحد إلا الله تعالى وقد مضى زمان غير متناه على الله تعالى قبل أن يخلق العالم ومضى طرف من ذلك في الصفحة 320 من المجلد الثالث. (ش)

الصانع من المصنوع والحاد من المحدود والرب من المربوب); لأن لكل من الصانع والمصنوع صفات تخصه وتميزه وهي أليق به وهو بها يفارق الآخر وهذا هو الحجاب، فالإمكان الذاتي والوجود بالغير والمخلوقية والحدوث والاشتباه والمرئية والملموسية بالمشاعر والحجب بالسواتر من لواحق المصنوعات ومما ينبغي لها ويليق بها. والوجوب الذاتي والخالقية والأزلية والتنزه عن المشابهة والمرئية ولمس المشاعر وحجب السواتر من صفات الصانع الأول ومما ينبغي له ويليق به ويضاد ما سبق من صفات المصنوعات، فلو جرى فيه صفات المصنوعات وجرى في المصنوعات صفاته لوقع المساواة والمشابهة بينه وبينها فيكون مشاركا لها في الحدوث المستلزم للإمكان المستلزم للحاجة إلى الصانع، فلم يكن بينه وبينها فصل ولا له عليها فضل، وكل ذلك - أعني المساواة والمشابهة وعدم الفضل والفصل - ظاهر البطلان. وأراد بالحاد خالق الحدود والنهايات (1) وهو الصانع، واعتباره غير اعتبار الرب لدخول المالكية في مفهوم الرب دون الصانع.

(الواحد بلا تأويل عدد); لأن وحدته ليست بمعنى كونه مبدأ لكثرة تعد به ويكون معدودا من جملتها بأن يقال: هو واحد لا اثنان; لأن الإنسان أيضا واحد بهذا المعنى مع ما فيه من التركيب والتجزية، أو يقال: هو واحد آحاد الموجودات المتألفة من الوحدات، إذ لو كان واحد بمعنى أنه من جملة الآحاد المعدودة لكان من جنسها وكان داخلا في الكم المنفصل فكان موصوفا بالعرض بل بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود (2) ولا كثرة في ذاته، لا في الذهن ولا في الخارج. ولا اختلاف

ص:189


1- 1 - قوله: «أراد بالحاد خالق الحدود والنهايات» يوصف الممكن بالمحدودية والواجب بعدم الانتهاء ولا يخفى أن ليس المراد الحد المقداري إذ ليس الواجب وبعض الممكنات متصفا بالمقدار حتى يوصف بالحد أو بغير التناهي، وإنما المراد الحد بمعنى الماهية فإنها تحدد الوجود وتمنعه من بعض الآثار، ولأن كل مهية لها آثار خاصة بها لا تتعداها إلى غيرها بخلاف واجب الوجود فهو تعالى في عين وحدته لا يمتنع منه فعل وأثر، وأيضا الوجود المحض مطلق والوجودات المختلفة بالمهيات مقيدة وقد سبق بيانه بوجه آخر في محله، وإذا لم يكن للأشياء وجود في نفسها بل كان وجودها ربطيا تعلقيا بل عين الربط والتعلق صح أن يقال هو حاد وهذه محدودة وقد مر في الصفحة 176 من هذا المجلد كلام يتعلق بالحد والمحدود فراجع إليه. (ش)
2- 2 - «بل بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود» تفسير الواحد به من دقائق علم التوحيد وأسرار المعارف الإلهية التي لا يهتدي إليها إلا العقول المتمرنة في دقائق البرهان المنورة بنور الوجدان وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) رد على من زعم أنه ليس في الشرع أمر دقيق ومسألة غامضة إلا ما يفهمه عامة الناس ولهم فائدة في حياتهم ومعاشهم; لأن تأكيده (عليه السلام) في كلامه وخطبه نفي الوحدة العددية يدل على أن فهم هذه المسألة من الأمور الهامة مع أنه ليس سهلا على الأكثر ولا يفيدهم في معاشهم ومعاشراتهم كالآداب والقوانين الأخلاقية والأحكام الفقهية وقد ورد في كتاب التوحيد للصدوق عليه الرحمة حديث عنه (عليه السلام) في معنى الواحد وأنه على أربعة أوجه لا يجوز اثنان منها عليه تعالى ويجوز إطلاق اثنين، قال الراوي وهو شريح بن هاني: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد; قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الرب واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل «واحد» يريد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه تعالى كفر من قال ثالث ثلاثة، وقول القائل «هو واحد من الناس» يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل إنه هو عز وجل في الأشياء واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. وقول القائل أنه عز وجل أحدى المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز وجل، انتهى. ولا ينبغي أن يتعجب من سؤال الأعرابي هذه المسألة العميقة ولا من تكلم أمير المؤمنين معه إذ قد حكي من فصحاء الأعراب وأهل البدو في الدقة والفرق بين المعاني وإيراد الكلام على مقتضى المقام ما هو أعجب، ولو سألنا سائل بدوي عن غير ما يتعلق بطهارته وعبادته لم نجب عنه وقلنا عليك بواجبات تكاليفك العملية وما لك والدخول في هذه المعضلات التي لا تفيدك، ثم ضبط الراوي ونقله وهو شريح غير عجيب لأنه مع جميع هناته كان فطنا جدا لا يبعد منه الاعتناء بهذه الأمور وضبطها وفهمها، وسيأتي قريبا تفسير للمعاني الأربعة إن شاء الله تعالى. (ش)

في صفاته، ولا يشبهه شيء، ولم يفته شيء من كماله بل كل ما ينبغي له فهو له بالذات والفعل. قيل: نفي الوحدة العددية عنه (1) ينافي ما في بعض أدعية الصحيفة «لك يا إلهي وحدانية العدد»

ص:190


1- 1 - «نفي الوحدة العددية عنه» تأويله هذا بعيد جدا; لأن ظاهر المتبادر من كلمة له إثبات الوحدة له تعالى بنحو الوصفية لا بمعنى الملكية والأولى أن يقال الوحدة العددية التي أثبتها زين العابدين (عليه السلام) غير الوحدة العددية التي نفاها جده أمير المؤمنين (عليه السلام); لأن الوحدة مبدأ العدد لا محالة ويقابلها الكثرة بأي معنى فرضت، فجميع المعاني الأربعة التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) الاثنان اللذان لا يجوزان والاثنان الجائزان تشترك في مفهوم واحد مقابل للتكثر كما بينه أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «هو عز وجل في الأشياء واحد ليس له في الأشياء شبه» وهذا نفي الكثرة فإن الشبه يوجب التكثر وكذلك قوله (عليه السلام) «أحدي المعنى» يعني به أنه لا ينقسم في وجوده. وهذا أيضا نفي التكثر فالذي أثبته زين العابدين (عليه السلام) الوحدة بمفهومها العام والذي نفاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض مصاديقها فمن مصاديق الواحد المنفي، الواحد الذي له شبيه في وجوده ومثيل في رتبته وهو أكثر المصاديق وتتبادر الأذهان إليه، ولا ريب أنه ينفي هذه الوحدة عنه تعالى كما ينفي عن كل شيء لا نظير له، مثلا خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) واحد لا بمعنى أن له ثانيا وثالثا بل بمعنى أنه واحد لا نظير له، وأما زيد فواحد من الرجال بمعنى أن له ثانيا وثالثا. ويقال: جالينوس واحد الأطباء أي لم يكن أحد في رتبته وامرؤ القيس واحد الشعراء كذلك، وأقليدس واحد المهندسين ويقال: زيد أحد الأطباء أو أحد الشعراء بمعنى أن أمثاله كثير ويناسب هنا الإشارة إلى الفرق بين المعاني الأربعة إجمالا فنقول: قد يلاحظ تساوي ما يتصف بالوحدة مع غيره من مشاركاته فيقال: زيد أحد أفراد الإنسان أي لا ميز بينه وبينهم ولا فضل له عليهم، وقد يلاحظ تميزه في الجملة فيقال: الإنسان واحد من أنواع جنس الحيوان فإنه متخصص بفصل كأن تميزه مسلم مقطوع به ويراد بيان ما يشرك معه، وقد يلاحظ تفرده وتميزه مطلقا ونفي الاشتراك وأنه لا نظير له كما مثلنا بقولنا: أمرؤ القيس واحد الشعراء، وقد يقطع النظر عن ملاحظة الغير أصلا، ويطلق عليه الواحد باعتبار ذاته وماهيته فيقال: واجب الوجود واحد في ذاته أي غير منقسم، فالمعنيان الأولان لا يجوزان على الله تعالى والثانيان يجوزان. وقوله (عليه السلام) «لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم» عين ما ذكره الفلاسفة في أنحاء التقسيم في معنى الجزء الذي لا يتجزى فإن الشيء قد ينقسم في الوجود خارجا وهو ظاهر إما بالكسر أو بالقطع وغيرهما وقد لا ينقسم في الوجود لغاية صغره وعدم تمكن الآلة منه ولكن يقسمه الوهم، وقد لا يمكن للوهم أن يحضره فيقسمه، فيقسمه العقل، وأما الأجزاء العقلية فيقسم الشيء إليها العقل أيضا فانظر إلى كلامه (عليه السلام) كيف يبلغ الغاية ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من العلم إلا بينها وأوضحها لك، وأعلم أنك لن تضل بعد متابعته حتى يوردك الجنة إن شاء الله تعالى ثم إن لنفى الوحدة العددية معنى أدق سنشير إليه في شرح قوله: «الباطن لا باجتنان». قال في الوافي: وأما ما ورد في بعض الأدعية السجادية (عليه السلام) من قوله: لك يا إلهي وحدانية العدد فإنما أراد بذلك جهة وحدة الكثرات واحدية جمعها لا إثبات الوحدة العددية. (ش)

وأجيب بأنه إنما أريد بذلك نفي الوحدة العددية لا إثباتها له.

أقول: ويمكن الجواب عنه أيضا بأنه أريد بذلك أن لك وحدانية العدد بالخلق والإيجاد لها فإن الوحدة العددية من صنعه وفيض وجوده.

(والخالق لا بمعنى حركة); لأن الحركة من لوازم الجسم وتوابع الاستعداد والانفعال وهو منزه عنها وإنما هو خالق بمجرد الإرادة كما قال: (إنما إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (والبصير لا بأداة) أي لا بقوة باصرة (والسميع لا بتفريق آلة) أي لا بتفريق القوة السامعة وتوزيعها على المسموعات وهو توجيهها تارة إلى هذا المسموع وتارة إلى ذلك كما يقال فلأن مفرق الخاطر إذا وزع فكره على حفظ أشياء متباينة ومراعاتها كالعلم وتحصيل المال، وتنزه إدراكه تعالى عن ذلك ظاهر لكونه من توابع الآلات الجسمية والنفوس البشرية.

(والشاهد لا بمماسة) أي الحاضر عند كل شيء لا بمماسة شيء من الأشياء; لأن حضوره ليس كحضور الجسم والجسمانيات المستلزم لتماسها وتقاربها في الأين والوضع بل حضوره عبارة عن إحاطة علمه بكل شيء (والباطن لا باجتنان). (1) في كنز اللغة: الاجتنان: «پنهان شدن ودفن كردن» أي الباطن الخفي بسبب أنه لا يدرك ذاته العقول والأفهام ولا ينال صفاته الحواس والأوهام لا بسبب استتاره في شيء أو احتجابه بحجاب.

ص:191


1- 1 - «الباطن لا باجتنان» والأظهر أن الباطن بمعنى الباطن في كل شيء كما تكرر مفاده في كلامه (عليه السلام) «داخل في الأشياء لا بالممازجة وخارج عنها لا بالمباينة» ولا يخفى أنه لو كان ممازجا كان باطنا باجتنان وهو محال ولزم التجزي والتعدد تعالى الله عنه، ولو كان مباينا عن الأشياء لزم استقلال الأشياء واستثناؤها عنه في البقاء بل في الحدوث أيضا وهذا هو الوحدة العددية التي نفاها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذات واجب الوجود إذ يلزم منه كون مجموع الموجودات حاصلا من آحاد متباينة متمايزة أحدها واجب الوجود والباقي ممكنات فيكون هو تعالى في عرض الممكنات مع أن شيئا منها لا يستحق أن يعد شيئا معه، ولا أقرب إلى الفهم إلا أن يسمى جميعها عدما أو ربطا أو ظلا وأمثال ذلك مما يجعلها لا شيئا في الحقيقة، وقد يمثل بالنفس والقوى، ولله المثل الاعلى، وليس كمثله شيء، فالنفس في وحدتها كل القوى، والبصر غير السمع، وهما غير الذوق والشم واللمس وكلها متحدة في ذات النفس، لأنا نعلم أن الذي يبصر هو الذي يسمع، ونعلم أيضا أن البصر لا يدرك الصوت، والسمع لا يدرك اللون، والنفس مدركة لها، محيطة بجميعها والله تعالى قاهر عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم من غير أن يلزم حلول، تعالى الله عنه، فإن الحلول ينبئ عن تأصل الممكن وأقوائيته في الوجود وأشديته في التحصيل من الحال فيه مع أنه ليس شيئا إلا بقيوميته تعالى، فالحلول يجعل وجوده تعالى تابعا وعرضا في الممكن ووحدة الوجود يجعل الممكنات لا شيئا حتى ينحصر الوجود في الواجب عز وجل، ويصح أن يقال لا هو إلا هو. (ش)

(والظاهر) أي الظاهر وجوده بالاشراقات العقلية والتجليات الذهنية والتدبيرات التي له في كل ذرة من الموجودات إذ كل شيء دليل على وجوده ومرآة لظهوره.

(الباين لا بتراخي مسافة) أي مباين للأشياء متباعد منها لا بتباعد أين ولا بتراخي مسافة وبينها; لأن ذلك من خواص الأينيات بل بذاته وصفاته حيث إن ذاته لا تماثل بذوات شيء من الموجودات وصفاته لا تشابه بصفات شيء من الممكنات (أزله نهية لمجاول الأفكار) النهية بضم النون وسكون الهاء وفتح الياء المثناة من تحت اسم من نهاه ضد أمره. وفي بعض النسخ «نهي» بدون التاء. والمجاول بالجيم جمع مجول بفتح الميم وهو مكان أو زمان من المحاولة وفي المصادر: المحاولة: «جستن وخواستن» يعني أزله ينهى ويمنع أن يتحقق محل لجولان الأفكار الطالبة لمعرفة ذاته وصفاته أو الطالبة لمعرفة أوله، أما على الأول فلأن غاية سير الأفكار هي أو اخر منازل الإمكان ولا محل لسيرها في الأزل حتى يعرف حقيقة الأزلي من حيث الذات والصفات، وأما على الثاني فلأن الأزل عبارة عن عدم الأولية ومن ليس لوجوده أول لم يكن للفكر محل يجول فيه لطلب أوله.

(ودوامه ردع لطامحات العقول) الردع: المنع والكف، والعقول الطامحة هي المرتفعة إلى أقصى مدارج كمالها وإدراكها، يعني دوامه الأبدي وبقاؤه السرمدي يمنع العقول الكاملة ويكفها عن الوصول إلى آخره لضرورة أن الشيء المعلوم الوقوع يمنع العاقل من طلب نقيضه.

(قد حسر كنهه نوافذ الأبصار) حسر البعير يحسر حسورا أعيى، وحسرته أنا يتعدى ولا يتعدى والأول هو المراد هنا; لأن كنهه فاعله ونوافذ الأبصار مفعوله يعني أعيى وأعجز كنهه الأبصار النافذة العقلية عن إدراكه فإن البصيرة العقلية وإن كانت قوية نافذة إنما تنفذ فيما يمكن نفوذها فيه مما هو في عالم الإمكان، وكنه الواجب خارج عن هذا العالم.

(وقمع وجوده جوايل الأوهام) القمع القلع والكسر. والجوائل جمع الجائل يقال: جال واجتال إذا ذهب وجاء، منه الجولان في الحرب، يعني: كسر وجوده الأوهام الجائلة في ميدان معرفة حقيقته لأنك قد عرفت مرارا أن الوهم إنما يدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات ووجوده تعالى لما لم يكن محسوسا ولا متعلقا به كان كاسرا لتعلق الأوهام (1) به وبحقيقته.

ص:192


1- 1 - قوله: «كان كاسرا لتعلق الأوهام» ليس في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) شيء آكد من هذا التنزيه البليغ وردع الأوهام والعقول عن تصور ذاته تعالى، وقد كان يكفي ذكره مرة واحدة إن كان المقصود بيان الواقع فقط ولكن مراعاة قواعد البلاغة وإيراد الكلام مطابقا لمقتضى الحال يقتضي تذكير المخاطب بعد كل كلمة يحتمل ذهاب وهمه منه إلى التشبيه وإن أوجب التكرار; لأن المقام يقتضي التأكيد فقال: البصير لا بأداة، فإن ذهن المخاطب يذهب من البصر إلى العين الباصرة، وقال بعده: السميع لا بتفريق آلة، وهكذا أورد بعد كل كلمة دافعا للوهم، ثم أكد جميع ذلك بأربع جمل في التنزيه وردع الأوهام عن إثبات اللوازم العرفية والعادية، فقد جمع (عليه السلام) بين تفهيم العامة وتقويم الخاصة وتطعيم عقول الكرام وتزميم شراسة الأوهام، وطريقة الأئمة (عليهم السلام) تغاير طريقة الفلاسفة العظام إذ يكتفي الفلاسفة ببيان شيء مرة واحدة غالبا لأن مخاطبهم الخواص، مثلا: يقولون: لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى ويكتفون به، ثم يقولون: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، ويجعلون الكلام الأول قرينة على المراد من كلام الثاني وإن كان بينهما فواصل ومقتضى البلاغة أن يصلوا بالكلام الثاني ما يدفع به ذهاب الأوهام إلى بعض لوازم الكلام فيقولوا مثلا: لا يخلق الله تعالى أول ما يخلق إلا أشرف مخلوقه وأقربهم إليه كما ورد: أول ما خلق الله العقل أو اللوح أو القلم أو روح خاتم الأنبياء أو الماء، ومعلوم أن الأول واحد ولا يفعل إلا الأصلح، ومثله قول بعضهم بوحدة الوجود ويذهب الوهم منه إلى لوازم باطلة وكان عليهم إن أرادوا بلاغة الكلام أن يقولوا: هو مع كل شيء أو داخل فيها من غير ممازجة وأمثال ذلك مما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام). (ش)

(فمن وصف الله فقد حده) (1) أي من وصفه بكيفيات لائقة بمخلوقاته (2) وصفات زائدة على ذاته فقد حده بالكثرة، أو من وصفه بأنه معلوم له وزعم أنه وجد ذاته وأحاط بحقيقته فقد أوجب له حدا يقف الذهن عنده إذ الحقيقة إنما تعلم من جهة ما هي ويشير العقل إليها ويحيط بها إذا كانت مركبة وكل مركب محدود.

(ومن حده فقد عده) (3) لأن حده بأحد الوجهين المذكورين يستلزم تحقق الكثرة فيه، وكل ذي

ص:193


1- 2 - قوله: «فمن وصف الله فقد حده» في توحيد المفضل: «ان العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفة فإن قالوا: فكيف يكلف العبد الضعيف معرفة بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم: إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه ولم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، أبيض هو أم أسمر إنما تكليفهم الإذعان بسلطانه طاعة والانتهاء إلى أمره، ألا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال أعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك وإلا لم أسمع لك، قد أحل نفسه العقوبة، فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرض لسخطه. فإن قالوا: أو ليس نصفه فنقول: هو العزيز الحكيم الجواد الكريم؟ قيل لهم كل هذه صفة إقرار وليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه، وكذلك قدير وجواد وساير صفاته كما قد نرى السماء ولا ندري أين منتهاها بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له; لأن الأمثال كلها تقصر عنه ولكنها تقود العقل إلى معرفته. انتهى ما أردنا نقله، وهذا مذهب الحكماء في الصفات قالوا: إن مفاهيم الصفات معلومة وحقيقتها وهي عين الذات مجهولة. (ش)
2- 3 - «بكيفيات لائقة بمخلوقاته» لا حاجة إلى هذا القيد فإن الإنسان إذا وصفه وصفه بما يفهمه ويتعقله ولا يتعقل إلا ما يليق بالمخلوق فيصح إذا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير تقييد. ولا ريب أن الوصف تحديد، مثلا إذا قلت: انه أبيض سلبت عنه ساير الألوان، وإذا قلت إنه جسم سلبت عنه التجرد وإذا قلت مجرد سلبت عنه الأبعاد والمواد، وبالجملة وصف كل شيء بشيء يوجب تحديد وجوده في حد، نعم إذا كان الوصف بالوجود كان معناه سلب العدم وليس تحديد الوجود، وأيضا: إثبات العلم الله تعالى نفي للجهل وهو عدم وليس تحديدا للوجود، وإثبات القدرة نفي العجز وهو عدم، فلا جرم لا يكون الوصف بأمثاله تحديدا والمراد من الوصف تميزه بصفة من بين الصفات الوجودية مع أن نسبته تعالى إلى الجميع على السواء. (ش)
3- 1 - قوله: «ومن حده فقد عده» لوجهين; الأول: أن ذاته تتركب حينئذ من ماهية ووجود فيدخل العدد والكثرة في ذاته، والثاني أن الله تعالى إذا تخصص بحد وماهية كان في الوجود ماهية أخرى وحد آخر لا محالة في الوجود شيئان أحدهما الواجب بماهية وحد خاص به، والثاني الممكن بحد وماهية أخرى خاصة، ولزم الوحدة العددية التي أبطلناها، والوجه الأول أصح وأوفق بما يأتي إن شاء الله في رواية أخرى لهذا الكلام. (ش)

كثرة معدود من جملة المعدودات.

(ومن عدة فقد أبطل أزله) (1); لأن من عده من جنس من ذي الكثرة باعتبار الصفات أو باعتبار الذات فقد أدخله في الممكنات والمحدثات الغير المستحقة للأزلية بالذات فكان عده بأحد الاعتبارين مبطلا لأزله الذي يستحقه لذاته.

(ومن قال: أين فقد غياه) أي جعل له غايات وأطرافا ينتهي إليها; لأن ذلك من لوازم الأينيات كالجسم والجسمانيات.

(ومن قال على ما فقد أخلى منه) في بعض النسخ «على م» بحذف الألف أي ومن قال «على أي شيء هو؟» فقد أخلى منه ساير الأشياء; لأن من قال: هو فوق شيء بمعنى الاستقرار عليه فقد قال بقرب نسبته إلى ذلك الشيء وبعدها عن أشياء آخر أو فقد أخلى منه سائر الأمكنة لأن السؤال ب «على م» مستلزم لتجويز خلو بعض الجهات عنه واختصاصه بالجهة المعينة. وقيل: المراد أخلى منه ذلك الشيء الحامل لضرورة أن المحمول يكون خارجا عن حامله، وفيه نظر.

(ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه) أي فقد جعله في ضمن غيره سواء سأل عن حصوله في المكان كحصول الجسم فيه، أو عين حصوله في الموضوع كحصول العرض فيه، أو عن حصوله في الكل كحصول الجزء فيه، وجعله ضمن الغير باطل لأنه إن افتقر إلى ذلك الغير لزم الإمكان، وإن لم يفتقر إليه أصلا فهو غني عنه مطلقا، والغني المطلق يستحيل حلوله في شيء واتباعه له في الوجود، ولأن حصوله في ضمن الغير، إن كان من صفات كماله لزم اتصافه بالنقص قبل وجود ذلك الغير وإن لم يكن من صفات كماله كان حصوله فيه مستلزما لاتصافه بالنقص.

* الأصل:

ص:194


1- 2 - قوله: «ومن عده فقد أبطل أزله» الأزل القدم والمراد هنا: القدم الذاتي وعدم الاحتياج إلى العلة، يعني: من أثبت له تعالى عددا فقد أبطل كونه قديما غير مخلوق; لأن كل معدود مخلوق وذلك; لأن الواجب تعالى وجود محض ولو كان له مهية كان معلولا كما قال صاحب المنظومة: الحق ما هيته إنيته * إذ مقتضى العروض معلوليته فإن الوجود هو الذي يمتنع سلبه عنه لامتناع سلب كل شيء عن نفسه، وأما غير الوجود من ساير الماهيات فلا يمتنع سلب الوجود عنه كما نقلنا من حديث أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قريبا. وإذا كان هو الوجود المحض فلا ثاني له إذ ليس في الوجود شيء غير الوجود، فمن جعل له ماهية ووصفه فقد عده في عداد الكثرات، ومن عده في الكثرات أبطل كونه قديما غير محتاج; لأن كل معدود محتاج إذ له ثان في الوجود، والأصح أن من عده يعني به أدخل التجزية والتثنية في ذاته تعالى كما يأتي في رواية أخرى. (ش)

6 - ورواه محمد بن الحسين، عن صالح بن حمزة، عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال: كتبت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) أسأله عن شيء من التوحيد. فكتب إلى بخطه: الحمد لله الملهم عباده حمده - وذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إلى قوله - وقمع وجوده جوائل الأوهام - ثم زاد فيه -: أول الديانة به معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل، فمن وصف الله فقد حده، ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله، ومن قال: كيف؟ فقد استوصفه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال على م؟ فقد جهله، ومن قال: أين؟ فقد أخلا منه، ومن قال: ما هو؟ فقد نعته، ومن قال: إلى م؟ فقد غاياه، عالم إذ لا معلوم، وخالق إذ لا مخلوق، ورب إذ لا مربوب، وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون.

* الشرح:

(ورواه محمد بن الحسين، عن صالح بن حمزة، عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال: كتبت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) أسأله عن شيء من التوحيد فكتب إلي بخطه: الحمد لله الملهم عباده حمده - وذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إ لي قوله - وقمع وجوده جوايل الأوهام - ثم زاد فيه - أول الديانة به معرفته) الديانة مصدر بمعنى الإطاعة والانقياد يقال: دان بكذا ديانة فهو متدين، والدين ما يتدين به الرجل والملة والورع، وشاع ذلك في الشرع إطلاقه على الشرايع الصادرة بواسطة الرسل (عليهم السلام)، واعلم أن معرفة الصانع على مراتب: الأولى وهي أدناها أن يعرف إن لهذا العالم صانعا ويصدق بوجوده، الثانية أن يترقى إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء، الثالثة أن يترقى إلى نفي الصفات التي يعتبرها العقل عنه وهي غاية العرفان ومنتهى قوة الإنسان. وكل واحدة من الأولين مبدأ لما بعدها، وكل واحدة من الأخيرتين كمال لما قبلها فلذا قال (عليه السلام):

(وكمال معرفته توحيده، وكمال نفي الصفات عنه) توضيح ذلك: أن التصديق بوجوده بدليل يقتضيه تصديق ناقص، تمامه توحيده والتصديق بأنه واحد لا شريك له، ثم هذا التوحيد والتصديق مع الجهل بنفي الصفات عنه ناقص. تمامه نفيها عنه ووجه نقصانه أنه يستلزم حدوثه ونفي الأزلية عنه كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله:

(بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة) وهي الشهادة بلسان

ص:195

الحال فإن حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف وعدم قيامها بدونه وحال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفة وقيامه بدونها فهما متغايران.

(وشهادتهما جميعا بالتثنية) (1) إذ هما تشهدان بلسان الحال عن اجتماعهما وتقارنهما بالتثنية والتعدد أعني الذات المعروضة للصفات والصفات العارضة لها.

(الممتنع منه الأزل) الممتنع صفة للتثنية والأزل فاعله، وضمير «منه» يعود إلى التثنية باعتبار أنه مصدر. وفي بعض النسخ: «منها».

وبيان ذلك الامتناع أن الواجب حينئذ ليس نفس الذات وحدها ولا نفس الصفة وحدها وإلا لزم افتقاره إلى الغير وأنه ينافي الوجوب الذاتي والغناء المطلق، بل هو المركب من مجموع الذات والصفة وكل مركب حادث (2) وكل حادث يمتنع منه الأزل الذي هو عبارة عن عدم الحدوث، على أن الواجب لو كان نفس الذات وحدها فلا شبهة في أن صفاته الزائدة عليه من كماله فهو ذو كثرة، وكل ذي الكثرة الذي كماله فيها ممكن لافتقاره إلى غيره، وكل ممكن حادث، وقد عرفت أن الأزل يمتنع من الحدوث وإذا ثبت المنافاة بين الأزل وزيادة الصفات ثبت أن من قال بزيادة الصفات فقد أبطل أزله، ولذلك فرع عليه قوله:

(فمن وصف الله فقد حده) أي وصف الله بصفات زائدة فقد حده بالتجزي والتكثر.

(ومن حده فقد عده) (3) من جملة المركبات والمعدودات المتكثرة التي ليست له وحدة حقيقة (ومن عده فقد أبطل أزله) للمنافاة بين أزله وتعديده على الوجه المذكور (4) وذلك الوصف ينشأ من الجهل بأمر التوحيد، ولا يبعد أن يجعل قوله «فمن وصف الله» ناظر إلى قوله «بشهادة كل

ص:196


1- 1 - قوله: «شهادتهما جميعا بالتثنية» وبهذا يتبين أن معنى كلامه في الرواية الأولى «من حده فقد عده»: من حده فقد حكم بتجزية ذاته وتركيبه. (ش)
2- 2 - قوله: «وكل مركب حادث» كما ينفي عن واجب الوجود جل شأنه الحدوث الزماني، كذلك ينفي عنه الحدوث الذاتي أي الاحتياج إلى الغير، ولا ريب أن المركب مفتقر إلى أجزائه ولو كان الواجب مركبا ودخل فيه العدد صار مفتقرا إلى الأجزاء، والمفتقر إلى الأجزاء ليس واجبا وإن فرض كون الأجزاء قديمة زمانا والمركب مثلها قديما كذلك، وبالجملة: المفتقر إلى الغير ممكن لا واجب، واحتياج المركب إلى الأجزاء لا يقتضي تأخره عنها زمانا، فالممكن لا يجب تأخره زمانا عن علته. (ش)
3- 1 - قوله: «فقد عده» الأولى أن يقال: فقد أدخل التكثر والتعدد في ذاته بإثبات صفة موصوف، كما قال (عليه السلام): «شهادتهما جميعا بالتثنية». (ش)
4- 2 - قوله: «وتعديده على الوجه المذكور» والأنسب بسياق الكلام أن يقال: من عده وأدخل التكثر في ذاته فقد جعله مركبا والمركب محتاج إلى أجزائه فلا يكون أزليا وواجب الوجود غير محتاج إلى العلة. ولا يخفى أن احتياج المركب إلى الاجزاء احتياج مستمر حدوثا وبقاء. (ش)

صفة»، وقوله «من حده» ناظرا إلى قوله «وشهادتهما»، وقوله «من عده» ناظرا إلى قوله «الممتنع».

(ومن قال: كيف، فقد استوصفه) أي طلب وصفه; لأن «كيف» سؤال عن الكيفية والصفة (ومن قال: فيم، فقد ضمنه) بأحد الوجوه المذكورة (ومن قال على ما فقد جهله); لأن من قال: هو علا شيئا بركوب فوقه وقعود عليه، فقد أجرى عليه صفات الخلق، ومن أجرى عليه صفاتهم فهو جاهل به. وفي بعض النسخ «فقد حمله» بالحاء والميم.

(ومن قال: أين؟ فقد أخلى منه); لأن أين سؤال عن الحيز والجهة فمن قال: «أين» فقد جعله في حيز وجهة، ومن جعله فيهما فقد أخلى منه سائر الأحياز والجهات كما هو شأن الجسم والجسمانيات، وهو باطل لأنه تعالى في جميع الأحياز بالعلم والإحاطة، أو فقد أخلى منه صفات الإلهية والربوبية وهي التنزه عن كونه في الأين لأنه من لواحق الأجسام أو فقد برئ منه من قولهم فلان خلي منك أي بريء.

(ومن قال: ما هو، فقد نعته) بأنه محدود معروف بكنه حقيقته، لأن «ما هو» سؤال عن ذلك، وهو جهل به; إذ لا يعرف حقيقته إلا هو (ومن قال: إلى م، فقد غياه) أي جعل لوجوده غاية ينتهي فيها وينقطع بالوصول إليها وهذا محال على الوجود الحق بالذات (عالم إذ لا معلوم); لأن علمه بالأشياء بنفس ذاته التي هي مبدأ لانكشاف الأشياء عندها لا يتوقف على وجود الأشياء بل علمه بها قبل كونها كعلمه بها بعد كونها.

(وخالق إذ لا مخلوق) الخلق بمعنى التقدير وهو مقدر للأشياء في الأزل قبل وجودها، ولو أريد بالخلق معنى الإيجاد لورد أن الخالقية بهذا المعنى مع المخلوق لا قبله (1) وفي الأزل، اللهم إلا

ص:197


1- 1 - قوله: «مع المخلوق لا قبله» لما كانت نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى على السوية نظير نسبة جميع الأمكنة إليه صدق أن اختصاص المخلوق بزمان خاص ومكان معين لا يوجب اختصاص الخالق أيضا بهما، وقد مثلنا سابقا بما عليه أهل عصرنا من تقدير سير النور زمانا وما يقولون من أن نور بعض الكواكب يصل إلينا بعد مضي سنين، ولعلنا نرى كوكبا في موضع بعينه وصفة بعينها ولا يكون هو كذلك بل كان عند إرسال النور في ذلك الموضع لا عند وصول النور إلى أعيننا بل لعله انعدم وتلاشى ونحن نراه متلألئا في جو السماء فنحن نرى ما مضى وكان في زمان سابق كما نرى ما هو موجود في زماننا في الأمكنة القريبة، والله تعالى محيط بجميع الأمكنة والأزمنة ومسألة ربط الحادث بالقديم من أصعب المسائل كذلك إحاطة الدهر بالزمان. وأما مسألة ربط الحادث بالقديم فالكلام فيها أن واجب الوجود لا يجوز أن يمنع الفيض والجود ولا أن يغير إرادته وحكمه ويهتم يوما بشيء وينصرف عنه ويتوجه إلى شيء آخر إلا إذا كان التغير وعدم الاستعداد من جهة الممكنات فإذا لم يكن لشيء استعداد الوجود أو لا يكون في وجوده مصلحة لم يوجده، وإن كان مستعدا أفاض عليه الوجود كما قال: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وبالجملة التغير دائما من جهة الممكنات لا من جهته ونسبته إلى جميع الأزمنة على السوية، والإشكال في تصور عدم تأثير تغير الممكنات في نسبته إلى الله، ولا يتعقل الناس أن الله تعالى يكون مشاهدا مدركا لآدم ونوح في زماننا المتأخر كما كان يراهما وكان قاهرا عليهما عند وجودهما، وأما ما يقال إن الحوادث المتتالية في الزمان مجتمعة في الدهر فنشير إليه إن شاء الله. (ش)

أن يقال: اتصافه تعالى بوصف الإيجاد قبل المخلوق; لأن إيجاد الشيء عبارة عن إعطاء الوجود إياه فهو مقدم بالذات على وجود ذلك الشيء لاستحالة إيجاد الموجود، ولكن فيه بعد من وجهين; الأول: أن هذا التوجيه يجعل الكلام قليل الفائدة لظهور أن إيجاد كل شيء قبل وجوده فلا فائدة في التعرض لبيانه. الثاني: أن المقصود بيان تحقق هذا الوصف أعني الخالقية له تعالى في الأزل وإفادة استحقاقه لاسم الخالق أزلا، وهذا التوجيه لا يفيد ذلك بل ينافيه.

(ورب إذ لا مربوب) قد علمت معنى ربوبيته ووجه تقدمها على المربوب آنفا.

(وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون) «فوق» إما عطف على «يوصف» بتقدير يوصف أو حال عن «ربنا». وفيه إيماء إلى أن ما وصفه الواصفون ليس ربا، والرب فوقه بالربوبية والشرف والوصف اللايق به، وما وصفوه فهو مخلوق مصنوع مثلهم.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر وغيره، عمن ذكره، عن عمرو بن ثابت، عن رجل سماه، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته وما ذكره من تعظيم الله جل جلاله، قال أبو إسحاق: فقلت للحارث: أو ما حفظتها قال: قد كتبتها فأملاها علينا من كتابه: الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن، الذي لم يلد فيكون في العز مشاركا ولم يولد فيكون موروثا هالكا، ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا، الذي ليست في أوليته نهاية، ولا لآخريته حد ولا غاية، الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان، ولا يتعاوره زيادة ولا نقصان ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان، الذي بطن من خفيات الأمور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير، الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض بل وصفته بفعاله ودلت عليه بآياته، لا تستطيع عقول المتفكرين جحده، لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته، الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله، الذي

ص:198

خلق خلقه لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم، وقطع عذرهم بالحجج، فعن بينة هلك من هلك وبمنه نجا من نجا، ولله الفضل مبدئا ومعيدا، ثم إن الله - له الحمد - افتتح الحمد لنفسه وختم أمر الدنيا ومحل الآخرة بالحمد لنفسه، فقال: وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين.

الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد والمرتدي بالجلال بلا تمثيل، والمستوي على العرش بغير زوال، والمتعالي على الخلق بلا تباعد منهم ولا ملامسة منه لهم، ليس له حد ينتهى إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله، ذل من تجبر غيره، وصغر من تكبر دونه، وتواضعت الأشياء لعظمته، وانقادت لسلطانه وعزته، وكلت عن إدراكه طروف العيون، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق. الأول قبل كل شيء ولا قبل له، والآخر بعد كل شيء ولا بعد له، الظاهر على كل شيء بالقهر له، والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها، لا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة، هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها لا بمثال سبق إليه ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه، ابتدأ ما أراد ابتداءه وأنشأ ما أراد إنشاءه، على ما أراد من الثقلين الجن والانس، ليعرفوا بذلك ربوبيته وتمكن فيهم طاعته.

نحمده بجميع محامده كلها، على جميع نعمائه كلها ونستهديه لمراشد أمورنا ونعوذ به من سيئات أعمالنا ونستغفره للذنوب التي سبقت منا ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، بعثه بالحق نبيا دالا عليه وهاديا إليه، فهدى به من الضلالة واستنقذنا به من الجهالة، من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ونال ثوابا جزيلا ومن يعص الله ورسوله فقد خسر خسرانا مبينا، واستحق عذابا أليما، فابخعوا بما يحق عليكم من السمع والطاعة وإخلاص النصيحة وحسن المؤازرة وأعينوا على أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة وهجر الأمور المكروهة، وتعاطوا الحق بينكم وتعاونوا به دوني وخذوا على يد الظالم السفيه ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعرفوا لذوي الفضل فضلهم، عصمنا الله وإياكم بالهدى وثبتنا وإياكم على التقوى وأستغفر الله لي ولكم.

* الشرح:

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أحمد بن النضر وغيره عمن

ص:199

ذكره، عن عمرو بن ثابت) لعله عمرو بن أبي المقدام الممدوح من رجال السجاد والباقر والصادق (عليهم السلام) (عن رجل سماه عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور) هو الحارث بن قيس الأعور قال العلامة: روى الكشي في طريق فيه الشعبي أنه قال لعلي (عليه السلام): إني أحبك، ولا يثبت بهذا عندي عدالته بل ترجيح ما (1).

(قال خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) يوما خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته) أي من حسن وصفه للرب (وما ذكره من تعظيم الله تعالى. قال أبو إسحاق فقلت للحارث أو ما حفظتها) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على محذوف أي اسمتها وما حفظتها (قال: قد كتبتها (2) فأملاها علينا من كتابه:).

الحمد لله الذي لا يموت) وصف له بالدوام بسبب سلب الموت عنه; لأن الموت انقطاع تعلق الروح عن البدن ورجوع الخلق إلى الحق لزوال القوة المزاجية وكل ذلك عليه سبحانه محال، وإنما افتتح بالحمد لتعليم الخلق بلزوم الثناء على الملك الوهاب والاعتراف بنعمته عند الافتتاح بالخطاب لاستلزام ذلك ملاحظة حضرة الجلال والالتفات إليها عامة الأحوال، وابتدأ بعده بالصفات السلبية الدقيقة وهي أن التوحيد المطلق والإخلاص المحقق لا يتحققان إلا بنقض جميع ما عداه عن لوح النفس وطرحه عن درجة الاعتبار وما لا يتحقق الشيء إلا به (3) كان اعتباره مقدما

ص:200


1- 1 - فيه اشتباه، وفي الخلاصة بعد عنوان «الحارث بن قيس» عنون الحارث الأعور وساق الكلام كما في المتن والمراد الحارث بن عبد الله الأعور، كما هو الظاهر.
2- 2 - قوله: «قال كتبتها» كتبها بجميع ألفاظها وخصوصياتها أو اختار منها ما قدر على حفظها، وكذلك كانوا يحفظون خطب الأمراء والخلفاء وساير الفصحاء، ففي كتب التواريخ نقل قدر واف من خطب قس بن ساعدة وسحبان وائل وحجاج بن يوسف وغيرهم، واحتمال حفظ جميع خصوصيات الألفاظ بعيد لاختلاف الروايات في خطبة واحدة اللهم إلا ما يتشبث بالخاطر من لفظ بديع ومعنى طريف أطرف وأبدع من ساير كلمات الخطبة، ولذلك قد يقول المؤرخون فكان مما حفظ من خطبة مثلا، ومعلوم أن المنقول ربما يتم قراءته في خمس دقائق، أو عشر، ولم تكن الخطبة قصيرة بهذا الحد. (ش)
3- 3 - قوله: «ما لا يتحقق الشيء إلا به» يعنى به الذاتيات والأجزاء وأنها مقدمة على المركب منها تقدما بالذات سابقا أن أقسام التقدم الخمسة المشهورة متعارفة عن الناس ويستعملونها في محاوراتهم وليس التقدم عندهم منحصرا في التقدم بالزمان كما توهمه بعض الظاهريين، يقولون في التقدم المكاني: رأيت زيدا وهو شاب جلس مقدما على الشيوخ، وفي التقدم بالشرف: أن نبينا (صلى الله عليه وآله) مقدم على سائر الأنبياء، ويقولون في التقدم الذاتي: تحركت اليد فتحرك المفتاح، ولو عكست القول وقلت: تحرك المفتاح فتحركت يدي غلطوك لدلالة الفاء على الترتب والتأخر وليس حركة اليد بعد حركة المفتاح بل قبله. وعوام العجم أيضا يستعملون هذه المعاني في محاوراتهم في الفارسية. نعم تعديد أقسام التقدم ومعرفة الاصطلاحات خاص بأهل العلم. وهذا نظير الواجب والممكن والممتنع يعرفه الطفل الصغير والشيخ والجاهل البدوي والعامي القروي وإن لم يميزوا الاصطلاح والدور والتسلسل يعترف ببطلانهما جميع الناس ويختص بتقرير الدليل عليه العلماء وهكذا. (ش)

على اعتبار ذلك الشيء، ولما كان (عليه السلام) معلما لكيفية السلوك إلى الحق وكانت العقول قاصرة عن إدراك حقيقته والأوهام حاكمة بمثليته تعالى لمدركاتها، بدأ بذكر السلب لأنه مستلزم لغسل درن الحكم الوهمي في حقه تعالى عن لوح الخيال حتى إذا ورد ذكره تعالى بما هو أهله ورد على ألواح صافية من كدر الباطل فانتقش كما قيل «فصادف قلبا خاليا فتمكنا».

(ولا تنقضي عجايبه) التي كلما تأملها الإنسان وأجال فيه البصر يجد من كمال قدرته وآثار حكمته فوق ما وجده في بادي النظر (لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن) الشأن: الأمر والحال وهو سبحانه في كل زمان من الأزمان يحدث في عالم الإمكان على وفق الحكمة والقضاء الأزلي ما هو محل العجب العجيب الذي يحار فيه أبصار البصاير من أفعال غريبة وأشخاص جديدة وأحوال بديعة لم يكن شيء منها قبل ذلك. قال القاضي: وفي الحديث من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا، انتهى. أقول: وهو أيضا رد على من ذهب أنه تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم (عليه السلام) على خلق أولاده والتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها لا في حدوثها (1) وهذا المذهب مأخوذ من (2) أصحاب الكمون والظهور من جملة الفلاسفة كما أشار إليه صاحب الملل والنحل.

(الذي لم يلد فيكون في العز مشاركا) يمكن إرجاعه إلى قياس استثنائي تقريره: لو كان له ولد

ص:201


1- 1 - «في ظهورها لا في حدوثها» ظاهر هذا الكلام غير معقول، اللهم إلا أن يرجعوا إلى ما قالوا في الفرق بين الدهر والزمان وأن الأمور المترتبة في الزمان مجتمعة في الدهر وربما يمثل ذلك بخيط ملون بألوان مختلفة تمشي عليه نملة ترى كل لون إذا حاذاها، وأما الإنسان فيرى جميع الألوان دفعة واحدة، ولما كان واجب الوجود علة العلل ووجود كل موجود إنما هو بإضافته الإشراقية والرابطة التي بينه تعالى وبين المعلول أقوى وأشد من كل رابطة، وقلنا إن رابطة النور تقتضي رؤية الإنسان شيئا مضى وتموجات الهواء تقتضي سماعنا لأصوات مضت، فلم يستبعد أن يرى الله ويسمع ويحيط بقدرته على جميع ما مضى وما سيأتي دفعة واحدة وليس معنى اجتماع المترتبات في الدهر نفى الزمان عنها ولا عدم الترتب بينها ومعيتها في الزمان بل معيتها واجتماعها في علم الباري وحضورها عنده دفعة واحدة وقدرته عليها جميعا. (ش)
2- 2 - قوله: «وهذا المذهب مأخوذ» أصحاب الكمون والبروز طائفة من قدماء فلاسفة اليونان أورد الشيخ في الشفا مذهبهم وزيفه في الفصل الرابع من الفن الثالث من الطبيعيات وحاصل مذهبهم أن ما نرى من استحالة العناصر بعضها إلى بعض كالهواء يتبدل نارا مثلا ليس استحالة بالحقيقة إذ لا يجوز تغير ماهية شيء إلى غيرها فلا يصير شيء شيئا أصلا فما خلق في أول وجوده مثلا حديدا أو نحاسا أو كبريتا أو غيرها فهو يبقى على ما هيته وصورته النوعية أزلا وأبدا إلا أن في كل منها سائر الأشياء كامنة فالنار كامنة في الهواء ومخلوقة فيه غير ظاهرة وإنما يظهر بالاشتعال، وشاركهم أهل عصرنا في قولهم بعدم استحالة العناصر ولكن يخالفونهم في أن المواليد بالتراكيب والأمزجة لا بالبروز فكل حادث عندهم بتركيب ومزاج أو بتحليل ولا يستحيل شيء آخر إلا بزيادة عنصر فيه أو نقص، ولا حاجة فعلا إلى نقل مذهبهم ولا فائدة فيه. (ش)

كان في العز والجلال مشاركا معه، والتالي باطل إذ لا عزيز على الإطلاق سواه، فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن ولد العزيز عزيز مثله وقد سلك (عليه السلام) في ذلك سبيل المعتاد الظاهر في بادي الرأي والاستقراء وهو أن كل ولد يلحق بأبيه في العز والذل وإن لم يجب ذلك في العقل والاستقراء مما يستعمل في الخطابة ويحتج به فيها إذ غايته الإقناع (ولم يولد فيكون موروثا هالكا) أي لو كان مولودا لكان موروثا هالكا يرثه من خلفه، وهو تنزيه له عن صفات البشر إذ العادة أن كل مولود من الإنسان يهلك فيرثه من خلفه والبرهان على استحالة كونه والدا ومولودا أن ذلك من لواحق الشهوة الحيوانية وتوابع القوة الجسمانية، وقدسه تعالى منزه عنها.

(ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا) الماثل القائم والماثل أيضا المشابه يعني لم تدركه الأوهام فإنها إن أدركته قدرته شخصا منتصبا قائما وصورة شبيهة بصورة الجسم والجسمانيات; لأن الوهم إنما يدرك الأمور المتعلقة بالمادة وشأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار معين ووضح معين ويحكم بأن ذلك مبلغه ونهايته فلو أدركته الأوهام لقدرته شخصا معينا قايما على مقدار معين وصورته بصورة معينة في محل معين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حايلا) حال الشيء يحول إذا انقلب حاله وكل متغير حائل.

كذا في النهاية. يعني لا تدركه الأبصار فإنها إن أدركته كان بعد انتقال الأبصار عنه متغيرا ومنقلبا عن الحالة التي كانت له عند الإبصار وهي المقابلة والمحاذاة والوضع الخاص وغير ذلك من الأمور المعتبرة في الرؤية إلى حالة أخرى مغايرة للأولى فيوصف تارة بالمقابلة والمحاذاة مثلا وتارة باللامقابلة واللامحاذاة، وذلك لا يليق بقدس الحق; لأن نسبته إلى جميع الأشياء والأحياز والأوضاع والأشخاص والأوقات والأزمنة والأمكنة على السواء لا تتغير ولا تتبدل أصلا وأبدا، فنسبته إلى الشرق كنسبته إلى الغرب، ونسبته إلى السماء كنسبته إلى الأرض، ونسبته إلى زيد وإبصاره لشيء كنسبته إلى زيد وإبصاره لشيء آخر، ويحتمل أن يكون لفظة «بعد» بضم الباء ويكون اسم «يكون».

والحايل حينئذ بمعنى الحاجز، يعني لا تدركه الأبصار لأنها لو أدركته كان بعد انتقال الأبصار إليه مانعا من رؤيته; لأن من شرايط الرؤية هو القرب المتوسط واللازم باطل; لأن ذلك شأن ذوات الأحياز التي يتصور فيها القرب والبعد بحسب المسافة، وقدس الحق منزه عن ذلك (الذي ليست في أوليته نهاية ولا لآخريته حد ولا غاية) إذ العدم لا يسبق الوجود الأزلي ولا يلحقه.

ص:202

(الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان) الوقت جزء الزمان، ولما كان جل شأنه خالق الوقت والزمان وجب أن يتقدمهما فلا يتصور تقدمهما عليه.

(ولم يتعاوره) أي لم يأخذه على سبيل التبادل والتناوب (زيادة ولا نقصان) لأنهما من لوازم الكم والكميات (ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان) أي لا يوصف بالحصول في الأين ولعل المراد بالأين الجهة دون المكان لئلا يلزم التكرار، وصح إطلاق الأين على الجهة لكمال المناسبة بينهما في أنهما مقصد للمتحرك الأول باعتبار الحصول فيه والثاني باعتبار الوصول إليه والقرب منه، وكذا لا يوصف بما هو; لأن وصفه به يستلزم وصفه بأنه يمكن معرفة كنه حقيقته; لأن «ما هو» سؤال عن كنه الحقيقة، وكذا لا يوصف بالكون في المكان لاستحالة افتقاره إلى المكان.

(الذي بطن من خفيات الأمور) أي أدرك الباطن من خفيات الأمور يعني نفذ علمه في بواطنها لأنه عالم السر والخفيات، ويحتمل أن يكون المراد أنه باطن خفي داخل في جملة خفيات الأمور ولما كانت بواطنها أخفى من ظواهرها كان المفهوم من كونه بطن منها أنه أخفي منها عند العقول وغيرها من القوى المدركة، وذلك لأن الإدراك إما حسى وإما عقلي، ولما كان عز وجل مقدسا عن الجسمية منزها عن الوضع والجهة استحال أن يدركه شيء من الحواس الظاهرة والباطنة، ولما كان ذاته بريئة عن أنحاء التركيب استحال أن يكون للعقل اطلاع عليها بالكنه فخفاؤه إذن على جميع الإدراكات ظاهر وكونه أخفى الأمور الخفية واضح.

(وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير) إذ بآيات قدرته وتدبيره وعلامات صنعته وتقديره تجلت ذاته في عقول العارفين (1) وظهرت صفاته في صدور العالمين، وقد حث

ص:203


1- 1 - قوله: «تجلت ذاته في عقول العارفين» أكثر العلوم الحاصلة للانسان مبدؤها الانتقال الدفعي من ملاحظة مقدمات حصلت بغير اختيار ويسميها المنطقيون الحدس وهو يفيد اليقين وليس مرادفا للظن والتخمين كما في اصطلاح الناس، ومثاله المعروف نور القمر مستفاد من الشمس، إذ رأوا ارتباطا دائما بين اختلاف تشكيلات القمر ووضعه من الشمس قالوا: إن نوره منها وأمثلة ذلك في الهيئة وساير العلوم كثيرة وربما يسمى أصحاب هذا الحدس القوى أهل زماننا عبقريا وفي الفارسية الدارجة نابغة، وظاهر أن معرفة الناس بالله المدبر الحكيم لم يكن خارجا من القاعدة الكلية في استنباط سائر أسرار الكون، ففي زمان قديم لا نعلم تأريخه تنبه رجل عبقري; لأن الأرض كرة ولا نعلم اسم ذلك الرجل وبيئته ولا زمانه كذلك تنبه من طريق العقل رجل لا نعلم اسمه وساير مشخصاته أن مبدأ هذا العالم فاعل حكيم عالم فعل ما فعل لغاية. أما من جهة تعليم الأنبياء والإلهام فأول من علم التوحيد آدم أبو البشر وليس هو مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الموضع بل مراده الظهور في العقول من ملاحظة علامات التدبير وطريق تنبه العقل ما ذكره (عليه السلام) فإن الإنسان لما نظر في الآفاق وفي نفسه خصوصا بعد معرفة شيء من التشريح والطب تنبه; لأن صانعه ليس موجودا غير شاعر كما يتنبه من صنايع يد الإنسان وإتقان فعله مهارة صانعه، وما يقال من أن أول من عرف الله تعالى بالعقل هو سقراط الحكيم أو انكساغوراس أو غيره فإنما عنى في اليونانيين وفلاسفتهم، وما في توحيد المفضل عن الصادق (عليه السلام) أن أرسطوطاليس هو الذي بين خطأ من تقدمه من نفي العمد والتدبير، فمراده (عليه السلام) أن هذا الحكيم أول من بينه ببيان علمي استدلالي ظهر الحق بقوله ونسخ قول الطبيعيين نسخا بينا أوجب إعراض العقلاء عنهم، وأما أصل تنبه الإنسان لوجود الحق تعالى كان سابقا في الأمم البتة وإن لم يبينوه كما بين أرسطوطاليس. وأما جماعة من العوام وحمقاء الإفرنج وأصحاب الحرف والصناعات منهم فقد توهموا أن الإنسان إنما ينسب الأمور إلى الله تعالى وتدبيره لأنه جاهل بالأسباب الطبيعية ولما عرف تلك الأسباب عرف استغناء العالم عن الله - نعوذ بالله - مثلا ما لم يعلم أن لنمو النبات وتكون الجنين في الرحم ونزول المطر وهبوب الرياح وغير ذلك أسبابا، نسبها إلى فعل الله ولما علم أن المطر بصعود الرطوبات إلى الجو البارد وتبدل البخار وكذلك ساير الأسباب أنكر أن يكون لله تعالى تأثير، فالاعتراف والإيمان بالله تعالى عندهم من الجهل، والإلحاد والكفر من العلم، وقد رأيت كتابا لرجل منهم يسمى باغوست كنت، طول الكلام في ذلك وأتى بأمور تخالف الحس وما نعلم من التاريخ. ونقل عن بعض ملاحدة شعراء العرب حاصل ما في ذلك الكتاب: اثنان في الدنيا فذو عقل بلا * دين وآخر دين لا عقل له وإنما قلنا إنه مخالف للحس والتاريخ لأنا نرى الجهل بالأمور الغيبية مقدما على العلم بها في التاريخ كما أن جهل الناس بكروية الأرض كان قبل علمهم، وجهلهم بالتشريح وخواص الأدوية قبل علمهم، وجهلهم بعلة الخسوف والكسوف وأسبابهما قبل علمهم، كذلك كان جهلهم بمبدء حكيم قادر لا يرى قبل علمهم به، ونعلم أن أرسطوطاليس وأنكساغوراس وغيرهما كانوا أعلم الناس جميعا بالأمور الطبيعية وكانوا عالمين بأن نزول المطر من استحالة البخار الصاعد من الأرض كما نص أرسطو في كتابه عليه وعلى ساير الأمور الطبيعية ومع ذلك اعترف بوجود المبدأ الحكيم وبقاء النفس، وبالجملة الحق ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن معرفة الله تعالى بالنظر والتفكر إنما حصل للانسان بعد تأمله في خلقه لا ما يقوله هذه الجهال إن اعترافهم بالمبدأ كان قبل التفكر والنظر والتأمل. (ش)

على التفكر فيها والنظر إليها للاستدلال بها على وجود الصانع وصفاته قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) الآية وقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وهذا الطريق هو طريق المليين وساير فرق المتكلمين فإنهم يستدلون أولا على حدوث الأجسام (1) والأعراض ثم يستدلون بحدوثها وتغييراتها على وجود الصانع، ثم يستدلون بالنظر في أحوال المخلوقات على صفاته واحدة واحدة، مثلا يستدلون بإحكامها وإتقانها على كون صانعها عالما حكيما قادرا وبتخصيصها بأمر ليس للآخر (2) على كونه

ص:204


1- 1 - قوله: «أولا على حدوث الأجسام» يعنى بالدليل العقلي إذ يريد به إثبات الواجب تعالى كمال قال، ثم يستدل بحدوثها على وجود الصانع، ولا يجوز التمسك هنا بإجماع المسلمين ولا بظاهر الكتاب والأخبار; لأن حجية الإجماع وظاهر النصوص بعد إثبات الواجب تعالى والنبوة والكتاب كما مر في الصفحة 200 من هذا الجزء وفي مواضع أخر. (ش)
2- 2 - قوله: «بتخصيصها بأمر ليس للآخر» ولكن إرادة الله تعالى ليس جزافا بغير علة ومرجح بل يكون تخصيص إرادته بشيء دون شيء بحصول استعداد مرجح لقبول الفيض كما قيل «أبي الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها» و «إذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه» وهذا جار في كل شيء، قال تعالى: (حتى يغيروا ما بأنفسهم) وإثبات العمد والتدبير والإرادة هو الأصل في التوحيد الفارق بين المتأله والملحد وإلا فالمبدأ الواجب مما اتفق عليه كل الناس إلا أن المتأله يقول إنه فعل ما فعل بعمد وإرادة، والملحد يقول هو غير شاعر ولا مريد. وفي توحيد المفضل بعد نقل كلام الإمام (عليه السلام) في فوائد كثير من أعضاء الإنسان قال المفضل فقلت: يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة. فقال: سلهم عن هذه الطبيعة هي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الافعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صفته، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد يراه من الصواب والحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم وأن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه جارية على ما أجراها عليه، انتهى. قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في بيان ذلك: والذي صار سببا لذهولهم أن الله تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها، فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك، انتهى. وهذه الأسباب هي التي تسمى في اصطلاح الحكماء معدات ويحصل بها للشيء الإمكان الاستعدادي السابق على وجود الحادثات الزمانية فيستعد البذر لقبول صورة النبات بأسباب هي الماء والأرض والسماء الحرارة والنور وغير ذلك، وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) أيضا: يعلم بعد الاعتبار والتفكر أن الكل مستند إلى قدرته وتأثيره تعالى وإنما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك. ثم أنه - رحمه الله - أنكر في بعض المواضع الإمكان الاستعدادي وإن اثبته هنا، وله وجه ليس هاهنا موضع ذكره. (ش)

مريدا وبلطافة خلق بعضها ودقته على كونه لطيفا، وكذلك الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك وبامتناع اتصال الحركات لا إلى أول على وجود محرك أول (1) غير متحرك، ثم يستدلون من ذلك على وجود مبدأ أول.

(الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض) لامتناعهما في حقه، أما الحد فلأنه ليس له حقيقة مركبة من الذاتيات ولا امتداد منته إلى النهايات، وأما البعض فلأنه ليس له أبعاض لاستحالة التجزية والتكثر على جناب القدس (بل وصفته بفعاله ودلت عليه بآياته) فإنهم أرشدوا العقول الناقصة إلى الشهادة بوجوده بالنظر في أفعاله العجيبة وآياته الغريبة والتأمل في آثار قدرته وأطوار صنعته والتفكر في لطايف تدبيره وطرائف تقديره وبينوا أن كل ما تصورته النفوس من

ص:205


1- 3 - قوله: «على وجود محرك أول غير متحرك» لا ريب أن الجسم يتحرك في الجملة وصفات الأجسام وأفعالها إما أن تكون ذاتية طبيعية وتكون علة ثبوتها لها ذات الأجسام كالبرودة والميعان للماء، والحرارة للنار وإما أن تكون غير طبيعية لا بد أن تكون لها علة من خارج ولا ريب أن الحركة من حيث هي حركة ليست ذاتية طبيعية بحيث تكون ذات الجسم يقتضيها بالذات بل الحركة دائما للوصول إلى غرض وغاية إذا وصل الجسم إليه سكن ومعنى كون الحركة طبيعية في بعض الأجسام أن له غاية يتوخى الوصول إليها بالطبع فيتحرك لتحصيل تلك الغاية ولا يعقل أن يكون الحركة كمالا أولا بحيث تكون هي بنفسها غاية ومقصودة; لأن نيل المقصود يقتضي السكون والقرار لا الانتقال والفرار والغاية لكل شيء الذي ينتهي إليه الحركات هو الله تعالى وهو المحرك غير المتحرك، منه المبدأ وإليه المصير. والحركة الذاتية بغير ذلك من الآيات. فإن قيل: غاية الحركة في الجسم تحصيل الحالة الطبيعية كما أشرت إليه ولا يجب أن ينتهى إلى المبدأ الأول فالماء مثلا إذا سخن بالقسر ثم خلى وطبعه تحرك إلى البرودة فإذا حصلت سكن لأنه وصل إلى غايته. قلت: كل شيء خلق على صفاته الطبيعية ولو لم يكن قاسر يخرج شيئا عما هو عليه طبعا لسكن العالم بأسره وبجميع أجزائه على حالة واحدة ولم يحدث شيء موجود ولم يفن شيء موجود ولكن هنا قاسرا لكل شيء يخرجه عن مقتضى طباعه فننقل الكلام إلى ذلك القاسر وتحريكه وغايته في التحريك فلا بد أن ينتهى إلى قاسر ثان يحرك القاسر الأول فإن كان هو أيضا متحركا احتيج إلى قاسر ثالث فإن كان غير متحرك ثبت المبدأ المحرك غير المتحرك، وهو المطلوب لبطلان التسلسل. وإن كان متحركا احتاج إلى محرك غير طبيعة وهكذا. (ش)

الصور العقلية وأدركته الحواس من الصور الحسية وجب تنزيهه تعالى عنه، وأن الواجب هو الإذعان بوجوده إذعانا بريئا من المواد وعلايقها مجردا عن مدركات الحواس ولواحقها من الأين والوضع والجهة والمقدار وغير ذلك من لواحق الممكنات وخواص المصنوعات.

(لا يستطيع عقول المتفكرين جحده; لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته); لأن هذه المصنوعات آيات ظاهرة على وجوده وحكمته وعلامات باهرة على علمه وقدرته لكن ظهورها للعقول يتفاوت بحسب تفاوت مراتب الاستعداد والتفكر على درجات متباعدة ومنازل متفاوتة ومن جحده فإنما جحده لعدم تفكره في ذواتها وسوء تدبره في صفاتها التي كلها شواهد صدق على وجوده ووحدته في الربوبية وتفرده في الإلهية وتنزهه عن صفات المخلوقين وتقدسه عن سمات المصنوعين مع إقرار العقل بدون معارضة الوهم بالتصديق له حتى إن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله. ولذلك إذا وقعوا في مصيبة ودخلوا في بلية كالغرق ونحوه لم يجدوا ملجأ سواه ولم يدعوا إلا إياه.

(الذي نأى من الخلق) أي بعد منهم لعدم مشابهته بهم وعدم إدراكهم له (فلا شيء كمثله) في ذاته وصفاته إذ لا يتصف هو بصفات شيء من الأشياء ولا يتصف شيء من الأشياء بصفاته; لأن عالم الوجوب والغناء مغاير بالكلية لعالم الإمكان والفناء فلا يوجد ما يليق بأحدهما في الآخر (1)

ص:206


1- 1 - قوله: «فلا يوجد ما يليق بأحدهما في الآخر» فإن قيل يوجد في عالم الإمكان العلم والحياة والقدرة ويتصف بها واجب الوجود أيضا بل ربما يقال كل ما هنا يجب أن يكون جلوة لما هناك وموجد الشيء ليس فاقدا له، قلنا: المقصود أن ما في الإمكان مشوب بالنقص ومختلط بالعدم والواجب تعالى يجب أن يكون مبرأ من كل نقص، ولا يوجد شيء بنقصه في الواجب وعلم الممكن ممزوج بالجهل وحادث بعد العدم وقابل للزيادة والنقصان وكذلك حياته وقدرته، وقد سبق ما يناسب ذلك في شرح قوله (عليه السلام): «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له»; لأن المشعر يحكي عن النقص لدلالته على الجسم والانفعال عن المحسوس ولا يقال بتعليمه العلماء عرف أن لا علم له; لأن العلم لا يدل على النقص من انفعال وجسمية وغير ذلك، مثلا إذا تأملت في خلق العين وقوة الباصرة عرفت أن خالق هذا العضو يعلم أن في العالم نورا ولونا وشيئا يحمل النور واللون وأن النور يدخل الجسم الشفاف كالزجاج فيعلم أن في العالم جسما شفافا وكدرا ويجب أن يختار للتأثر من النور في الباصرة جسما شفافا كالجليدية والقرنية ويعلم أن غذاء هذا الجسم الشفاف يجب أن يكون لطيفا وهكذا. وعلمه بجميع هذه الأمور إنما يكون قبل خلقه العين حتى يخلق العين على وفق ما علم وجوب كونها عليه ثم إن الخالق لو كان له عين بالصفات اللازمة للرؤية فإن كانت هذه العين نفس ذات الواجب لم يكن جارحة ومشعرا بل كان ذات الواجب عالما بالمبصرات وإن كانت غير ذات الواجب كانت مخلوقة له وكان الواجب خلقها ليستعين بها على رؤية الأشياء تعالى الله عنه وقد كان يعلم قبل الخلق أن في العالم نورا ولونا ولكل منهما خواص وأن هناك جسما كدرا وشفافا وبالجملة يعلم كل شيء قبل أن يخلق لنفسه عينا فلا يحتاج إلى عين، وبتشعيره المشاعر عرف أنه قبل تشعيره يعلم كل شيء يحتاج عرفانه إلى مشعر، وهذا نظير أن صانع المنظار يجب أن يكون قبل صنعته عارفا برؤية ومرئي من غير احتياج إلى المنظار. (ش)

(الذي خلق خلقه لعبادته) ليجذبهم بها إلى جناب عزته ولم يخلقهم عبثا كما قال: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) وقال: (ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما لاعبين).

(وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم) من شرائط التكليف مثل العقل والقدرة وغيرهما فمنهم سماع أجابوه ومنهم صماء خالفوه.

(وقطع عذرهم بالحجج) أي بالحجج الباطنة وهي العقول والحجج الظاهرة وهي بعث الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب تنبيها للغافلين وتذكيرا للجاهلين فقطع عذرهم ودفع حجتهم لئلا يقولوا يوم القيامة لولا أرسلت إلينا رسولا يهدينا إلى معرفتك ويرشدنا إلى طاعتك (فعن بينة هلك من هلك وبمنه نجا من نجا) يعني من هلك بالكفر والضلال بعد بعث الأنبياء وإنزال الكتب وإرشاد الطريق وإكمال العقل فعن وضوح بينة هلك، ومن نجا عن العقوبة والنكال بالايمان والكمال فبمنه وإفضاله نجا (ولله الفضل مبدئا ومعيدا) أي ولله الفضل والجود والزيادة في الإحسان في حال إبداء الخلق وإيجادهم في الدنيا وفي حال إعادتهم وإرجاعهم بعد الفناء أما فضله في الإيجاد فظاهر لأنه بلا سبق استحقاق قطعا، وأما فضله في الإعادة وازدياد الإحسان في الآخرة فهو مختص بالمؤمنين المتقين كما قال: (وأزلفت الجنة للمتقين) إلى قوله (ولدينا مزيد).

ثم أشار إلى استحقاقه للحمد في البداية والنهاية فضل الحمد والحث عليه بقوله: (ثم إن الله وله الحمد) هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب وإنما لم يذكر متعلق الحمد لقصد التعميم أو للإشارة إلى أنه يستحقه لذاته و «ثم» لمجرد التفاوت في الرتب فإن حمده تعالى لنفسه أفضل وأكمل من حمد الغير له (افتتح الحمد لنفسه) في التنزيل أو عند خلق العالم كما قال (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) أو عند خلق الإنسان ونفخ الروح كما قال: (ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) لأن الحمد هو الثناء الجميل ولا يجب أن يكون ذلك بلفظ الحمد.

(وختم أمر الدنيا) لعل المراد بأمر الدنيا ما يتعلق بها من سوء العاقبة وحسنها للعباد بحسب القضاء الإلهي (ومجل الآخرة بالحمد لنفسه) المجل بالتحريك أو سكون الجيم مصدر يقال مجلت يده مجلا بفتح الجيم فيهما ومجلت يده مجلا بكسر الجيم في الأول وسكونها في الثاني وهو أن يجتمع بين الجلد واللحم ماء من كثرة العمل وشدته ويحصل منه بثرة ويقال له بالفارسية «آبله» وضبطه بعضهم بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وهو الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من

ص:207

الكلاء والمجادلة والكيد، والمراد به هنا على جميع هذه المعاني هو الشدة والمصيبة على سبيل الكناية يعني ختم أمر الدنيا وختم شدايد الآخرة وأهوالها بالحمد لنفسه على القضاء بالحق كما قال (وقضى بينهم بالحق) بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار.

(وقيل الحمد لله رب العالمين) على القضاء بالحق وإعطاء كل قوم ما يستحقونه من غير ظلم ولا جور، والظاهر من سياق هذا الحديث أن القائل هو الله تعالى وقيل هم المؤمنون والملائكة.

فإن قلت: ختم شدائد الآخرة بهذا القضاء وهذا القول ظاهر وأما ختم أمر الدنيا بهما فما الوجه فيه؟ قلت هما في الحقيقة مقارنان لختم أمر الدنيا لانقطاع العمل حينئذ وعند ذلك يتحقق حال كل شخص ويعلم أنه من أهل الجنة أو من النار، ولذلك قيل: «من مات قامت قيامته».

(الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد والمرتدي بالجلال بلا تمثيل) تشبيه الكبرياء والجلال أعني العظمة الرفعة باللباس والرداء في الإحاطة والشمول مكنية تعلق اللبس والارتداء بهما تخيلية، ولما كان المتبادر من الكبير والجليل في الأوهام أن يكون ذا جسد ومثال أشار إلى أن وصفه تعالى بهما من غير تجسيد بشخص جسداني وتمثيل بمثال جسماني للتنبيه على أن المراد منهما هو العظمة والرفعة بحسب القدر والرتبة.

(والمستوي على العرش بغير زوال) لما كان المتبادر من الاستواء في أفهام القاصرين هو الاستقرار أشار إلى نفي إرادة ذلك بسلب لازمه الذي هو الزوال من حال إلى حال والانتقال من وضع إلى وضع; لأن كل مستقر على شيء شأنه جواز اتصافه بذلك للتنبيه على أن المراد به معنى آخر يجوز في حقه تعالى وهو الاستعلاء والاستيلاء والغلبة، وإطلاقه على هذا المعنى أيضا شايع في العرف واللغة.

(والمتعالي عن الخلق) بالشرف والعلية والتنزه عن صفاتهم، ولما كان الوهم يتسارع إلى أن ما استعلى على الشيء كان فوقه إما بتباعد وتراخي مسافة بينهما كالفلك التاسع بالنسبة إلى الأرض أو بمماسة والتصاق بلا تراخي مسافة كالماء بالنسبة إليها أشار إلى دفع ذلك تأكيدا لرد الأحكام الوهمية بقوله (بلا تباعد منهم ولا ملامسة منه لهم); لأن علوه تعالى ليس علوا مكانيا بل علوا معنويا كما ذكرناه، والتباعد والتماس إنما يكونان في العلو المكاني فهذا قرينة لحمل التعالي على غير ما يتناوله الوهم (ليس له حد ينتهي إلى حده); لأن حد الشيء في اللغة منتهاه كحد الدار ونحوها وفي العرف ما يشرح حقيقة ذاته وما له من كمال صفاته وليس له سبحانه شيء منهما، أما

ص:208

الأول فلأنه من لواحق الامتداد وليس له سبحانه طبيعة امتدادية وأما الثاني فلأنه مؤلف من كثرة معتبرة في الحدود وهو سبحانه منزه عن الكثرة من جميع الوجوه (ولا له مثل فيعرف بمثله) لتقدسه عن المماثل وفيه تنزيه عن التشبيه والتنظير، ولعل السر في إيراد الفاء هنا دون السابق هو الإشعار بأن المثل منفي على الإطلاق دون الحد فإن له حدا بمعنى تميزه عن غيره بوصفه بما يليق به وعدم وصفه بما يليق بخلقه إلا أن جواز إطلاق الحد على ذلك محل كلام (ذل من تجبر غيره وصغر من تكبر دونه) غيره ودونه حالان عن فاعل تجبر وتكبر والضمير فيهما عايد إليه سبحانه يعني كل من تجبر وتكبر غير الله تعالى على خلقه بشيء ما مثل النسب والحسب والجاه والمال وحسن الهيئة والجمال أو لا بشيء فهو ذليل صغير حقير عنده تعالى وعند الصالحين من عباده بل عند الفاسقين أيضا في الدنيا والآخرة; لأن العظمة والكبرياء من أخص صفاته تعالى ومن نازعه في صفاته فهو بزعمه شريك له ولا شيء أذل وأصغر ممن يدعي أنه شريك الباري.

(وتواضعت الأشياء لعظمته); لأن كل شيء من الموجودات وكل ذرة من الممكنات متواضع لديه موضوع على بساط العجز والافتقار بين يديه وما ذلك إلا لملاحظة عظمته المطلقة التي عجزت العقول عن الإحاطة بها، ومن أنكرها بقلبه ولسانه فمع تواضع ساير جوارحه وأركانه يتواضع بهما عند نزول المصائب وظهور الموت وقيام الساعة التي هي محل الندامة ولكن لا ينفعه ذلك (وانقادت لسلطانه وعزته); لأن كل شيء من المصنوعات وكل نوع من المخلوقات منقاد لقضائه وقدرته وحكمه وتقديره ومنساق على نحو إيجاده وإبقائه وإفنائه وتدبيره فيجيء على نحو ما أراد له من الذوات والصفات وما قدر له من المقدار والكيفيات وما ذلك إلا لملاحظة سلطانه وعزته وغلبته على جميع الأشياء كما قال سبحانه (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) (وكلت عن إدراكه طروف العيون) الطروف بضم الطاء والراء والفاء أخيرا: الطموح جمع طارف بمعنى طامح وفي الفايق طرفت عينه أي طمحت يعني حسرت عن إدراكه العيون الطامحة المرتفعة إلى الشيء ليراه كما هو، وهنا احتمالات أخر; الأول: أن يكون الطروف جمع الطرف بالتسكين وهو تحريك الجفن بالنظر كما في المغرب أو هو العين كما في الصحاح والإضافة حينئذ

ص:209

بيانية وفيه بعد; لأن الطرف بمعنى العين لا يثنى ولا يجمع لأنه في الأصل صرح به مصدر كما صرح به في الصحاح.

الثاني أن يكون الطروف جمع الطرف بالكسر والتسكين وهو الكريم من الخيل ويراد هنا الكريم مطلقا والمراد بالعيون الكريمة العيون الصحيحة الكاملة في إدراكها. الثالث أن يكون الطروف مصدرا بمعنى النظر يقال: طرفت عينه إذا نظرت وما ذكرناه أولا هو الأحسن والأتقن، وفي بعض النسخ طروق العين من الطرق بالقاف وهو الدق أي دق العيون أبواب مدركاتها حتى تدخل فيها (وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق) لما عرفت أن الوهم لا طريق له إلى قدس الحق، ويمكن أن يراد بالأوهام ما يتناول العقل أيضا لعدم استغنائه في الإدراك عن الاستعانة بالوهم غالبا ولأن العقل في باب معرفة الحق مثل الوهم في أن ما أدركه لا يوجد في عالم القدس.

(الأول قبل كل شيء ولا قبل له والآخر بعد كل شيء ولا بعد له) قد مر شرح ذلك مفصلا.

(الظاهر على كل شيء بالقهر له) على الإيجاد والإفناء وإجراء جميع ما أراد، فكل شيء مسخر مغلوب له عند حكمه وإرادته، عاجز مقهور تحت قهره وغلبته وليس ظهوره عليه بمعنى الركوب والتسنم لذراه كما مر (والمشاهد لجميع الأماكن) بالعلم والإحاطة (بلا انتقال إليها); لأن الانتقال من خواص الأجسام المنزه قدسه عنها وهذا قرينة لصرف شهوده لجميع الأماكن عن الحلول فيها إلى ما ذكرناه لاستحالة ذلك بدون الانتقال (لا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة) لأنه ليس من الكيفيات الملموسة والمحسوسة (هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) لاستحقاق العبادة والإلهية بالنسبة إلى أهل السماء وأهل الأرض جميعا وقد مر شرحه مفصلا.

(وهو الحكيم العليم) لإتقان أفعاله وآثاره بحيث لا يجوز أن يقال لو فعل هذا لكان أتقن ولو لم يفعل ذاك لكان أحسن وتعلق علمه بجميع الأشياء بحيث لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ولا حسيس نملة في الصخرة الملساء.

(أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها) «من» الأولى متعلقة بأراد، و «من» الثانية بيان ل «ما»، والمراد بالأشباح الأشخاص المتغايرة والصور المتباينة كصورة الإنسان وصورة الفيل وصورة البقة وصورة النملة وغيرها من الصور النوعية والصور الشخصية والصور الجمادية والصور النباتية والصور الفلكية والصور العنصرية.

ص:210

(لا بمثال سبق إليه) إن أريد بالمثال الصورة العلمية وإطلاقه عليها شايع كان «سبق» بالباء الموحدة مبنيا للفاعل وضمير فاعله يعود إليه والضمير المجرور إلى الله سبحانه أي خلق ما أراد لا بصورة علمية زايدة سبقت إليه; لأن ذاته بذاته علم بجميع الموجودات. وإن أريد به مثال الموجودات كما هو الظاهر كان «سبق» مبنيا للمفعول والضمير المستتر له تعالى والضمير المجرور للمثال، والمقصود أنه خلق ما أراد لا بمثال سبقه تعالى غيره إلى إيجاد ذلك المثال أو مبنيا للفاعل ومرجع الضمير بحاله يعني خلق بلا مثال سبق الله تعالى غيره إلى ذلك المثال في إيجاد مثله بناء على أن المثال قديم لا موجد له أو على أن السبق إضافي ويحتمل أن يكون «إلى» بمعنى «على»، وإطلاق حروف الجر بعضها على بعض شايع، ويحتمل أن يكون «سيق» بالياء المثناة من تحت وحكم الضمير فيهما عكس ما والمقصود في هذه الصورة أنه خالق ما أراد بلا مثال سابق لاستحالة افتقاره ونقصانه في العلم والقدرة والفعل وامتناع وجود خالق غيره.

(ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه) أي عند الخلق والإيجاد أو عنده تعالى بلا مثال، وهو على الأول متعلق بدخل وعلى الثاني بخلق، واللغوب: التعب، وفيه تنزيه له تعالى عن الأحوال البشرية والعوارض البدنية واللواحق الحيوانية من الضعف والأعياء والتعب وكلال الأعضاء عند كثرة الاشتغال.

(ابتدأ ما أراد ابتداءه وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد من الثقلين الجن والانس) تأكيد لما مر ومبالغة في أنه البديع المخترع للموجودات وحدودها وهي ما لها من المقادير والأشكال والنهايات والآجال والكمالات على وفق إرادته الكاملة وحكمته البالغة ليس له معين ناصر ولا دافع زاجر يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون. والفرق بين الابتداء والإنشاء خفي ذكرناه سابقا.

(ليعرفوا بذلك ربوبيته) (1); لأن ما فيهم من التقديرات والتدبيرات ودقايق الصنع كاف لهم في

ص:211


1- 1 - قوله: «ليعرفوا بذلك ربوبيته» وروى مثله في تفسير قوله تعالى: (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) أي إلا ليعرفون وبهذا امتاز الإنسان من ساير أنواع الحيوان وبهذا الاعتقاد امتاز المسلمون من الملاحدة والدهريين الذين يجعلون الإنسان في رتبة الحيوان ولا يرون في خلقه سرا ولا يعتبرون الخلافة التي جعلها الله في آدم أصلا ولا يفرقون بين النفس الناطقة المجردة والنفس المنطبعة الحالة في المادة الجسمانية، أما المسلمون والإلهيون فيرون في الإنسان شيئا آخر وسرا وخلافة ورثها من آدم (عليه السلام)، فإنا لا نرى في موجودات هذا العالم المحسوس شيئا أشرف من الإنسان، فإن كان هو يعيش ويفنى كساير الأشياء لم يكن فائدة في الخلق أصلا فلا محيص من أن يكون للانسان غاية يسلك إليها وإن كان شيء يشرف به فهو المعرفة لأنه أكمل الكمالات، وإن كان في المعارف شيء يستحق أن يكون غاية فهو المعرفة بمبدأ الوجود وأصل الكون فمن يرى كمالا في غير المعرفة فهو بعد لم يترق من مقام الحيوانية ونحن نوافقهم - أي الماديين - في أنهم في رتبة الحيوان لم يتعالوا عنها فإن أبوا من ذلك وادعوا لأنفسهم فضلا بالمعرفة فقد صدقوا بما قلنا. (ش)

معرفته ومعرفة ربوبيته (وتمكن فيهم طاعته) بإيجاد القوة والقدرة عليها، و «تمكن» إما من التمكن تحذف إحدى التاءين «وطاعته» على الأول مفعول والفاعل هو الله تعالى وعلى الثاني فاعل.

(نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها) المحامد جمع المحمدة وهي ما يحمد به من صفات الكمال ونعوت الجلال، وفيه تعميم لحمده على وجه الاجمال من جهة المحمود به ومن جهة المحمود عليه، وذلك يتصور على وجهين: الأول أن يكون بإزاء فرد من الثاني فرد من الأول، وثانيهما أن يكون بإزاء كل فرد من الثاني جميع الأفراد من الأول، ولا ريب في أن حمده تعالى بأحد هذين الوجهين على سبيل التفصيل متعذر لنا، وإنما المقدور لنا هو حمده كذلك على سبيل الإجمال. ثم إنه يحتمل أن من حمده كذلك كان له ثواب من حمده على سبيل التفصيل وبه يشعر ظاهر كلام بعض العامة.

وقال بعضهم: إنه يثاب بأكثر من ثواب من حمده على بعض نعمائه، ولا يبعد أن يكون له ثواب بكل فرد فرد إلى آخر الأفراد، ولكن ثوابه دون من أتى به على التفصيل وإلا لم يكن للتفصيل فائدة (ونستهديه لمراشد أمورنا) أي لمقاصد الطرق التي توصلنا إلى الأمور المطلوبة عنا من المعارف والأحكام والأخلاق.

(ونعوذ به من سيئات أعمالنا ونستغفره للذنوب التي سبقت منا) (1) في هذه الفقرات الثلاث

ص:212


1- 1 - قوله: «ونستغفره من الذنوب التي سبقت منا» تأوله علماؤنا بحيث لا ينافي ما دل عليه العقل من وجوب عصمة الحجج (عليهم السلام) وما دل عليه النقل بالضرورة من أن قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة، وهذا واضح جدا وإن خالف فيه حشوية أهل الحديث لعدم تجرئهم على رد الأحاديث الدالة على صدور العصيان عنهم ولا على تأويلها على خلاف الظاهر ويرون أن رد الخبر يوجب الخروج من الدين والتأويل يوجب اللعب بأحكام الشرع وهو فتح باب للخروج عن جميع العقايد ولا يعلمون أن ذلك يناقض مذهبهم إذ يسهل أمر الخروج من الدين واللعب بأحكام الشرع; لأن الخبر المروي عن المعصومين (عليهم السلام) يتطرق إليه على مذهب أهل الحق احتمال كذب الراوي فقط أو سهوه وغلطه فإذا جوزنا الخطأ والمعصية على المعصومين (عليهم السلام) تطرق إلى الخبر مع احتمال غلط الراوي غلط المروي عنه أيضا فيعظم الخطب، ولو ادعى أحد أن المسلمين قاطبة مجمعون على عصمة من قوله حجة لم يجازف لأنا لا نعقل أن مسلما رأى أو تحقق لديه أن النبي (صلى الله عليه وآله) أكل شيئا، إلا حكم بحليته أو عمل عملا إلا استنبط جوازه ولو احتمل كونه مخطئا - نعوذ بالله - أو عصى بفعله لم يجز الحكم بجواز ما فعل فمن أنكر لفظا عصمة الحجة لا يوافق لسانه. وأما تأويل ما ورد في نسبة العصيان والذنب إليهم فأحسنه ما اختاره صدر المتألهين تبعا للأربلي صاحب كشف الغمة، وحاصله: أن توجههم إلى أمر معاشهم والتفاتهم إلى ضروريات عالم الإمكان دعاهم إلى التخشع والاعتذار; لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ألا ترى أن من اشتغل بأمر مولى يعلم أنه لا يرضى عنه إلا بذلك الاشتغال مع كونه في طاعته يتأسف على عدم الحضور الدائم لديه، وبينوا في التفاسير وكتب الكلام وجوها حسنة لا يعسر على الطالب الاطلاع عليها. (ش)

إشارة إلى ما يجب على السالك مراعاته ليتم سلوكه وسيره إلى الله تعالى فإنه يجب عليه أولا أن يعلم الطريق الموصل له إلى المطلوب، وثانيا أن يجتنب ما يخرجه عن هذا الطريق ويدخله في طريق الضلال وهو الأعمال السيئة، وثالثا أن يرفع عنه الأغلال المانعة من السير وهي الذنوب السابقة، ولما كان تحصيل هذه الأمور لا يمكن بدون الهداية من الله والاستعانة به طلب الهداية منه أولا وعاذ من شرور النفس وسيئات الأعمال التي من مقتضياتها ثانيا، وطلب غفران الذنوب ورفع الأغلال ثالثا، والله ولي التوفيق.

(ونشهد أن لا إله الله وأن محمد عبده ورسوله بعثه بالحق) أي أرسله بدين الحق الذي لا يعتريه الباطل (نبيا دالا عليه) أي على الله أو على الحق الذي هو دينه (وهاديا إليه فهدى به) أي فهدانا الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) أو هدانا محمد بدين الحق (من الضلالة) والوجهان يأتيان في قوله (واستنقذنا به من الجهالة) قد مر أنه بعث في زمان شاع فيه الضلالة والجهالة ولم يكن فيه إمام عدل يهتدى به ولا قانون حق يقتدى به (من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) أي ظفر بالخير ظفرا عظيما لا يبلغ عقل البشر إلى كنه حقيقته وكمال وصفه (ونال ثوابا جزيلا) لكون سيرته القصد وطريقته الرشد وقوله الفضل وأمره العدل وفعله الحق ونيته الصدق، وكل من كان كذلك فله الأجر الجميل والثواب الجزيل (ومن يعص الله ورسوله) وضع الظاهر موضع الضمير إذ ظاهر المقام ومن يعصهما للدلالة على تعظيم الله سبحانه إذ الضمير يوهم التسوية ولعل هذه علة الذم فيما رواه مسلم عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «بئس الخطيب أنت! قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى».

(فقد خسر خسرانا مبينا واستحق عذابا أليما) إنما قال «استحق عذابا» ولم يقل «نال عذابا» كما قال «نال ثوابا» للطيفة لا تخفى على ذوي البصاير، وينبغي أن يعلم أن فائدة القضية الأولى أعني قوله «ومن يطع الله» الجذب إلى اتباع دين الحق وسلوك الصراط المستقيم، وفايدة القضية الثانية أعني قوله «من يعص الله» التنبيه على النظر في عواقب الأمور; إذ لا عذر للمخاطبين في جهالاتهم بعد وضوح الحق (فابخعوا) البخع بالباء الموحدة ثم الخاء المعجمة: المبالغة في الشيء والإقرار به والخضوع له. قال في الفائق في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله): أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا (1)

ص:213


1- 1 - قوله: «أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا» مدح أهل اليمن كثير في الأحاديث حتى روي عنه (صلى الله عليه وآله): «إني أجد نفس الرحمن من جانب اليمن» وهم أصل الشيعة ومنهم انتشر هذا المذهب في أنحاء العالم وأول من هداهم إلى الإسلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان غالب أهل الكوفة من قبائل اليمن المهاجرين وكان التشيع فيهم ثم المهاجرون منهم إلى قم الأشعريون أيضا يمانيون، وانتشر هذا المذهب من قم إلى ساير البلاد، ثم إن اليمن كانت محفوظة من عساكر التتار وبقوا على ما كانوا عليه من أصول الإسلام في حكومتهم بخلاف أكثر بلاد المسلمين ثم بعد ذلك لم يؤثر فيهم غلبة الإفرنج وعادات النصارى ورسوم الكفار الذين هم أشد ضررا وأعظم داهية من المغول على الإسلام والمسلمين، وأهل اليمن إلى زماننا هذا باقون على أحكام الإسلام في جميع الأمور رفضوا تمدن الإفرنج وحفظوا مآثر الإسلام حفظهم الله من وساوس الشياطين المتفرنجة وأبقاهم على الطريقة القويمة وهدى ساير المسلمين إلى التمسك بطريقتهم ورفض البدع والضلالات ومفاسد الاخلاق وشرايع الكفار بمحمد وآله. (ش)

وألين أفئدة وأبخع طاعة أي أبلغ طاعة من بخع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها وهو أن يقطع عظم رقبتها ويبلغ بالذبح البخاع، والبخاع بالباء العرق الذي في الصلب، هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في كل مبالغة فقيل: بخعت له نصحي وجهدي وطاعتي وقال ابن الأثير: في الحديث «أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وأبخع طاعة» أي أبلغ وأنصح في الطاعة من غيرهم كأنهم بالغوا في بخع أنفسهم أي قهرها وإذلالها.

وقال الجوهري: بخع نفسه بخعا أي قتلها غما، ومنه قوله تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) وبخع بالحق بخوعا: أقر به وخضع له، وكذلك بخع بالكسر بخوعا وبخاعة (1).

(بما يحق عليكم) أي بما يثبت عليكم ثبوتا لازما أو غير لازم كالعقائد العقلية والأحكام الشرعية والآداب الخلقية.

(من السمع والطاعة) أي من سمعكم قول الله وقول الرسول وقول أولي الأمر وطاعتكم لهذه الأقوال والإذعان به والاتباع له (وإخلاص النصيحة) أي تصفيتها من الغش وهي اسم من النصح وهو الخلوص وكل شيء خلص فقد نصح، وهذه من الكلمات الجامعة إذ يندرج فيها النصيحة لله والنصيحة لكتابه والنصيحة لرسوله والنصيحة للأئمة (عليهم السلام) والنصيحة لعامة المسلمين، والأولى عبارة عن صحة الاعتقاد بوحدانيته وإخلاص النية في عبادته والثانية عبارة عن التصديق بالكتاب والعمل بما فيه والثالثة عبارة عن التصديق برسالة الرسول والانقياد له بما أمر به وما نهى عنه والرابعة عبارة عن إطاعة الأئمة في كل ما يقررون في الشرع وكل ما ينكرون فيه وعدم تجويز رد قولهم ومخالفتهم بوجه والخامسة عبارة عن إرشاد المسلمين إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية.

(وحسن المؤازرة) أي حمل بعضكم ثقل بعض بلا من ولا ضجر، والوزر: الثقل، والوزير: الموازر كالوكيل المواكل لأنه يحمل عن الأمير ثقله.

(وأعينوا على أنفسكم) تقريبا لها إلى كمالاتها وتبعيدا لها عن مشتهياتها (بلزوم الطريقة

ص:214


1- 2 - وفي بعض النسخ: (فانجعوا) بالنون والجيم أي أفلحوا بما يجب عليهم من الطاعة.

المستقيمة) وهي الطريقة النبوية والقوانين الشرعية التي يوجب التمسك بها استعداد النفس لقبول الألطاف الإلهية والأسرار الربانية والانجذاب عما يدعو إليه النفس الأمارة من الشهوات الدنيوية والزهرات الدنية الفانية فإنه إذا حصل هذا الاستعداد أمكن الترقي إلى أقصى ما هو المطلوب من الحقيقة الإنسانية (وهجر الأمور المكروهة) وهي التي نهى عنها الشارع، نهي تحريم أو نهي تنزيه فإن الاجتناب عن الأمور التنزيهية أيضا معد للنفس في تحصيل كمالاتها (وتعاطوا الحق بينكم) أي تناولوه بأن يأخذه بعضكم من بعض ليظهر ولا يضيع، وفيه ترغيب لكل أحد في إعلان الحق وعدم الاستنكاف عن أخذه ممن هو دونه في الفضل والكمال (وتعاونوا به) أي بالحق أو بالتعاطي (دوني) حال كون التعاون متجاوزا عني لأنه (عليه السلام) عيبة علمه تعالى ومعدن أسراره لا يحتاج إلى التعاون بأحد من الأمة في معرفة الحق أو حال كون الحق عندي وفيه حينئذ تحريض لهم على أخذ الحق منه (عليه السلام) كما يقال للإغراء بالشيء: دونك.

(وخذوا على يد الظالم السفيه) أي خذوا للفقير الملهوف والمستغيث المظلوم على يد السفيه الظالم لنفسه ولغيره، والسفيه هو الذي يحركه الهوى النفسانية إلى مشتهياتها وتميله القوى الشهوانية إلى مقتضياتها، وفي لفظة «على» إشعار بلزوم الأخذ وإن بلغ حد الضرب والجدال وغير ذلك من أنواع التهتك والتشدد.

(ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر) باللسان واليد وإن لم يمكن ذلك فبالقلب بالتباغض والتباين، وهذا أضعف المراتب. والمعروف قيل: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع، والمنكر بخلافه ولكن الأمر بالمندوبات والنهي عن المكروهات مستحبان غالبا.

(واعرافوا لذوي الفضل فضلهم) (1) أمر بتقديم ذوي الفضل وتوقيرهم والرجوع إليهم في

ص:215


1- 1 - قوله: «واعرفوا لذوي الفضل فضلهم» لما كان قريش وهم أصحاب أعلام الكفر والنفاق وأعداء الإسلام هم الذين تملكوا بعد رحلة النبي (عليه السلام) واستأثروا بالمال والغنائم وتوسعوا في المناهي واللهو واللذائذ واستذلوا عباد الله المؤمنين ومنعوهم من الفيء والأموال وانتقموا من أنصار النبي (عليه السلام) الذين كانوا في حياته مالك أزمة الأمور وبسيوفهم قهر الله قريشا وسائر الكفار وقتلوا صناديدهم وكان حقدهم كامنا في قلوب قريش حتى إذا ملكوا الأمر أظهروا أحقادهم وفعلوا ما ملأ التواريخ من الظلم والحيف، ثم لما قتل عثمان وبايعوا عليا (عليه السلام) وعلم الناس أنه (عليه السلام) يرجع الامر إلى العدل ونصرة الأنصار على ما كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه يبطل استئثار قريش بالملك والمال، ورفض الناس من أمر الحكومة وهاج الناس واستنشطوا، والعادة في أمثال هذه الوقائع والحوادث أن يبالغ بعضهم في الانتقام ويفضي بالأمر إلى الفوضى وقتل النفوس المتبرئة ونهب الأموال المحترمة ويغلوا في طلب التساوي كما كان السابقون غالين في الاستئثار ولذلك أمر (عليه السلام) أولا بالأخذ على يد الظالم السفيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم قال: واعرفوا لذوي الفضل فضلهم حتى لا يغلوا ولا يتمنوا الإفراط بعد التفريط ولا يتوقعوا المناصب الجليلة إلا بعلم وفضل وشجاعة، ولياقة كل بحسبه. (ش)

الأعمال والعقائد; لأن نظام الدين والدنيا ونظام الحقيقة الإنسانية وكمالها إنما يحصل بالفضل والعلم، وتفاوت أقدار الرجال إنما هو بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل والكمال.

(عصمنا الله وإياكم) عن سبيل الباطل والفساد (بالهدى) إلى سبيل الحق والرشاد، هذا دعاء شامل لمن تبعه من العباد إلى يوم المعاد (وثبتنا وإياكم على التقوى) وهي الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات تابعة للخوف الحاصل من مشاهدة آيات الوعيد وما صرحت به الدنيا من انصرام لذاتها وانقطاع شهواتها وما كشفت عنه عبرها من العقوبات النازلة على من خالف فيها ربه وأوقف عليها همه وحصر فيها قصده فإن من حبس قلبه على تلك المشاهدة أفاض الله تعالى عليه صورة خشيته وهي مستلزمة للتقوى ومن ثم قيل: المتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله وعقوباته العاجلة والآجلة وقاية من الطاعات وترك المنهيات.

(وأستغفر الله لي ولكم) ختم بالاستغفار للتنبيه على أنه الأصل العظيم للسالك في رفع الموانع وقطع العلائق المانعة من السلوك على وجه الكمال; لأن السالك وإن اجتهد في السير وبالغ في التقوى فهو بعد في مقام التقصير، والتقصير مانع عظيم، والرافع له هو الاستغفار، وأيضا للسالك مقامات كثيرة (1) بعضها فوق بعض إلى أن يبلغ أعلاها وهو مقام الفناء في الله، ولا ريب في أن كل

ص:216


1- 1 - «وأيضا للسالك مقامات كثيرة» زعم بعض الناس أن الدين عبارة عن العمل بظواهر الشرائع من العبادات والمعاملات والسياسات على ما يثبت في الفقه بأن يكون صحيحا فإن عمل بالواجب وترك المحرم فقد بلغ أعلى مراتب السعادة وليس وراء ذلك شيء وعلى هذا فلا يعقل أن يكون للسالك مقامات كثيرة لأنه إن لم يعمل بالظواهر فهو فاسق وإن عمل فهو مرتبة واحدة يشترك فيها الجميع، وترقى بعضهم حتى نظر في النية وجعل اختلاف الناس في العمل بنيه التنعم بالجنة أو الخوف من النار أو استحقاق الله تعالى العبادة موجبا لاختلافهم في درجات السعادة الأخروية، وبعضهم ترقى عن ذلك أيضا وجعل ما ورد في الأحاديث من مكارم الأخلاق أيضا من المؤثرات في سعادة الإنسان في الجملة لكن لا بحيث يوجب التخلق بمساويها عذابا في الآخرة وبعدا عن الله تعالى بل جعلوا الأخلاقيات أنزل في الرتبة من المستحبات الفقهية أيضا مثلا المضمضة والاستنشاق وغسل اليد قبل الطعام مؤثرة في الوصول إلى درجات النعيم ولا يضر الحقد والحسد وحب الدنيا والجاه شيئا إذا لم يظهر منهم عمل منهي عنه في الفقه، وأفرط جماعة في مقابلة هؤلاء وقالوا: يكفي التخلق بمكارم الاخلاق ولا يؤثر في سعادة الآخرة هذه الأعمال الظاهرة أصلا وربما يتركون الشرائع والاحكام بزعم أنها وضعت لتدبير السياسة الدنيوية ولا يبقى منه أثر في الآخرة أو هي آداب لحفظ صحة الأبدان كالسواك وغسل اليد ولا تأثير لها في تهذيب النفوس. والمذهب الحق متابعة ما ورد في الشرع سواء سمي فقها أو أخلاقا، فروعا أو أصولا، ويجب الجمع بين جميع الأوامر وترك جميع النواهي سواء تعلق بعمل الجوارح الظاهرة أو القلب والنفس وإن كان عمل الجوارح الظاهرة مشتركا بين جميع الناس ويفهمه كلهم ويستطيع امتثاله، بخلاف العقايد والأخلاق فالناس مختلفون فيها جدا والسلوك فيها عبارة عن التدرج في مراتبها. ثم إن تأثير الأعمال والاخلاق من جهة الإعداد وتهيئة قلب الإنسان بصفائه وتوجهه إلى الغيب لنزول بركات لا يدركها إلا من نالها، لا لأن نفس الأعمال ومكارم الاخلاق أمور مقصودة لذاتها بل لأنها أسباب لكمال آخر مقصود بذاته يبقى مع النفس بعد المفارقة عن البدن، ومعنى تجسم الاعمال أو الملكات ذلك، فالحسد مثلا أو الغضب أو حب الدنيا ملكات خبيثة بدنية والبدن آلة لوجودها بتأثر من الأوهام والشهوات البدنية فإذا زالت لم يبق علة لوجود الحسد وأمثالها لكنها ما دامت في الدنيا مصاحبة لقلب الإنسان منعت من التوجه إلى الغيب وأن يترقى إلى أن يعرف الله ويتحقق بمعرفته، وبعبارة أوفق بالاصطلاح: أن يفنى في الله ولا يتوجه إلى غيره بل يرى أنه ليس شئ غيره. (ش)

مقام سابق نقص بالنسبة إلى المقام اللاحق وكل مقام لاحق كمال بالنسبة إلى المقام السابق ومن هنا يظهر سر قولهم: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فلا ريب في أن السالك ما دام سالكا ولم ينته سلوكه إلى أرفع المقامات أو انتهى إليه ورجع إلى ما دونه لإعانة سائر السالكين فهو في مقام نقص، والنقص تقصير، والتقصير يوجب الاستغفار، ومن هنا ظهر وجه استغفار المعصوم لنفسه والله ولي التوفيق.

ص:217

باب النوادر

* الأصل:

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن سيف بن عميرة عمن ذكره، عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه» فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون يهلك كل شيء إلا وجه الله، فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما: إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي النعمان، عن سيف بن عميرة: عمن ذكره، عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) فقال: ما يقولون فيه؟) الغرض من هذا السؤال تخطئتهم وتنزيهه تعالى عما يقولون وتطهير قلب المخاطب عن ذلك ليستعد لقبول الحق; لأن التخلية مقدم على التحلية (قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله) أرادوا به الوجه المعروف فلذلك نزهه (عليه السلام) عن ذلك (فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما) حيث شبهوه بخلقه وجعلوه ذا وجه معروف (إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه) أي يؤتى الله من ذلك الوجه وهو الرسول وأوصياؤه (عليهم السلام) لأنهم طرق إلهية وأنوار ربوبية (1) بهم يتنور أذهان الخلائق لقبول فيض الحق

ص:218


1- 1 - قوله: «لأنهم طرق الهية وأنوار ربوبية» تفسير ألفاظ القرآن والحديث قد يكون مفهوميا وهو الأقل وقد يكون مصداقيا بعد أن يكون المفهوم معلوما وهو الأكثر، ولذلك قد يختلف التفاسير وجميعها صحيح لأنها جميعا مصداق مثل قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب) فمن فسره بالله تعالى أو بالملائكة أو بالوحي أو بالقيامة أو بغيبة صاحب الأمر أو غير ذلك جميعها صحيح ومن عمم فهو مصيب أيضا. والوجه هنا استعارة وأصله وجه الإنسان وهو الجانب الذي يقبل به على غيره ويراهم ويطلع عليهم ويقبل غيره عليه ويعرفونه ويتكلمون معه، وجل الخالق عن الجانب لكن يطلع على الناس ويراهم ويعلم أسرارهم ويقضي حوائجهم ويسمع دعاءهم، ويقبل الناس عليه ويعرفونه في الجملة ويطلبون منه ويستفيضون منه وجودهم وكمالهم وسعادتهم، فاستعير الوجه لهذا المعنى، ولما كان الأئمة (عليهم السلام) وسيلة لهم إلى ما ذكر في معنى الوجه صح إطلاق الوجه عليهم وتفسير الوجه بهم تفسير مصداقي بأظهر وأكمل وأولى ما يصدق عليه وجه الله تعالى، قال صدر المتألهين (قدس سره): فهؤلاء ساروا إلى الله وأعرضوا عما سوى الله ثم وقفوا مع الله فهم أجسام روحانيون وفي الأرض سماويون ومع الخلق ربانيون، أجساد أرضيه بقلوب سماوية وأشباح فرشية بأرواح عرشية نفوسهم في منازل سيارة وأرواحهم في فضاء القرب طيارة وأسرارهم إلى ربهم نظارة كائنين بالجثمان بائنين بقلوبهم عن مواطن الحدثان، ودايع الله بين خليقته وصفوته في بريته وصايا لنبيه خبايا عند صفيه لم يزل يدعو الأول الثاني ويخلف السابق اللاحق، لا يزال منهم قائمون بالحق داعون الخلق، منحوا رتبة الدعوة وجعلوا للمتقين إماما وقدوة، من اقتدى بهم اهتدى، ومن جحدهم ضل وغوى وتردى في غيابة جب الهوى. (ش)

ويستعد قلوبهم لسلوك سبيله، وقد روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: «من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه صلوات الله عليهم وهم الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته وقال الله تعالى (كل من عليها فان ويبقي وجه ربك) وقال عز وجل: (كل شيء هالك إلا وجهه) وإطلاق الوجه على هذا المعنى شايع، قال في المغرب: (فثم وجه الله) أي جهته التي أمر بها ورضيها. وينبغي أن يعلم أن الحصر المستفاد من «إنما» إنما هو بالنظر إلى ما قالوه أو بالنظر إلى كون المراد بالوجه ما ذكره (عليه السلام) هو المقصود الأصلي من هذه الآية وتنزيلها فلا ينافيه أن يكون للوجه تأويل آخر وهو ذاته تعالى كما ذكره بعض المفسرين ومعناه أن كل شيء في مرتبة ذاته هالك إلا ذاته الحقة بذاته، وقد أو ضحنا ذلك سابقا.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي» نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «كل شيء هالك إلا وجهه» قال: من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد (صلى الله عليه وآله) فهو الوجه الذي لا يهلك وكذلك قال: «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.

* الشرح:

عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) قال من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد (صلى الله عليه وآله) فهو الوجه الذي لا يهلك) هذا القول تفسير للوجه وضمير هو يعود إلى الموصول والمعنى أن كل شيء هالك في الدنيا والآخرة إلا من أطاع محمدا (صلى الله عليه وآله) ولا ريب في أن الأئمة الطاهرين أفضل وأشرف من أطاعه فهم المقصودون بهذا الوجه أولا وبالذات، ثم يندرج فيه كل من تبعهم إلى يوم القيامة الحمد الله رب العالمين (وكذلك قال: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) في بعض النسخ «ولذلك» باللام ويمكن أن

ص:219

يكون هذا الكلام استدلالا على المطلوب; تقريره من أطاع الرسول فقد أطاع الله ومن أطاع الله فهو وجه الله الذي يؤتى منه، ينتج من أطاع الرسول فهو وجه الله.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام النخاس، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا. وإمامة المتقين.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام النخاس، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نحن المثاني التي أعطاها الله محمد (صلى الله عليه وآله)) المثاني جمع مثنى أو مثناة من التثنية بمعنى التكرار وإنما سموا مثاني لاقترانهم بالقرآن وفي كتاب التوحيد:

«معناه» نحن الذين قرننا النبي (صلى الله عليه وآله) إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا وأخبر أمته بأنهما لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض» انتهى، ويبعد أن يراد بالمثاني القرآن ويكون حملها على نحن باعتبار أنهم (عليهم السلام) مظاهر القرآن والسنة أو باعتبار أن القرآن صار مثاني باقترانه بهم; لأن كل ذلك خلاف المتبادر من الحمل (ونحن وجه الله) إذ بهم يتوجه الخلائق إلى المعارف الإلهية والملة النبوية والكمالات النفسانية (نتقلب في الأرض بين أظهركم) بفتح الهمزة وضم الهاء جمع الظهر أي نتقلب بينكم لشيوع استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى أعني الإقامة بين قوم مطلقا أو نتقلب بينكم في أيام معدودة لما نقل عن بعض أهل اللغة أن قولهم لقيتهم بين الظهرانين معناه في اليومين أو في الأيام أو نتقلب بين ظهوركم وخلفكم لا بين قد أمكم فيكون كناية عن إعراض الخلق عنهم وشكاية عن عدم التفاتهم إليهم وجعلهم وراء ظهورهم (ونحن عين الله في خلقه) فلان عين من عيون الله أي خاصة من خواصه وولي من أوليائه، كما صرح به في النهاية، فالمعنى نحن خواصه وأولياؤه وحفظة دينه فيما بين خلقه لئلا يكون لهم على الله حجة (ويده) أي نعمته (المبسوطة بالرحمة على عباده) في الدنيا والآخرة، فاليد مجاز عن النعمة

ص:220

من باب إطلاق اسم السبب على المسبب لتقدسه تعالى عن الجارحة وكون اليد مبدأ للنعمة ظاهر.

والبسط يعني النشر وإن كان حقيقة في الأجسام إلا أنه من الاستعارات الشايعة التي قاربت الحقيقة (عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا) أي عرفنا في الدنيا والآخرة من عرفنا واعتقد بحقية ولايتنا وإمامتنا وأنكرنا من أنكرنا ولم يعتقد بها، وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الحجة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» (وإمامة المتقين) يحتمل رفع الإمامة وهو مصدر أممت القوم إمامة على الابتداء بحذف الخبر أي ولنا إمامة المتقين ويحتمل نصبها للعطف على ضمير المتكلم في جهلنا والإضافة بتقدير اللام أي جهلنا من جهل إمامة المتقين التي جعلها الله تعالى حقا لهم. وفي كتاب التوحيد: «فأمامه اليقين» الأمام بالفتح نقيض الخلف والضمير عايد إلى «من» والفاء للتعقيب، وفي الإتيان بالفاء دون ثم إشعار بقرب ذلك والمراد باليقين إما الموت وإما العلم االقطعي الذي يحصل لهم في النشأة الآخرة وعند الموت بحقية إمامة الأئمة (عليهم السلام) وفيه تهديد ووعيد لهم وإخبار بما يحصل لهم في ذلك الوقت من الحسرة والندامة.

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى جميعا، عن أحمد بن إسحاق عن سعدان ابن مسلم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفته.

* الشرح:

الحسين بن محمد الأشعري، ومحمد بن يحيى جميعا عن أحمد بن إسحاق عن سعدان بن مسلم عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا) يحتمل أن يراد بالأسماء الحسنى أسماؤهم (عليهم السلام) وإنما نسبها الله إليه لأنه سماهم بها قبل خلقهم كما دل عليه بعض الروايات ويحتمل أن يراد بها ذواتهم; لأن الاسم في اللغة العلامة وذواتهم القدسية علامات ظاهرة لوجود ذاته وصفاته، وصفاتهم النورية بينات واضحة لتمام أفعاله وكمالاته وإنما وصفهم بالحسنى مع أن غيرهم من الموجودات أيضا علامات وبينات; لما وجد فيهم من الفضل والكمال ولمع منهم من الشرف والجلال ما لا يقدر على وصفه لسان العقول ولا

ص:221

يبلغ إلى كنهه أنظار الفحول،فهم مظاهر الحق وأسماؤه الحسنى وآياته الكبرى فلذلك أمر سبحانه عباده أن يدعوه ويعبدوه بالتوسل بهم والتمسك بذيلهم ليخرجوا بإرشادهم عن تيه الضلالة والفساد ويسلكوا بهدايتهم سبيل الحق والرشاد.

* الأصل:

5 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن الهيثم بن عبد الله، عن مروان بن صباح قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده. ولسانه الناطق في خلقه. ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله.

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، عن الهيثم بن عبد الله، عن مروان بن صباح قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلقنا فأحسن خلقنا) بفتح الحاء أو ضمها والأول أنسب لفظا والثاني أحسن معنى (وصورنا فأحسن صورنا) أي صورنا الظاهرة والباطنة التي هي الإنسان في الحقيقة، والمراد بإحسانها خلقها وتصويرها على وجه الكمال من الإحكام والإتقان والتزيين بالكمالات الصورية والمعنوية والتحلية بالأخلاق النفسانية (وجعلنا عينه في عباده) أي «ديدبانه» فيما بين عباده فنراهم في حركاتهم وسكناتهم وأعمالهم ثم نشهد لهم وعليهم يوم القيامة (ولسانه الناطق في خلقه) لأنهم ينطقون بمراد الله تعالى من أسراره وأحكامه وشرايعه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومأوله وغير ذلك مما له مدخل في نظام الخلق وكمالهم في الدارين ولفظ اللسان استعارة (ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة) قد مر تفسيره وسنح لي الآن وجه آخر وهو أن هذا الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية بتشبيه رأفتهم ورحمتهم بعباد الله برحمة الرحماء بالأيتام وإمرار أيديهم على رؤوسهم فإن عباد الله في هذه الدار بمنزلة الأيتام كما دل عليه بعض الروايات، وهم (عليهم السلام) أرحم بهم من الأب الرحيم (ووجهه الذي يؤتى منه) لأنهم واقفون على سواء سبيل الحق ومزال الأقدام فوجب على السالك اقتفاء آثارهم والرجوع إلى أشعة أنوارهم لينتهي سيره إلى الله (وبابه الذي يدل عليه) المراد بالباب باب علمه الذي يدل سبحانه على ذلك الباب بقوله

ص:222

(وأتوا البيوت من أبوابها) أو يدل بذلك الباب عليه سبحانه فإن العلم هو الدليل على الله وعلى الخشية منه والانقياد له كما قال سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وفيه إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلى بابها» أو المراد به باب جنته ولفظ الباب على التقديرين مستعار ووجه المشابهة أن من أراد أن يكتسب علما ويدخل الجنة وجب أن يأتيهم أولا كما أن من أراد أن يدخل بيتا وجب أن يأتي بابها أولا.

(وخزانه في سمائه وأرضه) أي جعلنا فيما بين أهل سمائه وأهل أرضه خزان علمه وأسرار غيبه المشار إليها بقوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) أو خزان جنته على معنى أن من جاء يوم القيامة بولايتنا دخل الجنة وإلا فلا، أو خزان أمره على الإطلاق ولفظ الخزان على التقادير استعارة ووجه المشابهة تصرفهم بمنع العلم وإعطائه أو بمنع الجنة وإعطائها أو بمنع نزول المنافع من السماء وخروج الكامنات من الأرض والإذن بها مثلا كما أن شأن الخازن للشيء كذلك (بنا أثمرت الأشجار) أي بوجودنا وبركتنا أو بأمرنا صارت الأشجار مثمرة أما الأول فلأن وجودهم سبب لبقاء نظام العالم فلو لم يكن وجودهم لم يكن عالم ولا نظام ولا أشجار ولا أثمار، وأما الثاني فلأنهم المدبرون في هذا العالم بإذن ربهم (1).

ص:223


1- 1 - قوله: «فلأنهم المدبرون في هذا العالم بإذن ربهم» يعني لا على جهة التفويض إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وكلما يرى من تأثير غيره سواء كان روحانيا أو جسمانيا فإنما هو بإذن الرب تعالى; لأن وجود كل موجود معلق بالواجب تعالى فكيف بفعله؟ ومثاله: المرآة ينعكس منها نور الشمس على الجدران لا تنسب الإنارة إلى المرآة وإنما هي للشمس والمرآة واسطة ونسبة إنماء الأشجار وإيناع الثمار وإجراء الأنهار إلى وجود الأئمة (عليهم السلام) في هذا الحديث وغيره ليس غلوا وتفويضا بل يتبرأ الشيعة من الغلو والتفويض كما يتبرأ من النصب. وقد اخترع جهلة أهل الحديث من متأخري العامة مذهبا في التوحيد مبنيا على نفي تأثير شيء في شيء لا بإذن الله ولا بغير إذن الله وهو مذهب مادي محض ودهري صرف، وقال مؤسس طريقتهم: من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء وقال: من علق تميمة فقد أشرك وقال: من الشرك: النذر لغير الله والاستعاذة بغير الله، وقال: في رسول الله نزل (وليس لك من الأمر شيء) وإنه لا يغني شيئا عن أقاربه. وقال: الغلو في الصالحين سبب الكفر، وعدوا من الغلو إكرام قبورهم وعبادة الله تعالى عندها. وقال: من الشرك: الطيرة والفأل والعدوي والتنجيم وحب غير الله، ومن الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا وجحد الأسماء والصفات وإسناد النعم وأسبابها إلى غير الله تعالى - إلى غير ذلك مما يدل على سخافة عقل قائله وعدم تدبره إذ لا ينكر هو تأثير النار في الحرارة، والسراج في الإنارة والعدوي في كثير من الأمراض، والبرد في هلاك النبات والحيوان، والدواء في علاج المرضى فإن كان نسبة التأثير بالتسبيب والإعداد إلى جميع ذلك كفرا وشركا لم يبق على التوحيد دليل ولا للموحدين حجة بل ثبت قول الكفار ولم يكن للمؤمنين سبيل إلى ردهم والاحتجاج عليهم، وإن كان هذه الأسباب مؤثرة بإذن الله وأمره كما مثلنا من مثال المرآة ونور الشمس ولم يكن ذلك شركا لم يجز الفرق بين تأثير الشمس في إنماء الأشجار وإيناع الثمار بإرادة الله وبين تأثير أرواح الأئمة (عليهم السلام) بإذن ربهم إلا أن يكون رجل ماديا دهريا يتعقل تأثير القوى الجسمانية كالنور والحرارة والدواء ولا يتعقل تأثير القوى الروحانية كهمة الأولياء وتأثير الأدعية والتمائم فيستبشع الثاني وينسبه إلى الشرك ولا يستبشع الأول ولا يشعر بأنه في الباطن مادي، وهذا التوحيد المخترع متولد من المادية وإلا فأي فرق بين نسبة علاج المرضى إلى الدواء أو إلى التمائم وكلاهما بإذن الله لا محالة لكن الإنسان قد يندفع إلى اتخاذ رأي أو العمل بشيء من غير أن يعلم داعيه النفساني من شهوة أو حب أو بغض أو غير ذلك. وإن قيل لعل التمسك ببعض التمائم والفأل والتطير من الخرافات التي لم تقم عليها دليل ولذلك أنكرها قلنا: التمسك بالخرافة شيء والشرك شيء آخر وبينهما بون بعيد. وإن قيل: لعل التوسل بمثل الدواء والغذاء والوسائل المادية لا يوجب الشرك دون التوسل بالأسباب الروحانية، قلنا: نطلب بيان الفرق; لأن الشرك لا يفرق فيه بين أن يجعل جسم شريكا لله تعالى أو موجودا روحانيا بل الأول أفحش فإن كان التوسل شركا كان شراء الخبز واللحم واللباس أيضا شركا لأنه توسل بسبب لغرض حصول الشبع وبقاء السلامة ولا يجوز أن يطلب السلامة إلا من الله تعالى. وقد روي أن مروان بن الحكم طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رأى أبا أيوب الأنصاري مكبا على القبر الشريف يتبرك بترابه ويقبله فهاج حقده القديم على الرسول وعلى الأنصار ولم يستطع أن يرى تعظيم الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد موته وأخذ بقفا أبي أيوب ورفعه وقال: هل تعرف ما تفعل إنما هذا شرك وعبادة لغير الله تعالى، فنظر إليه أبو أيوب وقال: مالك والدخول في هذه الأمور التي نحن أعلم بها منك فبسيوفنا أسلم قومك وكانوا مشركين ونحن علمناكم الحق وعبادة الله تعالى. (ش)

(وأينعت الثمار وجرت الأنهار) ينع الثمر بتقديم الياء على النون وأينع إذا أدرك ونضج، والينيع واليانع مثل النضيج والناضج لفظا ومعنى (وبنا ينزل غيث السماء ونبت عشب الأرض) (1) في بعض النسخ «ينبت» على صيغة المضارع والعشب بضم العين وسكون الشين المعجمة الكلاء الرطب ولا يقال له حشيش حتى يهيج (وبعبادتنا عبد الله) أصل العبادة الخضوع والذل والطاعة والانقياد، ولا ريب في أن العبادة لهم هي العبادة لله تعالى، ولذلك قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي

ص:224


1- 1 - قوله: «وينبت عشب الأرض» قال صدر المتألهين (قدس سره) جميع ما ذكره (عليه السلام) في هذا الحديث وغيره حق وصدق في شأنهم من غير إطراء مبالغة وهو جد كله في حقهم من غير مداهنة وتجوز - حاشاهم - عن التكلم بكلام شعري أو خطابي مجرد عن اليقين، ونحن بحمد الله وهدايته عرفناهم كذلك لا بمجرد التقليد والسماع والنقل والإجماع أو تعصبا لمذهب دون مذهب أو ألفا بطائفة دون أخرى بل بنور البصيرة والبرهان والكشف والعيان واعلم أن ثبوت هذه الدرجة للانسان من كون روحه في أعلى عليين لا ينافي كونه بعد في هذا العالم الأسفل لما سبقت الإشارة إلى أن أولياء الله قد تحولت بواطنهم وحشروا إلى الله في دنياهم فصارت أرواحهم في المحل الأعلى وأجسادهم في المنزل الأدنى، ثم شبهه بروح المؤمن عند نومه يرتقى إلى عالم الملكوت حيث يرى ويشاهد رؤيا صادقة وأمورا غائبة عن هذا العالم وليست بأضغاث أحلام، فدل على أن الروح انقطعت علاقته بهذا البدن لكن لا بالكلية وإلا لفسد المزاج وانخلعت صورته. وقال أيضا في شرح الحديث الثالث: هذا الحديث صريح في أن لا واسطة بينه تعالى وبين أرواحهم وهذا يوجب كون ذواتهم في مقام القرب معدة مع العقل الأول والملك الأقرب والقلم الأعلى، ثم ذكر شواهد على ذلك من الأحاديث، ثم قال: وجميع ذلك دال على أن للانسان الكامل مرتبة في البداية تلو مرتبة الحق الأول وهي مرتبة العقول المفارقة والجواهر القدسية ينزل منها عند النزول من الحق إلى الخلق وهي بعينها مرتبته التي يرجع إليها عند الصعود من الخلق إلى الحق. انتهى واقتص أثره العلامة المجلسي (رحمه الله) في تطبيق ما ذكره الحكماء في العقول على أرواح الأئمة (عليهم السلام). (ش)

الأمر منكم) وقال (من يطع الرسول فقد أطاع الله) فطاعتهم طاعة الله تعالى وطاعته طاعتهم، فمن لم يطعهم وظن أنه أطاع الله فهو من (الأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).

(ولولا نحن ما عبد الله) أصلا; لأن وجودهم سبب لوجود عالم الأمر وعالم الخلق أعني عالم الروحانيات وعالم الجسمانيات، فلو لم يكن وجودهم لم يكن وجود في عالم الإمكان فلم يكن عابد لله أصلا، أو المراد ما عبد الله في هذه الأمة; لأن العبادة لا يمكن إلا باتباع الشريعة والالتزام لأحكامها ولا يمكن ذلك إلا بمعرفتها ومعرفة كيفية العمل بها ولا يمكن ذلك إلا ببيان صاحب الشريعة والقائم بها وإرشاده وتعليمه، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة الإمام وحقية إمامته والتصديق بولايته ليقتدى به; لأن علمهم بالشرايع على أفضل المراتب وأكملها.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة ابن بزيع (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) فقال: إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه، لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه. فلذلك صاروا كذلك وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك وقد قال:

«من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها» وقال: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنشأهما (2) لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما، لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغير، وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم إن شاء الله تعالى.

ص:225


1- 1 - حمزة بن بزيع من أصحاب أبي الحسن موسى وابنه الرضا (عليهما السلام) على ما صرح به الشيخ في رجاله، وقيل: واقفي ولم يدرك الصادق (عليه السلام) فلابد فيه من إرسال.
2- 2 - في بعض النسخ [بأشباههما].

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: فلما آسفونا) أي أغضبونا وأحزنونا حزنا شديدا يقال:

أسف عليه أسفا أي غضب وأسفه أي أغضبه والأسف. أشد الحزن (انتقمنا منهم) بإهلاكهم واستيصالهم(فقال: إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا); لأن الأسف من تغير المزاج وثوران القوة الغضبية وانفعال النفس عن المكاره الواردة عليها وكل ذلك على الله محال (ولكنه خلق أولياء لنفسه) يحبهم ويحبونه ويذكرونه في جميع الحالات ولا يغفلون عنه في وقت من الأوقات (يأسفون ويرضون) أي يغضبون على من خالف حبيبهم ويحزنون به أشد الحزن ويرضون عمن أطاعه ويتبع مرضاته (وهم مخلوقون مربوبون) خلقهم الله على أحسن الصور والهيئات ورباهم إلى ما قدر لهم من الحالات والكمالات (فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه) لكمال القرب والاتصال بينه وبينهم حتى يظن الجهلة والغلاة أنهم هو، وليس كذلك لوجوب المغايرة بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب.

(لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه) يدعون عباد الله بعد خوضهم في بحار الفتن والآفات وتوغلهم فيما اكتسبوه من الآثام والسيئات إلى الإقرار بوجوده ووحدانيته في الإلهية وتفرده في الربوبية وتوحده باستحقاق الطاعة والعبادة، ويدلونهم على ذلك بالحجج البالغة والدلائل القاطعة والبراهين الواضحة (فلذلك صاروا كذلك) أي فلذلك المذكور من كونهم أولياء الله والدعاة إليه والأدلاء عليه صاروا بحيث يكون رضاهم رضاه وسخطهم سخطه حتى نسب سبحانه أسفهم بقوله (فلما آسفونا) إلى ذاته المقدسة عن الاتصاف به.

(وليس أن ذلك) أي ليس المقصود أن الأسف (يصل إلى الله تعالى كما يصل إلى خلقه); لأن ذلك محال كما ستعرفه (لكن هذا) أي نسبة أسف الأولياء إلى نفسه في هذه الآية.

(معنى ما قال من ذلك) القبيل.

(وقد قال: من أهان لي وليا) أي من استحقر وليا لي واستخف به وأذله (فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها) مبارزة الرجل ظهوره من الصف طلبا للمقاتل، فقد نسب سبحانه المحاربة التي من شأنها أن تكون وصفا للولي لتعلق الإهانة به إلى نفسه المقدسة تعظيما لوليه وتوقيرا له حتى كان محاربته محاربة ذاته المقدسة (وقال: (ومن يطع الرسول فقط أطاع الله) وقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)) جعل الله سبحانه إطاعة الرسول وبيعته ويده إطاعة

ص:226

الله وبيعته ويده (فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك) من أنه تعالى جعل ما للأولياء وعليهم لذاته المقدسة وعليها. وهذا شايع بين المحب والمحبوب إذا كانت المحبة في غاية الكمال.

(وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك) في كونه وصفا له تعالى مجازا باعتبار أنه وصف لوليه حقيقة، ولما أشار إلى أن نسبة الأسف إليه تعالى مثل نسبة الطاعة ونظايرها في الآيات المذكورة إليه وبذلك لا يثبت امتناع اتصافه بالأسف، أشار إلى البرهان عليه تحقيقا لقوله وليس أن ذلك يصل إلى الله تعالى كما يصل إلى خلقه بقوله:.

(ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر) الضجر - محركة -: الغلق من الغم.

(وهو الذي خلقهما وأشباههما) الواو الأولى للحال والثانية للعطف على الأسف أو على مفعول خلقهما، والمراد بأشباههما نظايرهما التي نسبت إليه سبحانه (لجاز لقائل هذا) أي هذا القول وهو أن الأسف والضجر يصل إلى الله (أن يقول أن الخالق) للأشياء الواجب لذاته (يبيد) أي يهلك وينقطع وجوده (يوما ما) وفي وقت من الأوقات (لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغير); لأن الغضب هو ثوران القوة والتغير على الغير لقصد الانتقام والتشفي. والضجر اضطراب النفس وتغيرها خوفا من فوات المقصود أو لحوق الضرر (وإذا دخله التغير لم يؤمن عليه الإبادة) أي إهلاك التغير إياه; لأن التغير المفرط كثيرا ما يهلك صاحبه دفعة وقد يورث أمراضا أخر مهلكة ولو بعد حين، وفناء الواجب بالذات وإبادته ممتنع (ثم لم يعرف المكون من المكون ولا القادر من المقدور عليه ولا الخالق من المخلوق) لوقوع التشابه بينهما باعتبار اتصاف كل منهما بصفات الآخر ولاشتراكهما في معنى الإمكان والحدوث; لأن كل متغير ممكن حادث، والظاهر أن هذا دليل آخر على المطلوب (تعالى الله عن هذا القول) المستلزم لتجويز الفناء على الخالق وعدم الفرق بينه وبين المخلوق (علوا كبيرا) في وصف العلو بالكبير إشعار بأنه لا يبلغ أحد كنه علوه تعالى (بل هو الخالق للأشياء) كلها في سلسلة نظام الوجود (1) (لا لحاجة) إلى شيء منها لأنه الغني

ص:227


1- 1 - قوله: «في سلسلة نظام الوجود» السلسلة والنظام يدلان على الترتب والتقدم والتأخر، مثلا: إذا ترتب علل ومعلولات متعددة كحركة جسم تكون علة لحركة جسم آخر وهي لآخر وهكذا كحلق السلسلة إذا مددت إحداهما اتبع الأولى الثانية، والثانية الثالثة، فينتظم في ذهن الإنسان من تصور الترتيب سلسلة على ما ذكر، وإن لم تكن العلل والمعلولات محسوسة كتصور معنى أوجب تصور معنى آخر وهو أوجب تصور معنى ثالث أو الحسد في النفس أوجب الحقد، والحقد أوجب الغضب، والغضب أوجب إرادة الانتقام. فإن هذه الأمور الغير الجسمانية أيضا توجب تصور سلسلة منتظمة وقد يكون جميعها في زمان واحد لكن يتصور فيه تقدم وتأخر ويتعقل شيء كالزمان مسمى عند السيد الداماد (قدس سره) بالدهر وهو غير الزمان ويستلزم تصور معنى حدوث سماه بالحدوث الدهري وهو أشبه بالزماني فإن الزمان أيضا يتمثل من ترتب أمور متقدمة ومتأخرة كالدهر وقالوا: الدهر وعاء الثابتات وهو ملاك التقدم والتأخر فيهما كما أن الزمان وعاء المتغيرات وهذا الوعاء أمر ذهني لا خارجي سواء كان زمانا أو دهرا، ومنشأ انتزاعه الموجودات المترتبة المتسلسلة ويلحق بهذين الوعاءين معنى آخر تصوري يضاف إلى ذات الله وأسمائه وصفاته حيث لا تأخر ولا تقدم فيها ومرجعه إلى نفي الدهر والزمان أي نفس التقدم التأخر والترتب والعلية والمعلولية وربما يقال: الزمان للمتغيرات والدهر للثابتات إن اعتبرت مقيسة إلى المتغيرات، والسرمد للثابتات مقيسة بعضها إلى بعض وهي اصطلاحات للتفهيم والتفريق. (ش)

المطلق ولأن الاحتجاج نقص والنقص من لواحق الإمكان.

(فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه) يعني استحال تحديده وتعيينه بأنه شيء فيه صفات معلومة وكيفيات مخلوقة مثل الغضب والضجر و أمثال ذلك وإلا لزم احتياجه في تمام كماله إلى تلك الصفات والكيفيات هذا خلف (فافهم إن شاء الله تعالى) (1) ما أشرنا إليه وأوضحنا لك والله ولي التوفيق.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن محمد بن حمران، عن أسود ابن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأشأ يقول ابتداء منه من غير أن أسأله: «نحن حجة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله، ونحن عين الله في خلقه، ونحن ولاة أمر الله في

ص:228


1- 1 - قوله: «فافهم إن شاء الله» هذا الحديث الشريف يشتمل على دقائق وأسرار لا يهتدى إليها إلا من أيده الله بروح منه من الراسخين في العلم أشار إلى بعضها الشارح في تضاعيف كلامه، ثم إنه لا ينبغي أن يتوهم من أولى فقرات الحديث الحلول الذي يقول به عوام الصوفية; لأن مثل قوله تعالى (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) و (ويد الله فوق أيديهم) يدل على تخصيص ذلك بالنبي «ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» يدل على تخصيصه بالأولياء، ومبنى الحلول الذي يقولون به التعميم في كل شيء، نعم ينطبق الحديث على الفناء الحكمي في الأولياء وانهماك إرادتهم في إرادة الله واستهلاك ذاتهم في ذات الله في السلوك إليه وقطع نظرهم عما سواه وبينه وبين الحلول المتبادر من قولهم فرق عظيم، على أن الحلول يدل على ثبوت الممكن بنفسه واستقلاله في الوجود حتى يحل فيه شيء وهو بمعزل عن التوحيد وقوله «هو الذي خلقهما وأشباههما» يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يتأثر عن مخلوقه وهو واضح; لأن وجود المعلول متعلق بالعلة ولا يصدر عن المعلول فعل إلا بتأثير العلة فيلزم أن يتأثر الواجب عن نفسه وهو باطل وكيف يؤثر فيه ما هو ابداه وخلقه، وقوله (عليه السلام) دخله التغير يدل على أن التغير ينافي الوجوب لأنه لا يتحقق التغير إلا بسلب صفة وإثبات أخرى وهو لا يمكن إلا بأن يتأثر ذاته عن شيء خارج عن ذاته، وهو باطل، أو يكون ذاته بذاته في معرض الزيادة والنقصان وهذا أمارة الإمكان; لأن ما ينقص منه شيء بذاته في معرض أن ينقص منه شيء ثم شيء حتى لا يبقى منه شيء لأن ذاته واحد متشابه. فإن قيل: فليس كل جائز واقعا. قلنا: نفس جواز النقصان، وهو في معنى جواز العدم ينافي وجوب الوجود كما ذكرنا في معنى الحدوث الذاتي، ولو كان واجب الوجود دائما ولكن أمكن له الزوال لم يكن واجبا; لأن إمكان تطرق العدم إليه مع كونه دائما يوجب إمكانه واحتياجه في الوجود إلى العلة وقد ذكرنا أن صفة الإمكان لا تنافي الدوام في نظر العقل وإن لم يكن واقعا عند أهل الكلام. (ش)

عباده».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن محمد بن حمران، عن أسود ابن سعيد قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأنشأ يقول - ابتداء منه من غير أن أسأله -: نحن حجة الله) على عباده، أي أدلته وعلامته التي بها يهتدون إليه سبحانه، إذ بنا يعرفون وعده ووعيده وصراطه وغاية وجودهم، وبنا يحتج الله تعالى عليهم يوم القيامة لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) (ونحن باب الله) أي باب علمه وتوحيده وأحكامه وأسراره وجميع ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) وذلك ظاهر إذ كل أحد لم يسمع ذلك منه (صلى الله عليه وآله) ولا يجوز له التكلم فيه برأيه على قدر عقله فوجب أن يعلمه ممن يقوم مقامه بأمره وأمر ربه وهم الأئمة (عليهما السلام) فهم أيضا باب هذه المعارف ولا يدخل أحد بيت المعرفة إلا بهذا الباب.

(ونحن لسان الله) هذا واضح لأنهم يفصحون عن أوامره ونواهيه ويظهرون مراده منهما وينطقون بالمصالح العالية والحكم البالغة.

(ونحن وجه الله) إذ بهم يتوجه الخلائق إلى مقاصدهم ومراشدهم التي تنجيهم من الظلمات البشرية، وتوصلهم إلى مقام القرب منه تعالى (ونحن عين الله في خلقه) لأنهم الناظرون إلى المصالح الكلية والجزئية والمعاهدون لأذهان الخلق فيما يصلح لها من العقايد الدينية والمرشدون لنقوسهم إلى الأخلاق والقوانين الشرعية (ونحن ولاة أمر الله في عباده); لأن ولاية أمور المسلمين وإمارة المؤمنين وخلافة الرسول الأمين ثابتة لهم لخصائص موجودة فيهم وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة فهم الناصرون لله والقائمون بأوامره والذابون عن دينه.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حسان الجمال قال: حدثني هاشم بن أبي عمار الجنبي قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أنا عين الله، وأنا يد الله، وأنا جنب الله، وأنا باب الله.

*الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حسان الجمال، قال: حدثني هاشم بن أبي عمار الجنبي) ضبطه بعض الأصحاب بفتح الجيم

ص:229

وسكون النون قبل الباء الموحدة، والجنب: حي من اليمن ينسب إليه حصين بن جندب الجنبي وأبو عمار الجنبي، وهاشم بن أبي عمار هذا من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) وهو غير هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وضبطه بعضهم بكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحت قبل الباء الموحدة منسوب إلى جيب وهو حصن قريب من القدس (قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أنا عين الله وأنا يد لله) أي قدرته أو نعمته (وأنا جنب الله) الجنب في اللغة الأمير وهو (عليه السلام) أمير من عند الله تعالى على خلقه، والخلق مأمورون باتباعه في جميع الأمور لأنه سبب لمن اهتدى به في الوصول إليه سبحانه، ويحتمل أن يكون المراد أنه (عليه السلام) جنب رحمة الله والرجاء فمن رجا بالله وأراد رحمته وتولى به (عليه السلام) قضى رجاءه وأوصله إلى رحمة الله، ومن تبر أعنه أبعده عن رحمته (وأنا باب الله) أي باب حكمته التي عليها العقايد والأعمال والأخلاق والسياسات ونظام الدين والدنيا.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة ابن بزيع، عن علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) قال: جنب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم.

* الشرح:

محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع، عن علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام في قول الله تعالى: (يا حسرتي) أقبلي فهذا أوان إقبالك ونزولك (على ما فرطت) أي قصرت (في جنب الله قال: جنب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم) وهو المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين، والمراد بالمكان الرفيع كونهم جنب الله وأميره بالاستحقاق وعلو شرفهم وسمو نسبهم وضياء عقولهم بأنوار الأسرار الإلهية حتى أنهم يرون بأبصار بصايرهم ما لا يراه الناس ويسمعون بآذان ضمائرهم ما

ص:230


1- 1 - قوله: «من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)» قال صدر المتألهين: مجهول الاسم والصفة. قوله «عين الله وباب الله ويد الله» وأمثال ذلك ليس المراد منها الجسمية والحلول ولا يلزم منه الغلو إذ لكل ممكن حظ من فيض الواجب تعالى (وهو معكم أينما كنتم) (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وللأولياء الحظ الأوفر. (ش)

لا يسمعه الناس؟ إذ هم يمرون على لطائف غيبية وشواهد عينية وفرائد ذهنية لا يمر عليها غيرهم لتعلق نفوسهم بالهيئات البدنية وانغماسها في العلايق الدنيوية، فصار أولاء القاصرون مأمورين باتباع هؤلاء الكاملين الذين طهرهم الله عن درن تلك الهيئات وخبث تلك التعلقات حتى صارت نفوسهم كمرآة مجلوة حوذي بها شطر الحقايق الإ لهية فجلت وانتقشت فيها، فشاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة والعرفان وسبيل الهلاك والخسران وما بينهما، فسلكوا على بصيرة وهدوا الناس على يقين، فمن تبعهم فله الشرف والكرامة، ومن تخلف عنهم فله الحسرة والندامة.

* الأصل:

10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن علي بن الصلت، عن الحكم وإسماعيل ابني حبيب، عن بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى، ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى.

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن علي ابن الصلت، عن الحكم وإسماعيل (1) ابني حبيب، عن بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى) توضيح ذلك أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، ثم خلق محمدا وأوصياءه الطاهرين (2) صلوات الله عليهم أجمعين وهم كانوا أرواحا

ص:231


1- 1 - قوله: «الحكم وإسماعيل ابني حبيب» قال صدر المتألهين: هما مجهولان غير مذكورين في كتب الرجال التي رأينا، انتهى. وظاهر أنهما لم يكن لهما كتاب معروف وإلا لذكرهما الشيخ والنجاشي وإنما أخذ الكليني هذا الحديث من كتاب بعض المقدمين عليهما في الأسناد مثل علي بن الصلت أو غيره. (ش)
2- 2 - قوله: «كان ولم يكن معه شيء ثم خلق محمدا» قال الحكماء: أول ما صدر عن الواجب تعالى جوهر مجرد أي غير جسماني ولا متعلق بجسم وهو مدرك عاقل وسموه العقل الأول. أما عقلا فلكونه مدركا أما كونه أول فلأنه أول موجود صدر عن الواجب، وقد روى في أول الكتاب حديث فيه أيضا، ثم إن بعض العلماء كصدر المتألهين والعلامة المجلسي (رحمهما الله) حملوا العقل الأول على نور خاتم الأنبياء (عليهم السلام) بل العقول مطلقا على أرواح الأئمة (عليهم السلام) كما مر، لأن أرواحهم كانوا مدركين للكليات وهم أول ما صدر قبل الأجسام، فصح بحسب اللغة والاصطلاح إطلاق العقل على أرواحهم، وأما تقديم الروحانيات على الجسمانيات في الخلق فيجب أن يعد من الفطريات كالأربعة زوج، ولعله متفق عليه بين من يعترف بموجود مجرد روحاني، والقائل بتقدم الجسم على الروح والعقل كأنه من الماديين الملاحدة الذين يجعلون العقل والفكر من أحوال المزاجات. وروى صدر المتألهين في معنى كلام الشارح حديثا عن الشيخ المفيد عن النبي (صلى الله عليه وآله): لما أسري به إلى السماء السابعة ثم أهبط إلى الأرض يقول لعلي بن أبي طالب: يا علي إن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء معه فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله فكنا أمام عرش رب العالمين نسبح الله ونحمده ونهلله وذلك قبل أن يخلق السماوات والأرضين فلما أراد الله أن يخلق آدم خلقني وإياك من طينة عليين. ثم قال بعد نقل روايات في هذا المعنى: وجميع ذلك دال على أن للإنسان الكامل مرتبة في البداية تلو مرتبة الحق الأول وهي مرتبة العقول المفارقة والجواهر القدسية ينزل منها عند النزول من الحق إلى الخلق وهي بعينها مرتبته التي يرجع إليها عند الصعود من الخلق إلى الحق. وقال قبل ذلك: هذا يوجب كون ذواتهم في مقام القرب متحدة مع العقل الأول. إلى آخر ما قال: (ش)

نورانيين في ظلة خضراء يسبحونه ويقدسونه ويهللونه ويمجدونه، ثم خلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم، وفوض تعليمهم للمعرفة والتوحيد والعبادة إلى محمد وآله الطاهرين، فهم معلمو الملائكة (1) ومن دونهم في ذلك الوقت وهم أيضا أول القائلين ب (بلى) عند أخذ الميثاق ب (ألست بربكم)، ثم بإقرارهم وتعليمهم أقر من أقر، وهم أيضا أول العارفين وأول العابدين وأول الموحدين بعد ظهورهم في ديجور الإمكان وتعلق أرواحهم المطهرة بأبدانهم المقدسة إذ كان الناس كلهم عند ذلك جهالا سالكين لتيه الضلالة والغواية، ثم بنور هدايتهم وحد الله وعرفه وعبده من أخذت يده العناية الأزلية (ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى) أشار إلى أن سلوك سبيل الله تعالى لا يمكن إلا بالتوسل بمحمد (صلى الله عليه وآله) (2) لأنه حجاب الله المرشد إلى كيفية سلوك طريقه الموصل إليه والمبين لمراحله

ص:232


1- 1 - قوله: «فهم معلمو الملائكة ومن دونهم» وبذلك يتضح جواب أهل الظاهر عن شبهة يبدونها هنا وهي أن أئمتنا (عليهم السلام) كانوا متأخرين في الوجود زمانا عمن قبلهم من الحكماء والموحدين والأنبياء فكيف يمكن حصر تعليم التوحيد والمعارف والعبادة فيهم على ما هو مفاد قوله «بنا عبد الله وبنا عرف الله»؟ وكيف يتصور كونهم علة فاعلية أو غائية على ما هو مفاد الحديث الخامس من هذا الباب؟ ثم المراد من كونهم علة غائية أو فاعلية ليس العلية المطلقة; لأن الممكن ليس له علة مطلقة إلا واجب الوجود بذاته فهو الأول والآخر والمبدأ والغاية، وكل شيء سواه تعالى إنما يكون واسطة أو معدا كالدواء لعلاج المرضى، والشمس لإضاءة الأرض، والعقول للأجسام، وليست وساطتها بمعنى تفويض الامر إليها كما يتوهمه من لا بصيرة له، وكون الإنسان الكامل علة غائية على ما هو مفاد «خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي» وقوله «ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية إلى قوله - إلا لأجلكم ومحبتكم» ليس إلا أنهم في الممكنات غاية لساير الممكنات، وإنا لا نعلم في هذا العالم الأدنى موجودا أشرف من الإنسان، فصح أن يجعل ساير الأشياء مخلوقة لأجله وهو غاية لها إذ الغاية يجب أن يكون أشرف من المقدمات، وإذا كان بعض أفراد الإنسان أشرف من غيرهم صح أن يجعلوا غاية لسايرهم، وإذا رأينا أن بدن الإنسان ينهدم ويفسد ولا يبقى على صورته تحقق لدينا أن بدنه لا يكون غاية بل الغاية الحقيقة النورية المجردة، ولو لم تكن هي غاية لم يكن للعالم الأدنى غاية أصلا، والحكيم تعالى لا يفعل شيئا بلا غاية، فالغاية إنما هي الحقيقة المجردة النورية للإنسان الكامل. (ش)
2- 2 - قوله: «لا يمكن إلا بالتوسل بمحمد (صلى الله عليه وآله)» ولا يجوز في سلوك الطريق إلى الله متابعة غيره، سواء كان غيره نبيا; لنسخ دينه، أو فيلسوفا مكتفيا بعقله; إذ لا يجوز تقليد غير المعصوم، والفلاسفة غير معصومين من الخطاء; لأنك ترى فيهم الاختلاف في المسائل أكثر من اختلاف كل فرقة وملة ففيهم المادي الملحد المنكر للصانع كذي مقراطيس وابيقورس وفيهم المؤمن الموحد التابع لشرائع الأنبياء كنصير الدين الطوسي وبينهما مراتب غير متناهية وأوساط لا تحصى، ولا يؤخذ ممن يكتفى بعقله إلا ما أثبته بالدليل العقلي ولا يعتمد عليه بالتقليد، فلا يؤخذ من الفلاسفة كلام ورأى إلا بدليل وليس هذا متابعة لهم وتوسلا بهم بل متابعة للدليل وتوسل بالعقل ولم نجد شيئا عندهم ثابتا محققا إلا وهو مذكور في الأحاديث مشار إليه أو مصرح به، وليس فائدة تتبع كتب الحكمة وتدبر كلام الفلاسفة فيما يتعلق بالإلهيات إلا تشحيذ الذهن وتنبيهه لفهم أسرار الحديث كفائدة علم الكلام والأصول لهذا الغرض بعينه; إذ لا يمكن فهم خطب أمير المؤمنين في التوحيد وحجج الأئمة خصوصا الرضا (عليه السلام) إلا لمن تعمق في الحكمة والمعقول وأدلة الأصول، كما لا يمكن استنباط الاحكام الفرعية من الأحاديث إلا بالتعمق في أصول الفقه وما يتوقف عليه هذا العلم. (ش)

ومنازله وما لا بد منه للسائرين فيه من العلم والعمل، ثم لا يمكن التوسل بذلك الحجاب إلا بالتوسل بأوليائه الطاهرين وأوصيائه المعصومين لأنهم ورثة علمه وسالكون مسلكه بتعليمه والمنزهون عن الجور والطغيان والمتصفون بالعدل والعرفان.

* الأصل:

11 - بعض أصحابنا، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الوهاب بن بشر، عن موسى بن قادم، عن سليمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته، حيث يقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة منا، ثم قال في موضع آخر: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم ذكر مثله.

* الشرح:

(بعض أصحابنا، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الوهاب بن بشر، عن موسى بن قادم، عن سليمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)) لرجوع جزاء الظلم ونكاله إليهم يقال: ظلمه حقه إذا أخذه ظلما وقهرا، وحقيقة الظلم وضع الشيء في غير موضعه (قال: إن الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم) لبراءة ساحته عن الانفعال والتغير والعجز وإذا كان كذلك فلا فائدة في نفي المظلومية عنه فلا بد من صرف نفيها إلى من هو قابل لها وإليه أشار بقوله:

(ولكنه خلطنا بنفسه) يقال خلطت الشيء بغيره خلطا فاختلطا بانضمام بعض إلى بعض يعني ضمنا إلى نفسه المقدسة وشاركنا (فجعل ظلمنا ظلمه) أي فجعل الظلم الواقع علينا منسوبا إلى نفسه واقعا على ذاته مجازا كما جعل أسفنا منسوبا إلى ذاته ثم نفاه عنا تسهيلا للأمر علينا وتسلية لنا (وولايتنا ولايته) الولاية بالفتح: الحكومة والتصرف في أمور الخلق يعني: وكذلك جعل ولايتنا على المؤمنين وتولينا لأمورهم وحكومتنا عليهم وإمامتنا لهم ولايته وحكومته وإمامته (حيث

ص:233

يقول:

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة منا) يعني أراد بالذين آمنوا الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا التفسير كاف للعلم بأن المراد ما ذكر لأنه (عليه السلام) أعلم بما هو المقصود من كلام الله تعالى، ولكن لا بأس أن نشير إلى توضيح ذلك فنقول: أولا: قال العلامة في كشف الحق: أجمعوا على أن هذه الآية نزلت في علي (عليه السلام) وهو مذكور في الصحاح الستة لما تصدق بخاتمه على المسكين بمحضر من الصحابة وقال بعض أصحابنا: الجمع للتعظيم على أنه وقعت هذه الكرامة عن باقي الأئمة (عليهم السلام) ونقول: ثانيا:

إن الولي هنا بمعنى الأولى بالتصرف، والإمام دون الناصر والمحب; لأن حصر النصرة والمحبة في المؤمن المعطي للزكاة في حال الركوع غير مستقيم لتحققهما في المؤمن مطلقا وإذا كان الولي بالمعنى المذكور كانت نسبة الولاية إلى الله تعالى من باب نسبة ما لأوليائه إليه.

وقال بعض المخالفين: الولي في هذه الآية بمعنى الناصر والمحب دون الأولى بالتصرف الذي هو الإمام وإلا لفاتت مناسبة هذه الآية لما قبلها وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) فإن الأولياء هاهنا بمعنى الأنصار والأحباب لا بمعنى الأحقين بالتصرف، ولما بعدها وقوله هو تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) فإن التولي هاهنا بمعنى النصرة والمحبة دون الأولى بالتصرف فوجب أن يحمل الولي فيما بينهما على الناصر والمحب ليلتئم أجزاء الكلام.

الجواب عنه: أما أولا: فبأن حمل الولي على ذلك يوجب فساد الحصر (1) وأما ثانيا: فبأن فوات المناسبة ممنوع; لأن الولاية بمعنى الأولوية في التصرف شاملة للولاية بمعنى النصرة والمحبة فالمناسبة حاصلة.

وأما ثالثا: فبأن العطف دل على التشريك في اختصاص الولاية ولا خفاء في أن نصرة الرسول للمؤمنين نصرة مخصوصة مشتملة على التصرف في أمرهم على ما ينبغي فكذلك نصرة الذين آمنوا.

وأما رابعا: فبأنا لا نسلم أن التولي فيما بعد هذه الآية بمعنى النصرة والمحبة بل بمعنى الأحق بالتصرف فإن باب التفعل يجيء كثيرا لاتخاذ الفاعل أصل الفعل، فالمعنى من «اتخذ الله ورسوله

ص:234


1- 1 - قوله: «يوجب فساد الحصر» لأنه حصر الولاية في المؤمن الذي آتى الزكاة حال الركوع، والولاية بمعنى المحبة لا تنحصر فيه ولا ينبغي أن يستبعد إطلاق صيغة الجمع حيث يكون المنظور واحدا ولا يختلف أهل السنة وغيرهم في أن قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات) ناظر إلى عائشة وكذلك في إطلاق الكلي ناظرا إلى الفرد قوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ناظرا إلى الوليد. (ش)

والذين آمنوا» - وهم الأئمة - أولياء يعني الأحقين بالتصرف.

وأما خامسا: فبأن وجوب التوافق بين الآيات ممنوع فقوله: ف «يجب» غير ثابت، وعلى تقدير التسليم فالتوافق إنما يجب إذا لم يمنع مانع وقد عرفت وجود المانع هاهنا.

واعترض شارح المقاصد على الإمامية بأن الحصر يجب أن يكون فيما فيه نزاع وتردد، ولا خفاء في أن النزاع في الإمامة لم يكن عند نزول الآية ولم يكن في ذلك الزمان إمامة حتى يكون نفيا للتردد.

والجواب عنه: أما أولا: فبأن نفي التردد إنما يعتبر في القصر الإضافي كما صرح به في شرحه للتخليص وهذا القصر قصر الصفة على الموصوف قصرا حقيقيا لا إضافيا (1).

وأما ثانيا: فبأنه تعالى عالم بجميع الأشياء فلما علم اعتقادهم إمامة الغير في الاستقبال أنزل هذه الآية دفعا لاعتقادهم وردا لهم عن خطائهم.

وأما ثالثا: فبأنه يجوز أن يكون الحصر لدفع التردد الواقع من بعضهم عند نزول الآية بين انحصار الولاية في الله ورسوله أبدا، أو اشتراكهما بينهما وبين غيرهما، على أن يكون القصر لتعيين الاشتراك.

(ثم قال) هذا كلام زرارة يعني (2) ثم قال (عليه السلام) (في موضع آخر) غير هذا الموضع في سياق بعض حديثه أو ابتداء ((وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم ذكر مثله) وهو «أنه تعالى أعظم وأعز - إلى قوله - فجعل ظلمنا ظلمه» على الظاهر أو إلى قوله «يعني الأئمة منا على» الاحتمال والحاصل أن زرارة روى عنه (عليه السلام) تفسير هذه الآية بما مر في موضعين، والله أعلم.

ص:234


1- 1 - قوله: «قصرا حقيقيا لا إضافيا» وسره أن الإضافة إلى معنى خاص يستلزم ترجيحا له على غيره بخلاف الحصر المطلق، مثلا: إذا قال: إنما زيد كاتب. وعنى به أنه ليس بشاعر، لا بد أن يكون تخيصص الشعر بالنفي لمرجح وليس إلا التفات المخاطب إليه وتوهمه كون زيد شاعرا. وأما الحصر المطلق بمعنى أنه ليس طبيبا ولا واعظا ولا نحويا ولا محدثا إلى غير ذلك من المهن فلا يقتضي سبق توجه للمخاطب إليه وترديده فيه; إذ ليس هذا تخصيص حتى يطلب وجه ترجيحه. (ش)
2- 2 - أو هو كلام الإمام (عليه السلام) يعني: ثم قال الله تعالى.

باب البداء

اشاره:

باب البداء (1) البداء بالفتح والمد في اللغة ظهور الشيء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل واتفقت الأمة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلا من لا يعتد به ومن افترى ذلك على الإمامية فقد افترى كذبا، والإمامية منه براء (2) وفي العرف على ما استفدت من كلام العلماء وأئمة الحديث يطلق على

ص:236


1- 1 - قوله: «باب البداء» قوام معنى البداء بتغير العزم، فإذا عزم رجل على فعل شيء ثم تبين له عدم المصلحة فيه وندم على عزمه وتغير قصده قيل: بدا له أي ندم وعلم أن عزمه السابق كان خطأ، وهذا معنى محال على الله تعالى باتفاق الأمة لاستلزامه الجهل على الله تعالى وحدوث علمه بالمفسدة في فعل بدا له فيه، وربما تمحل بعض وقال: إنا لا نقول بالجهل والندامة بل الله تعالى قضى حكما يعلم أنه يغيره بسبب حادث مثلا ويحكم الله تعالى بقصر عمر زيد مع أنه يعلم أنه يتصدق ويصل الرحم فيستحق طول العمر ويغير الحكم الأول ويطيل عمره وهذا معنى لا يناسب سائر أقوال الشيعة; لأن فيه تناقضا صريحا مثل أن يقال عزم زيد على إقامة عشرة أيام في بلد مع أنه يعلم أنه لا يقيم به أكثر من ثلاثة أيام وكيف يحكم الله تعالى بقصر عمر رجل يعلم أنه يطيل عمره؟ فإن قيل لا تناقض في حكمين مختلفين موقوفين على شرطين مختلفين فيحكم بقصر عمره إن لم يصل الرحم ولم يتصدق، وبطوله إن وصله وتصدق، فيرفع التناقض باختلاف الشرط. قلنا: لا يطلق الإرادة والمشية والقضاء والقدر وأمثالهما إلا على الطرف المثبت الذي حصل شرطه الذي حكم الشارع بوقوعه ولا يطلق على ما يعلم تعالى أنه لا يقع قط، فلا يقال: قضى الله تعالى بظلمة النهار وضياء الليل على فرض كون الشمس طالعة ليلا وآفلة نهارا وكذلك لا يقال قضى الله بكون الحمار ناطقا أي إن صار إنسانا وكون النار باردة أي إن صارت ماء وكون عمر زيد قصيرا إن لم يصل الرحم مع علمه تعالى بكون عمره طويلا لصلة الرحم. وقد أولوا ما ورد من لفظ البداء تأويلا لا يستلزم المحال.
2- 2 - قوله: «والإمامية منه براء» صرح بذلك; لأن مخالفينا نسبوا إلينا القول بالبداء ويعيبون به على مذهبنا حتى أن الفخر الرازي نقل في آخر كتابه المسمى بالمحصل عن سليمان بن جرير الزيدي كلاما لا يتفوه به مسلم، قال: إن أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم: الأول القول بالبداء فإذا قالوا إنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا لله تعالى فيه، ثم نقل أشعارا عن زرارة وقال: الثاني التقية فكلما أرادوا شيئا يتكلمون به فإذا قيل لهم هذا خطأ وظهر بطلانه قالوا إنما قلناه تقية، انتهى. وقال المحقق الطوسي (رحمه الله): إنهم - يعني الشيعة - لا يقولون بالبداء وإنما القول بالبداء ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه جعل إسماعيل القائم مقامه فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه فجعل القائم موسى، فسئل عن ذلك فقال: بدا لله في أمر إسماعيل، وهذه رواية وعندهم أن الخبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا، انتهى. يعني: ليس خبر الواحد حجة في أصول الدين إذ لا يوجب العلم ولا في فروع الدين لأنه لا يقوم به الحجة ولا يوجب العمل. وأما العلامة المجلسي فقد نقل بعض ما سبق من كلام الفخر الرازي. ثم قال: وأعجب منه أنه أجاب المحقق الطوسي (رحمه الله) في نقد المحصل عن ذلك لعدم إحاطته كثيرا بالأخبار بأنهم لا يقولون بالبداء وإنما القول به ما كان إلا في رواية. وأقول: ليس إنكار البداء خاصا بالمحقق الطوسي (قدس سره) بل كل من وجدنا له قولا ممن يعتبر قوله من العلماء واطلعنا على رأيه في الآراء وافق المحقق الطوسي في نفي البداء وتبرئة الإمامية عن القول به منهم السيد المرتضى (رحمه الله) في الذريعة وشيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في العدة والتبيان وحبر الأمة وأعلم علمائها بعد المعصومين (عليهم السلام) الشيخ العلامة الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي فإنه قال في نهاية الأصول في البحث الرابع من الفصل الأول من المقصد الثامن: النسخ جائز على الله تعالى لأن حكمه تابع للمصالح... والبداء لا يجوز عليه تعالى... لأنه دل على الجهل أو على فعل القبيح وهما محالان في حقه، انتهى. ونظير ذلك في تفسير مجمع البيان كثير وفى تفسير أبي الفتوح الرازي نسبة نفي البداء إلى مذهبنا في مواضع كثيرة منها في الصفحة 4 و 286 من المجلد الأول ط 1383 وقال السيد عميد الدين في شرح التهذيب في باب عدم جواز نسخ الحكم قبل وقت التمكن من الفعل: بأنه لو جاز ذلك لزم البداء أعني ظهور حال الشيء بعد خفائه على الله تعالى، والتالي باطل فالمقدم مثله - إلى آخر ما قال، ولو لم يكن خوف الإطالة لنقلنا شيئا كثيرا من كلام علمائنا السابقين ولا أظن أحدا من الامامية يلتزم بالبداء من غير تأويل حتى أن العلامة المجلسي (رحمه الله) أوجب ظاهرا التلفظ به تأدبا لا الاعتقاد بمعناه تعبدا لأنه أيضا أوله تأويلا. فإن قيل: فما تقول فيما ورد في أخباركم من لفظ البداء. قلنا: كلامنا في إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى نظير كلامنا في إطلاق الغضب والرضا والأسف، كما قال: (فلما آسفونا انتقمنا) والنسيان في قوله (نسوا الله فنسيهم) وقوله (كذلك اليوم تنسى) أمثال ذلك يجب تأويله بما يوافق المذهب والعقل، والجامع لجميع ذلك أنه تعالى يعامل معاملة الراضي والغاضب والناسي والمحزون والنادم على ما فعل. لا أنه تعالى متصف بهذه الصفات واقعا. وقد أطالوا الكلام في تأويل البداء ونكتفي هنا بما قاله صدر المتألهين (قدس سره) ومرجعه إلى نسبة البداء إلى بعض مخلوقاته تعالى من الملائكة والنفوس الكلية وهو غير بعيد كما مر نظيره في خبر حمزة بن بزيع في الباب السابق في تأويل قوله تعالى (فلما آسفونا انتقمنا) قال الصادق (عليه السلام): «إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه - إلى أن قال - هكذا الرضا والغضب وغيرهما مما يشاكل ذلك» ومبنى كلام الصدر على أن بعض الملائكة وهم العقول القادسة يعلمون بتعليم الله ما سيقع على ما هو عليه وبعضهم كالنفوس يعلمون الأسباب المؤدية إلى شيء من غير أن يطلعوا على ما يتفق مما نعته لها فيظهر ما يقع على خلاف ما علموا كمن يعلم أن الزرع بعد نموه وبدو صلاحه يحصل منه مقدار من الطعام ولا يعلم السيل أو النار أو الدابة أو الجند يفسدون الزرع، ومثله حديث آخر مضى آنفا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إن الله أعظم وأجل وأعز وأمنع من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه» وسنذكر تأويلات أخر - ذكرها علماؤنا - في تضاعيف الشرح. (ش)

معان كلها صحيح في حقه تعالى.

منها إبداء شيء وإحداثه (1)

ص:237


1- 1 - قوله: «إبداء شيء وإحداثه» هذا تأويل حسن وقد ذكره الصدوق (رحمه الله) في كتاب التوحيد قال: معناه أن له أن يبدأ بشيء فيخلقه قبل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره أو يأمر ثم ينهى عن مثله أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل نسخ الشرائع وتحويل القبلة وعدة المتوفى عنها زوجها، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلا وهو يعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك ويعلم أن في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به - إلى أن قال - والبداء هو رد على اليهود لأنهم قالوا: إن الله قد فرغ من الأمر. فقلنا: إن الله كل يوم في شأن يحيي ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء، انتهى. وبالجملة إذا خلق زيدا وأماته ثم خلق عمرا فهذا بداء أي خلق جديد وإذا شب زيد ثم شاخ فهذا بداء أي أمر جديد حدث، (كل يوم هو في شأن)، و (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) بمعنى أنه يمحو زيدا من لوح الوجود ويثبت عمرا فإن قيل: ليس هذا معنى البداء المصطلح عند العلماء على ما صرحوا به في تعريف النسخ بل ما ذكره الصدوق من شمول البداء للنسخ أيضا خلاف الاصطلاح قلنا لا ضير فيه; لأن كثيرا من اصطلاحات العلماء لا توافق اصطلاح الأخبار، مثلا: الاجتهاد عند العلماء، معنى صحيح جائز وقد نهى عنه الأخبار; لأن الاجتهاد فيها بمعنى آخر غير اصطلاح العلماء، وكذلك نهى عن التقليد في الدين بمعنى آخر غير التقليد المصطلح، والحبط غير جائز عند الامامية وقد ورد في وقوعه روايات وآيات بمعنى آخر، فلا يبعد أن يكون البداء الوارد في الروايات بمعنى غير ما اصطلح عليه أرباب الأصول. (ش)

والحكم بوجوده بتقدير حادث وتعلق إرادة حادثة بحسب الشروط والمصالح، ومن هذا القبيل إيجاد الحوادث اليومية، ويقرب منه قول ابن الأثير: «في حديث الأقرع والأبرص والأعمى: بدا لله عز وجل أن يبتليهم أي قضى بذلك وهو معنى البداء هاهنا; لأن القضاء سابق والبداء استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم وذلك على الله عز وجل محال غير جايز، ولعله أراد بالقضاء: الحكم بالوجود، وأراد بكونه سابقا أن العلم به سابق، كما يرشد إليه ظاهر التعليل المذكور بعده، فلا يرد عليه ما أورده بعض الأصحاب من أن هذا القول ركيك جدا; لأن القضاء السابق متعلق بكل شيء، وليس البداء في كل شيء بل فيما يبدو ثانيا ويتجدد أخيرا.

ومنها: ترجيح أحد المتقابلين والحكم بوجوده بعد تعلق الإرادة بهما تعلقا غير حتمي (1) لرجحان مصلحته وشروطه على مصلحة الآخر وشروطه، ومن هذا القبيل إجابة الداعي وتحقيق مطالبه وتطويل العمر بصلة الرحم وإرادة إبقاء قوم بعد إرادة إهلاكهم، وقد قال مولانا أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لسليمان المروزي وهو كان منكرا للبداء وطلب منه (عليه السلام) ما يدل عليه من القرآن قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (فتول عنهم فما أنت بملوم) ثم بدا لله تعالى فقال (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) يريد (عليه السلام) أنه تعالى أراد إهلاكهم (2) لعلمه بأنهم لا يؤمنون وأراد بقاءهم لعلمه بأنه يخرج من أصلابهم المؤمنون، فرجح بقاءهم وحكم به تحقيقا لمعنى الإيمان.

ص:238


1- 1 - قوله: «تعلقا غير حتمي» هذا من طغيان القلم أو سهو وذهول من القائل وليس أحد معصوما عن الخطأ ولا يجوز على الله تعالى إلا الحتم والحكم ولا يقبل قضائه الترديد، وكما أن الندامة عليه تعالى محال كذلك التردد بل كل ما تعلق علمه وإرادته به فهو كما هو من الأزل ولم يحصل القطع بعد الترديد، فإن قيل: فما معنى إجابة الدعاء وتطويل العمر بصلة الرحم وأمثال ذلك؟ قلنا: الأمر فيه كالأمر في ساير الأسباب، فكما تعلق ارادته تعالى بإرسال السحاب ونزول المطر بسببه كذلك تعلق علمه وارادته بصلة الرحم من فلان وطول عمره بالصلة وأنه لو لم يصل رحمه لم يطل عمره كما أنه لو لم يرسل السحاب لم ينزل المطر، فقصر العمر إنما هو على فرض عدم صلة الرحم وطوله على فرض الصلة، والثاني هو الواقع وتعلق علمه بالثاني، وسيجئ له مزيد توضيح إن شاء الله. (ش)
2- 1 - قوله: «يريد أنه تعالى أراد أهلاكهم» بل كلام الإمام تعميم معنى البداء حتى يشمل النسخ، فأمر أولا بالإعراض عن الكفار، وأمر ثانيا بتذكيرهم ومنعه من الإعراض. (ش)

ومنها: محو ما ثبت وجوده (1) في وقت محدود بشروط معلومة ومصلحة مخصوصة وقطع استمراره بعد انقضاء ذلك الوقت والشروط والمصالح سواء ثبت بدله لتحقق الشروط والمصالح في إثباته أو لا، ومن هذا القبيل: الإحياء والإمانة والقبض والبسط في الأمر التكويني ونسخ الأحكام بلا بدل أو معه في الأمر التكليفي.

والنسخ أيضا داخل في البداء كما صرح به الصدوق في كتابي التوحيد والاعتقادات. ومن أصحابنا من خص البداء بالأمر التكويني وأخرج النسخ عنه وليس لهذا التخصيص وجه يعتد به (2) وإنما سميت هذه المعاني بداء لأنها مستلزمة لظهور شيء على الخلق بعد ما كان مخفيا عنهم، ومن ثم عرف البداء بعض القوم بأنه أن يصدر عنه تعالى أثر لم يعلم أحد من خلقه قبل صدوره عنه أنه يصدر عنه. واليهود أنكروا البداء وقالوا (يد الله مغلولة) (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) وهم يعنون بذلك أنه تعالى فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا، ونقل عنهم أيضا: أنه تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا، ويقرب منه قول النظام من المعتزلة: إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكانها دون حدوثها ووجودها، وكأنه أخذ ذلك من الكمون والظهور من مذهب الفلاسفة. ونقل صاحب الكشاف عن الحسين بن الفضل ما يعود إلى هذا المذهب وهو أن عبد الله بن طاهر دعا الحسين ابن الفضل وذكر أن من آيات أشكلت عليه قوله عز من قائل (كل يوم هو في شأن) وقد صح «أن القلم جف بما هو كاين إلى يوم القيامة» فقال الحسين: أما قوله (كل يوم هو في شأن) فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها (3)، وهذه المذاهب عندنا باطلة لأنه تعالى يحدث ما يشاء في أي وقت يشاء على وفق الحكمة والمصلحة كما دلت عليه روايات هذا الباب ودل عليه أيضا ما مر من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحمد لله الذي لا يموت ولا ينقضي عجائبه لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن، فإنه صريح في أنه تعالى يحدث في كل وقت ما أراد إحداثه من الأشخاص والأحوال، ولعل الحسين كالسائل فهم أن ابتداءها

ص:239


1- 2 - قوله: «ومنها محو ما ثبت وجوده» هذا راجع إلى الوجه الأول المذكور.
2- 3 - قوله: «وليس لهذا التخصيص وجه يعتد به» بل هو اصطلاح خاص غير مصطلح الروايات ولا مشاحة في الاصطلاح وإنما فرق الأصوليون بين النسخ والبداء لاختلاف حكمهما وجواز الأول واستحالة الثاني، ولا بد عند الفرق بين الاحكام تفرق الاصطلاح حتى لا يشتبه الأمر على غير المتدبر. (ش)
3- 4 - قوله: «شؤون يبديها» أي يظهرها في الوجود الخارجي بعد أن كان معلوما عند الباري، لا أنه تعالى يبتديها من غير أن يكون له علم بها في الأزل، وإرجاع هذا القول إلى مذهب الكمون والبروز غير ظاهر لي وكذلك إرجاعه إلى قول النظام وإرجاع قول النظام إلى قول هؤلاء، نعم يشبه كلام النظام قول المتأخرين في الدهر والزمان، وقول الحسين بن الفضل لا يخالف مذهب ساير المؤمنين بالقضاء. (ش)

وإحداثها ينافي ما صح من جفاف القلم وأنت تعلم أنه لا منافاة بينهما فإن جفاف القلم دل على أن كل ما هو كاين إلى يوم القيامة فهو مكتوب في اللوح المحفوظ أو في لوح التقدير ومعلوم له - تعالى شأنه - بحيث لا يتغير ولا يتبدل، ومن المكتوب والمعلوم له تعالى أنه يقدر كذا في وقت كذا ويبتدي بايجاده وإحداثه على وفق الحكمة والمصلحة فالابتداء والإحداث الذي هو البداء المراد هنا أيضا من المكتوبات فليتأمل.

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال عن أبي إسحاق ثعلبة، عن زرارة بن أعين، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عبد الله بشيء مثل البداء وفي رواية ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما عظم الله بمثل البداء.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن أبي إسحاق ثعلبة) هو ثعلبة بن ميمون وكنيته أبو إسحاق، فما وقع في بعض النسخ عن أبي إسحاق عن ثعلبة فهو سهو من الناسخ (عن زرارة بن أعين، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عبد الله بشيء مثل البداء) (1) أي مثل القول بالبداء والتصديق بثبوته له تعالى; لأن فيه إذعانا بأنه تعالى قادر على الحوادث اليومية، واعترافا بأنه مختار يفعل بإرادته ما يشاء ويتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يبلغ شيء من العبادة هذه المرتبة; لأن العبادة إنما هي عبادة وكمال بعد معرفته بما ينبغي له، ومن أنكر البداء له تعالى فقد نسب العجز إليه وأخرجه عن سلطانه وعبد إلها آخر ودان بدين اليهود. قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: القول بالبداء رد على اليهود حيث زعموا أنه تعالى فرغ من الأمر لأنه عالم في الأزل بمقتضيات الأشياء فقدر كل شيء على وفق علمه، وملخص الرد أنه يتجدد له تعالى تقديرات وإرادات حادثة كل يوم بحسب المصالح المنظورة له تعالى.

(وفي رواية ابن أبي عمير، عن هشام ابن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما عظم الله بمثل البداء) أي ما عظم الله تعالى بشيء من أوصاف ومحامد يكون مثل البداء; لأن تعظيمه تعالى ووصفه بالبداء الذي هو فعل من أفعاله مستلزم لتعظيمه ووصفه بجميع الصفات الكمالية مثل العلم والقدرة

ص:240


1- 1 - قوله: «مثل البداء» البداء في هذا الحديث ليس بالمعنى المصطلح مثل أن يقدر الله تعالى موت زيد ثم يبطل هذا التقدير ويقضى بحياته، بل المراد أنه تعالى يميت زيدا ويحيى عمرا ويسقم هذا ويشفي ذلك، وكل يوم هو في شأن، فالتغير بفعله في العالم لا التغيير في حكمه وإرادته بالنسبة إلى شيء واحد. (ش)

والتدبير والإرادة، والاختيار وأمثالها.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في هذه الآية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) قال: فقال: وهل يمحي إلا ما كان ثابتا وهل يثبت إلا ما لم يكن.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في هذه الآية) أي في تفسيرها: (يمحو الله ما يشاء) محوه وإعدامه (ويثبت) ما يشاء إثباته إيجاده (قال فقال) إعادة القول للتأكيد والتقدير: (وهل يمحى إلا ما كان ثابتا) في اللوح المحفوظ أو في الأعيان (وهل يثبت إلا ما لم يكن) ثابتا فيهما. أن المحو يتعلق بالموجود والإثبات يتعلق بالمعدوم، وكل ذلك لعلمه تعالى بالمصالح العامة والخاصة والشرائط، فيزيل وجود ما أو جده ويفيض وجود ما أراد إيجاده لانقضاء مصالح الوجود وشرائط حسنه في الأول وتحققها للثاني وتلك المصالح والشرائط مما يختلف باختلاف الأوقات والأزمان ودلالته على البداء (1) بمعنى تجدد التقدير والمشية والإرادة في كل وقت بحسب المصالح ظاهرة.

* الأصل:

3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما [من خل] يشاء

* الشرح:

(علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال الإقرار له بالعبودية) أي إقرار النبي بأنه عبد له تعالى يستحق العبادة منه وأخذه على أمته الإقرار بذلك (وخلع الأنداد) أي خلع الأمثال والأضداد بالتصديق بوحدانيته في الذات والصفات وتفرده باستحقاق العبادة (وأن الله

ص:241


1- 1 - قوله: «ودلالته على البداء» كما أن عدم دلالته على البداء بالمعنى المصطلح أيضا ظاهر ويصدق على نسخ حكم بحكم أو شريعة بشريعة أنه محو وإثبات أي محو السابق وإثبات اللاحق، والبداء المصطلح إثبات شيء ثم محو ذلك الشيء بعينه. (ش)

يقدم ما يشاء ويؤخر من يشاء) على وفق ما يقتضيه الحكمة والمصلحة ونظام الكل; لأن الحكيم العليم إذا علم حسن شيء في وقت وقبحه في وقت آخر يضعه في موضعه. قال الصدوق - رحمه الله - في كتاب الاعتقادات بعد نقل هذا الحديث: ونسخ الشرائع والأحكام بشريعة نبينا (صلى الله عليه وآله) من ذلك ونسخ الكتب بالقرآن من ذلك، أقول: وهو رد على اليهود المنكرين للنسخ باعتبار أن النسخ بداء والبداء على الله تعالى محال وتحقيق الرد أن البداء المحال عليه سبحانه هو ظهور الشيء بعد الخفاء عليه. وأما البداء بمعنى إثبات كل شيء في وقته بإرادته لمصلحة تقتضيه فهو من أعظم أو صافه ومحامده كما عرفت. وفي بعض نسخ هذا الكتاب وكتاب الاعتقادات والعيون «ويؤخر ما يشاء» بلفظة «ما» الموصولة وهو الأظهر والأنسب بما قبله.

فإن قلت: هذا الحديث ينافي ما يجيء في باب مولد النبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن عبد المطلب أول من قال بالبداء».

قلت: لا منافاة بينهما; لأن المراد بالأولية الأولية الإضافية بالنسبة إلى غير الأنبياء (عليهم السلام) أو المراد أنه أول من أطلق هذا اللفظ على غير معناه اللغوي.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: هما أجلان:

أجل محتوم وأجل موقوف.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: قضى أجلا) أي أحكمه وأبرمه (وأجل مسمى عنده) «أجل» مبتدأ لتخصيصه بالصفة «عنده» خبره (قال: هما أجلان) أي أجلان للموت أو أجلان متغايران بقرينة المقام، والتفسير فلا يرد أن الحمل غير مفيد لأنه بمنزلة أن يقال: الأجلان أجلان والاثنان اثنان (أجل محتوم) أي مبرم محكم لا يتغير ولا يتبدل لتعلق القضاء بالإمضاء به فلا يجري فيه البداء لما سيجيء من أنه لا بداء بعد القضاء وهو ناظر إلى قوله قضى أجلا وتفسير له (وأجل موقوف) لم يتعلق القضاء به بعد لتوقف تعلقه (1) به على حصول مصالح وشرائط وأمور

ص:242


1- 1 - قوله: «بعد لتوقف تعلقه به» هذا الحديث أيضا لا يدل على البداء بالمعنى المصطلح أعنى تغيير المقدرات. والأجل قد يكون محتوما وقد يكون موقوفا نظير أن الأمر قد يكون مطلقا وقد يكون مشروطا ولا يكون شيء واحد مأمورا به مطلقا ومشروطا معا، مثلا: الحج واجب مشروط بالاستطاعة، وليس له وجوب آخر غير مشروط، وكذلك عمر من يصل رحمه ويتصدق طويل بسبب صلة الرحم والصدقة وليس له أجل آخر قريب غير مشروط، وإنما يكون البداء إذا كان لشيء واحد بعينه أجلان لا أن يكون لشيء أجل محتوم ولشيء آخر أجل موقوف فإن قيل إذا كان لشيء أجل موقوف على شرط فلابد أن يكون له أجل آخر غير موقوف على فرض عدم ذلك الشرط، قلنا لا نسلم ذلك بل الأجل المسمى الذي تعلق علم الواجب تعالى بوقوعه هو الأجل الموقوف على الشرط الذي علم تعالى بوجوده وحصوله وليس غيره أجلا مقدرا في علمه تعالى، مثلا: أبو لهب قضى عليه بأنه سيصلى نارا ذات لهب بسبب كفره وليس له قضاء آخر بأنه يدخل الجنة ولا بأنه يدخل النار ولو بغير سبب كفره حتى يلزم الجبر، وغاية ما يمكن أن يتوهم هنا قضية منطقية غير بتية لم تثبت في قضائه تعالى ولم يتعلق بها مشيئته وهو أن زيدا لو لم يصل رحمه كان عمره قصيرا لكنه يصل في علم الله فلا يكون عمره قصيرا وإن بنينا على تسمية هذه القضايا قضاء وقدرا ومشية وإرادة يكون كل ممتنع بالغير مقضيا مقدرا، مثلا: اليوم مظلم إن لم يطلع الشمس قضاء إلهي فيكون طلوعها وإضاءة النهار بداء لأنه تغيير القضاء، وبالجملة فلابد لإثبات البداء من التماس دليل آخر غير هذا، ولذلك الحديث بيان آخر سنشير إليه في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش)

خارجة عن ذات الأجل عند حضوره فإن حصلت تلك الأمور يتعلق به القضاء فيصير مبرما وإلا فلا وتعلق العلم الأزلي بحصولها مثلا عند حضور ذلك الأجل لا يقتضي تقدم القضاء عليه وهذا ناظر إلى قوله (وأجل مسمى عنده) معناه: الله أعلم أن الأجل المسمى المعلق، حكمه عنده، إن شاء أمضاه بقدرته واختياره، وهذا معنى البداء هنا.

وقال بعض الأصحاب: المراد بالأجل المحتوم الأجل لمن مضى فلا بداء فيه لانقضائه وإمضائه ولا قدرة على ما مضى وبالأجل الموقوف الأجل لمن يأتي وفيه البداء لتجدده بالقدرة، فالفرق بين الأجلين في جريان البداء في الثاني، وعدم جريانه في الأول وإلا فكل من الماضي والآتي محتوم بالنسبة إليه تعالى. وفيه أن كون الآجال الاستقبالية كلها موقوفة محل نظر لجواز أن يكون بعضها مما حتمه الله تعالى وقضى به في الأزل فلا يجري فيه البداء ولا يقع فيه المحو.

* الأصل:

5 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط، عن خلف بن حماد، عن ابن مسكان، عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) قال: فقال، لا مقدرا ولا مكونا، قال: وسألته عن قوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فقال كان مقدرا غير مذكور.

* الشرح:

(أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط عن خلف بن حماد،

ص:243

عن ابن مسكان، عن مالك الجهني) كأنه مالك بن أعين وقد قيل إنه كان مخالفا ولم يكن من هذا الأمر في شيء وقيل في شأنه رواية دالة على مدحه بل على توثيقه إلا أنه هو راويها (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (أولم ير الإنسان)) الهمزة لإنكار السلب أو لتقرير الإثبات (أنا خلقناه من قبل) أي قدرناه بالإرادة والمشية من زمان وجوده أو من قبل أن يكون إنسانا أو من قبل أن يكون له صورة ومثال في عالم الإمكان، وهذا أنسب; لأن دلالته على الابداع أظهر (ولم يك شيئا) حال عن المفعول.

(قال: فقال: لا مقدرا ولا مكونا) (1) بل كان معدوما صرفا وفيه دلالة على أن المعدوم ليس شيئا وإنما قدم المقدر على المكون ولم يعكس مع أن العكس أتم فائدة باعتبار أن نفي التقدير مستلزم لنفي التكوين فليس لنفي التكوين بعده كثير فائدة بخلاف نفي التكوين فإنه لا يستلزم لنفي التقدير لوجهين; أحدهما: أن المقصود الأصلي هاهنا نفي التقدير ونفي التكوين مقصود بالعرض والمقصود الأصلي أولى بالتقديم.

ثانيهما: أن التقدير مقدم على التكوين في نفس الأمر فقدمه في الذكر لرعاية التناسب ثم المراد بالمكون إما المادة الانسانية مثل النطفة والعلقة وغيرهما أو الصورة الانسانية الحاصلة بعد تكامل الأجزاء وتمام الأعضاء حتى صارت قابلة لفيضان الروح (قال: وسألته عن قوله: هل أتى على الإنسان) الاستفهام للتقرير. وقال أبو عبيدة: «هل» هاهنا بمعنى قد (حين من الدهر) أي طايفة من الزمان (لم يكن شيئا مذكورا) حال عن الإنسان (فقال كان مقدرا غير مذكور) أشار إلى أن النفي راجع إلى القيد أي كان مقدر الوجود ذلك الحين عند كونه نطفة أو علقة غير مذكور بين أهل الأرض وأهل السماء من الملائكة وغيرهم بالإنسانية إذ ما لم تكمل صورته ولم تتم أعضاؤه وجوارحه ولم يتعلق به الروح الإنسانية لا يسمى إنسانا، وفي هذين الحديثين دلالة على تجدد إرادته تعالى وتجدد تقديره وتدبيره في خلق الإنسان، وهذا هو المراد بالبداء في حقه تعالى .

* الأصل:

ص:244


1- 1 - قوله: «لا مقدرا ولا مكونا» ليس المراد من المقدر ما تعلق علم الله تعالى بوجوده وقدره إذ علمه متعلق بكل شيء من الأزل فكيف لا يكون شيء مقدرا فلا بد يكون المراد بالتقدير بعض مراحل الاستعداد قبل الوجود بأن يكون الشيء بعد حصول جميع الأسباب مكونا وبعد حصول بعضها مقدرا، مثلا: الإنسان عند انعقاد النطفة يكون مقدرا وعند تمام خلقة الجنين مكونا. (ش)

6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العلم علمان فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: العلم علمان فعلم عند الله مخزون) لا يعلمه إلا هو كما فسره بقوله (لم يطلع عليه أحدا من خلقه) وهو العلم بسر القضاء والقدر ونحوه، وقيل:

المراد بالعلم المخزون والعلم المكتوب: المقرر في اللوح المحفوظ.

أقول: فيه نظر; لأن كل ما في اللوح المحفوظ من العلوم لا يجب أن يكون مختصا به سبحانه لا يطلع عليه أحد من خلقه بل لنا أن نقول: كل ما فيه فهو حاصل لبعض خلقه فإن اللوح المحفوظ إما الملك كما هو مذهب الصدوق (رضي الله عنه) وقد صرح به في كتاب الاعتقادات، أو الروح المقدس لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما قال في خطبة البيان: أنا اللوح المحفوظ (وعلم علمه ملائكته ورسله) تعليما لا يحتمل متعلقه نقيضه وذلك بأن لا يكون معلقا بشرط (فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون) على وفق ما علمهم من غير تغير وتبدل (لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله) (1) لا يكذب إما من الكذب أو من التكذيب أي لا يكذب نفسه في إخباره للملائكة بوقوع متعلقه ولا يكذب ملائكته في إخبارهم للرسل ولا يكذب رسله في إخبارهم للخلق; لأن الكذب نقص وقبيح وجب تنزهه تعالى وتنزه سفرته عنهما.

فإن قلت: هذا ينافي ما رواه الصدوق في كتاب العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) لإثبات البداء قال (عليه السلام) «لقد أخبرني أبي عن آبائه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله عز وجل أو حي إلى نبي من

ص:245


1- 1 - قوله: «فما علمه ملائكته ورسله» أقول: هذا الحديث رد على ما توهمه الفخر الرازي ونقلنا عن المحصل من علة ذهاب الشيعة إلى القول بالبداء ويؤيد مضمون الحديث بقاعدة اللطف الذي يقول به الشيعة وأن كل شيء يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية فهو واجب عليه تعالى وأن الإغراء بالجهل قبيح، ولا ريب أن النبي والإمام إذا أخبرا عن الله تعالى ولم يقع المخبر على ما أخبر به كان ذلك مزلة عظيمة توجب عدم الاعتماد بأقوال الأنبياء ويخالف اللطف ويوجب نقض غرض الواجب تعالى، وحينئذ فما ورد من تغيير ما أخبر به الأئمة (عليهم السلام) والأنبياء فهو مردود لمخالفته العقل والأخبار الكثيرة; ومنها حديث أمامة عن إسماعيل والبداء فيه. (ش)

أنبيائه أن أخبر فلانا الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير، فقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى الله تعالى إلى ذلك النبي أن ائت فلانا الملك فأعلمه أني قد أنسيت أجله وزدت في عمره خمسة عشر سنة فقال ذلك النبي: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط فأوحى الله تعالى إنما أنت عبد مأمور وأبلغه ذلك والله لا يسأل عما يفعل» قلت: المراد بالتعليم التعليم المقرون بما يفيد القطع بوقوع متعلقه فإنه لابد من وقوعه لما مر، وأما التعليم المجرد عن ذلك فيجوز أن لا يقع متعلقه لجواز أن يكون وقوع متعلقه مقيدا بشرط في علم الله تعالى كما في حديث وفاة الملك فإنه كان مقيدا في علم الله تعالى بترك الدعاء والتضرع فلما وجدا لم يقع الوفاة لانتفاء الشرط وإخبار النبي ذلك الملك من الله بأنه متوفيه، لم يكن كذبا في نفس الأمر فإن قوله «متوفيه» من كلامه تعالى وهو مقيد في علمه بما ذكر وعدم علم النبي بذلك القيد لا ينافي ذلك الكلام المقيد في نفس الأمر ولا يكون الإخبار به كذبا (1) وإنما يكون كذبا لو لم يؤمر بالإخبار فأخبره. وبمثل هذا التوجيه يندفع أيضا ما يتوجه على ظاهر ما رواه المصنف في باب «أن الصدقة تدفع البلاء» بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مر يهودي بالنبي (صلى الله عليه وآله) فقال: السام عليك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليك. فقال أصحابه إنما سلم عليك بالموت فقال: الموت عليك، قال النبي (صلى الله عليه وآله) وكذلك رددت، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله، قال:

فذهب اليهودي فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود فقال: يا يهودي أي شيء عملت اليوم؟ فقال: ما عملت عملا إلا حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بها دفع الله عنك وقال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» تقرير الدفع أن قوله (صلى الله عليه وآله): إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله من كلامه تعالى أوحاه إليه وأمره بتبليغه لقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) وهذا الكلام في علم الله كان مقيدا بالشرط وهو عدم التصدق وهو مع هذا القيد صادق كصدق الشرطية، والمخبر به من الله أيضا صادق لأنه مأمور بتبليغه وعدم وقوع متعلقه لانتفاء الشرط لا ينافي صدقه.

ص:246


1- 1 - قوله: «ولا يكون الإخبار به كذبا» إذا أخبر مقيدا لم يتحقق المحذورات التي ذكرنا من زلة الناس ورفع اعتمادهم بقول الحجج، وإن قيل لم ينقل كون أخبارهم مقيدة، قلنا لعلهم اعتمدوا على قرينة للتقييد أو أخبروا مقيدا ولم ينقل إلينا، مثلا: قال النبي للملك: إني متوفيه إلى وقت كذا إن لم يحدث حدث، أو كان معلوما للملك أن إخباره مقيد بعدم الدعاء. (ش)

نعم فيه دلالة على أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يعملون جميع أسرار القدر، ولا يبعد أن يكون الغرض من أمرهم بتبليغ أمثال ذلك (1) أن يظهر للخلق أن لله تعالى علوما لا يعلمها إلا هو، والله أعلم (وعلم عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء) باختياره وإرادته إن كان لكل واحد من التقديم والتأخير والإثبات مصلحة تقتضيه وهذا هو المراد بالبداء هنا. توضيح ذلك أن الله سبحانه عالم في الأزل بالأشياء ومنافعها ومصالحها فإذا كان لشيء مصلحة في وقت من وجه وفي وقت من وجه آخر إن شاء قدمه وإن شاء أخره (2) وكذا إذا كان لشيء مصلحة في وقت دون وقت آخر بينه في ذلك الوقت بإرادته وعلمه في الأزل بإثباته في ذلك الوقت وتقديمه وتأخيره على حسب الاختيار، والإرادة الحادثة لا ينافي الاختيار والقدرة بل يؤكدهما ولا يوجب تغيير علمه أصلا وإنما يوجب تغييره لو علم أنه يؤخره ولا يثبته مثلا فقدمه وأثبته.

لا يقال: لو كان البداء عبارة عن الإيجاد بالاختيار والإرادة كان في القسم الأول أيضا بداء لضرورة أن ما وقع فيه التعليم أيضا يوجده بالاختيار والإرادة.

لأنا نقول: المعتبر في البداء أن يوجده بالاختيار والإرادة الحادثة عند وقت الإيجاد (3) وإن لا يكون للخلق علم بصدوره عنه قبل صدوره عنه كما أشار إليه سابقا ولا يتحقق شيء من ذينك الأمرين في القسم الأول أما الثاني فظاهر وأما الأول فلإرادة الإيجاد في الأزل أو عند التعليم، والله أعلم.

ص:247


1- 1 - لعله أخبر مقيدا ولم ينقل ولعل كلام الشارح يخالف نفس الحديث الذي هو في شرحه. (ش)
2- 2 - قوله: «ان شاء قدمه وان شاء أخره» لكن علمه من الأزل تعلق بأحدهما المعين من غير ترديد بحيث لا يتصور فيه تغيير أصلا، وحاصل تفسير الشارح أن هذا الكلام دفع لوهم من يزعم أنه تعالى فاعل موجب ويقول إنه تعالى يفعل ما يشاء، مثلا يخلق زيدا في زمان مقدم وعمرا في زمان مؤخر كما يصنع شيئا صغيرا وشيئا كبيرا وشيئا في هذا المكان وشيئا في ذلك المكان على حسب ما يراه من المصالح، وهذا تأويل للبداء على الوجه الأول الذي ذكره سابقا. (ش)
3- 3 - قوله: «عند وقت الإيجاد» الإرادة من الله تعالى ان كان علمه بالمصلحة فهو قديم وإن كان نفس فعله فلا يتصور كون الإرادة في بعض الأمور سابقة على الفعل وفي بعضها حاصلة عنده والحق أنه تعالى كان عالما من الأزل بما يفعل في كل زمان وتعلق مشيئته به ولا تغير في مشيئته ولا يؤخر ما أراد تقديمه من الأزل ولا يقدم ما أراد تأخره من الأزل، ولا يخفى أن كلام الشارح في معنى إنكار البداء وتأويله بشيء لا يستلزم منه المحال وحدوث المصلحة في زمان الإيجاد لا ينافي كون علمه تعالى بالمصلحة قديما، وأما على تأويل صدر المتألهين أن التقديم والتأخير ليس فيما تعلق علم الله تعالى والعقول القادسة به بل في علم النفوس الغير العالمة بتفاصيل ما سيأتي من الأزل فيحكمون بشيء على ظاهر الأمر والعادة، وربما يتفق شيء يخرج عن مجرى العادة ولا يعلم به تلك النفوس وينسب التغير الحاصل في علم تلك النفوس إلى الله تعالى، ويسمى بالبداء كما ينسب حزن الأولياء إلى الله تعالى في قوله (فلما آسفونا انتقمنا) على ما مر، فيستقيم الكلام من غير حاجة إلى تكلف والتزام محال ولا خروج عن ظاهر الحديث، وسيجئ بيانه إن شاء الله تعالى. وأما كلام الفاضلين الأسترآبادي والتستري فغير ظاهر لنا ولم نعرف مقصودهما. (ش)

هذا، وقال الفاضل الأسترآبادي في حل هذا الكلام وعلم عنده مخزون أي مقدر في اللوح المحفوظ أولا على وجه ثم يغير ذلك إلى وجه آخر لمصلحة حادثة وهذا هو البداء في حقه تعالى.

وقال الفاضل الشوشتري في حله: ولعله إنما يستقيم البداء فيه ويرتفع العبث ولا يتطرق شبهة التغير في علمه إذا قلنا بإثبات مخزونه في موضع واطلع عليه أحد ولم يجز له إظهاره وأنه اطلع بعض الناس عليه كما سيجيء ما يفهم منه ذلك انتهى، فليتأمل.

* الأصل:

7 - وبهذا الإسناد، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء.

* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور موقوفة عند الله) الأمور قسمان القسم الأول أمور محتومة (1) حتمها الله تعالى قبل أوان وجودها وهو يوجدها في أوقاتها لا محالة ولا يمحوها، ومن هذا القبيل ما مر من أن ما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون، وما رواه الصدوق عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) حين قال له سليمان المروزي: ألا تخبرني عن (إنا أنزلناه في ليلة القدر) في أي شيء أنزلت قال: يا سليمان ليلة القدر يقدر الله تعالى فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق فما قدره الله في تلك الليلة فهو من المحتوم. والقسم الثاني أمور غير محتومة حتمها موقوف على مشية وإرادة حادثة في أوقاتها (يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء) فعلم من ذلك تجدد إرادته تعالى في القسم الثاني وهو معنى البداء. وقيل: المراد بالأمور المحتومة الأمور الماضية وبالأمور الموقوفة الأمور الآتية، ولا

ص:248


1- 1 - قوله: «الأمور قسمان الأول أمور محتومة» إن كان مراد الشارح تقسيم الأمور بالنسبة إلى علم الباري تعالى وإرادته فإنا لا نسلم التقسيم بل الأمور قسم واحد وهو المحتوم فإنه تعالى يعلم ما يقع ولا يتردد في شيء فكل شيء موقوف على شرط يعلم أن شرطه يحصل أولا يحصل فإن علم أنه يحصل الشرط يعلم أنه يحصل المشروط به أيضا، وإن علم أنه لا يحصل الشرط علم أنه لا يحصل المشروط، وليس له تعالى تجدد علم بعد الجهل ولا تجدد عزم بعد الترديد، فليس التغيير في علمه تعالى وإرادته بل إن كان شيء من ذلك ففي علم بعض النفوس الذين ليس لهم إحاطة بجميع الشروط والأسباب وما يمكن أن يقع من الموانع والجوائح، ولا مناص عن تأويل صدر المتألهين في توجيه هذه العويصة. (ش)

بداءفي الأولى; إذ الماضي لا قدرة عليه بخلاف الآتي. وفيه أن الأمور الآتية قد تكون محتومة (1) كما ذكرنا سابقا ودل عليه أيضا حديث مولانا الرضا (عليه السلام).

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن سماعة، عن أبي نصير، ووهب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله علمين علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن سماعة، عن أبي بصير، ووهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء) (2) أي إيجاد فعل بالتقدير والتدبير

ص:249


1- 1 - قوله: «قد تكون محتومة» قد تدل على جزئية الحكم، والحق أن القضية كلية وأن الأمور تكون مطلقا محتومة في علم الباري تعالى وإنما يكون الترديد عند النفوس الناقصة. (ش)
2- 2 - قوله: «من ذلك يكون البداء» سبق هذا المعنى في حديث الفضيل بن يسار عن الباقر (عليه السلام) وفي معناه روايات أخر مروية في البحار وغيره وهو حديث مستفيض مؤيد بالعقل على ما سبق وبه يضعف صحة ما روى في بعض الأخبار من أن بعض الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) أخبروا بشيء على البت فلم يقع كما أخبروا للبداء لأنه يرتفع الاعتماد عن أخبار الحجج (عليهم السلام) كما مضى لكن العلامة المجلس (رحمه الله) وقبله صدر المتألهين (قدس سره) التزما بصحة ذلك وأن الأئمة (عليهم السلام) ربما لم يطلعوا على لوح المحو والإثبات وأخبروا بشيء لم يقع على ما أخبروا. قال صدرا المتألهين: إن القوى المنطبعة الفلكية لما حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضى ذلك ولم يحصل لها العلم بتصدقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت لعدم اطلاعها على أسباب التصدق بعد ثم علمت به وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لايتصدق فتحكم أولا بالموت وثانيا بالبرء، وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد كان لها التردد في وقوع ذلك الأمر - إلى أن قال - فإذا اتصلت بتلك القوى نفس النبي أو الإمام (عليه السلام) وقرأ فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصيرته أو سمع بأذن قلبه. انتهى ما أردنا. ولعل مراده أن الحجة يخبر بما رآه وسمعه لا على سبيل البت والقطع بل على الاحتمال والترديد ثم نقول: اطلاع بعض النفوس والقوى على الغائبات أمر ممكن صحيح سواء قلنا بالفلك والنفوس المنطبعة الفلكية أو لا; إذ لا ريب في وجود موجودات مجردة غيبية لهم علم بما سيأتي كما يظهر لنا في الرؤيا الصادقة ونسميها ملائكة وإن سماه نفوسا فلكية ولا يبعد عدم علم بعضهم بجميع الشرائط كما ذكره (قدس سره) وأما اطلاع الأئمة (عليهم السلام) واتصال نفوسهم بتلك النفوس فهو ممكن أيضا لكن لا يشتبه عليهم الأمر بأن يظنوه محتوما ويخبروا به على البت. وقال العلامة المجلسي في البحار: يظهر من بعض الأخبار أن البداء لا يقع فيما يصل علمه إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ويظهر من كثير منها وقوع البداء فيما يصل إليهم أيضا ويمكن الجمع بوجوه ثم ذكر الوجوه; منها: أن المراد بالأولة الوحي ويكون ما يخبرون به من جهة الإلهام واطلاع نفوسهم على الصحف السماوية يعني يكون ما يخبرون به ويقع فيه البداء مما ألهموا به، لا من الله من اللوح المحفوظ بل باطلاع نفوسهم على الصحف السماوية، فيكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ وأما ما أمروا بتبليغه فلا يقع فيه البداء، والصحف السماوية التي ذكرها هي القوى المنطبعة الفلكية التي ذكرها صدر المتألهين، ويبقى هنا سؤال الفرق بين الوحي والإلهام وجواز الخطأ والتغيير في الإلهام دون الوحي، فإن كان إخبارهم بخلاف الواقع قادحا في عصمتهم فلا فرق بينهما، ثم نقول هل الأئمة (عليهم السلام) يميزون بين ما ألهموا وبين ما أوحي إليهم مما لا يتغير أولا وبعد التميز هل يعلمون أن ما اطلعوا عليه في الصحف السماوية ربما لا يكون موافقا للواقع أولا وإن علموا هل يخبرون بما رأوا على سبيل البت أو لا يخبرون إلا على وجه الاحتمال ولابد للعلامة المجلسي (رحمه الله) أن يجيب بأنهم يميزون ولا يخبرون في ما رأوا إلا على وجه الاحتمال فيرجع جوابه إلى الوجه الرابع الذي نقله عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) وهو أن الحجج (عليهم السلام) لم يخبروا قط بشيء يقع فيه البداء على البت وهو الكلام القاطع لمادة الإشكال وإن توهم متوهم أن نبيا أو وصيا ألقي في روعه شيء ولم يميز بين كونه محتوما وغير محتوم تطرق نعوذ بالله إلى جميع أحكام الشرايع والمبدأ والمعاد احتمال الخطأ برفع العصمة، ثم قال العلامة المجلسي: الثالث أن تكون الأولة يعني عدم البداء محمولة على الغالب فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة وهو ضعيف جدا إذ تطرق الخطأ إلى الوحي والإلهام ولو مرة واحدة يرفع الاعتماد عن قول الأنبياء، ولا يجوز الغلو في تصحيح الروايات بحيث يلزم منه إبطال أصل الشريعة. وقلنا في حاشية الوافي (الصفحة 178 من المجلد الثاني): اعتقادنا أن الحجج (عليهم السلام) معصومون يحفظهم الله عن الاتصال بالنفوس الجاهلة وعن أن يغلطوا فيما يوحى إليهم ولا يمكن أن يظنوا ما ليس حقا من جانب الله وحيا مطابقا للواقع. (ش)

والإرادة الحادثة لحكم ومصالح لا يعلمها إلا هو (وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه) بتعليم نبوي وإلهام إلهي، وهكذا ينبغي أن يكون أوصياء الأنبياء وخلفاؤهم في أرض الله تعالى وعباده ولا بداء فيه لما عرفت.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بدا لله في شيء) أي ما نشأ منه سبحانه حكم وإرادة في شيء بالمحو والإثبات على حسب المصالح (إلا كان) ذلك الشيء ومحوه وإثباته ومصالحهما (في علمه قبل أن يبدو له) فهو سبحانه كان في الأزل عالما بأنه يمحو ذلك الشيء الثابت في وقت معين لمصلحة معينة عند انقطاع ذلك الوقت وانقضاء تلك المصلحة ويثبت هذا الشيء في وقته عند تجدد مصالحه، ومن زعم خلاف ذلك واعتقد بأنه بدا له في شيء اليوم مثلا ولم يعلم به قبله فهو كافر بالله العظيم ونحن منه براء.

ص:250

* الأصل:

10 - عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم يبد له من جهل.

* الشرح:

(عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن داود بن فرقد، عن عمرو بن عثمان الجهني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم يبد له من جهل) أي لم ينشأ منه حكم بمحو الثابت من أجل الجهل برعاية جهات حسنه ومصالحه واعتبار ما ينبغي له، ثم علم اشتماله على الخلل والفساد فمحاه كما هو شأن الناقصين في العلم وكذا لم ينشأ منه حكم بايجاد المعدوم في الوقت المعلوم لا قبله من أجل الجهل به قبله لتعاليه عن الجهل بل كل ذلك لأجل مصالح وشرايط لا يعلمها إلا هو، وفي هذين الحديثين إشارة إلى أن بداءه تعالى ليس بداء ندامة وبداء جهل.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل يكون اليوم شيء) من فعله وفعل العباد (لم يكن في علم الله بالأمس قال: لا) لاستحالة الجهل عليه وتجدد العلم له (من قال هذا فأخزاه الله) أي أذله وأهانه وأوقعه في بلية وعذاب (قلت:

أرأيت) أي أخبرني (ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة) بل وما هو كائن في يوم القيامة أيضا (أليس في علم الله؟) لعل الفرض من هذا السؤال بعد الجواب عن السؤال المذكور هو استعلام حال علمه تعالى بجميع الكائنات في جميع الأوقات من حيث الثبوت والاستمرار وعدم التغير (قال: بلى) هو في علم الله أزلا (قبل أن يخلق الخلق) هذا عقيدة جميع أهل الإسلام إلا من لا يعتد به من أهل البدع كما مر آنفا، وفيه دلالة على ثبوت البداء له تعالى وعلى أن بداءه ليس من جهل.

ص:251

* الأصل:

12 - علي، عن محمد، عن يونس، عن مالك الجهني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.

* الشرح:

(علي، عن محمد، عن يونس، عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه); لأن السعي في الشيء على قدر عظمته وزيادة أجره، وفي هذا الإبهام دلالة على عظمة الأجر في هذا القول. كيف لا؟ وفيه اعتراف بتقديره تعالى وتدبيره وقدرته على إيجاد الحوادث واختياره في إفاضة الوجود على ما تقتضيه الحكمة والمصالح واقتداره على ما أراد عدمه وإبقاء ما أراد بقاءه، وفيه أيضا خروج عن قول اليهود القائلين بأنه تعالى قد فرغ من الأمر فراغا لا يريد، ولا يقدر ولا يدبر بعده شيئا (1) وعن قول الحكماء القائلين بأنه واحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وينسبون ما زاد إلى العقل. وعن قول بعض المعتزلة القائلين بأنه خلق الأشياء كلها دفعة واحدة ثم يظهر وجوداتها متعاقبة بحسب تعاقب

ص:252


1- 1 - قوله: «ولا يدبر بعده شيئا» إن العلامة المجلسي (رحمه الله) بعد ما ذكر التوجيهات التي نقلها عن سائر العلماء - قدس الله أسرارهم - وزيفها جميعا قال: ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدل عليه النصوص الصريحة ولا يأبى عنه العقول الصحيحة فنقول وبالله التوفيق: إنهم إنما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون إن الله قد فرغ من الأمر وعلى النظام، وبعض المعتزلة الذين يقولون إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم إنما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها، وإنما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة وعلى بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية وبأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الأول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وينسبون الحوادث إلى هؤلاء فنفوا (عليه السلام) ذلك وأثبتوا أنه تعالى كل يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخر وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك انتهى كلامه. وهذا الذي ظهر له من الآيات والأخبار ليس شيئا غير ما ذكره الشارح هنا وفي تفسير عنوان الباب، إلا أن الشارح قال هنا عن قول الحكماء القائلين بأن الواحد، اه. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) على بعض الفلاسفة القائلين فزاد كلمة بعض لأنه اعتقد أن جميع الفلاسفة لا يقولون بتفويض الله تعالى أمر الخلق إلى العقول بل العقل عندهم سبب وواسطة كسائر العلل الطبيعية وبالجملة فما اختاراه عين قول الصدوق رحمهما الله وأنه رد لقول اليهود (وقد أورد - رحمه الله - كلام الصدوق في الصفحة 136 من المجلد الثاني من بحار الأنوار فراجع) وقال إنه بمعزل عن البداء وبينهما كما بين الأرض والسماء. ألا ترى إلى قوله إعدام شيء وإحداث آخر وإماتة شخص وإحياء آخر فإن ذلك ليس بداء، والبداء هو العزم بإماتة شخص بعينه ثم تغيير العزم وإحياء ذلك الشخص بعينه هذا هو الاصطلاح، وأما البداء في كلام الأئمة على تأويل الصدوق فشئ مخالف للبداء المصطلح ولا ضير فيه إذ كثيرا ما اتفق اختلاف الاصطلاحين. ومع ذلك فالبداء مصرح به في التوراة التي بأيدي اليهود الآن. (ش)

الأزمنة. وعن قول الدهرية القائلين بأن الجالب للحوادث هو الدهر. وعن قول الملاحدة القائلين بأن المؤثر هو الطبايع.

* الأصل:

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن عمرو الكوفي أخي يحيى، عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن عمرو الكوفي أخي يحيى، عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تنبأ نبي) أي ما صار النبي نبيا ولم ينل شرف النبوة (قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء والمشية والسجود والعبودية والطاعة) رد بالبداء على من أخرجه عن سلطانه في ملكه وبالمشية وهي الإرادة على من قال: إنه موجب، وبالسجود وهو موضع أشرف الأجزاء على التراب للتذلل له على من أنكر استحقاقه للسجود وحده أو بالكلية لإنكار أصل وجوده، وبالعبودية على من قال: عزير ابن الله وعيسى ابن الله، كما رد عليه جل شأنه بقوله: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله). وبالطاعة على من قال من المتصوفة: إن الطاعة مرفوعة عمن بلغ غاية الكمال لأنها من المعالجات التي تحتاج إليها النفس لبرئها من الأمراض فإذا برئت لا تحتاج إليها، وعلى من أنكر من المبتدعة التكليف مطلقا لأنه مشقة علينا ولا ينفعه تعالى مع أنه يقدر أن يعطينا بدون الطاعة ما يعطينا معها وهذا مزخرف من القول، ثم هذا الحديث لا ينافي ما سبق في حديث محمد بن مسلم من أن المأخوذ عليهم ثلاث خصال إذ لا دلالة فيما سبق على الحصر إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة كما بيناه في أصول الفقه على أنه يمكن إدراج الطاعة والسجود في العبودية أولا وإدراج البداء والمشية في قوله «يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء» وإدراج خلع الأنداد في العبودية أخيرا، فكل ما هو مذكور في الأول مذكور في الأول مذكور في الآخر وبالعكس.

* الأصل:

14 - وبهذا الاسناد عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن يونس، عن جهم بن أبي جهمة، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل أخبر محمدا (صلى الله عليه وآله) بما كان منذ كانت

ص:253

الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا وأخبره بالمحتوم من ذلك واستثنى عليه فيما سواه.

* الشرح:

(وبهذا الاسناد، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن يونس عن جهم بن أبي جهمة) جهم بالجيم المفتوحة والميم بعد الهاء الساكنة، وأبي جهمة كذلك مع الهاء بعد الميم وفي بعض النسخ بدون الهاء وقيل جهيم بن أبي جهم بالتصغير في الأول (عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن الله أخبر محمدا (صلى الله عليه وآله) بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا) من الأمور الكلية والجزئية والحوادث اليومية (وأخبره بالمحتوم من ذلك) أي مما يكون إلى انقضاء الدنيا والمراد بالمحتوم ما يكون محكما واجب الوقوع (واستثنى عليه فيما سواه) (1) بأن قال: إنه سيقع إن قضيت أو إن أردت أو إن أوجدت على تقدير الحكمة والمصلحة والبداء إنما يكون في هذا القسم لا فيما يكون حتما ولا فيما كان لأنه وقع فلا يصح أن لا يقع، وقيل هاهنا أيضا المراد بالمحتوم

ص:254


1- 1 - قوله: «واستثنى عليه فيما سواه» صريح في التأويل الذي نقل عن الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة وحاصله أن كل شيء يتوهم وقوع البداء فيه ليس مما قضى به الله تعالى على البت ولا أخبر أنبياءه ورسله كذلك بل أخبرهم على الاحتمال وإمكان وقوع الخلاف وباصطلاح فقهائنا أخبرهم بالاقتضاء لا العلية التامة، وعلى هذا فلا بداء بالمعنى المتبادر المصطلح عليه واعتقادي أن كلام الشيخ هو الحاسم لمادة عويصة البداء وتوجيه لجميع ما ورد في أحاديثنا من هذه الكلمة ولا يستغنى عنه القائل بساير التأويلات مما ذكره في بحار الأنوار وغيره منها تأويل الصدوق (رحمه الله) وهو أن البداء ليس تغيير حكم وقضاء راجع إلى شخص بعينه بل إثبات حكم بعد زوال حكم آخر وهو النسخ أو إيجاد شيء بعد إفناء شئ آخر كإحياء زيد بعد إماتة عمرو، كما مر تفصيله، ومنها تأويل السيد المحقق الداماد (قدس سره) وهو أن البداء تغيير حال شخص بعينه في التكوين مثل إماتة زيد بعد مضي أجله وشفائه بعد انقضاء مدة مرضه وإغنائه بعد اقتضاء المصلحة فقره نظير النسخ فإنه تغيير الحكم الشرعي بعد انقضاء مدته واعترض المجلسي عليه الرحمة على مثله بأن هذا ليس معنى البداء. أقول: لأن المصطلح منه هو تغيير قضاء بالنسبة إلى شخص واحد في زمن واحد. ومنها تأويل صدر المتألهين (قدس سره) نقله المجلسي (رحمه الله) بعنوان بعض الأفاضل وقد مر ولا حاجة إلى نقل عبارته هنا. ومنها ما نقله عن بعض المحققين ومراده الميرزا رفيعا النائيني - (قدس سره) - قال: تحقيق القول في البداء أن الأمور كلها عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومفرداتها ومركباتها وأخباراتها وإنشاءاتها بحيث لا يشذ عنها شيء منتقشة في لوح، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قد يكون الأمر العام المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ويتأخر المبين إلى وقت تقتضى الحكمة فيضانه فيه وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو والإثبات، والبداء عبارة عن هذا التغيير في ذلك الكتاب، انتهى. ولا يفهم منه شيء غير ما قاله صدر المتألهين من نسبة التغيير إلى علم بعض النفوس العلوية أو النفوس الفلكية. والظاهر من المجلسي (رحمه الله) أنه غير تأويل الصدر ولعل نظره إلى أن لفظه غير لفظ الصدر لا أن معناه غير معناه. ومنها ما نقله عن السيد المرتضى (قدس سره) في جواب مسائل أهل الرأي أن البداء في اصطلاح الأئمة هو النسخ لا غيره، ولا يخفى أن جميع هذه الوجوه لا تستغنى عن كلام الشيخ الطوسي (رحمه الله) إن صح ما روي في الموارد الخاصة التي صرح فيها بالتغير. (ش)

ما كان،وبغيره - وهو ما استثنى عليه - ما يكون - فإن كل ما يكون يجري فيه البداء ولا يجري البداء في شيء مما كان إذ لا بداء بعد القضاء. وفيه ما مر من أن بعض ما يكون لا يجري فيه البداء أيضا كما يرشد إليه بعض الروايات.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر) تحريم الخمر كان ثابتا في جميع الأزمان وفي جميع الملل وما رواه العامة من أن شربها كان حلالا في شرعنا أولا ثم حرم فالظاهر أنه افتراء (وأن يقر لله بالبداء) لأنه من اصول الإيمان بالله القادر المختار. (1)

ص:255


1- 1 - «لأنه من أصول الإيمان بالله القادر المختار» وذهب بعض علماؤنا إلى أن الإيمان بالبداء يقتضي توجه العباد إلى الله تعالى بالدعاء وطلب التوفيق والمغفرة لأنهم إذا اعتقدوا أن القضاء لا يتغير وأيسوا من الدعاء والإجابة لم يعبدوا الله تعالى ولم يطلبوا منه شيئا، وطريقة الأنبياء دعوة الناس إلى الطلب من الله تعالى كما هو معلوم وذكرنا ما عندنا في ذلك في حواشي الوافي، وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) ثم اعلم: أن الآيات والأخبار تدل على أن الله تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات أحدهما اللوح المحفوظ والذي لا تغير فيه أصلا وهو مطابق لعلمه تعالى والاخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولى الألباب مثلا يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه ستون وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون، انتهى. أقول: ولوح المحو والإثبات هو الذي عبر عنه في موضع آخر بالصحف السماوية كما مر ومرجعه إلى تأويل صدر المتألهين وأن البداء ليس في علم الله ولا في اللوح المحفوظ بل في بعض مخلوقاته وسماه لوح المحو والإثبات كما سماه الصدر القوى المنطبعة الفلكية واللوح والقلم على ما ذكره الصدوق في اعتقاداته ملكان من ملائكة الله، فتأويل المجلسي (رحمه الله) يرجع إلى تأويلين أحدهما ما مر وهو عين تأويل الصدوق عليه الرحمة في كتاب التوحيد وهو في معنى انكار البداء والتغير بتا كما سبق، والثاني ما نقلناه هنا وهو عين تأويل صدر المتألهين (قدس سره) ومرجعه إلى الإقرار بالبداء والتغير لكن لا بالنسبة إلى علم الله تعالى بل إلى علم بعض مخلوقاته ولكن الظاهر أن المجلسي (رحمه الله) رأى أنهما تأويل واحد غير متخالف ولا بد من التأمل في ذلك وعلى كل حال فحمل البداء على تأثير الدعاء والصدقات وصلة الرحم حسن جدا لكنه ليس من البداء المصطلح في شيء إذ لا حاجة إلى الالتزام بلوح المحو والإثبات فيه بل إذا اعتقد الإنسان أن القضاء لا يتغير وأن علمه تعالى تعلق بحصول الصحة من المرض وطول العمر والغنى بعد الفقر بعد حصول أسباب طبيعية كشرب الدواء والتجارة والسعي في طلب الرزق أو أسباب روحانية كصلة الرحم والدعاء والتضرع كفى في السعي والطلب وفي الدعاء أيضا وبذلك يجمع بين القول بالقضاء والقدر وبين اختيار العبد وتكليفه بالسعي والعمل لتحصيل معاشه ومعاده من غير أن نلتزم بالبداء المصطلح كما سيجيء إن شاء الله في محله. (ش)

* الأصل:

16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإرادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذوي لون وريح ووزن وكيل وما دب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس.

فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله يفعل ما يشاء فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها وذلك تقدير العزيز العليم.

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله) هذا الحديث من الثنائيات فهو من أعلى الأسانيد العالية (1) ولعل السائل استفهم عن تقدم علمه على المعلومات أو عن كفاية علمه بها في وجودها، والجواب مشعر بتقدمه عليها بمراتب وعدم كفايته في وجودها بل بينه وبين وجودها وسائط (قال علم) أي علم في الأزل بأنه سيوجد الأشياء، وهذا العلم بعينه هو العلم بها بعد وجودها لما عرفت آنفا من أن العلم بالأشياء قبل وجودها وبعده واحد، وأن العلم نفس ذاته ولا معلوم سواه فلما أحدث المعلومات وقع العلم منه عليها

ص:256


1- 1 - قوله: «فهو من أعلى الأسانيد العالية» ما ذكره غير ظاهر لأنا لا نعلم الإمام الذي عناه بقوله سئل العالم فلعله كان متقدما على معلى بن محمد كثيرا أو لعله كان في زمانه لكنه سمعه بواسطة والقول بكون الحديث مرسلا أظهر، وأما معنى الحديث وتفسيره فسيجيء إن شاء الله في نظائره في الأبواب الآتية إن شاء الله. (ش)

(وشاء) ما يكون في وجوده مصلحة ويكون وجوده خيرا محضا أو خيرا غالبا (وأراد) إرادة عزم فهي آكد من المشية وأخص منها كما يجيء في رابع الجبر والقدر تفسير الإرادة بأنها هي العزيمة على ما يشاء وقد يعبر عنها بأنها هي الثبوت على ما يشاء يعني الجد فيه، وربما يفهم من كلام بعض العلماء أن المشية هي العلم بشيء مع ما يترجح به وجوده فهي حينئذ نوع من العلم مغايرة للإرادة (وقدر) أي قدر الأشياء أولها وآخرها وحدودها وذواتها وصفاتها وآجالها وأرزاقها إلى غير ذلك مما يعتبر في كمالها وتميزها وتشخصها (وقضى) أي حكم بوجود تلك الأشياء في الأعيان على وفق الحكمة والتقدير (وأمضى) أي أنفذ حكمه وأتمه فجاءت الأشياء كما أرادها وقدرها وقضاها مع أسبابها وشرايطها وتميزاتها وتشخصاتها في أماكنها ومساكنها طوعا وانقيادا لقدرته القاهرة كما قال سبحانه (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فهذه ستة أمور لابد منها في خلق كل شخص من أشخاص الموجودات وإيجاد كل فرد من أفراد المخلوقات، وبين تلك الأمور ترتب وتسبب في لحاظ العقل، نظير ذلك أن الصانع منا لشيء لا بد من أن يتصور ذلك الشيء أولا وأن تتعلق مشيته وميله إلى صنعه ثانيا وأن يتأكد العزم عليه ثالثا وأن يقدر طوله وعرضه وحدوده وصفاته رابعا وأن يشتغل بصنعه وإيجاده خامسا وأن يمضي صنعه سادسا حتى يجيء على وفق ما قدره، إلا أن هذه الأمور في صنع الخلق لا تحصل إلا بحيلة وهمة وفكر وشوق ونحوها بخلاف صنع الحق فإنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك كما مر (فأمضى ما قضى) أي فأبرم وأتم وأحكم ما حكم بوجوده (وقضى ما قدر وقدر ما أراد) أشار بهذا التفريع إلى أن وجود القضاء وتحققه دليل على وجود جميع الأمور المذكورة المعتبرة في لحاظ العقل لتحققه; لأن وجود المسبب دليل على وجود جميع أسبابه المتعاقبة، أو إلى أنه يمكن اعتبار تلك الأمور وملاحظتها تارة على سبيل التعاقب وتارة على سبيل الاجتماع وإنما لم يقل أيضا أراد ما شاء وشاء ما علم إما للاقتصار لظهور ذلك مما ذكر، أو لأنه لا تفاوت بين المشية والإرادة إلا بحسب الاعتبار، وتعلق المشية بكل ما علم غير صحيح لأنه تعالى عالم بالمفاسد والقبايح ولا يشاؤها، ولما كان المقصود مما ذكر هو بيان الترتب في الأمور المذكورة فرع عليه الترتب بقوله:

ص:257

(فبعلمه كانت المشية) (1) إذ مشية الشيء متوقفة على العلم به وبجهات حسنه (وبمشيته كانت الإرادة) أي الإرادة المؤكدة بالعزم على المشية إذ العزم على الشيء فرع لحصول ذلك الشيء (وبإرادته كان التقدير) إذ تقدير الشيء يقع بعد إرادته كما أن الباني يقدر في نفسه طول البيت وعرضه وسائر ما يعتبر في خصوصياته بعد العزم على بنائه (وبتقديره كان القضاء) إذ خلق الشيء والحكم بوجوده يقع بعد تقديره بقدر معين ووزن معلوم ومقدار مخصوص فإن القضاء بمنزلة البناء والقدر بمنزلة الأساس ولا يتحقق البناء بلا أساس (وبقضائه كان الإمضاء) إذ الإمضاء هو إتمام القضاء وإنفاذه والفراغ منه ولا يتصور ذلك بدون القضاء، ثم أكد ذلك بقوله:

(والعلم متقدم على المشية (2)، والمشية ثانية والإرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء) النسبة بين التقدير والقضاء كالنسبة بين العلم والمعلوم في التقدم والتأخر فكما أن العلم واقع على المعلوم منطبق عليه إذا وجد المعلوم كذلك التقدير واقع على القضاء منطبق عليه إذا وجد القضاء بالإمضاء، ثم لما كان الانطباق من الطرفين كان القضاء أيضا منطبقا على التقدير واقعا على وفقه (فلله البداء فيما علم متى شاء (3) وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء)

ص:258


1- 1 - قوله: «فبعلمه كانت المشية» ليس المراد التأخر الزماني بمعنى أن يكون العلم قبل المشية قبلية بالزمان وهكذا ما بعده بل إن أمكن فرض وجود زمان حين وجود علم الباري تعالى علمه ومشيته وإرادته وتقديره وقضاؤه وإمضاؤه في زمان واحد، والباء في بعلمه وبمشيته وغيرها بمعنى السببية. والتعليل.
2- 1 - قوله: «العلم متقدم على المشية» المراد به التقدم بالعلية وبذلك ثبت أن العلية لا تقتضي التقدم الزماني بل العلية نفسها مناط التقدم. (ش)
3- 2 - قوله: «فلله البداء فيما علم متى شاء» لا يظهر المراد من البداء هنا حق الظهور إلا بعد ما سيجيء إن شاء الله تعالى من تفسير مراتب القضاء وبعد اللتيا والتي، فالبداء ليس يستحق هذه العناية والتهويل الذي اهتم به المتأخرون واستوعروا مسلكه واستصعبوا حله ولست أرى فيه شيئا أوجب هذا الاستعضال، وفهم وجه عنايتهم به عندي أشكل من أصل المسألة وما أدري سبب هذه العناية التامة العجيبة وذلك لأنه لا خلاف بين علمائنا في أن البداء محال على الله تعالى كما مر وأنه لا يجوز التغير في علمه ولا يجوز عليه الكذب بأن يخبر الحجج بوقوع ما لا يقع أصلا ولا أن يمكن أنبيائه ورسله من اعتقاد الأمر الباطل، وأيضا لا خلاف بينهم في أن ما ورد في الروايات من نسبة البداء إلى الله تعالى فهو مثل نسبة الرضا والغضب والكراهة والحب والحزن والأسف يجب تأويله بوجه صحيح يمكن نسبته إلى الله تعالى، وحينئذ فالاختلاف في البداء لفظي نظير أن يختلفوا في أن الله تعالى هل يغضب أو لا، فمن نفاه فمراده نفي حقيقته ومن أثبته فلا بد أن يؤوله، ولما كان مقام بيان العقائد فالصحيح أن يقال لابداء كما لا غضب ولا رضاء وليس له تعالى يد ولا رجل ولا عين ولا إذن كما نقلناه عن المحقق الطوسي وغيره من العلماء، ولا وجه لاعتراض أهل الحديث عليهم بروايات لا يخالفون في وجوب تأويلها وإن اختلفوا في وجه التأويل، وما أشبه مسألتنا بمسألة الجهة عند مشبهة العامة حيث يوافقون غيرهم في أنه تعالى ليس جسما ولا يحويه مكان ويوجبون التعبد بالتصريح بكلمة الاستعلاء على العرش، وهكذا يوجب بعض علمائنا التعبد بالتلفظ بالبداء وإن وافقوا غيرهم في نفي معناه، والعامة أيضا يوجبون التلفظ بإمكان رؤية الله تعالى للمؤمنين في الآخرة. وفي البداء أمور ونكات رأينا أن نشير إليها في تضاعيف مباحث القضاء والقدر ومطاوي الأحاديث الآتية لجهات ستظهر إن شاء الله تعالى. (ش)

أشار بذلك إلى إذا لوحظت تلك الأسباب من أولها إلى أعلى المسببات أعني القضاء بالإمضاء كان له تعالى البداء في كل مرتبة من مراتب تلك الأسباب إذ له أن يشاء وأن لا يشاء بقدرته واختياره على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة وأن يريد وأن لا يريد وأن يقدر وأن لا يقدر، وهذا معنى البداء في حقه تعالى. وإذا لوحظت تلك المسببات من آخرها وهو القضاء بالإمضاء لا بداء له في شيء من مراتبها; لأن تحقق القضاء دليل على وقوع جميع أسبابها، ووقوع ما وقع خارج عن متعلق القدرة والإرادة إذ لا يقدر أحد على وقوع ما وقع ولا يمكن له إرادته; لأن القدرة والإرادة إنما يتعلقان بالشيء قبل وقوعه لا بعده بالاتفاق، ثم أشار إلى أن كلا من العلم والمشية والإرادة والتقدير متعلق بمتعلقه قبل وجود ذلك المتعلق في الأعيان على سبيل التفريع لكونه نتيجة للسابق ومعلوما منه بقوله:

(فالعلم بالمعلوم قبل كونه) في الخارج بمراتب; لأن كونه في الخارج بعد القضاء والعلم مقدم عليه بثلاث مراتب كما عرفت، وسر ذلك أن ذاته تعالى في الأزل علم بالموجودات في أوقاتها، وبعبارة أخرى: هو علم في الأزل بأنه سيوجدها في أوقاتها، فالعلم أزلي، والمعلوم حادث (والمشية في المنشأ (1) قبل عينه) أي قبل وجوده في الأعيان بمرتبتين أو قبل تعيين عينه وحقيقته (والإرادة في المراد قبل قيامه) في الزمان والمكان، والحاصل قبل وجوده في الأعيان لأن قيامه إنما هو بالإرادة المتعلقة بإيجاده في وقت معين وحدها أو لمرجح على اختلاف، وعلى التقديرين قيامه مسبوق بالإرادة (والتقدير لهذه المعلومات) المذكورة أعني المشيء والمراد أو المحسوسة والمشاهدة في هذا العلم (قبل تفصيلها وتوصيلها) أي تفصيل بعضها عن بعض وتوصيل بعضها ببعض; لأن التفصيل والتوصيل واقعان على وفق التقدير (عيانا ووقتا) نصبهما على الظرفية لكل من التفصيل والتوصيل. أما التفصيل العياني أي الخارجي فهو مثل جعل السماء مرفوعة والأرض موضوعة وجعل بعض الحيوان متحركا على رجلين وبعضه على أربع ووضع بعض الأجسام في مشرق وبعضها في المغرب ووضع بعض الأحوال في محل وبعضها في محل آخر إلى غير ذلك مما لا يحصى، وأما التوصيل العياني فهو مثل جعل هذا الجسم متصلا بآخر مماسا به مقاربا له في

ص:259


1- 1 - أو المشيء مفعول شاء. (ش)

المكان وجعل هذه الاشخاص متساوية في الحقيقة ولوازمها ووضع هذه الأحوال في محل واحد وأمثال ذلك مما لا يعد كثرة، وأما التفصيل الوقتي فهو كجعل بعض الأشياء موجودا في هذا الزمان وبعضها في زمان سابق وبعضها في زمان لاحق، وأما التوصيل الوقتي فهو كجعل كثير من الأشياء متشاركة في الوجود في هذا الزمان وكثير منها متشاركة في الوجود في زمان آخر (والقضاء بالإمضاء) أي الحكم على تلك المعلومات بإمضائها ووجودها على وفق التقدير (هو المبرم) أي المحكم المتقن الواقع بلا دافع ولا مانع ولا خلل من جهة القضاء ولا من جهة الإمضاء ولا من جهة المقضى ولا من جهة انطباقه على النظام الأكمل (من المفعولات) بالفاء والعين، والظاهر أن «من» صلة للمبرم أو بيان له وجعلها بيانا للمعلومات بعيد (ذوات الأجسام) بيان للمفعولات أو بدل منه أي الذوات التي هي الأجسام (المدركات بالحواس) فالإضافة بيانية أو الذوات التي للأجسام، والإضافة لامية فيندرج حينئذ في الذوات العقول والنفوس مطلقا سواء كانت فلكية أو حيوانية (من ذوي لون وريح ووزن وكيل) بيان للأجسام والمراد بالوزن والكيل كون تلك الأجسام على مقدار مخصوص وحد معلوم (وما دب ودرج) عطف على ذوات الأجسام من باب عطف الخاص على العام، والدبيب والدروج المشي على الأرض والمراد هنا مطلق الحركة وإن كان في الهواء (من أنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس) من أنواع الحيوان وأشخاصه (فلله تعالى فيه) أي في كل واحد من المعلوم والمشيء والمراد والمقدر والمذكور في قوله:

فالعلم بالمعلوم قبل كونه إلى آخره (البداء) أي الإرادة والقدرة على اختيار أحد الطرفين لمرجح أولا على اختلاف المذهبين (مما لا عين له) أي مما ليس له وجود في الأعيان، وهذا حال عن الضمير المجرور في قوله فيه (فإذا وقع العين المفهوم المدرك) بالحواس بعد القضاء بالإمضاء (فلا بداء) إذ لا تتعلق الإرادة والقدرة بإيجاد الموجود كما عرفت (والله يفعل ما يشاء) الظاهر أنه تأكيد لثبوت البداء له تعالى فيما ذكر ويحتمل أن يكون بيانا وتعليلا لعدم ثبوت البداء له في المفعولات العينية المدركة بالحواس; لأن المراد بالبداء هنا هو أن يفعل ما يشاء فعله وإيجاده، وهذا المعنى لا يمكن تحققه في شيء بعدما فعله وأوجده، نعم يمكن له أن يعدمه ويزيل وجوده لحكمة ومصلحة كما في النسخ وغيره، وهذا أيضا بداء ولكن المراد بالبداء المنفي هو البداء في إيجاد الموجود فليتأمل

ص:260

(فبالعلم) الذي هو نفس ذاته المقدسة (علم الأشياء قبل كونها) (1) أي قبل وجوداتها المتعاقبة الزمانية (وبالمشية عرف صفاتها) الظاهر أن عرف من المعرفة لا من التعريف (وحدودها وإنشاءها قبل إظهارها) في الأعيان، وفيه إشعار بأن المراد بالمشية هنا هو العلم بالأشياء من حيث اتصافها بالصفات المذكورة، وهذا قريب مما ذكرناه سابقا، ولعل الوجه لذلك أن العلم المذكور سبب للمشية فأطلقت المشية على العلم مجازا من باب تسمية السبب باسم المسبب (وبالإرادة ميز أنفسها) أي أنفس الأشياء (في ألوانها وصفاتها) من الكيفيات والحدود وغيرها، وفيه إشارة إلى أن تخصيص كل شيء بلون مخصوص وصفات معينة بمجرد الإرادة من غير ملاحظة استعداد واعتبار قابلية كما هو مذهب الفلاسفة (2) (وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها) من الزمان المقدر وجودها فيه ويحتمل أن يراد أولها من حيث ذواتها وآخرها من حيث صفاتها (وبالقضاء أبان للناس أماكنها) المحسوسة والمعقولة (ودلهم عليها) أما المحسوسة فظاهرة، وأما المعقولة فهي أمكنتها في مرتبة العلم والمشية

ص:261


1- 1 - قوله: «فبالعلم علم الأشياء قبل كونها» لا ريب أن الله تعالى ليس محلا للحوادث ولا يتجزى ذاته ولا مدخل للتركيب فيه وليس شيء من صفاته الذاتية حادثا وانما الحدوث والتقدم والتأخر في الإضافات وكذلك التكثر والتعدد فهو يعلم الجميع بعلم بسيط وعلمه إرادته، والفرق بين العلم والإرادة اعتباري إن جعلنا الإرادة من صفات الذات أو الإرادة نفس الفعل إن جعلناها من صفات الفعل، وقد سبق في المجلد الثالث الصفحة 344 باب في الإرادة. وعلى كل حال فهذا الترتيب والتقسيم في مراتب القضاء على ما ذكره الإمام (عليه السلام) بالنظر إلى الممكن المخلوق لا بالنسبة إلى الخالق والممكن يوجد أو لا يوجد والله تعالى عالم بذلك من الأزل وأيضا له ماهية وحد أي ذاتيات كالجنس والفصل. وثالثا له صفات وعوارض لذاته لكن خارجة عن ذاته كالألوان والطعوم. ورابعا أجل وأمد ومدة بقاء أعني له زمان وفي زمان وجوده قد يكون له قوت ورزق بدل ما يتحلل منه. وخامسا له مكان إن كان محسوسا: ومرتبة في الوجود إن كان معقولا. وسادسا له شرائط وأسباب وعلل يحتاج في وجوده إليها من المعدات وغيرها، والله تعالى يعلم جميع ذلك من ممكن معين وغيره من الممكنات بعلم بسيط إلا أن علمه بالنسبة إلى كل واحد من الستة المذكورة سمي باسم كما ذكره (عليه السلام) والتقدم والتأخر فيها بالنسبة إلى الممكن المخلوق لا إلى الخالق; لأن الوجود مقدم على الماهية على المذهب الحق من أصالة الوجود، والذاتيات مقدمة على العرضيات، والصفات اللازمة لذات الشيء مقدمة على ما يعرضه باعتبار ساير الأشياء كالزمان والمكان، واعتبار الذات وتعيينها أقدم من اعتبار علل وجودها فإنها أمور خارجة، فالنطق وقابلية العلم وصنعة الكتابة للانسان ووجود الأب والأم خارج عنه (ش).
2- 1 - قوله: «واعتبار قابلية كما هو مذهب الفلاسفة» ليس اعتبار القابلية والاستعداد مذهبا فلسفيا فقط بل هو أمر تجربي; لأن الناس رأوا أن البر لا ينبت إلا من البر في أرض مستعدة وماء وهواء وحرارة معتدلة ولا ينبت في غير شرائطه، وقد سبق ما يدل عليه، ويأتي في هذا الحديث أيضا قوله: «وبالإمضاء شرح عللها» وزاد الشارح: الفاعلية والمادية والصورية والغائية، وسبق شيء يتعلق بالاستعداد في حواشي الصفحة 269 من هذا المجلد. (ش)

والإرادة والتقدير، فإن أصحاب العقول الخالصة يعلمون بعد مشاهدة وجوداتها العينية الحاصلة بعد القضاء أن لها وجودات في هذه المراتب بحسب نفس الأمر (وبالإمضاء شرح عللها) الفاعلية والمادية والصورية والغائية (وأبان أمرها) من حقايقها وصورها ومصالحها ومنافعها وحركاتها وسكناتها إلى غير ذلك من عجايبها وغرايبها التي يتحير فيها عقول ذوي البصائر (وذلك تقدير العزيز العليم) أي ذلك المذكور من كيفية الإيجاد تقدير العزيز الغالب القاهر على جميع المكنات، العليم المحيط علمه بجميع الكائنات فيعلم كيفية سوقها من كتم العدم إلى الوجود والظهور، ويعلم فروعها وأصولها وأجناسها وفصولها ولواحقها وعوارضها وخواصها ومنافعها وأماكنها ومواضعها وطريق تميز بعضها عن بعض وضم بعضها إلى بعض، سبحان الذي لا يخفى عليه شيء في ملكه ولا يعجزه شيء عن أمره.

ص:262

باب في انه لا يكون شيء في السماء والأرض إلا بسبعة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد جميعا، عن فضالة بن أيوب، عن محمد ابن عمارة، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر.

ورواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن حفص، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وابن مسكان مثله.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ابن عيسى، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد جميعا، عن فضالة بن أيوب، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا يكون شيء من أفعال الخالق وأفعال الخلق (1) في الأرض ولا في السماء) المراد به هو التأكيد في

ص:263


1- 1 - قوله: «وأفعال الخلق» والأظهر أن يخصص الكلام بأفعال الخالق، وغرض الإمام (عليه السلام) أن الأمور التكوينية لا يكون في الأرض ولا في السماء إلا بسبعة لا الأفعال الاختيارية للناس وحينئذ فلا حاجة إلى الشرح الطويل الذي أورده لتطبيق مفاد الحديث على أفعال الناس ولا منافاة بين كون هذه الأمور هنا سبعة وفي الحديث السابق ستة لاحتمال اندراج بعضها في الباقي كما يتفق في ساير التقاسيم فيقال مثلا: الاعراض ثلاثة: الكم والكيف والنسبة، وقد يقال تسعة: الكم والكيف والوضع والجدة ومتى وأين إلى آخره وكلها داخلة في النسبة وقد يقال أكثر، وأمثلته كثيرة جدا، ووجه تكثر هذه الأمور أن كل شيء ممكن يخلقه الله تعالى وله صفات وحدود وأجل وغيرها، وكل واحد منها بإرادته تعالى وتقديره واختياره وليس لأحد غيره تعالى فيه تأثير، مثلا: الشجر الذي ينبت من بذر خاص يوجد بإرادة الله ولا يقدر أحد أن يوجده بغير إرادته تعالى وله صفات نوعية وطبيعية خاصة مثل كونه شجر رمان أو تفاح وله خواص صنفية مثل كونه حامضا أو حلوا وله امتداد طولي معين وعدة أغصان وضخامة وغير ذلك من المقادير وله مدة وأجل وهكذا ساير ما يتعلق بهذا الموجود كلها بإرادة الله تعالى لا يقدر أحد على تغييره ونقضه، ومن زعم أنه يقدر على ذلك فقد كفر. اللهم إلا أن يكون بتسبيب الأسباب كغرس البذر والسقي وتربية الأغصان وغير ذلك من غير أن يكون لأحد تأثير في الإيجاد بل يخلى بينه وبين طبيعته الحاصلة له بإذن الله، ثم إنه (عليه السلام) سمى تعيين كل واحد من هذه باسم كما مر مثله (ش).

عمومية الشيء (إلا بهذه الخصال السبع بمشية وإرادة) قد مر أن الإرادة هي العزيمة على المشية (1) وتأكد العزم والثبوت عليها وأنت خبير بأن هذا بحسب الظاهر إنما ينطبق على مذهب الأشاعرة القائلين بأن الإرادة موافقة للعلم بمعنى أن كل ما علم الله تعالى وقوعه فهو مراد الوقوع وكل ما علم الله تعالى عدم وقوعه فهو مراد العدم كما صرح به بعض الأفاضل في شرح الطوالع فهم يقولون بأن جميع أفعال العبادة التي صدرت منهم من الطاعات والمعاصي مثل الكفر والزندقة وسب النبي وسبه تعالى مراد له تعالى، وأما انطباقه على مذهب العدلية أعني المعتزلة والإمامية القائلين بأنه تعالى يريد من أفعال العباد الطاعات والخيرات ولا يريد المعاصي والشرور فقد استفدناه من الحديث وكلام الأصحاب من وجوه:

الأول - أنه مشيته تعالى وإرادته متعلقة بجميع الموجودات بمعنى أنه أراد أن لا يكون شيء إلا بعلمه كما يرشد إليه الحديث الخامس من الباب الآتي، الثاني: أن الإرادة متعلقة بالأشياء كلها لكن تعلقها بها على وجوه مختلفة; لأن تعلقها بأفعال نفسه بمعنى إيجادها والرضا بها لكون كلها حسنة واقعة على وجه الحكمة، والشر القليل تابع لخيرات كثيرة فيه وليس مرادا بالذات، وتعلقها بأفعال العبادة أما الطاعات فهو إرادة وجودها والرضا بها أو الأمر بها، وأما بالمباحات فهو الرخصة بها، وأما بالمعاصي فهو إرادة أن لا يمنع منها بالجبر والقهر، وقد صرح به الصدوق في كتاب الاعتقادات أو إرادة عدمها، وبذلك فسروا قوله تعالى (لو شاء الله ما أشركوا) حيث قالوا ولو شاء الله عدم شركهم على سبيل الإجبار ما أشركوا ولكن لم يشأ على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف وإنما شاء على سبيل الاختيار ليكون لهم القدرة على الفعل والترك.

ومما يدل على هذا المعنى ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن الرضا (عليه السلام) قال: «إرادة الله تعالى ومشيته في الطاعات الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها. قال السائل: فلله فيه قضاء؟ قال: نعم ما من فعل يفعل العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء قال السائل: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» نقلنا بعض الحديث بحسب المعنى.

الثالث - أن تعلقها بأفعاله تعالى هو ما مر وتعلقها بأفعالهم على سبيل التجوز باعتبار إيجاد الآلة والقدرة عليها وعدم المنع منها فكأنه أرادها.

ص:264


1- 1 - قوله: «هي العزيمة على المشيئة» ولكن في كلام الإمام (عليه السلام) في الحديث السابق تخصيص المشيئة بالذاتيات والصفات المنوعة وتخصيص الإرادة بالعوارض الذاتية. (ش)

الرابع - إن إرادته تعالى عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة.

الخامس - إن إرادة العبد لأفعاله مخلوقة لله تعالى وقد صرح به سيد المحققين في تفسير قول الصادق (عليه السلام) «خلق الله المشية ثم خلق الأشياء بالمشية» حيث قال: المراد بالمشية هنا إرادة المخلوقين والمراد أنه تعالى خلق إرادتهم بنفسها لا بمشية أخرى مباينة لها ثم خلق الأشياء يعني أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشية بتلك المشية وصرح به أيضا السيد الشهيد الثالث الشوشتري في شرحه لكشف الحق حيث قال في بحث إبطال الكسب: أصل الإرادة مخلوقة له تعالى، والإرادة الجازمة التي صدر منها الفعل وهي الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع اختيارية لنا لأنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا لكن تعلق الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى تصير جازمة موجبة للفعل فإنا قد نريد شيئا ومع هذا نكف نفسنا عنه وذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى وجود الداعي إليه فإن عدم علة الوجود علة العدم وعدم الداعي إلى هذا وهكذا وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لنا لاستناد عدم كف النفس المعتبر فيها إلى اختيارنا وإن لم يكن نفسها اختيارية.

ثم ذكر ما أورده بعض الجبرية على قول العلامة الحلي في كشف الحق بأن إرادة العبد فعل من أن الإرادة إذا كانت فعلا وهي عندك وعند أصحابك مخلوقة له في العبد والعبد بها يرجح الفعل كان بعض أفعال العباد عندكم مخلوقا له فوافقتمونا في البعض فلا نزاع بيننا وبينكم فيه فلم لا يجوز ذلك في الكل حتى يرتفع الخلاف بالكلية، وأجاب عنه بأن أصل الإرادة من الأفعال الاضطرارية ومحل النزاع هو الأفعال الاختيارية وبما قررنا يندفع ما ينسبه إليه أهل الخلاف والمشنعون علينا من أهل الإلحاد من أنه إذا كانت إرادته متعلقة بكل شيء لزم أن يكون جميع المعاصي مرادا له وأن يكون قتل الحسين (عليه السلام) مرادا له.

(وقدر وقضى) (1) لعل المراد بالقدر تقدير الموجودات طولا وعرضا وكيلا ووزنا وحدا ووصفا

ص:265


1- 1 - قوله: «وقدر وقضى» وفي الحديث السابق تخصيص القدر بما يقرب مما ذكره الشارح وتخصيص القضاء بتعيين الأمكنة وبقي في هذا الحديث ثلاثة أمور غير مفسرة في الحديث السابق. الإذن والكتاب والأجل، والأجل هنا مندرج في التقدير في الحديث السابق، وأما الإذن فقال الشارح: هو العلم، وقال صدر المتألهين: هو الإمضاء الذي ذكر في الحديث السابق وقوله أبعد من التكلف، وأما الكتاب فلعله يشير إلى كون جميع هذه الأمور محتومة; لأن الكتاب كثيرا ما ورد في القرآن بمعنى الحتم والفرض مثل قوله تعالى: (لكل أجل كتاب) وقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة). فإن قيل: سمى تعيين الذاتيات والحدود مشيئة والعوارض اللازمة إرادة، وهكذا وما الفرق بينهما؟ وما هو وجه المناسبة والتخصيص؟ قلنا: علم ذلك بالتفصيل غير ممكن لنا وهو من الأسرار وعلوم الآخرة والإمام (عليه السلام) أعلم بما قال لكن نقول لتقريب المعنى إلى الذهن: إن كل واحد من ذات الشيء وصفاته مظهر اسم من أسمائه تعالى الدال على صفة من صفاته، ولا يبعد أن تكون المشيئة صفة له تعالى تناسب الذات والذاتيات، والإرادة صفة تناسب العوارض وتكون المشيئة مثلا أصلا بالنسبة إلى الإرادة، والإرادة فرعا عليه فناسب أن يكون المشيئة مصدرا للذوات التي هي أصل والإرادة مصدرا للعوارض التي هي فروع، وقد ذكر صدر المتألهين أن المشيئة بمنزلة الشوق، والإرادة بمنزلة العزم الجازم وبمثله نقول في تسمية تعيين المقادير قدرا وتعيين المكان والرتبة قضاء، وقد قال المشاؤون أن مصدر الأجسام في العقل الأول جهة إمكانه وماهيته ومصدر المجردات جهة وجوبه، وما ذكره الإمام (عليه السلام) أوضح وأقرب فيكون كل خصوصية في الأشياء من مصدر عند الباري تعالى مسمى بالقضاء أو القدر أو المشيئة أو الإرادة وغيرها من السبعة وفي اصطلاحنا للقضاء معنى أعم يشمل الجميع. (ش)

وكما وكيفا بحيث لا يزيد ولا ينقص كما قال (قد جعل الله لكل شيء قدرا) وبالقضاء في أفعاله هو الحكم بوجودها وفي أفعالنا هو الحكم عليها بالثواب والعقاب كما مر نقلا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وقال الآبي من علماء العامة: القدر عبارة عن علمه تعالى وإرادته بالكاينات قبل وجودها. وفيه أن مجيء القدر بمعنى العلم والإرادة في اللغة والعرف غير ثابت، وقيل: القضاء هو العلم الإجمالي بما يكون وما هو كائن، والقدر تفصيله الواقع على وفقه، فكل واقع في الوجود فبقضاء وقدر. وقيل:

القضاء هو الحكم الإجمالي والقدر تفصيله.

(وإذن) المراد بالإذن هنا العلم ومنه قوله تعالى (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أي كونوا على علم، من أذن بالشيء كسمع إذنا بالكسر وآذن الأمر وبه من باب الإفعال: أعلمه، وما من شيء يقع في الوجود إلا وقد سبق به علمه تعالى، أو المراد به الأمر، وإذنه تعالى في أفعاله عبارة عن الأمر لها بالوجود بقوله «كن» وفي معاصي العباد أمرهم بالترك والإعراض عنها وفي طاعاتهم بها، وقد سأل المأمون الرضا (عليه السلام) عن قوله تعالى (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) قال (عليه السلام) إذنه أمره لها بالايمان أو المراد به الرخصة لأنه تعالى رخص عباده بالمعاصي حيث لم يجبرهم على الطاعة، ومن ثم قال بعض الأصحاب: المراد بالاذن أن لا يحدث سبحانه مانعا زاجرا للعبد عن فعله وتركه كسلب القدرة والهمة وإبطال الآلة وإيجاد الضد وإعدام العبد ونحوها (وكتاب) في اللوح المحفوظ بقلم التصوير; لأن صورة كل ما يدخل في الوجود مكتوبة فيه ويحتمل أن يراد بالكتاب الفرض والايجاب كما في قوله تعالى (كتب عليكم الصيام) و (كتب على نفسه الرحمة) أي فرض وأوجب ومعناه إيجاد خلق الأشياء خلق تقدير وتمكين في أفعال العباد وخلق إيجاد وتكوين في أفعال نفسه.

(وأجل) أي أمد معين ووقت مقدر عنده تعالى لكل شيء لا يتقدم عليه ولا يتأخر (فمن زعم أنه قدر على نقض واحدة) من هذه الخصال السبع (فقد كفر) كما زعمت الفلاسفة أن الأجسام

ص:266

قديمة (1) لا أجل لها وأن الفاعل الحق موجب لا إرادة له، وتمسكوا لإثبات ذلك بمفتريات عقولهم الكاسدة ومكتسبات أوهامهم الفاسدة، وقد بين فساد ذلك في موضعه.

(ورواه علي بن إبراهيم، عن محمد بن حفص، عن محمد بن عمارة، عن حريز بن عبد الله وابن مسكان مثله) «مثله» بدل عن الضمير المنصوب في قوله «ورواه» أو حال عن كونه مماثلا المذكور في المتن في عدد الخصال.

* الأصل:

2 - رواه أيضا عن أبيه، عن محمد بن خالد، عن زكريا بن عمران، عن أبي الحسن موسى ابن جعفر (عليهما السلام) قال: لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل.

* الشرح:

(ورواه أيضا) من غير تفاوت إلا في التقديم والتأخير في الخصال (عن أبيه، عن محمد بن خالد، عن زكريا بن عمران، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل وإذن فمن زعم غير هذا) بأن نفى كلها أو بعضها (فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل) الترديد من الراوي. وفيه اهتمام بالنقل على الوجه المسموع والكذب بحسب المفهوم، والمورد أعم من الرد.

ص:267


1- 1 - «كما زعمت الفلاسفة أن الأجسام قديمة» الفلسفة ليس مذهبا واحدا وليس بين فرقهم المختلفة أمر مشترك يتفقون عليه نظير ما يتفق أهل الإسلام على نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويتفق أصحاب الأديان على وجود رب قادر بل يوجد في الفلاسفة الملحد المادي الصرف بل السوفسطائي المنكر للمحسوسات ثم ثم الموحد المؤمن الاثنا عشري كنصير الدين الطوسي وبينهما متوسطون فكما ينسب شيء إلى الفلاسفة المراد بعضهم وهكذا هنا فإن كثيرا منهم زعم أن بعض الأجسام قديمة أو أن بعضها أصل لبعض، مثلا: العناصر الأربعة أصل لسائر المولدات، أو الماء أصل لساير العناصر، وأما الذين قالوا الفاعل الحق موجب لا إرادة له فمذهبهم قريب من مذهب الدهريين والطبيعيين; لأن الفاعل الذي لا يعلم ما يصدر عنه أو يصدر عنه الأفعال قهرا بغير اختيار هو الطبيعة تقريبا، ويكفي لردهم كلام الشيخ الرئيس أبي على بن سينا في أوائل كتاب القانون أن الخالق تبارك وتعالى أعطى كل حيوان وكل عضو من المزاج ما هو أليق به وأصلح لأحواله وأفعاله وقال: أعطى كل عضو ما يليق به من مزاجه فجعل بعض الأعضاء أحر وبعضها أبرد وبعضها أرطب ثم إنه في كل باب من أبواب التشريح بين العناية الإلهية في تخصيص كل عضو بمزاج وتركيب ومقدار وغير ذلك، ومعلوم أن تخصيص الأشياء بحالة واحدة من الأحوال المختلفة واختيار ما هو أصلح وأوفق لا يكون فعل الفاعل الموجب، وهذا باب واسع لا يمكن ذكر ما يجب فيه هنا. (ش)

باب المشيئة والإرادة

* الأصل:

1 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى، أمضاه فذلك الذي لا مرد له.

* الشرح:

(علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل) لما كان قوله (عليه السلام): لا يكون شيء إلا ما شاء الله دالا بحسب الظاهر على أن المعاصي تقع بمشيئته تعالى (1) وإرادته وهذا لا يستقيم على المذهب الحق سأل السائل عن معنى المشية حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب (عليه السلام) بأن المشية ابتداء الفعل وأوله، ولعل المراد بابتداء الفعل أن مشيته تعالى أول فعل من الأفعال وكل فعل غيرها يتوقف عليها ويصدر بعدها كما يدل عليه ما مر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية» يعني خلق أفعاله بها وكذا خلق أفعال عباده بها لكن بتوسط مشية جازمة صادرة منهم كما عرفت في الباب السابق، فإذن سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيته تعالى أو المراد به أن مشته تعالى أول المشيات وكل مشية سواها تابعة لها كما أنه تعالى هو الفاعل الأول وكل فاعل بعده فاعل ثانوي يسند إليه فعله بلا واسطة وإلى الفاعل الأول بواسطة وهذا معنى مشيته تعالى لأفعال العباد ومعنى إسناد أفعالهم إلى مشيته أو المراد به إيجاد الآلة مثل الحياة والقوة والقدرة والهمة والشوق فكأنه شاء أفعالهم على سبيل التجوز والله أعلم. وفي محاسن

ص:268


1- 1 - قوله: «إن المعاصي تقع بمشيئته» وكلامنا في هذا الحديث هو كلامنا في ما سبق من أن تخصيصه بالأمور التكوينية أقرب وأولى بخلاف بعض ما سيأتي. (ش)

البرقي في هذه الرواية بعد هذا السؤال والجواب.

«قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه» يعني على ابتداء الفعل ومن هاهنا فسر بعضهم الإرادة تارة بأنها العزيمة على المشية وتارة بأنها الإتمام لها وتارة بأنها الجد عليها (قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه) المراد به تعيين ذات الشيء وصفاته وحدوده وكيفياته وسائر ما يدخل في خصوصياته، وقيل: التقدير هو الإعلام والتبيين. وقيل: هو الكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل: غير ذلك، ولا شبهة في صحة تعلق تقديره تعالى بهذه المعاني بجميع الأشياء.

(قلت ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه (1) فذلك الذي لا مرد له); لأن إمكان رد الشيء وتركه والقدرة عليها إنما هو قبل القضاء والايجاد وأما بعدهما فقد خرجا عن تحت القدرة والفاعل كالمجبور لا يقدر على إيجاده وعدم إيجاده; لأن إيجاد الموجود وعدم إيجاده محال وتحقق هذا المعنى لقضائه في أفعاله ظاهر، وكذا لقضائه في أفعال العباد إذ قضاؤه فيها أعني الحكم عليها بالثواب والعقاب كما عرفت آنفا أيضا لا مرد له.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبان، عن أبي بصير قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم.

قلت: وأحب؟ قال: لا.

قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب؟ قال: هكذا خرج إلينا.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبان، عن أبي بصير قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم) قد عرفت وجه تعلق هذه الأمور بجميع الأفعال آنفا (قلت وأحب) جميع ما شاء وأراد وقدر وقضى؟ (قال: لا) أي لا يحب جميع ذلك، فالنفي وارد على الإيجاب الكلي، وإنما قلنا ذلك; لأن الايجاب الجزئي ثابت وذلك لأن الله تعالى يحب جميع أفعاله ويرضاه ويحب بعض أفعال عباده أعني الطاعات والخيرات ولم يحب بعضها أعني

ص:269


1- 1 - قوله: «قال: إذا قضى أمضاه» هذا اصطلاح في القضاء غير ما تقدم في حديث معلى بن محمد من تخصيص القضاء بتعيين المكان والرتبة بل هو منطبق على الإمضاء في ذلك الحديث ونقول في تربيع المراتب في هذا الحديث وتسبيعها فيما قبله وتسديسها في حديث معلى ما ذكرنا سابقا من أن في مثل هذه التقسيمات قد يندرج بعض الأقسام في بعض ولا ضير فيه. (ش)

المعاصي والشرور. وفي نفي الإيجاب الكلي رد على الجبرية لأنهم قائلون بأنه تعالى يريد ويحب جميع أفعالهم حتى الكفر والزناء والسرقة وغير ذلك من القبايح والشرور بناء على أن جميع أفعالهم مخلوقة له تعالى بلا واسطة (قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب) لعل السائل لم يعرف معاني هذه الأمور عند تعلقها بأفعال العباد حتى يعرف أنها لا يستلزم المحبة لجميع أفعالهم والرضا بها أو عرفها ولم يعرف معنى محبته تعالى لأفعالهم وهو الإثابة بها والمدح عليها أو عرفه أيضا ولم يعرف علة عدم الاستلزام إذ لو حصلت له المعرفة بتلك الأمور لما خفي عليه وجه عدم الاستلزام ولم يحتج إلى السؤال (قال: هكذا خرج إلينا) (1) من الوحي أو من البيان النبوي، وفيه على الأولين زجر له على الخطأ في السؤال حيث لم يسأل عن الطرفين المجهولين له وسأل عن علة عدم استلزام أحدهما للآخر، وهذا خلاف قانون التعلم، وعلى الأخير تنبيه له على أن الواجب عليه أمثال ذلك بعد حصول أصل المطلب هو التسليم والإذعان ولا يضره الجهل بلمية الحكم، والله أعلم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أمر الله ولم يشأ) لعل المراد أنه أمر الله بشيء على وجه الاختيار

ص:270


1- 1 - قوله: «هكذا خرج الينا» مقصود السائل والمجيب من الواجب ما لا يحتاج إلى علة والحقيقة أن المعلول لا يمكن وجوده إلا بعلة وذلك; لأن كل فعل صدر عن الإنسان فهو صادر عن ارادته ولا يمكن صدوره كذلك كما أن وجود البياض والسواد وساير الاعراض لا يمكن إلا حالا في محل فإذا تعلق العلم الأزلي بوجود العرض فليس معناه أن ذاك العرض يوجد منفكا عن الموضوع بل احتياجه إلى الموضوع ذاتي له فإذا علم الله تعالى وجود البياض وتعلق به مشيئته فقد تبين أنه علم وجود جسم هو موضوعه وتعلق به أيضا مشيئته وإذ علم صدور فعل من زيد مثلا وصدور الفعل منه لا يكون إلا باختياره وارادته دفعا للجبر فقد علم وجود الاختيار والإرادة من زيد باختياره وإرادته ثم صدور الفعل عنه وليس معنى علمه تعالى بصدور الفعل عن زيد أنه يصدر عنه ولو لم يكن عن إرادة حتى يكون واجبا بل علمه تعلق بالفعل على ما هو عليه ذاتا من الاحتياج إلى علته التي هي إرادة الفاعل واختياره. (ش)

وإراده على وجه التفويض والاختيار ولم يشأ ذلك الشيء مشية جبر ولم يرده إرادة قسر (وشاء ولم يأمر) يعني شاء شيئا مشية تكليفية وإراده تخييرية ولم يأمر به على وجه القسر ولم يرده على وجه الجبر أو شاء شيئا باعتبار أنه لم يجبر على ضده ولم يأمر بذلك الشيء أصلا كما أنه شاء أكل آدم من الشجرة بالاعتبار المذكور ولم يأمر به لكونه مرجوحا ثم أوضح ذلك بقوله (أمر إبليس أن يسجد لآدم) على سبيل الاختيار وأراد منه السجود من غير القسر والإجبار (وشاء أن لا يسجد) بالجبر والقسر، أو المراد ولم يشأ أن يسجد بقرينة قوله «أمر الله ولم يشأ» ومعناه ولم يشأ أن يسجد له مشية جبر ولم يرد منه ذلك إرادة قسر، والمآل واحد (ولو شاء لسجد) أي ولو شاء سجوده لآدم على القسر والجبر لسجد; لأن الأفعال القسرية لا تتخلف عن الفاعل، وحيث لم يسجد علم انتفاء المشية القسرية والإرادة الجبرية (ونهى آدم عن أكل الشجرة) على وجه الاختيار وكره منه أكل ثمرتها من غير القسر والإجبار (وشاء أن يأكل منها) أي شاء أن يكون أكله منها أمرا اختياريا له أراد أن لا يكون مجبورا في تركه وفي قبول النهي عنه (ولو لم يشأ لم يأكل) يعني لو لم يشأ أن يكون له اختيار في أكله ويكون مجبورا على تركه لم يأكل، لأن المجبور على ترك الشيء مسلوب الاختيار عن فعله لا يقدر على الاتيان بذلك الشيء، وحيث أكل علم أنه صاحب القدرة والاختيار فيه وأنه تعالى أراد أن يكون فعل العبد وتركه بقدرته حفظا لنظام التكليف وتحقيقا لمعنى الثواب والعقاب، وبهذا التقرير يندفع (1) ما يتوجه إلى ظاهر هذا الحديث من أنه موافق لمذهب الجبرية القائلين بأنه تعالى قد يأمر بالشيء وهو لا يريده وينهى عن الشيء وهو يريده، وأنه يريد كل ما يدخل في الوجود وإن كان معصية ولا يريد ما يدخل فيه وإن كان طاعة بناء على ما تقرر عندهم من أنه تعالى خالق لأفعال العباد، فكل ما خلقه فقد أراده وكل ما لم يخلقه لم يرده فأمر إبليس بالسجود ولم يرده لعدم تحققه وأراد عدمه لتحققه، ونهى آدم عن الأكل وأراد أكله لتحققه ولم يرد تركه لعدم تحققه، وغير موافق لمذهب العدلية الإمامية وهو أنه تعالى كل ما يأمر به فهو يريده وكل ما ينهى عنه فهو لا يريده بل

ص:271


1- 1 - قوله: «بهذا التقرير يندفع» يعنى إذا كان ظاهر الخبر مخالفا للمعلوم من مذهب الإمامية وجب علينا تأويله والخروج عن ظاهره، ومعلوم من مذهبنا بطلان الجبر وظاهر الحديث يدل على الجبر فوجب التأويل، وبالجملة لا يجوز أن تكون إرادته التكوينية مخالفة لإرادته التشريعية لأنه حينئذ تقع التكوينية لا محالة ولا يقدر العبد على امتثال التكليف التشريعي وهو جبر، فقوله (عليه السلام): «شاء أن لا يسجد» بمعنى لم يشأ أن يسجد أي لم يشأ أن يقهره على السجود ولو شاء ذلك لسجد أو هو بمعنى شاء أن لا يسجد بالقهر بل أراد من كل مكلف أن يعبدوا باختيارهم وكذلك قوله «شاء أن يأكل منها» بمعنى شاء أن يكون الأكل في إمكانه واختياره ولو لم يشأ ذلك وكان الأكل خارجا عن امكانه واختياره كان مقهورا على عدم الاكل، وهذا التأويل سواء كان بعيدا أو قريبا لابد من الالتزام به، أو رد الحديث إن لم يمكن تأويله حتى لا يلزم الجبر. (ش)

يكرهه، وأنه تعالى يريد كلما هو خير حسن وجد أو لم يوجد، ولا يريد كلما هو شر وقبيح كذلك.

ويخطر بالبال توجيه آخر وهو أن معنى قوله: «أمر الله ولم يشأ» هو أنه أمر بشيء ولم يرد تعلق علمه بوقوع ذلك الشيء لعلمه بعدم وقوعه. ومعنى قوله «وشاء ولم يأمر» هو أنه أراد تعلق علمه بوقوع شيء لعلمه بوقوعه ولم يأمر بذلك الشيء لأنه يكرهه، وتوجيه ثالث بناء على أن المراد بالمشية العلم وهو أنه أمر بشيء ولم يعلم وقوع ذلك الشيء لعلمه بعدم وقوعه فلا يتعلق علمه بوقوعه و «شاء» يعني علم وقوع شيء ولم يأمر به لكونه غير مرضي له، والتوجيه الأول أقرب والثالث أبعد ; لأن إطلاق المشية على العلم لم يثبت لغة ولا عرفا. وحمل الحديث على التقية محتمل أيضا.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني، ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن لله إرادتين ومشيئتين:

إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني، ومحمد بن الحسن عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن لله إرادتين ومشيئتين (1)

ص:272


1- 1 - قوله: «إرادتين ومشيتين» ظاهر هذا الحديث أيضا يخالف ما هو المعلوم من مذهب الامامية وهو اتحاد الطلب والإرادة ويوافق مذهب الأشاعرة من اختلافهما; وذلك لأن المراد من إحدى الإرادتين الطلب التكليفي والتشريعى وهو الأمر والنهي والأخرى الإرادة التكوينية، وعند الأشاعرة يجوز الأمر بشيء يريد الله تعالى أن لا يقع البتة، والنهي عن شيء يريد أن يقع البتة، ومذهبنا أنه ليس له تعالى في أفعال العباد إلا الأمر والنهي ولا إرادة ولا طلب غير مفاد الأمر والنهي، فلا يريد كفر أبي لهب تكوينا ولا أكل آدم من الشجرة تكوينا إن فرض نهيه عنه تشريعا وإنما يريد صدور الأفعال عن الناس باختيارهم وإن كان تعالى يعلم أنهم يختارون العصيان لكن لا يريد صدور العصيان منهم، والعلم بالعصيان غير إرادة العصيان، وبالجملة فلابد من تأويل الحديث أو رده إن لم يمكن التأويل حتى لا يخالف المذهب. ولو كان الله تعالى أراد تكوينا من الإنسان شيئا وكان الإنسان مقهورا عليه لم يجز له تعالى أن يأمره تكليفا بضده، فقوله (عليه السلام) - إن صحت النسبة - «نهى آدم عن أكل الشجرة وشاء ذلك، ليس معناه شاء أكله قهرا وجبرا بل شاء كونه مختارا في الأكل وتركه، وعلم أنه يأكل باختياره فإن استبعد أحد حمل اللفظ على هذا المعنى ولم يرض بالتأويل نرد الخبر على أي حال لمخالفة المعلوم. وقوله «لو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت - إلى آخره» غير باق على ظاهره أيضا ومعناه لو شاء أن يأكلا لكان قادرا على جبرهما لكن لم يجبرهما على ترك الاكل. (ش)

إرادة حتم) أي إرادة حتمية ومشيئة قطعية لا يجوز تخلف المراد عنها كما هو شأن إرادته ومشيئته بالنسبة إلى أفعاله (وإرادة عزم) أي إرادة عزمية غير حتمية ومشية تخييرية غير قطعية يجوز تخلف المراد عنها، كما هو شأن إرادته ومشيته بالنسبة إلى أفعال العباد (ينهى وهو يشاء) أي ينهى عن العبد عن شيء ويكره ذلك الشيء وهو يريد بالعرض صدوره منه باعتبار أنه لم يجبره على قبول النهي والترك (ويأمر وهو لا يشاء) أي يأمر العبد بشيء ويريد صدوره منه وهو لا يريد ذلك الشيء باعتبار أنه لم يجبره على قبول المأمور به، والحاصل أنه تعالى لما كان قادرا على منع العبد جبرا وقسرا من الفعل في صورة النهي ومن الترك في صورة الأمر ولم يمنعه كذلك لأنه مناف للتكليف كأنه شاء فعل المنهي عنه وترك المأمور به.

(أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك) أي أكلهما منها باعتبار أنه لم يجبرهما على تركه (ولو لم يشأ أن يأكلا) بجبره لهما على المنهي عنه ومشيته لتركه حتما (لما غلبت مشيتهما) للأكل (مشية الله تعالى) لتركه حتما; لأن المغلوب المجبور على ترك شيء لا يمكنه الإتيان بفعله فضلا عن أن يكون مشيته غالبة على مشية الجابر القاهر.

(وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق) دل على أن الذبيح إسحاق ابن سارة، وفي رواية أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) المذكورة في باب حج إبراهيم (عليه السلام) من هذا الكتاب أيضا دلالة على ذلك ولكن رواية الصدوق رحمه الله في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وبإسناده الآخر، عن علي بن الحسن بن علي بن الفضال، عن أبيه عنه (عليه السلام) دلت على أن الذبيح إسماعيل ابن هاجر، وكذا روايته في كتاب معاني الأخبار في باب نوادر المعاني صريحة في ذلك وفي آخرها «فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل وأن الذبيح إسحاق فقد كذب بما أنزل الله من نبأهما.

(ولم يشأ أن يذبحه) (1) مشية حتم يمتنع معها الذبح والإعراض عنه

ص:273


1- 1 - قوله: «ولم يشأ أن يذبحه» لولا هذه الفقرات لأمكن حمل أول الكلام على وجه لا يخالف المعلوم من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بأن يكون المراد إثبات قسمين من الإرادة أعني التكويني والتشريعي من غير أن يكون كلاهما متعلقين بفعل واحد مع تناقضهما; لأن المحال اجتماع المتناقضين منهما على فعل واحد كذبح ولد إبراهيم وعدم ذبحه لا وجود الإرادتين مطلقا، وحمل صدر المتألهين الإرادتين على ما سبق منه في باب البداء من اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات وهو بعيد جدا لا يطابق عبارة الحديث إلا بتكلف بأن يكون أمره تعالى بالذبح من لوح المحو والإثبات وعدم مشيئته من اللوح المحفوظ، وهذا توجيه للحديث أولى من الطرح والرد ولكن علماءنا - كما سبق - أبطلوا البداء صريحا خصوصا في هذه القصة، وتمام الكلام في الأصول، واعلم أن الشيخ محيي الدين بن عربي أطال البحث في الفتوحات المكية في الباب السادس عشر وثلاثمائة في لوح القضاء والقدر والمحو والإثبات واللوح المحفوظ وأثبت البداء على تأويل بعض علمائنا، ومنه اقتبس صدر المتألهين وبعده المجلسي رحمهما الله كلامهما في اللوحين مع فرق ما في التعبير ولا ضير فيه; لأن ابن عربى مع اختلاف الناس في أمره لم يختلفوا في تضلعه في العلم وليس اقتباس المعنى منه تقليدا بل هو أخذ بالدليل وتصديقه في أمر لا يستلزم تصديقه في الكل حتى مسائل الإمامة والولاية مثلا، مع أن بعض علمائنا اعتقد تشيعه، ولا حاجة لنا في تحقيق هذه الأمور، وكان دأب علمائنا اقتباس العلم من كل من يجدون عنده علما واستحسان ما هو حسن من كل أحد وأظن أني رأيت في سفينة البحار نقل كتاب منه إلى الفخر الرازي في النصيحة يليق على ما اصطلحوا عليه في التحسين أن يكتب بالنور على صفحات خدود الحور. ثم إن صدر المتألهين قال: ليس المراد كما يتراءي من ظاهر الكلام أنه سبحانه قد يأمر وينهى من غير إرادة بإتيان المأمور أو ترك المنهي عنه، حاشا عن ذلك، قياسا على السيد الذي يأمر عبده بشيء يريد عدم إتيانه به ليظهر عذره على من يلومه بإيذاء عبده انتهى; وذلك لأن ظاهر الأمر يدل على حقيقة الإرادة والطلب، وخلافه بمنزلة الكذب في الإخبار إغراء بالجهل وقبيح وليس في حكمته تعالى الإغراء بالجهل. (ش)

(ولو شاء أن يذبحه) كذلك (لما غلبت مشية إبراهيم) ترك الذبح والإعراض عنه بعد الاشتغال به (مشية الله تعالى) ذبحه حتما لأنه (عليه السلام) حينئذ كان مجبورا بالذبح غير قادر على تركه، والله أعلم.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شاء وأراد ولم يحب ولم يرض، شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك ولم يحب أن يقال: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار، قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شاء وأراد ولم يحب (1) ولم يرض) هذا باعتبار المطلق مجمل فسره بقوله (شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك) قد عرفت أن الإرادة آكد من المشية يعني شاء وأراد إرادة حتم أن يتعلق علمه بكل شيء من الأشياء إلا بعلمه وهذا أحد التأويلات لتعلق مشيته وإرادته بكل شيء خيرا كان أو شرا (ولم يحب أن يقال: ثالث ثلاثة) المحبة في حق العبد ميل النفس أو سكونه بالنسبة إلى موافقه وملائمه عند تصور كونه ملايما وموافقا له، وهذا مستلزم لإرادته إياه،ولما كانت المحبة بهذا المعنى محالا في حقه تعالى يراد بها ذلك اللازم يعني لم يرد أن يقال: هو إله من الآلهة الثلاثة: الله وعيسى ومريم كما قالت النصارى ودل على قولهم ذلك قوله تعالى (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) (ولم يرض لعباده الكفر); لأن الرضا بالكفر قبيح لا يجوز إسناده إليه تعالى، وفيه رد على

ص:274


1- 1 - قوله: «شاء وأراد ولم يحب» هذا حديث محكم واضح المعنى موافق للمعلوم من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وللعقل، ويجب إرجاع ساير الأحاديث من المتشابهات إلى هذا المحكم الواضح وحاصله أنه تعالى أراد من العباد الخير والصلاح إرادة غير جبرية بل بأن يختاروا الخير بأنفسهم فلم يوجب كما أوجب في التكوينيات ولو فعلوا خلاف ما أمروا به لم يرض بفعلهم. (ش)

الأشاعرة لأنهم يقولون: أراد الله الكفر من الكافر وأراد أن يقال له «ثالث ثلاثة» بناء على ما تقرر عندهم من أنه تعالى أراد كلما له حظ من الوجود وإذا أرادهما فقد أحبهما (1) ورضيهما; لأن حبه تعالى للشيء ورضاه عبارة عن الإرادة، كما صرحوا به في كتبهم وصرح به أصحابنا أيضا.

ومن ثم قال ابن قيم الحنبلي وابن هشام على ما نقل عنهما شارح كشف الحق أن هؤلاء - يعني الأشاعرة - يقولون: إن كل ما شاء الله وقضاه فقد أحبه ورضيه، ولما رآى جماعة المتأخرين منهم شناعة هذا القول وقبحه حاولوا التحرز عنه فقال بعضهم: إرادته تعالى بجميع الأشياء حتى الكفر وغيره عبارة عن تقديرها، وتقديره للكفر لا يوجب أن يحبه ويرضاه.

وقال صاحب المواقف: الرضا عبارة عن ترك الإعراض والله [لا] يريد الكفر ويعترض عليه ويؤاخذ به، ويؤيده أن العبد لا يريد الآلام والأمراض وليس مأمورا بإرادتها وهو مأمور بترك الاعتراض عليها.

والجواب عن الأول: أن الإرادة لم تجئ لغة ولا عرفا بمعنى التقدير ولم يصطلح عليه سوى هذا القائل ولهذا لم يتمسكوا في دفع هذه الشناعة عن أنفسهم بهذا القول مع أنه لا ينفعهم أصلا لأن أفعال العباد كلها مخلوقة له تعالى عندهم ولا معنى لخلق الفاعل المختار لها بدون إرادتها فالقبح بحاله.

والجواب عن الثاني من وجوه: الأول أنه لم يثبت في اللغة ولا في العرف أن الرضا عبارة عن ترك الاعتراض بل الثابت فيهما أنه عبارة عن الإرادة وبذلك يشعر كلام ابن قيم في شرح منازل السائرين وكلام الآبي في كتاب إكمال الإكمال وكلام بعض شراح نهج البلاغة حيث قال: المحبة إرادة هي مبدأ فعل ما، ومحبته تعالى للشيء إرادته، والرضا قريب من المحبة ويشبه أن يكون أعم منها; لأن كل محب راض عما أحبه ولا ينعكس، وقد قيل: إن الرضاء على ما يقتضيه القرآن مستلزم للإرادة أو إرادة مخصوصة ولعل تلك الإرادة المخصوصة هي التي ذهب إليها بعض الأصحاب من أن الرضا إرادة متعلقة بالأمور الحسنة من حيث هي كذلك، الثاني أن إرادة الكفر من

ص:275


1- 1 - قوله: «وإذا أرادهما فقد أحبهما» قد تبين مما مر سابقا أن هذه المعاني التي تدل على التأثر والانفعال لا يجوز إثباتها لله تعالى فإن ذاته تعالى بريء عن الانفعال فالإرادة والحب والرضا جميعها منفية عنه تعالى بمعناها الحقيقي وإنما يثبت له بالتأويل وبإثبات بعض لوازمها الممكنة كما في تأويل الغضب بالعقاب والرضا بالثواب، وحينئذ فإذا نظرنا إلى أنفسنا لتحقيق المعنى الحقيقي فينا رأينا أن الإرادة والمشيئة فينا غير الحب والرضا، مثلا الحجامة والأدوية البشعة نريدها ونشربها بإرادتنا ولا نحبها ولا نرضاها، واما بالنسبة إلى الله تعالى فلا يتصور أن يكون بعض الأمور كذلك بمعناها الحقيقي لكن بالتأويل بأن يعامل مع بعض الأشياء معاملة المراد المكروه كخلق إبليس وساير الشرور فإنها مرادة بالعرض وخلقها الله تعالى; لأن الخيرات العظيمة لا تنفك عن الشرور القليلة وترك الخير الكثير للشر القليل شر كثير. (ش)

شخص والاعتراض عليه قبيح بحسب العقل، فلا يصح إسناده إليه تعالى، الثالث أن ترك الاعتراض يتحقق في المباحات والمكروهات ولا يقال: إنه تعالى راض عن العباد بفعلها، الرابع أن التأييد المذكور في محل المنع; لأن رضا العبد بالآلام عبارة عن إرادتها ترجيحا لإرادته تعالى على إرادة نفسه، وترك الاعتراض تابع لتلك الإرادة.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد محمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) قال الله: ابن آدم! بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا، بصيرا، قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذاك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذاك أنني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) قال الله: ابن آدم) بحذف حرف النداء وفي كتاب العيون «يا ابن آدم» بذكرها (بمشيئتي) مشيتك وتوفيقك واللطف بك (كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء) (1) من الطاعات والخيرات الموجبة لاستقامة أحوالك في الدارين كما قال سبحانه (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) وفي الكلام ترجيح لجانب المعنى والخطاب على جانب اللفظ والغيبة.

(وبقوتي) التي أودعتها فيك (أديت فرائضي) التي توجب قربك مني ورضاي عنك، ولما كان

ص:276


1- 1 - قوله: «بمشيتي كنت أنت الذي تشاء» شاء الله أن يكون الإنسان مختارا في أفعاله فإذا اختار عملا لم يكن خارجا عن مشيئة الله تعالى من جهة أنه شاء اختيار العبد وإن كان مختار العبد مبغوضا ولو أراد إجبار العباد على الخير كان قادرا عليه بأن لا يوجد أسباب المعصية ولا يخلق لهم الخمر والخنزير وكان الرجل إذا أراد ضرب آخر أو قتله أو سرقة ماله شلت يده وإذا أراد الزنا سلبت عنه الشهوة، وهكذا ولكنه تعالى أقدرهم على الخير والشر معا، وخلق لهم أسباب كل فعل وآلاته وخيره مع أنه يبغض المعاصي بأسبابها لينتهي العبد باختياره وكان خير الاختيار بالنسبة إلى شر المعصية كثيرا جدا، ألا ترى أن الملك المقتدر إن أراد قمع مادة الفساد وإفناء دواعي القتل والسرقة من بلاده يمنع جميع الناس من تملك أسبابهما كالسيف والسكين وآلات النقب والكسر والسلم وأمثال ذلك إن فرضنا إمكان ذلك له لزم منه حرمانهم من جميع المنافع والفوائد وفسد أمرهم لكن يخليهم وتملكهم تلك الأسباب لمنافعها وإن لزم منه القتل والسرقة أحيانا; لأن ضرر سلب الاختيار عن الناس في أعمالهم أعظم بكثير منه، وحينئذ فلا يمكننا أن نقول رضي الملك بالقتل والسرقة وأنهما عملان مقبولان عنده حيث لا يمنع منه جبرا قهرا ولا أنه أراد وقوع القتل والسرقة بالذات وشاء وقوعهما بالنظر الاستقلالي بل شاء بالعرض كما أن الأب يريد إيلام ابنه بالحجامة ولا يريد الإيلام بالذات بل يريد تحصيل سلامته من المرض بالذات، والسلامة لا تنفك عن الإيلام فهو يريد الإيلام بالعرض. (ش)

أداؤها متوقفا على إرادتها والقوة عليها والتوفيق المحرك إليها كان كل ذلك من صنع الله تعالى بعباده والتفضل عليهم، أما الأخيران فظاهران وأما الأول فلأنك قد عرفت آنفا أن أصل الإرادة من خلق الله تعالى وإن كانت الإرادة الجازمة من العبد، من الله تعالى عليهم بذكر هذه الأمور (وبنعمتي قويت على معصيتي) فيه توبيخ لك بالظلم والكفران ووعيد باستحقاق العقوبة والخذلان; وذلك لأن حكمة التكليف المورث لاستحقاق الثواب والعقاب تقتضي إمكان تعلق القوة بالضدين وصلاحية ارتباطها بالطريق وتلك لكونها جسمانية تقوى وتضعف بسبب توارد النعمة وعدمه اقتضت الحكمة لأجل تكميل الحجة تقويتها بالنعمة، والغرض الأصلي من تقويتها هو أن تصيرها إلى أشرف الضدين وتميلها إلى أفضل الطرفين أعني الطاعات والخيرات، فإذا جعلها مايلة إلى المعاصي والشرور فقد صرف أثر النعمة في سبيل الظلم والطغيان وحصل لك استحقاق العقوبة والخذلان (جعلتك بلا سبق استحقاق سميعا) بما نطقت به ألسن الشرايع والرسل (بصيرا) بما دل على أشرف المناهج والسبل (قويا) على سلوك طريق الاستقامة والزلل.

(ما أصابك من حسنة) طاعة كانت أو نعمة (فمن الله) (1) تفضلا منه عليك وإحسانا منه إليك فله الفضل والحق عليك أما الطاعة فلأخذ لطفه عنان مشيتك إليها وإقامة توفيقه جواد إرادتك عليها، وأما النعمة سواء كانت دنيوية أو أخروية فلظهور رجوع جلها بل كلها إلى التفضل والإحسان; لأن الإنسان وإن صرف عمره في سبيل الطاعة والرضوان واجتنب دهره عن طريق المعصية والطغيان فهو بعد لم يأت بما يكافي نعمة الوجود فكيف يستحق بعمله نعمة أخرى، ولذلك ورد من طريق العامة والخاصة «لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته» وفيه دلالة على نفي التفويض (وما أصابك من سيئة) معصية كانت أو بلية (فمن نفسك) لكونها فاعلة لها وجالبة إياها، أما المعصية فلصرف النفس عنان القدرة القادرة على الطاعات والمعاصي إلى سبيل المعاصي، وأما البلية فلاستجلاب النفس إياها بارتكاب المناهي كما روى المصنف في باب «تعجيل عقوبة الذنب» بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وما

ص:277


1- 1 - قوله: (ما أصابك من حسنة فمن الله); لأن تسبيب الأسباب وتمكين المكلف وخلق الآلات والهداية إلى الخير جميعا من الله تعالى وإن كان اختيار الخير من العبد إذ لو لم يكن الأسباب لم يقدر على الحسنة أصلا وأما السيئة من حيث هي سيئة فليست من الله تعالى وإن كان تسبيب أسبابها وإقدار المكلف عليها منه تعالى كأسباب الطاعة والحسنة إلا أنه تعالى لم يخلق الآلات والأسباب للسيئة بل خلقها للحسنة وإنما صارت سيئة بسوء اختيار العبد، وبعبارة أخرى: الفائض منه تعالى الوجود وهو خير محض وكون السيئة شرا إنما هو من جهة العبد فقط حيث صرف ما يمكن أن يصرف في الحسنة في السيئة. (ش)

أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ليس من التواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب - الحديث» قال القاضي الآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعويضه للأجر العظيم بالصبر عليه، إنتهى. ولك أن تريد بالنفس واليد الجنس وتقول قد يصيب المصيبة بريئا بفعل غيره كما دل عليه بعض الآيات والروايات وأن تريد بهما نفس المصاب ويده وتجعل المكسوب الجالب للمصيبة شاملا لخلاف الأولى أيضا وتقول غير المجرم لا يخلو منه كما اشتهر «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، ومن هاهنا أصاب آدم (عليه السلام) ما أصابه. وفيه دلالة واضحة على أن العبد ليس مجبورا على المعصية وأن أفعاله مستندة إليه لا إليه سبحانه كما زعمت الأشاعرة (وذاك) المذكور وهو كون (ما أصابك من حسنة) سببا للحكم عليه بأنه من الله وكون «ما أصابك من سيئة» سببا للحكم عليه بأنه من نفسك لأجل (أني أولى بحسناتك منك) لصدورها عنك بقوتي التي أودعتها فيك اختيارا وامتحانا وتوفيقي ولطفي بك تفضلا وإحسانا حتى لو صرفت وجه التوفيق واللطف عنك، ووكلتك إلى نفسك كنت من الشر أقرب ومن الخير أبعد وأنت أولى بسيئاتك مني) لصدورها عنك على وفق عنايتك وإرادتك ومقتضى مشيتك وقدرتك. وفي لفظة أولى وإضافة الحسنات والسيئات إلى المخاطب إشعار بأن الحسنات والسيئات كلها مكسوبة للعبد إلا أن فعل الحسنات لما كان بالتوفيق واللطف الخارجين عن الأمور المعتبرة في أصل التكليف كان إسناده إليه تعالى أولى بهذا الاعتبار كإسناد الرمي إليه تعالى في قوله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وفعل السيئات لما كان عن مجرد القوة التي هي مناط التكليف مع شوق النفس إليه من غير إعانة من الله تعالى عليه كان إسناده إلى الفاعل الحقيقي أولى من إسناده إلى الفاعل بواسطة (وذلك) إشارة إلى الأمر المفهوم من سياق الكلام وهو الإقدار على الطاعة والمعصية وإحداث اللطف والتوفيق لبعض دائما ولبعض في وقت دون وقت.

(إنني لا اسأل عما أفعل) (1) لكمال الجلالة والعظمة والجبروت مع اشتمال ذلك الفعل على

ص:278


1- 1 - قوله: «إنني لا أسأل عما أفعل» كان مبدأ أكثر الشبهات وسوسة الواهمة في مصالح كثير من الأمور وحكمها لعدم تبينها وغموضها، وكان جواب الجميع أنه تعالى عالم بجميع الأشياء حكيم (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) عقب مسئلة التكليف وصدور الحسنات والسيئات من الناس بهذا الكلام لدفع تلك الشبهات منها أنه تعالى لم خلق الكافر إذا علم أنه يكفر ولا ينتفع بالوجود؟ وكان الأصلح والأرجح أن لا يخلقه أصلا; لأن غاية الخلق إيصال النفع. والشبهة الثانية أنه لا فائدة في التكليف مطلقا إذ كان خلق الإنسان وجميع ذوي العقول في الجنة والتذاذهم بالنعيم من غير تكليف ممكنا له تعالى ونقل عن إبليس سبع شبهات في معناها الأولى والثانية ما ذكر، والثالثة أنه لم يكن فائدة في خصوص السجود لآدم إذا علم الله تعالى أني أعصي ولا أطيعه مع أني كنت أعبده وأطيعه في غيره من التكاليف ولم يكن هذا التكليف إلا إضرارا بي، والرابعة أني تركت السجود لآدم ولم يكن قبيحا إذ لا ينبغي ولا يحسن السجود إلا لله تعالى فلم أمرني بعمل غير الحسن ولعنني على تركه، الخامسة والسادسة لم يكن في تسليطي على آدم أولا وذريته بعده حكمة ومصلحة بل كان إضرارا لآدم وكان الأصلح منعي من الدخول والوسوسة لآدم ثم لذريته بعده، السابعة كان قادرا على حسم مادة الفساد والحكم بموتي وقضاء عمري حتى لا أتسلط على ذرية آدم إلى يوم القيامة. ومثل هذه الشبهات تختلج ببال الناس كثيرا بل إن تتبعت وسبرت وجدت الملاحدة والزنادقة لم يضلوا إلا لتشبثهم بهذه الشبهات. والجواب الحق إجمالا ما أشير إليه في هذا الحديث وهو أن الإنسان لا يمكن أن يدعي الإحاطة بمصالح جميع الأمور وحكمها وبعد الاعتراف بجهله ونقصه لم يصعب عليه الخروج من هذه المزلات خصوصا إذا اعترف بأن فعل الله تعالى لا يقاس على فعل الإنسان وأصل الاشتباه أن الإنسان العامي يتصور واجب الوجود كإنسان قوي صاحب الملكات الفاضلة وأفعال جزافية، والملحد ينكر وجود هذا الذي يتصوره العوام لأنه يرى أفعاله لا يشبه أفعال الإنسان، وفائدة إصرار الأئمة (عليهم السلام) في نفي التشبيه دفع هذه الأوهام، وجميع الشبهات السبع مبنية على تشبيه إله العالم بالإنسان في فعله وذاته. (ش)

الحكم والمصالح وغيرها من أسرار القدر التي لا يصل إليها عقول أحد من البشر.

(وهم يسألون) عما يفعلون وعن صرف القوة والنعمة فيما يعملون لأنهم عباد مملوكون وفيه أيضا دلالة على أنهم الفاعلون إذ لا معنى لسؤال أحد عما هو مجبور عليه وليس من فعله.

ص:279

باب الابتلاء والاختبار

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حمزة ابن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء.

* الشرح:

(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قبض ولا بسط إلا ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء) القبض في اللغة: الإمساك والأخذ يقال: قبض عليه بيده إذا ضم عليه أصابعه، وقبض الشيء أخذه، والبسط:

نشر الشيء والجود والإنعام، وفلان مبسوط اليد وجواد عبارتان متعقبتان على معنى واحد، ومن أسمائه تعالى القابض والباسط لأنه يقبض الرزق عمن يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء ويقبض الأرواح عند الممات ويبسطها في الأجساد عند الحياة، ولعل المراد بالقبض والبسط هنا القبض والبسط في الأرزاق بالتوسع والتقتير، وفي النفوس بالسرور والأحزان، وفي الأبدان بالصحة والألم، وفي الاعمال بتوفيق الإقبال إليها وعدمه، وفي الأخلاق بالتحلية بها وعدمها، وفي الدعاء بالإجابة له وعدمها، وفي الأحكام بالرخصة في بعضها والنهي عن بعضها، يعني ما من قبض ولابسط بشيء من هذه المعاني إلا ولله تعالى فيه مشية وإرادة وقضاء وحكم، والابتلاء هو اختبار يختبر بها عباده ويعامل معهم معاملة المختبر مع صاحبه لا ليعلم مآل حالهم وعاقبة أمرهم لأنه علام الغيوب بل ليظهر لهم كيف يخرجون من بوتقة الامتحان أيخرجون صابرين خالصين أو يخرجون شاكين خبيثين، فالفقير والمحزون والمتألم مختبرون بالفقر والحزن والألم، والغني والمسرور والصحيح مختبرون بالغنى والسرور والصحة وهكذا البواقي، فإن صبروا دخلوا في زمرة الصابرين الكاملين وإن لم يصبروا دخلوا في زمرة الشاكين الناقصين، والسالكون العارفون بمراتب هذه الاختبارات ورموز هذه الامتحانات مترددون بين خوف ورجاء ولا حول ولا قوة إلا بالله. وفيه دلالة على أن أفعال العباد اختيارية لهم إذ لا معنى لا ختبار أحد بفعل لا يقدر عليه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة

ص:280

ابن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه) لعل المراد بالأمر خلاف النهي فيشمل ما وقع فيه الرخصة مثل المباحات أيضا، والبسط في صورة الأمر، والقبض في صورة النهي; لأن الناهي قبض المنهي وأخذه عن فعل المنهي عنه، ويمكن تعميم الأمر والنهي على وجه يشمل القبض والبسط في غير الأحكام أيضا فإن الفقر والغنى والألم والصحة وغيرها أيضا حاصلة بأمره تعالى (إلا وفيه لله تعالى ابتلاء وقضاء) وذلك بعد حصول اللطف منه تعالى ببعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإرشاد العباد وإيضاح السبل ومدح الصابرين وتعظيم أجرهم، فلا يرد أن الاختبار ينافي اللطف المقرب إلى الطاعة والانقياد واجب على الله تعالى كما بين في موضعه.

ص:281

باب السعادة والشقاء

اشاره

الشقاء والشقاوة خلاف السعادة، سعد الرجل بالفتح والكسر فهو سعيد، وبالضم والكسر فهو مسعود. والسعيد فسره الآبي بأنه من يدخل الجنة وإن أردت زيادة توضيح فنقول: السعادة والشقاوة حالتان متقابلتان للإنسان ولهما أثر وسبب قريب وسبب بعيد، أما الأثر فهو استحقاق الثواب والعقاب، وأما السبب القريب فهو الإتيان بالخيرات التي أشرفها الإيمان والاتيان بالشرور التي أخسها الكفر وقد يطلق السعادة والشقاوة على نفس هذا السبب أيضا، وقول الصادق (عليه السلام) السعادة سبب خير يمسك به السعيد فجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان يمسك به الشقي فجره إلى الهلكة، وكل بعلم الله، يحتمل الأمرين، وأما السبب البعيد فهو ما أشار إليه مولانا الباقر (عليه السلام) بقوله: «إن الله جل وعز قبل أن يخلق الخلق قال كن ماء عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا فمن ثم صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن - الحديث» فإن هذين الماءين سبب لاقتدار الإنسان بالخير والشر وتكليفه وامتحانه بهما ومبدأ لاستعداده لقبول السعادة والشقاوة وميله إليهما ولا يقتضي ذلك الجبر; لأن الجبر إنما يلزم لو خلقه من ماء أجاج وحده فإن ذلك كان يوجب انتفاء القدرة على الخير، والظاهر أنهما يطلقان على هذا السبب أيضا، وبالجملة هما في الحقيقة الحالتان المذكورتان، وإطلاقهما على السببين المذكورين على سبيل التوسع من باب تسمية السبب باسم المسبب.

* الأصل:

1 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا.

* الشرح:

ص:282

(محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان (1)، عن صفوان يحيى، عن بن منصور ابن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه) أي قدرهما قبل تقدير الخلق (2) أو قبل إيجاده فلا يرد أنهما أمر عرضي كيف يتصور تحققه قبل تحققه هذا إن أريد بهما الحالة المذكورة أو السبب القريب لها وأما إن أريد بهما السبب البعيد فيحتمل أن يراد بخلقهما تقديرهما ويحتمل أن يراد به إيجادهما لأن مبدأ الخير والشر مما أوجده الله تعالى في مبدأ الإنسان الذي هو الماء الذي اختمرت به طينته (فمن خلقه الله سعيدا) (3) حال عن المفعول أو تميز للنسبة وعلى التقديرين كان تقديره أو إيجاده مقرونا بسعادته في علم الله تعالى فلا يرد أن سعادته مكسوبة له لا أنه تعالى موجد لها على ما هو الحق عند الإمامية (لم يبغضه أبدا) لتحقق السعادة الموجبة للمحبة والرضا عنه (وإن عمل شرا) بمقتضى ما فيه من القوة الداعية إلى الشر (أبغض عمله) بما هو شر متصف بأنه خلاف المراد (ولم يبغضه) بغضه له يعود إلى كراهته له وعلمه بعدم وقوعه على نهج الصواب واستحقاق صاحبه للتعذيب ثم يوفقه للتوبة الماحية له أو يمحوه بالآلام والمصائب أو يعفو عنه لمن يشاء حتى يرد عليه خالصا من الذنوب (وإن كان شقيا لم يحبه أبدا) لغلبة شقاوته الموجبة للمقت والبغض وفي تغيير الأسلوب إيماء لطيف (4) إلى أنه تعالى لا يخلق أحدا شقيا وإنما الشقاوة من كسب العبد بخلاف السعادة فإنها أيضا

ص:283


1- 1 - قوله: «محمد بن إسماعيل عن الفضل» اختلاف العلماء في محمد بن إسماعيل هذا معروف، والصحيح قول السيد الداماد إنه النيشابوري المعروف ببندفر. وقال المجلسي (رحمه الله): في إسناده مجهول كالصحيح وليس في الإسناد مجهول إلا أن يكون محمد بن إسماعيل هذا، ولا يكفى في رفع القدح عن جهالته على فرضها وجود صفوان بن يحيى بعده وهو من أصحاب الإجماع، وعادة المجلسي أن يعد كل إسناد مقدوح كالصحيح بسبب أحد أصحاب الإجماع ولكن هذا يصح إن كان محمد بن إسماعيل بعد صفوان بن يحيى في الإسناد. (ش)
2- 1 - قوله: «أي قدرهما قبل تقدير الخلق» مقتبس من صدر المتألهين فإنه فسر قوله (عليه السلام) «إن الله خلق السعادة» بتفسيرين أحدهما الخلق بمعنى التقدير، والثاني السعادة بمعنى الرتبة التي الوصول إليها سعادة للانسان، مثلا: وصول الإنسان إلى إدراك الكليات والإيمان بالموجودات المجردة سعادة له، وخلق الله هذه الكليات والمجردات قبل تقدير خلقه وخلق الجنة قبل أن يخلق الناس وكذلك النار (ش).
3- 2 - قوله: «فمن خلقه الله سعيدا» يجب تفسير هذا الكلام بحيث لا يستلزم الجبر فإن الجبر خلاف ضرورة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والعدل من أصول مذهبهم، والذي لا نشك فيه أنه تعالى خلق كل شيء خالصا مستعدا للوصول إلى غايته المطلوبة كالماء الذي خلقه في أول الفطرة غير آجن ولا متغير ولا ممزوج والذهب المخلوق في الفطرة الأولية لا غش فيه، والإنسان في فطرته الأولى لائق لما خلقه الله لأجله ومستعد لتحصيل كمال يليق به والعدل الإلهي يقتضي أن يكون نسبة أفراد الإنسان إلى الخير متساوية لا أن يكون بعضهم أقرب إلى الخير وأسهل له الوصول إليه والآخر أبعد وأصعب; لأن هذا ظلم، وقد ورد أن «كل ميسر لما خلق له» والواجب أن يؤول بفرقهم فيما لا مدخلية له في الشقاء والسعادة. (ش)
4- 1 - قوله: «في تغيير الأسلوب إيماء لطيف» يعني نسب الله تعالى السعادة إلى نفسه فقال فمن خلقه الله سعيدا، ونسب الشقاء إلى العبد، فقال: وإن كان شقيا، ولم يقل خلقه الله شقيا للإيماء إلى أن الشقاء حاصل بفعل العبد لا بقهر الله تعالى واجباره وهكذا ينبغي أن يحمل الكلام عليه دفعا للجبر. (ش)

وإن كانت من كسبه إلا أنه لحسن استعداده صار محلا للطفه تعالى به وتوفيقه له في اكتسابها فكأنه تعالى خالق لها (وإن عمل صالحا) لما فيه من القوة الداعية إلى الصلاح (أحب عمله) حبه له يعود إلى علمه بوقوعه على نهج الصواب وإرادة المكافأة لصاحبه فيكافيه بالإحسان والإنعام الدنيوي ونحوه ليرد عليه خاليا عما يوجب الدخول في الجنة (وأبغضه لما يصير إليه بسوء اختياره من الشقاوة التامة الموجبة للدخول في النار (فإذا أحب الله شيئا) سواء كان عملا أو غيره (لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا) توضيح ذلك أن الإنسان عبارة عن مجموع الجوهرين: النفس والبدن (1) ولكل واحد منهما طريقان طريق الخير وطريق الشر فطريق الخير للأول هي العقائد الصحيحة والأخلاق المرضية وللثاني هي الأعمال الحسنة، وطريق الشر للأول هي العقائد الباطلة والأخلاق الرذيلة، وللثاني هي الأعمال القبيحة. فإن استقام هذان الجوهران في شخص دائما كما في الأنبياء والأوصياء كان سعيدا مطلقا محبوبا لله دائما غير مبغوض أبدا، وإن لم يستقم شيء منهما أبدا كان شقيا مبغوضا أبدا غير محبوب أصلا، وإن استقام الأول دائما دون الثاني كان هو محبوبا دائما غير مبغوض أبدا; لأن الجوهر الأول أولى بالحقيقة الإنسانية بل هو الإنسان حقيقة وكان عمله مبغوضا، وإن استقام الثاني دائما دون الأول كان هو مبغوضا وعمله محبوبا، وإن استقام كل واحد منهما في وقت دون آخر يعتبر حاله في الخاتمة فإن استقيما أو استقيم الأول وحده كان هو عند الله محبوبا وكان عمله مبغوضا، وإن استقيم الثاني أو لم يستقم شيء منهما كان هو عند الله مبغوضا وكان عمله محبوبا،

ص:284


1- 2 - قوله: «جوهرين النفس والبدن» لما كان المتبادر من هذا الكلام الجبر وأقربية بعض الناس إلى الخير قهرا وبعضهم إلى الشر قهرا أوله الشارح بذلك دفعا للجبر، والحاصل: أن العمل للبدن، والاعتقاد والأخلاق للنفس، والإنسان إن كان اعتقاده صحيحا وأخلاقه فاضلة ولكن بعض أعماله البدنية غير مشروعة في الفقه كان من الذين يحب الله تعالى ذاتهم ويبغض عملهم، وإن كان عمله البدني موافقا لظاهر الشرع على ما يقتضيه علم الفقه لكن اعتقاداته غير كاملة وأخلاقه غير فاضلة كان من الذين يحب الله عمله ويبغض ذاته، وليس بغضه تعالى وحبه لشيء قهر العباد عليه، وهذا مقتبس من صدر المتألهين - (قدس سره) - قال: إن جوهر النفس الإنساني قد تكون خيرا فاضلا شريفا لكن أعماله البدنية سيئة قبيحة وقد يكون أحد بالعكس من هذا فيكون نفسه شريرة وأخلاقه رذيلة ولكن أعماله الظاهرة من الصلاة والزكاة والحج وغيرها صالحة، فعند ذلك كان الأول محبوبا عند الله وعمله مبغوضا، وكان الثاني بعكس ذلك جوهره ممقوتا وعمله محبوبا انتهى. وأول صدر المتألهين (قدس سره) البغض والمحبة بالبعد والقرب من الحضرة الربوبية لعدم صحة المعنى المعروف من البغض والحب بالنسبة إليه تعالى وينبغي أن يكون خيرية جوهر النفس وفضله وشرفه بفضيلة أخلاقه الفاضلة المكتسبة بقرينة ما ذكره في ضده بقوله وأخلاقه رذيلة. (ش)

وكلما كان العمل وحده مبغوضا أمكن أن يتداركه: التوبة أو المصيبة الدنيوية أو البرزخية أو الشفاعة أو العفو، ومما ذكرنا ظهر أن الكافر الذي يؤمن محبوب له تعالى في علم الغيب والمؤمن الذي يكفر مبغوض أبدا.

لا يقال: هذا ينافي قوله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فإن هؤلاء كانوا محبوبين لله تعالى; لأن الرضا عنهم يوجب المحبة ثم صار بعضهم مبغوضا بالنفاق في حال حياته (صلى الله عليه وآله) وبعضهم بالخلاف بعده.

لأنا نقول: الرضا متعلق بالمؤمنين وكون هؤلاء من المؤمنين عند المبايعة ممنوع، وعلى تقدير التسليم كان الرضا مشروطا بالوفاء وعدم النكث كما يدل عليه قوله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) وهؤلاء لما نكثوا علم أنهم فقدوا شرط المحبة، وفي هذا الحديث رد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى أراد جميع أفعال العباد ورضي بها وأحبها بناء على ما زعموا من أنه الموجد لها.

* الأصل:

2 - علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله! من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه. فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله. ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه. لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره.

* الشرح:

(علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا) قوله جالسا إما خبر والظرف متعلق به أوحال والظرف خبر (وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية) (1) أي من أي محل، على أن يكون «من»

ص:285


1- 1 - قوله: «من أين لحق الشقاء أهل المعصية» لا يخلو ما ذكره في تأويل الخبر عن تكلف ولكن من ارتكابه لئلا يخالف ما هو المعلوم من مذهب أهل البيت (عليهم السلام); لأن ظاهره الجبر وأنه تعالى قدر السعادة لبعض الناس والشقاء لبعضهم فمن قدر له السعادة سهل له السبيل إليها ومن قدر له الشقاء هيأ له وسائل العصيان ومنعه من قبول الطاعات ولم يقدروا أن يتخلصوا منه; لأن علم الله فيهم لا يتخلف. فإن قيل كيف قهرهم على الشقاء، قيل في الجواب إنه تعالى علم أنه يشقى لا محالة، وإن سهل له السبيل إلى طاعته لا يطيع ولذلك لم يقدر له وسائل الطاعة وأسبابها وهو لا يوافق ساير ما روي عنهم (عليهم السلام) من أنه تعالى سهل أسباب الخير لجميع الناس وسوى التوفيق بين الوضيع والشريف مكن من أداء المأمور وسهل سبيل اجتناب المحظور وقال تعالى (هديناه النجدين) وتأويل الشارح كما ترى لا يخلو عن التكلف. وحمله صدر المتألهين على السؤال عن علة دوام العقاب وخلوده مع أن العصيان متناه منقض في زمان قليل متناه، وحمل جواب الإمام (عليه السلام) على أن العقاب ليس على نفس العمل فإنه عرض ينقضي وحكم الله تعالى بالعقاب الدائم لا يقوم له ولا يتسبب عنه وليس من حق العمل العقاب بل إنما يكون العمل معدا; لأن يفيض من الله تعالى على النفوس ملكات راسخة واعتقادات ومعارف يبقى ببقاء الله تعالى فيدوم الثواب والعقاب ببقاء تلك المعارف والملكات كما أن قصور الغارس في تربية الشجر في مدة قليلة يوجب فساد ثمارها، وهذا تأويل حسن في نفسه لكن في حمل ألفاظ الخبر عليه تكلف، ومع ذلك فهذا خبر مرسل مضطرب المتن لا حجة فيه وإن فرض حجية أخبار الآحاد في هذه المسائل فقد رواه الشيخ الصدوق - رحمه الله - في التوحيد مع اختلاف لا يوجب الجبر. وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) بعد نقله من التوحيد هذا الخبر: مأخوذ من الكافي وفيه تغييرات عجيبة تورث سوء الظن بالصدوق (رحمه الله) وانه إنما فعل ذلك ليوافق مذهب العدل انتهى. وهذا الاحتمال الذي ذكره لا يتطرق عندي إلى نقل فساق مؤرخي المخالفين فكيف إلى رواية أعاظم علماء أهل الحق وفي الصفحة 583 من المجلد الرابع أن الصدوق من عظماء القدماء التابعين لآثار الأئمة النجباء الذين لا يتبعون الآراء والأهواء انتهى. وهو كلام تام في مدح الصدوق (رحمه الله) ولكنه رحمه الله لم يكن تأخذه في تحقيق الأخبار لومة لائم ولا يجاري أحدا كما هو معلوم من طريقته خصوصا في البحار، منها ما في المجلد الثالث عشر في حديث ملاقاة سعد بن عبد الله الأشعري للعسكري (عليه السلام) على ما سبق في الصفحة 332 من المجلد الثالث من هذا الشرح بعد نقل كلام الشهيد (رحمه الله) في كون هذا الخبر موضوعا قال معترضا عليه: رد هذه الأخبار للتقصير في معرفة شأن الأئمة الأطهار إذ وجدنا أن الاخبار المشتملة على المعجزات الغريبة إذا وصل إليهم فهم إما يقدحون فيها أو في راويها بل ليس جرم أكثر المقدوحين من أصحاب الرجال إلا نقل مثل تلك الأخبار انتهى. وليت شعري إن كان الشهيد الثاني مقصرا في معرفة الأئمة (عليهم السلام) فمن هو العارف بهم؟ وإن كان أصحاب الرجال وهم الشيخ الطوسي والنجاشي والعلامة الحلي وابن داود وأمثالهم غير معتمد عليهم في قدح المقدوحين لعدم معرفتهم بمقام الأئمة (عليهم السلام) فممن يجب أن نأخذ معالم ديننا وأدلة معارفنا، وأعجب منه قوله في المفيد عليه الرحمة فإنه بعد ما نقل فصولا من كلامه في رد بعض روايات ظاهرها الجبر قال في الصفحة 74 من المجلد الثالث: طرح الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة (يعنى بها أفادات المفيد (قدس سره)) جرأة على الله وعلى أئمة الدين انتهى. ولا أدرى إن كان المفيد متجريا على الله والرسول والأئمة (عليهم السلام) فمن المؤمن الخائف من الله المطيع له ولرسوله، وكذلك لم ينج أكثر الفقهاء من طعن تلويحا أو تعريضا ولكن ذلك كله فلتات ولمم وبناؤه على تعظيمهم وتجليلهم والاعتراف بفضائلهم ومناقبهم إلا إذا ردوا خبرا أو ضعفوه أو أخرجوه من ظاهره بتأويل والله يهدي إلى سواء السبيل. (ش)

للابتداء أو «من» أي سبب على أن يكون للتعليل كما في قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) ويكون أين بمعنى أنى للسؤال عن الحال (حتى حكم لهم في علمه بالعذاب) عليهم (على عملهم) اللام في «لهم» للتهكم و «في» بمعنى الباء أي بسبب علمه بسوء حالهم وقبح مآلهم وفساد أعمالهم أو للظرفية المقدرة لاستقرار هذا الحكم في علمه المحيط بكل شيء واحتواء علمه به كاستقرار السعي في الحاجة في قوله سعيت في حاجتك والباء متعلق بحكم و «حتى» عاطفة لا جارة بقرينة وقوع الفعل بعدها، وما بعدها هاهنا أقوى مما قبلها; لأن للشقاء أفرادا وهذا الفرد وهو حكم الله تعالى عليهم بالعذاب أقوى أفراده، ولذلك جعله السائل غاية له ليقيد لحوق جميع أفراد الشقاء

ص:286

بهم حتى هذا الفرد الذي لا شقاء أقوى منه، ثم إن أراد بلحوق الشقاء لحوقه بحسب العلم الإلهي كان المعطوف مؤخرا بحسب الذهن ونفس الأمر جميعا; لأن هذا الحكم تابع لعلمه بشقائهم وإن أراد به لحوقه بحسب الخارج كان المعطوف مؤخرا بحسب الذهن لملاحظة إحاطة أفراد الشقاء بهم فردا بعد فرد إلى أن بلغ هذا الفرد الذي هو نهاية أفراده وأقواها ومقدما بحسب نفس الأمر لأنه تابع لعلمه الأزلي بحالهم، بقي هاهنا شيء وهو أنه إن أراد بالمعصية المعصية الموجبة للدخول في النار أبدا مثل الكفر يراد بالشقاء الشقاء التام وبالعذاب العذاب الأبدي، وإن أراد بها أعم مما ذكر يراد بهما أيضا أعم مما ذكر وحينئذ يراد بقوله «حكم لهم بالعذاب» أنه حكم لهم باستحقاق العذاب لئلا ينافي جواز العفو وغيره في بعض الصور، ولما سأل سائل عن المبدأ الأول والسبب الأصلي للشقاء أشار (عليه السلام) إلى أن ذلك سر من الأسرار التي لا يصل إليها العقول الناقصة.

(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أيها السائل حكم الله لا يقوم له) أي لمعرفته ومعرفة أسراره (أحد من خلقه بحقه) أي بحق الحكم أو بحق القيام، ولعل المراد بهذا الحكم هو حكمه تعالى في علمه بالثواب والعقاب على عملهم أو حكمه تعالى في مادة الإنسان بامتزاج الماءين أو بامتزاج الطينتين طينة الجنة وطينة النار كما في بعض الروايات، وهذا الامتزاج مبدأ للقوة الداعية إلى الخير والشر والسعادة والشقاوة (فلما حكم بذلك) أي بالثواب والعقاب أو بالامتزاج المذكور (وهب لأهل محبته) أي للذين علم أنهم سيصبرون على طاعته ويقومون على أمره ونهيه ويسلكون باختيارهم سبيل محبته (القوة على معرفته) (1) القوة إن اعتبر في مفهومها صلاحية تأثيرها في الخير والشر وإمكان ارتباطها بالفعل والترك إلا أنها في هؤلاء لما كانت متوجهة إلى طريق الخير ومتعلقة بسبيل المعرفة خصها بالذكر باعتبار هذا الطريق لا نتفاء أثرها في غيرها.

(ووضع عنهم) لطفا وتوفيقا لهم لمراعاتهم ما هو الغرض من هذه القوة (ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله) من الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والسلوك إلى الله، وبذلك صاروا من أهل

ص:287


1- 1 - قوله: «القوة على معرفته» هذه الجملة إلى قوله «وهب لأهل المعصية» محذوفة من نسخة كتاب التوحيد للصدوق (قدس سره) على ما نقل في البحار وموجودة في النسخ التي بأيدينا فتصير العبارة بعد الحذف هكذا «وهب لأهل محبته القوة على المعصية» وهو معنى صحيح موجه يعنى وهب للصلحاء القوة على العصيان فهم مع أنهم كانوا قادرين على المعصية اجتنبوها ليتم الحجة على الأشقياء كما وهب للأشقياء القدرة على الطاعة ليصح مؤاخذتهم، ولما كان الثاني ظاهرا لم يصرح به في الحديث، وبالجملة بعد حذف هذه العبارة يستقيم المعنى بغير تكلف. ولعلها من زيادات بعض الناسخين في الكافي وبعض نسخ التوحيد لأنهم رأوا القوة على المعصية غير مناسبة لأهل محبته وظنوا حذف شيء فزادوها بظنونهم حتى يكون هبة القوة على المعصية لأهل المعصية والقوة على الطاعة لأهل الطاعة ليتسق الالفاظ وإن فسد المعنى، ويحتمل أن تكون الزيادة صحيحة والحذف من نسخة التوحيد التي كانت عند المجلسي عليه الرحمة لغلط الكاتب والله العالم. (ش)

المحبة والسعادة، فالقوة والإعانة منه تعالى، والفعل منهم على سبيل الاختيار.

(ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم) وجه التخصيص يعرف مما ذكر، وإنما أضاف المعصية إليهم لا إليه سبحانه كما في المحبة والمعرفة للتنبيه على أن معصيته مما ينبغي أن لا يقع وأنها لكونها من مقتضيات نفوسهم وجب أن يضاف إليهم ولما كان المراد بهذه القوة القوة الجامعة لشرائط التأثير في المعاصي بقرينة تخصيص تعلقها بالمعصية بالذكر أشار إلى تعليل هبتها بوجه يخرجها عن الجبر والظلم بقوله (لسبق علمه فيهم) بما يصيرون إليه من المعصية والمخالفة، وهذا العلم تابع للمعلوم بمعنى أنه مطابق له، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم إذ لولاه لم يتعلق العلم به لا بمعنى أنه متأخر عنه لاستحالة حدوث العلم له تعالى (ومنعهم إطاقة القبول منه) في الطاعات وسلوك سبيل الخيرات، والظاهر أن إضافة المنع إلى ضمير الجمع من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، والمقصود أن هبة القوة المؤثرة في المعصية لأجل مجموع هذين الأمرين أعني العلم والمنع فلا يلزم الجبر لاستناد المنع إليهم. وإنما قلنا «الظاهر ذلك» لاحتمال أن يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول، والفاعل هو الله تعالى، والمقصود منه سلب التوفيق والإعانة عنهم بسبب إبطالهم الاستعداد الفطري لإطاقة القبول منه وإفسادهم القوة المعدة لقبول الطاعة ولا يلزم منه جبر ولا ظلم; لأن الجبر إنما يلزم لو لم يهب لهم القوة على الطاعة وإطاقة القبول (1) والظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه، وهم بسبب ذلك الابطال والافساد خرجوا عن استحقاق الإعانة والتوفيق (فواقعوا) بالقاف والعين، وفي بعض النسخ: فوافقوا بالفاء والقاف (ما سبق لهم في علمه) من المعاصي الموجبة لعذابهم (2) (ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم (3) من عذابه; لأن علمه أولى بحقيقة التصديق).

إن قلت: علمه تعالى بأحوالهم الموجبة لعذابهم لا يقتضي أن تكون تلك الأحوال واجبة وأن لا

ص:288


1- 1 - قوله: «ومنعهم إطاقة القبول» في التوحيد: «لم يمنعهم إطاقة القبول» منه يعني أن الله عز وجل لم يمنع أولياءه وأهل محبته من القدرة على المعصية وقبول صفات وملكات تدعو إليها إذ علم أنهم لا يعصون مع كمال القدرة كما في قصة يوسف (عليه السلام). (ش)
2- 2 - قوله: «من المعاصي الموجبة لعذابهم» بناء على نسخة التوحيد و [مع] حذف ما مر من العبارة يصير المعنى فوافقوا ما سبق لهم في علم الله من الخير والصلاح وإن كانت فيهم القوة على العصيان. (ش)
3- 1 - قوله: «ولم يقدروا أن يأتوا حالا» وفي كتاب التوحيد: «وإن قدروا أن يأتوا خلالا تنجيهم عن معصيته» معناه بناء على حذف العبارة أو ذكرها مختلف، أما على حذف العبارة فيجب أن يقرأ وأن قدروا بفتح همزة أن والمعنى أن أهل المحبة وافقوا ما سبق بهم في علمه تعالى من الخير واتفق لهم أن قدروا فعل أمور أوجب نجاتهم، وأما على ذكر العبارة فالمعنى أن أهل المعصية وافقوا ما سبق لهم في علمه تعالى من العصيان ولم يكن هذا جبرا لهم على العصيان لأنهم قدروا أن يأتوا أمورا تنجيهم ولكنهم اختاروا العصيان بسوء اختيارهم; لأن علم الله ليس ملزما وحينئذ يقرأ «وإن قدروا» بكسر همزة «إن» والله العالم ومنه التوفيق. (ش)

يكون لهم قدرة على الأحوال الموجبة لنجاتهم عن العذاب إذ العلم تابع للمعلوم لا علة له.

قلت: لا دلالة فيه على أن علمه علة لتلك الأحوال وعدم قدرتهم على نقيضها وإنما دل على أن المعلوم واجب الحصول; لأن علمه مطابق. وأما وجود المعلوم فهو مستند إلى علته التامة التي هي باختيارهم (1) ومع تحقق علته التامة فهو واجب الحصول، ونقيضه ممتنع لا قدرة لهم عليه (وهو معنى شاء ما شاء وهو سره) أي إعطاء القوة على الطاعة والمعصية وعدم الجبر على شيء منها تحقيقا لمعنى الاختيار والتكليف هو معنى شاء ما شاء وسره إذ لو لم يشأ صدورها على سبيل الاختيار لما أعطاهم القوة عليها ولجبرهم على الطاعة، وفيه رد على الجبرية القائلين بأن معناه أنه تعالى أراد جميع أفعال العباد وفعل هو خيرها وشرها، وهم - كما صرح به بعض المتأخرين منهم - صنفان; صنف يقولون بأنه تعالى هو الفاعل لأفعال العباد وليس لهم اختيار وقدرة عليها أصلا، وصنف يقولون لهم قدرة واختيار على أفعالهم، ولا يكون لقدرتهم واختيارهم مدخل وتأثير فيها وإنما الموجد لها هو الله تعالى، والعبد كاسب، بمعنى أنه محل لتلك الأفعال التي أوجدها الله تعالى فيه، وتحقيقه يرجع إلى أن العبد إذا توجهت قدرته إلى الفعل سبقت قدرته تعالى إليه وتوجدها، وهذا الصنف وهم الأشاعرة مع موافقتهم للصنف الأول في بعض الوجوه خالفوهم بوجه آخر لئلا يرد عليهم أن فعله تعالى معاصي العباد ثم تعذيبهم بها ظلم وجور لأنهم يقولون يستحق العباد التعذيب باعتبار المحلية والكسب واقتران المعصية مع قدرتهم وإن لم يكن قدرتهم مؤثرة فيها أصلا.

وأنت تعلم أن القول بوجود قدرة غير مؤثرة غير معقول; لأن القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة فلو لم يكن قدرة العبد مؤثرة كانت تسميتها قدرة مجرد اصطلاح وأن الظلم لازم غير مدفوع، ولقد أحسن بعض أصحابنا حيث أتى بالتمثيل لإيضاح قبح هذا القول وقال: لعمري إن القول بكسب العبد وبأن قدرته غير مؤثرة وإنما المؤثر قدرة الله تعالى ثم القول بثواب العبد أو عقابه من باب أن يقال إن أحدا قادر على الزناء مثلا إذا كان معه قادر آخر تكون قدرته أشد من قدرته وارتكب الزناء دون الأول صار ذلك الضعيف الغير المرتكب له مستحقا للحد والرجم دون المرتكب له، وهو كما ترى.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد عن يحيى ابن عمران الحلبي، عن معلى بن عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: يسلك

ص:289


1- 2 - العلة التامة لا تنافي الاختيار.

بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم يتداركه السعادة، وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء، إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحبي، عن معلى بن عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء) تقول أسلكت الشيء في كذا إسلاكا وسلكته فيه سلكا بالفتح فانسلك إذا أدخلته فيه فدخل، فالفعل متعد إما مزيد أو مجرد وعلى التقديرين إما معلوم مسند إلى ضمير يرجع إلى الله تعالى أو مجهول مسند إلى الظرف والباء للمبالغة في التعدية وقد تجعل للتعدية بناء على أن السلك قد يجيء لازما (حتى يقول الناس ما أشبهه بهم) إظهارا للتعجب في كمال المشبهة بينه وبينهم في الشقاء (بل هو منهم) لحصول المساواة في الظاهر وانتفاء التشبيه المشعر بالتفاوت (ثم يتداركه السعادة) برجوعه إلى طريق السعداء وندامته عما كان فيه فيحسن خاتمته، وقد تقرر أن كل من مات على شيء حكم له به من خير أو شر (وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء) بالحركة إلى طريق الأشقياء واستقرار خاتمته على الشقاوة.

(إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا فواق ناقة ختم له بالسعادة) الفواق بالفتح والضم ما بين الحلبتين من الوقت; لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل ثم تحلب، وهذا تمثيل بقرب ما بين موته ووصوله إلى مرتبة السعادة ثم تلك السعادة حصلت له باختياره وحسن اعتباره مع لحوق اللطف والتوفيق به، ولا يلزم من كونه مكتوبا من السعداء سلب الاختيار عنه إذ معنى كتبه سعيدا ليس تعلق علمه بأنه سعيد (1) وعلمه بسعادته لا يلزم وجودها لا باختياره وإرادته; لأن

ص:290


1- 1 - قوله: «ليس إلا تعلق علمه بأنه سعيد» هذا هو الكلام الحاسم لمادة الإشكال وعليه نجري في تأويل كل كلام يوهم خلاف ذلك وقد نظمه بعض الشعراء ونسب إلى الحكيم نصير الدين الطوسي (قدس سره): علم أزلي علت عصيان كردن * نزد عقلا زغايت جهل بود وبالجملة علم الله تعالى أن كل شيء يتحقق بأسبابه وعلله الواقعية فما كانت علته أمرا طبيعيا كالشفاء من المرض بالدواء، والموت بالسم، ونبات الشجر بسقى الماء، وإضاءة العالم بطلوع الشمس، أو كانت أمرا اختياريا كالنجاة من القتل بالفرار، وتحصيل المال بالاكتساب، والتفقه بالنفر إلى العالم والتعلم منه، والجنة بالإطاعة، فكل تلك إنما علم الله تعالى وقوعها بأسبابها والإطاعة في علم الله تعالى باختيار العبد وليس شئ أمرا محتوما بحيث يجب أن يقع وإن لم يكن وجد سببه، فليس علم الله تعالى بنبات الشجر بسقي الماء موجبا لنباته وإن لم يكن ماء ولا علمه الله تعالى بشفاء المرض بالدواء موجبا للشفاء وإن لم يكن دواء وكذلك علمه تعالى بإطاعة العبد باختياره الإطاعة ليس موجبا لوقوع الإطاعة وإن لم يختر العبد الإطاعة، وهذا أصل فليكن في ذكرك واحمل جميع ما يوهم الجبر عليه إن شاء الله تعالى. (ش)

العلم تابع للمعلوم ومطابق لما يقع في نفس الأمر، وفيه تنبيه على الخوف من سوء الخاتمة، وهو الذي قرح قلوب العارفين، ووقع من سوئها جزئيات كثيرة، وزل فيها أقدام جماعة من أهل العرفان ولذلك كان أهل الحق والسعادة يطلبون حسن العاقبة واستقامة الخاتمة بالتضرع والابتهال، وقد وقع مثل هذا الحديث في طرق العامة، روي مسلم في باب بيان المقادير السابقة بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم عمله بعمل أهل الجنة» وبإسناده عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».

قال المازري: الانتقال من الشر إلى الخير كثير، وأما من الخير إلى الشر فهو في غاية الندور، وهو من باب «سبقت رحمتي غضبي» ثم الشر المنتقل إليه أعم من كونه كفرا وشر مخالفة.

قال الآبي: وما ذكر المازري من أن ذلك في غاية الندور، ذكر الغزالي أن تسعين صديقا انحطت من درجة الصديقية إلى درجة الزندقة باتخاذ النساء، وغرضنا من نقل أحاديثهم وأقاويلهم هو الإشعار بأنهم أيضا قايلون بأن الانتقال من أحدهما إلى الآخر غير مستبعد من غير المعصوم فكيف يستبعدون ذلك من الثلاثة الذين خلفوا على تقدير إيمانهم وخروجهم من الكفر الذي مضوا عليه في أكثر عمرهم.

ص:291

باب الخیر والشر

اشاره

باب الخير والشر (1)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه في التوراة: أني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده، فويل لمن أجريته على يديه.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) وأنزل عليه في التوراة) العطف للتفسير مع احتمال أن يكون الإيجاد قبل الإنزال (إني أنا الله لا إله أنا) إشارة إلى التوحيد في الذات والصفات (خلقت الخلق) إشارة إلى التوحيد في كونه مبدأ لجميع المخلوقات مع احتمال أن يراد بالخلق الخلق القابل للخير والشر بقرينة المقام (وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه) طوبى فعلى من الطيب والواو منقلبة عن الياء لا نضمام ما قبلها وقيل: هي اسم شجرة في الجنة وعلى التقديرين فهو مبتدأ والمعنى له طيب العيش أو له الجنة لأنها تستلزم طيبه (وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده) أي من أريد إجراءه على يديه (فويل لمن أجريته على يديه) هذا الحديث وما يتلوه دل بحسب

ص:292


1- 1 - قوله: «الخير والشر» إما أن يراد بالخير والشر الطاعة والمعصية أو أعم منهما ومن الخيرات والشرور التكوينية، والشبهة في الأول من جهتين، وفي الثانية من جهة واحدة; لأن الخيرات التكوينية كالمعادن والنباتات والحيوانات النافعة لا شبهة في حسن إيجادها من الحكيم تعالى وإنما الشبهة في الموجودات الضارة كالسموم والسباع والعقارب والحيات وأما الطاعة والمعصية فخلقهما مطلقا يوجب الجبر لا فرق بين الخير والشر ولكن ليس في الإجبار على الخير ظلم من حيث هو إلا إذا اختص ذلك ببعض الناس وحرم الآخرون، والاشكال إنما هو في الإجبار على الشر والمعاصي ويرجع الأمر بالأخرة إلى توجيه صدور الشرور عنه تعالى أعم من المعاصي أعني أسبابها والقدرة عليها وخلق من يعلم أنه يعصي، أو من الأمور التكوينية كالأمراض والآلام. والجواب المشترك: أن الشر مجعول بالعرض كما بينا مفصلا في بعض الحواشي قريبا، ويشير إليه الشارح في شرح الحديث الأول. (ش)

الظاهر على الجبر كما هو مذهب الأشاعرة القائلين بأنه تعالى هو الخالق الموجد أفعال العباد كلها خيرها وشرها، وبطلانه لما كان معلوما عندنا بالعقل والنقل وجب التأويل فيه (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) ولكن لا بأس أن نشير إليه على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال فنقول: لعل المراد بالخير والشر الجنة والنار وإجراؤهما عبارة عن الإعانة والتوفيق للمتوجه إلى الأول، وعن سلبهما عن المتوجه إلى الثاني. وهذا التأويل قد ذكره بعض شارحي نهج البلاغة حيث قال: وكأني بك تستعلم عن كيفية التوفيق بين ما روي في دعاء التوجه إلى الصلاة «الخير في يديك والشر ليس إليك» وما روي في الدعاء «اللهم أنت خالق الخير والشر» فوجه التوفيق أن المراد بالأول أن الأفعال التي فعلها الله تعالى وأمر بها حسنة كلها وليست القبايح من أفعاله تعالى ولا من أوامره، ومعنى الثاني أنه تعالى خالق الجنة والنار، انتهى. أو نقول: المراد بخلق الخير والشر تقديرهما والخلق كما جاء في اللغة بمعنى الإيجاد جاء أيضا بمعنى التقدير، والله سبحانه هو المقدر لجميع الأشياء والمبين لحدودها ونهاياتها حتى الخير والشر ومعنى إجرائهما ما عرفت، أو نقول: الخلق بمعنى الإيجاد مستلزم للإرادة والمشية والمراد هنا هو الإرادة على سبيل الكناية وقد صرح بعض علماء العربية بأن الكناية قد يتحقق في موضع يمتنع فيه إرادة الحقيقة.

فإن قلت: فهو تعالى على هذا التأويل يريد الشر من أفعال العباد كما يريد الخير وهذا ينافي الحق الثابت عندنا من أنه يريد الخير دون الشر.

قلت: لا منافاة أما أولا فلأن إرادة الشر بالعرض من حيث إنها تابعة لإرادة الخير وذلك لأنه إذا أراد الخير بدون حتم بمعنى أنه أراد صدوره عنهم باختيارهم ولم يجبرهم عليه فقد أراد الشر بالعرض فإرادته تابعة لإرادة الخير بالمعنى المذكور والحق الثابت أنه لا يريد الشر بالذات كما يريد الخير كذلك. وأما ثانيا فلأنه أراد الخير، صدر عنهم أو لم يصدر وأراد الشر لعلمه بصدوره عنهم على اختيارهم، فإرادة الشر تابعة للعلم بصدوره بخلاف إرادة الخير وسيأتي في ثالث باب الاستطاعة ما يدل عليه، والحق الثابت أنه لا يريد الشر بما هو شر، ولا ينافي ذلك إرادته من حيث علمه بصدوره عنهم، وسر ذلك أنه تعالى علم جميع الموجودات وأراد أن يكون علمه مطابقا للواقع فمن أجل ذلك كأنه أراد جميعها وإن كان بعضها مرادا له بالذات وبعضها مكروها له بالذات، ومنه يظهر سر (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) تأمل تعرف فإنه دقيق جدا (1) وحمل الحديث على

ص:293


1- 1 - قوله: «فتأمل تعرف فإنه دقيق جدا» وبينا ذلك في بعض الحواشي السابقة، وبالجملة: الشرور من لوازم كون الإنسان مختارا في أفعاله فهي صادرة من الإنسان مباشرة ومنسوبة إليه وإن نسب إلى الله باعتبار أنه تعالى علم أن الإنسان المختار قد يختار الشرور ومع ذلك خلقه مختارا ولم يمنعه عن المعاصي إجبارا فيصدق أنه تعالى خلق الشر لكن بالعرض على ما تبين. (ش)

التقية عن بعض الحاضرين أيضا محتمل.

هذا، وقال بعض الناظرين في هذا الحديث أن إيجاده تعالى للشر بالعرض لا بالذات بل ذلك تابع لإيجاد الخيرات. ألا ترى أن خلق الماء فيه منافع كثيرة وشرور قليلة مثل هدم بعض الأبنية وهلاك بعض الأشخاص وهو تعالى إنما أوجده للأول لا للثاني، وكذا كل خلق مشتمل على خيرات كثيرة وشرور قليلة، وليس خلقه إلا لاشتماله على الخيرات لا لاشتماله على الشرور ولا لاشتماله عليهما جميعا فيكون وقوع الشر منه تعالى بالعرض وبتبعية الخيرات لا بالذات وظني أنه لا مدخل له في هذا الحديث (1); لأن المقصود من الخير والشر هو الخير والشر من أفعال العباد كما يشعر له سياق الكلام وما ذكره إنما يتم في أفعاله تعالى لا في أفعالهم، وعلى تقدير التسليم فهذا القايل قد اعترف بأن موجد الخيرات بالذات (2) هو الله تعالى، وهذا بعينه مذهب الجبرية (3).

* الأصل:

ص:294


1- 1 - قوله: «وظني أنه لا مدخل له في هذا الحديث» والحق أنه لا فرق بين الشرين ومناط الإشكال فيهما والجواب عنه واحد، والإشكال أنه لم خلق الشرور التكوينية كالأمراض والآلام؟ ولم قدر المعاصي وأجراها على أيدي عباده مع أنه كان قادرا على عدم إيجاد الأمراض والآلام وعدم إيجاد من يعلم أنه يعصي والآلات التي يعصى به؟ والجواب أن خلق الشرور بالعرض لا بالذات على ما أجاب الشارح. (ش)
2- 2 - قوله: «وقد اعترف بأن موجد الخيرات بالذات» لعل القائل أراد بالخيرات الخيرات التكوينية ولا يرد عليه إيراد الشارح ولا يستلزم قوله الجبر. نعم يرد عليه تخصيصه الكلام بالتكوينيات إن كان مراده التخصيص، والأولى أن غرضه الجواب عن التكويني حتى يتنبه منه على جواب الشرور الاختيارية. (ش)
3- 3 - قوله: «وهذا بعينه مذهب الجبرية» مذهب الجبرية أن الخير والشر كليهما من الله ولا يخصصون بالخير، والإجبار على الخير لو كان عاما لجميع الناس لم يكن ظلما وإنما الظلم الفرق والتخصيص، وقد استشهد بعض الجبرية بقول الحكماء «لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى» وهو استشهاد باطل صدر من جاهل غير متدبر للأمور، والعجب أنهم يعترضون على الحكماء في قولهم بإثبات العقول واسطة بين الله وبين بعض خلقه ويزعمون أنهم ينفون القدرة والتأثير عن الله تعالى وبعضهم يجعل إثباتهم المعدات والأسباب نفيا لقدرته تعالى فكيف يستشهدون بقولهم «لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى» والحق أنه «لا مؤثر في الوجود إلا الله» كما قالوا، لا تقليدا لهم وتعبدا لقولهم بل لأن سلسلة الوجود ينتهى إليه تعالى، والتسلسل باطل، فكل من فعل فعلا فإنما فعل ما فعل بالوجود المستفاد منه المتعلق به والقدرة الحاصلة بإرادته. والإنسان الفاعل بالاختيار له وجود ظلي ربطي غير مستقل بل متعلق به تعالى وصدر فعله عنه بالاختيار الذي جعله الله تعالى فيه والتمكين الذي قدر له، وهذا لا يوجب الجبر بل هو عين الاختيار نظير ذلك عمل أفراد الجند باختيارهم موافقا لإرادة أمرائهم وينسب فتح البلاد والظفر على الأعداء والغلبة في الحرب إلى القواد والأمراء وإلى كل واحد من الجندية ويثابون إن جهدوا، ويعاقبون إن قصروا، ولا ينافي تأثير الأمير والقائد الشجاع المدبر في الفتح والغلبة اختيار أفراد الجند، فالمؤثر أولا هو الأمير وبعده الأفراد كل باختيارهم وإنما الجبر أن يجري فعل على يد العبد بسبب مباين مضاد لاختياره، وليكن في خاطرك هذا المثال حتى يحين حين شرحه في بيان الأمر بين الأمرين إن شاء الله تعالى. (ش)

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول: كيف ذا كيف ذا.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير، وويل لمن أجريت على يديه الشر) الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف ذا) (1) على سبيل الإنكار والإشارة الأولى لخلق الخير وإجرائه على يد أهله والثانية لخلق الشر وإجرائه على يد أهله، أو الأولى لخلق الخير والشر، والثانية لإجرائهما على يد أهلهما.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بكار بن كردم، عن مفضل بن عمر، وعبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول:

كيف ذا وكيف هذا.

ص:295


1- 1 - قوله: «ويل لمن يقول كيف ذا وكيف ذا» بعد تأويل ما ذكر في الحديث السابق لا حاجة إلى الكلام في هذا الحديث وفيما بعده لاتحاد المعنى فيها ولكن لا ينحسم عن الوهم مادة الشك وإن أقيم ألف برهان قوي يخضع لها العقل كما مثلنا سابقا بقولنا: الميت جماد، والجماد لا يخاف عنه، فيخضع العقل لقولنا: الميت لا يخاف عنه، ولا يخضع الوهم، وكذلك الدليل على امتناع غير متناهي في البعد والجزء الذي لا يتجزى ويختلج في الواهمة في مسألتنا أنا سلمنا كون الأفعال الاختيارية بإرادة العبد، أليس إرادة العبد مسببة عن إرادته تعالى كما مثلت بأمير الجند وأفرادها، فلولا تدبيره وشجاعته وإعداد الأسلحة والأرزاق لما ظفر الجند، ولو أراد الله تعالى أن لا يعصي العبد ولا يكفر ولا يشرك كان له القدرة على ذلك ولو شاء لهداهم أجمعين فلم لم يمعنهم. ويجاب عنه بأن أمير الجند يريد الخير وهو الغلبة والفتح وقد يقصر الجندي في ثغر فلا يفتح، والله تعالى أراد السعادة لعباده وقد يقصر بعضهم فيصير شقيا وكان الله قادرا على أن لا يخلق هذا العبد العاصي أو يجبره على الطاعة ولكن الحكمة اقتضت خلقه واختياره ولزم من ذلك الشر بالعرض، فيسأل: - كيف اقتضت الحكمته خلق رجل شرير وإعطاء الاختيار الذي هو بمنزلة السيف بيده؟ فيقال: ليست الحكمة في ذلك بالذات بل هذا من لوازم الاختيار ومقتضياته، ولا يخضع الوهم لهذه الحجج بل الواجب عدم الاعتناء به كالوسواسي ولا يصلح حينئذ جواب إلا أن يقال «ويل من يقول كيف ذا وكيف ذا» لعدم إمكان إحاطة الإنسان بمصالح الأمور وحكم أفعال الله تعالى، وليس كل أحد يعرف الشر بالذات والشر بالعرض. (ش)

«قال يونس: يعني من ينكر هذا الأمر بتفقه فيه».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بكار بن كردم) بكار بفتح الباء وتشديد الكاف، والكردم في اللغة الرجل القصير الضخم ثم جعل علما وشاعت التسمية به (عن مفضل بن عمر، وعن عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا الله لا إله إلا أنا، خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر) ربما يقال: إنه تعالى لما أقدر العبد على الخير والشر كأنهما يجريان منه تعالى على أيديهم (وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف هذا قال يونس يعني) بمن يقول (من ينكر هذا الأمر) وهو خلق الخير والشر وإجراؤهما على يد أهلهما (بتفقه فيه) أي في الإنكار أوفي هذا الأمر وقوله «بتفقه» إما مصدر مجرور بالباء أو فعل مضارع، وهو على التقديرين حال عن فاعل ينكر. وفي هذا التفسير إشارة إلى أن ترتب الويل على هذا القول إنما هو إذا كان القائل منكرا لهذا الأمر يدعي الفقه في ذلك الإنكار والعلم بخلاف ذلك الأمر، أو يطلب التفقه والدليل على ذلك الأمر كما أن المنكر لشيء قد يطلب من الخصم دليلا عليه لا ما إذا كان غير عارف بحقيقة ذلك الأمر ولا عالم بمعناه فيسأل العارف عنها فإن السؤال على هذا الوجه ليس بمنهي عنه والسائل ليس محلا للوعيد.

تم المجلد الرابع ويليه إن شاء الله المجلد الخامس أوله:

«باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».

ص:296

فهرس الآيات

(الأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف: 103 - 104.... 217

(الحمد لله فاطر) فاطر: 1... 201

(الذين يحملون العرش) غافر: 7... 100 - 102 - 103

(الراسخون في العلم) النساء: 162... 130

(الرحمن على العرش استوى) طه: 5... 83 - 84 - 86 - 97 - 104

(الله نور السماوات والأرض) النور: 35... 8

(إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1... 241

(إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172... 114 - 221

(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10... 218 - 219

(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما

غفورا) فاطر: 41... 90 - 91

(إن بطش ربك لشديد) البروج: 12... 20

(إنما إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82... 185

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) النساء: 171... 118

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) المائدة: 55... 226

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 29... 215

(إنه كان حليما) الاسراء: 44... 92

(أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف: 173... 114

(أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) إبراهيم: 10... 175

(ألست بربكم) الأعراف: 173... 225 - 178

(أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فصلت: 21... 113

(أو لم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) الأعراف: 185... 198

(أولم ير الإنسان) يس: 77... 236

(أولم ير الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) مريم: 67... 236

ص:297

(أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن) الأحقاف: 33... 140

(أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم) الأعراف: 173... 114

(تبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: 14... 121

(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) الحشر: 14... 169

(تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض) مريم: 90... 92

(ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت:

110... 249 - 203

(ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون: 14... 202

(سبحان الله) الصافات: 159... 25

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت: 53... 198

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول) الجن: 26 - 27... 215

(على العرش استوى) طه: 5... 78

(غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) المائدة: 64... 232

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) الحجر: 29... 116

(فأذنوا بحرب من الله ورسوله) البقرة: 279... 258

(فتول عنهم فما أنت بملوم) الذاريات: 54... 231

(فلعلك باخع نفسك على آثارهم) الكهف: 6... 208

(فلما آسفونا انتقمنا منهم) الزخرف: 55... 218

(فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) الأعراف 143... 157

(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) الفتح: 10... 278

(قد جعل الله لكل شيء قدرا) الطلاق: 3... 258

(قضى أجلا وأجل مسمى عنده) الانعام: 2... 235

(كتب عليكم الصيام) البقرة: 183... 258

(كتب على نفسه الرحمة) الانعام: 12... 258

(كل شيء هالك إلا وجهه) القصص: 88... 58 - 211

(كل من عليها فان ويبقي وجه ربك) الرحمن: 26 _ 27... 212

(كل يوم هو في شأن) الرحمن: 29... 232

(كن فيكون) البقرة: 117... 73

ص:298

(لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف: 87.... 25 - 26

(لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون) الشعراء: 50... 159

(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) الفتح: 18... 278

(لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس) النحل: 7... 74

(لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) النساء: 172... 246

(لو شاء الله ما أشركوا) الانعام: 107... 256

(ليس كمثله شيء) الشورى: 11... 60 - 82 - 84 - 105

(ما خلقت السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) الدخان: 38.... 201

(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) المجادلة: 7... 80 - 81 - 96 - 90

(مسني الشيطان بنصب وعذاب) ص: 41... 56

(مما خطيئاتهم أغرقوا) نوح: 25... 279

(من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80... 217 - 218

(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: 1... 45

(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) الاسراء: 67... 66

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست ربكم) الأعراف:

172... 113

(وإذ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) النمل: 18... 35

(واسأل القرية) يوسف: 82... 161

(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) طه: 7... 96

(وإن من شيء إلا يسبح بحمده) الاسراء: 44... 113 - 177

(وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة: 189... 215

(وأجل مسمى عنده) الانعام: 2... 236

(وأحصى كل شيء عددا) الجن: 28... 134

(وأزلفت الجنة للمتقين) الشعراء: 90... 201

(وأشرقت الأرض بنور ربها) الزمر: 69... 175

(وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه

عزيز حكيم) الأنفال: 63... 169

(وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) آل عمران: 107... 93

ص:299

(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) الزمر: 75... 103

(وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) الشعراء: 217... 67 - 72 - 73

(وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات: 55... 231

(وروح منه) النساء: 171... 118

(وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) البقرة: 255... 90 - 96 -

107 - 108 - 109

(وصوركم فأحسن صوركم) غافر: 64... 122

(وكان عرشه على الماء) هود: 7... 111 - 112

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض)... 98

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الانعام: 75... 90

(ولئن زالتا إن أمسكهما) فاطر: 41... 91

(ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم) المجادلة: 7... 81

(ولدينا مزيد) ق: 35.... 201

(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) الأعراف: 180... 214 - 100 - 102

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30... 270

(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الانسان: 30... 269 - 286

(وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) الذاريات: 56... 140 - 201

(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال: 17... 271

(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) البقرة: 57... 226 - 228

(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) يونس: 100... 258

(وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) يونس: 74... 114

(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) آل عمران: 7... 286

(وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3 - 4... 239

(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) الذاريات: 49... 161 - 170

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا) الطلاق: 2... 158

(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة 56... 227

(ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) المؤمنون:

117... 124

(ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80... 212 - 219

(ونفخت فيه من روحي) الزخرف: 84... 119 - 122

ص:300

(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الزخرف: 84... 88

(وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) الحديد: 4... 96

(ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) الحاقة: 17... 92 - 100 - 102

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء: 85... 117

(هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الانسان: 1... 236

(هو الأول والآخر) الحديد: 3... 8 - 9

(هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الزخرف: 84... 204

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59... 217

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) المائدة: 51... 227

(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) فاطر: 15.... 107

(يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) الزمر: 56... 223

(يا عباد فاتقون) الزمر: 16... 140

(يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) الحاقة: 17... 90

(يد الله مغلولة) المائدة: 64... 232

(يعلم ما يسرون وما يعلنون) البقرة: 77... 96

(يمحو الله ما يشاء ويثبت) الرعد: 39... 234

(أأمنتم من في السماء) الملك: 16... 84

(أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) المائدة: 116... 267

ص :301

فهرس المطالب

باب المعانی الأسماء و اشتقاقها...3

معانی الأسماء و اشتقاقها...28

باب تأویل الصمد...61

باب الحرکة و الانتقال...69

باب العرش و الکرسی ...93

باب الروح...119

باب الجوامع التوحید...128

باب النوادر...218

باب البداء...236

فی انه لا یکون شیء فی السماء و الأرض إلا بسبعة...263

باب المشیئة و الارادة...268

باب الابتلاءو الاختیار...280

باب السعادة و الشقاء...282

باب الخیر و الشر...292

فهرس الآیات...297

ص:302

المجلد 5

اشاره:

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

اشاره:

هذا الباب في إبطال الجبر والقدر وإثبات الأمر بين الأمرين والجبر في اللغة: الإكراه على الشيء تقول: جبرته وأجبرته على فعل إذا أكرهته عليه والمراد به جبر الله عباده على الأفعال والأعمال بمعنى إيجاده إياها من غير أن يكون لهم مدخل فيها كما هو مذهب الأشاعرة، والقدر بالتحريك والتسكين يطلق على معان: منها ما سبق به علمه تعالى، ومنها تقدير الأشياء بما لا يزيد ولا ينقص، ومنها القدرة، ومنها الوقت، وقد فسر بهذه المعاني في قوله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) كما صرح به الآبي في كتاب إكمال الإكمال، ومنها الكتاب والأخبار كما في قوله تعالى (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي أخبرنا بذلك وكتبناها في اللوح المحفوظ. ومنها: وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة فيها ونقصان كما في قوله تعالى (وقدر فيها أقواتها). ومنها: التبيين لمقادير الأشياء وتفاصيلها. وهذه المعاني الثلاثة ذكرها شارح كشف الحق وغيره وإن دخل بعضها في السوابق. ومنها: إقداره تعالى عباده على أعمالهم على وجه الاستقلال بحيث يخرجهم ذلك عن ربقة الانقياد له ويبطل تصرفه في تلك الأعمال حتى لا يكون لقضائه وإرادته وقدرته وتدبيره مدخل فيها كإقدار سلطان منا (1) أحدا من عباده على امور من بلاده بحيث يخرج التصرف في

ص:3


1- 1 - قوله «كإقدار سلطان منا» وهم مبني على تصور وجود الممكن مستقلا بنفسه غير متعلق بالواجب قياسا على الصانع والمصنوع الجسماني، فكما أن السرير يستقل بنفسه موجودا بعد الصنعة عن النجار ويبقى زمنا طويلا بعد غيبة النجار بل بعد موته كذلك يتوهم جماعة أن الممكن بعد الوجود المستفاد من الواجب تعالى يستقل بنفسه وقالوا: لو جاز على الواجب العدم لما ضر عدمه وجود العالم وبناء على هذا الوهم الفاسد زعموا أن الخواص والآثار المرتبة على الموجودات والأفعال الصادرة عن الإنسان والحركات الصادرة عن الحيوانات منتسبة إليها في نفسها والأمر مفوض إليها والإنسان مخلى ونفسه يفعل كل شيء أراد باختياره مستقلا، والحق أن الممكن وجوده وجود ربطي متعلق بالواجب كالنور للشمس لا يتعقل استقلاله ذاتا فكما ينسب الإضاءة إلى الشمس أصلا بالذات وإلى المرايا بالواسطة كذلك لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وكل شيء سواه فاعل بالواسطة كذلك والتفويض باطل كما أن الجبر باطل وفعل الإنسان باختياره وإرادته واختياره وإرادته وسائر صفاته بل ذاته ووجوده متعلق بالواجب تعالى وإرادته ومشيته ولا يستلزم الجبر إلا إذا فرض الواجب والممكن قسمين مباينين كل في عرض الآخر مستقلين وأحدهما يقهر الآخر على ما لا يريد وليس كذلك. (ش)

تلك الامور بعده عن يد ذلك السلطان وعن تحت حكمه وتدبيره، والقدر بهذا المعنى وهو المسمى بالتفويض أيضا هو المراد هنا وهو مذهب طائفة من المعتزلة ونحن نسميهم تارة بالقدرية وتارة بالمفوضة، وهاتان الفرقتان وهما الجبرية والقدرية خارجتان عن طريق العدل أولاهما في طرف الإفراط واخراهما في طرف التفريط، والمراد بالأمر بين الأمرين: أمر لا هذا ولا ذاك بل طريق متوسط بينهما وهو أن أفعالهم بقدرتهم واختيارهم مع تعلق قضاء الله وقدره وتدبيره ومشيئته وإرادته وتوفيقه ولطفه وخذلانه بها، وهذا التعلق لا ينافي اختيارهم لأن القضاء والقدر والإرادة وغيرها على قسمين: حتم وغير حتم، والمنافي للاختيار هو الحتم دون غيره، وستعلم وجه بطلان الأولين وتحقق الثالث في مضامين الأحاديث الآتية، وينبغي أن يعلم أن القدرية قد تطلق على الجبرية (1) بناء على أن القدر جاء بمعنى الجبر أيضا والقدر بهذا المعنى أيضا مذكور في هذا الباب، وإنما بسطنا الكلام طلبا للبصيرة فيما هو المقصود في هذا المقام.

«الأصل»

1 - «علي بن محمد، عن سهل بن زياد; وإسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه قال:» «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذا أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟

ص:4


1- 1 - قوله «قد تطلق على الجبرية» وينبغي أن يكون هذا هو الاستعمال الشائع كما في نظائره يطلق الإمامية: على القائلين بالإمامة دون المنكرين، والجبرية: على القائلين بالجبر دون المنكرين، والعدلية: على القائلين بالعدل وأمثالها، فالقدرية: هم القائلون بالقدر، أي من يقول كل فعل من أفعال الإنسان بقدر الله لكن الأشاعرة لم يستطيعوا أن يردوا الحديث المنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله) «القدرية مجوس هذه الأمة» ولم يروا أن يعترفوا بأنهم أنفسهم قدرية فسروا القدرية بمن ينفي القدر وما وجدنا نظيره في كلام العرب، ولو جاز ذلك جاز أن يقال: النحوي من ينكر علم النحو، والصرفي: من ينكر علم الصرف، واللغوي: هو الذي لا يعرف من اللغة شيئا والاثنا عشري: من ينكر إمامة الأئمة الاثني عشر. والاسطرلابي: من لا يعرف الأسطرلاب، والاخباري: من ينكر الأخبار، والسني: من لا يتمسك بالسنة النبوية. ولكن لما اشتهر تفسيرهم القدرية بنفي القدر جاء في بعض الأخبار أيضا جريا على اللفظ المشهور وربما يقال: إذا أكثر رجل من ذكر شيء وإن كرهه ينسب إليه وهو غير صحيح فإن الجبرية أيضا يكثرون ذكر القدر بل أكثر من المفوضة. (ش)

فقال له: مه يا شيخ! فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين، فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له: وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما؟، إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الامة ومجوسها، إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، فأنشأ الشيخ يقول:

«أنت الأمام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا» أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا * جزاك ربك بالإحسان إحسانا»

* الشرح:

(علي بن محمد، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد، وغيرهما رفعوه (1) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا في الكوفة) أي في مسجد الكوفة على حذف المضاف على الظاهر أو هو من باب إطلاق الكل على الجزء (بعد منصرفه) أي بعد انصرافه (من صفين) كسكين اسم موضع كانت به وقعة مشهورة بينه (عليه السلام) وبين أهل الشام (إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه» جثا كدعا جلس على ركبتيه (ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا) أي عن سيرنا (إلى أهل الشام أبقضاء وقدر) لعل المراد بالقدر تقدير ذلك المسير (2) في الأزل كما وكيفا وزمانا وتعبا إلى غير ذلك من الامور

ص:5


1- 1 - «رفعوه» في جميع أسانيد هذا الحديث إرسال في هذا الكتاب لكن رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) في التوحيد، عن محمد بن الحسن الطائي، عن سهل بن زياد عن علي بن جعفر الكوفي، قال: سمعت سيدي علي بن محمد (عليهما السلام) ثم ساق عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام) وبأسانيد آخر أيضا. وعلي بن جعفر هذا من وكلاء أبي الحسن (عليه السلام) ومضمون الحديث واضح ليس فيه مشكل يحتاج إلى إيضاح وفي عباراته اختلاف يسير مع ما في الكافي. (ش)
2- 1 - قوله «المراد بالقدر تقدير ذلك المسير» وهذا الاصطلاح في القدر والفرق بينه وبين القضاء بما ذكر مأخوذ من الشيخ أبي علي بن سينا ومن تبعه وهو قريب من المعنى اللغوي لأن القضاء: الحكم، والقدر: تعيين المقادير والخصوصيات والحدود وغير ذلك من التفاصيل والمأول للبداء بلوح المحو والأثبات على ما سبق يسمى ما في اللوح المحفوظ قضاء وما في لوح المحو والأثبات قدرا وروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه تنحى من جدار يريد أن ينقض فقيل: أتفر من قضاء الله؟ قال (عليه السلام): أفر من قضاء الله إلى قدره لأن في لوح القدر التغير والتجدد والتخلص من الآفة المقبلة أو المخاطرة بالنفس فيما يمكن التحفظ منه. (ش)

الناشئة فيه، والمراد بالقضاء الحكم بتحققه (فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): أجل) أجل بالتحريك وسكون اللام من حروف التصديق (يا شيخ ما علوتم تلعة» هي ما ارتفع من الأرض (ولا هبطتم بطن واد) هو ما انخفض من الأرض (إلا بقضاء من الله وقدر، فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين) أي أعد العناء والتعب وما أوجبه أعني السير والحركة من أفعال الله تعالى حتى لا يكون لي شيء من الأجر إذ لا معنى لأجر شخص بفعل غيره وهذا الكلام يحتمل الاستفهام والإخبار (فقال له: مه يا شيخ) مه كلمة بنيت على السكون وهو اسم سمي به الفعل ومعناه أكفف نفسك عن هذا الكلام، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) فقال: مهلا يا شيخ. (فوالله) صدر بالقسم مع أنه صادق مصدق لسان الحق للمبالغة في التصديق بما يقول ولاقتضاء المقام إياه (لقد عظم الله لكم الأجر) هذا يرد قول من قال الأجر بإزاء ما ليس باختيار كالأمراض والبلايا وإنما المقابل للاختيار هو الثواب (في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون) الأظهر أن المسير والمقام والمنصرف اسم الزمان أو المكان لا مصدر ميمي ليصون الكلام عن التكرار ولما أومأ إلى أن سيرهم ونحوه كان باختيارهم بإثبات لازمه الذي هو الأجر صرح بعدم كونهم مجبورين على ذلك بقوله (ولم تكونوا في شيء من حالاتكم) وهي السير والإقامة والأنصراف وغيرها (مكرهين ولا إليه مضطرين) لعل الإكراه أشد من الاضطرار فلذلك نفاه بعد نفي الإكراه (فقال له الشيخ) على سبيل الاستعلام والتفهم دون الإنكار والتعنت (وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا) أي سيرنا إلى الأعداء وانقلابنا في الطريق وفي حال القتال من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال وانصرفنا إلى منازلنا، فلما بلغ كلامه إلى هذا المقام علم (عليه السلام) أنه أخطأ في معنى القضاء والقدر (فقال له) على سبيل الإنكار والتوبيخ (وتظن أنه) الواو للعطف على مقدر، أي أظننت قبل الجواب بأن لكم الأجر العظيم وتظن بعده أن سيركم وانقلابكم وانصرافكم وغيرها مما تعلق به القضاء والقدر (كان قضاء حتما) الحتم: مصدر بمعنى إحكام الأمر وإبرامه تقول حتمت

ص:6

عليه الشيء حتما إذا أوجبته وأحكمته عليه بحيث لا يكون في وسعه خلاف ذلك فالوصف به إما للمبالغة أو بجعله بمعنى المفعول أي محتوما محكما مبرما (وقدرا لازما) لا يكون لكم اختيار في متعلقهما ولا قدرة على الفعل والترك حتى تكونوا مجبورين مضطرين إذ القضاء والقدر إذ تعلقا بأفعال العباد يراد بهما الأمر والنهي (1) عنهما وتبيين مقاديرها من حدودها وحسنها وقبحها ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها ولا يراد بهما أنه تعالى خلقها وأوجدها.

(أنه لو كان كذلك) أي قضاء حتما وقدرا لازما (لبطل الثواب والعقاب) لأن الثواب نفع يستحقه العبد بالإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والعقاب ضرر يستحقه بالإتيان بالمنهيات والاجتناب عن الطاعات وهما تابعان للاختيار ولا يتحققان مع الإجبار (والأمر والنهي) إذ طلب الفعل وطلب الترك متفرعان على الاختيار ولا يتصوران مع الإجبار، ألا ترى أن من طلب الطيران عن الإنسان وطلب عدم الإحراق عن النار يعده العقلاء سفيها جاهلا مجنونا كاملا (والزجر من الله) لأن زجره للعبد عن المعاصي ومنعه عن الإتيان بها بشرع القصاص وتعيين الحدود ونحوها إنما يتصور إذا كان العبد قادرا على الإتيان بها غير مجبور على تركها؟ ألا ترى أنك لو زجرت الأعمى عن الإبصار نسبك من له أدنى شعور إلى السفه والجنون؟ (وسقط معنى الوعد والوعيد) لأنهما من الألطاف المحركة إلى الامتثال بالأمر والنهي لرغبة الثواب ورهبة العقاب وقد عرفت بطلان هذه الامور على تقدير الإجبار، وأيضا على هذا التقدير كانت جميع القبائح مستندة إليه تعالى ولو جاز هذا لجاز أن يخلف الوعد والوعيد ويكرم العاصي ويعاقب المطيع ويكذب في الأخبار بأحوال الآخرة ويصدق الكاذب بإظهار المعجزة على يده فلا يبقى الوثوق بالوعد والوعيد (فلم يكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن) المحمدة ما يحمد به ووجه ذلك أنه لا معنى

ص:7


1- 1 - قوله «يراد بهما الأمر والنهي» أقول: هذا غير كاف في توجيه القضاء والقدر بل هما زائدان على الأمر والنهي وتبيين مقادير الأفعال والصحيح ما قال المفيد عليه الرحمة أن الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ورسم لهم الرسوم ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد فلم يكن تمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها انتهى. فإن قيل: هل يحتمل التخلف في علم الله وقضائه؟ قلنا: لا يحتمل التخلف ولا يلزم الجبر لأن الفعل الاختياري قد لا يحتمل التخلف أصلا كصدور القتل والزناء والسرقة عن العادل والمعصوم فإنه لا يقع حتما مع كونه اختيارا ولا يحتمل أن يأكل إنسان القاذورات مع كونه مختارا فقوله (عليه السلام) «قضاء حتما» أي جبرا «وقدرا لازما» أي قدرا يجب أن يقع وإن لم يرده الإنسان المكلف ويختاره. (ش)

لتوجه اللوم والمدح إليهما إذا صدر الذنب والإحسان من غيرهما ولكن يتوجهان إليهما إذ كل عاقل يذم من ارتكب الظلم والجور والتعدي وغصب الأموال وقتل النفوس ويمدح من بالغ في الإحسان إلى الناس وبذل الخير وإعانة الملهوف ومساعدة الضعفاء والاجتناب عن المعاصي بل المجبرة إذا غفلوا عن عقيدتهم الفاسدة يحكمون بذلك أيضا قال شارح كشف الحق: حكي عن عدلي أنه قال لجبري: إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر، وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف؟ قال: إذا كسرت جاريته كوزا يساوي فلسا ضربها وشتمها ونسي مذهبه. وصعد سلام القاري المنارة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر يضربهما فقال الغلام: القضاء والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب ألي من كل شيء أنت حر لوجه الله تعالى، ورأى شيخ بأصبهان رجلا يفجر بأهله فجعل يضرب امرأته وهي تقول القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنة وأخذت مذهب ابن عباد الرافضي فتنبه وألقى السوط وقبل ما بين عينيها واعتذر إليها وقال: أنت سنية حقا، وجعل لها كرامة على ذلك (ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب) في إعادة اللام إشعار باستقلال كل في واحد من المعطوف والمعطوف عليه في الدلالة على فساد ذلك، وفي حديث الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مثل هذا الحديث مع تفاوت يسير هكذا «ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن» وهذه العبارة أظهر معنى مما في هذا الكتاب لأنه إذا كان العبد مسلوب الاختيار بالكلية كان المحسن والمسيء متساويين في عدم القدرة وعدم استناد أفعالهما إليهما فلا يكون الأول أولى بالمدح من الثاني ولا الثاني أولى بالذم من الأول، بل لهما رتبة التساوي في المدح والذم فعلى هذا يجوز أن يمدحهما جميعا وأن يذمها جميعا وأن يذم الأول ويمدح الثاني، فهل يجوز لعاقل أن يعتقد فيه جل شأنه مثل هذه العقائد الفاسدة مع أن الواحد من آحاد الناس لو نسب إليه غيره أنه يسيء إلى من أحسن ويذمه ويحسن إلى من أساء ويمدحه قابله بالشتم والسب ولم يرض بذلك فكيف يليق أن ينسب إلى ربه ما يكرهه أدنى الناس لنفسه، وأما المذكور في هذا الكتاب ففيه إشكال (1) لأن المسئ

ص:8


1- 1 - قوله «ففيه إشكال» يدفع الإشكال بأن الذي أجبره المولى على الخير وأورده الجنة ليس كمن أجبره على الشر وأورده النار قهرا لأن الذي أجبره المولى على الخير كان في نفسه شريرا وإلا لم يصدق في حقه الإجبار ومع ذلك أدخله بخلاف من أجبره على الشر فإنه كان في نفسه خيرا فأجبره على خلاف إرادته وساقه إلى النار فيرق له ويستأهل للترحم وهذا أوضح من الوجوه التي ذكرها الشارح. (ش)

والمحسن إذا كانا متساويين فكيف يوصف المذنب بأنه أولى بالإحسان من المحسن والمحسن بأنه أولى بالعقوبة من المذنب؟ ويمكن دفعه بوجوه; الأول: أنه أجبر المذنب على القبائح والقبائح من حيث هي لذات حاضرة إحسان وأجبر المحسن على الطاعات والطاعات من حيث هي مشقة عقوبة حاضرة وهذا هو المراد بالأولوية ههنا.

الثاني: وهو مبني على تحقق الثواب والعقاب في الآخرة مع الجبران القبيح من حيث هو شر بلية والطاعة من حيث هي خير راحة فيقتضي ذلك مقابلة الأول في الآخرة بالإحسان ومقابلة الثاني بالعقوبة.

الثالث: هو أيضا مبني على ذلك أن المعصية راحة حاضرة والطاعة مشقة ظاهرة وجبرهما على ذلك إما لأجل القابلية أو لأنه تعالى يفعل ما يشاء وعلى التقديرين يلزم الأولوية المذكورة، أما على الأول: فلأن الذات غير متغيرة فيلزم أن يكون ذات المذنب أولى بالراحة والإحسان دائما وذات المحسن أولى بالمشقة والعقوبة دائما ليصل إلى كل أحد ما عود به وهو به أليق، وأما على الثاني:

فلأن الأصل بقاء ما كان على ما كان فيلزم أن يحسن إلى المذنب ويثيبه فيحصل له الربح في الدارين ويتخلص من المشقة في الكونين وأن يعاقب المحسن فيحصل له مع المشقة الحاضرة المشقة في الآخرة (تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان) (1) لعل المراد بعبدة الأوثان مشركوا العرب

ص:9


1- 2 - قوله «عبدة الأوثان» الفرق بين الملحد والموحد والدهري والألهي والمشرك والملي أن الأول يعتقد مبدأ الوجود غير عالم ولا حكيم وأنه ليس بذي عناية في أفعاله، والألهي بالعكس من ذلك يعرف الله تعالى بعلمه وعنايته وتدبيره فمن ينسب إلى الله تعالى جبر العباد على المعصية وعقابهم عليها يجعله تعالى بمنزلة الطبيعة غير الشاعرة لا يميز بين المطيع والعاصي والخير والشرير والصالح والطالح بل ليس دليل الطبيعيين على رأيهم ومذهبهم إلا ما يرون من آفات وجوائح الطبيعة ودليل الألهيين ما يرون من عناية الباري بمصالح الموجودات وآيات العمد والتقدير والحكمة فيها، ودليل الثنوية الجمع وقد سبق مرارا، منها في الصفحة 66 من المجلد الثالث وفي الصفحة 17 منه عن قول أرسطو طاليس ما يفيد هنا، فإن قيل: إن الفلاسفة أيضا مع أن كثيرا منهم إلهيون نفوا الغرض والاختيار في فعله تعالى ولا ينافي التوحيد مع الجبر. قلنا: الإلهيون منهم أرادوا بالغرض ما يكمل به الفاعل الناقص ولذلك نفوه عن فعل الله تعالى ولم ينفوا الغاية والفوائد والمصالح التي قدرها في المخلوقات لتكميل المخلوقات عن نقصهم كيف ولو كان كذلك لم يذكر الامام (عليه السلام) أرسطو طاليس ولم يحتج بكلامه في اثبات العمد والتدبر في فعله تعالى خلافا للطبيعيين القدماء، وما نفوه عن الله تعالى هو العزم بعد الترديد وسموا عزمه تعالى من غير سبق ترديد عناية وقد ملؤوا كتبهم في التشريح والطب والطبيعيات من آثار عناية الباري تعالى ومصالحه وحكمه التي راعاها في خلق الأشياء فراجع. (ش)

فإن بعضهم كانوا يقولون بنفي الحشر والنشر والثواب والعقاب، وبعضهم كانوا يقولون بالجبر بدليل قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) والمراد بإخوانهم الأشاعرة حيث يلزمهم ذلك وإن لم يقولوا به صريحا (وخصماء الرحمن) لأنه تعالى نسب في آيات كثيرة أفعال العباد إلى أنفسهم فقال عز من قائل: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) وقال: (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقال: (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) وقال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) وقال: (والله بصير بما تعملون) إلى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى وصرح في كثير منها ببراءته من القبائح والظلم فقال (إن الله لا يأمر بالفحشاء) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (وما أنا بظلام للعبيد) إلى غير ذلك. وهؤلاء يقولون نحن براء من القبائح وأنت تفعلها ولا مخاصمة أعظم من ذلك (وحزب الشيطان) لمتابعتهم إياه فيما يلقيه إلى نفوسهم الشريرة (ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون) (وقدرية هذه الامة ومجوسها) قد عرفت آنفا أن القدرية تطلق على الجبرية القائلين بأن الله تعالى قد جبر عباده على ما قدره وقضاه، وعلى المفوضة فإن كان المراد هنا الجبرية تعين العطف على الإخوان وإن كان المراد المفوضة، وجب العطف على عبدة الأوثان، والأشاعرة كما أنهم إخوان عبدة الأوثان كذلك إخوان المفوضة لتحقق المشابهة وتأكد روابط الاخوة بينهم في كونهم من أصل واحد وهو العدول عن طريق العدل إلى طرفي الإفراط والتفريط.

والاحتمال الأول أنسب وأظهر إذا عرفت هذا فنقول: هذا الحديث وما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال

ص:10

لرجل قدم عليه من فارس: «أخبرني بأعجب شيء رأيته» فقال: رأيت قوما ينكحون امهاتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قالوا: قضى الله وقدره، فقال (صلى الله عليه وآله): «سيكون في آخر امتي أقوام يقولون مثل مقالتهم اولئك مجوس هذه الامة» وما روي عن الحسن بن علي (عليه السلام) أنه قال: «بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى العرب وهم يحملون ذنوبهم على الله» إلى غير ذلك من الروايات المعتبرة أدلة واضحة على أن المراد بالقدرية والمجوس فيما روي عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «القدرية مجوس هذه الامة» هم الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالجبر ووجه المناسبة بينهم وبين المجوس متعدد: الأول أن المجوس قالوا بأصلين النور والظلمة ويسمون الأول بيزدان والثاني بأهرمن وينسبون جميع الخيرات إلى الأول وجميع الشرور إلى الثاني وليس للعباد عندهم فعل أصلا (1) كما هو عند الأشاعرة. الثاني: أن المجوس قالوا إن الله يفعل فعلا ثم يتبرء منه كما خلق إبليس ثم تبرأ منه، والأشاعرة أيضا قالوا إن الله يفعل القبائح ثم يتبرأ منها. الثالث: أن المجوس قالوا إن نكاح الامهات والأخوات بقضاء الله وقدره وإرادته، والأشاعرة وافقوهم حيث قالوا: إن نكاح المجوس أمهاتم وأخواتهم بقضاء الله وقدره إرادته.

الرابع: أن المجوس قالوا إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والأشاعرة أيضا قالوا مثل ذلك حيث قالوا: إن كاسب الخير لا يقدر على الشر وبالعكس. الخامس: أن المجوس يثبتون له تعالى شريكا، والأشاعرة أيضا يثبتون له شركاء حيث قالوا بوجود صفات زائدة قديمة غير مخلوقة فلزمهم القول بتعدد الإله، فهم أقبح من المجوس لأن المجوس يقرون بشريك واحد ويسمونه أهر من وهم يقرون بشركاء متكثرة، والأشاعرة لما لم يقدروا على إنكار الحديث المذكور نسبوا القدرية والمجوسية إلى الفرقة العدلية أعني المعتزلة والإمامية وقالوا: العدلية قدرية ومجوسية لأنهم قالوا قدرة العبد مؤثرة موجدة لأفعالهم فهم قدرية لقولهم بوجود القدرة المؤثرة لغير الله تعالى، ومجوسية لجعلهم أنفسهم شركاء الله تعالى في الخلق والايجاد كما أن المجوس جعلوا لله تعالى شريكا.

الجواب: أن تعدد الشركاء إنما يلزمهم لو لم يقولوا بأن العباد وقدرتهم مخلوقة لله تعالى مغلوبة

ص:11


1- 1 - قوله «وليس للعباد عندهم فعلا أصلا» كأنه متعين لتوجيه التشبيه لأن مبنى الثنوية على أن الخير لا يمكن أن يصدر منه الشر وبالعكس، مع أنهم لو كانوا قائلين بالاختيار فواضح عند كل عاقل وجاهل أن المختار قد يفعل شرا عمدا أو مصلحة وبالعكس ولم يجب أن يثبت الإهان فكأنهم ينكرون من مبدأ الوجود إلى منتهاء. (ش)

تحت قدرته القاهرة وهم يقولون بذلك، وبأن سلسلة جميع الموجودات منتهية إليه وهو فرد وحده لا شريك له. ثم أشار إلى أن المراد بالقضاء والقدر هنا هو الحكم والتكليف على التخيير دون الإجبار بقوله «إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا» من الثواب كما قال: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ولو كانوا مجبورين لم يكن لهم ثواب أصلا «ولم يعص مغلوبا (1) دفع به ما يتوهمه الجبرية من أن أفعال العباد لو كانت مستندة إليهم وأراد الله تعالى منهم فعل الطاعات وترك المنهيات فإذا تركوا الطاعات وفعلوا المنهيات بإرادتهم لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا وهم غالبون حيث حصل مرادهم دون مراده تعالى ولا يرضى بذلك عاقل، ووجه الدفع أن ذلك إنما يلزم لو أراد منهم الفعل والترك حتما وجبرا وهم اختاروا نقيض مراده، وأما إذا أراد ذلك منهم على سبيل الاختيار بأن قال لهم في هذا الفعل مصلحة وفي تركه مفسدة ولكم زمام الاختيار، فإن فعلتموه فلكم الثواب وإن تركتموه فعليكم العقاب. فمن البين أن اختيارهم الترك حينئذ لا يستلزم أن يكونوا عاصين على وجه الغلبة وأن يكون الله تعالى مغلوبا لهم (ولم يطع مكرها) بكسر الراء اسم فاعل

ص:12


1- 1 - قوله «ولم يعص مغلوبا» إذا أراد الله تعالى كون عباده مختارين في أفعالهم واختار بعضهم الشر فإن قلنا: إن فعل الشر بإرادة الله تعالى فمعناه أن الشر باختيار العبد، واختيار العبد بإرادة الله تعالى فينتج أن الشر بإرادة الله تعالى بهذا المعنى، وإن قلنا: إن الشر ليس بإرادة الله فمعناه أنه لا يرضى بالشر ولا يحبه وبذلك يجمع بين ما يدل على أن الشر والخير كليهما بإرادة وما يدل على أن الشر ليس بإرادته. ولكن الناس يقيسون فعل الله على أفعال رؤسائهم وامرأئهم لما أرتكز في خاطرهم من أن الأمير إذا أراد حصول شيء في الخارج كبناء بلد وقهر عدو والقبض على سارق، فإن أطاعه الخدم والأتباع فهو وإلا أجبرهم، ولا يترك الأمر باختيار العبيد يفعلون ما أرادوا، فإن لم يحصل مقصود الأمير فلابد أن يكون لعجزه إذ لم يقدر أن يجبرهم، ويقيسون فعل الله تعالى على ذلك ويقولون قد غلبت إرادة العباد إرادة الله تعالى إذا عصوه وعجز - والعياذ بالله - عن إنفاذ مقاصده ولا يصح ذلك لأنه وإن كان لا يريد المعاصي ولكن يريد أن يقع تركها باختيار العباد لا أن يقهرهم على الإطاعة كالجبارين بل يخليهم وما يفعلون ويأمرهم وينهاهم ويهديهم إلى مصالحهم حتى يحين حين المكافآت والمجازات كالحكومات في مدينة الاجتماع في عصرنا لأن الإنسان خلق مختارا لا يترتب على وجوده آثاره إلا إذا خلى وطباعه، والإنسان المجبور المقهور لا يقدر على إبداع صنعة وتحقيق حقيقة وكشف سر ولا يجهد في زراعة ولا تجارة ولا يفكر ولا يتعقل كما لا ينمو الشجر تحت المركن ولذلك تركه الله تعالى وهو خالقه مختارا وأن لزم منه الشر والعصيان لكن في إجباره شر أكثر أضعافا مضاعفة، وقال الحكماء: ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، ولكن الجبارين يقهرونهم مع تساويهم في العبودية والمخلوقية وقال الله تعالى (ولو شاء الله لآمن من في الأرض كلهم جميعا) (ولو شاء لهداكم أجمعين) إلى غير ذلك من الآيات. (ش)

وبفتحها مصدر أي لم يطع إكراها لأن وقوع إرادة العبد على وفق إرادته تعالى ليس لأجل غلبته تعالى عليه وصرف إرادته قهرا إلى قبول الطاعة بل لأجل اختيار العبد إياها (ولم يملك مفوضا) بكسر الواو اسم فاعل من التفويض يقال: فوض الأمر إليه: أي رده إليه كما يرد الموكل أمره إلى وكيله المطلق الذي يتصرف فيه من غير حاجة إلى تصرف الموكل وتدبيره وإذنه في أوان التصرفات الكلية والجزئية. وفيه رد على المفوضة وقد عرفت أنهم يقولون بأنه تعالى أقدرهم على أعمالهم على وجه لا يكون له تعالى بعده قضاء وإرادة وإذن وتصرف وتدبير ولطف وإعانة في تلك الأعمال، وبالجملة يقولون: خرجت أزمة مقدوراتنا ما دام الأقدار عن يد قدرته، فأخرجوا بهذا الاعتقاد الفاسد السلطان المطلق عن التصرف في ملكه وعزلوه عن التدبير في عباده وبلاده.

وللتفويض معان اخر يجيء ذكرها في بعض المواضع إن شاء الله تعالى. وانظر أيها اللبيب إلى لطف كلامه (عليه السلام) حيث أبطل بقوله «إنه لو كان كذلك - إلى قوله - ومجوسها» مذهب الجبرية الواقع في طرف الأفراط وأبطل بقوله «ولم يملك مفوضا» مذهب المفوضة الواقع في طرف التفريط وأثبت مذهب العدلية المتوسط بين هذه الطرفين والواقع بين هذين المذهبين وهو الأمر بين الأمرين كما أشار إليه بقوله «إن الله كلف تخييرا» (ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا) كما قال سبحانه (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * وما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) وفيه إشارة إلى مفسدة أخرى من مفاسد الجبر وهي تجويز أن يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا لغوا لأن اللغو وإن كان قبيحا لكن الجبر يوجب صدور جميع القبائح منه تعالى (ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا) (1) إشارة إلى مفسدة أخرى

ص:13


1- 1 - قوله «مبشرين ومنذرين عبثا» العبث: فعل لا يفيد فائدة ولا ينتج لأن الله تعالى يجري بناء على الجبر كل عمل أراد على يدي كل انسان أراد فلا فائدة في إرسال الرسل كما نرى في الأمور التكوينية كحركة النبض والتنفس وجريان الدم في العروق وهضم الغذاء ودفع الفضل فإنه يجري على ما أراد الله تعالى في الإنسان والحيوان ولا يعقل أن يرسل رسولا يأمرهم بأن يحركوا نبضهم ويهضموا طعامهم بل التأمل في أفعالنا يكفي في الفرق بين الجبر والاختيار والاعتراف بأن فعل الإنسان باختياره إذ لا ريب أن الإنسان يعرف في ذاته مبدأين لفعلين متخالفين، الأول: قوة تحرك نبضه ونفسه وتهضم ولا يسطيع الإنسان أن يمنع من فعلها أصلا وإن عجزت القوة لا يستطيع أن يقهرها وإلا لجاز أن يسلم المريض باختياره، والثاني: قوة تحرك عضلاته وجوارحه باختياره كالمشي وهذان المبدءان متخالفان ربما يتمانعان كفاعلين متضادين فيريد الإنسان أن يثب خمسة أذرع في الهواء أو يطير ويفوق على السطح ويمنعه ثقله فيسقطه على الأرض فيغلب المبدأ الاختياري في الوثوب مقدارا قليلا ثم يغلب المبدأ الغير الاختياري عليه وبذلك يستدل على أن النفس غير الجسد وإلا لكان أحدهما متسلما للأجر ومطيعا له منقادا وليس في القوى الطبيعية التكوينية اختيار أصلا بل فيها الجبر فقط ولو كان النفس عين الجسد أو حالة من حالاته أو عارضا لمزاجه لتبعه في الجبر ولم يمانعه ولم يضاده، وإن قلنا: أن الجبر من لوازم مذهب الملاحدة والطبيعيين والاختيار من لوازم دين الموحدين والألهيين لم نقل جزافا لأنا لا نعرف من الطبيعة غير الشاعرة إلا الجبر ولا يتصور فيها الاختيار أصلا ولما وجدنا في أنفسنا مبدأ الاختيار وإذ ليس جميع أفعالنا نظير حركة النبض عرفنا أن فينا مبدءا غير جسماني وليس المؤثر في الوجود منحصرا في الطبيعة الجسمانية غير الشاعرة وأن ما ليس في ذاته جسما أو جسمانيا كالعقول فهو الاختيار المحض والله تعالى ليس عنده جبر. (ش)

وهي أنه لو تحقق الجبر لكان إرسال الرسل وتبشيرهم عبثا لأن الغرض من ذلك هو الإخبار بالأحكام واظهار مناهج الحلال والحرام والتقريب بالطاعة والتبعيد عن المعصية ومع الإجبار لا فائدة في الإخبار والإظهار ولا نفع في التبشير والإنذار، ومالا فائدة فيه فهو لغو عبث. ثم اقتبس من القرآن الكريم لجذب الشيخ من ورطة الهلاك إلى سبيل النجاة فقال (ذلك) أي ذلك الظن المذكور وهو ظن أن القضاء كان حتما والقدر كان لازما (ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) في حديث الأصبغ بعد هذا القول، فقال له الشيخ: «فما القضاء والقدر اللذين ما سرنا إلا بهما؟ قال:

هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله: تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)». أقول: المراد بالأمر والحكم الأمر التكليفي والحكم التخييري دون الحتمي الاجباري وقد أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا» (فإنشاء الشيخ يقول) في كتاب العيون «فنهض الشيخ وهو يقول»:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النجاة من الرحمن غفرانا أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا * جزاك ربك بالإحسان إحسانا ذكر الصدوق هذا الحديث بعينه في كتاب العيون مسندا بطرق أربعة وفي آخره في طريق واحد هذان البيتان فقط مع تغيير يسير في البيت الأخير وهو:

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا وفي آخر ثلاثة أربعة أبيات اخر بعدهما من أراد الإطلاع عليها فليرجع إليه.

* الأصل:

2 - «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم

ص:14

أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله»

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد ابن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء) كالجبرية القائلين: بأن جميع الفواحش والشرور الداخلية في الوجود من الشرك والظلم والزناء والسرقة والقتل وغيرها مرادة لله تعالى وهو يرضى بها ويحبها ويأمر بها «فقد كذب على الله» في قوله (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) وفي قوله: (وما الله يريد ظلما للعباد) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، ومن اعتقد ما يلزم منه تكذيب القرآن فقد كفر وارتد وخرج عن دين الإسلام «ومن زعم أن الخير والشر إليه» أي مستندان إليه وهو فاعلهما «فقد كذب على الله» لأنه تعالى في آيات كثيرة نسب الخير والشر من أعمال العباد إليهم، فمن قال بخلاف ذلك فقد كذب على الله (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة).

* الأصل:

3 - «الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أعز من ذلك قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك، قال: ثم قال الله: يا أبن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

* الشرح:

(الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته فقلت الله فوض الأمر إلى العباد قال: الله أعز من ذلك) التفويض يوجب بطلان أمره ونهيه وعجزه عن التصرف والتدبير والإعانة والخذلان والله سبحانه أعز من ذلك وله الأمر والنهي والتصرف والتدبير والامتحان والاختبار حتى أنه لا تقع طاعة إلا بعونه ولا معصية إلا بخذلانه كما قال (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) - الآية - وقال (أن يقولوا آمنا وهم

ص:15

لا يفتنون) وقال: (ليبلوكم فيما آتاكم) وقال (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وأمثال ذلك كثيرة وكلها بمعنى الاختيار، وسر ذلك أن النفس إذا توجهت إلى الطاعة ومالت إلى الانقياد أقبلها الله تعالى بالإعانة واللطف والتوفيق، وإذا توجهت إلى المعصية ومالت إلى المخالفة ناداها بالزواجر فإن سمعها أقبلها بما ذكر وإلا فيتركها على حالها وهو عبارة عن الخذلان، يدل عليه ما روي من «أن من تقرب إلي بشبر تقربت إليه بذراع - الحديث» وما روي من «أن قلوب بني آدم إصبعين من أصابع الرحمن» وما روي «من أن للقلب اذنين فإذا هم العبد بذنب قال له روح الإيمان لا تفعل، وقال له الشيطان افعل وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان» وأيضا لو تحقق التفويض لبطل أمر الدعاء والاستعاذة لا حول ولا قوة إلا بالله (قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل (1) وأحكم من ذلك) كل عاقل يحكم قطعا بأنه يقبح من العدل الحكيم أن يجبر عبده على المعصية ثم يعذبه بها إلا أن الجبرية لعرائهم عن حلية العقل يقولون: القبائح على أنواعها

ص:16


1- 1 - قوله «الله أعدل من ذلك» الوهم العامي كما يتصور فعل الله التكويني مضادا للأسباب الطبيعية أو مبائنا لها كذلك يزعم الأفعال الاختيارية للعباد شيئا مضادا أو مباينا لأمره ومشيئته تعالى ألا ترى أن العوام يستدلون على وجوده تعالى بما يرونه مخالفا للعادة والطبيعة أو بخلع الطبيعة والأسباب عن تأثيرها فإذا رأوا شجرة نمت من البذر لم يستدلوا بها على وجود الله تعالى وإنما يستدلون إذا رأوها نمت لا عن بذر وغرس كمعجزات الأنبياء فيتصورون الأسباب شيئا والله تعالى شيئا آخر عدوا مبائنا لها فإن اعتقدوا أن لكل شيء سببا في الطبيعة قالوا: لا نحتاج إلى الله تعالى وإن اعتقدوا عدم التأثير في الأسباب نسبوا المسببات إلى الله تعالى، وأما طريقة العقل والقرآن فهي أن يستدل بالحكم والمصالح والنظم والاتقان الموجودة في الأشياء الطبيعية على أنها مسخرة بأمر الله تعالى كما أشرنا إلى ذلك مرارا فليس وجود الأسباب سواء كانت مجردة روحانية كالعقول والنفوس والأسماء الإلهية أو جسمانية طبيعية كالأدوية لشفاء الأمراض والسقي لنمو النبات مبائنا لتأثير مشيئة الله وإرادته وقدرته فجميع الوسائط مسخرة بأمره والدليل على ذلك الاتقان والنظم في فعل الطبائع كذلك إرادة الإنسان واسطة وسبب وليس فعل الله تعالى ومشيئته وإرادته شيئا مضادا بل ولا مبائنا لفعل أحد من عباده بل العبد يدبر والله يقدر (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) فالإنسان مختار والله تعالى شاء أن يكون مختارا فإذا قتل ظالم رجلا ظلما أرسل الله تعالى ملك الموت لقبض روحه ويعذب القاتل على القتل وليس القتل قتلا إلا بازهاق الروح الذي لا يقدر عليه القاتل وانما يقدر على مقدمات إزهاق الروح قتلا موجبا للقصاص وكذلك صانع الخمر يعصر أو ينبذ ويضع الإناء في مكان مناسب للتخمير ولا يقدر على تحصيل طبيعة الخمر وايجاد الصورة النوعية في العصير إلا أن الله تعالى حتم إيجاد كل شيء تستعد المادة له ففعل الإنسان ووجوده وذاته ومشيئته وارادته موافق ومطابق لإرادة الله ومشيئته فكل ما اختاره الإنسان جرى فعل الله تعالى على ما اختاره لأنه أراد كون الإنسان مختارا. (ش)

المختلفة صدرت منه تعالى لا توصف بالقبح، ويلزمهم وراء كون هذا القول من الهذيانات والمزخرفات أن لا يتصف شيء بالقبح أصلا، بناء على أصلهم من أنهم لا يصدر عن العبد شيء (قال: ثم قال: قال الله: يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني) قد مر شرحه مفصلا في باب المشيئة والإرادة.

(عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك) صريح في أن المعاصي صادرة عن العبد بالقدرة المخلوقة فيه لا عنه تعالى بالقدرة الأزلية كما زعمت الأشاعرة وهذا باطل لتنزهه تعالى عن القبائح وامتناع أتصافه بالظلم والجور ولا عن مجموع قدرة العبد وقدرته تعالى كما زعمه أبو إسحاق الإسفرايني، وهذا أيضا باطل لما مر ولامتناع أن يعذب الشريك القوي شريكه الضعيف على الفعل المشترك بينهما.

* الأصل:

4 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس فإن أهل الجنة قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وقال أهل النار: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) وقال إبليس: (رب بما أغويتني) فقلت: والله ما أقول: يا يونس! ليس هكذا، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، فقال: يا يونس! ليس هكذا، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، يا يونس تعلم ما المشيئة؟ قلت: لا، قال: هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟ قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء، فتعلم ما القدر; قلت: لا، قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: والقضاء: هو الإبرام وإقامة العين، قال: فاستأذنته أن اقبل رأسه وقلت: فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو لحسن الرضا (عليه السلام): (يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول

ص:17

أهل النار ولا بقول إبليس) لتوافق كلمتهم على عدم القدر بمعنى الجبر (1) فإن أهل الجنة قالوا:

(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) حمدوه على أن الهداية منه لا على أن فعلهم للخيرات الموجبة للدخول في الجنة فعله، ولو كان كذلك لكان هذا أولى بالحمد، وفيه مع الدلالة على نفي الجبر دلالة على نفي التفويض أيضا، وقال أهل النار: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) نسبوا الشقاوة إلى أنفسهم باعتبار أن أسبابها صدرت منهم ولو كانت الشقاوة وأسبابها من أفعاله تعالى لكانت نسبتها إليه تكميلا للحجة وإتماما أنفع لهم وقال الشيطان (رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وإنما لم يذكر (عليه السلام) تمام الآية مع أن الاستشهاد فيه (2) اكتفاء بالشهرة وحوالة على علم المخاطب به فنسبة الخبيث التزيين وإغوائهم إلى نفسه دل على اعترافه بأنهما فعلان له وقدرته عليهما وأما قوله (بما

ص:18


1- 1 - قوله «على عدم القدر بمعنى الجبر» والصحيح أن المراد بالقدرية هنا هو المفوضة وما ذكره الشارح (رضي الله عنه) في تفسير الحديث إلى آخره تكليف، قال صدر المتألهين (قدس سره) في شرح هذا الحديث أن القدرية ويقال لها المفوضة أيضا قوم ذهبوا إلى أن الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال وفرض إليهم الاختيار فهم مستقلون بإيجادها على وفق مشيتهم وإرادتهم. وقال الخليل القزويني (رضي الله عنه): المراد بالقدرية هنا المعتزلة وكذلك فسره العلامة المجلسي (رضي الله عنه)، وقد سبق أن هذا الاصطلاح أعني اطلاق القدرية على النافين للقدر شيء غير معروف في النسبة في لغة العرب ولذلك يجب حمل الحديث المشهور «القدرية مجوس هذه الأمة» على الجبريين لعدم اشتهار هذا الاستعمال في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وأما في أحاديث الأئمة (عليهم السلام) فجرى بعض الأوقات على المشهور عند القوم لأن إرادة غير المشهور يوجب حيرة المخاطب وضلاله. (ش)
2- 2 - قوله «مع أن الاستشهاد فيه» ليس الاستشهاد في الاستثناء الذي لم يذكره الإمام بل في قوله (رب بما أغويتني) وإنما تكلف الشارح ليوافق ما ذكره في تفسير القدرية والحاصل أن أهل الجنة أنكروا التفويض ونسبوا الهداية إلى الله تعالى وأهل النار نفوه ونسبوا ضلالهم إلى شقوتهم والشقوة بتقدير الله تعالى. والشيطان نسب غوايته إلى الله تعالى فكلهم أنكروا التفويض بنسبة ما هم عليه إليه تعالى وخطأ من أخطأ منهم إنما هو في نفي التفويض بحيث يلزم منه الجبر، والتفويض والجبر كلاهما مبنيان على أصل فاسد وهو كون وجود الممكن مستقلا في نفسه غير محتاج في البقاء إلى الواجب ولا متعلق به أصلا كموجودين ممكنين مستقلين لهما اقتضاء ان مختلفان لا يحتاج أحدهما في التأثير إلى الآخر، كالشمس تسخن والثلج يبرد، وزيد يذهب إلى المشرق، وعمرو إلى المغرب. فإن تمانع الممكنان فإما أن يجبر أحدهما الآخر بالقهر ويمنعه من اقتضائه، وإما أن يخليه وما يقتضيه لعجز أو غيره وكذلك تصوروا الواجب والممكن مستقلين فإن غلب الواجب على الممكن فهو الجبر وإن خلاه وتركه فهو التفويض، والحق بطلان المبني وأن الممكن يفعل ما يقتضي ذاته بإذن الله ولا يمنعه الله من اقتضائه وليس فعل الممكن ما يقتضي ذاته بأن يكون الله تعالى تركه وخلاه وإنما النسبة بين الممكن والواجب نسبة الخالق والمخلوق وقد مثلنا برئيس الجند وأفراد الجندية. (ش)

أغويتني) فالباء إما للقسم وجوابه قوله (لازينن) أو للسببية والقسم محذوف قبل هذا القول و «ما» مصدرية والإغواء بمعنى تخييبه تعالى إياه من رحمته بسبب التكبر وترك السجود أو بمعنى وجدانه إياه ضالا في الأعيان بعد علمه بضلالته في الأزل، فإن باب الإفعال قد يجيء بمعنى وجدان الفاعل المفعول على أصل الفعل كقولك أبخلته أي وجدته بخيلا، والمعنى أقسم بتخييبك إياي من رحمتك أو بوجدانك إياي ضالا بالسبب المذكور لازينن لهم المعاصي، وحينئذ لا دلالة فيه إلا على أن الاغواء بهذين المعنيين من فعله تعالى ولا محذور فيه وإنما المحذور في نسبة الضلالة وسببها وهو التكبر وترك السجود إليه تعالى وهو لم يقع. هذا ما خطر بالبال على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال، وللمفسرين من العدلية بعد حملهم الإغواء على ظاهره وهو الإضلال كلام طويل في توجيهه، ومجمل هذا الكلام:

أنه لما خلق أسباب الغواية فيه كالقدرية والعلم، وأمره بالسجود الذي هو أيضا من جملة أسبابها إذ بسببه استكبر وعصى كانت له تعالى سببية في الغواية فلذلك أسند فعلها إليه من باب إسناد الفعل إلى الفاعل البعيد مجازا، ومن الأصحاب من قال: المقصود أن في قوله (بما أغويتني) أي أشقيتني دلالة على الرد على القدرية فإن الغاوي الشقي وليس فعل الشر من الشقي بالجبر هذا كلامه فتأمل فيه (فقلت: والله ما أقول بقولهم) وهو أن أفعالنا صادرة عنه تعالى (ولكني أقول: لا يكون شيء) من أفعالنا (إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى) أي بسبب مشيئة الله وإرادته وتقديره وقضائه يعني أن هذه الامور أسباب لصدور أفعالنا عنا حتى أنها لو لم تكن لم نفعل (فقال:

يا يونس ليس هكذا) أي ليس الأمر ما زعمت من أن الامور المذكورة أسباب لأفعالنا وأفعالنا تابعة لها (لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى) أنكر كلام يونس أولا، وأرشده إلى الصواب ثانيا بحذف الباء السببية (1) الداخلة على المشية وما عطف عليها للتنبيه على أن تعلقها بأفعالنا ليس

ص:19


1- 1 - قوله «بحذف الباء السببية» قال يونس: «لا يكون إلا بما شاء الله تعالى» فاستدرك (عليه السلام) قوله وقال: «لا يكون إلا ما شاء الله» وتكلف الشارح رحمه الله في تفسير ذلك والحق أن دخول الباء في كلام يونس غلط استدركه الإمام (عليه السلام) لأن الباء لا يدخل على الفاعل إلا شاذا سماعا فلا يقال: جاء بزيد مكان جاء زيد وضرب بعمرو مكان ضرب عمرو و «ما» في قوله ما شاء الله موصولة فاعل «لا يكون» فلا ينبغي أن يدخل عليه الباء وكان الشارح زعم أن «ما» مصدرية فيكون معنى قوله «بما شاء الله» بمشيئة الله وقوله «لا يكون إلا ما شاء الله» أي لا يكون إلا مشيئة الله وقد مضى في الصفحة 353 من المجلد الثالث حديث «خلق الله المشيئة ثم خلق الأشياء بالمشيئة» ومضى شرح ذلك وهو يدل على سببية المشيئة في الجملة. (ش)

من قبيل تعلق العلة بالمعلول والسبب بالمسبب، ثم أشار إلى تفسير هذه الامور بوجه يفيد انتفاء السببية (فقال: يا يونس تعلم ما المشية) حتى تعلم أنها ليست سببا (1) لأفعالنا (قلت: لا، قال: هي الذكر الأول) أي العلم الأزلي السابق على الإرادة المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر فهي تابعة لتلك الأشياء بمعنى أنها مطابقة لها وأن الأصل في هذه المطابقة هو تلك الأشياء حتى أنها لو لم يتحقق لما تعلق العلم بوجودها، والمشية بهذا المعنى ليست سببا لها كما أن علمنا بطلوع الشمس غدا ليس سببا لطلوعها (فتعلم ما الإرادة قلت: لا، قال: هي العزيمة على ما يشاء (2) يعني البقاء عليه لوجوب بقاء العلم مع المعلوم فالإرادة وصف للمشية متعلقة بها لا يوجب ذلك أن

ص:20


1- 1 - قوله «والمشيئة بهذا المعنى ليست سببا» قد سبق كما قلنا في الحاشية السابقة أن المشيئة سبب ويبعد كل البعد أن يكون المشيئة في هذا الحديث غيرها فيما سبق وأن تمحل الشارح فيما سبق في تفسير المشيئة والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الإمام (عليه السلام) هنا وهناك أن المشيئة شيء مخلوق والمخلوق غير ذات الله تعالى ثم أنه الواسطة الوحيدة بينه تعالى وبين سائر خلقه بحيث لا يلزم منه تفويض الله تعالى فعله إلى مخلوقه فهي أول ما خلق الله تعالى قد سمى لوحا أو قلما أو عقلا أولا أو نور خاتم الأنبياء أو الوجود المنبسط الساري ومصحح هذه الإطلاقات الاعتبارات المختلفة في المخلوق الأول فباعتبار أنه الوجود المنبسط والوجود خير محض مرغوب فيه مشتهى بالذات والعدم والموت منفور منهما صح اطلاق المشيئة عليه وباعتبار أنه يدرك نفسه ذاتا وجميع الأشياء بذاته سمى عقلا وذكرا كما في هذا الحديث ومثله سائر الإطلاقات ويمكن أن يكون إطلاق المشيئة عليه باعتبار أنه محل المشيئة فإن جميع ما أراد الله تعالى إيجاده في العالم منتقش فيه وهو بهذا الاعتبار الذكر الأول لأنه محل الذكر كما يطلق على الدعاء المكتوب والذكر المكتوب. (ش)
2- 2 - قوله «هي العزيمة على ما يشاء» هذا الفرق الدقيق بين المشيئة والإرادة غير مراعى غالبا كأكثر فروق اللغة فقد يتسامح الناس فيها والحق ما ذكره (عليه السلام) لأن الإنسان يجد في نفسه بعد سماع كلمة شاء شيئا وبعد كلمة أراد شيئا آخر، فإن «شاء» يدل على رغبته في شيء ورضاه به ولا يدل على عزم في تحصيله أو تهيؤ واستعداد له بخلاف أراد فكأنه يدل على العزم والتهيؤ، قال صدر المتألهين في شرح حديث مضى في باب البداء: المشيئة: المراد بها مطلق الإرادة سواء بلغت حد العزم والإجماع أم لا، وقد ينفك المشيئة فينا على الإرادة الجازمة كما نشتاق أو نشتهي شيئا ولا نعزم على فعله لمانع عقلي أو شرعي. قال (قده): والإرادة هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوره وتصور الغاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذة ولكن الله تعالى بريء من أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته، انتهى. وما في هذا الحديث يؤيد تفسير (قدس سره) وأن المشيئة مقدمة على الإرادة فالمشيئة نظير الشوق فينا، والإرادة نظير التصميم والإجماع وذاته تعالى منزه عن التجزى والتكثر وهذه المعاني متحدة حقيقة متغايرة اعتبارا كسائر صفاته تعالى أو يطلق باعتبار بعض الملائكة المقربين إليه كما مضى نظيره في الصفحة 305 من المجلد الرابع فيكون الذكر الأول عند بعض ملائكته الغير الموكلين بإجراء ما أراده والعزيمة عند الموكلين بالإجراء (المدبرات أمرا). (ش)

تكون إرادته سببا لأفعالنا (فتعلم ما القدر؟ قلت: لا، قال: هو الهندسة) (1) بفتح الهاء والدال وسكون النون معرب «أندازه» أي المقدار، ثم نقل إلى تعيين المقدار كما أشار إليه بقوله (ووضع الحدود من البقاء والفناء) وغيرهما، قال الجوهري: المهندس هو الذي يقدر مجاري القني حيث تحفر وهو معرب من «الهنداز» وهي فارسية فصيرت الزاي سينا لأنه ليس في شيء من كلامهم زاي بعد دال والاسم الهندسة (قال: ثم قال: والقضاء هو الإبرام وإقامة العين) يعني إحكام الشيء وإقامته في الأعيان وهو في أفعاله بمعنى الخلق والإيجاد على وفق الحكمة وفي أفعالنا بمعنى إبرام الثواب والعقاب وإقامتها على وجه الجزاء كما مر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال «ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء، قال السائل: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة» (قال فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت:

فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة) حيث ظننت أن مشيئته وإرادته وقدره وقضاؤه أسباب لأفعالنا.

* الأصل:

5 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «قال إن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه وأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله.»

* الشرح:

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلق الخلق) مستعدين للخير والشر لحكم ومصالح بعضها يظهر لأولي الألباب وبعضها لا يعلمها إلا هو وأسرار القدر التي ورد النهي عن الغور فيها داخلة في هذا البعض (فعلم ما هم صائرون إليه) من الخير والشر، ولكن الغرض الأصلي من خلقهم هو الخير كما يدل عليه ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج «عن الصادق (عليه السلام) حين سأله الزنديق وقال له:

فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب؟ فقال (عليه السلام) خلقهم للرحمة وكان في علمه قبل خلقه إياهم أن قوما

ص:21


1- 1 - قوله «هو الهندسة» القدر: هو المشيئة والإرادة باعتبار تعلقهما بمقادير الأشياء على وفق المصلحة وهو باب واسع يتضح للإنسان بتتبعه في الطبيعيات والتشريح أنه جعل لكل شيء قدرا بحيث لو كان على غير ذلك المقدار أفسد ولذلك أمر الله الإنسان بالتفكر في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. (ش)

منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم له» فإن قلت: حديث هذا الكتاب حيث قال، فعلم بالفاء دل على أن علمه بذلك بعد الخلق، وحديث الاحتجاج دل على أنه قبل الخلق فما الوجه فيه؟ قلت: لا شبهة في أن علمه بذلك أزلي قبل الخلق ووجه ذكره هنا بعد الخلق ليكون فيه إشعار في الجملة بأن علمه تابع للمعلوم ليندفع ما يتبادر إلى الأذهان القاصرة من أن علمه مؤثر في المعلوم وسبب له، وهو يبطل القدرة والاختيار، بل التكليف أيضا لابتنائه عليهما حتى أن الفخر الرازي أبطل هذه الشبهة وقال: لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها (وأمرهم) بالخيرات والمصالح (ونهاهم) عن الشرور والقبائح (فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه) وكذا ما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى فعله، وذلك لإعطائهم القدرة الصالحة للضدين والقوة القابلة للطرفين، وهذا مذهب جميع العقلاء عدا الأشاعرة فإنهم قالوا: القدرة غير صالحة للضدين وهذا باطل بالضرورة لأن القادر هو الذي إن شاء أن يفعل فعل وإن شاء أن يترك ترك، فلو فرضنا قدرة أنحصر تعلقها بأحد الطرفين فقط دون الآخر لم يكن الموصوف بها قادرا (ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله) أي بتوفيقه لمن أقبل وعدمه لمن أدبر، أو بعدم إحداثه مانعا من الأخذ والترك، أو بخلق القدرة عليهما، أو بعلمه بهما، أو بتخليته، ويؤيد الأخيرين ما رواه الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) «أن أبا الحسن موسى (عليه السلام) قال: أن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون، فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه، وما جبر الله أحدا على معصية بل اختبرهم كما قال: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قوله (عليه السلام): «ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بأذنه» أي بتخليته وعلمه. انتهى أقول: هذا التفسير أعني تفسير الإذن بالتخلية والعلم يحتمل أن يكون من العسكري (عليه السلام) وأن يكون من الشيخ (رحمه الله)، وفيه دلالة على أن أفعالهم بقدرتهم واختيارهم وأن علمه الأزلي بها لا يستدعي أن لا يكون لهم قدرة واختيار فيها إذ علمه متعلق بكل ما يوجد في نفس الأمر ومما يوجد فيها أفعالهم وهو لا يوجب شيئا عليهم.

* الأصل:

ص:22

6 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله الله النار».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حفص ابن قرط) بضم القاف، قيل: هو النخعي الكوفي، ذكره الشيخ في كتاب الرجال في أصحاب الصادق (عليه السلام) (عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء) كالجبرية حيث زعموا أن الله يأمر بهما ويريدهما من العباد (فقد كذب على الله) في قوله «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء» وفي غير ذلك من الآيات الدالة على تنزه قدس الحق عنه (ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله) أي بغير علمه الأزلي بهما إذ قد عرفت أن المشية هي الذكر الأول، أو بغير إرادته فعل الخير وترك الشر، ففيه على الأول: رد على من زعم أنه تعالى لا يعلمها إلا بعد وجودهما، وعلى الثاني:

رد على القائلين بعدم إرادته وأمره ونهيه وتصرفه وتدبيره في أمر خلقه (فقد أخرج الله من سلطانه) إذ القول بعدم علمه أزلا بالكائنات وعدم جريان حكمه على العباد مناف لسلطانه على جميع الممكنات (ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله) التي خلقها في العباد يقدرون بها على الفعل والترك (فقد كذب على الله فيما أنزله من الآيات الدالة على أن معاصي العباد مستندة إليهم (ومن كذب على الله أدخله النار) قد أبطل (صلى الله عليه وآله) مذهب الجبر والتفويض وأثبت أن له تعالى سلطنة على العباد بالإحاطة والأمر والنهي. وأن للعبد قوة على الخير والشر وهذا أمر متوسط بين الأمرين.

* الأصل:

7 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن إسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون، قال: فقلت: يا هذا؟ أسألك؟ قال: سل، قلت: يكون في ملك الله تبارك وتعالى مالا يريد؟ قال: فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إلي فقال [لي]: يا هذا لئن قلت: إنه يكون في ملكه مالا يريد إنه لمقهور، ولئن قلت: لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي، قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا

ص:23

وكذا، فقال لنفسه نظر، أما لو قال غير ما قال لهلك.

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن إسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون، سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه. قال بعض العلماء: معنى القدر ههنا: مالا نهاية له من معلومات الله تعالى فإنه لا طريق لنا إليه ولا إلى مقدوراته، وقال بعضهم: هو ما يكون مكتوبا في اللوح المحفوظ وليس لنا علم بتفصيله فليس لنا أن نتكلفه، وقال بعضهم: هو تقدير الأشياء كلها أول مرة وليس لنا معرفة بكميته وكيفيته وتفصيله فلا يجوز لنا التكلم به. وقال بعضهم: هذه المناهي الثلاث لمن سأله عن القدر وكأنه (عليه السلام) نهى ذلك المخاطب عن طريق معرفة قضاء الله وقدره ونهى كل من يكون في منزله ذلك السائل أن يتكلم في ذلك، فأما أهل العلم والمحققون فلا، وعلى تقدير العموم يقال: المراد نهي المجادلة والمخاصمة والنزاع.

أقول: الحق هو العموم وأنه لا يجوز لنا التكلم إلا بما عرفناه أئمتنا (عليهم السلام) وبما سمعنا عن مخالفينا من معناه مالا يخالف العقل والنقل فإن التكلم به حينئذ على وجه تحقيق الحق والإرشاد لئلا يضل قوم بعد آخرين جائز لمن أحكم دينه وأبرم يقينه مع كمال الاحتياط لئلا ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه (قال: فقلت: يا هذا) الخطاب بهذا للاستهانة والاستخفاف (أسألك) استفهام بحسب المعنى (قال: سل، قلت: يكون في ملك الله مالا يريد) كأن الرجل من أهل التفويض إذ هذا السؤال بحالهم أنسب وفي إلزامهم أقرب (قال: فأطرق طويلا) أي أرخى رأسه وجفونه إلى الأرض زمانا طويلا (ثم رفع رأسه إلي فقال: يا هذا لئن قلت: إنه يكون في ملكه مالا يريد أنه لمقهور) أي قلت إنه لمقهور، ويحتمل أن يكون هنا تقديم وتأخير، أي يا هذا إنه لمقهور لئن قلت، فإن قلت:

المقهورية إنما تلزم لو أراد عدم وجود شيء وأوجده الخلق، لا ما إذا لم يرد وجوده. قلت: لعل المراد بما لا يريد إرادة العدم لا عدم الإرادة، واستعمال مثل هذه العبارة في هذا المعنى شائع، وعلى تقدير أن يكون المراد عدم الإرادة لزمت المقهورية أيضا لأن الحكمة بعد إعطائهم الوجود والقوة القابلة للخير والشر تقتضي أن يريد منهم الفعل والترك فإذا لم يرد فذلك إما التقديرين لزم أن

ص:24

يكون مقهورا (ولئن قلت لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي) أي بأنه يريد المعاصي كما هو مذهب الجبرية فإنهم يقولون: هو يريد جميع الكائنات حتى المعاصي والقبائح لأنه خالقها وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة إذ الصفة المرجحة لأحد المقدورين هي الإرادة (قال: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا فقال لنفسه نظر) أي تأمل واحتاط لنفسه لئلا يقع في الهلكة بنسبة مالا يليق بالباري إليه (أما لو قال غير ما قال لهلك) يعني لو قال ما يوافق مذهبه ولم يتوقف فيه لهلك بكفره هلاكا أبديا. فإن قلت: أي الأمرين هو الحق؟ قلت: الحق أنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد لما مر عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بالخصال السبع» وعد منها الإرادة ولكن إرادته المتعلقة بأفعال نفسه هي إيجادها، وبالطاعات هي إرادة وجودها والأمر بها على سبيل التخيير، وبالمناهي هي إرادة عدمها والأمر بتركها، وبالمباحات هي الرخصة لها وإرادة تساويها في الفعل والترك. وقد ذكرنا آنفا تفسير إرادته بما لا مزيد عليه مستشهدا بكلام الأصحاب الأخيار والأخبار المروية عن الأئمة الأطهار.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال: قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن الحسن زعلان، عن أبي طالب القمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت أجبر الله العباد على المعاصي؟) همزة «أجبر» للاستفهام أو للإفعال وهو على الأول إنشاء لفظا ومعنى، وعلى الثاني معنى فقط (قال: لا) إذ لو تحقق الجبر لورد مع المفاسد المذكورة سابقا أنه لا معنى لتمني العاصي حين يرى العذاب معاينة، (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) إذ لا وجه لهذا التمني على هذا التقدير، فإنه لا يعلم ما يفعل الله به بعد الكرة، فلعله يفعل به ما فعل به أولا (قلت: ففوض إليهم الأمر) بحيث لا يكون لنواهيه وأوامره وبواعثه وزواجره وتوفيقه وإحسانه وتسديده وخذلانه مدخل فيه؟ (قال: لا) لما فيه من إخراج

ص:25

القادر المطلق عن سلطانه ونسبة العجز الظاهر إلى من لا يدخل النقص في شأنه (قلت فماذا) يكون بين الجبر والتفويض؟ (قال: لطف من ربك بين ذلك) اللطف: ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدي إلى الإلجاء (1)، وهو يطلق تارة على الأمر والنهي كما يظهر ذلك من بعض الأحاديث الآتية، وتارة على اعتبار المصالح الكلية والجزئية في مواردها، وتارة على القوة التي لها سبيل إلى الفعل والترك كما دل عليه الحديث الآتي، وتارة على التوفيق والإعانة على الخيرات، وفيه دلالة على ما ذهب إليه المعتزلة والإمامية (2) من وجوب اللطف على الله سبحانه واستدلوا

ص:26


1- 1 - قوله «لا يؤدي إلى الإلجاء» لأن الإلجاء يباين التكليف ومعنى الإلجاء أن يجعل الأوضاع والأحوال بحيث لا يمكن أن يفعل المكلف إلا الخير ويمتنع من الشر قهرا فإن قيل: إنا نعرف أمورا لو كانت موجودة كانت موجبة لقرب الناس إلى الطاعة وليست موجودة. قلنا لا نسلم ذلك بل كل شيء يتوهم من ذلك أما أن يكون غير ممكن أو غير مؤثر في تقريب الناس إلى الطاعة واقعا وإن ظنناه أو موجب للإلجاء وأكثر ما يتوهمه الناس من القسم الثالث فإن قيل: لا يمكن إثبات شيء باللطف على ما ذكرت إذ كل ما يدعي أنه لطف مقرب يحتمل فيه تلك الاحتمالات، قلنا جميع ما أثبتناه بقاعدة اللطف في علم الكلام مما علمنا إمكانه وتقريبه إلى الطاعة وعدم كونه موجبا للإلجاء وعلى المخالف أن يرينا موردا تخلفنا فيه عن ذلك والحاصل أنه إذا علم الله تعالى أن زيدا مثلا يهتدي إلى الحق بمنام يريه البتة ذلك المنام وإن علم أنه ينتبه بهلاك ماله يهلكه أو بزيادته يزيده أو بمرضه يمرضه أو بشفائه يشفيه وأن علم لا يهتدي بشيء يخليه ويخذله نعوذ بالله من الخذلان وأما إذا علم أنه لا يمتنع عن الفسق والفساد إلا بأن لا يتهيأ له أسبابهما لم يلجئه بذلك (ش).
2- 2 - قوله «المعتزلة والإمامية» وجوب اللطف في مذهبنا مما لا ريب فيه ولم يخالف فيه أحد من يعتد بقوله ولا عبرة بخلاف بعض المعاصرين ممن لا إلمام لهم بالمسائل الاعتقادية ولا تمرن في الأحكام العقلية قال بعضهم في حاشيته على الكفاية عند بيان الإجماع المنقول: أن القاعدة باطلة يعني قاعدة اللطف لمنع وجوب اللطف عقلا كما نشاهد عدم تحقق اللطف في كثير من الموارد وإلا للزم عدم فعل اللطف الواجب على الله أو المعصوم تعالى الله وأوليائه عن ذلك انتهى، وخلافه في هذه المسألة نظير مخالفة من لا يعرف النحو في نصب الفاعل ورفع المفعول والأصل فيه أن كثيرا من علمائنا تمسكوا في الاجماع بقاعدة اللطف والإخباريون وحجية الإجماع وتجاوز من لا يعرف فأنكر القاعدة وذكرنا شيئا من ذلك في حاشية الوافي (باب صلاة الجمعة الصفحة 173) ومن أوهامهم الفاسدة أن العلم باتفاق الكل إجمالا متوقف على تتبع أقوال واحد واحد من العلماء تفصيلا وجوابه عدم التوقف كما أن العلم بالكبرى إجمالا في مثل المتغير حادث لا يتوقف على تتبع كل متغير ومنها أن العلم بدخول الإمام في المجمعين غير ممكن إلا بمشاهدته والسماع منه، وهو باطل لأن العلم بالتفاصيل مستخرج من العلم الإجمالي دون العكس. ومنها توهمهم عدم إمكان الاطلاع على قول جميع العلماء، والجواب أن الاطلاع على قول الجميع حاصل غالبا والوقوع علامة الإمكان كما نعلم أن جميع النحاة متفقون على رفع الفاعل مع إنا لا نعرف عشرين نحويا، ونعلم اتفاق النصارى على تعظيم يوم الأحد وذلك لأن اتفاق من نعرفهم دليل على اتفاق من لا نعرفهم إذ العادة جارية بأنه لو كان بينهم خلاف لظهر بين من نعرفهم وهذا أمر مبني على القرائن الخاصة في كل مورد يحصل لنا اليقين وقد ذكرنا شيئا في ذلك في المجلد الثاني. (ش)

عليه بأن اللطف يحصل به غرض المكلف فيكون واجبا وإلا لزم نقص الغرض، بيان الملازمة أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعامه وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدب فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه.

* الأصل:

9 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون، قال: فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها) فيه رد على الجبرية فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى لا يعذب العباد إلا على ما لم يفعلوه ولا يعاقبهم إلا على ما لم يضعوه، فإنه يوجد فيهم الكفر والسب له تعالى ولرسوله والإعراض عن الطاعات وإنكار المعاد، ثم يعذبهم على ذلك ولا يخفى على العاقل أن هذا من أشد أنواع الظلم وأبلغ أصناف الجور تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون) الظاهر أن ضمير يكون راجعا إلى الأمر والمعنى - والله أعلم - أن الله أعز وأقدر من أن يريد من العباد أمرا إرادة حتم فلا يكون ذلك الأمر، وقد أراد من آدم كف النفس عن الأكل من الشجرة، ومن إبليس السجود لآدم، ومن الكافر الإيمان، ومن العصاة ترك المعاصي، ولم يقع المراد في هذه الصور فعلم أن إرادته ليست إرادة حتمية جبرية بل هي إرادة تخييرية تكليفية.

ففيه أيضا رد على الجبرية إلا أنهم لما قالوا إن إرادته حتمية، قالوا: مراد الله تعالى في هذه الصور هو أضداد الامور المذكورة وهي الأكل وترك السجود والكفر والمعاصي، ولا يخفى قبح هذا القول وشناعته، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون ضميره راجعا إلى الإرادة المفهومة من يريد،

ص:27

والمعنى - والله أعلم - أن الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون إرادة ذلك الأمر ويكون إرادة خلافه.

وفيه حينئذ رد على من قال من المفوضة إنه تعالى فوض قبول أمره إلى العباد، بمعنى أنهم إن قبلوا أمره فهو مراد له ويثيبهم وإن لم يقبلوه بأن فعلوا خلافه فما فعلوه مراد له ويعاقبهم، وسنذكر عن مولانا أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) ما يدل على بطلان التفويض بهذا المعنى، ومن العجائب أنهم يقولون: إرادة الشيطان لا مرد لها وإرادة الرحمن تتبدل باختيارهم كما يرشد إليه ما يأتي في باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين «قدري يقول: لا يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس - الحديث» (قال: فسئلا هل بين الجبر والقدر) يعني التفويض وقد عرفت أن القدر يطلق على التفويض أيضا (منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض) الغرض من تشبيه هذه المنزلة المعقولة بالمنزل المحسوس وتفضيلها عليه هو الإيضاح والمبالغة في سعتها، وسر ذلك أنه تعالى لما علم من الخلق صنفين من الفعل وهما الخير والشر ركب فيهم آلتهما المؤثرة التي هي القدرة ولم يخلق فيهم آلة الخير فقط وإلا لكانوا مجبورين في الخير والشر وإذا كان فيهم آلتهما كانوا قادرين عليهما، وإذا كانوا قادرين اقتضت الحكمة حصرهم وتعبدهم بإرسال الرسل وتقرير الشرائع وتوجه الأوامر والنواهي ثم تداركهم بعد ذلك عند كل فعل وترك بالألطاف والعنايات والتدبيرات والاختيارات التي يشاهد بضعها في نفسه بعض العارفين وهذه منزلة عريضة (1) وسيعة طويلة لا يعلم أقطارها ونهاياتها وحدودها وغاياتها إلا الراسخون في العلم،

ص:28


1- 1 - قوله «منزلة عريضة» توهم التناقض بين القضاء اللازم واختيار الإنسان أوجب توهم نفي الواسطة، والتحقيق أنه لا واسطة بين النفي والإثبات لا بين كل مفهومين متخالفين ولا ريب أن الجبر والاختيار متناقضان لا واسطة بينهما ولكن ليس الجبر مرادفا للقضاء بل القضاء بمعنى علم الله تعالى بما يقع ويمكن أن يعلم وقوع الفعل اختيارا والحاصل أنه تعالى جعل لكل شيء سببا وعلة كالشمس للإضاءة والنار للإحراق، فإذا علم أن الشيء الفلاني يحترق فلابد أن يحترق في الوقت الذي تعلق علمه به بالنار التي جعلها علة له ولا يوجب ذلك أن يحترق بغير نار ويسلب العلية عن النار وكذلك إذا علم أن فلانا يموت بمرض جعله سببا لموته لا يوجب أن يموت بغير ذلك المرض وإذا علم أن فلانا يصير غنيا بكسب وتجارة أو بدعاء مثلا لا يوجب أن يغني بغير ذلك السبب فلا يجوز لمن علم بخير المخبر الصادق أنه يصير غنيا أن يترك الكسب والدعاء فكما علم الله وقوع المسبب علم وقوعه بذلك السبب بعينه وإذا علم أنه يدعو ويكسب ويتجر باختياره لا يوجب ذلك أن يصدر عنه بغير اختياره، وههنا نكتة وهي أن الدعاء المأمور به المرغوب فيه في جميع الأديان لدفع البلايا وجلب الخيرات لا يستلزم تغيير القضاء بل هو من القضاء الأول كما أشرنا إليه فيما سبق ولا يلزم منه القول بالبداء الباطل ولا يوجب القول بالقضاء الإلهي ترك السعي والكسب والبطالة كما يتوهم. (ش)

وسيجئ لهذا زيادة توضيح في الرابع من هذا الحديث.

* الأصل:

10 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى عن يونس [بن عبد الرحمن] عن صالح بن سهيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم».

* الشرح:

علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عن صالح بن سهل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر) إذ الأول يوجب نسبة الجور والظلم إليه تعالى، والثاني يوجب نسبة العجز والضعف إليه (ولكن منزلة بينهما فيها الحق) تقدم الظرف للحصر (التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم) الذي استفدنا من أخبارهم (عليهم السلام) هو أن للعبد قدرة مؤثرة في الفعل والترك، وأنه مكلف بالأمر والنهي، وأن عليه رقيبا عند كل مأمور به ومنهي عنه يرغبه ويزجره ويعينه ويدبره وأن جميع ذلك لا يبلغ إلى حد الإجبار بل هو يفعل ويترك بالاختيار والجبرية لما أنكروا القدرة المؤثرة أنكروا جميع ذلك ونسبوا جميع الأفعال إليه تعالى فوقعوا في طرف الإفراط ونسبوا إليه الظلم والجور، تعالى عما يقول الظالمون، والمفوضة وإن أقروا بالقوة المؤثرة والتكليف بالأمر والنهي لكن لما أنكروا التدبير وقالوا بأنه تعالى فوض قبول أمره ونهيه إلى العباد بالمعنى المذكور أبطلوا الأمر والنهي أيضا وألزموا عليه سبحانه قبول كل ما علموا من خير وشر فوقعوا في جانب التفريط ونسبوا العجز والضعف إليه تعالى عما يقول المكذبون، ونحن نحمد الله لما تركنا الطرفين أخذنا بالوسط وخير الامور أوساطها.

* الأصل:

11 - «علي بن إبراهيم، عن محمد، عن يونس، عن عدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل:

جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له: جعلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي; فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة، قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض».

ص:29

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد، عن يونس، عن عدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل:

جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها) لا يخفى شناعة القول بأنه تعالى يقتل الأنبياء والشهداء ثم يعذب قاتليهم وهل هذا إلا بمنزلة عتاب القاتل سيفه وتعييره وتكسيره وتعذيبه بأنك لم قتلت فلانا ولو فعل ذلك لنسبه كل عاقل إلى السفاهة والجهالة، ولما أورد هذا على الجبرية قال بعضهم: يعذبهم بكسبهم. وفيه أنه إن أراد بالكسب كونهم فاعلين لأفعالهم فنعم الوفاق، وإن أراد مجرد المحلية فالقبح بحاله وإن أراد معنى آخر فهو أعلم به.

وقال المازري: الله سبحانه ملك ولا يسأل الملك عما يفعل. وفيه أن هذا اعتراف بورود السؤال إلا أن أحدا لا يقدر عليه. وقال الآبي: قتل الشهداء والسرقة والزناء إذا صدرت منه تعالى ليست بظلم لأنه تصرف في ملكه. وفيه أن هذا سفسطة وقال السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف لا القياس والنظرة، ومن عدل فيه عن التوقيف ضل وحار ولم يصل إلى ما يطمئن به القلوب. وفيه أن التوقيف الإلهي في القرآن العزيز وقع بتنزه قدس الحق عن أمثال هذه القبائح ونسبتها إلى العباد مع أن أصل الإيراد باق (فقال له: جعلت فداك ففوض الله إلى العباد) بأقدارهم وترك التدبير في امورهم وحوالته إليهم (قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي) الحصر في اللغة:

الحبس والمنع، وفيه دلالة على أن الأمر بين الأمرين (1) هو الأمر والنهي ولا ينبغي أن ينكر ذلك

ص:30


1- 1 - قوله «وفيه دلالة على أن الأمر بين الأمرين» يمكن المناقشة في دلالة هذا الحديث من جهة أن القياس الاستثنائي ينتج من رفع التالي رفع المقدم ومن وضع المقدم وضع التالي إذا كان التالي لازما للمقدم. ولا ينتج من رفع المقدم رفع التالي ولا من وضع التالي وضع المقدم، ولا نسلم هنا كون التالي لازما إذ يتصور أن يأمرهم وينهاهم غير تفويض كما يجيء في كلام الشارح إن شاء الله ولذلك لم ينكر المفوضة وجود الأمر والنهي ولكن يدل عليه ما يأتي من رواية الاحتجاج عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) فإنه صرح بأن التفويض بمعنى عدم الأمر والنهي وأن الذي يعترف بالتكاليف الإلهية وإثبات الثواب والعقاب على الامتثال والعصيان فهو ليس بمفوض فيرجع بناء على هذا الحديث التفويض إلى تفويض التشريع وجعل الأحكام لا إلى تفويض التكوين وهو خلاف المعلوم من مذهب المفوضة وهم المعتزلة وكتبهم دائرة مشهورة وآرائهم منقولة متواترة، والحق أن رواية الاحتجاج مرسلة لا حجة فيها فيما يحتج فيه بخبر الواحد فكيف في مثل هذه المسائل فرد معناه إلى أهله أولى والحاصل أنه لا يكفي في الخروج عن التفويض الالتزام بالتكاليف ولا يثبت به معنى الأمر بين الأمرين ويأتي في ذيل الرواية ما يؤيد المقصود (ش).

باعتبار أن الجبرية والمفوضة وهم الأشاعرة والمعتزلة قائلون بالأمر والنهي، لأنا قد ذكرنا أنه يلزمهم إنكارهما وإن لم يقولوا به صريحا، وقد فسر الصدوق في كتاب التوحيد في باب أسماء الله تعالى في معنى الجبار; وصاحب العدة: الأمر بين الأمرين في قول مولانا الصادق (عليه السلام) «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» بالأمر والنهي حيث قالا: عنى بذلك أن الله لم يجبر عباده على المعاصي ولم يفوض إليهم أمر الدين حتى يقولوا بآرائهم ومقايسيهم، فإنه عز وجل قد حد ووصف وشرع وفرض وسن وأكمل لهم الدين فلا تفويض مع التحديد والتوصيف، إلا أنه ليس في كلام الصدوق «فلا تفويض إلى آخره» ويمكن أن يراد بالأمر والنهي ما يعم الألطاف الإلهية والتدبيرات الربانية أيضا وإليه ميل بعض الأفاضل حيث قال: المراد هنا فعل أو ترك منه تعالى يعلم جل شأنه أنه يفضي إلى صدور فعل عن العبد اختيارا ولولاه لم يصدر. والمراد بالنهي فعل أو ترك منه تعالى يعلم أنه يفضي إلى صدور ترك عن العبد اختيارا ولولاه لم يصدر. والمقصود أنه لو فوض إليهم لم يكن بيده أزمة الامور، واللازم باطل. وقال بعض العلماء: المراد أن الحكمة التي اقتضت حصرهم بالأمر والنهي تتأبى عن التفويض وهو قول المعتزلة حيث قالوا: العباد ما شاؤوا صنعوا (فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض) ولعل تلك المنزلة هي الحصر (1) بالأمر والنهي كما أشرنا إليه.

* الأصل:

12 - «محمد بن أبي عبد الله وغيره، عن سهل بن زيادة، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:

قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام). إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة قال: فقال لي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم; قال علي بن الحسين: قال الله عز وجل: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي; جعلتك سميعا، بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا اسأل عما أفعل وهم يسألون; قد نظمت لك كل

ص:31


1- 1 - قوله «ولعل تلك لمنزلة هي الحصر» قد مر أن المعتزلة لا ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب فليس معنى الأمر بين الأمرين إثبات التكاليف فقط بل يجب أن يضم إليه الألطاف كما مر في حديث أبي طالب القمي والتوفيق والتأييد وتسهيل الأسباب وما يرجع إليه في الأعمال الصالحة والخذلان في المعاصي وأمثال ذلك. (ش)

شيء تريد».

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله; وغيره، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة) على الفعل والترك وقد يقال: المراد بالاستطاعة هنا ما عليه المفوضة والجواب بثبوت الواسطة (قال: فقال لي:

أكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين قال الله تعالى: يا ابن آدم) ذكر الصدوق (رضي الله عنه) هذا الحديث بعينه في كتاب العيون وفيه «فقال لي: أكتب، قال الله تعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني، إني لا اسئل اسأل عما أفعل وهم يسألون، قد نظمت لك كل شيء تريد) إذ فيه دلالة على نفي الجبر والتفويض وثبوت الواسطة لتضمنه على إرادة العبد وقدرته واستطاعته وعلى تدبيره ولطفه وإعانته وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرناه من شرح هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة.

* الأصل:

13 - «محمد بن أبي عبد الله، عن حسين بن محمد، عن محمد بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية».

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن حسين بن محمد، عن محمد بن يحيى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا جبر) على العباد حتى لا يكون لهم قدرة على أفعالهم أصلا (ولا تفويض) حتى يكون أفعالهم بقدرتهم ولا يكون لهم زاجر أصلا (ولكن أمر بين أمرين، قال: قلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: مثل ذلك رجل رأيته على معصيته فنهيته) عنها (فلم ينته فتركته) بحاله وما زجرته عنها

ص:32

جبرا وقهرا (ففعل تلك المعصية) بقدرته واختياره (فليس حيث لم يقبل منك فتركته) مع قدرتك (1) على زجره عنها جبرا (كنت أنت الذي أمرته بالمعصية) أي جبرته عليها، أطلق الأمر على الجبر مجازا فكما أنك لما منعته منها بالزواجر والنصائح ما فوضت الأمر إليه ولما رأيته أنه يفعلها فتركته وما منعته منعا يوجب تركه ما أجبرته عليها، كذلك صنع الله بالنسبة إلى أفعال العباد فهذا أمر بين أمرين، ولعل التفسير المنقول سابقا عن الصدوق وصاحب العدة راجع إلى هذا، وقال الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي (رضي الله عنه) قال: حدثنا أبي عن أحمد بن علي الأنصاري، عن زيد بن عمير ابن معاوية الشامي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت، يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» ما معناه: قال: من زعم أن الله تعالى يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر; ومن زعم أن الله تعالى فوض أفعال الخلق والرزق إلى حججه (عليهم السلام) فقد قال بالتفويض; القائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك; فقلت: يا ابن رسول الله فما أمر بين أمرين فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما امروا به وترك ما نهوا عنه - الحديث».

وقال الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج (2) ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال: «الجبر والتفويض، يقول الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عنما سئل عن ذلك فقال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، قيل: فماذا يا ابن رسول الله؟ فقال: صحة العقل، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت والزاد قبل الراحلة، والسبب المهيج للفاعل على فعله، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل منه مطرحا بحسبه.

وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ويشهد به القرآن محكم آياته وتحقق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله العصمة والتوفيق، ثم قال (عليه السلام): فأما الجبر فهو قول من زعم أن الله عز وجل أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله

ص:33


1- 1 - قوله «فتركته مع قدرتك» هذا هو معنى الخذلان المقابل للتوفيق ويحمل عليه أمثال قوله تعالى (يضل من يشاء) أي يتركه مع ما يريد بسوء اختياره لأنه تعالى علم انه لا يؤثر فيه الالطاف (ش).
2- 2 - قوله «في كتاب الاحتجاج» ورواه أيضا في تحف العقول مع اختلاف في الألفاظ في الجملة. (ش)

(ولا يظلم ربك أحدا) وقوله جل ذكره (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) مع آي كثيرة في ذلك، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته له، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة، المثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم ذلك مولاه منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن الذي يأتيه به وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضي به من الثمن وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة، وإظهار الحكمة، ونفي الجور فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة أن يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ الحاجة التي بعثه المولى للإتيان بها وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه لذلك غيظا وعاقبه على ذلك فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف به من عدله وحكمته ونصفته وإن لم يعاقبه كذب نفسه أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.

ثم قال العالم (عليه السلام) بعد كلام طويل: فأما التفويض الذي أبطله الصادق (عليه السلام) وخطأ من دان به فهو قوله القائل: إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم وفي هذا كلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا: لو فوض الله إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضاء ما اختاروا واستوجبوا به من الثواب ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الإهمال واقعا وتنصرف هذه المقالة على معنيين إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبل اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس، عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراها على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه، وادعى مالك العبد أنه قاهر قادر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره

ص:34

ونهيه، فأي أمر أمره أو نهي نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة فصدر العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما آتاه فإذا هو خلاف ما أمره فقال العبد أتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محصور عليه لا ستحالة اجتماع التفويض والتحصير.

ثم قال (عليه السلام): فمن زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير أو شر، وأبطل أمر الله ونهيه ثم قال: إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي، وقبل منهم أتباع أمره، ورضي بذلك لهم، وتعبدهم به من الأمر والنهي وقبل منهم أتباع أمره، ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريد ويأمر به. وينهى عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده، اصطفى محمدا (صلى الله عليه وآله) وبعثه بالرسالة إلى خلقه، ولو فوض اختيار اموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار امية بن أبي الصلت ومسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله) لما قالوا (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) يعنونهما بذلك، فهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض بذلك أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سأله عباية بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي، فقال له: قل يا عباية قال:

ما أقول؟ قال: إن قلت: تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك أما سمعت الناس يسألون القوة حيث يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين قال: لا حول بنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله (1) ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون

ص:35


1- 1 - قوله «لا حول لنا عن المعاصي إلا بعصمة الله» هذا يدل على أن الاعتراف بالتكاليف فقط لا يكفي في الأمر بين الأمرين بل لابد من الألطاف والتوفيق كما مر. (ش)

الله،فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه - الحديث».

وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: معنى الأمر بين أمرين أنهم ليسوا بحيث ما شاؤوا صنعوا بل فعلهم معلق على إرادة حادثة متعلقة (1) بالتخلية أو بالصرف، وفي كثير من الأحاديث أن تأثير السحر موقوف على إذنه تعالى وكان السر في ذلك أنه قال: لا يكون شيء من طاعة أو معصية أو غيرهما كالأفعال الطبيعية إلا بإذن جديد مني فتوقف حينئذ كل حادث على الإذن توقف المعلول على شرطه لا توقفه على سببه، وهذا السر هو الذي أشار إليه أيضا في تفسير «أنه لا يكون شيء إلا بإذن الله» حيث قال: كنت متفكرا في أن توقف فعل العبد على إذنه تعالى إما بالذات أو بجعل الجاعل حتى أوقع الله تعالى في قلبي أنه ليس بالذات بل بجعل الله تعالى وتوضيحه أنه تعالى كما أوجب وجود الحوادث بقوله «كن» فقد جعل بقوله: «لم يكن أمر إلا ما أثبته في اللوح ولم يوجد شيء إلا بإذني» جميع أفعال العباد موقوفا عليهما.

* الأصل:

14 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الله أكرم من أن يكلف الناس مالا يطيقون، والله أعز من أن يكون في سلطانه مالا يريد».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن

ص:36


1- 2 - قوله «بل فعلهم معلق على إرادة حادثة» غير واضح المقصود وتمسكه بما ورد من الأحاديث في السحر أيضا غير مرتبط بما نحن فيه ولا نعرف معنى الإذن الجديد والإذن القديم والإذن القديم يكفي في كل شيء ولو كان ما ذكره حقا وصحيحا لما ثبت للقاتل جرم ولا على الجارح تبعة وقصاص، فإن ازهاق الروح عن المقتول بإذن الله تعالى ومباشرة ملك الموت والملائكة الموكلين وسراية الجراحة إلى النفس بأمر الله تعالى وليس نفس الادماء واستعمال آلات القتل إذا لم يكن مقارنا لإزهاق الروح مستلزما للقصاص، فما فعله القاتل لا يوجب قصاصا وما يوجب القصاص من فعل الله سبحانه، والساحر أيضا لم يفعل شيئا يضر بالمسحور في عقله وبدنه بل الله تعالى فعله ولا فرق بين ما ذكره الأمين وما يعتقده الأشاعرة في الكسب، والحل أن الله تعالى أجرت الأمور مترتبة على أسبابها وأراد ذلك وقدره ويؤاخذ الناس على الأسباب وان كان المسببات بإرادته. والله أعلم بحقائق الأمور، وما أشبه كلامه هذا بما يقال: أن النتائج تترتب على المقدمات لا بأمر الله تعالى، لأن النتيجة قد تكون باطلة أو كفرا ولا تكون من قبل الله تعالى وينكر بذلك استفادة العقول الجزئية من العقل المجرد. (ش)

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الله أكرم من أن يكلف الناس مالا يطيقون، بل لم يكلفهم إلا دون ما يطيقون كما قال الله عز وجل (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) الوسع: دون الطاقة، وقال الصادق (عليه السلام) «والله ما كلف العباد إلا دون ما يطيقونه من العبادات الشرعية والعقلية لأنهم إنما كلفهم في كل يوم وليلة خمس صلوات، وفي السنة صيام ثلاثين يوما وفي مائتي درهم، خمسة دراهم وفي العمر حجة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك» أقول: فيه رد على الجبرية فإنهم قالوا: لم يكلف الله أحد إلا فوق طاقته وجوزوا أن يكلف الله تعالى مقطوع اليد بالكتابة والزمن بالطيران (والله أعز من أن يكون في سلطانه) أي في ملكه (مالا يريد) إذ قد عرفت سابقا أنه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بإرادة ومشية، وقد مر تحقيق ذلك. وفيه رد على المفوضة إذ التفويض كما عرفت آنفا يوجب بطلان أمره ونهيه وإرادته وإذا بطل الجبر والتفويض ثبت الواسطة.

ص:37

باب الاستطاعة

* الأصل:

1 - «علي بن إبراهيم، عن الحسن بن محمد، عن علي بن محمد القاساني، عن علي بن أسباط قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال: يستطيع العبد بعد أربع خصال: أن يكون مخلى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، له سبب وارد من الله، قال: قلت: جعلت فداك فسر لي هذا قال: أن يكون العبد مخلى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثم يجدها. فإما أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف (عليه السلام) أو يخلي بينه وبين إرادته فيزني فيسمى زانيا ولم يطع الله بإكراه ولم يعصه بغلبة»

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن الحسن بن محمد، عن علي بن محمد القاساني، عن علي بن أسباط قال:

سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال: يستطيع العبد بعد أربع خصال) إذا تحققت تلك الخصال حصلت للنفس صفة راسخة قابلة للفعل والترك وتلك الصفة تسمى بالأستطاعة والقدرة والقوة والمكنة، وإن انتفت واحدة منها أو جميعها انتفت تلك الصفة وكان العمل مطرحا منه (أن يكون مخلى السرب) السرب بالتحريك وبالفتح والتسكين: المسلك والطريق يقول خل سربه أي طريقه وفلان مخلى السرب أي موسع عليه غير مضيق، وبالكسر والسكون: النفس، وفي النهاية:

«من أصبح آمنا في سربه» بالكسر: أي في نفسه، والمعنى على الأولين أن طريقه إلى الخير والشر خال بلا مانع، وعلى الأخير أنه لا مانع لنفسه عن الميل إليهما إذ لو منعت نفسه عنه أو سد الطريق لم يكن قادرا مستطيعا. ومن الأصحاب من اشترط في الاستطاعة أن يكون المكلف موجودا عاقلا فاهما للخطاب، وأن يكون الفعل ممكنا وهذه الامور يمكن إدراجها في تخلية السرب (صحيح الجسم) ضرورة أنه إذا كان لجسمه علة مانعة من حركته نحو المطلوب لم يكن قادرا عليه (سليم الجوارح) المعدة للفعل، كالذكر للجماع، والعين للإبصار، والرجل للمشي، واليد للضرب والبطش، وغيرها، فإذا تعطلت تلك الجوارح لم يتحقق الاستطاعة للفعل المطلوب منها.

(له سبب وارد من الله) قال شارح كتاب الاعتقادات للصدوق (رحمه الله): المراد بهذا السبب القوة التي

ص:38

جعلها الله تعالى فيه، وقال بعض الأفاضل: المراد به الإذن، وفيه رد على المفوضة فانهم يقولون فعل العبد لا يتوقف على إذنه تعالى (قال، قلت جعلت فداك فسر لي هذا) أي بين لي هذا السبب الوارد من الله وأوضح توقف الاستطاعة عليه بمثال، وإنما طلب تفسير هذا فقط لأن توقف الاستطاعة التي يعبر عنها بالفارسية ب «توانائي» على الثلاثة الاول ظاهر لا يفتقر إلى تفسير (قال) مثاله (أن يكون العبد مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح) فقد حصل له جميع أسباب الاستطاعة إلا السبب فان لم يحصل له السبب بعدها لم يكن مستطيعا وإن حصل كان مستطيعا كما أشار إلى ذلك بقوله (يريد أن يزني) أي يعزم والعزم: ميل النفس إلى أحد الطرفين بعد التردد فيهما وهو يقبل الشدة والضعف ويقوى شيئا فشيئا بزيادة الشوق وتصور النفع إلى أن يبلغ الإرادة الجازمة الجامعة لشرائط التأثير المقارنة للفعل (فلا يجد امرأة) فلا يكون مستطيعا لانتفاء السبب الذي هو وجدان امرأة إذ لوجدانها مدخل في تحقق الزنا وحيث لم يجدها انتفى سبب من أسبابه (ثم يجدها) فيحصل له حينئذ الاستطاعة لتحقق جميع الامور المعتبرة في تحققها (فإما أن يعصم نفسه) من الزنا بسبب توجه لطفه تعالى إليه وأخذه بيده من غير إجبار ولابد من هذا القيد بقرينة قوله «أو يخلى» (فيمتنع) منه فيسمى مطيعا.

(كما امتنع يوسف (عليه السلام)) منه مع قدرته عليه لما رآه من برهان ربه وهو اللطف منه (أو يخلى بينه وبين إرادته) لإعراضه عن اللطف بسبب متابعة القوة الشهوية (فيزني فيسمى زانيا) وفيه دلالة على أن فعل العبد بإرادته الجازمة المتعلقة به وتعلقها هو الذي سماه بعضهم بالداعي كما في شرح القديم والجديد للتجريد، ووجوب الفعل حينئذ لا ينافي إمكانه الذاتي بل تحققه كما بين في موضعه ولا اختيار الفاعل وقدرته على الترك لأن القادر المختار هو الذي يصح منه الفعل والترك قبل تعلق الإرادة الجازمة وإن وجب بعده والوجوب بالغير لو كان منافيا للقدرة والاختيار لزم أن لا يوجد فاعل مختار أصلا إذ الشيء ما لم يجب لم يوجد وحين الوجوب لا يبقى التمكن من الفعل والترك (ولم يطع الله) في صورة امتناع العبد (بإكراه) من الله وجبره على الامتناع لوقوع الطاعة بالاختيار (ولم يعصه) في صوره إمضاء إرادته وعدم امتناعه (بغلبة) أي بغلبة إرادته على إرادة الله لأن الغلبة إنما يتحقق لو أراد الله تعالى تركه حتما وأراد العبد فعله وحصل مراد العبد دون مراد الله تعالى. وأما إذا أراد الله تعالى تركه على سبيل التكليف والاختيار مع اللطف واختار العبد خلافه فلا، وما نحن فيه من هذا القبيل، فقد ثبت بذلك استطاعة العبد وقدرته على الفعل والترك وبطل القول بالجبر والتفويض.

* الأصل:

ص:39

2 - «محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا، عن رجل من أهل البصرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة، فقال:

أتستطيع أن تعمل ما لم يكون؟ قال: لا، قال: فتستطيع أن تنتهي عما قد كون؟ قال: لا، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): «فمتى أنت مستطيع؟ قال: لا أدري، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة ثم لم يفوض إليهم، فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل، فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لأن الله عز وجل أعز من أن يضاده في ملكه أحد. قال البصري: فالناس مجبورون؟ قال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين، قال: ففوض إليهم؟ قال: لا، قال: فما هم؟ قال: علم منهم فعلا فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين، قال البصري: أشهد أنه الحق وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة».

* الشرح:

(محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، وعبد الله ابن يزيد جميعا عن رجل من أهل البصرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة فقال) أبو عبد الله (عليه السلام): (أتستطيع) في الحال (أن تعمل ما لم يكون؟ قال: لا) لاستحالة أن يوجد الفعل الاستقبالي في الحال، فإن قلت: الحق أن أصل القدرة مقدمة على الفعل فكيف ضح هذا النفي؟ قلت: أولا: إن الكلام هنا في القدرة المؤثرة كما ستعرفه وهي مع الفعل، وثانيا: إن بعض المفوضة ذهب إلى أن الله تعالى أقدر العبد في الحال على الفعل ثاني الحال من غير توقف الفعل في ثاني الحال على إذنه تعالى، وعنده القدرة عرض غير باق في آنين فلزمه القول بوجود الفعل في ثاني الحال بدون قدرة العبد عليه ولعل هذا الكلام إشارة إلى نفي هذا المذهب (قال فتستطيع أن تنتهي) في الحال (عما قد كون) وتترك ما عملته في الماضي (قال: لا) لضرورة امتناع تعلق القدرة بما مضى من الفعل أو الترك (قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فمتى أنت مستطيع؟ قال: لا أدري، قال: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة) هي القوة الجسمانية والقدرة النفسانية والعلم والحياة والعقل والصحة (ثم لم يفوض إليهم) حتى يفعلوا ما يشتهون ويأخذوا ما يريدون غير ممنوعين ولا محصورين بالأمر والنهي فهم مستطيعون للفعل) لما ملكهم وأقدرهم (وقت الفعل) لا قبله ولا بعده (مع الفعل) بمقارنته إلى آخره (إذا فعلوا ذلك الفعل) ظرف لقوله مستطيعون ومثله ما كتبه الصادق (عليه السلام) في جواب مسائل عبد الرحيم القصير

ص:40

وهو هذا «وسألت رحمك الله عن الاستطاعة للفعل فإن الله عز وجل خلق العبد وجعل له الآلة والصحة وهي القوة التي يكون العبد بها متحركا مستطيعا للفعل ولا متحرك إلا وهو يريد الفعل وهي صفة مضافة إلى الشهوة التي هي خلق الله عز وجل مركبة في الإنسان، فإذا تحركت الشهوة في الإنسان اشتهى الشيء وأراده، فمن ثم قيل للإنسان مريد فإذا أراد الفعل الفعل وفعل كان مع الاستطاعة والحركة (1) فمن ثم قيل للعبد مستطيع متحرك فإذا كان الإنسان ساكنا غير مريد وكان معه الآلة وهي القوة والصحة اللتان بهما يكون حركات الإنسان كان سكونه لعلة سكون الشهوة فقيل ساكن فوصف بالسكون، فإذا اشتهى الانسان وتحركت شهوته التي ركبت فيه اشتهى الفعل وتحرك بالقوة المركبة فيه واستعمل الآلة التي بها يفعل الفعل فيكون الفعل منه عندما تحرك واكتسبه.

فقيل: فاعل ومتحرك ومكتسب ومستطيع أولا ترى أن جميع ذلك في صفات يوصف بها الإنسان. ولعل المقصود من هذا الحديث والذي بعده أن الاستطاعة بمعنى القوة المؤثرة المأخوذة مع جميع جهات التأثير وشرائطه مع الفعل لا قبله ولا بعده، وهذا أمر متفق عليه بين الإمامية والمعتزلة والجبرية وهم الأشاعرة وإنما النزاع بينهم في أصل الاستطاعة والقدرة والكيفية المسماة بها هل هي موجودة قبل الفعل أم لا؟ فذهب الإمامية والمعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني وقالوا: لا قدرة سوى هذه القدرة المقارنة للفعل، وليس في هذين الحديثين دلالة على نفي تقدم القدرة المطلقة على الفعل، وبما ذكرنا اندفع ما أورده الفاصل الأسترآبادي من أن هذا الحديث والذي بعده ليس موافقا للحق فهو من باب التقية، فان قلت: إذ كانت الجبرية قائلة بالقدرة المقارنة فأين لزمهم القول بالجبر؟ قلت: إنهم يقولون: إذا أراد الله أن يخلق أفعالهم خلق فيهم قدرة مقارنة للفعل من غير أن يكون لقدرتهم مدخل وتأثير فيه بوجه من الوجوه

ص:41


1- 1 - قوله «كان مع الاستطاعة والحركة» الظاهر أن الاستطاعة في هذه الأحاديث ومصطلح المتكلمين في عصر الصادق (عليه السلام) كانت أخص مما نفهمه الآن من هذه اللفظة، فإنا لا نفرق بينها وبين الاختيار المقابل للجبر فنفي الجبر يثبت الاستطاعة إذ هما نقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، وأما في عصره (عليه السلام) فكانت يراد منها شيء من لوازم التفويض ومعلوم أن الجبر والتفويض ليسا متناقضين إذ يمكن ارتفاعهما ولا ريب أن مسألة الاستطاعة مما يرتبط مع مسألة الجبر والتفويض، وبالجملة فإن حملنا الاستطاعة على الاختيار فلابد من ترك هذه الأخبار أو حملها على التقية وإن حملناها على التفويض فهي باقية بحالها ويستقيم معناها، والثاني أولى إذ لا داعي إلى اتقاء المعصوم من إبداء حكم اختلف فيه المسلمون من صدر الإسلام ويدل على ما ذكرناه كلمات في نفس هذه الأحاديث فإنه (عليه السلام) نفي الجبر صريحا ولو كانت تقية لما نفاه. (ش)

وحاصله أن هناك قدرتين قدرة الله تعالى وقدرة العبد، فإذا تهيأ العبد بقدرته لإيجاد الفعل سبقت القدرة الإلهية إلى إيجاده فيوجد فأفعالهم مخلوقة مكسوبة لهم، والمراد بكسبهم مقارنة أفعالهم لقدرتهم من غير أن يكون لقدرتهم تأثير فيها وقالوا: إن الثواب والعقاب باعتبار الكسب وهو كونهم محلا لتلك القدرة الغير المؤثرة (فإذا لم يفعلوه في ملكه) ولم يوجدوه في وقته بكف النفس عنه اختيارا (لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه) لما عرفت أن الاستطاعة لا تتعلق على فعل ما مضى فعله أو تركه (لأن الله تعالى أعز من أن يضاده في ملكه أحد) علة لقوله «لم يفوض إليهم» لما عرفت من أن التفويض يوجب القول بانتفاء إرادته وإذنه بطلان أمره ونهيه فأهل التفويض يضادون الله تعالى في ملكه وسلطنته، وقد دل كلامه (عليه السلام) على ثلاثة أمور: الأول:

نفي الاستطاعة قبل الفعل وبعده.

الثاني: نفي التفويض، والثالث: ثبوت الاستطاعة وقت الفعل، ولما غفل البصري عن الأخير المتوسط بين الجبر والتفويض، وتوهم من الأولين نفي القدرة المقتضي لثبوت الجبر (قال البصري:

فالناس مجبورون) لابد من تقدير «قلت» أي قلت: فالناس مجبورون ليست لهم قدرة على الفعل والترك ليصح الارتباط ورواية ابن يزيد عنه (قال: لو كانوا مجبورين كانوا معذورين) بالضرورة واللازم باطل لاستحقاقهم العذاب كما يدل عليه كثير من الآيات والروايات والمعذور لا يستحق العذاب ولما نفى الجبر وتوهم البصري ثبوت التفويض لخفاء الواسطة عليه (قال: ففوض إليهم؟) حتى يكونوا مستطيعين قادرين كاملين غير محصورين ولا محتاجين إلى إذنه تعالى (قال: لا) نفي التفويض ولم يذكر دليله اكتفاء بما مر من قوله «لأن الله تعالى أعز من أن يضاده في ملكه أحد (قال) إذا انتفى عنهم الجبر والتفويض (فما هم) وعلى أي حال (قال: علم منهم فعلا) من الخير والشر (فجعل فيهم آلة الفعل) في وقته وهي إقدارهم وتمكنهم عليه وليس تصرفهم فيه على وجه المغالبة والمقاهرة عليه تعالى، بل لأن التكليف ينافيه الجبر والتفويض فخلى بينه وبينهم (فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين) ومع إعطاه الاستطاعة عند كل فعل فعل لا قبله ولا بعده ينتفي الجبر والتفويض، أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن المفوضة يقولون ليس له تعالى إرادة وإذن وتصرف في أفعالهم، فإذا ثبت هذا النحو من التصرف والإذن بطل التفويض (قال البصري: أشهد أنه الحق) دون الجبر والتفويض الواقعين في طرف الإفراط والتفريط (وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة) ولا يعلم ما في هذا البيت من الحقائق الإلهية والأسرار الربانية إلا أنتم.

* الأصل:

3 - «محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، ومحمد

ص:42

بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن الحكم، عن صالح النيلي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي: إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم، قال: قلت: وما هي؟ قال: الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعا للزناء حين زنى ولو أنه ترك الزناء ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك، قال: ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا، قلت: فعلى ماذا يعذبه؟ قال:

بالحجة البالغة والآلة التي ركب فيهم، إن الله لم يجبر أحدا على معصيته، ولا أراد - إرادة حتم - الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر، وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير، قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول ولكني أقول: علم أنهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار».

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، ومحمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن الحكم، عن الصالح النيلي) صالح بن الحكم النيلي الأحول ضعيف (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) هل للعباد من الاستطاعة شيء؟ قال: فقال لي:

إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال: قلت: وما هي) أوضح لي بمثال (قال: الآلة) التي أودعها فيهم (مثل الزناء إذا زنى) ضمير الفاعل يعود إلى الرجل المعلوم أو إلى الزناء باعتبار إرادة الزاني منه من باب الاستخدام (كان مستطيعا للزناء حين زنى ولو أنه ترك الزناء ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك) لما كان المراد بالاستطاعة الاستطاعة الكاملة والقوة المؤثرة دل الحديث على أن العلة التامة لا توجب الفعل إذ هي على تقدير إيجابها للفعل لا تتعلق بالترك وإنما تتعلق بالترك علة تامة اخرى غير متعلقة بالفعل، ويمكن الجواب بأن المراد من قوه: «ولو أنه ترك الزناء» أنه لو تركه بكف النفس عنه الذي هو الجزء الأخير من علة الزناء حصلت حينئذ علة الترك فاللازم حينئذ أن يكون كل من الفعل والترك مستندا إلى علته لا أن العلة الواحدة المستقلة متعلقة بهما، وأما وجوب كل من الفعل والترك بعلته التامة فلا ينافي الاختيار فيه لما مر.

(قال: ثم قال: ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير) فإن قلت: هذا إنما ينطبق على مذهب الجبرية القائلين بأن الاستطاعة إنما هي الاستطاعة التامة المقارنة للفعل وليس هنا استطاعة مطلقة سابقة عليه كما هو مذهب الإمامية والمعتزلة قلت: هذا إنما يتم لو جعلت القلة والكثرة وصفا للاستطاعة وقبل الفعل ظرفا لها، أما لو جعلتا وصفا للزمان الذي هو قبل الفعل كان

ص:43

المعنى ليس له الاستطاعة الكاملة في زمان قليل قبل الفعل ولا في زمان كثير قبله، وهذا لا ينافي ثبوت الاستطاعة الناقصة قبل الفعل كما لا يخفى، وهذا الاحتمال وإن كان أبعد من الأول لكنه أولى بالإرادة لضرورة أن الاستطاعة المطلقة التي هي التمكن من الفعل بوجود الآلة مقدمة على الفعل، ومما يوجب حمله على هذا الاحتمال ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما كلف الله العباد بفعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم استطاعة ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي وقبل الأخذ والترك وقبل القبض والبسط» وعن عوف بن عبد الله عن عمه قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من الاستطاعة فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم زعموا أنها لا تكون إلا عند الفعل واردة حال الفعل لا قبله فقال: أشرك القوم (ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا) بالاستطاعة التامة، وأما ما تحقق قبلهما من مادة هذه الاستطاعة التي هي أيضا من أفراد الاستطاعة المطلقة فهو بالقياس إلى الاستطاعة كأنه ليس باستطاعة.

(قلت: فعلى ماذا يعذبه؟) لما علم أن الاستطاعة مقارنة للفعل وأن المراد بها الاستطاعة التامة المؤثرة وتوهم أنها من فعل الله تعالى سأل عن سبب تعذيبه للعبد مع أن الفعل ليس بمقدور له (قال: بالحجة البالغة) وهي إرسال الرسل وإنزال الكتب ووضع الشرائع (والآلة التي ركب فيهم) التي هي مادة تلك الاستطاعة (1) والمقصود نفي ما توهمه السائل وبيان أن هذه الاستطاعة بتمامها ليست من فعله تعالى وإنما مادتها وهي الآلة من فعله تعالى، والبواقي من الامور التي لها مدخل في التأثير من فعل العبد، فيعذبهم بسبب صرفهم تلك الآلة في غير ما خلقت لأجله مع التبليغ والإنذار، ثم أكد إبطال ذلك التوهم بقوله (إن الله لم يجبر أحدا على معصيته) لأن الجبر على المعصية، ثم التعذيب عليها - كما زعمت الجبرية - قبيح والله سبحانه منزه عن القبائح، وقالت

ص:44


1- 1 - قوله «مادة تلك الاستطاعة» والاستطاعة بمنزلة الصورة فلا يقال للاستطاعة استطاعة إلا إذا تحرك الفاعل وعمل وحصلت صورة الفعل وهذا نظير أن يقال: هل يستطيع أحد أن يزهق روح الآخر ويقبضها؟ فيجاب: لا يستطيع، فإن هذا فعل الله تعالى بواسطة ملائكته، فيقال: فكيف يقتله ويقتص منه؟ يجاب: بما جاء فيه من القوة والآلة وفعل أسباب الإزهاق فحضر ملك الموت وقبض روح المقتول فاستطاعة القتل متوقفة على شيئين، الأول: تحرك القاتل واستعماله الآلة، والثاني: حضور ملك الموت فقبل الفعل وحضور ملك الموت لا يحصل الاستطاعة كشريك في فعل ينتظر الآخر وبعد حضور ملك الموت يحصل الاستطاعة والقتل معا فينسب القتل إلى القاتل لتسبيبه ويقتص منه لذلك وأما ملك الموت فمأمور بقبض الروح كلما حصلت الأسباب والمعدات بيد من كانت ولو كان كافرا غشوما والمقتول مؤمنا أو وليا أو نبيا، هكذا ينبغي أن يفسر تلك الأخبار وبالله التوفيق. (ش)

الجبرية: لو كان خلق المعصية التي هي من الأعراض قبيحا لكان خلق بعض الجواهر والذوات مثل الخنزير والعقرب والحية أيضا قبيحا، ولما جاز هذا بالاتفاق فكذا ذاك وإلا فما الفرق؟ وأجاب العدلية عنه بأن المراد بالمعاصي والشرور والقبائح التي لا يفعلها الله تعالى ما يكون مفاسده في نظام الوجود أكثر من مصالحه عند العقل وما هو محل النزاع من القبائح والمفاسد الصادرة من العباد كالزناء واللواط والسرقة وسفك الدماء ونحوها مما لا يجد العقل السليم فيها فائدة ونفعا في حفظ النظام، ولو كانت فيها مصلحة فهي أقل من مفاسدها بكثير بخلاف ما يستقبحه العقل في بادىء النظر من أفعاله تعالى فإنه إذا تأمل فيها العاقل ربما اطلع على ما فيها من حكم ومصالح لا يحصى فيعود الاستقباح في نظره استحسانا كما في قصة موسى مع الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام (ولا أراد - إرادة حتم - الكفر من أحد) حتى يكون مجبورا على الكفر غير مستحق للتعذيب وهذه الإرادة هي التي يسميها أهل العدل إرادة قسر وإرادة إلجاء، ولما فهم من نفي القيد أنه أراد الكفر استدرك وبين كيفية تلك الإرادة بقوله (ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر) لما أراد إيمانه على التخيير دون القسر والإلجاء مع إقداره عليه وعلى الكفر صارت تلك الإرادة ظرفا لكفره مجازا إذ لو تحقق - القسر لم يتحقق الكفر، ويحتمل أن يراد بالإرادة: العلم، قال شارح كشف الحق (رحمه الله): إرادته تعالى للأفعال علمه بها وبما فيها مع المصالح (وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير) ولا يلزم منه الجبر، لأن علمه تعالى بما يفعل العبد باختياره لا يوجب الجبر وإنما يوجبه لو كان العلم علة للمعلوم وليس كذلك.

(قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: ليس هكذا أقول) لما لم يفهم السائل مراده (عليه السلام) سأله بهذه العبارة وإنما نفاها (عليه السلام) لأنها تفيد ظاهرا أن كفرهم مراد له تعالى بالذات كالإيمان، وليس كذلك لأنه لا يريد المعاصي كما يريد الخيرات (ولكني أقول: علم) في الأزل (أنهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم) لعل المقصود أن كفرهم لما كان واقعا في نفس الأمر باختيارهم وكان علمه تعالى متعلقا به في الأزل وأراد أن يكون علمه مطابقا للمعلوم أراد الكفر بالعرض من جهة أن إرادة هذه المطابقة يستلزم إرادة طرفها الذي هو المعلوم، أعني الكفر إذ بدونه لا يتحقق ولا ينافي إرادته من هذه الجهة كراهة صدوره منهم أبدا، وبذلك يظهر الفرق بين إرادة الخيرات وإرادة الشرور، فإنه تعالى يريد صدور الخيرات منهم أبدا سواء علم وقوعها أو علم عدم وقوعها ولا يريد صدور الشرور منهم أبدا، فإن صدرت منهم يتعلق بها الإرادة من حيث أنها طرف للنسبة العلمية المطابقة للواقع لا من حيث الصدور منهم (وليست إرادة حتم) لأن هذه الإرادة تابعة للعلم بوقوعه وليس علة لوقوعه حتى يلزم أن يكونوا مجبورين عليه غير قادرين على تركه (إنما هي إرادة واختيار)

ص:45

نشأت من عدم جبرهم على الإيمان إذ لو جبرهم عليه لما صدر منهم الكفر ولما تعلق به العلم والإرادة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن عبيد بن زرارة قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاستطاعة فم يجبني فدخلت عليه دخلة اخرى، فقلت: أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك، قلت: أصلحك الله إني أقول:

إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون، ولم يكلفهم إلا ما يطيقون، وإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره، قال: فقال: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي، أو كما قال».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن عبيد بن زرارة قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن استطاعة) كأن المراد بها هنا التمكن من الفعل والترك وهو الاستطاعة المطلقة المتقدمة (فلم يجبني) إما للتقية عن بعض الحاضرين، أو لعلمه بأن السائل على الحق، أو لمصلحة (فدخلت عليه دخلة اخرى فقلت: أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء) لإنكار الجبرية إياها (لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك) من الخاطرات، حكم بذلك لعلمه بأن قلبه كان على الحق ولم يكن فيه شيء يهلكه (قلت: أصلحك الله إني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون) كما زعمه الجبرية القائلون بأنه تعالى لا يكلف العباد إلا بما لا يستطيعون حيث أنهم يقولون العبد ليست له قدرة مؤثرة (ولم يكلفهم إلا ما يطيقون) كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (وأنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره) قد مر شرحه مفصلا في مواضع متعددة منها باب المشيئة والإرادة (قال: فقال: هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي، أو كما قال) (1) من الكلام، يعني: قال هذا القول بعينه أو قال ما هو مثله في المعنى.

ص:46


1- 1 - قوله «أو كما قال» يعني ما ذكره أنما نقله بالمعنى لا بخصوصيات ألفاظ الإمام (عليه السلام) وهذا يؤيد ما ذكرناه مرارا أن دعوى الإطميناني بصدور جميع خصوصيات ألفاظ الروايات من الإمام (عليه السلام) غير صحيحة وأن طريق المتأخرين في استفادة الأحكام من الدقائق اللفظية يتوقف على إثبات حجية الخبر تعبدا بديل خاص كآية النبأ، وإنما يتمسك بحاصل المضمون وما يمكن عادة حفظه وضبطه في نقل المعنى. (ش)

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

اشاره:

لعل المراد بالبيان: توضيحه تعالى معرفته ومعرفة رسوله والأئمة (عليهم السلام) في الميثاق وبالتعريف:

تعريف الرسول والأئمة تلك المعارف والأحكام للأمة في هذا العالم، وبلزوم الحجة أن الحجة لا تلزم إلا بعد البيان والتعريف، وبالجملة المقصود من هذا الباب أن الأحكام الاصولية والفروعية كلها توقيفية لا يمكن معرفة شيء منها إلا بالبيان والتعريف وبعدهما لزمت الحجة على المطيع والعاصي وقال الفاضل الأسترآبادي: المقصود من هذا الباب شيئان، الأول: أن الصور الإدراكية كلها فايضة من الله تعالى بأسبابها وهذا هو قول الحكماء وعلماء الإسلام، قال الله تعالى (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)، وشبهها من الآيات. والثاني أن الله تعالى لم يكلفنا بالكسب لنعرف أن لنا خالقا وله مبلغا رسولا بل عليه أن يعرفنا نفسه ورسوله وبذلك لزمت الحجة على الخلق. وغيره، وقيل: المراد بالبيان: بيان الأحكام الشرعية في القرآن لرسوله وبالتعريف: تعريف الرسول تلك الأحكام للأمة، وبلزوم الحجة: لزومها على الخلق بعد البيان والتعريف.

* الأصل:

1 - «محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ان الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم».

«محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج مثله».

* الشرح:

(محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله احتج على الناس بما آتاهم) من الحجج الباطنة وهي العقل والقدرة والعلم وغيرها (وعرفهم) بالحجج الظاهرة من إرسال الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب. والمقصود أنه تعالى أكمل حجته عليهم باطنا وظاهرا وأما باطنا فبأن أعطاهم قوة على فعل الخيرات وعقلا قابلا لمعرفتها وسلوك سبيلها، وأما

ص:47

ظاهرا فبأن عرفهم طريق التوحيد وما يليق به أولا وطريق الخيرات والشرور ثانيا بوضع الشرائع وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة كما قال: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) وقال: (ألم يأتكم نذير) إلى غير ذلك من الآيات.

(محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج مثله) كأن جميل بن دراج روي هذا الحديث تارة أخرى عنه (عليه السلام) بلا واسطة.

* الأصل:

2 - «محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع».

* الشرح:

(محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد ابن حكيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟) أهي من صنع الله تعالى وتوفيقه أو من صنع العباد وكسبهم بأفكارهم (قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع) قد رويت في هذا المعنى روايات كثيرة بلغت لكثرتها حد التواتر المعنوي منها مذكورة في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) ومنها مذكورة في كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي (رضي الله عنه) ومنها مذكورة في غيرهما من الكتب المعتبرة وفيه دلالة بحسب المنطوق والمفهوم على أن معرفته تعالى توقيفية وأن العباد لم يكلفوا بتحصيلها بالنظر والاستدلال وأن على الله البيان والتعريف، أولا: في عالم الأرواح بالإلهام، وثانيا: في عالم الأجسام بإرسال الرسول وإنزال الكتب وأن عليهم قبول ما عرفهم الله تعالى، فبطل ما ذهب إليه الأشاعرة والمعتزلة وبعض أصحابنا من أن معرفته تعالى نظرية (1)

ص:48


1- 1 - قوله «وبعض أصحابنا من أن معرفته تعالى نظرية» لم يظهر لنا وجه بطلان قولهم من الروايات التي أشار إليها إذ لا ريب أن كون المعرفة من الله تعالى والصور الإدراكية فائضة على الذهن من قبله لا يوجب سلب التكليف أو سلب الاختيار عن العبد كسائر أفعال العباد على ما مر في تصوير الأمر بين الأمرين ونفي الجبر والتفويض فإن الله تعالى أراد كون الإنسان مختارا في أفعاله فإذا فعل أفعالا باختياره ترتب عليها آثاره قهرا بإرادة الله فإذا زنى رجل خلقه الله من نطفته في رحم المرأة المزني بها ولد الزناء، وإذا عصر العنب وجعل العصير في موضع مناسب خلقه الله تعالى خمرا وإذا جرح رجلا جراحة مهلكة سرى المرض وأزهق الله روحه وترتب النتائج في جميع ذلك بأمر الله تعالى والمكلف عاص بترتيب المقدمات وتسبيب الأسباب وكذلك لا ينافي كون النظر في الأدلة والسير في الآفاق والأنفس والاعتبار بالآيات التي خلقها الله في كل شيء واجبا من فعل العبد بهداية عقله فرارا عن الضرر المحتمل وشكرا للمنعم، ومع ذلك يكون إفاضة الصور الإدراكية بعد الأسباب التي اختارها العباد من قبل الله تعالى، وأما قوه تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فهو لطف في الواجب العقلي أو محمول على مالا طريق للعقل اليه وإلا فكيف يسأل أهل الجاهلية عن وأد البنات كما قال تعالى (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) إلا بدلالة العقل صريحا على قبحه قبل بعثة الرسول وإنما يلزم ما قاله الأسترآبادي وارتضاه الشارح إن كان معنى إفاضة المعرفة على قلوب الناس إفاضتها من غير أسباب المعرفة أي بدون النظر بالإرادة الجزافية وهذا شيء أنكر مثله الشارح في تفسير القضاء وإبطال التفويض وأن تعلق علمه بفسق زيد وكفر عمر و لا يوجب صدورهما بغير اختيارهما كما مر. (ش)

واجبة على العباد وأنه تعالى كلفهم بالنظر والاستدلال فيها إلا أن الأشاعرة قالوا يجب معرفته نقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع الله تعالى بطريق العادة، والمعتزلة ومن يحذو حذوهم قالوا: يجب معرفته عقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع العبد يولدها النظر كما أن حركة اليد تولد حركة المفتاح وهم قد اختلفوا في أول واجب فقال أبو الحسن الأشعري هو معرفته تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية وعليه يتفرع كل واجب من الواجب الشرعية.

وقيل: هو النظر في معرفته تعالى لأن المعرفة تتوقف عليه وهذا مذهب جمهور المعتزلة. وقيل:

هو أول جزء منه لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه فأول جزء من النظر واجب ومقدم على النظر المتقدم على المعرفة، وقيل: هو القصد إلى النظر لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المتقدم على أول جزء من أجزاء النظر، وقال شارح المواقف: النزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول، أي اريد أول الواجبات المقصودة أولا وبالذات فهو المعرفة إتفاقا وإن لم يرد ذلك بل اريد أول الواجبات مطلقا، فالقصد إلى النظر لأنه مقدمة للنظر الواجب مطقا فيكون واجبا أيضا وكل هذا باطل عند الأخباريين من أصحابنا لأنها فرع وجوب المعرفة والمعرفة عندهم موهبية، ويحتمل أن يراد بالمعرفة معرفة الرسول أيضا وهو الذي ذهب إليه الفاضل الأسترآبادي في الفوائد المدنية حيث قال: قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متصلة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأن معرفة الله تعالى بعنوان أنه خالق للعالم وأن له رضا وسخطا وأنه لابد من معلم من جهته تعالى ليعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه من الامور الفطرية التي في القلوب بإلهام فطري إلهي (1) وذلك كما

ص:49


1- 1 - قوله «بإلهام فطري إلهي» هذا صحيح ولكن يوجب الاستعداد والتهيؤ وسهولة القبول لا حصول المعرفة بالفعل كما أن تعلق الطفل بثدي أمه وشهوة مص اللبن لا يوجب امتلاء بطنه وشبعه واستغنائه عن الحضانة والإرضاع وتربية الأم وإنما يفيد ذلك رغبة الطفل واستعداده لقبول الإرضاع ولو لم يكن في الطفل شهوة بالفطرة كان رضاعه نظير شرب الدواء بالقهر والكراهة، كذلك استعداد الإنسان لقبول معرفة الله يوجب سهولة تأثير وعظ الأنبياء وتعلم أصول المعارف ولو لم يكن الفطرة لم يسهل عليهم ولتركوا الدين بموت الأنبياء وفقد الأوصياء وغيبتهم. أيضا لو كان قول الأسترآبادي صحيحا وكان الإلهام الفطري كافيا في صيرورة المعارف بالفعل فما معنى قوله: إنه لابد من معلم من جهته تعالى وما فائدة ورود الآيات الكثيرة في القرآن في الحث على التدبر في آيات الله تعالى والاعتبار بالحكم والمصالح؟ ونعلم أن الأمر بذلك أكثر من آيات التكاليف والفروع ولم يرد في المعاملات والنكاح والحدود إلا آيات معدودة. وأما في معرفة الله تعالى فما من صفحة من صفحات المصحف إلا وفيه شيء في التوحيد والمعرفة. (ش)

قالت الحكماء الطفل يتعلق بثدي امه بإلهام فطري إلهي وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم بتلك القضايا، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليه الكتاب فأمر فيه ونهى فيه، وبالجملة لم يتعلق وجوب ولا غيره من التكليفات إلا بعد بلوغ خطاب الشارع، ومعرفة الله تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب وكل من بلغته دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) يقع في قلبه من الله يقين بصدقه فإنه تواتر الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأنه «ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أو تركه» وقال في الحاشية عليها قد تواترت الأخبار أن معرفة خالق العالم ومعرفة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) ليستا من أفعالنا الاختيارية، وأن على الله بيان هذه الامور وإيقاعها في القلوب بأسبابها (1) وأن على الخلق بعد أن أوقع الله تعالى تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها، ثم قال في موضع آخر منها: قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما تواترت بأن المعرفة موهبية غير كسبية، وإنما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول: الذي استفدته من كلامهم (عليهم السلام) في الجمع بينهما أن المراد بالمعرفة: ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية (2) من معرفة

ص:50


1- 2 - قوله «وايقاعها في القلوب بأسبابها» هذا صحيح والله تعالى قضى وقدر حصول العلوم بأسبابها كما قدر وقضى سائر الأمور أيضا بأسبابها ومن أسباب المعرفة انظر أو الاستدلال كما أن سبب الرزق السعي في المكاسب وسبب الشفاء التوسل بالطب والأدوية في الجملة وإفاضة الخير من الله تعالى مطلقا. (ش)
2- 1 - قوله «ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية» يعني أن المعرفة التي هي من الله تعالى ولا يحتاج فيها إلى العلم والكسب والنظر بل مفطورة في القلوب هي معرفة صانع العالم والنبي (صلى الله عليه وآله) يعني أصول الدين، وأما الذي يحتاج إلى التعلم هو علم الفروع والتكاليف وهذا شيء لم يلتزم به الشارح من أول الكتاب إلى هنا خصوصا في كتاب العقل والجهل وهو مخالف للحس والعقل والإجماع، أما الحس فإنا لم نر فردا من أفراد الإنسان كفى فيه فطرته عن تعلم أصول الدين ولو كان كذلك لم يكن في الدنيا كافر أو شاك أصلا. بل كل مؤمن فإنما آمن بالتعليم والتربية وأما العقل فلان التشكيك والإهمال كما يؤثر في خروج بعض الناس عن فطرة التوحيد والنبوة باعترافه كما في طوائف الكفار والمشركين كذلك يؤثر التعليم والتربية في الإيمان والتوحيد وما ذلك إلا لأن الفطرة استعداد وقوة لا فعل وكمال كبذر الحنطة المستعد لأن يصير نباتا إن وافق الأسباب وإن يفسد ويبطل إن أهمل وترك، وأما الإجماع فلاتفاق علمائنا جميعا من عصر الأئمة (عليهم السلام) إلى زماننا على تعليم التوحيد والنبوة والإمامة والتكلم فيها والاحتجاج عليها ولم ينكر عليهم الأئمة (عليهم السلام) بل شوقوهم وعلموهم كما نعلم من هشام بن الحكم والميثمي ومؤمن الطاق ثم المفيد والسيد المرتضى وغيرهم وبما ذكر يعرف وجه الجمع بين كون المعرفة من قبل الله وبين الحث على النظر والاستدلال بأن كون المعرفة فطرية بمعنى كون وجودها بالقوة وأن النظر والتعليم لتصييرها بالفعل أو بمعنى أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وأن كل شيء حصل بأسبابه فإنما وجوده منه تعالى كما مر في الأبواب السابقة وإن كان ذلك معرفة الفروع فهو من عند الله أيضا وأنما الذي يثقل على بعض الناس هذه الاصطلاحات المتداولة التي لا يعرفها العوام كالدور والتسلسل والجمع بين النقيضين وأمثال ذلك، ويتوهمون أن المعرفة لو كانت متوقفة على هذه الاصطلاحات لم يكن أحد من الناس مؤمنا. والجواب أن العبرة بفهم معنى هذه الأمور لا حفظ لفظها ونحن نعلم أن الدور والتسلسل مفهومان للعامة بالبديهة ويعترفون ببطلانها وإن لم يتداول عندهم ألفاظها فلو قيل لطفل: إن أختك ولدت أمك ثم أن أمك ولدت أختك ضحك منه لعلمه ببطلان الدور وإن قيل له: البيت مظلم ومضىء أنكر، وإن قيل له: اشعل هذا السراج من ذاك وذاك من ذلك وهكذا من غير أن يكون عندك زناد قادح ونار وكبريت استحالة، والإنسان مفطور على أن كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات لبطلان التسلسل. (ش)

صانع العالم وأن له رضا وسخطا وينبغي أن ينصب معلما ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم، ومن معرفة النبي (صلى الله عليه وآله) والمراد بالعلم الأدلة السمعية كما قال: «العلم إما آية محكمة أو سنة متبعة أو فريضة عادلة، وفي قول الصادق (عليه السلام) إن من قولنا أن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليه الكتاب وأمر فيه ونهى» وفي نظائره إشارة إلى ذلك ألا ترى أنه (عليه السلام) قدم أشياء على الأمر والنهي، فتلك الأشياء كلها معارف وما يستفاد من الأمر والنهي كله هو العلم. ويحتمل أيضا أن يراد بها معرفة الأحكام الشرعية وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا قال: المراد بهذه المعرفة المعرفة التي لا تلزم حجته تعالى بالثواب والعقاب يوم القيامة إلا بها وهي معرفة الأحكام التكليفية التي يعذب ويثاب مخالفها وموافقها.

* الأصل:

3 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه، وقال: (فألهمها فجورها وتقواها) قال: بين لها ما تأتي وما تترك، وقال: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) قال: عرفناه إما آخذ وإما تارك» وعن قوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى

ص:51

على الهدى) قال: عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون». وفي رواية: بينا لهم».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (وما كان الله ليضل قوما) أي ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم مؤاخذتهم أو يسمهم بسمة الضلالة يعرف بها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها أنهم من الضالين أو يخذلهم بسلب اللطف والتوفيق عنهم (بعد إذ هداهم) إلى طريق معرفته بإلهام فطري (حتى يبين لهم ما يتقون) قال: حتى يعرفهم بتوقيف نبوي (وما يرضيه وما يسخطه) من المعارف اليقينية والأحكام الدينية فهي توقيفية، على الله البيان وعليهم القبول (وقال) حمزة بن محمد الطيار ((فألهمها فجورها وتقواها) قال: بين لها ما تأتي وما تترك) أي عرفها ما ينبغي أن تأتي بها من المعرفة، والطاعة وما ينبغي أن تتركه من الكفر والمعصية، وقد أشار القاضي إلى هذا التفسير بقوله إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما والتمكين من الإتيان بهما (وقال: (إنا هديناه السبيل)) أي سبيل الخيرات والطاعات (إما شاكرا وإما كفورا) قال القاضي: هما حالان من الهاء، وإما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حاليه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز (قال عرفناه) بتشديد الراء والهاء مفعول أول يعود إلى الإنسان والمفعول الثاني محذوف أي عرفناه السبيل (إما آخذ وإما تارك) الآخذ: هو الشاكر، والتارك: هو الكافر، ولعل المراد أن بيان الواجبات مطلقا أصلية كانت أو فرعية على الله وليس عليهم النظر في تحصيل معارفه وأحكامه، ومن لطف الله تعالى علينا أنه من علينا بنعمة هي الهداية وجعل قبول تلك النعمة شكرا لها وتركها كفرانا، فسبحانه ما أرفع شأنه وأعظم امتنانه، (وعن قوله) عطف على قوله «في قول الله تعالى» (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) قال: عرفناهم سبيل الحق وهو طريق التوحيد والمعرفة وغيرهما من الأحكام (فاستحبوا العمى على الهدى) واختاروا الضلالة على الهداية (وهم يعرفون) سبيل الحق والهداية أو التفاوت بينهما وبين الضلالة، والواو للحال عن ضمير الجمع (وفي رواية بينا لهم) أوضحنا طريق الهداية فاختاروا طريق الضلالة بعد البيان والإيضاح.

ص:52

* الأصل:

4 - «علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (وهديناه النجدين) قال:

نجد الخير والشر».

* الشرح:

(علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن ابن بكير، عن حمزة بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: (وهديناه النجدين) قال: نجد الخير والشر) أي عرفناه سبيلهما والنجد في الأصل الطريق الواضح المرتفع وفيه دلالة على أن الهداية تطلق على إراءة طريق الشر أيضا.

وقال سيد المحققين: إذا اريد تخصيص الهداية بالخير، قيل أي نجدي العقل النظري والعقل العملي وسبيلي كمال القوة النظرية وكمال القوة العملية أو نجدي المعاش والمعاد أو نجدي الدنيا والآخرة أو نجدي الجنة والثواب والفناء المطلق في نور وجه الله والبهجة الحقة للقاء بقائه.

* الأصل:

5 - «وبهذا الاسناد، عن يونس، عن حماد، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: لا، قلت: فهل كلفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، قال: وسألته عن قوله: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه».

* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن يونس، عن حماد، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله هل جعل في الناس أداة) الأداة الآلة والمراد بها هنا العقل والذكاء (ينالون بها) بدون التعريف والتوقيف والتكليف (المعرفة) أي معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول ومعرفة الأحكام أيضا (قال:

فقال لا. قلت فهل كلفوا المعرفة) بالنظر والاستدلال (قال: لا، على الله البيان) (1) وعليهم القبول

ص:53


1- 1 - قوله «قال لا على الله البيان» يعني لم يجعل فيهم آلة ينالون بها المعرفة، فأن قيل قد مر في الكتاب الأول وأحاديث العقل والجهل أن الله تعالى جعل العقل آلة لمعرفة الله تعالى بالنظر في آياته تعالى في خلق السماوات والأرض وغيره خصوصا حديث هشام الطويل - وقد مر - فما وجه الجمع بينها وبين ما في هذا الحديث؟ قلنا الغرض من المعرفة هنا العلم بجميع الأحكام والتكاليف وما أراد الله تعالى منا تفصيلا والعقل آلة للعلم بوجوده تعالى وصفاته أجمالا، وما ورد في تعليم العباد من التنزيه والتنبيه على آيات قدرته لطف في الواجب العقلي. وأعلم أن هذا الحديث كما يدل على عدم كفاية العقل في استنباط جميع ما أراده الله منا يدل على بطلان ما نقل عن بعضهم من أن معرفة الله تعالى بالفطرة تغني عن النظر إذ لو كان المعرفة بالفطرة تغني عن النظر العقلي تغني عن تعليم الأنبياء أيضا ولكن الفطرة معدة للعقل حتى يستعد لقبول قول الأنبياء فيما يتوقف على تعليمهم وللنظر والاستدلال فيما لا يتوقف عليه بمنزلة شهوة الطفل للبن بالفطرة فإنها لا تغني عن إرضاع الأم بل يعده لقبول الرضاع. (ش)

كما دل عليه ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن الصادق (عليه السلام) قال: «ليس لله على الخلق أن يعرفوا قبل أن يعرفهم وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا».

ثم أشار إلى أن تكليفهم بالمعرفة تكليف بالمحال بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) من الاقتدار على قبول المعارف والأحكام فهم مكلفون بقبولها بعد البيان لا بتحصيلها إذ المعارف والأحكام توقيفية فهي من صنع الله تعالى لا من صنعهم وإذا لم تكن من صنعهم كان التكليف بها تكليفا بالمحال، وفيه رد على من زعم أن المعرفة نظرية يجب على العباد تحصيلها بالنظر وأن الأحكام الشرعية يجوز استنباطها بالرأي والقياس، وعلى من زعم من الأشاعرة أن تصور الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم وبأن له رضا وسخطا وبأنه لابد من معلم من جهته تعالى ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كاف في تعلق التكليف بهم (قال:

وسألته عن قوله (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه) دل على أن تعذيبهم والحكم بضلالتهم بعد هدايتهم في الميثاق إلى المعرفة ونسيانهم إياها منفي حتى يبعث إليهم رسولا يذكرهم على العهد ويبين لهم ما يوجب رضاه وسخطه كما قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

* الأصل:

6 - «وبهذا الاسناد، عن يونس، عن سعدان رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله. ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته، جميلا في صورته فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره، فمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه

ص:54

وجماله».

* الشرح:

(وبهذا الإسناد، عن يونس، عن سعدان رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله لم ينعم على عبد نعمة) ظاهرة وباطنة (إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله) بعد البيان والتوضيح لما ألزمه فزاد عليه، تكليفا بإزائها شكرا لها (فمن من الله عليه فجعله قويا) في الجسم والعقل (فحجته عليه القيام بما كلفه) من الجهاد والطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما لا يصدر إلا عن الأقوياء، والمراد أن القيام بما كلفه به أمر يحتج به سبحانه على القوي يوم القيامة إن تركه، فالقيام عدما حجته تعالى عليه، كما أنه وجودا حجة القوي على الله تعالى في الوفاء بما وعد للمطيع (واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه) يعني حجته عليه أيضا أن يتحمل ممن هو أضعف منه ولا يأخذه بالجريرة وسوء الأدب أو يتحمل منه ثقله بدفع ظلم الظالم وجور الجائر وغير ذلك مما يكسر ظهره ويجرح قلبه (ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه) في الرزق والمال (فحجته عليه ماله) يحتج به إن لم يخرج ما فيه من الواجبات المالية مثل الزكاة والخمس وغيرهما (ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله) تعاهده من باب إضافة المصدر إلى الفاعل والضمير يعود إلى الموصول أو إلى الموسع عليه و «بعد» مبني على الضم بحذف المضاف إليه، والباء في قوله «بنوافله» متعلق بالتعاهد، والضمير المجرور راجع إلى المال، يعني ثم حجته تعالى عليه بعد إخراجه الواجبات المالية ومفروضاتها أن يتعاهد حال الفقراء بنوافل ماله بالهدايا والتصدقات المندوبة (ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته) أي فجعله شريفا في نسبه وكريما في حسبه ورفيعا في خلقه (جميلا في صورته) الظاهرة بحسن هيئته ولطافة تركيبه ورشاقة قده وصباحة خده (فحجته عليه أن يحمد الله على ذلك) لأن ذلك من عظيم نعمائه تعالى عليه بلا سبق استحقاق فينبغي أن يحمده عليه أكمل من الحمد على نعمة له مدخل في اكتسابها لئلا يكون يوم القيامة محجوجا بتركه (وأن لا يتطاول على غيره) يعني لا يطلب الزيادة على غيره بالتكبر والافتخار ولا ينظر إليه بالإهانة والاستصغار (فيمنع حقوق الضعفاء) متفرع على المنفي وهو التطاول، يعني فيمنع التطاول أو فيمنع ذلك الشريف بسبب التطاول حقوق الضعفاء من زيارتهم وعيادتهم والمشي إلى قضاء حوائجهم وحضور جنائزهم إلى غير ذلك من الحقوق (لحال شرفه وجماله) متعلق بتطاول أو بيمنع والأخير أظهر.

ص:55

وأعلم أن الأحاديث السابقة دلت على أن المعارف كلها من صنع الله تعالى. وهذا الحديث دل على أن للعبد اكتساب الأعمال وأن لله تعالى حجة عليهم في جميع ذلك، يدل على ذلك ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنه سئل عن المعرفة أمكتسبة (1) هي؟ فقال: لا، فقيل له: فمن صنع الله عز وجل وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس لهم صنع ولهم اكتساب الأعمال، وقال (عليه السلام): أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين».

ص:56


1- 1 - قوله «أمكتسبة هي، قال: لا» هذا موافق لمذهب الحكماء أعني الإلهيين منهم أن الفكر والنظر والاستدلال معدة للعقل حتى يفيض الصورة العلمية من الله تعالى عليه كما أن الدواء معد لإفاضة الصحة على المريض وكذلك جميع الأسباب لإفاضة الصور سواء كانت الصور مما يوصف بالخير أو بالشر كالخمر والخنزير وكذلك الصور العلمية باطلة أو صحيحة. (ش)

باب اختلاف الحجة على عباده

* الأصل:

1 - محمد بن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن زيد، عن درست بن أبي منصور، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع:

المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة».

* الشرح:

(محمد بن أبي عبد الله، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن زيد، عن درست بن أبي منصور، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع:

المعرفة والجهل) لعل المراد أن معرفته تعالى عيانا في الميثاق والجهل بتلك المعاينة ونسيانها في عالم الطبائع من صنع الله تعالى والذي يدل عليه ما رواه أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن بإسناده عن زرارة، «عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) قال: كان ذلك معاينة الله فأنساهم الله المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم ولولا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه وهو قول الله (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) أو المراد أن الصور العلمية كلها تصورية كانت أو تصديقية ضرورية كانت أو نظرية والجهل بها أعني عدم حصولها أصلا أو زوالها بعد الحصول من صنع الله تعالى والذي يدل عليه ما مر في باب حدوث العالم من قول الصادق (عليه السلام) «وخاطرك بما لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك» حيث عد ذلك من جملة آيات وجوده وظهوره تعالى إلا أن فيضانها يتوقف على استعداد النفس بسبب إدراك المحسوسات وترتيب الضروريات، وهذا مذهب الحكماء وأكثر المنطقيين والمتكلمين ومنهم المحقق حيث قال في التجريد: ولابد فيه يعني في العلم من الاستعداد أما الضروري فبالحواس وأما الكسبي فبالأولى.

يريد أن إدراك المحسوسات ثم ترتيب التصورات والتصديقات الضرورية الفائضة منه تعالى

ص:57

معد لفيضان التصورات والتصديقات النظرية منه تعالى على النفس وإذا كانت المعرفة من صنعه تعالى كان الجهل البسيط وهو عدم المعرفة أيضا من صنعه تعالى لا من صنع العباد لأن المعرفة لما لم تكن داخلة تحت قدرتهم كان عدمها أيضا غير داخل تحتها لأن عدم الملكة تابع للملكة، وأما الجهل المركب فليس منه تعالى ومن زعم أنه منه فهو ذو جهل مركب بل هو من الشيطان (1) وقال الفاضل الأسترآبادي في الفوائد المدنية: هنا إشكال كان لا يزال يخطر ببالي في أوائل سني وهو أنه كيف نقول بأن التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ومنها كاذبة ومنها كفرية وهذا إنما يتجه على رأي جمهور الأشاعرة - القائلين بجواز العكس بأن يجعل الله كل ما حرمه واجبا وبالعكس - المنكرين للحسن والقبح الذاتيين لا على رأي محققيهم ولا على رأي المعتزلة ولا على رأي أصحابنا.

والجواب أن التصديقات الصادقة فائضة على القلوب بلا واسطة أو بواسطة ملك وهي تكون جزما وظنا والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان وهي لا تتعدى الظن ولا تصل إلى حد الجزم (2) وفي الأحاديث تصريحات بأن من جملة نعماء الله على بعض عباده أنه يسلط عليه

ص:58


1- 1 - قوله «بل هو من الشيطان» والشيطان مخلوق الله تعالى والجهل المركب منه لكن خلقه نظير خلق سائر الشرور بالعرض على ما مر في باب الخير والشر ونظيره إزهاق روح الشهداء عند قتل الكفار إياهم فإنه بأمر الله تعالى ومباشرة ملك الموت وإن كان فعل الكفار قبيحا وشرا والجهل المركب الفائض على ذهن الغالط والمخطئ بعد تركيب مقدمات فاسدة نظير إزهاق روح المؤمنين بقتل الكفار، فإن كان المتفكر الغالط مقصرا في ترتيب المقدمات وكان جهلة في أمر الدين كان معاقبا نظير قاتل الشهداء وإن لم يكن مقصرا أو كان خطاؤه في أمر غير الأمر الديني كتناهي الأبعاد والجزء الذي لا يتجزأ فهو معذور. (ش)
2- 2 - قوله «ولا تصل إلى حد الجزم» أن أراد بالجزم: العلم واليقين فهو حق لأن الجهل المركب ليس علما ويقينا، والمأخوذ في العلم أن يكون موافقا للواقع ولكن المشهور المتداول في عرف الناس إطلاق الجزم على الظن الذي لا يلتفت الظان إلى مخالفته للواقع أيضا إذ ربما يحصل لبعض الناس رأي وعقيدة لا يخطر ببالهم غيره حتى يلتفتوا إلى احتمال كونه مخالفا للواقع ويجرون على ما ظنوه كما نرى من جزم الملاحدة بإنكار المبدأ والمعاد ودليلهم أنهما غير محسوسين لهم، ولا ينتبهون لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وعوام اليهود والنصارى جازمون بمذهبهم تقليدا لآبائهم وقد رد الله تعالى عليهم جميعا ونبههم على خطئهم بقوله قالوا: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر مالهم بذلك من علم أن هم إلا يظنون) وقال تعالى (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) فنبههم على أن احتمال الخطأ على آبائهم قائم مركوز ذهنهم ومع هذا الاحتمال المغفول عنه جزمهم بالمظنون غير وجيه والعلم والظن صفتان أو عرضان من عوارض ذهن الإنسان يحصل بأسباب معينة ولا يمكن أن يحصل العلم من سبب الظن ولا الظن من سبب العلم كما لا يحصل الحرارة من الثلج والبرودة من النار، فإذا كان سبب الرأي والاعتقاد تقليدا الآباء الذين يعترف المعتقد بعدم كونهم معصومين عن الخطأ فهذا التقليد يوجب الظن لا العلم لكن المعتقد أخطأ في معاملة العلم مع هذا الظن والجزم به لعدم الالتفات إلى خلافه، وكذلك إذا كان مستند الرأي أن عدم الوجودان يدل على عدم الوجود أو توهم انعكاس الموجبة الكلية كنفسها وأمثال ذلك مما يسمى جهلا مركبا قد يجزم المعتقد به من غير أن يعلم به وقال أهل المنطق والأصول: العلم هو الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع فالجزم الغير المطابق للواقع ليس علما بل هو ظن، أي رجحان في طرف، وإن ضايق أحد في تسميته ظنا فعليه أن يثبت واسطة بين العلم والظن بأن يقول الطرف الراجح مع احتمال المرجوح أما أن يكون المعتقد به ملتفتا إلى احتمال المخالفة فهو الظن أو غير ملتفت وهو الجزم لكن في القرآن الكريم أطلق الظن على جزم الدهرية بمذهبم كما مر. (ش)

ملكا ليسدده ويلهمه الحق، ومن جملة غضب الله تعالى على بعض أنه يخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل وبأن الله تعالى يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا، إذا عرفت هذا فنقول: فيه رد على المعتزلة القائلين بأن المعرفة نظرية وجب على العبد تحصيلها بالنظر وأن العلوم النظرية كلها من صنع العبد بطريق التوليد الذي هو إيجاب لفاعله فعلا آخر كإيجاب حركة اليد لحركة المفتاح (والرضا والغضب) الرضا: كيفية نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو قبول شيء سواء كان ذلك الشيء مرغوبا لها أو مكروها، والغضب: حالة نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو الانتفام، وقد يطلقان على نفس الانفعال (والنوم واليقظة) النوم كما عرفت سابقا: حالة تعرض الحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس عن أفعالها لعدم انصباب الروح الحيواني إليها، واليقظة: زوال تلك الحالة.

ص:59

باب حجج الله على خلقه

* الأصل:

1 - «محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أبي شعيب المحاملي، عن درست بن أبي منصور، عن بريد بن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لله على خلقه أن يعرفوا) أي يعرفوه ورسوله وأئمته وأحكامه من قبل أنفسهم (وللخلق على الله أن يعرفهم) جميع ذلك (ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا) أي يطيعوا ويعلموا أنه حق ويتيقنوا ما كان المطلوب منه اليقين ويعملوا ما كان المطلوب منه العمل. وبالجملة حجته تعالى عليهم تمت بالتعريف وليس عليهم تكليف المعرفة وإنما عليهم القبول واكتساب الأعمال وفي معناه قوله (عليه السلام) «مامن أحد إلا وقد يرد عليه الحق قبله أم تركه».

* الأصل:

2 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من لم يعرف شيئا هل عليه شيء: قال: لا».

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من لم يعرف شيئا) الفعل مبني للمفعول من التعريف يعني: من لم يعرفه الله شيئا من المعارف والأحكام بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، إذ التعريف الأولي وهو الذي وقع عند الأخذ بالميثاق لا يستقل في المؤاخذة كما قال سبحانه (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (هل عليه شيء) من العقائد والأحكام أو من المؤاخذة والآثام (قال:

ص:60

لا) لأن التكليف والتأثيم إنما يكونان بعد التعريف وفيه دلالة واضحة على أن من لم تبلغه الدعوة ومن يحذو حذوهم لا يتعلق به التكليف أصلا، أما بالمعارف فلأنها من الله كما عرفت في الباب السابق، وأما بالإحكام فلأنها إنما تستفاده من البيان النبوي.

وفي بعض الروايات دلالة على أنه يتعلق بهم نوع آخر من التكليف في الآخرة للامتحان والاختبار لتكميل الحجة عليهم.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى (1)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم».

* الشرح:

(محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبن فضال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله عن العباد) من العلوم والمعارف والأحكام وغيرها ومن جملة ذلك أسرار القضاء والقدر (فهو موضوع عنهم) غير مطلوب منهم قبوله وفعله وتركه لأن ما يتوقف من المعارف وغيرها على التعريف فهو ساقط عنهم بدونه، وقد روى الصدوق (رحمه الله) هذا الحديث بهذا السند بعينه في كتاب التوحيد وفيه «ما حجب الله علمه».

* الأصل:

4 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: أكتب فأملى علي: إن من قولنا: الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصيام فنام رسول الله (عليه السلام) عن الصلاة فقال: أنا أنيمك وأنا أوقظك (2) فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون، ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا اصحك فإذا شفيتك فاقضه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة ولله فيه المشيئة ولا أقول: إنهم ما شاؤوا صنعوا، ثم قال: إن الله يهدي ويضل. وقال: وما امروا إلا بدون سعتهم، وكل شيء امر

ص:61


1- 1 - المعهود من الشارح التعرض لحال رجال الكافي أول ما يعثر على كل منهم وقد تعرض لحال أحمد بن محمد وابن فضال ج 1 ص 74 ولحال داود بن فرقد ج 2 ص 107 ولم يسبق ذكر لزكريا ولم يتعرض له الشارح وعنونه لعلامة في القسم الأول من الخلاصة وقال: ثقة روى عن أبي عبد الله (عليه السلام).
2- 2 - بعض النسخ [أنا أنمتك وأنا أوقظتك].

الناس به فهم يسعون له، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم ثم تلا (عليه السلام) (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) فوضع عنهم (ما على المحسنين من سبيل) و (الله غفور رحيم) (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) قال: فوضع عنهم (لأنهم لا يجدون).

* الشرح:

(عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أكتب) أمره بالكتابة اهتماما بشأن ما يتلوه عليه واعتناء بضبط ما يلقيه إليه (فأملى علي أن من قولنا إن الله يحتج) يوم القيامة (على العباد بما آتاهم وعرفهم) من أمر التوحيد والمعارف (ثم أرسل إليهم رسولا) لتذكيرهم وتنبيههم عن الغفلة (وأنزل عليهم الكتاب) تبيانا لكل شيء وقد روى الصدوق (رحمه الله) هذا الحديث بعينه في كتاب التوحيد وفيه «وأنزل عليه» بإفراد الضمير (فأمر فيه ونهى عنه) تقريبا لهم إلى المنافع والمصالح، وتبعيدا لهم عن المفاسد والمقابح (أمر فيه بالصلاة والصيام) خصهما بالذكر لأنهما من أعاظم أركان الإسلام فإذا وقع التوسع فيهما وقع في غيرهما بالطريق الأولى (فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة) من طريق العامة أيضا أنه نام (صلى الله عليه وآله) عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قيل: كان ذلك من غزوة خيبر، وقيل: كان ذلك من غزوة حنين، وقال محي الدين البغوي: إن قيل: نام هنا حتى طلعت الشمس وفاتت الصلاة، وقال في الآخر «تنام عيناي ولا ينام قلبي» فقيل المعنى ولا ينام قلبي في الأكثر وقد ينام في الأقل كما هنا، وقيل: المعنى أنه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث، وعندي أنه لا تعارض لأنه أخبر أن عينيه تنامان وهما اللتان نامتا هنا لأن طلوع الفجر يدرك بالعين لا بالقلب.

قال: المازري: يريد بذلك أن القلب إنما يدرك به الحسيات المتعلقة به كالآلام والفجر لا يدرك به وإنما يدرك بالعين فلا تنافي. وقال عياض: وقد يقال: نومه هذا خروج عن عادته لما أراد الله عز وجل من بيان سنة النائم عن الصلاة كما قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه وهم أيضا ناموا مثله «ولو شاء الله لأيقظنا ولكن أراد الله أن يكون سنة لمن بعدكم» (فقال أنا أنمتك وأنا أوقظتك) في كتاب التوحيد للصدوق (رحمه الله) «أنا انيمك وأنا اوقضك» على صيغة المضارع وهو الأوفق بما يأتي من قوله «أنا امرضك وأنا اصحك» (فإذا قمت فصل) أمر بالقضاء فورا وفي أول أوقات التذكر للدلالة على

ص:62

عدم كراهة قضائها في ذلك المكان، وقال عياض: واختلف فيمن ينبه من نوم في سفر وقد فات الوقت فقال بعض العلماء: ينتقل عن محله لا يصلي به فإن كان واديا خرج عنه لأنه موضع مشؤوم ملعون. ولنهيه عن الصلاة بأرض بابل لأنها ملعونة، وقال الجمهور: يصلي بموضعه ولا ينتقل (ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون) العلم بذلك وإن كان يحصل بالبيان القولي إلا أن البيان الفعلي أقوى وأظهر مع ما فيه من الدلالة على عدم الإثم بتركها كما أشار إليه بقوله (ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك) باستحقاق العقاب لانتفاء الاستحقاق هنا، والظاهر أن نومه (صلى الله عليه وآله) كان حين سار من أول الليل إلى السحر ونزل للتعريس، ففيه دلالة على جواز النوم قبل وقت الصلاة وإن خشي الاستغراق حتى يخرج الوقت وذلك لأنها لم تجب بعد، وفيه دلالة أيضا على أن فعله تعالى معلل بالغرض وما وقع في بعض الروايات من نفي الغرض عن فعله فلعل المراد منه نفي الغرض الراجع إليه (وكذلك الصيام أنا امرضك وأنا اصحك فإذا شفيتك فاقضه) الصحة حال أو ملكة يصدر بسببها عن محلها الأفعال على وجه الكمال والمرض عدم الصحة أو حالة أو ملكة يصدر بسببها عن محلها الأفعال لا على وجه الكمال وهما من أفعاله تعالى كما مر في باب حدوث العالم (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا من المكلفين (في ضيق) كما قال الله سبحانه (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وكما ورد «إن هذا الدين سمحة سهلة» (ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة) فيما آتاه وعرفه ولم يضيق عليه (ولله فيه المشيئة) شاء ما فيه صلاحه في الدين والدنيا أو صلاح الغير كإلقاء النوم والمرض عليه (صلى الله عليه وآله) لتعليم الخلق قضاء الصلاة والصوم وإصلاح حالهم بترك اللوم والتعبير لمن صدر منه ذلك، ولما توهم من قوله «لم تجد أحدا في ضيق» أن الخلق في سعة على الإطلاق يفعلون ما يشاؤون دفعه بقوله (ولا أقول إنم ما شاؤوا صنعوا) كما قالت المفوضة وذلك لحصرهم بالأمر والنهي وافتقارهم إلى الإذن واللطف وعدم استقلالهم في القدرة (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله).

(ثم قال: إن الله يهدي ويضل) أي يثيب ويعاقب أو يرشد في الآخرة إلى طريق الجنة وطريق النار للمطيع والعاصي وقد فسرت الهداية في قوله تعالى (سيهديهم ويصلح بالهم) بالأمرين أو ينجي ويهلك وقد فسرت الهداية في قوله تعالى حكاية (لو هدانا الله) لهديناكم بالنجاة يعني لو أنجانا لأنجيناكم لأنكم أتباع لنا فلو نجونا لنجوتم وفسرت الضلالة في قوله تعالى (فلن يضل أعمالهم) وفي قوله (ائذا ضللنا في الأرض) بالهلاك أو يوفق للخيرات ويسلب التوفيق أو يكون

ص:63

نسبة الهداية والإضلال إليه مجازا باعتبار إقداره على الخيرات والمعاصي، وروى الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن مولانا أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهم السلام) أنه قال: «فإن قالوا: ما الحجة في قول الله تعالى (يضل من يشاء، ويهدي من يشاء) وما أشبه ذلك؟ قلنا: فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين أحدهما: أنه إخبار عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء لو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عيهم عقاب وما شرحنا، والمعنى الآخر أن الهداية منه التعريف كقوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي امر بالأخذ بها وتقليدها - الحديث»: وقال المحقق الطوسي: الإضلال: إشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والإهلاك، والهدي: مقابل له، والأولان منتفيان عنه تعالى، وفي الشرح يعني يطلق الإضلال على معان ثلاثة: الأول: الإشارة إلى خلاف الحق، الثاني: فعل الضلالة، الثالث: الإهلاك، والهدى مقابل له فيطلق على مقابلات المعاني الثلاثة المذكورة الإشارة إلى الحق وفعل الهداية وعدم الإهلاك والإضلال بالمعنيين الأولين منتف عنه تعالى لأنه قبيح، والله تعالى منزه عن فعل القبيح، وأما الهدى فيجوز أن يسند إليه تعالى بالمعاني الثلاثة فما ورد في الآيات من إسناد الإضلال إليه فهو بالمعنى الثالث أعني الإهلاك والتعذيب كقوله تعالى (ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) وقوله تعالى (يضل به كثيرا).

وأما الأشاعرة فالإضلال عندهم بمعنى خلق الكفر والضلال بناء على أنه لا يقبح منه تعالى شيء.

وقال الفاضل الأسترآبادي في حاشيته على هذا الحديث: يجيء في باب ثبوت الإيمان أن الله خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة وكفرا بجحود. ثم بعث الله الرسل يدعوا العباد إلى الإيمان به فمنهم هدى الله ومنهم لم يهده الله، وأقول: هذا إشارة إلى الحالة التي سمتها الحكماء العقل الهيولاني. ومعنى الضال هو الذي انحرف عن صوب والصواب ولما لم يكن قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب صوب صواب امتنع حينئذ الانحراف عنه، ولما حصلا أمكن ذلك فيكون الله تعالى سببا بعيدا في ضلالة الضال، وهذا هو المراد بقوله (عليه السلام) يضل. وقال في الفوائد المدنية: وأما أنه تعالى هو المضل فقد تواترت الأخبار عنهم (عليهم السلام) بأن الله يخرج العبد من الشقاوة، إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة فلابد من الجمع بينهما ووجه الجمع كما يستفاد

ص:64

من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه: ان من جملة غضب الله تعالى على بعض العباد أنه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة وإلا فتنشر تلك النكتة حتى تستوعب قلبه كله فحينئذ لا يلتفت قلبه إلى موعظة ودليل. لا يقال: من المعلوم أنه مكلف بعد ذلك، وإذا امتنع تأثر قلبه فيكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق، لأنا نقول: من المعلوم أن انتشار النكتة لا ينتهي إلى حد تعذر التأثر، ومما يؤيد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة من أهل بيت النبوة صلوات الله عليه من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفق صاحبه للتوبة بعده أبدا، ثم أقول: إن هنا دقيقة اخرى هي أنه يستفاد من قوله (وهديناه النجدين) أي نجد الخير ونجد الشر ومن نظائره من الآيات والروايات ومن قوله تعالى (إن الله يحول بين المرء وقلبه) ومن نظائره من الآيات والروايات أن تصوير النجدين وتمييز نجد الخير من نجد الشر من جانبه تعالى وأنه تعالى قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل وقد لا يحول ويخلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل; وذلك نوع من غضبه يتفرع على اختيار العبد العمى بعد أن عرفه الله تعالى نجد الخير ونجد الشر فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلا، وبالجملة أن الله يقعد أولا في أحد اذني قلب الإنسان ملكا وفي أحد اذنيه شيطانا ثم يلقي في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه، وإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه وإن عزم على إخفائها وإظهار خلافها يرفع الملك عن قلبه ويخلي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنية، وهذا معنى كونه تعالى مضلا لبعض عباده.

وقال شارح كشف الحق للرد على الأشاعرة القائلين بأنه تعالى هو الهادي والمضل مستدلين بقوله تعالى (يضل من يشاء ويهدي من يشاء): إن هذا مدفوع بما فصله الأصحاب في تحقيق معنى الهداية والضلالة وحاصله أن الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو (إن علينا للهدى) وبمعنى التوفيق نحو (والذين اهتدوا زادهم هدى) وبمعنى الثواب نحو (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم جنات تجري من تحتها الأنهار) وبمعنى الفوز والنجاة نحو (لو هدانا الله لهديناكم) وبمعنى الحكم والتسمية نحو (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) يعني أتريدون أن تسموا مهتديا من سماه الله ضالا وحكم بذلك عليه، والإضلال

ص:65

يأتي على وجوه، أحدهما: الجهل بالشيء يقال: أضل بعيره إذا جهل مكانه، وثانيها: الإضاعة يقال:

أضله أي أضاعه وأبطله، ومنه قوله تعالى (أضل أعمالهم) أي أبطلها، وثالثها: بمعنى الحكم والتسمية يقال: أضل فلان فلانا أي حكم عليه بذلك وسماه به، ورابعها: بمعنى الوجدان والمصادفة يقال: أضللت فلانا أي وجدته ضالا كما يقال: أبخلته أي وجدته بخيلا، وعليه حمل قوله تعالى (وأضله الله على علم) أي وجده وحمل أيضا على معنى الحكم والتسمية وعلى معنى العذاب، وخامسها: أن يفعل ما عنده يضل ويضيفه إلى نفسه مجازا لأجل ذلك كقوله تعالى (يضل به كثيرا) أي يضل عنده كثير.

وسادسها: أن يكون متعديا إلى مفعولين نحو (فأضلونا السبيلا) و (ليضل عن سبيله) وهذا هو الإضلال بمعنى الإغواء وهو محل الخلاف بيننا وبينهم، وليس في القرآن ولا في السنة شيء يضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى (وما امروا إلا بدون سعتهم وكل شيء امر الناس بهم فهم يسعون له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم قال الفاضل المذكور في حاشيته على الفوائد في مقام نقله هذا الحديث قصده (عليه السلام) منه: إن الله تعالى وسع في أوامره ونواهيه وكلفهم دون طاقتهم فبطل ما قالته المعتزلة والأشاعرة من أن الله تعالى كلفهم بالنظر والفكر في تحصيل معرفة الله تعالى ومعرفة الرسول (صلى الله عليه وآله) (ولكن الناس لا خير فيهم) لتمسكهم في اصول الدين وفروعه بمفتريات أوهامهم ومكتسبات أفهامهم وقصده (عليه السلام) منه هو التنبيه بأنه يجب الرجوع: في جميع ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم السلام) وقد حمل على ذلك ما روي عنه (عليه السلام). قال: «حجة الله تعالى على العباد النبي (صلى الله عليه وآله) والحجة فيما بين الله وبين العباد العقل» (1) وما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأما الباطنة فالعقول» (2) وما روي عنه ابن السكيت حين قال له: «ما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (عليه السلام): العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب» (3) ووجه الحمل أن الحجة الظاهرة وهو الرسول يبين طريق الخير والشر والحجة الباطنة وهو العقل يختار الخير ويترك الشر ويميز بينهما، وهذا معنى كونه حجة كما يستفاد من الروايات لا أنه مستقل بتحصيل المقدمات كما زعمه المعتزلة ومن يحذو حذوهم لأن

ص:66


1- 1 - راجع كتاب العقل والجهل.
2- 2 - راجع كتاب العقل والجهل.
3- 3 - راجع كتاب العقل والجهل.

العقول الناقصة كثيرا ما تأخذ المقدمات الكاذبة وتزعم أنها صادقة فيبعد بذلك عن المطالب الحقة، فلو كان العقل مكلفا بتحصيلها من قبله بدون التشبث بذيل حجة ظاهرة ووقع الخطأ منه كان معذورا، ولزم من ذلك أن يكون البراهمة والزنادقة والملاحدة وغيرهم من الفرق المبتدعة معذورين لا حجة لله تعالى عليهم يوم القيامة (ثم تلا (عليه السلام)) استشهادا لقوله (لم تجد أحدا في ضيق) وقوله (وما أمروا إلا بدون سعتهم) (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون) لكمال فقرهم (ما ينفقون) في سبيل الجهاد (حرج فوضع عنهم) الحرج والإثم للقعود عن الجهاد والتأخير في الخروج (ما على المحسنين) وهم الضعفاء والمرضى (من سبيل) إلى معاتبتهم ومؤاخذتهم وتكليفهم بما ليس في وسعهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أن اتصافهم بصفة الإحسان ودخولهم في المجاهدين بالقلب واللسان وأن تخلفوا عنهم بالأبدان صار منشأ لنفي الحرج عنهم كما قال سبحانه (إذا نصحوا لله ورسوله) (والله غفور رحيم) يغفر لهم خطيئاتهم ولا يكلفهم بما لا يطيقون (ولا على الذين إذا ما أتوك) من فقراء الصحابة (لتحملهم) إلى الجهاد بتحصيل الراحلة والزاد ليغزوا معك، قلت: لا أجد ما أحملكم عليه (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون) (قال: فوضع عنهم) الجهاد والحرج (لأنهم لا يجدون) ما يركبون وما ينفقون والمقصود من ذكر الآية الكريمة أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فكيف يكلف الناس على اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم أن يكتسبوا المعارف والأحكام بمجرد أوهامهم.

ص:67

باب الهداية أنها من الله عز وجل

* الأصل:

1 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن إسماعيل السراج، عن ابن مسكان، عن ثابت بن سعيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ثابت مالكم وللناس، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم، فوالله لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه، ولو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبدا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلوه، كفوا عن الناس ولا يقول أحد: عمي وأخي وابن عمي وجاري فإن الله إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه فلا يسمع معروفا إلا عرفه ولا منكرا إلا أنكره. ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره».

* الشرح:

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن إسماعيل سراج) في بعض النسخ، عن أبي إسماعيل السراج وهو الأظهر، وأسمه عبد الله بن عثمان (عن ابن مسكان عن ثابت بن سعيد) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا ثابت مالكم وللناس؟) الواو للعطف على الضمير المجرور بإعادة الجار، والعامل معنوي يشعر به كلمة الاستفهام وحرف الجر الطالبان للفعل، والمعنى: ما تصنعون أنتم والناس، والمقصود هو الحث على التباعد منهم وترك المبالغة والمخاصمة معهم في أمر الدين (كفوا) أنفسكم (عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم) الأمر بالكف والنهي عن الدعاء إما لأجل ما كان في ذلك الزمان من شدة التقية من أهل الجور والعدوان، وإما لأن القصد منه ترك المبالغة في الدعاء وعدم المخاصمة في أمر الدين وذلك لأن المستعد لقبوله يكفيه أدنى الإشارة والمبطل لاستعداده الفطري لا ينفعه السيف والسنان فكيف المخاصمة باللسان (فوالله لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا) أن يوصلوه إلى المطلوب ولو بالجبر وإنما فسرنا بذلك لأن الهداية بمعنى إراءة الطريق والإرشاد يجتمع مع الضلالة (يريد الله ضلالته) أي عذابه وإرشاده في الآخرة إلى طريق جهنم بسبب كفره وعصيانه اختيارا في الدنيا، هذا إن اريد بالإرادة معناها المعروف وأما إن اريد بها العلم الأزلي والذكر الأولي وقد أشرنا سابقا إلى أنها تجيء لهذا المعنى أيضا فلا حاجة إلى ذلك التوجيه،

ص:68

لأن من علم الله تعالى ضلالته في الأزل باختياره فهو يموت ضالا ولا ينفعه نصح الناصح (ما استطاعوا) أي ما قدروا (على أن يهدوه) لضرورة أن مراده ومعلومه تعالى واقعان لا مرد لهما وإن كان الضلالة وأسبابها القريبة واقعة باختيار العبد لذلك خاطب الله تعالى رسوله بقوله (إنك لا تهدي من أحببت) (ولو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا) عن طريق الحق ويخرجوا عن الصراط المستقيم (عبدا يريد الله هداه) أي إثابته بالجنة ونعيمها أو إرشاده في الآخرة إلى طريق الجنة وإيصاله إلى المطلوب بسبب إيمانه وإحسانه في الدنيا باختياره، أو المراد بالإرادة العلم الأزلي بهدايته (ما استطاعوا أن يضلوه) لما عرفت (كفوا عن الناس) لعادلين عن الصراط المستقيم والمارقين من الدين القويم (ولا يقول أحد عمي) أي هذا عمي (وأخي وابن عمي وجاري) وقعوا في الضلالة فتبعثه الحمية النسبية والغيرة العصبية على أن ينجيهم منها طوعا وكرها (فإن الله إذا أراد بعبد خيرا) لعل المراد به نوع من اللطف الذي له تعالى بعباده وذلك اللطف قد يكون بمجرد التفضل لأنه تعالى كثيرا ما يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة تفضلا وإحسانا وقد يكون بواسطة رجوع النفس الأمارة الضالة إليه تعالى وقتا ما إذ مامن نفس إلا ولها رجعة إلى جناب الحق فربما يدركه اللطف الإلهي حينئذ (طيب روحه) عن خبائث العقائد الباطلة فيخرجه من الجهل المركب إلى الجهل البسيط (فلا يسمع) بعد ذلك (معروفا إلا عرفه) فيعرف أنه حق في نفس الأمر (ولا منكرا إلا أنكره) فيعرف أنه باطل لا حقيقة له فيعدل عنه ويميل إلى المعروف (ثم يقذف الله في قبله) لحسن استعداده بلا واسطة أو بواسطة ملك موكل عليه (كلمة يجمع بها أمره) وهي كلمة الإخلاص التي يتخلص بها العبد عن العلائق الجسمانية ويترقى إلى الفضائل الروحانية ويتشرف بالعوائد الربانية أو كلمة الحكمة وهي شيء يجعل الله تعالى في القلب فينوره حتى يفهم المشروعات والمحظورات ويعلم المعقولات والمستحيلات.

* الأصل:

2 - «علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان ابن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله، ثم تلا هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يريد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء).

ص:69

* الشرح:

(علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن سليمان ابن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله إذا أراد بعبد خيرا) أي علم منه ذلك أو أراده لصفاء قلبه وميله إلى نجد الخير (نكت في قلبه نكتة من نور) أي أحدثها فيه وهو من نكت الأرض بالقضيب إذا أثر فيها (وفتح مسامع قلبه) التي يسمع بها كلمات الحق وإلهامات الملك (ووكل به ملكا يسدده) بإلهام الحق ونفخ الصواب وهذا التسديد يسمى لمة الملك (وإذا أراد بعبد سوء) لحركته إلى نجد الشر وميله إلى سبيل الضلال (نكت في قلبه نكتة سواء وسد مسامع قلبه) وهو الختم لئلا يدخل فيه الحق (ووكل به شيطانا يضله) يعني خلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل وهذا الإضلال يسمى لمة الشيطان.

ومن طريق العامة «أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب الحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فيحمد الله ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم (1)»، وتوضيح ذلك أن الله تعالى خلق القلب صافيا مجلوا قابلا للصفات النورانية، فإن مال إلى الحق يحدث الله تعالى فيه نور الإيمان ويوفقه له وهو المراد بالنكتة النورانية لأن الإيمان وغيره من الفضائل كلها نورانية وبذلك النور ينفتح المسامع القلبية ويقرأ عليه الملك كلمات الخيرات فإن استمع إليها واعتقد بالعقليات عمل وبالعمليات ازدادت نورانيته حتى يصير نورا صرفا يتنور في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام، وإن مال إلى الباطل يحدث الله تعالى فيه ظلمة الكفر ويسلب التوفيق عنه حتى يمضي ما أراد أمضاءه، وهذا هو المراد بالنكتة السوداء لأن الكفر وغيره من الدمائم كلها ظلمة وسوداء وبتلك النكتة السوداء ينسد مسامع الإلهامات الملكية وينفتح مسامع الوساوس الشيطانية فيقرء الشيطان عليه كلمات الشرور فإن استمع إليها وعمل بها ازدادت ظلمته حتى يصير كله ظلمانيا صرفا كالقمر المنخسف، وسيجئ لهذا زيادة تحقيق في باب الذنوب إن شاء الله تعالى (ثم تلا هذه الآية:

(فمن يرد الله أن يهديه)) في الآخرة إلى طريق الجنة وفي الدنيا إلى طريق الخيرات بعد أن عرفه النجدين وحسن استعداده لنجد الخير (يشرح صدره للإسلام) أي لقبول معارفه وأحكامه حتى تتأكد عزمه عليها ويقوي الداعي على التمسك بها ويزول عنه الوساوس والشيطانية والهواجس النفسانية وذلك من لطف الله تعالى عليه وكمال إحسانه إليه (ومن يرد أن يضله) عن طريق الجنة بإرشاده إلى النار وتخليته مع الشرور لأجل إبطاله الاستعداد الفطري وإعراضه عن طريق الخير

ص:70


1- 1 - أخرجه الترمذي في السنن ج 11 ص 109 وقال هذا حديث حسن غريب.

(يجعل صدره ضيقا حرجا) لانقباضه بقبض الكفر والعصيان وتقيده بقيد الظلمة والطغيان، يعني أنه تعالى يسلب اللطف عنه لا أنه يسلب الإيمان عنه بل لا يبعد أن يقال: إن يقال: إن صنعه تعالى ذلك لطف بالنظر عنه لا أنه يسلب الإيمان عنه بل لا يبعد أن يقال: إن صنعه تعالى ذلك لطف بالنظر، اليه، ألا ترى أنك تضييق على من وقع من عبيدك في مخالفة أمرك لعله يتذكر أو يخشى فيرجع إلى الموافقة (كأنما يصعد في السماء) شبه ضيق الصدر عن قبول الإيمان ولوازمه بمن يصعد في السماء في أنه كما يمتنع الصعود من هذا كذلك يمتنع قبول الإيمان من ذاك.

وقيل: معناه أن ضيق الصدر يبعد من الإيمان كما يبعد الصاعد من السماء وفيه مبالغة لبعده عن قبول الإيمان ويقرب منه ما قبل من أن قرار ضيق الصدر عن الإيمان وثقله عليه بمنزلة فرار من يفر إلى السماء، وهذا مثل لغاية التباعد من الشيء والفرار عنه، وقال الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام): «حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس العطار رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري عن حمدان بن سليمان النيسابوري قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا: عن قوله الله عز وجل (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) قال: من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه ويطمئن إليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره وعصيانه له في دار الدنيا يجعل صدره ضيقا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» ومثله بعينه رواه الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في كتابه الاحتجاج.

* الأصل:

3 - «عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أبيه قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إن الله تعالى قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من

ص:71

الطير إلى وكره».

* الشرح:

(عده من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اجعلوا أمركم) في القول والفعل خالصا (الله) طلبا لمرضاته (ولا تجعلوا للناس) طلبا للسمعة والغلبة عليهم (فإنه ما كان لله فهو لله) أي ما كان من الأقوال والأفعال في الدنيا لله فهو في الآخرة أيضا لله يطلب الثواب منه، أو ما كان لله فهو يصعد إلى الله، فلا يرد أن الحمل غير مفيد (وما كان للناس فلا يصعد إلى الله) لأنه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له (ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة) (1) بفتح الميم والراء بينهما ميم ساكنة اسم مكان للكثرة، وبكسرها: اسم آلة وبضمها وكسر الراء: اسم فاعل من أمرضه إذا جعله مريضا (للقلب) لأن كل واحد من المتخاصمين يلقي شبهة على صاحبه والشبهة مرض القلب وهلاكه، وإيضا إذا بلغ الكلام إلى حد الخصومة فكثيرا يتجاوز عن القدر اللائق في النصيحة وذلك يوجب ازدياد ميل قلب المخاطب إلى الباطل وبالجملة القلب المستعد لقبول الحق يكفيه أدنى

ص:72


1- 1 - قوله «ممرضة للقلب» الحاصل من روايات هذا الباب على ما يتبادر إلى الوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا بواجبين مع أن وجوبهما صريح القرآن بل من ضروريات دين الإسلام والأخبار متواترة بذلك وطريق الجمع فيه عين ما يقال في قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وأمثاله، وتوسل بعضهم بالنسخ وأن عدم الإكراه منسوخ بفرض الجهاد وهو ضعيف. ثم لا يجري هذا الجواب في أمثال قوله تعالى: (وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وقوله: (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) والحل أن الاعتقاد أو الأيمان الحقيقي لا يتحقق بالإكراه وإنما يؤثر الإكراه في التلفظ بلفظ لا يعتقد معناه ولا يأمر الله تعالى بشيء يعلم أن وجوده غير ممكن، وما ورد في روايات هذا الباب إنما هو النهي عن الإكراه والالتزام اللفظي والتظاهر بالدين فإنما لا تفيد الإنسان شيئا والإصرار فيه متعبة على الأمر ومضجرة للمأمور، وربما يلزم منه الفساد، وأما ما يستفاد منه من الجبر فالجواب عنه قد علم مما مر و يشير إليه الشارح وإذا غلب على الإنسان العادات السيئة والعجب بالنفس والانهماك في الشهوات والتعصب للغلط، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. لم يؤثر منهم دعوة الأنبياء وموعظة الصلحاء وليس ذلك إلا لتقصير المكلف نفسه ولما كان حصول هذه المقدمات والأسباب منه جاز عقابه ولأن أفاضة الصور واللوازم على المواد المستعدة بعد وجود أسبابها من الله تعالى نسبت اليه ولا يدفع عن المكلف المسؤولية بكون الإفاضة من الله تعالى كما لا يدفع حصول صورة الخمر في العصير بأمر الله تعالى الإثم عن العاصر كما بين فيما مضى، ثم أن وزن مفعلة لا يجب أن يكون اسم مكان أو مصدرا بل هي صيغة خاصة تدل على الكثرة وسماعية غير قياسية نظير وزن فعالة لما ينتشر بالفع كالصبابة والقراضة والقلامة والنشارة يقال «السواك مطهرة للفم، وصلة الرحم منماة للمال والبطنة مؤسنة» وأمثال ذلك كثير وبالله التوفيق. (ش)

الدعوة والقب المتوغل في الباطل لا ينفعه الخصومة بل ربما تضره (إن الله تعالى قال لنبيه: (إنك لا تهدي من أحببت)) يعني لا تقدر أن توصله إلى المطلوب وتدخله في دين الإسلام (ولكن الله يهدي من يشاء) أي يوصله إلى المطلوب ويدخله في الإسلام، ويمكن أن يراد بالهداية هنا التوفيق وإيجاد اللطف وأن الله سبحانه هو الذي يحول بين المرء وقلبه فهو الهادي بهذا المعنى دون غيره، وفيه تسلية لهم بأنه إذا لم يقدر النبي (صلى الله عليه وآله) على هدايتهم بأنتم أولى بعدم القدرة عليها (وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) إنكار لإكراهه وإجباره إياهم على الإيمان تحقيقا لمعنى التكليف والثواب والجزاء.

وقال الشيخ أبو علي في تفسيره: معناه أنه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان مع أنك لا تقدر عليه لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريده لأنه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية النبي (صلى الله عليه وآله) وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم عنه، وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة أنه تعالى لم يزل كان شائيا وأنة لا يوصف بالقدرة على أن يشاء لأنه أخبر أنه لو شاء لقدر لكنه لم يشأ فلذلك لم يوجد، وإن كانت مشيته أزلية لم يصح تعليقها بالشرط، ألا ترى أنه لا يصح أن يقال:

لو علم الله ولو قدر كما صح أن يقال: لو شاء ولو أراد، وفي كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) قال له المأمون: «ما معنى قوله الله جل ثناؤه (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله)؟ فقال الرضا (عليه السلام) حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: إن المسلمين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا وما أنا م المتكلفين فأنزل الله تبارك وتعالى يا محمد (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس وفي الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا لكني اريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله عز وجل (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بأذن الله) فليس على سبيل تحريم الإيمان عليها ولكن على معنى أنة اما كانت لتؤمن إلا باذن الله وإذنه أمره لها بالإيمان ما كانت

ص:73

مكلفة متعبدة، وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها. فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك (ذروا الناس) اتركوهم بحالهم ولا تقصدوا مخالطتهم ومؤالفتهم في دينهم (فان الناس أخذوا عن الناس) ما يقتضيه آراءهم الفاسدة وقياساتهم الباطلة (وإنكم أخذتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) دين الله الذي أنزله إليه لمصالح العباد، فليس في تركهم مضرة لكم، ولا في مخالطهم منفعة لكم (إني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: إن الله إذا كتب) بقلم التقدير في اللوح المحفوظ (على عبد أن يدخل في هذا الأمر) ويذعن له إذعانا خالصا عن شوائب الشكوك ومفاسد الأوهام (كان أسرع إليه من الطير إلى وكره) دعي أو لم يدع، والوكر بفتح الواو وسكون الكاف: عش الطائر وهو موضعه الذي يجمعه من دقاق العيدان وغيرها للتفريخ وهو في أفنان الشجر، فإذا كان في جبل أو جدار أو نحوهما فهو، وكر ووكن، وإذا كان في الأرض فهو افحوص وأدحي.

* الأصل:

4 - «أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن مروان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ندعوا الناس إلى هذا الأمر؟ فقال: لا يا فضيل، إن الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه فاخله في هذا الأمر طائعا أو كارها».

* الشرح:

(أبو علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن مروان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ندعو الناس إلى هذا الأمر) طلب الإجازة على ذلك ولما كان الناس في ذلك العصر متعصبين معاندين للحق وأهله أشار (عليه السلام) إلى نهيه عن دعائهم مطلقا أو عن المبالغة لما فيه من صلاح الفرقة الناجية مع الإشارة إلى التعليل لذلك النهي تسلية له وتسكينا لحزنه (فقال: لا يا فضيل إن الله إذا أراد بعبد خيرا) لقصد إخراجه من الشقاوة تفضلا ولطفا (أمر ملكا فأخذ بعنقه فأدخله في هذا الأمر طائعا) إذا لم يبلغ اللطف حد الكمال (أو كارها) إذا بلغه ولم يبلغ حد الجبر لأن الجبر عندنا منفي.

كمل كتاب العقل والعلم والتوحيد من كتاب الكافي ويتلوه كتاب الحجة.

ص:74

كتاب الحجة

باب الاضطرار إلى الحجة

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم يا عالم الدقائق والسرائر ويا ملهم الحقائق على الضمائر، لك الحمد على ما أعطيتنا من دقائق الأسرار ولك الشكر على ما ألهمتنا من حقائق الأخبار، ولنبيك الهادي إلى أحسن الأديان أكمل الوسيلة وأفضل الصلوات، ولوليك الداعي بأفصح البيان أرفع الدرجة وأكمل التحيات وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني محمد صالح الطبرسي: إني بعد ما شرحت ما تقدم من الكافي شرحا أقبل عليه العالمون وركن إليه العارفون وعكف عليه الناظرون ولم ير مثله المتقدمون والمتأخرون وكان ذلك من فضل ربي والله ذو الفضل العظيم سألني بعض إخواني في الدين ومن له جد في طلب اليقين أن أكتب فيما بقي منه حاشية مبينة لغوامض الكتاب معللا بأن الشرح على ذلك المنوال موجب لغاية الإطناب فأجبته في مسؤوله وأسعفته بمأموله وشرحت في كتاب الحجة على تلك المحجة طالبا من الله الدراية ومنه الهداية في البداية والنهاية.

* الشرح:

قوله: (باب الاضطرار إلى الحجة) (1) اضطر إلى الشيء بالضم: أي الجىء إليه من الضرورة

ص:75


1- 1 - قوله «باب الاضطرار إلى الحجة» وموضوع هذا الكتاب وموارد البحث فيه تدور على شيئين: الأول: البحث عن الشارع ووضع الأحكام والقوانين لفعل الإنسان فيما يتعلق بنفسه وأهله ومدينته، والثاني: في مبين هذه الأحكام ومجريها وحافظها وهما مما حام حوله جميع الناس من لدن حصول الاجتماع والتمدن إلى عصرنا. ونظر فيه الفلاسفة والعلماء من جميع الملل والمذاهب ولم يختص به فرقة دون فرقة حتى الماديين والطبيعيين ولا يسعنا هنا نقل أقوالهم وآرائهم وحججهم وما فيها النقد والتزييف وإنما علينا بيان المذهب الحق بقدر ما يبين به الأخبار الواردة في الكتاب اللهم إلا إذا احتيج إلى إشارة إجمالية إلى مذهب المخالف حتى يظهر صدق دعوانا في مذهبنا إن شاء الله تعالى، ولا ينبغي التأمل والترديد في أن الشارع عندنا هو الله تعالى بما يوحي إلى أنبيائه ومذهب المخالف أن هذا وظيفة عقلاء البشر وأصحاب الحنكة والتجربة منهم فالإنسان عندهم هو الشارع لنفسه. وأما مجري الأحكام وحافظها عندنا هو الإمام المعصوم المنصوب من قبل الله تعالى ومذهب المخالف أنه لا يجب كونه معصوما ولا منصوبا من قبله تعالى بل على الناس أن يختاروا لأمرهم من يريدونه بحسب مصالحهم أو يذعنوا وينقادوا لم تأمر عليهم بالغلبة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (ش)

بمعنى الحاجة. والحجة في اللغة: الغلبة، من حجه إذا غلبه وشاع استعمالها في البرهان مجازا أو حقيقة عرفية، ثم شاع في عرفه المتشرعة إطلاقها على الهادي إلى الله المنصوب من قبله.

[قال أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني مصنف هذا الكتاب (رحمه الله) حدثنا].

* الأصل:

1 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس عمر الفقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: أنا لما أثبتنا لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهد خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة (1) مبعوثين بها، غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيء من أحوالهم، مؤدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.

* الشرح:

قوله: (من أين أثبت الأنبياء والرسل) الثاني أخص من الأول كما سيجي وأثبت غائب مجهول أو خطاب معلوم، و «أين» سؤال عن المكان والمراد به هنا الدليل لأنه محل لإثبات المطالب فكأنه قال: إن سلمنا وجود الصانع لهذا الخلق فلم لم يجر حكمه فيهم من غير حاجة إلى إرسال الرسول

ص:76


1- 1 - في بعض النسخ [مؤدبين في الحكمة].

ومن أي دليل لزم إثباته؟ قوله: (لما أثبتنا) يعني بالعقل لا بالنقل لئلا يدور (1) إذ إثبات الرسول متوقف على العلم بوجود الصانع فلو انعكس لزم الدور.

قوله (أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق) المراد بالخالق هو الموجد على تقدير معلوم ووزن مخصوص، وبالصانع هو الموجد على تدبير ومصالح لا تغيب عمن نظر إلى أحوال الحيوانات والنباتات والجمادات وغير ذلك من المكونات وقد اشتمل على بعض ما في أعضاء الإنسان من المصالح والمنافع، علم التشريح، وبالتعالي: تعاليه عن مجانستنا ومشابهتنا وأزمنتنا وأمكنتنا، وعن مشابهة شيء من المخلوقات بشيء من الذات والصفات كل ذلك يحكم به من له عقل صريح وقلب صحيح.

قوله: (وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهد خلقه ولا يلامسوه) أشار بذلك إلى الموصوف بالصفات المذكورة للتنبيه على أنه صار كالمشاهد المحسوس لأجل تلك الصفات، والحكيم: هو العالم المتقن الذي يعلم الأشياء كما هي ولا يفعل شيئا عبثا وإنما يفعه لأمر ما، وإنما قيد الصانع بالحكمة والمتعالي بعدم جواز المشاهدة والملامسة لأن جواب لما وهو ثبوت السفراء يتوقف عليها أما على الأول فلأنه لو لم يكن حكيما لجاز أن يخلق الخلق عبثا (2) ولا يراد منهم

ص:77


1- 1 - قوله «لئلا يدور» لأن إثبات النبوة متوقف على إثبات الواجب تعالى فلو كان إثبات الواجب بقول الأنبياء (عليهم السلام) لزم توقف الشيء على نفسه بمراتب وقد ذكرنا مرارا في المجلدات السابقة أن الذين يحتجون لإثبات الواجب تعالى ولإثبات الحدوث بالإجماع والروايات فحجتهم دورية، وبالجملة لا ريب في أن إثبات النبوة متوقف على إثبات الله تعالى عقلا وسيأتي عن الشارح ما يخالف هذا عن قريب. (ش)
2- 2 - قوله «لم لم يكن حكيما لجاز أن يخلق الخلق عبثا» من الأصول المقررة في مذهبنا وجوب اللطف على الله تعالى وهو فعل ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية وعليه يبتني إثبات النبوة والإمامة، ولو لم يكن اللطف لجاز أن يكون أمر التشريع مفوضا إلى الناس يضعون كل حكم يرونه للعمل به في معاملاتهم وسياساتهم ولم يفوض إليهم قطعا، وقد استدل بهذا الأصل أعني اللطف هشام بن الحكم في وجوب نصب الإمام كما يأتي أن شاء الله في قصته مع عمرو بن عبيد والشامي في محضر الصادق (عليه السلام)، وقد روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار حديثا فيه فوائد كثيرة في المجلد الثالث ننقله تبركا عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله تعالى من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله في قبض نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد منه وما يتقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي يبتهل إلي حتى أحبه ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا وموئلا، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العيادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو صححت جسمه لأفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير انتهى. ثم أنا نرى عناية الله تعالى في كل شيء حتى أنه لم يهمل البقة والنملة وما هو أصغر منهما فخلق لها ما تحتاج إليه في حياتها ومعاشها فبالحري أن يكون له عناية بالإنسان خصوصا فيما يتعلق بأشرف جزئيه وهو نفسه، وقالوا: إن الأحكام الشرعية لطف في الواجبات العقلية لأن ما يعرف الإنسان بعقله حسنه وقبحه لا يستغني فيه عن الشرع حتى يقربه إلى امتثال حكم العقل إذا علم فيه ثوابا وعقابا أخرويين، فإن قيل ألا يمكن أن يكون الله تعالى مع كونه حكيما ولطيفا بعباده يرى المصلحة في تفويض أمر التشريع إلى الناس كما فوض إليهم في الصنائع والطب والعلوم الكونية ولم يبعث لذلك نبيا. ومذهب النصارى كذلك حيث خلت أناجيلهم عن الأحكام والشرائع وجعلوا أمر التشريع على عهدة الحكومات يضعون القوانين على مقتضى بيئتهم وزمانهم مع اعترافهم بالصانع الحكيم؟ قلنا لا نسلم صحة ما عليه النصارى وكونه مأخوذا عن المسيح (عليه السلام) وقد وردوا أن المؤمنين الأولين به (عليه السلام) كانوا يعملون بشريعة موسى (عليه السلام) حتى ظهر بولس ووضع عنهم العمل بالشريعة ثم أن التشريع لا يتم إلا بتجويز العقوبات على المتخلقين كالقتل والجرح والحبس والتأديب والتعزير ومصادرة الأموال وغير ذلك مما فطر الإنسان على تقبيحه إلا إذا وقع على وجهه المرضي لله تعالى وقد علم الله تعالى اختلاف الناس في الآراء وفيما يجوز به العقوبة، والحق واحد لا اختلاف فيه فلابد أن يكون الله تعالى راضيا بالحق وساخطا على خلافه، وأن يكون القاتل بغير حق مغضوبا لله تعالى فكيف يمكن أن يبغض القتل ويرضى بتشريع الناس المستلزم للقتل بغير حق البتة وأنما يناسب تجويز وضع القوانين مذهب الملاحدة المنكرين لوجوده تعالى. (ش)

شيئا فلا يحتاج إلى سفير يبين ما أراد منهم، وأما على الثاني فلأنه لو جازت المشاهدة لجاز أن يرجع إليه كل أحد في استعلام مراده فلا يحتاج إلى سفير أيضا وبما قررنا ظهر أن قوله «لم يجز» صفة لقوله «متعاليا» لا جواب لقوله «لما» وألا لبطل نظم الخطاب ولم يكن لقوله «ثبت» محل من الإعراب.

قوله: (فيباشرهم ويباشرونه ويحاجهم ويحاجونه) متفرع على المنفي إذ لو جازت المشاهدة والملامسة لجازت المباشرة والمحاجة والمكالمة كما هو المعروف في أبناء نوع الإنسان.

قوله: (ثبت أن له سفراء في خلقه) السفراء بضم الأول وفتح الثاني: جمع السفير وهو الرسول والمصلح، فإن قلت: علة ثبوته عدم المشاهدة والملامسة وهي متحققة في السفير أيضا فيلزم افتقاره إلى سفير آخر وهكذا فيلزم التسلسل؟ قلت: العلة هي ما ذكر مع عدم المشاهدة القلبية المخصوصة والمناسبة المعنوية المشخصة

ص:78

وإنما لم يذكرها (عليه السلام) أكتفاء بظهورها في الأنام على أنه يمكن أن يراد بالمشاهدة التي ذكرها الأمر الأعم الشامل للمشاهدة العينية والقلبية بحمل الجواز في قوله «لم يجز» على الإمكان الوقوعي والذاتي جميعا وتلك العلة حينئذ غير متحققة في السفر لأن له مشاهدات قلبية ومناسبات روحانية ومكاشفات نفسانية بتأييدات ربانية مقتضية لإرساله لئلا يبطل الحكمة في إيجاد الخلق.

قوله: (يعبرون عنه إلى خلقه وعباده) يعبرون: إما مجرد من العبور وهو المرور ومنه فلان عابر سبيل أي مار الطريق، أو مزيد من التعبير وهو التفسير. والمعنى على الأول: أنهم يمرون عنه تعالى ويسافرون عن جانبه إلى خلقه بما أراد منهم من الأوامر والنواهي، وعلى الثاني: أنهم يفسرون مراده نيابة عنه ويوصلونه إلى خلقه، والأول أظهر والثاني أنسب بقوله «فالمعبرون».

قوله: (ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم) يمكن أن يراد بالمصالح: الأوامر والنواهي، وبالمنافع: الأعمال البدنية وبما به البقاء، الأخلاق النفسانية وبما في تركه الفناء، العقائد العقلية فإن التكاليف الزاجرة والأعمال الصالحة كلها مصالح دنيوية ومنافع اخروية والأخلاق الفاضلة والعقايد الكاملة كلها سبب لحياة النفس وبقائها وتركها سبب لموتها وفنائها (1) وبالجملة في الأخير إشارة إلى دلالتهم على الحكمة النظرية (2) وفيما قبله على الحكمة

ص:79


1- 1 - قوله «سبب لموتها وفنائها» ظاهر عبارة الشارح يوهم ما ليس مراده قطعا فإن نفس الإنسان باقية بعد فناء البدن سواء كان مؤمنا أو كافرا وبذلك يصح عقاب الكافر في الدار الآخرة ولو لم تكن باقية لم يجز عقاب نفس تحدث في المعاد كما لا يجوز عقاب الحشرات والديدان المكونة من أجساد الموتى لأن نفوسها حادثة وإن كانت أبدانها عين البدن العاصي والأحاديث والروايات دالة على بقاء أرواح الكفار أيضا وكلام الشارح يوهم أن صاحب الأخلاق الرذيلة والاعتقادات الباطلة لا تبقى، ولكن يجب تأويل كلامه ولا يجوز التسريع إلى تخطئة العلماء وتنفيذ آرائهم ما وجودنا إلى تأويل كلامهم سبيلا إذ قد يصدر من الإنسان غير المعصوم كلام لايستأنف النظر فيه حتى يحقق مدلوله ويصلحه والحق في تفسير الحديث ما ذكره الصدر (قدس سره) من أن المراد بالبقاء والفناء فيه بقاء نوع الإنسان بوجود الشرائع والأحكام وفنائهم جميعا بتركها لأن الإنسان مدني بالطبع يحتاج إلى معاشرة أبناء نوعه وذلك محوج إلى قانون يحفظ الحقوق والحدود ويدفع التعدي والتجاوز فبوجود الشريعة الحافظة لحقوقهم يبقى نوعهم وبعدمها يفني ولا يريد بقاء الشخص وفناءه. (ش)
2- 2 - قوله «على الحكمة النظرية» أي ما يتعلق بالإلهيات منها، لأن كشف أسرار الطبيعة ليس من وظائف الأنبياء (عليهم السلام)، وأما الحكمة العملية فجميع مسائلها من الدين ويؤخذ من الوحي سواء كانت من الأخلاق أو تدبير المنزل أو سياسة المدن ولذلك تركها حكماء الإسلام اكتفاء بما جاء في الشريعة الإسلامية، وأما فلاسفة اليونان فبحثوا عن مسائلها وكانت عندهم كتب وترجمت بعضها إلى لغة العرب لكنه لا نسبة بينها وبين ما جاء في الشريعة من التفصيل والتحقيق وطريقة العمل والتمرن فلم يكن لهم فقه كفقه الإسلام وأخلاق نظير كتاب إحياء علوم الدين وسائر كتب السير والسلوك وتهذيب النفس وأمثال ذلك، وإنما أورد حكماء المسلمين قواعد كلية عامة مختصرة من اليونانيين من غير تعرض للتفاصيل كما تركوا آداب اليونان وشعرها وقصصها اكتفاء بأشعار العرب وأدب القرآن وقصص الأنبياء وآثار الصلحاء وتركوا علم الخطابة وهو ريطوريقا اكتفاء بمواعظ النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة والأولياء وأمثال ذلك ولكن أخذوا من اليونانيين علومهم الطبيعية والرياضية وأكملوا وزادوا إذ لم يكن تفصيلها من شأن الأنبياء (عليهم السلام) ولم يرد منها في الشريعة وكان هذا دأب المسلمين إلى أن استولت النصارى على بلاد الإسلام فأفسدت عليهم أمرهم وشككوهم في دينهم فزعموا نعوذ بالله أن دين الإسلام ناقص وأحكامه لا تناسب كل زمان والمناسب لزماننا قوانين النصارى لا قواعد الإسلام وأحكامه والجواب: أن عدم مناسبة أحكامنا لهذا الزمان إنما هو لغلبة النصارى وشياع عاداتهم فكل قوم يستغربون ما يخالف عوائدهم كما استغرب المشركون على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) نهيه عن الزناء وشرب الخمر فهو قسري، وإذا زال المانع عاد الممنوع كما لم يكن عند غلبة المغول المشركين على بلاد الإسلام أيضا إجراء أحكام الإسلام مناسبا لعوائدهم وليس ذلك لنقص أو ضعف أو قبح ومضرة، وقطع يد السارق أحسن من حبسه ولو في زماننا وجلد الزاني كذلك والربا كذلك، واستغرابها لغلبة النصارى فقط في زماننا وغلبة المغول سابقا وقد كانت اللحية الكثيفة عند غلبة المغول قبيحة لأن أمراءهم كانوا كواسج فكان المسلمون ينتفون لحاهم حتى يصيروا مثلهم في الهيئة. (ش)

العملية.

قوله: (فثبت الآمرون - الخ) تصريح لما مر وتأكيد له وفيه دلالة على ما ذكرناه.

قوله: (في خلقه) متعلق بثبت أو بالآمرين والناهين.

قوله: (وصفوته) صفو الشيء خالصه بفتح الصاد لا غير وإذا ألحقوا الهاء وقالوا صفوة ففي الصاد حينئذ الحركات الثلاث.

قوله: (مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها) أدبه بالشي فتأدب: أي علمه فتعلم، وحقيقته دعا إليه فقبله، وبعثه بالشيء أرسله به، والمراد بالحكمة: الحكمة النظرية المتعلقة بكيفية العلم وحده والحكمة العملية المتعلقة بكيفية العلم والعمل، وفيه دلالة على أن المكمل لغيره لابد من أن يكون كاملا في نفسه.

قوله: (غير مشاركين) يعني أن المشاركة بينهم وبين الخلق إنما هي في الشكل المخصوص والتركيب المعلوم لا في شيء من أحوالهم الظاهرة والباطنة مثل الأعمال البدنية وحسن المعاشرة والعقائد العقلية والعلوم الحكمية والأنوار الروحانية والأخلاق النفسانية فإنهم (عليهم السلام) في كل ذلك على وجه الكمال، وهم أنوار ربانية وأضواء رحمانية تتنور بنورهم صدور العالمين وتستضيء بضوئهم قلوب العارفين، وكل ما سواهم وإن بلغوا حد الكمال فمالهم ككمال السهاء بالقياس إلى

ص:80

البيضاء بل هو أدنى.

قوله: (مؤدين.... بالحكمة) في بعض النسخ «مؤيدين» والأول أولى لفهم الثاني من قوله «مؤدبين بالحكمة» ولا يعارض ذلك بفهم الأول من قوله «مبعوثين بها» لأن التأدية لازم البعث لزوما عاديا لا نفسه، وفيه دلالة على أنهم (عليهم السلام) لا يتكلمون بشيء من الحكمة النظرية والعملية والامور الدنيوية والاخروية من قبل نفوسهم القدسية.

قوله (ثم ثبت ذلك) لما أثبت (عليه السلام) أنه يجب أن يكون لله سبحانه في خلقه سفراء وأنبياء، وكانت النبوة رئاسة عظيمة ربما يدعيها الكاذب كما وقع في كثير من الأعصار أشار هنا إلى ما يتميز به الصادق عن الكاذب ويعرف به نبوة كل شخص بعينه فقوله «ذلك» إشارة إلى السفير والنبي. وقوله «مما أتت به» متعلق بثبت، وقوله «من الدلائل والبراهين» بيان لما، المراد بالدلائل المعجزات القاهرة التي يعجز عن الإتيان بمثلها المتحدون، وبالبراهين الحجج العقلية التي دلت على صدق صاحبها ويعجب عنها الناظرون كما صدر عن نبينا (صلى الله عليه وآله) في أمر التوحيد والنبوة مع أصحاب الملل والملاحدة، ويحتمل أن يكون العطف للتفسير أيضا.

قوله: (من حجة) وهو من أشار إليه جل شأنه بقوله «إني جاعل في الأرض خليفة» وهو المتصف بالخلافة العظمى والرئاسة الكبرى الذي يجري أمره في الأرض والسماء.

قوله: (يكون معه علم (1) يدل على صدق مقالته وجواز عدالته) وصف ل «حجة» كاشف عن معناها، وفي تنكير «علم» دلالة على التعظيم كما أن في حذف متعلقة دلالة على العميم فإن الحجة هو الذي له علم كامل لا يعتريه الجهل والنقصان وفضل شامل لا يفوته شيء وجد في ساحة الإمكان حتى يصح الاستدلال به على صدق كل ما يأتيه من الكلام وسير جواز عدالته بين فرق الأنام، وإنما خص هذه الأوصاف بالذكر لأنها اصول يتفرع عليها سائر الصفات اللايقة بالحجة إذ العلم بجميع الأقوال وجواز العدالة التي هي استقامة الباطن والظاهر وجريانها في البر والفاجر إذا اجتمعت في الإنسان فقد بلغ حد الكمال وتخلص عن النقصان واستحق أن يكون حجة الله على خلقه.

* الأصل:

ص:81


1- 1 - يمكن أن يقرأ «علم» بفتح العين واللام أي علامة.

2 - «محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون، بالله، قال:

صدقت، قلت: إن من عرف أن له ربا، فينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن له الطاعة المفترضة.

وقلت للناس: تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت:

فحين مضى رسول الله (عليه السلام) من كان الحجة على خلقه؟ قالوا: القرآن فنظرت، في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري الزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ فقالوا ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا عليا (عليه السلام) وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا:

لا أدري، وقال: هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري. وقال هذا: أنا أدري. فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق، فقال: رحمك الله.

* الشرح:

قوله (إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه - الخ) لعل المراد أنه (1) أجل من أن يعرف بإرشاد خلقه والهداة مرشدون إلى طريق معرفته، وأما الهداية والمعرفة فموهبية كما قال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي يهدي من يشاء» بل الخلق يعرفون الله بالله أي بهدايته وتوفيقه، أو المراد أنه أجل من أن يعرف بصفات خلقه مثل الجوهرية والعرضية والجسمية والنورية وغيرها بل الخلق يعرفونه بما عرف به نفسه من الصفات اللايقة به وهو أنة المبدء المسلوب عنه صفات خلقه كما قال: «ليس كمثله شيء» و (لم يكن له كفؤا أحد) أو بل الخلق يعرفون الحقائق الممكنة وأحوالها بالله اي بسبب خلقه إياها أو بسبب فيضانها منه على عقولهم، أو المراد أنه أجل من أن

ص:82


1- 1 - قوله «لعل المراد» قد مضى هذا المعنى وتفسير الكليني في ج 3 ص 106. (ش)

يعرف حق المعرفة بالنظر إلى خلقه والاستدلال بهم عليه بل الخلق يعرفون الله بالله بأن ينكشف ذاته المقدسة عند عقولهم المجردة وهذه المعرفة ليست لمية لتعاليه عن العلة ولا إنية لعدم حصولها بتوسط المعلول.

وبالجملة معرفة أهل الحق للحق حضور الحق بذاته لا بواسطة أمر آخر وهو مرتبة الفناء في الله وفيها لا يشاهد غير الله وإليها أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «الحمد لله المتجلي لخلقه» وبعض الأولياء بقوله «رأيت ربي بربي ولولا ربي ما رأيت ربي» وعلى الأخير يحتمل أن يقرأ «يعرفون» على صيغة المجهول يعني: بل الخلق يعرفون بنور الله كما يعرف الذرات بنور الشمس دون العكس، وليس نور الله في آفاق النفوس أقل من نور الشمس في آفاق السماء وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» والظاهر أن قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) إشارة إلى هذه المرتبة لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بلغ مقاما يرى فيه الرب بالرب وبه استشهد على كل شيء.

قوله: (من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا) أي أمرا ونهيا لعلمه بأنه لم يخلقه عبثا، وهما فينا صفتان متقابلان تعرضان للنفس، توجبان انفعالها وتغيرها وتحركها نحو الإحسان والعقوبة، وفيه - جل شأنه - الإحسان بفعل المأمور به وترك المنهي عنه والعقوبة بعكس ذلك وقد يطلقان على الأمر والنهي ولعله المراد هنا.

قوله: (وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول - الخ) أي إلا بوحي إليه كما هو للرسول أو بإرسال رسول إليه كما هو للامة ووجه الحصر ظاهر، لأن معرفة أوامره ونواهيه بطريق المشافهة محال فانحصر أن يكون بأحد الأمرين المذكورين ممن لم يأته الوحي وفقد الطريق الأول وجب عليه أن يطلب الرسول ليجد الطريق الثاني فإذا وجده وعرف صدقه بالدلائل والبراهين وجب عليه إطاعته في أوامره ونواهيه وجميع ما جاء به.

قوله: (فنظرت في القرآن) التقدير قلت لهم فنظرت والظاهر أنه لا حاجة إليه.

قوله: (فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق) المرجي: إما بكسر الجيم وشد الياء للنسبة إلى مرج على وزن معط أو بكسر الجيم وكسر الهمزة وشد الياء للنسبة إلى مرجي على وزن

ص:83

مرجع. قال في النهاية: المرجئة: فرقة من الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز وكلاهما بمعنى التأخير يقال: أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته فتقول من الهمز رجل مرجئ وهم المرجئة، وفي النسب مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعي وإذا لم تهمز قلت رجل مرج ومرجية ومرجي مثل معط ومعطية ومعطي انتهى.

أقول: قد عرفت مما نقلنا في المجلد السابق أن المرجئية تطلق أيضا على من أخر علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الخلافة، والقدري يطلق على الجبري وهو من ينسب أفعال العباد إلى الله سبحانه، وعلى من يقول بالتفويض بمعنى أن الله تعالى فوض أفعال العباد إليهم ولم يحصرهم بشيء.

والزنديق: هو النافي للصانع والزنادقة فرق منهم من ينكر الصانع بالمرة وينسب هذا العالم إلى الطبائع ومنهم من يقول بالنور والظلمة (1) فيجعل لهذا العالم إلهين اثنين.

قوله: (حتى يغلب الرجال بخصومته) متعلق بيخاصم أي يخاصم كل واحد من الأصناف المذكورة غيره حتى يغلبه بالخصومة ويتمسك في ذلك بظواهر القرآن.

قوله: (إلا بقيم) في الفائق: قيم القوم من يقوم بسياسة امورهم والمراد به هنا من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهي أو بإلهام رباني أو بتعليم نبوي.

قوله: (فقالوا: ابن مسعود) هو عبد الله بن مسعود بن عقيل الهذلي أسلم قديما وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فمر به رسول الله (عليه السلام) عند الفرار من أهل مكة فقال: يا غلام هل من لبن فقال: نعم لكن مؤتمن، قال: هل من شاة حائل لم ينزل عليها فحل؟ فأتاه فمسح ضرعها فنزل اللبن فحلب وشرب فعند ذلك أسلم ابن مسعود.

قوله: (وحذيفة يعلم) هو حذيفة بن اليمان وقيل: اسم والده حسيل وإنما نسب إلى اليمان لأنه اسم جده الأعلى لأنه حذيفة بن حسيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن اليمان العبسي.

ص:84


1- 1 - قوله «ومنهم من يقول بالنور اه» المراد هنا جماعة كانوا يتظاهرون بالإسلام في الصدر الأول ولم يكن لهم إيمان واقعا بصدق الرسول (صلى الله عليه وآله) لأنهم الذين يتمسكون بالقرآن لإثبات بدعهم دون المانوية، وكانت القرامطة وملاحدة الموت أتباع الحسن الصباح المتسمون بالإسماعيلية من بقاياهم. (ش)

قوله: (قلت كله) يعني كل واحد قيم القرآن كله عالم بجميعه (1).

قوله: (إلا عليا (عليه السلام)) وهو (عليه السلام) عندنا أعلم وأفضل من جميع الأمة وكان عالما بجميع ما أنزل الله تعالى في كتابه وقد صرح بذلك صاحب كتاب إكمال الإكمال وهو من أعاظم علماء العامة حيث قال: لقد كان في علي رضي الله عنه من الفضل والعلم وغيرهما من صنفات الكمال ما لم يكن في جميع الامة حتى أنه لو لم يقدم عليه طائفة من الامة أبا بكر لكان هو أحق بالخلافة.

قوله: (وإذا كان الشيء بين القوم الخ) الشيء من الحلال والحرام وغيرهما من الامور والأحكام وهذا في الموارد الثلاثة إشارة إلى المذكورين بطريق اللف والنشر المرتب وفي الرابع إشارة إلى علي (عليه السلام).

قوله: (فأشهد الخ) متفرع على قوله فقال: «هذا لا أدري الخ» يعني إذا قال كل واحد من الثلاثة أنا لا أدري وقال علي (عليه السلام): أنا أدري جميع ما هو بين القوم فأشهد أنه (عليه السلام) كان قيم القرآن وعالما بجميع ما أنزله الله تعالى وكل من كان كذلك كان إماما مفترض الطاعة لا غيره وقد أثبت إمامته بأنه كان عالما بجميع ما أنزل الله تعالى وكل من لم يكن عالما به لم يكن إماما. أما الصغرى فمسلمة كما مر، وأما الكبرى فلأنه إذا رجع إليه الامة فيما جهله رجعوا إلى من يشاركهم في الجهل فكيف يكون هو إماما لهم.

* الأصل:

3 - «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابنا منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام بن سالم، والطيار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله إني اجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها

ص:85


1- 1 - قوله «عالم بجميعه» يعني بجميع معانيه وتفسيره وتأويله لاحفظ حروفه وألفاظه فإن المقام مقام التمسك بمفاد الآيات على أثبات الرأي الحق بين الآراء ولا يعلم القرآن كله إلا علي (عليه السلام). (ش)

من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي، ثم قلت: أيها العالم؟ إني رجل غريب تأذن لي في مسألة! فقال: لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني أي شيء هذا من السؤال وشئ تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت. أجبني فيها، قال لي:

سل، قلت: ألك أعين! قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة، قلت ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك اذن! قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع به الصوت.

قلت: ألك قلب، قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اميز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني! إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك: قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟! قال: فسكت ولم يقل لي شيئا. ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم فقلت: لا، قال: أمن جلسائه، قلت: لا، قال: فمن أين أنت، قال: قلت: من أهل الكوفة قال: فأنت إذا هو، ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت، قال: فضحك أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: يا هشام. من علمك هذا؟ قلت: شيء أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى.

* الشرح:

قوله (اجلك) الجلال: العظمة، والجليل: العظيم، وأجله: عظمه، والمعنى إني اعظمك أن يتكلم مثلي بين يديك.

قوله: (واستحييك) بياء أو بيائين والحياء حالة نفسانية توجب انقباض الجوارح عن الأفعال

ص:86

خوفا من اللوم وغيره.

قوله (إذا أنا بحلقة) قال في النهاية: الحلقة جماعة: من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيره والجمع الحلق بكسر الحاء وفتح اللام. وقال الجوهري: الحلق بفتح الحاء على غير قياس وحكي عن أبي عمر وأن الواحد حلقة بالتحريك والجمع الحلق بفتح الحاء.

قوله: (وعليه شملة (1)) بكسر الشين كساء يشتمل به ويتغطى به.

قوله: (فاستفرجت) أي طلبت الفرجة وهي الخلل بين الشيئين.

قوله: (وإن كانت مسألتك حمقاء) الحمقاء بالفتح: مؤنث أحمق من الحمق بالضم والضمتين وهو قلة العقل وسخافة الرأي، وحقيقته وضع الشيء في غير موضعه مع عدم العلم بقبحه، وإنما وصف المسألة بالحماقة على سبيل التجوز مبالغة في حماقة السائل.

قوله: (قال لي: سل) كأنه أمر بالسؤال هنا مع عدم الحاجة إليه لتحققه سابقا للإشارة إلى أن مسألته لكونها في غاية الحقارة لم يلتفت الذهن إليها سابقا.

قوله: (قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب) الواو للعطف على مقدر يعني أقلت هذا وليس فيها عدم حاجة إلى القلب ولم يستقل في التمييز والتفصيل.

قوله: (صحيحة سليمة) أي صحيحة عن البطلان في ذاتها سليمة عن الآفات والأمراض المانعة من إدراكاتها، والتأكيد أيضا محتمل.

قوله: (أو سمعته) لم يقل أو لمسة أيضا لعدم ذكر اللامسة في السؤال ولأن الشك فيها أقل، ولهذه العلة أيضا لم يذكرها السائل.

قوله: (ويبطل الشك) مثلا إذا وقع الاشتباه بين الروائح في الإضافة أو في اختلاط بعضها ببعض أو في الشدة والضعف أو في الملائمة للطبع وعدمها ورفع أمرها إلى القلب (2) كان القلب هو

ص:87


1- 1 - قوله «وعليه شملة» يعني على عمرو بن عبيد يصف زهده وتقشفه وكان من رؤساء المعتزلة قائلا بالعدل، وأورد السيد المرتضى (رحمه الله) ترجمته وأخباره في أماليه في المجلس الحادي عشر والثاني، مات في طريق مكة سنة 144 ودفن بمران وقال فيه المنصور: صلى الإله عليك من متوسد * قبرا مررت به على مران (ش)
2- 2 - قوله «رفع أمرها إلى القلب» إطلاق القلب على النفس شائع لأن سلطان الروح على القلب ومنه قوله تعالى: (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (وما جعل ادعياءكم أبناءكم) يعني ليس للانسان تشخيصان متمايزان وهويتان متغايرتان وليس لبدن واحد روحان ونفسان حتى يكون بأحدهما ابنا لرجل وبالآخر ابنا لآخر، أو يكون المرأة بأحد القلبين أما وبالآخر زوجة، والقلب هنا: هو العقل المجرد لأنه الذي يبين خطأ الحواس ولا يمكن ذلك إلا بإدراك الكليات إذ لا يمكن لحس أن يدرك مدركات الحس الآخر حتى يحكم بصحته أو فساده وليس وظيفة الحس إلا التأثر لا الحكم. (ش)

الحاكم العدل يحكم فيها على وجه الصواب وقس على غيرها.

قوله: (ويترك هذا الخلق كلهم (1) في حيرتهم وشكهم واختلافه) مع أن الحيرة. والشك والاختلاف فيهم أشد وأقوى وأكثر وأعلى منها في تلك القوى.

قوله: (أنت هشام بن الحكم) دل على أن هشاما مع صغر سنه كان مشتهرا بالعلم والمناظرة.

قوله (فقلت: لا) كأنه قصد التورية لمصلحة ومثل ذلك لا يعد كذبا.

قوله (وما نطق حتى قمت) إما للتعظيم كما هو المتعارف بين أهل الفضل أو لخوف وقوعه في ورطة الإلزام وانكسار قدره بين الأنام مرة اخرى.

قوله: (فضحك أبو عبد الله (عليه السلام)) إنما ضحك لسماعه حال رجل ضحكه صدر منه اضحوكة.

قوله (من علمك هذا) استعلام لقوة حفظ المتعلم لا استفهام عن تعيين المعلم لأنه (عليه السلام) كان منزها عن النسيان.

* الأصل:

ص:88


1- 1 - قوله «يترك هذا الخلق كلهم» علمنا بالاستقراء أن كل فعله منه تعالى صادر عن عناية تامة بخلقه ومراعاة مصالحه ومن أمثلته خلق القلب في الإنسان لإزالة شكوك الحواس والمعتني بالأفراد والجزئيات كيف يهمل مصالح العامة، وأيضا علم الله تعالى أن النوع في بقائه محتاج إلى ذكر وأنثى فخلق منهما في كل نوع أفرادا ولم يتفق في زمان أن ينحصر الخلق في أحدهما بأن يكون جميع الناس ذكورا في عهد أو إناثا كلهم أو أكثرهم وعلم أنهم يحتاجون إلى من له ذوق الصنعة واستعداد العلم، وكما يحتاجون إلى الأقوياء والشجعان والتجار محبي جمع المال ليحملوا الأرزاق والحوائج من بلد إلى بلد فخلق جميع ذلك، والإمام العادل المعصوم العالم بما أراده الله من خلقه الذي لا يخاف في تنفيذ أمره من لومة لائم من أوجب الأمور وألزمها وهو أهم من النجار والبناء والشاعر، ولابد أن يخلق أحدا بصفات يستحق بها الإمامة كما خلق جماعة بصفات يستحقون بها تولي الصنائع والحرف والعلوم والتجارة والحرب والدعوة إلى الخير ومحبة الناس والترحم على الضعفاء وتسبيل الخيرات وتعليم الآداب وغيرها، ومن ذلك يتفطن لسر الغيبة والظهور وأن وجود الإمام لطف وتصرفه لطف كما أن في كل أمة طائفة مستعدة لأنواع الحرف والمناصب فإن كانت البيئة مناسبة لتحصيل الكمال واشتغلوا بحرفتهم ظهروا وإلا خملوا وانغمروا، ومرجع استدلال هشام بن الحكم إلى اللطف أو العناية الثابتين بالاستقرار وتتبع أفعاله تعالى (ش).

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عمن ذكره، عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلامك من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عندي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت إذا شريك رسول الله؟ قال: لا، قال: فسمعت الوحي عن الله عز وجل يخبرك؟ قال: لا، قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلي فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيالها من حسرة فقلت: جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون: هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما قلت فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون، ثم قال لي: اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله، قال: فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين (عليهم السلام)، فلما استقر بنا المجلس - وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قبل الحج يستقر إياما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة - قال فأخرج أبو عبد الله (عليه السلام) رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب فقال: هشام ورب الكعبة، قال: فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له قال: فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر سنا منه، قال: فوسع له أبو عبد الله (عليه السلام) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، ثم قال: يا حمران كلم الرجل، فكلمه فظهر عليه حمران، ثم قال: يا طاقي كلمه، فكلمه فظهر عليه الأحول، ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه،.

فتعارفا ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لقيس الماصر: كلمه، فكلمه فأقبل أبو عبد الله (عليه السلام) يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي فقال للشامي: كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، فقال لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا، فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي: يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه، قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال:

أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، ويتألفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربهم، قال:

فمن هو؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال هشام: فبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الكتاب والسنة قال هشام: فهل

ص:89

نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي: نعم، قال: فلم اختلفت أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ قال: فسكت الشامي، فقال أبو عبد الله للشامي: مالك لا تتكلم؟ قال الشامي: إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت: إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة، إلا أن لي عليه هذه الحجة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) سله تجده مليا، فقال الشامي: يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم، فقال الشامي: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم؟ قال هشام: وفي وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الساعة؟ قال الشامي في وقت رسول الله رسول الله والساعة من؟ فقال هشام: هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جد، قال الشامي: فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام: سله عما بدالك، قال الشامي: قطعت عذري فعلي السؤال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا شامي اخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا، فأقبل الشامي يقول: صدقت أسلمت لله الساعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): بل آمنت بالله الساعة، إن الاسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون، فقال الشامي: صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنك وصي الأوصياء ثم التفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى حمران، فقال: تجري الكلام على الأثر فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم فقال: تريد الأثر ولا تعرفه، ثم التفت إلى الأحول، فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر، ثم التفت إلى قيس الماصر، فقال: تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبعد ما تكون منه، تمزج الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان، قال يونس: فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما، ثم قال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت، مثلك فليكلم الناس، فاتق الزلة والشفاعة من ورائها إن شاء الله.

* الشرح:

قوله (وفرائض) لعل المراد بها العبادات المفروضة أو المكتوبة مطلقا، ويحتمل أن يراد بها

ص:90

أحكام المواريث (1) لأن إطلاقها عليها شائع، وبالجملة وصف نفسه بالقوة النظرية والعملية ليترفع قدره ولا يستنكف عن مناظرته وقد كان ذلك دأب السابقين وأرباب المناظرة.

قوله: (لمناظرة أصحابك) لم يقل لمناظرتك رعاية للأدب.

قوله: (فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عندي) سأل (عليه السلام) هل كلامه مأخوذ من السنة النبوية أو من مخترعات طبعه، فأجاب بأن كلامه من القسمين وليس الجواب باختيار شق ثالث لأن هذا الشق داخل في السؤال باعتبار أنه منع الخلو.

قوله (فأنت إذن شريك رسول الله (صلى الله عليه وآله)) في إكمال الدين وفيه دلالة على أن اصول العقائد ينبغي (2) أن يكون مستنده إلى صاحب الشرع كفروعها، وقد صرح به أيضا الشريف في حاشيته على شرح المختصر وبالغ فيه الفاضل الأمين الأسترآبادي في فوائده المدنية وشنع على من اتكل بعقله في المعارف الالهية وهو الحق الصريح والمذهب الصحيح وإلا لزم أن يكون الخاطئون السالكون بمقتضى عقولهم (3) معذورين يوم القيامة.

قوله: (قال: لا) أي لست شريكه في دينه بل دينه تام كامل ويلزم من نفيه هذا مع ما ذكره سابقا من أن بعض كلامه من عنده إما أن يكون ذلك البعض غير داخل في الدين ولا يكون له مدخل في الإسلام فلا يكون من مسائل الكلام وهذا خلاف المقدر أو يكون داخلا فيه في نفس الأمر ولكن قوله به لم يكن مستندا إلى قول النبي ولا خفاء في أنه لابد من مستند ومستنده حينئذ هو الوحي،

ص:91


1- 1 - قوله «أحكام المواريث» هذا هو المتعين وكان علم الفرائض معتنى به بعناية خاصة أكثر من سائر أبواب الفقه وقيل في حق زيد بن ثابت أنه كان أفرض القوم أي أعلمهم بالفرائض. (ش)
2- 1 - قوله «على أن أصول العقائد ينبغي» وقد ذكر سابقا أن اثبات الواجب تعالى بالنقل يستلزم الدور فمراده هنا بأصول العقائد بعض صفات الرسول والأئمة (عليهم السلام) وتفاصيل المعاد أمثالها مما لا سبيل إليه وحينئذ فلا يناسب كلمة «ينبغي» لأنها تدل على إمكان استنباط المطلب بغير الشرع وإن كان الأولى أن يؤخذ من الشرع. وأما الفاضل الأسترآبادي فلا يفهم مقاصده غالبا في كتابه الفوائد المدنية وهو معتمد على الغريزة الدينية والعواطف المفرطة والغلو في حسن الظن برواة الأخبار ولا دليل له على دعاويه إلا عواطفه ورغباته. (ش)
3- 2 - قوله «السالكون بمقتضى عقولهم» مقصوده غير مفهوم من لفظه لأن خطأ العقل في نظره إما أن يكون غالبا أو نادرا فإن كان غالبا لم يكن مدحه في القرآن والأخبار وذم من لا يعقل موجها لأن الله تعالى لا يمدح ما غالب مدركاته خطأ وان كان خطاؤه نادرا فلا محذور في أن يكون العاقل المخطئ في نادر من مدركاته العقلية معذورا يوم القيامة، وأما احتمال أداء عقل الناظر في الأدلة خاليا عن التعصب إلى إنكار التوحيد والرسالة حتى يصير كافرا فهو فرض مستحيل في العادة على ما نعرف من وضوح الأدلة. (ش)

فلذلك قال (عليه السلام) «فسمعت الوحي عن الله» يخبرك بما تأتي به «قال. لا قال فتجب طاعتك» فيما تأتي به من غير أن يكون مستندا إلى الرسول أو الوحي «هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم حيث اعترف بأنه لم يسمع ما عنده من الرسول ولا من الوحي» وأنه لا تجب طاعته وكل ما كان كذلك فهو باطل.

فإن قيل: يجوز أن يكون له مستند هو الإلهام (1) قلت: الإلهام لا عبرة به إذا الإلهام كما يكون من الرحمن كذلك يكون من الشيطان (2) بل إلهام الشيطان أكثر وأغلب في الأكثر وإذا كان شأنه ذلك لم يصح أن يتمسك به في أمر شرعي أصليا كان أو فرعيا.

قوله: (لو كنت تحسن الكلام كلمته) «لو» هنا للتمني أو للشرط وهو لامتناع الثاني من أجل امتناع الأول و «تحسن» بمعنى تعلم، تقول فلان يحسن الشيء أي يعلمه.

قوله: (قال يونس: فيالها من حسرة) أي قال: يونس قلت: فيالها من حسرة أو قال يونس ذلك عند النقل، والنداء للتعجب والمنادي محذوف، ولام التعجب وهي لام الاستغاثة في الحقيقة متعلق باعجبوا: أي يا قوم أعجبوا لها، ومن حسرة تمييز عن ضمير المبهم بزيادة من الحسرة أشد التلهف عن الشيء الفائت.

قوله (وتقول: ويل) الويل: كلمة العذاب أو واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره وغرض يونس من نقل هذا الكلام إبداء المعذرة لتركه علم الكلام.

ص:92


1- 1 - قوله «له مستند هو الإلهام» ويمكن أن يقال: لعل مستنده العقل؟ والجواب أن الظاهر من حال السائل أنه يريد التكلم في تفاصيل الأحكام والأصول التي لا سبيل للعقل إليها كما يدل عليه ما يأتي من بحثه في الإمامة ولا ريب أن أغلب مباحثها تؤخذ من النقل. (ش)
2- 2 - قوله «كذلك يكون من الشيطان» فان قيل: بم كان يعرف الأنبياء (عليهم السلام) صدق إلهامهم إذ لم يكن إلا إلقاء معنى في القلب وهو كما يحتمل كونه من الله يحتمل كونه من سبب من أسباب آخر كما أن رؤية الملك وسماع الصوت أيضا يحتمل كونه حقا من الله وكونه من تجسم الخيال نظير المبرسمين؟ قلنا: كان الأنبياء والأولياء يميزون ولم يكونوا يشكون في صحة إلهامهم وكانوا محفوظين من شوب الخطأ والوهم ومن ظهور الشياطين وأمثال ذلك، وكما يميز العقل بين مدركاته ومدركات وهمه ولا يشك في أن الكل أعظم من الجزء صحيح بديهي أولي وأن الميت يخاف عنه وهم باطل ويعرف العقل أن ما يراه من مقدار الجسم الموضوع بقرب منه صحيح وما يراه من مقدار قطر الشمس غير صحيح وهذا بخلق علم ضروري كذلك الأنبياء يعرفون حقية ما يلهم إليهم ولا يشكون فيه. (ش)

قوله (يقولون هذا ينفاد وهذا لا ينفاد) (1) الظاهر أن المشار إليه متحد يعني يخترع بعضه كلاما له مدخل في إثبات مطلبه بزعمه ويقول هذا كلام صحيح خالص جيد لا زيف ولا فساد فيه ويقول الآخر: هذا الكلام سقيم مزيف فاسد، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون المشار إليه بهذا غير المشار إليه بهذا بأن يقدموا على تحسين بعض المقدمات المخترعة وتزييف بعض آخر حتى كان المباحث الكلامية والمطالب اليقينية منوطة بمفتريات أوهامهم ومخترعات أفهامهم فلذلك يقع الاختلاف بينهم في المطالب اختلافا عظيما.

قوله (وهذا ينساق وهذا لا ينساق) أي هذا يؤدي إلى المطلوب وهذا لا يؤدي إليه، أو هذا ينساق على نهج الاصطلاح وهذا لا ينساق عليه.

قوله (وهذا نعقله وهذا لا نعقله (2)) فيدعي بعضهم إمكانه بل وقوعه، ويدعي بعضهم استحالة فهمه لعدم اجتماعهم على أصل صحيح وعدم رجوعهم إلى شخص معين عالم باصول الدين من الوحي صاروا مختلفين، يورد كل واحد على صاحبه ما يورد صاحبه عليه من المنع والنقض والمعارضة فيختلفون في الحيرة كالحيارى في الصحاري ولا يهتدون إلى الحق سبيلا ولا إلى صواب دليلا.

قوله (إن تركوا ما أقول (3) وذهبوا إلى ما يريدون) من المطالب المخترعة والمبادىء المبتدعة

ص:93


1- 1 - قوله «يقولون ها ينقاد وهذا لا ينقاد»: بيان لحالتهم عند المناظرة والتنازع والجدال يقول هذا شيئا وينكره الآخر، كما نقول: يقول هذا نعم ويقول هذا لا، أو يقول أحدهم سلمنا والآخر: لا نسلم، ولم كان ذلك، وليس خصوص لفظ ينقاد وينساق مقصودا بالمنع بل المنع راجع إلى المجادلة بالإصرار واللجاج بأي لفظ كان. (ش)
2- 2 - قوله «وهذا لا نعقله» ومعلوم أن من لم يعقل كلام المخاطب يجوز أن يقول لا نعقله أو إذا عقل يجوز أن يقول عقلته ونعقله وإنما المنع والذم راجع إلى المجادلة والنزاع واللجاج في الكلام كما مر في ينقاد ولا ينقاد. (ش)
3- 3 - قوله: «إن تركوا ما أقول» أن للتكلم والمجادلة شرائط وقواعد وأصولا يجب مراعاتها خصوصا في الدين كما قال الله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) وقد ذكر المنطقيون شروطا أوردها العلامة والحكيم المحقق نصير الدين في الجوهر النضيد وليس مراد الإمام (عليه السلام) إلزامهم بأن يقتصروا في المجادلة على رواية ما سمعوه منه (عليه السلام) لفظا بلفظ كما يفعله أصحاب الحديث إذ هو غير ممكن في الكلام فكل سائل يضع شيئا ويسأل عن شيء وينقض بشيء ولابد للمتكلم معه أن يجيبه في كل مورد بما يقتضيه ذلك المورد وحفظ الرواية والحديث بمقدار يكفي في جواب كل سائل في كل مورد وكل مسألة محال ومعلوم أن هشام بن الحكم وأترابه لم يتكلموا على هذا الوجه بل المراد مراعاة شرائط شرطها الإمام (عليه السلام) نحو شرائط ذكرها أهل المنطق ويعلم سنخها من آخر الحديث حيث قال لهشام بن سالم: «تريد الأثر ولا تعرفه» يعني من شروط المجادل أن يتمسك بمسلمات خصمه، والأثر: يعني السنة المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله) من مسلمات الخصم ويتمسك به في المجادلة مع أهل هذه النحلة كما قال به المنطقيون يجب على المجادل أن يعرف المسلمات والمشهورات كالآراء المحمودة حق المعرفة، وقال في الجوهر النضيد: يحتاج المجادل إلى أن يستكثر من صناعته العلمية وإلى الدربة في عادته الصناعية كما يحتاج غيره من الصناع حتى يقدر على إيراد ما يحتاج إليه كل وقت ولا يكفي حفظ البضاعة دون ملكة الصناعة إذ قد يحفظ الإنسان ما لا يذكره وقت الحاجة إليه أو يحتاج إلى ما ليس بمحفوظ عنده إلى آخر ما قال ومثله كلامه (عليه السلام) لقيس بن ماصر «وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل» وقال للأحول: «تكسر باطلا بباطل» ذمه به وهي وصايا للمجادلين من سنخ ما ذكره أهل المنطق، فغرض الإمام النهي عن المجادلة بغير مراعاة شرائط الجدل لا النهي عن الكلام مطلقا والاكتفاء بنقل الرواية لأن المعلوم أن الشامي المنكر للإمامة لم يكن ينقاد لقول الامام (عليه السلام) تعبدا (ش).

التي لا يزداد صاحبها من الحق إلا بعدا ومن الصواب إلا ضلالا، وفيه دلالة على أن علم الكلام حق ولكن لابد سماعه من المعصوم والعامة ذموا الكلام ذما عظيما (1) وإن شئت معرفة ذلك فنقول:

قال عياض في تفسير ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد: الخصام» الألد الشديد الخصومة والخصم الحاذق في الخصومة، وقال القرطبي في حله: الخصم بسكون الصاد وكسرها: اسم للخاصم، والخصم المبغوض: هو الذي يقصد بخصومته دفع الحق بالوجوه الفاسدة وأشد ذلك الخصومة في الدين كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطريق التي أرشد إليها الكتاب والسنة وسلف الامة إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية ترد بسببها على الآخذ فيها شبهة يعجز عنها وشبهة يذهب الإيمان معها وأحسنهم انفصالا عنها أخذ لهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوي على حلها وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء المتكلمين ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضونها الأطفال فأخذوا يبحثون عن تحيز الجوهر وعن الأكوان والأحوال، ثم إنهم بحثوا عما سكت السلف عن البحث فيه فبحثوا كيفية تعلق صفاته تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها وهل هي الذات أو غيرها وهل الكلام واحد أو منقسم وهل تقسيمه بالأنواع أو بالأوصاف وكيف تعلق في الأزل بالمأمور، ثم إذا انعدم المأمور

ص:94


1- 1 - قوله «ذموا الكلام ذما عظيما» هذا الذي ذكره الشارح خلاف ما نعلمه من القوم والحق أن العامة مثل الخاصة أكثرهم لا يبغضونه وكان في الأشاعرة والمعتزلة متكلمون وصنفوا في الكلام كتبا مشهورة متداولة بل ينكر أهل الحديث من الشيعة والسنة على المتكلمين من أهل مذهبهم بأن التمسك بالعقول خلاف طريقة السلف ولا وجه للكلام فيما ورد النص به من الشرع. (ش)

هل يبقى ذلك التعلق أم لا، وهل أمر زيد بالصلاة هو عين أمر عمرو بالزكاة (1) إلى غير ذلك من الأبحاث التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها وست أصحابه ومن تبعهم عنها فإنه بحث عما لا يعلم حقيقته ومن عجز عن حقيقة نفسه مع علمه بوجودها بين جنبيه فهو عن إدراك ما ليس كذلك أعجز، وغاية علم العلماء وإدراك العقلاء أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن صفاتها موصوف بصفات الكمال. ثم إذا أخبرنا الصادق عن شيء من أسمائه أو صفاته قبلناه وما لم يتعرض له سكتنا عنه، هذه طريقة السلف ويكفي في الزجر عن الخوض في طرق المتكلمين ما ورد عن السف.

فعن عمرو بن العزيز: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وعن الشافعي: لئن لا ينتهي العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينطق في علم الكلام. قال: وإذا سمعت من يقول الاسم المسمى أو غيره فاشهدوا أنه من أهل الكلام ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا ويطافوا بهم في القبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام. وقال أحمد: لا يفلح صاحب الكلام أبدا. أهل الكلام زنادقة: وقال ابن أبي عقيل: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولا عرفوا الجوهر والعرض (2) فإن رأيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقتهم فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك ويكثر منهم الإلحاد وأصل ذلك أنهم لم يقنعوا بما بعثت به الشرائع وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله سبحانه وتعالى من الحكم الذي انفرد به. وقد رجع كثير من المتكلمين عن الكلام بعد أعمار مديدة

ص:95


1- 1 - قوله «هو عين أمر عمرو بالزكاة» هذه الامور جميعا من مباحث متكلمي العامة فثبت أن في العامة أيضا متكلمين وكان عياض والقرطبي وأمثاله من متبعي طريقة السف والمائلين إلى الجمود على نقل الأحاديث وتفريع فروع الفقه فهم نظير الإخباريين من الشيعة. (ش)
2- 2 - قوله «ولا عرفوا الجوهر والعرض» أقول ان الصحابة ماتوا ولم يعرفوا الاستصحاب وأصل البراءة والأصل المثبت والترتب أيضا فإن قيل عملوا بها ولم يستعملوا هذه الاصطلاحات قلنا: نعم ولكن عرفوا حقيقة الجوهر والعرض وميزوا بين الجسم واللون قطعا وأن لم يستعملوا اللفظين كما أن امرء القيس قال الشعر في البحر الطويل والبسيط والوافر ولم يكن يعرف هذه الاصطلاحات ولا أن موانع صرف الاسم تسعة إذا اجتمع اثنان منها في اسم منعاه من الجر والتنوين وليس ابداع الاصطلاح الذي استبشعوا قبيحا لكنهم استثقلوا حفظها واستراحوا إلى إبداء عذر يريحهم من صرف عمرهم في شيء يعجزون عنه ولأن التفكر في العلوم كان يمنعهم من التفكر فيما هو أهم في نظرهم. (ش)

حين لطف الله وأظهر لهم آياته فمنهم الإمام أبو المعالي حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خليت أهل الاسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وخضت في الذي نهوا عنه رغبة في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص. وكان ابن الجويني يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ ما بلغت ما تشاغلت به، وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان خالي فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أتعلمون أن أحدا أعلم مني قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتفعلون؟ قالوا: نعم قال:

عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم. وقال ابن أبي عقيل: لقد بالغت في الاصول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب. ووصف الشهرستاني حاله وما وصل إليه من الكلام ومآله فتمثل:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها * وسيرت طرفي تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر * على ذقن أو قارعا سن نادم وقال بعضهم: قد بالغ القوم في الإنكار وغفلوا عن شرف حال علم الكلام لأنه أشرف العلوم لكون موضوعه وهي الذات العلية وما يجب لها وما يستحيل عليها أشرف الموضوعات ولأن غيره من العلوم ينعدم في الآخرة وهو لا ينعدم لبقاء متعلقه بل يزداد اتساعا لأن ما كان معلوما بالدليل يصير معلوما بالعيان، وقد أجمعوا على أنه يجب أن يكون في كل عصر من يعرفه ليرد الشبهات ويناظر من عساه يتعرض لعقائد المسلمين. والجواب أن الراد لم يقصد نفي شرفه ولا انقطاع فوائده ولا غير ذلك من الامور الموجبة لنقصه بل يقول: إنه علم غامض لا يدرك حقيقته إلا الله سبحانه ومن حفظه الله تعالى عن الخطأ، وأما غيرهم وإن بالغوا فهم بعد في مقام يحتمل الخطأ والضلال إذ ليس المعصوم إلا من عصمه الله، وبالجملة أهل الكلام يجب أن يكون معصوما أو من يسمع من المعصوم، وقول الصادق (عليه السلام) صريح في ذلك.

قوله (وأدخلت الأحول) هو محمد بن النعمان البجلي الأحول أبو جعفر شاه الطاق ساكن طاق المحامل بالكوفة وقد لقبه المخالفون بشيطان الطاق والشيعة بمؤمن الطاق وكان ثقة متكلما حاضر الجواب، وله مع أبي حنيفة مكالمات مشهورة.

قوله (فلما استقر بنا المجلس) اسناد الاستقرار إلى المجلس مجاز للمبالغة في للكثرة لأن المجلس مستقر بالفتح لا مستقر بالكسر، ولو جعل المجلس مصدرا والباء بمعنى في لخرج الكلام

ص:96

عن البلاغة.

قول (في فازة له) الفازة مظلة بعمودين وفي بعض النسخ «في خيمة له».

قوله (يخب) الخبب بالتحريك: ضرب من العدو، تقول خب الفرس يخب بالضم خبا وخببا وخبيبا إذا راوح بين يديه ورجليه وأخبه صاحبه، وخب البحر إذا اضطرب.

قوله (وهو أول ما اختطت لحيته) يقال: اختط الغلام إذا نبت عذاره.

قوله (فوسع له) التوسيع خلاف التضييق يعني جعل مجلسه واسعا، وفيه دلالة على أنه ينبغي لأهل المجلس من التعظيم لأهل الفضل، وعلى رجحان تخصيص الأفضل بزيادة الإكرام.

قوله (فظهر عليه حمران) أي غلبه في المناظرة.

قوله (فتعارفا) أي عرف كل واحد منهما حال صاحبه في المعرفة وحقيقته جاء كل واحد بالمعرفة مثل ما جاء به الآخر وفي بعض النسخ «فتعارقا» بالقاف أي واقعا في شدة كما يظهر مجيئه لهذا المعنى كناية عن الفائق، أو ذهبا في الباطل من قولهم عرق فلان في الأرض يعرق عروقا مثل جلس يجلس جلوسا أي ذهب.

قوله (فقال نعم) فإن قلت «نعم» ههنا غير واقع في موقعه لأن موقعه هو التصديق لما تقدمه من كلام مثبت أو منفي خبرا كان أو استفهاما على ما هو المشهور وقيل: هو التصديق لما بعد الهمزة، قلت: هو تصديق ما بعد الهمزة تقديرا فإن قوله (عليه السلام) كلم هذا الغلام بمنزة أتكلم هذا الغلام.

قوله (حتى ارتعد) الارتعاد: الاضطراب يقال: أرعده فارتعد والاسم الرعدة وأرعد الرجل أخذته الرعدة، وأرعدت فرائصه عند الفزع، ولعل الغضب الاضطراب لأجل أنه سمع منه مالا يليق بجنابه (عليه السلام) أو مالا يليق به من التخاطب بالغلام.

قوله (أربك أنظر لخلقه) النظر الرحمة والعطف والحفظ.

قوله (كيلا يتشتتوا) التشتت: التفرق أي كيلا يتفرقوا في أمر المبدء والمعاد وغير ذلك مما يتعلق بنظام الخلق ومعاشهم.

قوله (أودهم) أود الشيء يأود من باب علم أودا بالتحريك اعوج وتأود وتعوج، شبه خروج الطبائع البشرية عن القوانين العدلية والنواميس الالهية بعوج الخشب ونحوه لزيادة الإيضاح.

قوله (بفرض ربهم) أي بما أوجبه عليهم والفريضة اسم لما أوجبه أن يراد به ههنا المقدر، أو المكتوب فيتناول المندوبات والأخلاق أيضا.

ص:97

قوله (كذبت) لوقوع الاختلاف حتى صارت الامة بضعا وثلاثين فرقة (1) كل فرقة تدعي أنها الفرقة الناجية.

قوله (أبطلت) أي أتيت بالباطل وهو ضد الحق. قال في النهاية: يقال أبطل إذا جاء بالباطل.

قوله (لأنهما يحتملان الوجوه) إذ فيهما ظاهر وباطن ومجمل ومأول وعام وخاص ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ.

قوله (إلا أن لي عليه هذه الحجة) يجوز أن يكون إلا بكسر الهمزة وشد اللام وأن بالفتح، وأن يكون بفتح الهمزة اللام من حروف التنبيه وإن بالكسر وضمير «عليه» على التقديرين يعود إلى هشام.

قوله (تجده مليا) الملئ بالهمزة الغني المقتدر وقد يترك الهمزة ويشد اياء أي تجده غنيا بالعلم مقتدرا على المناظرة.

قوله: (قال الشامي في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أن في الكلام حذفا (2) أي في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو في وقت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قوله: (يشد إليه الرحال) الرحال: بالكسر جمع الرحل بالتسكين وهو الأثاث والقتب للبعير كالسرج للدابة وهو الذي على قدر السنام وهنا كلاهما صحيح، وهذا كناية عن رجوع الخلائق إليه من أماكن بعيدة لاستعلام الشرائع والأحكام.

قوله: (بأخبار السماء) في بعض النسخ «بأخبار السماء والأرض» يعني يخبرنا بالكائنات العلوية (3) والسفلية والأمور العينية والغيبة.

قوله: (وراثة عن أب عن جد) تمييز لنسبة الأخبار إلى فاعله والوراثة بكسر الواو مصدر ورثت الشيء من أبي أرثه بالكسر فيهما وراثة وورثا وإرثا بقلب الواو ألفا المراد بالأب جنس الأب الصادق على الطرفين والوسط، وبالجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قوله: (بل آمنت بالله الساعة إن الإسلام قبل الإيمان) لما أظهر الشامي بقوله أسلمت لله الساعة أنه لم يكن مسلما قبلها أضرب (عليه السلام) أو ترقى عنه بقوله: «بل آمنت بالله الساعة» وعلله بأن الإسلام

ص:98


1- 1 - قوله «بضعا وثلاثين فرقة» المشهور أنها تفترق على ثلاث وسبعين والشارح أعلم بما قال. (ش)
2- 2 - الظاهر سقط في نسخة الشارح قوله «رسول الله» ثانيا.
3- 3 - قوله «بالكائنات العلوية» والمقصود عالم المجردات، وقلنا سابقا: ان السماء قد يطلق على ذلك العالم. (ش)

قبل الإيمان كتقدم المفرد على المركب وتقدم الجزء على الكل فإن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعليه جم غفير من الناس، والإيمان هو هذا مع التصديق بأئمة الهدى وبه مدار الثواب والكرامة في دار المقامة، فهما متغايران بحسب الحقيقة وأعم وأخص بحسب الصدق والآثار إذ كل مؤمن مسلم دون العكس وكل ما هو أثر للإسلام أثر للإيمان دون العكس ويفهم منه أن الأعمال غير معتبرة في حقيقة الإيمان لأن الشامي اتصف بالإيمان قبل العمل، وما دل عليه بعض الروايات المعتبرة من اعتبارها في حقيقته فهو محمول على أن المراد بالإيمان هو الإيمان الكامل إذ للإيمان مراتب متفاوتة ودرجات متباعدة.

قوله: (فقال تجري الكلام على الأثر فتصيب) الأثر في اللغة: ذكر الشيء عن الغير ومنه سمي الحديث أثرا لأنه مأثور ينقله خلف عن سلف، ولعل المقصود أنك تتشبث في المناظرة بآثار النبي (صلى الله عليه وآله) وسننه فتصيب الحق وتغلب على الخصم لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.

قوله: (تريد الأثر ولا تعرفه) دل على عدم معرفته بالأثر عدم غلبته على الخصم لأن العارف به كما هو حقه غالب على الخصم المنكر للحق قطعا (1) ولذلك ترى العالم الماهر في الحديث لا يصير مغلوبا أبدا. وفيه دلالة على جواز ذم الأستاذ المرشد للمتعلم المسترشد بنحو ذلك تأديبا وتحريصا له بكسب العلوم الدينية.

قوله: (قياس رواغ) (2) بشد الياء والواو من صيغ المبالغة والروغ في اللغة: الميل والمراودة وطلب الشيء بكل طريق ومنه روغان الثعلب، أي أنت قياس تعمل بالقياس كثيرا، رواغ محيل

ص:99


1- 1 - قوله «على الخصم المنكر للحق قطعا» يجب أن يقيد الخصم المنكر للحق بمن يدعي الإسلام ويعرف السنة ويعتقد صحة كلام النبي (صلى الله عليه وآله) إذ لو كان منكرا لرسالته أو ملحدا منكرا للمبدأ تعالى لم يفد في الاحتجاج عليه التمسك بالأحاديث، ومعلوم أن الشامي كان مسلما معترفا بصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد ذكروا أن مبادئ الجدل إما أن يكون من المشهورات أو من المسلمات، والأحاديث النبوية من المسلمات إن كان الخصم مسلما لا إذا لم يكن ولذلك لم نر أحدا من الأئمة (عليهم السلام) ومتكلمي أصحابهم وعلماء شيعتهم تمسكوا في الاحتجاج على الزنادقة والملاحدة بالأحاديث ولا على اليهود والنصارى إلا بالتوراة والإنجيل من مسلماتهم، نعم تمسكوا بالأحاديث في مسألة الإمامة. (ش)
2- 1 - قوله «قياس رواغ» لا يدل على قدح في مؤمن الطاق يلحقه الجرح إذ لا يخلو أحد من نقص ويجب على الإمام تنبيهه على نقصه. (ش)

مائل عن الحق إلى طريق الباطل لتكسر به باطل الخصم وتتخلص منه كروغان الثعلب وحيلته ليخرج عن نظر الصائد ويتخلص منه وينبغي أن يعلم أن الحق لا يبطل الحق (1) ويبطل الباطل وأن الباطل لا يبطل الحق وقد يبطل الباطل إذا كان أظهر (2) في الإدراك وأشبه بالصواب كما هو المعروف في الجدليات والمغالطات.

قوله: (تتكلم وأقرب ما تكون - الخ) الواو للحال والأقرب هو الأقرب في الفهم أو الأقرب في النقل والمراد به ذمه ببعده عن طريق الحق والأثر الصدق مع وضوحه فكأنه في أثناء المناظرة ترك ما ينفعه من الخبر الصحيح الظاهر وتمسك بالأباطيل ولذلك قال (عليه السلام): (وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل).

قوله: (تمزج الحق مع الباطل) يعني تتمسك بالشبهة لدفع الباطل إذ الشبهة إنما سميت شبهة لأجل أنها بمزج الحق مع الباطل تشبه الحق إما في صورته أو في مادته أو فيهما معا.

ص:100


1- 2 - قوله «إن الحق لا يبطل الحق» الحق: هو المطابق للواقع والواقع واحد غير مختلف فلو كان أحد الكلامين المتناقضين مطابقا للواقع كان الآخر مخالفا ولذلك إذا ثبت أن العقل حق والقرآن حق لا يمكن أن يكون العقل مخالفا للقرآن، وما قد يتراءى في نظر الجاهل من المخالفة فله تأويل صحيح البتة ومرجع التأويل إلى التعمق والتدبر في تمييز ما يفيد الظن عما يفيد اليقين، فقد يفيد ظاهر القرآن الظن والعقل يفيد اليقين وقد يفيد العقل ظنا والقرآن اليقين وقد يفيد كلاهما ظنا وعلى كل حال يجب حمل الظن منهما على اليقين والتوقف في الظنين. (ش)
2- 3 - قوله «إذا كان أظهر» الباطل لا يبطل الحق واقعا لأن الحق لا يبطله شيء فإنه موافق للواقع فإذا ثبت كون شيء حقا وعارضته شبهة لا يجوز التشكيك في الحق بل يجب التدبر في سبب عروض الشبهة ومبدئها كما نعلم أن النار تحرق القطن فان رأينا قطنا لم يحترق لا يجوز أن يشكك به في إحراق النار، وكذلك إن ثبت لدينا وجود عالم روحاني مجرد عالم بالغيوب وبما لم يجيء بعد ودخلنا في ذلك العالم في الرؤيا الصادقة ورأيناه لم يجز لنا الشك في وجوده بمعارضات الماديين وإذا علمنا بعجز البشر قاطبة عن معارضة القرآن وثبت لدينا نبوة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) بقرآنه وبإخباره بالغيب وبما تواتر من آيات النبوة لم يجز التشكيك فيها لشبهات لم نهتد إلى وجه التخلص فإن الحق الثابت لا يبطله شيء والذي يرى مخالفا له باطل قطعا وإن لم نعلم وجهه تفصيلا، وينكر يهود زماننا قولهم بأن عزيرا ابن الله وكون هامان وزيرا لفرعون قالوا بل هو وزير بعض سلاطين فارس، وأنكر بعضهم حكم سليمان على الجن وخدمة الجن له ونحن نعلم بالدليل أن كتاب الله حق فما ذكروه باطل. وأما أن الباطل يبطل الباطل فهذا شيء معروف مستعمل في المجادلة لأن مسلمات الخصم قد يكون باطلا واقعا ونتمسك بهذا الباطل لنقض باطل آخر. مثلا قالوا «نحن معاشر الأنبياء لم نورث» وهذا باطل نتمسك به لرد قول بعضهم أن الشيخين دفنا في بيت النبي (صلى الله عليه وآله) في حق بنتيهما فندفع باطلا بباطل وليس الحديث صريحا في النهي عنه تحريما. (ش)

قوله: (قفازان) بالقاف وشد الفاء والزاي المعجمة: من القفز وهو الوثوب أي وثابان من مقام إلى مقام آخر، غير ثابتين على أمر واحد، وفي بعض النسخ بالراء المهملة من القفر: وهو المتابعة والاقتفاء، يقال: اقتفرت الأثر وتقفرته أي تتبعته وقفوته يعني إنكما تتبعان الخصم وتقتفيان باطله لقصد إلزامه بالباطل.

قوله: (حاذقان) بالقاف: من الحذاقة وهي المهارة أي ماهران في الوثوب واقتفاء الخصم بالباطل وفي بعض النسخ بالفاء من وهو القطع أي قاطعان الباطل بالباطل.

قوله: (لا تكاد تقع تلوي رجليك) تكاد: من الأفعال المقاربة اسمه ضمير الخطاب المستكن وخبره تقع بصيغة الخطاب، وتلوي: من لويت عنقه إذ فتلته بدل من «تقع» أو بيان له والمقصود نفي قرب وقوعه على الأرض وفتل رجليه وإزلاقهما وهو كناية عن كمال ثباته في مقام المناظرة.

قوله: (إذا هممت بالأرض طرت) تقول هممت بالشيء أهم هما إذ أرته وعزمت عليه ولعل المقصود ذو همة عظيمة إذا قصدت شيئا وعزمت عليه أمضيته في أقرب الأوقات.

قوله: (مثلك فليكلم الناس) دل على الإذن في المناظرة (1) لإثبات الحق لمن هو مثله (2) في

ص:101


1- 1 - «قوله دل على الأذن في المناظرة» يكفي في تجويز المناظرة آيات القرآن الكريم وهي كثيرة جدا وعمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أيضا، ولا ريب أن العلم من حيث هو علم ليس حراما ولا العالم به مذموما حتى العلم بمذاهب الكفار ووجوه الضلال وأقوال الملاحدة وطرق استنباط الاحكام الشرعية من القياس والاستحسانات وعلم السحر وأقسام القمار واصطلاحات الموسيقى وأسامي آلاته وإنما الحرام ما يترتب على العمل بها من المفاسد والقبائح، وقالوا يجوز تعلم السحر لإبطال السحر ولنقض دعوى المتنبي، ويجوز حفظ كتب الضلال للرد على أهله فكل ما ورد في ذم علم والمنع منه إنما ينصرف إلى الجهة المقبحة التي تستلزم الفساد. وورد في الأحاديث النهي عن الكلام أكثر مما ورد عن التصوف وذم المتكلمين أفحش من ذم الصوفية والمنجمين، وفي كتاب كشف المحجة أن مؤمن الطاق استأذن على أبي عبد الله (عليه السلام) فلم يأذن له لكونه متكلما وقال: ان الكلام والخصومات تفسد النية وتمحق الدين وعنه (عليه السلام) أيضا «متكلموا هذه العصابة من شرار من هم منهم» ولو ورد مثل ذلك في النجوم والمنجمين لكان كافيا في إدارة الدوائر عليهم وإبطالهم ولعنهم وطردهم من قبل أهل الحديث وكل من هو عدو لعلم يمكنه أن يجد في الأحاديث ما يؤيد به مدعاه، والأخباريون منا جمعوا روايات ذموا بها المجتهدين وأهل النظر وغرضهم الفرار من ثقل الاصطلاحات والتفكر في أمور عجزوا عنه وإبداء عذر لجهلهم وأنهم لم يتعلموها لحرمتها ومنع الشرع عنها لا لنقصان عقلهم وقلة فهمهم وقصور ذهنهم عن فهم المطالب الدقيقة وبالله التوفيق. (ش)
2- 2 - قوله «لمن هو مثله» الجدل لقوم والبرهان لقوم والخطابة لقوم كما قال الله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) يعني بالبرهان (والموعظة الحسنة) يعني الخطابة (وجادلهم بالتي هي أحسن) والمناسب للعاقل المنصف أن يتعلم الدين وأصول العقائد بالأدلة المبتنية على اليقينيات وهي الأوليات والمشاهدات والتجربيات والحدسيات والمتواترات وقضايا قياساتها معها، وانحصارها في هذه الست بالاستقراء، والمناسب لرد الخصوم التمسك بالمشهورات والمسلمات ولغالب الناس من العوام الخطابة إذ ليسوا خصماء حتى يجادل معهم ولا مسلمات لديهم وليسوا مستعدين لفهم الدلائل البرهانية إلا في مالابد منه من إثبات الواجب والنبوة بالأوليات والمتواترات والحدسيات التي يفهمها جمع الناس ومقصود الشارح من قوله لمن هو مثله أنه لا يجوز التكلم بالجدل مع العامة. (ش)

العلم والأخذ بالسنة النبوية إلى يوم القيامة.

قوله (فاتق الزلة) زل فلان يزل إذا زق في الطين أو المنطق أو الفكر والاسم الزلة. أمره (عليه السلام) بحفظ ظاهره وباطنه عن الخروج من منهج الصواب (1) وفيه دلالة على أن الإنسان وإن بلغ حد الكمال لابد له من محافظة نفسه في جميع الأحوال.

ص:102


1- 1 - قوله «عن منهج الصواب» المتكلم في معرض الزلل ولذلك قد يخرج عن منهج الصواب وسر ذلك أن البرهانيات يتفرد في الحكم بها العقل لا مدخل فيه للعادات والغرائز والعواطف بخلاف المشهورات إذ قد يشترك فيه مع العقل العواطف والغرائز مثلا: الكل أعظم من جزئه، والنقيضان لا يجتمعان، والدور باطل وأمثال ذلك يعترف به كل عاقل سواء كان مسلما أو كافرا، قسي القلب أو رقيق القلب. شجاعا أو جبانا، بخيلا أو جوادا وغير ذلك وهذه من البرهانيات، وأما المشهورات مثل: العدل حسن والظلم قبيح، فليس الحاكم فيه العقل فقط بل العقل بضميمة الرغبة في حفظ النظام، والإحسان إلى الفقراء حسن وإغاثة الملهوف حسن يشترك في الحكم به مع العقل رقة القلب ولا يحكم به القسي والجبان والبخيل، وبالجملة للصفات النفسانية مدخل في الحكم بالمشهورات دون البرهانيات ولذلك يقبح ذبح الحيوان عند الهنود وهو عبادة عند المسلمين وتزويج النساء ومحبتهن قبيح عند النصارى للنساك والعباد ولكن لا يختص بطلان الدور بأمة دون أمة، وأما المسلمات: فهي ما يعترف به الخصم سواء كان صحيحا أو باطلا ومبنى الجدل على هذين ويجري فيهما الخطأ والزلل كثيرا، فرب متكلم عارف بصنوف العلوم يحمله عواطفه وغرائزه وعاداته على أن يحكم بتا بصحة أمر ارتكز في خاطره ويتعصب له ويتكلف لإبداء وجه لتصحيحه كما تعصب علماء الأشاعرة لتوجيه الكلام النفسي والاسم عين المسمى والكسب والجبر وأمثالها من الأباطيل ولو لم يكونوا متبعين لعواطفهم ورغباتهم واقتصروا على العقل الصريح والبرهانيات المحضة وما يشترك في الحكم بصحته جميع الناس لم يتكلفوا واستراحوا، وأيضا من فوائد الجدل على ما ذكره المعلم الأول حفظ الأوضاع وهي ما توافق على صحته الأمة وربما توافق أمة على أمر باطل يلتزم المجادل بالدفاع عنه وتصحيحه، وقد يتفق أن يكون الدفاع عن مذهب حق ثابت بالبرهان كالتوحيد وقد يكون عن طريقة باطلة ومذهب خبيث ويدافع عنه أهله ويوجب ثبات الناس عليه كالشرك والإلحاد، وقد ترى أهل المعقول وأصحاب النظر أيضا يذمون الكلام وليس غرضهم إنكار هذا العلم مطلقا بل إذا أخذوه في موضع البرهان وعملوا معه معاملة اليقينيات، فإن وضعوه موضعه واكتفوا بما هو حقيق به واعترفوا بأن تبكيت الخصم به لا يفيد صحته واقعا فلا غضاضة. (ش)

قوله: (والشفاعة من ورائها) أي من وراء الزلة، وفيه دلالة على أن المخطي مع أتصافه بالعلم وبذل الجهد آثم يدركه الشفاعة إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان قال:

أخبرني الأحول: أن زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) بعث إليه وهو مستخف، قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا اريد أن أخرج اجاهد هؤلاء القوم فأخرج معي، قال: قلت: لا، ما أفعل جعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: قلت له: إنما هي نفس واحدة فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالك وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي ولم يشفق علي من حر النار، إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به، فقلت له: جعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار وأخبرني أنا فإن قبلت نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار، ثم قلت له: جعلت فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء قلت: يقول يعقوب ليوسف (عليهم السلام) (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك فكذا أبوك كتمك لأنه خاف عليك، قال: فقال: أما والله لئن قلت ذلك لقد حدثني صاحبك بالمدينة أني اقتل واصلب بالكناسة وأن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي فحججت فحدثت أبا عبد الله (عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكا يسلكه.

* الشرح:

قوله: (وهو مستخف) أي متوار من الأعداء.

قوله: (إن طرقك طارق منا) أي طلبك طالب منا أو ورد عليك وارد منا أو دق بابك رجل منا

ص:103

يريد خروجك معه والاولان من باب الكناية والأخير على سبيل الحقيقة.

قوله: (أترغب بنفسك عني) رغب عن الشيء إذا لم يرده ورغب فيه إذا أراده.

قوله: (إنما هي نفس واحدة) يحتمل أن يريد أن النفس الواحدة لا تنفعك فيما تريده من الخطب العظيم وأن يريد أن النفس واحدة لابد لها من طاعة الرب وليست بمتعددة يمكن التدارك بإحداهما لو عصت واحدة لابد لها من طاعة الرب وليست بمتعددة يمكن التدارك بإحداهما لو عصت الاخرى وهذا أنسب بما بعده.

قوله: (فالمتخلف عنك ناج) أما نجاة المتخلف فلتشبثه بذيل الحجة وتخلفه عن المدعى بغير حق. وأما هلاك الخارج فلعكس ذلك وفيه تصريح بأنه ليس بحجة.

قوله: (سواء) أي سواء في الفضل وليس للخارج مزية فيه، أو سواء في الهلاك لأن كليهما على تقدير عدم الحجة في معرض الهلاك والخروج معك لا يوجب النجاة. وفيه أيضا تصريح بما مر.

قوله: (على الخوان فيلقمني البضعة) الخوان - بالكسر -: الذي يؤكل عليه وهو معرب، والبضعة بالفتح: القطعة من اللحم، وقد تكسر تقول لقمتها ألقمها وتلقمتها والتقمتها إذا أكلتها ولقمني غيري تلقيما إذا وضعها في فيك.

قوله: (لم يبال أن أدخل النار) في كلام زيد دلالة على أن من لم يبلغه الدين غير معذور، وفي كلام الأحول دلالة على أنه معذور.

قوله: (أنتم أفضل) خطاب الجمع من باب تغليب الحاضر على الغائب وهو للامة وإن كانت الإمامة في البعض محض الادعاء، أو لأولاد الرسول (صلى الله عليه وآله).

قوله: (لا تقصص رؤياك) كما حكاها عز شأنه بقوله (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) قال في الكشاف: عرف يعقوب (عليه السلام) دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغا من الحكمة ويطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم، والرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة.

ص:104

قوله: (لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه) سأل عن سبب عدم إخبارهم بشرف يوسف ونبوته وعن غايته المترتبة عليه ثم أجاب بنفسه عنه على سبيل الاستئناف بقوله حتى كانوا لا يكيدونه يعني لم يخبرهم بذلك حتى لا يتحقق الكيد منهم، فحتى هنا حرف ابتداء يبتدأ بها كلام مستأنف لاجارة ولا عاطفة.

قوله: (ولكن كتمهم) لكن إذا خففت لم تعمل فلذلك تدخل على الفعل فإن قلت «لكن» مخففة كانت أو مثقلة للاستدراك ورفع التوهم المتولد من الكلام السابق فما وجه التوهم هنا؟ قلت: قد يتوهم من عدم الإخبار عدم الكتمان إذ في الكتمان مبالغة ليس في عدم الإخبار فقصد بإثبات الكتمان رفع ذلك التوهم فتأمل.

قوله: (فكذا أبوك كتمك) هذا من باب القياس بالأولوية فإنه إذا جاز كتمان النبي النبوة عن الأخوة خوفا من الكيد جاز كتمان الوصي الإمامة عن الإخوة خوفا من ذلك بطريق أولى. وفيه مع تقريره (عليه السلام) دلالة على جواز العمل بهذا القياس.

قوله: (صاحبك) وهو محمد بن علي الباقر (عليهم السلام) كما هو مذكور في خطبة الصحيفة السجادية.

قوله: (بالكناسة) وهي بالضم اسم موضع بالكوفة.

قوله: (لصحيفة) هي غير القرآن كتب به ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهي الآن عند الصاحب المنتظر (عليه السلام).

قوله: (أخذته من بين يديه - إلى آخره) كما أن للإنسان المجازي وهو هذه البنية المحسوسة جهات ست محسوسة كذلك للإنسان الحقيقي وهو النفس المدركة للمعقولات جهات ست معقولة، وأخذه من جميع الجهات كناية عن عدم إبقاء طريق له في باب المناظرة وذلك لأنه أشار إلى أن خروجه لم يكن مشروعا بأن أباه وأخاه مع كونهما أفضل منه لم يخرجا، ثم صرح بذلك حيث حكم بنجاة المتخلف عنه وهلاك الخارج معه مع الإيماء إلى وجود حجة غيره، ثم دفع ما تمسك به على عدم وجوده من أن أباه لم يخبره به بأن عدم الاخبار للشفقة والخوف من النار لعدم إطاعته مع التصريح بأن أباه أخبر به غيره وهو المقصود بذكر هذا الحديث. في هذا الباب ويمكن أن يكون قوله (والخارج معك هالك) أخذا من بين يديه وقوله «فالمتخلف عنك ناج» أخذا من خلفه وقوله «إن كان أباك وأخاك خرجت معه» أخذا عن يمينه ويساره وقوله «أخبرني» يعني بالحجة أخذا من فوقه وقوله «لم يخبرك خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار» أخذا من تحته. وفي

ص:105

هذه الرواية دلالة واضحة على ذم زيد (1) وقال الفاضل الأسترآبادي في كتاب الرجال: هو جليل القدر عظيم المنزلة قتل في سبيل الله وطاعته سنة إحدى وعشرين ومائة وله اثنان وأربعون سنة، وورد في علو قدره روايات يضيق المقام عن إيرادها.

أقول: منها ما رواه المصنف بإسناده عن سليمان بن خالد قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «كيف صنعتم بعمي زيد؟ قلت: إنهم كانوا يحرسونه فلما شف الناس أخذنا خشبته وفي بعض النسخ جثته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجوده فأحرقوه فقال: أفلا أوقرتموه حديدا وألقيتموه في الفرات صلى الله عليه ولعن الله قاتله» ومنها ما رواه أيضا

ص:106


1- 1 - قوله «دلالة واحدة على ذم زيد» لا نسلم وضوح الدلالة ومنطوق الحديث أن مؤمن الطاق تلطف في الكف عن إجابة زيد وإبداء العذر للتخلف عنه وعدم الخروج معه، ويدل على كون مؤمن الطاق مصيبا في تخلفه لا في قياسه، وأنه يجوز للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) إخفاء الحكم شفقة على من يعلم أنه يعصي ولو كان مصيبا فقد ظلم النبي (صلى الله عليه وآله) أبا جهل وأبا لهب وغيرهما إذ دعاهم إلى الإيمان وعرضهم على العقاب وكان مقتضى الرحمة والشفقة أن لا يدعوهم مع علمه بأنهم لا يؤمنون على أن عدم علم زيد بإمامة أبيه يخالف العادة ولا يصدقه العقل وكيف يمكن أن يخفى على زيد بعد أربعين سنة وهو في بيت الإمامة دعوى أبيه وأخيه وقد علم ذلك منهم الأباعد وهل يتعقل أن يخفي زين العابدين (عليه السلام) عن زيد كونه إماما مع علمه بأن ذلك لا يمكن أن يخفى في مدة أربعين سنة؟ ونحن مع الاعتراف بجلالة قدر زيد وعظيم منزلته لا ندعي عصمته ولعله أخطأ في الخروج لعذر وزعم أن ذلك جائز له وقد أغضبه هشام ولم ير للتخلص من الإهانة إلا دعوة أهل الكوفة أو رأى أن أخاه لا يخرج لحفظ الدماء وصيانة الأموال والإشفاق على الشيعة ولو قدر أحد من أهل البيت وجماعة من الشيعة رضوا بالجهاد واستولوا على الإمارة لرضى به أخوه وقبل منه، وهذه الأمور غير بعيدة من صلحاء الشيعة إذ لم يكونوا معصومين، وأما مؤمن الطاق فم يكن معصوما مع شدة اتصاله بالأئمة (عليهم السلام) ودفاعه عن مذهبهم ولم يكن كلامه حقا كله وإن أسكت زيدا وتخلص من متابعته، ولا يدل تحسين الإمام على أكثر من ذلك، وروت العامة أن زيدا لم يتبرأ من الشيخين ولذلك رفضه أهل الكوفة ويسمون الشيعة رافضة لهذه العلة ولعله لم ير المصلحة في التبرئ كما لم يتبرأ أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام خلافته إلا إيماء بالتضجر وربما ذكرهما بالخير ولم يكن الأئمة (عليهم السلام) متظاهرين به أيضا ولعل اختلاف الأحول مع زيد كان راجعا إلى ذلك لا إلى إنكار إمامة أبيه وأخيه (عليهم السلام) بأن يكون الأحول يريد منه التظاهر بالتبري وكان زيد ينكر لزوم ذلك ويستدل بأن أباه لم يأمره به ولو كان لا يتم الإيمان إلا بالتظاهر في كل محفل بالتبرىء منهما لأمره به، وهذا وإن كان بعيدا من ظاهر لفظ الحديث من جهة قول الأحول «فإن كان لله في الأرض حجة - إلى آخره» لكن سكت زيد عن جوابه ولم يقل إنه ليس لله في الأرض حجة وعدل عنه إلى قوله «أخبرك بالدين ولم يخبرني به» فيمكن حمله على حكم آخر من أحكام الدين ولابد من ذلك لئلا يخالف ما هو معلوم في العقل والعادة من كون زيد عالما بدعوى أبيه وأخيه الإمامة وعدم إمكان جهله به عادة. والله العالم بحقائق الأمور. (ش)

مرسلا عنه (عليه السلام) قال: «إن الله عز ذكره أذن في هلاك بني امية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيام» ومنها ما رواه أيضا بإسناده عن عيص بن القاسم قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له - إلى قوله - «ولا تقولوا خرج زيد فإن زيدا كان عالما وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفا بما دعاكم، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه - الحديث» وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا روايات متكثرة دالة على مدحه وعلو قدره وكمال فضله وبالغ فيه والذم في رواية الأحول على تقدير تسليم سندها مستفاد من كلامه لا من كلام المعصوم وإنما المستفاد وهو أخذه من جميع الجهات، ويمكن حمله على وقوع الخروج بدون إذنه وإظهار كراهة ذلك شفقة عليه نظير ذلك أنه لم يأذن لنا المعصوم بترك التقية في سبه (1) فلو تركها أحد فقتل كان مرحوما مغفورا مثابا كما دل عليه بعض الروايات.

ص:107


1- 1 - قوله: «بترك التقية في سبه» والأصح أن أمره بالتقية إباحة لا إيجاب وليست التقية واجبة مطلقا إلا إذا توقف عليها حفظ دم الغير وصيانة ماله وعرضه، وأما حفظ نفسه فالتقية فيه رخصة إلا إذا توقف حفظ الدين عليها أو على تركها; ولذلك لم يتق ميثم التمار وأمثاله - عليهم الرحمة - إذ لم يفهموا من الأمر في مقام توهم الحظر إلا الإباحة للإشفاق على الشيعة. وأما الترديد في سند الحديث واحتمال كونه موضوعا فليس بوجه إذ ليس فيه من يتهم وإن احتمل فيه السهو والوهم وأمثال ذلك. (ش)

باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام))

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور عنه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) الأنبياء المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبا في نفسه، لا يعدو غيرها. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليهم السلام). ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد ارسل إلى طائفة قلوا أو كثروا، كيونس، قال الله ليونس: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال: يزيدون ثلاثين ألفا وعليه إمام والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم; وقد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا وليس بإمام حتى قال الله:

(إني جاعلك للناس إماما * قال ومن ذريتي)، فقال الله، (لا ينال عهدي الظالمين)، من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما.

* الشرح:

قوله: (الأنبياء والمرسلون) الأنبياء: جمع نبي بالهمزة أو بالياء المشددة، والأول: بمعنى الفاعل مأخوذ من نبأ: وهو الخبر سمي به لأنه مخبر عن الله تعالى ما أراد من الخلق. والثاني: فعيل بمعنى المفعول مأخوذ من النبوة: وهي ما ارتفع من الأرض سمي به لأنه مرفوع القدر مشرف على الخلائق والرسول أعلى مرتبة وأعظم درجة من النبي كما ستعرفه: فذكره بعد النبي من باب ذكر الخاص بعد العام.

قوله: (على أربع طبقات) بعضها فوق بعض كما قال جل شأنه (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) ثم حصر الطبقات في الأربع لأنه لم يوجد غيرها لا لأنه لم يحتمل

ص:108

غيرها عقلا لأن الاحتمال العقلي زائد عليها (1).

قوله: (فنبي مبنأ في نفسه) الظاهر أن منبأ اسم مفعول من أنبأه أو نبأه إذا أخبره يعني ما أوحى إليه مختص به لا يجري على غيره وليس له إمام يتقدي به وأما الوحي إليه فيحتمل أن يكون من

ص:109


1- 1 - قوله: «لأن الاحتمال العقلي زائد عليها» والوجه أن المقصود ذكر طبقاتهم في الجملة كلية وإن كانت كل طبقة مشتملة على درجات عديدة، وبيان ذلك أن الإنسان وكل موجود مرتبط مع المبدأ الأعلى نحوا من الارتباط كما سبق في كتاب التوحيد «داخل في الأشياء لا بالممازجة خارج عنها لا بالمباينة». والفرق بين الإنسان والموجودات الأخر أنه مرتبط بالمبدأ في شعوره وعقله لا في أصل وجوده فقط المشترك فيه مع كل شيء وله قوى عديدة يدرك بها وأظهرها السمع والبصر والعقل هي شديدة التوجه والالتفات إلى الدنيا وعالم المادة لأن الناس غالبا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ولم يكن المصلحة في أن يفجر أمامه ويعاين عالم الغيب وهو بعد في جلبات الطبيعة إلا بمقدار أن يعترف بوجوده في الجملة ففتح الله تعالى من ذلك العالم على قلبه بابا في المنام ولكل نفس طريق منه إلى ذلك العالم يرى منه كشبح من بعيد يشتبه عليه حقيقته ويرى معه أمورا يحتمل منه خطأ كخطأ الحس ولا يميز بين حقه وباطله ولكن وسع الله على قلوب الأولياء غير الحجج حتى يطلعوا على أكثر مما يطلع عليه غالب الناس والاشتباه والشك عليهم أقل ويختلف مراتبهم كما يختلف مراتب غيرهم في كثرة الرؤيا الصالحة ووضوحها وليس صرف ارتباط قلوب الأولياء بل ولا الحجج مع عالم الغيب نبوة كلما اشتد وقوى وأمنوا من الغلط والاشتباه إلا أوحى إليهم الأمر والنهي سواء كان خاصا بأنفسهم أو بقومهم قليلا أو كثيرا أو لعامة الناس فقط أو لعامة الناس والأنبياء الذين يأتون بعدهم، وهذه مراتب ودرجات في الفضيلة ولا أفضلية. ثم أن اتصالهم بعالم الغيب قد يكون بحيث يغلب حكم ذلك العالم على عقولهم فقط دون السمع والبصر لأن العقل لكونه أقرب إلى ذلك العالم لتجرده سريع الاتصال به وشديد الاستعداد له فيتصل بذلك العالم قبل سائر القوى فإن كان قويا جدا اتصل به في اليقظة وإن كان دونه اتصل به في المنام حيث لا يشغله سائر الحواس عن إدراك الباطن وقد يكون اتصالهم بعالم الغيب بحيث يغلب حكمه على العقل مع السمع وقد يتجاوز ذلك فيغلب على البصر أيضا فإن كان الغلبة على العقل فقط سمي إلهاما وقد اطلق عليه الوحي في القرآن وإن غلب مع ذلك على السمع سمع الصوت أيضا وإن غلب على البصر عاين الملك في اليقظة وهذه مراتب متفاضلة لا يمكن أن يغلب على البصر من غير أن يغلب على السمع في وقت أصلا أو يغلب على السمع من غير أن يغلب على العقل ولكن العكس ممكن بأن يغلب على العقل من غير أن يغلب على السمع ولا يمنع المرتبة العليا عن حصول المرتبة الدنيا كما لا يمنع كمال العلم في العلماء أن يعرفوا الكتابة والحروف والمقدمات ولذلك قد يتفق لأعاظم الأنبياء كإبراهيم (عليه السلام) أن يوحى إليهم في المنام قال الله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه) والوحي: هو الإلقاء في القلب أعني الإلهام، ومن وراء حجاب: سماع الصوت من غير معاينة ملك أو يرسل رسولا من معاينة ملك، ولابد للعاقل أن يتفكر في هذه الآية وينصف من نفسه ويقايس بين القرآن وقول سائر فصحاء العرب وهل كان لأحد منهم أن يفرق بين وجوه الوحي بهذه الدقة والبيان اين كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وكلام مسيلمة والأسود العنسي وغيرهما (ش).

الرؤية في النوم وسماع الصوت والمعاينة في اليقظة.

قوله: (ونبي يرى في النوم - الخ) أي يرى الأوامر والنواهي في النوم أو يرى الملك فيه ويسمع صوته في اليقظة ولا يعاينه مطلقا أو بصورته الأصلية والظاهر هو الأخير لأن لوطا قد رآه بصورة الإنسان.

قوله: (وعليه إمام) الإمام: الذي يقتدى به وجمعه أئمة وأصله أئممة على أفعله فادغمت الميم ونقلت حركتها إلى ما قبلها وهو الهمزة فلما حركوها بالكسر جعلوها ياء.

قوله: (مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليه السلام)) فإن لوطا كان يقتدي بإبراهيم. قال القاضي: هو ابن اخت إبراهيم وأول من آمن به، وقيل: إنه آمن به حين رأى النار لم تحرقه. والمفهوم من بعض رواياتنا أنه ابن خالته.

قوله: (إلى طائفة) هم كقوم يونس الذين هرب عنهم وخرج من بينهم حين ما قرب موعد العذاب بدون إذن ربه فالتقمه الحوت وهو مليم، ثم نجاه الله تعالى وأرسله إليهم بعد قبول توبتهم.

قوله: (أو يزيدون) قيل «أو» يستعمل لأحد الأمرين مبهما عند المتكلم ولا وجه للإبهام هنا (1) وأجيب بأن المراد أو يزيدون في المنظر بحيث إذا نظر إليه ناظر قال: مائة ألف أو أكثر. وبالجملة «أو» ههنا لأحد الأمرين مبهما عند غيره تعالى من الناظرين.

قوله: (والذي يرى في نومه) إشارة إلى الطبقة الرابعة وإنما غير العبارة للدلالة على التفاوت بينهما وبين السوابق في المعنى إذ فيها ما ليس في السوابق من الفضل والكمال وعلو المرتبة.

قوله: (مثل اولي العزم) والعزم يطلق على إرادة الفعل والقطع عليه والصبر والاحتمال والثبات والجد، وأولو العزم من الرسل هم الذين كانوا من (2) أصحاب الشرائع واجتهدوا في تأسيسها

ص:110


1- 1 - قوله: «ولا وجه للإبهام هنا» قد يكون تفصيل الذكر منافيا للبلاغة حيث لا يكون المقام مقتضيا والإجمال أبلغ وأفصح وهنا كذلك لأن المقصود إرسال يونس إلى بلد كبير وأناس كثيرين أكثر من مائة ألف وتعيين عدد أهل البلد غير مناسب وتطويل بلا طائل كأن يقال: كانوا مائة ألف وخمسة عشر ألفا وثلاثمائة وستة وعشرين ولم يكن المقام مقام الإحصاء، وقد يقول الخطيب تكلمت في محفل فيه نحو عشرة آلاف نفس وغرضه يحصل بهذا المقدار تقريبا فلو قال: عشرة آلاف وتسع وثمانين ومائة لم يدخل في غرضه وقد يقتضى المقام التفصيل كحساب الدخل والخرج أو الإعجاز بيان عدد شيء من غير إحصاءه فيجب ذكره تفصيلا. (ش)
2- 1 - قوله: «أولو العزم من الرسل هم الذين كانوا» بناء على أن أولي العزم جماعة خاصة من الأنبياء ولم يكن كلهم صاحب عزم وقوة إرادة ويحتمل قويا أن يكون «من» في قوله تعالى (أولو العزم من الرسل) للنبيين فيكون كلهم أولي عزم بل هو أولى وأوضح من تخصيص العزم ببعضهم لكن جرى في الحديث على الاصطلاح الشائع بين الناس. (ش)

وتقريرها وصبروا لكمال قوتهم في دين الله على إقامتها وإنفاذها وتبليغها أو تحمل المشاق والمجاهدة والقتال والأذى من سفهاء الامة الطاعنين فيها وهم خمسة كما سيجيء.

قوله: (جاعلك للناس إماما) يأتمون بك ويتبعونك في الأقوال والأعمال والعقائد.

قوله: (ومن ذريتي) قال القاضي: هو عطف على الكاف: أي وبعض ذريتي كما تقول وزيدا في جواب ساكرمك، وقال قطب المحققين: العطف في مثل هذا للتلقين: أي قل ساكرمك وزيدا، وقال الزمخشري في الفائق: الذرية من الذر بمعنى التفريق لأن الله تعالى ذرهم في الأرض، أو من الذرء بمعنى الخلق، فهي من الأول فعلية أو فعلولة ذرورة فقلبت الراء الثالثة ياء كما في تقضيت. ومن الثاني فعولة أو فعيلة قلبت الهمزة ياء وهي نسل الرجل، وقال المطرزي في المغرب: ذرية الرجل أولاده ويكون واحدا وجمعا ومنه (هب لي من لدنك ذرية طيبة).

قوله: فقال الله: (لا ينال عهدي الظالمين) أي الموصوفين بالظلم وقتا ما، قال القاضي فيه إجابة إلى ملتمسه وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وأنهم لا ينالون الإمامة من الله لأنها أمانة من الله وعهده، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم، وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصلح للإمامة.

* الأصل:

2 - محمد بن الحسن، عمن ذكره، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، عن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما فلما جمع له الأشياء قال: (إني جاعلك للناس إماما) قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) قال: لا يكون السفيه إمام التقي.

* الشرح:

ص:111

قوله: (إن الله تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا - الخ) قبلية العبودية على النبوة والنبوة على الرسالة ظاهرة فإن الرسالة أرفع درجة من النبوة كما يظهر من الأحاديث في الباب الآتي والنبوة أرفع درجة من العبودية فإن أكثر الناس لهم درجة العبودية وليست لهم درجة النبوة، وأما قبلية الرسالة على الخلة والخلة على الإمامة فالوجه فيها أن الخلة قيل: هي فراغ القلب عن جميع ما سواه، والخليل من لا يتسع القلب لغيره وقد كان إبراهيم بهذه الصفة كما يرشد إليه قوله حين قال له جبرائيل (عليه السلام): ألك حاجة وقد رمي بالمنجنيق أما إليك فلا، فنفى (عليه السلام) في تلك الحالة العظيمة أن يكون له حاجة إلى غير الله تعالى ولا شبهة في أن هذه الدرجة فوق درجة الرسالة إذ كل رسول لا يلزم أن تكون له هذه الدرجة. وقيل: الخلة صفاء المودة ولا يبعد إرجاعه إلى القول الأول لأن من كانت مودته لله تعالى صافية لم تكن له حاجة إلى غيره أصلا ولا ينظر إلى سواه قطعا وإلا لكانت مودته مشوبة في الجملة.

وقيل: الخلة اختصاص رجل بشيء دون غيره، ولا ريب في أنه كان له (عليه السلام) قرب منه تعالى لم يكن لغيره وهذه الدرجة أيضا فوق درجة الرسالة. وأما الإمامة فهي أفضل من الخلة لأنها فضيلة شريفة ودرجة رفيعة وأجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها البشر بعقولهم، وقد شرف الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بها فقال: (إني جاعلك للناس إماما) بعد ما أعطاه الدرجات السابقة فمن جهة عظم الإمامة في عينه (عليه السلام) قال سرورا بها (ومن ذريتي) فقال الله تعالى إيماء إلى إجابة دعائه وتصريحا بأن الظالم في الجملة لا ينالها (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل سفيه وتقدم كل ظالم على البر التقي إلى يوم القيامة وقررتها في الصفوة. ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) فلم تزل الإمامة والخلافة في ذريته الطاهرة يرثها بعض عن بعض قرنا بعد قرن حتى ورثها الله تعالى نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) فكانت لهم خاصة فقلدها (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بأمر الله تعالى فصارت في ذريته الأصفياء الأتقياء البررة الكرماء الذين هم أولو الأمر كما

ص:112

قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) ثم طائفة من اللصوص المتغلبة الذين نشأت عقولهم وعظامهم ولحومهم في عبادة الأوثان غصبوها من أهل الصفوة فضلوا وأضلوا كثيرا.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى الخثعمي. عن هشام عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم اولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) وعلى جميع الأنبياء.

* الشرح:

قوله: (وعليهم دارت الرحى) (1) يقال: دارت رحى الحرب إذا قامت على ساقها وأصل الرحى هي التي يطحن بها والمعنى يدور عليهم الإسلام ويمتد قيام أمره على سنن الاستقامة والبعد من أحداث الظلمة الكفرة فهم بمنزلة القطب من الرحى، ويفسر هذا الحديث ما رواه المصنف في باب الشرائع من كتاب الكفر والإيمان بإسناده عن سماعة بن مهران «قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

قول الله عز وجل (فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل).

فقال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله).

قلت: كيف صاروا أولي العزم؟ قال: لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح (عليه السلام) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ

ص:113


1- 1 - قوله: «وعليهم دارت الرحى» ظاهر هذا الحديث أن كلمة أولي العزم خاصة ببعض الرسل ويحتمل كما قلنا أن جميعهم أولوا العزم وأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بالصبر كما صبر الرسل أولو العزم لا أن بعضهم لم يكونوا أولي عزم لأن نفي العزم ينافي النبوة إلا أن يتكلف في تأويله بما يخرجه عن الفصاحة. (ش)

بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فهؤلاء اولو العزم من الرسل (عليهم السلام)».

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسين، عن إسحاق بن عبد العزيز أبي السفاتج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله اتخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا، واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وأتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما فلما جمع له هذه الأشياء - وقبض يده - قال له: يا إبراهيم إني جاعلك للناس إماما، فمن عظمها في عين إبراهيم (عليه السلام) قال: يا رب ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين.

* الشرح:

قوله: (وقبض يده) لعل المراد أخذ يده (1) ورفعه من حضيض الكمالات الإنسانية إلى أوجها، هذا إذا كان الضمير في يده راجعا إلى إبراهيم (عليه السلام) وإن كان راجعا إلى الله تعالى فقبض يده كناية عن إكمال الصنعة وإتمام الحقيقة في ذاته وصفاته (عليه السلام) أو تشبيه للمعقول بالمحسوس للإيضاح فإن الصانع منا إذا كمل صنعه لشيء رفع يده عنه ولا يعمل فيه شيئا لتمام صنعته.

ص:114


1- 1 - قوله: «لعل المراد أخذ يده» ليس شيء من المعاني التي ذكرها الشارح موجها بل المراد أن الإمام (عليه السلام) لما قال: جمع الله لإبراهيم هذه الأشياء وهي الرسالة والخلة والإمامة جمع يده الشريفة علامة على جمع الأمور المذكورة فيه، فقوله «وقبض يده» يعني قبض الإمام (عليه السلام) يد نفسه. (ش)

باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وكان رسولا نبيا) ما الرسول وما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك. قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (ولا محدث).

* الشرح:

قوله: (قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك) أي النبي الذي يرى الملك في منامه أو يرى الرؤيا فيه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ويسمع صوت الملك في اليقظة ولا يعاينه، وفي الخبر الثاني، النبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، يعني ربما سمع كلام الملك في حال اليقظة من غير معاينة وربما رآه من غير سماع منه (1) وفي الثالث والرابع اقتصر بالرؤية في المنام لا يقال بين الخبر الأول والثاني منافاة من وجهين، أحدهما: أنه قال في الأول لا

ص:115


1- 1 - قوله: «وربما رآه من غير سماع منه» رؤية الملك من غير سماع معقولة ممكنة وليس من الوحي في شيء ولا دلالة فيه على النبوة وقلنا سابقا أن الرؤية بغير سماع صوت غير ممكن في تحقق الوحي ولا يخفى أن هذه الأربعة أحاديث في هذا الباب يخالف ما ورد في كثير من الأحاديث الأخر أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يرون الملائكة وهذه الأربعة متفقة على أن الإمام لا يراهم وإنما يسمع صوتهم فقط والأولى رد علم ذلك إليهم لأنه من خواص الولاية والنبوة، ليس لنا الخوض في شيء لا إحاطة لنا به كما أن العامي لا يتعقل معنى الاجتهاد ويتنافى عنده كون رجل مجتهدا أعلم ولا يعلم بعض المسائل ويكون غيره عالما به أو يكون المجتهد جاهلا ببعض العلوم كالتجويد والتفسير وأصول الدين وكذلك نحن بالنسبة إلى الإمامة، والذي لا ريب فيه أن بعض الصحابة رأوا الملك وسارة زوجة إبراهيم رأت الملائكة كما في القرآن بل رأتهم امرأة لوط وبعض فساق قومه على ما في الروايات وورد أن عمران بن الحصين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كان يسلم عليه الملائكة حتى اكتوى فلم يجيئوا ولم يسلموا عليه فكان محدثا مثل الإمام. (ش)

يعاين الملك وقال في الثاني يعاينه من غير سماع.

والثاني: أنه قال في الأول «ويرى في منامه» ولم يذكره في الثاني، لأنا نقول الوجه الاول مدفوع بأن قوله في الخبر الأول «ويسمع الصوت ولا يعاين الملك» معناه ويسمع كلامه من غير معاينة، وهذا نظير قوله في الخبر الثاني «ربما سمع الكلام» إذ معناه كما ذكرنا أنه ربما سمع كلام الملك من غير معاينة بقرينة قوله «وربما رأى الشخص ولم يسمع) وليس في الخبر الأول أنه لا يعاين الملك من غير سماع فلا منافاة من هذا الوجه، والوجه الثاني أيضا مدفوع بأن سماع كلام الملك ورؤية شخصه من غير سماع أرفع من الرؤية في المنام فوقوع ذينك الأمرين دل على وقوع هذا بالطريق الأولى، على أن المقصود من تفسير النبي هو امتيازه عن الرسول (1) والإمام وقد حصل ذلك بذكر بعض صفاته ولا يقتضي ذلك ذكر جميعها ولذلك اقتصر في الثالث والرابع بذكر الرؤية في المنام فقط فلا منافاة بين هذه الأحاديث.

ص:116


1- 1 - قوله: «امتيازه عن الرسول» لا ريب أن الامتياز بين الرسول والنبي ليس امتيازا بالتباين بل بالعموم والخصوص المطلق لأن نبينا (صلى الله عليه وآله) كان خاتم النبيين وأطلق عليه كلمة النبي في آي كثيرة في القرآن وجمع بينهما في قوله تعالى (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) والغرض في هذه الأحاديث بيان مادة الافتراق للعموم المطلق ولا يخفى لزوم قيد زائد في تعريف النبي والرسول على ما في الروايات سكت عنه فيها للوضوح بداهة أن كل من رأى الملك وسمع الصوت في اليقظة ليس نبيا كما اتفق للناس في عهده (صلى الله عليه وآله) وقبله كما أن كل من رأى السلطان وتكلم معه ليس وزيرا وأميرا بل النبي والرسول هو الذي رأى أو سمع وأمره الله تعالى بتبليغ أمر أو نهي على نحو يلزم به الحجة على السامعين والمخاطبين ويكون مستقلا فيما أمر بتبليغه لا على نحو القيد والتفسير كالأئمة (عليهم السلام). وامتياز النبي عن الإمام بمقتضى الروايات أن النبي يرى في النوم والإمام لا يرى، وأما في سماع الصوت فلا فرق بينهما وفي معاينة الملك اختلفت الروايات ففي بعضها يعاين الإمام وفي بعضها لا يعاين على ما قلنا، وليس الرؤية في المنام فضلا بل هي أدون من سماع الصوت في اليقظة على ما مر في باب طبقات الأنبياء إلا أن يقال الرؤية وان كانت في النوم أفضل من السماع وإن كان يقظة ولذلك اختصت بالأنبياء وهو بعيد، وفي رواياتنا أن أوصياء خاتم النبيين أفضل من الأنبياء فيشكل كون الأنبياء مفضلين بشيء لا يحصل لهم، وفي بعض الروايات أن مرتبة الإمامة أعلى من مرتبة النبوة والحق إرجاع هذه الأمور إليهم والتوقف فيها والاكتفاء بما نفهمه من متبادر اللفظ وهو أن النبي مأمور بتبليغ الأحكام والشريعة والأئمة بتنفيذها وتفسيرها، وأما كيفية ارتباطهم مع الله والفرق بين ارتباطه وارتباطهم فهم أعلم به ونعلم بالإجمال أن كل من رأى ملكا من الملائكة أو سمع صوتا حقا أو ألهم اليه معنى ليس نبيا ولا إماما إذا لم يؤمر بوجه تمت به الحجة بتبليغه والعمل به ولم يقارن بآية تدل على صدقه إذ قد اتفق هذه الأمور لجماعة على ما ورد في الروايات، ونعلم أن لا نبي بعد خاتم الأنبياء ولا إمام غير الأئمة الاثني عشر وأن كل من ادعى شيئا من ذلك فدعواه باطلة. (ش)

قوله: (والرسول هو الذي يسمع الصوت - الخ) أي الرسول الذي يسمع صوت الملك في اليقظة من غير معاينة ويراه أو يرى الرؤيا في المنام ويرى الملك مع سماع منه فاعتبر في هذا الخبر في النبي ثلاث خصال واعتبر في الخبر الثاني خصلتين معاينة الملك مع السماع منه والرؤية في المنام، وفي الخبر الثالث والرابع خصلة واحدة هي رؤية الملك مع سماع منه، ولا منافاة بين هذه الأخبار لأن المقصود هو امتياز الرسول عن النبي مع سماع منه، ولا منافاة بين هذه الأخبار لأن المقصود هو امتياز الرسول عن النبي والإمام، وقد حصل بذكر أخص صفاته أعني معاينة الملك والسماع منه على أن في الثلاثة الأخيرة إشارة إلى اعتبار ما اعتبره في الأول بطريق الأولوية كما مر.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن الأحول قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدث، قال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة وكان محمد (صلى الله عليه وآله) حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلا ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة. وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه.

* الشرح:

قوله: (قبلا) يقال: رأيته قبلا بفتح القاف والباء وضمهما وضم الاول وفتح الثاني وكسر الأول وفتح الثاني أي مقابلة وعيانا.

قوله: (ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب البنوة قبل الوحي) هذا صريح في أن الرؤيا المتقدمة على إتيان جبرئيل (عليه السلام) ليست وحيا. وقد صرح به بعض العامة أيضا; نعم هي شبه الوحي في الصحة إذ لا مدخل للشيطان فيها وإنما الرؤية التي هي وحي ما كان بعد الإرسال وإنما بدأ بالرؤيا قبل الوحي لأن فجأة الملك وصريح الوحي لا تطيقه القوى البشرية فبدأ بها ليأنس ويستعد

ص:117

لعظم ما اريد منه حتى لا يأتيه الملك إلا بعد تمهيد مقدماته. قال السهيلي أنواع الوحي (1) سبعة:

الأول: الرؤيا الصادقة لقوله تعالى (يا أبت افعل ما تؤمر)، الثاني: النفث في الروع لقوله (صلى الله عليه وآله): «إن روح الأمين نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب (2)، الثالث: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليه وكان كذلك ليستجمع عنده تلك الحالة فيكون أدعى لما يسمع، الرابع: أن يمثل له الملك رجلا كما كان يأتيه في صورة دحية الكلبي. وكان دحية حسن الهيئة وحسن الجمال، الخامس: أن يتراءى له جبرئيل (عليه السلام) في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ينتثر منها اللؤلؤ والياقوت، السادس: أن يكلمه الله تعالى من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء. السابع: ما ثبت أن إسرافيل وكل به (صلى الله عليه وآله) ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ثم وكل به جبرئيل فجاءه بالقرآن.

قوله: (وحين جمع له النبوة - الخ) أي حين جمع له أسباب النبوة من الرؤية في المنام وسماع الصوت من غير معاينة وغيرها مما أوحاه جبرئيل (عليه السلام) وكلمه عيانا ومواجهة فهو نبي ورسول. ومن الأنبياء من جمع له أسباب النبوة ولم يعاين الملك في اليقظة فهو نبي وليس برسول، فالرسول أخص مطلقا من النبي.

* الأصل:

4 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن حسان عن ابن فضال، عن علي بن يعقوب الهاشمي، عن مروان بن مسلم، عن بريد، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (ولا محدث).

قلت: جعلت فداك ليست هذه قراءتنا فما الرسول والنبي والمحدث؟ قال: الرسول: الذي يظهر له الملك فيكلمه، والنبي: هو الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد،

ص:118


1- 1 - قوله: «قال السهيلي» في الروض الآنف شرح سيرة ابن هشام وتسبيعه الأقسام لا ينافي ما مر في تفسير الآية الكريمة (وما كان لبشرا أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) لأن الأول والثاني من الأقسام السبعة داخلان في قوله تعالى «وحيا» والثالث والسادس في قوله (أو من وراء حجاب) والرابع والخامس والسابع في قوله تعالى (أو يرسل رسولا). (ش)
2- 2 - رواه الكليني في الكافي كتاب المعيشة باب الإجمال في الطلب.

والمحدث: الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق وأنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء.

* الشرح:

قوله: (يوفق لذلك حتى يعرفه) (1) معنى التوفيق هنا خلق القدرة على تمييز الخطأ عن الصواب، وأعلم أن رؤيا الأنبياء (عليهم السلام) لازمة الوقوع لأنها صادقة حق لا أضغاث أحلام ولا تخيل ولا مدخل للشيطان وخبث الظاهر والباطن فيها. وأما رؤيا غيرهم فقد تصدق وقد لا تصدق، والصادق جزء من خمسة وأربعين جزءا ومن سبعين جزءا من النبوة على ما دلت عليه الأخبار.

قوله: (لقد ختم الله بكتابكم الكتب - الخ) أجمعت الامة سلفا وخلفا على أن محمدا (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء وآية الأحزاب والروايات المتظافرة نصوص في ذلك. وما ذكره بعض المخالفين من تجويز

ص:119


1- 1 - قوله: «يوفق لذلك حتى يعرفه» شبهة كانت تختلج في ذهن الناس على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده وأجيب عنها في القرآن وذلك لأنهم غالبا لم يكونوا يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله) في رؤيته صورة وسماعه وصوتا بالأمر والنهي ولكن كانوا يقولون من أين يعلم أن ما يراه حق واقع بل هو خيال باطل يتمثل له كما يتمثل للمصروعين والمبرسمين كذلك الرؤيا في المنام قد تكون حقا وقد تكون باطلا لكن محمدا اشتبه عليه الأمر فزعم ما ليس بحق حقا وقال الله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى) وقد كانت الملاحدة يعودون الناس الحشيش يشربونه فيتمثل في أذهانهم صور غير واقعة حتى يتمكن في خاطرهم إمكان رؤية شيء غير حقيقي ثم لا يتعجبون من دعواهم حصول مثل ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) والتحقيق أنه كما يمكن تمثل شيء لا حقيقة له في الحس المشترك كالشعلة الجوالة كذلك يمكن تمثل شيء حقيقي وليس الامتياز بين الحقيقة وغيرها أن الحقيقي يشترك في ادراكه كل الناس وغير الحقيقي يختص به أحدهم كما توهم وذلك لأن الشعلة الجوالة يشتركون في إدراكها ولا حقيقة لها والرؤيا الصادقة التي لها تعبير كرؤيا فرعون سني القحط كانت لها حقيقة واختص هو برؤيتها، وكما أن الإنسان يدرك بالوجدان حال اليقظة أنه يقظان وليس نائما ويدرك الأشياء حقيقة كذلك كان الأنبياء يدركون أمورا ويعرفون أنها حق واقع بالعلم الضروري وكان الله تعالى يقرن وحيه بآيات تدلهم وغيرهم كما إذا ألهم أحد بأن زيدا يجيء غدا في الساعة المعينة فجاء في تلك الساعة وتكرر مثله مرة أو مرات حصل له العلم بصحة إلهامه وميز بينه وبين الخاطر والمجهول المبدأ وربما يحاسب المحاسب ويتيقن بصحة حسابه وإن كان قد يخطئ ولكن لا يشك في صحة هذا الحساب فكيف الأنبياء وهم قد علموا أن الله تعالى يحفظهم من شوب الباطل بالحق وظهور الكاذب في صورة الصادق وأن ما يرونه ليس خيالا حاصلا في ذهنهم من غير أن يكون له مبدأ في الخارج بل له مبدأ خارجي حصل الصورة في ذهنهم بتأثير ذلك المبدأ وما ورد من قوله (فإن كنت في شك مما أنزلنا) فهو مأول بما ذكر في التفاسير. (ش)

الاحتمال في ألفاظها ضعيف، وقيل: ما ذكره الغزالي في الاقتصاد فإلحاد وتطرق خبيث إلى تشويش في عقيدة المسلمين في ختمه النبوة (صلى الله عليه وآله)، وقال بعضهم: ليس في كلام الغزالي ما يوهم ذلك وإنما رماه به حساده ولقد جار عليه ابن عطية في ذلك، والغزالي منزه عنه وقد تبرأ عن هذه المقالة في كتبه لأنه إنما يقول المبتدعة القائلون بأن النبوة مكتسبة واحتجوا على ذلك بما وقع في حديثهم الطويل من زيادة قوله «وسيكون بعدي ثلاثون كلهم يدعي أنه نبي ولا نبي بعدي إلا من شاء الله» قيل هذه الزيادة إنما زادها محمد بن سعيد الشامي المصلوب على الزندقة وإنما زادها لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة، ولم تحفظ إلا من طريقه وتأولها بعضهم لو صحت بعيسى (عليه السلام) للإجماع والأخبار على نزوله وهو ضعف على ضعف لأنه لا ينزل رسولا إلى الأرض حينئذ.

ص:120

باب ان الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بامام

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبن أبي عمير، عن الحسن ابن محبوب، عن داود الرقي، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف.

* الشرح:

قوله: (إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف) لعل المراد أن حجته تعالى على الخلق يوم القيامة بأنك لم اعتقدت هذا؟ ولم قلت هذا؟ ولم فعلت هذا؟ ولم تفعل ذاك؟ لا يتم إلا بسبب نصب إمام يبين لهم العقليات والعمليات لظهور أن عقول البشرية لا تستقل بتعيين العقائد والأعمال.

وقوله: «حتى يعرف» إما بتشديد الراء يعني حتى يعرف الإمام ما ينبغي من العقائد والأعمال.

أو بتخفيفها على البناء للمفعول أي حتى يعرف الإمام أو الحق والباطل وفي بعض النسخ «حي» وفي بعضها «حق» بدل حتى.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن خلف بن حماد، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق.

* الشرح:

قوله: (الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق) الحجة قبل الخلق في الميثاق، ومع الخلق في هذه الدار، وبعد الخلق في دار الآخرة والبرزخ، ويحتمل أن يراد بالحجة قبل الخلق آدم وبالحجة بعد الخلق الصاحب المنتظر لأنه آخر من يموت وبالحجة مع الخلق سائر الأنبياء

ص:121

والأوصياء. وبالجملة هذا الحديث يفيد أنه لابد لله تعالى من حجة على الخلق حتى أن لزمانهم بداية ونهاية وما بينهما لا يخلو منه فمن زعم أن الزمان خال منه فهو ضال مضل وميتته ميتة جاهلية.

باب أن الأرض لا تخلو من حجة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا، قلت: يكون إمامان؟ قال: لا إلا وأحدهما صامت.

* الشرح:

قوله: (قلت: يكون إمامان؟ قال: لا - الخ) في طريق العامة أيضا ما يدل على اعتبار الوحدة في الإمام، قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال وحديث «إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما» يدل على أن شرطها الوحدة وعدم التعدد، وقال بعضهم: إن هذا الشرط إنما هو بحسب الإمكان فلو بعد موضع إمام حتى لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة جاز نصب غيره بذلك القطر.

وفيه إن الكلام في خليفة الأصل وإلا فيجوز التعدد في نائبه قطعا، اللهم إلا أن يقول ذلك القائل:

إنه يجوز لأهل الأقطار البعيدة أن ينصبوا لأنفسهم خليفة كما نصبوا أولا، وفي شرح نهج البلاغة أن في آخر الزمان لا يكون في كل وقت وزمان إلا إمام واحد وأما الأنبياء والأوصياء في الزمن الأول كانوا في عهد واحد جماعة كثيرة وفي آخر الزمان مذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قيام الساعة لا يكون في كل حين إلا وصي واحد (1).

ص:122


1- 1 - «إلا وصي واحد» وقد علمنا بالتجربة والتاريخ أن الحكومة تتدرج إلى السعة والعظم من أول عصر الخليفة إلى زماننا فقد كان في الأعصار القديمة في ناحية كالشام ملوك كثيرة وكان أعظم ملك في القديم مصر وأعظم ملوكهم الفراعنة ثم ملك العراق وهم الكلدانيون وبعد ذلك عظم الحكومات واتسع الدول فكان الروم وفارس أعظم من كل ملك قبلهما، ثم ملك الإسلام وكان أعظم من ملك الروم وفارس، ثم وجد دول في الأعصار الأخيرة عظيمة جدا والناس يميلون إلى قبول حكومة واحدة لجميع أهل الأرض ولذلك أسسوا مجلس الأمم وهي أحسن من قبول حكومات متعددة متنافرة كل يجر الناس إلى قرصه ويسعى في جلب نفع أمته والاستئثار بنعم الله تعالى دون غيره ولو كان حكم واحد ساريا وامام واحد في جميع أقطار الأرض ينظر على السواء إلى جميع الأجناس والأمم من العرب والعجم والأسود والأبيض ولا يرجح شعبا على شعب وأمة على أمة كما هو مذهبنا فهو أحسن وأعدل وأوفر نعمة وأقوى مقدرة وأقل فتنة عجل الله فرجه وسهل مخرجه إذ لا يمكن حصوله لغيره مع اختلاف الآراء وتشتت الأهواء. (ش)

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن منصور بن يونس، وسعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا شيئا أتمه لهم.

* الشرح:

قوله: (إن الأرض لا تخلوا إلا وفيها إمام) أي لا تخلو من الخلق من الخلو وهو الخالي، أو لا تمضي من خلا فلان إذا مضى، أو لا تكثر نباتها ولا تنبت حشيشها من أخلت الأرض إذا كثر خلاها وهو النبات الرطب.

قوله: (كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم) الظاهر أن المراد بالمؤمنين كلهم ففيه دلالة على أن إجماعهم حجة وإلا لزم أن يترك الإمام ما وجب عليه وهو باطل قطعا.

قوله: (عن ربيع بن محمد المسلي) هو ربيع بن محمد بن عمر بن حسان الأصم المسلي، ومسلية قبيلة من مذحج، روى عن أبي عبد الله (عليه السلام).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن ربيع بن محمد المسلي، عن عبد الله بن سليمان العامري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة، يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله.

* الشرح:

قوله: (ما زالت الأرض إلا والله فيها الحجة - الخ) أي ما زالت الأرض من حال إلى حال وما مضى عصر من الأعصار أو ما زال أهلها إلا والحال أن لله تعالى فيه حجة والغرض أن له تعالى في الأرض بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) إلى وقت زوالها حجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله

ص:123

ويجذبهم إلى طاعته وانقياد أمره ونهيه كيلا يقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين).

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهم السلام) قال: قال: إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل.

* الشرح:

قوله: (لم يعرف الحق من الباطل) الظهور إلف النفس بالمحسوسات والوهميات والمتخيلات المؤذية إلى الباطل والشبهات فلو لم يكن استاد مرشد مؤيد من عند الله تعالى بالعصمة عن الخطأ والغلط في العقائد والأقوال والأعمال من جميع الوجوه لمال كل نفس إلى هواها والتبس عليه الحق والباطل، فربما يعتقد أن الحق باطل والباطل حق كما ترى في كثير من المتكلين بعقولهم من الحكماء والمتكلمين، هذا على فرض بقاء الأرض وأهلها بغير إمام وإلا فالحق الثابت أنه لا بقاء لهما بدونه طرفة عين.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل) وهو الحجة لله تعالى على الخلق كما قال جل شأنه (لئلا يكون للناس على الله حجة) وأعلم أن الإمامية تمسكوا على وجوب وجود الإمام من قبله تعالى بعد الآيات والروايات المنقولة من طرق العامة والخاصة البالغة حد التواتر معنى بأنه إذا كان للخلق رئيس قاهر يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعات وأبعد عن المعاصي منهم بدونه واللطف واجب على الله تعالى، واعترض عليهم المخالفون وقالوا: إنما يكون لطفا واجبا إذا كان ظاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على

ص:124

تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء كلمة الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب. وإلامامية أجابوا عن ذلك بأن وجود الإمام لطف (1) سواء تصرف أو لم يتصرف كما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا يبطل حجج الله وبيناته» وتصرفه الظاهر لطف آخر. والحق أن الرئيس العالم العادل المتصرف لطف من الله تعالى به على عباده وإنما جاء عدم التصرف من سوء آدابهم كما أن النهي عن شرب الخمر مثلا لطف صدر منه تعالى وإنما جاء عدم قبوله من قبل العبد على ان عدم تصرفه ممنوع لأن له تصرفات عجيبة في نوع الإنسان وتدبيرات غريبة في عالم الإمكان يرى ذلك من له عين صحيحة وطبيعة سليمة.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي اسامة، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي اسامة، وهشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق، عمن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة على خلقك».

* الشرح:

قوله: (اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك) لا تخلي: من الإجلاء أي لا تجعلها خالية منه، وهذا الكلام في اللفظ إخبار وفي المعنى انشاء للتأسف بإعراض الخلق عنه أو للشكاية منهم إليهم تعالى.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أبي علي بن راشد قال:

ص:125


1- 1 - قوله: «وجود الإمام لطف» ذكرنا لتقريب الذهن إلى التصديق بذلك سابقا أن الله تعالى خلق جميع ما يحتاج اليه الناس في معاشهم ومعادهم سواء كانت البيئة مستعدة للاستفادة منه أو لا كمن يستعد فكره للعلم وأنواع الصنائع والحرف، فإن كانوا مستعدين لقبوله ظهر واشتهر وإلا خمل وانغمر، والإمام المعصوم من أهم ما يحتاج إليه الناس لأن الحكومة والإمامة من أهم المشاغل والمناصب ولا يتعقل أن يهمل الله العليم الخبير اللطيف الذي لم يهمل سائر أمورهم أمر الحكومة والإمامة سواء قبله الناس أو أعرضوا عنه ولم يستفيدوا منه ولو لم يخلقه الله تعالى كانت الحجة للناس على الله تعالى وإذا خلقه كانت الحجة له تعالى على الناس. (ش)

قال أبو الحسن (عليه السلام): إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة.

* الشرح:

قوله: (إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة) اريد أن الأرض في الحال لا تخلو من حجة بدليل قوله «أنا والله ذلك الحجة» ولو اريد جميع الأزمنة لاحتيج في هذا القول إلى تأويل وإنما أكد الحكم بالقسم لرفع الشك عن الشاك وزيادة التقرير للمقر.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.

* الشرح:

قوله: (لساخت): أي لغاصت في الماء وغابت، ولعله كناية عن هلاك البشر وفنائهم (1)،

ص:126


1- 1 - قوله: «ولعله كناية عن هلال البشر» أنكر السيد المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي أن يكون مذهب الإمامية زوال الأرض وهلاكها تكوينا أما قولهم «لولا الحجة لساخت الأرض» فإن ثبت صدوره من الإمام المعصوم كان المراد الفتنة والضلال وهلاك الناس بزوال الأمن والسعادة لأن عدم وجود الإمام العادل المتصرف إما أن يكون بعدم وجود أمير مطلقا وفساد ظاهر، وإما بوجود جائر أو جاهل وهو مثله. وقد بحث في هذه المسألة بعض الفلاسفة وفي كتاب السياسة المدنية للفارابي البحث عن أنواع المدينة وأقسام الحكومات وذكر شروط المدينة الفاضلة وآراء أهلها وأخلاقهم، وقال: الرئيس الأول من هو على الإطلاق هو الذي لا يحتاج في شيء أصلا أن يرأسه إنسان بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل ولا تكون به حاجة في شيء إلى إنسان يرشده وتكون له قدرة على وجوه إدراك شيء مما ينبغي أن يعمل من الجزئيات وقوة على جودة الإرشاد لكل من سواه إلى كل ما يعلمه وقدرة على استعمال كل من سبيله أن يعمل شيئا ما في ذلك العمل الذي هو معد نحوه وقدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السعادة جودة، وإنما يكون ذلك في أهل الطبائع العظيمة الفائقة إذا اتصلت نفسه بالعقل الفعال وإنما يبلغ ذلك بأن يحصل له أولا العقل المنفعل، ثم أن يحصل له بعد ذلك العقل الذي يسمى المستفاد فبحصول المستفاد يكون الاتصال بالعقل الفعال على ما ذكر في كتاب النفس وهذا الإنسان هو الملك بالحقيقة عند القدماء وهو الذي ينبغي أن يقال فيه أنه يوحى إليه فإن الإنسان إنما يوحى اليه إذا بلغ هذه الرتبة - إلى آخر ما قال. ونقلنا كلامه بعين ألفاظه، ثم قال: والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار السعداء فإن كانوا أمة فتلك هي الأمة الفاضلة وإن كانوا اناسا يجتمعون في مسكن واحد كان ذلك المسكن الذي يجمع جميع من تحت هذه الرئاسة هو المدينة الفاضلة. ثم قال بعد ذلك: والمدينة الفاضلة تضادها المدينة الجاهلة والمدينة الفاسقة والمدينة الضالة، ثم البهيميون بالطبع والفرض من نقل كلامه أن يعلم تطابق النقل والعقل على صحة مذهب الشيعة في الإمامة. (ش)

ويحتمل أن يريد الحقيقة لأن الغرض الأصلي من انكشاف بعض الأرض هو أن يكون مسكنا لهم وكونه مسكنا لغيرهم من الحيوانات المتنفسة إنما هو بالعرض فإذا فات الغرض الأصلي عاد إلى وضعه الطبيعي.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا، قلت: فإنا نروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله تعالى على أهل الأرض أو على العباد فقال: لا، لا تبقى إذا لساخت.

* الشرح:

قوله: (أو على العباد) الشك من ابن فضيل (1) أو ممن روى عنه.

قوله: (قال: لا، لا تبقى إذا لساخت) نفى بلا ما يفهم من كلام الراوي من أن الأرض تبقى بغير إمام وأهلها مبغوضين ثم بين الأمر بأنها لا تبقى بغير إمام بل تغوص في الماء.

* الأصل:

12 - علي عن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن أبي هراسة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله.

* الشرح:

قوله: (لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله) ماج البحر يموج موجا اضطربت أمواجه وكذلك الناس يموجون. شبه اضطراب الأرض وأهلها بموج البحر وأهله للايضاح وكنى به عن زوالها وزوال أهلها لأن الاضطراب المذكور يستلزمها والباء في الموضعين للتعدية أو بمعنى مع.

ص:127


1- 1 - قوله: «الشك من ابن الفضيل أو ممن روى عنه» لا فائدة في هذه الحاشية لأن الشك لابد أن يكون من أحد الرواة. (ش)

باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن الطيار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة.

* الشرح:

قوله: (لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة) نظيره من طرق العامة ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» وذلك لأنه كما يحتاج الناس إلى الحجة من حيث الاجتماع لأمر له مدخل في نظامهم ومعاشهم كذلك يحتاجون إليه من حيث الانفراد لأمر له مدخل في معرفة مبدأهم ومعادهم، وعلى هذا لو فرض انحصار الناس في اثنين لوجب احتياج أحدهما إلى الآخر وهو الإمام للأول وفيه دلالة على أنه لا يجتمع إمامان في عصر كما مر.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عمن ذكره، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن جعفر بن محمد، عن كرام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام، وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل أنه تركه بغير حجة لله عليه.

* الشرح:

قوله: (لئلا يحتج أحد على الله عز وجل) إشارة إلى أن الدليل على ذلك قوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة) إذ كما أن للكثير حجة على الله تعالى على تقدير عدم الإمام كذلك للواحد حجة عليه على هذا التقدير.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي. عن علي بن إسماعيل، عن ابن سنان، عن

ص:128

حمزة بن الطيار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة - أو الثاني الحجة - الشك من أحمد بن محمد -.

* الشرح:

قوله: (الشك من أحمد بن محمد) لعله الأظهر وإلا فيحتمل (1) أن يكون من ابن الطيار وفيه دلالة على اهتمامهم بنقل المعنى بلفظ المسموع. (2).

ص:129


1- 1 - قوله: «لعله الأظهر وإلا فيحتمل» كلام الشارح هنا خارج عن طريقة المحدثين وأصحاب النقل مطلقا لأن قول صاحب الكتاب فيما نقله لا يعارض احتمال غيره وإلا فيمكن أن يحتمل أن تكون الرواية عن محمد بن إسماعيل عن ابن أبي عمير عن حمزة بن ثوبان قال: سمعت عن أبي إبراهيم، ولكن صاحب الكتاب رواه عن علي بن إسماعيل عن ابن سنان عن حمزة بن طيار قال: سمعت عن أبي عبد الله ويحتمل أن يسهو فيه وهذا لا يقبل من مدعيه. (ش)
2- 2 - قوله: «بنقل المعنى باللفظ المسموع» وكذلك يدل على عدم إمكان ذلك وعدم موفقيتهم وقد سبق في المجلد الثاني أن نقل الحديث بالمعنى متفق عليه. (ش)

باب معرفة الإمام والرد اليه

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله (صلى الله عليه وآله) وموالاة علي (عليه السلام) والائتمام به وبأئمة الهدى (عليهم السلام) والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم هكذا يعرف الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (إنما يعبد الله من يعرف الله) أي من يعرفه على وجه يليق به ووجه الحصر ظاهر لأن من لم يعرفه أصلا كالملاحدة لا يعبده ولا يتصور عبادته ومن عرفه لا على وجه يليق به كالمجسمة والمشبهة والمصورة ومنكر الولاية فهو ضال يعبد إلها غير مستحق للعبادة ويضع اسم الله تعالى والعبادة في غير موضعهما كما أشار إليه بقوله «فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا» ولعل «هكذا» إشارة إلى أهل الخلاف أو إلى الشمال لأن الضال من أصحاب الشمال أو إلى الخلف لأن المقبل إلى ما يقابل المطلوب وصفه بالضلالة أحرى وأجدر ونعته بالغواية أقوى وأظهر، والضلال: الضياع والهلاك. يقول: ضل الشيء يضل ضلالا إذا ضاع وهلك، وخلاف الرشاد، وهو إما تمييز عن نسبة في «يعبده» أو حال عن فاعله على سبيل المبالغة أو على جعل المصدر بمعنى الفاعل.

قوله: (وموالاة علي) عطف على التصديق، والموالاة ضد المعادات. وفيه تصديق بولايته مع زيادة هي المحبة البالغة له.

قوله: (والائتمام به) أي الاقتداء به في عقائده وأعماله وأقواله. وفيه دلالة على أن العمل معتبر في تحقق المعرفة وهو كذلك لأن من لم يمتثل بأوامره ولم ينزجر عن نواهيه فهو ليس من أهل العلم والمعرفة كما قال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

* الأصل:

ص:130

2 - الحسين عن معلى، عن الحسين بن علي، عن أحمد بن عائذ، عن أبيه، عن ابن اذينة قال:

حدثنا غير واحد، عن أحدهما (عليهم السلام) أنه قال: لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له، ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول.

* الشرح:

قوله: (ويرد إليه ويسلم له) أي يرد إليه المشكلات ويرجع إليه في المعضلات ثم يسلم له في كل ما يقول ويصدقه في كل ما ينطق وإن لم يظهر له وجه الحكمة والمصلحة، لعلمه بأنه عالم بجميع ما أنزله الله على رسوله، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).

قوله: (كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول) لعل المراد بالأول هو الله ورسوله وبالآخر هو الإمام. وفيه رد على المخالفين حيث قالوا: عرفنا عليا بأنه إمام مفترض الطاعة وهم لم يعرفوا الله ورسوله لأنهم عرفوا إلها لم يأمر بخلافة علي ولم يجعله حجة بعد رسوله وعرفوا رسولا لم ينص بخلافة علي ولم يصرح بإمامته بعده، والإله الموصوف بهذه الصفات ليس بإله، والرسول المنعوت بهذه النعوت ليس برسول، فهم لما لم يعرفوا الأول لم يعرفوا الآخر، ويحتمل أن يكون المراد بالآخر إمام الزمان وبالأول الأئمة قبله، يعني كيف يعرف الآخر من لم يعرف الأول والحال أن إمامة الآخر تثبت بنص الأول وهذا أظهر والأول أنسب ببعض أحاديث هذا الباب.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: إن الله عز وجل بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا واجبة ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما؟! قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب على اولئك حق معرفتكم؟ قال: نعم أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا؟ قلت:

بلى، قال: أترى أن الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان، لا والله ما ألهم المؤمنين حقنا إلا الله تعالى.

ص:131

* الشرح:

قوله: (على جميع الخلق) بحيث لا يشذ منهم واحد سواء آمن بالله وبرسوله أو لم يؤمن.

قوله: (فقال: إن الله بعث) حاصل الجواب أن معرفة الرسول واجبة على الخلق كلهم وأما معرفة الإمام منا فإنما يجب على من آمن بالله ورسوله لثبوت الإمام بأمرهما. وأما من لم يؤمن بهما فإنما يجب عليه أولا معرفتهما والإيمان بهما فإذا عرفهما وآمن بهما وجب عليه معرفة الإمام منا والإيمان به لما عرفت فقد لاح منه أن الإمام حجة من قبلهما وإذا كان كذلك وجب الرد إليه والتسليم له كما وجب الرد إليهما والتسليم لهما فافهم.

قوله: (فمن آمن) إلى قوله: «واجبة عليه» هذه الشرطية دلت على لزوم وجوب معرفة الإمام على كل من آمن بالله وبرسوله لأن الإيمان بهما لا يتحقق إلا بمعرفتهما وبالإقرار بجميع ما أنزل إلى الرسول وما جاء به ومما أنزل إليه وجاء به ولاية الإمام، ويلزم من ذلك أن من لم يعرف الإمام لم يؤمن بالله وبرسوله لفقد ذلك الإقرار المعتبر في حقيقة الإيمان بهما، ولتعلق معرفته حينئذ بالله ورسوله اخترعهما بزعمه كما مر آنفا.

قوله: (ومن لم يؤمن بالله وبرسوله) دلت هذه الشرطية على أن من لم يؤمن بالله وبرسوله لا يجب عليه معرفة الإمام وإنما يجب عليه أولا وبالذات معرفتهما والإيمان بهما، ثم يجب عليه بعد ذلك معرفة الإمام.

قوله: «وهو لا يؤمن» بيان للملازمة توضيحه أن وجوب معرفة الإمام فرع لمعرفتهما (1) والإيمان بهما لثبوت ذلك من قولهما، وانتقاء الأصل يوجب انتفاء الفرع، فالواجب عليه أولا معرفة الأصل والإيمان به فإذا تحقق ذلك وجب عليه معرفة الفرع.

وقوله: «ويعرف حقهما» في الموضعين عطف على المنفي إلا أنه في الأول مجزوم وفي الآخر

ص:132


1- 1 - قوله: «فرع لمعرفتهما» قد عرفت أن ما يسمى بالقوة المقننة والمجرية في اصطلاح زماننا ليس مفوضا إلى العباد يضعون الأحكام كيف شاؤوا وينصبون لإجرائه من أرادوا. هذا مذهبنا، وفي مذهب أهل السنة التشريع من الله تعالى ومجريه من نصوبه للإمامة منهم، وفي مذهب النصارى والملاحدة جعل الأحكام وإجرائها على الناس عقلائهم وأهل الحنكة منهم وقد سبق في الروايات ويأتي ما يدل على مذهبنا، والدليل العقلي عليه أيضا كما سبق ونقلنا عن الفارابي ما يؤيده وعلى هذا فمعرفة الإمام (عليه السلام) وهو من فوض إليه من الله تعالى أمر إجراء الأحكام الإلهية وتفسير المتشابهات منها متفرعة على جعل أصل الشريعة من الله تعالى، والاعتراف بصدق الرسول في تبليغها فمن لم يؤمن بالله تعالى وبرسوله ولم يصدق بشريعته لا يؤمن بالإمام قهرا وليس المراد عدم وجوب معرفة الإمام شرعا على الكفار بل كما هم مأمورون بالإيمان بالتوحيد والرسالة مأمورون بالإيمان بالإمامة ولكن لا يتمشى منهم هذا إلا بعد الإيمان بذينك. (ش)

مرفوع.

قوله: (قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن) لا موقع لهذا السؤال (1) بعد الشرطية الاولى، اللهم إلا أن يحمل ذاك على الماضي والحال وهذا على الاستقبال فكأنه يسأل عن وجود الحجة ووجوب معرفته على كل من يؤمن بالله وبرسوله إلى يوم القيامة.

قوله: (أليس هؤلاء - الخ) الاستفهام لتقرير المخاطب على المنفي وهذا الكلام إما متصل بما قبله لبيان أن الامة اتفقوا على وجوب معرفة حق الإمام إلا أن هؤلاء أخطاؤا في تعيينه لإغواء الشيطان والمؤمنون أصابوا الإلهام الرحمن. أو استئناف لدفع ما عسى يختلج في قلب المخاطب من أنه إذا وجب على كل من آمن بالله وبرسوله أن يعرف الإمام منكم لوجود النص منهما فيكم فكيف عرف هؤلاء إماما من غيركم وتوضيح الدفع أن ذلك إنما هو من إغواء الشيطان ونفثه في قلوبهم كما هو دأب الخبيث في إضلال الناس لا من إلهام الله تعالى وإنما ألهم الله تعالى حقنا في قلوب المؤمنين الذين آمنوا بالله برسوله وبجميع ما أنزل إليه. وفيه تنبيه على أن هؤلاء ليسوا بمؤمنين وقد مر وجه ذلك.

ص:133


1- 1 - قوله: «لا موقع لهذا السؤال» كأن السائل استبعد أن تكون معرفة الإمام واجبة والمسلمون جميعا مع اقرارهم بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وبالشريعة التي أتى بها لم يعرفوا هذا الأمر الواجب وخفى عليهم مع كونه من أعظم الواجبات ولو كان كذلك لكان وجوبه عليهم أظهر من الصلاة والزكاة والحج ولتكرر ذكره في القرآن كما تكرر الصلاة والزكاة فسؤال السائل سؤال تعجب كما نرى من عوام زماننا يقولون لو كانت خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأصول بل من أهم الفروع لورد التصريح بها في القرآن نصا يزيل الشبهة بحيث لم يسهل تأويلها على المخالفين فأجاب الإمام (عليه السلام) بقوله نعم أليس هؤلاء يعرفون يعني أن أمر الاحتياج إلى إمام يقيم الدين كان من الوضوح بحيث يعترف به الإنسان فطرة وليس أمرا مشتبها متوقفا على التكرار والتأكيد ولذلك اعترفوا بإمامة أئمتهم ألا ترى أنه لو أمر في القرآن مكررا في كل سورة بأن من درن ثيابه ووسخ بدنه غسله، أو أن من مرض رجع إلى الطبيب الحاذق ومن خرب داره أو بستانه لزمه الرجوع إلى البناء والغارس لخرج عن الفصاحة بحيث دل على عدم كونه وحيا من الله تعالى كما في الكتب التي فيها أمثال هذه الأوامر وإنما احتجنا نحن إلى التكرار والتأكيد لتعصب الخلفاء وأهل السياسة فرب أمر ظاهر يحتاج إلى توكيد التوضيح ألا ترى أنا نعقد أبوابا لاثبات أن الحسن والحسين (عليهم السلام) من أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونرد فيها أحاديث وروايات من طرق العامة والخاصة في ذلك مع أنا لا نعقل أمرا أوضح منه فحاصل جواب الامام (عليه السلام) أن وجوب معرفة الإمام بعد إثبات الشريعة مركوز في أذهان الناس وإن أخطاؤا في تطبيق الإمامة على من لا يستحق. وفي الحديث التالي «ومن لا يعرف الله عز وجل ويعرف الإمام منا أهل البيت» يدل على عدم انفكاك معرفة الله تعالى عن معرفة الإمام قهرا ارتكازا لأن الله يأمر وينهى والإمام يفسر ويجري ولذلك ضم قوله يعرف الإمام إلى قوله لا يعرف الله بواو المعية بتقدير أن ومثل هذه يستعمل في الحكم المتوقف على الشيئين معا نحو استوى الماء والخشبة. (ش)

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن وهب، عن ذريح قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما ثم كان الحسن إماما، ثم كان الحسين إماما، ثم كان علي بن الحسين إماما، ثم كان محمد بن علي إماما، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: قلت: ثم أنت جعلت فداك؟ فأعدتها عليه ثلاث مرات، فقال لي: إني إنما حدثتك لتكون من شهداء الله تبارك وتعالى في أرضه.

* الشرح:

قوله: (من أنكر ذلك) يعني أنكر ذلك كله أو بعضه كان كمن أنكر معرفة الله ومعرفة رسوله لأن معرفتهم لازمة لمعرفتهما شرعا وإنكار اللازم يوجب إنكار الملزوم.

قوله: (ثم أنت جعلت فداك) الظاهر أن هذا الكلام إخبار بإذعانه وتصديقه بإمامته لا استفهام عنه بقرينة ترك الجواب مع قوله «إنما حدثتك لتكون من شهداء الله تبارك وتعالى في أرضه» وفي بعض النسخ «أحدثك» إذ لو لم يكن مصدقا بإمامته لم يكن من الشهداء، والمراد بكونه من الشهداء أن يشهد بما حدثه على من هو أهل له مستعد لقبوله.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا، إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفى لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل [ما] وعده، إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال (إنما يتقبل الله من المتقين) فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة

ص:134

رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله وهو الإقرار بما انزل من عند الله عز وجل، خذوا زينتكم عند كل مسجد والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)، إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نذره، فقال: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل.

إن الله عز وجل يقول: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وكيف يهتدي من لم يبصر؟ وكيف يبصر من لم يتدبر؟ اتبعوا رسول الله وأهل بيته وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى. فإنهم علامات الأمانة والتقى واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم (عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم.

* الشرح:

قوله: (إنكم لا تكونون صالحين - إلى قوله - أربعة) هذا دل صريحا على أن العمل الصالح متوقف على تسليم أبواب أربعة، ولعل المراد بها محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) بحيث لولا تسليم واحد منهم لم يكن العمل صالحا مزكيا وقوله: «لا تعرفوا ولا تصدقوا» يحتمل أن يكون خبرا مثل «لا تكونون صالحين» وحذف النون للتخفيف، قال المازري: هذه لغة معروفة، ويحتمل أن يكون نهيا، ولم يذكرا من حيث الوقف عليه، بل من حيث النهي عن الاقتصار عليه، فالمعنى لا تكونوا صالحين حتى تعرفوا، أي يحصل لكم أصل المعرفة «ولا تعرفوا» أي لا تقتصروا على أصل المعرفة «حتى تصدقوا» أي تضموا إليه التصديق، ولا تقتصروا على التصديق حتى تضموا إليه التسليم، ويحتمل أن يكون المراد بها الإيمان بالله والإيمان برسوله والإيمان بما أنزل إليه والإيمان باولي الأمر، وربما يشعر به آخر الحديث والمعنى حينئذ أن العمل الصالح لا يتحقق إلا بمعرفة هذه الأربعة ومعرفة هذه الأربعة لا يتحقق إلا بالتصديق والإقرار بها. والتصديق بها لا يتحقق إلا بالتسليم واليقين بها ويومي إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام: هو التسليم والتسليم: هو اليقين، واليقين: هو التصديق، والتصديق: هو الإقرار، والإقرار: هو الأداء، والأداء: هو العمل الصالح» وإنما قلنا يومي إليه لأن خبر الكتاب يفيد أن العمل الصالح ثمرة المعرفة، والمعرفة ثمرة التصديق، والتصديق ثمرة التسليم. فالعمل الصالح

ص:135

ثمرة التسليم، وخبر النهج يفيد أن العمل الصالح ثمرة أداء ما فرضه الله تعالى، والأداء ثمرة الإقرار بما يجب الإقرار به، والإقرار ثمرة التصديق بالله وبرسوله وأولي الأمر، والتصديق ثمرة اليقين بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول، واليقين ثمرة التسليم، فالعمل الصالح ثمرة التسليم كما في خبر الكتاب إلا أن طريق البيان مختلفة، ويحتمل أن يجعل خبر النهج حقا في التصديق ومبالغة في مدحه ومدح المتصف به، وذلك بأن يجعل التصديق بالله وبرسوله وبالأئمة الطاهرين أصلا رفيعا عاليا يتوجه إليه الطرفان، فالعمل الصالح ثمرة الأداء والأداء ثمرة الإقرار والإقرار ثمرة التصديق، والإسلام يعني دين الحق ثمرة التسليم، والتسليم ثمرة اليقين، واليقين ثمرة التصديق، وإنما قال:

هذا ذاك مع أنهما متغايران لشدة الاتصال بينهما فليتأمل.

قوله: (لا يصلح أولها إلا بآخرها) يعني لابد من التسليم للجميع ولا ينفع تسليم الواحد والاثنين والثلاثة وإنما اقتصر بالثلاثة لأنه إذا ضل صاحبها ضل غيره بالطريق الأولى.

قوله: (تاهوا تيها بعيدا) تاه في الأرض: ذهب متحيرا، شبه تحيرهم في الدين بتحير مسافر ضل الطريق لا يهتدي لها، ووصفه بالبعد مبالغة لوغولهم في الضلالة وبعدهم عن الحق.

قوله: (إن الله تبارك تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح) وهو المشتمل على جميع الامور المعتبرة في تحقيقه شرعا سواء كانت داخلة في حقيقته أو خارجة عنها، ومن جملة ذلك التسليم للأبواب الأربعة وهو شرط الله تعالى وعهده وميثاقه على عباده في صلاح العمل وقبوله ووعده بالأجر، وظاهر أنه تعالى لا يقبل من العباد إلا الوفاء بالشرط والعهد وعدم غدره فيهما، فمن وفاه بشرطه وارتكب ما عينه في عهده ولم يغدر نال ما عنده من الثواب واستكمل وعده في الأجر واستحق القرب والكرامة وهو مثل أن يقول أحدنا: كل من دخل علي في هذا الباب فله كذا فكل من دخل فيه استحق ما وعده ومن دخل في غيره لا يستحقه بل يستحق اللوم لعدم الإذن فيه. وقد أخبر الله تعالى عباده بطريق الهدى وهو طرق الشرع الموصلة إلى مقام قربه وكرامته ووضع لهم في تلك الطرق الخفية أعلام الهداية وهي الحجج (عليهم السلام) وأخبرهم بكيفية السلوك باقتفاء آثارهم واتباع أقوالهم وأعمالهم فقال: (إني لغفار لمن تاب) عن الباطل ورجع إلي وإلى الحجة.

«وآمن» بي وبه وعمل صالحا يبينه لهم «ثم اهتدى» فعلم أنه لا تتحقق المغفرة والاهتداء بدون ذلك وقال أيضا: (إنما يتقبل الله من المتقين) وهم الذين يتمسكون بما جاء به الرسول ولا يتجاوزونه أصلا ويقومون على ما أمر الله تعالى به فعلم منه أنه تعالى لا يقبل عملا ممن خالف أمره ونهيه فمن أتقى الله فيما أمره به ولم يخالفه فيه، ومن جملة ما أمره به متابعة الحجة، لقى الله يوم القيامة مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله)، هيهات هيهات فات قوم في الضلالة وماتوا قبل أن يهتدوا إلى

ص:136

الله تعالى وإلى الحجة وظنوا أنهم آمنوا بربهم والحال أنهم أشركوا من حيث لا يعلمون حيث إنهم لم يؤمنوا بالإله الحق المرسل للرسول، المعين للحجة. وآمنوا بإله آخر، وهذا شرك بالله العظيم وهم لا يعلمون أنه من أتى بيوت الشرع من أبوابها وهي الحجج فقد اهتدى إلى الله تعالى وإلى أمره، ومن أخذ في غير تلك الأبواب سلك طريق الهلاك والضلال لمخالفة أمره تعالى، وقد وصل الله تعالى طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته حيث قال (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) وهذا يفيد التلازم فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله لأن طاعتهما هو الإقرار بما انزل من عند الله تعالى ومما انزل طاعة ولاة الأمر فمن تركه لم يطعمها، فيا أيها الناس اتبعوا رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله إلى آخر ما وصفهم الله تعالى وهم الرسول وأهل بيته الطاهرين.

قوله: (وشرع لهم فيها المنار) المنار: جمع المنارة على غير القياس إذ القياس أن يجمع مفعلة على مفاعل وهي موضع النور فاستعير للحجج (عليهم السلام) لأنهم محال الأنوار العقلية ومواضع العلوم الشرعية به يستبين حقائق الدين ويستنير قلوب العارفين.

قوله: (هيهات هيهات) أي بعد التقوى واللقاء بالإيمان وأتى به مكررا للتأكيد.

قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) قيل: اريد بالزينة: اللباس، سمي زينة لأنه ساتر للعورة، وقيل: اريد بها: ثياب التجمل فهو على الأول: دليل على وجوب ستر العورة عند دخول كل مسجد للصلاة أو الطواف أو مطلقا، وعلى الثاني: على استحباب التزين بثياب التجمل فيهما. وقيل: اريد بها المشط والسواك والخاتم والسجادة والسبحة أقول: ويمكن أن يراد بها مطلق ما يتزين به ومن جملته التصديق بولاة الأمر لأنه أعظم ما يتزين به الظاهر والباطن.

قوله: (والتمسوا البيوت) أي اطلبوها من الالتماس وهو الطلب وهي بيوت النبوة والوصاية التي شرفها الله على بيوتات سائر الأنبياء والأوصياء ويذكر فيها اسم الله وآياته وأحكامه وبيناته.

قوله: (وإقام الصلاة) حذف التاء في المصدر للتخفيف مع قيام الإضافة مقامها.

قوله: (يخافون يوما) أي عذاب يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ظهرا لبطن ومن جانب إلى جانب كتقلب الحية على الرمضاء وذلك لكثرة شدائده وعظمة مصائبه.

قوله: (إن الله قد استخلص الرسل لأمره) أي جعلهم خالصين لأمره فارغين عما سواه بالمجاهدات النفسانية والتأييدات الربانية، ثم استخلصهم واستخصهم حال كونهم مصدقين بالمعجزات الظاهرة والبراهين القاهرة بسبب خلوصهم لأمر الله وفراغهم عن غيره وقربهم منه في إنذاره وتخويفه عن العقوبات الدنيوية والاخروية وبالجملة اتخذهم أولا نجيا وجعل لهم من عنده

ص:137

مكانا عليا ثم اتخذهم رسولا نبيا. وفيه رد على من جعل الفسقة الكفرة صاحبين للخلافة قابلين للنيابة. فقد ظهر مما ذكرنا أن «مصدقين» حال عن المفعول، ومتعلقه محذوف وأن الباء في قوله «بذلك» سبب للتصديق أو الاستخلاص. وأن ذلك إشارة إلى المذكور أولا وأن «في نذره» متعلق بالمصدقين أو باستخلصهم وأن النذر بمعنى الإنذار كما في قوله تعالى (فكيف كان عذابي ونذر) أي إنذاري.

قوله: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) (1) أي مضى والنذير المنذر. والإنذار: هو الإبلاغ مع التخويف، وإنما خص النذير بالذكر لأن احتياج الناس إلى الإنذار أشد وأقوى.

قوله: (تاه من جهل) أي تحير في دين الحق وضل طريقه من جهل إمامه ولم يعرف حجته واهتدى إليه من أبصره وعرفه، ثم أشار إلى أن سبب الجهل ذهاب البصيرة وسبب ذهابها عدم التدبر إذ بالتدبر يتنور البصائر ويتعرف الضمائر ويتميز الحق عن الباطل.

قوله: (واتبعوا آثار الهدى) في بعض النسخ «آيات الهدى» والمراد بالآثار: آثار الأئمة من العقائد والأعمال والأقوال والأفعال والأخلاق، وبالآيات: الأئمة (عليهم السلام).

قوله: (لأنهم علامات الأمانة والتقى) الأمانة: خلاف الخيانة وهي مصدر قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين إذا صار كذلك. هذا أصلها ثم سمي ما تأتمن عليه صاحبك أمانة ومنه أمانة الله تعالى وهي دينه الذي أوحاه إلى رسوله، والتقي والتقوي واحد: وهي ملكة تحدث من ملازمة المأمورات واجتناب المنهيات والمشتبهات، وثمرتها حفظ النفس عن زهرات الدنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة، وعلامة الشيء ما يعرف به ذلك الشيء والأئمة (عليهم السلام) علامات يعرف بهم حدود الدين والتقوى وأركانهما وشرائطهما وكيفية الوصول إليهما.

قوله: (واعلموا أنه لو أنكر) المقصود منه أن من أنكر واحدا من الأئمة أو أزاله عن موضعه فهو لم يؤمن بالله وبرسوله.

قوله: (اقتصوا الطريق بالتماس المنار) قص الأثر واقتصه: إذا تبعه، يعني اتبعوا الطريق الإلهية والسنة النبوية بطلب الأئمة ومتابعتهم.

قوله: (والتمسوا من وراء الحجب الآثار) أي اطلبوا آثار الأئمة من آل الرسول من وراء حجب ظلمانية نسجتها عناكب قلوب الجاحدين وضربتها أيدي شبهات المعاندين فإن طلبتموها

ص:138


1- 1 - قوله: (إلا خلا فيها نذير) حتى الهنود وأهل الصين وجميع الأمم غير بني إسرائيل وإن لم نعرف أسماءهم كما لا نعرف أسماء سائر أهاليهم. (ش)

ووجدتموها تستكملوا أمر دينكم الذي أنزله الله تعالى على نبيكم وتؤمنوا بربكم فمن لم يطلب آثارهم ولم يقتد بأطوارهم لم يؤمن بالله العظيم ولا برسوله الكريم حيث أنكر ما أنزل إليه من آيات خلافتهم وبينات إمامتهم.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد ابن الحسين ابن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما وجعل لكل علم بابا ناطقا، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن.

* الشرح:

قوله: (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب) هذه قاعدة مطردة (1) في الأشياء الممكنة كلها حتى ينتهي الأسباب إلى من لا سبب له، وإن شئت أن تعرف ذلك بمثال فنقول: إن ما في الإنسان ويسمى في الشرع بالقلب تارة وبالصدر تارة وبالنفس الناطقة اخرى جوهر روحاني متوسط بين العالمين والملك والملكوت، كأنه نهاية هذا وبداية ذاك يؤثر فيما دونه ويتأثر عما فوقه فهو بمنزلة أرض يتكون فيه أنواع المخلوقات على صورها المثالية أو بمثابة مرآة منصوبة يجتاز عليه أصناف صور المصنوعات وتنتقش فيه صور بعد صور ولا يخلو دائما عنها ومداخل هذه الآثار المتجددة فيه إما من الظواهر كالحواس الخمس أو من البواطن كالخيال والفكر وغيرهما من الأخلاق النفسانية فدائما يحصل فيه أثر من الخارج أو من الداخل فدائما ينتقل من حال إلى حال فثبت أنه دائما محل للحوادث الإدراكية وموضوع للأحوال النفسانية، وهذه الحوادث والأحوال التي هي

ص:139


1- 1 - قوله: «هذه قاعدة مطردة» قال صدر المتألهين: هذه مسألة مهمة لا أهم منها لأن القول بالعلة والمعلول مبنى جميع المقاصد العلمية ومبنى علم التوحيد والربوبية والمعاد وعلم الرسالة والإمامة وعلم النفس وما بعدها وما قبلها وعلم تهذيب الأخلاق والسياسات وغير ذلك وبإنكار وتمكين الإرادة الجزافية كما هو مذهب أكثر العامة (يعني الأشاعرة المنكرين للسبب المجوزين للترجيح من غير مرجح) تنهدم قواعد العلم واليقين. انتهى. مثلا إذا لم يكن السبب لم يعلم الطبيب أن سوء المزاج يوجب المرض وأن الدواء الفلاني يوجب علاجه وهذا يبطل علم الطب ولم يعلم الزارع أن سقي الماء وضوء الشمس علة لنبات الزرع، وبطل أمر الزراعة ولم يعلم ما يجب أن يفعل، ولم يعلم الصانع أن الحرارة تذيب الفلزات في أي درجة من الحرارة، وبطل أيضا علم الدين لا يعلم أحد أن الصلاة والزكاة وغيرهما أسباب للسعادة في الآخرة ولم يعلم أن اللطف في الواجب تعالى سبب إرسال الرسل ونصب الأئمة وغير ذلك بل لم يثبت وجود واجب الوجود إذا صح وجود شيء بغير سبب. (ش)

المسماة بالعلوم والخواطر لأنها تخطر في القلب بعد أن كان غافلا عنها محركات للإرادات والأشواق وأسباب لها وهي محركات للقوة والقدرة وهي محركات للجوارح والأعضاء وبسببها تظهر الأفاعيل في الخارج، وبتلك الأفاعيل يستحق المدح والذم والثواب والعقاب.

فبمدأ الفعل البشري هو الخاطر والخاطر يحرك الرغبة والشوق، وهي تحرك العزم والنية; وهي تبعث القدرة; والقدرة تحرك العضو فيصدر الفعل من هذه المبادئ المترتبة المتسببة، كل ذلك بإذن الله تعالى ومشيته; وهكذا جرت المشية الإلهية في أفعال العباد ومن أنكر هذه الوسائط وعزل الأسباب عن فعلها فقد أساء الأدب (1) مع الله الذي هو مسبب الأسباب حيث رفع ما وضع الله سبحانه وعزل ما نصبه; ثم لما كانت تلك الخواطر والأحوالات قد يكون خيرا وقد يكون شرا أو كانت الرغبة والعزم قد يتعلقان بما ينبغي أن يكون وقد يتعلقان بما لا ينبغي أن يكون وكانت القدرة تعلقها بالصحيح والفاسد على السواء وكانت الأفعال الصادرة عن الجوارح قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة; وكان الحسن والقبح في الأكثر مخفيين اقتضت الحكمة الإلهية واللطيفة الربانية نصب الرسول والأوصياء لهداية العباد إلى سبيل الرشاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ومنه يظهر سر قوله عز شأنه (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).

قوله: (فجعل لكل شيء سببا) مثلا جعل لاستحقاق القرب والثواب منه تعالى سببا هي الطاعات والعبادات وجعل لهذا السبب شرحا (2) هي الحدود والكيفيات والشروط، وجعل لهذا الشرح علما وجعل لهذا العلم بابا ناطقا ينطق به، عرف ذلك الشرح والعلم من عرف ذلك الباب (وجهله من جهله) وذاك الباب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام). ويحتمل أن يكون المراد أن ذاك العلم والباب رسول الله ونحن، من باب اللف والنشر المرتب كما يرشد إليه قوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

ص:140


1- 1 - قوله: «فقد أساء الأدب مع الله» هذا تعبير الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات. (ش)
2- 2 - قوله: «جعل لهذا السبب شرحا» إذ ليس السبب أمرا مجملا مبهما بل له شرائط كما ترى في الأدوية لعلاج المرضى يشترط في العمود الذي به العلاج أن ينضم إليه أدوية أخرى تسهل جذبه أو بكسر عاديته ويشترط أن يراعى فيه الوقت والأغذية التي تناسبه ولا تنافيه وحركة أو سكون أو نوم وغير ذلك، وكذلك أسباب العبادات والأمور الشرعية فيها شرائط يشترط في تأثيرها. وبيان هذه التفاصيل شرح الأسباب ولابد أن يكون في الوجود علم وعالم بها. (ش)

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء ابن زرين، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله، فسعيه غير مقبول وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي: الحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك فهجمت ذعرة، متحيرة، تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها; فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها; وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل ظاهر عادل أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد.

* الشرح:

قوله: (كل من دان الله بعبادة): أي أطاعه بها، والدين الطاعة.

قوله: (يجهد فيها نفسه) في المغرب جهده حمله فوق طاقته من باب منع وأجهد لغة قليلة، والجهد: المشقة والمعنى يكلف نفسه مشقة في العبادة وتحملها.

قوله: (ولا إمام له من الله) أي من قبل الله تعالى واختياره سواء كان له إمام باختيارهم أم لم يكن.

قوله: (فسعيه غير مقبول) لأن العمل لله تعالى لا يتصور إلا بتوسط هاد مرشد إلى دين الله وشرائطه وكيفية العمل به، والعامل المعتمد برأيه أو بإمام اختاره لنفسه وإن قصد الصلاح في عمله واجتهد فيه فإنه يقع في الباطل فيحصل انحراف من الدين وضلال عن الحق فيضيع العمل ويخسر الكدح كدأب الخوارج والعامة العادلين عن العترة الطاهرين وإليهم يشير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الآية.

قوله: (والله شانئ لأعماله) أي مبغض لها لوقوعها لا على وجه أراد; والشناءة مثل الشناعة:

ص:141

البغض، وشنىء الرجل فهو ومشنوء أي مبغض، ومعنى بغضه تعالى للعمل عدم قبوله مع ذم عامله وطرده عن رحمته وثوابه الموعود له.

قوله: (ومثله كمثل شاة) انطباق هذا التمثيل على الممثل له ظاهر فإن هذا الرجل ضل عن راعيه وقطيعه وهو الإمام الحق ومن تبعه فتحير وحن في ظلمة الشبهات إلى قطيع وراع وزعم أنه راعيه الحق فلما أن ساق هذا الراعي قطيعه في صبح يوم القيامة إلى النار عرف هذا الرجل أنه ليس براعيه الحق فيتحير ويريد أن يلحق بكل فرقة حشرت مع الإمام الحق يقال له: أنت تائه الحق براعيك الذي حننت إليه وهو متردد تائه حتى تأخذه الزبانية وتجره إلى جهنم.

قوله: (فهجمت ذاهبة وجائية يومها) الهجوم: الدخول ويومها بتقدير في معمول للهجوم أو الذهاب على سبيل التنازع.

قوله: (واغترت بها) أي غفلت بها عن طلب راعيها أو خدعت بها، والغرة بالكسر: الغفلة تقول منه اغتررت بالرجل. وتقول أيضا اغتر بالشيء إذا خدع به، ووجه الغفلة والخدعة أنها لم تفرق في ظلمة الليل بين راعيها وراعي هذا القطيع.

قوله: (فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها) أي فلما أن ساق الراعي عند طلوع الفجر وانكشاف الظلمة قطيعه عرفت أنه ليس راعيا لها.

قوله: (ذعرة) أي خائفة من الذعر بالضم وهو الخوف والفزغ.

قوله: (وبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب) قال في النهاية: أصل «بينا» بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا يقال. بينا وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدء وخبر ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا وقد جاء في الجواب كثيرا يقول: بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه وإذا دخل عليه.

قوله: (ضيعتها) الضيعة بالفتح والسكون: الهلاك، تقول: ضاع الشيء يضيع ضيعة أي هلك.

قوله: (طاهر) معناه بلا نقطة طاهر عن الرجس ومعها ظاهر وجوده سواء كان شخصه ظاهرا أم لمن يكن أو ظاهر شخصه ولو في بعض الأوقات لبعض الأشخاص أو غالب على جميع الخلق في العلم والعمل أو معين لهم في الدين وبالجملة ظهوره لا ينافي غيبته لأنه ظاهر من وجه وغائب من وجه آخر كالشمس من فوق السحاب والنور من وراء الحجاب.

قوله: (ميتة كفر ونفاق (1)) أما الكفر فلأنه لم يؤمن ومن لم يؤمن فهو كافر والإسلام لا ينافيه،

ص:142


1- 1 - قوله: «ميتة كفر ونفاق» معلوم أن عدم معرفة أمثال يزيد بن معاوية والوليد لا يوجب الميتة الجاهلية بل الإمام الذي يزيد معرفته في العلم والدين وهذا من الأحاديث المتفق على نقلها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا ينطبق شيء منها على غير أئمتنا (عليهم السلام). قال صدر المتألهين (قدس سره) في رد من زعم أن أولي الأمر هم الخلفاء وأن الحديث المتفق عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشهور بطرق متكاثرة أنه قال: «الخلفاء أو الأئمة بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» وقوله (صلى الله عليه وآله) «لا يزال الإسلام عزيزا أو هذا الدين قائما حتى يقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة» وما يجري مجراه لا ينطبق على خلفاء بني أمية وأمثالهم وأن رسول الله رأى نزو القردة على منبره وأوله ببني أمية وهم الشجرة الملعونة في القرآن ثم حكى الصدر (قدس سره) في ما حكى من قصصهم أخبار الوليد بن يزيد وولوعه بالمنكرات وهم هشام بقتله ففر منه وكان لا يقيم بأرض خوفا على نفسه وبويع له بعد هشام بالخلافة ومن استهتاره أنه اصطنع بركة من خمر وكان إذا طرب ألقى نفسه فيها ويشرب منها حتى يتبين النقص في أطرافها ومن أخباره أنه واقع جاريته وهو سكران وجاءه المؤذنون بالصلاة فحلف لا يصلي بالناس إلا هي فلبست ثيابه وتنكرت وصلت بالمسلمين وهي سكرى متلطخة بالنجاسات على الجنابة قال وحكى صاحب الكشاف أن الوليد تفأل يوما في المصحف فخرج له قوله تعالى (فاستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد فاجمع أهل دمشق على قتله فلما دخلوا عليه في قصره قال: يوم كيوم عثمان فقتلوه وقطعوا رأسه وطيف به في دمشق، ثم قال صدر المتألهين: فانظروا يا أهل العقل والإنصاف هل يستصح ذو مسكة أن يقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لا يزال الإسلام عزيزا والدين قائما ما وليهم اثنا عشر رجلا من أمثال هؤلاء الخلفاء من الشجرة الملعونة انتهى كلامه. وبالجملة لابد لهم من أمرين إما أن ينكروا صحة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإما أن يطلبوا الاثني عشر في غير الخلفاء المشهورين ولا يمكن الأول بعد نقل البخاري وسائر أصحاب الصحاح فلابد من الثاني. (ش)

وأما النفاق فلأنه أقر لسانه بجميع ما جاء به الرسول وأنكر قلبه أعظمه، مضمون هذا الحديث متفق عليه بين الامة ولكن لبعضهم مزخرفات يضحك منها شفاه الأيام ويستنكف عن تحريرها لسان الأقلام.

قوله: (قد ضلوا وأضلوا) أي ضاعوا وهلكوا لعدو لهم عن طريق الحق وأضاعوا وأهلكوا من تبعهم إلى يوم القيامة لإخراجهم عنه فعليهم وزرهم ووزر من تبعهم مع أنه لا ينقص من أوزار التابعين شيء.

قوله: (فأعمالهم) تضمين للآية الكريمة وهي قوله تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح) - الآية، يعني أعمالهم التي يعملونها مثل الصوم والصلاة والصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وغير ذلك مثل رماد اشتدت به الريح وحملته وطيرته في يوم عاصف أي شديدة ريحه، ووصف اليوم بالعصف: وهو اشتداد الريح للمبالغة كقولهم نهاره صائم، لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وذلك

ص:143

يعني ضلالهم مع حسبانهم أنهم يحسنون هو الضلال البعيد لكونهم في غاية البعد عن طريق الحق فقد شبه أعمالهم في سقوطها وحبوطها لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله وبرسوله وبالأئمة (عليهم السلام) بالرماد المذكور في عدم إمكان رده بعد ما طيرته الرياح العاصفة.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن الهيثم بن واقد، عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين «وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم»؟ فقال: نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه، إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا، فإنهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها; لا نفاد لها ولا انقطاع.

* الشرح:

قوله: (ابن الكواء) عبد الله بن الكواء من رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) خارجي ملعون (1).

قوله: (وعلى الأعراف رجال) قال في الصحاح: العرف والعرف: الرمل المرتفع وهو مثل عسر وعسر وكذلك العرفة والجمع عرف وأعراف، ويقال: الأعراف الذي في القرآن سور بين الجنة والنار.

قوله: (نعرف أنصارنا بسيماهم) خص الأنصار الذكر مع أنهم يعرفون أعداءهم أيضا بسيماهم للتنبيه على أن معرفة الأنصار وإعانتهم في ذلك المقام أهم وأقدم من معرفة الأعداء وإهانتهم.

قوله: (ونحن الأعراف) والأعراف هنا والعرفاء: جمع عريف وهو النقيب نحو الشريف

ص:144


1- 1 - قوله: «خارجي ملعون» قال صدر المتألهين: اسمه عبد الله وهو من جملة رؤساء الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) حين جرى أمر الحكمين اجتمعوا بحرورا من ناحية الكوفة ورأسهم عبد الله بن الكواء وعتاب بن الأعور وزيد بن عاصم المحاربي وابن زهير البجلي المعروف بذي الثدية وكانوا يومئذ اثنى عشر ألفا أهل صلاة وصيام - إلى آخر ما قال. (ش)

والأشراف والشهيد والشهداء.

قوله: (ونحن الأعراف يعرفنا الله تعالى) يعرفنا بالتشديد أي يجعلنا عرفاء على الصراط ومما يؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة «وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» قال شارح النهج:

العريف: النقيب. أو يجعلنا ذا معرفة بأوليائنا وأعدائنا على الصراط، والمقصود أن أهل كل عصر لا يدخلون الجنة إلا بمعرفة إمامهم من العترة الطاهرة (عليهم السلام) معرفة حق ولايتهم وصدق إمامتهم ومعرفة الإمام لهم بالتصديق والمتابعة، وبيان الحصر من وجهين: أحدهما: أن دخول الجنة لا يمكن لأحد من هذه الامة إلا باتباع الشريعة النبوية ولزوم العمل بها ولا يمكن ذلك إلا بمعرفتها ومعرفة كيفية العمل بها، ولا يمكن ذلك إلا ببيان صاحب الشريعة والقائم بها وإرشاده وتعليمه، وذلك لا يمكن إلا بمعرفة المأموم الإمام وحقية إمامتهم وصدق ولايته له ليقتدي به، ومعرفة الإمام للمأموم ليهديه، فإذن دخول الجنة متوقف على معرفة الإمام للمأمومين ومعرفتهم له.

وثانيهما: أن معرفة الأئمة ومعرفة حقية إمامتهم وصدق ولايتهم ركن من أركان الدين ولا يدخل الجنة إلا من أقامه، ومن عرفهم كذلك وجب معرفتهم له بذلك، وقال بعض شراح النهج: واعلم أنه لا يشترط في معرفتهم لمحبيهم ومعرفة محبيهم لهم المعرفة الشخصية العينية بل الشرط المعرفة على وجه كلي وهو أن يعلم أن كل من اعتقد حقية إمامتهم واهتدى بما انتشر من هديهم فهو وليهم ومقيم لهذا الركن من الدين فيكونون من يتولاهم على هذا الوجه ومن يتولاهم عارفا بهم لمعرفته بحقية ولايتهم واعتقاد ما يقولون وإن لم يشترط المشاهدة العينية والمعرفة الشخصية، وفيما ذكرنا دفع لما يتوهم من أن كثيرا من الشيعة لهؤلاء الأئمة ومحبيهم لا يعرفهم الأئمة ولا يرون أشخاصهم، هذا بيان للكلية الاولى، وأما بيان الكلية الثانية وهي قوله «ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه» فهو ما أشار إليه شارح النهج من أن دخول الجنة مستلزم لمعرفتهم ومنحصر فيه وكل واحد ممن يدخل الجنة عارف بهم وذلك يستلزم أنه لا واحد ممن يدخل الجنة بمنكر لهم لأن معرفتهم وإنكارهم مما لا يجتمعان في ملزوم واحد إذا عرفت ذلك فنقول من أنكرهم وأنكروه لا يجوز أن يكون أعم ممن يدخل النار، أما أولا، فللخبر المشهور «من مات ولم يعرف إمام وقته فقد مات ميتة جاهلية» فقد دل هذا الخبر على أن إنكارهم مستلزم للميتة الجاهلية المستلزم لدخول النار.

أما ثانيا: فلأنه لو كان أعم لصدق على بعض من يدخل الجنة فبعض المنكر لهم يدخل الجنة فينعكس بعض من يدخل الجنة منكر لهم، وقد مر أنه لا واحد ممن يدخل الجنة بمنكر لهم هذا

ص:145

خلاف، وكذلك لا يجوز أن يكون أخص وإلا لصدق على بعض من يتولاهم ويعترف بصدق إمامتهم أنه يدخل النار لكن ذلك باطل لقول الرسول (صلى الله عليه وآله) «يحشر المرء مع من أحب» وقد ثبت أنهم (عليهم السلام) يحشرون إلى الجنة فكذلك من أحبهم واعترف بحقية إمامتهم ودخول الجنة مع دخول النار مما يجتمعان فثبت أنه لا واحد ممن يحبهم ويعترف بحقيتهم يدخل النار فقد ظهر إذن صدق هذه الكلية أيضا ووجه الحصر فيها.

قوله: (إن الله تعالى لو شاء لعرف العباد نفسه) كما عرف الأنبياء نفسه ولكن لم يشأ ذلك لعدم قابليتهم له بل جعلنا أبواب معرفته بما يليق به من الحكم الإلهية وأسرار التوحيد وجعلنا صراطه في دينه من الشرائع والأخلاق والسياسات وسبيله إلى جنته، وبيان مقاماتها ودرجاتها والوجه الذي يؤتى الله سبحانه من ذلك الوجه. وقد مر توضيح ذلك ويشتمل على جميع ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

قوله: (لناكبون) نكب عن الطريق ينكب نكوبا من باب نصر أي عدل.

قوله: (فلا سواء من اعتصم الناس به) ضمير المجرور راجع إلى من وإفراده باعتبار لفظه وإن كان معناه متعددا والمقصود نفي المساواة بين جماعة اعتصم الناس بهم وجعلوهم أئمة في أمر مبدئهم ومعادهم ومعاشهم بل بعضهم صراط الحق وهم العترة (عليهم السلام) وبعضهم صراط النار وهم أولياء الشيطان.

قوله: (ولا سواء حيث ذهب الناس) لا سواء تأكيد لما سبق و «حيث» تعليل لنفي المساواة.

قوله: (إلى عيون كدرة) أي غير صافية من الكدر خلاف الصفو وقد كدر الماء يكدر كدرا فهو كدر وكدر أيضا مثل فخذوه وفخذ ويفرغ صفة لها، يقال: فرغ الماء فراغا مثل: سمع سماعا أي انصب وأفرغته أنا، والمراد بتلك العيون شبهات أئمة الجور ومخترعاتهم التي أحدثوها وعاونوا بعضهم بعضا في اختراعها وإحداثها وفي وصفها بالفراغ لا وصف صاحبها بالإفراغ تنبيه على غزارتها وكثرتها.

قوله: (إلى عيون صافية) متعلق بذهب الأول أي من ذهب إلينا ذهب إلى عيون صافية هي النواميس الإلهية والأسرار الربانية والأحكام الفرقانية التي تجري بأمر ربها في قلوب صافية تقية نقية مقدسة مطهرة عن الغبن والرين ثم تجري منها إلى قلوب المؤمنين وصدور العارفين إلى يوم الدين بلا نفاد ولا انقياد بخلاف الشبهات الزائلة والمخترعات الباطلة فإنها إذ لا أصل ولا مادة لها تنقطع يوما ما.

* الأصل:

ص:146

10 الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الريان بن شبيب، عن يونس، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض، فاطلب لنفسك دليلا.

* الشرح:

قوله: (وأنت بطرق السماء) المراد بطرق السماء طرق معرفة الله تعالى ومعرفة أسراره وتوحيده ومعرفة عالم الغيب، ووجه زيادة الجهل به ظاهر لأن المراحل المعقولة أخفى والشبهات الوهمية والخيالية والتسويلات النفسانية والشيطانية فيه أقوى من المراحل المحسوسة فإذا احتيج في الأظهر إلى دليل فالأخفى أولى بالاحتياج إليه، وإنما عبر عن المعرفة بطرق السماء (1) للدلالة على رفعة قدرها وتعظيم شأنها.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أيوب بن الحر عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) فقال: طاعة الله ومعرفة الإمام.

* الشرح:

قوله: (طاعة الله ومعرفة الإمام) إنما نسب المعرفة إلى الإمام والطاعة إلى الله لأن معرفة الإمام مستلزمة لمعرفة الله وطاعة الله تعالى مستلزمة لطاعة الإمام، فيرجع الكلام إلى أن الحكمة طاعة الله وطاعة الإمام ومعرفتهما فتكون المعرفة إشارة إلى الحكمة النظرية والطاعة إلى الحكمة العملية.

* الأصل:

ص:147


1- 1 - قوله: «عبر عن المعرفة بطرق السماء» قد مر في تضاعيف الشرح إطلاق السماء على عالم المجردات فراجع الفهرست الموضوع آخر الجزء الرابع والرواية في بيان مفاسد ترك اتباع المعصومين في الدار الآخرة وفي أحكام الشريعة وإنفاذها بيد الإمام المعصوم حكم دنيوية ومصالح في معاش الناس خصوصا المعاملات والسياسات والاخلال بها والإعراض عنها يوجب فساد الدنيا أيضا لكنها من جهة أنها مجعولة من الله تعالى واتباعها إطاعة وتركها عصيان يوجب فساد الآخرة على المكلف، وقلنا: إن المدينة الفاضلة على ما بينها أبو نصر الفارابي ما يكون الأمير فيها الحكيم العادل العارف بما يجب وقلنا: إنه لا يكون غير المعصوم بصفات شرطها وكل مدينة غير فاضلة من المدن الجاهلة بأقسامها وقد ذكرها أبو نصر في كتابه. (ش)

12 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان عن أبي بصير قال:

قال لي أبو جعفر (عليه السلام): هل عرفة إمامك؟ قال: قلت: إي والله قبل أن أخرج من الكوفة فقال: حسبك إذا.

* الشرح:

قوله: (إي) بكسر الهمزة من حروف التصديق ولا يستعمل إلا مع القسم.

قوله: (حسبك إذن) حسبك بمعنى يحسبك ويكفيك، و «إذن» من حرف المكافأة والجواب وإذا وقف عليه قيل «إذا» وهو كذلك في بعض النسخ، ولما أخر بطل عمله وهو نصب المستقبل مع أنه لم يجد هنا مستقبلا، وإنما قال في جواب قوله «عرفت الإمام قبل أن أخرج من الكوفة» حسبك إذن للدلالة على أن معرفة الإمام مستلزمة لمعرفة جميع المعارف الحقة وأصل لجميع العلوم الصادقة فمعرفته كافية لذوي البصائر الكاملة.

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن بريد قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) فقال: ميت لا يعرف شيئا «ونورا يمشي به في الناس» إماما يؤتم به «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها» قال: الذي لا يعرف الإمام.

* الشرح:

قوله: (أومن كان ميتا) يعني أو من كان ميتا بالجهالات والأخلاق الذميمة أو بكونه في المرتبة الهيولانية فأحييناه بالكمالات العقلية والأخلاق المرضية والقوانين العدلية والقوة العملية (1)، وجعلنا له إماما كالنور الساطع يمشي بهدايته في الناس والحجب الناسوتية إلى الأسرار الإلهية والأنوار اللاهوتية كمن مثله في ظلمات الجهالة وموت الضلالة وهو باق فيها وليس بخارج منها،

ص:148


1- 1 - قوله: «والقوانين العدلية والقوة العملية» قد علم أن التشريع وإنفاذ الأحكام غير مفوض إلى الناس عند الشيعة فجاعل القوانين هو الله تعالى ومبلغها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومجريها هو والأئمة المعصومون المنصوبون من قبله ولا يرتاب عاقل في أن هذا هو القول الحق لا قول من يذهب إلى أن إجراء حكم الله مفوض إلى إمام جاهل فاسق غائر في الظلمات ليس بخارج منها ولا قول من جعل التشريع من وظائف الناس المختلفين الجاهلين بحكم الأفعال ومصالحها والبعيدين عن مراعاة العدالة في طوائف الأمم المعتنين بمنافع أنفسهم غير مبالين بمن سواهم. (ش).

وليس له إمام عادل ليبلغ بنور هدايته إلى أوج الكرامة، فالآية على هذا التأويل نزلت في الشيعة ومخالفيهم.

* الأصل:

14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة ومحمد بن عبد الله، عن علي بن حسان عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): يا أبا عبد الله ألا اخبرك بقول الله عز وجعل: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون)؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك، فقال: الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت، ثم قرأ عليه هذه الآية.

* الشرح:

قوله: (دخل أبو عبد الله الجدلي) اسمه عبيد بن عبد، وقد يقال: عبيد الله بن عبد الله وهو من الأولياء ومن خواصه وأوليائه (عليه السلام). والجدلي بالجيم والتحريك: منسوب إلى جديلة حي من طي وهي اسم امهم.

قوله: (فكبت وجوههم في النار) كبه لوجهه: أي صرعه فأكب هو، ومجئ الإفعال من المتعدي للازم كما هنا من النوادر.

قوله: (فقال: الحسنة معرفة الولاية) الظاهر أنه لم يرد حصر الحسنة والسيئة بما ذكر، بل أراد أن هذه الحسنة والسيئة أكمل أفراد هذين الجنسين، بدليل أن كل حسنة تفرض وكل سيئة تفرض فهما داخلان تحتهما وفرعان لهما.

ص:149

باب فرض طاعة الأئمة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة; عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

ذروة الأمر وسنامه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته، ثم قال:

إن الله تبارك وتعالى يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا).

* الشرح:

قوله: (الطاعة للإمام بعد معرفته) طاعة الإمام عبارة عن التصديق بإمامته والإذعان بولايته والإقرار بتقدمه على جميع الخلق بأمره تعالى، والمتابعة لأمره ونهيه ووعظه ونصيحته، ظهر وجه المصلحة أم لم يظهر، وهي ذروة أمر الإيمان من حيث أنها أعظم أركانه وأعلاها وأشرفها وأسناها وسنامه من حيث شرفها وعلوها بالنسبة إلى سائر أركان الإيمان مع ملاحظة أنها بمنزلة المركب يوصل راكبها إلى سائر منازل العرفان، ومفتاحه من حيث أنه ينفتح بها أقفال أبواب العدل والإحسان وباب الأشياء والشرائع النبوية والأسرار الإلهية من حيث أنه لا يجوز لأحد الدخول في الدين ومشاهدة ما فيه بعين اليقين إلا بالوصول إلى سدنتها والعكوف على عتبتها، ورضاء الرحمن تبارك وتعالى من حيث أنها توجب القرب إليه والزلفى لديه والاستحقاق لما وعده للمطيع من الأجر الجميل والثواب الجزيل، وكل هذا على سبيل الاستعارة والتشبيه الذي لا يخفى على العارف بالعربية حسن موقعه ولطافة موضعه، وإنما قال «بعد معرفته» للتنبيه على أن أصل معرفته تعالى أفضل منها، كيف لا وهي أصل لها؟ وإن كان كمال المعرفة إنما يحصل بها، وبالجملة نظام الطاعة موقوف على أصل المعرفة وكمال المعرفة موقوف على نظام الطاعة.

قوله: (ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول) هذا بمنزلة التأييد لما مر والدليل عليه حيث عد طاعة الرسول نفس طاعته تعالى ومن البين أن طاعة الإمام نفس طاعة الرسول لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) فطاعة الإمام نفس طاعة الله تعالى، ومن هنا ظهر أيضا تقدم معرفته على طاعة الإمام.

ص:150

قوله: (حفيظا) أي حافظا لهم عن التولي والإعراض وإنما عليك البلاغ.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصباح قال: أشهد أني سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أشهد أن عليا إمام فرض الله طاعته وأن الحسن إمام فرض الله طاعته وأن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته.

* الشرح:

قوله: (قال: أشهد أني سمعت) أتى بالشهادة ليفيد أن المنقول خبر قاطع لاعتبار التوافق بين القلب واللسان في الشهادة ولترويجه لأن الشهادة بمنزلة الحلف.

قوله: (فرض الله طاعته) دل على ما هو الحق الثابت الذي لا ريب فيه من أن الإمامة بالنص لا باختيار العبد كما حقق في موضعه.

* الأصل:

3 - وبهذا الأسناد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي قال: حدثنا حماد بن عثمان عن بشير العطار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن قوم فرض الله طاعتنا وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته.

* الشرح:

قوله: (وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته) فيه بشارة للعارفين وإنذار للجاهلين والمراد بالناس إما من آمن بالله وبرسوله لما مر من أن معرفة الأئمة إنما يجب عليه وأما من لم يؤمن بهما فإنما الواجب عليه أصالة هو الإيمان بهما ثم الإيمان بهما يقتضي الإيمان بهم وأما جميع الناس حتى المنكرين لله والرسول فإنهم كما لا يعذورن بجهالتهما كذلك لا يعذرون بجهالة الإمام هذا فيمن بلغه التبليغ وفي غيره لو تحقق مشكل (1).

ص:151


1- 1 - قوله: «وفي غيره لو تحقق مشكل» إشارة إلى أن تحقق من لم يبلغه التبليغ ممتنع عادة لشهرة دعوى النبي (صلى الله عليه وآله) والقرآن وظهور الآيات بعد الاعتراف بالنبي (صلى الله عليه وآله) فاحتمال إمامة غير المعصومين غير ممكن لظهور فسقهم. قال صدر المتألهين: قال علامتهم التفتازاني في شرح المقاصد بهذه العبارة: إن ما وقع بين الصحابة من المشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد جاوز عن الطريق بالظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذات والشهوات إذ ليس كل صحابي معصوما ولا كل من لقى النبي (صلى الله عليه وآله) بالخير موسوما إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق أو ذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التفسيق والتضليل صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في دار القرار وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء يكاد تشهد به الجماد والعجماء ويبكي له الأرض والسماء وتنهدم منه الجبال وتنشق له الصخور ويبقى سوء عملهم على كر الشهور ومر الدهور فلعنة الله على من باشر أو أمر ورضى أو سعى ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد قلنا تحاميا على أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد بحيث لا يزال الإقدام عن السواء ولا يضل الإفهام بالأهواء وإلا فمن الذي لا يخفى عليه الجواز والاستحقاق وكيف لا يقع عليه الاتفاق. انتهت عبارته بألفاظه. (ش)

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القماط، عن أبي الحسن العطار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة.

* الشرح:

قوله: (أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة) أشرك يحتمل الأمر والتكلم وفيه دلالة على أن طاعتهم واحدة لأن الظاهر في الشركة أن يتعلق بشيء واحد ويحتمل أن يراد به التلازم بين طاعة الرسل وطاعة الأوصياء.

* الأصل:

6 - أحمد بن محمد، عن محمد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم ونحن المحسودون الذين قال الله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).

* الشرح:

قوله: (لنا الأنفال) تقديم الخبر للحصر والأنفال: جمع النفل بالسكون وقد يحرك وهو الزيادة، به سميت نوافل العبادات لأنها زائدة على الفرائض والمراد بها كل ما كان من الزيادة مختصا

ص:152

بالنبي (صلى الله عليه وآله) في حياته مثل الأرض التي باد أهلها والأرض الموات التي لا أرباب لها إلى غير ذلك مما عد في موضعه وهي بعده للإمام (عليه السلام).

قوله: (ولنا صفوا المال) أي خالصة، ولعل المراد بها صفايا ملوك أهل الحرب وقطايعهم وغير ذلك مما يصطفى من الغنيمة مثل الفرس الجواد والثوب المرتفع والجارية الحسناء والسيف الفاخر ونحوها.

قوله: (ونحن الراسخون في العلم) الممدوحون في القرآن الكريم بقوله تعالى (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك) - الآية، وقوله تعالى (والراسخون في العلم يقولون آمنا).

قوله: (ونحن المحسودون) الحسد أن يرى الرجل لغيره نعمة فيتمنى أن تزول منه وتكون له.

قوله: (على ما آتاهم الله من فضله) «من» يحتمل أن تكون ابتدائية وأن تكون بيانية، والمراد بالفضل حينئذ الحكمة الإلهية وإيجاب طاعة الخلائق لهم.

* الأصل:

7 - أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) قولنا في الأوصياء أن طاعتهم مفترضة قال: فقال: نعم هم الذين قال الله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) وهم الذين قال الله عز وجل (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا).

* الشرح:

قوله: (إنما وليكم الله) قد مر شرحه مفصلا فلا نعيده (1).

ص:153


1- 1 - قوله: «مفصلا فلا نعيده» لكن لا نرى الجواز عن هذا الموضع حتى ندفع شبهة تختلج ببال كثير من الناس حتى عوام الشيعة من عموم قوله تعالى (وأولي الأمر منكم) حيث استدل العامة به على وجوب إطاعة أمرائهم الجائرين والجواب أن إجماع أهل الإنصاف والعلم من المسلمين أهل السنة والشيعة وسيرتهم من صدر الإسلام إلى زماننا على عدم إرادة المطلق من هذه الكلمة ولذلك خالفوا عثمان ولم يطيعوا أوامره حتى حاصروه وقتلوه وكان فيهم طلحة وهو من العشرة المبشرة عندهم وعائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) كانت تحرض على قتله وبعده خالف الحسين (عليه السلام) ولم يطع أمر يزيد حتى قتلوه صبرا وخالف جماعة من أهل الكوفة أوامر معاوية وزياد حتى قتلوا، وخالف ابن الزبير ملوك بني مروان وخالفت الخوارج بعده، وهذه السيرة المستمرة تدل على تقييد ولي الأمر بشيء مثل كونه عادلا آمرا بالحق أو متبعا لأحكام الشرع ومنقادا لرأي العلماء أصحاب الحل والعقد، ولا يعقل أن يكون رجل عاقل يحرم قتل النفوس بالقرآن ومع ذلك يوجب إطاعة الخليفة في قتل سادات بني علي (عليه السلام) فإنهما متناقضان لا يمكن أن يأمر بهما الله تعالى، والذي نذهب إليه نحن معاشر الإمامية أن الله تعالى إذا أمر بإطاعة الرسول فمراده الرسول الذي أرسله حقيقة وله على دعواه بينة لا كل من يدعي الرسالة، وكذلك أولو الأمر هم الذين نصبهم للأمر كما أن إطاعة العلماء بمعنى العلماء الذين يخبرون عن الله وأوليائه بتبليغ دينه الحق بدليل أن الأمير إذا أوجب على الناس إطاعة الولاة والنواب والقضاة فمراده من نصبهم لا كل من أدعى النيابة أو تسلط عليهم بغير نصب، وزعم بعض العصريين من المنتحلين إلى العلم أن الحكومة الدستورية المسماة عند أهل زماننا بالديمقراطية داخل في أولي الأمر الذين يجب إطاعتهم لأن الناس التزموا بالعهد أن يطيعوا فلزمهم الوفاء بالعهد - وسيأتي أن شاء الله كلامنا في هذا النوع من المدينة - واستدل بأن الناس في غزو مؤتة أمروا عليهم خالد ابن الوليد ورجع خالد بهم ولم ينكر عليهم رسوله الله (صلى الله عليه وآله) فعلهم وهو خارج عن محل البحث لأن الرسول والإمامين بعده (عليهم السلام) كانوا ينصبون الولاة من قبلهم ويرسلون الجنود ويجعلون عليهم أميرا أو يجوزون لهم اختيار أمير واطاعتهم في الحقيقة إطاعة الرسول أو الإمام والنواب والعمال الذين ربما يخطئون مع كونهم منصوبين أيضا ولا يجب على اتباعهم إطاعتهم إذا علموا بخطائهم والكلام في الإمام الأصل. (ش)

* الأصل:

8 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن (عليه السلام) فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: نعم.

* الشرح:

قوله: (مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)) يحتمل أن يراد بمثلها مثلها في كونها من قبل الله تعالى، أو مثلها في الرتبة والمقدار.

* الأصل:

9 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأئمة هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحدا؟ قال:

نعم.

* الشرح:

قوله: (في الأمر والطاعة) لعل المراد بالأمر أمر الخلافة الإمامة أو أمر الشرائع والحكمة، ويحتمل أن يكون العطف للتفسير.

* الأصل:

ص:154

10 - وبهذا الإسناد، عن مروك بن عبيد، عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائما على رأس الرضا (عليه السلام) بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال: يا إسحاق! بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله; ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين. فليبلغ الشاهد الغائب.

* الشرح:

قوله: (لا وقرابتي) فإن قلت قد صرحوا بأنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى كالكتب المنزلة والأنبياء والأئمة والقرابة ونحوها، ودل عليه قول الصادق (عليه السلام) «لا يحلف بغير الله» قلنا: لعل التصريح والنهي في الدعاوي، وأما في غيرها فالظاهر أنه يجوز إذا كان له شأن ومنزلة، كيف لا؟ وقد وقع ذلك في كثير من الأدعية.

قوله: (ما قلته قط) فإن قلت ففي هذه الثلاثة لا يدل على عدم صدور هذا القول عن أحد من الأئمة، قلت: صدوره عنه يستلزم سماعه (عليه السلام) أو بلوغه إليه فما ذكره من باب نفي الملزوم بانتفاء اللازم.

قوله: (عبيد لنا في الطاعة) يعني وجب عليهم طاعتنا كما وجب على العبد طاعة السيد، فهم عبيد لنا بهذا الاعتبار لا بالمعنى المعروف، وإطلاق العبد على التابع شائع كما يقال: فلان عبد للشيطان وعبد لهواه.

قوله: (موال لنا في الدين) المراد بالموالي هنا: الناصر كما في قوله تعالى (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا).

قوله: (فليبلغ الشاهد الغائب) فيه ترغيب في نشر الحديث، وتجويز للعمل بخبر الواحد، وحصر فائدة النقل في حصول التواتر خلاف الظاهر.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبي سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنا، ومن أنكرنا كان كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به

ص:155

ما يشاء.

* الشرح:

قوله: (من عرفنا كان مؤمنا) قسم الناس على ثلاثة أقسام: الأول: من عرف ولايتهم وهو مؤمن بالله وبرسوله، والثاني: من أنكرها وهو كافر بهما حيث أنكر أعظم ما جاء به الرسول وأصلا من اصوله، والثالث: من لم يعرفها ولم ينكرها، بل هو ساكت متوقف وهو ضال، وحال كل واحد من الأولين ظاهر وأما الأخير فهو في المشية إن لم يرجع إلى الهدى الذي هو طاعة الإمام.

* الأصل:

12 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن الفضيل قال: سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل، قال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر، قال أبو جعفر (عليه السلام): حبنا إيمان وبغضنا كفر.

* الشرح:

قوله: (أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله تعالى طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر) يعني الإمام (عليه السلام) وكل واحدة من هذه الطاعات عين الاخرى بقياسات راجعة إلى الضرب الأول من الشكل الأول، ووجه أفضليتها أن كل ما عداها مما يتقرب به مندرج تحتها كما لا يخفى على المتأمل.

قوله: (حبنا إيمان وبغضنا كفر) الحمل على سبيل المبالغة وذلك لأن حبهم جزء أخير من الإيمان فإذا تحقق تحقق الإيمان وإذا تحقق ضده وهو البغض تحقق الكفر، وإن لم يتحقق هذا ولا ذاك تحقق الضلالة والتحير، وهو القسم الثالث المذكور في الحديث السابق، وإنما يذكره هنا لظهور الواسطة بين الحب والبغض.

* الأصل:

13 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن فضالة ابن أيوب، عن أبان، عن عبد الله بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به؟ قال: فقال: هات قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأن عليا كان إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسن إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسين إماما فرض الله طاعته، ثم كان بعده

ص:156

علي بن بالحسين إماما فرض الله طاعته - حتى انتهى الأمر إليه - ثم قلت: أنت يرحمك الله، قال:

فقال: هذا دين الله ودين ملائكته.

* الشرح:

قوله: (وحده لا شريك له) تأكيد للسابق أو المراد به نفي أن يكون له مشارك في الذات والصفات والوجود الذاتي، وبالسابق نفي إله مستحق للعبادة غيره.

قوله: (وأن محمدا عبده ورسوله) ذكر العبودية مع أن الرسالة مستلزمة لها بيانا للواقع وتصريحا بما هو من أفضل الكمالات البشرية، وإنما قدمها على الرسالة لتقدمها عليها في الواقع كما مر.

قوله: (والإقرار بما جاء به من عند الله) في العطف مناقشة يمكن دفعها بأن يجعل الواو بمعنى مع أو يقدر الخبر وهو حق أو لازم أو نحو ذلك.

قوله: (حتى انتهى الأمر إليه) اريد به أمر الخلافة والإمامة، أو أمر الطاعة أو أمر الدين أو علم آبائه الطاهرين.

قوله: (ثم قلت: أنت) أي أنت إمام.

* الأصل:

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي إسحاق، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اعلموا أن صحبة العالم واتباعه دين يدان الله به وطاعته مكسبة للحسنات، ممحات للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم.

* الشرح:

قوله: (صحبة العالم) أي صحبة العالم الرباني واتباعه في طريقه وسلوك سبيله دين وطريق يطاع الله تعالى به وطاعته آلة لكسب الحسنات ومحو السيئات وذخيرة للمؤمنين تنفعهم يوم الدين ورفعة فيهم في حال حياتهم بها يرتفعون إلى المقامات العالية و (جميل) أي ذات صورة حسنة وزينة كاملة لهم بعد موتهم، ولم يقل جميلة كما قال «ذخيرة» لأنه أجرى على الفعيل بمعنى الفاعل حكم الفعيل بمعنى المفعول كما في قوله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وفي بعض النسخ المصححة «مكتسبة» من الاكتساب و «ممحية» و «حبل» بدلا من جميل، والحبل

ص:157

النور والعهد والميثاق والأمان.

* الأصل:

15 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال:

صدقت، قلت: إن من عرف أن له ربا، فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة، وأن لهم الطاعة المفترضة، فقلت للناس: أليس تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى (صلى الله عليه وآله) من كان الحجة؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، فما قال فيه من شيء كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟ قالوا: ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا لا، فلم أجد أحدا يقال: إنه يعلم القرآن كله إلا عليا صلوات الله عليه وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري وقال هذا: لا أدري وقال هذا لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أن عليا (عليه السلام) كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن ما قال في القرآن فهو حق فقال رحمك الله، فقلت: إن عليا (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن الحجة بعد علي الحسن بن علي; وأشهد على الحسن أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وجده وأن الحجة بعد الحسن الحسين وكانت طاعته مفترضة، فقال:

رحمك الله، فقبلت رأسه وقلت: وأشهد على الحسين أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده علي بن الحسين وكانت طاعته مفترضة فقال: رحمك الله وقلت: وأشهد على علي بن الحسين أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده محمد بن علي أبا جعفر وكانت طاعته مفترضة، فقال: رحمك الله، قلت: أعطني رأسك حتى اقبله، فضحك، قلت: أصلحك الله قد علمت أن أباك لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه، واشهد بالله أنك أنت الحجة وأن طاعتك مفترضة، فقال: كف رحمك الله، قلت: أعطني رأسك اقبله فقبلت رأسه فضحك وقال: سلني عما شئت، فلا انكرك بعد اليوم أبدا.

* الشرح:

ص:158

قوله: (إن الله أجل) قد ذكر هذا الحديث بهذا السند إلى قوله «فقلت إن عليا (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده» في باب الاضطرار إلى الحجة وإنما أعاده هنا لبقية دلت على فرض طاعة الإمام ونحن ذكرنا شرحه ثمة ولكن لا بأس أن نشير هنا إلى ما يناسب بعض السوابق (1). فنقول: إن

ص:159


1- 1 - قوله: «لا بأس أن نشير هنا إلى ما يناسب بعض السوابق» هو مأخوذ من صدر المتألهين عليه الرحمة في شرح الحديث السادس من باب الرد إلى الكتاب والسنة من كتاب فضل العلم نقله الشارح كما هو دأبه بتغيير يسير ونحن نورد كلام الصدر (قدس سره) ونضيف إليه شيئا للتوضيح بين الهلالين وهو نعم الكلام جامع لأكثر الأصول الحكمية قال الصدر: إن الأشياء الكلية والجزئية هي كلها مسببة عن السبب الأول جل اسمه الذي يتسبب منه كل موجود ممكن ويتشعب منه كل عين وأثر وينتشر منه كل علم وخبر وكل ما عرف سببه من حيث ما يقتضيه ويوجبه فلابد وأن يعرف ذلك الشيء علما ضروريا دائما (من قوله وكل ما عرف سببه محذوف من كلام الشارح ومعناه أن من عرف العلة من حيث هي علة لزمه المعرفة بالمعلول) ما من شيء إلا وينتهي في سلسلة الحاجات إليه تعالى (فالواجب تعالى عالم بكل شيء سواء كان كليا أو جزئيا ولا يصح قول من زعم أنه تعالى ليس عالما بالجزئيات وأيضا هو عالم بكل جوهر وعرض وبكل ما في أذهان الناس ويختلج في ضمائرهم لأن كل علم وخبر ينتشر منه وهو علة لخواطر الضمائر) وإلى الأوائل الصادرة عنه (أي العقول فهي أيضا عالمة بكل شيء) وإذا رتبت الأسباب والمسببات انتهت أوائلها إلى مسبب الأسباب (فالعقول محتاجة إلى الواجب تعالى ولا تستقل بالتأثير بل هي وسائط كالنار للحرارة والشمس للضوء) وانتهت أواخرها إلى الجزئيات الشخصية فكل كلي وجزئي ظاهر عن ظاهريته الأولى (بدله الشارح بقوله صادر عن الأول جل اسمه) وقد تحقق في العلوم الحقيقية بالبرهان اليقيني أن العلم بسبب الشيء يوجب العلم به فمن عرف ذاته تعالى بأوصافه الكماليه ونعوته الجلالية وعرف الأوائل والغايات من العقول القادسة (هي أوائل باعتبار وغايات باعتبار) ومنها الثواني والمدبرات النفسانية (الثواني هي المدبرات والعطف للتفسير) والمحركات السماوية (وهي النفوس السماوية أو الملائكة المحركة للسماوات) للأشواق الإلهية والأغراض الكلية العقلية بالعبادات الدائمة والنسك المستمرة من غير فتور ولغوب وأعياء في الدؤب (حذف الشارح قوله أعياء في الدؤب) الموجبة لأن يترشح عنها صور الكائنات (بدله الشارح بقوله: والأجرام العلوية المؤثرة في العالم السفلي بأمر الخالق وكلام الصدر أحسن إذ نسب التأثير إلى النفوس المحركة ونسب الشارح إلى الجرم العلوي) فيحيط علمه بكل الأمور وأحوالها علما برئيا عن التغير والشك والغلط فيعلم من الأوائل الثواني ومن الكليات الجزئيات المترتبة عليها وهذه طريقة الصديقين في معرفة الأشياء المشار إليها في قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فإنهم عرفوا الله أولا وعرفوا صفاته ومن صفاته أوائل أفعاله (وهي العقول) ومن الأوائل الثواني (وهي النفوس) وهكذا حتى علموا الكليات ومن الكليات الجزئيات ومن البسائط المركبات فعلموا حقيقة الإنسان وأحوال النفس الإنسانية وما يزكيها ويكملها ويسعدها ويصعدها إلى عالم القدس والربوبية ومنزل الأبرار والمقربين وما يدنسها ويرديها ويشقيها ويهويها إلى أسفل سافلين ومنزل الفجار والشياطين علما ثابتا غير قابل للتغير ولا محتملا لتطرق الريب فهذه حال علوم الأنبياء والأولياء ومن يسلك منهاجهم كما في قوله تعالى (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (من قوله من يسلك منهاجهم محذوف في نقل الشارح) وكل علم لم يحصل على هذا السبيل بل حصل من تقليد أسماع أو ظن أو قياس فليس من الحق في شيء أن الظن لا يغني من الحق شيئا. انتهى. وهو حاو لأصول قواعد الحكماء ونقل الشارح كلامه غير ناسب له إلى قائله كما فعل كثيرا وإن لم ننبه عليه في مواضعه يدل على اعترافه بجميعها مع إنكاره على جمود بعض اتباع المشائين كما مر في تضاعيف الكتاب. (ش)

الامور الممكنة والأشياء الكلية والجزئية كلها مسببة عن السبب الأول جل اسمه، الذي يتسبب عنه كل موجود ويتشعب عنه كل عين وأثر وينتشر منه كل علم وخبر.

وما من شيء إلا وينتهي في سلسلة الحاجة إليه وإلى الأوائل الصادرة عنه، وإذا رتبت الأسباب والمسببات انتهت أوائلها إلى مسبب الأسباب وأنتهت أواخرها إلى الجزئيات الشخصية، فكل كلي وجزئي صادر عن الأول جل اسمه، وقد تحقق في العلوم الحقيقية بالبراهين اليقينية أن العلم بسبب الشيء يوجب العلم بذلك الشيء علما ضروريا، فمن عرف ذاته بالأوصاف الكمالية والنعوت الجلالية وعرف الأوائل والغايات من العقول القادسة ومنها الثواني والمدبرات النفسانية والمحركات السماوية للأشواق الإلهية والأغراض الكلية بالعبادات الدائمة والنسك المستمرة من غير لغوب ولا فتور والأجرام العلوية المؤثرة في العالم السفلي بأمر الخالق يحيط علما بجميع الامور والأحوال علما بريئا عن الشك والتغير والغلط فيعلم من الأوائل الثواني ومن الكليات الجزئيات المترتبة عليها، وهذا طريقة الصديقين في معرفة الأشياء المشار إليها في قوله تعالى (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فإنهم عرفوا الله أولا وعرفوا صفاته ومن صفاته أوائل أفعاله ومن الأوائل الثواني وهكذا حتى علموا الكليات ومن الكليات الجزئيات ومن البسائط المركبات وعلموا حقيقة الإنسان وأحوال النفوس الإنسانية وما يزكيها وما يكملها ويسعدها ويصعدها إلى عالم القدس والربوبية ومنزل الأبرار والمقربين وما يدسها ويرديها ويشقيها يهويها إلى أسفل السافلين ومنزل الفجار والشياطين علما ثابتا غير قابل للتغير والشك ولا محتملا التطرق الريب والوهم، وهذه حال الأنبياء والأولياء وكل علم لم يحصل من هذا الطريق بل حصل من تقليد أو سماع أو أثر أو ظن، فليس بالنظر إليه علم بل ظن «والظن لا يغني من الحق شيئا».

* الأصل:

17 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حماد، عن عبد الأعلى قال، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: السمع والطاعة أبواب الخير، السامع المطيع لا حجة عليه والسامع العاصي لا حجة له، وإمام المسلمين تمت حجته، واحتجاجه يوم يلقى الله عز

ص:160

وجل، ثم قال: يقول الله تبارك وتعالى: (يوم ندعو كل اناس بإمامهم).

* الشرح:

قوله: (السمع والطاعة) يعني أنهما معا جميع أبواب الخير لظهور أن الإمام لا يقول إلا خيرا ولا يأمر إلا به وأنه لا يترك ما هو خير لنا إلا وهو يقول ويأمر به.

قوله: (السامع المطيع لا حجة عليه) لأن الحجة عليه هو اعتراض بأنك لم فعلت هذا وتركت ذاك؟ ولم لم تسمع ولم تطع فإذا سمع وأطاع ووضع كل شيء في موضعه لم يرد عليه ذلك الاعتراض.

قوله: (والسامع العاصي لا حجة له) لأن غاية اعتذاره في العصيان والمخالفة هي التمسك بعدم العلم والسماع ولا مجال له حينئذ. وربما يفهم منه أن العاصي الذي لم يسمع له حجة، ولا يبعد على تقدير تحققه اندراجه في أهل التأجيج.

قوله (وإمام المسلمين) إذا تحقق اللقاء وسأل الله تعالى كل إمام عن رعيته وكل رعية عن إمامها اتم الإمام حجته عليهم وأكملها لديهم، وليس لهم هنا طريق مناظرة ولا قوة مناقشة عنادا وإنكارا كما كان لهم في دار التكليف ودار الامتحان وعند ذلك يدعو الله تعالى كل اناس بإمامهم.

ص:161

باب في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن سماعة قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال: نزلت في امة محمد (صلى الله عليه وآله) خاصة، في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم ومحمد (صلى الله عليه وآله) شاهد علينا.

* الشرح:

قوله: (في كل قرن) في النهاية، القرن: أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل:

القرن: أربعون سنة. وقيل: ثمانون. وقيل: هو مطلق من الزمان.

قوله: (شاهد عليهم) يوم القيامة بما علم منهم من خير وشر كما أن عليهم شاهدا من الملائكة والأعضاء لقوله تعالى (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

قوله: (شاهد علينا) الظاهر أن المراد بضمير المتكلم الأئمة (عليهم السلام) واحتمال إرادة جميع الأمة بعيد، وتحقق هذه الشهادة أن النفس القادسة النبوية مع كونها متعلقة بالبدن كانت مطلعه على الامور الغائبة فكيف إذا فارقة، فإنها إذن تكون مطلعة على جميع أفعال الامم من خير أو شر قطعا، وأما فائدتها فلأن الناس إذا علموا أن عليهم شهيدا ورقيبا وكتابا لما يفعلون كان ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والقربات وأمنع لهم عن المعصية والشهوات لاحترازهم عن الافتضاح في محفل القيامة على رؤوس الأشهاد.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد ابن عائذ، عن عمر بن اذينة، عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) قال: نحن الامة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه، قلت: قول الله عز وجل: (ملة أبيكم إبراهيم) قال: إيانا عنى خاصة، (هو سماكم المسلمين من قبل) في الكتب التي مضت «وفي هذا» القرآن، (ليكون الرسول عليكم شهيدا) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله عز وجل ونحن الشهداء على الناس

ص:162

فمن صدق صدقناه يوم القيامة، ومن كذب كذبناه يوم القيامة.

* الشرح:

قوله: (امة وسطا) أي أشرف الامم وأفضلهم وخيارهم وأعدلهم، قال في المغرب: الوسط بالتحريك: اسم لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة مثلا ولذا كان ظرفا فالأول يجعل مبتدءا وفاعلا ومفعولا به وداخلا عليه حرف الجر، ولا يصح شيء من هذا في الثاني تقول: وسطه خير من طرفه واتسع وسطه وضربت وسطه وجلست في وسط الدار، وجلست في وسطها بالسكون لا غير، ويوصف بالأول مستويا فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع قال الله تعالى: (كذلك وجعلناكم امة وسطا) وقد بنى منه اسم التفضيل فيقال للمذكر الأوسط وللمؤنث الوسطى.

قوله: (ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه) لأنا نشهد لله على جميع الخلق بما دانوا وما فعلوا وبتبليغ الرسل قال صاحب الطرائف: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي وهو من علماء المذاهب الأربعة بإسناده عن قتادة عن الحسن عن ابن عباس «أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأولاده هم الشهداء عند ربهم» قال ابن عباس: «هم شهداء الرسل على أنهم قد بلغوا الرسالة ولهم أجرهم».

قوله: (ملة أبيكم إبراهيم) قال المفسرون: هي بالنصب على المصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبلها وهو قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، أو على الإعزاء والاختصاص.

قوله: (إيانا عنى خاصة) أي إيانا عني بهذا الخطاب خاصة لا جميع الامة كما زعم باعتبار أن إبراهيم كان أبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أب لامته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية فإبراهيم أب لامته أو باعتبار التغليب لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم، ولا يخفى بعد هذا وقرب ما ذكره (عليه السلام).

قوله: (هو سماكم المسلمين) من قبل القرآن في الكتب التي مضت وفي هذا القرآن عطف على قوله من قبل والضمير لله تعالى كما صرح به المفسرون وقالوا يدل عليه أنه قرأ (الله سماكم) وعوده إلى إبراهيم يدفعه قوله: وفي هذا القرآن لأنه لم يسمهم مسلمين فيه.

قوله: (ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس) والمقصود هنا هو الإشارة إلى مضمون الآية ولذا لم يذكر تمامها إحالة إلى فهم المخاطب، واللام في قوله (ويكون) متعلق

ص:163

بسماكم أي سماكم المسلمين ليكون الرسول يوم القيامة أو في هذه الدار أيضا شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس كذلك.

قوله: (بما بلغنا) أي بما بلغنا رسول الله عنه جل شأنه أو بما بلغنا الأئمة بتوسطه عن الله جل شأنه والأول أظهر، وفيه دلالة على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته كما صرح به القاضي.

والثاني أنسب.

قوله: (ونحن الشهداء على الناس) بتبليغ الرسل إليهم أو بالطاعة والعصيان أو بالتصديق والتكذيب.

قوله: (فمن صدق صدقناه) أي فمن صدقنا في الإمامة والعقائد وفي كل ما نقول صدقناه يوم القيامة فيما يدعيه من العقائد الكاملة والأعمال الصالحة وغيرها من الأمور النافعة الواقعة، أو من صدق الرسول صدقناه والتعميم أولى.

قوله: (ومن كذب يوم القيامة كذبناه) هكذا في النسخ التي رأيناها إلا في واحدة إذ فيها «ومن كذب كذبناه يوم القيامة» وهذا أوفق بالسابق وأظهر في المعنى. والظرف على النسخ المشهورة متعلق بالفعل المتأخر.

* الأصل:

3 - وبهذا الاسناد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن عمر الحلال قال:

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله الله عز وجل: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الشاهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على بينة من ربه.

* الشرح:

قوله: (الشاهد على رسول الله) بالتبليغ وأداء حق الرسالة.

قوله: (على بينة من ربه) دالة على حقيقة نبوته وصدق رسالته وهي الآيات والمعجزات.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد العجلي قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ليكون الرسول عليكم شهيدا) قال: نحن الامة الوسط ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في أرضه، قلت: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا

ص:164

ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) قال: إيانا عنى ونحن المجتبون ولم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين من ضيق فالحرج أشد من الضيق (ملة أبيكم إبراهيم) إيانا عنى خاصة و (سماكم المسلمين) الله سمانا المسلمين (من قبل) في الكتب التي مضت (وفي هذا) القرآن (ليكون الرسول عليكم شهيدا) على الناس فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس، فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه.

* الشرح:

قوله: (امة وسطا) قال الجوهري: الوسط من كل شيء: أعدله وقال تعالى (كذلك وجعلناكم امة وسطا) أي عدلا، وقال ابن الأثير: كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه فكل ما ازداد منه بعدا ازداد منه تقربا وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما وهو غاية البعد عنهما فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان. ومما ذكره يظهر وجه تسميتهم وسطا ويظهر سر المثل المشهور «خير الامور أوساطها».

قوله: (نحن الامة الوسط) في بعض النسخ الوسطى، وكلاهما جائز كما مر.

قوله: (اركعوا واسجدوا) أي صلوا من باب تسمية الكل باسم أشرف أجزائه، وقال القاضي:

أمرهم بهما لأنهم كانوا يفعلونهما أول الإسلام وهو عندنا لم يثبت.

قوله: (واعبدوا ربكم) بسائر ما تعبدكم به أو اخضعوا وتذللوا له لأن أصل العبودية الخضوع والذل.

قوله: (وافعلوا الخير) كله مثل فعل المندوب وإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف وتكميل الأخلاق إلى غير ذلك.

قوله: (لعلكم تفلحون) غاية للأوامر المذكورة أي افعلوا هذه الامور حال كونكم راجين للفلاح، غير متيقنين به ولا واثقين على العمل.

قوله: (وجاهدوا في الله) أي جاهدوا في سبيل الله أو لله خالصا الأعداء الظاهرة والباطنة مثل الكفار والنفس.

قوله: (حق جهاده) قال القاضي: أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس، واضيف الحق إلى

ص:165

الجهاد مبالغة، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله.

قوله: (هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه واصطفاكم لنصرته.

قوله: (إيانا عنى) أي إيانا أراد بهذا الخطاب والحصر باعتبار أن الإرادة تعلقت بهم أولا وبالذات وإن تعلقت بغيرهم ثانيا وبالعرض.

قوله: (ولم يجعل الله تعالى في الدين من ضيق فالحرج أشد من الضيق) الضيق بفتح الضاد وشد الياء، وقد تخفف، ولعل هذا تفسير لقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وبيان أن المراد بالحرج هنا الضيق، وإذا انتفى الضيق في الدين انتفى الحرج بطريق أولى لأنه أشد من الضيق كما يشعر به قوله تعالى (يجعل صدره ضيقا حرجا) إذ الصدر الحرج هو الذي لا يقبل شيئا من الحق ولا يسع له لانتفاء ما هو محل له بخلاف الصدر الضيق إذ قد يقبل له قبولا ضعيفا لبقاء محل ما منه للحق ولعل الغرض من هذا التفسير هو الإشعار بأن اجتباء الإمام للناس سبب لانتفاء الحرج عنهم إذ لهم حينئذ إمام هاد يرجعون إليه في محل المشكلات وتوضيح المعضلات والله أعلم. قوله: (ليكون الرسول عليكم شهيدا) المقصود هو الإشارة إلى مضمون الآية كما مر وإلا فالآية: (ليكون الرسول شهيدا عليكم) (1).

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا.

* الشرح:

قوله: (إن الله طهرنا وعصمنا) أي طهرنا عن الأدناس وعصمنا من الأرجاس كما قال جل شأنه:

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) لاتفاق الأمة إلا من شذ على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام، والروايات الدالة على ذلك من طرق العامة والخاصة متظافرة بل متواترة وسنبين ذلك كما ينبغي في موضعه إن شاء الله تعالى.

ص:166


1- 1 - كذا في سورة الحج: 78، وفي سورة البقرة: 143 (ويكون الرسول عليكم شهيدا).

قوله: (وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه) كما قال جل شأنه (لتكونوا شهداء على الناس) وقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة).

قوله: (وجعلنا مع القرآن) كما قال (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وهما لا يفترقان حتى يردا علي الخوض» وقال أيضا «إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وأهل بيتي عترتي أيها الناس قد بلغت إنكم ستردون علي الحوض، فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان كتاب الله وأهل بيتي فلا تسبقوهم ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم» وسيجئ أيضا تحقيق ذلك في موضعه.

باب ان الأئمة عليهم السلام هم الهداة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد وفضالة بن أيوب، عن موسى بن بكر، عن الفضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله عز وجل (ولكل قوم هاد) فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.

* الشرح:

قوله: (كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم) القرن: أهل كل زمان وإمامهم معاهد لأذهانهم في قبول أنوار الله ومرشد لنفوسهم إلى سلوك سبيل الله ومنه الهداية إلى القوانين الشرعية والدراية للنواميس الكلية والجزئية وبإعداده يفاض على النفوس هداها، وبإعطائه ينكشف عن العقول عماها.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر، ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله (صلى الله عليه وآله)، ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد.

* الشرح:

قوله: (ولكل زمان منا هاد) هذا التفسير واضح لا غبار فيه، قال بعض المفسرين. لما قال الذين

ص:167

كفروا لولا انزل عليه آية مثل ما انزل على موسى وعيسى قال الله تعالى ردا عليهم خطابا لنبيه (إنما أنت منذر) وما عليك إلا الإتيان بما يثبت به نبوتك من المعجزات لا بما يقترح عليك (ولكل قوم هاد) أي نبي مخصوص بمعجزاته، أو قادر على هدايتهم وهو الله تعالى، لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته ولا يخفى بعده.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن إسماعيل، عن سعدان، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر، وعلي الهادي، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ قلت: بلى جعلت فداك ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك، فقال: رحمك الله يا أبا محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية، مات الكتاب، ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى.

* الشرح:

قوله: (حتى دفعت) أي الهداية.

قوله: (لو كانت إذا نزلت آية) «إذا» مع شرطه وجزاه وهو «ماتت الآية» وقع اسما وخبرا لكانت، ثم وقع المجموع شرطا للجزاء «مات الكتاب» ولعله أراد بالآية النازلة على وصف علي (عليه السلام) بأنه الهادي للناس بعد الرسول إلى القوانين الشرعية والأسرار القرآنية وأثبت بقاءها في كل عصر إلى قيام الساعة بقياس استثنائي محصله لو ماتت تلك الآية النازلة على علي (عليه السلام) بعد موته بأن لا يكون بعده هاد ولا يكون لها بعده مصداق مات الكتاب وتعطل لعدم من يهدي الناس إلى أحكامه وأسراره، ولكن التالي باطل لأن الكتاب حي يجري أمره ونهيه وسائر أسراره في اللاحقين إلى قيام الساعة كما جرى في الماضين، فالمقدم وهو موت تلك الآية أيضا باطل فثبت وجودها ووجود مضمونها بعده (عليه السلام) في كل عصر وكل زمان إلى قيام الساعة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن منصور، عن عبد الرحيم القصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر وعلي الهادي، أما والله ما ذهبت منا وما زالت فينا إلى الساعة.

ص:168

* الشرح:

قوله: (ما ذهبت) أي الهداية أو هذه الآية.

قوله: (وما زالت فينا) يعني ثبوت منصب الهداية أو تلك الآية فينا مستمرة إلى ساعة القيامة لأن علة احتياج الناس إلى الهادي بعد الرسول مستمرة إلى قيام الساعة.

باب ان الأئمة عليهم السلام ولاة امر الله وخزنة علمه

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الحسن بن موسى، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن ولاة أمر الله وخزنة علم الله وعيبة وحي الله.

* الشرح:

قوله: (وعيبة وحي الله) (1) قال الجوهري: العيبة ما يجعل فيه الثياب والجمع عيب مثل بدرة

ص:169


1- 1 - قوله: «وعيبة وحي الله» هذا الحديث آخر ما وفق لشرحه صدر المتألهين الشيرازي (قدس سره) من أصول الكافي وقد أبدع في هذا الشرح وبين أن ما ورد في كلام الأئمة (عليهم السلام) من التوحيد ومسائل الأصول مباحث برهانية لا أدلة خطابية إقناعية للعوام كما يختلج في أذهان كثير من الناس. ونعم ما فعل لأن الطباع تجعل البرهان والعقل فوق الخطابة ويتوهم كون الأدلة المنقولة خطابية تضعف تقدير العقلاء لمقدار الأحاديث وتجعلها دون تحقيقات الأوائل ويظن أن خدمة الفلاسفة الإلهيين لمعرفة الله تعالى فوق جهد الأنبياء باستحكام الأدلة ووثاقة البراهين ولكن صدر المتألهين لجمعه بين الطريقين وتدبره وتعمقه في العقليات وتمهره وبصيرته في النقليات تبين له أن هذا وهم باطل وأن ما في الروايات والأحاديث أيضا برهانيات وإن خلت عن الاصطلاحات الغريبة والألفاظ الوحشية البعيدة عن متداول أذهان الأكثرين وهذا فضل ورجحان لها على كلام الفلاسفة لتقريبها إلى عقول الناس فإن الأنبياء والأئمة يكلمون الناس على قدر عقولهم وللصدر فضل على من جاء بعده من الشراح فكل ما أتوا به مأخوذ منه أما لفظا ومعنى وأما معنى فقط وأما اقتباسا وتنبها من مطالعة ما شرحه لما يقرب منها ولم يتفق لأحد منهم بعد هذا الحديث الذي انتهى إليه شرح تحقيقي نظير ما سبق منهم في شرح الأحاديث السابقة اللهم إلا ذكر وقائع تاريخية أو تفاسير لفظية أو نقل شيء بالمناسبة، وإن اتفق لبعضهم كصاحب الوافي فهو أيضا مأخوذ منه في موضع آخر لإحاطته بكتب صدر المتألهين وضبط مطالبه أكثر من غيره، وقد نقل عنه المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول والبحار كثيرا بعنوان بعض المحققين وبعض الأفاضل وربما نقل ولم ينسبه اليه لتغييره بعض ألفاظه كما سبق أنموذج منه ونقل عنه الشارح في هذا الكتاب كثيرا معتمدا، وحكى قوله الشيخ الأنصاري (قدس سره) في النية في كتاب الطهارة بعنوان المحقق صدر الدين الشيرازي، وقال السيد في علم الرجال المنظوم: ثم ابن إبراهيم صدرا الأجل * في سفر الحج مريضا ارتحل قدوة أهل العلم والصفاء * يروي عن الداماد والبهائي وأخذوا عليه مآخذ لا تقدح في فضله وعدالته وصفائه منها نقله كثيرا عن الشيخ ابن عربي مع كونه سنيا متعصبا وليس هذا قادحا لأن جميع العلماء حتى صاحب البحار نقلوا عن علماء العامة معتمدا كابن الأثير في جامع الأصول والنهاية وقد ذكر صاحب مجالس المؤمنين إن ابن عربي كان شيعيا فكان تشيعه قابلا للشبهة والاختلاف في تشيع بعض الرجال والاشتباه فيه غير عزيز وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صاحب دعائم الإسلام إمامي اثنا عشري. ومما نقموا عليه سهوه في قراءة بعض كلمات الأحاديث ومنها نقل أقوال جماعة من غير أن ينسبها إليهم ومنها استعمال اصطلاحات خاصة يذهب منه ذهن غير أهل الاصطلاح إلى أمور يخالف ظاهر الشريعة بحيث يحتاج إلى التأويل نظير قول هشام بن الحكم بأن الله جسم ولو كان مثل هذه الأمور قدحا لم يسلم منه أحد ورأيت رجلا ينكر على العلامة الحلي قوله باستحالة إعادة المعدوم لأنه يوجب نفي المعاد في ظنه وكيف يمكن التعبير بعبارة لا يذهب ذهن أحد منها إلى غير مراد المتكلم ولم يخل عنه الكتاب الكريم حيث ذهب جماعة إلى الجبر والإحباط من آيات كثيرة. (ش)

وبدر. وقال ابن الأثير: عيبة الرجل خاصته وموضع سره والعرب تكني عن القلوب والصدور بالعياب لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن أسباط، عن أبيه أسباط، عن سورة بن كليب قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه. لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه.

* الشرح:

قوله: (إنا لخزان الله في سمائه وأرضه) أي فيما بين أهل سمائه وأهل أرضه، وإضافة الخزان إلى الله تعالى باعتبار أنهم منصوبون بأمره وقوله (إلا على علمه) بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الظاهر وبكسر الهمزة وشد اللام على احتمال.

* الأصل:

3 - علي بن موسى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد البرقي، عن النضر بن سويد رفعه، عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما أنتم؟ قال: نحن خزان علم الله ونحن تراجمة وحي الله ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض.

ص:170

* الشرح:

قوله: (ما أنتم) سأل عن خواصهم التي بها يمتازو ن عن سائر المخلوقات لا عن ذواتهم لأن حقيقة ذواتهم لا يبلغ إليها عقول البشر.

قوله: (ونحن تراجمة وحي الله) لأنهم يفسرون نطق الحق ولسان القرآن بلسان الإنسان يقال:

قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر ومنه الترجمان والجمع التراجم ولك أن تضم التاء بضم الجيم.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله تبارك وتعالى: استكمال حجتي على الأشقياء من امتك من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك، فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك وهم خزاني على علمي من بعدك، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد أنبأني جبرئيل (عليه السلام) بأسمائهم وأسماء آبائهم.

* الشرح:

قوله: (قال الله تعالى: استكمال حجتي) يعني استكمال حجتي الذي يوجب الخلود في النار ينشأ من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك. والولاية بالكسر: السلطان، من ولي فلانا إذا ملك أمره وبالكسر والفتح أيضا: النصرة والمحبة. وقال سيبويه: الولاية بالفتح المصدر وبالكسر الاسم مثل الإمارة والنقابة لأنه اسم لما توليته وقمت به فإذا أرادوا المصدر فتحوا.

قوله: (فإن فيهم سنتك) تعليل لما ذكر، وتقديم الظرف للحصر والمراد بالسنة علوم جميع الأنبياء وشرائعهم ويحتمل اصول العقائد والأخلاق التي هي طريقة مستمرة إلى القيامة، وبالجملة هذه السنة سبب لنجاة الخلائق وهي منحصرة فيهم فمن ترك ولايتهم وتخلف عن طريقتهم عظمت عليه الحجة واستحق النار.

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن خالد، عن فضالة ابن أيوب عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): يا ابن أبي يعفور! إن الله واحد متوحد بالوحدانية، متفرد بأمره، فخلق خلقا فقدرهم لذلك الأمر. ونحن هم يا ابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده وخزانه على علمه والقائمون بذلك.

ص:171

* الشرح:

قوله: (واحد) قال في النهاية: الواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. قال الأزهري: الفرق بين الواحد أن الأحد: بني لنفي ما يذكر معه من العدد تقول ما جاءني أحد.

والواحد: اسم بني لمفتتح العدد تقول: جاءني واحد من الناس ولا تقول جاءني أحد. فالواحد متفرد بالذات في عدم المثل والنظير والأحد متفرد بالمعنى، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزى ولا يثنى ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل ولا يجمع هذه الوصفين إلا الله تعالى.

قوله: «متوحد بالوحدانية» أي متفرد بها، والوحداني المفارق للجماعة المتفرد بنفسه وهو المنسوب إلى الوحدة أي الانفراد بزيادة الألف والنون للمبالغة.

قوله: (متفرد بأمره) لعل المراد بالأمر: الأمر الشرعي والله سبحانه متفرد بتعيينه كما وكيفا وتقديره حدا ووصفا لا يشاركه أحد في التعيين (1) والتقدير والتحديد إلا أنه خلق خلقا لتوضيح

ص:172


1- 1 - قوله: «لا يشاركه أحد في التعيين» حمل الأمر على التشريعي إذ لم يفوض أمره إلى الناس حتى يستنبطوه بعقولهم كما مر بخلاف سائر ما يتعلق بمعاشهم وحوائجهم في حياتهم وقد قسموا العلوم إلى ثلاثة أقسام: التعليميات وهي العلوم الرياضية كالحساب والهندسة وما يتفرع عليهما الثاني الطبيعيات كالطب وتربية المواشي وخواص الأشياء الثالثة التشريعيات. ولم يختلفوا في مسائل القسم الأول والثاني غالبا لأن في الإنسان قوة منحة الله تعالى إياها يقتدر بها على تميز الحق من الباطل في التعليميات والطبيعيات ومن عثر من عقلاء أفراد البشر على شيء من تلك العلوم قدر على تفهيم غيره بحيث يقبل منه من غير تبطوء وتتعتع وتوافقوا غالبا فيها ولم يختلفوا واشترك فيها الموحد والمشرك والمسلم وغير المسلم والاشتراكي والملحد والمتدين بخلاف القسم الثالث أعني التشريعات فاختلفوا فيها جدا بحيث لا يرجى اتفاقهم على شيء منها البتة إذا لم يعطهم الله قوة يميزون بها بين الحق والباطل فيها يقينا ولم يزالوا في شك وترديد في ما هو أحسن القوانين وأكمل الشرائع وأنفع أنحاء الأحكام والسياسات وأعدل أقسام الحكومة مع اعترافهم جميعا بأن الحق فيها واحد ليس جميع ما يراه القبائل والأمم صحيحا ويجتهدون في إصابة الحق ولم يجدوه والاختلاف باق في قوانين الإرث وحدود المعاملات وأحكام الأملاك وشرائع النكاح والطلاق والسياسات ووظائف الحكومة وأنها محدودة بشيء أو مطلقة أو يجب الاقتصار في تصرفها على قدر الضرورة، والأصل استقلال الأفراد وأمثال ذلك وهذا يدل على أن الأمر في التشريعيات ليس مفوضا من الله تعالى إلى العباد ولو كان مفوضا إليهم لأعطاهم قوة يميزون بها بين الباطل والحق صريحا ولا يختلفون كما لم يختلفوا في قضايا الهندسة ولهذا الفرق بين التشريعيات وغيرها بعث الله النبيين وأعطاهم الكتاب والشرائع للأحكام ولم يبعث نبيا لبث الطب والهندسة وهذه آية بينة على تفويض هاتين دون تلك إذ المعلوم من استقراء الموجودات جميعا ثبوت عنايته تعالى بكل خلق خلقه فما من نبات ولا حيوان إلا منحها الله تعالى من الآلات والقوى ما يستقيم به أمر معاشها ومالها إليه حاجة ولم يحرمها إلا مما لا حاجة لها إليه ولم يترك شيئا سدى، فإن حرم الحيوان من تدبير الإنسان وحنكته وآلاته واستعداده فليس ذلك إلا لعدم حاجته إلى نسج ثوب وخياطة ملبوس وطحن طعام وأمثال ذلك وكذلك حرم الإنسان من قوة يجزم بها في التشريعيات لأنه يستغني بتشريع الله تعالى وإرسال أنبيائه عن التشريع بعقله ولا حاجة له إلى التفكر في تحقيق الحق فيها إلا ظنا وتخمينا. (ش)

ذلك الأمر وبيانه للعباد وتبليغه إليهم ليهتدوا إلى مقاصدهم ويرشدوا إلى مراشدهم.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم بن معاوية، ومحمد بن يحيى: عن العمركي بن علي جميعا، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه في سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة، وبعبادتنا عبد الله عز وجل، ولولانا ما عبد الله.

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى خلقنا) أي خلقنا من نوره فأحسن خلقنا وخلقنا وصورنا فأحسن صورنا الظاهرة والباطنة وجعلنا خزان علمه ورحمته فيما بين أهل سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة انقيادا لنفوسنا القادسة. وهو مستفيض مشهور من كراماتهم، والنطق وإن كان في عرف العقلاء مخصوصا لمن يعقل لكن لا يبعد عن القدرة القاهرة الالهية أن يوجد الحياة والنطق في الجمادات فضلا عن النباتات عند توجه النفوس القدسية وإرادتها ذلك ولا يشترط البنية المخصوصة في قبول الحياة والنطق فلذلك جاز أن يخلق الله تعالى في الشجرة علما وحياة ونطقا وسمعا قبلت بها خطابهم (عليه السلام) إثباتا لحجيتهم وبيانا لعلو مرتبتهم، ولعل تأنيث نطقت باعتبار أن الشجر يطلق على الجماعة، وبعبادتنا لله تعالى عبد الله تعالى حتى لو لم يتحقق عبادتنا لم يتحقق العبادة لله تعالى، أو بعبادة الخلق ومتابعتهم لنا عبد الله تعالى ولولا نحن ما عبد الله تعالى لعدم اهتداء الخلق إلى طريق عبادته وكيفيتها.

ص:173

باب أن الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عز وجل في أرضه

اشاره:

وأبوابه التي منها يؤتى

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن أبي مسعود، عن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه.

* الشرح:

قوله: (عن أبي مسعود عن الجعفري) أبو مسعود كأنه الطائي المجهول والجعفري كأنه القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب المدني الهاشمي أو ابنه داود أبو هاشم الجعفري.

قوله: (الأئمة خلفاء الله في أرضه) الخليفة السلطان الأعظم (1) والخليفة أيضا من يقوم مقام الرجل ويسد مسده والهاء فيه للمبالغة وجمعه على اللفظ وأصله خلائف كظريفة وظرائف وكريمة وكرائم، وقالوا أيضا: خلفاء على معنى التذكير لا على اللفظ من أجل أنه لا يقع إلا على مذكر وفيه الهاء فجمعوه على إسقاط الهاء فصار مثل ظريف وظرفاء وكريم وكرماء لأن فعيلة بالهاء لا تجمع على فعلاء; وكونهم خلفاء الله من أجل أنهم يحفظون عباده عن المهالك ويبينون لهم ما أراده منهم ويفسرون لهم أسرار التوحيد وبالجملة واسطة بينه وبين خلقه في جميع الامور.

* الأصل:

2 - عنه، عن معلى، عن محمد بن جمهور، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الله بن القاسم، عن

ص:174


1- 1 - قوله: «الخليفة السلطان الأعظم» الخليفة: من يقوم مقام الرجل وأطلق على السلطان الأعظم باعتبار أن السلطان يقوم مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إجراء أحكام الله تعالى وإقامة حدوده والأصل الذي يبتني إثبات الإمامة في مذهبنا هو احتياج الناس في أمر دينهم إلى رئيس معصوم من العصيان والخطأ، عالم بما أراده الله من خلقه، يجري فيهم أحكامه تعالى وينفذ شرع الإسلام ويعاقب المتخلف. بالجملة جميع وظائف الحكومة على طبق أحكام الإسلام وليست رئاسته رئاسة روحانية فقط ولا جسمانية فقط بل جامعة بينهما ولما غصب منهم (عليهم السلام) حقهم لم يتمكنوا إلا من نشر العلم وبيان أسرار التوحيد وتعليم المعارف والشرائع وكانت الحكومة والقدرة والأمر والنهي بيد غيرهم والروايات الثلاثة أثبتت لهم الرئاستين والرواية الثانية منها خاصة بالأمور الروحانية والثالثة بالرئاسة الجسمانية. (ش)

أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه.

* الشرح:

قوله: (الأوصياء هم أبواب الله تعالى) أي أبواب جنته أو أبواب علمه كما قال (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها، والبيوت إنما تؤتى من أبوابها» ومراده أن من طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة والتقرب إلى الله فليرجع إلى الأوصياء وليأت البيوت من أبوابها وليتق الله فان من أتاه من غير بابها سمي سارقا.

قوله: (ولولاهم ما عرف الله) لأن عظمته أرفع من أن يصل إليه كل طالب ورفعته أجل من أن ينظر إليه كل شاهد وغائب، وصراطه أدق من أن يتطرق إليه قدم الأوهام وشرعه أشرف من أن يقبل مخترعات الأفهام، فلولا هداية الأوصياء وإرشاد الأولياء لبقوا متحيرين في تيه الجهالة وراقدين في مرقد الضلالة كما ترى من أعرض عن التوسل بهدايتهم والتمسك بذيل عصمتهم فإن بعضهم يقول بالتجسيم وبعضهم يقول بالتصوير وبعضهم يقول بالتحديد وبعضهم يقول بالتخطيط وبعضهم يقول إنه محل للصفات وبعضهم يقول بأنه قابل للحركة والانتقال إلى غير ذلك من المذاهب الباطلة وبالله العصمة والتوفيق.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله جل جلاله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) قال: هم الأئمة.

* الشرح:

قوله: (قال هم الأئمة) (1) قال صاحب الطرائف روى حافظ محمد بن مؤمن الشيرازي وهو من

ص:175


1- 1 - قوله: «هم الأئمة» الظاهر المتبادر (من الذين آمنوا وعملوا الصالحات) جميع الأمة وهو أحد وجوه التفسير. نقله في مجمع البيان وغيره ومعناه أن الله تعالى يجعل أمة محمد (صلى الله عليه وآله) غالبة على جميع الأمم وملتهم على جميع الملل بحيث يكون الأرض وأهلها تحت حكومتهم وقدرتهم وسياستهم كما استخلف الأمم السابقين، وأوفى بما وعده لأن المسلمين ظهروا على غيرهم وفاقوا فكان السلطان قبل الإسلام لفارس والروم وقبلهم للبابليين والمصريين وغيرهم فلما ظهر الإسلام والمسلمين وفتحوا البلاد صار الأمر إليهم وكانوا أرباب الأرض ومالكي البلاد يحكمون فيها بما شاء الله ولكن جماعة من مفسري العامة خصوها بجماعة معدودة من متصدي الإمارة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بعيد من ظاهر اللفظ مثل أن يقول أحد أكلت كل رمانة في البستان وكان فيه ألوف ولم يأكل إلا ثلاثة، وكذلك هنا أن أريد من الذين آمنوا ثلاثة أو أربعة منهم خصوصا أن جعل دليلا على صحة خلافتهم وإن كان ولابد أن يحمل على رجال معدودين فلابد أن يعتبر في دلالة غلبتهم وظفرهم على ظفر الملة والأمة كما يقال: غلب اليونان أي غلب الإسكندر وظهور أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وظفرهم بظهور علم أئمة الحق ودينهم ومعارفهم فإن الله تعالى لم يبشر نبيه والمؤمنين معه تسلية لهم بأن يستخلف يزيد بن معاوية وهارون الرشيد وغيرهما الذين يقتلون الأئمة من أولاده بل بشرهم بظهور دينهم وغلبة المؤمنين الصادقين المتقين ومظهرهم أئمة الحق ولا تدل الآية على صحة خلافة أهل الجور والظلم بل على غلبة الحق على الباطل ويلزمها تعظيم أئمة الحق ومروجي التوحيد وناشري الأحكام والدليل الواضح على ذلك قوله تعالى (ليمكن لهم دينهم الذي أرتضى لهم) ولم يكن لأمثال الخلفاء المذكورين دخل في تمكين الدين الذي يرتضي به الله بل رواج الدين كان بجهاد علي (عليه السلام) بسيفه ولسانه وجهاد الأئمة (عليهم السلام) بتعليمهم وجهادهم باللسان ولم يكن أكثر الخلفاء متظاهرين بالدين إلا تقية من الناس وكان مذهبهم اضطهاد كل من خالف حكومتهم ومنعهم من شهواتهم وقتل أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتشريدهم وطردهم، وكان النصارى في دولتهم أكرم وأقرب وأمكن من المؤمنين الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كما يشهد بذلك التاريخ. (ش)

أعاظم علماء الأربعة وثقاتهم في كتابه في تفسير قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) بإسناده عن علقمة عن ابن مسعود قال: وقعت الخلافة من الله تعالى في القرآن لثلاثة نفر لآدم لقول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض) يعني خالق في الأرض «خليفة» يعني آدم (عليه السلام). والخليفة الثاني: داود (عليه السلام) لقوله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) يعني في بيت المقدس. والخليفة الثالث: علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقوله تعالى في السورة التي يذكر فيها النور (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) يعني علي بن أبي طالب (عليه السلام) (ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) آدم وداود (وليمكنن لهم دينهم) يعني الإسلام (الذي ارتضى لهم) أي رضيه لهم (وليبدلنهم من بعد خوفهم) يعني من أهل مكة (أمنا) يعني في المدينة (يعبدونني) يوحدونني (ولا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك) بولاية علي بن أبي طالب (فأولئك هم الفاسقون) يعني العاصين لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله).

ص:176

باب أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن مرداس قال: حدثنا صفوان بن يحيى والحسن بن محبوب عن أبي أيوب، عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فقال: يا أبا خالد النور والله الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) إلى يوم القيامة وهم والله نور الله الذي أنزل، وهم والله نور الله في السماوات وفي الأرض والله يا أبا خالد! لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا أبا خالد! لا يحبنا عبد يتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا، فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر.

* الشرح:

قوله: (عن أبي خالد الكابلي) كأنه اثنان وكلاهما اسمه وردان: أحدهما أكبر والآخر أصغر ولقب الأكبر كنكر وهو من حواري علي بن الحسين (عليهم السلام).

قوله: (النور والله الأئمة) إطلاق النور عليهم من باب الحقيقة لأنهم أنوار إلهيون مستورون بجلابيب الأبدان قد انعكست أشعة أنوارهم في قلوب المؤمنين من وراء الحجاب ولو رفع الحجاب وكشف الغطاء لتحير الخلائق بأنوارهم، ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة باعتبار الاهتداء بهم إلى المقاصد الحقيقية في سلوك سبيل الله وكما أنهم أنوار في الدنيا بنورهم يهتدي الناس إلى سبيل الحق كذلك أنوار في الآخرة بنورهم يمضون على الصراط ويهتدون إلى سبيل الجنة. وليس إطلاق النور على الموجود الكامل بعيدا، وقد صرح القاضي وغيره في آية النور أن الملائكة والأنبياء يسمون أنوارا.

قوله: (أنور من الشمس المضيئة) لأن عالم القلوب وظلمته أوسع وأشد من عالم الظاهر، وظلمته، والنسبة بينهما كالنسبة بين الباصرة والبصيرة، بل بين الدنيا والآخرة، فالنور الرافع لظلمة الأول أشد وأقوى من النور الرافع لظلمة الثاني.

قوله: (ينورون قلوب المؤمنين) ليس هذا التنوير على نحو واحد بل مقول على الشدة

ص:177

والضعف بحسب تفاوت مرآة القلوب في الجلاء وأدنى مراتب الضعف ما يوجب زواله الدخول في زمرة الشياطين، وأقوى مراتب الشدة ما يوجب كمال التشبه بالأئمة الطاهرين.

قوله: (ويحجب الله) أي ويحجب الله تعالى نورهم عمن يشاء من عباده لإبطال استعداده الفطري وكماله الأصلي فتظلم قلوبهم وتعمى بصيرتهم فيتبعون نداء الشيطان ويسعون في هاوية الخذلان إلى أن يدخلوا جهنم وبئس المصير.

قوله: (حتى يطهر الله قلبه) عن الأخباث والعقائد الفاسدة والظاهر أن التطهير والتسليم والسلم من توابع المحبة دون العكس وإن كان «حتى» يحتمل الأمرين.

قوله: (حتى يسلم لنا) التسليم لهم هو متابعتهم في العقائد والأعمال والأقوال وقبول جميع ذلك وإن لم تظهر له الحكمة.

قوله: (ويكون سلما لنا) السلم بكسر السين وفتحها، وهما لغتان في الصلح يذكر ويؤنث وقال الخطابي: السلم بفتح السين واللام: الاستسلام وهو الإذعان والانقياد كقوله تعالى (وألقوا إليكم السلم) أي الانقياد وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع، يقال: رجل سلم ورجلان سلم وقوم سلم، قال الجوهري: السلم يعني بكسر السين وسكون اللام السالم يعني ترك الحرب يقال: أنا سلم لمن سالمني، وهذه المعاني قريبة من التسليم فالعطف للتفسير.

قوله: (من شديد الحساب) يفهم منه أنه يجري عليه أصل الحساب ولا يبعد ذلك وإن أمكن أن يقال: إن الإضافة للبيان لأن حساب القيامة كله شديد.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم بإسناده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث إلى قوله -: واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون) قال: النور في هذا الموضع [علي] أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله: (الذين يتبعون) في آخر سورة الأعراف إن أردت تفسيره فارجع إليها.

قوله: (الرسول النبي الامي) قيل: الرسول بالنسبة إلى الله والنبي بالنسبة إلى العباد والأمي بالنظر إلى نفسه لأنه منسوب إلى امه أي هو كما خرج من بطن امه لا يقرأ ولا يكتب.

قوله: (قال النور في هذا الموضع) لا يقال: الأولى أن يفسر النور بالقرآن بقرينة النزول لأنا نقول:

ص:178

الأولى أن يفسر بعلي وأولاده الطاهرين بقرينة «معه» أي مع الرسول إذ لو أريد القرآن لقيل انزل إليه ولا يصح انزل معه إلا بتقدير مضاف أي انزل مع نبوته كما قدروه والأصل عدمه وأما النزول فلا يصح أن يجعل قرينة لذاك دون هذا لأن النفوس القدسية والأرواح النورانية نزلت من عند الله تعالى إلى عالمنا هذا، لهداية الخلق كالقرآن فلا وجه لأن يجعل قرينة لأحدهما دون الآخر.

* الأصل:

3 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) لقد آتى الله أهل الكتاب خيرا كثيرا، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال: فقال: قد آتاكم الله كما آتاهم، ثم تلا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) يعني إماما تأتمون به.

* الشرح:

قوله: (يؤمنون) (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين اولئك يؤتون) الآية نزلت في من آمن من أهل الكتاب والضمير في قبله ويتلى للقرآن وإسلامهم بالقرآن قبل نزوله عبارة عن اعتقادهم بصحته لما وجدوه من نعته في كتبهم.

قوله: (مرتين) مرة للإيمان بالقرآن قبل النزول ومرة للإيمان به بعده أو مرة للصبر على أذى المشركين ومرة للصبر على أذى من لم يؤمن من أهل الكتاب.

قوله: (كفلين) أي نصيبين من رحمته، والكفل بالكسر: الضعف والنصيب أحدهما للتقوى والآخر للإيمان بالرسول والثبات عليه.

قوله: (ويجعل لكم نورا) جعل هذا النور غاية للتقوى والإيمان بالرسول دل على أنه لا إيمان ولا تقوى بدونه.

* الأصل:

4 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط والحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فقال: يا أبا خالد! النور والله الأئمة (عليهم السلام)، يا أبا خالد؟ لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله

ص:179

نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها.

* الشرح:

قوله: (لنور الإمام في قلوب المؤمنين) لعل المراد بنوره العلوم الحقيقية والأسرار الملكوتية والشرائع النبوية، وزيادة هذا النور على نور الشمس ظاهرة لأن بنور الشمس ينكشف عالم المبصرات وبهذا النور ينكشف عالم المجردات والماديات كلها.

* الأصل:

5 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن القاسم، عن صالح بن سهل الهمداني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) فاطمة (عليها السلام) (فيها مصباح) الحسن (المصباح في زجاجة) الحسين (الزجاجة كأنها كوكب دري) فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدنيا، (توقد من شجرة مباركة) إبراهيم (عليه السلام) (زيتونة لا شرقية ولا غربية) لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضيء) يكاد العلم ينفجر بها (ولو لم تمسسه نار نور على نور): إمام منها بعد إمام. (يهدي الله لنور من يشاء): يهدي الله للأئمة من يشاء (ويضرب الله الأمثال للناس)، قلت: (أو كظلمات) قال: الأول وصاحبه (يغشاه موج): الثالث (من فوقه موج ظلمات) الثاني (بعضها فوق بعض) معاوية لعنه الله وفتن بني امية (إذا أخرج يده) المؤمن في ظلمة فتنتهم (لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا) إماما من ولد فاطمة (عليها السلام) (فماله من نور) إمام يوم القيامة، وقال في قوله (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم): أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة.

علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم البجلي، ومحمد ابن يحيى، عن العمركي بن علي جميعا، عن علي بن جعفر (عليه السلام)، عن أخيه موسى (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (الله نور السماوات والأرض) قيل: النور جسم والله سبحانه ليس بجسم، وقيل: النور كيفية تدرك أولا ثم تدرك بها سائر المدركات وهو تعالى ليس بكيفية فلابد من تقدير مضاف أي الله ذو نور السماوات والأرض وخالقه أو من حمل النور على التجوز أي الله هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره يهتدون أو منورهما باطنا بالنفوس القدسية والعقول المجردة كما أنه منورهما

ص:180

ظاهرا بالأجرام النورية، أو منور قلوب المؤمنين التي بعضها بمنزلة السماء في الرفع وبعضها بمنزلة الأرض في الوضع والله سبحانه منور الجميع بالعلوم والحقائق على تفاوت درجاتهم.

قوله: (مثل نوره كمشكاة فاطمة (عليها السلام)) أي صفة نوره كصفة مشكاة قال الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة، وقيل: هي أنبوبة في وسط القنديل يوضع فيها المصباح وهو السراج والفتيلة المشتعلة والمراد بها هنا فاطمة (عليها السلام) لأنها محل لنور الأئمة، والأئمة نور وسراج لأن الطالبين للهداية المتبعين لأثرهم، يستضيئون بنور هدايتهم وضياء علومهم إلى الطريق الأرشد كما يهتدي السالكون في الظلمة بالنور والسراج، قيل: إضافة النور إلى ضميره تعالى دليل على أن إطلاقه عليه ليس على ظاهره.

قوله: (فيها مصباح) أي سراج وهو الحسن (عليه السلام) والمصباح في زجاجة: أي قنديل مثل الزجاجة في الصفاء والشفافية وهو الحسين (عليه السلام) فقد شبه فاطمة (عليها السلام) تارة بالمشكاة وتارة بالزجاجة، وبالاعتبار الثاني جعلها ظرفا لنور الحسين (عليه السلام) لزيادة ظهور نوره باعتبار كون سائر الأئمة من صلبه (عليه السلام) واللام في المصباح ليس للإشارة إلى المصباح الأول فلا يلزم الاتحاد على أن للاتحاد وجها لأن الحسن والحسين (عليهم السلام) نور واحد بجسب الحقيقة وإن كانا في الظاهر نورين.

قوله: (الزجاجة كأنها كوكب دري) أي منسوب إلى الدر باعتبار المشابهة به في الضياء والصفاء والتلألؤ، هذا إن كان بشد الراء والياء وإن كان بشد الياء فقط فهو من الدرء بمعنى الدفع قلبت همزته ياء وادغمت الياء في الياء فإنه يدفع الظلام بضوئه ولمعانه، والمراد بها فاطمة (عليها السلام) فإنها كوكب دري مضيء لامع نوراني فيما بين نساء أهل الدنيا.

قوله: (توقد من شجرة مباركة) توقد بالتاء أو بالياء على صيغة المجهول من الإيقاد تقول وقدت النار تقد وقودا أي توقدت وأوقدتها أنا و «من» ابتدائية أي توقد الزجاجة أو يوقد ذلك المصباح من شجرة مباركة زيتونة كثير النفع وهي إبراهيم (عليه السلام) فإنه ذو بركة عظيمة ونفع كثير لوجود الأنبياء والأوصياء من نسله واستظلال الناس بظلال أغصانه وجرائده وانتفاعهم من أثمار علومه وفوائده إلى قيام الساعة، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها.

قوله: (زيتونة) بدل عن شجرة لا صفة لها ولذلك فصلها عنها وقرنها بصفتها وإنما عبر عنها بالزيتونة للتنبيه على كثرة نفعها واتصافها بالعلم الذي هو كالزيت في كونه مادة لضيائها ومبدءا لنورانيتها.

قوله: (لا يهودية ولا نصرانية) لعل هذا باعتبار أنه كان مسكن اليهود من طرف الشرق ومسكن النصارى من طرف الغرب.

قوله: (يكاد زيتها يضيء) ضمير التأنيث يعود إلى فاطمة (عليها السلام) والمراد بالزيت العلم على سبيل

ص:181

الاستعارة والتشبيه ومس النار ترشيح يعني يكاد علمها يتفجر من قلبها الطاهر إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات بنفسه قبل أن تسأل لكثرته وغزارته وفرط ضيائه ولمعانه.

قوله: (يهدي الله للأئمة) أي لأجلها وتوسطهم أو إليهم.

قوله: (ويضرب الله الأمثال) تشبيها للمعقول بالمحسوس لزيادة البيان والإيضاح قال صاحب الطرائف: روى الشافعي ابن المغازلي بإسناده إلى الحسن قال: سألته عن قول الله عز وجل:

(كمشكاة فيها مصباح) قال المشكاة فاطمة (عليها السلام) والمصباح الحسن والحسين (عليهم السلام) «والزجاجة كأنها كوكب دري» قال: كانت فاطمة (عليها السلام) كوكبا دريا من نساء العالمين توقد من شجرة مباركة الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام) «لا شرقية ولا غربية» لا يهودية ولا نصرانية «يكاد زيتها يضيء» قال:

يكاد العلم أن ينطق منها «ولو لم تمسسه نار نور على نور» قال: منها إمام بعد إمام يهدي الله لنوره من يشاء قال: يهدي لولايتهم من يشاء.

قوله: (أو كظلمات) الآية هكذا (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض) - الآية شبه أعمال الذين كفروا، أولا بسراب في أنها لاغية لا منفعة لها، وثانيا: بظلمات في أنها خالية عن النور والضياء، واللجي: العميق، منسوب إلى اللج وهو معظم الماء، وضمير يغشاء راجع إلى البحر، ولما كان كل ما كان في الأولين من الظلام والفتن موجودا في الثالث مع زيادة ما أحدثه نسب إليه الغشاء والموج الذي هو عبارة عن الاضطراب، وضمير فوقه في الموضعين يرجع إلى موج يقرب منه والظلمات الثانية المتراكمة بعضها فوق بعض.

قوله: (إذا أخرج يده المؤمن) خص اليد والمؤمن بالذكر للتنبيه على شدة الظلمة وبلوغها حد الكمال فإنه إذا لم ير المؤمن ومعه نور ساطع وضوء لامع يده التي هي أقرب ما يمكن النظر إليه كان ذلك لأجل أن الظلمة المانعة من الرؤية في غاية الكثافة ونهاية الشدة.

قوله: (يكد يراها) أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها وفيه أيضا مبالغة على كثافة تلك الظلمة.

قوله: (فماله من نور إمام يوم القيامة) أي إمام عدل وإن كان له إمام جائر يقدمه إلى النار.

* الأصل:

6 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبيد الله، عن محمد بن الحسن وموسى بن عمر، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تبارك،

ص:182

وتعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم. قلت: قوله تعالى: (والله متم نوره) قال: يقول: والله متم الإمامة والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل: (آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) قال، النور هو الإمام.

* الشرح:

قوله: (يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم) تشبيه الولاية بالسراج استعارة مكنية ونسبة الإطفاء إليها تخييلية وذكر الأفواه ترشيح وأما في الآية فالاستعارة تحقيقية وإطفاؤها بما كانوا يقولون من الأقاويل الكاذبة الدالة على وجود النص عليها وغير ذلك من المفتريات.

قوله: (والله متم الإمامة) إتمامها انتشارها في قلوب المؤمنين أو زيادة كمالها.

باب ان الأئمة هم أركان الأرض

* الأصل:

1 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما جاء به علي (عليه السلام) آخذ وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، لقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد (صلى الله عليه وآله)، ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعى فيكسى وادعى فاكسى ويستنطق واستنطق فأنطق على حد منطقه ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني، ابشر بإذن الله واؤدي عنه، كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه. الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي، عن محمد بن سنان قال: حدثنا المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول - ثم ذكر الحديث الأول.

ص:183

* الشرح:

قوله: (جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد) يريد مساواتهما في الفضيلة العلمية والعملية والكمالات النفسانية أو في الفضل على الغير والإحسان إليه ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع الخلق فلعلي (عليه السلام) أيضا الفضل على جميعهم قضاء للمساواة أو المراد أن له (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع الخلق حتى على علي (عليه السلام) أيضا رعاية لحق الاستاذ والإرشاد والتعليم.

قوله: (المتعقب عليه في شيء من أحكامه) أي الشاك فيه من تعقبت على الخبر إذا شككت فيه أو المتأمل في حقيته من تعقبه إذا تدبر ونظر فيما يؤول إليه من صحة وفساد أو الطالب لعورته وعثرته من تعقبه واستعقبه إذا طلب عورته وعثرته.

قوله: (على حد الشرك بالله) توضيح ذلك إن الإسلام واسطة بين الشرك والإيمان والراد على إمام الوقت (1) وخليفة الله في الأرض في قضية صغيرة أو كبيرة مكذب له والمكذب له يتنزل من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام وهي حد الشرك فيتسلط عليه زمرة الشياطين فيدخلونه في

ص:184


1- 1 - قوله: «والراد على إمام الوقت» هذا حكم متوقف على عصمة الإمام من السهو والخطأ وإلا جاز للرعية الرد عليه وإنكاره بغير إشكال إذا إطلعوا على سهوه وخطائه، وأعلم أن هذه الإطاعة المطلقة للإمام على ما يقول به الشيعة الإمامية أيدهم الله ليس بمعنى الحكومة المطلقة التي أطبق المتفكرون من أهل العلم على ردها وإبطالها لأن هذه الحكومة التي نعتقدها للمعصوم (عليه السلام) مقيدة بإرادة الله وأحكامه وشرائعه وإنما نوجب إطاعته لأنا نعلم أنه (عليه السلام) لا يجاوز أمر الله تعالى وهذا الذي لا يخالف في حسنه سائر المليين وبعض الفلاسفة المتأخرين أيضا، وأما أهل السنة والجماعة فمع أنهم لا يقولون بالعصمة لم يروا الرد على الخليفة وتنبيهه على خطائه ممنوعا محرما ولم يجوزوا له أن يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد بل يجب عندهم أن يكون مقيدا بالشرع وأحكامه وإلا فلا يجوز إطاعته، وقال بعض النصارى: إن الحكومة المطلقة لم تكن قط في بلادهم بل كانوا قبل العصر الجديد مقيدين بحفظ قواعد دينهم وأصولهم ولم يكن ما يخالفها قانونية مشروعة وقال رجل من فلاسفتهم في العصر الأخير يسمى بونالد: إن الحكومة المقيدة بمراعاة أحكام الدين وشرائع الأنبياء (عليهم السلام) هي أحسن أنواع الحكومات وأوفق للطبيعة البشرية لا الحكومة المطلقة ولا المقيدة بآراء الناس وهذا عين مذهب أهل السنة. وقال بعضهم: إن الحكومة المطلقة لم تشرع في الأمم المتدينة بالشرائع السماوية كدولة بني إسرائيل في عهدهم ولا في دول المسيحيين والمسلمين المنكرين للظلم والتعدي على حقوق الأفراد والقائلين بحرمة نفوس الإنسان ودمهم وعرضهم وإنما كانت في الأمم الجاهلية الأولى: والوثنيين وربما يستحسنها الماديون والملاحدة في عصرنا أما الأولى: كدولة فرعون وبخت نصر وغيره فقد انقرضوا بغلبة الأديان السماوية عليهم وقهر الطبيعة الإنسانية المختارة لهم، وأما الثانية: فليس لهم إلا شبه محجوجة وسينقرضون البتة بعد ثوبت حرية الإنسان طبعا وأمثال ذلك كثير في كتبهم يدل على أن عدم تقيد الحكومة بشيء يخالف الطبيعة البشرية واختاروا في هذا العصر نوعا من الحكومة سموها الديمقراطية أو الحكومة الدستورية وهي الحكومة المقيدة بمراعاة آراء أغلب الرعايا وقبله كثير من المسلمين أيضا. (ش)

الشرك كما ترى في كثير من أهل الإسلام مثل المجسمة والمصورة والأشاعرة القائلين بزيادة الصفات وأضرابهم فان كلهم لما وقعوا في حد الشرك دخلوا فيه من حيث لا يعلمون.

قوله: (جعلهم الله أركان الأرض) كما أن للبناء أركانا بها وجوده وثباته كذلك للأرض أركان وهم الأئمة في كل ركن ثلاثة إذ بهم وجود الأرض وثباتها وبقاؤها ولولاهم لتحركت الأرض بأهلها ولم تستقر طرفة عين.

قوله: (أن تميد بأهلها) أي كراهة أن تميد، يقول: ماد يميد ميدا: أي تحرك وزاغ واضطرب.

قوله: (وحجته البالغة) عطف على باب الله أي كان أمير المؤمنين حجته الكاملة التي لا يحتاج بعدها إلى شيء آخر بخلاف غيرها من الحجج مثل العقل والقرآن الكريم فإنهما يحتاجان إلى هذه الحجة.

قوله: (ومن تحت الثرى) لعل المراد بهم الموتى ويحتمل الأعم.

قوله: (وكثيرا ما يقول) نصب على المصدر أو الظرف باعتبار الموصوف و «ما» لتأكيد معنى الكثرة والعامل ما يليه أي يقول قولا كثيرا أو حينا كثيرا.

قوله: (أنا قسيم الله بين الجنة والنار) من جاء يوم القيامة بولايته دخل الجنة ومن لم يجيء بها دخل النار. قال صاحب الطرائف: روى الشافعي ابن المغازلي في كتابه من عدة طرق بأسانيدها عن النبي (صلى الله عليه وآله) والمعنى متقارب فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم لم يمر عليه إلا من كان معه كتاب بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)» وفي بعض رواياتهم بأسانيدها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لم يجز على الصراط إلا من كان معه جواز من علي بن أبي طالب (عليه السلام)» وروى الشافعي أيضا في كتاب المناقب عن شريك عن الأعمش أنه قال: حدثني المتوكل الباجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إذا كان يوم القيامة قال سبحانه لي ولعلي أدخلا إلى الجنة من أحبكما وأدخلا إلى النار من أبغضكما فيجلس علي (عليه السلام) على شفير جهنم فيقول: هذا لي وهذا لك» الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ثم إنه قال (عليه السلام) ذلك امتثالا لأمر الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) وأيضا فإنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه لتعتقده الامة وتعمل بمقتضاه في توقيره (عليه السلام) كما امر وهذا نظير ما روي من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة» قال أبو عبد الله الآبي: هذا القول في حقه واجب فلا يرد أن مدح الإنسان نفسه قبيح وإن كان حقا وقال بعض الشافعية: مدح الإنسان نفسه إذا كان فيها تنبيه للمخاطب على ما خفى منه من حاله جائز كقول المعلم للمتعلم: اسمع مني فإنك لا تجد مثلي، قال: ومنه قول يوسف (عليه السلام) (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) على أنه فرق بين إظهار الفضيلة والافتخار بها وقال (عليه السلام): من باب إظهار كرامة الله تعالى شكرا عليها وليس ذلك افتخارا كما قال «أنا سيد أولاد آدم

ص:185

ولا فخر» وبالجملة الإيراد الذي أورده بعض النواصب من جهله لا وجه له أصلا.

قوله: (وأنا الفاروق الأكبر) لفرقه بين الحق والباطل والحلال والحرام والمؤمن والكافر والصادق والكاذب وبالجملة هو الفارق بين كل ضدين على الإطلاق وليس لأحد من الامة غيره هذه الفضيلة.

قوله: (وأنا صاحب العصا والميسم): هي الحديدة التي يكوى بها وأصله الموسم قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ولعل المراد به هنا خاتم سليمان، ويحتمل حمله على ظاهره وقد نقل أنه (عليه السلام) يخرج في آخر الزمان في أحسن الصورة ومعه عصا موسى وميسم يضرب المؤمن بالعصا ويكتب في وجهه مؤمن فينير وجهه وليسم الكافر بالميسم ويكتب في وجهه كافر، فيسود وعند ذلك يسد باب التوبة.

قوله: (والروح والرسل) لعل المراد بالروح: روح الأمين وروح القدس وهو جبرئيل (عليه السلام) فذكره بعد الملائكة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، ويحتمل أن يراد به روح المؤمن وهو الروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة ويقبل الإيمان والكفر ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم يذكر إقرار المؤمنين مع أنهم أيضا أقروا له في الميثاق بمثل ما أقروا لمحمد (صلى الله عليه وآله) فإنهم أقروا لمحمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة وتقدمه وشرفه على جميع الأنبياء وله (عليه السلام) بالولاية والإمامة وتقدمه وشرفه على جميع الأوصياء والمراد بالرسل الأنبياء جميعا من قبيل ذكر الخاص وإرادة العام.

قوله: (ولقد حملت على مثل حمولته) الحمولة بالفتح: الإبل التي تحمل وبالضم: الأحمال والمراد بها هنا المعارف الإلهية والعلوم اليقينية والتكاليف الشرعية والأخلاق النفسية وهي من حيث أنها تحمل صاحبها إلى مقام الانس ومنزل القرب «حمولة» بالفتح ومن حيث أنها حالة في المكلف وصفة من صفاته حمولة بالضم ويجوز إرادة كليهما هنا إلا أن «حملت» على الأول للمتكلم المجهول و «على» بتخفيف الياء وعلى الثاني للغايبة المجهولة و «علي» بتشديد الياء ومثل حمولته قائم مقام الفاعل وتأنيث الفعل باعتبار المضاف إليه.

قوله: (علمت المنايا) هو (عليه السلام) عندنا عالم بجميع ما كان وما يكون وما هو كائن كما دلت عليه الروايات المتكاثرة ودل عليه أيضا ما روي عنه (عليه السلام) «لو شئت أن اخبر كل رجل بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن أخاف أن يكفروا في برسول الله (1) إلا إني افضيه إلى الخاصة ممن

ص:186


1- 1 - قوله: «في برسول الله» وذلك لأن رأي الظاهريين من العامة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يعلم الغيب قوله تعالى (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) فإذا رأوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) الأخبار بالغائبات قالوا هو أفضل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو كفر. وهذه المسألة من مزال أقدام العوام إذ لا يخالف أحد في أن الرسول والأئمة بل الأولياء والصلحاء قد يخبرون عن الغيب. وقال الحكماء: إن لكل إنسان نصيبا من علم الغيب وإنما يتفاضلون في مقداره وفي صراحته وإبهامه. وقال ابن قبة وهو من قدماء علمائنا الإمامية: إن علم الغيب لا يدعيه في الأئمة إلا مشرك مع أنه استدل بإخبار علي (عليه السلام) بالغيب في النهروان وأن مصرعهم دون النطفة ولم يعبروا النهر على إمامته (عليه السلام). والمحصل من النظر في الأخبار وأقوال الحكماء وعلماء الشرع والتجارب الحاصلة المعلومة بالتواتر أن المنفى هو العلم الذاتي بكل شيء غائب فليس هذا لاحد إلا لله تعالى إذ هو خالق كل شيء ويعلم من ذاته ما يخلق وأما الممكنات كلما بلغوا في الشرف والعلو والفضيلة فعلمهم ليس ذاتيا لهم بل مأخوذ من الله تعالى فلابد أن يكون حاصلا لهم بمقدار ما يرى الله المصلحة في تعليمهم كما قال تعالى (فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من أرتضى من رسول) والأمر دائر عند العوام بين الجهل المطلق بكل غيب والعلم المطلق بكل غيب كما نرى في سائر عقائدهم أنهم إما مفرطون أو مفرطون والمنجم عندهم إما أن يقدر على الأخبار بكل ما سيقع من النظر في أوضاع الكواكب أو يكذب في الجميع ولا يقدر على شيء ولا يفرقون بين أمثال الخسوف والكسوف المبنية على التسييرات وبين أحكام المواليد والخصب والغلاء. (ش)

يؤمن ذلك منه» فقد أشار إلى أنه قد يتجاهل خوفا من أن يغلوا الامة في أمره ويفضلوه على الرسول بل من أن يتخذوه إلها كما ادعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغائبة وإلى أنه قد يظهر كمال علمه لبعض خواصه ممن يؤمن الكفر منه وهكذا شأن العلماء وأساطين الحكمة أن لا يضعوا الحكمة إلا في أهله (1) ومع كمال احتياطه في إفشاء كماله ذهب طائفة إلى أنه شريك محمد (صلى الله عليه وآله) في الرسالة وطائفة إلى أنه إله أرسل محمدا إلى عباده.

* الأصل:

2 - علي بن محمد; ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي قال: حدثنا سعيد الأعرج قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد على أبي عبد الله (عليه السلام) فابتدأنا فقال: يا سليمان! ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤخذ به وما نهى عنه ينتهى عنه، جرى له من الفضل ما جرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) الفضل على جميع من خلق الله، المعيب على أمير المؤمنين (عليه السلام) في شيء من أحكامه كالمعيب على الله عز وجل وعلى رسول الله (عليه السلام) والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وبذلك جرت الأئمة (عليهم السلام) واحدا بعد واحد، جعلهم الله

ص:187


1- 1 - قوله: «إلا في أهله» وذلك لأن للأشياء في ذهن أكثر الناس لوازم غير لازمة عند العقل ويفرق أهل العلم والمنطق بين اللازم العقلي والعرفي بالتمرن في الاستدلال وقهر الوهم للعقل سنين متمادية ولا يتحصل لغيرهم بغير تعلم وتمرن فإذا قلت للعامي: إن العالم مخلوق ذهب ذهنه إلى الحادث الزماني وإذا قلت: إنه ليس حادثا ذهب ذهنه إلى أنه ليس مخلوق وإنما المتمرن للاستدلال يعرف أن الفاعل المختار أن تتعلق إرادته بأن يكون له في جميع الأوقات مخلوق وكذلك يذهب ذهن العوام من امتناع إعادة المعدوم إلى نفي المعاد وغير ذلك مما لا يحصى، فأمر أساطين الحكمة بأن يلقى العلم على من يستعد لفهمه. (ش)

أركان الأرض أن تميد بهم والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وقال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح بمثل ما أقرت لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولقد حملت على حمولة محمد (صلى الله عليه وآله) وهي حمولة الرب، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله) يدعى فيكسى ويستنطق وادعى فاكسى واستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد اعطيت خصالا لم يعطهن أحد قبلي. علمت علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني، ابشر بإذن الله واؤدي عن الله عز وجل، كل ذلك مكنني الله فيه بإذنه.

* الشرح:

قوله: (وفصل الخطاب) أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل أو الخطاب المفصول الواضح الدلالة على المقصود للعارف، والمراد به كلام الله المشتمل على المصالح الكلية والجزئية والحكم البالغة والأوامر والنواهي وأحوال ما كان وما يكون إلى يوم القيامة أو الكتب السماوية كلها.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، وأحمد بن محمد جميعا، عن محمد بن الحسن، عن علي بن حسان قال:

حدثني أبو عبد الله الرياحي، عن أبي الصامت الحلواني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) ما جاء به آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الطاعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والفضل لمحمد (صلى الله عليه وآله) المتقدم بين يديه كالمتقدم بين يدي الله ورسوله والمتفضل عليه كالمتفضل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلكه وصل إلى الله عز وجل وكذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده، وجرى للأئمة (عليهم السلام) واحد بعد واحد، جعلهم الله عز وجل أركان الأرض أن تميد بأهلها وعمد الإسلام ورابطة على سبيل هداه، لا يهتدي هاد إلا بهداهم، ولا يضل خارج من الهدى إلا بتقصير عن حقهم، امناء الله على ما أهبط من علم أو عذر أو نذ ر، والحجة البالغة عل من في الأرض، يجري لآخرهم من الله مثل الذي جرى لأولهم، ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا قسيم الله بين الجنة والنار، لا يدخلها داخل إلا على حد قسمي وأنا الفاروق الأكبر وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمن كان قبلي، لا يتقدمني أحد إلا أحمد (صلى الله عليه وآله) وإني وإياه لعلى سبيل واحد، إلا أنه هو المدعو باسمه، ولقد اعطيت الست، علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول وإني لصاحب

ص:188

العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس.

* الشرح:

قوله: (قال: فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)) الظاهر أن فضل على صيغة المجهول، ويحتمل أن يكون أمرا، والمراد تفضيله على جميع الأمة في العلم والحكم والعمل، وقوله «ما جاء به آخذ به - إلى آخره» وإن كان في الظاهر خبرا لكنه في الواقع أمر بالأخذ بأمره ونهيه إلى يوم القيامة.

قوله: (المتقدم بين يديه) أي المتقدم عليه في أمر من الأمور والحكم به قبل أن يحكم هو به كالمتقدم على الله وعلى رسوله قبل أن يحكما به، وكذلك من يدعي التفضل والزيادة عليه في صفة من صفات الكمال مثل العلم والأخلاق ونحوهما كمن يدعي التفضل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه (عليه السلام) نفس الرسول في الفضل والكمال، كما تدل عليه آية المباهلة، وخليفة الله تعالى وقائم لمقام رسوله في الأحكام. وفي بعض النسخ المفضل بدل المتفضل في الموضعين، وذكر اليدين لله تعالى على سبيل التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح لأن المتقدم على غيره من بني نوعه من يكون سابقا عليه فيما بين هاتين الجهتين المتسامتين.

قوله: (فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله)) تعليل لجميع ما تقدم من تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) والأخذ بأمره ونهيه إلى آخر ما ذكره.

قوله: (وجرى للأئمة) يبين أن التفضيل ووجوب المتابعة غير مختص بأمير المؤمنين (عليه السلام) بل جار في الأئمة من أولاده الطاهرين.

قوله: (وعمد الإسلام) عطف على الأركان، والعمود بالفتح: عمود الخيمة والبيت وجمع القلة: أعمدة، وجمع. الكثرة: عمد بالتحريك وعمد بالضمتين وتشبيه الإسلام بالبيت استعارة مكنية، وإثبات العمد له استعارة تخييلية.

قوله: (ورابطة على سبيل هداه) أي جعلهم فرقة رابطة أي لازمة لسبيل الهدى غير مفارقة عنه وقد جاء رابطت بمعنى لازمت كما صرح به ابن الأثير في النهاية. أو جعلهم فرقة رابطة أي مقيمة على سبيل الهدى من الرباط: وهو الإقامة في الثغور حفظا من الدخول والخروج. أو جعلهم رابطة:

أي فرقة شديدة كأنهم يربطون أنفسهم بالصبر عن الفرار. وقد جاء الرابط بمعنى الشديد يقال:

خلف فلان بالثغر جيشا رابطة أي شديدة.

قوله: (لا يهتدي هاد إلا بهداهم) في بعض النسخ «لا يهدي هاد»، والهدى: الرشاد، والدلالة وهدى واهتدى هنا بمعنى والهادي يطلق على من يعرف غيره طريق الحق وعلى من يعرفه والثاني

ص:189

هو المراد هنا.

قوله: (امناء الله على ما أهبط من علم أو عذر أو نذر) عطف على رابطة بحذف العاطف أو حال عن الأئمة بحذف المبتدأ أي هم امناء الله، وعذر ونذر مصدران لعذر إذا محى الإساءة. قال ابن الأثير في النهاية. حقيقة عذرت محوت الإساءة وطمستها. ونذر إذا خوف، أو جمعان لعذير بمعنى المعذورة ونذير بمعنى الإنذار كما قالوا في قوله تعالى (فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) ولعل المراد. والله أعلم - هم أمناء الله تعالى على ما أهبط إليهم لا يزيدون ولا ينقصون من العلم بالمعارف الإلهية والأسرار الربانية وغير ذلك مما يتعلق بمصالح الدنيا والآخرة ومن محو الإساءة للمطيعين إذا كان لهم عذر صحيح ومعذرة ومن إنذار المبطلين وتخويفهم، وبالجملة والأمانة الإلهية في خليفته المتوسط بينه وبين عباده من جهة العلم ومن جهة التبليغ وهم (عليهم السلام) أمناؤه في هاتين الجهتين وخلفاؤه في تينك الخصلتين.

قوله: (ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله تعالى) أي لا يصل أحد منهم إلى ذلك المقام أو لا يصل أحد من الناس إلى الاهتداء بهداهم إلا بعون الله ونصرته، ففيه دلالة على الأول على أن الخلافة موهبية وعلى الثاني على أن الهداية موهبية.

قوله: (إلا على حد قسمي) القسم بفتح القاف: مصدر قسمت الشيء، وأما الكسر: فهو الحظ والنصيب.

قوله: (وأنا الإمام لمن بعدي) أي أنا المقتدى لمن ينشأ بعدي فيجب عليهم الاقتداء بسيرتي والاهتداء بهدايتي والمتابعة لقولي وفعلي، وأنا المؤدي عمن كان قبلي ديونهم أو الشهادة لهم وعليهم أو حقوقهم كلها ولهذا حذف المفعول للدلالة على التعميم.

قوله: (إلا أنه هو المدعو باسمه) لعل المراد أنه لا فرق بيني وبينه إلا في الاسم أما المسمى فواحد وحدة وصفية لا وحدة شخصية، ويحتمل أن يكون المراد أنه المدعو باسمه المختص كالرسول والنبي وأمثالهما كما يشعر به إضافة الاسم إلى ضميره يعني أن الفرق بيني وبينه في وصف الرسالة حيث أنه يتصف به لا أنا. وأما باقي الصفات الكمالية فلا فرق.

قوله: (والوصايا) عطف على «المنايا» على الظاهر أو على علم المنايا على الاحتمال والأول يفيد أنه كان عالما بوصايا جميع الأنبياء إلى أوصيائهم كما وكيفا ولم يكن كذلك أحد من الأوصياء السابقين والثاني يفيد أنه أوتي وصاياهم أو وصايا رسولنا (صلى الله عليه وآله) والجمع حينئذ باعتبار تعددها بتعدد متعلقها.

قوله: (وإني صاحب الكرات) الكرة: المرة والجمع الكرات وهو صاحب الكرات لعرض كل أحد عليه مرات مرة عند كونه روحا مجردا نورانيا في عالم القدس حيث عرض عليه الملائكة

ص:190

فوحدوه لتوحيده وسبحوه لتسبيحه وهللوه لتهليله. ومرة في الميثاق أخذ منهم العهد بولايته ومرة في الرحم إذ لا يتصور أحد إلا بحضوره. ومرة في غدير خم حيث أخذ له الولاية من الحاضرين وأمر بتبليغ ذلك إلى الغائبين. ومرة عند الموت فإنه يحضر موت كل أحد ومرة في القيامة فإنه يعرض عليه كل أحد فمن قبله فهو مقبول ومن رده فهو مردود. أو لكونه صاحب حملات في الحروب. أو لكونه صاحب الرجعة والله أعلم بحقيقة كلام وليه.

قوله: (ودولة الدول) الدولة: بالفتح في الحرب والجمع الدول بالكسر، والدولة بالضم: في المال يقال: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا ومرة لهذا والجمع دولات ودول بالضم، والدولة أيضا الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء وفيه إشارة إلى أنه صاحب الدولة في الحرب وقد اتفق على ذلك العامة والخاصة أو إلى أنه يرجع إله دولة المال والملك عند ظهور الصاحب المنتظر.

قوله: (والدابة) التي تكلم الناس بكلام يفهمونه، الظاهر أنه عطف على العصا قال في النهاية:

من أشراط الساعة دابة الأرض (1) قيل إنها دابة طولها ستون ذراعا ذات قوائم أربع ووبر وقيل: هي مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات ينصدع جبل الصفا فتخرج منه ليلة الجمعة والناس سائرون إلى منى، وقيل: من أرض الطائف ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليه السلام) لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، يضرب المؤمن بالعصا ويكتب في وجهه مؤمن ويطبع الكافر بالخاتم ويكتب في وجهه كافر، وقال عياض: قال المفسرون: إنها خلق عظيم يخرج من صدع من الصفا لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فينير وجهه ويكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر فيسود وجهه ويكتب بين عينيه كافر. وعن ابن عباس أنها الثعبان الذي كان بين الكعبة فاختطفته العقاب. وذكروا أنها آخر الآيات لقيام الساعة ويغلق عندها باب التوبة والعلم والعمل. ويحتمل أن يكون عطفا على قوله

ص:191


1- 1 - قوله: «من أشراط الساعة دابة الأرض» ورد ذكر دابة الأرض في القرآن الكريم وورد ما يشبهه في مكاشفات يوحنا من كتب النصارى أيضا واختلف في تفسيرها والحق الإيمان بظاهرها والتسليم لما أراد الله منها ورد علم ذلك إلى أهله وعدم التكلم فيه بغير برهان ظاهر وحجة قاطعة وما ورد من أن المراد بها أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ثبت صدوره عن الأئمة (عليهم السلام) فهو الحق الذي لا يمترى فيه وإن لم نعلم حقيقته ووجه التعبير عنه وإن لم يثبت إلا بطريق ظني فالوجه التوقف. وأما نفس هذه الرواية فضعيفة جدا لا حجية فيها لأن أبا صامت وأبا عبد الله الرياحي مجهولان وعلي بن حسان مشترك بين رجلين أحدهما ضعيف غال كذاب قالوا في حقه: إنه لا يتعلق من الإسلام بشيء. وإنما يقتصر في هذه الروايات على القدر الذي يوافق أصول المذهب وكذلك في جميع الروايات الضعيفة، وعلي بن حسان الذي قلنا إنه مشترك بين رجلين إذا صرح بروايته عن عبد الرحمن بن كثير فهو تصريح بكونه الضعيف الغالي وقد مر مثله في هذا الكتاب إلا أنه لم يكن مضمونه مخالفا للأصول. (ش)

لصاحب العصا ويؤيده ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه:

يا رسول الله يسمى بعضنا بعضا بهذا الاسم فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، معك ميسم تسم به أعداءك».

ص:192

باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته

* الأصل:

1 - أبو محمد القاسم بن العلاء (رحمه الله) رفعه، عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (عليه السلام) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، فقال عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله):

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض (صلى الله عليه وآله) حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما وإماما وما ترك [لهم] شيئا تحتاج إليه الامة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر به، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الامة فيجوز فيها اختيارهم؟! إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال: (إني جاعلك للناس إماما) فقال الخليل (عليه السلام) سرورا بها: (ومن ذريتي) قال الله تبارك وتعالى: (لا ينال

ص:193

عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثم أكرمها الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال جل وتعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) فكانت له خاصة فقلدها (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: (وقال الذين اوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟! إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام) ان الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة اس الإسلام النامي وفرعه السامي» بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام الحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجي من الردى، الإمام النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى به، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة; الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والام البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد، الإمام أمين الله في خلفه وحجته على عباده، وخليفته في بلاده والداعي إلى الله والذاب عن حرم الله. الإمام

ص:194

المطهر من الذنوب، والمبرأ عن العيوب.

* الشرح:

قوله: (في بدء مقدمنا) البدء بفتح الباء وسكون الدال والهمزة والبديء على فعيل أول الشيء والمقدم بفتح الدال مصدر كالقدوم.

قوله: (وخدعوا عن آرائهم) أي وقعوا في شدة ومكروه من جهة آرائهم الفاسدة الخادعة لهم وفي بعض النسخ المصححة «عن أديانهم».

قوله: (إن الله لم يقبض) اعلم أنه (عليه السلام) يبين هنا أمرين أحدهما أن الإمام منصوب من قبل الله تعالى وأنه علي (عليه السلام) وأولاده الطاهرون. ثانيهما: أن للإمام صفات عظيمة ونعوتا جليلة لا يصل إليها عقول البشر فلا يكون تعيينه مفوضا إلى اختيارهم ولا يمكن لهم معرفته بآرائهم وسيجئ بيان هذا مفصلا أما بيان الأول فهو على مقدمتين أولاهما: أن الله تعالى لم يقبض النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين لقوله تعالى: (تبيانا لكل شيء) وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) - الآية ودلالة هذه الآيات وأمثالها على ما ذكر واضحة. وأيضا العقل الصحيح يحكم بأنه تعالى إذا بعثه لتكميل أمر يقبح منه أن يقبضه قبل تكميله. وأخراهما: أن أمر الإمامة من كمال الدين وتمامه وهذا متفق عليه بيننا وبين مخالفينا إلا من شذ ولذلك اعتذر والترك دفنه (صلى الله عليه وآله) والاشتغال بتعيين الإمام بأن تعيينه أهم من دفنه لئلا يخلو الزمان من إمام ويلزم من هاتين المقدمتين أن يكون تعيينه من قبله (صلى الله عليه وآله) وإلا لزم خلاف المقدمة الاولى. ثم إنه أقام عليا (عليه السلام) لدلالة الآيات والروايات من طرق العامة والخاصة على ذلك ولأنه ثبت وجوب التنصيص بالامام ولم ينص بغيره إجماعا فهو منصوص.

قوله: (وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء) هذا وما عطف عليه إلى قوله (وأمر الإمامة) بمنزلة الدليل للسابق وفي بعض النسخ «فيه تفصيل كل شيء».

قوله: (كملا) الكمل: التمام يقال: أعطه هذا المال كملا أي تمامه وكله والمقصود منه ومما بعده أن كل شيء وكل ما يحتاج إليه الامة في القرآن وأمر الإمامة من جملة الأشياء وأعظم ما يحتاج إليه الامة فهو أيضا في القرآن.

ص:195

قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فرط وفرط بالتخفيف والتشديد يتعديان بفي يقال: فرط في الأمر يفرط فرطا من باب نصر وفرط فيه تفرطا أي قصر فيه وضيعه حتى فات ولذا قال القاضي «من» مزيدة و «شيء» في موضع المصدر فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب، والمقصود أن الكتاب تام غير ناقص في البيان إذ كل شيء من أمر الدين وغيره فهو مذكور في الكتاب مفصلا في اللوح المحفوظ فإن مشتمل على كل ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد بعيد جدا، فان الظاهر من الكتاب هو القرآن ويؤيده أيضا ما قبل هذه الآية وما بعدها.

قوله: (وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله) (اليوم أكملت لكم دينكم.) الآية قال بعض العامة ناقلا عن عمر: أن هذه الآية نزلت يوم حجة الوداع في عرفات، وقال مجاهد: نزلت يوم فتح مكة.

وقالت الإمامية: إنها نزلت في غدير خم يوم الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع بعدما نصب (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) للخلافة بأمر الله تعالى، وقد دلت على ذلك رواياتنا وبعض روايات العامة أيضا، وقد ذكر صاحب الطرائف جملة من رواياتهم منها ما رواه أبو بكر بن مردويه بإسناده إلى أبي سعيد الخدري «أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى غدير خم أمر الناس بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي (عليه السلام) فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية العظيمة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه.

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله - إلى أن قال: - فقال عمر بن خطاب هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ومنها ما رواه الشافعي ابن المغازلي بإسناده إلى أبي هريرة قال: «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:

ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فعلي مولاه،

ص:196

فقال عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ومعنى الآية الكريمة بحسب تفسير أهل الذكر (عليهم السلام) اليوم أكملت لكم دينكم بولاية علي (عليه السلام)، وأتممت عليكم نعمتي بإكمال الشرائع بإمامة علي (عليه السلام)، ورضيت لكم الإسلام دينا بخلافته (عليه السلام)» والعامة لما لم يعرفوا ذلك اعترضوا بأنه تعالى لم يزل كان راضيا بدين الإسلام فلم يكن لتقييد رضاه باليوم فائدة، وأجاب القرطبي بأن معنى قوله: (رضيت لكم الإسلام دينا) أعلمتكم اليوم برضاي له دينا فلا يرد أنه لا فائدة لتقييد رضاه باليوم، فاعرف قبح الاعتراض وقبح توجيهه وكن من الشاكرين وسيجئ لهذا زيادة توضيح في محله إن شاء الله تعالى.

قوله: (وأمر الإمامة من تمام الدين) هذا متفق عليه بين الخاصة والعامة ولذلك بادروا بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) قبل دفنه إلى نصب خليفة واعتذروا عن ذلك بأن نصب الإمام أهم من دفنه لئلا يخلو الزمان بلا إمام، وهذا الاعتذار دل على فساد مذهبهم، تأمل تعرف.

قوله: (فمن زعم) يعني من زعم أن الله تعالى يكمل دينه بنصب إمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد رد كتاب الله تعالى وكذبه في قوله (اليوم أكملت لكم دينكم) - الآية وقوله: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) وقوله: (إنما وليكم الله) - الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تمام الدين وكماله بنصب الإمام وتعيين الخليفة.

قوله: (فهو كافر به) (1) أي بالله وبكتابه والكفر بإحدهما مستلزم للكفر بالآخر.

ص:197


1- 1 - قوله: «فهو كافر به» إلى هنا استدلال من القرآن على وجوب نصب الإمام من الله تعالى وهو من أقوى البراهين وأوثق الحجج وهذه الرواية وإن كانت بحسب الإسناد مرسلة وضعيفة لجهالة عبد العزيز بن مسلم إذ لم يعرف إلا من هذه الرواية فقط لكن الاعتماد فيها وفي أمثالها على المعنى، وحاصل الحجة أن الإمامة مسألة من مسائل الدين وحكم من أحكامه وليست مسألة اجتماعية مفوضة إلى آراء الناس واختيارهم نظير أنهم كيف يجب أن يبنوا دورهم ويخيطوا ألبستهم ويزينوا محافلهم ويطبخوا أطعمتهم بل هو من تمام الدين بل من أهم مقاصده ولو لم تكن مسألة دينية جاز سكوت النبي (صلى الله عليه وآله) عنها وعدم نزول حكم من الله فيها كما يعتقد بعض الناس وكان على الناس أن يختاروا ما يستحسنونه ويرونه أولى وأحسن وأوفق لهم وإذا كان من الدين كما قال (عليه السلام) «أمر الإمامة من تمام الدين» فلابد أن يكون الدين كاملا عند موته، ولو لم يبين لكان الدين غير كامل عند رحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا خلاف القرآن حيث قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) ثم شرع (عليه السلام) بعد ذلك الحجة القرآنية في ذكر دليل عقلي على نصب الإمام من الله وهي أن الإمامة يشترط فيها شرائط لا طريق للناس إلى إحرازها للخلافة كالعلم والعصمة إذ لا يعلم هذه الملكات ووجودها في صاحبها إلا الله تعالى إذ هي ملكة خفية لا علامة لها ظاهرة بحيث يتيقن بوجودها نظير الشجاعة والسخاء والعدالة، ثم ذكر (عليه السلام) مفصلا الشرائط التي يجب إحرازها في الإمام التي يعرف المخالفون أن البشر لا يحيط علما باجتماعها في شخص وإنما العالم بها الله تعالى فقط واستشهد قبل تفصيل ذكر الصفات بنصب الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) إماما ومن ذريته وبعد ذلك ذكر (عليه السلام) أدلة وبراهين على أن الإمامة من أهم المسائل الدينية ولا يحتمل أن تكون مسألة سياسية منفكة عن الدين كما يزعمه الجاهلون على ما يذكر إن شاء الله تعالى (ش).

قوله: (هل يعرفون) الاستفهام للإنكار وحمله على الحقيقة بعيد والمقصود أن اختيارهم إماما موقوف على معرفة قدر الإمامة ومرتبتها وصفاتها المختصة بها وعلى معرفة محلها المتصف بها وهم قاصرون عن معرفة جميع ذلك فلا مدخل في الإمامة لاختيارهم.

قوله: (إن الإمامة أجل قدرا) قدر الشيء مبلغه وشأن الشيء حاله وغور الشيء قعره وعمقه، وهذا دليل على عدم اقتدارهم على معرفة الإمامة وعدم جواز اختيارهم فيها لعجز عقولهم عن إدراك قدر الإمامة ومبلغها لجلالته وعن إدراك شأنها وصفاتها لعظمته وعن الوصول إلى مكانها ومنزلها لعلوه وارتفاعه، وعن الوصول إلى جانب من جوانبها وطريق من طرقها الموصلة إليها لخفائه، وعن إدراك كنه حقيقتها وذاتها لدقته، وإذا عجزت عن إدراكها من هذه الجهات فقد عجزت عن إدراكها مطلقا لأن كل شيء يدرك فإنما يدرك من إحدى هذه الجهات.

قوله: (من أن يبلغها الناس بعقولهم) متعلق بأجل وما عطف عليه على سبيل التنازع ووجه الترديد أن المدرك إما معقول صرفا أو معقول بمعونة الحواس وليس في وسعهم إدراك الإمامة بأحد هذين الوجهين إذ لا مدخل للحواس في معرفة الإمامة وليس لعقولهم طريق إلى معرفتها.

وفي جعل قوله (أو يقيموا إماما باختيارهم) قسيما لهما نوع إشعار بأن إقامتهم إماما كان تحكما مجردا عن إدراك الإمامة ومحلها بوجه من الوجوه.

قوله: (إن الإمامة خص الله تعالى بها إبراهيم الخليل (عليه السلام)) دليل على قوله «إن الإمامة أجل - إلى آخره» وتوضيح لأن الإمامة تثبت بالنص كما هو مذهب الإمامية من أن تعيين الإمام من قبل الله تعالى ومن قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويلزم سائر الناس ولا مدخلا لاختيارهم في ذلك خلافا للعامة فإنهم ذهبوا إلى أنه ليس ذلك على الله وعلى رسوله واعتقدوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضى ولم يستخلف (1)

ص:198


1- 1 - قوله: «مضى ولم يستخلف» لو كانت الإمامة من الدين لم يجز ترك بيانه من الله ورسوله مخصوصا مع قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فكان الدين كاملا ولم يكن فيه مسألة الإمامة بإعتقادهم فيلزم منه أن لا يكون الإمامة من الدين فبطل تمسكهم بالإجماع والأدلة الشرعية بل كفى أن يقال هذه مسألة غير دينية فللناس أن يفعلوا ما شاؤوا ويختاروا ما أرادوا فدعواهم مبنية على أمرين متناقضين والتمسك بالإجماع في الإمامة نظير التمسك به في إيجاب بناء البيت من اللبن، وطبخ اللحم بالنار وإن كانت من الدين فلابد أن يبينها الله ورسوله كما هو مذهبنا، ولا أدري كيف لم تكن عند اختيارهم من أرادوا مسألة دينية بل مفوضة إلى الناس وبعد اختيارهم ونصبهم صارت مسألة دينية وجب على الناس قبولهم وحرم عليهم التخلف وجاز قتل المخالفين وسبيهم شرعا مع أنهم لم يخالفوا إلا في مسألة عرفية وهل يقتل أحد إن خالف غيره في طريقة طبخ طعام أو خياطة ثوب فإن قالوا: مخالفة الإمام فتنة ومفسدة وحل لنظام الاجتماع بخلاف المخالفة في طبخ الطعام وخياطة الثوب، قلنا: الفتنة والفساد وحل نظام الاجتماع إن كانت منهية في الشرع كانت مسألة الإمامة مسألة دينية وان لم تكن منهية لم يجز قتل المخالف وسلبه إلى أن هذه المسألة الدينية كيف أهملت ومع ذلك صرح في الآية الكريمة بقوله: (أكملت لكم دينكم) وهل هذا إلا تهافت واضح. (ش).

قال الآبي ناقلا عن القاضي القرطبي: عقد الخلافة يتحقق بأحد الوجهين إما باستخلاف المتولي وإما باتفاق أهل الحل والعقد على رجل ويلزم سائر الناس ولا يلزم مباشرة كل الناس للبيعة وينعقد أيضا بالواحد من أهل الحل والعقد إذا لم يوجد غيره واحتج شارح رجز الضرير بعقدها أبو بكر لعمر وعقدها عبد الرحمن لعثمان، وبعض الشيوخ يضعف هذا الاحتجاج ويقول: إنه ليس بشيء لأن عقدها لعمر وعثمان إنما كان بإجماع الصحابة على ذلك وقال: وإنما يحتج بعقدها بالواحد بمسألة الإجماع إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فإنه يتقرر ويكون قوله وحده إجماعا. أقول:

ما ذكره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف فهو افتراء على الله تعالى ورسوله لأن كتب اصولهم مشحونة باستخلاف علي (عليه السلام) مثل حديث غدير خم ومثل قوله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» غير ذلك مما يوجب ذكره بسطا في الكلام ودل على ذلك أيضا القرآن المجيد في مواضع عديدة والباعث للسابقين منهم على ترك جميع ذلك هو حب الدنيا والميل إلى الرئاسة والشقاوة الأبدية والوساوس الشيطانية وللتابعين عليه هو إتفاق السابقين على غيره بناء على أن الصحابة كلهم مرضيون عندهم، وهذا شيء لا أصل له واتفاقهم ممنوع لما مر من قول شارح الرجز وهو من أعاظم علمائهم ولعدم موافقة سلمان وأبي ذر والمقداد لهم في ذلك ولعدم دخول علي (عليه السلام) وطلحة والزبير والعباس وغيرهم من الجماعة الهاشميين في سقيفة بني ساعدة عند اختيار عمر أبا بكر لهذا الأمر كما صرح به الآبي في كتاب الإمارة من صحيح مسلم. فنحن براء من إمام نصبه فلان وفلان (في الأصل جملة غير مقروءة) دون الناس أجمعين، ثم قال القرطبي:

ص:199

وجب نصب الخليفة خلافا للأصم فإنه قال: لا يجب نصبه، واحتج ببقاء الصحابة دون خليفة مدة التشاور يوم السقيفة وبعد موت عمر.

أقول: إن أراد أن وجوب النصب مختص بالامة فلابد لدعوى هذا الاختصاص من دليل وليس، فليس، وهل هذا إلا مثل أن يقال: وجب علينا حفظ مال زيد وعرضه لا على زيد، وإن أراد وجوب نصبه على الإطلاق مع قوله «بأن النبي لم ينصبه» لزم إسناد ترك الواجب إلى النبي ولزمهم أيضا أن من مات في مدة التشاور من المؤمنين أن يكون كافرا لما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وقال الآبي: القائلون بأنه لا يجب نصب الإمام في شيء من الأيام بل إن نصب جاز، وإن ترك جاز; إنما هم الخوارج. وأما الأصم فالمحكي عنه التفصيل وهو ما أشار إليه الآمدي حيث قال: ذهب الأصم إلى أنه يجب نصبه عند الخوف وظهور الفتن ولا يجب نصبه عند الأمن وانتصاف الناس بعضهم من بعض للاستغناء عنه وعدم الحاجة إليه. وذهب القرطبي وأتباعه إلى عكس ذلك فقالوا: لا يجب نصبه عند الفتن لأنهم أنفوا من طاعته وقد يقتلونه فيكون نصبه زيادة في الفتن. وذهب أهل السنة وأكثر المعتزلة إلى وجوب نصبه مطلقا لدليل السمع (1) والسمع في ذلك هو الإجماع الواقع في الصدر الأول حتى قال أبو بكر في خطبته: إن محمدا مات ولابد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادروا إلى تصديقه وقبلوا قوله، ولم يخالف في ذلك أحد وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم إلى هلم. وقال بعض الناس: إن دليل وجوب نصبه إنما هو العقل لأن في ترك الناس لا إمام لهم مع اختلاف الآراء فسادا في الدين والدنيا.

وقال الآبي: القائل بوجوبه عقلا الإمامية (2) والجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري ثم اختلف هؤلاء، فقال الإمامية: الوجوب في ذلك إنما هو على الله سبحانه وتعالى. وقال الجاحظ وصاحباه إنما الوجوب في ذلك على الخلق. أقول: قول أبي بكر «لابد لهذا الدين ممن يقوم به» إما

ص:200


1- 1 - قوله: «مطلقا لدليل السمع» وهذا تصريح منهم بأن الإمامة مسألة دينية ويؤخذ وجوبها من الشرع وحينئذ فيجب أن يكون ثابتا في الدين حين نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) ولو كان الدليل الإجماع الحاصل باعتقادهم بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله) لزم أن لا يكون الدين كاملا على عهده (صلى الله عليه وآله) وإنما كمل بعد رحلته بالإجماع وهذا خلاف صريح الآية الكريمة. (ش)
2- 1 - قوله: «القائل بوجوبه عقلا الإمامية» وغرض أصحابنا أيدهم الله تعالى ان العقل كاشف عن كونه واجبا من الله تعالى وكذلك في كل حكم شرعي يثبت بالعقل كحرمة الغصب أن العقل يكشف عن كونه ثابتا في الشرع لا أنه ليس واجبا شرعا بل عقلا فقط حتى لا يكون من المسائل الدينية. (ش)

صادق أو كاذب فعلى الثاني: لزم كذبه وكذب من صدقه وبطلان الإجماع، وعلى الأول: فإما أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) عالما بأنه لابد لهذا الدين من يقوم به أو لم يكن؟ فعلى الأول: لزم أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) مضيعا لدينه حيث لم ينصب من يقوم به دينه وتاركا للواجب، وعلى الثاني: لزم أن يكون أبو بكر أعلم منه فيما له مدخل في صلاح دينه، ثم أقول على الجاحظ والكعبي وأبي الحسين البصري إنما ذكرتم من دليل العقل إنما دل على وجوب نصبه على الرسول وتخصيصه بالامة لا وجه له، ثم قال الآبي: الأقوال في نصبه ستة: وجوب نصبه على الخلق مطلقا لدليل السمع، ووجوبه لدليل العقل على الله سبحانه، ووجوبه لدليل العقل على الخلق، ووجوب نصبه في الفتن لا في الأمن وعكسه، والسادس عدم وجوبه مطلقا وهو مذهب الخوارج (1).

قوله: (وأشاد بها ذكره) أي رفع بها قدره، فالإمامة أرفع منزلة وأعلى مرتبة من النبوة والخلة وإذا لم يكن لاختيار الخلق فيهما مدخل فكيف له مدخل في الإمامة: قوله (فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم) حيث دلت على أن من صدر منه ظلم على نفسه أو على غيره في وقت الإمامة أو قبلهما لا يصلح للإمامة، فمن عبد الأصنام ولعب بالأزلام في أكثر عمره كيف يكون إماما.

قوله: (وصارت في الصفوة) أي صارت بحكم الآية ثابتة في الخاص من الذنوب مطلقا

ص:201


1- 2 - قوله: «وهو مذهب الخوارج» تمسكوا بقوله تعالى (إن الحكم إلا لله) وأجاب عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما روى في نهج البلاغة: إنها كلمة حق يراد بها الباطل. وهؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله. يعني أن الإمرة غير الحكم ولابد من أمير يحكم بحكم الله تعالى لا بحكم غيره ولا ريب أن حكم الله لابد أن ينفذه أمير ولذلك لم يتم أمر الخوارج أيضا في زمان إلا بأمير لهم. فإن قيل: سلمنا أن الإمامة واجبة عقلا وشرعا ولا يتم الدين إلا بالإمامة ولكن المقدار المسلم من ذلك إثبات أصل الإمامة ووجود إمام ما ولا يجب تعيين شخصه على النبي ولا على الله تعالى كما أنه أوجب الجهاد والدفاع ونعلم أن ذلك لا يتم إلا بجند ورئيس للجند ولا يجب تعيين رئيس الجند شخصا وكما أوجب تعليم القرآن والفقه وحفظ شعائر الدين ومشاعره ولا يوجب ذلك تعيين شخص المعلم وحافظ الشعائر فنقول: أولا: إن في الإمام شروطا لا يطلع عليها الناس كما مر ويأتي إن شاء الله. وثانيا: بعد أن علم أن الإمامة من الدين وكماله فلابد أن لا يكتفي النبي (صلى الله عليه وآله) بإيجابها إجمالا بل إما أن يصرح بأن الأمر مفوض إلى الناس يختارون من شاؤوا وأما أن يصرح بالتعيين، وادعى كثير تصريحه باختيار علي (عليه السلام) ولم نر في كتاب حديث أو تاريخ وسيرة أنه (صلى الله عليه وآله) قال يوما لأصحابه «فوضت أمر الخلافة بعدي إليكم فانصبوا من شئتم» فإذا لم يكن هذا قطعا ثبت الاحتمال الآخر وهو تعيين علي (عليه السلام)، وأما الإجمال والإبهام فغير محتمل مع ما نعلم من عمل الخلفاء بعده من التعيين أو التفويض إلى أهل الشورى صريحا ولم يكونوا أعقل وأسوس وأحكم تدبيرا وأنظر لحفظ الدين من رسول الله (صلى الله عليه وآله). (ش)

المصطفى المختار من عند الله تعالى ليحصل الوثوق بما صدر منه والأمن من الخطأ في تقرير الشرائع وإجراء الحدود وصرف بيت المال في مصارفه لا في غيره كما فعله عثمان.

قوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) النفل بسكون الفاء والنافلة: عطية التطوع من حيث لا تجب ومنه نافلة الصلاة والنافلة أيضا ولد الولد والزيادة وهي على المعنى الأول حال من كل واحد من إسحاق ويعقوب وعلى الأخيرين حال من يعقوب، أما على الثاني فظاهر، وأما على الثالث فلأن يعقوب زيادة على من سأله إبراهيم (عليه السلام) وهو إسحاق.

قوله: (وكلا جعلنا صالحين) أي وجعلنا كلهم صالحين موصوفين بصلاح ظاهرهم وباطنهم حتى صاروا كاملين في الحقيقة الإنسانية بالغين حد الكمال قابلين للخلافة والإمامة.

قوله: (وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا) أي وجعلناهم أئمة للخلائق يهدونهم إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وهو صريح في أن تعيين الإمام من قبل الله تعالى غير مفوض إلى اختيار العباد.

قوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) أي أوحينا إليهم بعد تكميل ذواتهم بالعلوم الحقيقية أن يفعلوا الخيرات كلها ليجتمع لهم الحكمة النظرية والعملية ويحصل لهم السعادة الدنيوية والاخروية وهو صريح في أن الإمام يجب أن يكون منعوتا بهاتين النعتين وموصوفا بهاتين الفضيلتين فمن كان موسوما بسمة الجهالة، وموصوفا بصفة الضلالة، ورذيلة الغباوة والحماقة لا يصح أن يكون إماما.

قوله: (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) عطفهما على الخيرات من باب عطف الخاص على العام للإشعار بفضلهما والاهتمام بشأنهما وحذفت التاء من إقام الصلاة للتخفيف مع قيام المضاف إليه مقامها وهو صريح في أن الإمام يجب أن يكون مقيما للصلاة معطيا للزكاة في جميع العمر وأوان التكليف فكيف يكون الثلاثة الذين مضى أكثر أعمارهم في عبادة الأصنام مستحقين للإمامة.

قوله: (وكانوا لنا عبادين) عطف على «أوحينا» أو حال عن ضمير إليهم بتقدير قد، وإيحاء فعل الخيرات حينئذ لزيادة الترغيب والحث على فعلها وتقديم الظرف بقصد الحصر أي وكانوا عابدين لنا لا لغيرنا ومخلصين في عبادتهم غير مشركين في جميع العمر، كما يشعر به لفظ كانوا وهو صريح في أن من أشرك في وقت من الأوقات لا يجوز أن يكون إماما فكيف يكون الثلاثة الذين أشركوا في أكثر الأوقات أئمة.

قوله: (يرثها بعض عن بعض) بنص الأول للآخر بأمر الله تعالى جل شأنه.

ص:202

قوله: (قرنا فقرنا) بالنصب على الظرفية أو على المصدرية وفي النهاية الأثيرية: القرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم.

وقيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: مطلق من الزمان وهو مصدر قرن يقرن.

قوله: فقال جل وتعالى: (أن أولى الناس) أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه للذين اتبعوه في عقائده وأعماله وأقواله ظاهرا وباطنا ولم يخالفوه أصلا وهم أوصياؤه (عليهم السلام) وهذا النبي الامي العربي والذين آمنوا بالله من أوصيائه (عليهم السلام) والله ولي المؤمنين ينصرهم لإيمانهم وإرشادهم عباد الله إلى صراطه المستقيم وقد احتج أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه على أوليته بالخلافة فقال:

«وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا، وهو قوله تعالى: (واولوا الأرحام بعضهم اولي ببعض في كتاب الله) وقوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم) - الآية يعني كتاب الله - يجمع لنا ما ذهب عنا من هذا الأمر وهو هاتان الآيتان، أما دلالة الآية الاولى فلأنه (عليه السلام) من أخص أولي الأرحام بالنبي فهو أولى بالقيام مقامه بحكم هذه الآية. وأما الدلالة الثانية فلأنه (عليه السلام) أقرب الخلق إلى الإيمان به واتباعه وأولهم فقد ظهر أنه (عليه السلام) أولى به وبمنصبه تارة من جهة قرابته وتارة من جهة طاعته واتباعه وعدم مخالفته بوجه من الوجوه.

قوله: (فقلدها (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)) أي جعلها لازمة في عنقه لزوم القلائد في الأعناق على رسم ما فرض الله تعالى عليه وامتثال أمره لكونها جلية لا تليق إلا به.

قوله: (فصارت في ذريته الأصفياء) وصف الذرية بثلاثة أوصاف أحدها الصفاء المطلق وهو الخلوص عن جميع الأكدار والأعراض عن جميع الأغيار والتوسل إليه تعالى في جميع الأحوال، وثانيها حقيقة العلم ووصفهم بذلك يقتضي أن يكون لهم العلم بجميع الأشياء، وثالثها حقيقة الإيمان وهو يفيد أن لهم أعلى مراتب الإيمان ليشعر بأن المستحقين للإمامة هم الموصوفون بهذه الصفات لأن غيرهم لا يخلو عن ظلم ما والظالم لا ينال الإمامة كما قال سبحانه: (لا ينال عهدي الظالمين).

قوله: بقول تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) الجار متعلق بصارت أو بأتاهم والمجرمون يقسمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا في الدنيا أو في القبور غير ساعة لاستقلالهم مدة

ص:203

لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا كما أشار إليه سبحانه بقوله: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون) أي مثل ذلك الصرف عند التحقيق كانوا يصرفون في الدنيا ويجيبهم الذين أوتوا العلم والإيمان من الأئمة المعصومين والعترة الطاهرة لقد لبثتم في كتاب الله أي في علمه أو قضائه أو اللوح المحفوظ أو القرآن إلى يوم البعث فهذا يوم البعث الذي كنتم منكرين له لرد ما قالوه وحلفوا عليه، وهذا الجواب وإن لم يتضمن تحديد مدة لبثهم لكن فيه دلالة بحسب قرينة المقام على أنها زائدة على ما قالوه كثيرا حتى كأنها لا يحيط بها التحديد.

قوله: (إذ لا نبي بعد محمد) دليل لقوله تعالى إلى يوم القيامة يعني أن خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) مستمرة في ولد علي (عليه السلام) إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) حتى تنقطع الخلافة من ولد على (عليه السلام).

قوله: (فمن أين يختار هؤلاء الجهال) الفعل إما مجهول والجهال صفة لهؤلاء أو بدل، وإما معلوم والجهال مفعول على الظاهر أو صفة أو بدل على الاحتمال (1) وعلى التقادير فيه إشعار بأن طريق اختيارهم مسدود من جميع الجهات.

قوله: (إن الإمامة هي منزلة الأنبياء) لما أشار سابقا إلى أن الإمامة لجلالة قدرها وعظمة شأنها لا يبلغها عقول الناس وأنها إنما تثبت بالنص وأنها حق علي (عليه السلام) أشار هنا إلى شيء من أوصافها

ص:204


1- 1 - قوله: «على الاحتمال» هذا الاحتمال أظهر مما سبقه وإن عكس الشارح وسياق الدليل هكذا: الإمامة متوقفة على شرائط وأوصاف خفية لا يعلم وجودها في أحد إلا الله تعالى وهؤلاء الناسبون للإمام جهال لا يعلمون وجودها في أحد فكيف يختارون الإمام وينصبونه وأما أن الإمامة متوقفة على شروط فلما يذكر بعد ذلك، واعلم أن الإمام المنصوب من قبل الناس يجب أن يكون محكوما بحكمهم ومطيعا لهم ومنفذا لإراداتهم لا آمرا عليهم وقاهرا لهم وبالجملة وظيفته وظيفة الوكيل والنائب لا وظيفة الولي والقيم لأن أصل إمامته كان باختيارهم وإرادتهم فلا يجوز أن يكون فعله مخالفا لهم وبذلك تعلم أن خلافة من نصبوه لا يمكن أن تكون بمعنى وجوب إطاعته وإنفاذ أمره والتسليم لحكمه بل بمعنى أن يستنبط رأيهم ويفتش عن رضاهم وإرادتهم وينفذ ما يريدون نظير الحكومة الديمقراطية أو الدستورية في عهدنا لأن هذا هو اللازم العقلي لنصب الخليفة ثم أنه لا يزيد على سائر مواطنيه بعد النصب في عقل وتدبير ودراية وسائر ما يوجب له تفوقا وإن سلمنا أنه فائق على كل واحد في جميع ذلك لكن لا يزيد عقل الواحد على عقل جميع الناس أيا ما كان سلمنا أنه أعقل من الجميع لكن لا يجوز له إنفاذ حكم عليهم بغير رضاهم بعد أن كان أصل نصبه برضاهم وبالجملة فنصب أحد بالاختيار وطاعته بالإجبار تناقض نظير صنع صنم بيد المخلوق ثم طلب الحاجة منه بعد الصنعة ووجوب الطاعة لا يتصور إلا للإمام المعصوم المنصوب من الله الذي له ولاية إنفاذ الأحكام على الناس سواء رضوا أو كرهوا. (ش)

وأوصاف الإمام إيضاحا لما مر وقطعا لتعلق اختيار الخلق بها فقال: «إن الإمامة هي منزلة الأنبياء» أي مرتبة لهم ولمن هو مثلهم في العصمة فالإضافة بتقدير اللام. أو المراد أنها بمنزلة نبوة الأنبياء في أنها أمر جليل مبني على أمر خفي على الناس فكما لا تثبت النبوة لأحد باختيار الخلق كذلك لا تثبت الإمامة باختيارهم.

قوله: (وارث الأوصياء) ينتقل من وصي إلى آخر بأمر إلهي ونص نبوي، والإرث أصله ورث والألف منقلبة من الواو وهو في الأصل مصدر تقول: ورثت أبي وورثت الشيء من أبي أرثه بالكسر فيهما ورثا ووراثة وإرثا وكثيرا ما يطلق على ذلك الشيء الموروث كما في هذا المقام.

قوله: (إن الإمامة خلافة الله) خليفة الرجل من ينوب منابه في إنفاذ أموره ومن البين أن خليفة الله وخليفة الرسول يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الخلق وعارفا بجميع الحقائق وفاعلا لجميع الخيرات وموصوفا بجميع الصفات الجميلة ومنزها عن جميع الصفات الرذيلة.

ومن لم يكن كذلك وانتحل اسم الخلافة فهو من الجائرين الهالكين ولذلك لما كتب أبو بكر إلى أبيه وهو في اليمن وأخبره بأن الصحابة جعلوه خليفة لكونه شيخا مسنا كتب إليه أبوه إن كان استحقاق الخلافة بالسن فأنا أولى بها منك وإن كان بالعلم والعمل والقرابة فعلي بن أبي طالب أولى من الجميع فقد ظلمتوه.

قوله: (إن الإمامة زمام الدين) الزمام الخيط الذي يشد في البرة أو في الخشاش ثم يشد في طرفه المقود وقد يسمى المقود زماما إضافة الزمام إلى الدين يتضمن استعارة مكنية وتخييلية وإسناده إلى الإمامة من باب حمل المشبه به على المشبه مبالغة في التشبيه ويحتمل أن يكون الجملة استعارة تمثيلية وإسناد نظائرها الثلاثة إليها من باب إسناد المسبب إلى السبب مبالغة في السببية وكون الإمامة زمام الدين ظاهر لأن ضبط الدين وأهله إنما يتحقق بها وكذا كونه مما ينتظم به أمور المسلمين ويحصل به صلاح الدنيا وعز المؤمنين إذ لولا الإمامة لوقع الهرج والمرج (1)

ص:205


1- 1 - قوله: «لوقع الهرج والمرج» ما ذكره الشارح يندفع بالإمام غير المعصوم أيضا وإن كان فاجرا ولا يكفي ذلك لإثبات الإمامة التي نقول بها، نعم يكفي ذلك لرد قول الخوارج الذين لا يقولون بوجوب أمير أصلا كما ذكرنا، وإنما نقول بثبوت الإمامة لتحصيل لمدينة الفاضلة، أعني أحسن أقسام الاجتماع كما ورد أنه «يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا» وهي المدينة التي بحث عنها الفلاسفة ويطلبها جميع الأمم وأول شروطها وأهمها أن يكون أهلها أصحاب الآراء المحمودة حتى يكون الولاة من سنخهم ويقبلون حكم إمامهم من غير تبطؤ ونكير ومن غير أن يكرههم إلا نادرا من المتخلفين والعصاة ولذلك ابتدأ الفارابي في بيان المدينة الفاضلة بذكر آراء أهلها لأن الناس إن لم يكونوا معتقدين للآراء المحمودة لم يستقم أمر المدينة الفاضلة ولو كان الوالي إماما معصوما كما لم يستقم لأمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) في مدة إمامتهما الظاهرية بل المدينة الطبيعية التي يمكن البحث عن أمرها وآثارها ولوازمها وعن حكومتها وحسنها وقبحها وصلاحها وفسادها سواء كانت مدينة فاضلة أو جاهلة هي أن يكون الناس موافقي الرأي للوالي، فإن كان هو من أهل الفخر والعصبية أو الثروة أو اللذة أو الحرية، كان الناس أيضا مطبوعين على ذلك وإلا كانت المدينة القسرية وكما لا يبحث في العلوم الطبيعية عن مقتضيات القواسر الاتفاقية لعدم إمكان ضبطها وإنما يبحث عن الأمور الطبيعية المخلاة بنفسها كذلك المدينة لا يبحث عن القواسر فيها كلام الإمام (عليه السلام) «إن الإمامة زمام الدين» يدل على ما قلنا، فإن الإمامة لما كانت زمام الدين فلا يتعقل إمامة إلا مع دين يعتقده الناس ويكون الإمام مجريا لأحكام الدين الذي يعتقدونه حتى يكون إمرته طبيعية وعادلة معا وقد حكي عن أردشير بن بابك مؤسس دولة بني ساسان أن الدين والملك توأمان وكان هذا مبنى دولته حتى استقام له ولأولاده الملك مدة أربعمائة سنة مع بطلان دينهم لكن لما كان يجري أحكاما يعتقد الناس كونها حقا من الله موجبة لسعادتهم في الآخرة سهل عليهم إطاعته وعليه تنفيذ حكمه بخلاف ما لو لم يكن مجريا لما يتدين به الناس. وبالجملة فكلام الإمام (عليه السلام) «الإمام زمام الدين» أصل من أصول علم الاجتماع والعمران وقاعدة من قواعد السياسة أدل على المقصود من كلام من قال: الدين والملك توأمان إذ ليسا شيئين منفردين حتى يطلق عليهما التوأمان بل يتوقف كل منهما على الآخر بحيث لا دين إلا بإمام ينفذه ولا امام إلا بدين يلتزم به الناس. (ش)

والقتل والغارة والنهب وسبي الأولاد وحصل الفساد والعناد والذل والعجز في العباد.

قوله: (إن الإمامة اس الإسلام النامي) الاس والأساس أصل البناء، والنامي صفة للمضاف إليه (1) من نمى الشيء ينمي إذا زاد وارتفع، وكذلك كان الإسلام عند بنائه زاد يوما فيوما بإذن الله تعالى وارتفع حتى بلغ غاية الكمال أو صفة للمضاف من نميت الحديث أنميه مخففا إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير; وكذلك يبلغ الإمام (عليه السلام) دين الإسلام إلى الأمة وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية.

قوله: (وفرعه السامي) فرع كل شيء أعلاه ويقال: هو فرع قومه الشريف منهم، والسامي:

العالي المرتفع من سما يسمو فهو سام إذا علا وارتفع حتى أضل ما تحته ومنه السماء لارتفاعها وإظلالها.

ص:206


1- 1 - قوله: «صفة للمضاف إليه» ويحتمل كونه صفة للأس وإنما صرفه الشارح إلى الاسلام لأن الأس لا ينمو ولكني أرى نسبة النمو إلى الأساس أولى ويقال رفع أساس البناء وفي القرآن (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) والقواعد هي الأسس والمعنى أن دين الإسلام أصوله وفروعه تتم وتكمل بسبب الإمام فيجب أن يكون الإمام عالما بأصوله وفروعه ولا يستحق هذا المنصب من لا يهدي إلا أن يهدى. (ش)

قوله: (بالإمام تمام الصلاة) يفهم منه أنه يشترط أن يكون الإمام عالما بالأحكام بصيرا بأمر الحروب وتدبير الجيوش وسد الثغور ومنع الأطراف وأن يكون له من قوة النفس مالا تهوله إقامة الحدود وضرب الرقاب وإنصاف من الظالم وإجراء الأحكام والذب عن دين الله والدعاء إلى سبيله إذ بجميع ذلك يكمل نظام الأنام وصلاح الأيام ويحفظ بيضة الإسلام وهذه الشروط اعتبرها العامة أيضا وجعلوها من الشروط المتفق عليها بين الأمة وإن انتفى جلها في إمامهم لإقرارهم بأن أئمتهم لم يكونوا عالمين بجميع ما أنزل الله تعالى إلى رسول (صلى الله عليه وآله) وأنه (صلى الله عليه وآله) لم يخص أحدا من الأمة بالعلم بجميعه بل علم كل واحد بعضه وأن الإمام قد يرجع في أمر من أمور الدين إلى غيره.

قوله: (وتوفير الفيء) توفير الفيء عبارة عن قسمته (1) على وفق القانون الشرعي وترك الظلم في تقسيمه وعدم تفريقه في غير وجوهه كما فعله الثلاثة ومن تبعهم.

قوله: (ومنع الثغور والأطراف) الثغر: الموضع الذي يكون حدا فاصلا بين بلاد المسلمين والكفار وهو موضع المخافة من أطراف البلاد والأطراف أعم منه.

قوله: (ويذب عن دين الله) الذب: الدفع والمنع حذف مفعوله للدلالة على التعميم أي يدفع عن دين الله كل ما لا يليق به من الزيادة والنقصان.

قوله: (ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة) المراد بسبيل الله: دينه الحق، وبالحكمة: العلم المحيط به الذي أعطاه من فضله، وبالموعظة الحسنة: النصيحة الخالصة المذكرة للعواقب المجردة عن الغش والخشونة، والحجة البالغة: البرهان القاطع الذي لا يحتمل الشك والشبهة وإنما قيد الدعوة (2) بثلاثة أشياء لأن الداعي وجب أن يكن عالما حكيما والمدعو إن كان سلس القياد يكفيه

ص:207


1- 1 - بل ازدياد الدخل فإنه يزيد بالعدل.
2- 2 - «قيد الدعوة» العلوم تصوريات وتصديقات. والتصديقيات من جهة المادة على خمسة أقسام: برهان وخطابة وجدل وشعر وسفسطة ولما كان الشعر والسفسطة غير مناسبين لشأن الحجة المنصوب من قبل الله تعالى أمرهم بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة: وهي البرهان، والموعظة الحسنة: وهي الخطابة وقال: (وجادلهم بالتي هي أحسن) إشارة إلى الجدل وكلام الإمام هنا يشير إلى هذه الثلاث. والحجة البالغة هي الجدل وعلم من ذلك أن وظيفة الإمام في المدينة الفاضلة ليست صرف حفظ النظم ودفع الهرج والمرج بل أهم من ذلك تعليم الآراء المحمودة وتقريرها حتى يعتقد الناس بها ويطيعوا أمره بسهولة وهذا متوقف على كونه عالما إلهيا قادرا على التعليم بالبرهان كالحكماء وبالخطابة زيادة على ذلك إذ ليس كل حكيم قادرا على بيان الحقائق بلسان العامة كي يفهموا الحقيقة ولا يشمئز طباعهم عنها وقادرا على الاحتجاج بالجدليات إفهاما للخصوم المعاندين ومعلوم أن الجمع بين هذه لا يمكن تحققه إلا فيمن ينصبه الله للخلافة ولم يتفق قط لمعاوية وعبد الملك بن مروان. فإن قيل: أي حاجة إلى علم الإمام بهذه الأمور؟ ويكفي فيه علمه بالسياسة وتدبير الملك وجمع الفيء وتجنيد الجنود وحفظ الثغور ويفوض أمر التعليم والاحتجاج إلى العلماء الماهرين فيهما قلنا: إما أن يشترط في الإمام كونه معصوما وإما ان لا يشترط فإن اشترط فلا ريب أنه يعرف ما هو وظيفته من غير خطأ ولا نتكلم فيه وإن لم يكن معصوما جاز أن لا يفوض الأمر إلى أهل الحق أو يمنعهم من المفاوضة والاستدلال والاحتجاج كما منعهم معاوية أو يأمر المتظاهرين بالعلم من أهل الدنيا كأبي هريرة بما يريد ترويجه وبالجملة لم نر من غير المعصومين المتصدين للخلافة ما شرطه الإمام (عليه السلام) هنا ولا ما يستحسنه العقل وبعد اشتراط العصمة ترتفع هذه الشبهة بتا. ثم أن قوله: «يحرم حرام الله - الخ» يدل على أن إمامة المعصوم ليس بمعنى الحكومة المطلقة التي يستبشعها جميع الأمم فإنها مقيدة بأحكام الله وليس للإمام أن يحكم إلا بحكمه تعالى وحكم الله تعالى هو الذي قبله العامة وأكثر رعاياه وآمنوا به ويرونه سعادة في الدنيا والآخرة ولا فرق بينه وبين الحكومة الدستورية التي يراها أهل زماننا أحسن أنواع الحكومة والفرق أن الحكومة الدستورية مقيدة بآراء العامة والحكومة الإمامية مقيدة بأحكام الله التي آمن بها العامة أيضا وهي أحسن من الحكومة الدستورية البتة إذ اعتبر فيها مع رضا العامة موافقة أحكامها لإرادة الله الواقعية. (ش)

المواعظ والخطابيات المقنعة وإن كان صعبا يفتقر إلى استعمال البراهين القاطعة.

قوله: (الإمام كالشمس الطالعة المجللة) (1) يقال: جلل الشيء تجليلا أي عمه وأحاطه،

ص:208


1- 1 - «الإمام كالشمس الطالعة» لما ذكر (عليه السلام) شرائط الإمامة ووظائفها في حفظ الدين وصيانة أحكام الله تعالى وقد يذهب الوهم إلى أن هذا يمكن لعقلاء الناس الصلحاء العدول ويجوز أن يختاروا من علموا منه العلم والصلاح والقدرة والسياسة، بين (عليه السلام) بطلان هذا الوهم وأن هذه الشرائط بعيد المنال لا يمكن اجتماعها في آحاد الناس، وقد علمنا أن اجتماع الصفات الكثيرة في رجل بحيث يستأهل منصبا أو يتعهد وظيفة أقل كثيرا من وظائف منصب الإمامة أمر نادر غير محقق الوقوع إلا بعد طي قرون كشاعر فصيح عالم حكيم قادر على بث مكارم الأخلاق وغرسها في قلوب الناس، أو عالم ديني جامع بين المعقول والمنقول والحفظ ودقة النظر وذوق التفقه وقوة البيان والمهارة في صنعة التحليل والاقتصاد في الاستدلال بحيث ينتفع بكتبه فإنه قد لا يتفق بعد قرون وربما يرى العامة عالما في زمانهم ولا يحسبونه إلا كأحدهم ثم يمضي الزمان ويعلو شأنه كلما مضى وربما يمر مئات من السنين أو ألف ولا يظهر مثله ومثل كتبه فيعرف أنه كان بمقام شامخ بعيد المنال كالشمس والقمر والنجوم وكانوا يحسبونه قريبا منهم كما ظن فرعون أنه يقدر ببناء الصرح أن يطلع إلى السماء فلما بنى وعلا فوقه رآها كما كان يراها من الأرض وإذا كان هذا شأنه مثلا العلامة ونصير الدين الطوسي والمحقق والشهيد بل والفارابي وأبي علي بن سينا وأرسطو وإفلاطون فكيف بمقام الإمامة وشأنها ومنصبها فالإمام كالشمس يراها الناس قريبا منهم وهو في مقام ومكانة لا يقدر أحد مقدارها وهل يمكن لأحد غير أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتكلم بما نقل في نهج البلاغة بحيث يخضع له البلغاء لبيانه والحكماء لبرهانه والفقهاء وسائر العلماء كل بما يناسب مهنته وكل يستحسنه ولم يأت أحد بمثله وكذلك سائر علوم الأئمة (عليهم السلام) ومع ذلك فاعتقادنا أن في كل زمان يوجد رجل بهذه الصفات التي يشترط في الإمام لحاجة الناس إلى مثله وعدم إخلال لطف الله تعالى وحكمته بهذا الواجب كما مر والاحتياج إليه كاحتياج الضال في البحر أو البر إلى هاد والظمآن إلى ماء بارد إلى آخر ما قال (عليه السلام) وكما أنه لم يهمل أمر السحاب والغيث وخلق الشمس والسماء والأرض والعيون والغدر والرياض وطبع في قلب الوالدين البر بالولد والمحبة كيف يمكن أن يهمل أمر الإمامة ولا يخلق رجلا بصفاتها مع أن احتياج الناس إليه أشد من احتياجهم إلى ما ذكر. (ش)

والمجلل: السحاب الذي يجلل الأرض بالمطر ويعمها فقد شبه الإمام من حيث أنه مظهر لحقائق الإسلام ومبين لما هو المقصود منها ومنور لعالم قلوب المؤمنين برفع الحجاب والغشاوة عنها بالشمس الطالعة المنورة بنورها للعالم الحسي تشبيها للمعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح وكما أن الشمس في الأفق الحسي بحيث لا تنالها أيدي العباد لارتفاعها ولا أبصارهم لكثرة ضيائها إذ الضوء الساطع يمنع من مشاهدة ما وراءها كذلك الإمام في الافق العقلي وهو افق العقول بحيث لا تناله أيدي الأوهام والخيالات ولا أبصار العقول لارتفاع قدره وكمال نوره وقد مر أن الحواس والعقول قاصرة عن إدراك حقيقة الإمام وصفاته والكلام بهذا التفسير مبني على التشبيه المصطلح ولك أن تجعله استعارة تمثيلية.

قوله: (الإمام البدر المنير - الخ) الزاهر المضيء يقال: زهرت النار زهورا أي أضاءت والنور هو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره، والساطع: المرتفع، والسطيع:

الصبح لأنه يسطع عن الافق والغياهب:

جمع الغيهب وهو الظلمة، والدجى: جمع الدجية بالضم وهي الظلمة وقد يعبر بها عن الليل فالإضافة إما بيانية أو بتقدير «في». والأجواز بالجيم والزاي المعجمة جمع الجوز: وهو وسط كل شيء والجيزة: الناحية، والمراد بها من ما بين البلدان من القفار والقفار بدل منها وأما جعلها جمع الحوزة بالحاء المهملة بمعنى الناحية فهو بعيد لفظا لأنه لم يثبت جمعها كذلك. إذا عرفت هذا فنقول قوله «غياب الدجى» ناظر إلى البدر المنير والسراج الزاهر لتناسب بينهما وبين الليل والمراد أن الإمام كالقمر والسراج المنيرين في غياهب الطبايع البشرية وظلمات العوالم الناسوتية في الاهتداء به إلى المقاصد الدنيوية والاخروية وقوله «أجواز البلدان والقفار» ناظر إلى النور الساطع والمراد أن الإمام كالنور الساطع مثل الصبح إذ به يمكن سير ما بين كل مقامين من المقامات النفسانية.

وقوله: (لجج البحار) ناظر إلى قلة النجم الهادي والمراد أن الإمام كالنجم الهادي إذ به يهتدي

ص:209

في قطع لجج بحار القوى الإنسانية والسير إلى المقامات الإلهية.

قوله: (الإمام: الماء العذب على الظمأ) الظمأ بالتحريك: العطش قال الله تعالى: (لا يصيبهم ظمأ) وبالكسر الاسم شبه الإمام بالماء العذب في رفع العطش والتسبب للحياة إذ كما أن الماء يدفع عطش العطشان ويتسبب لحياة الأبدان كذلك الإمام يدفع العطش الحاصل لنفوس المؤمنين بسبب شدة شوقها إلى اكتساب المعارف وكمال ميلها إلى اقتراف الحقائق ويتسبب لحياتها أبد الآباد.

قوله: (والدال على الهدى والمنجي من الردى) الهدى بالضم: الهداية والرشاد يقال: هذا الدين هدى، والردى: الهلاك يعني أن الإمام يدل الخلائق بزواهر أمره إلى طريق الحق والرشاد وينجيهم بزواجر نهيه عن الهلاك والفساد.

قوله: (والإمام النار على اليفاع) اليفاع بالفتح: ما ارتفع من الأرض مثل الجبل ونحوه شبه الإمام بالنار في الظهور والدلالة على المقصود وتصرف فيها بأن اعتبر كونها على مرتفع لزيادة المبالغة في الوجه وإفادة كونه على حد الكمال.

قوله: (الحار لمن اصطلى به) الاصطلاء: افتعال من صلى النار وهو التسخن بها، شبه الإمام بالنار في دفع البرد إذا كما أن النار يدفع البرودة الحسية كذلك الإمام يدفع البرودة العقلية الناشئة من صرصر أنفاس المعاندين، ويحتمل أن يكون المراد أن الإمام بمنزلة النار المحرقة لمن تصدى بمحاربته ويكون الغرض إظهار شجاعته.

قوله: (والدليل في المهالك من فارقه فهالك) ينبغي إسكان الكاف فيهما، والمراد بالهالك:

مواضع الزلات ومواطن العثرات، وبالهلاك: هلاك الدنيا والآخرة.

قوله: (الإمام، السحاب الماطر والغيث الهاطل) الهطل بالفتح والسكون: تتابع المطر وسيلانه والتركيب إما من حمل المسبب على السبب لأن الإمام سبب للسحاب الماطر والغيث الهاطل إذ لو لم يكن إمام لم يكن سحاب ولا غيث أو من حمل المشبه به على المشبه والوجه عموم النفع وحصول الرفاهة.

قوله: (والشمس المضيئة) شبه الإمام بالشمس إذ كما أن الشمس تنور العالم الجسماني كذلك الإمام ينور العالم الروحاني، ولعل تكرار تشبيهه بالشمس للتأكيد والمبالغة، ويحتمل أن يكون الغرض في السابق إضاءته للعالم وههنا ضياؤه في نفسه.

ص:210

قوله: (والسماء الظليلة) السماء تذكر وتؤنث وهي كل ما علاك فأظلك ومنه قيل لسقف البيت سماء، فوصفها بالظليلة للتأكيد والإشعار بوجه الشبه لأن الإمام يظل العباد عن حرارة عدوان الأنباء كما أن السماء تظلهم عن حرارة البيضاء.

قوله: (والأرض البسيطة) وصف الأرض بالبسيطة للإيماء إلى وجه الشبه وهو سعة العيش ورفاهية الخلق.

قوله: (والعين الغزيرة) الغزارة: الكثرة وقد غزر الشيء بالضم يغزر فهو غزير، وفائدة الوصف هي الإشارة إلى وجه الشبه وهو كثرة النفع والتسبب للخصب والرخاء أو كثرة العلم الشبيه بالماء.

قوله: (والغدير) الغدير: قطعة من الماء يغادرها السيل أي يتركها وهو فعيل بمعنى مفاعل من غادره إذا تركه، أو مفعل من أغدره إذا تركه، ويقال: هو فعيل بمعنى فاعل لأنه يغدر بأهله أي ينقطع عند شدة الحاجة إليه وإنما شبهه بالغدير لأن الناس يرجعون إليه عند الحاجة كما يرجعون إلى الغدير، أو لأنه محل للعلم الذي به حياة الأرواح كما أن الغدير محل للماء الذي به حياة الأشباح.

قوله: (والروضة) الروضة: البستان الذي فيه البقل والعشب والأشجار المثمرة وغيرها وإنما شبهه بالروضة لحصول الفرح والسرور بمشاهدته كحصولهما بمشاهدة الروضة أو لاشتماله على أنحاء أثمار العلوم كاشتمال الروضة على أنواع الثمار.

قوله: (الإمام الأنيس الرفيق) أنيسك: مصاحبك وصفيك الذي تأنس به في الوحشة. والرفيق المرافق من الرفق وهو ضد العنف والخرق. والإمام مصاحبك في هذه الدار ومؤنسك في وحشة غربتك فيها ورفيقك في السفر إلى الله ولا ترى منه إلا خيرا.

قوله: (والوالد الشفيق) وهو لا يريد لك إلا خيرا كالوالد المشفق إلى ولده.

قوله: (والام البرة بالولد الصغير) وهو يربيك ويغذيك بالغذاء الروحاني من العلوم والمعارف على أكمل ما يليق بك كما أن الام تربيك وتغذيك من الغذاء الجسماني ما يليق بك.

قوله: (ومفزع العباد في الداهية النآد) الفزع بالضم: وهو الخوف، والمفزع: الملجأ في الفزع والإمام مفزع للعباد إذا دهمهم أمر فزعوا إليه ليدفعه عنهم، والداهية: الأمر العظيم. ودواهي الدهر ما يصيب الناس من عظيم نوبه، والنآد: مثل فعال، والنآدي مثل فعالي «رنج وسختى» كذا في الصراح، وقال الجوهري هما الداهية والمآل واحد وإنما وصف الداهية بالنآد للمبالغة في عظمتها

ص:211

وشدتها. وكونه مفزعا لهم ظاهر لأن شأنه دفع الجور بالسيف والسنان، والحمل على الصبر في نوائب الزمان.

وقوله: (والذاب عن حرم الله) لعل المراد به حرم مكة والإمام يدفع عنه مالا يجوز وقوعه فيه ويمنع الناس من هتك حرمته، ويحتمل بعيدا أن يراد به دينه وحريمه وهي حدوده التي بمنزلة الثغور وإرادة دينه أبعد منه لأنه قد مر أنه يذب عن دين الله.

قوله: (الإمام المطهر من الذنوب) (1) مطلقا صغيرة كانت أو كبيرة عملية كانت أو عقلية في وقت الإمامة وقبله ليحصل الوثوق به.

قوله: (المبرأ عن العيوب) (2): أي المنزه عن العيوب البدنية والنفسانية الحسبية والنسبية ليتوفر ميل الخلائق إليه ولا يكون لهم فيه غميزة.

* الأصل:

المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المنافقين وبوار الكافرين، والإمام واحد دهره لا يدانيه أحد، ولا يعاد له عالم، ولا يوجد منه بدل، ولاله مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره، هيهات، ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء وجهلت الألباء، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا؟! أتظنون أن

ص:212


1- 1 - قوله: «الإمام المطهر من الذنوب» شرع في الاستدلال على وجوب كون الإمام منصوبا من جانب الله تعالى كما استدل عليه علماؤنا وتقريره أن من شرط الإمام العصمة والعلم ولا يطلع الناس عليهما حتى يختاروا من فيه هذه الصفة. (ش)
2- 2 - قوله: (المبرأ عن العيوب) الأهم في ذلك والأولى حمله على العصمة التي يشترط في الإمام لأنه (عليه السلام) بصدد الاستدلال على عدم استيهال الناس لنصبه واخياره والعصمة من الذنوب والعيوب كالسهو والنسيان والخطأ وأمثالها شرط لا يطلع عليه الناس. (ش)

ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) [وأهل بيته] كذبتهم والله أنفسهم، ومنتهم الأباطيل فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعدا، [قاتلهم الله أنى يؤفكون] ولقد راموا صعبا وقالوا إفكا وضلوا ضلالا بعيدا، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (صلى الله عليه وآله) [وأهل بيته] إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) وقال عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) - الآية وقال: (مالكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون أن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأ توا بشركائهم إن كانوا صادقين) وقال: عز وجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)؟! أم (طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون)؟! (أم قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) أم (قالوا سمعنا وعصينا) بل هو (فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فكيف لهم باختيار الامام؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس و الطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ونسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب، فيه البيت من قريش، و الذروة من هاشم، والعترة من الرسول (صلى الله عليه وآله) والرضا من الله عز وجل، شرف الا شراف والفرع من عبد مناف نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة; مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عز وجل، ناصح لعباد الله، حافظ الدين الله، إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه مالا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى:

(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى. فمالكم كيف تحكمون) وقوله تبارك وتعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) وقوله في طالوت: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) وقال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (أنزل عليك الكتاب و الحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) وقال في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله

ص:213

من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا) وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب. ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته [البالغة] على عباده وشاهده على خلقه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذا الصفة فيقد مونه تعدوا - وبيت الله - الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وفي كتاب الله الهدى والشفاء، فنبذوه واتبعوا أهواءهم، فذمهم الله و مقتهم وأتعسهم، فقال جل وتعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال: (فتعسا لهم وأضل أعمالهم) وقال: (كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

* الشرح:

قوله: (المخصوص بالعلم) أي انحصار العلم الإلهي على وجه الكمال فيه وهو بلوغه على حد الكمال في القوة النظرية والقوة العملية وهو المسمى بالحكمة التي (1) أشار إليها جل شأنه بقوله:

ص:214


1- 1 - قوله: «وهو المسمى بالحكمة» يجب أن يكون الإمام حكيما بتمام معنى الكلمة في القوة النظرية والعملية، وليس المراد منه حفظ اصطلاحات أرسطو وإفلاطون من غير فهم معناها على ما يتبادر إلى ذهن العوام بل يجب أن يكون عالما بمبدأ الوجود ومنتهاه وسر الخلقة وسائر ما ذكره الحكماء من أقسام العلوم النظرية والعملية وأشار اليه الشارح، و بعبارة أجمع أن يكون عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني كأنه اجتمع كل ما في الوجود في نفسه الشريفة بوجود عقلي، فلا تتبطؤ عن جواب أي سؤال يرد عليه، قال الفارابي الرئيس الأول من هو على الإطلاق هو الذي لا يحتاج في شئ أصلا أن يرأسه إنسان بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل. وقد مضى تمام كلامه فيما سبق من هذا المجلد. والشبهة التي يرد هنا ويختلج في أذهان كثير تندفع بمأمر وهي أنه يجوز أن لا يكون الإمام عالما بالأحكام والأصول ويكون العالم غيره فيرجع إليه ويصدر عن رأيه والجواب أن الإمام إذا لم يكن معصوما جاز أن لا يرجع إلى العالم الحق ولا يطيعه إذا كان مخالفا لهواه ولا يمكن جبره على إطاعة العالم مع كون الجند باختياره والأموال في يده وأهل الدنيا المتملقون يصوبون خطائه، وإن كان معصوما فهو أولى بأن يطاع من كل أحد لأن العصمة لا تنفك عن العلم والذي لا يعلم الحق ولا يميز بين الصواب والخطأ والحق والباطل كيف يكون معصوما وكلامنا في المدينة الفاضلة وأما غير الفاضلة فيجوز أن يكون الرئيس غير عالم والعالم غير معصوم ويرجع الرئيس إن رأى المصلحة إلى العالم غير المعصوم وقد لا يرجع فإن أخطاؤا جميعا فالخطأ مجوز عليهم في المدينة غير الفاضلة. (ش)

(ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا).

قوله: (الموسوم بالحلم) الحلم: ملكة تحت الشجاعة وهي الإناءة والرزانة عند الغضب ومجابهته.

قوله: (نظام الدين) نظمت اللؤلؤ: أي جمعته، والنظام: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ، وإنما شبه به لأنه ينتظم به إلي المسائل الدينية والعلوم العقلية والنقلية. قوله (وعز المسلمين) لأنه يندفع عنهم ذل طعن الطاعنين وشبهة الجاحدين وصولة الكافرين بحدة سنانه ولطف بيانه وطلقة لسانه (1) وقوة جنانه، وفيه تعميم بعد تخصيص لأنه قد مر أنه عز المؤمنين.

قوله: (وبوار الكافرين) البوار: الهلاك وحمله على الإمام على سبيل المبالغة والمراد بإهلاكهم:

إبطال عقائدهم بلطف البيان، وإزهاق أرواحهم بالسيف والسنان.

قوله: (ولا يعاد له عالم) دل على أنه يشترط أن يكون الإمام أفضل زمانه وهو مذهب الإمامية، وأما مذهب العامة فقال الآبي: لم يشترط ذلك الأكثر يعني أكثر العامة وأجازوا إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وفصل القاضي أبو بكر الباقلاني فقال: إن لم يؤد العقل إلى هرج وفساد جاز وإلا لم يجز. ولا يخفى عليك فساد قولهم لأن الإمامة ولاية عامة في الدين والدنيا موجبة لطاعة موصوفها

ص:215


1- 1 - قوله: «ولطف بيانه وطلقه لسانه» هذا الكلام من الشارح في تفسير الحديث يدفع سؤالا يردهنا وهو أن المقصود من الحديث إثبات صفات في الإمام لا تجتمع في غير المعصومين حتى تنحصر فيهم وهذه الصفات الأربع غير خاصة بالمعصوم إذ غير المعصوم أيضا يجوز أن يكون نظام الدين وعز المسلمين إلى آخره لأنه أيضا يجتهد لحفظ ملكه وسلطانه على ما يشهد به التاريخ كما أن خلافة بني العباس لما انقرضت بغلبة المغول ذل المسلمون وتقوضت أركان الدين وبطلت ثقافة الإسلام والتمدن الإسلامي ولم يبق من آثارهم إلا القليل وكذلك بعد انقراض دولة الأتراك بغلبة النصارى نسخت أحكام الإسلام وراجعت شعائر الكفر بل تغيرت الألبسة والعادات وهي من أعظم أمارات الذلة والمقهورية وقبل غلبة النصارى عليهم كان الأمر بعكس ذلك في بلادهم، والجواب أن المقصود العزة والغلبة والنظام بالقوة والشوكة المنضمة إلى العلم ومكارم الأخلاق والآداب الحسنة والآراء المحمودة والعقائد الصحيحة والشرائع العادلة التي تثبت ولا تزول والمعصوم هو القادر على تحقيق هذه الأمور وهو العز الحقيقي للمسلمين وإلا فالقوى الغير المتصف بالآراء المحمودة، محارب قطاع للطريق لا يوجب غلبته عزا ثابتا محمودا. (ش)

على الاطلاق فلو سئل المفضول بما ليس عنده من أمر الدين وكان عند الأفضل وجب عليه وعلى غيره إطاعة ذلك الأفضل فيلزم أن يصير الإمام مأموما فلا يكون الإمام إماما على الإطلاق ومثل هذا لا يصلح للإمامة قطعا.

قوله: (ولا يوجد - إلى قوله - مخصوص) أي لا يوجد منه بدل مستحق للإمامة والخلافة مع وجود. ولاله مثل في الشرف الذاتي والنسبي ولا له نظير في الفضل والكمال.

قوله: (من غير طلب) (1) دل على أن الامام ليس بمجتهد يخرج الأحكام وغيرها بالاستنباطات العقلية خلافا للعامة فإنهم اشترطوا أن يكون الإمام مجتهدا في الأحكام الشرعية ليستقل للفتوى والاستنباطات بناء على أصلهم من أن الإمام لا يجب أن يكون عالما بجميع الأحكام بالنص حتى أنه إذا أخطأ لم يأثم بل يؤجر ويجب على الغير اتباعه. فاعتبروا يا أولي الأبصار.

قوله: (فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام) لما أشار إلى جملة من أوصاف الإمام أشار هنا إلى أن تعيينه خارج عن طوق البشر لأن عقولهم لا تصل إلى صفة مامن صفاته فضلا عن جميعها.

قوله: (هيهات هيهات) أي بعد معرفة الإمام وإمكان اختياره عن الخلق بعدا مفرطا وبين بعده بقوله «ضلت العقول إلى آخره» والعقل إذا لم يقدر على الوصول إلى مطلوب يقال: ضل عنه إذا لم يجد طريقه.

قوله: (وتاهت الحلوم) الحلم بالكسر: العقل وهو من الحلم بمعني الأناة والتثبت في الامور وذلك من شعار العقلاء ويجمع في القلة على أحلام وفي الكثرة على حلوم بضم الحاء.

قوله: (وحارت الألباب): وهي جمع لب وهو العقل وقد ذكر للعقل وقد ذكر للعقل ثلاثة أوصاف: الضلالة والتيه والحيرة، والأول: أن لا يجد طريق المطلوب مع الظن غير طريقه طريقا له.

والثاني: الذهاب والحركة في غير طريقه، والثالث: هو الحيرة الحاصلة بعد التيه لعدم وجدان المطلوب.

ص:216


1- 1 - قوله «من غير طلب» تصريح بالنتيجة بعد ذكر المقدمات وتقريب الاستدلال أن الإمامة مشروطة بشرائط كالعلم والعصمة وهو واحد في الدنيا لا يدانيه وليس مثله ونظيره وهو مؤيد بقوة إلهية لا يطلع عليها أحد من الناس وله فضل منحه الله من غير طلب اكتساب فلا يمكن أن يكون نصبه مفوضا إليهم مع عدم علمهم بمن حصلت الشرائط فيه، وأيضا إذا كان المتصف بها منحصرا في واحد لم يكن معنى للاختيار والانتخاب إذ الانتخاب لا يتحقق إلا إذا كان هناك جماعة كل واحد يليق لهذا المنصب. (ش)

قوله: (وخسئت العيون) في الصحاح خسأ بصره خسأ وخسوءا: أي سدر يعني تحير ومنه قوله تعالى «ينقلب إليك البصر خاسئا» وفي الصراح: الخسوء «خيره شدن چشم».

قوله: (وتقاصرت الحلماء) (1): جمع حليم وهو ذو الأناة المتثبت في الامور المتأمل في عواقبها.

قوله: (وحصرت الخطباء) الخطيب: الخاطب بالكلام المقتدر على الإتيان به، والمراد بحصره عجزه عن وصف الإمام بما ينبغي له.

قوله: (وجهلت الألباء) الألباء بفتح الهمزة وكسر اللام وشد الباء مع المد: جمع لبيب وهو العاقل كالأنبياء جمع نبي، وفي بعض النسخ «الألباب» وهي أيضا جمع لبيب كالأشراف جمع شريف، والمراد بجهل العقلاء عدم إدراكهم وصف الإمام مع عدم ميلهم إلى خلافه وبهذا القيد يمتاز عن الضلالة المذكورة.

قوله: (وكلت الشعراء) الكلال: الأعياء يقال: كل فلان إذا أعيا عن التكلم وعجز، والشعراء:

جمع شاعر على غير القياس من الشعر بالكسر وهو في اللغة: الشعور بالشيء الدقيق والفطنة، وفي العرف كلام منظوم بأوزان مخصوصة واشتقاق الشاعر من المعنى الأول كاشتقاق الضارب من الضرب ونحوه من المعنى الثاني والثالث كاشتقاق لابن وتامر ونحوهما أي صاحب فطنة وصاحب كلام مذكور.

قوله: (وعجزت الأدباء) الأدباء بضم الهمزة وفتح الدال: جمع أديب كالكرماء جميع كريم،

ص:217


1- 1 - قوله: «وتقاصرت الحلماء» أي العقلاء وهذه الجمل الأخيرة الدالة على عجز الناس عن معرفة من يليق بالإمامة دفع لما يظن أن عقلاء الناس وحكمائهم يقدرون على تشريع شرائع وتحكيم أحكام وتأسيس قواعد لنظم الاجتماع وتعيين الرئيس ووظائفه شرائط كما تصدى لذلك حكماء اليونان وبعدهم غيرهم وكما استنبطوا قواعد علوم المنطق والطبيعي والرياضي كذلك يستنبطون قواعد العلوم الاجتماعية وهذا الوهم جار مستمر في ذهن الناس في زماننا هذا وقد بينا في مبدأ كتاب الحجة أن الله تعالى لم يفوض أمر التشريع والحكومة إلى الناس عند المسلمين وذكرنا هناك مذهب النصارى والملاحدة وان الامر عندهم مفوض إلى الناس إلا في قليل من الأحكام عند النصارى وذكرنا سابقا أن الإنسان ليس له قوة التميز والحكم في التشريعيات ولم يمنحه الله تعالى قدره على تحقيق الحق فيها والحكم الجازم بها ولذلك لم يتفقوا ولن يتفقوا على شيء واحد في أمر الحكومة وأحسن أقسامها وإن كان الرأي الغالب في زماننا أن أحسن أنحاء الحكومة هي الدستورية ولكن أين هي من المدينة الفاضلة التي نطلبها و نذكر إن شاء الله كلامنا فيها. (ش)

والأديب هو المالك لا دأب النفس والدرس والعارف بقوانين العقل والنقل، وقد شاع إطلاقه على العالم بالقوانين العربية.

قوله: (وعييت البلغاء) البليغ: هو العارف بقوانين الفصاحة والبلاغة والقادر على تأليف كلام فصيح بليغ.

قوله: (عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله) الجار متعلق بضلت العقول وما عطف عليه على سبيل التنازع، والشأن: الأمر و الحال والوصف، ولعل المراد به تصرفاته في عالم الإمكان والأعمال البدنية وهو كل آن وزمان في شأن، وبالفضيلة: العلوم العقلية والكمالات النفسية.

قوله: (وأقرت بالعجز والتقصير) أي أقرت العقول والحلوم والألباب و غيرهم من الأصناف المذكورة التي هي أشرف أصناف الخلق بالعجز والتقصير عن معرفة شأن واحد من شؤون الإمام وفضيلة واحدة من فضائله فغيرهم أولى بالعجز.

قوله: (وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه) أي بكل الوصف وبكنه النعت والاستفهام للإنكار لعدم القدرة على معرفة ذلك.

قوله: (ويغني غناه) (1) الإمام من يغني الناس بكل ما طلبوه منه من أحوال المبدأ والمعاد

ص:218


1- 1 - قوله: «ويغني غناه» الفوائد العظيمة المترتبة على وجود الإمام المعصوم المنصوب من الله تعالى لا تترتب على حكومة غيره البتة كيفما كان، وقد ذكر العلماء بهذا الشأن أقسام الحكومة قديما وجديدا ولا يسعنا الآن تفصيل جميعها إلا بإشارة إجمالية إلى بعض ما اشتهر عند الناس حسنها ورجحانها ولا ريب أن الحكومة القسرية وهي أن يكون الولاة جماعة مخالفة في الآراء والأهواء للمرؤسين ويقهروهم على قبول آرائهم مباينة بطبيعة الإنسان فإنه خلق مختارا والقهر على خلاف طبيعته والإنسان المقهور على خلاف آرائه كالنبات تحت خباء لا ينمو البتة ولا يورق ولا يثمر، وإن كانت الولاة صالحين والأمة فاسدة فشأن الصلحاء تعليم الناس الآراء المحمودة والأخلاق الفاضلة حتى يستعدوا لقبول حكومة الصلحاء بطبعهم والحكومة الطبيعية أن يكون الأمة موافقة للولاة في آرائها وأهوائها محمودة كانت أو مذمومة وعلى هذا فلا كلام إلا في أقسام الحكومة الطبيعية وهي تابعة لأقسام أهواء الناس و آرائهم، قد ذكر الفارابي في كتابه الموسوم بالسياسات المدنية بعد أن أخرج منهم الإنسان غير المتمدن وسماهم نوابت الاجتماع وشبههم بالشيلم في الحنطة مرة وبالبهائم أخرى و قال: انهم ليسوا مدنيين ولا تكون لهم اجتماعات مدنية أصلا قال: المدنيون على أنحاء كثيرة منها اجتماعات ضرورية، ومنها اجتماع أهل النذالة في المدن النذلة، ومنها الاجتماع الخسيس في المدن الخسيسة، ومنها اجتماع الكرامة من المدن الكرامية، ومنها الاجتماع التغلبي في المدن التغلبية، ومنها اجتماع الحرية في مدينة الجماعة ومدينة الأحرار. وشرح كل واحد منها وشرائط رئيسهم ووجوه معاشهم وآراء أممهم وأهوائهم ومفاسد كل و نكتفي بنقل ما ذكره في مدينة الأحرار وهي الحكومة الديمقراطية في اصطلاح عصرنا وبثبوت عدم كونها مدينة فاضلة تثبت عدم كون غيرها بطريق أولى ولعلنا نشير إلى تفسير بعض ما ذكره في موضع آخر. قال أبو نصر الفارابي: فأما المدينة الجماعية فهي المدينة التي كل واحد من أهلها مطلق مخلى بنفسه يعمل ما شاء وأهلها متساوون ويكون سننهم أن لافضل لإنسان على إنسان في شيء أصلا ويكون أهلها أحرارا يعملون بما شاؤوا وهؤلاء لا يكون لأحد منهم على أحد منهم ومن غيرهم سلطان إلا أن يعمل فيما تزاد به حريتهم فتحدث فيهم أخلاق كثيرة و همم كثيرة وشهوات كثيرة والتذاذ بأشياء كثيرة لا تحصى كثيرة وتكون أهلها طوائف كثيرة متشابهة ومتبائنة لا يحصون كثيرة (إلى أن قال:) ويكون من يراسهم إنما يرأسهم بإرادة المرؤوسين ويكون رؤساؤهم على هوى المرؤوسين وإذا استعصى امرهم لم يكن فيهم في الحقيقة لا رئيس ولا مرؤوس إلا الذين هم محمودون عندهم (.......) ويكون جميع الهمم والأغراض الجاهلية من هذه المدينة على أتم ما يكون وأكثر، وتكون هذه المدينة من مدنهم هي المدينة المعجبة والمدينة السعيدة (.......) وتكون محبوبة محبوب السكنى بها عند كل أحد لأن كل انسان كان له هوى وشهوة ما قدر على نيلها من هذه المدينة فيهرع الأمم إليها فيسكنونها فيعظم عظما بلا تقدير ويتوالد فيها الناس من كل جيل (...) وتجمع فيها الأهواء والسير كلها فلذلك ليس يمتنع إذا تمادى الزمان بها إن ينشأ فيها الأفاضل فيتفق فيها وجود الحكماء والخطباء والشعراء في كل ضرب من الأمور ويمكن أن يتلقط منها أجزاء للمدينة الفاضلة وهذا من حين ما نشأوا في هذه المدينة ولهذا صارت هذه أكثر المدن الجاهلية خيرا وشرا معا وكلما صارت أكبر وأعم وأكثر أهلا وأرحب وأكمل للناس كان هذان أكثر وأعظم. انتهى ما أردنا نقله من كتابه في السياسات المدنية وقد وصف من قبل ألف سنة المدن الديمقراطية الحاضرة كأنه رآها ودخلها وسبر أهلها ولعل من نشأ وتربى مدة من عمره في واشنكتن أو لندن لم يقدر على وصف المدينة بهذه الصفة وبالجملة المدينة الجماعية في اصطلاحه هي التي قبلها كثير من بلاد النصارى في زماننا وحصل فيها ما ذكره الفارابي من وجود الحكماء والخطباء ومع ذلك ليست هي عنده المدينة الفاضلة التي هي الغاية المقصودة لاجتماع الإنسان ولا عند الشيعة الإمامية فإنها المدينة التي أهلها صالحون يجرى فيها أحكام الله تعالى المنزلة على رسوله بيد الإمام المعصوم ومدينة الجماعية لا تخلو عن خطأ وغلط و استئثار وإن كانت تخلو عن الظلم والفتن في الجملة. (ش)

والشرائع وغيرها من الامور الكلية والجزئية التي بها يتم نظامهم في الدنيا والآخرة بحيث يستغنون عن الطلب من غيره ولا يوجد من يقوم مقامه ويغنيهم كذلك.

قوله: (لا) تأكيد للنفي الضمني المستفاد من قوله «وكيف يوصف - إلى اخره» للمبالغة فيه.

قوله: (كيف وأنى وهو بحيث - إلخ): أي كيف يوصف بكله وأنى ينعت بكنهه، والحال أنه في غاية ارتفاع قدره وعلو منزلته في مكان النجم وكما لا يصل إلى النجم أيدي الناظرين كذلك لا يصل إليه أيدي أوهام المتوهمين وهو عقول الواصفين. وفيه تشبيه معقول بمحسوس لزيادة الإيضاح والإيماء إلى علة الإنكار.

قوله: (أتظنون) لما أشار إلى أن عقولهم قاصرة عن إدراك الإمام و صفاته أشار هنا إلى بطلان

ص:219

ظنهم أن الإمام يوجد في غير آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

قوله: (كذبتهم والله أنفسهم): أي أنفسهم تكذبهم وتنسبهم إلى الكذب لعلمها بأن من جعلوه إماما من غير آل الرسول ليس بإمام. وإنما فعلوا ذلك لغرض من الأغراض الباطلة الدنيوية.

قوله: (ومنتهم الأباطيل) أي أضعفتهم الأباطيل عن الرجوع إلى الحق أو عن إصلاح ما ذهبوا إليه. يقال: منه السير: إذا أضعفه وأعياه ومنت الناقة: حسرتها. ورجل منين أي ضعيف كأن الدهر منه أي ذهب بمنته، والمنة بالضم: القوة، واحتمال أن يكون المراد منت عليهم الأباطيل من المنة بالكسر بعيد لفظا ومعنى فليتأمل.

قوله: (فارتقوا مرتقا) الارتقاء: «بالا رفتن» والمرتقى: اسم مكان منه، والصعب: خلاف السهل، والدحض بالتسكين والتحريك: الزلق وهو مكان لا تثبت فيه القدم، والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل، والكلام على سبيل التمثيل حيث شبه حالهم في سلوك طريق الدين باختيار إمام لهم بحال من أراد صعود جبل مرتفع وسلك طريقا صعبا زلقا كلما صعد قليلا زلقت قدمه فسقط وانكب إلى حضيضه.

كيف الوصول إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف قوله: (راموا) ترك العطف لأنه استيناف كأنه قيل: لم ارتقوا مرتقا صعبا؟ فأجاب بأنه راموا (إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة) أي غير مدركة لطريق المقصود ولا مطيعة لمرشدها، والحائر: من على وهو النقصان أو من الحيرة، والبائر: الهالك الفاسد الذى لا خير فيه ويقال: فلان حائر بائر إذا لم يتجه لشيء ولا يطيع مرشدا.

قوله: (فلم يزدادوا منه إلا بعدا) أي من الإمام أو من الدين بقرينة المقام وذلك لأن عدم معرفة الإمام يوجب بعدا والاعتقاد بغيره يوجب زيادة البعد.

قوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) الإفك بالكسر: الكذب، وبالفتح: الصرف أي كيف يكذبون على الله وعلى رسوله أو كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل وقوله «قاتلهم الله» دعاء عليهم بالهلاك والبعد عن رحمة الله لأن من قاتله الله فهو هالك بعيد عن رحمته، أو تعجب من شناعة عقائدهم وقباحة أعمالهم.

قوله: (ولقد راموا) عطف على راموا والتقدير واقسم بالله لقد راموا أكده بالقسم لترويج ما نسب إليهم من ارتقائهم مرتقا صعبا وحيرتهم وإفكهم وازديادهم بعدا.

ص:220

قوله: (إذ تركوا الإمام عن بصيرة) أي عن بصيرة في أمره فدل على أن رجوعهم عن الإمام الحق إلى غيره وضلالتهم في الدين وتحيرهم في أمره لم يكن مستندا إلى الجهل بالامام بل كانوا عالمين به، كيف لا؟! والنصوص في خلافته بلغ حد التواتر معنى وقد سمعها السابقون منهم مشافهة ولم ينص أحد من الأنبياء على وصيه مثل ما نص به نبينا (صلى الله عليه وآله)، أو عن بصيرة في الدين فدل على أنهم ارتدوا عن الدين بعد إسلامهم وقد استشهد لذلك بقوله تعالى «وزين لهم الشيطان أعمالهم» من طلب الإمام باختيارهم فصدهم عن السبيل وهو الصراط المستقيم والإمام الداعي إلى الحق وكانوا مستبصرين أي عالمين بذلك السبيل فتركوه حتى هلكوا، أو قادرين على الاستبصار به حتى يعرفوا ولم يفعلوا، وليس المقصود من الآية ذمهم فقط بل ذم كل من ترك الحق مع العلم به أو مع الاقتدار على طلب العلم به.

قوله: (رغبوا - الخ) تأكيد لقوله «تركوا الإمام عن بصيرة» أو استيناف كأنه قيل: لم تركوه عن بصيرة فأجاب بأنهم رغبوا وأعرضوا عن اختيار الله تعالى و اختيار رسوله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته إلى اختيارهم بمجر د التسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية، وأما اختيار الرسول فقد دلت النصوص الصحيحة والمعتبرة والروايات المتواترة من طرق الخاصة والعامة على تعيين علي (صلى الله عليه وآله) للإمامة وقولهم: «لو كانت النصوص متواترة لحصل العلم قطعا من غير اختلاف، مدفوع بأن المتواتر يفيد علما إذا لم تسبق شبهة على خلافه وأما اختيار الله تعالى فقد دلت الآيات الكريمة في مواضع عديدة على ذلك وقد ذكر بعضها سابقا وبعضها هنا ويأتي بعضها في الأبواب الآتية. وقوله (وأهل بيته غير موجود في بعض النسخ المعتبرة.

قوله: (والقرآن يناديهم) إلى اختياره وسلب الاختيار عنهم.

قوله: (وربك يخلق) أي ربك يخلق ما يشاؤه بلا مانع ويختار «ما كان لهم الخيرة» من أمرهم، والخيرة: بمعني التخير كالطيرة: بمعنى التطير ولفظة ما نافية ومفعول يختار محذوف وهو ضمير راجع إلى ما يشاء وقال بعض المفسرين: ما موصوله مفعول ليختار والعائد الراجع إليها محذوف والمعنى يختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح سبحان الله تنزيها له أن ينازعه أحد في الخلق ويزاحم اختياره اختياره تعالى (عما يشركون) عن إشراكهم في الخلق والاختيار. قال صاحب الطرائف: روى محمد بن مؤمن الشيرازي في تفسير قوله تعالى: «ربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة» بإسناده إلى أنس بن مالك قال: «سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) «وربك يخلق ما

ص:221

يشاء» قال «إن الله خلق آدم (صلى الله عليه وآله) من طين حيث شاء» ثم قال: «ويختار» إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا وجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب (صلى الله عليه وآله) الوصي ثم قال: - ما كان لهم الخيرة يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكني أختار ما أشاء فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه، ثم قال: «سبحان الله عما يشركون» يعني تنزيه الله عما يشرك به كفار أهل مكة ثم قال: «وربك» يعني يا محمد «يعلم ما تكن صدورهم» من بغض المنافقين لك ولأهل بيتك «وما يعلنون» من الحب لك ولأهل بيتك».

قوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) أي ما جاز لهم.

قوله: (أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) نفي عنهم الاختيار وأوجب عليهم الرجوع إلى اختيار الله واختيار رسوله في جميع أمورهم ومن جملته اختيار الإمام، قيل: جمع الضمير الراجع إلى المؤمن والمؤمنة لعمومها من حيث أنهما في سياق النفي.

قوله: (وقال عز وجل: مالكم كيف تحكمون) خاطب من حكم في أصول الدين وفروعه (1) بمجرد رأيه وهواه من غير أن يكون له دليل عقلي قطعي أو دليل نقلي أو عهد من الله على تجويزه له ذلك الحكم أو تقليد ممن يثق به وعيرهم بذلك إذ كل حكم لا سند له بأحد هذه الوجوه باطل لا يعتقد به عاقل ومن البين أن أمر الإمامة من أعظم أركان الإسلام فلا يجوز اختيار الخلق له بمجرد

ص:222


1- 1 - «خاطب من حكم في أصول الدين وفروعه» ذكرنا سابقا في مبدأ كتاب الحجة أن أمر التشريع ليس مفوضا إلى الناس وهذه الآيات تدل عليه صريحا وقلنا: إن المخالف ليس من لا يعتقد بالله تعالى وينكر الشرائع ويقول: إن الإنسان مكلف بوضع قوانين لحفظ العدالة وإصلاح أمر المعاش والمتصدون لذلك عقلاؤهم وأهل حنكتهم في الاجتماعيات والسياسيات وأيضا النصارى يفوضون أمر الدنيا إلى أهل الدنيا ولا يثبتون أحكاما دينية في المعاملات والسياسات إلا أحكاما معدودة في النكاح والطلاق وأما المسلمون بجميع طوائفهم فيثبتون نصوصا كثيرة في الأحكام لا يجوز التخلف عنها والعامة يجوزون للفقهاء في غير المنصوص الفتوى بالقياس، وأما مذهب الامامية فعدم التفويض مطلقا في حكم من الأحكام ولا معنى عندهم لاختيار جماعة يقررون قواعد وأحكاما يلتزمون بها كما في بلاد الملاحدة والنصارى، ولا معنى لذلك أيضا عند أهل السنة والجماعة لأنهم مكلفون بمتابعة نصوص الشرع وفتاوى العلماء. ويشمل هذه الآيات اختيار الإمام إذ ليس مفوضا إلى الناس وخالف فيه أهل السنة أيضا والكلام في ذلك يطول وقد بحث عند علماؤنا وكتبوا كتبا وقرروا حججا لا تغنينا عن التكرار والتطويل. والبحث مع الملاحدة في عدم تفويض أصل التشريع إليهم أهم وأولى للمسلمين ولم يحوموا حوله كثيرا لوضوحه في الأزمنة السالفة و قلة الملاحدة وواجب علينا في زماننا لكثرتهم وغلبتهم وتأييد النصارى إياهم في الباطن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (ش)

الرأي من غير سند. قال القاضي وغيره: فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي.

قوله: (أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون) أي أم لكم كتاب نزل من عند الله تعالى إليكم فيه تدرسون وتقرؤون أن لكم ما تختار ونه وتشتهونه قال القاضي: وأصله أن لكم بالفتح لأنه المدروس فلما جيء باللام كسرت. ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استينافا.

وتخير الشيء واختياره أخذ خيره.

وفيه إشارة إلى أن ليس لهم دليل نقلي على ذلك الحكم، كما أن في الأول إشارة إلى أن ليس لهم دليل عقلي عليه «أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون» أي أم لكم عهود مؤكدة بالإيمان ثابتة لكم علينا بالغة في التأكيد متناهية فيه. وقوله «إلى يوم القيامة» متعلق بالمقدر في «لكم» أو ببالغة أي ثابته لكم تلك العهود إلى يوم القيامة، أو بالغة ذلك اليوم ولا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم، وقوله «إن لكم لما تحكمون» جواب القسم لأن معنى أم لكم أيمان علينا أم أقسمنا كما صرح به المفسرون.

قوله: (سلهم أيهم بذلك زعيم) أي سل الحاكمين بمجرد رأيهم واختيارهم أيهم زعيم بذلك الحكم قائم به يدعيه ويصححه بحيث لا يتوجه إليه اللوم والعقوبة به.

قوله: (أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين) أي أم لهم شركاء ممن يوثق به في هذه الامة وفي الامم السابقة يشاركونهم في تقرير اصول الدين و فروعه واختيار الإمام بمجرد آرائهم فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين في دعواهم إذ لا أقل من التقليد. قال القاضي: قد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب تنبيها على مراتب النظر وتزييفا لما لا سند له.

قوله: (وقال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن)) أي أفلا يتصفحون القرآن ولا يتفكرون فيه ليجدوا ما فيه من الوعظ والنصيحة والأمر بالخيرات ومتابعة الرسول والنهي عن قول الزور وغيره حتى لا يجسروا على القول بمقتضى آرائهم، أم على قلوب أقفالها المانعة من دخول الحق المبين فيها وانكشاف أمر الدين لها. قيل: تنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم وإضافة الأقفال إليها للدلالة على الأقفال المناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة.

قوله: (أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون) أي لا يعلمون ما في متابعة القرآن وموافقه

ص:223

الرسول من السعادة وما في مخالفتهما والقول بالرأي من الشقاوة. والطبع: الختم وهو التأثير في الطين ونحوه، والطابع بالفتح: الخاتم وبالكسر: لغة فيه. وقال صاحب الكشاف: الختم والكتم أخوان لأن الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما وتغطية لئلا يوصل إليه ولا يطلع عليه ثم قال: فإن قلت لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطريقه وهو قبيح والله تعالى عن فعل القبيح علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه وقد نص على تنزيه ذاته بقوله «وما أنا بظلام للعبيد» «وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين» «إن الله لا يأمر بالفحشاء» ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل. قلت: القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل فلينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشئ الخلقي غير العرضي ألا ترى إلى قولهم فلان مجبول على كذا ومفطور عليه يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وله توجيهات اخر إن أردت معرفتها فارجع إلى تفسير قوله تعالى «ختم الله على قلوبهم».

قوله: (أم قالوا سمعنا) كالمنافقين (وهم لا يسمعون) سماع انقياد و إذعان فأنه لا يسمعون أصلا، وهذا كما يقال: فلان لم يسمع نصيحتي إذا لم يعمل بمقتضاها.

قوله: (إن شر الدواب) أي شر البهائم (الصم) عن الحق (البكم الذين لا يعقلون) إياه، ذم من لم يعمل بالآيات القرآنية ولم يتدبر فيها و عدهم من البهائم التى لا تعقل شيئا وجعلهم شرا لإبطالهم عقولهم التي بها يتميزون من البهائم ومن جملة تلك الآيات ما دل على المنع من القول في الدين بالرأي والاختيار وهم عينوا أعظم أمور الدين وهو الإمام بآرائهم واختيارهم حتى ضلوا وأضلوا.

قوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) أي لو علم الله فيهم خيرا وانقيادا في وقت وإذعانا في حين لأسمعهم إسماعا موجبا لا نقيادهم وإذعانهم فيه ولو أسمعهم كذلك لتولوا وارتدوا بعد الإذعان والتصديق وهم معرضون عنه لعنادهم واستخفافهم إياه. قيل: هذا في صورة قياس اقتراني فيجب أن ينتج لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهذا محال لأنه على تقدير إن يعلم الله فيهم خيرا لا يحصل منهم التولي بل الانقياد. قلت: لا نسلم أن هذا محال بناء على ما فسرنا الآية لأن اللازم على تقديران يعلم الله فيهم خيرا في وقت أن يحصل منهم الانقياد في ذلك الوقت، ولا ينافي ذلك أن يحصل منهم التولي والارتداد بعده. وأجاب عنه بعض

ص:224

المحققين ولعله المحقق الطوسي بعد حمل الخير على السعادة المطلقة الدائمة: بأن المقدمتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما تنتجان لو كانت الكبرى لزومية وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة لأن علم الله فيهم خيرا محال إذ لا خير فيهم و المحال جاز أن يستلزم المحال.

وقال بعض الأفاضل: وهذا الجواب وأصل السؤال كلاهما باطل لأن لفظ «لو» لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في القياس الاستثنائي المستثني منه نقيض التالي لأنها لا متناع الشيء لا متناع غيره ولهذا لا يصرح باستثناء نقيض التالي لانه معتبر في مفهوم لو فلو صرح به كان تكرارا و كيف يصح أن يعتقد في كلام الحكيم تعالى وتقدس أنه قياس اهملت فيه شرائط الانتاج، وأي فائدة تكون في ذلك وهل يركب القياس إلا بحصول النتيجة، بل الحق أن قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم» وارد على قاعدة اللغة وهي أن «لو» لا متناع الجزاء لأجل امتناع الشراط، يعني أن سبب عدم الإسماع في الخارج ما هي، ثم ابتدأ قوله «ولو أسمعهم لتولوا» كلاما آخر على طريقة قوله (صلى الله عليه وآله): «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله ولم يعصه» يعني أن التولي لازم على تقدير الإسماع فكيف على تقدير عدمه فهو دائم الوجود وهذه الطريقة غير طريقة أرباب الميزان الذين يستعملون لفظ لو في القياس الاستثنائي وغير طريقة أهل اللغة الذين يستعملونه لامتناع الجزاء لأجل امتناع الشرط، وبناء هذه الطريقة على أن لفظ «لو» قد يستعمل للدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة مع وجود الشرط وعدمه، وذلك إذا كان الشرط مما يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزامه ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه فيكون دائم الوجود في قصد المتكلم.

وقال سعد التفتازاني: يجوز أن يكون الشرطية الثانية أيضا مستعملة على قاعدة اللغة كما هو مقتضى أصل «لو» فتفيد أن التولي منتف بسبب انتفاء الإسماع لأن التولي: هو الإعراض عن الشيء وعدم الانقياد له، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق منهم التولي والإعراض عنه، ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له. فإن قيل: انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم؟ قلنا: لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الإسماع خير وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن اسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا.

قوله: (أم قالوا سمعنا وعصينا): أي أم قالوا: سمعنا قول الله تعالى وقول الرسول (صلى الله عليه وآله) في

ص:225

جميع ما جاء به من المواعظ والنصايح والأوامر والنواهي و الزواجر الدالة على المنع من الاختراع في الدين وعصيناهما في جميع ذلك أو في بعضه لعدم موافقته للطبع أو للتعاند والتحاسد والتباغض.

قوله: (بل هو فضل الله) أي الإمامة أو السماع ومعرفة الإمام فضل الله الذي يمتاز به صاحبه عن غيره يؤتيه تعالى من يشاء من عباده تفضلا و عطية، والله ذو الفضل العظيم، الذين يستحقر دونه نعيم الدنيا ونعيم الآخرة وفيه دلالة على أن الإمامة موهبية وكذا معرفتها لمن استعد لقبولها (1).

قوله: (والامام عالم لا يجهل) ليس «لا يجهل» للتأكيد بل للاحتراز إذ كل أحد عالم في الجملة وهذا القدر لا يكفي في الإمام بل لابد فيه أن لا يجهل شيئا مما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة وإلا لبطل الغرض من الإمامة ووقع الحيرة فوجب أن يكون الإمام ممن خصه الله سبحانه في أصل الفطرة بكمال الفطنة وجودة القريحة وسداد العقل وسرعة الإدراك ورفع الموانع ولا علم بصفاته تعالى و أحكامه وأحوال العالم كلها.

وبالجملة يجب أن يكون أفضل الناس علما وأكملهم خشية وأكثرهم عملا لأن العلم يثمر الخشية والخشية تثمر العمل فمن اجتمعت فيه هذه الأمور كانت العلوم النظرية عنده كالضرورية.

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعلم الناس جميعا باتفاق الأمة ؤ دلت عليه روايات العامة أيضا، روى مسلم أنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إني لأعلمكم بالله» وأيضا قال «أني أعلمهم بالله وأشدهم خشية» والعقل الصحيح

ص:226


1- 1 - «وكذا معرفتها لمن استعد لقبولها» كلام مجهول المراد غير ظاهر المعنى وأما ما يتوهم من ظاهره من الجبر وأن المعرفة من الله تعالى وليس فعلا اختياريا للعبد فهو باطل جدا لا يريده الشارح البتة مع تمسكه بأصول مذهب الإمامية إذ لا ريب عندنا في أن من لا يعرف الإمام معاقب مذموم محجوج بالأدلة القائمة على إمامتهم (عليهم السلام)، ولابد أن يكون مختارا حتى يقام عليه الحجة ولعل الشارح أراد موهبة لا ينافي الاختيار كما هو اعتقادنا في جميع الأفعال الاختيارية بل وجميع الموجودات المتوقفة على الأسباب فإنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وكل سبب وعلة وفاعل سواء كان مختارا أو مضطرا كالفواعل الطبيعية إنما هي معدات والمسبب حاصل بإرادة الله تعالى وفعله فإن من يقتل مسلما ظلما فإنما هو محرك لأسباب القتل وآلاته وأما إزهاق روح المقتول فليس بتأثير القاتل وآلاته بل هو ملك يزهق الأرواح بأمر الله تعالى، وكذلك الناس عليهم تتبع الأدلة والنظر في أصول الاعتقاد والمعرفة حاصلة من الله تعالى بعد النظر الصحيح قهرا فإن أراد الشارح هذا المعنى فهو وإن كان معنى صحيحا لا يناسب سياق كلامه إذ لا يختص بمعرفة الإمام (عليه السلام) بل كل اعتقاد فاسد وعمل قبيح كالقتل ظلما وشرب الخمر وسائر المعاصي بإرادة الله تعالى بهذا المعنى ولا يناسب ذكرها في سياقة أن الإمامة موهبية وبالجملة فكلام الشارح هنا يشبه كلام الأشاعرة. (ش)

يقتضي أن يكون نائبة أيضا أفضل الأمة جميعا، ولم يكن غير الأمير الجليل سيد الوصيين موصوفا بهذه الصفة بالاتفاق ولا ريب في أن هذه الصفة تبلغ كنهها وكمالها عقول البشر فكيف يجوز لهم اختيار الإمام بآرائهم القاصرة، وعقولهم الناقصة واعلم أن بعض الصوفية قال: إن علوم الأنبياء والأوصياء (صلى الله عليه وآله) ضرورية وسماه كشفا وهذا كلام فيه إجمال إذ يحتمل أن يراد بكونها ضرورية أنهم جبلوا عليها في أصل الفطرة ولم يستعملوا فيها نظرا أصلا، وأن يراد أن النظريات تصير في حقهم ضروريات بعد تحصيلها بالنظر بحيث لا يتأتي الانفكاك عنها ولا يتطرق إليها التشكك كما في العلوم الضرورية والأول أقرب بالنظر إلى مذهبنا. قوله (وراع لا ينكل) في بعض النسخ وداع بالدال المهملة والنكول: الجبن والضعف والامتناع يقال: نكل عن العدو ينكل بالضم أي جبن وضعف و امتنع من الإقدام عليه يعني أن الإمام راعي الامة وحافظهم لا يضعف ولا يمتنع من إجراء الأحكام والحدود عليهم و دفع المضار والعدو عنهم.

قوله: (معدن القدس) العدن: الإقامة ومنه سميت جنة عدن أي جنة إقامة يقال: عدن بالمكان يعدن عدنا إذا لزمه ولم يبرح منه، والمعدن: اسم مكان منه وهو موضع الإقامة يعني أن الإمام محل إقامة التقدس من العيوب (1) والطهارة من الذنوب ومحل النسك والزهادة أي الإتيان بجميع

ص:227


1- 1 - قوله: «محل إقامة التقدس من العيوب» الظاهر أنه تمهيد لما يأتي بعد ذلك من اشتراط كون الإمام من أهل بيت رسول الله والذرية الطيبة، من كونه معدن القدس كونه في هذا البيت الشريف الذي ظهر منه كل خير، وهذا مبني على قاعدة اللطف الذي يقول به الشيعة الإمامية وإن كل مقرب إلى الطاعة ومبعد عن المعصية يجب على الله تعالى إن لم يوجب الجبر والقهر، ولا ريب أن انقياد الناس للبيت الشريف الذي كان عريقا في الرئاسة والكرم والزهد أسهل وحجتهم على المدعين للباطل أقوى ألا ترى أن من ترأس وهو من بيت الملك كان أقوى له في الأمر والناس أطوع له ولو كان بيته من الجبابرة وكان أولاد جنكيز وتيمور يتمسكون لاحقيتهم بالملك بانتسابهم إلى الشجرة الخبيثة ويدحضون بذلك حجة خصومهم وقدرتهم فكيف لو كان بيت الملك كبيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيت طهارة وقدس ونبوة وكان ملوك الصفوية لنسبتهم إلى موسى بن جعفر الكاظم (عليهم السلام) أقوى الملوك وأدعم ركنا واحكم أساسا وأحب إلى الرعية من جميع البيوت التي تملكت بعد الإسلام مع مخالفتهم مذهب أكثر أهل البلاد، وكان ملوك بنى العباس يقدحون في نسب الفاطميين ملوك مصر ليقل بذلك اعتبارهم وعزتهم ولا يرغب في ملكهم المسلمون وبالجملة فإطاعة المسلمين لبيت النبي (صلى الله عليه وآله) أقرب وأسهل وإن كانوا غير معصومين فكيف لو كان المعصوم منهم متصديا للإمامة مع نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما علم الله تعالى أن جعل الإمامة في ذرية رسول الله ونسل المطهرة البتول أسهل لقبول الناس وأقرب لهم إلى الطاعة وكان هذا البيت أشهر وأعرف البيوت في العالم وكان معرفتهم قريبة إلى أذهانهم وكان تكليف الناس بتفحص المعصوم من البيوت الخاملة نظير التكليف بما لا يطاق خصهم بهذه الموهبة الشريفة وقد تمسك به قريش في صدر الإسلام على أولويتهم بالأمر من الأنصار بأنهم عترة الرسول والعرب تدين لهم ولا تدين لغيرهم من القبائل و هذا الاحتجاج ثابت في بني هاشم وذرية فاطمة بالنسبة إلى غيرهم واقتبسنا كثيرا من ذلك من كلام هشام بن الحكم (رحمة الله) في مجلس يحيى بن خالد على ما رواه في كتاب كمال الدين على ما يأتي إن شاء الله. (ش)

ما أمرت به الشريعة وترك جميع ما نهت عنه والظاهر أن النسك هنا بفتح النون وسكون السين: مصدر ليلائم الزهادة و أما النسك بضمها فمع فوات الملائمة يوجب التكرار في العبارة إلا أن يخصص بنوع منها مثل نسك الحج ومحل العلم بجميع الأشياء والعبادة بجميع الأنحاء وفيه قدح في الثلاثة الذين خلفوا إذ ليس فيهم شيء من هذه الامور.

قوله: (مخصوص بدعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)) الدعوة إما بفتح الدال والمعنى أن الإمام مخصوص بدعوة الرسول له إلى الإمامة لا بدعوة الخلق له إليها أو بدعاء الرسول له بقوله «اللهم وال من والاه» وأمثال ذلك وإما بكسرها أي مخصوص بدعوته إلى الرسول ونسبته إليه.

قوله: (ونسل المطهرة البتول) بالرفع عطف على «معدن القدس» أو على «عالم لا يجهل» وبالجر عطف على «دعوة الرسول». قال محي الدين البغوي: البتل: القطع ومنه صدقة بتلة أي منقطعة عن مالكها ومنه سميت فاطمة البتول لا نقطاعها عن النساء فضلا ودينا وحسبا.

قوله: (ولا مغمز فيه في نسب) المغمز: اسم مكان من الغمز وهو الطعن بالعيب وغيره مما يوجب نقض الشأن يعني ليس في نسبه لكونه شريفا رفيعا عيب يطعن به.

قوله: (ولا يدانيه ذو حسب) أي ذو شرف ورفعة باعتبار الرفعة النسبية أو باعتبار صفاته الذاتية وكمالاته العرضية. قال ابن الأثير والجوهري: الحسب الشريف بالآباء وما يعده الانسان من مفاخرهم، وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف.

والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء.

قوله: (في البيت من قريش والذروة من هاشم) كان أبو النبي (صلى الله عليه وآله) عبد الله، وأبو علي (صلى الله عليه وآله) أبو طالب أخوين أبو هما عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو من أولاد إسماعيل (صلى الله عليه وآله) والمشهور أنه تقرشت قريش من النضر بن كنانة، و كان لكنانة ولد غير النضر ولا يسمون قريشا وقيل: من فهر بن مالك بن النضر، و سبب ذلك أن أولاد النضر كانوا تفرقوا في البلاد لاستيلاء خزاعة عليهم فلما انتقل أمر مكة من خزاعة إلى قصي بن

ص:228

كلاب جمع أولاد النضر في مكة فسموا قريشا لأنهم لم قرشوا: أي لم يجتمعوا، وفي قريش بطون كثيرة، بنو هاشم وبنو المطلب، قيل منهم الشافعي، وبنو أمية ومنهم عثمان، وبنو تيم ومنهم أبو بكر، وبنو عدي و منهم عمر لو صح نسبه، وبنو جمح، وبنو فهر، وبنو عامر بن لؤي إلى غير ذلك من بطونهم. قال المازري: غير قريش من العرب ليسوا بكفؤ لقريش ولا غير بني هاشم كفؤا لبني هاشم إلا بنو المطلب فإنهم وبنو هاشم شيء واحد. إذا عرفت هذا فنقول: دل هذا الخبر على أن الإمام يجب أن يكون من قريش (1) و من الأولاد المعروفين لهاشم. وبالجملة يجب أن يكون قرشيا هاشميا.

وفى أخبار العامة أيضا دلالة واضحة على الأول روى مسلم في كتابه عشرة أحاديث منها ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان». ومنها ما روي عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» ثم تكلم بكلام خفي علي قال: قلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: «كلهم من قريش».

ومنها ما روى أيضا عن جابر بن سمرة بإسناد آخر أنه قال: «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «لا يزال الدين قائما حتى يقوم الساعة ويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش». قال الآمدي:

الشروط المختلفة فيها في الإمامة ستة. منها القرشية وهو المشهور عندنا بل هو مجمع عليه، من أنكره احتج بالإجماع وبالسنة وبالمعقول.

ص:229


1- 1 - قوله: «يجب أن يكون من قريش» قال هشام بن الحكم في احتجاجه على ضرار على ما رواه في كمال الدين في شرائط الإمامة في النسب فأما الأربع الذي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وإن يكون من صاحب الملة والدعوة، وإليه إشارة فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب الملة والدعوة الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع أشد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتصل دعوته إلى كل بر وفاجر وعالم وجاهل ومقر ومنكر في شرق الأرض وغربها ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق من غير هذا الجنس لأتى على الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا أن يكون فسادا ولا يجوز هذا في حكم الله تعالى وعدله أن يفرض على الناس فريضة لا توجد فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ولما كثر أهل هذا البيت وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره. انتهى كلامه (رحمه الله). (ش)

أما الإجماع فهو أنه لما قال عمر عند الوفاة: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لم يخالجني فيه شك. ولم ينكر ذلك عليه أحد فكان إجماعا.

وأما السنة فحديث «أطعه - أي الأمير - ولو كان عبدا حبشيا».

وأما المعقول فإن الغرض من الإمامة السياسة وحماية حوزة الإسلام و القيام بقوانين الشرع وذلك قد يحصل بغير القرشي فلا حاجة إلى نسب، واجيب بمنع الإجماع لأن الرواية عن عمر مختلفة وبعدم صحة الرواية وبعدم حجية الإجماع السكوتي، وعلى تقدير قبول جميع ذلك فقد قيل إنه كان قرشيا وبأن حديث «لو كان عبدا حبشيا» آحاد فلا يعارض الأخبار المتكثرة المذكورة والإجماع وبتقدير تواتره فليس فيه ما يدل على أنه أراد الإمام فلعله أراد السلطان لخوف التقية (1) وغير وليس كل سلطان إماما (2)، وأما المعقول فلا يعارض الإجماع.

ومنها الهاشمية وهي ليست بشرط خلافا لطوائف الشيعة، وقولهم باطل للإجماع على صحة إمامة أبي وعمر وليسا بهاشميين. هذا كلامه وفيه نظر لأن الإجماع على إمامتها غير مسلم لإباء كثير من الصحابة عن مبايعتهما باعترافهم أيضا كما ذكرناهم في أول هذا الباب ومنهم أبو ذر (رحمه الله) وضرب الأول (3) إياه ضربا وجيعا وإخراجه عن المدينة مشهور لا ينكره أحد.

قوله: (والعترة من الرسول (صلى الله عليه وآله)) كما قال «إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وفي طريق العامة «خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» قال الجوهري: عترة الرجل نسله ورهطه الأدنون.

وقال ابن الأثير عترة الرجل أخص أقاربه، وعترة النبي بنو عبد المطلب، وقيل: أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده (صلى الله عليه وآله).

قوله: (والرضا من الله تعالى) أي الإمام هو المرضي من عند الله تعالى ومن البين أن هذا الوصف لا يعلمها إلا هو فكيف يجوز لأحد أن يجعل غيره إماما لنفسه ولغيره وهو لا يعلم أنه تعالى

ص:230


1- 1 - قوله: «لخوف التقية وغيره» اعتراف منه مع كونه من أهل السنة بالتقية. (ش)
2- 2 - قوله: «ليس كل سلطان إماما» والفرق بينهما خفي على مذهبهم فإن الوليد بن يزيد كان إماما وهو الذي خرق المصحف وقال: شرح أصول الكافي - 17 - إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد والأمير إسماعيل الساماني كان سلطانا ونام ليلة والمصحف عند قدميه وهو لا يعلم فقام من نومه وعلم ذلك فبات سبع ليال قائما والمصحف بين يديه كفارة لما صدر منه غفلة. ولعل الفرق هذه النكتة الدقيقة. (ش)
3- 1 - كأنه سهو والصحيح الثالث.

راض عنه أم لا.

قوله: (شرف الأشراف) يعني أن الإمام يجب أن يكون أشرف من كل شريف فكيف يجعلون الثلاثة أئمة مع أن بني هاشم أشرف منهم كما صرح به المازري أيضا قال: غير بني هاشم ليسوا كفؤا لبني هاشم.

قوله: (والفرع من عبد مناف) وهو الجد الثالث للنبي وعلي (صلى الله عليه وآله) وفرع كل قوم هو الشريف منهم.

وفرع الرجل أول أولاده وكان هاشم أول أولاد عبد مناف وأشرفهم. وأما الثلاثة فأولهم يرفع نسبه إلى تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ففي مرة بن كعب وهو الجد السادس للنبي يجتمع معه وثانيهم يرفع نسبه لو لم يطعن إلى عدى بن كعب بن لؤي ففي كعب بن لؤي وهو الجد السابع للنبي يجتمع معه، وثالثهم يرفع نسبه إلى عبد الشمس بن عبد مناف.

قوله: (نامي العلم) إما من إضافة الصفة إلى الفاعل من نمى الشيء إذا زاد وعلمه يزداد لأنه محدث، أو من إضافتها إلى المفعول من نمى خيرا إذا بلغه و رفعه كما هو وهو يبلغ علمه ويرفعه إلى الأمة كما هومن غير زيادة ونقصان.

قوله: (كامل الحلم) أي كامل العقل أو كامل الأناة والتثبت في الأمور لا يستخفه شيء من المكاره ولا يستفزه الغضب على الرعية بل ينتهي في كل شيء إلى مقداره.

قوله: (مضطلع بالإمامة) الاضطلاع: افتعال من الضلاعة وهي القوة يقال: اضطلع بحمله أي قوي عليه ونهض به والإمام قوي عليه ونهض به والإمام قوي على حمل أثقال الإمامة من إجراء الأحكام والحدود وترويج القوانين كما أنزلت من غير تحريف ولا تبديل.

قوله: (عالم بالسياسة) (1) سست الرعية سياسة وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله إذا ملك أمرهم يعني الإمام عالم بامور الناس وما يصلحهم وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم فيحمل كل أحد على ما يتم به نظامه و نظام الكل.

ص:231


1- 1 - قوله: «عالم بالسياسة» قال في المواقف: الجمهور على أن أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمر الدين، ذو رأي ليقوم بأمور الملك، شجاع ليقوى على الذب عن الحوزة. وقيل لا يشترط هذه الصفات لأنها لا توجد فيكون اشتراطها عبثا أو تكليفا بما لا يطاق ومستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها، نعم يجب أن يكون عدلا لئلا يجور، عاقلا ليصلح للتصرفات، بالغا لقصور عقل الصبي، ذكرا إذ النساء ناقصات عقل ودين - إلى أن قال - فهذه الصفات شروط بالإجماع. (ش)

قوله: (مفروض الطاعة) قولا وفعلا عملا وعقلا لأنه لا يجوز عليه الخطأ عندنا بوجه من الوجوه، وأما عند العامة فحيث جوزوا فيه الخطأ، قالوا: الإمامة ولاية في الدين والدنيا توجب طاعة الموصوف بها في غير منهي عنه وأما فيه فلا تجب طاعته كما صرح به الآبي في كتاب إكمال الإكمال وأنت إذا رجعت إلى صراحة عقلك تعلم أن من صدر منه منهي عنه في وقت من الأوقات سيما في وقت الإمامة لا يصلح للإمامة لا يصلح للإمامة.

قوله: (قائم بأمر الله) تعالى أي قائم بإجراء أمر الله تعالى على خلقه، أو قائم بنصه تعالى للإمامة.

قوله: (يوفقهم الله) لادراك الحقائق أو للخيرات كلها.

قوله: (من مخزون علمه وحكمه) يحتمل أن يعطف حكمه على «مخزون علمه» ويراد بالعلم المخزون العلم بأسرار التوحيد وأسرار القضاء والقدر وغير ذلك مما لا يبلغه إلا عقول الأنبياء والأوصياء (صلى الله عليه وآله) ويراد بالحكمة العلم بالقوانين الشرعية وعللها وإتقان العمل بها يعني الحكمة العملية بأقسامها ويحتمل أن يعطف على علمه ويراد بالعلم: العلم بجميع الأشياء وبالحكمة العلم به مع إتقان العمل في العمليات فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام.

قوله: (في قوله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق)) (1) في للسبية أو للظرفية وهو على التقديرين متعلق بيكون أي كون علمهم فوق علم أهل زمانهم بسبب قوله تعالى أو مذكور في قوله تعالى ودلالته على ذلك ظاهر حيث دل على أن كل من يهدي إلى الحق ولا يحتاج في هدايته إلى غيره أحق بأن يتبع ممن لا يهتدي إليه إلا أن يهديه غيره فدل على أن المتبوع لابد أن يكون أعلم من التابع فإذا كان كذلك فكيف يكون الثلاثة أئمة مع وجود علي (عليه السلام) وهو أعلم منهم باتفاق الامة «فما

ص:232


1- 2 - قوله: «أفمن يهدي» استدلال بالآية الكريمة على اشتراط الإمامة بالعلم بل الأعلمية ولا يمكن أن ينازع فيه مسلم بعد تصريح القرآن في آية لم يدع أحد نسخها و اعترف به صاحب المواقف وشارحه عند اختلاف المدعين للخلافة وتشاجرهم في الإمامة، قال: إن لم يقع اختلاف فذاك وإن وقع يجب عندنا تقديم الأعلم فإن تساويا فالأورع وإن تساويا فالأسن وبذلك تندفع الفتنة انتهى ونقول: لم يعهد في نصب الخلافة إلا الاختلاف، فقال الأنصار: في أول يوم: منا أمير ومنكم أمير، وقال أكثرهم: نختار سعد بن عبادة وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن معه لا يرون الأمر إلا له، فكان الواجب عليهم تقديم الأعلم وهو بالاتفاق أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو متعين للخلافة سواء كان عليه نص أو لم يكن وكذلك بقي الاختلاف بعدهم في كل زمان إلا ان يقهر أحدهم عدوه بالسيف وليس للسيف حجة على الحق فما شرطوه في الإمامة لم يتحقق قط ولن يتحقق قطعا إلى يوم القيامة. (ش)

لكم كيف تحكمون» بما يقتضي صريح العقل بطلانه.

قوله: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) ذم الله سبحانه الدنيا وعد ما فيها قليلا حقيرا وعد الحكمة التى آتاها الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) خيرا كثيرا لأنها مبدء لجميع الخيرات الدنيوية والاخروية بل هي نفسها فالمدح و الذم والكمال والنقص والتقدم والتأخر إنما هي باعتبارها وجودا وعدما وهذا من أجلى الضروريات فكيف يجوز تقدم الجاهلين على الحكيم الرباني.

قوله: (في طالوت) طالوت اسم أعجمي عبري، غير منصرف للعجمة والتعريف وفي المعالم زعم أن أصله طولوت على وزن فعلوت من الطول (1) قلبت الواو ألفا سمي بذلك لطوله وكان أطول من كل أحد برأسه منكبه، وامتناع صرفه يدفع أن يكون منه ولما سأل الله نبيهم إشموئيل باستدعاء قومه أن يبعث لهم ملكا أتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم، فلم يساوها إلا طالوت، فقال: هو ملك لكم، فقال قومه: أنى يكون له الملك علينا ويستأهل للإمارة، ونحن أحق بالملك منه لشرافة النسب (2) وكثرة الأموال إذا كان من أولاد بنيامين ولم يكن فيهم النبوة والملك، وكانوا من أولاد لاوي بن يعقوب، وكانت النبوة فيهم ومن أولاد يهودا وكان الملك فيهم، ولم يؤت معه من المال الذي عليه مدار الملك والسلطنة إذ كان فقيرا راعيا أو سقاء يسقي على حمار له من النيل (كذا؟)، أو دباغا يعمل الأديم، على اختلاف الأقوال. (فقال لهم نبيهم إن الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) قال القاضي: لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك أولا: بأن العمدة، فيه اصطفاء الله وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانيا: بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة امور

ص:233


1- 1 - قوله: «فعلوت من الطول» والصحيح أن طالوت غير عربي بل معرب عن كلمة عبرية مع تغيير جوهري في حروفه وكان أصله شاول فهو مثل يحيى معرب يوحانان، و عيسى معرب يشوعا. (ش)
2- 2 - قوله: «لشرافة النسب» إن قيل: ذكرتم في شروط الإمامة شرف النسب وانتسابه إلى بيت النبوة لاقتضاء قاعدة اللطف ذلك، وطالوت كان خاملا فكيف اختير للإمارة من جانب الله تعالى؟ قلنا: إنما شرطنا ذلك لأن معرفته في بيوت النبوة أسهل على الناس وأطوع لهم، وأما طالوت فكان النبي وهو اشموئيل حاضرا في عهده وصرح بأنه مختار من الله تعالى للملك فعرفه الناس ولم يشكوا في صدق نبيهم وكانوا طالبين له منقادين لكل من نصبه بأمر الله تعالى فكان نصب اشموئيل لطالوت ملكا كنصب نبينا (صلى الله عليه وآله) ابن أم مكتوم في حياته ولا يشترط في مثله الانتساب إلى بيت النبوة بخلاف الإمام الأعظم المطاع لجميع الأمة بعد رحلته (صلى الله عليه وآله) بتمادي الزمان ومضي القرون. (ش)

السياسة، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على مقاومة العدوو مكائدة الحروب لاما ذكرتم.

وقد زاده فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، وثالثا: بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء، ورابعا: بأنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه، عليم بمن يليق بالملك من النسب وغيره. أقول: إذا تأملت فيه عرفت أن اختيار الرئيس لله تعالى لا للخلق لعلمه بالمصالح، وأن مناط التقدم هو زيادة العلم بسياسة العباد وكمال القوة على إجزاء الأحكام والحدود وأن الخلق معزولون عن الاختيار فدل ذلك على بطلان اختيارهم في ثلاثة.

قوله: (وقال لنبيه (صلى الله عليه وآله)) قد من الله تعالى على نبيه بانزال الكتاب و الحكمة وتعليم الأسرار والشرايع وعد ذلك فضلا عظيما إذ لايوازيه شيء من النعماء و عليه مدار الرسالة والتبليغ والغرض المطلوب من إيجاد الإنسان.

ومن البين أن نائبه والقائم مقامه وجب أن يكون عالما بجميع ذلك لتصح النيابة و يتم الغرض فالجاهل بشيء من ذلك لا يصح أن يكون إماما.

قوله: (أم يحسدون الناس) اريد بالناس وبآل إبراهيم أهل البيت والعترة (صلى الله عليه وآله) وهم المحسودون بما آتاهم الله من فضله من العلم والعمل والعزة والتقدم على جميع الخلائق، وجعلهم ورثة الكتاب والحكمة النبوية وآتاهم ملكا عظيما وهي رئاسة الدارين، فمن الأمة من آمن بما آتاهم ومنهم من صد و أعرض عنه ولم يؤمن به، وكفاهم إن لم يعذبوا في الدنيا بجهنم سعيرا أي نار مسعورة ملتهبة معذبون بها في الآخرة.

قوله: (وإن العبد إذا اختاره) دل على أنه وجب أن يكون الإمام عالما بجميع مسائل الدين وغيرها مما يحتاج إليه العباد باستعداد ذاتي وإيداع إلهي وإلهام رباني حتى لا يعجز بعده عن الجواب ولا يتعب ولا يوقع في التحير فيه عن الصواب بالتشكيك ونحوه، وهذا مذهب الإمامية وقال الآبي: كون الإمام على هذا الوصف غير معتبر فيه وإنما المعتبر فيه كونه بحيث يقدر علي استنباط الحكم بالنص أو برأيه، ورد الآمدي على الإمامية بأنهم إن أرادوا بكون الإمام عالما بالجميع أن يكون متهيأ قابلا للعلم به عند الحاجة من النص و الاستنباط، فهذا لا خلاف فيه (1) لأن

ص:234


1- 1 - قوله: «فهذا لا خلاف فيه» ما ادعاه غير صحيح لأنهم وإن اشترطوا أول الأمر كون الإمام عالما لكن قالوا بعد ذلك إن لم يكن حصوله مجتمعا مع سائر الشرائط ممكنا جاز اختيار الجاهل. وفى المواقف قيل: لا يشترط هذه الصفات، يعني الاجتهاد في الفروع والأصول والشجاعة والرأي لأنها لا توجد فيكون اشتراطها عبثا أو تكليفا بمالا يطاق ومستلزما للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها انتهى. وهذا ظاهر في عملهم لأنهم متفقون على صحة إمامة بني أمية وبني العباس مع عدم كونهم مجتهدين، فقول الآبي دعوى شهد أصحابه أنفسهم ببطلانها وإنما ادعاها دفعا للاستهجان وتبريا من نسبة أفحش المقالات إلى أصحابه، و الحاصل أنهم إن أرادوا من الإمام الوالي والملك والأمير لأمن البلاد ودفع الفتن فهذا حاصل بالبر والفاجر والعالم والجاهل والمؤمن والكافر وقد يحصل في دولة الكفار أمن وعدالة لم يحصل في دولة الخلفاء كما نقل في عهد أوكتاي من ملوك التتار، وفي بلاد يحكم فيها النصارى عدل لا يخطر مثله ببال أحد من المسلمين وقد لا يصدقه من لم يعهد العدل أصلا في بلاده، وإن أرادوا من الإمام حفظ الدين وإنفاذ أحكام الله تعالى وتقرير ما أراده تعالى من عباده بالحكمة والقدرة فهو شيء زائد على معنى الأمير لا يتصور بدون العلم كما أن المعالج يجب أن يكون عالما بالطب فإن لم يوجد غرض الإمامة من فاقد علم الدين وإن لم يوجد العالم به وسائر ما ذكروه هوسات باطلة وترهات. دعاهم إلى نسجها حفظ عرض ملوكهم الموتى وتصحيح مظالمهم في القرون الماضية، وإنما يتملق من الا حياء لا من الأموات ولا داعي إلى النظر في أفعال الماضين إلا بعين الحق فما الفائدة في تبرئة معاوية وأمثاله من سائر الظلمة الماضين وإثبات الفضائل الدينية والكمالات النفسانية بعد أن انقطعت يده من الكنوز ولا يرجى جوائزه وكان لمعاصريه عذر حين تملقوا له ولم يكن هو على ما قرره في المواقف من شرائط الإمام إلا ملكا من ملوك العرب والتكلم في أخلاقه وصفاته كالتكلم في نعمان بن منذر وجذيمة الأبرش، والإمام إن كان شيئا فوق الأمير والملك فهو ما يقول الإمامية وإن كان هو الأمير والملك فلا يشترط فيه شيء أصلا من الصفات التي ذكروها وإن كان فيه صفات فهو من قبيل حكم العقل في أمور الدنيا كاحتياج البستان إلى الماء والبيت إلى السقف. (ش)

عندنا يشترط أن يكون الإمام مجتهدا و إن أرادوا أن يكون حافظا للجميع فهو للإجماع على صحة إمامة أبي بكر و عمر و عثمان ولم يكونوا كذلك وقد كان الواحد منهم يسأل غيره عن النصوص الواردة في النازلة، وأيضا لو اشترط ذلك في الإمام لاشترط ذلك في نائبه من قاض وغيره. هذا كلامه، ولا يخفى ما فيه لأن الإجماع على إمامة شيوخهم لم يثبت و قد مر ذلك، وأما ما ذكر من سؤالهم فهو حق دال على جهالتهم والجاهل لا يكون إماما للعالم كما يحكم به العقل الصحيح، وأما النقض بالنائب فليس بشيء إد قد يكون في الأصل ما ليس في الفرع على أنا نقول لا يجوز للنائب أن يحكم برأيه بل يجب عليه الرجوع إلى إمامه.

قوله: (فهو معصوم) عصمة الإمام شرط في صحة إمامته و إلا لم يكن بينه وبين غيره فرق ولم يحصل للرعية وثوق بقوله وفعله وهو مذهب أكثر طوائف الشيعة خلافا للأشعرية والمعتزلة والخوارج وجميع فرق العامة واحتجوا بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع

ص:235

على أنهم لم يكونوا معصومين والإجماع الأول لم يثبت وقد عرفت آنفا حاله إجمالا، وأما التفصيل فليس هذا موضعه.

قوله: (مؤيد) مؤيد: اسم مفعول من الأيد وهو الشدة والقوة يعني جعله الله تعالى ذا قوة في الحرب وآدابه وفى الدين وأحكامه ووفقه للعلم بجميع الخيرات ووجوه مصالحها وسدده للقصد من القول والعمل وقوله «من الخطاء» - بفتح الخاء وقد يمد وهو ضد الصواب، أو بكسرها وهو الذنب والإثم - ناظر إلى المؤيد لأن كما قوته في الدين يمنعه من الخطأ.

وقوله: (والزلل) ناظر إلى الموفق لأن توفيقه للعالم بجميع الخيرات يمنعه من زلة عقله فيه.

وقوله «والعثار» ناظر إلى المسدد لأن تسديده للقول والعمل يمنعه من العثار فيهما (1) والسقوط

ص:236


1- 1 - قوله: «يمنعه من العثار فيهما» كلام الإمام (عليه السلام) من قوله فهو معصوم مؤيد إلى قوله «والله ذو الفضل العظيم» في متن الحديث تصريح باشتراط العصمة وتعريفها وبيان الدليل على ولم يخالف فيه أحد من الإمامية فهو من الأحاديث المجمع على صحة مضمونها وقد نقل أهل السنة أيضا اشتراط العصمة من مذهب الإمامية والإسماعيلية بل نقله المؤرخون عن الكيسانية في قصة المختار وإنهم كانوا يدعون عصمته، وأما ما ينسب إلى الصدوق من نسبة السهو في الصلاة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وما روى من نسيان زين العابدين (عليه السلام) قراءة الحمد في الصلاة أو أكل الرضا (عليه السلام) البيض التي قومر بها جاهلا ثم تقيأ وما التزم به بعض فقهائنا المتأخرين من أن علم الإمام بالموضوعات غير واجب فيجوز ان لا يعلم انطباق وزن الكر على مساحته مثلا فلا عبرة بجميع ذلك. أما الروايات فلعدم تواترها ولا حجة لغير المتواتر في أصول الدين. وأما قول من لم يتدبر في الأصول الاعتقادية فلا يعتني به فيما لا يتعلق بفنه، وأما قول الصدوق عليه الرحمة فسهو منه وهو أولى بالسهو من النبي (صلى الله عليه وآله) كما أن راوي الخبر وهو ذو اليدين أولى بالسهو من الصدوق رحمه الله إذ ربما يسهو الراوي في فهم ما وقع ونقله لأنه من طبقة العامة، وبالجملة فلا ريب عندنا في اشتراط العصمة واستدل عليه الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث بقوله: ليكون حجة على عباده وهو برهان واضح استدل عليه علماؤنا أيضا على وجوب العصمة وذلك لأن من يحتمل خطاؤه عمدا أو سهوا أو نسيانا لم يكن قوله و فعله وتقريره حجة إذ لا يجوز أن يفعل حراما سهوا ولا غضاضة عليه فيه فلا حجة في فعله أو يعمل أحد في محضره عملا لا يلتفت إليه حتى ينهاه فلا يكون تقريره حجة ونعلم أن الشيعة بل جميع المسلمين استدلوا على جواز كثير من الأفعال وصحتها بأن النبي (صلى الله عليه وآله) فعله مرة واحدة أو فعل عنده ولم يمنع عنه مرة واحدة فإن قيل: يتمسكون بأصالة عدم السهو وأصالة الالتفات وأمثال ذلك. قلنا: فيلزم منه حصول الظن من قول الحجة لا حصول اليقين فإذا قام على خلافة أمارة أقوى جاز التخلف عنه إلى الظن الأقوى والحق أن نسبة الظن إلى النبي والإمام ينافي اللطف ويوجب رفع الاطمينان وعدم التزام الناس بإطاعة قول من يظن منه الغلط نعم لا يبعد من المداولين للظنون والملابسين لاتباع المرجحات الخضوع للظن بحسب العادة لكن الناس مطلقا ليسوا كذلك فإذا قيل لهم: يجوز أن يغلط الإمام ويسهو في أحكامه رفضوا متابعة الدين وأحكام الله تعالى ولا يريد الملاحدة في زماننا من الناس إلا ذلك وما التوفيق إلا بالله وأنا استغفر الله من ذكر السهو عند ذكر المعصومين (عليهما السلام) سلام الله عليهم أجمعين وإن أدانا إليه الضرورة. (ش)

عن منهج صوابهما.

قوله: (فهل يقدرون على مثل هذا) أي على معرفة مثل هذا والاستفهام للإنكار لأن الصفات الجليلة المذكورة لا يصل إليها عقول العباد.

قوله: (كأنهم لا يعلمون) أي لا يعلمون الحق والكتاب. وفى لفظ كان إشعار بأنهم فعلوا ذلك عامين إلا أن فعلهم لما كان شبيها بفعل الجاهلين شبههم بهم.

قوله: (ومقتهم وأتعسهم) مقته مقتا أبغضه وهو مقيت وممقوت، وأتعسه أهلكه. والتعس:

الهلاك وأصله الكب وهو ضد الانتعاش.

قوله: (ومن أضل) نفى ظاهرا زيادة الضلالة عن غير من اتبع هواه و أثبتها باطنا لهم و أكد ذلك بقوله «بغير هدى من الله» وهو حال عن فاعل اتبع للتأكيد، وأما جعله للتقييد والاحتزاز باعتبار أن هوى النفس قد يو أفق الحق فهو مدفوع لأن اتباع الهوى من حيث هو مذموم، ثم أشار إلى طبع قلوبهم و سوء عاقبتهم مؤكدا بقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) لأنفسهم بمتابعة هواها لإبطالهم الاستعداد الفطري ووغولهم في الجهل المركب المانع من قبول الحق والهداية.

قوله: (وقال: فتعسا لهم) قال الجوهري يقال: تعسا لفلان أي ألزمه الله هلاكا فهو منصوب بفعل مقدر وقوله: (وأضل أعمالهم) أي أبطلها فلم يجدوا لها أثرا عند ما يجد العاملون أثر أعمالهم عطف على ذلك المقدر.

قوله: (وقال كبر مقتا) أي كبر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان وحجة أتاهم بل بمجرد رأي أو تقليد أو شبهة باطلة مقتا عند الله وعند الذين آمنوا بالله وبرسوله وكتابه والأئمة الطاهرين، ويحتمل أن يكون فاعل «كبر» ضمير المقت أي كبر المقت مقتا، ثم أشار إلى السبب الباعث لهم على ذلك بقوله وكذلك أي كبر المقت مثل ذلك الجدال لأجل أنه يطبع الله على كل قلب متكبر عن سماع آيات الله جبار يقهر غيره على ما أراد ظلما، وإنما قدم الكل على القلب لإفادة شمول الطبع والظلمة. وقد عرفت معنى الطبع آنفا (1).

ص:237


1- 1 - قوله: «وقد عرفت معنى الطبع آنفا» يعني في تفسير قوله تعالى (طبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) المذكور في هذا الحديث الشريف وهذا آخر الكلام في شرحه و هو حديث جامع لأكثر مسائل الإمامة حاو لجميع أصولها بالبرهان الواضح ولم أرها مجتمعة في غيره ولا يستطيع أحد أن يؤدي حق تفسير هذا الحديث والله الهادي إلى سواء السبيل. (ش)

الأصل *

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق ابن غالب، عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (صلى الله عليه وآله) وصفاتهم: إن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دينه و أبلج بهم عن سبيل مناجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من امة محمد (صلى الله عليه وآله) واجب حق إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه، وجعله حجة على أهل مواده و عالمه، وألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء، لا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى ومعميات السنن ومشبهات الفتن، فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين (صلى الله عليه وآله) من عقب كل إمام يصطفيهم لذلك ويجتبيهم، ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كل ما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما علما بينا وهاديا نيرا وإماما قيما وحجة عالما، أئمة من الله، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد، ينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للأنام ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها. فالإمام هو المنتجب المرتضى والهادي المنتجى والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك واصطعنه على عينه في الذر حين ذرأه وفي البرية حين برأه، ظلا قبل خلق نسمة عن يمين عرشه، محبوا بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره، بقية من آدم (صلى الله عليه وآله) وخيرة من ذرية نوح، ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل، وصفوة من عترة محمد (صلى الله عليه وآله).

لم يزل مرعيا بعين الله، يحفظه و يكلؤه بستره، مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعا عنه وقوب الغواسق و نفوث كل فاسق، مصروفا عنه قوارف السوء، مبرءا من العاهات، محجوبا عن الآفات، معصوما من الزلات، مصونا عن الفواحش كلها، معروفا بالحلم والبر في يفاعه، منسوبا إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسندا إليه أمر والده، صامتا عن المنطق في حياته، فإذا انقضت مدة والده، إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته وجاءت الإرادة من الله فيه

ص:238

إلى محبته، وبلغ منتهى مدة والده (صلى الله عليه وآله)، فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلده دينه، وجعله الحجة على عباده، و قيمه في بلاده، وأيده بروحه وآتاه علمه وأنبأه فضل بيانه واستودعه سره، وانتدبه لعظيم أمره وأنبأه فضل بيان علمه ونصبه علما لخلقه وجعله حجة على أهل عالمه وضياء لأهل دينه والقيم على عباده.

رضي الله به إماما لهم، استودعه سره واستحفظه علمه واستخبأه حكمته واسترعاه لدينه و انتدبه لعظيم أمره و أحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، فقال بالعدل عنه تحير أهل الجهل وتحيير أهل الجدل بالنور الساطع والشفاء النافع بالحق الأبلج والبيان اللائح من كل مخروج، على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه (صلى الله عليه وآله) فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي ولا يجحده إلا غوي ولا يصد عنه إلا جري على الله جل وعلا.

الشرح *

قوله: (أوضح - إلى قوله - عن دينه (1) أي أبان وأظهر كاشفا عن دينه.

قوله: (وأبلج بهم عن سبيل منهاجه) البلوج الإشراق والإضاءة، والبلجة بالضم والفتح: ضوء الصبح. والنهج والمنهج والمنهاج: الطريق الواضح المستقيم. وإضافة السبيل إليه من باب إضافة العام إلى الخاص. وفي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية وتخييلية بتشبيههم بالشمس في الإضاءة ورفع ظلمة الحجاب وذكر الإبلاج إلا أنه تصرف، ونسب الإبلاج إليه جل شأنه للتنبيه على أن أنوار علومهم لدنية قوله: (ومنح بهم عن باطن ينابيع علمه) (2) في بعض النسخ «وفتح بهم» والمنح: العطاء شبة

ص:239


1- 1 - قوله «أوضح - إلى قوله» أقول: هذا حديث صحيح معتبر من جهة الإسناد و المضمون اعني موافقة أصول المذهب وراويه إسحاق بن غالب وابن عربي صميم ثقة وخطبة أبي عبد الله (عليه السلام) كأنها كانت لجماعة من أصحابه وغيرهم من المخضرمين عند المنافسة بين الدولتين وترديد الناس في أن الحق مع أيهما فبين (عليه السلام) أن الحق ليس لواحد منهما وكلاهما أجنبي عن هذا المنصب الشريف. (ش)
2- 2 - قوله: «ينابيع علمه» بين (عليه السلام) معنى الإمام وأنه ليس لمجرد الإمارة ونظم البلاد ودفن الفتن. بل يزيد عليه بزيادة العلم القدسي والرابطة مع الله تعالى ووظيفته توضيح أحكام الدين وبيان منهاج الوصول إلى قرب رب العالمين وهو رئيس المدينة الفاضلة التي بينها الحكماء وأنما الإمارة جزء من وظائفه وحق من حقوقه، ولو كان الإمام مرادفا للأمير وكان وظيفته نظم الدنيا وأمن البلاد فقط كما توهمه جماعة لكان حريا بأن لا تعد الإمامة من المسائل الدينية لامن أصولها ولا من فروعها كما أنه ليس البحث عن طريق بناء البيت وصنعة الباب وطبخ الطعام ومقدار الملح فيه ومدة كون القدر على النار حتى ينضج ما فيها وما يحتاج إليه الفلاح والتاجر من عدد الأكرياء و الخدم وأمثال ذلك من مسائل الدين والناس مفوض إليهم الأمر فيها وكان نظم الدنيا واختيار أحسن الطريق وأسهلها وأصلحها في الحكومة أيضا مفوضا إليهم ولكنها لحفظ الدين وشرح معضله وتبيين مجمله وتطبيق أعمال الناس على أحكامه وتفسير شرائعه وإجراء حدوده على ما بينه الله تعالى زائدا على الإمارة ومشروطة بشرائط خاصة بها فبحث أهل السنة عنها بحثا دينيا مع أنهم لا يريدون من الإمام إلا ما يراد من أمير من الأمراء فاسقا كان أو عادلا أو ظالما خبط وتعسف عن الطريق فهذا الذي بدأ به الإمام (عليه السلام) هو الأصل والمبني الذي ينبغي أن يحرر حتى يمكن البحث عن فروعه. (ش)

العلم بالينبوع في تجدده انا فآنا من المفيض، أو في كثرة نفعه أو في جريانه في أراضي القلوب من بعضها في بعض أوفي إحيائها وجمع المشبه به ليفيد شمول المنح لجميع الفنون وأدرج لفظ الباطن ليفيد أنه منح الخلق بواسطتهم لأنهم استادهم ومرشدهم، أو منحهم على أن الباء زائدة، باطن العلم و أصله وغوره لا ظاهره فقط.

قوله: (واجب حق إمامه) الإضافة الاولى من قبيل جرد قطيفة و إنما أدرج الواجب للتصريح بوجود الحق وثبوته من عند الله تعالى و المراد بالحق الواجب الإمامة والطاعة والتسليم والإذعان بقوله وفعله.

قوله: (وجد طعم حلاوة إيمانه) الحلو: نقيض المر، يقال: حلا الشيء يحلو حلاوة وفيه مكنية وتخييلية وترشيح بتشبيه الإيمان بالحلو في ميل الطبع الصحيح إليه وإثبات الحلاوة والطعم له.

قوله (وعلم فضل طلاوة إسلامه) الطلاوة مثلثة الحسن والبهجة والقبول، والفضل: الزيادة، والعلم بذلك الفضل ثابت قطعا لمن تمسك بمذهب أهل البيت و نظر في حسنه وقبح مذهب أهل الخلاف.

قوله (علما لخلقه) أي علامة لهم به يعرفون الطريق الإلهي الذي هو الدين النبوي وحدوده كما يعرف المسافر الطريق الخفي بعلامته المنصوبة له.

قوله (وجعله حجة على أهل مواده وعالمه) العالم وهو الخلق عطف على الأهل أو على المواد، ولعل المراد بها العقول (1) التى مواد معرفته، والإضافتان أعني إضافة المواد والعالم إلى

ص:240


1- 1 - قوله: «المراد بها العقول» العقل هنا: الموجود المجرد المستقل بنفسه الذي يعبر عنه في اصطلاح الشرع بالملك، وقد جاء في الحديث كونهم (عليه السلام) مؤيدين بروح القدس وإذا كان المراد: من المواد العقول كان المراد من أهل العقول الجماعة المصطفين من عقلاء البشر والمراد من العالم بفتح اللام سائر الموجودات من غير البشر، قال الشارح: ويحتمل أن يراد بالمواد عالم المادة والجسمانيات وبعالمه عالم الإمام نفسه، يعني عالم الروح والتجرد أقول: يحتمل قريبا أن يكون المراد من الكلمتين كلتيهما الرعايا وكل من يجب عليه إطاعته فإن الرعية مواد للسلطان إذ منهم الخراج والزكاة والجند وفي مجمع بحار الأنوار كلما أعنت به قوما في حرب أو غيره فهو مادة لهم وما ذكره الشارح مع صحته تكلف ولكن يؤيد تفسيره الأول ما سيأتي من قوله (عليه السلام) يمد بسبب إلى السماء لا ينقطع عنه مواده (ش).

ضميره تعالى بتقدير اللام للاختصاص والملكية يعني جعله حجة على أهل العقول وغيرهم إذ هو حجة على جميع المخلوقات.

وكل شيء يجب أن يرجع في تسبيحه وتقديسه وعبادته وكيفية خضوعه إليه، ويحتمل أن يراد بالمواد عالم الزمانيات والجسمانيات وبالعالم عالم المجردات والروحانيات، وأما حمل أهل المواد على أهل المحبة، وحمل العالم على غيرهم فبعيد كحمل العطف على التفسير فليتأمل.

قوله (ألبسه الله تعالى تاج الوقار) استيناف لبيان السبب الموجب لجعله حجة، والتاج الإكليل وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر وقد توجه فتتوج، والتاج: الإكليل وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر وقد توجه فتتوج أي ألبسه التاج فلبسه، ويقال: العمائم تيجان العرب يعني أن العمائم للعرب بمنزلة التيجان للملوك لأنهم أكثر ما يكونون في البوادي مكشوفي الرأس أو بالقلانس، والعمائم فيهم قليلة، والوقار: الحلم والرزانة، وتشبيه بالتاج باعتبار أنه زينة لصاحبه مثل التاج مع الإيماء إلى أنه أولى بالملك والخلافة.

قوله (وغشاه من نور الجبار) أراد بالنور العلم لاشتراكهما في رفع الحجاب والإيصال إلى المطلوب، ووضع الجبار موضع الضمير للإشارة إلى أنه بتلك التغشية جبر نقائص الخلائق ومفاقرهم وتلك نعمة عظيمة.

قوله (يمد بسبب إلى السماء) (1) يمد على صيغة المعلوم حال عن فاعل غشاه وفاعله فاعله.

و «بسبب» مفعوله بزيادة الباء والسبب: الطريق، وأيضا الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء. وقيل: لا يسمى الحبل سببا حتى يكون أحد طرفيه معلقا بالسقف ونحوه يعني يمد الله سبحانه طريقا أو حبلا من نور إلى السماء كيلا ينقطع عن الإمام أو عن نوره الذي غشاه به مواد ذلك النور بل يفيض عليه من فضل الله تعالى أنوارا متجددة من ذلك السبب

ص:241


1- 1 - قوله: «يمد بسبب إلى السماء» السماء: هي العالم الروحاني والمجردات العقلية والمراد بالسبب هو الرابطة القوية الثابتة بينه وبين ذلك العالم حيث يفيض عليه من العلوم ما أراده الله ويبين به كل ملتبس ومتشابه. (ش)

ويؤيده ما سيجيء عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال «الإمام إن شاء أن يعلم علم» يريد أن جهلهم عبارة عن عدم توجه النفس فإن توجهت علمت من غير كسب ولا مشقة وعنه (صلى الله عليه وآله) «أن للأئمة في كل ليلة جمعة علوما متجددة مستفادة ولولا ذلك لأنفدوا» (1).

قوله (ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه) (2) أي لا ينال ما عند الله من الفضل والكرامة والثواب والجزاء إلا بجهة طرقه وأبوابه المقررة لنيله ومن الطرق والأبواب الإمام (صلى الله عليه وآله) وطريق نوره، والأحكام الشرعية فمن أراد التقرب منه سبحانه والعلوم الحقيقية والأحكام الالهية فليرجع إليه، ومن رجع إلى غيره ضل عن الطريق، وبعد عن الحق، وبطل عمله، كما أشار إليه بقوله «ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته».

قوله (من ملتبسات الدجى) التباس الامور: اختلاطها على وجه يعسر الفرق بينها، والدجية:

الظلمة الشديدة، يقال: دجا الليل إذا تمت ظلمته حتى ألبس كل شيء، أي الإمام عالم بالامور الملتبسة المختلطة التي ألبستها الظلمة وأحاطت بها ويفرق بين صحيحها وسقيمها، وجيدها ورديها، وحقها وباطلها من أعمال العباد وغيرها.

قوله (ومعميات السنن) السنن: الطريقة النبوية والشريعة الالهية، ومعمياتها: مخفياتها وأسرارها التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم نبوي وإلهام رباني يقال: عميت معنى البيت تعمية: أي أخفيته ومنه المعمى في الشعر.

قوله (ومشبهات الفتن) الفتنة: الاختبار والاضلال و القتال والإزالة والصرف عن الحق

ص:242


1- 2 - سيأتي الخبران في باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، وباب أن الأئمة يزدادون في ليلة الجمعة.
2- 1 - قوله: «إلا بجهة أسبابه» وذلك لأن من يتوقف علمه على المقدمات المعروفة لا يحصل له شيء عند عدم حصولها والمحتاج إلى التعليم لا يعلم شيئا إلا بالتعلم والمتوقف على الفكر لا يحصل إلا بعد ترتيب مقدمات الفكر والناس لا يحصل في ذهنهم صورة الكلي إلا بعد ممارسة الجزئيات وتجريد الأشخاص عما يزيد على ماهياتها ولا يتعقلون إلا بعد كمال الحس و التجربة ولا يعرفون اللون والطعم والرائحة والصوت وغيرها إلا بالحواس ولا يعرفون ما بعد عن حواسهم إلا بالنقل المتواتر ولا ما خفي عن الحس من خواص الأشياء إلا بالتجربة، ويمتاز أهل الذكاء عن غيرهم بقوة الحدس فيستيقنون بأمور لا يحصل لغيرهم منها وأما الأئمة (عليهم السلام) فهم مؤيدون بالقوة القدسية فلا يحتاجون إلى تلك المقدمات أصلا إلا تقوية المرتبة الأخيرة وهي العقل بالفعل محضا، وسبب علمهم ارتباطهم مع الله تعالى وإفاضة نور علمه على قلوبهم وإلا فكيف أمكن لأمير المؤمنين (عليه السلام) لولا أنه امتاز بذلك السبب أن يأتي بأدق مسائل التوحيد والفلسفة والبراهين المتقنة والأدلة المحكمة عليها ومن أنصف من نفسه عرف أن هذا أشق وأعجز من شق القمر ورد الشمس وسائر المعجزات الكونية. (ش)

ومشبهاتها الأمور الباطلة التي شبهتها بالحق وصورتها بصورته وجعلها مشكلة في نظر ذوي البصائر بحيث لا يعلم بطلانها وطريق التخلص منها إلا العالم الماهر النحرير. قوله (نصب لخلقه من عقبه إماما) الظاهر أن «من» جارة، وإماما مفعول لنصب، وعقب الرجل ولده وولد ولده وفيها لغتان عقب بالكسر وعقب بالضم والتسكين. ويحتمل أي يكون موصولة، و «إماما» حال عنه.

قوله (علما بينا) أي واضحا لوضوح حاله في العقل والحلم والعلم والكرم والبر والتقوى وغير ذلك من الكمالات الإنسانية والصفات النفسانية والأعمال البدنية.

قوله (وهاديا نيرا) أي هاديا للقرن الذي هو فيهم نيرا كالشمس فإنه يضيء عالم العقول والأرواح كما أن الشمس تضيء عالم الأجسام والأشباح.

قوله (وإماما قيما) أي مستقيما في عقائده وأقواله وأعماله وسائر صفاته الكاملة، أو قائما بأمر الإمامة والامة.

قوله (وحجة عالما) لم يذكر متعلق العلم للدلالة على التعميم.

قوله (أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون) يهدون حال عن الأئمة أو استيناف و «بالحق» حال عن فاعله أو متعلق به أي هم أئمة يهدون الخلق حال كونهم متلبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق وبه يعدلون بينهم في الأحكام وغيرها لاتصافهم بفضيلة العدل والإيقان وبعدهم عن رذيلة الجور و العدوان.

قوله (حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه) جمع الداعي والراعي يقال: رعيتهم رعاية أي حفظتهم ورعيت الأغنام رعيا أي أرسلتها إلى المرعى وكفلت مصالحها، والجار متعلق بالثلاث على سبيل التنازع أي هم حجج الله على خلقه إذ بهم يحتج الله على خلقه في أمر الدين والدنيا ودعاته عليهم يدعونهم إلى طريق معرفته ومعرفة شريعته، ورعاته عليهم يحفظونهم عن المكاره أو المقابح ويرشدونهم إلى المحاسن والمصالح.

قوله: (يدين بهداهم العباد) الهدى بضم الهاء وفتح الدال: «راه نمودن»، وبفتح الهاء وسكون الدال: السيرة السوية: أي العباد يطيعون الله ورسوله بسبب هدايتهم أو بسيرتهم.

قوله: (وتستهل بنورهم البلاد) تستهل إما على صيغة المعلوم أي تستضيء بنور علومهم البلاد أو أهلها على سبيل الاستعارة بتشبيه العلم بالنور في الهداية إلى المقصود أو تهلل بنورهم وجه أهل البلاد من شدة فرحهم يقال: استهل وجه الرجل وتهلل من فرحه وإما على صيغة المجهول

ص:243

يقال: استهل على ما لم يسم فاعله إذا تبين وأبصر يعني تبصر بنورهم البلاد ولولاه لأحاطت بها الظلمة فلم ير لها أثر.

قوله (وينمو ببركتهم التلاد) التالد والتلاد: المال القديم الذي ولد عندك وهو نقيض الطارف وأصل التاء فيه واو، تقول: تلد المال يتلد ويتلد تلودا وأتلد الرجل إذا اتخذ مالا، ومال متلد، وقد دلت الروايات على أن وجود الإمام ومتابعته سبب للخصب والرخاء ورفاهة العيش.

قوله (جعلهم الله حياة للأنام) أي سببا لحياتهم وبقائهم إذ لولا الإمام لمات الخلايق دفعة، ويحتمل أن يراد بالحياة الإيمان بالله وباليوم الآخر و التصديق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) والصلاح والسداد واستقامة الأحوال، من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن هذه الأمور سبب للحياة الأبدية.

قوله (ومصابيح للظلام) إذ بهم يرتفع ظلمة البدعة والجهالة عن بصائر المؤمنين فيهتدون إلى المقاصد والمطالب، كما أن بالمصباح يرتفع الظلمة والغشاوة عن أبصار الناظرين فيرشدون إلى المقاصد والمآرب.

قوله (ومفاتيح الكلام) فيه مكنية وتخييلية وتشبيه الكلام بالبيت المخزون فيها الجواهر، وإثبات المفاتح له، والمراد بالكلام الكلام الحق مطلقا، أو القرآن إذ لا ينفتح باب حقايقه وأسراره إلا بتفسيرهم.

قوله (ودعائم للاسلام) وتشبيه الاسلام بالبيت مكنية وإثبات الدعائم له تخييلية فكما أن بقاء البيت يحتاج إلى دعائم متناوبة يقوم الآخر مقام الأول عند زواله كذلك بقاء الإسلام وعدم اندراسه بتوارد الفتن يحتاج إلى حفظه يقوم واحد بعدو أحد إلى قيام الساعة.

قوله (جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها) استيناف لبيان الموجب للصفات المذكورة، القدر والمقدرة بفتح الدال: القضاء، قال الهذلي:

وما يبقى على الأيام شيء * فيا عجبا لمقدرة الكتاب والمقادير المحتومة التي لا يجري فيها المحو والإثبات بخلاف غيرها، والمراد أن اتصافهم بالصفات المذكورة مما تعلقت به القضاء المحتوم أزلا لمصالح يظهر بعضها لأولي الألباب ولا يعلم بعضها إلا هو.

قوله (والهادي المنتجي): أي المخصوص بمناجات ربه، تقول: انتجيته إذا اختصصته

ص:244

بمناجاتك ونجوته إذا ساررته، وانتجى القوم إذا تساروا.

قوله (والقائم المرتجى) الرجاء بالمد: الأصل، يقال: رجوت فلانا أرجو رجاء وترجيته وارتجيته بمعنى رجوته أي هو القائم بحفظ الخلائق من قبله تعالى وهم يرتجونه في جلب المنافع ورفع المضار.

قوله (اصطنعه على عينه) (1) أي على خاصته ووليه يقال: هذا عين من عيون أي خاصة من خواصه وولي من أوليائه، أو على حضوره وشهوده اهتماما بشأنه أو على حفظه ورعايته وعبر عنهما بالعين لأن العين يحفظ به الشيء من الاختلال ويراعي حاله عن الضياع.

قوله (في الذر حين ذرأه) متعلق باصطنعه أي اصطنعه على عينه في وقت ذرء الخلايق في الأرض وتفريقهم وإخراجهم من صلب آرم صغارا ذوي لطافة مختلفين في اللطافة والكثافة والنور والظلمة فمنهم من كان له نور ساطع يتلألأ وهم الأنبياء والأوصياء (عليهما السلام). والله سبحانه اصطنع الإمام على إمامته حين ذرأه في ذلك الوقت.

قوله (وفي البرية حين برأه ظلا قبل نسمة) (2) البرية: الخلق وأصله الهمزة، ولعل المراد بها الأرواح المجردة، وضلا حال عن مفعول برأه أو تميزا عن النسبة فيه، والمراد به الروح المجرد عن

ص:245


1- 1 - قوله: «اصطنعه على عينه» ناظر إلى قوله تعالى «ولتصنع على عيني» وتفسيره يعني تربى بمشهدي ومرآي لما من الله تعالى على موسى (عليه السلام) بأنه مهد الأسباب حتى وصل إلى أمه وأرضعته أمه بعد أن أخذته امرأة فرعون، قال: فعلت ذلك لتربى وتنمو وتغذى بمشهد الله تعالى ومنظورا إليه بعنايته وكذلك الأئمة (عليهم السلام) رباهم الله تعالى بعنايته الخاصة بهم في العالمين عالم الذر والأظلة قبل أن يأتي بهم إلى هذا العالم الظاهر ثم بعد أن جاء بهم هنا في العالم الجسماني فعبر عن الأول: في الذر حين ذرأ وعن الثاني بقوله: في البرية حين بر أو ما ذكره الشارح تكلف جدا وما ذكرنا أوضح ومقتبس من مرآة العقول. (ش)
2- 2 - قوله: «ظلا قبل نسمة» لف ونشر مرتب فالظل: إشارة إلى الذرء، والنسمة: إلى البرء، كما ورد «سبحان الله بارئ النسم» وكان الوجود في الذر إجمالى وفي برء النسم تفصيل ذلك الإجمال كانبات الشجر من البذر والنواة فكأنه قال: خلقهم ظلا في الذر وبرأ نسمتهم في عالم الشهادة وكلاهما بعين الله. وأعلم أنه ورد في كثير من الأخبار خلق الأرواح قبل الأجساد أو خلق الأشباح والأظلة قبل أن يخلق الأشخاص في عالم الشهادة، وقد نسب إلى محمد بن سنان تأليف كتاب الأشباح والأظلة وطعن عليه المفيد ويرجع طعنه إلى استلزامه الجبر كسائر أخبار الذر ولو لم يلزم منه الجبر وصح تأويله بوجه لا يخالف أصول الأمامية كما فعله صدر المتألهين (رضي الله عنه) وغيره لا داعي إلى رده وبالجملة، الوجودات مترتبة فلكل شيء هنا صورة قبله في عالم العقول والمثال المنفصل المقدم وخصوصية الأئمة طهارتهم وعصمتهم وكونهم بعين الله قبل ان يظهروا في عالم الشهادة وفي البحار عن روضة الواعظين «في العرش تمثال ما خلق الله من البر والبحر». (ش)

الجسمية ويسمى عقلا أيضا أو المراد به المثال، والقبل متعلق بقوله براءة وتقييد لبيان أن هذا الخلق قبل خلق الجسم والجسمانيات، والنسمة بالتحريك: الريح أولها قبل أن تشتد، والروح أيضا والمراد به الإنسان (1) سمي بذلك للروح وجمعها النسم بالتحريك أيضا ويجوز الإفراد والجمع هنا والضمير لله سبحانه.

قوله (عن يمين عرشه) (2) متعلق باصطنعه أو بذرأه أو ببرأه أو حال عن مفعول هذه الأفعال، واليمين أشرف الجانبين وأقواهما، والعرش في اللغة: سرير الملك (3)، وفي العرف يطلق على الملك وهو ما سوى الله تعالى وعلى الفلك التاسع المحيط بما تحنه، وعلى العلم المحيط (4) بجميع الأشياء وعلى المجردات كلها وتسمى العرش العقلاني والعرش الروحاني على الجوهر المتوسط بين (5) العالم العاقل الثابت وبين العالم المتغير المتجدد، سواء سواء كانت المتغيرات

ص:246


1- 1 - قوله: «والمراد بها الإنسان» والمراد هنا: وجودهم الظاهر في هذا العالم، والنسمة هنا: الروح التي بها الحياة الظاهرة. (ش)
2- 2 - قوله: «عن يمين عرشه» الجار والمجرور في موضع الصفة لقوله ضلا فإنهم كانوا حين كونهم حين كونهم ظلا قبل ظهور النسمة عند العرش على أشرف جانبيه. (ش)
3- 3 - قوله: «في اللغة سرير الملك وفي العرف يطلق» لأن السرير شعار الملك فيطلق على الملك مجازا للملابسة، وأما الفلك التاسع فليس خصوص العدد مأخوذا في معناه بل المقصود الجسم المحيط بكل الأجسام سواء كان تاسعا أو عاشرا أو سابعا أو غيره والمأخوذ في مفهومه المحيط بالكل وهذا مبني على وجود جسم محيط وهو لا يتصور إلا مع القول بتناهي الأبعاد وقد مر الكلام فيه فراجع الفهرس في آخر الجزء الرابع. (ش)
4- 4 - قوله: «وعلى العلم المحيط» أي علم الله المحيط بالأشياء وهذا هو المعنى الرابع و قد مر الحديث الدال على هذا المعنى في الصفحة 120 من المجلد الرابع ومر نظير هذا الكلام من الشارح في المجلد الأول في الصفحة 263 مع اختلاف في بعض الكلمات فراجع إليه. (ش)
5- 5 - قوله: «وعلى الجوهر المتوسط بين» قال صدر المتألهين في شرح الحديث الرابع من كتاب العقل والجهل: والعرش الذي هو مستوى الرحمن كأنه جوهر متوسط بين عالم العقل الثابت المحض وعالم التغير والتجدد نفوسا كانت المتغيرات أو جساما، ومفهوم الرحمة في اللغة: رقة القلب المقتضية للعطوفة على غيره وما يليق به تعالى من هذا المعنى إيجاده وتأثيره في الأشياء المتغيرة التي لها استكمالات ذاتية أو عرضية زائدة على أصل تجوهرها وفطرتها الأولى لأن مصدر التغيرات عندنا فاعل متغير لا يفعل شيئا إلا بأن ينفعل هو في نفسه ولا يحرك شيئا إلا بأن يتحرك والباري جل اسمه لا يتغير ذاتا ولا صفة في إيجاده للمكونات ثابتة كانت أو مستحيلة ولكن إيجاده تعالى للثابتات بنفس ذاته بلا وسط للمتغيرات بواسطة العرش الذي هو واسطة فيض الرحمن والبرزخ بين عالمي الأمر والخلق فإيجاده للمتغيرات بواسطته عبارة عن معنى اسمه الرحمن إلى آخر ما قال - ولا ريب أن مراده من هذا الجوهر المتوسط الطبيعة السارية المتحركة بذاتها على مذهبه في الحركة الجوهرية الطبيعية فكون العقل عن يمين العرش على ما ذكره كونه أقرب إلى الله تعالى في سلسلة الأسباب الذاتية فكل سابق أيمن بالقياس إلى ما بعده لأن كلا العبارتين بيان كونهم سببا في الجملة. ولما كان عبارة الشارح رحمه الله مقتبسة من كلام صدر المتألهين أوردنا كلامه ليتضح به المقصود والله المعين. وفى الرابع عشر من بحار الأنوار أن الكرسي والعرش يطلقان على معان وذكر ستة نشير إليها مختصرا، أحدها: جسمان عظيمان فوق سبع سماوات، ثانيها العلم، ثالثها: الملك رابعها: الجسم المحيط مع جميع ما في جوفه، خامسها: كل صفة من صفاته الكمالية والجلالية فله عرش العلم وعرش القدرة، ونقل عن والده تفسير (الرحمن على العرش استوى) بعرش الرحمانية إي ليس شيء أقرب إليه من شيء بخلاف عرش الرحيمية المخصوصة. وسادسها: قلب الأنبياء والأوصياء وكمل المؤمنين. (ش)

نفوسا أو أجساما، ويجوز إرادة كل واحد من هذه المعاني هنا، أما الأول فلأنه يجوز أن يكون له تعالى عرش بالمعنى الأول لا باعتبار استقراره جل شأنه عليه كاستقرار الملك على سريره لتعاليه عن ذلك، بل باعتبار أنه جعله مطافا لبعض الروحانيين كما أن له بيتا بهذا الاعتبار، وخلق الإمام عن يمينه كناية عن كرامته وعلو منزلته لأن عظيم المنزلة، يتبوء عن يمين الملك، وأما الثاني فلأن خلقه عن يمينه كناية عن أنه أقرب الموجودات إليه سبحانه لأن الملك وهو جميع الكائنات له يمين وشمال ويمينه أي جانب أشرفه ما يلي المبدء الأول في ترتيب الإيجاد فكل ما هو أقرب منه تعالى في الإيجاد فهو أيمن بالنظر إلى ما بعده، وأما الثالث فلما مر في الأول لأن الجسم المحيط إذا سمي بالعرش يتخيل له يمين وشمال كالسرير للملك والكائن على يمينه من أهل الكرامة والمنزلة كالكائن على يمين سرير الملك، وأما الرابح فلمثل ما ذكرناه في الثالث أو في الثاني باعتبار المعلومات لأن العلم باليمين يمين بالنظر إلى العلم بما بعده، وأما الخامس فلأن العرش الروحاني يمينه ما يقرب منه منه في سلسلة الإيجاد، وأما السادس فلأن يمين العالم بين العالمين هو العالم الثابت لأنه أقرب منه في سلسلة الإيجاد فليتأمل.

قوله (محبوا بالحكمة في علم الغيب عنده) حباه حبوة أعطاه والحباء العطاء وهو حال عن مفعول الأفعال المذكورة وفيه دلالة على أن علمه من باب الإفاضة والإلهام دون الاكتساب والنظر.

قوله (اختيار بعلمه وانتجبه لطهره) استئناف لبيان السبب الموجب لجعله إماما دون غيره والسبب هو العلم المتعلق بجميع ما يحتاج إليه العباد، والطهارة عن الرذائل كلها. إذ بالعلم يعلم مصالح العباد، وبالطهارة يحصل لهم الوثوق بقوله وفعله.

قوله (بقية من آدم (عليه السلام)) فعيلة بمعنى فاعل، وبقية كل شيء ما بقي منه يعني باقيا من أبيكم

ص:247

آدم (عليه السلام) والله سبحانه أبقاه منه لأجل هدايتكم.

قوله (وسلالة من إسماعيل) سلالة الشيء بالضم ما استل منه، والنطفة سلالة الإنسان لأنها خرجت منه، والولد سليل لأنه خرج من صلب أبيه.

قوله (لم يزل مرعيا بعين الله) أي بحفظه ورعايته أبدا من حين فطرته إلى زمان انتقاله من هذه الدار.

قوله (يحفظه ويكلؤه بستره) الكلاءة بالكسر الحفظ والحراسة وهي أشد من الحفظ يقال: كلأه الله كلاءة بالكسر أي حفظه وحرسه، والستر بالفتح المصدر وبالكسر الساتر، والمراد بالستر هنا القوة النفسانية الحاجزة بينه وبين المعصية وهي العصمة، وإضافته إلى ضميره تعالى لإفادة أنه من فضل الله تعالى وليس المعصوم إلا من عصمه الله تعالى.

قوله: (مطرودا عنه حبائل إبليس) الطرد الإبعاد والحبائل جمع الحبالة وهي بالكسر ما يصاد به، والمراد بها مكره وحيلته ووساوسه التي بها يوقع بني آدم في المعصية ويقيده بقيد انقياده على سبيل التشبيه.

قوله: (مدفوعا عنه وقوب الغواسق) الوقوب الدخول يقال: وقب الظلام إذا دخل على الناس.

ومنه قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) والغواسق جمع الغاسق وهو الليل المظلم الساتر لكل شيء، والمراد به هنا كل باطل فإن الباطل مظلم يستر الحق.

قوله: (ونفوث كل فاسق) إنسانا كان أو شيطانا والنفث بالفم شبيه بالنفخ، والمراد به هنا ما يلقي إلى أحد من القول الخفي لإضلاله.

قوله: (مصروفا عنه قوارف السوء) السوء بالفتح مصدر وبالضم اسم منه والقارف الكاسب يقال: فلان يقرف لعياله أي يكسب والاقتراف الاكتساب، والمراد بقوارف السوء ما يجر إليه من الميل والشوق والإرادة والصفات الرذيلة النفسانية مثل الحقد والحسد والغضب وغيرها.

وقوله: (مبرءا من العاهات محجوبا عن الآفات) العاهة والآفة بمعنى واحد وهي ما يوجب خروج عضو عن مزاجه الطبيعي، ويمكن أن يراد هنا بإحديهما الأمراض النفسانية كلها وبالاخرى بعض الأمراض البدنية مثل البرص والجذام وغيرها.

قوله: (في يفاعه) اليفع الرفعة والشرف والغلبة وفيه دلالة على أن ذلك ليس لعجزه بل لكمال شفقته على الرعية.

ص:248

قوله: (عند انتهائه) أشار به إلى أن كل هذه الصفات الجميلة على وجه الكمال.

قوله: (أمر والده) وهو الإمامة والرئاسة في الدارين.

قوله: (صامتا عن المنطق في حياته) لما مر أنه لا يجتمعان إمامان ناطقان في عصر واحد وأنه متفق عليه بين الخاصة والعامة.

قوله: (فإذا انقضت مدة والده) جزاء قوله «فمضى». (إلى مشيته) من باب إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول أي انتهت مقادير الله وقضاؤه إلى مشية الولد وإرادة إمامته.

قوله: (وبلغ) عطف على الشرط المذكور وهو انقضت.

قوله: (وقيمه في بلاده) أي قائما مقامه ونائبا منابه في سياسة امور الناس ومحافظة أحوالهم.

قوله: (وأيده بروحه) سيجيء في باب ذكر الأرواح أن الله تعالى أيد الرسل والأوصياء (عليهما السلام) بروح القدس به عرفوا الأشياء وعرفوا ما تحت الثرى روى ذلك جابر عن أبي عبد الله وأبي جعفر (عليهم السلام).

وسأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) - الآية قال: خلق من خلق الله تعالى أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده» وفي رواية أخرى أنه قال: «منذ أنزل الله تعالى ذلك الروح على محمد (صلى الله عليه وآله) ما صعد إلى السماء وأنه لفينا» وفي أخرى قال (عليه السلام) «إن الله تعالى جعل في النبي روح القدس به حمل النبوة فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام» وظاهر هذه الروايات أن روح القدس ملك وقال القاضي الروح القدس التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء.

قوله: (وآتاه علمه وأنبأه فضل بيانه) يعني أن إتيان العلم والإنباء عن الأسرار إليه من قبله تعالى بعد أبيه أفضل وأكمل من إتيانهما إليه في حال حياته لاختصاصه حينئذ بالنطق عن الله أمر الإمامة وتأيده بروح القدس والنسبة بين الحالتين كالنسبة بين ما بعد البعثة وما قبلها في النبي (صلى الله عليه وآله).

قوله: (واستودعه سره) وهو سر التوحيد وما يليق بذاته وسر الشرائع وسر صفات النفس وما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب وغير ذلك مما لم يؤمر بتبليغه إلى الخلق فإن الأسرار التي أظهروها على الخلق قليل من كثير.

قوله: (وانتدبه لعظيم أمره) وهو رئاسة الخلق وسياسة أمورهم بالحق وفيه شيء لأن انتد به لم

ص:249

يجيء متعديا، قال الجوهري في الصحاح والزمخشري في الفائق وابن الأثير في النهاية: يقال ندبه لأمر فانتدب له أي ادعاه له فأجاب اللهم إلا أن يقال إن افتعل قد يجيء بمعنى فعل نحو جذب واجتذب وهذا من هذا القبيل وزيادة البناء للدلالة على زيادة المبالغة في المعنى.

قوله: (وأنبأه فضل بيان علمه) هذا وما ذكره بعده إلى قوله: «وأحيا به» كالتأكيد للسابق.

قوله: (والضياء لأهل دينه) فإن الإمام نور من نور رب العالمين به يستضيء أهل الدين بل أهل السماوات والأرضين ولولاه لوقعوا في ظلمة التحير والضلالة ورتعوا في مرعى البدعة والجهالة.

قوله: (واسترعاه لدينه) يعني جعله راعيا أي واليا حافظا لدينه وحقوقه فحفظه يقال استرعاه لشيء فرعاه من رعيته رعاية بمعنى حفظته، والراعي منه بمعنى الوالي الحافظ أو جعله راعيا لأهل دينه من رعيت الإبل بمعنى أرسلتها إلى مرعاها على سبيل التشبيه، وعلى التقديرين استفعل هنا بمعنى فعل نحو قر واستقر والزيادة للتأكيد لا للطلب كما في قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم) إذ الطلب لا يستلزم الحصول.

قوله: (وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده) المراد بإحيائه هذه الأمور بسبب الإمام بيانها وإيضاحها للخلق وإرشادهم إليها وإقامتها على سبيل التشبيه والاستعارة التبعية.

قوله: (عند تحير أهل الجهل وتحير أهل الجدل) أريد بالأول صاحب الجهل المركب وكلاهما في مقام التحير وإن كان التحير في الثاني أبلغ وأشد. والجار أعني قوله «بالنور الساطع والشفاء النافع» متعلق بمقام أو بالعدل والباء إما للاستعانة أو للسبية والأول ناظر إلى الأول والثاني إلى الثاني لأن النور الساطع وهو العلم اللامع المرتفع ضوءه كالصبح أنسب بالجهل ورفع ظلمته والشفاء النافع وهو البرهان القاطع أنسب بالجدل ورفع بدعته.

قوله: (بالحق الأبلج) أي الحق الواضح الذي لا يشتبه على أحد بدل لقوله «بالنور الساطع» أو حال عنه أي متلبسا ذلك النور بالحق الأبلج وقوله «والبيان من كل مخرج» بدل لقوله «والشفاء النافع» أو حال عنه، والمراد بكل مخرج كل موضع يخرج منه الحق عند اشتباهه للقاصرين.

وقوله: (على طريق المنهج) متعلق بقام والإضافة للبيان والمراد به طريق الحق لأنه طريق واضح لأرباب العرفان.

قوله: (فليس يجهل من لم يعرف حق هذا العالم) وجهل به، ثلاثة أصناف أشار إليها على الترتيب لأنه إما أن يقتصر على الجهل به ولم يجحده أو ضم إليه الجحد والإنكار، والأول هو

ص:250

الشقي الذي خلاف السعيد لأن بخته لم يساعده على معرفته، والثاني إما أن يقتصر على الجحد أو يضم معه الصد عنه والزجر عن الرجوع إليه والأول هو الغوي وهو الضال، أعني من ترك سبيل الحق وسلك غيره، والثاني هو الجري على الله ومحاربه ومن ههنا علم أن الأول صاحب الجهل البسيط والأخيرين صاحبا الجهل المركب، وأن كل لاحق أخص من السابق.

ص:251

باب أن الأئمة (عليهم السلام) ولاة الامر

اشاره:

وهو الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد بن عامر الأشعري، عن معلى بن محمد قال: حدثني الحسن بن علي الوشاء عن أحمد بن عائذ، عن ابن اذينة، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فكان جوابه: (ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يأمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك) يعني الإمامة والخلافة (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) نحن الناس الذين عنى الله، والنقير: النقطة التي في وسط النواة (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) يقول:

جعلنا منهم الرسل و الأنبياء والأئمة فكيف يقرون به في آل إبراهيم (عليه السلام) وينكرونه في آل محمد (صلى الله عليه وآله) (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا * إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما).

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) قال:

نحن المحسودون.

* الشرح:

ص:252

قوله (قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فكان جوابه) أجاب عنه بأن المراد بما قبل هذه الآية ذم الخلفاء الثلاثة وتابعيهم وبأولي الأمر علي بن أبي طالب وأولاده الطاهرين (عليهم السلام). هذا هو الحق الذي لا ريب فيه (1) وذهب إليه الإمامية رضوان الله عليهم. وأما العامة فلهم من مزخرفات في تفسير هذه الآية لا بأس أن نشير إليها لتعلم حقيقة مقالتهم وفساد عقائدهم فنقول: قال القرطبي قيل: إن المراد باولي الأمر من وجبت طاعته من الأمراء والولاة وهو قول الأكثر من السلف، واستدل بعضهم بما جاء من قبل الآية من قوله تعالى (وإذا حكمتم بين الناس، أن تحكموا بالعدل) وقيل: العلماء هي عامة في الأمراء والعلماء وقيل: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله). هذا كلامه. أقول: إن خص هذه التفاسير الأربعة بالمأمونين من الخطأ والزلل فلا نزاع لأنه ليس غير من تشبثنا بذيل عصمتهم على هذه الصفة بالاتفاق وإن أريد أعم من ذلك لزم أن يأمر الله سبحانه عباده بإطاعة الفاسق تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ونظير ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني» وله في هذا المعنى روايات متكثرة (2) والظاهر من كلامهم هو إرادة معنى الأخير إذ قال المازري في تفسير هذا الحديث: لا خلاف في وجوب طاعة الأمير فيما ليس بمعصية إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).

وقال أيضا في تفسير حديث آخر: يجب طاعة الولاة في جميع الامور حتى فيما يشق وتكرهه

ص:253


1- 1 - قوله: «هذا هو الحق الذي لا ريب فيه» لأن كل ملك وأمير إذا أوجب إطاعة النواب من الولاة والقضاة فالأمر منصرف إلى من ثبت ولايته من قبله لا من تثبت بسبب وتصدى لمنصب من غير إذن الملك فجعل نفسه قاضيا مثلا على الناس فإذا قال الملك: أطيعوا الولاة وأمراء الجنود فالمقصود من نصبه الملك وكذلك إذا قال الله تعالى: أطيعوا أولي الأمر منكم. فالمراد أولو الأمر المنصوبون من قبله تعالى وليس بهذه الصفة بالإجماع غير الأئمة الطاهرين. (ش)
2- 1 - قوله: «روايات متكثرة» إن فرضنا صحة هذه الروايات مع بعدها فالكلام فيها كالكلام في الآية الكريمة من أن مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمير المنصوب من قبله وإلا فالأسود العبسي ومسيلمة أيضا كانا أميرين إلا أن يقيد بقيد فيقال: الأمير العادل وليس أولى مما ذكرنا من التقييد بالأمير المنصوب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بل هو أولى للانصراف. (ش)
3- 2 - قوله: «في معصية الخالق» كلام صحيح مؤيد بروايات كثيرة من طرقهم لا يمكن أن ينكرها مسلم فليكن على ذكرك فلعنة الله على من أطاع الخلفاء في أوامرهم بالظلم والقتل والسلب والجعل وغيرها من المعاصي. (ش).

النفوس مما ليس بمعصية إذ لا طاعة في معصية كما تقدم وقال القرطبي (1) لا تنعقد الإمامة ابتداء للفاسق بكفر أو بغيره فإن حدث فسقه بعد عقدها فإما بكفر أو بغير كفر فإن حديث فسقه بكفر وجب على المسلمين عزله (2) وكذلك إذا ترك الصلاة والدعاء إليها أو غيرها من الشرع وإذا عزلوه نصبوا عدلا وواليا إن أمكنهم ذلك وإن لم يتفق ذلك إلا مع حرب وجب القيام بذلك على الكافة وهذا إذا لم يحيلوا القدرة عليه وإن تحققوا العجز عنه (3) لم يجب القيام عليه ويجب على المسلم الهجرة من أرضه إلى غيرها، وإن كان فسقه بمعاص غير الكفر فجمهور أهل السنة أنه لا يخلع ولا يجب القيام عليه لحديث «أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا عنقك ما أقاموا الصلاة» ولحديث «صلوا خلف كل بر وفاجر» ومثله قال محي الدين البغوي وعلله أيضا بأن خلعه يؤدي إلى إراقة الدماء وكشف الحرم وضرر ذلك أشد من ضرره، وحكى مجاهد الإجماع على أنه لا يقام على الإمام إذا فسق بغير كفر. وقالت المعتزلة: يخلع، وقال بعض أهل السنة: يقام عليه واحتجوا بقيام الحسين (عليه السلام) وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج لم يكن لمجرد الفسق، بل لتغييره الشرع وتظاهره الكفر، وبيعه الأحرار، وتفضيله الخليفة على النبي حيث رجح عبد الملك بن مروان عليه وحكي أنه قال: طاعتنا له أوجب من طاعة الله لأنه شرط في طاعته فقال (فاتقوا الله ما استطعتم) وأطلق في طاعتنا للخليفة فقال: (وأولي الأمر منكم) وقال: إن سليمان كان حسودا لأنه قال: (هب لي ملكا) - الآية ومن عظيم ظلمه أنه قتل

ص:254


1- 3 - قوله: «قال القرطبي» كلامه هذا أقرب إلى الحق بناء على مذهبهم من عدم العصمة ولكن لما رأى غيره أن هذا يوجب إخراج جميع الخلفاء إلا من شذ منهم على الاستيهال جددوا النظر في المسألة وخالفوا في أكثرها. (ش).
2- 1 - قوله «وجب على المسلمين عزله» ذكر هذه المسئلة التي يعلم عدم امكان العمل به لمجرد ارضاء العوام والفرار عن دغدغة النفس والا فكيف يمكن عزل من بيده المال والجنود ويصوب أعماله المتملقون من أهل الدنيا ولا يبالون من إراقة الدماء وسلب الأموال والضرب وا لحبس والتشريد لمن خالفه في أمره ونهيه. (ش).
3- 2 - قوله: «وإن تحققوا العجز عنه، هو الأمر الواقع الذي يصح التكلم فيه والبحث عنه إذ لا يتصور إلا العجز عن الحرب والغلبة وحينئذ فيرجع مذهبهم إلى مذهب الشيعة في التقية وهم يتبرؤون منها. فإن قليل كيف قام الناس على عثمان وعزلوه وقتلوه ولم يعجزوا عنه فاحتمال القدرة على الحرب والغلبة أمر ممكن؟ قلنا نعم هو ممكن إذا كان الإمام ضعيفا وفي الناس اتفاق كلمة ولكنه نادر جدا، ولذلك لم يتفق في عهد أكثر الخلفاء مع فسقهم الظاهر قيام عليهم بل أنكر بعض علمائهم وجوب القيام ولو مع تظاهرهم بالفسق كما يأتي. ثم أن الخلفاء بعد الراشدين وثبوا على الملك واستوثقوا الأمر لأنفسهم بالوسائل التي توسلت بها ساير الملوك في ساير الأمم وكانت البيعة بعد أن صاروا ملوكا لا قبله فلم يكن نصبهم من قبل الناس حتى يكون عزلهم منهم (ش).

صبرا مائة ألف وأربعين ألف رجل وستين ألف امرأة وفي سجنه مائة وعشرون ألف وضاقت سجونه حتى صار يسجن في الحمامات. وأجابوا عن قيام الحسين (عليه السلام) (1) وابن الزبير ويزيد بأن

ص:255


1- 1 - قوله: «عن قيام الحسين (عليه السلام) وابن الزبير ما تكلف به متكلموهم من الأجوبة أوهام نسجوها من غير معرفة بالواقع من الأمور والحقائق الثابتة في التواريخ والروايات المنقولة في صحاحهم التي يعرف علماؤهم بها والصحيح على مذهبهم ما ذكره عالم الحنابلة عبد الحي بن عماد وغيره من المطلعين غير المجازفين، قال في شذرات الذهب: فما نقل عن قتلة الحسين والمتحاملين عليه يدل على الزندقة وانحلال الإيمان من قلوبهم وتهاونهم بمنصب النبوة وما أعظم ذلك فسبحان من حفظ الشريعة وشيد أركانها حتى انقضت دولتهم وعلى فعل الأمويين وأمرائهم بأهل البيت حمل قوله (صلى الله عليه وآله) «هلاك أمتي على أيدي أغيلمة من قريش». وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: اتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين أو أمر به أو أجازه أو رضي به، قال والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما تواتر معناه وإن كان تفصيله آحادا، قال: فنحن لا نتوقف في شأنه بل في كفره لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه انتهى. وما أوقع كلام ابن العماد وما أحسنه حيث تعجب بقاء الدين في مدة ملك بني أمية وجعله خارقا للعادة ونسبه إلى حفظ الله وإلا فالسبب الظاهري كان مقتضيا لأن لا يبقى للدين اسم وأثر مع عداوتهم وتسلطهم ثماني سنة أو أكثر. وأما قيام ابن الزبير على بني أمية فمقتضى ما ذكره المتكلمون منهم في شرائط الإمام والبيعة أن يكون الأمر بالعكس مما ذكروا هنا لأن الناس بايعوا ابن الزبير قبل أن يتصدى مروان وابنه عبد الملك للخلافة بل قبل أن يختلج ببالهما أنهما يصيران خليفة يوما بل بايع مروان، فيمن بايع ابن الزبير فكانت خلافة ابن الزبير عندهم خلافة صحيحة، وابن الزبير عندهم عادل جامع لشرائط الإمامة وبيعته قبل بيعة مروان وعبد الملك، فكان مروان وعبد الملك خارجين عليه بغير حق وكان على المتكلمين أن يبدوا وجها لتصحيح عمل مروان وابنه في قيامهما على الإمام العادل لا توجيه عمل ابن الزبير في قيامه عليهما (ش). قوله في ص 302 «ولا يخفى ضعف هذا القول» عقد الإمامة عندنا بالنص وعند العامة على ما في المواقف بالنص والبيعة أيضا. لنا وجوه: الأول: أن الإمامة نيابة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فلا يثبت بقول غيره. الثاني: بيعة جميع الناس حضورا لواحد غير معقول وبيعة جماعة قليلة منهم لا توجب حجة على غيرهم ولا تستلزم وجوب قبولهم وطاعتهم. الثالث: أن القضاء وساير المناصب لا تثبت بالبيعة إجماعا فكيف الإمامة. الرابع: ثبوت الإمامة بالبيعة يؤدي إلى الهرج والفساد إذ يمكن أن يبايع أهل العقد والحل في بلد لرجل وفي بلد آخر لرجل آخر فيتنازعان كما اتفق بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، الخامس: أن من شرائط الإمامة العلم والعصمة ولا يعلم ثبوتهما في رجل إلا الله تعالى وهذا هو الدليل الذي صرح به الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث والحديث السابق ويستفاد الوجوه الأخر أيضا من بعض ما سبق وقد أجابوا عن الوجه الأول: بإنا سلمنا أن الإمامة نيابة عن الله والرسول لكن البيعة علامة على حكم الله تعالى نظير الاجماع الدال على حكم شرعي وفيه أنكم ما أقمتم على كون البيعة حجة تثبت به حكم كالإجماع وفي المواقف الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ولم يشترطوا اجتماع من في المدينة فضلا عن اجتماع الأمة هذا ولم ينكر عليهم أحد انتهى، وهذا كلام يشهد نفسه بفساده وكيف لم ينكر عليهم أحد والاختلاف في الإمامة مشهور بين أهل العالم ومعروف بين ساكني الأقاليم السبعة في نفس كتاب المواقف باب في مسألة الإمامة ودفع المخالفين بل قالوا: أول اختلاف وقع في الإسلام اختلافهم في الإمامة. وعن الوجه الثاني: بأن بيعة أهل البيعة علامة حكم الله تعالى فيجب على من لم يحضر القبول كالشاهد والقاضي فإن حكمهما ثابت على من لم يشهد وفيه أنهم لم يقيموا دليلا على كون البيعة علامة على حكم الله تعالى ونعلم أن كثيرا من الصحابة الذين اعتقدوا صلابتهم في الدين كمعاوية بن أبي سفيان وسعد بن أبي وقاص امتنعوا من قبول خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أن الذين بايعوه من أهل الحل والعقد بعد يوم الدار أكثر من الذين بايعوا أبا بكر يوم السقيفة أضعافا مضاعفة بشهادة المؤرخين، وتخلف عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وواقعة الحسين بن علي عليهما السلام معه مشهورة. وأما حجية الشاهد والقاضي على الغائب فسفسطة والفرق بين الشهادة والبيعة أن صحة الشهادة لا يتوقف على رضا الشاهد ولا على رضا المشهود عليه، والبيعة الصحيحة تتوقف على رضى الطرفين كالوكالة ولا يدل رضا من بايع على رضى غيره، وأجابوا عن الوجه الثالث: بأنا لا نسلم عدم ثبوت القضاء بالبيعة إلا مع وجود الإمام وإمكان الرجوع إليه، وفيه أن هذا أيضا سفسطة لأن المراد بثبوت القضاء بالبيعة أن بعض أهل البلد إذا نصب قاضيا بالبيعة ولو مع عدم إمكان الرجوع إلى الإمام أو عدم وجوده وجب على أهل هذا البلد الخضوع لحكمه وقبول قضائه قهرا جبرا وهذا مما لا يختلج ببال أحد ولا يدل عليه دليل، نعم لا بأس بأن يرجعوا إلى رجل بالتراضي فيحكم بينهم بحكم الشرع. وأجاب شارح المواقف عن الرابع: بأنه إذا بايع أهل بلد لرجل بالإمامة وفي بلد آخر لرجل آخر حدث الفساد والفتن لكن عدم وجود الإمام أشد ضررا فيدفع بالأقل وفيه أنا لا نسلم كونه أشد ضررا بل يمكن أن يدعى خلافه لأن النزاع والتخاصم بين الولاة والحكام في الملك والخراج أشد ضررا وأكثر فتنة من التخاصم بين آحاد الرعية في حب ونعل وثوب مع أن هذا شيء لم يتفوه به عاقل من أول الخليقة إلى عصرنا وكيف يمكن أن يوجب أحد كون الامام واحدا في جميع الأرض ثم يجوز لكل بلد أن يبايعوا رجلا للإمامة المطلقة ويصححها ويأمر الناس جميعا بإطاعة جميع هذه الأمراء مع اختلافهم ومع ذلك يأمر أهل كل بيعة بإطاعة إمام بلده خاصة، وإنما فر صاحب المواقف إلى هذه الدعوى السخيفة لعدم وجودان مناص يتخلص به فلم يبال بالتزام المتناقضات. وأجاب عن الخامس: بأن أبا بكر كان إماما ولم يكن معصوما فثبت عدم وجوب العصمة وفيه أنه دور ومصادرة. (ش).

عدم جواز القيام إنما هو في الإمام العدل إذا حدث فسقه بعد انعقاد الخلافة له وأما الفاسق قبل عقدها فاتفقوا على أنها لا تنعقد لها ويزيد كان كذلك قبل انعقادها له، وقال الآبي: هذا ليس بشيء لأنه وإن لم يجز عقدها للفاسق ابتداء لكنه إن انعقدت ودفعت إليه صار بمنزلة من حدث فسقه بعد انعقادها فلا يجوز القيام عليه، ولا يخفى ضعف هذا القول (1). هذا ما ذكروه في كتبهم وفي تفاسير أحاديثهم وأوصاف إمامهم وأنت إذا تأملت فيه علمت أن كل فاسق فاجر جاهل يصح أن يكون عندهم اولي الأمر وإماما مفترض الطاعة. ثم قول المازري يجب طاعة الإمام في جميع الامور إلا في معصية يفيد أن المأموم لابد أن يكون عالما بالأحكام والشرائع ليعلم أن قول إمامه

ص:256


1- 1 - راجع ص 305 شرح ذلك مفصلا.

في هذا موافق للشرع فيطيعه وفي ذاك مخالف له، وإن أراد وجب على المأموم طاعته في كل ما لم يعلم مخالفته للشرع سواء كان مخالفا للشرع في نفس الأمر أو لا لزم أن يأمرنا الله سبحانه بإطاعة الجاهل فيما هو جاهل ومخالف للشرع، فاعتبروا يا اولي الأبصار.

قوله (يؤمنون بالجبت والطاغوت) قال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، والطاغوت: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلالة وهو قد يكون واحدا قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد امروا أن يكفروا به) وقد يكون جمعا قال تعالى (أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم) وقال القاضي: الجبت في الأصل: اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله، وقيل: أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء، والطاغوت يطلق لكل باطل.

قوله (يقولون لأئمة الضلالة) يريد أن المراد بالكتاب القرآن وبالذين يؤتون نصيبا منه طائفة من أهل الإسلام وهم يقولون بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار وهم الجبت والطاغوت:

هؤلاء أهدى سبيلا أي أقوم دينا وأرشد طريقا من الذين آمنوا ظاهرا وباطنا وهم آل محمد (صلى الله عليه وآله).

قوله (فلن تجد لهم نصيرا) أي ناصرا يدفع عنه اللعن والعذاب بشفاعة وغيرها.

قوله (أم لهم نصيب من الملك) قال القاضي: «أم» منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك.

قوله (فاذا لا يؤتون الناس نقيرا) أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس ما يوازي نقيرا فكيف إذا لم يكن لهم نصيب منه وهم أذلاء وكيف ما زاد على النقير، وفيه مبالغة في شدة حرصهم وكمال عداوتهم للناس.

قوله (والنقير: النقطة التي في وسط النواة) قال: أهل اللغة: النقير: النقرة التي في ظهر النواة والنقرة: الحفرة، ومنه نقرة القفا ولعل المراد بالنقطة النقرة.

قوله (فكيف يقرون) إنكار للجمع بين هذا الإقرار والإنكار إذ لا وجه له بل هو من باب الجمع بين المتناقضين لأن آل محمد (صلى الله عليه وآله) أيضا آل إبراهيم (عليه السلام).

قوله (فمنهم من آمن به) أي فمن أهل الإسلام مثل أبي ذر وسلمان وغيرهم من الصحابة والتابعين إلى يوم القيامة من آمن بما آتينا آل محمد (صلى الله عليه وآله) أو آل إبراهيم (عليه السلام) ومنهم صد وأعرض ولم يؤمن به وكفى بجهنم نارا ذات لهب يعذب بها من لم يؤمن به إن لم تحل به عقوبة عاجلا لمصلحة.

ص:257

قوله (إن الذين كفروا بآياتنا) وهي الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله) أو الآيات القرآنية الدالة على خلافتهم وهذا تأكيد لقوله (وكفى بجهنم سعيرا) أو بيان وإيضاح له ولذلك ترك العاطف:

قوله (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) قال القاضي; بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال (ليذوقوا العذاب): أي ليدوم ذوقه. وقيل: يخلق مكانه جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور.

قوله (إن الله كان عزيزا حكيما) أي إن الله كان عزيزا قويا غالبا على جميع الأشياء لا يقدر أحد أن يمنعه. عما يريده من العقوبة على المعصية وغيرها حكيما يعاقب العاصي ويثيب المطيع على وفق حكمته.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن محمد الأحول، عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز وجل: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب)؟ فقال: النبوة، قلت: (الحكمة)؟ قال: الفهم والقضاء، قلت: (وآتيناهم ملكا عظيما)؟ فقال: الطاعة.

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي الصباح قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) فقال: يا أبا صالح نحن والله الناس المحسودون.

* الشرح:

قوله: (فقال: النبوة) إطلاق الكتاب على النبوة باعتبار أنه مستلزم لها; أو باعتبار أنه عبارة عن المكتوب وإيتاء النبوة كان مكتوبا في اللوح المحفوظ بقلم التقدير.

قوله (قال: الفهم والقضاء) يعني أن الحكمة عبارة عن العلم بالله وأسرار التوحيد والقوانين الشرعية والقضاء بين الناس بالعدل فهي عبارة عن الحكمة النظرية والعملية وبناء الخلافة عليهما.

قوله (فقال: الطاعة) أي طاعة الخلق لهم في خصالهم وأفعالهم وأقوالهم وعقائدهم وهي ملك

ص:258

عظيم لا يوازيها شيء. (1)

ص:259


1- 1 - قوله: «لا يوازيها شيء» الطاعة المطلقة لغير المعصوم قبيحة عند جميع عقلاء البشر لأن غير المعصوم ربما يأمر بالقبيح ولذلك اتفقوا على ذم الحكومة المطلقة وعلى أن لابد من تقييدها بشيء كما مر، واختار صاحب تفسير المنار مذهبا يوفق به على زعمه بين ما يعتقده أهل السنة في الإمامة وما اختاره النصارى وساير الأمم في عصرنا من الحكومة الدستورية، قال بعد تفسير أولي الأمر وأنهم أهل الحل والعقد: يجب على الحكام الحكم بما يقرره أولوا الأمر وتنفيذه وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين أو ثلاث، الأولى: جماعة المبينين لأحكام الدين يعبر عنهم أهل العصر بالهيئة التشريعية. الثانية: جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يطلق عليهم اسم الهيئة التنفيذية. والثالثة: جماعة المحكمين في التنازع، انتهى، أقول: إن ما تصوره أهل السنة من شرائط الإمام ووضائفه وعزله مما لم يتحقق قط ولن يتحقق إلى يوم القيامة وعلى فرض تحققه فنسلم أنه ليس حكومة مطلقة لأن الخليفة عندهم موظف بتنفيذ أحكام الدين ولا يجوز له التخلف عنها وهذه حكومة مقيدة يرضى بها جميع المسلمين وليس بينه وبين الحكومة الدستورية فرق من جهة رضى الرعية بالأحكام الجارية عليهم ولكن يباينها من وجوه: الأول: أنه لا يجوز التشريع في الإسلام باتفاق جميع المذاهب بل أحكام المعاملات والسياسات مبينة في الفقه كل فريق على مذهبه وليس موضع للقوة المقننة تشرع حكما لا يوافق أحكام الشريعة ولا يجوز على أحد قبولها فإذا وضعوا حكما في النكاح أو الطلاق أو البيع أو الحدود مخالفا للشرع فهو باطل وإن كان مما سكت عنه الشرع فهو غير ملزم أيضا، إن لم يريدوا لم يطيعوا وليس عليهم مؤاخذة فليس في دين الاسلام قوة تشريعية غير ما قرره الشريعة وبينه العلماء. الثاني: ان الهيئة التنفيذية أو القوة المجرية بناء على مذهب أهل السنة والجماعة وإن كانت مقيدة مشروطة بأحكام الشرع وموظفة بمراعاتها كما أن الحكومة الدستورية مقيدة بإطاعة القوة التشريعية لكن أهل عصرنا اخترعوا وسائل لتحقيق هذا المقصود وعزل الحكام إن تخلفوا من غير تهييج فتن وقتل ونكبة بل بمجرد إظهار المندوبين عدم الرضا بهم ولم يبين متكلموا أهل السنة طريقا لعزل الخليفة يمكن أن يتحقق بغير الحرب وإراقة الدماء وتهييج الفتن. الثالث: أن في الحكومة الدستورية يطلب آراء جميع أهل البلاد من كل قرية وبلد صغير أو كبير في كل صقع من الأصقاع فيرسلون مندوبا ويتشاورون ولم يشترط أهل السنة في نصب الخليفة ذلك حتى في خلافة أبي بكر وهو أحق من يستأهل لها عندهم وقد كان أهل جزيرة العرب عند رحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤمنين أو مسلمين ولم يكن في سقيفة بني ساعدة إلا جماعة قليلة لم يكن فيهم مندوب من شيء من البلاد والقبائل بل ولا من أهل المدينة ولم يبينوا للمسلمين أن لهم رأيا ولا أنهم مختارون في البيعة بل واجهوا كل من أظهر الخلاف بالسيف وكل متعتع بالقتل والنكال والطرد والنسبة إلى الارتداد حتى استتب الأمر لأبي بكر وأكثر الناس سكتوا منتظرين لتصميم أمير المؤمنين (عليه السلام) والذين معه حتى رأى المصلحة في الموافقة بعد وفاة فاطمة (عليها السلام) فتبعه الناس وقد قال قائلهم لأبي بكر: إنه لن يتم لك الأمر حتى يبايعك علي (عليه السلام). (ش)

باب أن الأئمة (عليهم السلام) هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق قال: حدثنا داود الجصاص قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعلامات هم الأئمة (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله (قال: النجم رسول الله والعلامات هم الأئمة (عليهما السلام)) إطلاق النجم على رسول الله وإطلاق العلامات على الأئمة يقرب أن يكون من باب الحقيقة لأن النجم في الأصل الظاهر والطالع والأصل والنجوم: الظهور والطلوع وهو (صلى الله عليه وآله) ظاهر من مطلع الحق و طالع من افق الرحمة وأصل لوجود الكائنات أخرجه الله تعالى من نوره وأظهره من معدن علمه وحكمته، وجعله نوراني الذات والصفات لرفع ظلمة الجهالة في بيداء الطبايع البشرية وفيفاء اللواحق الناسوتية، والعلامة ما يعرف به الشيء ومنه علامة الطريق التي وضعها صاحب الدولة، والشفقة على خلق الله تعالى لئلا يضل المسافرون والأئمة (عليهما السلام) علامات للطرق الإلهية والقوانين الشرعية والنواميس الربانية وضعهم النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى لئلا يضل الناس بعده بالاهتداء بأطوارهم والاقتداء بآثارهم، فالناس بأعلامهم يرشدون و بهدايتهم يهتدون.

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أسباط بن سالم قال: سأل الهيثم أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قول الله عز وجل: (وعلامات و بالنجم هم يهتدون) فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) النجم والعلامات [هم] الأئمة.

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله

ص:260

تعالى: (وعلامات وبالنجم يهتدون) قال: نحن العلامات والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة (عليهما السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن هلال، عن أمية بن علي، عن داود الرقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) قال: الآيات هم الأئمة و النذر هم الأنبياء (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله: (قال الآيات هم الأئمة والنذر الأنبياء (عليه السلام)) الآيات: جمع الآية وهي العلامة والأصل أوية بالتحريك، قال سيبويه: موضع العين من الآية واو. وقد مر أن الأئمة (عليهما السلام) علامات لمعرفة الطريقة الإلهية، والنذر: جمع النذير بمعنى المنذر، وإنما يجيء في تفسير النذر بالأنبياء كما جاء به في تفسير الآيات بالأئمة لأن احتمال التردد إنما هو في هذا لا في ذاك.

قوله (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال القاضي وغيره: عم أصله عما فحذف الألف ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه فإنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه، وقوله (عن النبأ العظيم) بيان لشأن المفخم أو صلة (يتساءلون) وعم متعلق بمضمر مفسر به.

قوله (إن شئت أخبرتهم وإن شئت لم اخبرهم) سيجيء أنه وجب على الناس الرجوع إليهم في المسائل وغيرها وأنه لم يجب عليهم الجواب إن اقتضت المصلحة تركه.

قوله (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول) دل على أن ما في القرآن من الآيات والنبأ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) رأسها وأصلها، وتفسير النبأ العظيم بأمير المؤمنين (عليه السلام) موجود من طرق العامة أيضا، قال صاحب الطرايف: روي الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي وهو من علماء المذاهب الأربعة وثقاتهم في كتابه في تفسير قوله تعالى (عم يتساءلون عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون) بإسناده عن السدي يرفعه قال: أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى

ص:261

رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد هذا الأمر لنا من بعدك أم لمن؟ قال (صلى الله عليه وآله): يا صخر الأمر بعدي لمن هو مني بمنزلة هارون من موسى (عليه السلام) فأنزل الله عز وجل (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) يعني يسألك أهل مكة عن خلافة علي بن أبي طالب الذي هم فيه مختلفون منهم المصدق بولايته وخلافته، ومنهم المكذب، قال: (كلا) وهو ردع عليهم (سيعلمون) أي سيعرفون خلافته بعدك أنها حق تكون (ثم كلا سيعلمون) أي يعرفون خلافته وولايته إذ يسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا منكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد الموت يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟.

ص:262

باب ما فرض الله عز وجل ورسوله من الكون مع الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن ابن اذينة، عن بريد بن معاوية العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال: إيانا عنى.

* الشرح:

قوله: (قال: إيانا عنى) سر ذلك أنه ليس المراد بالصادقين الصادقين في الجملة إذ ما من أحد إلا وهو صادق في الجملة حتى الكافر والله سبحانه لا يأمر بالكون معه بل المراد بهم الصادقون في أيمانهم وعهودهم وقصودهم وأقوالهم وأخبارهم وأعمالهم وشرايعهم في جميع أحوالهم وأزمانهم وهم الأئمة المعصومون من العترة الطاهرة لأن كل من سواهم لا يخلو عن الكذب في الجملة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

سألته عن قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال: الصادقون هم الأئمة والصديقون بطاعتهم.

* الشرح:

قوله: (والصديقون بطاعتهم) أي بطاعة الأئمة والصديق الذي يصدق قوله بالعمل، والأمر بالكون معهم باعتبار أنهم مع الأئمة.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الحميد عن منصور بن يونس، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحب أن يحيى حياة تشبه حياة الأنبياء ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن فليتول عليا وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعده فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، اللهم ارزقهم فهمي

ص:263

وعلمي، وويل للمخالفين لهم من امتي، اللهم لا تنلهم شفاعتي.

* الشرح:

قوله: (تشبه حياة الأنبياء) في دوام الاستقامة في الدنيا من جميع الجهات.

قوله: (تشبه ميتة الشهداء) في الاتصاف بالسعادة في الآخرة من جميع الوجوه، والميتة بالكسر: كالجلسة الحالة، يقال: مات فلان ميتة حسنة.

قوله: (غرسها الرحمن) المراد بغرسه إياها إنشاؤها بقول «كن» ومجرد التقدير والإيجاد، تشبيها له بالغرس المعهود وفينا لقصد الإبانة والإيضاح، وفي لفظ الرحمن إيماء إلى أن إنشاءها بمجرد الرحمة الكاملة ومقتضاها لا لأجل الاستحقاق لدلالة الروايات على أن أحدا لا يدخل الجنة بالاستحقاق وإنما يدخلها بالتفضل بعد القابلية المكتسبة، وفي بعض النسخ «غرسها الله».

قوله: (فإنهم عترتي خلقوا من طينتي) عترة الرجل: نسله ورهطه الأدنون، والطينة: الخلقة والجبلة والأصل، والفهم: العلم، يقال: فهمت الشيء فهما أي علمته.

وقد يراد به جودة الذهن وشدة ذكائه وهو المراد ههنا لذكر العلم بعده، والويل: كلمة العقاب، وواد في جهنم لو أرسلت إليه الجبال لذابت من حره، والمراد بالامة: الامة المجيبة بقرينة الإضافة وتخصيص مخالفتهم بالعترة.

وقوله: (لا تنلهم شفاعتي) يقال: نال خيرا إذا أصابه وأناله غيره، وإنما دعا الله سبحانه بأن لا ينيلهم شفاعته مع أن الشفاعة فعل اختياري فله أن لا يشفع لهم لأنه قد يدعو ويشفع للامة إجمالا فطلب منه سبحانه أن لا يدخلهم تحت هذه الشفاعة الإجمالية على أن المقصود هو الإخبار بأن شفاعته لا ينالهم لخروجهم تلك المخالفة عن دينه فلا ينالهم شفاعته كما لا ينال سائر الملل الباطلة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تبارك وتعالى يقول:

استكمال حجتي على الأشقياء من امتك: من ترك ولاية علي ووالى أعداءه وأنكر فضله وفضله الأوصياء من بعده، فإن فضلك فضلهم و طاعتك طاعتهم وحقك حقهم ومعصيتك معصيتهم وهم الأئمة الهداة من بعدك جرى فيهم روحك وروحك [ما] جرى فيك من ربك وهم عترتك من

ص:264

طينتك ولحمك ودمك وقد أجرى الله عزوجل فيهم سنتك وسنة الأنبياء قبلك، وهم خزاني على علمي من بعدك حق علي، لقد اصطفيتهم وانتجبتهم وأخلصتهم وارتضيتهم، ونجى من أحبهم ووالاهم وسلم لفضلهم، ولقد آتاني جبرئيل (عليه السلام) بأسمائهم وأسماء آياتهم وأحبائهم والمسلمين لفضلهم.

* الشرح:

قوله (استكمال حجتي على الأشقياء من امتك) لله تعالى حجة على جميع الأشقياء من هذه الامة وما لم يبلغ حجته على حد الكمال بحيث لا يكون للمحجوج معذرة ولا وسيلة يدفع بها حجته لا يعذ به ولا يطرده عن رحمته. وكمال حجته عليهم بترك ولاية علي والأوصياء من بعده (عليه السلام): وأما من لم يتركها واعتقد بها فله وسيلة عظيمة يدفع بها تلك الحجة نظير ذلك أن من أساء أدبك وتعرض لعقوبتك ثم جاءك معتذرا بأنه أتى بأحب الأشياء عندك فإنه يدفع بتلك الوسيلة عن نفسه استحقاق عقوبتك. الحمد الله الذي أكرمنا بالإقرار بفضل علي أمير المؤمنين وبفضل أوصيائه عليهم صلوات الله أجمعين.

قوله (من ترك ولاية علي) المراد بولايته ولايته على جميع الامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بلا فصل، فمن أنكرها فقد كملت عليه حجة الله تعالى، سواء أنكرها مطلقا كالخوارج أو أنكرها بلا فصل كالثلاثة وأتباعهم.

قوله (فإن فضلك فضلهم) إذا كان فضلهم عين فضلك فمن أنكر فضلهم. فقد أنكر فضلك ومن أنكر فضلك فقد استكمل حجتي عليه، ولو قيل: فأن فضلهم فضلك لكان أيضا صحيحا لكن المذكور أحسن كما لا يخفى.

قوله (جرى فيهم روحك وروحك ما جرى فيك من ربك) الروح بالضم: ما يقوم به الجسد وتكون به الحياة والرحمة والقرآن والحياة الدائمة وروح القدس وقد مر تفسيره وأنه مع النبي وبعده مع الأئمة، وبالفتح: الاستراحة والرزق البدنيان أو العقليان ويجوز ضم الراء في الموضعين وإرادة كل واحد من المعاني المذكورة، ويجوز أيضا ضمها في الأول وفتحها في الثاني، ولفظ «ما» ليس في بعض النسخ.

قوله (وقد أجرى الله فيهم سنتك) السنة: الطريقة، و المراد بها العلم والعمل والإرشاد وقد يأتي السنة بمعنى الصورة والصفة كما صرح به في الفايق وهي عبارة عما ذكر.

ص:265

قوله (وهم خزاني على علمي) شبههم بالخزان في الحفظ والضبط والمنع والإعطاء والأمانة كما هو شأن الخزان.

قوله (وأخلصتهم) أي جعلتهم خالصا لنفسي، بريئا من كل عيب.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبي المغرا، عن محمد بن سالم، عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أراد أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها الله ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب وليتول وليه، وليعاد عدوه، وليسلم للأوصياء من بعده، فإنهم عترتي من لحمي ودمي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، إلى الله أشكو أمر امتي، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي وأيم الله ليقتلن ابني لا أنالهم الله شفاعتي.

* الشرح:

قوله (ويدخل جنة عدن التي غرسها الله ربي بيده) العدن: الإقامة ومنه جنة عدن أي جنة إقامة، وقيل: هي اسم لمدينة الجنة وهي مسكن الأنبياء (عليهما السلام) والعلماء والشهداء وأئمة العدل، والناس سواهم في جنات حواليها وقيل: هي قصر لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل وقيل: العدن: نهر على حافتيه جنات. والأول أصوب لأن العدن اسم للإقامة من عدن بالمكان إذا أقام به، والله سبحانه وعدها المؤمنين والمؤمنات بقوله تعالى (ومساكن طيبة) - الآية فلا معنى للتخصيص وقوله «بيده» معناه بقدرته أو لنعمته على أن يكون الباء بمعنى اللام لأن الجارحة محال على الله سبحانه ولا يرد أن حملها على القدرة بعيد لأن كل شيء بقدرته لأن المراد التأكيد والبيان أو التخصيص للتنبيه على أنها ليست كجنات الدنيا المخلوقة عن وسائط من غرس وغيره وإنما إنشاؤها بقول «كن» وأضافها إلى نفسها تشريفا.

قوله (القاطعين فيهم صلتي) أي اتصالي إن كان مصدرا و أصله وصلي والتاء عوض عن الواو، أو جائزتي إن كان اسما، وتلك الجائزة هي الخلافة التي أودعها فيهم.

قوله (وأيم الله) أيمن الله بضم الميم والنون: من ألفاظ القسم وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجئ في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها وقد تدخل عليه اللام لتأكيد الابتداء تقول ليمن الله فتذهب الألف في الوصل وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير أيمن الله

ص:266

قسمي وربما حذفوا منه النون وقالوا: أيم الله بفتح الهمزة وكسرها.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم، عن عبد القهار عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سره أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأوصياءه من بعده، فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال ولا يخرجونكم من باب هدى، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وإني سألت ربي أن لا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا علي الحوض» هكذا - وضم بين أصبعيه - وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة، فيه قدحان فضة وذهب عدد النجوم.

* الشرح:

قوله: (ويتمسك بقضيب غرسه ربى بيده) القضيب: الغصن، ولعل المراد يتمسك بقضيب غرس الله تعالى أصله في الجنة التي فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويدخل فيها، ويحتمل أن يكون هذا على نحو من التمثيل والتشبيه والتشبيه لأن محبة علي (عليه السلام) كشجرة غرسها الله تعالى في الجنة، ومن تمسك بغصن من أغصانها دخل فيها.

قوله (فإنهم لا يدخلونكم) فيه رمز إلى أن غيرهم من اللصوص المتغلبة يدخلون الناس في باب ضلالة ويخرجونهم من باب هدى، وإن تصفحت كتبهم رأيتهم حرفوا دين الله ووجدت أكثر أحكامهم مخالفة للكتاب في السنة.

قوله (فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) قال القرطبي وهو من أعاظم علمائهم: كان لعلي رضي الله عنه من الشجاعة والعلم والحلم والزهد والورع وكرم الأخلاق مالا يسعه كتاب وقال الآمدي: لا يخفى أن عليا رضي الله عنه كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة بعضها كاف في استحقاق الإمامة وقد اجتمع فيه من حميد الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة وكان من أشجع الصحابة وأعلمهم وأزهدهم وأفصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقربهم نسبا وصهرا منه، وكان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة، وقد قال فيه رباني هذه الامة ابن عباس رضي الله عنه.

قوله (وإني سألت ربي أن لا يفرق بينهم وبين الكتاب) قال صاحب الطرائف: في كتاب

ص:267

المناقب لابن مردويه بإسناده إلى ثابت مولى أبي ذر عن أم سلمة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول «علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ومثله روى أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله) وبإسناده عن زيد بن أرقم عنه (صلى الله عليه وآله) وسنذكرهما في موضعه إن شاء الله تعالى. وفيه دلالة واضحة على التلازم بينهم وبين الكتاب فلا يجوز مخالفتهم في أمر من الامور وإلا لزم مخالفة الكتاب.

قوله (هكذا وضم بين أصبعيه) (يعني السبابتين والغرض من هذا التشبيه هو الإيضاح.

قوله (وعرضه ما بين الصنعاء إلى أيلة) مثل مروي من طرق العامة، واتفقت الأمة على أن له حوضا في الآخرة. قال عياض: الصنعاء ممدودا: قصبة من بلاد اليمن، وبالشام صنعاء أخرى لكن المراد بهذه التي هي باليمن وقد جاء في خبر آخر «ما بين أيلة وصنعاء اليمن» وأيلة بفتح الهمزة وسكون الياء: مدينة معروفة نصف ما بين مكة ومصر، وقيل: هي جبل ينبع ما بين مكة والمدينة، وقال صاحب القاموس: أيلة جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع وبلد بين ينبع ومصر وعقبتهما معروفة، وإيلة بالكسر: قرية بباخرز، وموضعان آخران أقول: بين هنا عرض الحوض وحده دون طوله أيضا ويأتي في كتاب الروضة الحديث القدسي في وصف النبي (صلى الله عليه وآله) «له حوض أكبر من مكة إلى مطلع الشمس من رحيق مختوم، فهي آنية مثل نجوم السماء وأكواب مثل مدر الأرض - الحديث» فلا بد من حمل هذا المقدار على المقدار الطولي للجمع، بين الحديثين ويفهم من كلام العامة أنه مربع متساوي الأضلاع، وفيه زيادة بحث يجيء في كتاب الروضة إن شاء الله تعالى.

قوله (فيه قدحان ذهب وفضة عدد النجوم) في أطرافه و نواحيه، والقدحان بضم القاف وسكون الدال: جمع القدح بالتحريك هو ما يشرب منه، والظاهر حمله هذا العدد على ظاهره إذ لا مانع شرعا ولا عقلا يمنع منه، ويحمتل حمله على إفادة الكثرة كما قيل: في قوله تعالى (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) ومنه كلمته في هذا ألف مرة وهو من باب المبالغة المعروف لغة و عرفا ولا يعد كذبا لكن يشترط في إباحته أن يكون المكنى عنه بذلك كثيرا ولا يجوز أن يقال ذلك في القليل.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب عن الحسن بن زياد، عن الفضيل بن يسار. قال: قال: قال أبا جعفر (عليه السلام): وإن الروح والراحة والفلح

ص:268

والعون والنجاح والبركة والكرامة والمغفرة والمعافاة واليسر والبشرى والرضوان والقرب والنصر والتمكن والرجاء والمحبة من الله عز وجل لمن تولى عليا وائتم به وبرىء من عدوه وسلم لفضله وللأوصياء من بعده حقا علي أن ادخلهم في شفاعتي وحق على ربي تبارك وتعالى أن يستجب لي فيهم، فإنهم أتباعي ومن تبعني فانه مني.

* الشرح:

قوله (قال أبو جعفر (عليه السلام) إن الروح) الروح وما عطف عليه مسند إليه وقوله «من الله عز وجل» متعلق بكل واحد من الامور المذكورة، وقوله «لمن تولى عليا» مسند، والروح بفتح الراء: الرزق ووجدان رائحة الجنة ونحو ها مما تلتذ به النفس كما صرح به في الفائق، وبضمها الحياة الأبدية والنعمة الاخروية و الرحمة الربانية وغيرها من المعاني المذكورة، والراحة: خلاف المشقة وهي جسمانية وروحانية، والفلح: وفي بعض النسخ والفلاح الفوز والبقاء والنجاة، والعون: الظهير على الأمر والجمع أعوان وقد يأتي مصدرا بمعني الإمداد، والنجاح والنجح: الظفر بالحوائج، والبركة:

الزيادة والنماء في الأموال والأعمال، والكرامة: اسم من الإكرام وهو الإعزاز والاحترام.

والمغفرة: مصدر كالغفر والغفران بمعني تغطية الذنوب وسترها، والمعافاة: مصدر بمعنى دفاع المكروهات والعفو عن الزلات واليسر في العيش وفي الحساب خلاف العسر فيهما والبشرى عند الموت وغيره إرادة ما يوجب سرورا والإخبار به، والرضوان بكسر الراء وضمها: الرضاء وهو مقصورا مصدر أو ممدودا اسم منه والنصرة: اسم من نصره على عدوه إذا إعانة عليه، والتمكن:

الاقتدار على جلب المنافع ودفع المكاره يقال: مكنه الله من الشيء وأمكنه بمعنى واستمكن الرجل من شيء وتمكن منه بمعني، والرجاء بالمد: الأمل ولا يكون إلا بالخير، والمحبة من الخلق:

ميل النفس وشوقها إلى أمر مرغوب، ومن الله تعالى: الإحسان والإنعام وإفاضة الخيرات لمن يحبه.

قوله (وحقا علي) مفعول مطلق لفعل محذوف أي حق حقا، يعني وجب وجوبا علي أن ادخلهم في شفاعتي لتحقق شرائط الشفاعة وقابليتها.

قوله (وحق على ربي) جملة فعلية معطوفة على فعلية سابقة وقوله «فإنهم» تعليل لثبوت الحق في الموضعين فإن شفاعته معدة للتابع له المذنب من حزبه والله سبحانه لا يخالف وعده في قبول شفاعته.

ص:269

باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [قال] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الذكر أنا والأئمة أهل الذكر» وقوله عز وجل: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال أبو جعفر (صلى الله عليه وآله): نحن قومه و نحن المسؤولون.

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الذكر أنا والأئمة أهل الذكر) سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكرا لأنه يذكر بالوعظ والنصيحة كما سمى بشيرا ونذيرا لأنه يبشر بالثواب وينذر بالعقاب. وذكر ابن العربي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم وللنبي (صلى الله عليه وآله) كذلك وذكر منها على التفصيل بضعا وستين. وقال عياض: له (صلى الله عليه وآله) أسماء جاءت في الآيات والروايات جمعنا منها كثيرا في كتاب الشفاء. وينبغي أن يعلم أن الذكر يطلق على القرآن أيضا لأنه موعظة وتنبيه فلو فسر الذكر بالقرآن لكان أيضا صحيحا وكان الأئمة أهل الذكر. لكن التفسير الأول لكونه من صاحب الشرع مقدم عليه (1) ومثل هذا التفسير مروي من طرق العامة أيضا.

قال صاحب الطرائف: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في الكتاب الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر وهو من علماء الأربعة المذاهب وثقاتهم في تفسير قوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) بإسناده إلى ابن عباس قال: أهل الذكر يعني أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله) علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) وهم أهل العلم والعقل والبيان، وهم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة و مختلف الملائكة والله ما سمى الله المؤمن مؤمنا إلا كرامة لأمير المؤمنين (عليه السلام)» وروى الحافظ بن محمد بن مؤمن هذا الحديث من طريق آخر عن سفيان الثوري عن السدي عن الحارث بأتم من هذه العبارة.

ص:270


1- 1 - قوله: «مقدم عليه» ينبغي أن يكون التفسير هنا بمعنى المدلول الالتزامي لأنه إذا كان قول أهل الخبرة من علماء أهل الكتاب حجة في كون الأنبياء بشرا لا ملائكة كان قول النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة حجة بطريق أولى. (ش)

قوله: (وقوله تعالى وإنه لذكر لك) عطف على قول الله تعالى والضمير المنصوب راجع إلى القرآن وفسر الذكر هنا بالشرف يعني أن القرآن بالشرف لك ولقومك وسوف تسألون يوم القيامة عنه وعن القيام بأمره وتبليغه وحفظ ما فيه.

قوله (قال أبو جعفر (عليه السلام): ونحن قومه) أي قوم النبي وإن كان أعم منهم لكنه (عليه السلام) أعرف بمنازل القرآن وموارده مع ما في الإضافة من إفادة الاختصاص ونحن المسؤولون عنه يوم القيامة، وفيه على هذا التفسير التفات من الغيبة إلى الخطاب أو تغليب الحاضرين على الغائب إن دخل النبي في المسؤولين.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) قال:

الذكر محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن أهله المسؤولون، قال: قلت: قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال: إيانا عنى ونحن أهل الذكر ونحن المسؤولون.

* الشرح:

قوله: (قال الذكر محمد ونحن أهله المسؤولون) أي نحن أهله الذين أمر الله تعالى كل من لم يعلم بالسؤال عنهم.

قوله (قال: إيانا عنى) أي إيانا عنى بالقوم ونحن أهل الذكر الذي هو القرآن هنا ونحن المسؤولون عنه يوم القيامة.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: سألت الرضا (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فقال: نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون، قلت:

فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت: حقا علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: حقا عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، أما تسمع قول الله تبارك وتعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب).

* الشرح:

قوله (قال لا ذاك إلينا) الظاهر أن كل أحد يجب عليه السؤال مع عدم علمه عن أهل الذكر ولا

ص:271

يجب عليهم جواب كل أحد لأن بعض السائلين قد يكون منكرا لفضلهم وراد لقولهم فقد يكون ترك الجواب أولى من الجواب وقد يكون واجبا وقد يكون الجواب على وجه التقية متعينا وبعضهم قد يكون مقرا بفضلهم، ولكن في ترك الجواب مصلحة يعرفها الإمام دونه فيجوز له ترك الجواب تحصيلا لتلك المصلحة كما ترى في سؤالهم عن تعيين ليلة القدر مرارا وهم أجابوا عنه مجملا من غير تعيين وسؤالهم عن القضاء والقدر وسؤالهم عن الشيء ولم يعملوا بما علموا وسؤالهم عن الشيء مع عدم قدرتهم على ضبطه أمثال ذلك.

قوله (أما تسمع قول الله تبارك وتعالى) استشهد لما ذكر من ثبوت التخيير في الجواب وتركه بقوله تعالى خطابا لسليمان (عليه السلام) (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) أي هذا الذي أعطيناك من الملك والعلم عطاؤنا فأعط من شئت وامنع من شئت حال كونك غير محاسب على الإعطاء والمنع لتفويض التصرف على وجه المصلحة إليك، ووجه الاستشهاد أن هذا غير مختص بسليمان (عليه السلام) بل جاز في جميع الأنبياء والأوصياء (عليهما السلام).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر ابن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذكر وأهل بيته (عليهما السلام) المسؤولون وهم أهل الذكر.

* الشرح:

قوله: (فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذكر) المفهوم من هذه الآية أن القرآن ذكر ولذا فسره به في الخبر الآتي فلا بد أن يقدر «ذو» أو يقال: كون القرآن ذكرا يستلزم كون الرسول ذكرا لتحقيق وجه التسمية فيه، أو يقال: هذا التفسير بالنظر إلى الواقع لا إلى مدلول الآية وهذا بعيد جدا لأن سوق الكلام يأباه فليتأمل.

* الأصل:

5 - أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال: الذكر: القرآن ونحن قومه ونحن المسؤولون.

* الشرح:

ص:272

قوله (أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد) لعل المصنف روى عن أحمد بن محمد أو عن كتابه بلا واسطة ويحتمل حذف العدة هنا بقريبة السابق وفي بعض النسخ المصححة «وبهذا الإسناد عن الحسين بن سعيد» وهو الأظهر.

قوله (قال: ولا واحدة يا ورد) كأنه عطف على مقدر أي ما يحضرك كلها ولا واحدة وإنما اقتصر على المعطوف لأن التعجب فيه.

قوله (قال: بلى قد حضرني منها واحدة) تجدد حضورها بعد قوله: ما يحضرني منها واحدة فلا ينافيه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي بكر الحضرمي قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) ودخل عليه الورد أخو الكميت فقال: جعلني الله فداك اخترت لك سبعين مسألة ما تحضرني منها مسألة واحدة؟ قال: ولا واحدة يا ورد؟ قال: بلى قد حضرني منها واحدة، قال: وما هي؟ قال: قول الله تبارك وتعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) من هم؟ قال: نحن قال: قلت: علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: عليكم أن تجيبونا؟ قال:

ذاك إلينا.

* الشرح:

قوله (أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد) لعل المصنف روى عن أحمد بن محمد أو عن كتابه بلا واسطة ويحتمل حذف العدة هنا بقريبة السابق وفي بعض النسخ المصححة «وبهذا الإسناد عن الحسين بن سعيد» وهو الأظهر.

قوله (قال: ولا واحدة يا ورد) كأنه عطف على مقدر أي ما يحضرك كلها ولا واحدة وإنما اقتصر على المعطوف لأن التعجب فيه.

قوله (قال: بلى قد حضرني منها واحدة) تجدد حضورها بعد قوله: ما يحضرني منها واحدة فلا ينافيه.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن من عندنا يزعمون أن قول - الله عزوجل: (فاسألوا أهل

ص:273

الذكر إن كنتم لا تعلمون) أنهم اليهود والنصاري، قال: اذا يدعونكم إلى دينهم، قال: - قال بيده إلى صدره - نحن أهل الذكر و نحن المسؤولون.

* الشرح:

قوله (إن من عندنا يزعمون - إلى قوله - أنهم اليهود والنصارى) منشأ زعمهم أن الله تعالى لما رد على قريش قالوا في معرض إنكار رسالة خاتم الأنبياء: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا بقوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) ثم قال (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) توهموا أن الأمر مختص بقريش وأن أهل الذكر أهل الكتاب وهم علماء اليهود والنصارى وأن الله تعالى أمر قريشا أن يسألوهم ليعلموهم أن الأنبياء السابقين كانوا بشرا وهذا التوهم فاسد لأن قوله تعالى (فاسئلوا) خطاب عام أمر الله تعالى كل من لم يعلم شيئا من اصول الدين وفروعه إلى يوم القيامة بالرجوع إلى أهل الذكر والسؤال عنهم وخصوص السبب لا يخصص عموم الخطاب فلو كان أهل الذكر هم اليهود والنصارى لزم أن يأمر الله سبحانه من لم يعلم من هذه الامة أمرا من امور دينه أن يرجع في تفسيره إلى من يرده عن دينه ويدعوه إلى الدين الباطل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله (ثم قال بيده إلى صدره) أي ضربه بها كما صرح المطرزي في المغرب، أو أشار بها إليه كما صرح به عياض.

* الأصل:

9 - أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) كتابا فكان في بعض ما كتبت: قال الله عزوجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال الله عزوجل: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فقد فرضت عليهم المسألة، ولم يفرض عليكم الجواب؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فا علم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه).

* الشرح:

قوله: (وما كان المؤمنون) أي ما استقام لهم أن ينفروا كلهم إلى أهل العلم لطلبه، لأن ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم فهلا نفر من كل فرقة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة طائفة قليلة ليتفقهوا في

ص:274

الدين ولينذروا قومهم من مخالفة الرب إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، وفيه دلالة على أن طلب العلم واجب كفائي وعلى أن خبر الواحد حجة لأن الطايفة النافرة قد لا تبلغ حد التواتر وقد أوجب القبول منهم. وفي الآية وجه آخر وهو أنها نزلت في شأن المجاهدين أي ما كان لهم أن ينفروا كافة إلى الجهاد بل يجب أن ينفر من كل فرقة طائفة ليتفقه الباقون ولينذروا قومهم النافرون إذا رجع النافرون إليهم. وفيه أيضا دلالة على أن الجهاد واجب كفائي وعلى أن خبر الواحد حجة إد قد لا تبلغ الباقون حد التواتر.

قوله: (قال: قال الله تعالى فإن لم يستجيبوا لك) أجاب (عليه السلام) بأنه لم يفرض علينا مطلقا لأن السائلين قد لم يستجيبوا لنا ولم يقبلوا منا ولم يقروا بفضلنا فالجواب حينئذ عبث الحكيم لا يفعل عبثا، وأما من استجاب لنا وأقر بفضلنا فالجواب عن سؤاله متعين لأن الحكيم لا يمنع مستحق العلم عنه، وبالجملة يجب رجوع الكل إليهم والسؤال عنهم واجب، وأما الجواب فقد يجب وقد لا يجب.

باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد المؤمن بن القاسم الأنصاري، عن سعد، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) قال أبو جعفر (عليه السلام) إنما نحن الذين يعلمون، والذين لا يعلمون عدونا، وشيعتنا أولو الألباب.

* الشرح:

قوله: (عن سعد عن جابر) قال بعض الأفضل: في بعض النسخ «عن سعد بن جابر» والصحيح ما في الأصل وهو موافق للنسخ الصحيحة وليس في كتب الرجال سعد بن جابر ويؤيده الرواية الآتية. وسعد مشترك ويرجح ابن طريف الإسكاف، والأظهر في جابر أنه ابن يزيد الجعفي.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد. عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزوجل: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما

ص:275

يتذكر اولو الألباب) قال: نحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا اولو الألباب.

* الشرح:

قوله (هل يستوي الذين يعلمون) الاستفهام للإنكار والفعل كاللازم و المقصود نفي المساواة بين من توجد له حقيقة العلم وبين من لا يوجد، وقوله (إنما يتذكر أولو الألباب) إشارة إلى أن التفاوت بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول الكاملة المعراة عن متابعة الإلف ومعارضة الوهم كما قيل: إنما يعرف ذاالفضل من الناس ذووه، وأما الجاهل فلا يعرف من الإنسان إلا صورته وهو بهذا المعني مشارك للبهائم، توضيح ذلك أن الإنسان مركب من جوهرين نفس وبدن والأول من عالم الغيب والملكوت، والثاني: من عالم الملك والشهادة ولكل أجزاء وقوى بما فيه مثال للآخر فمن قوى البدن البصيرة العينية الظاهرة، ومن قوى النفس البصيرة الروحانية الباطنة بالقوة في الأكثر في بدء الفطرة وتتكامل تدريجا في بعض بتكرر مشاهدة المعقولات وفعل الحسنات حتى تصير بحيث يشاهد ما في عالم الغيب مثل ما في عالم الشهادة وتصير الإنسان بذلك إنسانا صورة ومعنى. ومتشابها بالكاملين من جميع الجهات مثل الرسل والأوصياء وبذلك الربط والمشابهة يعرفهم ويعرف فضلهم وقدرهم وينقاد لهم ويرجع إليهم كرجوع الفرع إلى الأصل. وأما من أعرض عن مشاهدة الحقائق والصور العينية وأبطلت قوته الباطنة حتى صار أعمى القلب فهو وإن كان إنسانا صورته لكنه كلب أو خنزير أو حمار معنى ولا مشابهة بينهم وبين الكاملين إلا بحسب الصورة فلا يقر لهم فضيلة وشرفا ويقول: إن أنتم إلا بشر مثلي ولا فضل لكم علي، ولا يعرف أنهم بحسب النشأة الباطنة روحانيون ربانيون، بوجودهم قامت السماوات وبنورهم أشرقت الأرض، لانتفاء الملائمة بينه وبينهم من هذه الجهة.

ص:276

باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (عليهم السلام))

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضرين سويد، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله.

* الشرح:

قوله: (قال نحن الراسخون في العمل ونحن نعلم تأويله) التأويل: صرف الكلام عن ظاهره إلى خلاف الظاهر من آل يؤول إذا رجع وهذا الكلام يسمى متشابها والراسخون في العلم هم الذين ثبتوا فيه وتمكنوا بنور بصائرهم وصفاء ضمائرهم، وهذا الخبر حجة على من وقف على الله وجعل (الراسخون) مبتدأ وخبره (يقولون آمنا به) لدلالته على الوصل (ويقولون) حينئذ إما استيناف لإيضاح حال الراسخين أو حال عنهم.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن عبد الله بن علي، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن بريد بن معاوية، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه.

* الشرح:

قوله: (في قول الله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون) قال الله تعالى (وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و اخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولو الألباب) قد ذكرنا تفسير المحكم والمتشابه في

ص:277

باب اختلاف الأحاديث، وقال القرطبي: ام الكتاب أصله الذي يرجع إليه عند الإشكال ومنه سميت الفاتحة أم القرآن لأنها أصله إذ هي آخذة بجملة علومه فكأنه قال: محكمات هن اصول ما أشكل من الكتاب فيرد ما أشكل منه إلى ما اتضح منه وهذا أسد ما قيل في ذلك، والزيغ: هو الميل عن الحق إلى الباطل، وابتغاء الفتنة: طلبها، والفتنة: الضلال، وقيل: الشك.

والتأويل: ما آل إليه أمره والمراد باتباعهم للمتشابه ابتغاء الفتنة أن يتبعونه ويجمعونه طلبا للتشكيك في القرآن واضلال العوام كما فعله الزنادقة والقرامطة والطاعنون في القرآن أو يجمعونه طلبا لاعتقاد ظواهره كما فعلت المجسمة جمعوا ما في القرآن والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن الباري جل شأنه جسم له صورة ذات وجه وعين وجنب ويد ورجل وأصبع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكلا الفريقين كافر، وأما من اتبعه ليأوله من عند نفسه فذلك مختلف في جوازه والأظهر وجوب الحمل على خلاف ظاهره وصرف تعيينه وتأويله إلى أهله والحق عند أصحابنا أن الراسخين في العلم أيضا يعلمون تأويله كما دل عليه هذا الخبر وغيره، وأما العامة فقال عياض:

اختلف في الراسخين فقيل يعلمون تأويله فالواو في قوله تعالى (إلا الله والراسخون في العلم) عندهم عاطفة (ويقولون) في موضع الحال من الراسخين لا منهم ومن الله لأن الله سبحانه لا يقول ذلك، وقيل: لا يعلمون فالواو عندهم للاستيناف والراسخون مبتدأ وخبره يقولون وكلا الوجهين محتمل وإنما يعتضد أحدهما بمرجح لا يبلغ القطع وكاد أن يكون علم الراسخين بالمتشابه من المتشابه انتهى.

وقال: المازري: والأول أصح لأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى الخلق بما لا يعرفونه وقد اتفق أصحابنا وغيرهم على أنه يستحيل أن يتكلم الله سبحانه بما لا يفيد. هذا كلامه.

قوله (والذين يعلمون إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم الله) الموصول مع صلته مبتدأ والشرط مع جوابه خبر وجعل قوله فأجابهم خبرا باعتبار تضمن المبتدأ معنى الشرط يوجب خلو الشرط عن الجزاء، والتقدير خلاف الأصل مع عدم الحاجة إليه، وفي بعض النسخ «فيه» بدل «فيهم» وهو الأظهر، وأجاب بمعنى قبل، ومن أسمائه تعالى المجيب وهو الذي يقابل الدعاء والسؤال والقول والعمل بالقبول ولعل المقصود أن الذين يعلمون تأويل المتشابه إذا قال العالم في تأويله أو فيما بين الناس بعلم ويقين: آمنا به، فأجابهم الله تعالى وقبل قولهم ومدحهم بقوله (يقولون آمنا به) أي بالمتشابه. كل من المتشابه والمحكم من عند ربنا لحكمة مقتضية لهما، وفيه مدح لهم بالعلم بالتأويل الحق والتصديق به، وفي أكثر النسخ المعتبرة (والذين لا يعلمون) قال الفاضل الأمين

ص:278

الأسترآبادي (يقولون آمنا به) خبر لقوله (والذين لا يعلمون تأويله) وهذا جواب علمهم الله تعالى ليأتوا بهذا الجواب إذا سمعوا من العالم تأويلا بعيدا عن أذهانهم ثم أشار إلى التعميم بعد التخصيص بقوله: «والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ فالراسخون في العلم يعلمونه» فوجب الرجوع في جميع ذلك إلى الراسخين في العلم وفي كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي عن الرضا (عليه السلام) قال: «قال الله جل جلاله: ما آمن بي من فسر برأيه كلامي، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من استعمل القياس في ديني». وقال (عليه السلام): «من رد متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال: إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا يتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.

ص:279

باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم

* الأصل:

1 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في هذه الآية: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) فأومأ بيده إلى صدره.

* الشرح:

قوله (قال أبو جعفر (عليه السلام) هذه الآية) «هذه الآية» مقول قال، وحاصله قرأها.

* الأصل:

3 - (وعنه، عن محمد بن علي، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) [في] هذه الآية: (بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم).... ثم قال: أما والله يا أبا محمد ما قال بين دفتي المصحف؟ قلت: من هم جعلت فداك؟ قال: من عسى أن يكونوا غيرنا.

* الشرح:

قوله: (ثم قال: أما والله يا أبا محمد ما قال بين دفتي المصحف) «ما» نافية يعني ما قال (بينات) أي: واضحات بين دفتي المصحف لأنه خفي غير واضح بينهما بل قال: بينات في صدور الذين أوتوا العلم وإنما أتى بحرف التنبيه والقسم مع أنه واضح للتنبيه على فائدة ذلك وترويج مضمونه لئلا يغفل المخاطب عنه.

قوله: (قال: من عسى أن يكونوا غيرنا) هذا من باب الإنكار يعني أنهم نحن لا غيرنا.

ص:280

باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عيسى، عن عبد المؤمن عن سالم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) قال:

السابق بالخيرات الامام، والمقتصد: العارف للامام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الامام.

* الشرح

قوله: (ثم أورثنا الكتاب) المورث: هو النبي (صلى الله عليه وآله) بأمره تعالى فنسب الفعل إليه مجازا.

قوله (فمنهم ظالم لنفسه) لخروجه عن الدين والعمل بالكتاب ولا ظلم أعظم منه وإنما قدمه لأنه أكثر.

قوله (ومنهم مقتصد) الاقتصاد هو التوسط في الأمور كالإقرار بالإمام المتوسط بين إنكاره والغلو فيه والتوسط في العمل بين تركه بالكلية وبين الإتيان بجميع الخيرات وعلى هذا القياس.

قوله (بإذن الله) أي بأمر الله وتوفيقه.

قوله (والسابق بالخيرات الإمام) لأن له قدرة نفسانية وقوة روحانية وشدة جسمانية يقتدر بها على فعل جميع الخيرات ولا يترك شيئا منها كما قال سبحانه (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) وقال بعض المفسرين: السابق هو الذي رجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة، والأول هو الحق الذي لا ريب فيه.

قوله (والمقتصد العارف بالإمام) أي العارف بحقه المسلم لفضله وهو مقتصد لإقراره بما هو أصل لجميع الخيرات وإن لم يأت بجميعها ويرجع إليه تفسيره بالمتعلم وتفسيره بأنه الذي خلط العمل الصالح بالسيء، وفي بعض النسخ «العارف بالأمر».

قوله (والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام) إذ لا خير فيه بعد إنكار الأصل ويرجع إليه تفسيره بالجاهل.

* الأصل:

2 - الحسين، عن المعلى، عن الوشاء، عن عبد الكريم، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد

ص:281

الله (عليه السلام) قال: سألته عن قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فقال: أي شي تقولون أنتم؟ قلت: نقول: إنها في الفاطميين؟ قال: ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من أشار بسيفه ودعا الناس إلى خلاف، فقلت: فأي شيء الظالم لنفسه؟ قال: الجالس في بيته لا يعرف حق الإمام، والمقتصد، العارف بحق الإمام، والسابق بالخيرات الإمام.

* الشرح:

قوله: (فقال: أي شيء تقولون أنتم) الخطاب لسليمان بن خالد ومن يحذو حذوه ممن يعتقد أن كل من خرج من أولاد فاطمة (عليهما السلام) بالسيف فهو إمام مفترض الطاعة. قال العلامة: خرج سليمان بن خالد مع زيد فقطعت أصبعه ولم يخرج من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) غيره وكان الذي قطع يده يوسف بن عمر بنفسه، وفي كتاب سعد أنه تاب من ذلك ورجع إلى الحق قبل موته ورضي أبو عبد الله عنه بعد سخطه وتوجع بموته وكان قاريا فقيها وجها، روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام) وقال النجاشي: هو ثقة مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) فتوجع لفقده ودعا لولده وأوصى بهم أصحابه وله كتاب عنه عبد الله بن مسكان.

قوله (قال: ليس حيث تذهب) من أنها نزلت في الفاطميين على الإطلاق وقوله «ليس يدخل» بمنزلة التعليل لذلك فكأنه قال: لو كانت في الكاظميين على الإطلاق لزم أن يدخل في هذا من أولاد فاطمة كل من أشار بسيفه ودعا الناس إلى ضلال أو خلاف للحق على اختلاف النسختين واللازم باطل قطعا فالملزوم مثله، بل هي نزلت فيمن دعا الناس إلى الله تعالى وإلى دين الحق بأمر الله تعالى وهو علي (عليه السلام) وبعض أولاد فاطمة (عليها السلام).

قوله (فأي شيء الظالم لنفسه) يعني إلى آخره، وحينئذ الجواب بجميع أجزائه منطبق على السؤال.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك، يؤمنون به) قال:

هم الأئمة (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (حق تلاوته) المراد تلاوته مع ضبط جواهر كلماته و حروفه وكيفياته وحفظ معانيه

ص:282

الظاهرة والباطنة كلها وهذا ليس إلا في وسع الأئمة (عليه السلام) إذ لا يعلم غيرهم معاني القرآن كلها باتفاق الامة.

باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان: إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: لما نزلت هذه الآية: (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم) قال المسلمون: يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي، يقومون في الناس فيكذبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو منى ومعي وسليقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء.

* الشرح:

قوله (فيكذبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال) دل على ذلك أيضا ما رواه مسلم بإسناده عن رسول الله (عليه السلام) «قال إنها ستكون بعدي أثرة وامور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم و تسألون الله الذي لكم».

قال أبو عبد الله الآبي: الأثرة بفتح الهمزة والثاء وكسرهما وإسكان الثاء: حكى اللغات الثلاث في المشارق وهو الاستيثار والاختصاص بامور الدنيا، وقال القرطبي: أي استيثار بمال الله تعالى ومال المسلمين يعني إيثار بعضهم دون بعض أو استيثار بالخلافة والعهد أو يعني بالإثرة: الشدة.

وقال المازري: قد وقع جميع ما في الحديث ففيه معجزة ظاهرة عظيمة (1). وقال الآبي: قوله

ص:283


1- 1 - «ففيه معجزة ظاهرة عظيمة» وفيه دليل على عدم رضا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله). بعملهم: وأمارتهم ولا يفيد معه رضا الناس وبيعتهم لأن الذي لا يرضى به الله تعالى فهو باطل. وفيه أمر بالتقية منهم كما هو مذهب الشيعة لأن إطاعتهم ليست واجبة شرعا بل هي ضرورة تقدر بقدرها ولو كانت واجبة بالأصالة لم يكن وجه لأن يسأل الله تعالى كشف ما نزل والتوسل إليه تعالى للحقوق التي منعوها ولم يوصف الحكام بأنهم دعاة إلى أبواب جهنم ولم يكن وجه لقوله (صلى الله عليه وآله) فاصبروا حتى تلقوني على الحوض لأن الإطاعة الواجبة بالأصالة لا يقال فيها هذا القول، فإن قيل: كيف رضى علماؤهم وخلفاؤهم بنقل هذه الأحاديث ترغيب الناس في الإطاعة؟ قلنا: كان شأنهم شأن ولاة الدنيا ولم يكن غرضهم إلا الإطاعة الظاهرية وحفظ حشمة الملك وتنفيذ الأمر سواء رضى الناس أو كرهوا وكان هذا المقدار من الطاعة كافيا لهم في غرضهم فلم يبالوا بنقل الأحاديث فيه فإن أطاع الناس تقية أو اعتقادا حصل غرضهم وإنما جاء المتكلمون بعد ذلك وأرادوا تصحيح خلافتهم اعتقادا فوقعوا في التكلفات العجيبة والتوجيهات الغريبة لمثل هذه الأحاديث بحث تأبى عنه الطبع السليم. (ش)

«تؤدون الحق الذي عليكم» نص على لزوم الطاعة والضراعة إلى الله تعالى في كشف ما نزل. وما رواه أيضا عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «ستلقونه بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وما رواه عن سلمة بن يزيد الجعفي «أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال:

اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم حملتم» وما رواه عن حذيفة ابن اليمان قال: «قلت:

يا رسول الله إنا كنا بشر فجاءنا الله بخير فنحن فيه فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم قلت: هل وراء ذلك الخير شر» قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بعدي بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع وأطع» وفي رواية اخرى له «هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وهم دعاة إلى أبواب جهنم» وله روايات متكثرة في هذا الباب تركناها خوفا للإطناب (1) أقول: الشر الأول: خلافة الثلاثة، والخير بعده خلافة علي (عليه السلام) والشر بعده خلافة معاوية وبني امية وبني عباس وهلم جرا إلى قيام الحجة (عليه السلام). والمراد بالامراء: الشيوخ الثلاثة وأضرابهم والدليل عليه سبعة أحاديث رواها مسلم في كتاب الصلاة منها ما رواه بإسناده عن أبي ذر قال قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كيف أنت إذا كان عليك امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ قال:

قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركت معهم فصل فإنها لك نافلة» ومنها ما رواه بإسناده آخر عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر إنه سيكون بعدي امراء يميتون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وإلا فقد أحرزت صلواتك» ومنها ما رواه بإسناد آخر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضرب فخذي: «كيف أنت إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت:

فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك فإن اقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل» ووجه الدلالة أن هؤلاء الامراء ليسوا معاوية ومن بعده من الشياطين فإن أباذر لم يدرك زمان

ص:284


1- 1 - جميع هذه الأخبار في صحيح مسلم أوائل كتاب الولاية.

خلافتهم فتعين أن يكونوا الخلفاء الثلاثة وللعامة في تفسير هذه الأحاديث كلمات واهية ومزخرفات باطلة لا يليق المقام ذكرها قوله (فهو مني) أي من حزبي وأعواني ومعي في الدنيا والآخرة، وسيلقاني يوم القيامة عند اشتغال الناس بأعمالهم.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، ومحمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عزوجل إمامان قال الله تبارك وتعالى، (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم. قال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي حكمنا بذلك حيث إنهم يتبعون أهواءهم وسلبنا عنهم اللطف والتوفيق ولم نمنعهم عن أعمالهم جبرا ويدخل فيم سلاطين الجور وقضاته وكل من سن بدعة.

ص:285

باب[أن القرآن يهدي للإمام]

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قوله عز وجل (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم) قال: إنما عنى بذلك الأئمة (عليه السلام) بهم عقد الله عز وجل أيمانكم.

* الشرح:

قوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك) يعني ولكل ميت جعلنا موالي أي وراثا يرثونه مما تركه فقوله «من» صلة للموالي باعتبار أنهم الوارثون، وفاعل ترك ضمير يعود إلى «كل» وقوله (الوالدان والأقربون) وما عطف عليهما وهو قوله (والذين عقدت أيمانكم) استيناف مفسر للموالي والأقربون يتناول الأولاد كما أن الوالدين يتناول الأجداد والجدات أيضا وقوله (عليه السلام) «إنما عنى بذلك» أي بقوله (والذين عقدت أيمانكم) الأئمة (عليه السلام) بهم عقد الله تعالى أيمانكم يعني بيعتكم وعهدكم في الميثاق وصريح في أن الإمام وارث لمن مات من هذه الامة إلا أنه وارث من لا وارث له، هذا الذي ذكره (عليه السلام) أولى مما قيل من أن المراد بذلك ضامن الجريرة أو الأزواج على أن المراد بالعقد عقد النكاح لأنه أعلم بالكتاب وما هو المراد منه. والحديث صحيح.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن موسى بن أكيل النميري، عن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) قال: يهدي إلى الإمام.

* الشرح:

قوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) أي يهدي العباد إلى الطريق التي هي أقوم الطريق وهو الإمام إذ هو أصل لجميع الخيرات وأقوم من كل ما يتقرب به العبد به إلى الله تعالى، والقرآن يهدي إليه في مواضع عديدة.

ص:286

باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن بسطام بن مرة، عن إسحاق بن حسان عن الهيثم بن واقد، عن علي بن الحسين العبدي، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما بال أقوام غيروا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعدلوا عن وصيه؟ لا يتخوفون أن ينزل بهم العذاب، ثم تلا هذه الآية (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم) ثم قال: نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (ثم قال نحن النعمة) إطلاق النعمة على الإمام من باب الحقيقة لأن النعمة ما أنعم الله به عليك وأفضله الإمام (عليه السلام).

ص:287

باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)

اشاره:

والسبيل فيهم مقيم

* الأصل:

1 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن ابن أبي عمير قال: أخبرني أسباط بياع الزطي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله رجل عن قول الله عز وجل: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم) قال: فقال: نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم.

* الشرح:

قوله: (الزطي) في الصحاح الزط جيل من الناس الواحد الزطي مثل الزنج والزنجي والروم والرومي، وفي المغرب الزط جيل من الهند إليهم ينسب الثياب الزطية وفي النهاية الأثيرية جنس من السودان والهنود.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن يحيى بن إبراهيم قال: حدثني أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل هيت فقال له: أصلحك الله ما تقول في قول الله عز وجل (إن في ذلك لآيات للمتوسمين؟) قال: نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم.

* الشرح:

قوله (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) أي أن في ذلك المذكور في الصيحة على قوم لوط وجعل عالي مدينتهم سافلها وإمطار الحجارة عليهم لآيات للمتوسمين أي الذين يتوسمون الأشياء ويتفرسون في حقايقها وأسبابها وآثارها ويتفكرون في مباديها وعواقبها ويثبتون في النظر إليها حتى يعرفوها بسماتها كما ينبغي.

قوله (وإنها لبسبيل مقيم) تفسيره على ما فسره (عليه السلام) أن تلك القصة وكيفيتها وكيفية حدوثها وأسبابها وآثارها ووخامة عاقبتها لمع سبيل مقيم ثابت دائم لا يندرس ولا يبطل إلى يوم القيامة، وذلك السبيل هو الإمامة الثابتة لعترة الرسول، وليس المراد به سبيل قرية المعذبين وآثارها لأنها غير ثابتة لعترة الرسول، وليس المراد به سبيل قرية المعذبين وآثارها لأنها غير ثابتة أبدا.

ص:288

قوله «والسبيل فينا مقيم» أي السبيل وهو الإمامة لأنها سبيل الحق وطريق الجنة مقيم ثابت فينا أهل البيت لا يزول ولا يندرس أبدا، أشار بذلك إلى أن المراد بالسبيل الإمام والإمامة، لا سبيل القرية كما هو المشهور بينهم.

قوله (من أهل هيت) هيت بالكسر: اسم بلد على الفرات.

* الأصل:

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) قال:

هم الأئمة (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل» في قول الله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين).

* الشرح:

قوله (قال رسول الله اتقوا فراسة المؤمن) الجار وهو في قول الله عز وجل متعلق بقال أي: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تأويل قول الله عز وجل (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى. الفراسة بالكسر: اسم من قولك تفرست فيه خيرا وهو يتفرس أي: يتثبت وينظر، والنور: العلم أو حالة نفسانية بها يتميز الخير عن الشر والجيد عن الردي والإضافة إليه تعالى باعتبار أنه المفيض وهذا القول رواه العامة أيضا، قال ابن الأثير في النهاية: وهو يقال لمعنيين:

أحدهما: ما دل ظاهره وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: نوع يتعلم بالدلايل والتجارب والخلق والأخلاق فيعرف به أحوال الناس وللناس فيه تصانيف قديمة وحديثة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) فقال، هم الأئمة (عليهم السلام) (وإنها لبسبيل مقيم) قال: لا يخرج منا أبدا.

* الشرح:

قوله (لا يخرج منا أبدا) أي السبيل لا يخرج منا أهل البيت بل هو ثابت باق دائما.

* الأصل:

ص:289

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن أسلم، عن إبراهيم بن أيوب عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) المتوسم وأنا من بعده والأئمة من ذريتي، المتوسمون. وفي نسخة: عن أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن أسلم، عن إبراهيم بن أيوب باسناده مثله.

* الشرح:

قوله (وفي نسخة أخرى) دل على أنه نقل الحديث من كتاب محمد بن يحيى، وقد مر أنه يجوز، ونقل الحديث من كتب الشيوخ المشهورين إذا كان انتسابها إليهم معلوما.

ص:290

باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تعرض الأعمال على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها، وهو قول الله تعالى: (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وسكت.

* الشرح:

قوله (تعرض الأعمال على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) ظاهر أحاديث هذا الباب أن أعمال كل أحد تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مفصله في كل يوم وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن تعرض عليه أعمال اليوم والليلة معا وقت الصبح ويشعر به هذا الخبر، وثانيهما: أن تعرض أعمال الليل في الصباح وأعمال النهار في المساء لأنهما وقتان لرفع الأعمال ويشعر به خبر عبد الله بن أبان الزيات عن الرضا (عليه السلام) وهذه الأخبار لا تنافي ما رواه عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يوم الخميس تعرض فيه الأعمال» لاحتمال أن يقع عرض أعمال الأسبوع مرة في الخميس هذا، وقال بعض العامة: إن الأعمال تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عرضا مجملا كأن يقال عملت أمتك خيرا أو أنها تعرض دون تعيين عاملها.

قوله (أبرارها وفجارها) الظاهر أنه بيان للأعمال وضمير التأنيث راجع إليها والإضافة بيانية، والأبرار جمع البر بالكسر: كالأجلاف جمع الجلف والبر كثيرا ما يطلق على الأولياء والزهاد والعباد، وقد يطلق على الطاعة والعبادة والأعمال الصالحة لأنها تحسن إلى صاحبها وتتسبب لتقر به إلى الله تعالى وهذا هو المراد هنا، والفجار جمع الفاجر: وهو المرتكب للمعاصي، وقد يطلق على المعصية والأعمال القبيحة من باب تسمية الحال باسم المحل وهذا أيضا هو المراد هنا.

قوله (فاحذروها) ضمير التأنيث راجع إلى الفجار التي هي عبارة عن الأعمال القبيحة أو إلى الأعمال باعتبار نوعها المنهي عنه.

* الأصل:

ص:291

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي - عبد الله (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: ما لكم تسوؤن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال رجل: كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك فلا تسوؤا رسول الله وسروه.

* الشرح:

قوله (فإذا رأى فيها معصية ساءه) شفقة على أمته ومشاهدة لمخالفته ومخالفة ربه.

* الأصل:

4 - علي، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن الزيات، عن عبد الله بن - أبان الزيات وكان مكينا عند الرضا (عليه السلام) قال: قلت: للرضا (عليه السلام): ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة، قال: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرء كتاب الله عز وجل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؟ قال: هو والله علي ابن أبي طالب (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (وكان مكينا) أي ذا مكانة علية ومنزلة رفيعة.

ص:292

باب أن الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية علي (عليه السلام)

* الأصل:

1 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، موسى بن محمد، عن يونس ابن يعقوب، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) قال: يعني لو استقاموا على ولاية علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) والأوصياء من ولده (عليهم السلام) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم (لأسقيناهم ماء غدقا) يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة: هي الإيمان بولاية علي والأوصياء.

* الشرح:

قوله: (عن موسى بن محمد عن يونس بن يعقوب) هكذا في أكثر النسخ المعتبرة وهو الصحيح الموافق لما مر في باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل هم الأئمة. ولما سيجيء في باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية. وفي بعضها عن موسى بن محمد عن يونس بن محمد عن يونس بن يعقوب» والظاهر أنه زائد وقع سهوا من الناسخ.

قوله (يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان) إطلاق ا لماء على الإيمان من باب الاستعارة لاشتراكهما في معنى الاحياء إذ الإيمان سبب لحياة القلوب سيما الكامل منه وهو المقارن للطاعة في الأوامر النواهي كما أن الماء سبب لحياة الأرض ونضارتها.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب عن الحسين ابن عثمان، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل:

(الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): استقاموا على الأئمة واحد بعد واحد (تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).

* الشرح:

قوله: (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): استقاموا) تفسير الآية على ما ذكره (عليه السلام) (إن الذين قالوا ربنا الله) إقرار بتوحيده وربوبيته (ثم استقاموا) على الإقرار بالأئمة ومتابعتهم واحدا بعد واحد، والعطف

ص:293

بثم للدلالة على تراخي هذا عن ذاك وتوقفه عليه (تتنزل عليهم الملائكة) عند الاحتضار وعند الخروج من القبر وفي البرزخ أيضا (أن لا تخافوا) من لحوق المكروه (ولا تحزنوا) من فوات المحبوب لما بكم من أصل جميع الخيرات (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) في الدنيا على لسان الرسول والإبشار يجيء متعديا ولازما ونقول: أبشرت الرجل إبشارا إذا أخبرته بما يوجب سروره و بشرته بخير فأبشر إبشارا أي: سر والأخير هو المراد هنا.

ص:294

باب ان الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة

* الأصل:

1 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن غير واحد، عن حماد بن عيسى، عن ربعي ابن عبد الله عن أبي الجارود قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ما ينقم الناس منا. فنحن والله شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم، ومختلف الملائكة.

* الشرح:

قوله: (ما ينقم الناس منا) يقال: نقم منه وعليه نقما من باب ضرب إذا عابه وكرهه وأنكر عليها ونقم بالكسر لغة. و «ما» للنفي أو للاستفهام على سبيل الإنكار.

قوله (فنحن والله شجرة النبوة) فيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه النبوة بالبستان في كثرة النفع وحسن النضارة ورغبة الطبع وإثبات الشجرة لها. وهم (عليهم السلام) شجرتها المظللة المثمرة إذ منهم يقتطف أثمار المسائل الإلهية والقوانين الشرعية كل عالم، وبظلهم يستظل ويستريح من حر الشدايد الدنيوية والأخروية كل سالك. وحمل الشجرة عليهم من باب حمل المشبه به على المشبه للمبالغة في التشبيه.

قوله (وبيت الرحمة) الرحمة: الرقة والتعطف والشفقة على خلق الله وهذه الأمور على وجه الكمال إنما هي فيهم فكأنهم بيت جعله الله تعالى مخزنا لها، ويحتمل أن يراد بالرحمة الرحمة الإلهية وهي الإحسان والإفضال والإنعام وهم (عليهم السلام) محل لها ووسط لوصولها إلى سائر الخلق وحمل الرحمة على النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه رحمة للعالمين، والبيت على عياله. أو على أهل بيته بحذف المضاف بعيد جدا.

قوله: (ومعدن العلم) لإقامة العلم ورسوخه فيهم ووصوله منهم إلى الخلائق كما في سائر المعدنيات.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله ابن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنا - أهل البيت - شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم.

ص:295

الشرح:

قوله: (ومختلف الملائكة) لنزولها إليهم مرة بعد مرة وطائفة بعد أخرى لزيارتهم والتشرف بهم ولإخبارهم بما يوجد في هذا العالم وفي عالم الغيب من الحوادث وغيرها.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد عن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن محمد، عن الخشاب قال: حدثنا بعض أصحابنا عن خيثمة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا خيثمة نحن شجرة النبوة وبيت الرحمة ومفاتيح الحكمة ومعدن العلم وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سر الله، ونحن وديعة الله في عباده، ونحن حرم الله الأكبر، ونحن ذمة الله، ونحن عهد الله، فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده.

* الشرح:

قوله: (وموضع الرسالة) إذ رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) وتبليغه إلى الأمة إلى يوم القيامة استقرت فيهم بأمر الله تعالى لما بهم من شرف الذات وكرم الأخلاق وصفاء النفس وذكاء العقل، فاختصوا بتلك النعمة الجزيلة وهي نعمة الرسالة وما تستلزمه من الشرف والفضل حتى كان الناس عيالا لهم إذ كانت آثار تلك النعمة إنما وصلت إلى الناس بوساطتهم ولولاهم لجهل الناس دينهم وشرائع نبيهم ورجعوا إلى ما كانوا في الجاهلية.

قوله (عن خيثمة) قال صاحب الإيضاح: الخيثمة بالخاء المفتوحة المعجمة والياء المنقطة تحتها نقطتين الساكنة والثاء المنقطة فوقها ثلاث نقط والميم والهاء لا نعرف بغير هذا. انتهى وهو هنا مشترك بين جماعة مجهولين.

قوله: (ومفاتيح الحكمة) لأن انتشارها فيما بين الخلق وانتقالها من خزائنها وهي المبادي العالية والقلوب الطاهرة إليهم إنما هو بحسن بيانهم وفصاحة لسانهم فكما أن الجواهر المخزونة في البيت المقفل لا تظهر ولا تخرج منه بدون المفتاح كذلك الحكمة المخزنة في مخزنها لا تظهر ولا تخرج بدون بيانهم فوقع التشابه بينهم وبين المفتاح بهذا الاعتبار.

قوله: (وموضع سر الله) السر واحد الأسرار: وهو ما يكتم ولعل المراد بسر الله ما أظهره الله تعالى على الأنبياء والأوصياء من العلوم والحقائق وأخفاه عن غيرهم لعدم قدرتهم على معرفة ذلك وعدم اتساع قلوبهم لتحمله ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على

ص:296

قدر عقولهم».

والأوصياء في ذلك مثل الأنبياء. ويحتمل أن يراد بسر الله شرائعه لأنها أسرار الله التي كانت مكتومة فأوحاها جل شأنه إلى نبيه وألقاها النبى (صلى الله عليه وآله) إلى أوصيائه (عليهم السلام) ووضعها عندهم.

قوله: (ونحن وديعة الله في عباده) الوديعة: ما تدفعه من المال إلى أحد ليصونه ويحفظه وهم (عليهم السلام) وديعة الله تعالى في عباده على سبيل التشبيه فيجب على العباد حفظهم ورعايتهم وعدم التقصير في حقهم كما يجب ذلك على المستودع وكما أن المستودع يستحق العقوبة والمؤاخذة والاعتراض بالتقصير في الوديعة كذلك العباد يستحقونها بالتقصير في حقهم.

قوله (ونحن حرم الله الأكبر) مادة هذا اللفظ في جميع عباراته تدل على المنع مثل الحرام والتحريم والإحرام والحرمة والحريم والحرم والمحروم وغيرها، وكل ما جعل الله تعالى له حرمة لا يحل إنتهاكه ومنع من كسر تعظيمه وعزه وزجر عن فعله وتركه كأولياء الله وملائكة الله ومكة الله ودين الله وغير ذلك فهو حرم الله الذي وجب على الخلق تعظيمه وعدم هتك عزته وحرمته الأكبر والأشرف والأعظم من الجميع هم الأئمة القائمون مقام النبي كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) أكبر من الجميع.

قوله (ونحن ذمة الله) الذمة والذمام بمعنى العهد والضمان والأمان والحرمة والحق، وهم (عليهم السلام) حق الله الذي وجب رعايته على عباده وحرمته التي لا يجوز انتهاكها، وأمانه في عباده وعده عليهم إذ أخذ الله تعالى عهدا من العباد بحفظهم وكالتهم.

قوله (ونحن عهد الله) الذي أمر بالوفاء به ووعد بالثواب عليه بقوله (أوفوا بعهدي أوف بعدكم) والمراد بالعهد: عقد الإمامة لهم في الميثاق أو عقد الربوبية والحمل حينئذ للمبالغة حيث أن قبولهم مستلزم لقبوله وردهم مستلزم لرده فكأنهم نفسه.

قوله (ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده) لم يجئ في المغرب والنهاية والصحاح أن الخفر والتخفير بمعنى نقض الذمة والعهد وإنما جاء فيها أن الإخفار بمعناه وأن الخفر بمعنى الوفاء بها، قال في المغرب: خفر بالعهد: وفي به خفارة من باب ضرب وأخفره نقضه إخفارا والهمزة للسلب.

وقال في النهاية: خفرت الرجل اجرته وحفظته، وخفرته إذا كنت له خفيرا أي حاميا وكفيلا وتخفرت به: إذا استجرت به، والخفارة بالكسر والضم: الذمام، وأخفرت إذا نقضت عهده وذمامه والهمزة فيه للإزالة أي أزلت خفارته كأشكيته إذا أزلت شكايته. وقال في الصحاح مثل هذا: ولعل المعنى: من وفى بذمتنا فقد وفى بذمة الله فهذا متعلق بقوله نحن ذمة الله.

وقوله: «فمن وفى بعهدنا» متعلق بقوله «نحن عهد الله» وقد عرفت من تفسير هذين القولين أن الذمة والعهد متغايران هنا وإنما قلنا: لعل لأنه نقل عن القاموس ولم يكن موجودا عندي أنه يقال:

ص:297

خفر بعهده خفرا وخفورا نقضه وغدره كأخفره. ولو صح هذا النقل فالمعنى من نقض ذمتنا فقد نقض ذمة الله وعهده.

باب أن الأئمة (عليهم السلام) ورثة العلم، يرث بعضهم بعضا العلم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عليا (عليه السلام) كان عالما والعلم يتوارث ولن يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم علمه أو ما شاء الله.

* الشرح:

قول المصنف: يرث بعضهم بعضا العلم» في بعض النسخ «يورث» وقيل هكذا أيضا بخط الشهيد الثاني (رحمه الله).

قوله: (إن عليا (عليه السلام) كان عالما) قد علم (عليه السلام) ما في عالم الأمر وهو عالم الملائكة الروحانية المجردة وما في عالم الخلق وهو عالم الجسمانيات وقد قال (عليه السلام) «والله لو شئت أن اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت» والسبب هو أن نفسه المقدسة لكمال نورانيتها وعدم تعلقها بالعلائق الجسمانية وغيرها اتصلت بالحضرة الإلهية اتصالا تاما فأفيضت عليها صورة الحقائق الكلية والجزئية وصارت بحيث كانت مشاهدة لها كالمبصرات الحاضرة عند البصر.

قوله: «والعلم يتوارث» لأن بناء نظام الخلق على أمرين: ثانيهما متوقف على الأول أحدهما:

العلم وهو من الله تعالى، وثانيهما: العمل وهو من الخلق، فلو لم يتوارث العلم وذهب العالم بعلمه بقي الخلق جاهلين لمراشدهم ومصالحهم و طريق أعمالهم فبطل أيضا وفسد النظام ولا حجة لله تعالى على الخلق حينئذ بعد العالم بل الحجة لهم على الله فاقتضت الحكمة البالغة توارث العلم وبقاء عالم بعد عالم لئلا يكون لهم حجة على الله.

قوله: «من يعلم علمه» مع عدم زوال علم الأول عنه.

قوله: (أو ما شاء الله) عطف على علمه يعني أن الباقي يعلم جميع علم الهالك قبل هلاكه أو ما شاء الله أن يعلمه قبله فإنه قد يعلم بعض علمه قبله وبعضه بعده لحديث الملك إياه أو لشرافة ذاته وصفاء قلبه أو لمناسبة كاملة روحانية بينهما، كما هو المروي من حال علي (عليه السلام) أنه فتح له بعد

ص:298

تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم وفتح من كل باب ألف باب ومن شأن الأئمة الطاهرين أنهم يزدادون في كل ليلة الجمعة علما، وأنهم محدثون يخبرهم الملك بما شاء الله من العلوم والأسرار، كل ذلك للدلالة على كمال ذاتهما القابلة للفيض آنا فآنا والخطاب مع الملك حينا فحينا بخلاف بعض السابقين من الأوصياء فإنه لما لم يكن لهم تلك المنزلة الرفيعة ولم يكن كلهم محدثين علموا علم نبيهم أجمع قبل هلاكه، والله أعمل بحقيقة الحال.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة والفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع و العلم يتوارث. وكان علي (عليه السلام) عالم هذه الامة وإنه لم يهلك منا عالم قط إلا خلفه من أهله من علم مثل علمه أو ما شاء الله.

* الشرح:

قوله: (لم يرفع) أي لم يرفع عن الخلق بموت آدم (عليه السلام) لئلا يقعوا في الحيرة ولا يبطل الغرض من إيجادهم.

قوله: (وأنه لم يهلك منا عالم قط إلا خلفه) قط بتشديد الطاء وضمها إما مع فتح القاف أو ضمها أو بتخفيفها وضمها كذلك: ومعناها الزمان وخلف فلان فلانا من باب نصر إذا جاء خلفه أوصار خليفته وقام مقامه وإنما قال: من علم مثل علمه لاستحالة أن يعلم عين علمه لأن العلوم الحاصلة للأول غير منتقل عنه إلى الآخر وإنما الحاصل للآخر علم مماثل لعلم الأول.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن عبد الحميد الطائي، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) إن العلم يتوارث ولا يموت عالم إلا وترك من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله.

* الشرح:

قوله (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد) قال الفاضل الأسترآبادي: هذا الحديث في هذا الموضع ليس في بعض النسخ التي رأيناها وسيأتي في آخر هذا الباب و هو الصواب.

* الأصل:

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن موسى بن بكر، عن الفضيل

ص:299

ابن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن في علي (عليه السلام) سنة ألف نبي من الأنبياء، و إن العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع، وما مات عالم فذهب علمه، والعلم يتوارث.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر ابن أبان قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن العلم الذي نزل مع آدم (عليه السلام) لم يرفع، وما مات عالم فذهب علمه.

* الشرح:

قول (إن في علي سنة ألف نبي من الأنبياء) هذا لا ينافي ما سيجيء من أن فيه سنة محمد (صلى الله عليه وآله) كلها بعد ما قال: إن له (صلى الله عليه وآله) سنن جميع النبيين لأن مفهوم اللقب ليس بحجة كما قرر في موضعه على أنه يمكن أن يراد هنا إفادة معنى الكثرة لا خصوص هذا العدد.

* الأصل:

6 - محمد، عن أحمد، عن علي بن النعمان رفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: أبو جعفر (عليه السلام):

يمصون الثماد ويدعون النهر العظيم، قيل له، وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعلم الذي أعطاء الله، إن الله عز وجل جمع لمحمد (صلى الله عليه وآله) سنن النبيين من آدم وهلم جرا إلى محمد (صلى الله عليه وآله) قيل له:

ما تلك السنن؟ قال: علم النبيين بأسره، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صير ذلك كله عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له رجل: يا ابن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): اسمعوا ما يقول؟!! إن الله يفتح مسامع من يشاء، إني حدثته: أن الله جمع لمحمد (صلى الله عليه وآله) علم النبيين وأنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيين.

* الشرح:

قوله (يمصون الثماد) الثمد ويحرك وككتاب: الماء القليل الذي لا مادة له أو ما يبقى في الجلد وهو الأرض الصلبة أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف، وفيه تمثيل حيث شبه الخلق في تركهم العلم الكثير الصافي والأخذ بالعلم القليل الذي لا مادة له وهو ينجر بالآخرة إلى الخلط بالشبهات والمفتريات بالعطاش الذين تركوا الماء الكثير الصافي والنهر العظيم الذي له مادة ومصوا الماء القليل الذي لا مادة له، ولا محالة ينتهي مصهم إلى شرب الماء المختلط بالطين البالغ إلى حد لا يسمى ماء.

قوله (وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صير ذلك كله عند أمير المؤمنين (عليه السلام) بعضه في حال حياته وبعضه بعد

ص:300

موته لما ثبت أنه علمه عند تغسيله علوما كثيرة، أو كله في حال حياته وبعضه بعد موته لما ثبت أنه علمه عند تغسيله علوما كثيرة، أو كله في حال حياته وما علمه بعد وموته كان من العلوم المختصة به (صلى الله عليه وآله) ولم يكن لسائر الأنبياء.

قوله (إن الله يفتح مسامع من يشاء) في الفائق المسامع: جمع مسمع وهو آلة السمع أو جمع السمع على غير قياس كمشابه وملامح في جمع شبه ولمحة.

باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد العزيز بن المهتدي، عن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا (عليه السلام): أما بعد فان محمد (صلى الله عليه وآله) كان أمين الله في خلقه فلما قبض (صلى الله عليه وآله) كنا أهل البيت ورثته، فنحن امناء الله في أرضه، عند نا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الاسلام غيرنا وغيرهم، نحن النجاة ونحن أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب الله عز وجل ونحن أولى الناس بكتاب الله ونحن أولى الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن الذين شرع الله لنا دينه فقال في كتابه: (شرع لكم (يا آل محمد) من الدين ما وصى به نوحا (قد وصانا بما وصى به نوحا) والذي أوحينا إليك (يا محمد) وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى (فقد علمنا وبلغنا علم ما علمنا واستودعنا علمهم، نحن ورثة أولي العزم من الرسل) أن أقيموا الدين (يا آل محمد) ولا تتفرقوا فيه (وكونوا على جماعة) كبر على المشركين (من أشرك بولاية علي) ما تدعوهم إليه (من ولاية علي) إن الله (يا محمد) يهدي إليه من ينيب) من يجيبك إلى ولاية علي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (عندنا علم البلايا) هذا بعض أنواع علومهم ولهم أنواع اخر مثل علم أسرار المبدأ والمعاد وأسرار القضاء والقدر وأحوال الجنة والنار ومراتب المقامات والدركات وعلم الأحكام والحدود إلى غير ذلك مما لا يعلم قدرها و كميتها وكيفيتها إلا العالم المحيط بالكل.

قوله (وأنساب العرب) صحيحها وفاسدها وإنما خص العرب بالذكر مع علمهم بأنساب

ص:301

الخلف كلهم لقربهم ولكونهم أشرف القبايل.

قوله (ومولد الاسلام) أي موضع تولده ومحل ظهوره فإنهم يعلمون من يظهر منه الإسلام ومن يظهر منه الكفر.

قوله (وإنا لنعرف الرجل) وذلك لأنهم لتقدس طينتهم وضياء عقولهم وصفاء نفوسهم وكمال بصيرتهم يعرفون حال كل نفس من النفوس البشرية خيرا كان أو شرا عند مشاهدتهم وينتقلون من الظاهر إلى الباطن ومن الباطن إلى الظاهر للتناسب بين الظاهر والباطن وتلك المناسبة قد تظهر لواحد من آحاد الناس إذا كان من أهل المعرفة الربانية والرياضة النفسانية فكيف لا تظهر للأئمة الطاهرين الذين هم أنوار روحانيون وعلماء ربانيون، وأيضا بين المؤمن الكامل وبينهم (عليهم السلام) مناسبة تامة حتى كأن جسمه من جسمهم وروحه من روحهم فبتلك المناسبة يعرفون حقيقة إيمانه، وبين المنافق وبينهم منافرة تامة وبتلك لمنافرة يعرفون حقيقة نفاقهم والإيمان عبارة عن التصديق بوجود الصانع وماله من صفات الكمال ونعوت الجلال والإقرار بصدق الرسول (صلى الله عليه وآله) وما جاء به، والنفاق: عبارة عن الإقرار باللسان مع الإنكار بالجنان أو مع تردده وحقيقتها يحتمل وجوها: الأول:

أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان المقرون بالعمل والنفاق الحقيقي هو عدم الإيمان أو الإيمان الذي ليس معه عمل. الثاني: أن المراد بالأول الإيمان الثابت المستقر في القلب البالغ حد الملكة، وبالثاني: الإيمان الغير الثابت و هو المتزلزل الذي في معرض التغير والزوال، والثالث: أن المراد بالأول: الإيمان الذي يكون على سبيل الإخلاص وبالثاني: ما لا يكون كذلك والله أعلم.

قوله (وإن شيعتنا لمكتوبون) أي في اللوح المحفوظ أو في مصحف فاطمة (عليها السلام) وهو الذي أخبرها جبرئيل (عليه السلام) بعد موت أبيها إلى زمان وفاتها وكتبه علي (عليه السلام) بيده أو في الجعفر والجامعة على احتمال بعيد بالنظر إلى تفسيرهما.

قوله (أخذ الله علينا وعليهم الميثاق) أخذ الله تعالى على كل من الفريقين عهدا على رعاية حقوق الآخر والحقان ما أشار إليهما أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه يقول: «أيها الناس إن لي عليكم حقا ولكم علي حق أما حقكم علي فالنصيحة وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم» (1) (عليه السلام) «وتوفر فيئكم عليكم» معناه توفيره بترك الظلم فيه وتفريقه في غير وجوه مما ليس بمصلحة لكم كما فعله من كان قبله.

ص:302


1- 1 - النهج قسم الخطب تحت رقم 34.

قوله (ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم) أريد بالإسلام الإيمان وقد كثر هذا الإطلاق في لسان الشرع، أو أريد به معناه المعروف وهو الإقرار بالله ورسوله لأن غيرهم غير مقرين بهما بحسب التحقيق كما مر سابقا.

قوله (يردون) أريد بالمورد: الدين الحق أو الحوض، وبالمدخل: الجنة أو مقام الشفاعة. (ونحن النجباء النجاة) في بعض النسخ «نحن» بدون العطف والنجباء بضم النون وفتح الجيم: جمع نجيب وهو كريم بين النجابة كذا في الصحاح، و قال ابن الأثير: النجيب: الفاضل من كل حيوان وقد نجب إذا كان فاضلا نفيسا و قال أيضا: النجيب الفاضل الكريم السخي. والنجاة بفتح النون: جمع ناج للتكسير، والناجي: هو الخالص من موجبات العقوبة والحرمان من الرحمة.

قوله (ونحن أفراط الأنبياء) الأفراط: جمع فرط كحجر و أحجار وهو الذي يتقدم الواردة فيهيى لهم الأرشاء والدلاء ويمدر الحياض ويستقي لهم وهو فعل بمعنى فاعل مثل تبع بمعنى تابع، ويقال: رجل فرط وقوم فرط أيضا وفي الحديث «أنا فرطكم على الحوض» ومنه قيل للطفل الميت «اللهم اجعله لنا فرطا» أي أجرا يتقد منا حتى نرد عليه.

قوله (ونحن المخصوصون) بالمدح أو القرابة أو الإمامة.

قوله (ونحن أولى الناس بكتاب الله) لنزوله في بيتنا ولعلمنا بحلاله حرامه وجميع ما فيه، و ليس هذا لأحد غيرنا.

قوله (ونحن أولى الناس برسول الله) بالقرابة والتعلم والصحبة المتكررة لأن ما لعلي (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله) من المصاحبة والقرابة اللتين لم تكونا لأحد من الصحابة مشهور لا ينكره أحد.

قوله (شرع لكم) أي بين و أوضح لكم (من الدين ما وصي به) أي أمر به وبحفظه وتبليغه (نوحا).

قوله (والذي أوحينا إليك) إنما لم يقل وصينا كما قال في غيره من اولي العزم للإشارة إلى تأكد عزمه حتى لا يحتاج إلى التوصية والمبالغة.

قوله (ونحن ورثة أولي العزم من الرسل) ورثة علمهم ودينهم وقد مر تفسير أولي العزم في باب طبقات الأنبياء ثم بين الوصية المذكورة بقوله تعالى (أن أقيموا الدين) والمراد به اصوله المشتركة بين الجمع مثل التوحيد والحشر وأحوال المعاد ونحوها بقرينة قوله «ولاتتفرقوا فيه» لأن فروع الشرايع مختلفة بحسب اختلاف الأزمنة والمصالح.

قوله (وكونوا على جماعة) وهم أولو العزم.

قوله (إن الله يا محمد يهدي إليه من

ص:303

ينيب) الآية هكذا (الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب) أي الله يختار من يشاء من عباده لهداية الخلق وإرشادهم، ويهدي إلى ما تدعوهم إليه من دين الحق من يجيبك إلى ولاية علي ويقر بها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم، وما من نبي مضى إلا وله وصى وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وعشرين ألف نبي، منهم خمسة أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) وإن علي بن أبي طالب كان هبة الله لمحمد وورث علم الأوصياء وعلم من كان قبله، أما إن محمد ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين، على قائمة العرش مكتوب: «حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء وفي ذوابة العرش على أمير المؤمنين»، فهذه حجتنا على من أنكر حقنا وجحد ميراثنا وما منعنا من الكلام وأمامنا اليقين فأي حجة تكون أبلغ من هذا.

* الشرح:

قوله (هبة الله ابن آدم) اسمه شيث.

قوله (وإن علي بن أبي طالب كان هبة الله لمحمد) لأن الله تعالى وهب له لاجراء أمره وإبلاغ شرعه.

قوله (وعلم من كان قبله) من الأنبياء (عليهم السلام) قوله (أما إن محمدا ورث) تأكيد لما تقدم وبيان له، والغرض منه أن عليا (عليه السلام) ورث علم الأنبياء والمرسلين لأنه ورث علم محمد (صلى الله عليه وآله) كله.

قوله (على قائمة العرش) القائمة واحدة قوائم الدابة والسرير ونحوهما.

قوله (وسيد الشهداء) بالإضافة إذ الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء كلهم من لدن آدم إلى قيام الساعة.

قوله (وفي ذوابة العرش) ا لدوابة بالضم: ما ارتفع من الشعر والمراد هنا المقبض من السرير الذي يقبضه الجالس في حال جلوسه وعينها في الأصل همزة ولكنها جاءت غير مهموزة كما جاء الذوايب جمعها على خلاف القياس للتخفيف وتوضيح ذلك في الصحاح، والمراد بالعرش إما معناه الظاهر إذ لا يبعد أن يكون لله تعالى عرش جسماني به يتعبد طائفة من خلفه كما أن له بيتا ومسجدا وإما على نحو من التخيل والتمثيل. والكتابة يؤيد الأول وإن كان لها على الثاني أيضا وجه

ص:304

صحيح.

قوله (فهذه حجتنا) قيل: وجه الحجية أن مثله مروي من طرقهم عنه (صلى الله عليه وآله).

قوله (وما منعنا من الكلام) لعل المراد به التكلم بالحق و «ما» للاستفهام على سبيل الإنكار.

قوله (وأمامنا اليقين) الواو للحال، واليقين: الموت أو القيامة لظهور الحق والباطل وبروز الكامنات حينئذ بحيث لا يبقى للمنكرين محل للإنكار.

قوله (فأي حجة يكون أبلغ من هذا) لأن كل حجة سواه إنما يدل على رضائه تعالى عنهم واختيارهم لإرشاد الخلق وهذا يدل على ذلك مع زيادة وهي تزيين العرش باسمهم وتبركه بها.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن عبد الله بن محمد، عن عبد الله بن القاسم، عن زرعة بن محمد، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إن سليمان ورث داود، وإن محمدا ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدا وإن هذا لهو العلم؟ قال: ليس هذا هو العلم، إن العلم الذي يحدث يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.

* الشرح:

قوله: (وإن عندنا علم التوراة) ليس هذا نتيجة للسابق بل تعميم بعد تخصيص.

قوله: (وتبيان ما في الألواح) أي بيانه مع علله وأسبابه وبراهينه، والمراد بالألواح: التورية والإنجيل والزبور بقرينة تقدم ذكرها، أو ألواح موسى كما يشعر به خبر ضريس، أو صحف إبراهيم وموسى كما يشعر به خبر أبي بصير أو الصحف السماوية كما يشعر به التعريف باللام.

قوله: (ليس هذا هو العلم) نفي للحصر المستفاد من كلام السائل المشتمل على التأكيد له من وجوه شتى أو نفي لكماله بالنسبة إلى العلم الذي يحدث له يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة بإلهام الله تعالى أو بتحديث الملك، وإنما كان هذا أكمل من الأول لأن الأول بمنزلة العلم الإجمالي والثاني بمنزلة التفصيلي والتفصيل أكمل من الإجمال، أو لأن الأول بمنزلة الموجودات الظلية، الثاني: بمنزلة الموجودات العينية والموجود العيني أشرف وأكمل من الموجود الظلي، أو لأن الأول يحصل بالإخبار والبيان والثاني يحصل بالمشاهدة والعيان وليس الخبر كالمعاينة.

* الأصل:

4 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن شعيب الحداد، عن

ص:305

ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو بصير فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، إن محمدا (صلى الله عليه وآله) ورث سليمان. وإنا ورثنا محمدا (صلى الله عليه وآله) وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى (عليه السلام). فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم؟ فقال: يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوما بيوم وساعة بساعة.

* الشرح:

قوله: (إن العلم الذي يحدث يوما بعد يوم) إن قلت قد مر أن كل شيء في القرآن وأنهم (عليهم السلام) يعلمون جميع ما فيه فما معنى هذا الكلام؟ قلت - الله أعلم - أولا أن في القرآن هو العلوم الكلية والذي يأتيهم يوما بعد يوم تفاصيلها الجزئية المنطبقة عليها، وثانيا أن ما في القرآن من الحوادث اليومية هو الا خبار بأنه سيوجد وما يأتيهم هو الإخبار بأنه وجد.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا محمد إن الله عز وجل لم يعط الأنبياء شيئا إلا وقد أعطاه محمدا (صلى الله عليه وآله)، قال: وقد أعطى محمدا جميع ما أعطى الأنبياء، وعندنا الصحف التي قال الله عز وجل: (صحف إبراهيم وموسى) قلت: جعلت فداك هي الألواح؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل لم يعط الأنبياء شيئا) من المعجزات والعلوم ويغرها فإن قلت: قد أعطاهم أحكاما، ولم يعطه تلك الأحكام؟ قلت: أولا: أعطاهم العلم بتلك الأحكام وقد أعطاه أيضا، وثانيا: أعطاه أحكاما مقابلة لأحكامهم، والمراد أنه أعطاه مثل ما أعطاهم أو خيرا منه.

قوله (وقال قد أعطى) تأكيد لما تقدمه.

قوله (قلت: جعلت فداك هي الألواح) لما قال (عليه السلام) صحف موسى سأل السائل هل هي الألواح التي ذكرها الله تعالى في القرآن أو غيرها أجاب (عليه السلام) بأنها هي: وإطلاق الصحيفة على اللوح غير بعيد لأن الصحيفة الكتاب بمعنى المكتوب.

* الأصل:

6 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله ابن

ص:306

سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأله عن قول الله عز وجل (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) ما الزبور وما الذكر؟ قال: الذكر عند الله الزبور الذي أنزل على داود، وكل كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن هم.

* الشرح:

قوله (الذكر عند الله) الذكر الشرف، الجليل، والخطير، ومنه القرآن ذكر ولعل المراد به هنا اللوح ا لمحفوظ لأنه شريف جليل خطير ذكر فيه جميع الأشياء لا التورية كما قيل.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، أو غيره، عن محمد بن حماد، عن أخيه أحمد بن حماد، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الحسين الأول (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبي (صلى الله عليه وآله) ورث النبيين كلهم؟ قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟ قال: ما بعث الله نبيا إلا ومحمد (صلى الله عليه وآله) أعلم منه، قال: قلت: إن عيسى ابن مريم كان يحيى الموتى بإذن الله قال:

صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقدر على هذه المنازل، قال:

فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في أمره فقال: (مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) حين فقده فغضب عليه فقال: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء - فهذا وهو طائر - قد اعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين (و) المردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكان الطير يعرفه وإن الله يقول في كتابه (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان وتحيى به الموتى ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن الله به مع ما قد يأذن الله مما كتبه الماضون جعله الله لنا في أم الكتاب، إن الله يقول: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كأب مبين) ثم قال: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء.

* الشرح:

قوله (وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير) المنطق: الكلام والظاهر أنه من كلام السائل وأنه (عليه السلام) عطف على «عيسى ابن مريم» وأن قوله «وكان رسول الله» استفهام على حقيقته وإنما قلنا:

ص:307

الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون من كلام أبي الحسن الأول (عليه السلام) ويكون عطفا على صدقت وحينئذ قوله «وكان رسول الله» من كلامه أيضا للإخبار بأن هذه المنازل الرفيعة كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضا فليتأمل.

قوله (قال: فقال: إن سليمان بن داود) يريد أن يبين أن علمه (صلى الله عليه وآله) بل علمهم (عليهم السلام) فوق علم سليمان بن داود (عليه السلام) فإذا استحق هو أن يكون الريح والنمل والإنس والجن والشياطين طايعين له فهم أولى بذلك ووجه ذلك أن سليمان (عليه السلام) لم يعلم ما علمه الهدهد من مواضع الماء ولم يعلم أنه غائب أو حاضر حتى استفهم عن أمره، ثم بعد ما علم أنه غائب لم يعلم سبب غيبه وجهتها حتى قال: (أو ليأتيني بسلطان مبين) ولا شيء من الأشياء ولا سبب من الأسباب في عالم الإمكان بمجهول لمحمد (صلى الله عليه وآله) ولا لأولاده الطاهرين، ثم رفع الاستبعاد عنه بأنه تعالى شأنه إذا أعطى طيرا علما لم يعطه النبي العظيم الشأن لم يستبعد أن يعطي سيد الأنبياء وأفضل الأوصياء من العلوم ما لم يعطه غيرهم.

قوله (وما لي لا أرى الهدهد) استفهم عن سبب عدم رؤيته هل هو حاضر متحجب أو غائب فلما علم أنه غائب أعرض عنه وقال: (أم كان من الغائبين)؟ قوله (تحت الهواء) يعم سطح الأرض وجوفها والثاني هو المراد هنا كما ستعرفه.

قوله (وكان الطير يعرفه) إما بالرؤية لقوة بصره أو بالإلهام.

قوله (ولو أن قرآنا) جزاء الشرط محذوف أي ولو أن قرآنا سيرت وأزيلت به الجبال عن مكانها واطيرت عن مقرها أو قطعت به الأرض سريعا من المشرق إلى المغرب مثلا. وقيل تصدعت من خشية الله عند قراءته أو كلم به الموتى فتحيى وتقرأ أو تسمع وتجيب عنه عند قراءته لكان هذا القرآن، أو لما آمن به الكفرة المصرين على كفرههم ودين آبائهم، وفيه تعظيم لشأن القرآن المجيد بأن فيه ما يترتب عليه هذه الأمور إلا أن المصلحة يقتضي عدم الترتب.

قوله (فيه ما تسير به الجبال) «ما» موصوله عبارة عن الآيات العظيمة التي فيه قوله (ونحن نعرف الماء تحت الهواء) أي تحت الأرض وجوفها فهذا يؤيد الاحتمال الثاني من الاحتمالين المذكورين.

قوله (وإن في كتاب الله لآيات - الخ) الباء في «بها» للاستعانة، والأذان الإعلام و «مع» مع مدخولها صفة ثانية لآيات و «ما» عبارة عن آيات أخرى و «قد» للتقليل، ولعل المراد أن في كتاب الله نوعين من الآيات إحداهما آيات لا يراد بها أمر من الامور الكاينة إلا أن الله تعالى يعلم ذلك الأمر، والاخرى آيات قد يعلم الله تعالى بأمر من الأمور وهي ما كتبه الماضون في كتبهم المنزلة،

ص:308

وفيه تعظيم لشأن الكتاب بحيث أن فيه جميع ما في الكتب السابقة دون العكس، وفي بعض النسخ المصححة «مما كتبه للماضين».

قوله (جعله الله لنا في أم الكتاب) استيناف كأنه قيل لمن جعله ولمن يأذن، والمراد بأم الكتاب القرآن، ويحتمل اللوح المحفوظ، والقضاء يعني جعله لنا في اللوح المحفوظ أو في القضاء الأزلي.

قوله (إن الله يقول) استشهاد لما مر من أن كل أمر من الأمور الكائنة فهو في القرآن و «غائبة» صفة لأمور أي وما من امور خافية فيهما، ويحتمل أن يكون صفة لأمر والتاء للمبالغة كما في الراوية والعلامة، المراد بالكتاب المبين القرآن دون اللوح كما قيل.

قوله (ثم قال: (ثم أورثنا) استشهاد لقوله «جعله الله لنا».

قوله (في حديث بريه) بضم الباء وسكون الراء وفتح الياء المثناة من تحت وقيل: بضم الباء وفتح الراء وسكون الياء: تصغير إبراهيم وفي بعض النسخ المعتمدة «بريهه» بضم الباء وفتح الراء وسكون الياء وفتح الهاء بعدها وكذلك أيضا بخط الشهيد الثاني رحمه الله وهو كان نصرانيا عالما بكتاب الإنجيل.

باب أن الأئمة (عليهم السلام) عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل

اشاره:

وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس، عن هشام بن الحكم في حديث بريه أنه لما جاء معه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فلقي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فحكى له هشام الحكاية فلما فرغ قال أبو الحسن (عليه السلام) لبريه: يا بريه كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم، ثم قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن (عليه السلام) يقرأ الإنجيل، فقال بريه: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك، قال: فآمن بريه وحسن إيمانه وآمنت المرأة التي كانت معه، فدخل هشام وبريه والمرأة على أبي عبد الله (عليه السلام) فحكى له هشام الكلام الذي جرى بين أبي الحسن موسى (عليه السلام) وبين بريه فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، فقال بريه: أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوا، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري.

ص:309

* الشرح:

قوله (فحكى له هشام الحكاية) لعل المراد بها حكاية علمه ونصرانيته وتمامها في التوحيد.

قوله (قال أنا به عالم) تقديم الظرف للحصر أو للاهتمام وتنكير الخبر للتعظيم.

قوله (بتأويله) قال في مجمع البيان: التفسير: معناه كشف المراد عن اللفظ المشكل، والتأويل:

رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الآخر، وقيل: التفسير: كشف المعنى، والتأويل: انتهاء الشيء ومصيره وما يؤول إليه أمره، وهما قريبان من الأولين، وقيل غير ذلك.

قوله (ما أوثقني بعلمي فيه) للتعجب مثل ما أحسن بزيد.

قوله (يقرأ الإنجيل) لعل المراد قراءته مع تفسيره وتأويله بقرينة السياق قوله (أو مثلك) يحتمل الترديد والبدلية عن إياك والجمعية.

قوله (ذرية بعضها) قال الله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) بالرسالة والرئاسة الدنيوية والاخروية والخصائص الروحانية ثم وصف حال الآلين بقوله (ذرية بعضها من بعض) أي ذرية ناشئة متشعبة بعضها من بعض (والله سميع) بأقوال الناس، (عليم) بأعمالهم وعقائدهم وصفاتهم، فيصطفي من عباده من كان مستقيم القول والعمل والعقائد، وفيه مدح لابنه (عليه السلام) ولنفسه المقدسة ولآبائه الطاهرين بأنهم العالمون الصادقون المؤيدون الموفقون المسددون من نسل آدم وذرية إبراهيم الخليل.

قوله (أنى لكن التوراة) أنى هنا بمعنى من أين كان كما في قوله تعالى (أنى لك هذا).

قوله (ونقولها كما قالوا) أي نفسرها ونأولها كما فسروها وأولوها.

* الأصل:

2 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: أتينا باب أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن نريد الإذن عليه فسمعناه يتكلم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا أنه بالسريانية ثم بكى فبكينا لبكائه ثم خرج إلينا الغلام فأذن لنا فدخلنا عليه فقلت: أصلحك الله أتيناك نريد الإذن عليك فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا أنه بالسريانية ثم بكيت فبكينا لبكائك، فقال: نعم ذكرت إلياس النبي وكان من عباد أنبياء بني إسرائيل فقلت كما كان يقول في سجوده، ثم اندفع فيه بالسريانية فلا والله ما رأينا قسا ولا جاثليقا أفصح منه به، ثم فسره لنا بالعربية فقال: كان يقول في سجوده: «أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري، أتراك معذبي وقد عفرت لك في التراب وجهي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي» قال: فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني غير معذبك قال: فقال: إن

ص:310

قلت: لا اعذبك ثم عذبتني ماذا؟ ألست عبدك وأنت ربي (قال): فأوحى الله إليه أن ارفع رأسك فاني غير معذبك، إني إذا وعدت وعدا وفيت به».

* الشرح:

قوله (ثم اندفع فيه بالسريانية) أي ابتدأ بها يقال: دفع من كذا أي ابتدأ السير فكأنه دفع نفسه من تلك المقالة وابتدأ بالسريانية قال الجوهري: اندفع الفرس أي أسرع في سيره واندفعوا في الحديث، وقال ابن الأثير: دفع من عرفات أي ابتدأ السير ومنها ودفع نفسه منها ونحاها.

قوله (ما رأينا قسا ولا جاثليقا) القس: رئيس من رؤوس النصارى في الدين والعلم وكذلك القسيس. والجاثليق بفتح الثاء المثلثة: رئيس للنصارى يكون في بلاد الإسلام بمدينة السلام ويكون تحت يده بطريق أنطاكية ثم مطران تحت يده ثم الاسقف يكون في كل بلد من تحت المطران ثم القسيس ثم الشماس وهو الذي يحلق وسط رأسه لازما للبيعة.

قوله (أفصح لهجة) اللهجة اللسان وقد يحرك يقال: فلان فصيح اللهجة واللهجة.

قوله (وقد أظمأت لك هواجري) كناية عن صومه في الحر الشديد، والهاجرة نصف النهار وشدة الحر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا لشدة الحر.

قوله (إني إذا وعدت وعدا وفيت به) فإن قلت، كيف يخفى هذا على النبي العظيم الشأن حتى قال ما قال؟ قلت: كان في مقام العجز وإظهار التقصير وقد جوز أن يكون وعده مشروطا بشرط في نفس الأمر ولذلك خاطبه بما خاطبه حتى يعلم إطلاق الوعد ويطمئن قلبه وأمثال ذلك في مقام المحبة كثيرة.

ص:311

باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (عليهم السلام) وانهم يعلمون علمه كله

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة من بعده (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله (إنه جمع القرآن كله) المراد بجمعه جمعه المباني والمعاني الأولية والثانوية فصاعدا.

* الأصل:

2 - محمد بن الحسين، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان عن المنخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء.

* الشرح:

قوله (عن المنخل) بضم الميم وفتح النون تشديد الخاء المعجمة المفتوحة واللام أخيرا ابن جميل بياع الجواري.

قوله (ما يستطيع أحد) عدم الاستطاعة والقدرة على دعوى ذلك ظاهر بالتجربة والامتحان واعتراف العامة بأن أئمتهم الثلاثة وغيرهم من الصحابة لم يعلموا جميع ما في القرآن. وقوله «كله» مبالغة في التأكيد والمراد بظاهره ألفاظه وبباطنه معانيه، أو المراد بظاهره معانيه الأولية وبباطنه معانيه الثانية والثالثة بالغا ما بلغ.

قوله (غير الأوصياء) فلهم رتبة التقدم والخلافة دون غيرهم إذ الإمام إذا لم يعلم جميع القرآن لزم إهمال الخلق وبطلان الشرع وانقطاع الشريعة. وكل ذلك باطل بحكم العقل والنقل.

* الأصل:

3 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن القاسم بن الربيع، عن عبيد بن عبد الله بن أبي هاشم الصيرفي، عن عمرو بن مصعب، عن سلمة بن محرز قال: سمعت أبا

ص:312

جعفر (عليه السلام) يقول: إن من علم ما اوتينا تفسير القرآن وأحكامه وعلم تغيير الزمان (1) وحدثانه، إذا أراد الله بقوم خيرا أسمعهم ولو أسمع من لم يسمع لولى معرضا كأن لم يسمع، ثم أمسك هنيئة، ثم قال:

ولو وجدنا أوعية أو مستراحا لقلنا والله المستعان.

* الشرح:

قوله (إن من علم ما اوتينا تفسير القرآن) أشار بلفظ «من» إلى أن علومهم متكثرة وأن ما ذكره بعض من أنواعه والتفسير هنا يعم التأويل أيضا، والمراد بالأحكام جميع الأحكام الخمسة المعروفة كلها كما هو الظاهر من الجمع المضاف وبتعبير الزمان انتقالاته من حال إلى حال وانقلاباته من وصف إلى وصف ومنه تعبير المعبر لأنه ينتقل من حال إلى حال ويعبر من مناسب إلى آخر، أو نطقه بالامور الحادثة وعبارته بلسان الحال لأن الامور الحادثة تتولد من الزمان ينطق بها، وبحدثان الزمان بكسر الحاء المهملة: أوله وابتداؤه.

قوله (إذا أراد الله بقوم خيرا أسمعهم) إسماعا نافعا ولعل المراد بالإرادة: العلم وقد فسر إرادته بالعلم جمع من المحققين أو المراد بها إرادة توفيق الخير بحذف المضاف أو بدونه بأن يراد بالخير التوفيق لحسن استعدادهم لقبوله وعلى التقدير لا يراد أن الإرادة الحتمية منتفية والتخيير به ثابتة للكل فلاوجه لتخصيصها بقوم.

قوله (ولو أسمع من لم يسمع) أي من لم يقبل السماع وهذا على طريق «نعم العبد صهيب» يعني أن الإعراض لازم على تقدير الإسماع فكيف على تقدير عدمه فهو دائم الوجود، وليس المقصود بيان أن انتفاء الإعراض لانتفاء الإسماع كما هو قاعدة اللغة إذا إسماع الخير متحقق بالنظر إلى الجميع.

قوله (ثم أمسك هنيئة) أي ثم أمسك عن الكلام ساعة يسيرة) قال في المغرب: الهن: كناية عن كل اسم جنس وللمؤنث هنة ولامه ذات وجهين فمن قال: واو، قال: الجمع هنوات وفي التصغير هنيئة ومن قال: هاء، قال: هنيهة ومنها قوله مكث هنيهة أي ساعة يسيرة.

قوله (ثم قال: لو وجدنا أوعية أو مستراحا لقلنا) الأوعية: جمع الوعاء وهو ما يجعل فيه الزاد والمتاع ليحفظهما والمراد به هنا القلوب المتسعة الحافظة للمعارف الحقيقية والحقائق اليقينية على سبيل الحقيقة أو الاستعارة، و المستراح: اسم مكان من الراحة، ولعل المراد هنا القلب الخالي عن الشواغل المانعة من إدراك الحق وقبوله وحفظه وإنما حذف مفعول القول للدلالة على التعميم

ص:313


1- 1 - كذا في جميع النسخ التي بأيدينا.

أو التفخيم.

قوله (والله المستعان) على سوء صنيع الخلق وانحراف قلوبهم وعوج قولهم وتركهم الإمام العامل المؤيد المرشد إلى الحق.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنه في كفي، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزوجل:

فيه تبيان كل شيء.

* الشرح:

قوله (والله إني لأعلم كتاب الله) كما انزل بتأييد إلهي وإلهام لدني وتعليم نبوي وإنما أكده بتأكيدات لزيادة تقريره في ذهن المقرين ورفع الإنكار عن قلوب المنكرين.

قوله (من أوله إلى آخره) يحتمل أن يراد بها الأول والآخر الصورتين المعروفتين وأن يراد بهما أول المعاني وآخرها في سلسلة الترتيب والبطون.

قوله (كأنه في كفي) وأنا أنظر فيه وفيه تأكيد لما مر من قوله «والله إلى آخره» مع الإشارة إلى الزيادة في الإفادة هنا بسبب تشبيه الإدراك العقلي بالإدراك الحسي لقصد زيادة الإيضاح لأن إدراك المحسوس أظهر من إدراك المعقول تنبيها على أن علمه بما في الكتاب علم شهودي بسيط واحد بالذات متعلق بالجميع كما أن رؤية كف واحدة متعلقة بجميع أجزائه والتعدد إنما هو بحسب الاعتبار.

قوله (فيه خبر السماء) من أحوال الأفلاك وحركاتها وأحوال الملائكة ودرجاتها وحركات الكواكب ومداراتها ومنافع تلك الحركات و تأثيراتها إلى غير ذلك من الامور الكاينة في العلويات والمنافع المتعلقة بالفلكيات.

قوله (وخبر الأرض) من جوهرها وانتهائها وما في جوفها وأرجائها وما في سطحها وأجوائها وما في تحتها وأهوائها وما فيها من المعدنيات وما في تحت الفلك من البسائط والمركبات التي يتحير في إدراك نبذ منها عقول البشر و يتحسر دون بلوغ أدنى مراتبها طائر النظر.

قوله (وخبر ما كان وخبر ما هو كائن) من أخبار السابقين وأحوال اللاحقين كلياتها وجزئياتها

ص:314

وأحوال الجنة ومقاماتها وتفاوت مراتبها ودرجاتها وأخبار المثاب فيها بالانقياد والطاعة والمأجور فيها بالعبادة والزهادة، وأحوال النار ودركاتها وأهوال مرات العقوبة ومصيباتها وتفاوت مراتب البرزخ في النور والظلمة وتباعد أحوال الخلق فيه في الراحة والشدة.

قوله (قال الله تعالى فيه تبيان كل شيء) أي كشفه وإيضاحه وهو دليل على ما ذكره من أن في القرآن خبر كل شيء لكسر أوهام من يتبادر أذهانهم من العوام إلى إنكار ذلك وعدهم من الإطراء في الوصف وإذا كان حال القرآن و حاله (عليه السلام) ذلك فلا يجوز لأحد القول في أمر بالرأي ولا الرجوع إلى غيره من أئمة الضلال.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الخشاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) قال: ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) بين أصابعه فوضعها في صدره، ثم قال: وعندنا والله علم الكتاب كله.

* الشرح:

قوله (قال الذي عنده علم من الكتاب) قال القاضي: هو آصف بن برخيا وزيره أو الخضر أو جبرئيل أو ملك أيده الله به أو سليمان نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن الكرامة كانت له بسببه والخطاب (في أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) على الاحتمال الأخير للعفريت وعلى غيره لسليمان (عليه السلام) و «آتيك» يحتمل الفعلية والاسمية. والطرف: تحريك الجفن للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف برد الطرف والطرف بالارتداد والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك. وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه قوله (ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) أصابعه فوضعها في صدره) لعل تفريج الأصابع كناية عن شرح صدره وعدم قبضه.

قوله (وعندنا والله علم الكتاب كله) ضمير كله راجع إلى العلم أو إلى الكتاب والمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة أو اللوح المحفوظ وهذان الاحتمالان جاريان في الكتاب الأول.

* الأصل:

ص:315

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عمن ذكره جميعا عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)؟ قال: إيانا عني وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (وبينكم) قيل الخطاب لليهود المنكرين لرسالته والتعميم أولى.

قوله (ومن عنده علم الكتاب) أي القرآن أو جنس الكتب المنزلة أو اللوح المحفوظ وعلم الكتاب مرفوع بالظرف لاعتماده على الموصول.

قوله (وإيانا عنى) فيه تعظيم لشأنهم حيث ضمهم الله تعالى إلى ذاته المقدسة في الشهادة ومدح العلم وأهله، قال صاحب الظرايف الثعلبي في تفسير قوله تعالى (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) من طريقين: أن المراد بقوله (من عنده علم الكتاب) علي بن أبي طالب.

قوله (وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا) الأولية بحسب الزمان أو بالرتبة والشرف، والأفضلية بالإرشاد والتعليم، والخيرية بكثرة العبادة والزهادة وأما أصل العلم فالجميع سواء.

ص:316

باب ما أعطي الأئمة (عليهم السلام) من اسم الله الأعظم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن محمد بن الفضيل قال: أخبرني شريس الوابشي، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* الشرح:

قوله (إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا) أي على ثلاثة وسبعين لغة مثل قوله (عليه السلام) «نزل القرآن على سبعة أحرف» فإن المراد أنه على سبع لغات من لغات العرب كلغة قريش ولغة هذيل ولغة هوازن ولغة اليمن وغيرها. أو على ثلاثة وسبعين وجها وجانبا مثل قوله تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي على وجه واحد وهو أن يعبده في السراء دون الضراء، والمراد حينئذ أن الاسم الأعظم له جهات متعددة ووجوه مختلفة على هذا العدد يحصل من كل وجه غير ما يحصل من الوجه الآخر. وأما القول بأنه مركب من حروف التهجي على هذا العدد فبعيد. (1)

ص:317


1- 1 - قوله: «على هذا العدد فبعيد» بل غير ممكن إذ ليس في كلمات العرب وساير اللغات مركبة من سبعين حرفا وغاية ما يتصور في العربية الخماسي المزيد فيه و احتمال كون الاسم الأعظم عبارة مركبة من عشر كلمات أو أكثر مثلا يدفعه اختصاص حرف واحد منه بآصف أو غيره إذ كل أحد يعرف جميع الحروف العربية والعبرية ويستعمله في كلامه ولا يؤثر منه فثبت أن تأثير الاسم الأعظم ليس تأثيرا للتلفظ بحرف خاص أو حروف خاصة فقط من غير دخل لهمة نفس وكمال اتصال إذ لو كان كذلك لأثر من كل أحد تلفظ بحرف منه سواء عرف كونه اسما أعظم أم لا بل هو راجع إلى النية وتأثير النفوس القوبة المتصلة بالمبادي العالية حسب اختلاف درجاتها ونسبة قوة اتصال الأئمة (عليهم السلام) بها إلى اتصال ساير الأنبياء والأولياء نسبة سبعين إلى الواحد مثلا، والتأثير الحق خاص بالله جل جلاله وهو خارج عن المقسم وليس اختصاص حرف واحد بالله تعالى يوجب نسبته بالقلة والكثرة، كما أن وحدته لا يوجب نقصه عن الممكنات بكثرتهم بل هي وحدة شاملة والحرف الخاص به تعالى أيضا حرف جامع لجميع حروف الاسم الأعظم ومرجعه إلى نقصان الممكن في التأثير كلما بلغ في الكمال فيبقى شيء غير متناه في القوة والشدة وهو الحرف الواحد الخاص به، وبالجملة تأثير الأمور الروحانية وسببيتها ليس نظير الأسباب الجسمانية غير المتوفقة على شعور الفاعل وقصده ونيته فالتربة المقدسة ليست نظير الأدوية الطبية ولا الدعاء والذكر كالماء والنار يفعل ما يفعل بغير نية وهمة. (ش)

قوله (فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده) خسف المكان ويخسف خسوفا: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفا أي غاب به فيها والموصول قائم مقام الفاعل وفيه دلالة على أن الأرض التي بينه وبين السرير غابت في الأرض فوصل يده إليه، وقيل: انخرقت الأرض وتحرك السرير إليه في تلك المدة القليلة والمسافة بينهما كانت مسيرة شهرين (1).

قوله: (وعندنا نحن من الاسم الأعظم) هكذا في النسخ المعتبرة التي رأيناها وفي بعض النسخ «ونحن عندنا» بتقديم نحن.

قوله (استأثر به) تقول استأثر فلان بالشيء إذا استبد وانفرد به ولا يشار كه أحد.

قوله (ولا حول ولا قوة إلا بالله) الحول: الحركة، يقال: حال الشيء يحول إذا تحرك والمعنى لا حركة لي إلى المطالب ولا قوة على المقاصد إلا بمشية الله و عونه. وقيل: الحول: الحيلة، والأول أشبه.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد، عن زكريا ابن عمران القمي، عن هارون بن الجهم، عن رجل من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) لم أحفظ اسمه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عيسى ابن مريم (عليه السلام) اعطي حرفين كان يعمل بهما واعطي موسى أربعة أحرف واعطي إبراهيم ثمانية أحرف واعطي نوح خمسة عشر حرفا واعطى آدم خمسة وعشرين حرفا وإن الله تعالى جمع ذلك كله لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإن اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا، أعطي محمد (صلى الله عليه وآله) اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه حرف واحد.

* الشرح:

قوله (وإن الله تعالى جمع ذلك كله) ذلك إشارة إلى ما أعطاء الأنبياء المذكورين وهو «أربعة

ص:318


1- 1 - قوله: «مسيرة شهرين» هنا إشكالات مذكورة مبنية على توهم كون قدرة الله تعالى محدودة مقهورة بما يعرفون قليلا من سنن الطبيعة لا يهمنا البحث عنها والتعرض لجوابها إلا أن الله تعالى قادر على كل شيء وقاهر على الطبيعة مع أن ما نعلم من سنن الطبيعة ناقص جدا (ش)

وخمسون» ثم أشار بقوله «وإن اسم الله الأعظم» إلى أنه أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله) زائدا على ذلك ثمانية عشر حرفا.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي أبن محمد النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه و بين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله، مستأثر به في علم الغيب.

* الشرح:

قوله (فانخرقت له الأرض - إلى آخره) أي فانقطعت، يقال: خرقت الأرض فانخرقت أي قطعتها فانقطعت، وهذا يحتمل المعنيين المذكورين وحمله على الأول أنسب ويؤيده قوله «ثم انبسطت الأرض».

قوله (فيما بينه وبين سبأ) هو اسم مدينة بلقيس باليمن وقيل: هو اسم رجل ولد عامة قبايل اليمن وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان يصرف ولا يصرف و سميت المدينة به.

ص:319

باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن عبد الله بن محمد، عن منيع بن الحجاج البصري، عن مجاشع، عن معلى، عن محمد بن الفيض عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت عصا موسى لآدم (عليه السلام) فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران وإنها لعندنا وإن عهدي بها آنفا وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها وإنها لتنطق إذا استنطقت، اعدت لقائمنا (عليه السلام) يصنع بها ما كان يصنع موسى و إنها لتروع وتلقف ما يأفكون وتصنع ما تؤمر به، إنها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون، يفتح لها شعبتان، إحداهما في الأرض والاخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا تلقف ما يأفكون بلسانها.

* الشرح:

قوله (وإن عهدي بها آنفا) يقال: عهدته إذا لقيته وأدركته وآنفا كصاحب وكنف وقرئ بها أي مذ ساعة أي في أول وقت يقرب منا.

قوله (وهي خضراء) إما لبقاء الرطوبة التي كانت لها عند الانتزاع أو لتجدد الرطوبة آنا فآنا بأمر الله تعالى.

قوله (من شجرتها) قيل: هي شجرة الجنة.

قوله (أنها لتروع وتلقف ما يأفكون) راع: أفزع كروع ولقفت الشيء بالكسر: ألقفه وتلقفته: أي تناولته بسرعة، وأفك يأفك إفكا: أي كذب وجاء بخلاف الحق.

قوله (أنها حيث أقبلت) في بعض النسخ المصححة «حيث أقلت» بدون الباء الموحدة من الإقلال وهو القيام والارتفاع.

قوله (يفتح لها شعبتان) هما الفك الأعلى والأسفل.

قوله (في السقف) السقف للبيت والسقف أيضا السماء والأخير أنسب أي الاخرى في جهة السماء.

* الشرح:

قوله (ونحن ورثة النبيين) فيه تعميم بعد تخصيص من وجهين.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن أبي سعيد الخراساني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن القائم إذا قام بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه: ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، فلا ينزل منزلا إلا انبعث عين منه، فمن كان جائعا شبع ومن كان ظامئا روي فهو زادهم حتى ينزلوا النجف من شهر الكوفة.

* الشرح:

قوله (وهو وقر بعير) الوقر بالكسر: الحمل الثقيل أو أعم.

قوله (فلا ينزل منزلا إلا انبعث عين منه) ظاهرة أنه تنبعث منه عين واحدة من غير أن يضربه بعصاه مع احتمال الضرب والتعدد كما كانا لموسى (عليه السلام).

قوله (ومن كان ظامئا روي) الظامئ من الظمأ: وهو العطش والري بالكسر خلاف العطش يقال:

روي من الماء بالكسر فهو ريان وهي ريا وهم وهن رواء.

قوله (حتى ينزل النجف) في بعض النسخ المعتبرة «حتى ينزلوا» بصيغة الجمع ولعل «حتى» غاية لهذا السير، ويحتمل أن يكون غاية لقوله فهو زادهم.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن أبي الحسن الأسدي عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول همهمة همهمة وليلة مظلمة خرج عليكم الامام عليه قميص آدم و في يده خاتم سليمان وعصا موسى (عليه السلام).

3* الأصل:

2 - أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر البغدادي، عن

ص:320

علي بن أسباط، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ألواح موسى (عليه السلام) عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين.

* الشرح:

قوله: (خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة) في المغرب: ذو للمذكر وذات للمؤنث بمعنى

ص:321

الصاحب والصاحبة وهما يقتضيان شيئين موصوفا ومضافا إليه تقول رجل ذو مال وامرأة ذات مال، وقوله تعالى (عليم بذات الصدور) وقولهم فلان قليل ذات اليد وقل ذات يده من هذا القبيل لأن معنى الإملاك المصاحبة لليد وكذا قولهم أصلح الله ذات بينكم ولا يخفى أن ما نحن فيه أيضا من هذا القبيل لأن المعنى خرج في الأوقات المصاحبة لليلة.

قوله (بعد عتمة) في القاموس: عتم الليل: مر منه قطعة والعتمة محركة: ثلث الليل الأول بعد غيبوته الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة.

* الأصل:

5 - محمد، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن أبي إسماعيل السراج عن بشر ابن جعفر، عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أتدري ما كان قميص يوسف (عليه السلام)؟ قال: قلت: لا، قال: إن إبراهيم (عليه السلام) لما اوقدت له النار أتاه جبرئيل (عليه السلام) بئوب من ثياب الجنة فألبسه إياه، فلم يضره معه حر ولا برد فلما حضر إبراهيم الموت جعله في تميمة وعلقه على إسحاق وعلقه إسحاق على يعقوب، فلما ولد يوسف (عليه السلام) علقه عليه فكان في عضده حتى كان من أمره ما كان، فلما أخرجه يوسف بمصر من التميمة وجد يعقوب ريحه وهو قوله: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) فهو ذلك القميص الذي أنزله الله من الجنة، قلت: جعلت فداك فإلى من صار ذلك القميص؟ قال: إلى أهله، ثم قال: كل نبي ورث علما أو غيره فقد انتهى إلى آل محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (وهو يقول همهمة همهمة) في القاموس الهمهمة الكلام الخفي يردد الصوت في الصدر من الهم.

قوله (جعله في تميمة) التميمة عوذة تعلق على الإنسان قوله (لولا أن تفندون) أي تنبسوني إلى الفند وهو نقصان يحدث من هرم، وفي القاموس فنده تفنيدا كذبه وعجزه وخطأ رأيه كأفنده.

ص:322

باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ومتاعه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن سعيد السمان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجلان من الزيدية فقالا له:

أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال: فقال: لا قال: فقالا له: قد أخبرنا عنك الثقات أنك تفتي وتقر وتقول به ونسميهم لك فلان وهم أصحاب ورع وتشمير وهم ممن لا يكذب فغضب أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: ما أمرتهم بهذا. فلما فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا، فقال لي: أتعرف هذين؟ قلت:

نعم هما من أهل سوقنا وهما من الزيدية وهما يزعمان أن سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند عبد الله ابن الحسن، فقال: كذبا لعنهما الله والله ما رآه عبد الله بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ولا رآه أبوه، اللهم إلا أن يكون رآه عند علي بن الحسين، فان كانا صادقين فما علامة في مقبضه؟ وما أثر في موضع مضربه؟ وإن عندي لسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن عندي لراية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودرعه ولأمته ومغفره، فان كانا صادقين فما علامة في درع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن عندي لراية رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغلبة، وإن عندي ألواح موسى وعصاه، وإن عندي لخاتم سليمان بن داود وإن عندي الطست الذي كان موسى يقرب به القربان، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشابة، وإن عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل في أى أ هل بيت وجد التابوت على أبوابهم اوتوا النبوة ومن صار إليه السلاح منا اتي الإمامة، ولقد لبس أبي درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطت على الأرض خطيطا ولبستها أنا فكانت وكانت وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله.

* الشرح:

قوله (قال: فقال: لا) أجاب بذلك على سبيل التورية والمقصود أنه ليس في بني فلان من أولاد علي (عليه السلام) إمام مفترض الطاعة أو أنه ليس فينا إمام مفترض الطاعة بزعمكم فيخرج بذلك عن الكذب.

ص:323

قوله (فغضب أبو عبد الله (عليه السلام)) الغضب قد يكون من إبليس كما ورد «احذروا الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس» وقد يكون من الله لله تعالى، وغضبه من هذا القبيل لأنه غضب لسوء أدب هذين الرجلين وقبح مخالفة هؤلاء المخبرين حيث أخبرو هما بما فيه مضرة عظيمة من غير اختبار وإيقان بأنهما من أهله.

قوله (وقال: ما أمرتهم بهذا) أي بهذا الإخبار وهذا حق لأنه لم يأمرهم بالإخبار عنه ذلك مع إفادته في عرف التخاطب بأنه لم يقل ذلك وإن لم يقصده وإنما لم يقل ما أخبرتهم بهذا أي بأني إمام مفترض الطاعة تحرزا عن الكذب.

قوله (في مقبضة) مقبض السيف والقوس بفتح الميم وكسر الباء: حيث يقبض بها بجميع الكف.

قوله (وما أثر في موضع مضربه) المضرب والمضربة ويكسر راؤهما: حد السيف وهو نحو شبر من طرفه.

قوله (ولأمته) اللأمة مهموزة: الدرع، وقيل: السلاح ولأمة الحرب: أداته، وقد يترك الهمز تخفيفا.

قوله (ومغفره) قال المطرزي: المغفر: ما يلبس تحت البيضة والبيضة أيضا و أصل الغفر: الستر وقال الأصمعي: المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.

قوله (المغلبة) هي على صيغة المفعول من التغليب ما يحكم له بالغلبة، وقيل: على وزن مكحلة اسم آلة من الغلبة، وأما القول بأنها اسم فاعل من أغلب فالظاهر أنه تصحيف.

قوله (الطست) أصله الطس أبدل أحدى السينين تاء وحكي بالشين المعجمة.

قوله (نشابة) النشاب: السهام لأنها تنشب في الشيء أي تدخل فيه وتعلق عليه، والواحدة نشابة بضم النون وشد الشين فيها، وفي المغرب: النبل: السهام العربية اسم مفرد اللفظ مجموع المعنى والجمع نبال والنشاب السهام التركية والواحدة نشابة، ورجل نابل وناشب ذو نبال ونشاب.

قوله (وإن عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة) وهو التابوت الذي حكى عنه جل شأنه بقوله (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) قال الجوهري: التابوت: أصله تأبوة مثل ترقوة وهو فعلوة، فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء، وقال القاضي: هو فعلوت من التوب يعني الرجوع فإنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وليس بفاعول لقلته وهو صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وكان موسى (عليه السلام) إذا قاتل

ص:324

قدمه قتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون وقيل: كانت فيه صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيرف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وقيل: كانت فيه صور الأنبياء من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) انتهى، وقال عبد الرزاق في التأويلات يمكن أن يكون صندوقا فيه طلسم لنصرة الجيش وغيره من الطلسمات التي يذكر أنها للملك على ما يروى أنه كان فيه صورة لها رأس كرأس الآدمي أو الهر وذنب كذنبه كالذي كان في عهد إفريدون المسمى بدرفش الكاوياني، وأما وجه حمل الملائكة إياه فقيل: إن الله تعالى رفعه بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، وقيل: كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه ورفعوه إلى بلادهم وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشأموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت.

قوله (ومثل السلاح) العطف للبيان والتفسير قوله (فخطت على الأرض خطيطا) الخطيط والخطيطة: الطريق وهذا كناية عن طولها وعدم توافقها لقامته المقدسة وذلك لأن الله تعالى جعل توافقها علامة على وجوب إظهار الإمامة على عامة الخلق والخروج بالسيف حتى أنه يمكن أن يقال: إنها لا توافق قامة الصاحب المنتظر (عليه السلام) في زمان الغيبة فإذا وافقها دل على وجوب ظهوره وإظهار إمامته على رؤوس الخلائق.

قوله (فكانت وكانت) أي فكانت لي وكانت لأبي سواء أو فكانت لي كما كانت لأبي وكانت لأبي كما كانت لي، أو كانت فضله لي وكانت فضله لمن بعدي وهكذا تندرج في الفضل حتى تبلغ أهلها فتوافقه، ويؤيد هذا ما يأتي من حديث الفضيل.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عندي سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا أنازع فيه. ثم قال: إن السلاح مدفوع عنه لو وضع عند شر خلق الله لكان خيرهم، ثم قال: إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك فإذا كانت من الله فيه المشيئة خرج فيقول الناس: ما هذا الذي كان؟ ويضع الله له يدا على رأس رعيته.

* الشرح:

ص:325

قوله (لا انازع فيه) لاختصاصه به وعدم وقوع الشركة فيه حتى يقع فيه المنازعة والخصومة ويريد أحد أن يجذبه ويأخذه منه أو يشاركه فيه.

قوله (إن السلاح مدفوع عنه) أي لا يضره شيء ولا يبليه مر الدهور أو لا يلبس ولا يستعمل إلا بإذن الله أو لا يصيب من هو عنده خطأ ومعصية.

قوله (لو وضع عند شر خلق الله لكان خيرهم) في الصلاح والزهادة والعبادة وترك المعصية فكيف إذا وضع عند خير خلق الله.

قوله (إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك) لويت عنقه فتلته وأملته وهذا كناية عن خضوع الناس له طوعا وكرها وغلبته عليهم في الخصومة و القتال والقول بأنه إشارة إلى أن أصحابه محنكون بعيد.

قوله (فيقول الناس ما هذا الذي كان) ما للتعجب في استيلائه وقهره على الخلق أو في قضاياه العجيبة وأحكامه الغريبة حيث إنه يحكم بعلمه المطابق للواقع كما دل عليه بعض الروايات «وكان» تامة بمعنى وجد وحدث.

قوله (ويضع الله له يدا على رأس رعيته) لعل المراد باليد القدرة أو الشفقة أو النعمة أو الإحسان أو الحفظ والغرض من وضعها رفع انتشارهم واختلافهم وتفرقهم وتضيقهم بحيث يجتمعون على دين الحق متحابين متوادين موسعين متناصحين يقولون بالحق ويعملون له، فيعودون بعد التفرقة إلى الجمعية، وبعد التشتت إلى المعية، وبعد الكثرة إلى الوحدة، وبعد الفرقة إلى الالفة، وبعد الجهل إلى العلم، وبعد السفه إلى الحلم، فيحصل لهم بذلك بواطن نورانية وظواهر ربانية، وقيل: المراد باليد: الملك الموكل بالقلب الذي بتوسطه يرد الجود الإلهي والفيض الرباني، و بالرأس: النفوس الناطقة والعقول الهيولانية. والغرض من وضعها هو التعليم والإلهام وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرناه في شرح قول الباقر (عليه السلام): «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت أحلامهم» (1).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المتاع سيفا ودرعا وعنزة ورحلا وبغلته الشهباء فورث ذلك كله علي بن أبي

ص:326


1- 1 - راجع كتاب (ج 1) كتاب العقل والجهل.

طالب (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (في المتاع) المتاع: ما تمتعت به من أي شيء كان، قوله (وعنزة ورحلا) العنزة بالتحريك: أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيها سنان مثل سنان الرمح، وا لرحل للبعير: كالسرج للدابة والرحل أيضا: ما يستصحبه الإنسان من المتاع والأثاث.

قوله (وبغلته الشهباء) الشهبة والشهب محركة في الألوان: البياض الذي غلب على السواد، وفرس أشهب وبلغة شهباء.

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لبس أبي درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات الفضول فخطت ولبستها أنا ففضلت.

* الشرح:

قوله (ذات الفضول) بدل عن الدرع أو صفة لها وفي النهاية فيه (يعني في الحديث) أن اسم درعه (صلى الله عليه وآله) كان ذات الفضول، وقيل ذو الفضول لفضل كان فيها وسعة.

قوله (ولبستها أنا ففضلت) لعل المراد بفضلها بلغ الخط على الأرض والعدول عنه للتفنن والتحرز عن التكرار ظاهرا أو فضل دون الخط فيفيد أن الفضل في المتأخر أقل من الفضل في المتقدم حتى إذا وصلت إلى أهلها وافقت قامته.

* الأصل:

5 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عيسى، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أين هو؟ قال: هبط به جبرئيل (عليه السلام) من السماء وكنت حليته من فضة وهو عندي

* الشرح:

قوله (قال سألته عن ذي الفقار) (1) قال الجوهري: الفقارة بالفتح: واحدة فقار الظهر وذو الفقار

ص:327


1- 1 - قوله «سألته عن ذي الفقار» راوي هذا الحديث عن الرضا (عليه السلام) وهو أحمد بن أبي عبد الله مجهول والمشهور أن ذا الفقار كان سيف عاص بن منبه قتل يوم بدر فوهبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ولعل أصل العبارة أن ثبتت أن السيف نزل من السماء بأمر الله كما ينسب كل خير إليها خصوصا إذا كان نادرا غير مترقب. (ش).

اسم سيف النبي (صلى الله عليه وآله) وقال المطرزي، فقار الظهر: خرزاته، وقال ابن الأثير: كان اسم سيف النبي ذا الفقار لأنه كان في حفر صغار حسان، والمغفر من السيوف: الذي فيه خروز مطمئنة.

قوله (وكانت حليته من فضة) روى المصنف هذا الحديث في كتاب الروضة بسند آخر عن الرضا (عليه السلام) وفيه «وكانت حلقته من فضة» قوله (وهو عندي) ورثه من أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد أعطاه النبى (صلى الله عليه وآله) يوم احد بعد ما تقطع سيفه من شدة الضرب بثلاث قطع.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن محمد بن حكيم، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: السلاح موضوع عندنا، مدفوع عنه، لو وضع عند شر خلق الله كان خيرهم، لقد حدثني أبي أنه حيث بنى بالثقفية وكان قد شق له في الجدار فنجد البيت فلما كانت صبيحة عرسه رمى ببصره فرأى حذوه خمسة عشر مسمارا ففزع لذلك وقال لها: تحولي فاني اريد أن أدعو موالي في حاجة فكشطه فما منها مسمار إلا وجده مصرفا طرفه عن السيف وما وصل إليه منها شيء.

* الشرح:

قوله (حيث بنى بالثقفية) قال ابن الأثير: الابتناء والبناء: الدخول بالزوجة والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها، فيقال: بنى الرجل على أهله، قال الجوهري: ولا يقال، بنى بأهله، وهذا القول فيه نظر فإنه قد جاء في غير موضع من الحديث وغيره.

قوله (وكان قد شق له) أي للسلاح وحفظه وفي بعض النسخ وقد كان شق له.

قوله (فنجد البيت) أي زين من التنجيد: وهو التزيين، يقال: بيت منجد، ونجوده: ستوره الذي تعلق على حيطانه يزين بها.

قوله (فرأى حذوه) أي حذو الشق أو حذو السلاح وحذاء الشيء إزاؤه.

قوله (فكشطه) الكشط: أن ترفع الشيء عن الشيء ليظهر.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن حجر، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عما يتحدث الناس أنه دفعت إلى أم سلمة صحيفة

ص:328

مختومة فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قبض ورث علي (عليه السلام) علمه وسلاحه وما هناك ثم صار إلى الحسن ثم صار إلى الحسين (عليهما السلام) فلما خشينا أن نغشى استودعها ام سلمة ثم قبضها بعد ذلك علي ابن الحسين (عليهما السلام) قال: فقلت: نعم ثم صار إلى أبيك ثم انتهى إليك وصار بعد ذلك إليك؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (صحيفة مختومة) الصحيفة: قطعة من قرطاس مكتوب وجمعها صحف، ولعل المراد بها ما كتبه الحسين (عليه السلام) من أسماء السلاح وتفاصيلها ودفعه إلى الأمينة المؤتمنة أم سلمة رضي الله عنها وأمرها بدفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) وليس المراد بها ظرف السلاح فإن الصحيفة لا تسعه إلا بطريق الإعجاز.

قوله (فلما خشينا) أن نغشى استودعها) نغشى على صيغة المتكلم المجهول بمعنى نهلك أو نؤتى ونغلب فيؤخذ منا من الغشيان بالكسر: وهو الإتيان، وفاعل استودعها ضمير الحسين (عليه السلام)، وفي بعض النسخ استودعنا بصيغة المتكلم مع الغير وهو الأظهر.

* الأصل:

9 - محمد بن الحسين وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال للعباس: يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟ فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت و امي إني شيخ كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق (صلى الله عليه وآله) هنيئة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ فقال: بأبي أنت وامي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح قال: أما إني ساعطيها من يأخذ بحقها ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟ فقال:

نعم بأبي أنت وامي ذاك علي ولي، قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت الخاتم حين وضعته في إصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم ثم صاح: يا بلال علي بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب، قال: فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك - يعني الأبرقة - فجيء بشقة كادت تخطف الأبصار

ص:329

فإذا هي من أبرق الجنة فقال: يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستذفر بها مكان المنطقة، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعا أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف والقميصين: القميص الذي أسري به فيه والقميص الذي خرج فيه يوم أحد والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجمع وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه، ثم قال: يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى، والفرسين: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبعث الرجل في حاجته فيركبه ويركضه في حاجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وحيزوم وهو الذي كان يقول: أقدم حيزوم، والحمار عفير فقال: اقبضها في حياتي.

فذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها فكانت قبره. وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن ذلك الحمار كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: بأبي أنت وأمي إن أبي حدثني، عن أبيه، عن جده عن أبيه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار.

* الشرح:

قوله (تأخذ تراث محمد) استفهام على الحقيقة، والتراث بضم التاء: الميراث وأصل التاء فيه واو.

قوله (وتنجز عداته) العدة الوعد في الخير، والهاء عوض عن الواو وتجمع على عدات.

قوله (من يطيقك وأنت تباري الريح) أي من يطيق ويقدر على أداء حقوقك وأنت سخي كثير العطاء والعدة، يقال فلان: يباري فلانا أي يعارضه ويفعل مثل فعله وهما يتباريان وفلان يباري الريح سخاء والريح مشهورة بكثرة السخاء لسياق السحاب والأمطار وترويح القلوب وترقيق الهواء وغيرها من المنافع وقد ذكرنا جملة منها في كتاب العقل.

قوله (ثم قال يا عباس) الغرض من سؤاله أولا وتأكيده ثانيا مع علمه بأنه ليس أهلا ولا يقبله وأن أهله والقابل له علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو تجديد الوصية وتأكيدها له (عليه السلام) في حضوره.

قوله (بأبي أنت وامي) أي فديتك بهما وجعلتهما فداك وجاز التفدية عندنا وعند أكثر العامة وكرهها بعضهم وقال: لا يفدى بمسلم والصحيح عدم الكراهة لورودها في الأحاديث الصحيحة من طرقنا وطرقهم مع عدم الإنكار سيما له (صلى الله عليه وآله) على أنه ليس المراد الحقيقة وإنما هي على معنى

ص:330

الحنانة والبر، ولذلك يقول ذلك أيضا من ليس له أب وأم موجودان.

قوله (قال: فنظرت إليه) فاعل قال: علي (عليه السلام).

قوله (فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم) أي قدرت في نفسي أن يكون الخاتم عوضا من جميع ما ترك من الميراث أو من الديون، والعداة وذلك لشرافة الخاتم وكمال اقتداره (عليه السلام) عند لبسها على ما في عالم الملك والملكوت لترتب الأثر العظيم عليه كترتبه على خاتم سليمان (عليه السلام).

قوله (والسحاب) قال ابن الأثير «فيه: أنه كان اسم عمامة النبي (صلى الله عليه وآله) السحاب، سميت به تشبيها بسحاب المطر لانسحابه في الهواء.

قوله (والبرد) قال ابن الأثير: البرد بالضم والسكون: نوع من الثياب معروف والجمع أبراد وبرود، قال المازري: البرد: شملة مخططة، وقيل: كساء.

قوله (والأبرقة) سميت بها لأن فيها لونين سواد وبياض كما هو المعروف في تفسير الأبرق، بل لضوء لونها وشدة بريقها ولمعانها كالبرق.

قوله (والقضيب): وهو الغصن والمراد به العصا سميت به لكونها مقطوعة من الشجر والقضب:

القطع وقد يطلق على السيف اللطيف الدقيق أيضا.

قوله (فجيىء بشقة) نسب الفعل إلى المفعول لا إلى الفاعل مع أنه معلوم لتعلق القصد بذلك لا بهذا، والشقة بالكسر: القطعة من كل خشبة، وبالضم: القطعة من الثوب، وبتصغيرها جاء الحديث وعلي شقيقة سنبلانية وجمعها شقق وشقاق بالكسر، ويقال: فلان يبيع شقاق الكتاب كذا في المغرب، وقال ابن الأثير: الشقة: جنس من الثياب وتصغيرها شقيقة، وقيل: هي نصف ثوب، وقال الجوهري: الشقة بالضم من الثياب.

قوله (كادت تخطف الأبصار) خطف الشيء يخطفه: إذا استلبه وذهب به بسرعة وإنما أدرج لفظ كادت لتقريبه من الحق وتبعيده عن الباطل.

قوله (واستذفر بها) الذفر بالتحريك: الريح الطيبة ومنه في صفة الجنة «وترابها مسك أذفر».

قوله (مكان المنطقة) ظرف لقوله «اجعلها في حلقة الدرع».

قوله (أحدهما مخصوف) أصل الخصف: ضم الشيء إلى الشيء والجمع بينهما والنعل المخصوف كالثوب المرقع.

قوله (والدلدل) على وزن بلبل: اسم بغلة النبي (صلى الله عليه وآله) سميت بذلك لكونها سريعة حديدة ذات هيئة حسنة.

قوله (العضباء) قال الجوهري: العضب: القطع، وناقة عضباء: أي مشقوقة الاذن وكذلك الشاة،

ص:331

وأما ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي كانت تسمى العضباء فإنما كان ذلك لقبا لها ولم تكن مشقوقة الاذن، وقال المطرزي مثله في المغرب، وقال ابن الأثير «فيه: كان اسم ناقته العضباء هو علم لها منقول من قولهم ناقة عضباء أي مشقوقة الاذن، وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الاذن، والأول أكثر. وقال الزمخشري: هو منقول من قولهم ناقة عضباء وهي القصيرة اليد.

قوله (والقصواء) قال ابن الأثير: في الحديث أنه خطب على ناقته القصواء: وهو لقب ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقصواء: الناقة التي قطع طرف اذنها وكل ما قطع من الاذن فهو جدع، فإذا بلغ الربع فهو قصر فإذا جاوزه فهو عضب فإذا استوصلت فهو صلم. يقال: قصوته قصوا فهو مقصو والناقة قصواء، ولا يقال: بعير أقصى، ولم تكن ناقة النبي قصواء وإنما كان هذا لقبا لها، وقيل: كانت مقطوعة الاذن وقد جاء في الحديث أنه كانت له ناقة تسمى العضباء، وناقة تسمى الجدعاء وفي حديث آخر صلماء، وفي رواية اخرى مخضرمة، هذا كله في الاذن فيحتمل أن يكون كل واحد صفة ناقة مفردة، ويحتمل أن يكون الجميع صفة ناقة واحدة فسماها كل واحد منهم بما تخيل فيها، ويؤيد ذلك ما روي في حديث علي حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبلغ أهل مكة سورة براءة فرواه ابن عباس أنه ركب ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) القصواء، وفي رواية جابر العضباء، وفي رواية غيرهما الجدعاء فهذا يصرح أن الثلاثة صفة ناقة واحدة لأن القضية واحدة، وقد روي عن أنس أنه قال:

خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ناقة جدعاء وليست بالعضباء وفي إسناده مقال انتهى. وأنا أقول وفي التصريح نظر لجواز ركوبه كل واحدة من الثلاثة في سفره وفي روايتنا هذه دلالة واضحة على المغايرة بين العضباء والقصواء.

قوله (الجناح) جناح الطير: يده، سميت بذلك لسرعة سيره على سبيل المبالغة.

قوله (ويركضه) الركض: تحريك الرجل، وركضت الفرس برجلي: إذا استحثثته ليعدو.

قوله (وحيزوم هو الذي كان يقول أقدم حيزوم) اسم كان وفاعل يقول جبرئيل (عليه السلام) أو النبي (صلى الله عليه وآله) قال الجوهري: حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة. وقال ابن الأثير: في حديث بدر أقدم حيزوم، هو أمر بالإقدام: وهو التقدم في الحرب، والإقدام: الشجاعة، وقد تكسر همزة إقدم ويكون أمرا بالتقدم لا غير والصحيح الفتح من أقدم. أقول: حديث بدر رواه المصنف في كتاب الروضة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهو طويل وفيه «فأقبل علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أسمع دويا شديدا وأسمع أقدم حيزوم وما أهم أضرب أحدا إلا سقط ميتا قبل أن أضربه، فقال: هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة - الحديث.

قوله (والحمار عفير) قال الآبي: المعروف عفير بالعين المهملة: وهو تصغير أعفر تصغير

ص:332

الترخيم كسويد تصغير أسود، وما ذكر بعضهم من أنه بالغين المعجمة فليس بمعروف والمشهور في اسم حماره (صلى الله عليه وآله) أنه يعفور إلا أنه في القاموس، واليعفور بلا لام: اسم حمار النبي (صلى الله عليه وآله) أو عفير كزبير.

قوله (قطع خطامه) قال الجوهري: الخطم من كل دابة: مقدم أنفه وفمه، والخطام: الزمام، وخطمت البعير: زممته، وقال ابن الأثير: خطام البعير هو أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان فيجعل في أحد طرفيه حلقة. ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة، ثم يقلد البعير ثم يثنى على مخطمه، وأما الذي يجعل في الأنف دقيقا فهو الزمام، وقال المطرزي: الخطام: حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه أي أنفه.

قوله (حتى أتى بئر بني خطمه) قال الجوهري: خطمه من الأنصار وهم بنو عبد الله بن مالك ابن أوس، وقال المطرزي: الخطمي: منسوب إلى خطمة بفتح الخاء قبيلة من الأنصار وهو يزيد بن حسن الخطمي.

ص:333

باب أن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بني إسرائيل

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكيم، عن معاوية بن وهب، عن سعيد السمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل أي أهل بيت وجد التابوت على بابهم اوتوا النبوة فمن صار إليه السلاح منا اوتي الإمامة.

* الشرح:

قوله (إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت) بناء المثل على التشبيه.

وقوله (كانت بنو إسرائيل - إلى آخره) إشارة إلى وجهه.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن السكين، عن نوح بن دراج، عن عبد الله ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار التابوت دار الملك، فأينما دار السلاح فينا دار العلم.

* الشرح:

قوله (حيثما دار التابوت اوتوا النبوة أي حيثما دار التابوت في بني إسرائيل كما مر: فلا يرد أن التابوت كان عند جالوت مدة ولم يؤت النبوة.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إنما مثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل حيثما دار التابوت اتوا النبوة وحيثما دار السلاح فينا فثم الأمر، قلت فيكون السلاح مزائلا للعلم؟ قال: لا.

* الشرح:

قوله (قلت فيكون السلاح مزايلا للعلم؟ قال: لا) هذا استفهام، والمزايلة: المفارقة ووجه التفريع أن السائل توهم من التشبيه المذكور أن كل معنى في المشبه به يوجد في المشبه أيضا ومن

ص:334

المعاني التي في التابوت مزايلته للنبوة عند كونه في قوم جالوت فتوهم أن السلاح أيضا مزايل للعلم والإمامة فأشار (عليه السلام) بقوله «لا» إلى نفي هذا التوهم وإلى أن الوجه هو ما تعلق به القصد والقصد أن السلاح فينا دليل على العلم والإمامة كما أن التابوت في بني إسرائيل دليل على النبوة.

ص:335

باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله الحجال، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن أبي بصير قال: دخلت علي أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: له: جعلت فداك إني أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدالك، قال: قلت: جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علم عليا (صلى الله عليه وآله) بابا يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمد علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) ألف باب يفتح من كل باب ألف باب قال: قلت: هذا والله العلم، فنكت ساعة في الأرض ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاك قال: ثم قال: يا أبا محمد وإن عندنا الجامعة و ما يدريهم ما الجامعة! قال: قلت: وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش وضرب بيده إلى فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت قال، فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا، كأنه مغضب، قال: قلت: هذا والله العلم قال: إنه لعلم وليس بذاك، ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر و ما يدريهم ما الجفر!؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من ادم فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، قال: قلت: إن هذا هو العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك، ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة (عليها السلام)، قال: قلت:

وما مصحف فاطمة (عليها السلام)؟ قال: مصحف مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم، قال: إنه لعلم وما هو بذاك، ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. قال: قلت: جعلت فداك هذا والله هو العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك قال: قلت: جعلت فداك فأي شيء العلم قال: ما يحدث بالليل والنهار الأمر من بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة.

* الشرح:

ص:336

قوله (علم عليا بابا يفتح له منه ألف باب) يحتمل أن يراد بالباب الأول جنس خاص من العلم وبألف باب أنواع مختلفة مندرجة تحته وأن يراد بالأول نوع من العلم وبالثاني أصناف منه. (1) قوله (هذا والله العلم) ادعى أنه علم كامل وحصر العلم الكامل فيه على وجه التأكيد حتى أن كل علم سواه كأنه ليس بعلم كامل.

قوله (فنكت ساعة في الأرض) نكت الأرض بالقضيب أي ظربها بطرفه ليؤثر فيها كفعل المفكر المهموم غالبا.

قوله (ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاك) (2) أي أنه لعلم كامل ولكن ما هو بذاك الذي وصفته من

ص:337


1- 1 - قوله «أصناف منه قد يكون مثل هذا معجزا وقد يكون غير معجز وغير المعجز منه قد يتفق لاحاد الناس فيتنبهون لقضية ومسألة ينفتح لهم منها مسائل كثيرة أو ينبه أحد غيره على شيء فيتفطن هو لأمور. وقد حكي عن أبي علي بن سينا أنه لم يكن يفتح له باب فلسفة ما بعد الطبيعة حتى وقف على كتاب «أغراض ما بعد الطبيعة» للفارابي وهو نحو ورقتين فافتتح له باب العلم وصار فيلسوفا لم ير نظيره بعده، وقد ألقى أمير المؤمنين (عليه السلام) على أبي الأسود الدؤلي مسائل في النحو وبين له أن كلمات العرب على ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف وأن لكل واحد منها أحكاما في الإعراب والبناء فتفطن به أن يبوب الأبواب وينظم المسائل ويفصل الأحكام وقد مر في المجلد الثاني: أن شكل القطاع الذي تنبه له مانالوين في الهندسة بتفرع عليه أكثر من أربعمائة الف وتسعين ألف مسألة. وأيضا استنبط الملك العالم أبو نصر بن العراق شكلا سماء المغنى تفرع عليه جميع ما يتفرع على شكل القطاع بوجه أسهل وانفتح منه على من بعده أصول لا يتناهى في علم المثلثات والنجوم والمساحات ويستعمله الناس في زماننا في بلاد النصارى وعليه مبنى صناعاتهم وعلومهم وقد يصل هذا إلى حد الإعجاز كعلوم أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده مما أخذوه من النبي صلى الله عليه وآله ولا يجوز التمتع والتأمل في أمثال ذلك و التعجب منه. (ش)
2- 2 - قوله «وما هو بذاك» مقتضي الروايات المتواترة وضروري مذهب الشيعة أن علم الأئمة (عليهم السلام) مأخوذ من الله تعالى بالارتباط الحقيقي بين نفوسهم والمبادي العالية وإن كنا لا نعلم تفصيل ذلك أنه بالإلهام أو بالتحديث أو بمصاحبة روح القدس أو أن جميع ما روى تعبير عن معنى واحد، والمشترك بين الجميع أن علمهم ليس منحصرا في السماع و النقل والتعلم كما لسائر الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله) إذ لو كان منحصرا لم يكن فرق بينهم و بين غيرهم ولم يكن لتخصيص النبي (صلى الله عليه وآله) علما يفهمه جميع الناس ببعض أولاده وجه وحكمة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة سلام الله عليها فلعلها كانت منبهة على أصول لم يكن يستعد لفهمها وتفريع مسائلها سائر الناس، وبالجملة العلم اللائق بهم هو العلم الالهامى الذي ذكره (عليه السلام) أولا، وأما المنقول والمكتوب والمروي فليس شيئا يوجب انحصار كتابه عند أحد فضلا له بل يستلزم منعه من الغير مع امكان فهمه ضنا وبخلا لا يليق بأولياء الله تعالى، وقد يستعجب من كون صحيفة طولها سبعون ذراعا مشتملا على جميع العلوم إذ لا تبلغ كتابة مثل هذه الصحيفة ما في نحو مائتي صفحة من القطع الرحلي في زماننا مثلا نصف مكاسب الشيخ - عليه الرحمة - وكانت الصحيفة في تلك الأزمنة قرطاسا طويلا جدا يكتبون على وجه واحد ثم يطوونها كاستوانة ويجعلونها في محفظة ووعاء استواني مثلها كما هو متداول في القبالات والإسناد في زماننا. (ش)

حصر العلم الكامل فيه وأن ليس وراءه علم كامل وحمله على الإنكار وأنه ليس لعلم كامل بعيد، وبالجملة ادعى السائل كماله أولا وحصر الكمال فيه ثانيا فصدق (عليه السلام) قوله في الأول وأبطل قوله في الثاني وحمل قوله (عليه السلام) على إبطال الأول بعيد.

قوله (من فلق فيه) الفلق بفتح الفاء وسكون اللام: الشق يقال: كلمه من فلق فيه إذا كلمه شفاها.

قوله (حتى أرش الخدش) الأرش: دية الجراحات و الجنايات، وإنما سميت أرشا لأنها من أسباب النزاع يقال: أرشت بين القوم إذا أوقعت بينهم وأفسدت. والخدش: مصدر خدش وجهه إذا ظفره فأدماه أولم يدمه، ثم سمى به الأثر.

قوله (وضرب بيده إلي) أي ألقاها إلي أو علي على أن يكون إلى بمعنى على، يقال ضرب الشبكة على الطائر وضرب يده على الحائط إذا ألقاهما عليهما، وكأن الباء زائدة أو للتبعيض.

قوله (فقال: أتأذن لي) فيه دلالة على جواز إيصال الضرر اليسير إلى الغير بإذنه وعلى جواز إبراء ما لم يلزم بعد.

قوله (إنما أنا لك) أي عبد لك.

قوله (كأنه مغضب) اسم مفعول من أغضبه وكان وجه غضبه عند تذكر الأحكام والحدود ملاحظة إنكار الخلق لها وأهلها وتركهم لدين الحق ورجوعهم إلى آرائهم ومتمنيات نفوسهم.

قوله (وإن عندنا الجفر) قال الشيخ في الكشكول: الجفر: ثمانية وعشرون جزءا وكل جزء ثمانية وعشرون صفحة وكل صفحة ثمانية وعشرون سطرا وكل سطر ثمانية وعشرون بيتا وكل بيت أربعة أحرف الحرف الأول بعدد الجزء والثاني بعدد الصفحة والثالث بعدد الأسطر والرابع بعدد البيوت، فاسم جعفر مثلا يطلب من البيت العشرين من السطر السابع عشر من الصفحة السادسة عشر من الجزء الثالث وعلى ذلك فقس.

قوله (وعاء من أدم) قال في المغرب: الأدم بفتحتين: اسم لجمع أديم وهو الجلد المدبوغ المصلح بالدباغ من الإدام وهو ما يؤتدم به والجمع ادم بضمتين، قال ابن الانباري: معناه الذي يطيب الخبز ويصلحه ويلتذ به الأكل والأدم مثله و الجمع آدام كحلم وأحلام. وقال ابن الأثير:

الآدمة بالمد: جمع أديم مثل رغيف وأرغفة والمشهور في جمعه أدم. وقال الجوهري مثله.

قوله (فيه علم النبيين) يحتمل أن علومهم في صحيفة والصحيفة في ذلك الوعاء كما يحتمل أنها مكتوبة فيه.

ص:338

قوله (والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد) أي وجه واحد من وجوه المعاني والأحكام بل فيه علم ما يكون من الحوادث اليومية وأحوال الجنة والنار وأهلهما. وأحوال أبيها ومكانه وأحوال ذريتها وما يجري عليهم وأحوال شيعتهم إلى يوم القيامة، قال بعض الأفاضل: فإن قلت في القرآن أيضا بعض ذلك، قلت: لعله لم يذكر فيه ما في القرآن من الأخبار. فإن قلت: يظهر من خير الحسين بن أبي العلاء اشتماله على الأحكام قلت: لعل من الأحكام ما ليس في القرآن. فإن قلت: قد ورد في الأخبار أن القرآن مشتمل على جميع العلوم، قلت: لعل المراد ما نفهم من القرآن ولذا قال:

«قرآنكم».

قوله (قال: ما يحدث بالليل والنهار) فإن قلت: قد ثبت أن كل شيء في القرآن وأنهم عالمون بجميع ما فيه، وأيضا قد ثبت بالرواية المتكاثرة أنهم يعلمون جميع العلوم فما معنى هذا الكلام وما وجه الجمع؟ قلت: أولا: الوجه فيه ما رواه سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إن لله علمين: علم أظهر عليه ملائته وأنبياءه ورسله، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياء فقد علمناه، وعلما أستأثر به فإذا بدا لله في شيء منه أعلمنا ذلك وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا» ويؤيده أيضا ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم - الحديث» وما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الإمام إن شاء أن يعلم علم» (1) وملخصه أن علمهم ببعض الأشياء فعلي وببعضها بالقوة القربية بمعني أنه يكفي في حصوله توجه نفوسهم القدسية وهم يسمعون هذا جهلا لعدم حصوله بالفعل، وبهذا يجمع بين الروايات التي دل بعضها على علمهم بجميع الأشياء وبعضها على عدمه، وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه يحصل لهم في اليوم والليلة عند توجه نفوسهم القادسة إلى عالم الأمر علوم كثيره لم تكن حاصلة بالفعل، وثانيا: أن علومهم بالأشياء التي توجد علوم إجمالية ظلية وعند ظهور ها عليهم في الأعيان كل يوم وليلة علوم شهودية حضورية، ولا شبهة في أن الثاني مغاير للأول وأكمل منه، والله أعلم.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن حماد ابن عثمان قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة (عليها السلام)، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) من وفاته من الحزن مالا يعلمه إلا الله عزوجل فأرسل الله إليها ملكا يسلي غمها

ص:339


1- 1 - سيأتي جميع تلك الأخبار في الأبواب الآتية.

ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كلما سمع حتى ألبت من ذلك مصحفا قال: ثم قال:

أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون.

* الشرح:

قوله (فأرسل إليها ملكا) هو جبرئيل (عليه السلام) كما سيأتي أو غيره.

قوله (يسلي غمها) أي يكشف عنها الغم ويرفعه، يقال: سلاه من الغم تسلية وأسلاء أي كشفه فانسلى عنه الغم، وتسلي: بمعنى انكشف.

قوله (فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)) قيل: لعدم إمكان حفظ كلها. والشكاية: الإخبار عن الشيء بسوء فعله والمراد هنا مجرد الإخبار.

قوله (يكتب كلما سمع) (1) الظاهر أنه سمع من الملك بلا واسطة، ويحتمل أنه سمع من فاطمة (عليه السلام)

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندي الجفر الأبيض، قال: قلت: فأي شيء فيه؟ قال: زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم و الحلال والحرام، ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة

ص:340


1- 1 - قوله «يكتب كما سمع» ليس في هذا الخبر شيء يخالف أصول المذهب وان كان ضعيفا بحسب الإسناد إلا أن ظهور الزنادقة سنة ثمان وعشرين ومائة غير مفهوم فإنهم أتباع ماني وكان ظهورهم في ملك شابور بن أردشير من ملوك بني ساسان قبل ظهور الإسلام بمئات من السنين وبقوا ملكهم إلى أن ظهر دين الإسلام على سائر الأديان فانقرضوا تدريجا ولم يبق منهم باقية هذا إن كان المراد بظهورهم حدوثهم على ما هو المتبادر، وإن اريد منه غلبتهم فلم يغلبوا بعد الإسلام البتة بل كانت اليد للمسلمين مطلقا وإن لم يكن خلفاؤهم من أهل الإمامة، وان أريد بالظهور رفع التقية عنهم وتجويز اظهار آرائهم فلم يكن هذا محققا في زمان لأن في كل عصر أظهر واحد منهم رأيا أخذ وقبل كابن أبي العوجاء وغيره كثير وكان الخلفاء من بني العباس وغيرهم من الأمراء يبالغون في التفتيش عن الزنادقة ويجاوزون الحد في التجسس والقتل والاستيصال وكانوا قبل سنة ثمان وعشرين ومائة في دولة بني أمية لا يعاقبون هذا التعاقب ولعل المسلمين كانوا حينئذ لا يرونهم إلا طائفة من أهل الكتاب من المجوس ولا يفرقون بينهم وبين أتباع زردشت. (ش)

وأرش الخدش، و عندي الجفر الأحمر، قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟ قال: السلاح و ذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل، فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل و النهار أنه نهار ولكنهم يحملهم الحسد وطلب الدنيا على الجحود والإنكار ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم.

* الشرح:

قوله (فأي شيء فيه قال: زبور داود) الظاهر أن الجفر الأبيض وعاء فيه هذه الصحف لا أنها مكتوبة فيه.

قوله (ولا أزعم أن فيه قرآنا) (1) المقصود أنه ليس فيه شيء من القرآن وإلا كان (عليه السلام) عالما به، والظاهر أن الضمير المجرور في «فيه» في المواضح الثلاثة راجع إلى مصحف فاطمة (عليها السلام) (2) ورجوعه إلى الجفر الأبيض بعيد، ولعل المراد بالقرآن هو القرآن المعروف بيننا فلا ينافي اختصاص المصحف ببعض العلوم و بعض الأحكام ما تقرر من أن في القران جميع العلوم وجميع الأحكام. و لعل المراد بهذا القرآن القرآن الذي لم يقع فيه التحريف، وهو الذي جمعه علي بن أبي طالب (عليه السلام).

قوله (وأي شيء في الجفر الأحمر) قال: السلاح، هذا صريح في أن الجفر الأحمر ظرف للسلاح كالصندوق ونحوه.

قوله (ولو طلبوا الحق لكان خيرا لهم) وهم طلبوا الباطل أعني الدنيا بالباطل الذي هو الحسد وإنكار الإمام وأهل الحق فيعود إليهم النكال في الدنيا والوبال في الآخرة، ولو طلبوا الحق أعني الآخرة وما يوجب رفع الدرجة فيها بالحق الذي هو محبة الإمام والإذعان له ومتابعته لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة واسم التفضيل هنا لأصل الفعل لا للزيادة إذ لا خير في مخالفة الحق أصلا.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن سليمان بن خالد قال:

ص:341


1- 1 - قوله «لا أزعم أن فيه قرآنا» كلمة تدل على الشك ولا يليق بالإمام على ما سبق في متواتر الأخبار. (ش)
2- 2 قوله «راجع إلى مصحف فاطمة» لا ريب فيه ولا يتصور رجوعه إلى الجفر الأبيض ولكن ينافي حينئذ ما في الخبر السابق أنه ليس في ذلك المصحف شيء من الحلال والحرام ولا حاجة إلى معرفة ذلك فإن مصحف فاطمة (عليها السلام) كان خاصا بهم (عليهما السلام) سواء كان فيه الحلال والحرام أو العلوم الاخر وقوله لم يقع فيه التحريف سيأتي الكلام فيه إن شاء الله. (ش)

قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن في الجفر الذي يذكرونه لما يسوؤهم، لأنهم لا يقولون الحق والحق فيه، فليخرجوا قضايا علي وفرائضه إن كانوا صادقين وسلوهم عن الخالات والعمات، وليخرجوا مصحف فاطمة (عليها السلام) فإن فيه وصية فاطمة (عليها السلام) ومعه سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول:

(فأتوا بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).

* الشرح:

قوله (إن في الجفر الذي يذكرونه لما يسوؤهم) ساءه يسوؤه سواءا بالفتح ومساءة نقيض سره، والاسم: السوء بالضم. والمراد أن في الجفر الذي يذكره بنو الحسن ويدعون أنه عندهم لما يسوؤهم ويفضحهم لأنهم لا يقولون الحق ولا يعملون به، والحق في الجفر فهم إما كاذبون في تلك الدعوى أو صادقون وعلى الأخير إما جاهلون بما فيه من الحق الصريح أو عالمون به تاركون له، وعلى التقادير يلزم ما ذكره من المساءة والفضيحة. ثم أشار إلى أنهم كاذبون في تلك الدعوى بقوله: فليخرجوا قضايا علي وفرائضه إن كانوا صادقين في تلك الدعوى لأن قضاياه وفرائضه كلها موجودة فيه وحيث لم يقدروا على إخراجها علموا أنهم كاذبون وبقوله «وسلوهم عن الخالات والعمات» فإن حكمها أيضا موجود فيه ولا يعلمونه. وبقوله «وليخرجوا مصحف فاطمة» وهذا أقوى في تكذيبهم مما مر لعدم توقفه على العلم، وقوله «فإن فيه» أي في مصحف فاطمة (عليها السلام) وصية فاطمة (عليها السلام) و «معه» أي مع هذا المصحف سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) دليل للإخراج يعني أن الإخراج نافع لهم حيث يظهر أن الوصية والسلاح عندهم فحيث لم يخرجوه مع ما فيه من النفع العظيم لهم علم أنهم كاذبون.

قوله (إن الله عزوجل يقول) تأكيد لما سبق من كذبهم إذ دعوى شيء لا يدل عليه كتاب ولم يقارن ما يفيد العلم به دل على كذب المدعي، والأثارة من العلم: بقية منه، وينبغي أن يعلم أن هذه الآية نزلت لإلزام المشركين القائلين بتعدد الآلهة نقلا لعدم ما يقتضي صحة قولهم في كتاب قبل هذا القرآن إذ هو ناطق بالتوحيد ولا في بقية من علم الأولين لأنه ليس في شيء منهما ما يدل على صدق مقالتهم واستحقاق آلهتهم للعبادة بعدما ألزمهم عقلا بقوله جل شأنه (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) فأبطل قولهم بأنه ليس لآلهتهم مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم حتى تستحق العبادة به، وقد سلك (عليه السلام) هذه الطريقة في إلزام من ادعى أن الجفر عنده حيث ألزمهم أولا بالمقدمات العقلية، وثانيا بعدم ما يدل على صحة

ص:342

قولهم نقلا، ثم ينبغي أن يعلم أن ما نقله (عليه السلام) من الآية نقل بالمعني وإلا فالآية هكذا (إيتوني بكتاب).

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة قال:

سأل أبا عبد الله (عليه السلام) بعض أصحابنا عن الجفر فقال: هو جلد ثور مملوء علما، قال له: فالجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش، قال: فمصحف فاطمة (عليها السلام)؟ قال: فسكت طويلا، ثم قال: إنكم لتبحثون عما تريدون وعما لا تريدون إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوما وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (عليه السلام).

* الشرح:

(هو جلد ثور مملوء علما) ليس فيه دلالة على أن العلم مكتوب في الجلد لاحتمال أن يكون مكتوبا في صحيفة مخفوظة فيه.

قوله (في عرض الأديم مثل فخذ الفالج) الأديم: الجلد المدبوغ، وليس فيه دلالة على أن الجامعة أديم بل على أنها في عرضه. والفالج بالفاء والجيم أخيرا: الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من السند للفحلة.

قوله (قال: فمصحف فاطمة (عليها السلام)) أي قال: ففسر لنا مصحف فاطمة (عليها السلام) كما فسرت لنا الجامعة أو قال: فمصحف فاطمة (عليها السلام) ما هو؟ فسكت (عليها السلام) سكوتا طويلا يشاور نفسه المقدسة هل يجيبه أم لا، ثم رجح جانب الجواب لئلا يعود إلى السائل غضاضة بتركه فأجابه بعد لومه بقوله إنكم لتبحثون عما تريدون وعما لا تريدون، أي عما تريدون لاحتياجكم إلى معرفته وعما لا تريدون لعدم احتياجكم إلى معرفته، وفيه إرشاد للمتعلم إلى أن يكف نفسه عن السؤال عما لا يتعلق الغرض بمعرفته.

* الأصل:

باب الاستطاعة6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن صالح بن سعيد، عن أحمد بن أبي بشر، عن

ص:343

بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندنا مالا نحتاج معه إلى الناس وإن الناس ليحتاجون إلينا وإن عندنا كتابا إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي (عليه السلام)، صحيفة فيها كل حلال وحرام وإنكم لتأتونا بالأمر، فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه.

* الشرح:

قوله (وإنكم لتأتون بالأمر) في بعض النسخ «لتأتونا بالأمر» بضمير المتكلم مع الغير والمراد بالأمر الأمر من الأمور الشرعية والحكم من الأحكام الدينية وفيه إشارة إلى أنهم (عليه السلام) عالمون بأفعالنا الكلية والجزئية تفصيلا.

قوله (بمحمد بن عبد الله) هو محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية الذي خرج على المنصور الدوانيقي ثاني خلفاء بني عباس.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن فضيل ابن يسار، وبريد بن معاوية، وزرارة، أن عبد الملك بن أعين قال لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد الله فهل له سلطان؟ فقال: والله عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وكل ملك يملك الأرض، لا والله ما محمد بن عبد الله في واحد منهما.

* الشرح:

قوله (إن عندي لكتابين) لعلهما الجفر ومصحف فاطمة (عليها السلام).

قوله (قبيل) بالتصغير وفي بعض النسخ قبل بالتكبير وقرب زمان النظر في الأول أكثر.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عبد الصمد بن بشير، عن فضيل بن سكرة، قال: دخلت على أبي عبد الله فقال: يا فضيل أتدري في أي شيء كنت أنظر قبيل؟ قال: قلت: لا قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة (عليها السلام)، ليس من ملك يملك [الأرض] إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا.

* الشرح:

قوله (ليس من ملك يملك) فائدة الوصف أمران: أحدهما: الإشارة إلى أن بني الحسن وغيرهم من مدعي الملك مكتوب فيه لامن حيث أنهم يملكون بل من حيث أنهم يخرجون فيقتلون أو

ص:344

يذلون، وثانيهما: الإشارة إلى زيادة التعميم وشمول كل ملك من شرق الأرض وغربها إلى قيام الساعة كما في قوله تعالى (ولا طائر يطير بجناحيه).

قوله (وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا) هذا قدح عظيم لمن اشتهر من ولد الحسن بالملك من غرب الأرض وغيره وقد تكلم أصحاب السير في نسبهم أيضا وحمل ولد الحسن على ولده الموجودين في عصره (عليه السلام) بعيد جدا.

ص:345

باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها

* الأصل:

1 - محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد ابن محمد جميعا، عن الحسن بن العباس بن الحريش (1) عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): بينا أبي (عليه السلام) يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيض له فقطع عليه أسبوعه حتى أدخله إلى دار جنب الصفا فأرسل إلي فكنا ثلاثة فقال: مرحبا يا ابن رسول الله ثم وضع يده على رأسي وقال:

بارك الله فيك يا أمين الله بعد آبائه. يا أبا جعفر إن شئت فأخبرني وإن شئت فأخبرتك وإن شئت سلني وإن شئت سألتك، وإن شئت فأصدقني وإن شئت صدقتك؟ قال: كل ذلك أشاء قال: فاياك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمر لي غيره قال: إنما يفعل ذلك من في قلبه علمان يخالف أحدهما صاحبه وإن الله عزوجل أبى أن يكون له علم فيه اختلاف قال: هذه مسألتي وقد فسرت طرفا منها، أخبرني عن هذا العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟ قال: أما جملة العلم فعند الله جل ذكره و أما ما لابد للعباد منه فعند الأوصياء قال: ففتح الرجل عجرته واستوى جالسا وتهلل وجهه وقال: هذه أردت ولها أتيت، زعمت أن علم مالا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء فكيف يعلمونه؟ قال: كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلمه إلا أنهم لا يرون ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى. لأنه كان نبيا وهم محدثون وإنه كان يفد إلى الله عزوجل فيسمع الوحي وهم لا يسمعون فقال: صدقت يا ابن رسول الله! سآتيك بمسألة صعبة، أخبرني عن هذا العلم ما له لا يظهر كما كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال:

فضحك أبي (عليه السلام) وقال: أبى الله عزوجل أن يطلع على علمه إلا ممتحنا للإيمان به كما قضى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصبر على أذى قومه ولا يجاهدهم إلا بأمره، فكم من اكتتام قد اكتتم به حتى قيل له: (اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وأيم الله أن لو صدع قبل ذلك لكان آمنا ولكنه إنما نظر في الطاعة وخاف الخلاف فلذلك كف، فوددت أن عينك تكون مع مهدي هذه الامة و الملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذب أرواح الكفرة من الأموات وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء ثم أخرج سيفا ثم قال: ها إن هذا منها، قال: فقال: أبي إي والذي اصطفى

ص:346


1- 1 - هذا الرجل ضعيف جدا والحديث فاسد الألفاظ تشهد مخائله على أنه موضوع. (صه)

محمدا على البشر، قال: فرد الرجل اعتجاره و قال: أنا إلياس ما سألتك عن أمرك وبي منه جهالة غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث قوة لأصحابك وسأخبرك بآية أنت تعرفها إن خاصموا بها فلجوا.

قال: فقال له أبي (عليه السلام): إن شئت أخبرتك بها، قال: قد شئت، قال: إن شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا: إن الله عز وجل: بقول لرسوله (صلى الله عليه وآله): إنا أنزلناه في ليلة القدر - إلى آخرها - فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلم من العلم شيئا لا يعلمه في تلك الليلة أو يأتيه به جبرئيل (عليه السلام) في غيرها؟ فانهم سيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان لما علم بد من أن يظهر؟ فيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان لما علم بد من أن يظهر؟ فيقولون: لا، فقل لهم: فهل كان فيما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من علم الله عز ذكره اختلاف؟ فإن قالوا: لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف فهل خالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقولون: نعم - فان قالوا: لا، فقد نقضوا أول كلامهم - فقل لهم: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فإن قالوا: من الراسخون في العلم؟ فقل: من لا يختلف في علمه، فإن قالوا: فمن هو ذاك؟ فقل: كأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاحب ذلك، فهل بلغ أو لا؟ فإن قالوا: قد بلغ فقل: فهل مات (صلى الله عليه وآله) والخليفة من بعده يعلم علما ليس فيه اختلاف؟ فإن قالوا:

لا، فقل: إن خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤيد ولا يستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا من يحكم بحكمه وإلا من يكون مثله إلا النبوة وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف في علمه أحدا فقد ضيع من في أصلاب الرجال ممن يكون بعده فإن قالوا لك: فإن علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من القرآن فقل: (حم والكتاب المبين * أنا أنزلناه في ليلة مباركة [إنا كنا منذرين * فيها] إلى قوله: إنا كنا مرسلين) فإن قالوا لك:

لا يرسل الله عز وجل إلا إلى نبي فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزل من سماء إلى سماء أو من سماء إلى أرض؟ فإن قالوا من سماء إلى سماء فليس في للسماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية، فإن قالوا من سماء إلى أرض وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك فقل: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه؟ فان قالوا: فان الخليفة هو حكمهم. فقل: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور - إلى قوله -: خالدون) لعمري ما في الأرض ولا في السماء ولي لله عز ذكره إلا وهو مؤيد ومن أيد لم يخط وما في الأرض عدو لله عز ذكره إلا وهو مخذول ومن خذل لم يصب، كما أن الأمر لابد من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض كذلك لابد من وال، فإن قالوا: لا نعرف هذا فقل: [لهم] قولوا ما أحببتم، أبى الله عز وجل بعد محمد (صلى الله عليه وآله) أن يترك العباد ولا حجة عليهم، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثم وقف فقال: ههنا يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) باب غامض أرأيت إن قالوا: حجة الله القرآن؟ قال:

ص:347

إذن أقول لهم: إن القرآن ليس بناطق يأمر وينهى ولكن للقرآن أهل يأمرون وينهون وأقول قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنة والحكم الذي ليس فيه اختلاف وليست في القرآن أبى الله لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه راد لها ومفرج عن أهلها فقال: ههنا تفلجون يا ابن رسول الله أشهد أن الله عز ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة في الأرض أو في أنفسهم من الدين أو غيره فوضع القرآن دليلا، قال: فقال الرجل: هل تدري يا ابن رسول الله دليل ما هو؟ قال أبو جعفر (عليه السلام)، نعم فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم، فقال: أبى الله أن يصيب عبدا بمصيبة في دينه أو في نفسه أو [في] ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة قال: فقال الرجل: أما في هذا الباب فقد فلجتهم بحجة إلا أن يفتري خصمكم على الله فيقول: ليس لله جل ذكره حجة. ولكن أخبرني عن تفسير (لكيلا تأسوا على ما فاتكم)؟ مما خص به علي (ولا تفرحوا بما آتاكم) قال: في أبي فلان وأصحابه واحدة مقدمة وواحدة مؤخرة (لا تأسوا على ما فاتكم) مما خص به علي (عليه السلام) (ولا تفرحوا بما آتاكم) من الفتنة التي عرضت لكم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال الرجل: أشهد أنكم أصحاب الحكم الذي لا اختلاف فيه ثم قام الرجل وذهب فلم أره.

* الشرح:

قوله (إذا رجل معجر) في النهاية الاعتجار هو أن يلف العمامة على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه ومنه حديث الحجاج دخل مكة معتجرا بعمامة سوداء، وفي المغرب الاعتجار الاعتمام وأما الاعتجار المنهي عنه في الصلاة فهولي العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك عن الأزهري وتفسير من قال هو أن يلف العمامة على رأسه ويبدي الهامة أقرب لأنه مأخوذ من معجر المرأة وهو ثوب كالعصابة تلفه المرأة على استدارة رأسها في الأجناس عن محمد المعتجر المتنقب بعمامته وقد غطى أنفه.

قوله (قد قيض له) على صيغة المجهول من باب التفعيل يقال: قيض الله فلانا لفلان أي جاءه به وأتاحه له، يعني قدره له، ومنه قوله تعالى (وقيضنا لهم قرناء) أي قدرنا وسببنا لهم من حيث لا يحتسبونه.

قوله (مرحبا) أي لقيت رحبا وسعة، وقيل: معناه رحب الله بك مرحبا فجعل المرحب موضع

ص:348

الترحيب. وقيل أتيت سعة.

قوله (بارك الله فيك) أي زاد الله فيك خيرا أو ثبتك فيه.

قوله (إن شئت فأخبرني) خيره بين ثلاثة أمور الأول الإخبار وهو إفادة المخاطب، والثاني المسألة وهي استفادة ما عنده، والثالث الصدق أو تصديق المتكلم وعده صادقا وهو يناسب الأولين جميعا لأنه يناسب الإخبار والجواب كليهما وهذا من جملة الآداب في التخاطب والمناظرة.

قوله (فإياك أن ينطق لسانك عند مسألتي بأمر تضمير لي غيره) إضافة المسألة إلى الفاعل أو المفعول والباء متعلق بينطبق والاضمار التغيب والإخفاء ومنه أضمر في قلبه شيئا كما صرح في المغرب وكأنه حذره من أن ينطق بغير ما يضمر في قلبه وأمره بأن يكون لسانه مطابقا لما في قلبه غير مخالف له كما هو شأن أصحاب المناظرة والجدل، أو أمره بأن ينطق بما يفيد اليقين دون الاحتمال أو الظاهر فأجاب (عليه السلام) بأن ذلك شأن من كان في قلبه علمان يخالف أحدهما الآخر وأما من كان في قلبه علم واحد لا اختلاف فيه فلسانه مطابق لقلبه وما ينطق به يفيد اليقين الذي لا يحتمل غيره.

قوله (أما جملة العلم فعند الله تعالى) المراد بجملة العلم كله.

قوله (ففتح الرجل عجرته) قال الجوهري العجرة بالكسر نوع من العمة. هكذا في بعض النسخ وفي أكثر عجيزته بالباء بعد الجيم والزاي المعجمة بعد الياء والعجز مؤخر الشيء يذكر ويؤنث وهو للرجل والمرأة جميعا والجمع الأعجاز، والعجيزة للمرأة خاصة كذا في الصحاح قال ابن الأثير: في حديث البراء إنه رفع عجيزته في السجود العجيزة العجز وهي للمرأة خاصة فاستعارها للرجل.

قوله (وتهلل وجهه) في الصراح تهلل درخشيدن برق وروى از شادى.

قوله (زعمت) الزعم مثلثة قد يطلق على القول الحق وإن كان إطلاقه على الباطل والكذب وما يشك فيه أكثر.

قوله (فكيف يعلمونه) سأل عن كيفية حصوله وطريق تعلمه فأجاب بأنهم سمعوه من الملائكة مثل النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أنه كان يراهم وهم لا يرونه للفرق بين النبي والمحدث ولعل المقصود أن لهم علوما من هذا الطريق لا أن كل علومهم منه وإلا فجل علومهم من النبي (صلى الله عليه وآله).

قوله (وانه كان يفد) وفد إليه وعليه قدم وورد، وهذا فرق آخر بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) بأنهم لا يسمعون الوحي بلا واسطة من الله تعالى وهو يسمعه.

ص:349

قوله (أخبرني عن هذا العلم) سأل عن سبب عدم ظهور هذا العلم الذي لا اختلاف فيه مع الأصياء حتى لا يوجد في الدين اختلاف ويرجع إليهم الناس كلهم كما كان يظهر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قوله (فضحك أبي (صلى الله عليه وآله)) سبب الضحك أمران أحدهما أنه جعل هذه المسألة صعبة وليست كذلك والآخر أنه سأله للامتحان والاختبار بحسب الظاهر تجاهلا عن حاله (عليه السلام) مع علمه (عليه السلام) بأنه عارف بحاله.

قوله (وقال أبى الله عز وجل أن يطلع على علمه إلا ممتحنا للإيمان به) حاصل الجواب أن ظهور هذا العلم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) دائما في محل المنع فإنه كان مدة في أول البعثة مأمورا بستره واكتتامه إلا عن أهله وهو الممتحن للإيمان حتى أمر بالإعلان والإظهار على الناس كلهم وكذلك الأوصياء مأمورون بستره واكتتامه إلا عن أهله حتى يؤمروا بإعلانه وإظهاره وحتى يأتي إبان أجله الذي يظهر فيه الدين الحق على كافة الناس وهو زمان مهدي هذه الامة.

قوله (فكم من أكتتام قد اكتتم به) المصدر بمعنى المفعول وكم خبرية لبيان الكثرة وضمير المجرور راجع إلى الاكتتام أو إلى الأمر ويرجح الثاني بأن الاكتتام يتعدى بنفسه يقال أكتتمت الشيء فهو مكتتم إذا اريد المبالغة في الكتمان يعني أنه (صلى الله عليه وآله) قد ستر كثيرا من الامور المستورة والأسرار الخفية عن غير أهلها حتى قيل له (أصدع بما تومر) أي تكلم به جهارا (وأعرض عن المشركين) ولا تلتفت إلى ما يقولون من الاستهزاء وغيره.

قوله (وأيم الله) أي وأيم الله قسمي وهو لفظ وضع للقسم، لو صدع بالحق وتكلم به جهارا قبل ذلك لكان آمنا في نفسه وأهله ولكنه إنما نظر في طاعة الرب وخاف خلافه أو خلاف الامة وعدم تأثير الصدع فيهم فلذلك كف عن الإجهار ولذلك يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند فوات التأثير والعلم بعدمه كما يسقط عند خوف النفس، وبالجملة إذا سقط الإعلان والإجهار عن النبي مع عدم خوف النفس، وبالجملة إذا سقط الإعلان والإجهار عن النبي مع عدم خوف النفس لمصلحة أخرى سقط عن الوصي مع خوف النفس بطريق أولى.

قوله (فوددت أن عينك) أشار إلى أن الوصي الذي يظهر معه هذا العلم الذي لا اختلاف فيه بأمر الله تعالى مهدي هذه الأمة الذي ينصره الله تعالى بالملائكة وزمانه زمان ظهور دين الحق على الأديان كلها ولو كره المشركون.

قوله (ثم أخرج سيفا ثم قال: ها) «ها» حرف التنبيه أو بمعنى خذ وقد تمد أي ثم أخرج ذلك الرل سيفا من غمده ثم قال: ها إن هذا السيف من سيوف آل داود والمراد بها إما الحقيقة أو تشبيها

ص:350

بسيوف آل داود في جريانها على الأعداء والاستيلاء على أهل العالم كما استولى سليمان (عليه السلام).

قوله (غير أني أحببت أن يكون هذا الحديث قوة لأصحابك) في مناظرة الخصم حيث يقولون:

لو كان للنبي وصي عالم بعلومه كلها لوجب عليه أن يظهر على الخلق إمامته وعلمه حتى لا يختلف أحد، وحيث لم يظهر علم أنه لا وصي ولا عالم بعلومه كلها والجواب ما أشار إليه (عليه السلام) من أن الاظهار إنما يجب لو لم يكن مأمورا بإخفائه وأما مع الأمر به فلا كما لم يظهر لنبي. وبالجملة وجوب الإظهار دائر مع الأمر به فعند انتفاعه لا يجب.

قوله (فلجوا) الفالج الغالب وقد فلج أصحابه وعلى أصحابه إذا غلبهم والاسم الفلج بالضم.

قوله (قال إن شيعتنا إن قالوا لأهل الخلاف لنا) حاصل هذا القول إلزامهم بأنهم مخالفون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في العلم والأحكام وإن في الامة من لا يخالفه وهو وصيه وصاحب علومه وأسراره وبناء الإلزام على مقدمات كلها مسلمة عندهم، الأول أنه (صلى الله عليه وآله) عالم بجميع الأشياء والثانية أنه وجب عليه إظهار علومه والثالثة أنه لا اختلاف في علمه وحكمه، والرابعة أن كل من حكم بحكم كان فيه اختلاف فقد خالفه، ومن هذه المقدمات ظهر أنهم مخالفون له في العلم والحكم إذ في علمهم وحكمهم اختلاف إلا أن يقولوا في المقدمة الرابعة إن كل من حكم بحكم فيه اختلاف غير مخالف له فيلزمهم أن هذا القول مناقض للمقدمة الثالثة المسلمة عندهم بالضرورة إذ عدم مخالفتهم له مع تحقق الاختلاف في علمهم وحكمهم إنما يتحقق إذا تحقق الاختلاف في علمه وحكمه أيضا وهذا مما لم يقولوا به.

قوله (لا يعلمه في تلك الليلة أو يأتيه به جبرئيل في غيرها) الظرف متعلق بالمنفي وقوله أو يأتيه عطف عليه.

قوله (فإنهم سيقولون لا) لاعترافهم بأنه علم كل شيء في تلك الليلة لقوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) أو أتاه جبرئيل في غيرها وبالجملة اعترفوا بأنه لم يمت حتى علم كل شيء.

قوله (فهل كان لما علم بد) من أن يظهر أي فراق من إظهاره وقولهم: لابد من كذا معناه لا فراق منه. (فيقولون: لا) أي فيقولون: لابد من إظهار علمه لأنه الغرض منه.

قوله (فيقولون: نعم) ويلزمهم من ذلك أنهم مخالفون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لوقوع الاختلاف في حكمهم.

قوله (فإن قالوا: لا فقد نقضوا أول كلامهم) أي فإن قالوا: من حكم بحكم فيه اختلاف لم يخالف رسول الله فقد نقضوا أول كلامهم حيث قالوا: لا اختلاف فيما أظهر رسول الله من علم الله تعالى لأن

ص:351

عدم التخالف يقتضي أن يكون في حكمه أيضا اختلاف.

قوله (فقل لهم) الفاء جزاء آخر للشرط أي فإن قالوا: لا، فقل لهم لابطال قولهم هذا بعد التناقض في كلامهم بالدليل الدال على أن خليفة الرسول مثله في جميع الصفات إلا النبوة فيجب أن يوافق قوله قوله وحكمه حكمه ولا يخالفه في أمر من الامور فمن خالفه ليس خليفة له.

قوله (فهل بلغ أو لا) أي فهل بلغ الرسول ذلك العلم الذي لا اختلاف فيه إلى أحد أو لا، فإن قالوا: لا فقل الخ أي فإن قالوا: لا يلزم أن يعلم الخليفة من بعده علما ليس فيه اختلاف فقل: إن هذا القول باطل بالضرورة لأن خليفة الرسول مؤيد مثله ولا يستخلف الرسول إلا من يحكم بحكمه ويكون مثله في جميع الصفات إلا النبوة إذ الغرض من خلافته هو إقامة دينه وعلمه وإجراء حكمه على امته ولو جاءت المخالفة بطلت الخلافة والغرض منها بالضرورة.

قوله (وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستخلف في علمه أحدا - الخ) أشار بذلك إلى إبطال احتمال آخر مقابل للاحتمال الأول وهو قوله: فإن قالوا: قد بلغ يعني إن قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يبلغ علمه ولم يستخلف في علمه أحدا فيرد عليهم أنه قد ضيع من في أصلاب الرجال فمن يكون بعده إلى يوم القيامة لأن تمسكهم بشريعته موقوف على وجود حاكم عالم بعلمه ينوب منابه في إجراء أحكامه وحدوده وغيرها فلو لم يستخلفه فقد ضيعهم.

قوله (فإن قالوا لك) إشارة إلى ما توهموا من منع مضمون الشرطية المذكورة وهو أن عدم تبليغ علمه وعدم استخلاف أحد فيه موجب لتضييع من في أصلاب الرجال لأن علمه (صلى الله عليه وآله) كان من القرآن والقرآن تبيان كل شيء وهو معمول بين الناس فلا يلزم من عدم تبليغ علمه إلى أحد من الامة وعدم استخلافه فيه ما ذكر، وقوله (عليه السلام) «فقل حم إلى آخره» إشارة إلى دليل آخر دال على وجوب وجود خليفة له عالم بعلمه حاكم بين خلقه وإنما أعرض عن جواب المنع لكونه في غاية الضعف مع أنه سيشير إليه والمراد بالكتاب المبين القرآن وبالليلة المباركة ليلة القدر، وبإنزاله فيها ابتداء إنزاله أو إنزال كله فيها إلى السماء الدنيا ثم إنزاله نجوما، إلى الأرض، وبالأمر الحكيم الأمر المحكم المشتمل على الحكمة وبالإرسال إرسال الملائكة في ليلة القدر ما دامت الدنيا إلى من يتولى امور الخلق ويحكم بينهم بالعدل.

قوله (فإن قالوا لك) منعوا إرسال الملائكة إلى غير نبي وبناء هذا المنع على أحد امور ثلاثة:

الأول اختصاص وجود ليلة القدر بعصر النبي وزواله بعده، الثاني وجودها بعده أيضا واختصاص نزول الملائكة إلى النبي وهو حي. الثالث كذلك واستمرار نزولهم إليه وهو ميت، ولما كان كل هذه الامور خلاف إجماع الامة إلا من لا يعتد به كما صرح به جماعة من علماء العامة أيضا وستعرفه لم

ص:352

يتعرض (عليه السلام) في الجواب لدفع ذلك بل أجاب بأنه إذا نزلت الملائكة في ليلة القدر بعده (صلى الله عليه وآله) من كل أمر حكيم بحكم الآية الكريمة نزلت إلى أهل الأرض قطعا لأن أهل السماء لا يحتاجون إلى الزجر والنهي إذ أحد منهم لا يرجع إلى معصية الرب حتى يحتاج إلى الزجر عنها وإذا نزلت إلى أهل الأرض وجب أن يكون هناك منزل إليه وهو إما حاكم الجور أو حاكم العدل والأول باطل لأن الجائر معزول عن الحكم بالضرورة ولقوله تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) أي التابع للهوى النفسانية والوساوس الشيطانية فهو لا يصلح أن يكون وليا للمؤمنين وموردا للملائكة ومتكفلا لأمر الخلق بالأمر والنهي فتعين الثاني وهو المطلوب.

ص:353

قوله (هو من الملائكة والروح) الضمير راجع إلى الأمر الحكيم أي الأمر المحكم المتقن المتضمن للحكم والمصالح. والجملة خبر بمعنى الاستفهام.

قوله (وأهل الأرض أحوج الخلق) الواو إما للعطف على قوله من سماء أو للحال.

قوله (فإن قالوا فإن الخليفة هو حكمهم) الحكم بالتحريك هو الحاكم والمراد بالخليفة سلطان العصر وخلفاء الجور، وهذا القول مشعر بأن أهل الخلاف أيضا قائلون باستمرار حكم ليلة القدر وقد صرح به جماعة من علمائهم وادعوا الإجماع عليه فما ذكروه أولا من أن الله تعالى لا يرسل إلا إلى نبي كان مكابرة.

قوله (فقل الله ولي الذين آمنوا) ملخص الجواب أن ولي المؤمنين وجب أن يكون متصفا بإخراجهم من ظلمات الجهل إلى العلم وولي الكافرين والفاسقين عكس ذلك فكيف يكون ولي الكافرين والفاسقين ولي المؤمنين وتنزل إليه الملائكة وتجعله واليا لأمرهم ونهيهم.

قوله (ومن خذل لم يصب) فكيف يجعل من يخطأ ولا يصيب وليا للمؤمنين.

قوله (كما أن الأمر لابد) دفع بذلك توهم أن الملائكة تنزل لا إلى أحد.

قوله (قولوا ما أحببتم) دل على أن قولهم لا نعرف هذا محض المحبة النفسانية والهوى الشيطانية من غير أن يكون له أصل يستند إليه ومأخذ يعتمد عليه.

قوله (أبى الله أن يترك بعد محمد العباد ولا حجة عليهم) وإنما أبى ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة ولئلا يبطل الغرض من إيجادهم، وحجته تعالى عليهم يجب أن يكون من أهل العصمة والطهارة ليتم الوثوق بقوله وفعله وأمره ونهيه ووعده ووعيده.

قوله (ثم وقف) لعل المراد بالوقوف القيام لتعظيمه (عليه السلام) ورعاية الأدب والغامض من الكلام خلاف الواضح وهذا اعتراض على قوله (عليه السلام) «أبى الله أن يترك بعد محمد العباد ولا حجة عليهم» فكأنه قال: هذا حق ولكن الحجة هو القرآن فلا يتم المطلوب.

قوله (فال إذن أقول) حاصله: أن القرآن ليس بحجة إلا بناطق مؤيد يعلم ظاهر القرآن وباطنه وباطن باطنه ويتمر وينهى بالحق ولذلك ترى كل واحدة من الفرق المختلفة يتمسك بالقرآن وتخاصم به الاخرى وتحمله على المقاصد الباطلة فعلم من ذلك أن القرآن ليس بحجة مستقلة.

قوله (وأقول قد عرضت) عطف على أقول ووجه آخر لدفع الاعتراض المذكور.

قوله (ما هي في السنة) المراد بعدم كون حكم تلك المصيبة في السنة والقرآن عدم كونه فيهما بحسب علم الناس وعقولهم القاصرة فلا ينافي ما تقرر من أن كل شيء فيهما.

قوله (والحكم الذي ليس فيه اختلاف) تفسير للسنة واحتراز عن السنة المستندة إلى الرأي والقياس فإنها لا اعتداد بها لاختلاف آراء الناس وقياساتهم.

قوله (وليس في حكمه راد لها) الحكم إما بالتحريك أو بضم الحاء وسكون الكاف والضمير راجع إلى الله.

قوله (فوضع القرآن دليلا) أي دليلا عليها وعلى حكمها وهذا يؤيد ما قلنا في تفسير أنها ليست في القرآن من أنها ليست فيها بحسب عقولهم.

قوله (دليل ما هو) سأل عن كيفية دلالة القرآن عليها إما بالإجمال أو التفصيل فأجاب (عليه السلام) بأن فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحاكم العالم بمعانيه وأراد بالجمل مقابل التفصيل ويحتمل أن يراد بها الجميع (1).

قوله (ولكن أخبرني عن تفسير لكيلا تأسوا) الغرض من هذا الاستخبار اختبار حاله (عليه السلام) في

ص:354


1- 1 اعلم أن جميع ما روى في باب شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها منقول من الحسن بن العباس بن حريش الرازي أبي علي. قال النجاشي: روى عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ضعيف جدا، له كتاب انا أنزلناه في ليلة القدر وهو كتاب ردئ الحديث مضطرب الألفاظ انتهى. ونحوه حكى العلامة عن ابن الغضائري وزاد مخائله تشهد على أنه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه. أقول: ليس ما يعقل ويفهم من الدليل الذي نسبه إلى الياس النبي (عليه السلام) غير ما سبق في صدر كتاب الحجة من وجود إمام في كل عهد يزيل الشكوك والأوهام ويبين الأحكام لعدم اشتمال الكتاب والسنة ظاهرا على جميع ما يحتاج إليه الناس كما سبق في محاجة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد والرجل الشامي والذي يزيد في هذا الخبر ذكر إنا أنزلناه في ليلة القدر فإن قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) يدل بزعم الراوي على تنزيل الوحي في الأحكام والشرائع وحوائج الناس في امور دينهم في كل سنة ولابد أن يكون في كل زمان إمام ينزل إليه الوحي أو الإلهام ليكمل به الدين وهذا من المعصوم بعيد لأن الغرض إن كان المحاجة به على الخصم فظاهر ان قوله (تنزل الملائكة والروح) لا يدل على ان ما تنزل به من الأحكام وتفاصيل الشريعة وإن كان هذا تفسيرا من المعصوم فلا يكفي في المحاجة مع من لا يعترف بوجود إمام معصوم في كل زمان. (ش)

العلم بتفسير المتشابه بحسب الظاهر وإظهار علمه به بحسب الحقيقة حيث جعل الخطاب الثاني لغير من له الخطاب الأول وإن كان الظاهر المتبادر أنهما لطائفة واحدة كما زعمه غيره.

قوله (مما خص به علي (عليه السلام)) من الخلافة والرئاسة وهذا من كلام إلياس (عليه السلام) لبيان أن الخطاب مع أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم يعني لا تحزنوا على الخلافة التي فاتت عنكم بسبب تغلب الظالمين لا من تتمة القرآن.

قوله ((ولا تفرحوا بما آتاكم) قال: في أبي فلان وأصحابه) يعني أن لا تفرحوا وارد في ذم أبي بكر وأصحابه وخطاب معهم أي لا تفرحوا أيها الظالمون المتغلبون بالرئاسة التي آتاكم الله إياها بسبب تغلبكم على العالم الرباني ولما كان هنا مظنة أن يقال: إن هذا التفسير غير مناسب لسوق الكلام وموجب لتفكيك النظم إذ اتصال الآيتين يوجب إرجاع الخطاب في الموضعين إلى طائفة واحدة أجاب عنه بقوله واحدة مقدمة وواحدة مؤخرة يعني أن إحدى الآيتين في النزول والاخرى مؤخرة فيه ووقع الاتصال بينهما في عهد عثمان عند أمره بجمع القرآن لا أنهما نزلتا معا حتى يرد أن رجوع الخطاب الثاني إلى غير ما رجع إليه الخطاب الأول باطل.

تم المجلد الخامس ويليه في المجلد السادس الخبر الثاني من باب شأن إنا أنزلناه، إن شاء الله تعالى.

ص:355

فهرس الآیات

(إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت يوسف: 4... 105

(إلا امرأته قدرناها من الغابرين النمل: 57... 3

(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن الأعراف: 43... 17

(الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين

بما القصص: 52 - 54... 179

(الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم

بالمعروف وينهاهم عن الأعراف: 157... 178

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام

دينا المائدة: 3... 193 - 196

(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن الأحزاب: 72... 140

(إنا كل شيء خلقناه بقدر القمر: 49... 3

(إنا كنا عن هذا غافلين). الأعراف: 172... 123

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم جنات تجري من تحتها

الأنهار يونس: 9... 65

(إن الله يحول بين المرء وقلبه الأنفال: 24... 65

(إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الانسان: 3... 52

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله آل عمران: 68... 193 -

112 - 202

(إن رحمة الله قريب من المحسنين الأعراف: 56... 157

(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد الرعد: 7... 167 - 168

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) المائدة: 55.... 153 - 196

(إنما يتقبل الله من المتقين المائدة: 27... 134

(إنما يخشى الله من عباده العلماء). فاطر: 28... 130

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا الأحزاب: 33... 166

ص:356

(إني جاعلك للناس إماما ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين البقرة: 124... 112 - 193

(أتريدون أن تهدوا من أضل الله النساء: 88... 65

(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم يوسف: 55... 185

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم النساء: 59... 150

(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين يوسف: 99... 71

(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه هود: 17... 164

(أم حسب الذين... 10

(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). النساء: 54... 152

(أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فصلت: 53... 83 - 160

(أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس الانعام: 122... 148

(ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد الحج: 10... 34

(رب بما أغويتني لازينن لهم في الأرض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم

المخلصين الحجر: 39... 18

(ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين المؤمنون: 106... 18

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما النور:

37... 135

(سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) البقرة: 32... 52

(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ التوبة: 115... 52

(فاصبر كما صبر اولو العزم من الرسل الأحقاف: 35... 113

(فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) المرسلات: 5... 190

(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور الحج: 46... 135

(فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء: 41... 162

(فكيف كان عذابي ونذر القمر: 21... 138

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما

قضيت ويسلموا تسليما). النساء: 65... 131

(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام الانعام: 125... 71

(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم

ص:357

يحسنون الكهف: 103... 141

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة: 286... 37 - 54

(لا ينال عهدي الظالمين)، البقرة: 124... 108 - 111 - 193 - 203

(لو أن لي كرة فأكون من المحسنين الزمر: 58... 25

(لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم الزخرف: 31... 35

(ليبلوكم أيكم أحسن عملا هود: 7... 16

(ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا النجم: 31... 10

(ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج التوبة:

91... 62 - 66

(ويكون الرسول عليكم شهيدا البقرة: 143... 165

(ليكون الرسول شهيدا عليكم الحج: 78... 165

(ما فرطنا في الكتاب من شيء الانعام: 38... 193 - 194

(مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح إبراهيم: 18... 144

(مثل نوره.. الزجاجة كأنها كوكب دري النور: 35... 180

(من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم

في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) النمل: 89... 149

(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الانعام: 160... 12

(من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا). النساء: 80... 150

(وإذا فعلوا فاحشة الأعراف: 28... 15

(وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا

يوقنون النمل: 82... 192

(وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين

اولئك القصص: 53... 179

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الأعراف: 172... 57

(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة البقرة: 30... 176

(والراسخون في العلم يقولون آمنا) آل عمران: 7... 153

(وإن من امة إلا خلا فيها نذير فاطر: 24... 135 - 138

ص:358

(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) طه: 82... 10

(واولوا الأرحام بعضهم اولي ببعض في كتاب الأنفال: 75... 202

(وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون الصافات: 147... 108

(وأطيعوا الله وأطيعوا المائدة: 92... 196

(وألقوا إليكم السلم النساء: 90... 178

(وأما بنعمة ربك فحدث الضحى: 11... 185

(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) فصلت: 17... 52 - 64

(كذلك وجعلناكم امة وسطا البقرة: 143... 165

(وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات

(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم الفتح: 29... 176

(وقال الذين اوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث الروم: 56... 193

(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان... 203

(وقدر فيها أقواتها) فصلت: 10... 3

(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) الاسراء: 23... 14

(وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على البقرة: 143... 164 - 162

(وكلا جعلنا صالحين الأنبياء: 72... 201

(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الزخرف: 87... 57

(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا الاسراء: 55... 108

(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره يونس: 99... 73

(وما الله يريد ظلما للعباد غافر: 31... 15

(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله). الانسان: 30... 63

(وما جعل عليكم في الدين من حرج الحج: 78... 63 - 163 - 166

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين الأنبياء: 16... 13

(وما خلقناهما إلا بالحق ولكن الدخان: 39... 13

(وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم التوبة: 115... 52 - 53 - 54

(وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) يونس: 100... 73

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). الاسراء: 15... 55

ص:359

(ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا البقرة: 269... 148

(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة الأنبياء: 72... 201 - 193 - 112

(ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون الروم: 55... 203

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون

به الحديد: 28... 179

(يا أبت افعل ماتؤمر) الصافات: 102... 118

(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الحج: 77... 164

(يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا يوسف: 5... 104

(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ص: 26... 176

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره الصف: 8... 182

(يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) الحديد: 12... 180

(يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون). النور: 24... 162

(يوم ندعو كل اناس بإمامهم). الاسراء 71... 161

ص :360

الفهرس

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين...3

باب الاستطاعة...38

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة...47

باب اختلاف الحجة على عباده..57

باب حجج الله على خلقه...60

باب الهداية أنها من الله عز وجل...68

باب الاضطرار إلى الحجة...75

باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام))...108

باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث...115

باب ان الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بامام...121

باب أن الأرض لا تخلو من حجة...122

باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة...128

باب معرفة الإمام والرد اليه...130

باب فرض طاعة الأئمة...150

باب فی أن الأئمة علیهم السلام شهداء الله عزوجل علی خلقه ...162

باب ان الأئمة علیهم السلام هم الهداة ...167

باب ان الأئمة علیهم السلام هم ولاة امر الله و خزنة علمه...169

باب أن الأئمة علیهم السلام خلفاء الله عزوجل فی أرضه...174

باب أن الأئمة علیهم السلام نور الله عزوجل...177

باب أن الأئمة هم أرکان الأرض...183

باب نادر جامع فی فضل الإمام و صفته...193

باب أن الأئمة:ولاة الامر و هو الناس المحسودون الذین ذکرهم الله عزو جل ...252

باب أن الأئمة:هم العلامات التی ذکرها الله عزوجل فی کتابه...260

ص:361

باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة (عليهما السلام)...262

باب ما فرض الله عز وجل ورسوله من الكون مع الأئمة (عليهم السلام)...263

باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (عليهم السلام)...270

باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة (عليهم السلام)...275

باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (عليهم السلام)...277

باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم...280

باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)...281

باب[أن القرآن يهدي للإمام]...283

باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان: إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار...286

باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة (عليهم السلام)...287

باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)...288

باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)...291

باب أن الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية علي (عليه السلام)...293

باب ان الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة...295

باب أن الأئمة (عليهم السلام) ورثة العلم، يرث بعضهم بعضا العلم...297

باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم...301

باب أن الأئمة (عليهم السلام) عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل...309

باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة (عليهم السلام) وانهم يعلمون علمه كله...312

باب ما أعطي الأئمة (عليهم السلام) من اسم الله الأعظم...317

باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)...320

باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ومتاعه...323

باب أن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بني إسرائيل...334

باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام ...336

باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر وتفسيرها...346

ص:362

المجلد 6

اشاره

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

الحديث الثاني من باب شأن (إنا أنزلناه)

* الأصل:

2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أبي جالس وعنده نفر إذ استضحك حتى إغرورقت عيناه دموعا ثم قال: هل تدرون ما أضحكني؟ قال: فقالوا: لا. قال: زعم ابن عباس أنه من (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فقلت له: هل رأيت الملائكة يا ابن عباس! تخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟ قال: فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة) وقد دخل في هذا جميع الامة، فاستضحكت ثم قلت: صدقت يا ابن عباس أنشدك الله; في حكم الله جل ذكره اختلاف؟ قال: فقال: لا، فقلت: ما ترى في رجل ضرب رجلا أصابعه بالسيف حتى سقطت ثم ذهب وأتى به رجل آخر فأطار كفه فأتي به إليك وأنت قاض كيف أنت صانع؟ قال: أقول لهذا القاطع: أعطه دية كفه وأقول لهذا المقطوع: صالحه على ما شئت، وأبعث به إلى ذوي عدل، قلت: جاء الاختلاف في حكم الله عز ذكره ونقضت القول الأول، أبى الله عز ذكره أن يحدث في خلقه شيئا من الحدود [و] ليس تفسيره في الأرض، اقطع قاطع الكف أصلا ثم أعطه دية الأصابع، هكذا حكم الله ليلة تنزل فيها أمره، إن جحدتها بعدما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأدخلك الله النار كما أعمى بصرك يوم جحدتها علي بن أبي طالب قال:

فلذلك عمي بصري، قال: وما علمك بذلك؟ فوالله إن عمي بصري إلا من صفقة جناح الملك، قال: فاستضحكت ثم تركته يومه ذلك لسخافة عقله.

ثم لقيته فقلت: يا ابن عباس ما تكلمت بصدق مثل أمس، قال لك علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة وإن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: من هم؟ فقال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون، فقلت: لا أراها كانت إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتبدى لك الملك الذي يحدثه، فقال: كذبت يا عبد الله رأت عيناي الذي حدثك به علي - ولم تره عيناه ولكن وعى قلبه ووقر في سمعه - فقلت صفقك بجناحه فعميت؟ قال: فقال ابن عباس: ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله، فقلت له: فهل حكم الله في حكم من حكمه بأمرين؟ قال: لا، فقلت: ههنا هلكت وأهلكت.

* الشرح:

ص:3

قوله (حتى اغرورقت عيناه دموعا) يقال: اغرورقت عيناه إذا دمعتا كأنهما غرقتا في دمعهما.

قوله (زعم ابن عباس أنه من الذين قالوا ربنا الله) قال الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) قد مر تفسير هذه الآية بطريق الإجمال في باب بعد باب عرض الأعمال، واعلم أن عبد الله بن عباس كان في بداية الحال من أهل الأمانة والديانة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم تغيرت حاله وذهبت أمانته وفسدت ديانته (1) وذمه (عليه السلام) في مواضع عديدة ومن أراد الاطلاع عليه فليرجع إلى نهج البلاغة.

قوله (فقلت له: هل رأيت الملائكة (2) - إلى قوله - والحزن) قد ذكر الله تعالى جميع ذلك في

ص:4


1- (1) قوله «ثم تغيرت حاله وذهبت أمانته» ان الأمور المعلومة الواضحة المتواترة لا تدفع بالمشكوكات فضلا عما علم بطلانه يقينا وقد ذكر العلامة الحلي (رحمه الله) ابن عباس في الممدوحين من الخلاصة قال: عبد الله بن عباس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان محبا لعلي (عليه السلام) وتلميذا له، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين (عليه السلام) أشهر من أن يخفى. وقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحا فيه وهو أجل من ذلك قد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها (رضي الله عنه)، انتهى قوله وهو الحجة هنا، وأما الكشي فكما روى أحاديث في القدح روى أحاديث في مدحه غاية المدح وسلامته إلى آخر عمره خلافا لما قاله الشارح ولعل من رأى احتجاجاته في حرب الجمل ومحاجته مع معاوية على ما في البحار وتأسف أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدم رضى أصحابه بتعيين ابن عباس مكان أبي موسى الأشعري وغير ذلك مما لا يحصى لم يشك في حسن حال الرجل. وأما عتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه فلا يدل على عناد فيه ومخالفته في الإمامة ولم يكن ابن عباس معصوما فجاز أن يشتبه عليه أمر في مال أخذه من بيت المال وقد عتب على عثمان بن حنيف بأشد من ذلك وكان كتابه إليه ألطف وأرأف ولا اعتبار بسائر ما روي بطريق ضعيف والعبرة بالمتواتر من صحبته له ورضاه عنه وسعيه في تأكيد أمره وتحكيم خلافته وقد ذكر علماؤنا في الكلام أن المؤمن الحق لا يمكن أن يرتد ولا أدري كيف غفل عنه الشارح! ويختلج بالبال أن واضع الخبر أراد توهين ابن عباس تقربا إلى عوام الشيعة تنفيرا لهم عن خلفاء وقته لأنهم كانوا يفتخرون بجدهم. (ش)
2- (2) قوله «فقلت له هل رأيت الملائكة» رووا أن ابن عباس رأى جبرئيل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره النبي (صلى الله عليه وآله) أنه يعمى في آخر عمره وكانوا يعدون ذلك من فضائل ابن عباس لأن رؤية جبرئيل تدل على وجوده بصرا ملكوتيا يرى به ذلك العالم ولم يكن عماه في آخر عمره مجازاة على رؤية الملك لأنها لم تكن باختياره ولم تكن محرمة حتى يجازى عليها ولم تكن من أثر ضربة جناح الملك; وإلا لعمي من بدو صباه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله). وأما واضع هذا الخبر فكان سمع أن شيعة بني العباس يفتخرون برؤية جدهم جبرئيل (عليه السلام) وأن عماه في آخر عمره كان لذاك لأن الذي ينظر إلى ضياء قوي فوق استطاعة القوة الباصرة يتهيأ بصره للضعف والانحلال ولم يكن هذا الراوي مطلعا على تفصيل ما يرونه ويروونه وما يتمسكون به فلفق هذه الحكاية. والمكالمة لم تقع قط بين الإمام (عليه السلام) وابن عباس لأن الإمام معصوم عن الخطأ والغفلة وإن كان صبيا ولا يشتبه عليه الأمر. ثم إن الباقر (عليه السلام) لم يدرك ابن عباس إلا في صغره جدا فإنه مات سنة 65 أو 66 وأكثر ما قيل 68 ولم يكن (عليه السلام) حين ملاقاته إلا غلاما ابن عشر سنين ونحوه. والحسن بن عباس بن الحريش واضع الخبر لم يكن عالما بالتاريخ لبعد عهده عنهما وإلا لأشار إلى كون هذه المحاجة معجزة، ولكن روى الخبر بحيث يتبادر منه كون المحاجة حين إمامة الباقر (عليه السلام) وكونه محاطا بأصحابه وحضور أبي عبد الله (عليه السلام) مع كون ابن عباس حيا. (ش)

هذه الآية (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا).

قوله (فاستضحكت) سبب الضحك أن اندراج ابن عباس في آية (إنما المؤمنون إخوة) يتوقف على كونه مؤمنا وأنه بعقيدته الفاسدة خرج عن حد الإيمان فيرد عليه المثل المشهور «ثبت العرش ثم انقش» ولو سلم دخوله فيها فالآية لا دلالة فيها إلا على اشتراك الأمة في أصل الإيمان وأما كونه مندرجا في آية (قالوا ربنا الله) فلا دلالة عليه فلا يثبت مطلوبه وقوله (عليه السلام) «صدقت» إما مبني على التنزل وإما بمعنى أنك صدقت في أن المؤمنين إخوة وإن لم يكن فيه دلالة على المطلوب.

قوله (أنشدك الله. الخ) قال في «النهاية»: يقال: نشدتك الله وبالله وأنشدك الله وبالله أي سألتك وأقسمت عليك يعني بحقه ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا: نشدتك الله وبالله كما قالوا: دعوت زيدا وبزيد، أو لأنهم ضمنوه معنى ذكرت فأما أنشدتك بالله فخطأ.

قوله (هل في حكم الله اختلاف) أي هل يكون له أحكام مختلفة في قضية مخصوصة! أو هل يجوز تبديل حكمه بغيره بعد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال لا: لأن لله تعالى في كل قضية حكما واحدا ولا نسخ بعده.

قوله (فأتى به) أي برجل آخر وهو قاطع الكف.

قوله (قلت: جاء الاختلاف) قيل: لعل الاختلاف من تقويم المقومين لوقوع الاختلاف في التقويمات كثيرا، وقال الفاضل الأسترآبادي: كان مراد ابن عباس من ذكر (ذوي عدل) ما هو المشهور في كتب متأخري أصحابنا من الأرش وجعل الحر تابعا للعبد (1) ومن المعلوم الاختلاف بين هذا وبين صالحه عما شئت لأن هذا يقتضي أن يكون له قدر معلوم و (صالحه على ما شئت)

ص:5


1- (1) في كتب الديات: الجراحة التي ليست لها مقدر من الدية يفرض المجروح عبدا لو لم يكن فيه هذه الجراحة كم قيمته، ولو كان فيه هذه الجراحة كم قيمته، وبنسبة التفاوت بين القيمتين من الدية الكاملة يؤخذ للمجروح.

يقتضي أن لا يكون له قدر معلوم معين، وأيضا ظاهر قوله (عليه السلام) (أعطه دية كفه) أن القدر معلوم معين.

قوله (ونقضت القول الأول) وهو أنه لا اختلاف في حكم الله تعالى.

قوله (أبى الله أن يحدث) كأنه قيل: ليس لله في هذه القضية حكم، أو ما بلغ رسوله حكمها فأجاب بما ذكر.

قوله (اقطع) كأنه قيل: ما الحكم هنا؟ قال: اقطع الكف.

قوله (أصلا) (1) أي من أصل الكف.

قوله (ليلة تنزل فيها أمره) أي في ليلة فهي منصوبة على الظرفية والمراد بها ليلة القدر.

قوله (إن جحدتها) أي جحدت يا ابن عباس استمرار حكمها بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة.

قوله (يوم جحدتها) (2) أي يوم جحدت تلك الليلة على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسيجئ في هذا الحديث بيان إنكاره عليه.

قوله (فلذلك عمي بصري) أي قال ابن عباس اعترافا: فلذلك الإنكار عمي بصري، ثم قال: يا أبا جعفر وما علمك بذلك؟ يعني من أين علمت أن عمى بصري من أجل ذلك الإنكار؟.

قوله (فوالله الخ) من كلام أبي جعفر (عليه السلام) لبيان سبب عماه وهو أنه من صفقة جناح الملك، والصفقة: الضرب الذي له صوت، وكلمة إن نافية.

قوله (قال فاستضحكت) منشأ الضحك هو أن ابن عباس لكمال سخافته لم يعقل أن عمى بصره لأجل الإنكار يوجب الاعتراف بأن ما أنكره حق فإصراره على الإنكار مع الاعتراف بما يزيله محل التعجب. فقلت: يا ابن عباس ما تكلمت بصدق مثل أمس حيث اعترفت بأن عمى بصرك لذلك الإنكار. وفي بعض النسخ «يا أبا عباس».

قوله (قال لك علي بن أبي طالب (عليه السلام)) تفصيل لما أجمله أولا بقوله «كما أعمى بصرك يوم جحدتها على علي بن أبي طالب» وبقوله «إن عمى بصري إلا من صفقة جناح الملك».

ص:6


1- (1) قوله (اقطع قاطع الكف أصلا) هذا أيضا من أدلة ضعف الرواية إذ شرط قصاص الطرف التساوي أو كون الجاني أنقص فلا يجوز قطع يد ذات أصابع قصاصا بيد فاقدة لها وإن أعطاه دية الأصابع، ولا حاجة لنا إلى التكلف في توجيه فتوى ابن عباس بعد عدم اعتبار الخبر. (ش)
2- (2) قوله «يوم جحدتها» لم يعم بصر ابن عباس في خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان في زمن معاوية بصيرا بل عمي في آخر عمره في زمان ابن الزبير وقد حج في سنة حج فيها معاوية في خلافته فكان لابن عباس موكب ولمعاوية موكب وهذا أيضا من مخائل ضعف الخبر التي أشار إليها العلامة (رحمه الله) في «الخلاصة». (ش)

قوله (أئمة محدثون) خبر لقوله: أنا وأحد عشر من صلبي، أو حال عنه وهو خبر مبتدأ محذوف وهو هم أو خبر مبتدأ محذوف أي نحن أئمة.

قوله (فقلت لا أراها) أي فقلت: يا ابن عباس لا أرى ليلة القدر كانت إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما مات ذهبت معه (1) وقد عرفت أن هذا خلاف الإجماع.

قوله (فتبدى لك) أي فظهر لك يا ابن عباس الملك الذي كان يحدث عليا (عليه السلام) فقال: كذبت يا عبد الله فيما قلت من أن تلك الليلة إنما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصدق علي (عليه السلام) فيما قال من أن ليلة القدر في كل سنة إلى آخره لأنه رأت عيناي ما حدثك به علي (عليه السلام) من نزول الملائكة عليه في ليلة القدر إذ كنت من جملتهم ولم ترهم عينا علي (عليه السلام) إذ كان محدثا والمحدث يسمع صوت الملك ولا يراه ولكن وعى قلبه وحفظ ما القي إليه وسكن في سمعه وثبت، ثم صفقك الملك يا ابن عباس بجناحه فعميت، وفي بعض النسخ «ثم خفقك» أي ضربك، والخفق الضرب بشيء عريض يقال: خفقه بالسيف ويخفق إذا ضربه به ضربة خفيفة.

قوله (ووقر في سمعه) وقر من باب ضرب ووعد، يقال: وقر الشيء في سمعه أي سكن وثبت فيه من غير نسيان، من الوقار وهو الحلم والرزانة، وقد وقر يقر وقارا كذا في «النهاية» وفي بعض النسخ: وقر من القرار والمعنى واحد.

قوله (قال: فقال ابن عباس: ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله) يعني أنا يا أبا جعفر وأنت إذا اختلفنا في أمر من الأمور كاستمرار ليلة القدر ونحوه فالله يعلم المحق من المبطل، وغرضه أنه المحق.

قوله (فقلت له) الغرض منه حمل ابن عباس على الإقرار بأنه كاذب.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال عز وجل في ليلة القدر: «فيها يفرق كل أمر حكيم» يقول: ينزل فيها كل أمر حكيم والمحكم ليس بشيئين إنما هو شيء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله عز وجل، ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، إنه لينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا، وإنه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كل

ص:7


1- (1) قوله «فلما مات ذهبت معه» لا اعتبار بهذه النسبة ولا يعتد بها مع ضعف الحديث، والمشهور عن ابن عباس أن ليلة القدر في السابعة والعشرين من شهر رمضان وهو معروف عنه في كتب العامة والخاصة. (ش)

يوم علم الله عزوجل الخاص والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر، ثم قرأ: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم).

* الشرح:

قوله (ومن حكم بأمر فيه اختلاف) قد مر معنى الاختلاف آنفا.

قوله (فقد حكم بحكم الطاغوت) وهو الذي يتبع هواه ووساوس الشيطان ومن البين أن حكمه مخالف لحكم الله الذي لا اختلاف فيه وموافق لحكم الشيطان.

قوله (إنه لينزل في ليلة القدر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر) أي ولى الأمر (فيها) أي في ليلة القدر أو في تلك الأمور، وهذا بيان لتفسير الأمور وتفصيل له واعلم ان الاستدلال بسورة القدر على وجود إمام (1) في كل عصر يتوقف على استمرار حكمها وهو مذهبنا ومذهب العامة أيضا. قال عياض: سميت ليلة القدر ليلة القدر لتقدير الله تعالى فيها ما يكون في تلك السنة من الأرزاق والآجال وغير ذلك، والمراد بهذا التقدير إظهاره تعالى لملائكته مما يكون من أفعاله بما سبق به علمه وقضاؤه في الأزل، ولخواص خلقه بنفسه أو بواسطة الملائكة وهو المراد بقوله (تنزل الملائكة والروح) الآية، وقيل: سميت بذلك لعظمة قدرها، وقال المازري: أجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر لتظافر الأحاديث وكثرة رؤية الصالحين لها، وقال عياض: وشذ قوم فقالوا: كانت خاصة بهم ورفعت، لحديث «أنه أعلمها حتى تلاحا الرجلان فرفعت» (2)، ومعنى هذا عندنا أنه رفع علم عينها كما قال في آخر «فأنسيتها» انتهى. وقال المازري: واحتجاجهم بالحديث غلط لأن في آخره ما يرد عليهم قال فيه البخاري:

فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في السبع أو التسع، فلو أريد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها انتهى.

ص:8


1- (1) قوله «الاستدلال بسورة القدر على وجود الإمام» ولا يخفى أن سورة القدر لا تدل على وجود الإمام (عليه السلام) وساحة المعصوم بريئة عن نسبة هذا الاستدلال إليه وإنما هو خاطر اختلج في ذهن الحسن ابن عباس بن الحريش واستحسنه ونسبه إلى المعصوم وزعم أنه ابتكر مسألة في العلم، فإن قيل: دلالة السورة على الإمامة تعبد نأخذه من الإمام المعصوم وقوله حجة في دلالة القرآن وفي التفسير والتأويل; قلنا: هذا مصادرة فإنا في مقام الاستدلال بالقرآن على الإمامة، فالإمامة متوقفة على دلالة السورة ولو كانت دلالة السورة متوقفة على الإمامة لزم الدور وإنما يناسب هذا الاستدلال العوام وحشوية أهل الحديث دون الإمام المعصوم (ش).
2- (2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب فضل ليلة القدر.

وبالجملة ظاهر القرآن وصريح رواياتنا ورواياتهم وصريح أقوال علمائنا وعلمائهم في أن حكم ليلة القدر مستمر إلى آخر الدهر والمنكر له مكابر.

قوله (علم الله تعالى الخاص المكنون العجيب المخزون) أضاف هذا العلم إلى الله تعالى مع أن العلوم كلها منه تعالى للتعظيم والتشريف ثم وصفه بأربعة أوصاف: أحدها الخاص، ولعل المراد به العلم المتعلق بمعلوم معلوم كما أن الوجود الخاص الوجود المتعلق بموجود موجود، أو العلم المختص به (عليه السلام) لا يشاركه أحد سواه.

وثانيها: المكنون، والعلم المكنون هو العلم المستور عن أذهان الخلائق إلا من ارتضى من رسول الله ومن يقوم مقامه.

وثالثها: العجيب، والعلم العجيب ما يتعجب منه لعظم موقعه وخفاء سببه ودقة وجهه.

ورابعها: المخزون وهو المكتوب في اللوح المحفوظ لأنه خزانة العلوم أو الثابت في ذهن أهله لا يطرأ عليه السهو والنسيان، فإن قلت: جميع العلوم في القرآن واللوح المحفوظ وقد ثبت أنهم علموا جميع ما فيهما فما معنى ذلك؟ قلت: العلم بأن الشيء وجد مغاير للعلم بأنه سيوجد، والأول هو المراد هنا والحاصل لهم هو الثاني.

قوله (مثل ما ينزل في تلك الليلة) دل على أنه يحدث لهم في كل يوم وليلة مثل ما يحدث لهم في ليلة القدر. فإن قلت: أي فضل في ليلة القدر بالنسبة إلى غيرها حينئذ؟ قلت: لعل الفضل بنزول الملائكة والروح فيها لقصد زيارتهم وتبليغ بشارتهم.

قوله (ثم قرأ) استشهاد لما سبق من كثرة علومه الفائضة على قلوبهم المطهرة في كل يوم وليلة إلى انقراض الدهر ورفع لاستبعاد ذلك. وقوله «من شجرة» بيان لما وتنكيرها للتكثير، وقوله «أقلام» خبر أن وقوله «والبحر» بالرفع عطف على محل اسم «أن» أو الواو للحال والمراد به البحر المحيط من شعبه وخبره محذوف أي: ولو أن البحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله. والمقصود أن هذا البحر مع بحار متكثرة منضمة إليه لو صارت مدادا وصارت الأشجار كلها أقلاما لا تفي بكتب كلمات الله وآياته وعلومه إن الله عزيز غالب قاهر على جميع ما سواه فلا يعجز عن شيء، حكيم يفعل ما يشاء على وفق الحكمة فلا يسئل عما يفعل ومن جملته إفاضته العلوم الغير المحصورة على الوجه المذكور إلى ولي الأمر.

* الأصل:

4 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) صدق الله عز وجل: أنزل الله القرآن في ليلة القدر. (وما أدراك ما ليلة

ص:9

القدر) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا أدري، قال الله عز وجل: (ليلة القدر خير من ألف شهر) ليس فيها ليلة القدر، قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): وهل تدري لم هي خير من ألف شهر؟ قال: لا، قال: لأنها (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) وإذا أذن الله عز وجل بشيء فقد رضيه (سلام هي حتى مطلع الفجر) يقول: تسلم عليك يا محمد ملائكتي وروحي بسلامي من أول ما يهبطون إلى مطلع الفجر، ثم قال في بعض كتابه: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) في إنا أنزلناه في ليلة القدر، وقال في بعض كتابه: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) يقول في الآية الاولى:

إن محمدا حين يموت، يقول أهل الخلاف لأمر الله عز وجل: مضت ليلة القدر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهذه فتنة أصابتهم خاصة وبها ارتدوا على أعقابهم لأنهم إن قالوا: لم تذهب فلابد أن يكون لله عز وجل فيها أمر وإذا أقروا بالأمر لم يكن له من صاحب بد.

* الشرح:

قوله (صدق الله أنزل القرآن في ليلة القدر) قال الصدوق: اعتقادنا أن القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور ثم فرق في مدة أربعة وعشرين سنة.

قوله (ليس فيها ليلة القدر) فسر بذلك لئلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه.

قوله (والروح) ذكر الروح بعد الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام للاهتمام.

قوله (وإذا أذن الله) لعل المراد بالإذن هنا الأمر الحتمي فلا يرد أنه لا يقع شيء ما إلا بإذنه كما مر، والله سبحانه لا يرضى ببعض الأشياء، ثم فيه دفع لتوهم المنكر أن نزولهم بإذنه تعالى إلى أحد في أمر لا يوجب رضاه تعالى بالنزول ولا بالمنزل إليه ولا بذلك الأمر فلا يتم المطلوب.

قوله (واتقوا فتنة) الفتنة الاختبار بالذنب ونحوه، ثم كثر استعماله فيما أخرجه الاختبار من الذنب والبدعة والقتال والإحراق وخلاف الحق، والفاتن هو المضل عن الحق والمراد بها هنا البدعة المخصوصة وهي إنكار ليلة القدر بعده (صلى الله عليه وآله) وإنكاره خلافة علي (عليه السلام) أو هو داخل فيها، ويؤيده ما رواه الشيخ الطبرسي عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (واتقوا فتنة) قال النبي (صلى الله عليه وآله) «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي».

قوله (في إنا أنزلناه) ظرف للظلم المستفاد من (ظلموا). قوله (أفإن مات أو قتل انقلبتم على

ص:10

أعقابكم) إنكار لارتدادهم ورجوعهم عن الدين على أعقابهم بموته أو قتله بعد علمهم بموت من قبله من الأنبياء وبقاء دينهم وما جاءوا به.

قوله (يقول في الآية الاولى - إلى قوله - خاصة) هذا التفسير واضح على قراءة (لتصيبن) جوابا لقسم محذوف، وكذا على قراءة (ولا تصيبن) إذا كان نهيا بعد الأمر باتقاء الذنب عن الظلم الذي وباله يصيب الظالم خاصة، وأما إذا كان نفيا صفة لفتنة، أو جوابا لأمر مذكور أي إن أصابتكم لا تصيبن الظالمين منكم خاصة; فغير واضح إلا أن يقال: يستفاد من الآية أن الفتنة على قسمين:

أحدهما وهو مذكور فيها صريحا يعم الظالم وغيره، والآخر يختص بالظالم، وما ذكره (عليه السلام) تفسير للقسم الثاني.

قوله (يقول أهل الخلاف لأمر الله) لأمر الله متعلق بالخلاف وصلة له، ولعل المراد بأهل الخلاف بعضهم، فإنك قد عرفت آنفا أن أكثر أهل الخلاف يقولون ببقاء حكم ليلة القدر بعده (صلى الله عليه وآله) وإن خالفنا في المنزل إليه، ويحتمل أن يراد جميعهم لأن جميعهم يقولون بزوال حكمها إذ حكمها وهو النزول إلى ولي الله وهم لا يقولون به.

قوله (لأنهم إن قالوا) دليل على قوله: يقول أهل الخلاف مضت ليلة القدر، توضيحه: إن القول بعدم ذهابها يستلزم القول بأن لله تعالى فيها أمرا وهذا القول يستلزم الإقرار بأن لذلك الأمر صاحبا تنزل الملائكة إليه، وإنكار اللوازم يستلزم إنكار الملزوم، فلزمهم القول بذهابها سواء قالوا ذلك صريحا كبعضهم أو لم يقولوا كأكثرهم فليتأمل.

* الأصل:

5 - وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) كثيرا ما يقول: [ما] اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقرأ «إنا أنزلناه» بتخشع وبكاء فيقولان: ما أشد رقتك لهذه السورة فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما رأت عيني ووعى قلبي ولما يرى قلب هذا من بعدي، فيقولان: وما الذي رأيت وما الذي يرى؟ قال: فيكتب لهما في التراب (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) قال: ثم يقول: هل بقي شيء بعد قوله عز وجل (كل أمر) فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: إلى من؟ فيقولان: لا ندري، فيأخذ برأسي ويقول: إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي، قال: فإن كانا

ص:11

ليعرفان تلك الليلة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شدة ما يداخلهما من الرعب.

* الشرح:

قوله (كثيرا ما يقول) أي يقول قولا كثيرا أو حينا كثيرا، وما زائدة للمبالغة وفي بعض النسخ «يقول كثيرا ما».

قوله (اجتمع التيمي والعدوي) اريد بالتيمي أبو بكر نسب إلى جده الخامس تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وفي مرة وهو الجد السادس للنبي (صلى الله عليه وآله) اجتمع معه، وبالعدوي عمر نسب إلى جده السابع عدي بن كعب بن لؤي، وفي كعب اجتمع مع النبي (صلى الله عليه وآله). قوله (ما أشد رقتك) رقتك صيغة التعجب مثل ما أحسن زيدا.

قوله (لما رأت عيني ووعى قلبي ولما يرى قلب هذا من بعدي) أشار بهذا إلى علي (عليه السلام) ولم ينسب الرؤية العينية إليه لأنه محدث والمحدث لا يرى بالعين بخلاف النبي.

قوله (فيكتب لهما في التراب) دل على أنه (صلى الله عليه وآله) كان يكتب، وهذا من إعجازه لأنه لم يتعلم الكتاب وقد علمها.

قوله (هل بقي شيء) يريد هل بقي احتمال أن يكون نزول الملائكة لا إلى أحد من الناس بعد قوله تعالى (من كل أمر) لأن نزولهم بالأمر لا يكون إلا إلى مأمور منزل إليه، والمقصود من هذا الاستفهام تقريرهما على نفي هذا الاحتمال، فلذا أمر أو قالا: لا.

قوله (بذلك) أي بذلك الأمر. قوله (فإن كانا) إن مخففة من المكسورة المشددة وهي إذا خففت يلزمها اللام للفرق بينها وبين النافية، ويجوز إبطال عملها وإدخالها على كان ونحوه كما في قوله تبارك وتعالى (وإن كانت لكبيرة).

قوله (من شدة ما يداخلهما من الرعب) علة لمعرفتهما تلك الليلة، يعني أنه كان يدخل عليهما في ليلة القدر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من الرعب والخوف ما لا يعرف قدره إلا الله، إما لتذكرهما قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو من قبل الله تعالى لإكمال الحجة عليهم فيعرفان بذلك أنها ليلة القدر، ولكن حب الجاه والرئاسة منعهما من الرجوع إلى الحق.

* الأصل:

6 - وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة! خاصموا بسورة إنا أنزلناه تفلحوا، فوالله إنها لحجة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله). وإنها لسيدة دينكم، وإنها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا ب (حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص:12

يا معشر الشيعة! يقول الله تبارك وتعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) قيل: يا أبا جعفر نذيرها محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قال: صدقت، فهل كان نذير وهو حي من البعثة في أقطار الأرض؟ فقال السائل: لا، قال أبو جعفر (عليه السلام): أرأيت بعيثه أليس نذيره كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعثته من الله عز وجل نذير؟ فقال: بلى، قال: فكذلك لم يمت محمد إلا وله بعيث نذير، قال: فإن قلت: لا; فقد ضيع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من في أصلاب الرجال من أمته قال: وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى إن وجدوا له مفسرا، قال: وما فسره رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: بلى قد فسره لرجل واحد وفسر للأمة شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

قال السائل: يا أبا جعفر كان هذا أمر خاص لا يحتمله العامة، قال: أبى الله أن يعبد إلا سرا حتى يأتي إبان أجله الذي يظهر فيه دينه كما أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع خديجة مستترا حتى أمر بالإعلان، قال السائل: ينبغي لصاحب هذا الدين أن يكتم؟ قال: أو ما كتم علي ابن أبي طالب (عليه السلام) يوم أسلم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى ظهر أمره؟ قال: بلى، قال: فكذلك أمرنا حتى يبلغ الكتاب أجله.

* الشرح:

قوله (خاصموا بسورة إنا أنزلناه تفلحوا) أي تظفروا وتغلبوا عليهم لإخبارها بنزول الملائكة والروح فيها من كل أمر إلى ولي مؤيد من عند الله تعالى، ولا يمكنهم التخلص إلا بأن يقولوا: ذهبت الليلة بذهابه (صلى الله عليه وآله) أو يقولوا: ذهب النزول بذهابه، أو يقولوا: ثبت النزول إلى سلطان الجور، أو يقولوا: ثبت النزول لا إلى أحد، والكل باطل، أما الأولان فلدلالة رواياتهم أيضا على بقائها وبقاء النزول فيها إلى يوم القيامة; ولإجماعهم على بقائهما كما مر، وأما الثالث فلأن نزول الملائكة إلى الجائر بما يحتاج إليه الناس من الأوامر والنواهي باطل بالضرورة، ولم يدع ذلك أحد من الجائرين، وأما الرابع فلأن نزولهم بالأوامر والنواهي لا إلى أحد من الخلق مما لا يتصور قطعا.

قوله (إنها لحجة الله على الخلق بعد رسول الله) حيث دلت على أن الزمان بعده لا يخلو من حجة، ويحتمل أن يراد أن رسول الله حجة الله على الخلق أولا لبيانه من يقوم مقامه بعده ثم هذه السورة حجة الله عليهم بعده لما مر.

قوله (وإنها لسيدة دينكم) لدلالتها على أعظم أمور الدين وهي الخلافة التي تبتنى عليها سائر أموره.

قوله (وإنها لغاية علمنا) لدلالتها على حصول علوم غير محصورة لهم في تلك الليلة بإخبار

ص:13

الملائكة، أو لأن هذه العلوم من توابع العلوم التي كانت حاصلة لهم وغاياتها، فانهم (عليهم السلام) علموا جميع ما في اللوح المحفوظ من النقوش حتمية كانت أو غير حتمية، ويجيئهم حتم غير المحتوم في تلك الليلة، والله أعلم.

قوله (فإنها لولاة الأمر خاصة) لا للغواة كما ظنه بعض النواصب، وفساد ظنه أظهر من أن يحتاج إلى البيان.

قوله (ويقول الله تعالى وإن من امة إلا خلا فيها نذير) أي مضى فيها والأمة الجماعة الموجودون في عصر، وفيه دلالة على أن عصرا من الأعصار لم يخل من نذير فالحكمة الإلهية تقتضي أن يكون في كل أمة وفي كل عصر إلى يوم القيامة نذير.

قوله (قيل يا أبا جعفر نذيرها محمد) أي نذير هذه الأمة محمد (صلى الله عليه وآله) ولا يكون بعده نذير آخر فلا يتم المطلوب.

قوله (أرأيت بعيثه) أي أخبرني والغرض منه تقرير السائل بالمنفي وقد أقر به.

قوله (قال فإن قلت لا) أي قلت: مات محمد (صلى الله عليه وآله) ولم يكن له بعيث لزمك القول بأنه ضيع من في أصلاب الرجال من أمته، والقول بذلك باطل لأنه كفر وموجب لبطلان البعثة ونسبة ما لا يليق به (صلى الله عليه وآله) إليه.

قوله (قال بلى) أي بلى يكفيهم القرآن إن وجدوا له مفسرا يعلم ظاهر القرآن وباطنه ويعلم جميع ما أنزل الله تعالى فيه.

قوله (إبان أجله) إبان الشيء بالكسر والتشديد: وقته.

* الأصل:

7 - وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لقد خلق الله جل ذكره ليلة القدر أول ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أول نبي يكون وأول وصي يكون، ولقد قضى أن يكون في كل سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأمور إلى مثلها من السنة المقبلة، من جحد ذلك فقد رد على الله عز وجل علمه لأنه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدثون إلا أن تكون عليهم حجة بما يأتيهم في تلك الليلة مع الحجة التي يأتيهم بها جبرئيل (عليه السلام) قلت: والمحدثون أيضا يأتيهم جبرئيل أو غيره من الملائكة (عليهم السلام) قال: أما الأنبياء والرسل صلى الله عليهم فلا شك ولابد لمن سواهم - من أول يوم خلقت فيه الأرض إلى آخر فناء الدنيا - أن تكون على أهل الأرض حجة ينزل ذلك في تلك الليلة إلى من أحب من عباده، وأيم الله لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر على آدم، وأيم الله ما مات

ص:14

آدم إلا وله وصي، وكل من بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه من بعده، وأيم الله إن كان النبي ليؤمر فيما يأتيه من الأمر في تلك الليلة من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) أن أوص إلى فلان، ولقد قال الله عز وجل في كتابه لولاة الأمر من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) خاصة: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) إلى قوله - فأولئك هم الفاسقون» يقول: أستخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيكم كما استخلف وصاة آدم من بعده حتى يبعث النبي الذي يليه (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) يقول: يعبدونني بإيمان لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فمن قال غير ذلك (فأولئك هم الفاسقون) فقد مكن ولاة الأمر بعد محمد بالعلم ونحن هم، فاسألونا فإن صدقناكم فأقروا وما أنتم بفاعلين، أما علمنا فظاهر، وأما إبان أجلنا الذي يظهر فيه الدين منا حتى لا يكون بين الناس اختلاف، فإن له أجلا من ممر الليالي والأيام، إذا أتى ظهر وكان الأمر واحدا، وأيم الله لقد قضى الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمد (صلى الله عليه وآله) علينا ولنشهد على شيعتنا ولتشهد شيعتنا على الناس، أبى الله عز وجل أن يكون في حكمه اختلاف أو بين أهل علمه تناقض، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): فضل إيمان المؤمن بحمله إنا أنزلناه وبتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها كفضل الإنسان على البهائم، وإن الله عز وجل ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا - لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنه لا يتوب منهم - ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين، ولا أعلم أن في هذا الزمان جهادا إلا الحج والعمرة والجوار.

* الشرح:

قوله (لقد خلق الله تعالى ليلة القدر أول ما خلق الدنيا) يريد أن الزمان من أوله إلى آخره لا يخلو من ليلة القدر، أو يريد أنها أول ليلة عند خلق الدنيا وهكذا جرى قضاء الله تعالى ليجيء فيها تفسير الأمور إلى من هو أهله، وعلى التقديرين لا دلالة فيه على أن الليل مقدم على النهار فلا ينافي قوله تعالى (ولا الليل سابق النهار).

قوله (خلق فيها أول نبي) يريد خلق فيها أول نبي في سلسلة الأنبياء وأول وصي في سلسلة الأوصياء وإنما قيد بالأول لأنه لم يخلق كل نبي وكل وصي فيها كما يظهر لمن نظر في تواريخ مواليدهم. [ويحتمل أن يراد بالخلق التقدير، فيعم].

قوله (يهبط فيها بتفسير الأمور) قد تحقق أن أئمتنا (عليهم السلام) كانوا عالمين بجميع الأمور إلا أن بعضها لما كان محتوما مبرما وبعضها غير محتوم كان المراد بتفسيرها تفسير غير المحتوم فيحصل

ص:15

لهم العلم في تلك الليلة بأنه صار محتوما فيؤمرون بفعل هذا وترك ذاك إلى ما شاء الله تعالى، وفي لفظ التفسير إيماء إلى ذلك، ويحتمل أن يراد به الإعلام بأنها وجدت في الأعيان وهذا غير الإعلام بأنها ستوجد، وما كان متحققا لهم هو الثاني دون الأول.

قوله (فقد رد على الله علمه) أي علم الله الذي أهبطه على أوليائه أو علمه بأنه أهبطه.

قوله (لأنه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدثون) تعليل للرد المذكور، يعني لا يقوم هؤلاء العظام بأمر الخلق وإرشادهم إلا أن تكون لله تعالى حجة وبرهان عليهم وهي ما يأتيهم الملائكة من العلوم المتكثرة في ليلة القدر، وما يأتيهم جبرئيل (عليه السلام) في غيرها من سائر الأوقات، ومن أنكر ذلك فقد رد على الله علمه الذي أنزله إليهم، والراد على الله كافر فكيف يستحق الخلافة.

قوله (قلت والمحدثون أيضا يأتيهم جبرئيل (عليه السلام) أو غيره) السؤال إنما هو عن إتيان جبرئيل (عليه السلام) لا عن إتيان غيره من الملائكة لأن إتيان غيره كان معلوما للسائل بقرينة قوله «والمحدثون» ويحتمل أن يكون إتيان الملك معلوما له فسأل: هل هو جبرئيل (عليه السلام) أو غيره.

قوله (من أول يوم خلقت فيه الأرض) المراد أول يوم خلقت عند وجود الأرض كما يشعر به قوله على أهل الأرض، وفيه دلالة على أن اليوم مقدم على الليل، ويؤيده أن العالم عند خلقه لابد أن يكون على أشرف الأوضاع، والطلوع أشرف من الغروب.

قوله (حجة ينزل ذلك) المراد بالحجة العلم الذي ينزل أو الملك الذي ينزل به ذلك الملك في ليلة القدر وإنما لم يبين الملك النازل هل هو جبرئيل أو غيره للدلالة على التعميم.

قوله (إلى من أحب من عباده) دل على أن المنزل إليه لابد أن يكون من محبوبيه فلا يكون فاسقا لأن الفاسق مبغوض.

قوله (إن كان النبي ليؤمر) «إن» مخففة كما مر، وفيه تنبيه على أن سنة الله جرت في كل نبي من آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) أن لا يمضي إلا بعد نص وصي بأمر الله تعالى فكيف تتخلف هذه السنة في محمد (صلى الله عليه وآله)! ثم أشار بقوله «ولقد قال الله تعالى إلى آخره» مؤكدا بالقسم إلى أن الله تعالى نص بأوصياء نبينا مخاطبا لهم للإكرام والتشريف.

قوله (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) المراد بالإيمان التصديق الكامل المنزه عن شوائب الوهم والخيال وهو الذي يرى المعقول شاهدا والغائب حاضرا وبالصالحات الأعمال الصالحة كلها صغيرها وكبيرها وحقيرها وجليلها. وفي العطف إيماء إلى أن الأعمال خارجة عن حقيقة الإيمان.

قوله (يقول استخلفكم) أي يقول الله تعالى مخاطبا للأوصياء (عليهم السلام) (كما استخلف الذين من

ص:16

قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).

قوله (أما علمنا فظاهر) يعني أما علمنا فظاهر لم يدخل النقص فيه بغلبة الأعداء، وأما وقت ظهورنا وغلبتنا عليهم حتى يظهر الدين ويرتفع الاختلاف بين الناس فله أجل معين عند الله تعالى إذا جاء أجله صار الدين واحدا ورجع الناس من الاختلاف إلى الاتحاد وهو زمان ظهور مهدي هذه الامة.

قوله (ولذلك جعلهم شهداء على الناس) أي ولقضائه تعالى بأن لا يكون بين المؤمنين اختلاف في الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس، لأن بناء الشهادة على التوافق في المشهود به، ولذلك ترد الشهادة لو اختلف الشهود فيه، فدلت الآية على أنه لا اختلاف في علم الله ولا في دينه ولا في حكمه.

قوله (فضل إيمان المؤمن) هذا يحتمل وجهين: أحدهما أن فضل إيمان المؤمن العالم بها وبتفسيرها على إيمان المؤمن الغير العالم كفضل الإنسان على البهائم، وربما يؤيده لفظ الحمل، ففيه ترغيب في تحصيل العلم، وثانيهما وهو الأظهر أن فضل المؤمن بها وبتفسيرها على غير المؤمن بها من أهل الخلاف كالفضل المذكور، ويرجحه قوله «وإن الله تعالى ليدفع بالمؤمنين بها إلى آخره».

قوله (وإن الله تعالى ليدفع) يعني إن الله تعالى ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها عذاب الدنيا، ولولا المؤمنون بها لعذبهم في الدنيا وأهلكهم كافة وذلك الدفع ليعذبهم في الآخرة عذابا أليما بسبب جحدهم وإنكارهم إياها، وذلك الدفع أو كمال عذاب الآخرة لمن علم الله تعالى أنه لا يتوب عن إنكاره ولا يرجع عنه إلى الايمان بها، وهذا الدفع مثل ما يدفع الله تعالى بالمجاهدين في سبيله عن القاعدين هلاكهم بسيوف المشركين أو بعقوبته.

قوله (ولا أعلم في هذا الزمان جهادا إلا الحج والعمرة والجوار) الجوار بالكسر الذمة والأمان فيكون بها جارك، وأيضا المجاورة، ومنه الجار الذي يجاورك، والمضاف محذوف على الأخير لو أريد أحسن الجوار، وفيه دلالة على أن وجوب الجهاد مشروط بوجود الإمام وتمكنه.

* الأصل:

8 - قال: وقال رجل لأبي جعفر (عليه السلام): يا ابن رسول الله لا تغضب علي قال: لماذا؟ قال: لما أريد أن أسألك عنه، قال: قل، قال: ولا تغضب؟ قال: ولا أغضب، قال: أرأيت قولك في ليلة القدر وتنزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد علمه أو

ص:17

يأتونهم بأمر كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلمه؟ وقد علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وليس من علمه شيء إلا وعلي (عليه السلام) له واع، قال أبو جعفر (عليه السلام): ما لي ولك أيها الرجل، ومن أدخلك علي؟ قال: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين، قال: فافهم ما أقول لك: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون وكان كثير من علمه ذلك جملا يأتي تفسيرها في ليلة القدر، وكذلك كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر، كما كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال السائل: أو ما كان في الجمل تفسير؟ قال: بلى ولكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وإلى الأوصياء إفعل كذا وكذا، لأمر قد كانوا علموه، امروا كيف يعملون فيه، قلت: فسر لي هذا، قال: لم يمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا حافظا لجملة العلم وتفسيره، قلت: فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو؟ قال: الأمر واليسر فيما كان قد علم، قال السائل: فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا؟ قال: هذا مما أمروا بكتمانه ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عز وجل.

قال السائل: فهل يعلم الأوصياء ما لا يعلم الأنبياء؟ قال: لا وكيف يعلم وصي غير علم ما أوصي إليه! قال السائل: فهل يسعنا أن نقول: إن أحدا من الوصاة يعلم ما لا يعلم الآخر؟ قال: لا، لم يمت نبي إلا وعلمه في جوف وصيه وإنما تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالحكم الذي يحكم به بين العباد.

قال السائل: وما كانوا علموا ذلك الحكم؟ قال: بلى قد علموه ولكنهم لا يستطيعون إمضاء شيء منه حتى يؤمروا في ليالي القدر كيف يصنعون إلى السنة المقبلة، قال السائل: يا أبا جعفر لا أستطيع إنكار هذا، قال أبو جعفر (عليه السلام): من أنكره فليس منا، قال السائل: يا أبا جعفر أرأيت النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان يأتيه في ليالي القدر شيء لم يكن علمه؟ قال: لا يحل لك أن تسأل عن هذا، أما علم ما كان وما سيكون فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه، أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عز وجل أبى أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم، قال السائل: يا ابن رسول الله كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كل سنة؟ قال: إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كل ليلة مائة مرة فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه.

* الشرح:

قوله: (أرأيت قولك في ليلة القدر) كان الرجل في مقام معارضة ودفع نزول الملائكة إلى علي بأنه (عليه السلام) كان عالما بجميع علم النبي (صلى الله عليه وآله) فإن نزل إليه الملائكة فإما ان تنزل إليه بعلم لم يعلمه

ص:18

رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو بعلم يعلمه وكلاهما باطل، لأن الأول يوجب أن يكون علي (عليه السلام) أعلم منه. والثاني يوجب تحصيل الحاصل، ولذلك غضب (عليه السلام) عليه وقال: ما لي ولك ومن أدخلك علي؟ ثم لما اعتذر السائل بقوله: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين وراعى الأدب; أجابه (عليه السلام) وكشف الغطاء بما لا مزيد عليه بقوله: فافهم إلى آخره.

قوله (وكان كثير من علمه ذلك جملا يأتي تفسيرها في ليلة القدر) لما كان هذا الكلام مجملا لاحتمال أنه يأتي نفس تفسيرها وتفصيلها في ليلة القدر واحتمال أنه يأتي الأمر بتفاصيلها; حمله السائل على الأول واستفهم على سبيل التقرير بقوله «أو ما كان في الجمل تفسير» يريد أن فيها تفسيرها والنفوس القدسية إذا علمت الجملة فقد علمت تفسيرها أيضا إما بنفس معرفة الجمل أو بأدنى التفات وذلك كما إذا نظرت إلى زيد فقد أبصرت كله إجمالا وأبصرت أجزاءه وتفاصيله جميعا عند إبصار واحد بل إبصار الكل والأجزاء إبصار واحد وإنما يتفاوت بالاعتبار، فأقر به (عليه السلام) بقوله بلى وصدقه، وأشار بقوله «ولكنه إنما يأتي بالأمر إلى آخره» إلى أن المراد به هو الاحتمال الثاني وتوضيحه أن كثيرا من علمه ذلك كان مجملا لا يعلم هل يأمر بامضائه وفعله وتركه أو لا يأمر وهل يثبته أو يمحوه كما في العلم الذي يجري فيه البداء، وإنما يأتي الأمر بتفاصيل هذه الأمور في ليلة القدر، وإنما قال (كان كثير من علمه ذلك جملا) لأن كثيرا من علمه ذلك أيضا كان مثبتا لا يجري فيه البداء وكان الأمر به معلوما لا يحتمل غيره.

قوله (قلت فسر لي هذا) أي بين لي بأمثلة جزئية هذا الذي قلت من أن الذي يأتيه في ليالي القدر هو الأمر بما علموا، فأجابه (عليه السلام) بأنه (لم يمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا حافظا لجملة العلم وتفسيره) تلقيا له بغير ما يترقبه للتنبيه على أن الأهم له هو العلم بهذا لا بما ذكر وعلى أن ولي الأمر غير مأذون بإظهاره لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما سيصرح به، ثم رجع السائل فسأله بقوله «فالذي كان يأتيه في ليالي القدر علم ما هو» للمبالغة في استعلام ما يأتيه فيها فأجابه (عليه السلام) بنحو ما أجابه سابقا من أن الذي يأتيه هو الأمر واليسر، والمراد باليسر هو التخفيف بالمحو ونحوه، ثم عاد السائل وقال (فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا) إشعارا بأن هذا محال لأنه تحصيل الحاصل ومبالغة في استعلام يحدث لهم فيها من الأوامر المخصوصة فأجابه (عليه السلام) صريحا بأن هذا أي ما يحدث لهم من الأوامر مما أمروا بكتمانه وإظهار خصوصياته ولا يعلم تفسير ما سألت عنه من الأوامر المخصوصة والخصوصيات التي تنزل فيها إلا الله تعالى. والحصر إضافي بالنسبة إلى غير الولاة، لأن عقول غيرهم لا تتحمل ما تنزل فيها، ويحتمل أن يراد أنه لا يعلم ما يصير محتوما في ليلة القدر قبل أن يصير محتوما إلا الله تعالى فيكون الحصر حقيقيا، ولكن الأول أنسب بسياق

ص:19

الكلام فتأمل والله أعلم بحقيقة الحال.

قوله (قال السائل فهل يعلم الأوصياء) لما كان القول بأنه ينزل في ليلة القدر أمور السنة إلى ولادة الأمر يشعر ظاهرا بأن الوصي أعلم من النبي والوصي الآخر أعلم من الوصي الأول لأن الملائكة تنزل على الآخر بما لم تنزل به على الأول من الأمور المتعلقة بكل سنة سنة سأل السائل عن هذا التفاضل هل هو ثابت أم لا؟ فأجاب (عليه السلام): بأنه لا وأن الملائكة تنزل بالحكم الذي يحكم به ولاة الأمر بين العباد، فعاد السائل وقال: أوما كانوا يعني ولاة الأمر علموا ذلك الحكم؟ قال (عليه السلام):

بلى قد علموه ولكن لا يقدرون على إمضاء شيء منه بدون الأمر به في ليلة القدر، والحاصل أنهم علموا المحتوم وغير المحتوم جميعا ولكن لا يجوز لهم العمل في غير المحتوم إلا بعد العلم الحاصل لهم في ليلة القدر بأنه صار محتوما وبعد الإذن لهم في العمل، نظير ذلك أن الوزير إذا نظر إلى البلد العظيم ورأى ما فيه من البيوتات المعمورة والمكسورة والمهدومة والأراضي الخالية القابلة للعمارة والبناء والزرع وغير ذلك من الخصوصيات التي لا تحصى فإنه لا يقدر على إمضاء شيء من ذلك بمقتضى علمه إلا بعد أمر الأمير وإذنه له في العمل. فإن قلت: العلم بأنه صار محتوما علم حاصل له في ليلة القدر ولم يكن حاصلا لمن قبله من الأولياء فيلزم أن يكون هو أعلم ممن قبله فيعود أصل السؤال.

قلت: يحصل له العلم بذلك بعد حصول العلم به لمن قبله، ويؤيده ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ليس يخرج شيء من عند الله تعالى حتى يبدأ برسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم بأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم بواحد بعد واحد لئلا يكون آخرنا أعلم من أولنا» والحديث مذكور في الباب الثاني من هذا الباب إن قلت: فعلى هذا يجوز أن يحصل له العلم بما سيكون ولا يلزم أن يكون أعلم ممن قبله؟ قلت: نعم ولكنه خلاف الأمر المحقق الثابت وهو أنهم لم يموتوا حتى علموا ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

قوله (قال السائل يا أبا جعفر أرأيت) لما كان السائل مشغوفا حريصا بمعرفة خصوصيات ما ينزل عليهم في ليلة القدر وكيفية البداء سأل عنها مرارا مرة بعد أخرى فأجاب (عليه السلام) بأنه لا يحل لك أن تسأل عن خصوص ما ينزل في ليلة القدر لحكمة مقتضية لإخفائه وعدم اطلاع غير الأوصياء عليه وعدم اقتدار عقول الناقصين على تحمله ولذلك لم يجبه (عليه السلام) بمثال مخصوص مع الحاجة في السؤال عنه.

قوله (أما هذا العلم الذي تسأل عنه) وهو العلم بخصوصيات ما ينزل في ليلة القدر من الأمر والإذن والحتم فيما لم يكن محتوما.

ص:20

قوله (فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين) هذا صريح في أنها ليلة القدر وللاخريين أيضا قدر عظيم ظهر ذلك لبعض أهل العرفان.

* الأصل:

9 - وقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لما ترون من بعثه الله عز وجل للشقاء على أهل الضلالة من أجناد الشياطين وأزواجهم أكثر مما ترون خليفة الله الذي بعثه للعدل والصواب من الملائكة، قيل: يا أبا جعفر وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة؟ قال: كما شاء الله عز وجل، قال السائل: يا أبا جعفر إني لو حدثت بعض الشيعة بهذا الحديث لأنكروه! قال: كيف ينكرونه؟ قال: يقولون: إن الملائكة (عليهم السلام) أكثر من الشياطين، قال: صدقت افهم عني ما أقول: إنه ليس من يوم ولا ليلة إلا وجميع الجن والشياطين تزور أئمة الضلالة ويزور إمام الهدى عددهم من الملائكة حتى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة إلى ولي الأمر، خلق الله - أو قال قيض الله - عز وجل من الشياطين بعددهم ثم زاروا ولي الضلالة فأتوه بالإفك والكذب حتى لعله يصبح فيقول: رأيت كذا وكذا فلو سأل ولي الأمر عن ذلك لقال: رأيت شيطانا أخبرك بكذا وكذا حتى يفسر له تفسيرا ويعلمه الضلالة التي هو عليها، وأيم الله إن من صدق بليلة القدر ليعلم أنها لنا خاصة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) حين دنا موته: «هذا وليكم من بعدي فإن أطعتموه رشدتم» ولكن من لا يؤمن بما في ليلة القدر منكر ومن آمن بليلة القدر ممن على غير رأينا فإنه لا يسعه في الصدق إلا أن يقول: إنها لنا ومن لم يقل فإنه كاذب، إن الله عز وجل أعظم من أن ينزل الأمر مع الروح والملائكة إلى كافر فاسق، فإن قال: إنه ينزل إلى الخليفة الذي هو عليها فليس قولهم ذلك بشيء، وإن قالوا:

إنه ليس ينزل إلى أحد، فلا يكون أن ينزل شيء إلى غير شيء، وإن قالوا - وسيقولون -: ليس هذا بشيء، فقد ضلوا ضلالا بعيدا.

* الشرح:

قوله (لما ترون) المراد بالرؤية الرؤية القلبية بقرينة تعديته إلى مفعولين وعدم تحقق الرؤية العينية. والمراد ببعث الله الأقدار والتسليط وعدم المنع.

قوله (أكثر مما ترون خليفة الله) أي أكثر مما ترون مع خليفة الله من الملائكة، أو أكثر مما ترون من بعثه الله تعالى للهدى إلى خليفة الله من الملائكة.

قوله (وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة) بناء هذا السؤال والذي يأتي بعده على نزول جميع الملائكة إلى خليفة الله تعالى إلا أن هذا السؤال لما تعلق بأكثرية شيء مطلقا أجاب عنه (عليه السلام) بقوله: كما شاء الله، تنبيها على تحققها لظهور أن الأشياء أكثر من الملائكة بخلاف السؤال الآتي فإنه

ص:21

لما كان صريحا في أن الملائكة أكثر من الشياطين - وهذا عكس ما أفاده (عليه السلام) أولا بحسب الظاهر من أن الشياطين الواردين على أهل الضلالة وأئمة الجور أكثر من الملائكة النازلين على خليفة الله تعالى - أجاب عنه (عليه السلام) توضيحا لمقصوده بقوله: إفهم عني ما أقول إلى آخره وحاصله على ما صرح به الفاضل الأمين الأسترآبادي أن زيارة أجناد الشياطين لأئمة الضلالة أكثر من زيارة الملائكة لخليفة الله تعالى وذلك لأن زيارة الملائكة إنما تكون في ليلة القدر وزيارة الشياطين تكون في ليلة القدر وغيرها من الليالي والأيام وأنت خبير بأن الحصر الذي ادعاه في زيارة الملائكة غير مناسب بسياق الكلام ومناف لما دل من نزول الملائكة إليهم في غير ليلة القدر أيضا، فالأولى أن يقال:

المقصود أن عدد الزائرين لأئمة الضلالة أكثر من عدد الزائرين لإمام الهدى لأن النازل إليه بعض الملائكة لا جميعها كما ستعرفه.

قوله (ويزور إمام الهدى عددهم من الملائكة) أي يزور إمام الهدى في كل يوم وليلة عدد أئمة الضلالة من الملائكة وإرجاع ضمير الجمع إلى الجن والشياطين يوجب التساوي والمقصود خلافه إذ المقصود التفاوت بين الزيارتين كما قيل، أو التفات بين الزائرين كما قلنا.

قوله (حتى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة خلق الله) لعل المراد بخلق الله بعض الملائكة كما هو الظاهر من هذه العبارة وبهذا القدر يتم المقصود وهو أن الزائرين لأئمة الضلالة أكثر من الزائرين لإمام الهدى سواء زار من الشياطين لأئمة الضلالة في تلك الليلة بقدر عدد الملائكة الزائرين أم لم يزر.

قوله (أو قال قيض الله) الشك من الراوي لعدم تيقنه بصدور هذا القول منه (عليه السلام) أي أو قال أيضا هذا القول بعدما ذكر والتقييض تقدير كردن كذا في الصراح.

قوله (فأتوه بالإفك والكذب) الإفك الكذب فالعطف للتفسير ولا يبعد أن يقال: إن الخبر الذي لا يطابق الواقع من حيث أنه لا يطابق الواقع يسمى كذبا ومن حيث أنه يصرف المخاطب عن الحق إلى الباطل يسمى إفكا يقال أفكه إذا صرفه عن الشيء ومنه قوله تعالى (قالوا أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا) أي لتصرفنا عنه.

قوله (فلو سأل ولي الأمر) أي فلو سأل ولي الضلالة ولي الخلافة عما رآه لقال ولي الأمر: رأيت شيطانا أخبرك بكذا وكذا إلى آخر ما رآه حتى يفسر له تفسيرا يبين به باطله ويعلمه الضلالة التي هو أي ولي الضلالة عليها لعله يرجع عنها أو الغرض منه أن ولي الأمر عالم بكل ما يقع حقا كان أو

ص:22

باطلا إما بالإلهام أو بتوجه نفسه القدسية أو باخبار الملائكة.

قوله (لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله)) تعليل ليعلم وحاصله أن من صدق بليلة القدر علم أن الملائكة ينزلون إلى خليفة الله تعالى ووليه وأما العلم بأن هذا الخليفة هو علي (عليه السلام) فلقوله (صلى الله عليه وآله) (لعلي (عليه السلام) حين دنا موته هذا وليكم من بعدي فإن أطعتموه رشدتم) حيث دل على أنه (عليه السلام) خليفته في امته وأولى بالتصرف فيهم وأن الرشد والهداية في متابعته فيعلم أن الذي تنزل إليه الملائكة بعد التصديق بليلة القدر.

قوله (ولكن من لا يؤمن بليلة القدر منكر) أي منكر لها أو للرسالة وأصل الشرع فهو خارج عن الدين فيتوجه إليه الذم لهذا لا للخطأ في تعيين موردها.

قوله (ممن على غير رأينا) بيان لمن أو حال عن فاعل «آمن».

قوله (ومن لم يقل فإنه كاذب) أي من آمن بها ولم يقل أنها لنا فهو كاذب سواء قال بنزول الأمر مع الملائكة والروح إلى كافر فاسق، أو قال بنزوله إلى خليفة الجور من هذه الامة، أو قال بنزوله لا إلى أحد، أو قال لا نعرف هذا وليس ما قلتم بشيء إذ الكل باطل أما الأول والثاني فلأنه تعالى لا ينزل الأمر مع الملائكة والروح إلى كافر فاسق بالضرورة. والثالث فلأنه لا معنى بالضرورة لنزول شيء لا إلى شيء وأما الرابع فلأنه محض مكابرة.

قوله (فإن قال إنه ينزل إلى الخليفة الذي هو عليها) أفرد فاعل قال هنا نظرا إلى لفظ الموصول وجمعه فيما بعد نظرا إلى معناه، والذي مع صلته مفعول ينزل وضمير عليها راجع إلى الخليفة وتأنيثها باعتبار اللفظ والمراد بالذي هو على الخليفة أمور الرئاسة.

قوله (وإن قالوا وسيقولون) في بعض النسخ فسيقولون أي إن قالوا بعد هذه المراتب شيئا سيقولون هذا، أي ما قلتم من أن الأمر مع الملائكة ينزل إلى ولي الأمر ليس بشيء يعني إن قالوا بعد تلك المراتب شيئا قالوا هذا إذ لا مفر لهم سواه (1).

ص:23


1- (1) قوله «إذ لا مفر لهم سواه» وهنا آخر ما نقله (رحمه الله) في إنا أنزلناه وقد نقلنا في صدر الباب قول علماء الرجال في ذلك وأن جميع ما رواه الحسن بن العباس موضوع لا عبرة به ولا اعتماد عليه ومذهبنا أن ما روى في الإمامة من الأحاديث مما لم يدل عليه ضرورة المذهب ولا متواتر الأخبار ولم يدل العقل على صحته ولا على فساده فالوجه التوقف فيه، وأما هذه الروايات فالعقل يحكم بفسادها لأنه يحكم بعصمة المعصوم من الخطأ ولا ريب أن سورة إنا أنزلناه ونزول الملائكة في ليلة القدر لا يدل بظاهرها مع قطع النظر عن تفسير المعصوم على ان الملائكة تنزل بالأحكام والشرائع فلعلها تنزل بالبركات وإلهام الخيرات للمؤمنين كما ورد، وليس نزول الملائكة بأمثال ذلك مستلزما لوجود إمام تنزل عليه فمع كل قطرة من قطرات الأمطار ملك ولرفع أعمال العباد في الصباح والمساء ملائكة، حتى ورود (إن قرآن الفجر كان مشهودا) أي صلاة الصبح لملائكة الليل وملائكة النهار ومثل ذلك كثير. واما تفسير المعصوم فلا يكفي في مقام الاحتجاج على من لا يعترف بوجود المعصوم على ما مر في الخبر السادس لأنه دور ومصادرة، ثم إن الراوي زعم أن غير الشيعة لا يقولون باستمرار ليلة القدر وأن ذلك شعارهم مأخوذ من الخليفتين. (ش)

باب في أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون في ليلة الجمعة

* الأصل:

1 - حدثني أحمد بن إدريس القمي ومحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي الكوفي، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن أيوب، عن أبي يحيى الصنعاني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا يحيى إن لنا في ليالي الجمعة لشأنا من الشأن، قال: قلت: جعلت فداك وما ذاك الشأن؟ قال: يؤذن لأرواح الأنبياء (عليهم السلام) الموتى وأرواح الأوصياء الموتى وروح الوصي الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتى توافي عرش ربها فتطوف به أسبوعا وتصلي عند كل قائمة من قوائم العرش ركعتين ثم ترد إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سرورا ويصبح الوصي الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جم الغفير.

* الشرح:

قوله (إن لنا في ليالي الجمعة لشأنا من الشأن) الشأن - بسكون الهمزة - الخطب والأمر والحال والجمع شؤون والتنكير للتعظيم وقوله من الشأن مبالغة فيه.

قوله (الموتى) جمع ميت وفيه تصريح بموتهم لئلا يتوهم أنهم أحياء غابوا ولم يموتوا.

قوله (بين ظهرانيكم) أي أقاموا بينكم على سبيل الاستظهار والاستناد إليكم وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيدا، ومعناه أن ظهرا منكم قدامه وظهرا وراءه فهو مكنوف أي محاط من جانبيه ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا.

قوله (حتى توافي عرش ربها) يقال: وافاه فلان يوافيه إذا أتاه، وقد مر تفسير العرش مشروحا ولا يبعد أن يراد به هنا العرش الجسماني لجواز أن يكون له سبحانه عرش جسماني في السماء هو معبد الملائكة وأرواح القديسين كما أن له بيتا ومسجدا في الأرض هو معبد الناس. وحمله على بيت المعمور أيضا محتمل.

ص:24

قوله (ثم ترد إلى الأبدان التي كانت فيها) لعل المراد بها الأبدان المثالية ويحتمل الأصلية أيضا (1).

قوله (وقد زيد في علمه مثل جم الغفير) أريد بهم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وبالعلم العلم بما يصير محتوما في تلك الليلة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن يوسف الأبزاري، عن المفضل قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) ذات يوم - وكان لا يكنيني قبل ذلك -: يا أبا عبد الله، قال: قلت: لبيك، قال: إن لنا في كل ليلة جمعة سرورا، قلت: زادك الله وما ذاك؟ قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله) العرش ووافى الأئمة (عليهم السلام) معه ووافينا معهم فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن عبد الله بن محمد، عن الحسين بن أحمد المنقري، عن يونس أو المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور، قلت: كيف ذلك جعلت فداك؟ قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله) العرش ووافى الأئمة (عليهم السلام) ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي.

ص:25


1- (1) قوله «ويحتمل الأصلية» الاحتمالان كلاهما غير معقول، وراوي الحديث موسى بن سعدان من الغلاة، ضعفه علماء الرجال ولا فائدة للتكلف في توجيه ما يستغلق من حديثه، وأما رد أرواح الأئمة الأحياء إلى أبدانهم فمعقول نظير ما ورد في الكتاب الكريم (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى) وعروج أرواح الأئمة إلى العرش أمر ممكن وعودها أيضا ممكن. (ش)

باب لولا أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم

* الأصل:

1 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن صفوان بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: كان جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن صفوان عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (ولولا ذلك لأنفدنا) يقال: نفد الشيء - بالكسر - نفادا فني وأنفدته أنا وأنفد القوم أي ذهبت أموالهم أو فني زادهم وينبغي أن يعلم أن علمه تعالى ثلاثة أقسام: قسم يختص به سبحانه ولا يطلع عليه أحد من عباده، وقسم محتوم أظهره للأنبياء والأوصياء لا مرد له ولا تبديل، وقسم غير محتوم يجري فيه البداء، وهذا القسم كثير يظهر جل شأنه كلا في وقته لخليفته فإذا أظهره صار محتوما، والمراد بالعلم المستفاد ما أظهره الله تعالى لهم من هذا القسم ولو لم يظهره لهم لانقطع علمهم بهذا القسم، ولا يلزم من ذلك أن يكون الآخر أعلم من الأول لما ذكرناه سابقا ولما سيجيء من رواية سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن لله تعالى علمين أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه، وعلما استأثر به فإذا بدا لله في شيء منه أعلمنا ذلك وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا».

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ذريح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا ذريح لولا أنا نزداد لأنفدنا.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن ثعلبة. عن زرارة قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا، قال: قلت: تزدادون شيئا لا يعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا.

* الشرح:

ص:26

قوله (قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا) ينبغي أن يعلم أن كل علم ألقاه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) كان أوصياؤه (عليهم السلام) عالمين به من غير زيادة ولا نقصان، وأما العلوم المستأثرة المخزونة إذا اقتضت الحكمة الإلهية إظهارها في أوقات متفرقة على ولي العصر والخليفة الموجود في تلك الأوقات أظهرها له ولا يلزم منه أن يكون هو أعلم من النبي (صلى الله عليه وآله) لما ذكره (عليه السلام) من أنه يعرض ذلك أولا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم عليه، ولا ينافي ذلك ما مر من أنه (صلى الله عليه وآله) (1) لم يمت إلا حافظا لجملة العلم وتفسيره، إذ لعل المراد بجملة العلم العلم بالمحتوم وأما غير المحتوم فيحصل له العلم به عند صيرورته محتوما ولو بعد الموت أو المراد به العلم بالمحتوم وغيره على وجه الحتم وعدمه ثم يحصل له بعد الموت العلم بالحتم في غير المحتوم والله أعلم.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتى يبدأ برسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم بأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم بواحد بعد واحد لكيلا يكون آخرنا أعلم من أولنا.

ص:27


1- (1) قوله «ما مر من أنه» لا حاجة إلى التكلف لهذا الجمع فإن ما مر في باب شأن إنا أنزلناه ضعيف ولا معنى للقضاء غير المحتوم إلا على البداء بالمعنى الباطل. (ش)

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل (عليهم السلام)

*الأصل:

1- علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن القاسم، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله تبارك وتعالى علمين: علما، أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه، وعلما استأثر به، فإذا بدا لله في شيء منه أعلمنا ذلك وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا.

علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم ومحمد بن يحيى، عن العمركي بن علي جميعا، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (إن لله تعالى علمين) هذا تقسيم لعلمه باعتبار كونه محتوما وغير محتوم (1) فالأول عبارة عن المحتوم، والثاني عن غير المحتوم، فإذا بدا لله في شيء من غير المحتوم وتعلق الحتم به أعلم الإمام الموجود بين الخلق وعرض على الأئمة الماضين (عليهم السلام) لئلا يكون آخرهم أعلم من أولهم.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل علمين: علما عنده لم يطلع عليه أحدا من خلقه. وعلما نبذه إلى ملائكته ورسله، فما نبذه إلى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا.

* الشرح:

قوله (إن لله عز وجل علمين علما عنده لم يطلع) هذا تقسيم لعلمه تعالى باعتبار اختصاصه به

ص:28


1- (1) قوله «محتوما وغير محتوم» الأصح أن يقال مكتوما وغير مكتوم كما هو مفاد الحديث لأن الله تعالى يعلم علوما لم ير المصلحة في أن يظهرها لأحد من ملائكته ومقربيه وإن كانت محتومة، وعلوما أظهرها لهم وهي محتومة فلا يكون له تعالى علم غير محتوم أصلا سواء كان مكتوما أو لا، وغير المحتوم لا يكون علما له تعالى. (ش)

وعدمه، فالأول هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها سابقا، والثاني هو القسم الثاني منها أو الأعم منه ومن الثالث لأن الثالث أيضا منبوذ إلى الرسل كما عرفت.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن ضريس قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن لله عز وجل علمين: علم مبذول وعلم مكفوف. فأما المبذول فإنه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلا نحن نعلمه وأما المكفوف فهو الذي عند الله عز وجل في أم الكتاب إذا خرج نفذ.

* الشرح:

قوله (علم مبذول وعلم مكفوف) العلم المبذول العلم بالشيء الذي قضاه وأمضاه وأظهره لخواص خلقه، والعلم المكفوف العلم بالشيء الذي فيه المشيئة فلا يقضيه ولا يمضيه إذا شاء ويقضيه ويمضيه إذا شاء، فإذا قضاه وأمضاه أظهره لهم وإذا أظهره نفذ، ولا يجري فيه البداء.

قوله (في أم الكتاب إذا خرج نفذ) أي مضى لتعلق القضاء والإمضاء والإظهار به ومتى كان كذلك كان نافذا ماضيا، ولعل المراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ أو التقدير الأزلي فإنه أم لجميع المكتوبات وأصل لجميع الموجودات.

* الأصل:

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن سويد القلا عن أبي أيوب، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل علمين: علم لا يعلمه إلا هو، وعلم علمه ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله (عليهم السلام) فنحن نعلمه.

* الشرح:

قوله (علم لا يعلمه إلا هو) يحتمل أن يراد به العلم بغير المحتوم فإنه لا يعلمه قبل أن يصير محتوما إلا هو، كما يحتمل أن يراد به العلم المختص به الذي لا يطلع عليه أحد من خلقه في وقت من الأوقات.

ص:29

باب نادر فيه ذكر الغيب

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل من أهل فارس فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم وقال: سر الله عز وجل أسره إلى جبرئيل (عليه السلام) وأسره جبرئيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وأسره محمد إلى من شاء الله.

* الشرح:

قوله (فقال أتعلمون الغيب) المراد بالغيب كل ما لا يتناوله الحواس (1) من الأمور الكاينة في الحال أو الماضي أو الاستقبال.

قوله (يبسط لنا العلم فنعلم) لعله إشارة إلى أن العلم بالغيب قسمان: أحدهما حاصل لهم بإعلامه تعالى، والثاني مختص به تعالى كعلمه بخطرات النفوس وعزمات القلوب ونظرات العيون كما قال تعالى (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) أو إشارة إلى أن علم الغيب هو العلم الذي لا يكون مستفادا عن سبب يفيده وذلك إنما يصدق في حقه تعالى إذ كل علم الذي علم سواه فهو

ص:30


1- (1) قوله «كل ما لا يتناوله» والصحيح أن يزاد قيد وهو أن لا يكون طريق إليه للعقل ضرورة أن العلم بالله وملائكته لا يعد من علم الغيب المبحوث عنه في هذا الباب. واعلم ان مسألة علم الأئمة والأنبياء بالغيب معضلة عند العوام واضحة عند الخواص ولا إشكال في أن لكل نفس من النفوس الإنسانية حظا من العلم بما يأتي أو ما بعد عن منال حواسه وثبت ذلك في الحكمة ظ: التي بينها أبو علي ابن سينا في أواخر كتاب الإشارات أوضح بيان، وقد تواتر عن النبي والأئمة (عليهم السلام) أخبار كثيرة بالغيب ولا يستحيل في العقل أن يطلع بعض النفوس الكاملة على كل ما توجه إليه وأراد الاطلاع عليه بإرادة الله تعالى وإلهام الملائكة الملهمة وقد اتفق لفرعون يوسف وهو كافر أن يطلع في المنام على ما سيأتي من سني الخصب والرخاء وهذا باب واسع مفتوح على قلوب أفراد الإنسان من الآخرة ليؤمنوا بوجود عالم غير مادي وراء هذا العالم وهو مشتمل على جميع ما مضى وما يأتي في لمحة واحدة بحيث يمكن أن يرى فرعون فيه ما لا يوجد في الحس إلا بعد أربع عشرة سنة لوجوده في ليلة الرؤيا عند عقل مجرد عالم به، وأما من نفى علم الغيب عن الإنسان أو عن الأئمة والأنبياء فمراده نفي العلم ذاتا بغير تعليم من الله تعالى ومن أثبت فمراده علمهم بالتعليم والإلهام وهذا ثابت لجميع أفراد الإنسان ويختلف بحسب اختلاف النفوس كمالا ونقصا وقلة وكثرة ووضوحا وإبهاما وإجمالا وتفصيلا وصريحا وتمثيلا ويقظة ونوما وغير ذلك والأئمة والأنبياء (عليهم السلام) كانوا يعلمون ما يعلمون بتعليم الله تعالى وإلهامه، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنما هو تعلم من ذي علم، بعد أن سأله رجل عن علمه بالغيب. وقال المفيد (رحمه الله) في المسائل العكبرية: إجماعنا على أن الإمام يعلم الأحكام لا الأعيان ولسنا نمنع أن يعلم أعيان ما يحدث ويكون بإعلام الله تعالى له ذلك. (ش)

مستفاد من بسطه وجوده إما بواسطة أو بلا واسطة، ولا يكون علم غيب بل اطلاعات على أمر غيبي لا يتأهل عليه كل الناس بل يختص بنفوس خصت بعناية إلهية كما قال تعالى شأنه (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) أو إشارة إلى أن لهم بسطا وقبضا فبسطهم عبارة عن حصول الصور الكائنة عند نفوسهم القادسة بالفعل فهم يعلمونها وقبضهم عبارة عن عدم حصولها لها بالفعل وإن كانت في الخزانة بحيث يحصل لهم لمجرد توجه النفس وهم يسمون هذه الحالة عدم العلم ويؤيده ما يجيء في الباب الآتي من أن الإمام إذا شاء أن يعلم علم، والله أعلم.

قوله (وقال سر الله) أي البسط والقبض سر أو حصول العلم بالغيب وعدم حصوله بسبب البسط والقبض سر الله أسره أي أظهره. وأراد بقوله «إلى من شاء الله» عليا (عليه السلام) وفيه دلالة على أن الإظهار له (عليه السلام) بمشيئة الله وإرادته.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن سدير الصيرفي قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل:

(بديع السماوات والأرض) قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله. فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع لقوله تعالى: (وكان عرشه على الماء)؟ فقال له حمران: أرأيت قوله جل ذكره: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إلا من ارتضى من رسول» وكان والله محمد ممن ارتضاه، وأما قوله «عالم الغيب» فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يفضيه إلى الملائكة فذلك يا حمران علم موقوف عنده، إليه فيه المشيئة فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا يمضيه، فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم إلينا.

* الشرح:

قوله (بديع السماوات والأرض) البديع فعيل بمعنى الفاعل وهو الذي يفعل فعلا لم يسبق مثله وقد يكون بمعنى المفعول وأما نفس ذلك الفعل أو الفعل الحسن المشتمل على نوع من الغرابة لمشابهته إياه في كونه محل التعجب منه وليس بمراد هنا.

قوله (على غير مثال كان قبله) وقد مر شرحه مفصلا وفيه تنزيه له عن صفات الصانعين من

ص:31

البشر فإن صنايعهم تحذو حذوا ومثله سبقت من غيرهم أو حصلت في أذهانهم بإلهام فلا يكون على غير مثال.

قوله (أما تسمع لقوله تعالى وكان عرشه على الماء) استشهاد لما تقدم لإفادة أن الماء أول الموجودات الممكنة وأصلها ولا أصل له وإن عرش الواجب يعني علمه المتعلق بالموجودات كان على الماء فقط إذ لم يكن حينئذ شيء من الجسم والجسمانيات موجودا غيره ثم خلق منه السماوات والأرضين; يدل على ذلك ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة: «قال وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدمه، ولكنه كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء، فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا نقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة، ثم طواها فوضعها فوق الماء ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا نقب وذلك قوله (أم السماء بناها رفع سمكها وسويها أغطش ليلها وأخرج ضحيها) قال «ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب ثم طواها فوضعها فوق الأرض ثم نسب الخليقتين فرفع السماء قبل الأرض فذلك قوله عز ذكره (والأرض بعد ذلك دحيها) يقول بسطها» (1) وقال بعض الأفاضل: مقتضى الروايات أنه خلق الماء قبل الأرض وهذا مما شهد به البرهان العقلي فإن الماء لما كان حاويا لأكثر الأرض كان سطحه الباطن المماس لسطحها الظاهر مكانا وظاهر أن للمكان تقدما باعتبار ما على المتمكن فيه وان كان اللفظ يعطي تقدم خلق الماء على الأرض تقدما زمانيا.

قوله (فقال أبو جعفر (عليه السلام) إلا من ارتضى من رسول) لما توهم السائل اختصاص علم الغيب به تعالى نبه (عليه السلام) بذكر الاستثناء على ثبوته لمن ارتضاه.

قوله (وأما قوله عالم الغيب فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يفضيه إلى الملائكة) فيما يقدر حال عن ما الموصولة

ص:32


1- (1) راجع كتاب الروضة تحت رقم 67.

وفي علمه متعلق بيقدر وما عطف عليه وفي بمعنى الباء أو حال عن فاعله إذ كأنه في علمه المحيط بجميع الأشياء أو حال عن ذي الحال الأول. وقيل: متعلق بفي علمه أو بعالم، ولعل المراد أنه تعالى عالم بالشيء قبل أن يخلقه ويظهره للملائكة في حال تقديره وقضائه وذلك موقوف عنده لأن ذلك الشيء في محل البداء ولله فيه المشيئة فيمضيه إذا أراد أمضاه ولا يمضيه إذا أراد عدم إمضائه وهذا علم بالغيب مختص به، وأما الذي قدره وقضاه وأمضاه فهو الذي أظهره للملائكة والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وبالجملة العلم قسمان: علم موقوف وهو العلم بالأشياء قبل إمضائها في حال المشيئة والإرادة والتقدير والقضاء فإنها في هذه المراتب في محل البداء، فإذا تعلق بهذا الإمضاء بعد القضاء خرجت عن حد البداء ودخلت في الأعيان، وعلم مبذول وهو العلم بالأشياء بعد تعلق الإمضاء. وإن شئت زيادة توضيح لهذا المقام فارجع إلى ما ذكرناه في شرح أحاديث باب البداء.

قوله (إليه فيه المشيئة) المشيئة مبتدأ و «فيه» متعلق بها و «إليه» خبر أي المشيئة فيه إلى الله.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن عباد بن سليمان، عن محمد بن سليمان عن أبيه، عن سدير قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله (عليه السلام) إذ خرج إلينا وهو مغضب، فلما أخذ مجلسه قال: يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت مني فما علمت في أي بيوت الدار هي؟ قال سدير: فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسر وقلنا له: جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم علما كثيرا ولا ننسبك إلى علم الغيب، قال: فقال: يا سدير ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) قال: قلت: جعلت فداك قد قرأته، قال: فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال: قلت: أخبرني به، قال: قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب؟! قال: قلت: جعلت فداك ما أقل هذا! فقال: يا سدير ما أكثر هذا أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضا:

(قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)؟ قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك.

ص:33

قال:

أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أمن عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت: لا، بل من عنده علم الكتاب كله، قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال: علم الكتاب والله كله عندنا، علم الكتاب والله كله عندنا.

* الشرح:

قوله (وهو مغضب) اسم مفعول من أغضبه شيء ولابد أن يكون ذلك الشيء المغضب لله تعالى لا لمقتضى النفس إذ مقتضاها لا يحركه إلى الغضب فهو إما ما رآه من الجارية من خلاف الآداب، أو ما زعمه بعض الناس من أنه يعلم الغيب مثل الله سبحانه وتعالى ويشاركه في الإلهية.

قوله (يا عجبا لأقوام) أي يا صحبي عجبت عجبا والسبب في التعجب عن الشيء هو عدم اطلاع النفس على أسبابه لغموضها مع كونه في نفسه أمرا غريبا وكلما كان الشيء أغرب وأسبابه أخفى كان أعجب وفيه أيضا إظهار بأنه لا يعلم الغيب مثله سبحانه وإلا لم يخف عليه السبب ثم الغرض من هذا التعجب وإظهاره هو أن لا يتخذه الجهال إلها أو يدفع عن وهم بعض الحاضرين المنكر لفضله ما نسبوه إليه من العلم بالغيب حفظا لنفسه وإلا فهو (عليه السلام) كان عالما بما كان وما يكون فكيف يخفى عليه مكان الجارية، فإن قلت: إخباره بذلك على هذا يوجب الكذب، قلت: إنما يوجب الكذب لو لم يقصد التورية (1) وقد قصدها، فإن المعنى: فما علمت علما غير مستفاد منه تعالى بأنها في أي بيوت الدار. وهذا حق فإن علمه بذلك علم مستفاد وهذا العلم في الحقيقة ليس علما بالغيب كما أشرنا إليه.

ص:34


1- (1) قوله «لو لم يقصد التورية» تكلف عجيب من الشارح جوز الكذب على الإمام (عليه السلام) تورية لئلا يلزم كذب الراوي وتضعيف الرواية وإني لا أرى التورية في هذا المقام مناسبة لشأن المعصوم ولا أجوز الكذب عليه (عليه السلام) وإن أوجب تكذيب الراوي وطرح الرواية، كيف وسليمان الديلمي الراوي من الكذابين الضعاف الذين لا يعتمد عليهم وغلوه لم يكن في علمهم بالغيب بل هو في أمور أخر. (ش)

قوله (قال سدير فلما أن قام من مجلسه) هذا يدل على أن ذلك القول كان على سبيل التقية من بعض الحاضرين حيث لم يسألوه عنه في ذلك المجلس.

قوله (علما كثيرا) وهو إما مصدر تعلم أو مفعوله.

قوله (ولا ننسبك إلى علم الغيب) قالوا ذلك تحرزا عن التعجب المذكور وعن تخاطبه بما يكرهه ثم هذا القول منهم بعد اعترافهم بأنه يعلم كثيرا من الأمور الكائنة بناء على أن علم الغيب علم غير مستفاد كعلم الواجب، وأما علم غيره بالأمور الغائبة عن الحواس فإنما هو اطلاع على أمر غيبي كما أشرنا إليه.

قوله (قال فقال: يا سدير ألم تقرأ القرآن) ملخص الجواب أمران: أحدهما أنه (عليه السلام) أعلم من صاحب سليمان الذي أحضر عرش بلقيس في أقل من طرفة عين بعلمه، وثانيهما أنه عالم بجميع الأشياء ولا يخفى عليه شيء وذلك لأن كل شيء في الكتاب وهو عالم بالكتاب كله فهو عالم بجميع الأشياء وقد دفع بذلك ما خالج قلب السائل من الكلام السابق من أنه لا يعلم بعض الأشياء.

قوله (قال الذي عنده علم من الكتاب) التنكير للتعظيم والتكثير والكتاب اللوح المحفوظ فدل ذلك على أنه كان عالما ببعض الكتاب لا بكله.

قوله (فهل عرفت الرجل) لم يعينه هنا وفي تعيينه أقوال ذكرناها سابقا.

قوله (وهل علمت ما كان عنده) أي شيء وأي قدر عنده من علم الكتاب.

قوله (في البحر الأخضر) أي البحر المحيط سمي أخضر لسواد مائه وبعد عمقه والعرب تطلق الخضرة على السواد.

قوله (فما يكون ذلك من علم الكتاب) أي: أي قدر يكون ذلك الذي علمه هذا الرجل من علم الكتاب وبالقياس إليه.

قوله (ما أقل هذا) تعجب في قلته بالقياس إلى علم الكتاب.

قوله (ما أكثر هذا) تعجب من كثرته وعظمته بالنظر إلى ذاته من جهة أنه تعالى ينسبه إلى العلم الذي أخبرك به وهو العلم الذي ترتب عليه الأثر العظيم.

قوله (فمن عنده علم الكتاب كله أفهم) أي أعلم أم من عنده علم الكتاب بعضه، دل على أن اسم الجنس المضاف إلى المعرفة من صيغ العموم فهو حجة لمن ذهب إليه.

* الأصل:

4 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن أحمد بن الحسن بن علي، عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام: يعلم الغيب؟ فقال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك.

* الشرح:

قوله (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإمام يعلم الغيب فقال: لا) دل على أن علم الغيب علم غير مستفاد كعلم الله تعالى وعلم الإمام لما كان مستفادا منه تعالى لا يكون علما بالغيب حقيقة وقد يسمى أيضا علما بالغيب نظرا إلى تعلقه بالأمور الغائبة وبه يجمع بين الأخبار التي دل بعضها على أنهم عالمون بالغيب ودل بعضها على أنهم غير عالمين به.

ص:35

باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا

* الأصل:

1 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، عن أيوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن بدر بن الوليد، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم.

* الشرح:

قوله (إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم) بفتح العين وكسر اللام أو بضم العين وكسر اللام وشدها من التعليم. وفيه دلالة على أن جهلهم بالشيء عبارة عن عدم حصوله بالفعل ويكفي في حصوله مجرد توجه النفس، والسبب في ذلك هو أن النفس الناطقة إذا قويت حتى صارت نورا إلهيا لم يكن اشتغالها بتدبير البدن عائقا لها عن الاتصال بالحضرة الإلهية، فهي والحالة هذه إذا توجهت إلى الجناب القدس لاستعلام ما كان وما سيكون وما هو كائن أفيضت عليها الصور الكلية والجزئية بمجرد التوجه من غير تجشم كسب وتمهيد مقدمات.

* الأصل:

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن بدر بن الوليد، عن أبي الربيع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الإمام إذا شاء أن يعلم أعلم.

3 - محمد بن يحيى، عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر، عن عمرو بن سعيد المدائني، عن أبي عبيدة المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئا أعلمه الله بذلك (1).

ص:36


1- (1) قوله (عليه السلام) في الحديث الرابع من الباب السابق «اعلمه الله ذلك» إذا كان حصول العلم بهذه السهولة صدق أنه عالم بما كان وما يكون وما هو كائن، وأحاديث الباب وإن كان جميعها ضعيفة لكنها لا تخالف أصول المذهب. (ش)

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن سليمان بن سماعة، وعبد الله بن محمد، عن عبد الله بن القاسم البطل، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير، فليس ذلك بحجة لله على خلقه.

* الشرح:

قوله (أي إمام لا يعلم ما يصيبه) الغرض منه أن الإمام لابد أن يكون عالما بكل شيء حتى ما يصيبه وما يصير إليه وإلا فلا يصلح أن يكون حجة الله وخليفته على خلقه لأن خليفته قائم مقامه فيجب أن يكون عالما بكل شيء مثله.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محمد بن بشار. قال: حدثني شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة ببغداد ممن كان ينقل عنه، قال: قال لي: قد رأيت بعض من يقولون بفضله من أهل هذا البيت، فما رأيت مثله قط في فضله ونسكه فقلت له: من؟ وكيف رأيته؟ قال:

جمعنا أيام السندي بن شاهك ثمانين رجلا من الوجوه المنسوبين إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقال لنا السندي: يا هؤلاء انظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به ويكثرون في ذلك وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق ولم يرد به أمير المؤمنين سوءا وإنما ينظر به أن يقدم فيناظر أمير المؤمنين وهذا هو صحيح موسع عليه في جميع أموره، فسلوه، قال: ونحن ليس لنا هم إلا النظر إلى الرجل وإلى فضله وسمته، فقال موسى بن جعفر (عليهما السلام): أما ما ذكر من التوسعة وما أشبهها فهو على ما ذكر غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في سبع تمرات وأنا غدا أخضر وبعد غد أموت، قال: فنظرت إلى السندي بن شاهك يضرب ويرتعد مثل السعفة.

* الشرح:

قوله (من أهل قطيعة الربيع) القطيعة كشريعة محال ببغداد أقطعها المنصور أناسا من أعيان

ص:37

دولته ليعمروها ويسكنوها.

قوله (جمعنا) على صيغة المجهول وقوله «ثمانين» حال عن ضمير المتكلم ويحتمل أن يكون على صيغة المعلوم وثمانين مفعوله.

قوله (قد فعل به) يعني قد قتل.

قوله (ولم يرد به أمير المؤمنين سوءا) أراد به هارون الرشيد - لعنه الله -.

قوله (وإلى فضله وسمته) المراد بالفضل آثاره، وبالسمت الهيئة الحسنة وهي هيئة أهل الخير.

قوله (أيها النفر) النفر بالتحريك والتسكين والنفرة والنفير الجماعة من الناس.

قوله (إني قد سقيت السم في سبع تمرات) قال الصدوق: سمه هارون الرشيد لعنه الله فقتله.

وقال الشهيد الأول: قبض مسموما ببغداد في حبس السندي بن شاهك لعنه الله لست بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل: يوم الجمعة لخمس خلون من رجب سنة إحدى وثمانين ومائة.

قوله (مثل السعفة) السعفة بالتحريك غصن النخل.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن عبد الله بن أبي جعفر قال: حدثني أخي، عن جعفر، عن أبيه أنه أتى علي بن الحسين (عليهما السلام) ليلة قبض فيها بشراب فقال: يا أبه اشرب هذا فقال: يا بني إن هذه الليلة التي أقبض فيها وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (عن عبد الله بن أبي جعفر) المراد بأبي جعفر الباقر (عليه السلام).

قوله (عن جعفر) المراد به الصادق (عليه السلام).

قوله (بشراب) المراد به شراب طاهر حلال مثل ما يتداوى به المرضى.

قوله (يا أبه) أصله يا أبي قلبت الياء ألفا للتخفيف، ثم حذفت الألف اكتفاء بفتح ما قبلها ثم أدخلت الهاء للوقف.

قوله (إن هذه الليلة التي أقبض فيها) قال الصدوق (رحمه الله) سمه الوليد بن عبد الملك لعنه الله فقتله.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن الحسن بن الجهم قال:

قلت للرضا (عليه السلام): إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل

ص:38

فيه وقوله لما سمع صياح الأوز في الدار: «صوائح تتبعها نوائح» وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف (عليه السلام) أن ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف كان هذا مما لم يجز تعرضه، فقال: ذلك كان ولكنه خير في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (الإوز) الإوز والإوزة بكسر الهمزة وفتح الواو والزاء وشدها: البط.

قوله (لو صليت الليلة) لو للتمني أو للشرط والجزاء محذوف.

قوله (وقد عرف (عليه السلام) ان ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف) قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: ان عليا (رضي الله عنه) لما استأصل الخوارج بالنهروان وفلت منهم اليسير وكان من جملتهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي من قبيلة بني حمير من حلفاء المراد، والبكر الصيرفي (1) وبكر بن عمر التميمي فاجتمع الثلاثة بمكة فتذاكروا أمر الناس وعابوا أعمالهم وتراحموا على من قتل من قبل من أصحابهم بالنهروان قالوا: ما نصنع بالبقاء بعد إخواننا فلو قتلنا أئمة الضلالة.

فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليا، وقال البكر: أنا أكفيكم معاوية وقال بكر بن عمر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وما أفسد أمر الأمة غيره، فتعاهدوا على ذلك عند البيت وتوثقوا على أن لا يرجع أحد من صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه وتواعدوا أن يفعلوا ذلك صلاة الصبح في السابع عشر من شهر رمضان فسموا سيوفهم وخرجوا آخر رجب فأتى ابن ملجم الكوفة وبها ناس من الخوارج ممن قتل آباؤهم وإخوانهم يوم النهروان فأخبرهم بما جاء له فاستمكنهم وانتدب إلى قتله معه شبيب بن بجرة ووردان بن مجالد، ولما كانت ليلة الميعاد قعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها علي وكان يخرج كل غداة لأول الأذان يوقظ الناس لصلاة الصبح فضربه شبيب فوقع سيفه على عضادة الباب وضربه ابن ملجم على عاتقه وهرب وردان فدخل منزله فدخل عليه رجل من بني أمية فقال له: ما هذا السيف فأخبره بالقصة فخرج الرجل فجاء بسيفه وعلا به وردان حتى قتله ودخل شبيب بين الناس فنجا بنفسه، وقال علي (رضي الله عنه) في ابن ملجم: لا يفوتنكم الرجل، فضرب رجل من همدان رجله وضرب مغيرة بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب وجهه بقصبة فصرعه وأتى به الحسن ثم قال علي (رضي الله عنه): علي بالرجل، فأدخل عليه مكتوفا فقال: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى قال: فما حملك على

ص:39


1- (1) في مروج الذهب وتاريخ الخلفاء وكتب اخر «برك» مكان البكر.

هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، قال علي (رضي الله عنه): لا أراك إلا مقتولا به، وقال للحسن: النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه ولا تمثلوا، وإن بقيت رأيت فيه رأيي وقبض (رضي الله عنه) ليلة تسعة عشر من رمضان سنة أربعين وخرج به ليلا فدفن بظهر الكوفة خوف أن ينبشه الخوارج، واختلف في سنه فقيل: سبع وخمسون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاث وستون وهو الصحيح. وكانت خلافته خمس سنين غير ثلاثة أشهر، وكان علي أوصى الحسن وقال: إن أنا مت فاضربه ضربة كضربة. وأما البكر الصيرفي فقعد لمعاوية في الليلة التي ضرب فيها علي (عليه السلام) فلما خرج ضربه فوقع السيف في أليتيه فأخذ فقال لمعاوية: إن عندي خبرا يسرك فهل ذلك نافعي إن أخبرتك؟ قال: نعم قال: إن لي أخا قتل في هذه الساعة عليا، قال: لعله لم يقدر على ذلك، قال: إن عليا يخرج وليس معه من يحرسه، فأمر به معاوية فقتل، وقيل: إنه حبسه حتى جاءه خبر علي فقطع يده وخلى سبيله وبعث معاوية إلى الطبيب الساعدي فلما نظر إليه قال: اختر إما أن أحمي حديدة وأضعها في موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرء فإن ضربتك مسمومة، قال: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد ففي يزيد وعبد الله ما تقر به العين، فسقاه تلك الشربة فبرء ولم يولد له، وأما بكر بن عمر فجلس لعمرو بن العاص فلم يخرج عمرو تلك الليلة لأنه كان اشتكى بطنه وأمر خارجة أن يصلي بالناس وكان خارجة على شرط عمرو وقضائه فخرج ليصلي فشد عليه وهو يرى أنه عمرو فضربه فقتله وأخذه الناس فانطلقوا به إلى عمرو فسلموا عليه بالإمامة فقال: من هذا؟ فقالوا: عمرو، قال: فمن قتلت إذا؟ قالوا: خارجة. فقال: أما والله يا فاسق ما أردت غيرك، قال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، وسأله عمرو عن خبره فأخبره أن عليا ومعاوية قتلا في هذه الليلة فقال: قتلا أو لم يقتلا لابد من قتلك فأمر بقتله فبكى فقيل: أجزعا من الموت بعد الإقدام؟ قال: لا والله ولكن أبكي على أن يفوز صاحباي ولا أفوز أنا بقتل عمرو. فضربت عنقه وصلب.

قوله (هذا مما لم يحل تعرضه) في بعض النسخ «مما لم يجز» وفي بعض النسخ «مما لم يحن» بالحاء المهملة والنون من حان بمعنى قرب والمعنى واحد.

قوله (ولكنه خير في تلك الليلة) أي خير فيها بين البقاء واللقاء فاختار اللقاء ليمضي تقدير الله تعالى والوقوع في الهلكة غير جائز إذا لم يكن بأمر الله تعالى ورضائه وإلا فهو جائز بل واجب مثل هذا وفعل الحسين (عليه السلام) وفعلنا في الجهاد مع الاثنين.

* الأصل:

ص:40

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل غضب على الشيعة فخيرني نفسي أو هم فوقيتهم والله بنفسي.

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل غضب على الشيعة) لكثرة مخالفتهم وقلة إطاعتهم وعدم نصرتهم للإمام الحق.

قوله (فخيرني نفسي أو هم) أي فخيرني بين إرادة موتي أو موتهم ليتحقق المفارقة بيني وبينهم فوقيتهم والله بنفسي للشوق إلى لقاء الله تعالى وللشفقة عليهم ولئلا ينقطع نسل الشيعة بالمرة ولتوقع أن يخرج من أصلابهم رجال صالحون.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مسافر أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قال له: يا مسافر هذه القناة فيها حيتان؟ قال: نعم جعلت فداك، فقال: إني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) البارحة وهو يقول: يا علي ما عندنا خير لك.

* الشرح:

قوله (قال له: يا مسافر هذه القناة فيها حيتان قال: نعم جعلت فداك) لعله (عليه السلام) يخبره بما سيراه في قبره من الماء والحيتان، بيانه ما رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن أبي الصلت الهروي في كلام طويل يأمره (عليه السلام) بكيفية حفر القبر وشق اللحد حتى قال: وإذا فعلوا ذلك يعني الحفر واللحد فإنك ترى عند رأسي نداوة فتكلم بالكلام الذي أعلمك فإنه ينبع الماء حتى يمتلي اللحد وترى فيه حيتانا صغارا ففتت لها الخبز الذي أعطيك فانها تلتقطه فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء، ثم تغيب فإذا غابت فضع يدك على الماء ثم تكلم بالكلام الذي أعلمك فإنه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ولا تفعل ذلك إلا بحضرة المأمون - إلى أن قال - فلما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون:

لم يزل الرضا (عليه السلام) يرينا عجائبه في حياته حتى أراناها بعد وفاته أيضا فقال له وزير كان معه: أتدري ما أخبرك بها الرضا (عليه السلام)؟ قال: لا، قال: إنه أخبرك أن ملككم يا بني العباس مع كثرتكم وطول مدتكم مثل هذه الحيتان حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلط الله تعالى عليكم رجلا منا فأفناكم عن آخركم، قال له: صدقت، وهذا الذي ذكرنا أحسن مما قيل من أن علمي بما أقول كعلمي بوجود الحيتان في هذه القناة.

* الأصل:

ص:41

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه فأوصاني بأشياء في غسله وفي كفنه وفي دخوله قبره، فقلت: يا أبه والله ما رأيتك منذ اشتكيت أحسن منك اليوم، ما رأيت عليك أثر الموت، فقال: يا بني! أما سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) ينادي من وراء الجدار يا محمد؟ تعال، عجل.

* الشرح:

قوله (يا محمد تعال) قال صاحب الكنز: تعال بفتح اللام أمر است از تعالى يتعالى يعنى بيا.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أنزل الله تعالى النصر على الحسين (عليه السلام) حتى كان [ما] بين السماء والأرض ثم خير: النصر أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى.

* الشرح:

قوله (فاختار لقاء الله تعالى) إنما اختار لقاء الله دون النصر وبقاء الحياة الدنيوية لأن ميله إلى الثاني ميل طبيعي حيواني وهو في معرض الزوال والفناء وميله إلى الأول ميل عقلي باق أبدا فأين أحدهما عن الآخر؟ كيف لا وقد قال سيد العارفين أمير المؤمنين (عليه السلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» وكذلك اختار سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) الموت من البقاء في الدنيا حين خيره الله تعالى بينهما في مرض الموت. ويدل على وفور رغبة الأولياء في الموت قوله تعالى (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين).

ص:42

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم

* الأصل:

1 - أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن عبد الله بن حماد، عن سيف التمار قال: كنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من الشيعة في الحجر فقال: علينا عين، فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا، فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة ورب البنية - ثلاث مرات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر (عليهما السلام) أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وراثة.

* الشرح:

قوله (علينا عين) أي رقيب وجاسوس.

قوله (ورب البنية) البنية كفعيلة الكعبة.

قوله (والخضر) الخضر بالكسر صاحب موسى (عليه السلام) (1) ويقال الخضر مثل كبد وكبد وهو الأفصح.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن يونس بن يعقوب، عن الحارث بن المغيرة، وعدة من أصحابنا منهم عبد الأعلى وأبو عبيدة وعبد الله بن بشر الخثعمي سمعوا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون، قال: ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول: (فيه تبيان كل شيء).

* الشرح:

قوله (فيه تبيان كل شيء) أي كشفه وإيضاحه وفيه دفع لاستبعاد السامع إذ تحقق

ص:43


1- (1) قوله «والخضر صاحب موسى» ويشكل على هذه الرواية بأن الخضر كان عالما بما يكون أيضا حيث أخبر بما يفضي إليه أمر الغلام الذي قتله والجواب أن الرواية ضعيفة لأن إبراهيم بن إسحاق الأحمر كان ضعيفا غاليا لا يعبأ به ومحمد بن الحسين في الإسناد مصحف والظاهر أنه محمد بن الحسن الصفار. (ش)

تبيانه يقتضي أن يكون هناك عالم ببيانه والإقرار بالملزوم يقتضي الإقرار باللازم.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن سهل، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن جماعة بن سعد الخثعمي أنه قال: كان المفضل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له المفضل: جعلت فداك يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟ قال: لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساء.

* الشرح:

قوله (عن جماعة بن سعد الخثعمي) ما رأيته بهذه النسبة في كتب الرجال والذي فيه جماعة ابن سعد الجعفي الصائغ وهو ضعيف يروى عن أبي عبد الله (عليه السلام).

قوله (ويحجب عنه خبر السماء) أي خبر السماء وأهلها وخبر أعمالهم أو خبر يأتيه من جهة السماء وهو الذي يأتي به الملائكة ويحدثه. والأخير أنسب بسياق الكلام. والإضافة حينئذ لأدنى ملابسة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول - وعنده أناس من أصحابه -: عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا، أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده، ثم يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم؟! فقال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله عز ذكره وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه.

فبتقدم علم إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام): وبعلم صمت من صمت منا ولو أنهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله عز وجل وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله عز وجل أن يدفع عنهم ذلك وألحوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذا لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من

ص:44

سلك منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه، لا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبن بك المذاهب فيهم.

* الشرح:

قوله (ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم) لأن حجتهم على المخالفين بأن إمامهم أعلم من إمامهم فإذا قالوا بأن إمامهم ليس عالما بجميع الأشياء فقد كسروا حجتهم وخصموا أنفسهم إذ للمخالفين أن يقولوا: لا فرق بيننا وبينكم في أن إمامنا وإمامكم سواء في العلم وعدمه.

قوله (بضعف قلوبهم) لعدم قوتها ومعرفتها حق الإمام بنسبة ما لا يليق إليه من الجهل بالمعارف والأحكام.

قوله (فينقصونا حقنا) «حقنا» بدل عن الضمير المتكلم مع الغير، والمراد به العلم بجميع الأشياء حيث يعتقدون أن لا علم لنا بجميعها.

قوله (ويعيبون ذلك) أي يذمون من عرفنا بالفضل وكمال العلم حق المعرفة وسلم لأمرنا من العلم التام وينكرون ذلك عليه.

قوله (ويقطع عنهم مواد العلم) بأن لا يرد عليهم من الله تعالى علم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم واحتياجهم في كماله كالخلفاء الجاهلين بأكثر أموره.

قوله (فقال له حمران) كأنه قال: إن كان لهم العلم بجميع الأمور لم أقدموا على ما فيه هلاكهم مما ذكر، وحاصل الجواب أنه كان لهم علم بذلك بإخبار الرسول وأقدموا عليه بعد تقدير الله تعالى ذلك وأمره إياهم على سبيل التخيير بينه وبين عدمه وقضائه وإمضائه بعد اختيارهم ليبلغوا درجة الشهادة ومحل الكرامة منه تعالى، ولئلا يبقى للخلق حجة عليه بسكوت الجميع وقعودهم ومن لم يقدم منا كان ذلك أيضا بأمره جل شأنه لمصلحة وبالجملة كل من القيام وعدمه والسكوت وعدمه منا إنما كان بأمر الله تعالى.

قوله (ولو أنهم يا حمران) كما هم كانوا مخيرين بين القيام وعدمه واختاروا القيام لأمر الله تعالى على سبيل التخيير كذلك كانوا مخيرين بين الدعاء عليهم بالاستيصال وتركه واختاروا الترك شوقا إلى لقاء الله تعالى ليزداد مثوبتهم واستدراجا للطواغيت ليشتد عقوبتهم، وإيقانا بسرعة انقطاع ملكهم وتفرق جمعهم.

قوله (أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد) السلك بالكسر الخيط الذي ينظم فيه اللؤلؤ، والتبدد التفرق، شبه اتصال ابتداء دولتهم بانقطاعها باتصال انقطاع السلك بتفرق ما هو منظوم فيه مبالغة في السرعة.

ص:45

قوله (وما كان ذلك الذي أصابهم) هذا حق لا ريب فيه لأن المصائب والبلايا في الدنيا إنما تتوجهان إلى الخلق باعتبار قربهم من الحق فكلما كان القرب أشد كان لحوق المصائب أقوى وأكثر.

قوله (فلا تذهبن بك المذاهب فيهم) بأن تنسب إليهم الجهل والعجز واستحقاق العقوبة ونحوها مما يوجب النقص.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا، قال: فيقول: قل كذا وكذا، قلت: جعلت فداك هذا الحلال وهذا الحرام أعلم أنك صاحبه وأنك أعلم الناس به وهذا هو الكلام؟ فقال لي: ويحك يا هشام [لا] يحتج الله تبارك وتعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون إليه.

* الشرح:

قوله (عن خمسمائة حرف من الكلام) أي عن خمسمائة مسألة من علم الكلام وشبهاتهم فيه.

قوله (وهذا هو الكلام) أي هذا الذي سألتك هو علم الكلام ومسائله ولم يكن لي علم بأنك عارف به حق المعرفة.

قوله (يا هشام يحتج الله تعالى) هذا على سبيل الإنكار أي لا يكون ذلك الاحتجاج أبدا إذ وجب أن يكون حجته تعالى على الخلق عالما بجميع ما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة. وللعامة هنا كلام لا بأس أن نشير إليه فنقول: قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: اشترط غلاة الشيعة أن يكون الإمام صاحب معجزات وعالما بالغيب وبجميع اللغات وبطبائع الأشياء وعجائب الأرض والسماوات وهذا كله باطل للإجماع على صحة عقد الإمامة لأبي بكر وعمر وعثمان مع عرائهم من ذلك انتهى. وفيه أن الشيعة لا يسلمون انعقاد الإجماع على إمامة هؤلاء المذكورين كيف، وكثير من الصحابة المعروفين بالفضل والصلاح عندنا وعندهم لم يبايعوهم منهم سلمان والمقداد وطلحة والزبير وعباس وعمار وأبي ذر وإخراجه من المدينة إلى الشام ثم إلى الربذة مشهور، وقد صرحوا أيضا بجميع ذلك كما نقلنا عنهم سابقا.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن محمد بن فضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا والله لا يكون عالم جاهلا أبدا، عالما بشيء جاهلا بشيء، ثم قال: الله أجل وأعز وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه، ثم

ص:46

قال: لا يحجب ذلك عنه.

* الشرح:

قوله (لا والله لا يكون عالم) أي لا يكون إمام عالم بشيء جاهلا بشيء آخر أبدا فإن هذا لا يصلح أن يكون إماما للخلق وخليفة لله. وفيه رد على أصحاب الثلاثة حيث يجيزون أن يكون الإمام جاهلا ببعض الشريعة بل بأكثرها وأن يقتدى فيما جهله برعيته ويقولون: لا يجوز أن يكون جاهلا بجميعها. وأنت خبير بأن هذا باطل بالضرورة وأنه لا فرق بين الجاهل بالبعض والجاهل بالجميع فكما لا يصلح الثاني للإمامة كذلك لا يصلح الأول لها.

ص:47

باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن عبد الله بن سليمان، عن حمران بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) برمانتين فأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إحداهما وكسر الأخرى بنصفين فأكل نصفا وأطعم عليا (عليه السلام) نصفا ثم قال رسول الله: يا أخي هل تدري ما هاتان الرمانتان؟ قال: لا؟ قال: أما الاولى فالنبوة، ليس لك فيها نصيب، وأما الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه، فقلت: أصلحك الله كيف كان يكون شريكه فيه؟ قال: لم يعلم الله محمدا (صلى الله عليه وآله) علما إلا وأمره أن يعلمه عليا (عليه السلام).

2 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) برمانتين من الجنة فأعطاه إياهما فأكل واحدة وكسر الأخرى بنصفين فأعطى عليا (عليه السلام) نصفها فأكلها، فقال: يا علي أما الرمانة الاولى التي أكلتها فالنبوة ليس لك فيها شيء وأما الأخرى فهو العلم فأنت شريكي فيه.

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عبد الحميد، عن منصور بن يونس عن ابن أذينة، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: نزل جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) برمانتين من الجنة فلقيه علي (عليه السلام) فقال: ما هاتان الرمانتان اللتان في يدك؟ فقال: أما هذه فالنبوة، ليس لك فيها نصيب، وأما هذه فالعلم، ثم فلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنصفين فأعطاه نصفها وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصفها ثم قال: أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه، قال: فلم يعلم - والله - رسول الله (صلى الله عليه وآله) حرفا مما علمه الله عز وجل إلا وقد علمه عليا ثم انتهى العلم إلينا، ثم وضع يده على صدره.

* الشرح:

قوله (أما الاولى فالنبوة) لما كان إرسال إحداهما لأجل النبوة والأخرى لأجل العلم وكان في العلم شركة دون النبوة وقع الاختصاص بإحداهما والاشتراك في الأخرى وربما يفهم منه أن درجة النبي فوق درجة الوصي بثلاث مراتب.

قوله (كيف كان يكون شريكه) لما كان المتبادر من الشركة في أمر اختصاص كل من الشريكين بحصة فيه ليس للآخر فيها نصيب وهو ليس بمراد هنا سأل عن كيفية الشركة هنا فأجاب بأن المراد بها علم كل منهما جميع ما يعلمه الآخر إلا أن

ص:48

لأحدهما حق التعليم على الآخر.

باب جهات علوم الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن عمه حمزة بن بزيع، عن علي السائي، عن أبي الحسن الأول موسى (عليه السلام) قال: قال: مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا.

* الشرح:

قوله (عن علي السائي) هو علي بن السويد السائي من أصحاب الرضا (عليه السلام) ثقة منسوب إلى الساءة بالسين المهملة قرية قريبة من المدينة.

قوله (ماض وغابر وحادث) الغابر الباقي والماضي من الأضداد والمراد به هنا الثاني.

قوله (فأما الماضي فمفسر) يعني الماضي الذي تعلق علمنا به وهو كل ما كان مفسرا لنا بالتفسير النبوي، والغابر المحتوم الذي تعلق علمنا به وهو كل ما يكون مزبورا مكتوبا عندنا بخط علي (عليه السلام) وإملاء الرسول وإملاء الملائكة كما مر في تفسير الجامعة ومصحف فاطمة (عليها السلام).

والحادث الذي يتعلق علمنا به وهو كل ما يتجدد في إرادة الله تعالى ويحتمه بعدما كان في معرض البداء قذف في قلوبنا بإلهام رباني ونقر في أسماعنا بتحديث الملك وهذا القسم الأخير أفضل علمنا لاختصاصه بنا ولحصوله لنا من الله بلا واسطة بشر بخلاف الأولين لحصولهما بالواسطة ولعدم اختصاصهما بنا إذ قد اطلع على بعضها بعض خواص الصحابة مثل سلمان وأبي ذر باخبار النبي وبعض خواص أصحابنا مثل زرارة وغيره بقراءة بعض مواضع كتاب علي (عليه السلام).

قوله (ولا نبي بعد نبينا) دفع بذلك توهم من يتوهم أن كل من قذف في قلبه ونقر في سمعه فهو نبي. وهذا التوهم فاسد لأنه محدث والمحدث ليس بنبي كما مر.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن علي بن موسى، عن صفوان بن يحيى، عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): [قال] قلت: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: وراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن علي (عليه السلام) قال: قلت: انا نتحدث أنه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم؟

ص:49

قال: أو ذاك.

* الشرح:

قوله (وراثة) أخبر بالقسمين الأولين وسكت عن الثالث لغرابته، ثم أخبر به بعد السؤال عنه فقد ظهر أن جهات علومهم ثلاثة.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عمن حدثه، عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام):

روينا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع، فقال: أما الغابر فما تقدم من علمنا، وأما المزبور فما يأتينا، وأما النكت في القلوب، فإلهام، وأما النقر في الأسماع فأمر الملك.

ص:50

باب أن الأئمة (عليهم السلام) لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبان بن عثمان، عن عبد الواحد بن المختار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لو كان لألسنتكم أوكية لحدثت كل امرئ بما له وعليه.

* الشرح:

قوله (أوكية) جمع وكاء ككساء وهو رباط القربة وغيرها، شبه الحالة التي تمنع الإنسان عن التكلم بما يضره بالوكاء الذي يشد به رأس القربة للإفصاح والإيضاح.

* الأصل:

2 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن عبد الله بن مسكان قال: سمعت أبا بصير يقول: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من أين أصاب أصحاب علي ما أصابهم مع علمهم بمناياهم وبلاياهم؟ قال: فأجابني - شبه المغضب -: ممن ذلك إلا منهم؟! فقلت: ما يمنعك جعلت فداك؟ قال: ذلك باب أغلق إلا أن الحسين بن علي صلوات الله عليهما فتح منه شيئا يسيرا، ثم قال: يا أبا محمد! إن أولئك كانت على أفواههم أوكية.

* الشرح:

قوله (من أين أصاب أصحاب علي ما أصابهم مع علمهم بمناياهم وبلاياهم) «ما» للتفخيم والتعظيم، والمراد به الأمور الغريبة التي أخبرهم بها (عليه السلام) والظرف أعني «مع» حال عن فاعل أصابهم، والمراد بأصحاب علي خواص أصحابه وهم أصحاب سره لا كلهم يعني من أي سبب أصاب أصحاب علي (عليه السلام) من العلوم الغريبة والرموز السرية حال كونها مقرونة مع ما أصابهم من علمهم بمناياهم وبلاياهم كل ذلك بإخباره (عليه السلام) إياهم.

قوله (شبه المغضب) لعل سبب غضبه عدم وجدانه من أصحابه من يصلح أن يكون محلا لأسراره وقابلا لإظهارها عليه.

قوله (ممن ذلك إلا منهم) «ذلك» مبتدأ إشارة إلى السبب الذي سأل السائل عنه و «ممن» خبره وضمير «منهم» راجع إلى أصحاب علي (عليه السلام) أي ذلك السبب الذي يوجب إظهار الأمور الغريبة

ص:51

والأسرار العجيبة ممن يكون إلا منهم فإنهم لصلاحهم ورعاية حقوق إمامهم صاروا قابلين لإظهار السر عليهم.

قوله (ما يمنعك) مفعوله محذوف بقرينة المقام أي ما يمنعك إظهار السر على أصحابك كما أظهره علي (عليه السلام) على أصحابه.

قوله (ذلك باب أغلق) ذلك إشارة إلى إظهار السر المعلوم بحسب المقام وإغلاق بابه كناية عن عدم جواز إظهاره لعدم الوكاء على ألسنة الناس كما يشير إليه آخر الحديث.

قوله (إن اولئك كانت على أفواههم أوكية) فلذلك صاروا قابلين لإظهار الأسرار وأما أصحابنا فلما لم تكن على أفواههم أوكية لم يجز لنا إظهارها عليهم لأنه يصير سببا لسفك دمائنا ودمائهم، وأولئك إشارة إلى أصحاب علي وأصحاب الحسين (عليهما السلام).

ص:52

باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة (عليهم السلام) في أمر الدين

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن علي بن إسماعيل، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي إسحاق النحوي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته يقول: إن الله عز وجل أدب نبيه على محبته فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم). ثم فوض إليه فقال عز وجل:

(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، قال: ثم قال: وإن نبي الله فوض إلى علي وائتمنه فسلمتم وجحد الناس فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل. ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا.

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول - ثم ذكر نحوه -.

* الشرح:

قوله (عن أبي إسحاق ا لنحوي) هو ثعلبة بن ميمون وكان وجها في أصحابنا قارئا فقيها نحويا لغويا عابدا زاهدا ثقة.

قوله (أدب نبيه على محبته) التأديب تعليم الأدب وهو ما يدعو إلى المحامد من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.

قوله (على محبته) متعلق بأدب على تضمين معنى القيام أو حال عن الضمير المجرور أي كائنا على محبته. ومحبته لله عبارة عن الإتيان بمرضاته والصبر على موجبات قربه والتوجه بالكلية إلى قدس ذاته. ومحبة الله إياه عبارة عن إفاضة الخير عليه وتتابع الإحسان إليه وإجابة ما يتمناه وإعطاء ما يرضاه.

قوله (فقال وإنك لعلى خلق عظيم) متفرع على التأديب يعني بعدما أدبه وأكمل له محامده وبلغه إلى غاية كماله خاطبه بذلك القول مؤكدا بأن واللام واسمية الجملة، والتنكير المفيد للتعظيم والتصريح به للدلالة على علو قدره وتفرده بذلك وتقرير حبه في الأذهان إذ ما من أحد ولو كان كافرا إلا وهو يمدح الخلق وصاحبه.

قوله (ثم فوض إليه) للتفويض معان بعضها باطل وبعضها صحيح أما الباطل فهو تفويض الخلق

ص:53

والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة إليه يدل على ذلك ما روي عن الرضا (عليه السلام) قال «اللهم من زعم أننا أرباب فنحن منه براء ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن عنه براء كبراءة عيسى بن مريم من النصارى» وما روي عن زرارة قال: «قلت للصادق (عليه السلام): إن رجلا من ولد عبد المطلب بن سبأ يقول بالتفويض فقال: وما التفويض؟ فقلت: إن الله عز وجل خلق محمدا (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليهما السلام) ثم فوض الأمر إليهما فخلقا ورزقا وأحييا وأماتا، فقال (عليه السلام): كذب عدو الله إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بما قال الصادق (عليه السلام) فكأنما ألقمته حجرا - أو قال فكأنما خرس» - وأما الثاني فأقسام منها تفويض أمر الخلق إليه بمعنى أنه أوجب عليهم طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه سواء علموا وجه الصحة أم لم يعلموا وإنما الواجب عليهم الانقياد والإذعان بأن طاعته طاعة الله تعالى. ومنها تفويض القول بما هو أصلح له أو للخلق وان كان الحكم الأصلي خلافه كما في صورة التقية وهي أيضا من حكم الله تعالى إلا أنه منوط على عدم إمكان الأول بالإضرار ونحوه. ومنها تفويض الأحكام والأفعال بأن يثبت ما رآه حسنا ويرد ما رآه قبيحا، فيجيز الله تعالى لإثباته إياه. ومنها تفويض الإرادة بأن يريد شيئا لحسنه ولا يريد شيئا لقبحه فيجيز الله تعالى إياه.

وهذه الأقسام الثلاثة لا تنافي ما ثبت من أنه لا ينطق إلا بالوحي لأن كل واحد منها ثبت من الوحي إلا أن الوحي تابع لإرادته يعني إرادة ذلك فأوحى إليه كما أنه أراد تغيير القبلة وزيادة الركعتين في الرباعية والركعة في الثلاثية وغير ذلك فأوحى الله تعالى إليه بما أراد، إذا عرفت هذا حصلت لك بصيرة على موارد التفويض في أحاديث هذا الباب فليتأمل.

قوله (وما أتاكم الرسول فخذوه) هذا ظاهر في القسم الأول (1).

قوله (ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل) نبين لكم ما أراد الله منكم ونحصل لكم ما أردتم منه ونوردكم مورد الكرامة منه.

قوله (في خلاف أمرنا) خلافه عبارة عن عدم الاعتقاد بحقيته سواء كان مع الاعتقاد بحقية نقيضه أم لا.

* الأصل:

ص:54


1- (1) قوله «ظاهر في القسم الأول» لكن الحق أن المراد به التفويض في الأحكام بقرينة سائر الروايات. (ش)

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن بكار بن بكر، عن موسى بن أشيم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزوجل فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر [به] الأول، فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين، فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا، يخطئ هذا الخطأ كله، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي، فسكنت نفسي فعلمت أن ذلك منه تقية، قال: ثم التفت إلي فقال لي: يا ابن أشيم إن الله عزوجل فوض إلى سليمان بن داود فقال:

(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وفوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد فوضه إلينا.

* الشرح:

قوله (فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزوجل) هذا ظاهر في القسم الثاني.

قوله (كأن قلبي يشرح بالسكاكين) الشرح الكشف ومنه تشريح اللحم، والسكاكين بالفتح والتخفيف جمع السكين بالكسر، أي كان قلبي يقطع ويكشف بالسكين.

قوله (إن الله فوض إلى سليمان) أراد أنه تعالى كما فوض الإعطاء والمنع والتصرف فيهما إلى سليمان (عليه السلام) غير محاسب عليهما كذلك فوض التصرف في الأمر والنهي إلينا نحن نقول فيهما ما يقتضيه المصلحة غير محاسبين على ذلك.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن ثعلبة، عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله (عليهما السلام) يقولان: إن الله عزوجل فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

* الشرح:

قوله (لينظر كيف طاعتهم) أي كيف طاعتهم لله أو لنبيه لأن الطاعة للخلق وإن كانت بأمر الله تعالى أشد على النفوس من الطاعة للخالق ولذلك أنكرها جم غفير من الحساد.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن فضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عزوجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال: «إنك لعلى خلق عظيم»، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده،

ص:55

فقال عزوجل: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين، عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عزوجل له ذلك كله فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة، ثم سن رسول الله (صلى الله عليه وآله) النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عزوجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عزوجل له ذلك.

وحرم الله عزوجل الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله، وعاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عزوجل، بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر وليس لأحد أن يرخص [شيئا] ما لم يرخصه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فوافق أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الله عزوجل، ونهيه نهي الله عزوجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى.

* الشرح:

قوله (ليسوس عباده) ساس الناس يسوسهم سياسة أمرهم ونهاهم وملك أمورهم.

قوله (فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الركعتين ركعتين) هذا هو القسم الثالث على الظاهر أو الرابع على الاحتمال.

قوله (فصارت عديل الفريضة) أي فصارت الزيادة مثل الفريضة ومساوية لها في عدم جواز الترك كما أشار إليه بقوله: لا يجوز تركهن، لا في العدد لأن الزائد ناقص فيه.

قوله (وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة) يعني لما أفرد الركعة في المغرب تركها قائمة في

ص:56

السفر والحضر، وحاصله: لما نقص ركعة لم يقصر فيهما، يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب العلل بإسناده عن محمد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) لأي علة يصلى المغرب في السفر والحضر ثلاث ركعات وسائر الصلوات ركعتين؟ قال: لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرض عليه الصلاة مثنى مثنى وأضاف إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ركعتين ثم نقص من المغرب ركعة ثم وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ركعتين في السفر وترك المغرب وقال إني أستحيي أن أنقص فيها مرتين فلتلك العلة يصلى ثلاث ركعات في الحضر والسفر».

قوله (فأجاز الله عزوجل له ذلك كله) أي ذلك المذكور وهو الإضافة وعدم جواز الترك مطلقا في الحضر وجوازه في الرباعيات في السفر وعدم جوازه في المغرب فيه.

قوله (ثم سن رسول الله (صلى الله عليه وآله) النوافل أربعا وثلاثين) هذا حجة لمن ذهب إلى أن النوافل هذا المقدار.

قوله (تعد بركعة مكان الوتر) ضمير تعد راجع إلى الركعتين باعتبار أنهما ركعة تقوم مقام الوتر لمن يفوته للنوم وغيره ولكون شرعهما باعتبار قيامهما مقام الوتر عند فواته لم يصلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما يدل على الأمرين ما رواه الصدوق في كتاب العلل بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلا بوتر، قال: قلت: يعني الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم إنهما بركعة فمن صلاهما ثم حدث له حدث مات على وتر فإن لم يحدث له حدث الموت، يصلي الوتر في آخر الليل، فقلت: هل صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هاتين الركعتين؟ قال: لا، قلت: ولم؟ قال: لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأتيه الوحي وكان يعلم أنه هل يموت في هذه الليلة أولا وغيره لا يعلم فمن أجل ذلك لم يصلهما وأمر بهما.

قوله (مثلي الفريضة) شعبان كله وثلاثين يوما لكل شهر من عشرة أشهر ثلاثة أيام.

قوله (وعاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشياء وكرهها) عاف الأشياء كرهها فالعطف في وكرهها للتفسير وقوله «لم ينه عنها» نهي حرام للتأكيد أو لدفع توهم حمل الكراهة على التحريم، ويؤيده الحصر في قوله «إنما نهى عنها نهي اعافة وكراهة» ولما كان عاف وأعاف بمعنى، صح إعافة في موضع عيافا بكسر العين وهو مصدر عاف.

قوله (فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد) دل على أن الأخذ بالمكروه والمندوب من حيث أنه مكروه ومندوب واجب عليهم كما أن الأخذ بالحرام والواجب من حيث أنه حرام وواجب واجب عليهم فلا يجوز لهم الأخذ بالعكس في الموضعين ولا دلالة فيه على اعتبار الكيفية في النية فليتأمل.

ص:57

قوله (فكثير المسكر) لا دلالة فيه على عدم النهي في قليله إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة اتفاقا.

قوله (وليس لأحد أن يرخص) لأنه يجب على الكل الأخذ بقوله والتسليم لأمره ونهيه.

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله (عليهما السلام) يقولان: إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة مثله.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أدب نبيه (صلى الله عليه وآله) فلما انتهى به إلى ما أراد، قال له: (إنك لعلى خلق عظيم) ففوض إليه دينه فقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وإن الله عزوجل فرض الفرائض ولم يقسم للجد شيئا وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أطعمه السدس فأجاز الله جل ذكره له ذلك وذلك قول الله عزوجل: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب).

* الشرح:

قوله (فلما انتهى به إلى ما أراد) من الكمالات الإنسانية والأخلاق النفسانية حتى صار متصلا بالحق اتصالا معنويا وبلغ غاية القرب منه وشاهد نوره في ذاته وذاته في نوره فرض الفرائض أي أحكام المواريث.

قوله (ولم يقسم للجد شيئا) أي لم يقسم لجد الميت مع أبويه شيئا لأن الأبوين يمنعان آباءهم عن الإرث.

قوله (أطعمه السدس) أي سدس الأصل استحبابا.

قوله (وذلك قول الله عزوجل) أي تفويض أمر دينه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) كتفويض المن والإمساك إلى سليمان (عليه السلام).

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه.

* الشرح:

قوله (من غير أن يكون جاء فيه شيء فقال نعم) وهو القسم الثالث فإنه أثبت شيئا

ص:58

وأجازه الله تعالى لإثباته.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن قال: وجدت في نوادر محمد بن سنان عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة، قال عزوجل: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك الله) وهي جارية في الأوصياء (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه) وهو القسم الأول الذي أشرنا إليه.

9 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن زياد، عن محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله عزوجل أدب رسوله حتى قومه على ما أراد، ثم فوض إليه عز ذكره: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فما فوض الله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) فقد فوضه إلينا.

* الأصل:

10 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن صندل الخياط، عن زيد الشحام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) قال: أعطى سليمان ملكا عظيما ثم جرت هذه الآية في رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكان له أن يعطي ما شاء من شاء ويمنع من شاء، وأعطاه [الله] أفضل مما أعطى سليمان لقوله: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

* الشرح:

قوله (ثم جرت هذه الآية) لأنه فوض إليه (صلى الله عليه وآله) المنع والإعطاء المتعلقين بالرئاسة الدنيوية أيضا.

قوله (أفضل مما أعطى سليمان (1)) حيث فوض إليه أمر الدين المتعلق بالرئاسة الأخروية.

ص:59


1- (1) قوله «أفضل مما أعطى سليمان» حاصل أحاديث هذا الباب والمعنى الذي يتفق عليه جميعها أن بعض الأحكام مفوض إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعضها موحى إليه من الله تعالى ويشكل بأن ما يفرضه الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يكون إلا بأمر الله تعالى وهو (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والجواب أن جميعها وإن كانت من الله تعالى وبأمر الله لكن الفرق في الطريق الموصل فبعض الأحكام يوحى إليه قرآنا بوسيلة روح القدس وبعضها غير قرآن وبعضها إلهام وإلقاء في الروع وبعضها بعلمه (صلى الله عليه وآله) بالمصلحة الملزمة وليس هذا أمرا غريبا كما يتفق للعلماء وإنهم يستنبطون الحكم تارة من الكتاب الكريم وتارة من نص الرسول (صلى الله عليه وآله) وتارة من فحوى الخطاب كاستفادة حرمة ضرب الأبوين وشتمهما من قوله تعالى (ولا تقل لهما أف) وتارة يعرفون الحكم من العقل مجردا من النص المنقول كحرمة الغصب وقتل النفوس وليس معنى تفويض الله تعالى بعض أحكامه إلى رسوله أنه تعالى لا يعلم ولا يقصد ما يفعله الرسول ولا يجعل حكما ولا يريد شيئا إلا تبعا لإرادة الرسول (صلى الله عليه وآله) بل الأمر بالعكس لكن عرف (صلى الله عليه وآله) وجوب الركعتين الأوليين بنص جبرئيل في ليلة الإسراء ووجوب الركعات الأخر بإلهام وقوة قدسية من الله أيضا كما أن جميع ما نعرفه بعقلنا بل بحسنا إنما هو من جانب الله تعالى وإن لم يكن بوحي وإلهام بل بإعداد مقدمات وحصول معدات لا تنفك في سنته تعالى عن إفاضة العلم والإدراك ولما جرت عادة الناس بأن ينسبوا ما استفادوا من غير سبب وواسطة إلى نفس المسبب وما استفادوا بواسطة إلى الواسطة مع اعتقادهم بأنه من ذي الواسطة فيتبادر من قولهم: شربت الماء من النهر إنهم شربوا منه بلا واسطة لا من الحياض والحباب والكوز التي في دارهم مع أنها من النهر أيضا جرى في هذه الأخبار على اصطلاحهم كما هو دأب الشرع في التكلم مع الناس بلسانهم فسمى ما أوحى إليه بلفظه من الله تعالى مثلا فرض الله وما ألهم به بقوته القدسية وعلمه بالمصلحة الملزمة مثلا فرض الرسول وإن كانت جميعا فرض الله تعالى ومذهبنا المتفق عليه بيننا أن الأنبياء لا يشرعون حكما باجتهادهم على ما صرح به علماؤنا في كتب التفسير والكلام فراجع ما قالوا في تفسير آية (ففهمناها سليمان - الآية) لكنه تعالى أدب رسوله فأحسن أدبه وجعل فيه الخلق العظيم وإذا حصلت فيه القوة القدسية استعد لقبول الإلهام والإلقاء في الروع وأمثالهما كما في هذه الأخبار، وبينه الشيخ الرئيس في الإشارات أحسن بيان. (ش)

باب في أن الأئمة (عليهم السلام) بمن يشبهون ممن مضى، وكراهية القول فيهم بالنبوة

*الأصل:

1 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما موضع العلماء؟ قال: مثل ذي القرنين وصاحب سليمان وصاحب موسى (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (ما موضع العلماء) (1) عنوان الباب دل على أن المراد بالعلماء الأئمة (عليهم السلام) وحينئذ

ص:60


1- (1) قوله «ما موضع العلماء» مراد السائل بقرينة الجواب أن الأئمة (عليهم السلام) بمنزلة الأنبياء أو بمنزلة الرعية وآحاد الناس أو غير ذلك وما هي والجواب إنهم ليسوا بأنبياء بل عباد مكرمون مؤيدون بأرواح غيبية ولهم فضل على الرعية بقربهم وعناية خاصة من الله تعالى بهم كما كان صاحب سليمان وصاحب موسى وذو القرنين، ولا ينافي ذلك كونهم أفضل من الأنبياء مع عدم كونهم نبيا واستصعاب الشارح عجيب لأن تشبيه شيء بشيء، يقتضي الاشتراك في وجه الشبه لا في جميع الصفات، والمقصود هنا دفع وهم السائل وإن كل مقرب عند الله ليس نبيا وكل من ذكره الله بخير ليس ممن يوحى إليه وليس الأئمة (عليهم السلام) لعناية الله بهم أنبياء ووجه الشبه عدم نبوتهم كصاحب سليمان وذي القرنين. (ش)

تشبيههم بمن ذكر يوجب النقص فيهم وانحطاط رتبتهم وكذا إن تركنا التشبيه وحكمنا بالتساوي وهو باطل لدلالة الروايات المتكثرة المعتبرة على أنهم أعلم وأفضل من جميع السابقين ومواضعهم أرفع من مواضعهم، ويمكن الدفع بأن وجه الشبه هو الوصية أو بأن العلم والقرب ورفعة المواضع والمقام هنا وإن كانت في المشبه أقوى وأكمل منها في المشبه به إلا أنها لما كان في المشبه به أشهر في الصدر الأول وكانت مسلمة الثبوت فيه وقع التشبيه من هذه الجهة، ويمكن حمل العلماء على علماء الرعية فيسلم عن هذه الشبهة إلا أنه بعيد في هذا المقام ومثل ما ذكرناه من السؤال والجواب يجري فيما روي من «أن علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا.

* الشرح:

قوله (إنما الوقوف علينا) أراد بالوقوف عليهم العكوف على سدتهم والرجوع إليهم والحصر بالنسبة إلى النبوة وإلا فهم المعادن لجميع العلوم والمعارف وقد أخبروا بكثير من الأسرار والغيوب التي يتوهم منها إنهم الأنبياء المخبرون عن الوحي، ولذلك نفى عنهم النبوة دفعا لهذا التوهم.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى الأشعري، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبدا، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدا وأنزل فيه تبيان كل شيء وخلقكم وخلق السماوات والأرض ونبأ ما قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما بعدكم وأمر الجنة والنار وما أنتم صائرون إليه.

* الشرح:

قوله (وخلقكم) عطف على التبيان أي فيه كيفية خلقكم وخلق السماوات والأرض، يظهر ذلك لمن تفكر فيه.

قوله (ونبأ ما قبلكم) إلى زمان آدم بل إلى أول الإيجاد.

قوله (وفصل ما بينكم) من الأحكام والقضايا بالقوانين الدينية والدنيوية.

ص:61

قوله (وخبر ما بعدكم) من الأمور الآتية إلى يوم القيامة.

قوله (وما أنتم صائرون إليه) من الخيرات والشرور والأخلاق والأعمال والأحوال والبرزخ والمعاد.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن الحارث بن المغيرة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن عليا (عليه السلام) كان محدثا.

فقلت: فنقول: نبي؟ قال: فحرك بيده هكذا، ثم قال: أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أو ما بلغكم أنه (صلى الله عليه وآله) قال: وفيكم مثله.

* الشرح:

قوله (إن عليا (عليه السلام) كان محدثا) قال أبو جعفر (عليه السلام) في رواية الأحول عنه «المحدث الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه» وفي رواية بريد عنه «المحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة» يعني يكلمه الملك وفي رواية محمد بن مسلم المذكورة في الباب الآتي مثله. وقال البخاري المحدث هو الذي يجري الصواب على لسانه، وقال بعض علمائهم: المحدث هو الملهم بالصواب. وقال بعضهم: هو الذي يلقى في قلبه شيء من الملأ الأعلى. وقال بعضهم: هو الذي يحدث في ضميره بأمور صحيحة وهو نوع من الغيب فيظهر على نحو ما وقع له وهي كرامة من الله تعالى يكرم بها من يشاء من صالح عباده ومن هذا النوع الفراسة في قوله (صلى الله عليه وآله): «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» وقال بعضهم: هو الذي من صفاء القلب فيتجلى فيه من اللوح المحفوظ عند المقابلة بينه وبين القلب، وقال بعضهم: هو الذي يخلق الله تعالى في قلبه الصافي الأمور الكائنة بواسطة الملك الموكل به وقد ينتهي الاستعداد إلى أن يسمع الصوت ويرى الملك.

قوله (فنقول نبي) أي هو نبي ونقول على صيغة المتكلم مع الغير ويحتمل الخطاب.

قوله (هكذا) يعني لا وعدم جواز هذا القول مع أنه نبي لغة لأنه مخبر عن الله تعالى ولو بواسطة ورفيع القدر لوقوع المنع منه شرعا ولاختصاص النبي شرعا بمن يرى الملك ويخبر عن الله تعالى بلا واسطة من البشر.

قوله (أو كصاحب سليمان) عطف على محدثا والترديد على سبيل منع الخلو فيمكن الاجتماع كما مر في الحديث الأول وصحة التشبيه على نحو ما عرفت فيه أيضا.

قوله (أوما بلغكم أنه) الاستفهام للتقرير وضمير مثله راجع إلى ذي القرنين وضمير أنه راجع

ص:62

إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لكونه معلوما أو إلى علي لكونه مذكورا يدل على الأول ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «إن عليا ذو قرني هذه الأمة» أي مثله فيها، ومثله في النهاية. وعلى الثاني ما ذكر صاحب الكشاف في تفسير قوله (يسألونك عن ذي القرنين) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سأله ابن الكواء: ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال (عليه السلام): ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله» أراد به نفسه. وما ذكره أيضا صاحب النهاية حيث قال: ومنه حديث علي وذكر قصة ذي القرنين ثم قال: وفيكم مثله، وإنما عنى نفسه لأنه ضرب على رأسه ضربتين إحداهما يوم الخندق والأخرى ضربة ابن ملجم وذو القرنين هو الإسكندر سمي به لأنه ملك الشرق والغرب وقيل: لأنه كان في رأسه شبه قرنين وقيل: رأى في النوم أنه أخذ بقرني الشمس. ومن العجائب ما رواه مسلم بإسناده عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» وأنت تعلم بالضرورة إن من كان عاكفا على عبادة الأصنام والزنا بالأحرار كما اعترف هو به في بعض المواضع لا يصلح أن يكون محدثا يتكلم الملائكة معه وإنما المحدث في هذه الأمة مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهم ظلموه ووضعوا حقه في غير موضعه.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: ما منزلتكم ومن تشبهون ممن مضى؟ قال: صاحب موسى وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين.

* الشرح:

قوله (قال صاحب موسى) هذا بحسب الظاهر إخبار عن حالهما وفي الواقع إخبار عن المشابهة بينهم وبينهما في العلم وعدم النبوة وهذه حجة على من قال بأن ذا القرنين كان نبيا.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن أبي طالب، عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن قوما يزعمون أنكم آلهة، يتلون بذلك علينا قرآنا: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبرئ الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم، قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل يقرؤون علينا بذلك قرآنا (يا أيها

ص:63

الذين آمنوا كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم، قال: قلت: فما أنتم؟ قال: نحن خزان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض.

* الشرح:

قوله (إن قوما يزعمون أنكم آلهة) هؤلاء لما رأوا منهم (عليهم السلام) أمورا غريبة بعيدة عن قدرة البشر بحسب العادة زعموا أنهم آلهة خلقوا أهل الأرض أو نسبوا إليهم الإحياء والإماتة والرزق واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) زعموا لسوء فهمهم وقلة تدبرهم أن إله الأرض غير إله السماء وأن الآية مسوقة لإثبات تعدد الإله وهذا فاسد، إذ المقصود إثبات وحدة الإله. توضيح ذلك أن الظرف في الموضعين متعلق بإله لكونه بمعنى المعبود وإله خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير الموصول والتقدير وهو الذي هو إله في السماء وإله في الأرض أي مستحق لأن يعبد فيهما، ففيه نفي تعدد الإله واختصاصه تعالى بالألوهية.

قوله (فقال يا سدير سمعي وبصري) هذا أبلغ وأفيد من قوله أنا منهم بريء لما فيه من الإشارة إلى احتياجه في تحققه وكماله إلى هذه الأمور والمحتاج إلى شيء ليس بإله وأيضا كل واحد من هذه الأمور باعتبار ذاته وتركبه وحدوثه ومحله شاهد صدق على أن له إلها صانعا وعلى أن المفتقر إليه أولى بذلك، مع ما فيه من الإيماء إلى غاية التباغض والبراءة لأن في براءة السمع من سماع أحوالهم وبراءة البصر من رؤية أشخاصهم وبراءة سائر الأعضاء من مخالطتهم ومجالستهم دلالة على كمال العداوة بينه وبينهم فافهم.

قوله (من هؤلاء براء) تقديم الظرف لقصد الحصر مبالغة لأن هؤلاء من حيث أنهم نفوا صفة كمالهم (عليهم السلام) وهي غاية العبودية كانوا في حد التفريط من حيث أنهم أثبتوا لهم مالا يليق بهم من صفة الألوهية كانوا في حد الإفراط فهم كانوا أصحاب الرذيلتين بخلاف من سواهم من الملل الفاسدة فإنهم كانوا من أهل التفريط فقط فسبب البراءة من هؤلاء أشد وأقوى حتى كأنه تحقق فيهم لا في غيرهم فليتأمل.

قوله (ما هؤلاء على ديني) لظهور أن دينه هو التوحيد المطلق ودين هؤلاء هو الشرك بالله.

ص:64

قوله (يقرؤون علينا بذلك قرآنا يا أيها الرسل) يعني يستدلون على أنكم رسل بهذه الآية ومناط استدلالهم بها على توهم أن المراد بالرسل محمد (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، وهذا التوهم فاسد لما ذكره المفسرون من أنه نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه، وفيه تنبيه على أن الأمر بأكل الطيبات لم يكن له خاصة، بل كان لجميع الأنبياء، وحجة على من رفض أكلها تقربا إلى الله تعالى، وقيل: النداء له (صلى الله عليه وآله) والجمع للتعظيم، وفي المغرب: الطيبات خلاف الخبائث في المعنيين يقال:

شيء طيب أي طاهر نظيف أو مستلذ طعما وريحا وخبيث أي نجس أو كريه الطعم والرائحة، وفي النهاية: الطيب أكثر ما يرد بمعنى الحلال كما أن الخبيث كناية عن الحرام، وقد يرد الطيب بمعنى الطاهر. وقيل: الطيب المباح والحلال أخص من المباح لما ورد «أن الحلال قوت النبيين» بخلاف المباح فإنه قوت غيرهم.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن ابن مسكان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الأئمة بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أنهم ليسوا بأنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي (صلى الله عليه وآله) فأما ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (الأئمة بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه وآله)) يعني في العلم والعمل والأخلاق ووجوب طاعة الخلق له.

قوله (ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي) فلا تحل لهم تسع نسوة ولا امرأة بمجرد الهبة.

ص:65

باب أن الأئمة (عليهم السلام) محدثون مفهمون

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن القاسم بن محمد، عن عبيد بن زرارة قال: أرسل أبو جعفر (عليه السلام) إلى زرارة أن يعلم الحكم بن عتيبة أن أوصياء محمد عليه وعليهم السلام محدثون.

* الشرح:

قوله (أن يعلم الحكم بن عتيبة) زيدي بتري مذموم روى الكشي في ذمه روايات كثيرة وكان من فقهاء العامة وفي بعض كتب الرجال أنه كان أستاد زرارة وحمران والطيار قبل أن يروا هذا الأمر.

قوله (إن أوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) محدثون) الغرض منه أن زيدا ليس بوصي لأنه ليس بمحدث.

* الأصل:

2 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن زياد بن سوقة، عن الحكم بن عتيبة قال: دخلت على علي بن الحسين (عليهما السلام) يوما فقال: يا حكم هل تدري الآية التي كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعرف قاتله بها ويعرف بها الأمور العظام التي كان يحدث بها الناس؟ قال الحكم: فقلت في نفسي: قد وقعت على علم من علم علي بن الحسين، أعلم بذلك تلك الأمور العظام، قال: فقلت: لا والله لا أعلم، قال: ثم قلت: الآية تخبرني بها يا ابن رسول الله؟ قال: هو والله قول الله عز ذكره: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي (ولا محدث)) وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) محدثا فقال له رجل يقال له: عبد الله بن زيد، كان أخا علي لأمه: سبحان الله:

محدثا؟! كأنه ينكر ذلك، فأقبل علينا أبو جعفر (عليه السلام) فقال: أما والله إن ابن أمك بعد قد كان يعرف ذلك. قال: فلما قال ذلك سكت الرجل، فقال: هي التي هلك فيها أبو الخطاب فلم يدر ما تأويل المحدث والنبي.

* الشرح:

قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي - ولا محدث -) دل على أن قوله ولا محدث كان من تتمة الآية وهم أسقطوها، وإطلاق الرسول على المحدث من باب التغليب أو على أن المراد بالرسول معناه لغة وكل من أرسله إلى أحد فهو رسول أو على أن رسول الرسول أيضا رسول مجازا

ص:66

كما في قوله تعالى (إذ أرسلنا إليهم اثنين) مع أن الاثنين لم يكونا رسولين لله تعالى بل لعيسى (عليه السلام).

قوله (كان أخا علي لأمه) قيل: كان أخا علي بن الحسين لأمه رضاعا، وقيل: كانت أمه جارية الحسين (عليه السلام)، وكانت مربية لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وهو زوجها بعد مراجعته من كربلاء فولدت ابنا فكان بمنزلة أخيه من أمه مجازا.

قوله (إن ابن أمك) أراد به أباه (عليه السلام).

قوله (فقال هي التي هلك فيها أبو الخطاب) أي هذه القضية أو هذه الحكاية أو هذه المعرفة وفاعل قال أبو جعفر أو علي بن الحسين (عليهما السلام) وأبو الخطاب محمد بن مقلاص (1) لعنه الله.

قوله (فلم يدر ما تأويل المحدث والنبي) فزعم أن المحدث نبي وقد مر تأويلهما مرارا.

3 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون.

4 - علي إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن محمد بن مسلم قال: ذكر المحدث عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: إنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص، فقلت له: جعلت فداك كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام ملك.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى عن الحسين بن المختار، عن الحارث بن المغيرة، عن حمران بن أعين قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) إن عليا (عليه السلام) كان محدثا، فخرجت إلى أصحابي فقلت: جئتكم بعجيبة فقالوا: وما هي؟ فقلت:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان علي (عليه السلام) محدثا، فقالوا: ما صنعت شيئا; ألا سألته من كان يحدثه، فرجعت إليه فقلت: إني حدثت أصحابي بما حدثتني فقالوا: ما صنعت شيئا ألا سألته من كان يحدثه؟ فقال لي: يحدثه ملك، قلت: تقول: إنه نبي؟ قال: فحرك يده - هكذا -: أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أوما بلغكم أنه قال: وفيكم مثله.

* الشرح:

قوله (عن الحارث بن المغيرة عن حمران بن أعين) نقل الحارث في الرابع من الباب السابق

ص:67


1- (1) قوله «وأبو الخطاب محمد بن مقلاص» أبو الخطاب قتل في عصر الصادق (عليه السلام) في صدر دولة بني العباس سنة مائة وثمانية وثلاثين أو قبله بقليل وكان غاليا والحكم بن عتيبة مات سنة مائة وخمس عشرة ولم يدرك أبا الخطاب ولا قتله والحديث مع سلامة إسناده إلى الحكم مضطرب المتن جدا. وقال المجلسي (رحمه الله): اشتبه الأمر فيه على نساخ الحديث أو المصنف والله العالم. (ش)

مضمون هذا الحديث عن أبي جعفر (عليه السلام) بلا واسطة ولعله سمعه تارة بواسطة وتارة بلا واسطة.

قوله (بعجيبة) أي بقصة عجيبة.

قوله (فرجعت إليه) في بعض النسخ فرحت إليه بالحاء المهملة وفي بعضها فخرجت إليه بالخاء المعجمة والجيم.

قوله (فقالوا ما صنعت شيئا) «ما» للنفي أو الاستفهام والتوبيخ.

ص:68

باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن جابر الجعفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا جابر إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عزوجل: (وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون) فالسابقون هم رسل الله (عليهم السلام) وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزوجل، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزوجل وكرهوا معصيته. وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون. وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان، فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون.

* الشرح:

قوله (وكنتم) أي وكنتم عند الحشر أصنافا ثلاثة لا أكثر ولا أقل كل صنف في مرتبة وإن كانت تحته مراتب متفاوتة.

قوله (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) الاستفهام للتعجب من علو حالهم والتفخيم لرفعة شأنهم وهم الذين كانوا عند أخذ الميثاق من أصحاب اليمين أو الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم أو الذين يكونون على يمين العرش لأن الجنة على يمينه أو الذين يكونون من أهل اليمن والبركة وأصحاب المشئمة على خلاف ذلك كله.

قوله (والسابقون السابقون) إلى المقامات العلية والمراتب السنية بالحكمة النظرية والعملية، وإلى الأصناف الثلاثة أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ساع سريع نجا وطالب بطيء رجا ومقصر في النار هوى» ووجه الحصر أن الناس إما طالبون له أو تاركون، والطالبون بالسرعة في غاية جدهم

ص:69

ونهاية سعيهم في العلم والعمل واصلون إليه أو بالبطء والثاني سالكون لطريقه. فالقسم الأول هم الفائزون بقصب السبق، والقسم الثاني ذو جهتين تجذبه يد الرحمن إلى العلو ويد الشيطان إلى السفل والقوة للأولى إن شاء الله، والقسم الثالث معرض عن الرحمن تابع للشيطان يجذبه إلى حيث أراد من موارد الهلاك ومنازل الشقاء.

قوله (وخاصة الله من خلقه) هم الذين سبقوا في حيازة الفضل والكمالات وبلغوا أقصى المراتب في العمل والخيرات وأفضلهم علما وأكملهم عملا وأشرفهم أخلاقا علي بن أبي طالب (عليه السلام) باتفاق الأمة.

قوله (جعل فيهم) أي جعل الله تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة خمسة أرواح لحفظهم من الخطأ والخلل وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقا وبرهانا والاقتداء بهم رشدا وإيقانا كيلا يكون لمن سواهم على الله حجة يوم القيامة، ولعل المراد بالأرواح هنا النفوس، قال الصدوق في كتاب الاعتقاد: «النفوس: الأرواح التي بها الحياة وهي الخلق الأول لقوله (صلى الله عليه وآله) «أول ما أبدع الله سبحانه النفوس المقدسة المطهرة فأنطقها بتوحيده ثم خلق سائر الخلق» وهي خلقت للبقاء لا للفناء لقوله: «ما خلقتم للفناء، بل خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار وأنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة» وروى في كتاب العلل بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

لأي علة جعل الله عزوجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوتها الأعلى في أرفع محل؟ فقال (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عزوجل - الحديث».

وقال الشيخ بهاء الملة والدين في الأربعين: المراد بالروح ما يشير إليه الإنسان بقوله: أنا، أعنى النفس الناطقة وهو المعني بالروح في القرآن والحديث، وقد تحير العقلاء في حقيقتها واعترف كثير منهم بالعجز عن معرفتها حتى قال بعض الأعلام: إن قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» معناه أنه كما لا يمكن التوصل إلى معرفة النفس لا يمكن التوصل إلى معرفة الرب وقوله عز وعلا: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) مما يعضد ذلك والذي عليه المحققون أنها غير داخلة في البدن بالجزئية والحلول بل هي بريئة عن صفات الجسمية منزهة عن العوارض المادية متعلقة به تعلق التدبير والتصرف فقط، وهو مختار

ص:70

أعاظم الحكماء الإلهيين وأكابر الصوفية والإشراقيين وعليه استقر رأي أكثر متكلمي الإمامية كالشيخ المفيد وبني نوبخت والمحقق نصير الملة والدين والعلامة الحلي ومن الأشاعرة الراغب الأصفهاني وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي وهو المذهب المنصور (1) الذي أشارت إليه الكتب السماوية وانطوت عليه الأنباء النبوية وعضدته الدلائل العقلية وأيدته الأمارات الحسية والمكاشفات الذوقية. انتهى وقال عياض: روي عن علي (عليه السلام) أن الروح في الآية ملك من الملائكة، وقيل: هو القرآن وقيل هو جبرئيل، وقيل: خلق كخلق بني آدم إذا عرفت هذا فنرجع إلى المقصود فنقول والله أعلم: كما أن الروح يعني أن النفس الناطقة تسمى مطمئنة ولوامة وأمارة بالسوء باعتبارات مختلفة كذلك تسمى روح المدرج (2) باعتبار أنها

ص:71


1- (1) قوله «وهو المذهب المنصور» بل غير هذا المذهب إما يرجع إلى الإلحاد والزندقة أو إلى الحشو والخرافة ومنكر التجرد إن قال بكون الروح جسما داخلا في البدن لزم منه أن لا يموت أحد أبدا بعدما مات بدنه بحيث لا يمكن أن يخرج منه شيء، وإن قال بكونه عرضا كسائر القوى الجسمانية الحالة في الأعضاء والجوارح كالبصر في الباصرة والسمع في الأذن والجاذبة في المعدة، فإذا مات الحيوان وتلاشى جوارحه وأعضاؤه فني ولم يبق منه شيء وهو مذهب الملاحدة والماديين وأصحاب الطبائع وليس المتدين الذي يفهم ما يقول ويتقيد بالاحتراز عن الجزاف إلا من يقول بتجرد الروح وإن لم يصرح به لعدم أنسه باصطلاح، ونعم ما قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية) في سورة البقرة قال: وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن، تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين وبه نطقت الآيات والسنن انتهى. وقد سبق مفصلا، ومنكر التجرد في التوحيد أيضا إما ملحد أو مجسم. (ش)
2- (1) قوله «كذلك تسمى روح المدرج» المذهب الصحيح أن النفس في وحدته كل القوى كما أشار إليه الشارح فالبصير هو الروح والسميع هو هو إلى غير ذلك ويسمى بكل اعتبار قوة ولا مشاحة في الاصطلاح فما سمي في هذا الحديث روحا سمي في اصطلاح المتأخرين قوة والحاكم المطلق في الكمل من المؤمنين ليس روح الشهوة أي القوة الشهوية ولا روح المدرج أي القوة المحركة، وغير ذلك بل جميع أرواحهم أي قواهم مسخرة لروح الإيمان والقوة والعاقلة ولذلك قال الإمام علي (عليه السلام) في روح القوة: «به قدروا على طاعة الله» وفي روح الشهوة: «فبه اشتهوا طاعة الله» وأما روح القدس التي اختص بها الأولياء والأنبياء فيسمى في اصطلاح المتأخرين القوة القدسية وبينها الشيخ في الإشارات بأبين وجه، وليس مراد الإمام ههنا جبرئيل ولا العقل الفعال إذ قال في الحديث الثالث: إذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام وليس هذا صفة جبرئيل بل صفة قوة كانت خاصة بالنبي ثم بعده (صلى الله عليه وآله) اتصف بها الإمام بعده وأما روح الإيمان فهو القوة العاقلة باعتبار توجهه إلى عالم الغيب والإلهيات وعالم الآخرة لا باعتبار تصرفه في العلوم الكونية، ثم اعلم أن درجات أفراد الإنسان في الفضائل غير متناهية جدا وبحسبها يختلف درجاتهم في الآخرة إلا أنهم جميعا لا يخرجون عن ثلاثة أقسام: الأول السابقون الذين يليق بهم أعلى العوالم وأكمل درجات الآخرة، والثاني أصحاب الميمنة وهم السعداء غير البالغين إلى رتبة الأولين، والثالث أصحاب المشئمة فإن العوالم الكلية ثلاثة: المادي محضا، والمجرد محضا، والعالم المتوسط بينهما يناسب كل منها طائفة. (ش)

مصدر للذهاب والمجيء وسبب للحركة في الحوائج، وروح الشهوة باعتبار أنها مع القوة الشهوية تشتهي طاعة الله تعالى والإتيان بالحلال من النساء وغير ذلك، وروح القدرة باعتبار أنها تقدر بسبب القدرة المعدة لها على الإتيان بما تشتهيه وروح الايمان باعتبار أن الايمان والعدل والخوف من الله تعالى يتحقق بها، وروح القدس باعتبار اتصافها بالقوة القدسية التي تتجلى فيها لوايح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأوصياء وهم بسببها عرفوا الأشياء كلها كما هي وصاروا من أهل التعليم والإرشاد، ويؤيده ما ذكره بعض المحققين من أن الروح جود الله تعالى وفيضه الصادر منه، وإنما كان روحا لأنه مبدء كل فيض وراحة وحياة حقيقة فهو الروح التي بها قوام حقيقة النبوة وكل واحدة من هذه الأرواح فيهم على غاية الكمال والسداد، وأما الموجودة في أصحاب الميمنة وهي ما سوى الأخيرة فالغالب فيها السداد والاستقامة، والموجودة في أصحاب المشئمة وهي ما سوى الأخيرتين ولم يذكرها لكونها معلومة بقرينة المقام بالعكس ولكن لا ينفعهم الاستقامة اتفاقا في الآخرة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن عمر، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن المنخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن علم العالم، فقال لي: يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة، فبروح القدس. يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، ثم قال: يا جابر! إن هذه الأربعة أرواح يصبيها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب.

* الشرح:

قوله (وروح الحياة) وهي ما سماه أولا بروح المدرج، وحملها على الروح الحيوانية بعيد.

قوله (عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى) أريد بالعرش هنا العرش الجسماني وهو الفلك الأعظم، والمراد أنهم عرفوا بروح القدس جميع الموجودات من المجردات والماديات، وكون تلك المعرفة بسببها لا ينافي أن يكون ذلك بتسديد الروح الذي معهم وهو الملك كما سيجيء لأن قبول التسديد حصل لهم بذلك.

ص:72

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره، فقال: يا مفضل إن الله تبارك وتعالى جعل في النبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أرواح: روح الحياة فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه آمن وعدل، وروح القدس فبه حمل النبوة، فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يرى به.

* الشرح:

قوله (وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال) هذا لا ينافي ما مر من أنهم بروح الشهوة اشتهوا طاعة الله تعالى لأن هذا من أفراده، وقوله: من الحلال متعلق بالأفعال الثلاثة على التنازع أو على الأخير على الاحتمال.

قوله (وروح الإيمان فبه آمن وعدل) هذا لا ينافي ما سبق من أنهم بروح الإيمان خافوا الله تعالى لأن الخوف من لوازم الإيمان والعدل إذ بهما يتقرب العبد إلى الله تعالى والتقرب سبب للخوف وإنما يخافه المتقربون أو بالعكس لأن الإيمان والعدل من لوازم الخوف وبالجملة بينهما تلازم وتعاكس في السببية إلى أن يبلغا ما شاء الله.

قوله (وروح القدس فبه حمل النبوة) وأثقالها ولوازمها من الوحي والتعليم والحكمة النظرية والعملية على وجه الكمال.

قوله (انتقل روح القدس فصار إلى الإمام) فبه حمل الإمام الإمامة والخلافة المطلقة والعلم والتعليم دون النبوة، والمراد بانتقالها انتقال مثلها لا نفسها إلا أن تحمل على الملك وهو بعيد هنا.

قوله (لا ينام ولا يغفل) أما من غفلت عن الشيء تغفل غفولا إذا لم يكن متذكرا له أو من أغفلته إذا تركته على ذكر منك وتغافلت عنه، والأول ينفي النوم والغفلة الناشئة منه كما قال (صلى الله عليه وآله) «تنام عيني ولا ينام قلبي» والثاني ينفي الغفلة مطلقا.

قوله (ولا يلهو ولا يزهو) اللهو واللعب والغفلة بالشيء عن غيره والزهو جاء بمعنى الاستخفاف والتهاون والحرز والتخمين والكبر والفخر والكذب والباطل والكل هنا مناسب.

قوله (وروح القدس كان يرى به) رؤية قلبية شبيهة برؤية عينية في الوضوح بل أكمل منها ولذلك لا تحجب منها الحجب والأستار.

ص:73

باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) قال: خلق من خلق الله عزوجل أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده.

* الشرح:

قوله (وكذلك أوحينا إليك) أي أرسلنا وألقينا إليك روحا. قال بعض المفسرين: المراد بالروح هنا القرآن لأن به حياة القلوب الميتة بالجهل وحياة الدين كما أن بالروح حياة الأبدان، وقال بعضهم: المراد به جبرئيل (عليه السلام) وهذا الحديث دل على أن المراد به غيرهما.

قوله (من أمرنا) أي بأمرنا ومن أجله، ويحتمل أن يكون صفة ل «روحا» أو حالا عنه. يعني أنه من عظم الأمر وهو عالم المجردات (1) لا من عالم الخلق وهو عالم الجسمانيات، وقيل: يرشد إليهما قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر).

ص:74


1- (1) قوله «من عالم الأمر وهو عالم المجردات» وإنما يسمى عالم المجردات عالم الأمر مع أن الجسمانيات أيضا بأمر الله تعالى لأن حدوث الجسمانيات إنما هو بعد استعداد المواد بأسباب معدة يظن أنها علل وجودها كالحرارة لذوبان الجسم وتبخير الماء ونزول المطر لبرودة تعرض في البخار ونور الشمس لنمو النبات فينسب في الظاهر إلى تلك الأسباب المعدة وأما عالم المجردات فليس ما فيه لسبب ظاهر يعدله فينسب إلى أمر الله محضا والروح من أمر الرب إذ ليس له سبب جسماني ظاهر، وإلا فالحقيقة أن كل شيء بأمر الله تعالى وكذلك وحي ا لأنبياء ليس له سبب ظاهر كتعلم وقراءة وإسناد وكتابة من الأسباب الظاهرة فهو من أمر الله تعالى. وقد يستشكل في نسبة الوحي إلى الروح لأن الوحي ينسب إلى المعاني والعلوم لا إلى الجواهر والموجودات المستقلة والمناسب فيها الإرسال ولا يقال: أوحى جبرئيل أو الملائكة إلى الأنبياء بل أرسلهم والجواب ان الروح بناء على كونه خلقا من خلق الله وإن كان جوهرا مستقلا تناسبه كلمة الإرسال لكن باعتبار كونه مع النبي (صلى الله عليه وآله) ومبدء علمه وسبب عصمته عن الخطأ فيما يرد في قلبه صح اطلاق الوحي عليه. (ش)

قوله (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) أي ما كنت تعلم قبل إنزال الروح (1) ما الكتاب وأي شيء هو ولا التصديق بالشرائع وأحكامها ودعوة الخلق إليها وإن كنت تعلم أصول الإيمان بطريق عقلي، والمقصود أن علمك بذلك من فيض الله وجوده بإنزال الروح إليك.

قوله (خلق من خلق الله) هذا الخلق ليس من الملائكة لما سيصرح به ولأنه أعظم من جبرئيل (عليه السلام) وميكائيل بحسب الرتبة والعلم، ولم يثبت أن أحدا من الملائكة أعظم منهما ولأن الملائكة لم يعلموا جميع الأشياء كما اعترفوا به حيث قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا الخلق عالم بجميعها فيحتمل أن يكون نورا إلهيا صرفا مجردا عن العلائق، عارفا بالله وصفاته ومعلولاته إلى آخرها، متعلقا بالنفوس البشرية إذا صفت وتخلصت عن الكدورات كلها واتصفت بالقوة القدسية المذكورة تعلقا تاما يوجب إشراقها وانطباع ما فيه من العلوم الكلية والجزئية فيها، والمراد بإنزاله إليه وهو هذا التعلق وبتسديده هو هذا الإشراق والله أعلم بحقيقة الحال وأنا أستغفر الله مما أقول.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن أسباط بن سالم قال:

سأله رجل من أهل هيت - وأنا حاضر - عن قول الله عزوجل (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فقال: منذ أنزل الله عزوجل ذلك الروح على محمد (صلى الله عليه وآله) ما صعد إلى السماء وإنه لفينا.

* الشرح:

قوله (وإنه لفينا) إلى قيام القائم (عليه السلام) ثم إذا ارتحل القائم من الدنيا صعد إلى السماء.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال:

ص:75


1- (2) قوله «قبل إنزال الروح» لا قبلية زمانية بل ذاتية إذ لم يكن زمان كان فيه نبينا جاهلا بالكتاب وغير عارف بالله وكان نبيا وآدم بين الماء والطين كما ورد في الحديث، ولكن لما كان علمه وإيمانه مأخوذا من الباري تعالى عز اسمه ولم يكن هو بنفسه واجب الوجود بالذات حتى يكون عالما عارفا بذاته كان عدمه الذاتي قبل وجوده الغيري وكان علمه وإيمانه وكماله أيضا حادثا معلولا مأخوذا من الله تعالى بحيث لو لم يكن وحي وتعليم من الله تعالى لم يكن يعرف ما الكتاب ولا الإيمان. وقال بعض الشعراء «يا رب لولا أنت ما اهتدينا» وليس معناه ان الله تعالى لم يكن في زمان بل غرضه توقف الاهتداء على وجوده تعالى وفي قصة يوسف (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) وليس معناه أنه لم يكن برهان من ربه في زمان فهم بالزنا، ثم حصل البرهان فكف بل كان البرهان معه دائما فلم يهم بالمعصية، ومثله: لو لم يكن شمس لم يكن نهار، وهكذا هنا لو لم يوح إلى النبي (صلى الله عليه وآله) روح من أمر ربه لم يكن له إيمان وعلم، ومثله كثير في اللغة والعرف. (ش)

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) قال:

خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمة وهو من الملكوت.

* الشرح:

قوله (وهو من الملكوت) أي الملكوت الأعلى وهو عالم المجردات الصرفة.

* الأصل:

4 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد (صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمة يسددهم وليس كل ما طلب وجد.

* الشرح:

قوله (لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد (صلى الله عليه وآله)) لأن كل من كان معه هذا الخلق كان عالما بجميع الأشياء ولم يكن غير محمد (صلى الله عليه وآله) من الأنبياء السابقين عالما بجميعها.

قوله (وليس كل ما طلب وجد) كأنه قيل: كون هذا الخلق مع أحد أمر عظيم يوجب رفعة محله ونظر جميع الأنبياء في عروجه إلى المقامات العالية فلم لم يكن معهم؟ فأجاب بأنه ليس كل ما طلب وجد، لأن وجوده مشروط بشروط وهو بلوغ الطالب غاية الكمالات البشرية التي لا غاية فوقها والبالغ إليها هو محمد (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه الطاهرون (عليهم السلام) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر، عن علي بن أسباط، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العلم أهو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزوجل: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) ثم قال: أي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية أيقرون أنه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت: لا أدري - جعلت فداك - ما يقولون، فقال [لي]: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب

ص:76

ولا الإيمان حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم.

* الشرح:

قوله (عن أبي حمزة) اسمه ثابت بن دينار روى عن علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهم السلام) ومات في عصره سنة خمسين ومائة وكان من أخيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث، وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه» وعن الرضا (عليه السلام) أنه يقول: «أبو حمزة الثمالي في زمانه كلقمان في زمانه» وفي بعض النسخ سلمان بدل لقمان.

قوله (عن العلم) أي عن علم العالم فاللام عوض عن المضاف إليه.

قوله (أهو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال) في بعض النسخ: هو شيء يتعلمه الرجل من أفواه العالم والمراد بالعالم الجنس الشامل الكثير بقرينة الأفواه.

قوله (تقرؤونه فتعلمونه) في بعض النسخ: فتتعلمونه بالتائين والواحدة أولى وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للتعيين والتصريح بالمطلوب.

قوله (قال الأمر أعظم من ذلك وأوجب) أي أمر علمنا أعظم وأوجب يعني ألزم وأتم وأحق من أن يكون مأخوذا من أفواه الرجال أو مستخرجا من الكتاب بل هو من الروح الذي معنا، ولعل المراد بالعلم الذي وقع السؤال عنه جميعه على الإيجاب الكلي أو العلم بما يصير محتوما وإلا فكون بعض علومهم مأخوذا على الوجه المذكور مثل العلم بالأحكام الشرعية والمحتومات ظاهر لحصوله باخبار النبي (صلى الله عليه وآله) وبكتاب علي (عليه السلام) كما دلت عليه الروايات منها ما مر من «أن علومهم على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث. فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع» وقد مر شرحه.

قوله (أي شيء يقول أصحابكم) (1) خطاب الجمع لأبي حمزة من باب التعظيم أوله ولسائر

ص:77


1- (1) «أي شيء يقول أصحابكم» ما ورد في أحاديث هذا الباب بحث فلسفي صرف زائد عن فكر المتكلمين والظاهريين ولم يعهد من علماء سائر فرق المسلمين في عصر الأئمة (عليهم السلام) البحث عن القوى النفسانية التي يتفاضل الناس فيها فضلا عن القوة القدسية وروح الولاية المختصة بأولياء الله تعالى وكان علماء العامة يظنون افراد الإنسان سواء النبي (صلى الله عليه وآله) والأوصياء وسائر الناس في طبقة واحدة لا يعلمون شيئا إلا بالسماع والنقل والحفظ والقراءة في الكتب ولم يكونوا يتعقلون إفاضة روح ومبدء قوة من الله تعالى على أوليائه بها يعرفون ما يجب من غير سماع تفاصيل الأمور واحدا بعد واحد كما تعقله الحكماء وبينوه في كتبهم في علم النفس، فمراد الإمام (عليه السلام) من قوله: أصحابكم هو عامة الناس من مجالسيه ومخالطيه سواء كانوا من المخالفين أو من عوام الشيعة غير العارفين بأحاديث الأئمة (عليهم السلام) وللعاقل المنصف أن يجعل نفس هذه الأحاديث دليلا على إمامة الأئمة (عليهم السلام) وكونهم مؤيدين بروح القدس الذي ذكره في هذه الأحاديث ولولا ذلك كانوا يعتقدون اعتقاد سائر علماء العامة ولم يعرفوا أسرار النفوس ودرجاتها في الفضائل ومراتب ارتقائها إلى قرب رب العالمين كما لم يكن يعرف ذلك سائر منتحلي العلم. (ش)

مشاركيه في التشيع على سبيل التغليب.

قوله (بلى قد كان) بلى من حروف التصديق وهو إيجاب لما بعد النفي كما إذا قيل: لم يقم زيد؟ فقلت: بلى; كان المعنى قد قام.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن الحسين بن أبي العلاء، عن سعد الإسكاف قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأله عن الروح، أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): جبرئيل (عليه السلام) من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرر ذلك على الرجل.

فقال له: لقد قلت عظيما من القول، ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح) والروح غير الملائكة صلوات الله عليهم.

* الشرح:

قوله (يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل) لعل السؤال عن الروح في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا - الآية) والاستفهام للتقرير لاعتقاد السائل أن الروح ليس إلا جبرئيل (عليه السلام) وقد بلغه تفسير هذا الروح بغيره فجاء سائلا مستنكرا فأجاب (عليه السلام) بأن هذا الروح غير ملك وجبرئيل ملك فهذا الروح غير جبرئيل فعلى هذا لا يرد أن إطلاق الروح على جبرئيل (عليه السلام) صحيح شائع فكيف ينفيه (عليه السلام) وأن المستفهم عن الشيء غير عالم به فكيف يتصور منه الرد والمخالفة بعد البيان.

قوله (ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل) (1) يعني اتفقوا على أن الروح ليس إلا جبرئيل،

ص:78


1- (1) قوله «إن الروح غير جبرئيل» زعمهم مبني على ما ذكرنا من أن سائر علماء العامة لم يكن لهم معرفة بمراتب النفوس الإنسانية وقواها وتفاضلها في الدرجة بما يمنحها الله تعالى من الأرواح والقوى والروح هنا خلق آخر معه قوة قدسية أفاضها الله تعالى على أوليائه وجعلها معهم وهي مبدء استكشاف العلوم حتى لا يحتاجوا إلى السماع من الشيوخ والقراءة من الكتب وأما جبرئيل فملك يطلق عليه الروح أيضا ولكن ليس ا لمراد من الروح في كل موضع هو جبرئيل ولا ينافي نزول جبرئيل على الأنبياء كونهم مؤيدين بقوة قدسية تطلق عليها الروح أيضا كما يطلق على جبرئيل بل لو لم يكن الأنبياء مؤيدين بتلك القوة القدسية لم يكونوا يرون جبرئيل كما لم يكن يراه سائر الناس. (ش)

أقول: ما ادعاه هذا السائل دل على كمال جهله فإن أهل العلم اختلفوا في تفسيره قديما وقالوا أقوالا مختلفة متكثرة فقيل: إنه القرآن، وقيل: إنه الحياة الباقية، وقيل: إنه جبرئيل، وقيل: إنه ملك غيره، وقيل: إنه خلق كخلق بني آدم، وقيل غير ذلك.

قوله (تروي عن أهل الضلال) هم الذين يقولون أن الروح ليس إلا جبرئيل (عليه السلام) وإنه لا ينزل على أحد بعد محمد (صلى الله عليه وآله) ولا مستند لهذين القولين، والأول مخالف لروايات الخاصة والعامة وأقوال أكثر علمائهم، والثاني مخالف لما في طريق الخاصة أن جبرئيل (عليه السلام) كان يأتي فاطمة بعد أبيها (عليهما السلام) ويكلمها إلا أنها لا تراه، ومما يدل على فساد الثاني ما ذكره الآبي وهو من أعاظم علماء العامة في كتاب إكمال الإكمال أن رجلا عابدا كان في مسجد أندلس وكان يسمع صوت الملائكة ويعلم نزولهم فإذا جاز ذلك عندهم في واحد من الأمة فلم لم يجز نزول الملائكة وجبرئيل على أهل بيت نبينا صلوات الله عليهم.

قوله (أتى أمر الله) قال المفسرون: لما أوعدهم النبي (صلى الله عليه وآله) بإهلاكهم كما فعل يوم بدر أو بقيام الساعة استعملوا ذلك استهزاء وتكذيبا وقالوا: إن صح ذلك يخلصنا أصنامنا عنه، فرد عليهم جل شأنه بقوله (أتى أمر الله)، أي أمره بالهلاك أو قيام الساعة، وعبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه (فلا تستعجلوه) لأنه لاحق بكم ولا مرد له (سبحانه وتعالى عما يشركون) نزهه عن أن يكون له شريك يدفع عنهم ما أراد بهم بنزول الملائكة بالروح أي مصاحبين معه.

قوله (والروح غير الملائكة) وهو ظاهر فاندفع بذلك ما توهمه السائل من أن الروح ليس غير جبرئيل (عليه السلام) وفي بعض النسخ «فالروح غير الملائكة» بالفاء وهو الأظهر.

ص:79

باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله عليهم جميعا السلام

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن أسباط عن الحكم بن مسكين، عن بعض أصحابنا قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى يعرف الأخير ما عند الأول؟ قال: في آخر دقيقة تبقى من روحه.

* الشرح:

قوله (في آخر دقيقة تبقى من روحه) (1) لما جرت حكمة الله تعالى أن لا يجتمع إمامان في عصر واحد، وأن لا يخلو العصر عن إمام كان لا محالة وقت انتقال الإمامة وما مع الإمام الأول من العلم الكامل الذي اختص به آخر دقيقة تبقى من روحه وإن كان أحدهما في شرق الأرض والآخر في غربها فإن الله تعالى يحضره في ذلك الوقت، يدل على ذلك ما رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: خرج يعني الرضا (عليه السلام) من عند المأمون بعدما سم بالعنب مغطى الرأس فلم أكلمه حتى دخل الدار فأمر أن يغلق الباب، فغلق ثم نام (عليه السلام) على فراشه ومكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا فبينا أنا كذلك إذ دخل علي شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا (عليه السلام) فبادرت إليه فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت، أنا محمد بن علي، ثم مضى نحو أبيه (عليهما السلام) فدخل

ص:80


1- (1) قوله «آخر دقيقة تبقى من روحه» الإمامة ربط مع الله تعالى وارتباط مع الناس ولا يمتنع في زمان واحد أن يرتبط اثنان مع الله تعالى برابطة الولاية ويكون لأحدهما ما يكون للآخر كالحسن والحسين (عليهما السلام) وأما الربط مع الناس فأحدهما صامت لا يتصدى لمناصب الإمامة الظاهرية مع الآخر وإنما يحق له التصدي لها في آخر دقيقة من حياة الأول كما يستفاد من الحديث السادس في هذا الباب وقد ورد أيضا «أنه لا يكون في عصر واحد إمامان إلا وأحدهما صامت» وأما ما يستفاد من انتقال العلم إلى الثاني عند موت الإمام الأول فلعله وهم من الراوي أوله معنى لا نعلمه، وأما رواية أبي الصلت الهروي ففيه إعضال من جهة أخرى وهو أن الإمامة ليست جسما في صورة الزبد ولا طيرا شبيها بالعصفور حتى يخرج من بدن الرضا (عليه السلام) ويدخل في بطن أبي جعفر (عليه السلام) بل هي كمال روحاني كما سبق في الأحاديث المثبتة للأرواح التي مع الأئمة (عليهم السلام) فينبغي على فرض صحة رواية أبي الصلت تفويض علم ذلك إليهم والتوقف فيه أو حمله على تمثل المعاني وتجسمها المثالي. (ش)

وأمرني بالدخول معه فلما نظر إليه الرضا (عليه السلام) وثب إليه فعانقه وضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه.

ثم سحبه سحبا إلى فراشه وأكب عليه محمد بن علي عليهما السلام والصلاة يقبله ويساره بشيء لم أفهمه، ورأيت على شفتي الرضا (عليه السلام) زبدا أشد بياضا من الثلج ورأيت أبا جعفر (عليه السلام) يلحسه بلسانه ثم أدخل يده بين ثوبيه وصدره فاستخرج منه شيئا شبيها بالعصفور فابتلعه أبو جعفر (عليه السلام) ومضى الرضا (عليه السلام) - الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 - محمد، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن الحكم بن مسكين، عن عبيد ابن زرارة وجماعة معه قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يعرف الذي بعد الإمام علم من كان قبله في آخر دقيقة تبقى من روحه.

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن يعقوب بن يزيد، عن علي بن أسباط عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له; الإمام متى يعرف إمامته وينتهي الأمر إليه؟ قال:

في آخر دقيقة من حياة الأول.

ص:81

باب في أن الأئمة صلوات الله عليهم في العلم والشجاعة والطاعة سواء

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الخشاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال [الله تعالى] (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) قال: «الذين آمنوا» النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وذريته الأئمة والأوصياء صلوات الله عليهم، ألحقنا بهم ولم ننقص ذريتهم الحجة التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) وحجتهم واحدة، وطاعتهم واحدة.

* الشرح:

قوله (قال قال الذين آمنوا) فاعل الفعل الأول ضمير عبد الرحمن بن كثير وفاعل الفعل الثاني ضمير أبي عبد الله (عليه السلام) والفعل الثاني بمعنى قرأ.

قوله (واتبعتهم ذريتهم بإيمان) ذرية الرجل أولاده ويكون واحدا وجمعا ومنه (هب لي من لدنك ذرية طيبة) وقرئ أيضا «ذرياتهم» على صيغة الجمع و «اتبعناهم» على صيغة المتكلم مع الغير، أي جعلنا ذريتهم تابعين لهم في الإيمان، وقيل: بإيمان حال عن الضمير أو عن الذرية أو عنهما وتنكيره للتعظيم.

قوله (ألحقنا بهم ذرياتهم) أي في الرتبة والدرجة وهو خبر قوله (الذين آمنوا) وقرئ أيضا ذريتهم بدون الألف.

قوله (وما ألتناهم) أي ما نقصناهم، من ألته يلته إذا نقصه.

قوله (وذريته الأئمة) أي ذريته التابعون لهم في الإيمان الكامل الأوصياء والأئمة صلوات الله عليهم ألحقناهم بهم في وجوب الطاعة والانقياد والتسليم لهم أو في الحجة والطاعة.

قوله (ولم ننقص ذريتهم الحجة) تفسير لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء) وفيه إشارة إلى أن ضمير الجمع في علمهم راجع إلى «الذين آمنوا» وفي ألتناهم إلى الذرية وإلى أن العمل عبارة عن الحجة والطاعة يعني أن حجتهم وطاعتهم مثل حجة الذين آمنوا وطاعتهم من

ص:82

غير نقص كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله وحجتهم واحدة وطاعتهم واحدة أي سواء.

* الأصل:

2 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن داود النهدي، عن علي ابن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال لي: نحن في العلم والشجاعة سواء وفي العطايا على قدر ما نؤمر.

* الشرح:

قوله (نحن في العلم والشجاعة سواء) ا لعلم كيفية نفسانية تابعة للاستقامة في القوة العاقلة والنفس الناطقة، والشجاعة كيفية نفسانية تابعة للاستقامة في القوة الغضبية وإذا تحققت هاتان الكيفيتان تحققت العفة التابعة للاستقامة في القوة الشهوية أيضا، وكمال هذه الكيفيات لا يكون إلا في إنسان كامل بالفعل من جميع الوجوه وهو النبي والوصي، فالمراد بالعلم والشجاعة هنا ما بلغ حد الكمال.

قوله (وفي العطايا على قدر ما نؤمر) الظاهر من العطاء صرف المال في وجوه الخير فرضا كان أو نفلا، ويحتمل أن يراد به صرف النعم الظاهرة والباطنة فيشتمل عطاء العلم وتعليمه أيضا لحصول التفاوت فيه بحسب الأزمنة والأمكنة واختلاف أحوال الناس في الرد والقبول وغير ذلك.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن علي بن إسماعيل، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام نجري مجرى واحدا، فأما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) فلهما فضلهما.

* الشرح:

قوله (نحن في الأمر والفهم) لعل المراد نحن الأئمة (عليهم السلام) ويحتمل شموله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضا وبالأمر أمر الخلافة والإمامة والطاعة، وبالفهم جودة الذهن المعدة للنفوس المقدسة وهي القوة القدسية، وبالحلال والحرام العلم بجميع الشرائع والأحكام.

قوله (فأما رسول الله) الظاهر أنه من كلام أبي عبد الله (عليه السلام) ويحتمل أن يكون من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتمالا بعيدا.

قوله (فلهما فضلهما) بالأبوة فإن الأب والابن وإن تساويا في جميع الكمالات كان الفضل للأب أو بالتعليم فإن المعلم والمتعلم مع تساويهما في العلم والعمل كان الفضل للمعلم.

ص:83

باب أن الإمام (عليه السلام) يعرف الإمام الذي يكون من بعده وأن قول الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات) إلى أهلها، فيهم (عليهم السلام) نزلت

* الأصل:

1 - الحسن بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ عن ابن اذينة، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) قال: إيانا عنى، أن يؤدي الأول إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل الذي في أيديكم، ثم قال للناس: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) إيانا عنى خاصة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا، فإن خفتم تنازعا في أمر فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم كذا نزلت، وكيف يأمرهم الله عزوجل بطاعة ولاة الأمر ويرخص في منازعتهم؟! إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).

* الشرح:

قوله (الكتب والعلم والسلاح) أريد بالكتب الكتاب الذي جمعه علي بن أبي طالب (عليه السلام) والجفر الأبيض الذي فيه زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم ومصحف فاطمة (عليها السلام) الذي كتبه علي (عليه السلام) عند نزول جبرئيل إليها وإخباره بما يكون إلى يوم القيامة، وفيه جميع ما يحتاج إليه الناس، والجامعة وهي صحيفة كتبها علي (عليه السلام) بخطه من إملاء الرسول (صلى الله عليه وآله).

والجفر وهو مشتمل على علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا. والصحيفة التي جاء بها جبرئيل الأمين في الوصية من عند رب العالمين، وبالعلم العلم الذي اختص به الإمام وهو العلم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وبالسلاح سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل المغفر والدرع والراية والقميص والسيف والخاتم وغيرها.

قوله (أن تحكموا بالعدل الذي في أيديكم) الحكم بالعدل هو الإنصاف والتسوية بين الغني

ص:84

والفقير والكبير والصغير والقريب والبعيد والشريف والوضيع وهو يتوقف على الكمال في القوة العقلية. واتصافها بغاية العلم ونهاية المعرفة وتميزها بين الحق والباطل، وعلى الاستقامة في القوة الغضبية، وعدم ميلها إلى جهة الإفراط والتفريط لأن جهة التفريط توجب العجز عن إقامة الحدود وإجراء الأحكام، وجهة الإفراط توجب ارتكاب الظلم والجور. وتلك الاستقامة هي الشجاعة المعدودة من الأخلاق الحسنة التي كانت لجميع الأنبياء والأوصياء وعلى اعتدال القوة الشهوية وتوسطها بين الإفراط والتفريط لأن طرف التفريط يوجب العجز عن جلب ما لا بد منه وطرف الإفراط يوجب جلب ما يضر ويجب تركه من المشتهيات النفسانية. فإذا حصلت هذه الأمور حصلت من مجموعها للنفس ملكة العدل التي بها يجوز الحكم بين الناس بل يجب، وإذا فقد كلها أو بعضها كان الحاكم من أهل الجور والطغيان وأهل الظلم والعدوان نعوذ بالله من ذلك. وفي قوله:

(الذي في أيديكم) إشارة إلى أنه مكتوب عندهم في كتاب علي (عليه السلام) أو إلى اتصافهم بهذه الصفة وعدم حصولها لهم بالتكلف.

قوله (إيانا عنى خاصة) أي أراد بأولي الأمر إيانا خاصة لا إيانا وغيرنا ولا غيرنا خاصة، وفيه رد على من قال: أراد بهم سلاطين الجور، وبطلان هذا القول أظهر من أن يحتاج إلى البيان، وأما من قال: أراد بهم أمراء المسلمين وخلفاءهم وقضاتهم وعلماء الشرع فإن أراد بهم الأئمة الطاهرين من آل الرسول فهو حق وإلا فهو في ظهور البطلان مثل ما مر.

قوله (أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا) يفهم عموم المؤمنين وشمول الأوقات من عدم التقييد ببعض ووقت ولصحة الاستثناء وهو معيار العموم ولأن طاعتهم كطاعة الله وطاعة الرسول فكما أن طاعتهما واجبة إلى يوم القيامة كذلك طاعتهم.

قوله (فإن خفتم تنازعا في أمر) في القرآن هكذا (فإن تنازعتم في شيء) فالمذكور إما تفسير له وبيان لحاصل معناه أو إشعار بوقوع التحريف فيه أيضا كما يشعر به ظاهر قوله «كذا نزلت» وإنما قلنا ظاهر قوله لاحتمال أن يكون كذا إشارة إلى قوله (وإلى أولي الأمر منكم خاصة).

قوله (وكيف يأمرهم الله عزوجل بطاعة ولاة الأمر ويرخص في منازعتهم) (1) أي منازعة ولاة

ص:85


1- (1) قوله «ويرخص في منازعتهم» إن كان المراد بأولي الأمر في الآية الكريمة أمراء الجنود والولاة وأمثالهم ممن نصبه النبي (صلى الله عليه وآله) في عصره جاز أن يختلف نظر الأمراء والمأمورين في شيء كالحرب والصلح وتقسيم الغنائم فأمرهم الله تعالى بالرد إلى الله والرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول) وهذا ترخيص للتنازع إذ لو لم يكن مرخصا فيه لأمرهم بمتابعة أميرهم وإن خالف رأيهم رأيه فيرتفع التنازع قهرا، وعلى هذا فتقرير استدلال الإمام (عليه السلام) هكذا: أمير الجند مرخص في مخالفته وولي الأمر غير مرخص فيها لأنه تعالى أمر بإطاعة أولي الأمر فينتج من الشكل الثاني أن أمير الجند ليس من أولي الأمر. (ش)

الأمر بعضهم بعضا في أمر من أمور الدين وغيرها أو في منازعة الناس إياهم، وفيه رد على من قال:

الخطاب في تنازعتم لأولي الأمر على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وعلى من قال:

الخطاب لهم وللمؤمنين على سبيل التغليب يعني إن تنازعتم يا ولاة الأمر في شيء أو إن تنازعتم أيها المؤمنون وولاة الأمر في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول أي فارجعوا فيه إلى كتاب الله وإلى الرسول بالسؤال عنه في حياته والأخذ من سنته بعد موته، ووجه الرد أمران: أحدهما أن قوله تعالى (وإلى أولي الأمر منكم) كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله «كذا نزلت» يدل على فساد هذين القولين وهو ظاهر، وثانيهما أن العقل يحكم بالضرورة بأنه لا معنى لأن يأمر الله تعالى المؤمنين بطاعة ولاة الأمر ثم يرخص ولاة الأمر في منازعة بعضهم بعضا في أمور الدين، أو يرخص المؤمنين في منازعة ولاة الأمر فيها، وهذا من أجلى الضروريات لا ينكره إلا مكابر أو مباهت.

قوله (إنما قيل ذلك للمأمورين) أي للمأمورين بطاعة أولي الأمر وفيه إشارة إلى أن الخطاب في قوله «ان تنازعتم» للمؤمنين المأمورين بطاعتهم، وأمرهم بالرجوع إلى ولاة الأمر عند التنازع على تقدير وجود «وإلى أولي الأمر منكم» في القرآن (1) كما أشار إليه (عليه السلام) ظاهر، وإما على تقدير

ص:86


1- (1) قوله «على تقدير وجود وإلى أولي الأمر منكم» قد ظهر مما قلنا في الحاشية السابقة إن استدلال الإمام (عليه السلام) لا يتوقف على وجود كلمة أولي الأمر بعد قوله (فردوه إلى الله وإلى الرسول) وإن كان الخطاب في تنازعتم متوجها إلى أمراء الجنود والمأمورين معا أي إن تنازعتم أيها الأمراء والمأمورون في شيء فردوه إلى الله وإلى رسوله أي في عصر الرسول وبعده (صلى الله عليه وآله) والدليل إنما هو في ترخيص التنازع لا في مرجع التنازع إذ لا يتصور التنازع مع وجوب إطاعة أمراء الجنود فيدل على أن إطاعة أمراء الجنود ليست واجبة مطلقا فليسوا أولي الأمر إذ يجب إطاعة أولي الأمر مطلقا، وأما بعد ترخيص التنازع وأنه هل يرد إلى الله والرسول أو إلى غيرهما أيضا فلا دخل له في استدلال الإمام (عليه السلام) وكأن زيادة كلمة أولي الأمر من سهو النساخ أو بعض الرواة، ويمكن أن يقال: اتفق المسلمون على عدم وجوب إطاعة أحد غير الله ورسوله ممن لم يثبت عصمته لأن المسلمين جميعا نقلوا عن أبي بكر وعمر فتاوى في مسائل وخالفوهما ولم يروا قولهما حجة بل قالوا إنهما كانا مجتهدين يجوز أن يخطآ، يعلم ذلك المتتبع في أقوال الفقهاء وحينئذ فليس أحد ممن يجب إطاعته إلا معصوما باتفاق الفريقين، وهذا الدليل مرجعه إلى قياس استثنائي من شرطية متصلة ينتج من رفع التالي رفع المقدم هكذا لو كان الخلفاء وأمراء الجنود وأمثالهم من أولي الأمر لوجب إطاعتهم وهذه شرطية متصلة والتالي هو قولنا: لوجب طاعتهم فيرفع ويقال: لكن ليس يجب إطاعتهم، فينتج ليسوا من أولي الأمر، ويمكن أن يختلج في ذهن الناشئ إشكالان: الأول انا نقيد وجوب إطاعة أولي الأمر بما إذا أمروا بموافق الشرع لا إذا خالفوا وأمروا بما لا يوافق الشرع، الثاني إنا نقيد وجوب إطاعتهم بما استلزم عصيانهم الفساد ووقوع الفتن والهرج، والجواب عن الأول ان كل أحد أمر بموافق الشرع وجب إطاعته ولا يختص بأولي الأمر والمقصود هنا إطاعة أولي الأمر زائدا على إطاعة آحاد الناس، وعن الثاني إنا لا ننكر السكوت والتقية ومراعاة مصلحة العامة إذا استلزم مخالفة الإمام غير المعصوم الهرج والفتن وقتل المسلمين كما سكت أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الخلفاء والحسن بن علي والحسين (عليهم السلام) مع معاوية وكذلك سائر أئمتنا مع خلفاء زمانهم وهذا لا يوجب كون إطاعتهم بعنوان أولي الأمر واجبا من عند الله تعالى، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس» وصالح الإمامان مع معاوية حقنا لدماء الشيعة، فتأمل في ذلك وفي وجه استدلال الإمام (عليه السلام) بآية أولي الأمر وهذا يكفيك في إثبات إمامتهم إن شاء الله تعالى ومنه التوفيق. (ش)

عدمه كما في هذا المصحف الذي جمعوه في عهد عثمان فيفهم بقرينة الأمر بطاعتهم أولا، وإنما لم يذكرهم هنا للتنبيه على أن الرجوع إليهم رجوع إلى الله وإلى الرسول، وفيه دلالة بمفهوم الشرط على أن الإجماع حجة.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عمر قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) قال: هم الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله) أن يؤدي الإمام الأمانة إلى من بعده ولا يخص بها غيره ولا يزويها عنه.

* الشرح:

قوله (قال هم الأئمة) أي الخطاب في يأمركم للأئمة.

قوله (أن يؤدي الإمام) أي أمر أن يؤدي الإمام، فحذف الفعل بقرينة المقام.

قوله (ولا يزويها عنه) أي لا يخفيها عنه، يقال: زوى فلان المال عن وارثه أي أخفاه عنهم.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن فضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) قال: هم الأئمة يؤدي الإمام إلى الإمام من بعده ولا يخص بها غيره ولا يزويها عنه.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسحاق بن عمار، عن ابن أبي يعفور، عن المعلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) قال: أمر الله الإمام الأول أن يدفع إلى الإمام الذي بعده كل شيء عنده.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن العلاء بن زرين، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يموت الإمام حتى يعلم من يكون من بعده فيوصي

ص:87

[إليه].

* الشرح:

قوله (لا يموت الإمام حتى يعلم) على صيغة المجهول من الإعلام أو على صيغة المعلوم من العلم والمقصود أن العلم بذلك حاصل له قبل الموت لا أنه يحصل له عند الموت.

6 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن [ابن] أبي عثمان، عن المعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الإمام يعرف الإمام الذي من بعده فيوصي إليه.

7 - أحمد، عن محمد بن عبد الجبار، عن أبي عبد الله البرقي، عن فضالة بن أيوب عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما مات عالم حتى يعلمه الله عزوجل إلى من يوصي.

ص:88

باب أن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود من واحد إلى واحد (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، قال: حدثني عمر ابن أبان، عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فذكروا الأوصياء وذكرت إسماعيل، فقال لا والله يا أبا محمد ما ذاك إلينا وما هو إلا إلى الله عزوجل ينزل واحدا بعد واحد.

* الشرح:

قوله (وذكرت إسماعيل) هو إسماعيل بن جعفر بن محمد الباقر (عليهم السلام)، وكان رجلا صالحا فظن أبو بصير وغيره من الشيعة أنه وصي لأبيه بعده فلذلك قال الصادق (عليه السلام) بعد موته «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني» وليس معناه أن الله تعالى رجع عن الحكم بإمامته بعد أبيه وبدا له بداء ندامة، كيف وقد قال (عليه السلام): «من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»! بل معناه ما أشار إليه الصدوق (رحمه الله) وحاصله: أن الله تعالى ما أظهر شيئا كان مخفيا للخلق مثل ما أظهره من عدم إمامة ابني إسماعيل إذ اخترمه وأماته قبلي ليعلم الناس أنه ليس بإمام بعدي.

قوله (ما ذاك إلينا) أي ليس تعيين الوصي موكولا إلينا حتى نختار من نشاء وما هو إلا إلى الله تعالى لأن للإمام صفات باطنة لا يعلمها إلا هو كما في «باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، وفيه رد على العامة حيث ذهبوا إلى أن عقد الإمامة إما باستخلاف المتولي كما فعل أبو بكر لعمر أو بقول أهل الحل والعقد كما لأبي بكر ويلزم سائر الناس حتى قال بعضهم: لا يلزم مباشرة كل الناس بل لو استخلف واحد واستقر الأمر له وجب على جميع الناس متابعته.

قوله (ينزل واحدا بعد واحد) أي نازل في منزله ومحله يعني مرتبة من الإنزال والتنزيل وهو الترتيب وفيه دلالة على أنه لا يجتمع في عصر إمامان وهو متفق عليه بين الخاصة والعامة، أما عندنا فبالنص وهو هذا وأمثاله، وأما عندهم فإنهم لما لم يشترطوا العصمة في الإمام قالوا لم يجز تعدده وإلا لوقع التشاجر والتنازع بينهما ويوجب ذلك الهرج والمرج ويبطل ا لغرض من نصب الإمام وتعيينه وفي رواياتهم أيضا ما يدل على ذلك.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن

ص:89

حماد بن عثمان، عن عمرو بن الأشعث قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أترون الموصي منا يوصي إلى من يريد؟! لا والله ولكن عهد من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لرجل فرجل حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه.

الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عيسى، عن منهال، عن عمرو بن الأشعث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (ولكن عهد) العهد الميثاق والوصية وقد عهدت إليه أي أوصيته ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة.

قوله (حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه) وهو مهدي هذه الأمة الذي وقع الاتفاق على ظهوره بين الخاصة والعامة، إلا أنهم يقولون سيوجد من نسل الحسين (عليه السلام).

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن محمد، عن بكر بن صالح، عن محمد بن سليمان، عن عيثم بن أسلم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود لرجال مسمين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود (عليه السلام) أن اتخذ وصيا من أهلك فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبيا وله وصي من أهله وكان لداود (عليه السلام) أولاد عدة وفيهم غلام كانت أمه عند داود وكان لها محبا فدخل داود (عليه السلام) عليها حين أتاه الوحي فقال لها: إن الله عزوجل أوحى إلي يأمرني أن أتخذ وصيا من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني، قال; ذلك أريد، وكان السابق في علم الله المحتوم عنده أنه سليمان، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري، فلم يلبث داود أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم فأوحى الله عزوجل إلى داود أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك، فجمع داود (عليه السلام) ولده، فلما أن قص الخصمان قال سليمان (عليه السلام): يا صاحب الكرم! متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلا، قال: قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا. ثم قال له داود: فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوم ذلك علماء بني إسرائيل وكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان: إن الكرم لم يجتث من أصله، وإنما أكل حمله وهو عائد في قابل، فأوحى الله عزوجل إلى داود: أن القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به، يا داود! أردت أمرا وأردنا أمرا غيره، فدخل داود على امرأته فقال: أردنا أمرا وأراد الله عزوجل أمرا غيره ولم يكن إلا ما أراد الله عزوجل، فقد رضينا بأمر الله عزوجل وسلمنا.

ص:90

وكذلك الأوصياء (عليهم السلام)، ليس لهم أن يتعدوا بهذا الأمر فيجاوزون صاحبه إلى غيره.

قال الكليني: معنى الحديث الأول أن الغنم لو دخلت الكرم نهارا، لم يكن على صاحب الغنم شيء لأن لصاحب الغنم أن يسرح غنمه بالنهار ترعى، وعلى صاحب الكرم حفظه، وعلى صاحب الغنم أن يربط غنمه ليلا، ولصاحب الكرم أن ينام في بيته.

* الشرح:

قوله (عيثم بن أسلم) لم أره في كتب الرجال.

قوله (لا تعجل دون أن يأتيك أمري) إذ أوحى الله تعالى إلى نبيه الكريم بأن يتخذ وصيا ثم نهاه أن يعينه برأيه قبل أن يأتيه أمره بالتعيين، فكيف يجوز لجهلة من الناس أن يعينوا بآرائهم الفاسدة الكاسدة خليفة لرسول رب العالمين!.

قوله (لم يجتث) على صيغة المجهول من أجتثه أي اقتلعه.

قوله (وإنما أكل حمله) الحمل بالفتح والسكون مصدر حمل الشيء ويطلق أيضا على ما كان في بطن أو على رأس شجرة كذا في المغرب. وذكر ابن دريد: أن حمل الشجر فيه لغتان بالفتح والكسر.

قوله (يا داود أردت أمرا وأردنا أمرا غيره) إن قلت: كيف يريد داود نبي الله أمر الخلافة لأحد لا يكون أهلا لها، وما معنى هذه الإرادة؟ قلت: معناها ميل النفس إلى خلافته لوجدانه أهلا بحسب علمه. ولما كانت الخلافة مبنية على أمور جليلة وخفية يعلم بعضها أهل العلم وبعضها لا يعلمه إلا الله تعالى كارتباط خاص بالله تعالى وكمال علم ونهاية تقدس وهي من فيض الله تعالى أراد جل شأنه خلاف إرادته للتنبيه على أن العلم البشري لا يكون مستقلا في نصب الخليفة.

قوله (وسلمنا) التسليم مترتب على الرضى، والرضى على المحبة، إذ المحب يرضى بكل شيء من المحبوب فيسلم له.

قوله (بهذا الأمر) أي بأمر الخلافة فليس لهم أن يعينوا خليفة بدون أمر الله تعالى أوليس لهم أن يعينوا غير من عينه الله تعالى فيجاوزون على التقديرين صاحب أمر الخلافة إلى غيره ويوجب ذلك بطلان ما هو المطلوب منه.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير وجميل، عن عمرو بن مصعب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أترون أن الموصي منا يوصي إلى من يريد؟! لا والله ولكنه عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجل فرجل حتى انتهى إلى نفسه.

ص:91

باب أن الأئمة لم یفعلوا شیئا و لا یفعلون إلا بعهد من الله عزوجل وأمر منه لا يتجاوزونه

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى والحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن علي بن الحسين بن علي، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة، عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الوصية نزلت من السماء على محمد كتابا، لم ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله) كتاب مختوم إلا الوصية فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أي أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم (عليه السلام) وميراثه لعلي (عليه السلام) وذريتك من صلبه، وكان عليها خواتيم، قال: ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما فيها ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلما توفي الحسن ومضى فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل واخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعل (عليه السلام)، فلما مضى دفعها إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) قبل ذلك، ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن اصمت وأطرق لما حجب العلم، فلما توفي ومضى دفعها إلى محمد بن علي (عليهما السلام) ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن فسر كتاب الله تعالى وصدق أباك وورث ابنك واصطنع الأمة وقم بحق الله عزوجل وقل الحق في الخوف والأمن ولا تخش إلا الله، ففعل، ثم دفعها إلى الذي يليه.

قال: قلت له: جعلت فداك فأنت هو؟ قال: فقال: ما بي إلا أن تذهب يا معاذ فتروي علي قال:

فقلت: أسأل الله الذي رزقك من آبائك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك مثلها قبل الممات، قال:

قد فعل الله ذلك يا معاذ، قال: فقلت: فمن هو جعلت فداك؟ قال: هذا الراقد - وأشار بيده إلى العبد الصالح وهو راقد -.

الشرح

قوله (كتابا) حال عن فاعل «نزلت» أو تميز للنسبة.

قوله (لم ينزل على محمد (صلى الله عليه وآله) كتاب مختوم) الظاهر أن النفي راجع إلى المقيد أو إلى القيد والمقيد جميعا لا إلى القيد فقط.

ص:92

قوله (إلا الوصية) أوصيت له بشيء وأوصيت إليه أيضا إذا جعلته وصيك وكذلك وصيته توصية، والوصية والوصاية إسمان في معنى المصدر، منه قوله تعالى: (حين الوصية) ثم سمى الموصى به وصية ومنه قوله تعالى: (من بعد وصية توصون بها).

قوله (في أمتك عند أهل بيتك) خبر بعد خبر أو حال عن الوصية على تقدير الجواب والعامل معنى أنبه أو أشير.

قوله (أي أهل بيتي) هذا السؤال مع علمه (صلى الله عليه وآله) بوصيته للاطمئنان كما قال خليل الرحمن (ولكن ليطمئن قلبي).

قوله (قال نجيب الله منهم) أي من أهل بيتك، والنجيب الكريم السخي الفاضل البين النجابة وقد نجب ينجب نجابة إذا كان فاضلا نفيسا في نوعه، والمراد بها علي بن أبي طالب (عليه السلام) والفاعل في قوله «ليرثك» ضمير يعود إليه.

قوله (كما ورثه إبراهيم) من الأنبياء السابقين والتشبيه باعتبار أن وراثته كان أظهر وأشهر لا باعتبار أنها كانت أقوى وأكمل.

قوله (وميراثه لعلي) أي ميراث علم النبوة أو ميراث إبراهيم (عليه السلام) وفيه تصريح بما رمز إليه أولا.

قوله (فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل) الأمر للحتم والوجوب كسائر الواجبات فلا يرد ما يقول الجهلة من الناس من أنه (عليه السلام) كان يعلم بقتله وقتل أصحابه فلم ارتكبه وقد قال الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟ ولم يعلموا أن الإلقاء إليها لا يجوز إذا لم يكن بأمر الله تعالى وأما إذا كان بأمره فهو جائز بل واجب كما انه لا يجوز لأحدنا الفرار عن الزحف مع ضعف العدو وإن غلب الهلاك ولا شبهة في أن تكليفهم فوق تكليفنا فإذا أوجب الله تعالى عليهم القتال مع أضعاف العدو لمصلحة منها أن لا يكون للخلق حجة على الله يوم القيامة بعدم وجدانهم داعيا إليه فلا محالة وجب عليهم الإقدام ولا يجوز لهم القعود.

قوله (أن اصمت واطرق) من أطرق الرجل إذا سكت فلم يتكلم فالعطف للتفسير أو من أطرق إذا أرخى عينيه ينظر إلى الأرض كما يفعله المهموم المتفكر وهو كناية عن الإعراض عن الناس.

قوله (لما حجب العلم) لما بفتح اللام وشد الميم أو بكسر اللام وما مصدرية، وهو على التقديرين تعليل للسكوت وعدم إفشاء علم الشرائع ودعوة الخلق إليه لعدم انتفاعهم به ولقتلهم إياه مثل أبيه (عليهما السلام).

ص:93

قوله (واصطنع الأمة) أي ربهم تربية وأحسن إليهم إحسانا وأخرجهم من الجهل إلى العلم ومن الظلمة إلى النور، من اصطنعته ربيته وأخرجته.

قوله (وقم بحق الله عزوجل) أي قم بإظهاره متشمرا مجتهدا فيه من غير فتور ولا توان، يقال:

قام بالأمر إذا اجتهد فيه وتجلد. وحقيقة القيام بالشيء هي الانتصاب له، وهو يدل على الاعتناء به وهو يستلزم التشمر والاجتهاد فيه من غير فتور، فأطلق القيام على هذا اللازم مجازا.

قوله (ولا تخش إلا الله) فيه وعد له بالعصمة من الناس وبشارة له بالقرب والعلم إذ لا يخشاه إلا المقربون (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

قوله (فقال ما بي إلا أن تذهب فتروي علي) أي ما بي بأس أو خوف إلا أن تذهب يا معاذ فتروي علي هذا مسلطا للأعداء علي، وفيه مبالغة في التوصية له بحفظه عن غير أهله، وإن كان من خواص أصحابه وأهل سره ويمكن أن يكون تأبى بالتاء المثناة الفوقانية.

* الأصل:

2 - أحمد بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد، عن أبي الحسن الكناني، عن جعفر بن نجيح الكندي، عن محمد بن أحمد بن عبيد الله العمري، عن أبيه، عن جده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عزوجل أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتابا قبل وفاته، فقال: يا محمد هذه وصيتك إلى النجبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال علي بن أبي طالب وولده (عليهم السلام)، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب فدفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمره أن يفك خاتما منه ويعمل بما فيه، ففك أمير المؤمنين (عليه السلام) خاتما وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، ففك خاتما وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام) ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك واشر نفسك لله عزوجل، ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ففك خاتما فوجد فيه أن أطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي (عليهما السلام)، ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله عزوجل، فإنه لا سبيل لأحد عليك [ففعل] وثم دفعه إلى ابنه جعفر، ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم، وانشر علوم أهل بيتك، وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن إلا الله عزوجل وأنت في حرز وأمان، ففعل، ثم دفعه إلى ابنه موسى (عليه السلام) وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده ثم كذلك إلى قيام المهدي صلى الله عليه.

* الشرح:

قوله (عن محمد بن أحمد بن عبيد الله العمري) في بعض النسخ «عبد الله» مكبرا بدل عبيد الله

ص:94

مصغرا وهو الأصح، لأن الظاهر أنه محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان أحمد وأبوه عبد الله كلاهما من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام).

قوله (إلى النجبة من أهلك) قال الجوهري: النجبة مثال الهمزة: النجيب، ويقال: هو نجبة القوم إذا كان النجيب منهم.

قوله (وما النجبة) لم يسأل عن حقيقته وتعيين مفهومه بل عن مصداقه.

قوله (واشر نفسك لله تعالى) أي بعها ببذلها في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تقتل لله وطلبا لرضائه ويرشد إليه قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله).

قوله (ثم دفعه إلى ابنه جعفر) هذا وما يأتي من قوله «ثم دفعه إلى ابنه موسى» التفات من التكلم إلى الغيبة إذ المقام يقتضي أن يقول: ثم دفعه إلي ثم دفعته إلى ابني موسى، واحتمال كونه من كلام الراوي نقلا بالمعنى بعيد.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله عزوجل وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا حمران، إن الله تبارك وتعالى [قد] كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه، ثم أجراه، فبتقدم علم ذلك إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منا.

* الشرح:

قوله (أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسين) أي أخبرني ما سبب قيام هؤلاء الأئمة بدين الله واجتهادهم في إظهاره مع علمهم بأنهم يقتلون ويغلبون؟ فأخبره بأن الله تعالى قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه لمصلحة ثم أجراه في وقته بأمرهم بالقيام لئلا يكون للخلق على الله حجة يوم القيامة بأنهم لم يجدوا داعيا إليه وإلى دينه، وأما من صمت منا ولم يخرج ولم يتكلم في إفشاء الدين وإظهار علمه فهو أيضا مأمور بذلك. وبالجملة هم تابعون لأمره تعالى فإذا أمرهم بالخروج خرجوا وإذا أمرهم بالسكوت سكتوا.

ص:95

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحارث بن جعفر، عن علي بن إسماعيل بن يقطين، عن عيسى بن المستفاد أبي موسى الضرير، قال:

حدثني موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أليس كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كاتب الوصية ورسول الله (صلى الله عليه وآله) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقربون (عليهم السلام) شهود؟ قال: فأطرق طويلا ثم قال: يا أبا الحسن قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر، نزلت الوصية من عند الله كتابا مسجلا نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد مر بإخراج من عندك إلا وصيك، ليقبضها منا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامنا لها - يعني عليا (عليه السلام) - فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراج من كان في البيت ما خلا عليا (عليه السلام) وفاطمة فيما بين الستر والباب، فقال جبرئيل: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيدا، قال:

فارتعدت مفاصل النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا جبرئيل ربي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام صدق عزوجل وبر، هات الكتاب، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: اقرأه، فقرأه حرفا حرفا، فقال: يا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالى إلي وشرطه علي وأمانته، وقد بلغت ونصحت وأديت، فقال علي (عليه السلام): وأنا أشهد لك [بأبي وأمي أنت] بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي، فقال جبرئيل (عليه السلام): وأنا لكما على ذلك من الشاهدين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي أخذت وصيتي وعرفتها وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها؟ فقال علي (عليه السلام): نعم بأبي أنت وأمي علي ضمانها وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إني أريد أن أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة، فقال علي (عليه السلام):

نعم أشهد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن وهما حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم عليك فقال: نعم ليشهدوا وأنا - بأبي أنت وأمي - أشهدهم، فأشهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان فيما اشترط عليه النبي بأمر جبرئيل (عليه السلام) فيما أمر الله عزوجل أن قال له: يا علي تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم على الصبر منك [و] على كظم الغيظ وعلى ذهاب حقك وغصب خمسك وانتهاك حرمتك؟ فقال: نعم يا رسول الله.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول للنبي: يا محمد عرفه أنه ينتهك الحرمة وهي حرمة الله وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أن تخضب لحيته من

ص:96

رأسه بدم عبيط، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط صابرا محتسبا أبدا حتى أقدم عليك، ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة والحسن والحسين وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين فقالوا مثل قوله، فختمت الوصية بخواتيم من ذهب، لم تمسه النار ودفعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): بأبي أنت وأمي ألا تذكر ما كان في الوصية؟ فقال: سنن الله وسنن رسوله، فقلت: أكان في الوصية توثبهم وخلافهم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقال: نعم والله شيئا شيئا، وحرفا حرفا، أما سمعت قول الله عزوجل (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)؟ والله لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام): أليس قد فهمتما ما تقدمت به إليكما وقبلتماه؟ فقالا: بلى [بقبوله] وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا.

وفي نسخة الصفواني زيادة.

* الشرح:

قوله (أليس كان أمير المؤمنين (عليه السلام)) الاستفهام إما على الحقيقة أو على التقرير بما دخل عليه النفي أو لإفادة العلم بمضمونه.

قوله (فأطرق طويلا) أي سكت زمانا طويلا وأرخى عينه إلى الأرض كذلك، ولعل السر فيه اشتغاله بالمحدث الذي كان معه في أمر الوصية أو رجوعه إلى نفسه المقدسة وتشاوره في بيان أمر الوصية كما هو حقه.

قوله (قد كان ما قلت) يفهم منه أنه (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي (عليه السلام) وسمى أوصياءه (عليهم السلام) وكتبها علي (عليه السلام) بخطه ثم نزلت كتابا من السماء.

قوله (ولكن حين نزل برسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر) أي الأمر برجوعه إلى الحق أو الأمر بنصب الأوصياء أو الأمر بدفع الوصية إلى أهلها.

قوله (كتابا مسجلا) أي محكما من سجل عليه إذا أحكمه والسجل كتاب الحكم أو مرسلا من سجلت الكتاب أي أرسلته، نقل عن محمد بن الحنفية (رحمه الله) في تفسير قوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) أنه قال: هي مسجلة للبر والفاجر، قال الأصمعي: أي مرسلة لم يشترط

ص:97

فيها بر دون فاجر، أو مبذولا لهداية الخلق. قال ابن الأثير: المسجل المال المبذول.

قوله (ضامنا لها) حال عن الضمير المجرور في «إليه» الراجع إلى الوصي لا يقال: العامل في الحال متعلق الظرف وهو الدفع والعامل في ذي الحال حرف الجر، لأنا نقول: العامل في ذي الحال أيضا هو المتعلق والجار آلة توصل معناه إليه مجرورة فيتحد العامل فيهما.

قوله (يعني عليا (عليه السلام)) بيان للوصي وتفسير له.

قوله (بين الستر والباب) لا خارجه ولا داخله والستر بالكسر واحد الأستار والستور وهو ما يستر به ومعمول لذلك، والسترة بالضم أعم منه لأنها تشمل المعمول له وغيره.

قوله (يقرئك السلام) أقرأته السلام وهو يقرئك السلام بضم الياء رباعيا لا غير وإذا قلت يقرأ عليك السلام فبالفتح لا غير وقيل: هما لغتان.

قوله (هذا كتاب ما كنت عهدت إليك) إضافة الكتاب إلى ما بتقدير اللام والعهد العقد والميثاق والوصية يقال: عهد إليه إذا أوصاه ولعل هذا العهد وقع في الذر عند أخذ الميثاق للأئمة (عليهم السلام) بالإمامة أو في المعراج أو في وقت آخر من أيام البعثة.

قوله (وشرطت عليك) بتبليغه وإكرام من آمن به وصدقه وإذلال من كفر به وكذبه.

قوله (فارتعدت مفاصل النبي (صلى الله عليه وآله)) لتشديد الأمر والتعظيم له والمبالغة فيه وجعله تعالى ذاته المقدسة والملائكة المقربين شهودا عليه والحق أنه محل الخيفة وموضع الرعدة فياحسرة للعباد عما يراد بهم لشدة غفلتهم وفرط عتوهم مع أن بواعث الخوف فيهم أظهر والشهود عليهم أكثر إذ عليهم شهود غير هؤلاء وهم خاتم الأنبياء وسيد الأوصياء وأولاد النجباء، اللهم انصرنا في دار الغربة وموطن الفرقة وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.

قوله (ربي هو السلام) تعريف الخبر للحصر وتوسيط ضمير الفصل للمبالغة فيه والسلام من أسمائه تعالى، وقيل: معناه السالم من المعائب وسمات الحدوث، وقيل: المسلم عباده من المهالك، وقيل: المسلم عليهم في الجنة. قال بعض الأفاضل: هو على الأول من أسماء التنزيه كالقدوس وعلى الثاني يرجع إلى القدرة أو إلى صفة الفعل وعلى الثالث إلى الكلام، واقتصر في النهاية على المعنى الأول وقال: السلام في الأصل السلامة، يقال: سلم يسلم سلاما وسلامة، ومنه قيل للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات.

قوله (ومنه السلام وإليه يعود السلام) أي الرحمة وسلامة العباد من المعائب والمهالك منه سبحانه وهو مالكهما لا غيره وهما لو صدرتا من غيره فيعودان إليه سبحانه لأنه الموفق له عليهما ولما كان السلام معناه السالم من المعائب وسمات الحدوث جاء بعد قوله هو السلام بهذا الكلام

ص:98

بيانا واحتراسا لأن الوصف بالسلامة إنما يكون فيمن هو بعرضة أن يلحقه ضرر وآفات فبين أن وصفه تعالى بالسلام ليس على حد وصف المخلوقين المفتقرين لأنه تعالى هو الغني المتعالي الذي يعطي السلامة ومنه تستوهب وإليه ترجع ومن كان كذلك لا يتطرق توهم الضرر والآفات إلى سرادقات عزه.

قوله (صدق عزوجل وبر) أي صدق فيما ذكر من العهد والشرط والشهادة والإشهاد وبر بالوفاء بالعهد وإرسال كتابه.

قوله (وشرطه علي) الشرط معروف ويحتمل أن يراد به حكم الله على ما قد أظهره لي وبينه بقوله (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).

قوله (وأمانته) أي وديعته لك عندي وهي حق على بن أبي طالب (عليه السلام) الذي أودعه الله تعالى عند رسوله ثم أمره بدفعه إليه.

قوله (وقد بلغت ونصحت وأديت) الوصية كانت وديعة الله عنده (صلى الله عليه وآله) وحكما من أحكامه الحتمية الضرورية وكان (صلى الله عليه وآله) مأمورا بتبليغه إلى الخلق والنصيحة لهم فيها وأدائها إلى أهلها وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد فعل ما كان عليه، والحق أنه ما بالغ أحد من الأنبياء في الوصية مثل ما بالغ نبينا (عليه السلام) فيها، وكتب العامة والخاصة مشحونة بها ولكن من أعمى الله قلبه فلا هادي له.

قوله (بأبي وأمي أنت) هذه الكلمة لإظهار عزة المخاطب وبيان أنه عزيز في نفس القائل حتى أنه أرجح ممن هو أقرب الخلق إليه وأعز عليه وهو أبواه بحيث يفديه بهما ولا يشترط في ذلك وجودهما.

قوله (بالبلاغ) هو بالفتح اسم من التبليغ وهو ما بلغه من القرآن والسنن وجميع ما جاء به، أو بالكسر مصدر بالغ في الأمر إذا اجتهد فيه.

قوله (والنصيحة) وهي إرادة الخير للأمة وإرشادهم إلى مصالحهم خالصا لوجه الله وأصل النصح الخلوص.

قوله (والتصديق على ما قلت) أي تصديقك للرب على ما قلت من أن هذا عهده وشرطه وأمانته أو من قوله «صدق عزوجل وبر» أو من جميع ما جئت من عنده وبينه للناس. وفي بعض النسخ: والصدق هو الأظهر يراد بالموصول قوله «وقد بلغت ونصحت وأديت».

قوله (يشهد لك به سمعي) يعني يصدقك فيه جوارحي هذه وغيرها وتشهد لك به يوم القيامة.

يحتمل أن يراد بالدم الروح وقد فسر الروح بالدم جماعة من العلماء وقد صرح به الشيخ (رحمه الله) في

ص:99

الكشكول.

قوله (وأنا لكما على ذلك من الشاهدين) شهادته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على تبليغه ونصيحته وأداء الأمانة، ولعلي (عليه السلام) على تصديقه بالبلاغ والنصيحة والصدق على ما قال وجاء به.

قوله (على ضمانها) بالوفاء بما فيها والعمل وأدائها إلى أهلها كما هي.

قوله (بموافاتي بها) أي بإتيانك إياي بها كما هي يوم القيامة، يقال: وافاه أي أتاه مفاعلة من الوفاء.

قوله (فيما بيني وبينك الآن) يحتمل البين المكاني والمعنوي.

قوله (على الصبر منك) في الموالي والمعادي وكليهما وهو حال عن فاعل تفي، والصبر ملكة تحمل النفس على تحمل المكاره والمشاق.

وقوله (على كظم الغيظ) يناسب الفريقين وما عطف عليه إنما يناسب الثاني ولذلك أعاد كلمة «على» وكظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه بحبس النفس من المكافاة والمجازاة ولهذه الوصية صبر (عليه السلام) على ما فعلوا.

قوله (وانتهاك حرمتك) حرمة الرجل ما تجب عليه وعلى غيره حفظه ورعايته مثل عزته ورتبته وأهله وغير ذلك، وانتهاكها عدم رعايتها وتناولها بما لا يحل، والمبالغة في خرقها، وقد أشار به وبما سبق إلى ما فعله الخلفاء الثلاثة أولا وبنو أمية ثانيا وبنو عباس ثالثا وهكذا إلى زمان ظهور صاحب الأمر عليه الصلاة والسلام.

قوله (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة) الفلق بالسكون الشق ومنه فالق الحب والنوى أي الذي يشق حبة الطعام ونوى التمر للإنبات، والنسمة بالتحريك النفس من نسيم الريح، ثم سميت بها النفس أي ذات الروح وبرؤها خلقها وإيجادها من كتم العدم وكان (عليه السلام) كثيرا ما يقسم بها إذا اجتهد في يمينه لعظمة هذا الفعل وكمال اختصاصه بالله القادر المختار.

قوله (يا محمد عرفه أنه ينتهك الحرمة) لما لم يصرح (صلى الله عليه وآله) بأنه ينتهك حرمته ويهراق دمه حياء ولا يدل عليهما قوله «وانتهاك حرمتك» صريحا أمره جبرئيل (عليه السلام) بأن يعرفه ذلك صريحا فكشف الله تعالى حجاب السمع فأسمعه صوت الوحي بلا واسطة رعاية لحياء النبي والله لا يستحيي من الحق. وفي بعض النسخ: أعلمه بدل عرفه.

قوله (بدم عبيط) العبيط من الدم الخالص الطري.

قوله (فصعقت) صعق الرجل - كسمع - صعقة وتصعاقا أي غشي عليه أو صعقه غيره، ولم يكن ذلك لخوفه من القتل بل لشدة السرور من سماع الوحي أو لسماع الوحي فجأة، وفيه دلالة على

ص:100

كمال القوة النبوية.

قوله (ومزق الكتاب) التمزيق التخريق والتقطيع، ولعل المراد بتمزيقه تقطيع أوراقه وتبديل أحكامه وتغيير ألفاظه.

قوله (صابرا محتسبا) أي طالبا لوجه الله تعالى وثوابه من احتسب بالشيء إذا اعتد به وجعله في الحساب، والحسب بالسكون العد والاحتساب منه كالاعتداد من العد، وإنما قيل: احتسب العمل لمن ينوي به وجه الله لأن له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، كذا في الفائق والنهاية.

قوله (فقال سنن الله وسنن رسوله) السنن جمع السنة وهي في الأصل الطريقة وفي الشرع ما أمر به النبي ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلا، ولعل المراد بها هنا جميع ذلك كما هو الظاهر أو ما يتعلق به أمر الخلافة بقرينة المقام.

قوله (شيئا شيئا وحرفا حرفا) يريد أن فيها جميع وقائعهم ونوائبهم، ويحتمل أن يراد بالشيء الوقايع الكلية وبالحرف الوقائع الجزئية والتكرار لإفادة الشمول في كليهما.

قوله (أما سمعت) استشهاد لما ذكر من أن في كتاب الوصية جميع ذلك.

قوله (إنا نحن نحيي الموتى) أي إنا نحن نحيي الموتى بالبعث أو الهداية ونكتب ما قدموا من الأعمال مطلقا وآثارهم من علم أظهروه وظلم أسسوه وغير ذلك كل شيء أحصيناه في إمام مبين وهو كتاب الوصية، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: صحيفة الأعمال، والجميع محتمل.

قوله (فقالا بلى بقبوله) أي بلى فهمناه وقبلناه متلبسين بقبوله في الواقع والآن، وليس قوله «بقبوله» في أكثر النسخ.

قوله (وصبرنا) معطوف على الفعل المفهوم من قوله بلى، وكون الواو للحال بتقدير قد بعيده.

قوله (وفي نسخة الصفواني زيادة) هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران الجمال ثقة. أو أبو عبد الله عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني المذكور في إعلام الورى وغيره في فضل كرامات الرضا (عليه السلام) والله أعلم.

* الأصل:

[5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن أبي عبد الله البزاز، عن حريز قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما أقل بقاءكم أهل البيت وأقرب آجالكم بعضها من بعض مع حاجة الناس إليكم؟! فقال: إن لكل واحد منا صحيفة فيها ما يحتاج إليه أن يعمل به في مدته، فإذا انقضى ما فيها مما أمر به عرف أن أجله قد حضر. فأتاه النبي (صلى الله عليه وآله) ينعى إليه نفسه

ص:101

وأخبره بما له عند الله وأن الحسين (عليه السلام) قرأ صحيفته التي أعطيها، وفسر له ما يأتي بنعي وبقي فيها أشياء لم تقض، فخرج للقتال وكانت تلك الأمور التي بقيت أن الملائكة سألت الله في نصرته، فأذن لها ومكثت تستعد للقتال وتتأهب لذلك حتى قتل فنزلت وقد انقطعت مدته وقتل (عليه السلام)، فقالت الملائكة: يا رب أذنت لنا في الانحدار وأذنت لنا في نصرته، فانحدرنا وقد قبضته، فأوحى الله إليهم: أن الزموا قبره حتى تروه وقد خرج فانصروه وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته فإنكم قد خصصتم بنصرته وبالبكاء عليه، فبكت الملائكة تعزيا وحزنا على ما فاتهم من نصرته، فإذا خرج يكونون أنصاره].

* الشرح:

قوله (فأتاه النبي (صلى الله عليه وآله)) أي فيأتيه وينعاه أي بخبره بقرب أجله وموته وبما له عند الله من الكرامة ورفع المنزلة فيختار اللقاء على البقاء شوقا إلى الله وإنما عبر عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع، وعدى ينعى بإلى للتأكيد في التعدية ونفسه بالسكون تأكيد للمنصوب في أتاه، أو بدل عن المجرور في إليه وأما فتح الفاء بمعنى القرب أو الروح على أن يكون مفعول ينعى أي ينعى إليه قرب أجله على حذف المضاف إليه أو خروج روحه على حذف المضاف فبعيد.

قوله (وفسر له ما يأتي بنعي) أي بين له فيها ما يأتيه ويعمل به في مدة عمره مع نعيه وخبر موته.

قوله (وبقي فيها أشياء لم تقض) أي لم يتعلق بها القضاء والحتم وكان في معرض البداء، والواو للعطف على ما فسر أو للحال بتقدير قد.

قوله (وتتأهب) أي تستعد، وأهبة الحرب عدتها والعطف للتفسير.

قوله (حتى تروه وقد خرج) دل على الرجعة، ومما دل عليها ما رواه المصنف في كتاب الروضة (1) بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) قال: «إنه يخرج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهب لكل بيضة وجهان المؤدون إلى الناس أن هذا الحسين (عليه السلام) قد خرج، حتى لا يشك المؤمنون فيه وأنه ليس بدجال ولا شيطان.

والحجة القائم بين أظهرهم» الحديث، وعنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أنه قال: قال «لو قد قام قائمنا بعث الله إليه قوما من شيعتنا قباع، سيوفهم على عواتقهم فيبلغ ذلك قوما من شيعتنا لم

ص:102


1- (1) تحت رقم 250.

يموتوا فيقولون: بعث فلان وفلان وفلان من قبورهم وهم مع القائم فيبلغ ذلك قوما من عدونا فيقولون: يا معشر الشيعة ما أكذبكم; هذه دولتكم فأنتم تقولون فيها الكذب! لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون إلى يوم القيامة قال: فحكى الله قولهم» (1) أخذنا منه موضع الحاجة. وعن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون) قال: إذا قام القائم بعث إلى بني أمية بالشام (2) فهربوا إلى الروم فيقول لهم الروم لا ندخلنكم حتى تتنصروا فيعلقون في أعناقهم الصلبان فيدخلونهم فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح. فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا قال:

فيدفعونهم إليهم فذلك قوله (لا تركضوا وارجعوا ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون) قال يسألهم الكنوز وهو أعلم بها قال: فيقولون (يا ويلنا إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعويهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) بالسيف (3) وذكر الصدوق في كتاب الاعتقادات طائفة من الآيات التي دلت على صحة الرجعة، ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إليه.

ص:103


1- (2) المصدر تحت رقم 14.
2- (3) «إذا قام بعث إلى بني أمية» المتبادر إلى الذهن أنه ليس من أخبار الرجعة وإن حمله الشارح عليها، بل الظاهر منه أن القائم يظهر في ملك بني أمية وهم بالشام فيطلبهم فيفرون منه ويتنصرون إلى آخر ما في الحديث لكن زالت دولتهم بظهور العباسيين ولم يظهر القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) في دولتهم فحمله الشارح على الرجعة ولولا ذلك لوجب طرح الرواية والحكم بكونها موضوعة من بعض الناس في عصر الأمويين أو يقال: وهم الراوي فسمع من الإمام (عليه السلام) الأخبار بغلبة بني هاشم على بني أمية وقتلهم وتشريدهم وإزالة ملكهم وذهب ذهنه إلى ظهور القائم عجل الله فرجه وأدخل فيه بعض المبالغات كما هو دأبهم مع أن مقصود الإمام (عليه السلام) غلبة العباسيين عليهم وقتلهم كما فعل السفاح ولكن الشارح تحرز من طرح الرواية أو الحكم بغلط الراوي وحمله على الرجعة إذ كان أسهل عليه من الطرح. (ش)
3- (1) الروضة تحت رقم 15.

باب الأمور التي توجب حجة الإمام (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام):

إذا مات الإمام بم يعرف الذي بعده؟ فقال: للإمام علامات منها أن يكون أكبر ولد أبيه ويكون فيه الفضل والوصية، ويقدم الركب فيقول: إلى من أوصى فلان؟ فيقال: إلى فلان، والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل، تكون الإمامة مع السلاح حيثما كان.

* الشرح:

قوله (منها أن يكون أكبر ولد أبيه) المراد أنه أغلبي أو المراد أنه كذلك إذا كان الإمامة في الولد أو السؤال والجواب عن إمام بعده (عليه السلام) فلا يرد النقض عكسا بالحسين (عليه السلام).

قوله (ويكون فيه الفضل والوصية) أريد بالفضل الصلاح، وكمال النفس بالفضائل والعلم بالشرائع كلها، وأريد بالوصية الوصية الظاهرة المعروفة عند الناس فيكون قوله «ويقدم الركب» حينئذ توضيح وتفسير له ويحتمل أن يراد بها الوصية النبوية أو التي جاء بها جبرئيل (عليه السلام) وما بعده حينئذ علامة مستقلة.

قوله (والسلاح فينا) أي سلاح النبي فينا أهل البيت بمنزلة التابوت في بني إسرائيل فكما أن الملك والنبوة في إسرائيل كانا مع التابوت حيث ما كان كذلك يكون الإمامة فينا مع السلاح حيثما كان.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن يزيد شعر، عن هارون بن حمزة عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المتوثب على هذا الأمر المدعي له، ما الحجة عليه؟ قال:

يسأل عن الحلال والحرام، قال: ثم أقبل علي فقال: ثلاثة من الحجة لم تجتمع في أحد إلا كان صاحب هذا الأمر: أن يكون أولى الناس بمن كان قبله ويكون عنده السلاح ويكون صاحب الوصية الظاهرة التي إذا قدمت المدينة سألت عنها العامة والصبيان: إلى من أوصى فلان؟ فيقولون: إلى فلان بن فلان.

* الشرح:

ص:104

قوله (قال يسأل عن الحلال والحرام) هذه حجة للعلماء الذين يعلمون مسالك الشريعة ومناهجها ويميزون بين الحق والباطل، ويعرفون قدر علم كل أحد بالسؤال عنه.

قوله (أولى الناس) في القرابة والكبر والعلم والأخلاق.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له: بأي شيء يعرف الإمام؟ قال: بالوصية الظاهرة وبالفضل، إن الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج، فيقال: كذاب ويأكل أموال الناس، وما أشبه هذا.

* الشرح:

قوله (بالوصية الظاهرة) يعني المعرفة بين الناس كوصية النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) ووصية علي (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام) وهكذا لا يقال: وصية الرضا (عليه السلام) إلى ابنه محمد بن علي (عليهما السلام) لم تكن ظاهرة معروفة; لأنا نقول: وصيته كانت ظاهرة إذ وصاه عند خروجه إلى خراسان، وأما وصية الحسن بن علي العسكري إلى ابنه صاحب الزمان صلوات الله عليهما فمعروفة أيضا عند أهل العلم.

قوله (وبالفضل) قد عرفت أن المراد بالفضل جميع كمالات النفس وهو يتوقف على كمال القوة العقلية والعملية، وكمال القوة الغضبية والشهوية، ويظهر حينئذ حقيقة التعليل المذكور بعده.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما علامة الإمام الذي بعد الإمام؟ فقال: طهارة الولادة، وحسن المنشأ، ولا يلهو ولا يلعب.

* الشرح:

قوله (طهارة الولادة) بأن لا يطعن عليه في النسب أو يراد أعم منه كأن يتولد مختونا مقطوع السرة غير ملوث بالدم.

قوله (وحسن المنشأ) المنشأ مصدر أو مكان من نشأ إذا خرج وابتدأ، أيضا إذا كبر وشب أي ارتفع عن حد الصبا وقرب الإدراك، ولعل المراد أنه اتصف بالكمال من حد الصبا إلى زمان الإدراك لقوة عقله وتقدس ذاته. «ولا يلهو» أي لا يغفل عن الحق ولا يشغل عنه بغيره ولا يلعب يعني لا يعمل عملا لا يترتب عليه نفع ولا يكون فيه رضى من الله تعالى وما صدر عنه في بعض الأوقات

ص:105

من المزاح فإنما هو من لطف طبعه وكرم أخلاقه.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أحمد بن عمر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الدلالة على صاحب هذا الأمر، فقال: الدلالة عليه: ا لكبر والفضل والوصية إذا قدم الركب المدينة فقالوا: إلى من أوصى فلان؟ قيل: فلان بن فلان ودوروا مع السلاح حيثما دار، فأما المسائل فليس فيها حجة.

* الشرح:

قوله (فقال الدلالة عليه الكبر) أي الدليل عليه الكبر باعتبار السن كما مر يقال كبر الرجل من باب لبس يكبر كبرا أي أسن أو باعتبار القدر والمنزلة يقال كبر من باب شرف فهو كبير إذا عظم قدره وارتفعت منزلته.

قوله (فأما المسائل فليس فيها حجة) أي للعوام لأن عقولهم لا يبلغها. فلا ينافي ما مر من أن الحجة أن يسأل عن الحلال والحرام وما سيأتي من أنه «يسئل فيجيب» لأن هذه الحجة للخواص.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) [قال]: إن الأمر في الكبير ما لم تكن فيه عاهة.

* الشرح:

قوله (ما لم تكن فيه عاهة) أي آفة بدنية أو عقلية، فإن منصب الإمامة يتنزه عن النقص في الأعضاء والعقول.

* الأصل:

7 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك بم يعرف الإمام؟ قال: فقال: بخصال، أما أولها فإنه بشيء قد تقدم من أبيه فيه بإشارة إليه لتكون عليهم حجة، ويسأل فيجيب وإن سكت عنه ابتدأ، ويخبر بما في غد، ويكلم الناس بكل لسان، ثم قال لي: يا أبا محمد أعطيك علامة قبل أن تقوم، فلم ألبث أن دخل علينا رجل من أهل خراسان، فكلمه الخراساني بالعربية فأجابه أبو الحسن (عليه السلام) بالفارسية فقال له الخراساني: والله جعلت فداك ما منعني أن أكلمك بالخراسانية غير أني ظننت أنك لا تحسنها، فقال: سبحان الله

ص:106

إذا كنت لا أحسن أجيبك فما فضلي عليك؟ ثم قال لي: يا أبا محمد إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه الروح، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام.

* الشرح:

قوله (فإنه بشيء) اريد به الوصية بالخلافة أو مطلقا كما مر.

قوله (ويسئل فيجيب) كما هو شأن العالم الكامل في ذاته المكمل لغيره، فإن قصده لما كان إرشاد الخلق وهدايتهم كان يجيب بالحق إذا سئل ويبتدئ بالكلام إن لم يسأل تحصيلا لمقصوده وتكميلا لعقولهم.

قوله (ويخبر بما في غد) يعني يكون له علم ببواطن الأمور كما يكون له علم بظواهرها ويكون الغائب عنده كالشاهد.

قوله (ويكلم الناس بكل لسان) من باب مقابلة المتعدد بالمتعدد وتوزيع الجمع على الجمع أي يكلم كل صنف من الناس بلغتهم من غير حاجة إلى المترجم لئلا يفوت الغرض عند عدمه ولا يلحقه النقص بالحاجة إلى الرعية.

قوله (أعطيك علامة قبل أن تقوم) هذا إشعار بأنه كان عالما بالغائب كالشاهد لأنه أخبر بما سيقع وقد وقع.

قوله (لا تحسنها) أي لا تعلمها، يقال: فلان يحسن الشيء أي يعلمه، وفيه دلالة على أن هذا ومثله من سوء الأدب لا يقدح في اعتقاد القائل وإيمانه.

قوله (فما فضلي عليك) دل على أن الإمام يجب أن يكون أفضل من المأموم في جميع الخصال حتى لولا كان في الأمة عالم بشيء ما لم يعلمه الإمام لا يصلح أن يكون الإمام إماما له ولغيره.

ص:107

باب ثبات الإمامة في الأعقاب وأنها لا تعود في أخ ولا عم ولا غيرهما من القرابات

اشاره:

1- علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين أبدا، إنما جرت من علي بن الحسين كما قال الله تبارك وتعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فلا تكون بعد علي بن الحسين (عليهما السلام) إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.

2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: أبى الله أن يجعلها لأخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام).

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه سئل: أتكون الإمامة في عم أو خال؟ فقال: لا، فقلت: ففي أخ؟ قال: لا، قلت: ففي من؟ قال: في ولدي - وهو يومئذ لا ولد له -.

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن سليمان ابن جعفر الجعفري، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين، إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي نجران، عن عيسى بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن كان كون - ولا أراني الله - فبمن أئتم؟ فأومأ إلى ابنه موسى (عليه السلام) قال: قلت: فإن حدث بموسى حدث فبمن أئتم؟ قال: بولده، قلت: فإن حدث بولده حدث وترك أخا كبيرا وابنا صغيرا فبمن أئتم؟ قال: بولده ثم واحدا فواحدا. «وفي نسخة الصفواني»: ثم هكذا أبدا.

* الشرح:

قوله (إن كان كون ولا أراني الله) كان تامة أي إن حدث حدث ولا أراني الله ذلك الحدث، وأراد به موته (عليه السلام).

ص:108

باب ما نص الله عزوجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحدا فواحدا

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام). فقلت له: إن الناس يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عزوجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهم، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ونزلت في علي والحسن والحسين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي: من كنت مولاه، فعلي مولاه.

وقال (صلى الله عليه وآله): أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عزوجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك وقال: لا تعلموهم، فهم أعلم منكم، وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يبين من أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان، لكن الله عزوجل أنزله في كتابه تصديقا لنبيه (صلى الله عليه وآله) (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام)، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء في بيت ام سلمة، ثم قال: اللهم إن لكل نبي أهلا وثقلا وهؤلاء أهل بيتي وثقلي، فقالت أم سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي فلما قبض رسول لله (صلى الله عليه وآله) كان علي أولى الناس بالناس لكثرة ما بلغ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإقامته للناس وأخذه بيده، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحدا من ولده إذا لقال الحسن والحسين: إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك، وبلغ فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما بلغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك، فلما مضى علي (عليه السلام) كان الحسن (عليه السلام) أولى بها لكبره

ص:109

فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله عزوجل يقول: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فيجعلها في ولده إذا لقال الحسين: أمر الله بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلغ في رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما بلغ فيك وفي أبيك وأذهب عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى الحسين (عليه السلام) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عليه السلام) فجرى تأويل هذه الآية (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين، ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي (عليه السلام). وقال: الرجس هو الشك والله لا نشك في ربنا أبدا.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد. والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد. عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي الحلبي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثل ذلك.

* الشرح:

قوله (فقال نزلت في علي بن أبي طالب) هذا هو الحق الذي لا ريب فيه دون ما ذكره العامة من أنها نزلت في سلاطين الأمة وأمرائهم وإن كانوا من أهل الجور، وقد بسطنا القول فيه سابقا فلا نعيده.

قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) رواه مسلم والبخاري وأحمد بن حنبل في مسنده (1) عن

ص:110


1- (1) قوله «رواه مسلم والبخاري» الدليل على إمامة آحاد الأئمة (عليهم السلام) هو النص إذ لا طريق للعقل إلى تعيين أشخاصهم والنص يجب أن يكون موجبا لليقين ولا يحصل اليقين في المنقول إلا بالتواتر فيثبت إمامتهم واحدا واحدا بالتواتر كما دلت عليه الأحاديث الواردة في الباب السابق «إذا قدم الركب المدينة فقالوا: إلى من أوصى فلان؟ قيل: إلى فلان بن فلان» وقد يمكن إثبات الإمامة في الدعوى المقارنة للمعجزة. وأما رواية «من كنت مولاه» فقد أثبت علماؤنا تواترها في كتبهم في الإمامة بما يغني عن تكرارها وقد صنفوا كتبا في حديث الغدير على ما هو مشهور ولا يحتاج إلى التمسك بقول مسلم والبخاري من آحاد المحدثين وقد رويا في صحيحيهما قوله (صلى الله عليه وآله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وحمله الراية في خيبر. وأما رواية «من كنت مولاه» فقد رواه أحمد بن حنبل في مسنده وروى فيه «أنه أول رجل صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأنه (صلى الله عليه وآله) أمر بحبه وبسد الأبواب إلا بابه، ولا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وأنت ولي كل مؤمن بعدي» ويشترك معه الترمذي في رواية جميع ذلك وروى الترمذي أيضا «أنه كان أحب الخلق إلى الله تعالى» وروى أحمد «من سب عليا فقد سب النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي ولي النبي (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة» وروى الترمذي علي أخو النبي (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة وقوله (صلى الله عليه وآله): أنا دار الحكمة وعلي بابها روى أحمد إخباره (عليه السلام) عن قتل نفسه وأما ما ذكره الشارح من رواية مسلم والبخاري لرواية من كنت مولاه فهو أعلم به. (ش)

عدة طرق بأسانيده المتصلة إلى عبد الله بن عباس وإلى عائشة قال: «لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى حجة الوداع نزل بالجحفة فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فأمره أن يقوم بعلي (عليه السلام) فقال: «أيها الناس ألستم تزعمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره وأعز من أعزه وأعن من أعانه» قال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم، وفيه دلالة واضحة على أن ولايته (عليه السلام) للمؤمنين كولايته (صلى الله عليه وآله) لهم من غير تفاوت ولا تقييد بوقت ولا تخصيص بشرط، وهذا نص في الخلافة.

قوله (أوصيكم بكتاب الله) روى مثله مسلم في صحيحه (1) وصاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة والترمذي في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده بطرق عديدة مع اختلاف يسير وفيه أيضا دلالة واضحة على النص بخلافته (عليه السلام) حيث شاركه مع القرآن كما وجب على كل من آمن بالله وبرسوله التمسك بالقرآن كذا وجب عليه التمسك بذيل عصمته (عليه السلام) وإلا فرق بينهما وترك وصية نبيه.

قوله (وقال لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم) لصفاء نفوسهم، ونقاء قلوبهم، وكثرة معاشرتهم ودوام ملازمتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، وفيهم باب مدينة علمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد اعترف العامة بكمال علمه ونهاية فضله. قال المازري: لا يخفى أن عليا (رضي الله عنه) كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة بعضها كاف في استحقاق الإمامة، وقد اجتمع فيه من حميد الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة حتى قيل إنه من أشجع الصحابة وأعلمهم وأزهدهم وأفصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا وأقربهم نسبا وصهرا. كان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة، وقد قال فيه رباني هذه الأمة ابن عباس: ولم يبق محمدة من محامد الدين والدنيا إلا وهو موصوف بها مع ما ورد فيه من الآثار المنبهة على مناقبه.

وقال القرطبي بعد ذكر نسبه (عليه السلام): اتفق الجمهور على أنه أول من أسلم لحديث «أولكم واردا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب». وقد عبد الله تعالى قبل أن يعبده أحدا من هذه الأمة بخمس سنين وشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشاهد كلها إلا تبوك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفه مع أهله وقال «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها

ص:111


1- (1) راجع الصحيح: 7 / 123.

سيدة نساء أهل الجنة. وله من الشجاعة والعلم والحلم والزهد والورع وكرم الأخلاق ما لا يسعه كتاب.

قوله (وقال إنهم إن يخرجوكم) وفيه أيضا دلالة واضحة على ما ذكرنا، وتعريض لمن عاداهم بأنهم يخرجون من تبعهم من باب الهدى ويدخلونهم في باب الضلالة كما ترى من أئمة الجور وأمراء الجهل بالنسبة إلى تابعيهم.

قوله (لادعاها آل فلان وآل فلان) أي آل تيم وآل عدي. جواب الشرط وهو «سكت ولم يبين» فإن قلت: القاعدة العربية يقتضي انتفاء ادعائهما عند وقوع البيان وعدم السكوت; والواقع خلافه، قلت: تقدير الجواب لا يكن الادعاء أو لتوجه الادعاء أو كان للادعاء وجه للنسبة والقرابة البعيدة، وأما حمل الآلين على غير ما مر فبعيد جدا فتأمل.

قوله (ولكن الله عزوجل أنزله) أي أنزل بيان أهل بيته وتفسيرهم تصديقا له فيما قال من أنهم لا يفارقون الكتاب، ولا يخرجونكم من باب الهدى، ولا يدخلونكم في باب ضلالة لأن المطهر من الرجس كله شأنه ذلك، وفي بعض النسخ. أنزل بدون الضمير، والمفعول حينئذ قوله «إنما يريد الله».

قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

نفى الرجس عنهم على وجه المبالغة حيث أكد ذلك بوجوه: الأول «إنما» الدال على الحصر والتأكيد، الثاني لام التأكيد في ليذهب، الثالث لفظ الإذهاب الدال على الإزالة بالكلية، الرابع التعريف بلام الجنس الذي يستلزم نفيه نفي جميع جزئياته. الخامس الإتيان بالمضارع الدال على الاستمرار، السادس تقديم الظرف على المفعول الدال على كمال العناية والاختصاص، السابع الإتيان بأهل البيت لا بأسمائهم تعظيما لهم، الثامن النداء على وجه الاختصاص، التاسع الإتيان بالتطهير الدال على التنزيه عن كل دنس، العاشر الإتيان بالمصدر تأكيدا.

قوله (فكان علي والحسن والحسين) أشار بذلك إلى أن الآية الكريمة نزلت في شأن هؤلاء الطاهرين لا في شأن الزوجات كما يتوهم بالنظر إلى ما قبلها وما بعدها ويدل على بطلان هذا التوهم أمور: الأول أنه أخرج أم سلمة عنها ولو كان المراد الزوجات لدخلت فيها، الثاني أنه أشار إلى علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) بقوله «اللهم هؤلاء أهل بيتي» وهذا يدل على أنهم المقصودون من أهل البيت دون غيرهم، الثالث أن «يطهركم» و «عنكم» يدل على ما ذكرنا إذ لو كان المراد الزوجات لقيل عنكن ويطهركن، الرابع أن نفي حقيقة الرجس المستلزم لنفي جميع أفراده على العموم صريح في المطلوب لأن نفيه على هذا الوجه عبارة عن العصمة، فيمتنع دخول الزوجات في الخطاب لعدم عصمتهن. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن دخول الزوجات في الخطاب

ص:112

المذكور جائز من باب التغليب.

واعلم ان روايات العامة أيضا دلت على أن هذه الآية الشريفة نزلت في شأن هؤلاء الطاهرين.

روى مسلم في صحيحه (1) بإسناده عن عائشة قالت: «خرج النبي (صلى الله عليه وآله) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» قال عياض: المرط: كساء والجمع مروط، ومرحل بالحاء المهملة ويروى بالجيم أي فيه صورة الرجال أو صور المراجل وهي القدور ويقال: ثوب مرحل بالإضافة وثوب مرحل بالوصف.

وقال القرطبي: هذا قول الشارحين ويظهر لي أن المراد به أنه ممشوط خمله ربيدة لأنه (صلى الله عليه وآله) كيف يلبس ما فيه الصور وقد نهى عن ذلك وهتك الستر الذي هي فيه وغضب عند رؤيته، ثم قال القرطبي: الآية تدل على أن المراد بأهل البيت المعظمون الذين عظمهم النبي (صلى الله عليه وآله) بإدخالهم في مرطه.

قال ابن عطية: قال ابن عباس وعكرمة: المراد بأهل البيت زوجاته، وقال الجمهور: المراد من أدخلهم معه في المرط لا غير لأحاديث وردت ولقوله تعالى: (ويطهركم) ولو أراد الزوجات لقال ويطهركن، ولحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ونزلت هذه الآية في وفي علي وفاطمة والحسن والحسين» وقال بعض الشافعية: أهل الرجل من يجمعه وإياهم مسكن واحد ثم تجوز فاستعمل فيمن يجمعه وإياهم نسب ثم نص في الحديث ما ذكر.

أقول: الأحاديث في قول ابن عطية «لأحاديث وردت» منها ما أشار إليه من حديث أبي سعيد الخدري، ومنها ما رواه صاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثاني عن الثعلبي من طرق منها عن أم سلمة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لفاطمة: «إيتيني بزوجك وابنيك فأتت بهم فألقى عليهم كساء، ثم رفع يده عليهم فقال: اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد فإنك حميد مجيد، قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فاجتذبه وقال: إنك لعلى خير» ومنها ما رواه أحمد بن حنبل والثعلبي بإسنادهما عن واثلة بن الأسقع قال: «جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه - أو قال كساء - ثم تلا هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق وأعلم» إن «كان» هنا

ص:113


1- (1) صحيح مسلم: 7 / 130.

يحتمل أن تكون تامة عبارة عن الحدوث والوجود وأن تكون ناقصة خبرها محذوف أي حاضرين أو خبرها قوله «في بيت أم سلمة» أخره اختصارا لتعلقه بالفعلين على سبيل التنازع.

قوله (تحت الكساء) الكساء بالكسر والمد واحدة الأكسية وأصله كساو لأنه من كسوت إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت.

قوله (إن لكل نبي أهلا وثقلا) قال الأزهري: أهل الرجل أخص الناس به وقيل: أهله المختص به اختصاص القرابة، وقيل: خاصته الذي ينسب إليه، وثقل الرجل بالتحريك حشمه الذين يعينونه في أمره وسمى عترته ثقلا لأنهم يعينونه في ترويج دينه.

قوله (أولى الناس بالناس) أي أقومهم بأمرهم وأولاهم بالتصرف في أمورهم كما كان النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك في حال حياته.

قوله (لكثرة ما بلغ فيه) روايات التبليغ كثيرة متواترة مشهورة وفي كتب العامة والخاصة والسير مسفورة مذكورة وما بلغ أحد من الأنبياء في وصيه مثل ما بلغ نبينا (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام)، فيا عجبا لحالهم مع كثرة رواياتهم كيف ذهبوا إلى أنه (صلى الله عليه وآله) لم يوص إلى علي (عليه السلام) واستدلوا عليه بما رواه مسلم (1) عن الأسود بن يزيد قال: «ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا فقالت: متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري، وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه» أقول: ذكرهم ذلك عندها دل على شيوع الوصاية عندهم، وأما شهادة عائشة مع بغضها لعلي (عليه السلام) لأمر ما كما ذكره الآبي في كتاب إكمال الإكمال وهو من أعاظم علمائهم ومع كونها شهادة على النفي وهي غير مقبولة إجماعا فكيف تسمع وتقبل. وقال الآبي في الكتاب المذكور ونعم ما قال: سبب الوصية إنما هو حدوث المرض لا الانتهاء إلى هذه الحالة التي ذكرتها عائشة وحينئذ لا يتقرر ما ذكرت دليلا على أنه لم يوص لاحتمال أن يكون أوصى قبل ذلك وهذا الكلام الحق قد أجرى الله على لسان هذا الناصبي ليكون حجة عليه يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.

قوله (وإقامته للناس وأخذه بيده) عطف على الكثرة إشارة إلى ما وقع في غدير خم.

قوله (فلما مضى علي لم يكن يستطيع) أي فلما قرب وقت مضيه لم يكن قادرا على نقل الوصية عن محلها إلى غيره لعدم المقتضي له وتحقق المانع منه عقلا ونقلا والفعل عند عدم المقتضى وتحقق المانع غير مقدور ولعل المقصود هو الإشارة إلى أنه إذا لم يكن لصاحب الأمر أن ينقل الحق عن صاحبه كيف يجوز ذلك لغيره.

ص:114


1- (1): 5 / 75 كتاب الوصية.

قوله (كان الحسن أولى بها لكبره) أي كان أولى بها من الحسين (عليه السلام) لأنه كان أكبر منه وقد مر أن الإمامة لأكبر الأولاد.

قوله (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) أي أولى ببعض في التوارث من الأجانب في القرآن أو في حكم الله أو في اللوح المحفوظ المكتوب فيه جميع الأشياء، والظاهر أنه بمنزلة التعليل للفعل المنفي، يعني أن فعله ذلك ونقل الوصية إلى ولده باعتبار مضمون هذه الآية لكون ولده أقرب إليه من أخيه الحسين (عليه السلام) لا يجوز، لأن الحسين (عليه السلام) ورث العلم والإمامة من أبيه حيث أن أباه أوصى إليه وإلى أخيه الحسن (عليهما السلام) على أن يكون الحسن (عليه السلام) مقدما عليه فهو الأولى بالإرث من ولد الحسن (عليه السلام).

قوله (لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع) كإخوته وأولاد أخيه مثل محمد بن الحنفية وأولاد الحسن (عليه السلام) إذ الحجج المذكورة لم تكن لأحد منهم وفي قوله «كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه الخ» دلالة على ما ذكرنا من أن وراثة الحسين (عليه السلام) من أبيه، وأن أباه أوصى إليه أيضا فافهم.

قوله (ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عليه السلام) يجري (1)) الفضاء المكان والساحة وقولهم أفضى فلان إلى فلان إذا وصل إليه حقيقته صار في فضائه وساحته كذا في المغرب، وقوله «فجرى» خبر صارت بحذف العائد أي يجري تأويل هذه الآية يعني ورث الولد دون سائر الأقارب.

قوله (والرجس هو الشك) والرجس مسبب عن الشك في الله والحمل للمبالغة في السببية حتى كان السبب صار نفس المسبب كما أن الحصر كذلك أيضا.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة عن ابن مسكان، عن عبد الرحيم بن الروح القصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فيمن نزلت؟ فقال: نزلت في الإمرة، إن هذه الآية جرت في ولد الحسين (عليه السلام) من بعده، فنحن أولى بالأمر وبرسول الله (صلى الله عليه وآله) من المؤمنين والمهاجرين والأنصار، قلت: فولد جعفر لهم فيها نصيب؟ قال: لا، قلت: فلولد العباس فيها نصيب؟ فقال: لا، فعددت عليه بطون بني عبد المطلب، كل ذلك يقول: لا، قال: ونسيت ولد الحسن (عليه السلام) فدخلت بعد ذلك عليه، فقلت له: هل لولد الحسن فيها نصيب؟ فقال: لا، والله يا عبد الرحيم! ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا.

ص:115


1- (1) كذا وفي المتن «فجرى» وقال في «المرآة»: أكثر النسخ «فجرى».

* الشرح:

قوله (نزلت في الإمرة) الإمرة والإمارة بالكسر فيهما الولاية يقال أمر فلان بالضم أي صار أميرا واليا وأمره إذا جعله أميرا صاحب الإمارة والولاية.

قوله (إن هذه الآية جرت) أي قوله تعالى: (وأولو الأرحام) جرى حكمه في ولد الحسين بعده لتقدمه على سائر الأقرباء في وراثة الإمارة، وأما الحسين (عليه السلام) فهو مقدم على أولاد أخيه الحسن (عليه السلام) وغيرهم من الأقارب.

قوله (فلولد جعفر) هو جعفر بن أبي طالب أخو أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محمد الهاشمي عن أبيه، عن أحمد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) قال: إنما يعني أولى بكم أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم، الله ورسوله والذين آمنوا يعني عليا وأولاده والأئمة (عليهم السلام) إلى يوم القيامة، ثم وصفهم الله عزوجل فقال: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاة الظهر وقد صلى ركعتين وهو راكع وعليه حلة قيمتها ألف دينار وكان النبي (صلى الله عليه وآله) كساه إياها وكان النجاشي أهداها له فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم تصدق على مسكين، فطرح الحلة إليه وأومأ بيده إليه أن احملها. فأنزل الله عزوجل فيه هذه الآية وصير نعمة أولاده بنعمته فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة، يكون بهذه النعمة مثله فيتصدقون وهم راكعون والسائل الذي سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) من الملائكة والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة.

* الشرح:

قوله (إنما يعني أولى بكم) هذا التفسير هو الحق، وأما ما ذهب إليه بعض العامة من أن المراد بالولي المحب فينا فيه الحصر وينافيه ما رواه الثعلبي بإسناده عن عباية بن ربعي عن أبي ذر قال:

«صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا إلا علي (عليه السلام) فأعطاه وهو راكع بحضرة النبي فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال «اللهم إن موسى (عليه السلام) سألك فقال (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - من اتبعكما الغالبون) اللهم أنا محمد عبدك ونبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي واشدد به ظهري» قال أبو ذر: فما استتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل (عليه السلام)

ص:116

بهذه الآية (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة وهذا ظاهر في أن المراد بالولي صاحب الولاية والخلافة والوزارة وقد بسطنا القول فيه سابقا فلا نعيده.

قوله (يعني عليا (عليه السلام)) وافقتنا العامة في أن المراد به علي (عليه السلام) ورواياتهم أيضا تدل عليه، قال الثعلبي في تفسير هذه الآية: قال السدي: وعتبة بن أبي حكيم وغالب بن عبد الله: إنما عنى بهذه الآية علي بن أبي طالب لأنه مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه» ومثله قال الزمخشري في الكشاف.

قوله (ثم وصفهم الله) يحتمل أن يراد بالوصف النعت المعروف وأن يراد به البيان والتفسير فلا ينافي أن يكون بدلا وعلى التقديرين ترك العطف لأنه المناسب.

قوله (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) قال بعض النواصب: كيف أعطى الخاتم في الصلاة وهو يوجب فعلا كثيرا؟ الجواب: إن الروايات مختلفة، ففي بعضها أنه أعطى حلة وفي بعضها أنه أعطى خاتما والجمع محتمل باعتبار تعدد القضية، وعلى التقديرين يمكن الإعطاء من غير أن يتحقق فعل كثير، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه أومأ إلى السائل بيده فأخرجه السائل، يدل على ذلك ما رواه الثعلبي في حديث طويل عن أبي ذر قال: سأله سائل وكان (عليه السلام) راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره.

قوله (وعليه حلة) الحلة بالضم إزار ورداء كذا في المغرب.

قوله (كساه إياها) يقال: كسوته ثوبا فاكتسى.

قوله (وكان النجاشي أهداها له) قال المطرزي في المغرب: النجاشي ملك الحبشة بتخفيف الياء سماعا من الثقات وهو اختيار الفاراني. وعن صاحب التكملة بالتشديد وعن الغوري كلتا اللغتين، وأما تشديد الجيم فخطأ واسمه أصحمة والسين تصحيف، وأورد على المطرزي بأن الفاراني ذكره في المنسوب بالتشديد وفي فعالي بالتخفيف. فنظر المطرزي في فعالى وغفل عن المنسوب، وقال الجوهري: النجاشي بالفتح اسم ملك الحبشة، وقال البغوي: اسمه أصحمة بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء المهملتين، وقال عياض: وهو الصواب والمعروف صحمة بفتح الصاد وإسكان الحاء، وقيل: إنما اسمه صمحة بتقديم الميم على الحاء والصواب الأول، وقال ابن قتيبة: معناه بالعربية عطية، وقال الآبي: يعني أنه مرادف العطية لا أنه تفسير له لأنه علم والأعلام لا تفسر معانيها، فلا يقال زيد معناه كذا وإنما تفسر المشتقات، فيقال: معنى العالم من قام به العلم.

وقال عياض: النجاشي لقب لملك الحبشة كما أن كسرى لملك الفرس، وهرقل وقيصر لملك

ص:117

الروم، وخاقان لملك الترك، والتبع لملك اليمن، والقيل لملك حمير، وقيل: القيل أقل درجة من الملك، وقيل: فرعون لكل من ملك مصر، ونمرود لكل جبار ملك قرية نمرود وإبراهيم (عليه السلام). وقال الآبي: هذه هي أعلام جنس كأسامة والنجاشي هذا هو الذي هاجر إليه جعفر وغيره فأكرم نزلهم فأكرمه الله بالجنة وكان يخفي إيمانه وصلى عليه النبي (صلى الله عليه وآله) في اليوم الذي مات فيه وذلك من معجزاته بإخباره عن الغيب وقد كانوا اختلفوا في أنه هل يعد من الصحابة أم لا بناء على اختلافهم في الصحابي هل هو من رآه وآمن به أو من آمن به وهو من أهل عصره وإن لم يره والمشهور هو الأول.

قوله (والسائل الذي سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) من الملائكة) سأله بأمر الله تعالى اختبارا وإظهارا لفضله على الصحابة. والفضيل بن يسار عطف على زرارة.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة وفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

أمر الله عزوجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر الله محمدا (صلى الله عليه وآله) أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله، ضاق بذلك صدر رسول الله وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عزوجل فأوحى الله عزوجل إليه (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) فصدع بأمر الله تعالى ذكره فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير خم فنادى الصلاة جامعة وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب.

قال عمر بن أذينة: قالوا جميعا غير أبي الجارود - وقال أبو جعفر (عليه السلام): وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عزوجل (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) قال أبو جعفر (عليه السلام): يقول الله عزوجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.

* الشرح:

قوله (وأبي الجارود) اسمه زياد بن المنذر زيدي أعمى، أعمى القلب كذاب إليه تنسب الجارودية، وحكى أنه سرحوب ونسب إليه السرحوبية من الزيدية وسماه بذلك أبو جعفر (عليه السلام) وذكر أن سرحوبا اسم شيطان وهو بالسين المهملة المضمومة والراء والحاء المهملتين

ص:118

والباء الموحدة بعد الواو.

قوله (قال أمر الله عزوجل رسوله بولاية علي) أي يجعله واليا أميرا على الأمة بعده.

قوله (وتخوف أن يرتدوا عن دينهم) للحسد والعناد والعداوة حيث أنه (عليه السلام) قتل من أبنائهم وآبائهم وصناديدهم كثيرا.

قوله (وإن يكذبوه) العاقل الكامل يخاف من تكذيبه فيما يقول وإن كان ضرره عائدا إلى المكذب، ولذا قال كليم الله حين جعله رسولا إلى فرعون (إني أخاف أن يكذبون) في الحديث:

«إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه» ثم المراد من تكذيبهم له إما عدم قبولهم الولاية وعدم انقيادهم له وإن اعترفوا أنها من الله أو نسبة الكذب إليه بأنه يقول ذلك من عند نفسه حبا لقرابته لا من عند الله تعالى.

قوله (بلغ ما أنزل إليك) من ولاية علي (عليه السلام) (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) لأن الولاية أصل الدين وسائر الشرائع فروع وتوابع لها وعدم تبليغ الأصل موجب لعدم تبليغ الفرع قطعا (والله يعصمك من الناس) قد وفى الله تعالى بما وعده حيث أنهم عن آخرهم قبلوا منه ذلك وصدقوه يومئذ وحيوه بأحسن تحية وباركوه.

قوله (فصدع بأمر الله) صدع بالحق إذا تكلم به جهارا وأظهره.

قوله (فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير خم) قال في النهاية: هو موضع بين مكة والمدينة تصب فيه عين هناك وبينها مسجد للنبي (صلى الله عليه وآله). واعلم أن العامة وافقونا في نصبه (عليه السلام) ذلك اليوم ورواياتهم فيه متواترة مقبولة عندهم منها ما رواه مسلم في صحيحه (1) بإسناده عن يزيد بن حيان قال:

انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما حدثتكم فاقبلوا وما لا أحدثكم فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول يوما فينا خطيبا بما يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثا - فقال له

ص:119


1- (1) صحيح مسلم: 7 / 123.

حصين: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

ومنها ما نقله صاحب الطرائف عن مسعود السجستاني بإسناده إلى عبد الله بن عباس قال: أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ بولاية علي (عليه السلام) فأنزل الله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك - الآية) فلما كان يوم غدير خم قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ألستم تزعمون أني أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره وأعز من أعزه، وأعن من أعانه».

ومنها ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ بإسناده إلى أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله) يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقم وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي (عليه السلام) فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية العظيمة (اليوم أكملت لكم دينكم - الآية) وقال رسول الله «الله أكبر على كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بن أبي طالب ثم قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاده، وانصر من نصره، واخذل من خذله» فقال حسان بن ثابت الأنصاري: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول أبياتا؟ قال: قل على بركة الله تعالى، فقال حسان أبياتا منها:

يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا إلى أن قال:

فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا فقال: فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك فقال له: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

ومنها ما رواه ابن المغازلي في كتابه بإسناده إلى أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيدي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة فأنزل الله عزوجل (اليوم أكملت لكم دينكم).

وفي كتاب الطرائف: روى حديث الغدير محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس

ص:120

وعشرين طريقا وأفرد له كتابا سماه كتاب العلاة، ورواه أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة من مائة وخمسة طرق وأفرد له كتابا سماه كتاب الولاة، وذكر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الاقتصاد ان قد رواه من مائة وخمس وعشرين طريقا، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده من أكثر من خمسة عشر طريقا، ورواه الفقيه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب من اثني عشر طريقا، وذكر صاحب الطرائف أيضا أنه ذكر ابن عقدة في الكتاب المذكور الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك وذكر أسماء الرواة من الصحابة والكتاب عندي وعليه خط الشيخ العالم الرباني أبو جعفر الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام، وهذه أسماء من روى حديث غدير خم عن الصحابة وعد أحدا ومائتين من أسماء الصحابة ومن أراد أن يعلمها فليرجع إلى الطرائف.

قوله (فأنزل الله عزوجل اليوم أكملت لكم دينكم) روى مسلم في صحيحه بإسناده عن طارق ابن شهاب قال: قال يهودي لعمر: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ونعلم اليوم الذي أنزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. وفي أخرى قال - يعني ابن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: آية في كتابكم نقرؤها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم - الآية) فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله بعرفات في يوم الجمعة ونحن معه.

قال القرطبي: هو يوم عرفة في حجة الوداع، وقال مجاهد: نزلت في يوم فتح مكة. ورواياتنا دلت على أنها نزلت في حجة الوداع يوم غدير خم، وذهب إلى ما أشار إليه (عليه السلام) من قوله: «يقول الله لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة» مجاهد حيث قال «دينكم» معناه شرائع دينكم لأنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية.

وكذا ذهب إليه ابن عباس حيث قال: ولم ينزل بعد هذه الآية حكم ومعنى الآية بحسب تفسير أهل البيت (عليهم السلام) اليوم أكملت لكم دينكم بولاية علي (عليه السلام) وأتممت عليكم نعمتي بإكمال الشرائع بإمامة علي (عليه السلام) ورضيت لكم الإسلام دينا بخلافته. والعامة لما لم يعرفوا ذلك اعترضوا على الله سبحانه بأنه لم يزل كان راضيا بدين الإسلام فلم يكن لتقييد الرضا باليوم فائدة، وأجاب القرطبي بأن معنى قوله: «رضيت لكم الإسلام دينا» أعلمتكم برضاي له دينا اليوم، وإلا فهو سبحانه كان دائما راضيا بذلك فلا يرد أنه لا فائدة للتقييد باليوم لأن رضاه كان دائما لأن الإعلام برضاه وقع في ذلك اليوم. فاعرف قبح ذلك وكن من الشاكرين.

5 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنت عنده جالسا، فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي أمن

ص:121

الله أو من رسوله؟ فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخوف لله من أن يقول ما لم يأمره به الله، بل افترضه كما افترض الله الصلاة والزكاة والصوم والحج.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، ومحمد بن الحسين جميعا، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: فرض الله عزوجل على العباد خمسا، أخذوا أربعا وتركوا واحدا، قلت:

أتسميهن لي جعلت فداك؟ فقال: الصلاة، وكان الناس لا يدرون كيف يصلون، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم، ثم نزلت الزكاة فقال: يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم، ثم نزل الصوم فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كان يوم عاشوراء بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم فنزل [صوم] شهر رمضان بين شعبان وشوال، ثم نزل الحج فنزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم، ثم نزلت الولاية وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، ثم أنزل الله عزوجل (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال عند ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمتي حديثو عهد بالجاهلية ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل - فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني - فأتتني عزيمة من الله عزوجل بتلة أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني، فنزلت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين) فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) فقال: [يا] أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله، ثم دعاه فأجابه، فأوشك أن أدعى فأجيب وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين، فقال: اللهم اشهد - ثلاث مرات - ثم قال: يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي فليبلغ الشاهد منكم الغائب، قال أبو جعفر (عليه السلام): كان والله [علي (عليه السلام)] أمين الله على خلقه وغيبه ودينه الذي ارتضاه لنفسه، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حضره الذي حضره فدعا عليا فقال: يا علي إني أريد أن أئتمنك على ما إئتمنني الله عليه من غيبه وعلمه و [من] خلقه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه، فلم يشرك والله فيها - يا زياد - أحدا من الخلق، ثم إن عليا (عليه السلام) حضره الذي حضره فدعا ولده وكانوا

ص:122

اثني عشر ذكرا فقال لهم: يا بني إن الله عزوجل قد أبى إلا أن يجعل في سنة من يعقوب وإن يعقوب دعا ولده وكانوا اثني عشر ذكرا، فأخبرهم بصاحبهم، ألا وإني أخبركم بصاحبكم، ألا إن هذين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فاسمعوا لهما وأطيعوا ووازروهما فإني قد إئتمنتهما على ما إئتمنني عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما إئتمنه الله عليه من خلقه ومن غيبه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه، فأوجب الله لهما من علي (عليه السلام) ما أوجب لعلي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يكن لأحد منهما فضل على صاحبه إلا بكبره وإن الحسين كان إذا حضر الحسن (عليهما السلام) لم ينطق في ذلك المجلس حتى يقوم. ثم إن الحسن (عليه السلام) حضره الذي حضره فسلم ذلك إلى الحسين (عليه السلام)، ثم إن حسينا حضره الذي حضره فدعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) مبطونا لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا.

الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (فقال يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم) الميقات الوقت المضروب للفعل وأصله موقات تقول: وقت الفعل إذا جعل له وقتا يفعل فيه وهو بيان مقدار المدة، وقته أيضا إذا قدره وحده وكيفه بتقدير معين وحد مخصوص وكيفية مخصوصة.

قوله (فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال) أي فنزل صوم شهر رمضان و «بين» ظرف للشهر أو للصوم، والغرض من ذكره هو الإشارة إلى وجوب صوم كله وقيل ظرف للشهر والغرض منه هو التنبيه على أنه لم يكن اسمه شهر رمضان قبل فلما أمر الله تعالى بصوم ذلك الشهر سماه شهر رمضان لأن رمضان اسم الله تعالى وفيه دلالة على أنه نسخ صوم عاشوراء بصوم هذا الشهر وعلى أنه يجوز نسخ الأخف بالأشق لأن صوم شهر أشق من صوم يوم.

قوله (ثم نزلت الولاية - إلى قوله - بولاية علي (عليه السلام)) لعل المراد: ثم نزلت ولاية علي (عليه السلام) لقوله جل شأنه (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك - الآية) وإنما أتاه ذلك أي الولاية في يوم الجمعة بعرفة ولما أقامه ونصبه في يوم غدير خم أنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم - الآية) ثم ما بعده تفصيل لهذا المجمل، فلا يرد أن هذا يدل على أن نزول قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) كان في يوم عرفة قبل إظهار ولاية علي (عليه السلام) وهو مناف لما مر أنه كان بعده. فليتأمل.

ص:123

قوله (حديثو عهد بالجاهلية) يقال: عهده به حديث أي إدراكه وملاقاته إياه قريب لم يمض بعد زمان كثير وفيه إيماء إلى أن فيهم شائبة من أخلاق الجاهلية ولم ينقلع عروقها عن قلوبهم والحق أنهم كانوا كذلك فلذلك أحدثوا بعده ما أحدثوا.

قوله (يقول قائل ويقول قائل) أي يقول قائل: أخبر به وهو صادق، ويقول قائل آخر: أخبر به وهو كاذب مفتر على الله. أو يقول قائل: أخبر به من قبله للقرابة، ويقول قائل آخر: أخبر به افتراء.

وحذف مقول القول للدلالة على التعميم في الذم.

قوله (فقلت في نفسي) أي قال: فقلت، بحذف الجملة لقرينة المقام وهو متفرع على السابق منتظم في سلكه من غير تقدير شيء أو معطوف على أمتي والقول النفسي عبارة عن الخاطر ثم هذا القول من كرم الأخلاق والتواضع للرب وإلا فهو (صلى الله عليه وآله) أرفع من أن يخالف ربه في أمر من الأمور.

وأما وجوب إظهار الولاية فقد كان وقته موسعا وإنما لم يبادر في أول أوقات إمكانه لأنه كان مترقبا للعصمة من الله تعالى.

قوله (فأتتني عزيمة من الله تعالى بتلة) البتل القطع، والعزيمة الفريضة التي عزم الله سبحانه على العباد وجوبها، ووصفها بالبتلة للدلالة على أنها فريضة محكمة لا ترد ولا تتبدل وهو إما للتأكيد أو للتقييد بناء على أن الفريضة قد تكون غير محكمة.

قوله (وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون) أي أنا مسؤول عن التبليغ والسياسة وأنتم مسؤولون عن التصديق والطاعة أو حذف المتعلق للتعميم.

قوله (كان والله أمين الله على خلقه) مدار الإمارة على ثلاثة أشياء: الأول أن يكون أمين الله على خلقه جميعا لأنه خليفة عليهم فينبغي أن يفعل بهم على وفق مراده تعالى ولا يخونه في شيء من أمورهم، الثاني أن يكون أمينه على غيبه من العلوم والأسرار المختصة بالأنبياء فلا يخونه بالزيادة والنقصان، الثالث أن يكون أمينه على دينه الذي ارتضاه لنفسه وقرره لمصالح عباده فيحفظه كما قرره ويبينه كما أنزله ويجري عليهم أحكامه ولا يخونه في شيء أصلا وقد كان علي (عليه السلام) والله موصوفا بهذه الخصال على وجه الكمال.

قوله (إني أريد أن ائتمنك) إيتمنه على كذا فهو مؤتمن أي اتخذه أمينا.

قوله (فلم يشرك والله فيها يا زياد أحد) أي لم يجعل شريكه في الولاية والخلافة، يقال: أشركه فيه أي جعله شريكا فيه ومنه قوله تعالى: (وأشركه في أمري) أي أجعله شريكي فيه، وفيه دفع لتوهم أهل الفساد أن له شريكا في الخلافة بعده (صلى الله عليه وآله).

قوله (ووازروهما) الوزر الحمل الثقيل ووزره حمله يعني احملوا عنهما ما يثقل ظهرهما من الأشياء المثقلة، وفيه ترغيب في معاونتهما وتحمل أثقالهما.

قوله (ولم ينطق في ذلك المجلس حتى يقوم) أي لم ينطق بما ينبغي أن ينطق به

ص:124

الإمام من أمر الدين والرئاسة لما مر من أنه لا يجتمع في عصر إمامان إلا وأحدهما صامت.

قوله (فدفع إليها كتابا ملفوفا) الروايات في ذلك مختلفة فمنها هذه ومنها أنه (عليه السلام) دفع إلى أم سلمة صحيفة مختومة ثم قبضها بعد ذلك علي بن الحسين (عليهما السلام) ومنها أن الإمام يعرف إمامته وينتهي الأمر إليه في آخر دقيقة تبقى من حياة الأول ولا اختلاف في الحقيقة لأنه (عليه السلام) دفع إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ما معه من العلوم والأسرار الإلهية في ساعة قريبة من القتل ودفع بعض وصاياه إلى أم سلمة مثل الصحيفة المختومة وسلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند خروجه إلى العراق وبعضها إلى ابنته فاطمة لعلمه بأنهما تدفعان إلى علي بن الحسين عليهما السلام.

* الأصل:

7 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن صباح الأزرق، عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن رجلا من المختارية لقيني فزعم أن محمد بن الحنفية إمام، فغضب أبو جعفر (عليه السلام)، ثم قال: أفلا قلت له؟ قال: قلت: لا والله ما دريت ما أقول، قال: أفلا قلت له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي والحسن والحسين فلما مضى علي (عليه السلام) أوصى إلى الحسن والحسين ولو ذهب يزويها عنهما لقالا له: نحن وصيان مثلك ولم يكن ليفعل ذلك وأوصى الحسن إلى الحسين ولو ذهب يزويها عنه لقال أنا وصي مثلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أبي ولم يكن ليفعل ذلك، قال الله عزوجل: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) هي فينا وفي أبنائنا.

* الشرح:

قوله (إن رجلا من المختارية) الروايات في مدح مختار بن أبي عبيد الثقفي وذمه مختلفة قيل هو الذي دعى الناس إلى محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية وسميت أصحابه بالكيسانية وهم المختارية وكان لقبه كيسان ولقب كيسان لصاحب شرطه وقيل إنه سمى كيسان بكيسان مولى علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وقيل هو الذي حمله على الطلب بدم الحسين (عليه السلام) ودله على قتلته وكان صاحب سره والغالب على أمره وكان لا يبلغه عن رجل من أعداء الحسين (عليه السلام) إنه في دار أو موضع إلا قصده فهدم الدار بأسرها وقتل كل من فيها من ذي روح.

قوله (أفلا قلت) الفاء للعطف على مقدر أي أسمعت ذلك فلا قلت له شيئا.

قوله (ما دريت) دريت الشيء علمته.

ص:125

باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن زيد بن الجهم الهلالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لما نزلت ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): سلموا على علي بإمرة المؤمنين، فكان مما أكد الله عليهما في ذلك اليوم - يا زيد - قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهما: قوما فسلما عليه بإمرة المؤمنين، فقالا:

أمن الله أو من رسوله يا رسول الله؟ فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله): من الله ومن رسوله فأنزل الله عزوجل (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) يعني به قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لهما وقولهما: أمن الله أو من رسوله (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون) أئمة هي أزكى من أئمتكم قال: قلت: جعلت فداك أئمة؟ قال: إي والله أئمة، قلت: فإنا نقرأ: أربى، فقال: ما أربى؟ - وأومأ بيده فطرحها - (إنما يبلوكم الله به) يعني بعلي (عليه السلام) (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون * لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن يوم القيامة عما كنتم تعلمون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها) يعني بعد مقالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله) يعني به عليا (عليه السلام) (ولكم عذاب عظيم).

* الشرح:

قوله (بإمرة المؤمنين) أي بإمارتهم وولايتهم.

قوله (مما أكد الله عليهما) أي على الأول والثاني.

قوله (فقالا أمن الله أو من رسوله) دل على أنهما لم يوقنا بالله وبرسوله حيث ظنا أن الرسول يتكلم بذلك الأصل العظيم من قبله افتراء على الله وكأنهما لم يسمعا قوله تعالى: (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (ولا تنقضوا الأيمان) أي لا تنقضوا أيمان البيعة بولاية علي (عليه السلام) وإمارته بعد توكيدها وتوثيقها بذكر الله وميثاقه (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) شاهدا رقيبا سمى

ص:126

الشاهد الرقيب كفيلا لأن الكفيل مراع بحال المكفول به، شاهد رقيب عليه، واعلم أن تفسير الأيمان بأيمان البيعة ليس ببعيد مستبعد لتصريح علماء العامة بذلك في تفاسيرهم إلا أنهم أرادوا بالبيعة بيعة الرسول.

قوله (إن الله يعلم ما تفعلون) تقرير وتثبيت لكونه كفيلا لأن كل من قال قولا أو عمل عملا فقد جعل الله عليه كفيلا.

قوله (يعني به) الظاهر أنه تفسير لما تفعلون والضمير راجع إليه وأريد بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله في الموضعين.

قوله (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) الغزل مصدر غزلت المرأة القطن وهو هنا بمعنى المفعول. والقوة الإبرام والإحكام، والأنكاث جمع النكث بالكسر وهو الخيط الخلق من صوف أو شعر أو وبر، سمي به لأنه ينقض ثم يعاد فتله، وانتصابه على أنه حال من غزلها. نهاهم أن ينقضوا عهدهم وبيعتهم ويتشبهوا بالمرأة التي نقضت ما غزلته من بعد قوة وإحكام وجعلته خلقا وأعادت فتله وهي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية فإنها كانت خرقاء تفعل ذلك.

قوله (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) حال من الضمير في قوله ولا تكونوا، والدخل بالتحريك والتسكين الدغل، وهو الريبة والمكر والخديعة، وأصله ما يدخل في الشيء وليس منه فيفسده، والمعنى: لا تكونوا متشابهين بالمرأة المذكورة حال كونكم تتخذون أيمانكم وبيعتكم مكرا وخديعة بينكم.

قوله (أن تكون أئمة) متعلق بتتخذون أي بسبب أن يكون أو لأجل أو كراهة أن يكون أئمة هي أزكى أي أطهر وأفضل من أئمتكم والتفضيل هنا مجرد عن الزيادة أو لإظهاره أصلا في غيرهم من الأئمة.

قوله (قال قلت جعلت فداك أئمة) كأن السائل كان في مقام الشك حيث لم ير في القرآن إلا أمة (1) بمعنى جماعة ولو كان هذا لتم المقصود أيضا فتأمل.

ص:127


1- (1) «حيث لم ير في القرآن إلا أمة» زيد بن جهم لا عبرة بما يرويه مخالفا للمعلوم المتواتر أو الثابت بالبرهان اليقيني، أما الأول فما يتضمنه من تحريف القرآن صريحا والقرآن متواتر والخبر من الآحاد ولا يثبت القرآن بخبر الواحد بإجماع المسلمين، وأما الثاني فإنا نعلم بالبرهان اليقيني عصمة الحجج (عليهم السلام) وعدم تمسكهم بحجة باطلة ونعلم أن الاحتجاج في مقابل الخصم يجب أن يكون بما يعترف الخصم به وإلا فلا يتم الحجة عليه ومعلوم أن أحدا من المسلمين المعترفين بالقرآن الكريم لا يقبل القراءة الشاذة فإن كان مقصود الإمام (عليه السلام) الاحتجاج على المعاند بقراءة اختص هو بنقلها فهو حجة باطلة ينزه الإمام عنها وان كان المقصود الاحتجاج لمؤمن معترف بحجية قول الإمام وعصمته وقبول ما ينقل من القراءة وإن كانت شاذة فهو في غنى عن إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه قائل بإمامته وعصمته وإمامة جميع الأئمة إلى الصادق (عليه السلام). (ش)

قوله (يعني بعلي (عليه السلام)) يريد أن الضمير المجرور يعود إلى علي (عليه السلام) باعتبار أنه مفهوم من أئمة وأنه واحد منها أو إلى أئمة باعتبار أن المراد بها علي (عليه السلام) والجمع للتعظيم ويحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى «أن تكون أئمة» بمعنى المصدر أي إنما يخبركم بكون أئمة أزكى هل تتمسكون بحبل الوفاء بعهده وبيعته أم تخدعونه بالمكر والخديعة ونقض العهد!.

قوله (وليبينن لكم) أي وليبينن لكم يوم القيامة عند مجازاة العباد بالثواب والعقاب ما كنتم تختلفون من أمر الولاية والإمامة بنقض العهد فتجدون جزاء الاختلاف والنقض.

قوله (ولو شاء - إلى قوله - تعملون) أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة متفقة على الإيمان والولاية جبرا لجعلكم كذلك ولكن يضل من يشاء بخذلانه ووكوله إلى نفسه المائلة إلى الفساد ويهدي من يشاء بالنصر والتوفيق بحسن استعداده، فالجبر منتف والخذلان والتوفيق واقعان باعتبار تفويت الاستعداد والقبول وعدمه.

قوله (ولا تتخذوا أيمانكم) صريح بالنهي عنه بعد الإشعار به للتأكيد والمبالغة أي لا تتخذوا أيمان البيعة ومواثيق الولاية مكرا وخديعة بينكم فتزل قدم عن طريق الحق ومنهج الإيمان بعد ثبوتها عليه ببيان الرسول. وقوله في علي (عليه السلام) من ولاية الأمة وخلافتهم له بأمر الله تعالى وتذوقوا سوء العذاب يوم القيامة بسبب صدودكم وإعراضكم عن الوفاء بالعهد والبيعة ومنعكم الأعقاب عنه ولكم عذاب عظيم بإعراضكم عنه ومنعكم للغير، فإن من نقض البيعة وارتد; جعل ذلك سنة لغيره - كما صرح به القاضي وغيره - فعليه وزره ومثل وزر من عمل به إلى يوم القيامة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين وأحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن محمد ابن فضيل، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لما أن قضى محمد نبوته واستكمل أيامه أوحى الله تعالى إليه أن يا محمد! قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة في أهل بيتك عند علي بن أبي طالب، فإني لن أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة من العقب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء.

ص:128

* الشرح:

قوله (والإيمان) هو إما بفتح الهمزة بمعنى الميثاق والعهد بالولاية، أو بكسرها وهو التصديق القلبي بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به الرسول، ولعل المراد به هنا ما يجب الإيمان به وهو جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من عند الله تعالى.

قوله (والاسم الأكبر) الاسم الأكبر يطلق على الاسم الأعظم وعلى كل كتاب نزل من السماء، ولعل المراد به هنا الثاني لأن الصادق (عليه السلام) فسره في الحديث التالي لهذا الحديث (1).

قوله (وميراث العلم) الإضافة بتقدير اللام وحملها على البيانية يوجب التكرار ولعل المراد به الولاية العظمى والخلافة الكبرى وهي رئاسة الدارين وخلافة الكونين.

قوله (وآثار علم النبوة) الإضافة مثل ما مر ولعل المراد بها إرشاد الخلق وهدايتهم وتعليمهم وغير ذلك من المعجزات والكرامات وروح القدس وبالجملة أمره أن يجعل عند علي (عليه السلام) خمسة أمور: الأول: العلم الكامل بجميع الأمور، الثاني: الشرائع الإلهية، الثالث: الكتب السماوية، الرابع:

الخلافة الدينية والدنيوية، الخامس: الإرشاد والتعليم.

* الأصل:

3 - محمد بن الحسين وغيره، عن سهل، عن محمد بن عيسى، ومحمد بن يحيى ومحمد ابن الحسين جميعا، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر وعبد الكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوصى موسى (عليه السلام) إلى يوشع بن نون وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون ولم يوص إلى ولده ولا إلى ولد موسى، إن الله تعالى له الخيرة، يختار من يشاء ممن يشاء وبشر موسى ويوشع بالمسيح (عليهم السلام) فلما أن بعث الله عزوجل المسيح قال المسيح (عليه السلام) لهم: إنه سوف يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد من ولد إسماعيل (عليه السلام) يجيء بتصديقي وتصديقكم وعذري وعذركم، وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين، وإنما سماهم الله تعالى المستحفظين لأنهم استحفظوا الاسم الأكبر وهو الكتاب الذي يعلم به علم كل شيء، الذي كان مع الأنبياء صلوات الله عليهم، يقول الله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا (2) من قبلك وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الكتاب: الاسم الأكبر وإنما عرف مما يدعى الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان فيها كتاب نوح (عليه السلام) وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم (عليهم السلام) فأخبر الله

ص:129


1- (1) قوله «في الحديث التالي» بل في أواخر هذا الحديث بعينه.
2- (1) كذا، وفي المصحف (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات - الآية).

عزوجل: (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) فأين صحف إبراهيم! إنما صحف إبراهيم الاسم الأكبر، وصحف موسى الاسم الأكبر فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتى دفعوها إلى محمد (صلى الله عليه وآله) فلما بعث الله عزوجل محمدا (صلى الله عليه وآله) أسلم له العقب من المستحفظين وكذبه بنو إسرائيل ودعا إلى الله عزوجل وجاهد في سبيله.

ثم أنزل الله جل ذكره عليه أن أعلن فضل وصيك فقال: رب إن العرب قوم جفاة، لم يكن فيهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي ولا يعرفون فضل نبوات الأنبياء (عليهم السلام) ولا شرفهم ولا يؤمنون بي إن أنا أخبرتهم بفضل أهل بيتي، فقال الله جل ذكره: (ولا تحزن عليهم) (وقل سلام فسوف تعلمون) فذكر من فضل وصيه ذكرا فوقع النفاق في قلوبهم، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك وما يقولون.

فقال الله جل ذكره: يا محمد! (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) ولكنهم يجحدون بغير حجة لهم وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم ويستعين ببعضهم على بعض ولا يزال يخرج لهم شيئا في فضل وصيه حتى نزلت هذه السورة فاحتج عليهم حين أعلم بموته ونعيت إليه نفسه، فقال الله جل ذكره: (فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب) يقول: إذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيك فأعلمهم فضله علانية، فقال (صلى الله عليه وآله):

من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه - ثلاث مرات - ثم قال: لأبعثن رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يعرض بمن رجع يجبن أصحابه ويجبنونه وقال (صلى الله عليه وآله): علي سيد المؤمنين وقال: علي عمود الدين. وقال: هذا هو الذي يضرب الناس بالسيف على الحق بعدي، وقال: الحق مع علي أينما مال. وقال: إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عزوجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين، والثقلان: كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، فوقعت الحجة بقول النبي (صلى الله عليه وآله) وبالكتاب الذي يقرؤه الناس فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام ويبين لهم بالقرآن (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وقال عز ذكره: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) ثم قال: (وآت ذا القربى حقه) فكان علي (عليه السلام) وكان حقه الوصية التي جعلت له والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة، فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) ثم قال: «وإذا المودة سئلت بأي ذنب قتلت» يقول: أسألكم عن المودة

ص:130

التي أنزلت عليكم فضلها، مودة القربى، بأي ذنب قتلتموهم، وقال جل ذكره: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) قال: الكتاب [هو] الذكر، وأهله آل محمد (عليهم السلام) أمر الله عزوجل بسؤالهم ولم يؤمروا بسؤال الجهال، وسمى الله عزوجل القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) وقال عزوجل: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون) وقال عزوجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال عزوجل: (ولو ردوه (إلى الله و) إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد الأمر - أمر الناس - إلى أولي الأمر منهم الذين أمر بطاعتهم وبالرد إليهم، فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) فنادى الناس فاجتمعوا وأمر بسمرات فقم شوكهن، ثم قال (صلى الله عليه وآله): [يا] أيها الناس من وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله ورسوله، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه - ثلاث مرات - فوقعت حسكة النفاق في قلوب القوم وقالوا: ما أنزل الله جل ذكره هذا على محمد قط وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه، فلما قدم المدينة أتته الأنصار فقالوا: يا رسول الله إن الله جل ذكره قد أحسن إلينا وشرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا وقد يأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتى إذا قدم عليك وفد مكة وجدت ما تعطيهم، فلم يرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم شيئا وكان ينتظر ما يأتيه من ربه فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) ولم يقبل أموالهم، فقال المنافقون: ما أنزل الله هذا على محمد وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه ويحمل علينا أهل بيته، يقول أمس: من كنت مولاه فعلي مولاه، واليوم: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.

ثم نزل عليه آية الخمس فقالوا: يريد أن يعطيهم أموالنا وفيئنا، ثم أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إنك قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي (عليه السلام)، فإني لم أترك الأرض إلا ولي فيها عالم تعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي ويكون حجة لمن يولد بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر، قال: فأوصى إليه بالاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة وأوصى إليه بألف كلمة وألف باب، يفتح كل كلمة وكل باب ألف

ص:131

كلمة وألف باب.

* الشرح:

قوله (قال أوصى موسى إلى يوشع بن نون) اعلم أن المقصود من هذا الحديث بيان أمور، منها: أن الوصية قد جرت بأمر الله تعالى من نبي إلى آخر وهكذا إلى أن وصلت إلى خاتم الأنبياء وعترته الطاهرين وليس لإرادة الخلق واختيارهم مدخل في الخلافة والإمامة وبذلك يبطل اختيار الجهلة إياها للثلاثة.

ومنها: أن الكتب الإلهية التي أنزلها الله تعالى إلى أنبيائه السابقين كانت محفوظة عنده (صلى الله عليه وآله) فلابد أن تكون محفوظة بعده عند خليفته، وإذ ليس عند غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالاتفاق فلابد أن يكون عنده، ومنها: أنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يزال يخرج شيئا بعد شيء صريحا وكناية وإشارة في فضل أهل بيته ووصيه حتى ملأ به أسماع الأمة وقلوبهم لئلا يكون لهم بعده مجال لإنكار فضل أهل البيت وتقدمهم عليهم.

ومنها: أن الله تعالى لا يزال ينزل آية بعد آية في فضل أهل بيت نبيه حتى أن قرب انقضاء مدته (صلى الله عليه وآله) فأمره بإعلان فضل وصيه وإظهار ولايته وخلافته على رؤوس الخلائق وأوعده بأنه إن لم يفعل ذلك لم يبلغ رسالته فأجاب (صلى الله عليه وآله) أمر ربه وبلغه كما أمره به.

ومنها: أن العرب بعد هذه المراتب لشدة قلوبهم وكمال قربهم بالجاهلية وميلهم إلى الدنيا وقعت حسكة النفاق في صدورهم حتى فعلوا ما فعلوا، ومنها: أنه تعالى أمر نبيه بعد استكمال أيامه أن يجعل جميع ما معه من العلم وميراثه وآثار علم النبوة عند علي (عليه السلام) ففعله ومضى.

قوله (بتصديقي وتصديقكم) أي بتصديقي في الرسالة وصحة الولادة، ردا لليهود كما نطقت به سورة المائدة في قوله تعالى: (وإذ أوحينا إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون) إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

قوله (وعذري وعذركم) أي بمحو إساءتي وإساءتكم وحقيقة عذرت عذرا محوت الإساءة وطمستها وفيه إشارة إلى أن الأنبياء وأمتهم يحتاجون إليه في نيل القرب ورفع الدرجة، أو المصدر وهو العذر بمعنى العاذر وهو الأثر، أي يجيء بأثري وأثركم أشار بذلك إلى قرب ظهوره وإلى أنه لا

ص:132

نبي بعده إلا هو (صلى الله عليه وآله).

قوله (جرت من بعده في الحواريين في المستحفظين) الظرف الأخير بدل مما قبله أو تفسير وبيان له وفاعل جرت الوصية المفهومة من الكلام السابق وحواريو النبي خلصانه وأنصاره أي الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب.

قوله (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الميزان ما يوزن به الشيء ويعرف به قدره، وشاع إطلاقه على هذا الذي له لسان وعمود وكفتان، والمراد به هنا إما هذا أو العدل أو الشريعة أو الكتاب على أن يكون العطف للتفسير.

قوله (وإنما عرف مما يدعى الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان) يعني أن المعروف بين الناس مما يدعى باسم الكتاب السماوي في هذا العصر إنما هو هذه الثلاثة دون غيرها ولم يذكر الزبور لأنه غير معروف أيضا بينهم، وفي جملة الكتب السماوية كتاب نوح وكتاب صالح وكتاب شعيب وكتاب إبراهيم وكتاب داود ولم يذكره لكون اسمه غير معروف (1) بين الناس فقد أخبر الله تعالى أن هذا أي ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فأين صحفهما وهل توجد عند غيره (صلى الله عليه وآله) وإنما صحفهما الاسم الأكبر الذي بلغ يدا عن يد وكابرا عن كابر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وكان محفوظا عنده وهو دفعه عند انقضاء مدته إلى المستحفظين من عقبه. وبالجملة الكتب السماوية المشهورة وغيرها إذا حفظها الله تعالى بوضعها عند الحفظة حتى دفعوها إلى خاتم الأنبياء وجب أن لا يضيعها بعده بدفعها إلى خليفته وإذا لم تكن عند غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) وجب أن تكون محفوظة عنده، يدل على ذلك أيضا ما روى عن أهل العصمة (عليهم السلام) من أن الله تعالى لم يرفع العلم الذي أنزله من لدن آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله) بل هو مخزون عند أهله.

قوله (أسلم له العقب من المستحفظين) «من» إما بيانية أو ابتدائية والمستحفظون على الأول أهل البيت (عليهم السلام) وعلى الثاني أعقاب العلماء الماضين وأفضل الفريقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقوله «وكذبه بنو إسرائيل» هم أولاد يعقوب (عليه السلام) وإسرائيل لقبه، ومعناه بالعبرانية صفوة الله وقيل عبد الله.

قوله (جفاة) الجفاة جمع الجافي من الجفاء بالمد وهو خلاف البر، وفي المغرب: الجفاء غالب على أهل البدو وهو الغلظ في العشرة والخرق في المعاملة وترك الرفق.

قوله (لم يكن فيهم كتاب) استيناف كأنه قيل: ما بالهم يكونون جفاة؟ فأجاب بما ذكر فإن

ص:133


1- (1) معروفا. خ.

الطبايع البشرية والنفوس الناقصة مائلة إلى الجفاء فإذا لم يوجد فيهم زاجر من الكتاب والسنة النبوية يأخذ الجفاء حد الرسوخ فيصير كالطبيعة الثانية، أعاذنا الله منه.

قوله (ولا تحزن عليهم) لما علم الله تعالى أن نفسه المقدسة محزونة لما يفوتهم من السعادات الدنيوية والأخروية بالجفاء وترك قبول النصيحة وذلك لكمال شفقته على الأمة تسلاه وأدبه بقوله «ولا تحزن عليهم» فإن عليك البلاغ وعلينا الحساب، فإذا بلغت لم يسمعوا فلا تجادلهم وقل سلام على عباد الله الصالحين فسوف تعلمون في الآخرة وبال أمركم وسوء عاقبتكم.

قوله (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) من الطعن في نصب علي (عليه السلام) وذكر فضله واللام جواب القسم وقد لتحقيق الفعل وتكثيره والآية في آخر سورة الحجر.

قوله (فإنهم لا يكذبونك) أي في الحقيقة لعلمهم بأنك صادق فيما ذكرت من فضل وصيك والآية في سورة الأنعام وفيها هكذا (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) أي ينكرونها والآيات هم الأوصياء كما مر عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وما تغني الآيات والنذر) قال: الآيات هم الأئمة والنذر هم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

وعن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: (كذبوا بآياتنا كلها) قال: يعني الأوصياء كلهم. وإنما وضع الظالمين موضع الضمير للتنصيص بظلمهم في إنكار آياته وتمرنهم على جحدها.

قوله (لكنهم يجحدون بغير حجة) عقلا ونقلا بل بمجرد الحسد والعناد وحب الجاه والرئاسة مع علم جلهم بل كلهم على حقيقته وحقيقة الرسول بما قال فيه.

قوله (يتألفهم) أي يوقع الألفة بينهم بالنصايح الشافية والمواعظ الحسنة ولكن من أضله الله فلا هادي له.

قوله (ويستعين ببعضهم على بعض) في الجهاد وإجراء الحدود والأحكام ولم يطردها مع علمه بأقوالهم وعقائدهم لضعف الإسلام وقلة أهله حينئذ قوله (حتى نزلت هذه السورة) أي ألم نشرح، وفي بعض النسخ «هذه الآية» وهي آية (فإذا فرغت فانصب).

قوله (فإذا فرغت فانصب علمك) العلم العلامة وهي ما يعلم به الطريق، والمراد به علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ به يعلم طريق الشرع ومنهج التوحيد.

ص:134

قوله (فقال (عليه السلام) من كنت مولاه) (1) هذا أيضا مذكور في طرق العامة بأسانيد متعددة مع زيادة وقد ذكرنا بعضها آنفا.

قوله (ثم قال لأبعثن رجلا) هذا أيضا رواه العامة من طرق متكثرة منها ما رواه مسلم (2) بإسناده عن سلمة بن الأكوع قال «كان علي (رضي الله عنه) - قد تخلف عن النبي (صلى الله عليه وآله) في خيبر وكان رمدا فقال أنا أتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج علي فلحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) فلما كان مساء الليل التي فتحها الله في صبيحتها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجلا يحبه الله ورسوله - أو قال يحبه الله ورسوله (3) ويفتح الله عليه. وإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الراية ففتح الله عليه.

ومنها: ما رواه أيضا بإسناده عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوم خيبر «لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلهم يرجو أن يعطاها قال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو - يا رسول الله - يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: انفذ على رسلك (4) حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (5).

ص:135


1- (1) قوله «من كنت مولاه» هذا من الأحاديث التي يحتج بها على الخصم في مقام الجدل لاعتراف الخصم بها وفي مقام الاعتقاد للمنصف أيضا لثبوتها متواترا ويحتج بالمتواترات في البرهان لأن المتواتر من الأقسام الستة الضرورية وقد روي بطرق كثيرة يمتنع عادة تواطؤ رواتها على الكذب وكان متداولا مشهورا في جميع الأزمنة من عهد الرسول إلى زماننا هذا على ما هو مذكور في محله، وقد روى حديث «من كنت مولاه» من أصحاب الصحاح الترمذي ورواه أيضا أحمد مع زيادة «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وقول الشيخين له «بخ بخ لك يا علي لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة». (ش)
2- (2): 7 / 122.
3- (3) قوله «لأبعثن رجلا يحب الله ورسوله» روى حديث خيبر البخاري ومسلم أيضا ولم يأنفوا من نقله لعدم دلالته عندهم على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) صريحا وفهموا منه دفع النواصب من بني أمية لأنه حجة عليهم والحق أنه مع دلالته على دفع النواصب يدل على استحقاق علي (عليه السلام) الإمامة لأنه أشجع والأشجع مقدم في الإمامة والفرار من الزحف معصية وارتكباه ومن لم يعص قط أولى بتولي أمور الدين ممن خالف وعصى. (ش)
4- (1) «على رسلك» بكسر الراء بعدها سين مجزومة وكسر اللام أي أثبت ولا تعجل.
5- (2) صحيح مسلم: 7 / 121. وحمر النعم هي الإبل الحمر وهي من أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في النفاسة.

ومنها: ما رواه أيضا عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال:

فتساورت (1) لها رجاء أن أدعى لها قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، قال: فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقهم وحسابهم على الله» (2) قال عياض: هذا من أعظم فضائل علي وأكرم مناقبه، وفي الحديث: من علامات نبوته علامتان قولية وفعلية، فالقولية يفتح على يديه فكان كذلك.

والفعلية بصقه (صلى الله عليه وآله) في عينه وكان رمدا فبرئ من ساعته، وفي قوله: امش ولا تلتفت حض على التقدم وترك التأني، والالتفات هنا النظر يمنة ويسرة وقد يكون على وجه المبالغة في التقدم ويدل عليه قوله: فسار علي فوقف ولم يلتفت، وقد يكون معنى: لا تلتفت لا تنصرف يقال: التفت أي انصرف ولفته أنا صرفته، وقوله: يدوكون معناه يخوضون يقال: هم في دوكة أي في اختلاط وخوض، وقوله: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم حض عظيم على تعليم العلم وبثه في الناس وعلى الوعظ والتذكير، والنعم الإبل، وحمرها خيارها، يعني ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النفيسة لأن ثواب الصدقة ينقطع بموتها وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، وفي الحديث «إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية وولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به بعد موته» وفي قوله: ادعهم إلى الإسلام وجوب الدعوة قبل القتال، وقال الآبي: وفي الاكتفاء لأبي الربيع قال أبو رافع (رضي الله عنه) مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله): خرجت مع علي (رضي الله عنه) حين أعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الراية فلما دنا من الحصن خرج إليه مقاتلهم فقتله فتناول علي (رضي الله عنه) بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ ولقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا منهم نجهد أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه، ولا يخفى عليك أن قول عمر: تساورت أي تطاولت وقوله في حديثهم الآخر: حرصت وقوله: «ما أحببت الإمارة إلا يومئذ» هو الذي حداه إلى فعل ما فعل فهلك وأهلك.

ص:136


1- (3) أي تطاولت لها وحرصت عليها.
2- (4) المصدر: 7 / 121.

قوله (معرض) (1) أي هو معرض من التعريض وهو التصريح والفرق بينه وبين الكناية أن التعريض تضمين الكلام دلالة ليس لها فيه ذكر، كقولك: ما أقبح البخل تعرض بأنه بخيل، والكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف أو ذكر الملزوم وإرادة اللازم، كقولك: فلان طويل النجاد وكثير رماد القدر. يعني أنه طويل القامة ومضياف، وفي بعض النسخ «معرضا» بالنصب على الحال وهو أظهر.

قوله (بمن رجع يجبن أصحابه ويجبنونه) هو الأول والثاني حيث رجعوا عن حرب أهل خيبر مغلوبين ينسب بعضهم إلى بعض الجبن وهو خلاف الشجاعة يقال: جبنته تجبينا أي نسبته إلى الجبن.

قوله (وقال (صلى الله عليه وآله): علي سيد المؤمنين) (2) لأنه أكثرهم علما وحلما وأشهرهم سخاء وسماحة وأقواهم عملا وشجاعة وأقدمهم إسلاما وإيمانا وأجلهم نسبا وقدرا وأشرفهم تقدسا وخلقا فهو بالرئاسة أولى وأقدم وبالسياسة أجدر وأعلم.

قوله (وعلي عمود الدين) لأن الدين يقوم به كما يقوم البيت بالعمود.

قوله (وقال هذا هو الذي يضرب الناس بالسيف) (3) إشارة إلى قتاله مع الناكثين والقاسطين والمارقين، أما الناكثون فهم أهل الجمل وطلحة وزبير، وأما القاسطون فهم معاوية وأصحابه، وأما المارقون فهم أهل النهروان.

قوله (وقال الحق مع علي أينما مال) قال صاحب الطرائف: روى أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه (4) في كتاب المناقب في عدة طرق فمنها بإسناده إلى محمد بن أبي بكر قال: حدثتني عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الحق مع علي وعلي مع الحق لن يفترقا حتى يردا على الحوض».

ص:137


1- (1) كذا.
2- (2) قوله «علي سيد المؤمنين» لا يحضرني الآن موضع هذا الحديث وما بعده في كتب القوم ولم يشر إليه المجلسي (رحمه الله) ولا غيره ممن رأيت. (ش)
3- (1) قوله «هذا الذي يضرب الناس بالسيف» رواه أحمد في مسنده والترمذي بعبارات متقاربة ويأتي رواية الترمذي إن شاء الله تعالى. (ش)
4- (2) قوله «أحمد بن موسى بن مردويه» رواه أيضا من أصحاب الصحاح الترمذي عن النبي (صلى الله عليه وآله) «رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار» وهذا يدل على عصمته وكون قوله حجة وبطلان كل من خالفه في فعل وقول لأن دعاء النبي مستجاب البتة. وقريب منه في معناه عن أم سلمة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول «لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن» ويشكل بناء على مذهبهم الجمع بين هذا الحديث وما يعتقدونه من كون كثير من مبغضيه من أهل الجنة كطلحة وزبير وأصحاب صفين والجمل. (ش)

قوله (إني تارك فيكم أمرين) (1) الخبر متواتر اتفقت الأمة على قوله ونقله وفيه دلالة على كمال فضلهم والرجوع إليهم في القول والعمل كما وجب الرجوع إلى القرآن ولا يجوز مخالفتهم أصلا كما لا يجوز مخالفة الكتاب وإنما فسر أهل البيت بالعترة وهي الأولاد والأقارب لئلا يتوهم أن المراد نساؤه وهذا نص صريح في إمامتهم وخلافتهم ولا شيء أبلغ منه كما يقول الأمير إذا أراد الخروج من قريته لأهلها: إني تارك فيكم فلانا يرعاكم فاسمعوا له وأطيعوه فإنه صريح عند العقل الصحيح والطبع السليم أنه استخلفه وأقامه مقامه.

قوله (اسمعوا وقد بلغت) أي بلغت ما وجب علي من الأمر بحفظ كتاب الله والتمسك بأهل بيتي.

قوله (والثقلان كتاب الله تعالى وأهل بيتي) اتفقت العامة والخاصة على مضمون هذا الحديث وصحته وهذا صريح في المطلب فإنه لا يشك عاقل أن الثقلين يقومان مقامه بعده في أمته وأن التمسك بهما أمان من الضلال وقد مر أن المراد من أهل البيت العترة (عليهم السلام) وقد صرحوا أيضا بذلك ففي صحيح مسلم قال الحصين لزيد بن أرقم وهو راوي الحديث المذكور مع زيادة: «يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده» وقال حسان لزيد بن أرقم أنساؤه من أهل بيته؟ قال: لا، وأيم الله أن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وأمها وقومها. أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده، وقال عياض: «معنى قول زيد: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته الذين منعوا الصدقة ان نساءه من أهل مسكنه وليس المراد إنما أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» أي الذين منعتهم خلفاء بني أمية صدقتهم التي خصهم الله سبحانه بها وكانت تفرق عليهم في أيامه (عليه السلام)، ويحتمل أن يعني الذين حرموا الصدقة التي هي من أوساخ الناس، وأما وجه تسميتها بالثقلين فقال محيي الدين البغوي: سماهما ثقلين لأن العمل والأخذ بهما ثقيل والعرب تقول لكل شيء نفيس ثقيل فسماهما ثقلين لعظمهما

ص:138


1- (3) قوله «إني تارك فيكم أمرين» المشهور قوله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» رواه أصحاب الصحاح مسلم والترمذي وهو حديث يشهد لفظه بصحته لكمال فصاحته وهو من جوامع الكلم التي افتخر به النبي (صلى الله عليه وآله) ولفظ الترمذي هكذا «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» وهذا يدل على وجود إمام معصوم في أهل البيت حتى يكون قولهم حجة ويجب التمسك به كما يجب التمسك بالقرآن. (ش)

وتفخيم شأنهما، ومثله قال ابن الأثير في النهاية، وقال الزمخشري في الفائق: قال النبي (صلى الله عليه وآله):

«خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» الثقل المتاع المحمول على الدابة وإنما قيل للجن والإنس الثقلان لأنهما قطان الأرض فكأنهما ثقلاها وقد شبه بهما الكتاب والعترة في أن الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين، والعترة العشيرة وسميت بالعترة وهي المرزنجوشة لأنها لا تنبت إلا شعبا متفرقة.

قوله (فلا تسبقوهم فتهلكوا) فمن سبقهم من الخلفاء الثلاثة الذين خلفوا وغيرهم فقد هلكوا وأهلكوا من تبعهم ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم لأنهم مهبط الوحي لكون النبي (صلى الله عليه وآله) منهم وفيهم وهم ملازموه ومعاشروه وفيهم باب مدينة العلم وهم أخص الخلق به وأقربهم إليه نسبا ومنزلة وأفضلهم لديه علما وعملا مع صفاء نفوسهم وضياء عقولهم وتقدس ذواتهم وقد صرحوا بأن عليا (عليه السلام) أعلم من جميع الأمة وفيه دلالة واضحة على أن الإمام يجب أن يكون أعلم من جميع الأمة والعقل الصحيح يحكم بذلك أيضا. وفي حذف معفول التعليم دلالة على التعميم.

قوله (إنما يريد الله - الآية) قد مر تفسيره مفصلا فلا نعيده (1).

ص:139


1- (1) قوله «قد مر تفسيره مفصلا» وقد مر قريبا حديث زيد بن أرقم في معنى أهل البيت وفضلهم عن صحيح مسلم وقد رواه الترمذي، وروى مسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب - الآية) عن عائشة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ولفظ الترمذي هكذا: نزلت هذه الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في بيت أم سلمة فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير» وهذا الكلام يدل على خروج النساء من المراد بأهل البيت ويؤيده رواية الترمذي في حديث زيد بن أرقم الذي ذكره الشارح سئل زيد: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا وأيم الله أن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وأمها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده; ولم يرو الشارح الرواية وكان أولى بالنقل، وجميع روايات الترمذي أكمل في الدلالة على ما نريد الاحتجاج به، وقد رأيت أن أذكر هنا انموذجا مما رواه في فضائل علي (عليه السلام) وهو بعد أحمد بن حنبل أنصف أهل الحديث وأقربهم إلينا. فمما رواه عن زيد بن أرقم أن أول من أسلم علي، ومنها عن براء بن عازب أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي بن أبي طالب: «أنت مني وأنا منك» وعن ربعي بن خراش عن علي (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله) «يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد امتحن الله قلبه على الإيمان قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل وكان أعطى عليا نعله يخصفها». ومما رواه في ضمن حديث: ما تريدون من علي وكررها ثلاثا، ثم قال: «إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي» وعن ابن عمر: فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أنت أخي في الدنيا والآخرة» وعن أبي سعيد «يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيره» وعن أنس قال: كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) طير فقال: «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء علي فأكل معه» وقال (صلى الله عليه وآله) «أنا دار الحكمة وعلي بابها» وعن جابر قال: قال (صلى الله عليه وآله) «ما انتجيته ولكن الله انتجاه» وهذا بعدما طال نجواه مع علي (عليه السلام) واستطاله الناس. وفي هذا المقدار كفاية على ما مر. (ش)

قوله (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) المشهور في أن لله خمسه فتح الهمزة على حذف المبتدأ أي فحكمه أن لله خمسه، وقيل: على حذف الخبر أي فثابت أن لله خمسه، وقرئ بكسرها أيضا والمعنى أن الذي أخذتموه من مال الكفار قهرا مما يطلق عليه اسم الشيء قليلا كان أو كثيرا فحكمه أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وتقسيمه إلى الأقسام الستة عندنا ثابت إلى يوم القيامة، والأقسام الثلاثة أعني سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى للإمام بعد الرسول، وقال أبو حنيفة: تسقط هذه الأقسام الثلاثة بعده ويصرف الكل إلى الثلاثة الباقية، ولا يخفى ما في تخصيص ذي القربى بالذكر وإعادة اللام وتشريكه مع الرسول في التساهم من التعظيم والاهتمام بشأنه.

قوله (فكان علي (عليه السلام)) أي فكان علي (عليه السلام) ذا القربى على حذف الخبر بقرينة المقام.

قوله (والاسم الأكبر) هذا وما عطف عليه بالنصب عطف على الوصية وقد مر تفسير هذه الأمور.

قوله (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) أي قل لا أسألكم على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة والهداية أجرا ونفعا إلا المودة في أهل بيتي، قال القاضي: روي أنها لما نزلت قيل:

يا رسول الله من قرابتك؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. وفي جعل أجر هداية الأمة وتبليغ الرسالة الذي لا منتهى له مودة ذي القربى وطلبها منهم بأمر الله تعالى دلالة واضحة على كمال رفعتهم وعلو منزلتهم ولزوم كون مودتهم في أكمل المراتب وأشرفها.

قوله (وإذا المودة سئلت) (1) قال في مجمع البيان: روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) «وإذا

ص:140


1- (1) قوله «وإذا المودة بفتح الواو» راوي هذا الحديث عبد الحميد بن أبي الديلم ضعيف مطعون لا يعتد بما رواه وليس هذا الاحتجاج شيئا يمكن إسناده إلى الإمام المعصوم (عليه السلام) لأنه إن كان في مقام الاحتجاج على منكري الإمامة فظاهر أنهم لا يقرؤون المودة بفتح الواو حتى يثبت الحجة عليهم بمسلماتهم بل هم متفقون على قراءته بصيغة اسم المفعول من الوأد وإن كان في مقام الكلام مع المعترفين بإمامته فإنهم كانوا يقبلون منه القراءة الغير المعروفة لاعترافهم بصدقه وعصمته وحجية قوله لكن لا يناسبه سائر فقرات الحديث إذ الظاهر منها أنها في مقام الاحتجاج على أهل الخلاف، وبالجملة فالاعتماد في أمثال هذه الأحاديث الضعيفة بل غيرها من الصحاح في أصول الدين على المتن والمعنى لا الإسناد فما علمنا من مضامينها ومعانيها صحته بقرائن عقلية أو نقلية متواترة كحديث الثقلين «ومن كنت مولاه» وغيرهما اعتمدنا عليها وتمسكنا بها، أو كانت من مسلمات الخصم كحديث الطير احتججنا بها على المخالف وما تفرد الحديث الواحد به من غير قرينة تؤيد صحة مضمونها ولا نعلم تسلم الخصم لها فلا نعتمد عليها بصرف الإسناد. (ش)

المودة» بفتح الواو وروي ذلك عن ابن عباس أيضا والمراد بذلك الرحم والقرابة وأنه يسئل قاطعها عن سبب قطعها، وروي عن ابن عباس أنه هو من قتل في مودتنا أهل البيت، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يعني قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن قتل في جهاد، وفي رواية أخرى: من قتل في مودتنا وولايتنا انتهى.

أقول: يحتمل أن يراد بالقتل في هذه الرواية قتل ذي القربى وقتل من هو من أهل مودتهم على التقديرين فيه مدح عظيم وفضل جسيم لذي القربى وفيه حث بليغ على مودتهم ووعيد عظيم بقتلهم وقتل محبيهم.

قوله (مودة في القربى) عطف بيان للمودة حيث يفسرها ويوضحها.

قوله (الكتاب الذكر) لما كان الكتاب معلوما كالذكر جعله مسندا إليه لإفادة أن الذكر هو فلا يرد أن العكس أولى لكون الذكر معلوما ولم يعلم أنه الكتاب أو غيره ثم إن هذا التفسير لا ينافي ما مر في أحاديث متكثرة من تفسير الذكر في هذه الآية بمحمد (صلى الله عليه وآله) لأن كلا التفسيرين صحيح وإنما اقتصر على الأول لأن المطلب يحصل من الثاني بطريق أولى.

قوله (أمر الله عزوجل بسؤالهم) هذا الأمر دل على إحاطة علمهم بجميع الأشياء وإلا لم ينفع السؤال عند الجهل في شيء ما.

قوله (ولم يؤمروا بسؤال الجهال) (1) عدم الأمر به ظاهر مع أن الغرض من السؤال طلب لعلم وهو من الجاهل محال وإنما بنى الفعل هنا للمفعول دون السابق للإشعار بأن قبحه في الكمال إلى

ص:141


1- (1) قوله «ولم يؤمروا بسؤال الجهال» لأن مورد الآية علماء أهل الكتاب وأمر الله تعالى أن يسألهم أهل مكة والكفار عن الرسل والأنبياء أهم بشر أم ملائكة فإن الكفار كانوا يزعمون أن الرسل يجب أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا يمشوا في الأسواق وكان علماء أهل الكتاب عارفين بأن الرسل لم يكونوا إلا بشرا وتسرية حكم الآية إلى غير موردها كما هي معهودة بين المسلمين تقتضي أن يكون المسؤول في كل شيء هو العالم به دون الجهال ومعلوم أن المرجع والمسؤول في أمور الدين أعني الإمام يجب أن يكون عالما بها لا مثل مروان بن الحكم ووليد بن يزيد وغيرهم من معاصري الأئمة (عليهم السلام) الذين لا يخطر ببال مسلم أنهم في العلم مثل الأئمة بل ولا أدون بما يمكن النسبة. (ش)

حيث يمتنع نسبته إلى الله تعالى بحسب ظاهر اللفظ وإن اريد نفيه بحسب المعنى.

قوله (وسمى الله تعالى الكتاب ذكرا) دليل على إثبات ما ذكره من أن الذكر عبارة عن الكتاب.

قوله (ولعلهم يتفكرون) أي يتفكرون ما فيه من المواعظ والنصائح والعبر والزواجر والثواب والعقاب فيحصل لهم الدواعي على فعل المحسنات وترك المنهيات.

قوله (وسوف تسئلون) عن محافظته ومراقبته والإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته.

قوله (وأولي الأمر منكم) هو الذي نصبه الرسول لأمر الأمة وخلافتهم وفوض إليه هداية الخلق وولايتهم ولا يتصور غير ذلك وقد مر تفسيره مرارا.

قوله (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بعلومهم التي خصهم الله تعالى بها والموصول عبارة عن أولي الأمر، وفائدته التنصيص بأنهم هم أهل العلم والاستخراج.

قوله (فرد الأمر أمر الناس إلى أولي الأمر منهم) أي فرد الله سبحانه أمر الناس في الآيتين المذكورتين إلى أولي الأمر منهم وهم الخلفاء المنصوبون من قبل الله تعالى وقبل رسوله (صلى الله عليه وآله) بطاعتهم وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة الرسول في الآية الأولى وأمر بالرد إليهم وإلى رسوله في الآية الثانية ومن فسر أولي الأمر فيهما بكبار الصحابة أو الامراء إن أراد به ما ذكرناه فنعم الوفاق وإلا فقبحه أظهر من أن يحتاج إلى البيان.

قوله (بلغ ما أنزل إليك) المراد به هو الوصية والولاية بدليل أنه نصب عليا (عليه السلام) عند نزول هذه الآية.

قوله (إن الله لا يهدي القوم الكافرين) دل على من أنكر ولاية علي (عليه السلام) فهو كافر.

قوله (وأمر بسمرات) أي بكنس سمرات والإضافة لأدنى ملابسة والسمر بفتح السين، وضم الميم من شجر الطلح والجمع سمر وأسمر وسمرات.

قوله (فقم شوكهن) ألقم رفتن خانه وغير آن تقول: قممت البيت أي كنسته والقمامة الكناسة.

قوله (فوقعت حسكة النفاق في قلوب القوم) أي بعض القوم أو اللام إشارة إلى جماعة معينة، والحسكة بالتحريك نبات تتعلق بصوف الغنم وتمسك من تعلق بها، ومن ثم قيل حسكة مسكة والإضافة من باب لجين الماء.

قوله (وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه) ضبع بفتح الضاد وسكون الباء العضد والرفع خلاف الوضع يقال: رفعته فارتفع والباء زائدة للتأكيد، والمقصود أنه لا يريد بنصب ابن عمه إلا إعلاء قدره. وأما القول بأن يرفع - بضم الفاء من باب شرف وأن الباء للسببية يعني ما يريد بذلك إلا

ص:142

أن يصير رفيع القدر شريفا بسبب عضد ابن عمه وقوته - فبعيد.

قوله (بين ظهرانينا) العرب تقول: هو نزل بين ظهرانينا بصيغة التثنية أي نزل بيننا.

قوله (وكبت عدونا) أي صرفه أو أذله أو أهلكه من الكبت بمعنى الصرف والإذلال والإهلاك.

والأولان في الصحاح والنهاية، والأخير في المغرب.

قوله (وقد يأتيك وفود) وفد فلان على الملك أي ورد عليه وأتاه رسولا في أمر فتح أو تهنية أو نحو ذلك فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب وجمع الوفد أوفاد ووفود والاسم الوفادة.

قوله (وأوصى إليه بألف كلمة وألف باب) يحتمل أن يراد بالكلمة الأولى النوع وبالثانية الصنف وبالباب الأول الجنس وبالثاني النوع. وبالجملة فتح له ألف ألف كلمة وألف ألف باب من العلم، ويحتمل أيضا أن يراد بذكر هذا العدد التكثير فيمكن الزيادة والله أعلم.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه وصالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن يحيى بن معمر العطار، عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي توفي فيه:

ادعوا لي خليلي، فأرسلتا إلى أبويهما فلما نظر إليهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعرض عنهما، ثم قال:

ادعوا لي خليلي، فأرسل إلى علي فلما نظر إليه أكب عليه يحدثه، فلما خرج لقياه، فقالا له: ما حدثك خليلك؟ فقال: حدثني ألف باب يفتح كل باب ألف باب.

* الشرح:

قوله (قال ادعوا لي خليلي فأرسل إلى علي) قيل: أصل الخلة الانقطاع وقيل: الاختصاص وقيل: الاصطفاء وقيل: صفاء المودة وسمي علي (عليه السلام) خليله على الأول لانقطاعه إليه وعلى الثاني لكمال اختصاصه به بحيث كان يوالي فيه ويعادي فيه، وعلى الثالث لكونه مصطفاه ومختاره وعلى الرابع لكونه صافي المودة له، قيل: الخلة من تخلل الشيء في القلب كما قال الشاعر: «قد تخللت مسلك الروح مني» وبه سمي الخليل خليلا وعلى هذا سمي (عليه السلام) خليله لتخلل حبه شغاف قلبه واستيلائه عليه وقيل: سمي خليلا لتخلقه بخلال حسنة اختصت به. وقيل: الخليل من لا يسع قلبه غير من فيه، يعني أنه لم يكن في قلبه موضع لغيره (عليه السلام) من أفراد البشر، وقيل: الخليل الصاحب المواد الذي يعتمد في الأمور عليه وكذلك كان علي (عليه السلام) لأنه اعتمد عليه في أمر الأمة، وقد قال أيضا (صلى الله عليه وآله) في شأنه (عليه السلام) «حبيبي» واختلف أيهما أفضل الخلة أو المحبة؟ فقيل: هما بمعنى واحد،

ص:143

فالحبيب لا يكون إلا خليلا والخليل لا يكون إلا حبيبا وقيل: درجة المحبة أرفع، وقيل: بالعكس ولكل وجه يطول الكلام بذكره.

قوله (أكب عليه يحدثه) أي أقبل عليه يحدثه أي أقبل عليه وألزم ذلك.

قوله (فقالا له ما حدثك خليلك) قالا ذلك تعنتا واستهزاء كما هو شأن المنافقين.

قوله (فقال حدثني ألف باب يفتح كل باب ألف باب) قال الغزالي في رسالة العلم اللدني: قال علي (رضي الله عنه): «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدخل لسانه في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب» وقال (رضي الله عنه): «لو ثنيت لي الوسادة وجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوارتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم» وهذه المرتبة لا تنال بمجرد التعليم بل يتمكن المرء في هذه المرتبة بقوة العلم اللدني.

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) ألف حرف كل حرف يفتح ألف حرف.

* الشرح:

قوله (ألف حرف) الحرف اللغة والطرف والجانب ولعل المراد به ألف قسم.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان في ذؤابة سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) صحيفة صغيرة، فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي شيء كان في تلك الصحيفة؟ قال: هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف حرف، قال أبو بصير: قال أبو عبد الله (عليه السلام): فما خرج منها حرفان حتى الساعة.

* الشرح:

قوله (كان في ذؤابة سيف) الذؤابة بالضم المقبض.

قوله (فما خرج منها حرفان) بل خرج حرف وجزء من حرف والاحتمالات الباقية بعيدة جدا بل يحكم العقل بالتأمل على عدمها، ثم الحرفان إما من الأصول أو من الفروع والأول أظهر.

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن فضيل [بن] سكرة قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، هل للماء الذي يغسل به الميت حد محدود؟ قال: إن رسول

ص:144

الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): إذا أنا مت فاستق ست قرب من ماء بئر غرس فغسلني وكفني وحنطني فإذا فرغت من غسلي وكفني فخذ بجوامع كفني وأجلسني ثم سلني عما شئت، فوالله لا تسألني عن شيء إلا أجبتك فيه.

* الشرح:

قوله (من ماء بئر غرس) قال في القاموس: بئر غرس في المدينة ومنه الحديث «غرس من عيون الجنة وغسل (صلى الله عليه وآله) منها».

قوله (ثم سلني عما شئت) من الأمور الكلية والجزئية مما له دخل في نظام هذا العالم والخلق وغيره ولا ينافي هذا ما مر وثبت من أنه (صلى الله عليه وآله) لم يخرج من الدنيا إلا وعلي (عليه السلام) علم جميع علمه وأنه لم يمت إلا وعلمه في جوف وصيه أما أولا فلأن هذا السؤال والتعليم أيضا قبل خروجه من الدنيا وقبل موته بناء على أن قوله: لم يمت معناه لم يخرج من الدنيا من باب الكناية، وأما ثانيا فلأن المراد بعلمه (عليه السلام) جميع علمه (صلى الله عليه وآله) قبل موته العلم بالجميع الذي شاء الله تعالى أن يحصل له قبل، وهذا مما شاء أن يحصل له بعده، يؤيد ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عليا (عليه السلام) كان عالما والعلم يتوارث ولن يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم علمه أو ما شاء الله» وأما ثالثا فلأن العرض المكرر جائز وتوجه النفس إلى ما توجهت إليه أولا محتمل، ثم هذا السؤال والجواب إما من باب الحقيقة وبالمعنى المعروف ولا يبعد ذلك من النفوس القدسية الإلهية، أو من باب المجاز، فإن النفس القدسية المطهرة من جميع الأدناس إذا توجهت إلى مثلها فاضت منه عليها جميع نقوشه الغيبية وعلومه الكلية والجزئية فسمى ذلك التوجه سؤالا وتلك الإفاضة جوابا مجازا تقريبا للمقصود إلى الفهم.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن ابن أبي سعيد، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموت دخل عليه علي (عليه السلام) فأدخل رأسه. ثم قال: يا علي! إذا أنا مت فغسلني وكفنني ثم أقعدني وسلني واكتب.

* الشرح:

قوله (فأدخل رأسه) يعني في الإزار. ولعل السر فيه أن لا يرى تغير حاله (عليه السلام) بسماع ذلك الكلام

ص:145

فإنه لم يكن شيء عنده (عليه السلام) أعظم من موته (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي، عن يونس بن رباط قال: دخلت أنا وكامل التمار على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له كامل: جعلت فداك حديث رواه فلان؟ فقال: اذكره، فقال: حدثني أن النبي (صلى الله عليه وآله) حدث عليا (عليه السلام) بألف باب يوم توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كل باب يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، فقال: لقد كان ذلك، قلت: جعلت فداك فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم؟ فقال: يا كامل باب أو بابان. فقلت [له]: جعلت فداك فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان؟ قال: فقال: وما عسيتم أن ترووا من فضلنا، ما تروون من فضلنا إلا ألفا غير معطوفة.

* الشرح:

قوله (فقال: يا كامل باب أو بابان) العطف من كلامه (عليه السلام) وليس من باب الشك منه (عليه السلام) لتقدسه عنه ولا من الراوي لدلالة سؤاله بعده على ذلك بل المقصود أنه ظهر باب تام وشئ من باب آخر، وتسميته بابا إما من باب تسمية الجزء باسم الكل أو من باب التغليب.

قوله (وما عسيتم أن ترووا من فضلنا) «ما» نافية و «عسى» من أفعال المقاربة، وضمير جمع المخاطب فاعله و «أن ترووا» مفعوله وإضافة الفضل للعموم والمقصود نفي قرب رواية فضائلهم، وفيه مبالغة على عدم إمكانها لأن عدم قرب حصول الشيء دل بحسب العرف على عدم إمكان حصوله، وجعل ترووا على البناء للمفعول من التروية بمعنى الحمل على الرواية يقال: رويته إياه أي حملته على روايته ومنه روينا في ا لأخبار بعيد جدا.

قوله (ما تروون من فضلنا إلا ألفا غير معطوفة) نقل عن الفاضل الأمين الأسترآبادي أن الألف الغير المعطوفة احتراز عن الهمزة وكناية عن الوحدة أو إشارة إلى ألف منقوشة ليس قبلها صفر أو غيره، وعن الشيخ بهاء الملة والدين أن المراد بها باب واحد ناقص لأن الألف على رسم الخط الكوفي صورتها هكذا «- ا» وكونها غير معطوفة أي غير مائل طرفها كناية عن نقصانها ولا يرد عليه ما سبق من ظهور باب أو بابين لدلالته على ظهور باب تام وشئ من باب آخر إذ له أن يحمل البابين على أبواب الفروع وهذا الباب المعبر عنه بالألف الناقصة على باب من أبواب الأصول، ويمكن أن يقال: إن ألفا بفتح الألف وسكون اللام ويراد به باب واحد وعبر عنه بالألف لأنك قد عرفت أن

ص:146

الباب الواحد ينحل بألف باب مع إظهار تكثره ويراد بقوله «غير معطوفة» أنه ليس معه معطوفه وهو قول السائل «أو بابان» والمعنى إلا بابا واحدا لا بابين فليتأمل.

ص:147

باب الإشارة والنص على الحسن بن علي (عليهما السلام)

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني وعمر بن أذينة، عن أبان، عن سليم بن قيس قال: شهدت وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه الحسن (عليه السلام) وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح وقال لابنه الحسن (عليه السلام): يا بني! أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين (عليه السلام)، ثم أقبل على ابنه الحسين (عليه السلام) فقال:

وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعها إلى ابنك هذا، ثم أخذ بيد علي بن الحسين (عليهما السلام) ثم قال لعلي بن الحسين: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي وأقرئه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومني السلام.

* الشرح:

قوله (وقال لابنه الحسن (عليه السلام)) روى مسلم في صحيحه (1) عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله) اعتنق الحسن وقال «اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه». وعن البراء قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) واضعا الحسن على عاتقه وهو يقول «اللهم إني أحبه فأحبه» (2) قال محيي الدين في شرح هذا الحديث: محبة أهل البيت واجبة على الجملة وخصوصا من حض رسول الله (صلى الله عليه وآله) على محبته بالتعين وطلب من الله تعالى أن يحبه وأن يحب من أحبه وتلك درجة جعلها الله سبحانه لمن يحبه حقيقة ويلعن باغضه ومعاديه. وقد ظهرت بركة هذا الدعاء وقبوله فحقن دماء الأمة وتنزه عن عرض الدنيا وتسليمه الملك لمعاوية خوف الفتنة وحوطا على الأمة ونظر لدينه. هذا كلامه.

قوله (وأقرئه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)) أقرئه أمر من المجرد أو من المزيد يقال قرأ عليه وأقرأه إذا بلغه.

ص:148


1- (1) و (2): 7 ص 130.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه لما حضره الذي حضره قال لابنه الحسن: ادن مني حتى أسر إليك ما أسر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلي وائتمنك على ما ائتمنني عليه، ففعل.

* الشرح:

قوله (حتى أسر إليك ما أسر رسول الله (صلى الله عليه وآله)) من العلوم اللدنية وغيرها.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي قال: حدثني الأجلح وسلمة بن كهيل وداود بن أبي يزيد وزيد اليمامي قالوا:

حدثنا شهر بن حوشب: أن عليا (عليه السلام) حين سار إلى الكوفة استودع أم سلمة كتبه والوصية، فلما رجع الحسن (عليه السلام) دفعتها إليه.

«وفي نسخة الصفواني:

4 - أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف، عن أبي بكر، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن عليا صلوات الله عليه حين سار إلى الكوفة، استودع أم سلمة كتبه والوصية فلما رجع الحسن (عليه السلام) دفعتها إليه».

* الشرح:

قوله (حدثني الأجلح) هذا وزيد اليمامي بالميم وفي بعض النسخ زيد اليماني بالنون لم أجدهما في كتب الرجال التي رأيناها.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن وأشهد وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح، ثم قال لابنه الحسن: يا بني أمرني رسول الله أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت

ص:149

أن تدفعه إلى أخيك الحسين، ثم أقبل على ابنه الحسين وقال: أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك هذا، ثم أخذ بيد ابن ابنه علي بن الحسين، ثم قال لعلي بن الحسين: يا بني وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك محمد بن علي وأقرئه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على ابنه الحسن، فقال: يا بني أنت ولي الأمر وولي الدم، فإن عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم.

* الشرح:

قوله (فضربة مكان ضربة ولا تأثم) يحتمل النهي أي لا تأثم بالمثلة أو بقتل غير قاتلي كما هو دأب أقرباء الحكام فإنه قد يقتل بواحد قبيلة لقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ومما يدل على ذلك ما روي عنه (عليه السلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله وهو مذكور في نهج البلاغة حيث قال «أوصيكما بتقوى الله - إلى أن قال: - يا بني عبد المطلب لا ألفينكم (لا أجدنكم) تخوضون ظ: في دماء المسلمين خوضا ألا لا تقتلن بي غير قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» ثم النهي عنهما إنما هو لتعليم الأمة وإلا فالحسنين (عليهما السلام) كانا منزهين (1) عن فعل ما لا يجوز شرعا وأما القول بأن المراد لا تأثم بالزيادة عن الضربة الواحدة على سبيل المبالغة حيث أمر أولا بضربة ونهى ثانيا عن الزيادة عنها وعدها إثما فمستبعد، ويحتمل الخبر يعني لا تأثم بالزيادة إن زدت، أولا تأثم بالضربة الواحدة لوقوعها قصاصا، وهذا أيضا بعيد فالأصوب ما ذكرناه أولا.

* الأصل:

6 - الحسين بن الحسن الحسني رفعه ومحمد بن الحسن عن إبراهيم بن إسحاق الأحمري رفعه قال: لما ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) حف به العواد وقيل له: يا أمير المؤمنين أوص، فقال: اثنوا لي وسادة ثم قال: الحمد لله حق قدره متبعين أمره وأحمده كما أحب، ولا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد كما انتسب، أيها الناس كل امرئ لاق في فراره ما منه يفر والأجل مساق النفس إليه والهرب منه موافاته كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله عز ذكره إلا إخفاءه هيهات علم مكنون، أما وصيتي فأن لا تشركوا بالله جل ثناؤه شيئا، ومحمدا (صلى الله عليه وآله) فلا تضيعوا

ص:150


1- (1) قوله «فالحسنين (عليهما السلام)» والصحيح الحسنان ولكن وجدنا في النسخ هكذا ولعله من غلط الكاتب ومثله كثير في القسم الأخير من هذا الكتاب. (ش)

سنته، أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا، حمل كل امرئ مجهوده وخفف عن الجهلة، رب رحيم وإمام عليم، ودين قويم، أنا بالأمس صاحبكم، و [أنا] اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك المراد، وإن تدحض القدم فإنا كنا في أفياء أغصان وذرى رياح، وتحت ظل غمامة اضمحل في الجو متلفقها، وعفا في الأرض محطها، وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما وستعقبون مني جثة خلاء، ساكنة بعد حركة وكاظمة بعد نطق، ليعظكم هدوي وخفوت إطراقي وسكون أطرافي، فإنه أوعظ لكم من الناطق البليغ، ودعتكم وداع مرصد للتلاقي، غدا ترون أيامي ويكشف الله عزوجل عن سرائري وتعرفوني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي، إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي [وإن أعف] فالعفو لي قربة ولكم حسنة، فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم، فيالها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة، جعلنا الله وإياكم ممن لا يقصر به عن طاعة الله رغبة أو تحل به بعد الموت نقمة، فإنما نحن له وبه. ثم أقبل على الحسن (عليه السلام) فقال: يا بني ضربة مكان ضربة ولا تأثم.

* الشرح:

قوله (حف به العواد) جمع العائد من العيادة وهي الزيارة.

قوله (اثنوا لي وسادة) ثنى الشيء كسمع رد بعضه على بعض فتثنى وأنثنى.

قوله (الحمد لله حق قدره) أي حمدا حق قدره وتعظيمه، حمده إجمالا بما يليق عظمته للتنبيه على أن الإتيان بتفاصيله متعسر بل متعذر لأن ذلك متوقف على معرفة عظمته والقدرة على إحصاء ثنائه وهما خارجان عن طوق البشر كما قال (صلى الله عليه وآله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

قوله (متبعين أمره) حال عن فاعل الحمد وإنما أتى به بعد الإشارة إلى أن الحمد بإزاء ذاته وصفاته للدلالة على أنه أيضا بإزاء نعمه التي أجلها وأكملها وأعظمها وأفضلها هي متابعة أمره لأنها مع كونها نسبة شريفة في هذه الدار سبب لجميع النعم في دار القرار.

قوله (وأحمده كما أحب) الإجمال هنا كالسابق وفيه توقع لأن يجعل حمده مثل حمد أحبه، وإشعار بأن الحمد الذي يليق به لا يقدر عليه غيره، ويحتمل أن يكون الكاف زائدا فيكون حمده حمدا هو أحبه وإنما حمده بكلا نوعي الحمد أعني الثبات والاستمرار على وجه التجدد للاشعار

ص:151

باستحقاقه لهما وعطف الفعلية على الاسمية جايز أيضا سيما إذا كانت الإسمية آئلة إلى الفعلية.

قوله (ولا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد) عطف الفعلية على الاسمية جايز أيضا على أنه يحتمل أن يكون التقدير: وأشهد أن لا إله إلا الله، وإنما وصفه بهذه الأوصاف الثلاثة لأنها من أخص صفاته لدلالة الأول على نفي الشركة في الذات والصفات والثاني على نفي التجزي والثالث على كونه مرجعا لجميع الممكنات ولا شيء مما سواه كذلك.

قوله (كما انتسب) أي كما انتسب إلى هذه الصفات في صورة التوحيد وغيرها.

قوله (أيها الناس كل امرئ لاق في فراره ما منه يفر) كما قال الله تعالى (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) وذلك لأن لحوق الموت ضروري وقد أحسن بقوله «في فراره» فإنه لما كان الإنسان دائما فارا من الموت طبعا وكان لابد منه لا جرم يلاقيه في حال فراره.

قوله (والأجل مساق النفس إليه) المراد بالأجل إما مدة عمر الإنسان يعني أن مدة كون النفس في هذا البدن محل لسوقها إلى الموت فإن النفس بانقضاء كل جزء من العمر تقرب من الموت أو الوقت المضروب للموت، قال جل شأنه (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة) وفيه حث على الاستعداد لما بعد الموت وإشارة إلى أن الموت في حال الحياة، نعم ما قيل «موتوا قبل أن تموتوا».

قوله (والهرب منه موافاته) الهرب بالتحريك الفرار والموافاة الإتيان وهذه الفقرة كالأولى في غاية اللطف فإن كل هارب من شيء يطلب البعد منه إلا الهارب من الموت فإن فراره منه في مدة عمره يستلزم انقطاع تلك المدة وانقطاعها يستلزم ملاقاة الموت وموافاته. والحمل من باب المبالغة لكمال اللزوم والاتصال.

قوله (كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر) «كم» خبرية و «أطردت» صيغة المتكلم وحده من باب الأفعال «والأيام» مفعوله، يقال: أطردت الشيء أي أخرجته وحقيقته صيرته طريدا.

«وأبحثها» حال عن فاعل «أطردت» بتقدير قد، وهذا الأمر يحتمل أمرين: أحدهما خفاء الحق ومظلومية أهله وظهور الباطل ورواج أهله، والمراد بالمكنون حينئذ سر ذلك وسببه والمعنى: كم صيرت الأيام طريدة لي أتبع بعضها بعضا والحال أني أبحث فيها عن سر هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه وذلك لأنه من العلوم المتعلقة بالقضاء والقدر، وثانيهما ما ذكره شارح نهج البلاغة وهو ما وقع من قتله وضربه بالسيف والمراد حينئذ وقته المعين ومكانه المخصوص وكيفية وقوعه على التفصيل، يعني: كم صيرت الأيام والأزمان طريدة لي وقد كنت أبحث فيها لأعرف ذلك على التفصيل فأبى الله إلا إخفاءه فإن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه لقوله (إن الله عنده علم الساعة - الآية) وإن كان قد أخبره الرسول (صلى الله عليه وآله) بكيفية قتله مجملا كما روي عنه أنه قال «سيضرب على

ص:152

هذه - وأشار إلى هامته - فتخضب منها هذه - وأشار إلى لحيته -» وعنه أنه قال له «أتعلم من أشقى الأولين؟ قال: نعم عاقر الناقة، وقال له: أتعلم من أشقى الآخرين؟ قال: لا، قال: من يضربك على هذه فتخضب هذه» وأما بحثه هو عن تحصيل الوقت المعين المحدود والكيفية المشخصة المعينة ونحوها من القرائن المشخصة وذلك البحث إما بالسؤال من الرسول (صلى الله عليه وآله) مدة حياته وكتمانه إياه أو بالبحث والفحص من قرائن أحواله في سائر أوقاته مع الناس كما هو ظاهر العبارة.

قوله (هيهات علم مكنون) أي بعد ذلك العلم عنا وهو علم مكنون مستور عن الخلق مختص به جل شأنه.

قوله (أما وصيتي فأن لا تشركوا بالله شيئا) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أوامره ونواهيه وسائر ما نطق به القرآن العزيز، فهو ترغيب في التوحيد وحث على الإخلاص.

قوله (ومحمدا (صلى الله عليه وآله) فلا تضيعوا سنته) عطف «على أن لا تشركوا» أي أما وصيتي فمحمدا أي فإن تحفظوا محمدا وترعوا جانبه فلا تضيعوا سنته وهي شريعته التي قررها زمان رسالته وفيه ترغيب في التمسك بها وعدم إهمالها.

قوله (أقيموا هذين العمودين) تأكيد أو استئناف والمراد بالعمودين عدم الشرك وعدم التضييع أعني التوحيد المطلق والسنة على سبيل الاستعارة المرشحة، إذ كما أن مدار الخيمة وقيامها بالعمود كذلك مدار الإسلام ونظام أمور المسلمين في معاشهم ومعادهم على التوحيد والتمسك بالسنة. والإقامة ترشيح، والقول بأن المراد بالعمودين الحسن والحسين (عليهما السلام) بعيد.

قوله (وأوقدوا هذين المصباحين) المراد بهما ما ذكر على سبيل الاستعارة المرشحة أيضا إذ كما أن المصباح يهدي في الظلام إلى الطريق الموصل إلى المطلوب كذلك التوحيد والسنة النبوية يهديان من ظلمات الجهل إلى طريق الحق ويوصلان إلى جواره في جنات النعيم وهو المطلوب الحقيقي للسالك في بيداء الطبائع البشرية، والإيقاد ترشيح.

قوله (وخلاكم ذم ما لم تشردوا) أي عداكم وجاوزكم ذم ولوم بعد التمسك بالتوحيد والسنة ما لم تشردوا ولم تتفرقوا عن دين الحق وما أنتم عليه، والغرض أنه لا يلحقكم ذم أصلا ما دمتم ثابتين على ذلك.

قوله (حمل كل امرئ مجهوده وخفف عن الجهلة رب رحيم وإمام عليم ودين قويم) التحميل التكليف يقال: حملته الشيء كلفته حمله، والدين القويم هو الذي لا اعوجاج فيه ولا صعوبة، والإمام العليم الرسول المبين لكيفية سلوك سبيل الله ومراحله ومنازله والهادي فيه بما يقتضيه حكمته من القول والعمل، أو أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه لكونه وارث علمه وسالك مسالكه،

ص:153

والظاهر أن حمل وخفف على صيغة المعلوم، و «رب» وما عطف عليه فاعلهما على سبيل التنازع ولما أمر أولا بإقامة هذين العمودين وإيقاد هذين المصباحين اللذين يدور عليهما التكليف أشار بهذا القول إلى أن التكليف بذلك يتفاوت بحسب تفاوت مراتب الرجال فالرب الرحيم والإمام العليم والدين القويم حملوا كل رجل ما هو مقدوره وكلفوه بما هو مجهوده فكلفوا العلماء وأهل الفضل والعقل بالتفكر والتأمل والتعليم والإرشاد والهداية والاستدلال وخففوا عن الجهال وضعفاء العقول ذلك وكلفوهم بما هو مقدورهم وهو المحسوس من العبادات والمتابعة لأولي الفضل في القول والعمل فتكليفهم دون تكليف هؤلاء العظام وإنما قلنا ذلك لاحتمال أن يكون الفعلان على صيغة المجهول وقوله «رب رحيم» إلى آخره حينئذ إما خبر مبتدأ محذوف تقديره المكلف رب رحيم ووصفه بالرحمة لمناسبة ما ذكر من التخفيف عن الجهلة أو فاعل لفعل يفسره حمل أي حملهم رب رحيم كقوله (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال).

قوله (أنا بالأمس صاحبكم) في الأمر والنهي والمحاربة مع الأقران والمقاتلة مع أهل الخذلان وغير ذلك من الأفعال والأعمال التي لا تصدر إلا من الأقوياء.

قوله (وأنا اليوم عبرة لكم) يمكن لكم الاعتبار بما طرأ من الضعف بعد القوة ومن السكون بعد الحركة ومن العجز بعد القدرة، وبالجملة تلك الأمور ونحوها من مصرعه (عليه السلام) بعد كونه صريعا للأقران ومصارعا للشجعان عبرة لأولي الألباب.

قوله (وغدا مفارقكم) بالموت وأراد بالغد معناه حقيقة لعلمه (عليه السلام) بأنه يموت في تلك الواقعة غدا لا ما يستقبل من الزمان مطلقا، وكل هذه التعبيرات محل الاعتبار يتنبه بها أولو الأحلام.

قوله (إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك المراد) الوطأة الدوس بالرجل والمشي بها ولعل المراد هنا القدم مجازا أي أن يكون لي ثبات قدم في هذه المزلة التي هي محل زوال الحياة وبقاء فيها فذاك المراد لكشفه بأنه مراد الله تعالى وفيه رضاء بالواقع وتفويض الأمر إلى الله تعالى.

قوله (وإن تدحض القدم فإنا كنا في أفياء أغصان وذرى رياح وتحت ظل غمامة، اضمحل في الجو متلفقها وعفا في الأرض محطها) الأفياء جمع فيئ وهو الظل وأصله الرجوع وإنما سمي الظل فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب، وذرى الرياح بالفتح كنفها ومهبها يقال: أنا في ذرى فلان أي في كنفه، وذرى الرياح بالضم اسم لما ذرته الريح وأطارته، ولا يمكن إرادته هنا إلا بتكلف وهو أن المراد بالكون فيه الكون فيما بينه ومن جملته، والغمام السحاب الواحدة غمامة، والجو ما بين السماء والأرض، والمتلفق إما اسم مفعول من تلفق أي اجتمع أو مصدر ميمي منه بمعنى الاجتماع، وضمير التأنيث عايد إلى الغمام، والعفاء الدروس والانمحاء يقال: عفا الأثر أي درس

ص:154

وانمحى، والمحط بالحاء والطاء المهملتين المنزل والأثر وضميره راجع إلى الغمام ورجوعه إلى ذرى الرياح بعيد ودحض القدم كناية عن الموت أي إن مت فلا عجب فإنا كنا في هذه الأمور وكنى بها عن أحوال الدنيا ومستلذاتها وقلة ثباتها والتمتع بها وفيه حث على عدم الركون إليها وترغيب في الاستعداد لما بعد الموت، وقيل: أراد على وجه الاستعارة بالأغصان الأركان من العناصر وبالأفياء تركيبها المعرض للزوال، وبالرياح الأرواح، وذراها الأبدان الفائضة هي عليها بالجود الإلهي، وبالغمامة الأسباب العلوية من الحركات السماوية والاتصالات الكوكبية والأرزاق المفاضة على الإنسان في هذا العالم التي هي سبب بقائه، وكنى باضمحلال متلفقها في الجو عن تفرق تلك الأسباب وزوالها، وبعفاء محطها في الأرض عن فناء آثارها في الأبدان.

قوله (وإنما كنت جارا جاوركم بدني أياما) أراد بالأيام مدة حياته، وفيه تنبيه على أن مجاورته إنما كانت بالبدن فقط، وأما نفسه القدسية فإنما كانت متصلة بالملأ الأعلى، غير مايلة إلى البقاء في الدنيا ومجاورة أهلها أو على أن المجاورة إنما هي من عوارض الجسمية فتكون متعلقة بالبدن فقط.

قوله (وستعقبون مني جثة خلاء) أي خالية من الروح، والجثة الشخص والبدن وفيه مع ما يليه أيضا عبرة واتعاظ لأولي الأبصار.

قوله (وكاظمة بعد نطق) الكظوم السكوت يقال: كظم الرجل يكظم كظوما إذا أمسك عن الكلام والنفس فهو كاظم أي ساكت.

قوله (ليعظكم هدوي وخفوت إطراقي وسكون أطرافي) الهدوء بضم الهاء والدال والهمزة أخيرا السكوت من باب منع يقال: أهدأه فهدأ أي سكنه فسكن والخفوت بضمتين السكون يقال:

خفت الصوت خفوتا أي سكن، ولهذا قيل للميت: خفت إذا انقطع كلامه وسكت فهو خافت والإطراق إرخاء العينين، يقال: أطرق فلان أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض وسكت، ويحتمل أن يكون الأطراق بفتح الهمزة جمع الطرق بكسر الطاء وهي القوة كحمل وأحمال. والأطراف جمع الطرف بالتحريك كجمل وأجمال والمراد بها الأعضاء والجوارح أو جمع الطرف بالتسكين وهو تحريك العين والجفن، والمراد بها هنا العيون والأجفان إلا أن جمعه لم يثبت إلا عند القتيبي، وقال الزمخشري: الطرف لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر. وقال الجوهري: الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحدا وجمعا.

قوله (فإنه أوعظ لكم من الناطق البليغ) أي فإن ما ذكر أوعظ لكم من ناطق صاحب الفصاحة والبلاغة فإن النفوس لمشاهدة ما فيه من العبرة والوعظ أكثر انفعالا وأشد اتعاظا واعتبارا من

ص:155

الاتعاظ والاعتبار بالقول المسموع ولو بأبلغ عبارة إذ ليس الخبر كالمعاينة.

قوله (ودعتكم وداع مرصد للتلاقي غدا) ولما حمد الله تعالى ونصحهم ووعظهم بما فيه عبرة أخذ في توديعهم بقوله: ودعتكم على سبيل الإنشاء وداع رجل مرصد أي معد ومهيئ للقاء الله تعالى أو للقائكم غدا يريد به يوم القيامة والمرصد حينئذ اسم فاعل من أرصدت له بمعنى أعددت وهيأت له، ويجوز أن يكون اسم مكان من الرصد بالتحريك والتسكين بمعنى المراقبة والانتظار.

قوله (ترون أيامي ويكشف الله عن سرائري وتعرفوني بعد خلو مكاني وقيام غير مقامي) في بعض النسخ «وقيام غيري مقامي» وفيه تذكير لهم بحسن خلقه وفضيلته وتنبيه على كمال شفقته على رعيته ليثبت العارفون بفضله على أتباعه ويبالغوا في مدحه وثنائه أداء لحمد الله تعالى بإعطاء ذلك الإمام العادل ويعرف الغافلون عن فضله ومنزلته ولزوم قصده في سبيل الحق عند مشاهدة المنكرات وظهور الظلم والجور ممن يقوم مقامه من خلفاء بني أمية وعمالهم. ويعلموا سرائره وهي أن حروبه ووقايعه وحرصه على هذا الأمر وأمره بالقتال لم يكن لنيل دنيا بل لإقامة الدين وترويج الشرع.

قوله (إن أبق فأنا ولي دمي) صدق الشرطية لا يستلزم وقوع الطرفين فلا ينافي ما مر من قوله (عليه السلام) «وغدا مفارقكم».

قوله (وإن أفن فالفناء ميعادي) كما قال جل شأنه (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) وقال (كل شيء هالك إلا وجهه).

قوله (فالعفو لي قربة ولكم حسنة) التنكير فيهما للتعظيم فإن مراتبهما متفاوتة وفيه ترغيب في العفو إذ يكتب لصاحبه حسنة جليلة وهي منشأ لقربه من الله باستحقاق رحمته ومغفرته وألطافه وإحسانه وترادف مننه وفيض مواهبه عليه، وقوله «لي» معناه لأجلي ورضائي بذلك، لا أن العفو سبب لقربه (عليه السلام) منه تعالى لأن الله تعالى قد أعطاه من القرب والمنزلة ما لا يؤثر فيه شيء من أفعالنا.

قوله (فاعفوا) أي فاعفوا عن ذنوب الإخوان وزلاتهم واصفحوا بالإعراض عن مؤاخذتهم وتعييرهم بها (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بإخفاء ذنوبكم وستر زلاتكم وترك تعييركم، فكما تحبون ذلك لأنفسكم فأحبوه لإخوانكم، مع أن عفوكم لإخوانكم سبب لمغفرتكم.

قوله (فيالها حسرة) النداء للتعجب والمنادى محذوف وحسرة بالنصب تميز عن الضمير المبهم كما في قوله يا لها قصة، وربه رجلا أي يا قوم أدعوكم لشيء تتعجبون منه وهي الحسرة على كل ذي غفلة عما يراد منه أن يكون عمره ومدة بقائه في دار التكليف حجة عليه يوم القيامة كما

ص:156

قال جل شأنه (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) و (فذوقوا فما للظالمين من نصير) أو تؤديه أيامه إلى شقوة تجره إلى عذاب السعير، والمؤدي إليها وإن كان عقائده الفاسدة وأعماله الكاسدة; إلا أن الزمان لما كان ظرفا لها نسب التأدية إليه مجازا.

قوله (جعلنا الله وإياكم ممن لا يقصر به عن طاعة الله تعالى رغبة) القصور العجز يقال: قصرت عن الشيء قصورا عجزت عنه ولم أبلغه وحرف المجاوزة متعلق بلا يقصر و «رغبة» تميز عن النسبة فيه وضمير به راجع إلى الله أي ممن لا يقصر بلطف الله وتوفيقه عن طاعة الله لأجل الرغبة عنها ولو جعلت رغبة فاعل «لا يقصر» وحرف المجاوزة متعلقا بها لزم خلاف المعنى المقصود.

قوله (أو تحل به بعد الموت نقمة) عطف على قوله يقصر والنقمة على وزن الكلمة وإن شئت سكنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت: نقمة وهي العقوبة والعذاب.

قوله (فإنما نحن له وبه) أي فإنما نحن موجودون لله تعالى وبه، ففي الأول إشارة إلى وجوب طلب التقرب منه بالإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات وفي الثاني إشارة إلى تفويض الأمور كلها إليه، وبهما يتم النظام في الدارين، ويحصل علو المنزلة في النشأتين.

7 - محمد بن يحيى، عن علي بن الحسن، عن علي بن إبراهيم العقيلي يرفعه قال قال: لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال للحسن: يا بني إذا أنا مت فاقتل ابن ملجم واحفر له في الكناسة - (ووصف العقيلي الموضع على باب طاق المحامل موضع الشواء والرؤاس) ثم ارم به فيه، فإنه واد من أودية جهنم.

* الشرح:

قوله (موضع الشواء والرؤاس) الشواء بالكسر اسم من شويت اللحم شيا والرؤاس بائع الروؤس والعامة تقول رواس، كذا في الصحاح.

ص:157

باب الإشارة والنص على الحسين بن علي (عليهما السلام)

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح (قال الكليني): وعدة من أصحابنا، عن ابن زياد، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن هارون بن الجهم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما حضر الحسن بن علي (عليهما السلام) الوفاة قال للحسين (عليه السلام): يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها، إذا أنا مت فهيئني ثم وجهني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأحدث به عهدا ثم اصرفني إلى أمي (عليها السلام) ثم ردني فادفني بالبقيع واعلم أنه سيصيبني من عائشة ما يعلم الله والناس صنيعها وعداوتها لله ولرسوله وعداوتها لنا أهل البيت، فلما قبض الحسن (عليه السلام) [و] وضع على السرير ثم انطلقوا به إلى مصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يصلى فيه على الجنائز (1) فصلى عليه الحسين (عليه السلام) وحمل وأدخل إلى المسجد فلما أوقف على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذهب ذو العوينين إلى عائشة فقال لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن ليدفنوه مع النبي (صلى الله عليه وآله) فخرجت مبادرة على بغل بسرج - فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجا - فقالت: نحوا ابنكم عن بيتي، فإنه لا يدفن في بيتي ويهتك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجابه، فقال لها الحسين (عليه السلام): قديما هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأدخلت عليه بيته من لا يحب قربه، وإن الله سائلك عن ذلك يا عائشة.

* الشرح:

قوله (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح قال الكليني وعدة من أصحابنا) بكر بن صالح مشترك بين مجهول يروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وبين ضعيف وهو بكر بن صالح الرازي يروي عن الكاظم (عليه السلام) فإن كان المراد به الأول فالسند الأول مسند مع احتمال الإرسال، لأن رواية إبراهيم ابن هاشم عمن يروي عن الباقر (عليه السلام) بلا واسطة بعيد جدا، وإن كان المراد به الثاني كما هو الظاهر لأن إبراهيم بن هاشم يروي عنه فالسند مرسل أو مربوط بالسند الثاني مع احتمال أن يكون هو والأول واحدا كما صرح به بعض أصحاب الرجال فتأمل.

قوله (ثم اصرفني إلى أمي ثم ردني فادفني بالبقيع) دل على أن مرقد فاطمة (عليها السلام) ليس

ص:158


1- (1) قوله (كان يصلى فيه على الجنائز) هذا المصلى واقع في زماننا في المسجد الشريف في الجانب الشرقي من الشباك المقدس. (ش)

بالبقيع (1).

قوله (صنيعها) (2) كذا في بعض النسخ المعتبرة وفي أكثرها «بغضها» وهو مفعول «ما يعلم» والعائد إلى «ما» محذوف وهو به.

قوله (ذهب ذو العوينين) هو الجاسوس، وقيل: هو مروان بن الحكم، وفي الصحاح: العين حاسة الرؤية وتصغيرها عيينة ومنه ذو العيينتين للجاسوس ولا تقل ذو العوينتين، وهذا يرده.

* الأصل:

2 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان الديلمي عن بعض أصحابنا، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حضرت الحسن بن علي (عليهما السلام) الوفاة، قال: يا قنبر! انظر هل ترى من وراء بابك مؤمنا من غير آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: الله تعالى ورسوله وابن رسوله أعلم به مني، قال: ادع لي محمد بن علي، فأتيته فلما دخلت عليه، قال: هل حدث إلا خير؟ قلت: أجب أبا محمد، فعجل على شسع نعله، فلم يسوه وخرج معي يعدو، فلما

ص:159


1- (1) قوله «ليس بالبقيع» ويدل على ذلك اتفاق المشايخ الثلاثة الكليني وابن بابويه والشيخ الطوسي أصحاب الكتب الأربعة على أن زيارتها (عليها السلام) في بيتها الواقع في زماننا في الشباك المقدس ويدل أيضا على ذلك القرائن العقلية لأن غرضهم كان إخفاء موتها وقبرها ولا يتيسر ذلك مع نقلها من بيتها إلى البقيع وكان الدفن في البيت معهودا فلابد أن يقال بدفنها في بيتها يقينا وإنما أنكر من أنكر لأغراض، أما الأعداء فلأغراض خبيثة وأما الموالي فلإقامة الشواهد على مخالفتها لما جرى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). (ش)
2- (2) قوله «صنيعها» أي عملها وديدنها فإن الناس علموا أنها كانت من أعداء أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) ولا ينكر ذلك أهل السنة أيضا وحملوا ذلك على ما بين المرأة وضراتها وأحمائها وخصوصا أولاد ضرتها خديجة وظهر ذلك منها مرارا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده في حرب الجمل وغيره، وثبت في كتبهم وكلما جرى ذكر خديجة رضي الله عنها بخير عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) تغيرت وغضبت، وقد صرح القرآن بصدور الإيذاء منها ومن صاحبتها له (صلى الله عليه وآله) ومخالفتهما وتظاهرهما عليه في قوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) و (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) وما دل من أحاديثهم على خلاف ذلك غير مقبول لمخالفة نص الكتاب ولو كان حذف شيء من القرآن ممكنا لحذفوه ثم إن بعض من لا بصيرة له ولا خبرة في لغة العرب فسر قوله (عليه السلام) «الناس صنيعها» إن الناس أي بني أمية يجعلونها آلة لأغراضهم وهو غلط وأما دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت عائشة ورحلته وتمريضه فيه فإنما هو لمجاورة المسجد وكان اطلاعه (صلى الله عليه وآله) على الناس وخروجه إليهم من بيتها أسهل عليه مع مرضه مما لو كان في بيت غيرها كما اطلع على صلاة أبي بكر بالناس وخرج ومنعه، ثم كون قبره الشريف مجاورا للمسجد كان أذكر له وأسهل لزيارته (صلى الله عليه وآله) وليس ذلك لفضل عائشة. نعم لا كلام في براءتها مما رميت به في مسألة القذف لأن رميها به هتك لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذلك كل زوجة بالنسبة إلى بعلها. (ش)

قام بين يديه سلم، فقال له الحسن بن علي (عليهما السلام): اجلس فإنه ليس مثلك يغيب عن سماع كلام يحيى به الأموات ويموت به الأحياء، كونوا أوعية العلم ومصابيح الهدى، فإن ضوء النهار بعضه أضوأ من بعض، أما علمت أن الله جعل ولد إبراهيم (عليه السلام) أئمة وفضل بعضهم على بعض وآتى داود (عليه السلام) زبورا! وقد علمت بما استأثر به محمدا (صلى الله عليه وآله)! يا محمد بن علي، إني أخاف عليك الحسد وإنما وصف الله به الكافرين، فقال الله عزوجل (كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق) ولم يجعل الله عزوجل للشيطان عليك سلطانا، يا محمد بن علي ألا أخبرك بما سمعت من أبيك فيك؟ قال: بلى. قال: سمعت أباك (عليه السلام) يقول يوم البصرة: من أحب يبرني في الدنيا والآخرة فليبر محمدا ولدي، يا محمد بن علي! لو شئت أن اخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك، يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي (عليهما السلام) بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي وعند الله جل اسمه في الكتاب، وراثة من النبي (صلى الله عليه وآله) أضافها الله عزوجل له في وراثة أبيه وأمه فعلم الله أنكم خيرة خلقه فاصطفى منكم محمدا (صلى الله عليه وآله) واختار محمد عليا (عليه السلام) واختارني علي (عليه السلام) بالإمامة، واخترت أنا الحسين، فقال له محمد بن علي: أنت إمام وأنت وسيلتي إلى محمد (صلى الله عليه وآله) والله لوددت أن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام، ألا وإن في رأسي كلاما لا تنزفه الدلاء ولا تغيره نغمة الرياح كالكتاب المعجم في الرق المنمنم أهم بإبدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل أو ما جاءت به الرسل وإنه لكلام يكل به لسان الناطق ويد الكاتب، حتى لا يجد قلما ويؤتوا بالقرطاس حمما فلا يبلغ إلى فضلك وكذلك يجزي الله المحسنين ولا قوة إلا بالله، الحسين أعلمنا علما وأثقلنا حلما وأقربنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) رحما، كان فقيها قبل أن يخلق وقرأ الوحي قبل أن ينطق ولو علم الله في أحد خيرا ما اصطفى محمدا (صلى الله عليه وآله); فلما اختار محمدا (صلى الله عليه وآله) واختار محمد عليا واختارك علي إماما واخترت الحسين، سلمنا ورضينا من [هو] بغيره يرضى و [من غيره] كنا نسلم به من مشكلات أمرنا.

* الشرح:

قوله (أعلم به مني) فلا يحتاج إلى أن أخبرك بعد النظر، وفيه شيء يمكن دفعه بحمل النظر على النظر الباطني.

قوله (فعجل على شسع نعله) الشسع أحد سيور النعل وهو الذي يدخل بين الإصبعين ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام السير الذي يعقد فيه

ص:160

الشسع.

قوله (فإنه ليس مثلك يغيب عن سماع كلام) وهو الوصية في الولاية والنص على الخليفة بعده فإن السامع لهذا الكلام والمقر بصدقه حي وإن كان ميتا والمنكر له ميت وإن كان حيا إذ الحياة هي حياة النفس بالمعرفة والموت هو موتها بالجهالة.

قوله (كونوا أوعية العلم ومصابيح الهدى) أمر بطلب العلم وتنوير القلب للرشاد والدلالة على السداد إذ نظام الإنسان في نفسه بالعلم والعمل بمقتضاه وهو الاهتداء إلى المقصود والتمسك بالحق فإنه إذا فعل ذلك فهو مصباح لمن تبعه واستضاء بنوره في سلوك سبيل الحق بخلاف ما إذا علم الحق وتركه فإنه ضال لنفسه ومضل لغيره وهكذا حال كل من ادعى الإمامة وليس بأهل لها، وهذا كالتمهيد لما هو المقصود هنا من أمره ومتابعة الحسين (عليه السلام) وزجره عن مخالفته.

قوله (فإن ضوء النهار) لما أمره بطلب العلم وقد كان عالما أشار هنا إلى بيان ذلك وبين أن العلم لتفاوت درجاته كالضوء فإن بعضه أشد ضياء من بعض فكذلك العلم بعضه أكمل من بعض وإليه أشار جل شأنه بقوله (وفوق كل ذي علم عليم) فلابد للعالم من رجوعه إلى الأعلم والإقرار بفضله وهذا أيضا تمهيد لما ذكر.

قوله (أما علمت) تمثيل لما ذكر وتقرير له وتنبيه على أنه كما كان بين أولاد خليل الرحمن تفاوت في العلم والفضل حتى صار الأفضل مستحقا للخلافة كذلك بين أولاد سيد الأوصياء تفاوت فيه حتى صار الأفضل بذلك مستحقا للخلافة والإمامة.

قوله (وقد علمت بما استأثر الله به محمدا (صلى الله عليه وآله)) أي علمت أن الله تعالى اختار محمدا من بين خلقه جميعا بسبب علمه وعمله وصفات كماله وامتيازه من جميع الوجوه وهذه الأمور مناط تقدمه على جميعهم وفيه تمهيد لما ذكر.

قوله (يا محمد بن علي إني أخاف عليك الحسد) (1) هو أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن

ص:161


1- (1) قوله «أخاف عليك الحسد» الحديث ضعيف غايته لأن محمد بن سليمان الديلمي ضعيف وما يروى عن المفضل أيضا غير معتمد عليه لحمل الغلاة عليه حملا كثيرا وإن قلنا باعتبار الرجل في نفسه ومع ذلك ففيه إرسال، لكن وليس في متنه ما ينافي الأصول ولا يرى فيه ضعف من جهة المعنى إلا مواجهة الحسن (عليه السلام) أخاه بهذا الكلام ونسبة الحسد إليه، ومحمد بن الحنفية معروف بالصلاح والفضل والتقوى وأجل من أن ينسب إليه الجهل بمقام ابني فاطمة سلام الله عليهما وشرفهما بالانتساب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وموقعهما في قلوب المسلمين ولا يحسد الإنسان كلما كان جاهلا إلا من يساويه أو يقرب منه في الرتبة ولا يحسد أحد من ضعاف الرعية الملوك على قدرتهم وثروتهم ولا أحد من صغار الطلبة العلامة والشهيد وأمثالهم على شهرتهم في العلم وإنما يحسدون من في رتبتهم أو ما يقربها، ثم صدور هذا الكلام من الإمام (عليه السلام) وهو سب وفحش وهتك حرمة وسوء أدب غير معهود منهم (عليهم السلام) ولم يواجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنافقين الذين كان يعرفهم بالتعيين بمثل هذا الكلام. (ش)

تزول عنه وتكون له دونه ومبدؤه قلة التفكر والجهل بالله وحكمته وكثرة الحرص وحب الدنيا وإنما نسبه إلى أبيه دون نفسه ولم يقل يا أخي تذكيرا له بما صدر عن أبيه من الوصية إلى الحسين (عليه السلام) في حضوره.

قوله (كفارا حسدا) الآية هكذا (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق) قوله و «لو يردونكم» مفعول «ود» و «لو» بمعنى أن المصدرية أي أن يردوكم، وقوله «كفارا» أي مرتدين حال عن ضمير المخاطبين وقوله «حسدا» مفعول له لود وعلة له، وقوله «من عند أنفسهم» متعلق به أي ودوا ذلك من عند أنفسهم وهواها وتشبيها لا من قبل التدين والميل مع الحق أو بحسد أي حسدا منبعثا من أصل نفوسهم من بعدما تبين لهم الحق بالمعجزات والنعوت المذكورة في كتبهم. إذا عرفت هذا فنقول: كل من أنكر الحق حسدا فهو في زمرة الكافرين ومتصف بصفتهم. نعوذ بالله من ذلك.

قوله (ولم يجعل الله تعالى للشيطان عليك سلطانا) حيث من عليك بالإيمان فلا تجعل له عليك سلطانا بالكفر والارتداد ومتابعة مشتهيات النفس كما قال جل شأنه (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان ليس له عليك سلطان يجبرك على الشر حتى تكون معذورا وإنما فعلك ينسب إلى نفسك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا كما قال عز شأنه (إن كيد الشيطان كان ضعيفا).

قوله (من أحب أن يبرني) بره يبره من باب علم أي أطاعه وأحسن إليه وأتى بحقوقه والغرض من هذه الأخبار حثه على الشكر بهذه النعمة الجليلة وعدم فعل ما يوجب زوالها.

قوله (يا محمد بن علي لو شئت) لعل المراد منه هو التنبيه بأن الإمام يجب أن يكون له علم بما في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات وأن لا يخفى عليه شيء من ضمائر القلوب وخطرات النفوس ليقل بذلك طمعه في الإمامة والولاية لعدم اتصافه بهذا العلم.

قوله (يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي) العطف للتفسير وإلا فالنفس لا تموت وقوله «من بعدي» تأكيد وتوضيح لاتصال إمامة الحسين (عليه السلام) بمفارقة روحه المقدسة من غير فصل لئلا يتوهم السامع جواز الانفصال، وفيه تذكير له بما سمعه من أبيه (عليه السلام) حين أحضره وسائر أخوته عند الوصية إلى ابنيه الحسن

ص:162

والحسين (عليهما السلام) وأشهدهم على ذلك، وقد روي أنه نظر بعد الوصية إلى محمد بن الحنفية فقال: هل حفظت بما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم، قال: فإني أوصيك بتوقير أخويك لعظم حقهما عليك.

قوله (وأنت وسيلتي) هي ما يتقرب به إلى الشيء ويتوصل به إليه.

قوله (قبل أن أسمع منك هذا الكلام) أي الكلام المخبر بموتك أو نسبة الحسد إلي.

قوله (ألا وإن في رأسي كلاما ما تنزفه الدلاء) تنكير «كلاما» للتكثير والتعظيم، والمراد به ما دل على مدحه وفضائله (عليه السلام) وجعل الرأس ظرفا له لأن اللسان مظهره وتشبيهه بالماء في الكثرة والغزارة مكنية ونسبة النزف إليه تخييلية والتمثيل أيضا محتمل، والنزف النزح تقول: نزفت ماء البئر نزفا إذا نزحت كله، والمقصود أن هذا الكلام في الكثرة والعظمة إلى حيث لا يمكن التكلم بجميعه.

قوله (ولا تغيره نغمة الرياح) النغمة الصوت الخفي وهذا تمثيل لثباته واستقراره وعدم زواله بمخاطرات النفس ووساوس الشيطان أو كناية عنه، يقال: هذا ما تغيره الرياح إذا كان ثابتا مستقرا.

قوله (كالكتاب المعجم) أي ما في رأسي من الكلام كالكتاب المعجم الذي أزيلت عجمته وعدم إفصاحه بالنقط والإعراب بحيث يكون المقصود منه ودلالته عليه واضحين ناظرين غير متلبسين على الناظر فيه من قولهم: أعجمت الكتاب فهو معجم أي أزلت عجمته وهي عدم الإفصاح ويمكن أن يراد بالكتاب المعجم الكتاب الغير المفصح لمقصوده من قولهم: أعجمه إذا لم يفصحه لا لقصور فيه بل للطف معانيه وكثرة لطائفه حتى يعجز اللسان عن بيانه.

قوله (في الرق المنمنم) الرق بالفتح وقد يكسر: جلد رقيق يكتب فيه والصحيفة البيضاء أيضا، والمنمنم المرقش والمزخرف والموشى، يقال: نمنم الثوب أي رقشه وزخرفه ووشاه وقد يطلق على الثوب الأبيض أيضا ولعل المراد بالرق المنمنم صدره لاتصافه بالزينة وحب أهل البيت (عليهم السلام)، أو بالضياء والصفاء عن دنس الحقد وسواد الحسد. وفي بعض النسخ «في الرق المنهم» يقال: أنهم الشحم والبرد إذا ذابا، وإنما وصف قلبه بالذوب لإذابة الغم والهم إياه.

قوله (أهم بأدائه) في بعض النسخ «بإبدائه» والمآل واحد.

قوله (فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل) الظاهر أن سبقت على صيغة المجهول وسبق على صيغة الماضي المعلوم من باب الاستئناف، واللام في الكتاب إما للعهد إشارة إلى القرآن العزيز أو للاستغراق الشامل لجميع الكتب المنزلة والترديد من باب منع الخلو فلا ينافي الجمع أو من باب الشك من الراوي على احتمال بعيد ولعل المقصود أنه سبقني على إبدائه الكتب السماوية وألسنة الرسل (عليهم السلام)، والحاصل أن أهل البيت لا يحتاجون إلى أن أذكر نعوتهم وأبدي

ص:163

فضائلهم لأن الله تعالى ذكرها وأبداها وألسنة الرسل ناطقة بها، وإنما قلت: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون الأول على صيغة المعلوم والثاني على صيغة المصدر ولكنه بعيد جدا.

قوله (أو ما حلت به الرسل) في بعض النسخ «أو ما مضت» وفي بعضها «أو ما جاءت» والأشهر في الرواية هو الأول.

قوله (وأنه لكلام يكل به لسانه الناطق [حتى يكل لسانه]) هكذا في أكثر النسخ المعتبرة وليس في بعضها قوله «حتى يكل لسان» وهو الأظهر ولعل المعنى على تقدير وجوده أن الكلام الذي في رأسي يكل به لسانه الناطق الفصيح ويعجز عن إبدائه حتى يبلغ غاية الكلال ويعجز عن النطق به بالكلية، وهذا ليس من باب الجزاف والتخمين بل هو حق ثابت في نفس الأمر إذ لا يعلم مدايح أهل البيت وشرف فضائلهم وعلو منزلتهم إلا الله تعالى.

قوله (ويد الكاتب حتى لا يجد قلما ويؤتوا بالقرطاس حمما فلا يبلغ فضلك) ضمير «لا يجد» للكاتب و «قلما» في حيز الاستغراق وضمير «يؤتوا» للناس وهو معطوف على «لا يجد» والعائد محذوف وهو منه، والحمم بضم الحاء وفتح الميم جمع الحممة كذلك وهي الفحمة والشيء الأسود، والفاء في قوله «فلا يبلغ» للتفريع وضمير يبلغ للكاتب أو للقرطاس، وفي كثير من النسخ «ولا يبلغ» بالواو للحال وهو الأظهر، ولعل المعنى أنه لكلام يكل به يد الكاتب لكثرة حركتها في كتابته حتى لا يجد قلما أصلا لصرف كله في الكتابة وحتى يؤتوا أي الناس من جانب الكاتب بالقراطيس كلها مسودة مملوة بفضائلك فلا يبلغ الكاتب أو القرطاس «فضلك بل المكتوب قليل من كثير وهذا ليس من باب الاغراق إذ لو صارت الأشجار أقلاما والأفلاك وما فيها قرطاسا والبحور مدادا لنفدت قبل أن تنفد كلمات فضائلهم (عليهم السلام).

قوله (كان فقيها قبل أن يخلق) أراد بخلقه خلق جسمه، وقد روي أن الأرواح المطهرة قبل تعلقها بالأبدان المقدسة كانوا عالمين معلمين للملائكة أيدهم الله تعالى بنوره وأفضلهم بقربه والقول بأن المراد أنه كان فقيها في علم الله قبل خلقه بعيد جدا.

قوله (سلمنا ورضينا) التسليم هو الإذعان والانقياد قولا وفعلا ظاهرا وباطنا، والرضا هو السرور بمر القضاء وإرادة الحق والسكون إلى أحكامه، والفرق بينهما كالفرق بين السبب والمسبب فإن الرضا سبب التسليم ومقدم عليه والتسليم فوقه.

قوله (من بغيره يرضى) أي من يرضى بغير الحسين (عليه السلام) فالظرف متعلق بما بعده والضمير المجرور راجع إلى الحسين (عليه السلام) و «يرضى بالياء» غائب مذكر وفاعله راجع إلى «من» والاستفهام للإنكار، وأما قراءة «نرضى» بالنون على أن يكون متكلما مع الغير كما في بعض النسخ فلا يخلو ما فيه لخلو «من» عن العائد إليه إلا أن يقدر أو يجعل ضمير المجرور له، والأخير واه.

ص:164

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد، عن سهل، عن محمد بن سليمان، عن هارون بن الجهم، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما احتضر الحسن بن علي (عليهما السلام) قال للحسين: يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها، فإذا أنا مت فهيئني ثم وجهني إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأحدث به عهدا ثم اصرفني إلى أمي فاطمة (عليها السلام) ثم ردني فادفني بالبقيع، واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها وعداوتها لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وعداوتها لنا أهل البيت، فلما قبض الحسن (عليه السلام) [و] وضع على سريره فانطلقوا به إلى مصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يصلي فيه على الجنائز فصلى على الحسن (عليه السلام)، فلما أن صلى عليه حمل فأدخل المسجد فلما أوقف على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلغ عائشة الخبر وقيل لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن بن علي ليدفن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فخرجت مبادرة على بغل بسرج - فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجا - فوقفت وقالت: نحوا ابنكم عن بيتي، فإنه لا يدفن فيه شيء ولا يهتك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجابه.

فقال لها الحسين بن علي صلوات الله عليهما: قديما هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قربه وإن الله سائلك عن ذلك يا عائشة! إن أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليحدث به عهدا، واعلمي أن أخي أعلم الناس بالله ورسوله وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ستره، لأن الله تبارك وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) وقد أدخلت أنت بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرجال بغير إذنه، وقد قال الله عزوجل: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند أذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعاول، وقال عزوجل: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقربهما منه الأذى وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الله حرم من المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياء وتالله يا عائشة! لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه رسول الله صلوات الله عليهما جائزا فيما بيننا وبين الله لعلمت أنه سيدفن وإن رغم معطسك، قال: ثم تكلم محمد بن الحنفية وقال: يا عائشة! يوما على بغل ويوما على جمل فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم، قال: فأقبلت عليه فقالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك؟ فقال لها الحسين (عليه السلام): وأنى

ص:165

تبعدين محمدا من الفواطم، فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم: فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو ابن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر، قال: فقالت عائشة للحسين (عليه السلام): نحوا ابنكم واذهبوا به فإنكم قوم خصمون، قال: فمضى الحسين (عليه السلام) إلى قبر أمه ثم أخرجه فدفنه بالبقيع.

* الشرح:

قوله (وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك) أي أعلم الناس بتأويل كتابه بقرينة السابق مكرها من أن يهتك فلا يرد أن الهتك مفضل عليه وهو ليس بصحيح.

قوله (لأن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا) دليل على أنه لا يجوز هتك ستره والدخول في بيته ودلالة الآية الأولى عليه ظاهرة وأما دلالة الآية الثانية والثالثة ففيها خفاء، اللهم إلا أن يقال:

النهي عن رفع الصوت والأمر بغضه وخفضه لرعاية الأدب ولأجل الأذى وهذه العلة موجودة فيما نحن فيه فيكون من باب قياس منصوص العلة.

قوله (الرجال بغير إذنه) هم أبو بكر وعمر والحفار والذين حملوهما ودفنوهما فيه.

قوله (وفاروقه) سمى عمر فاروق أبي بكر تهكما واستهزاء لأنه كان كثير التصرف في أموره وكان يفرق بين مصالحه ومفاسده ويجري عليه أمره ونهيه.

قوله (عند أذن رسول الله) هذا لا ينافي ما روي من أن الأنبياء والأوصياء يرفعون إلى السماء بعد ثلاثة أيام إذ ذلك لا يقتضي عدم رجوعهم على مراقدهم المقدسة والروايات على وجودهم فيها كثيرة، منها ما ورد من النهي عن الإشراف على بيت النبي كراهة أن يرى هو مع بعض أزواجه.

قوله (يغضون أصواتهم) غض صوته أي خفضه ولم يرفعه بصيحة كما هو دأب الأراذل وفيه تعظيم له (صلى الله عليه وآله).

قوله (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) أي جربها للتقوى أو جربها بأنواع التكاليف لأجل التقوى فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز جيده من رديه، وللتقوى ثلاث مراتب كما صرح به العلماء: الأولى التوقي عن الشرك الموجب للخلود في النار، الثانية التحرز عما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، الثالثة التنزه عما يشغل قلبه عن الحق وهو التقوى الحقيقي وأعلى المراتب.

قوله (إن الله حرم من المؤمنين أمواتا) رفع بذلك ما يتوهم من أن حرمة الدخول في بيته (صلى الله عليه وآله) بغير إذنه إنما كانت في حياته لا بعد موته.

قوله (وإن رغم معطسك) المعطس كمجلس الأنف وربما جاء بفتح الطاء، والرغام بالفتح

ص:166

التراب يقال: رغم أنفه من باب علم أي ذل رغما بحركات الراء، ورغم الله أنفه وأرغمه أي ألصقه بالرغام، هذا هو الأصل ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف من الخصم والانقياد على كره.

قوله (وقال يا عائشة! يوما على بغل ويوما على جمل) تعيير لها بخروجها على هذه الهيئة المذمومة للنساء سيما نساء النبي (صلى الله عليه وآله) حيث أمرهن الله تعالى بالاستقرار في البيوت بقوله (وقرن في بيوتكن) وقال: محمد أو ابن عباس خطابا معها:

تجملت تبغلت وإن عشت تفيلت * لك التسع من الثمن وللكل تملكت قوله (فما تملكين نفسك) النفوس البشرية كلها مائلة إلى الشرور والفساد فمن زمها بزمام العقل والشرع كان مالكا لها متصرفا فيها كتصرف المالك، ومن أرسلها غلبت عليه وأوردته في المهالك والمقابح.

قوله (ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم) أي لا تملكين مكانك ولا تستقرين فيه لأجل عداوة بني هاشم وإيصال السوء بهم، أو لا تملكين الأرض ولا تصيرين أميرا على أهلها من أجل عداوتهم، والأول من باب الاستفهام والثاني من باب الهزء والتهكم.

قوله (هؤلاء الفواطم يتكلمون) روى مسلم أنه أهدي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ثوب حرير فأعطاه عليا فقال: شققه بين الفواطم، قال ابن قتيبة: الفواطم ثلاث (1) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنت أسد بن هاشم أم علي (رضي الله عنه) ولا أعرف الثالثة، قال الأزهري: الثالثة هي فاطمة بنت حمزة الشهيد، وروى بعضهم عن علي (عليه السلام) أنه قسمه بين أربع فواطم الثلاث المذكورة والرابعة فاطمة بنت عقيل بن أبي طالب.

قوله (وأنى تبعدين) من الإبعاد أو التبعيد والاستفهام للإنكار.

قوله (وفاطمة بنت أسد بن هاشم) هي زوجة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وابنة عمه وأم أمير المؤمنين (عليه السلام) قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: هي أول هاشمية ولدت هاشميا.

قوله (عبد معيص بن عامر) المعيص بالعين والصاد المهملتين كأمير بطن من قريش وفي بعض النسخ المغيض بالمعجمتين.

قوله (فانكم قوم خصمون) أي شديد و الخصومة واللجاج، خذلها الله من لجاج وخصومة وقول زور افترته.

ص:167


1- (1) قوله «الفواطم ثلاث» لا فائدة في ذكر ذلك ولا مناسبة وإنما الفواطم الثلاث اللآتي ولدن محمد بن الحنفية من ذكرهن في متن الحديث: الأولى زوجة عبد المطلب والثانية زوجة أبي طالب والثالثة زوجة هاشم أم عبد المطلب. (ش)

باب الإشارة والنص على علي بن الحسين (عليهما السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين وأحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الحسين بن علي (عليهما السلام) لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) مبطونا معهم لا يرون إلا أنه لما به، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد! قال: قلت: ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك؟ قال: فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا. والله إن فيه الحدود، حتى أن فيه أرش الخدش.

* الشرح:

قوله (حتى أن فيه أرش الخدش) خدش الجلد قشره بعود أو نحوه خدشه يخدشه خدشا والخدوش جمعه لأنه سمى به الأثر وإن كان مصدرا والأرش هو الذي يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص ويسمى أرشا لأنه من أسباب النزاع، يقال: أرشت بين القوم إذا أوقعت بينهم. كذا في النهاية.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضر الحسين (عليه السلام) ما حضره، دفع وصيته إلى ابنته فاطمة ظاهرة في كتاب مدرج، فلما أن كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان دفعت ذلك إلى علي بن الحسين (عليهما السلام)، قلت له: فما فيه - يرحمك الله؟ فقال: ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى.

* الشرح:

قوله (في كتاب مدرج) الإدراج درهم پيچيدن، يقال: أدرجت الكتاب والثوب

ص:168

طويته.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة رضي الله عنها الكتب والوصية فلما رجع علي بن الحسين (عليهما السلام) دفعتها إليه. «وفي نسخة الصفواني:

* الشرح:

قوله (استودع أم سلمة رضي الله عنها الكتب والوصية) لعل المراد بعضها فلا ينافي ما مر.

قوله (وفي نسخة الصفواني) ذكر ما فيها في باب النص على أبي جعفر (عليه السلام) أولى ولعل وجه ذكره هنا أنه كان متصلا بالحديث المذكور في نسخة الصفواني.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان بن سدير، عن فليح بن أبي بكر الشيباني قال: والله إني لجالس عند علي بن الحسين وعنده ولده إذ جاءه جابر بن عبد الله الأنصاري فسلم عليه، ثم أخذ بيد أبي جعفر (عليه السلام) فخلا به، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني أني سأدرك رجلا من أهل بيته يقال له محمد بن علي يكنى أبا جعفر فإذا أدركته فأقرئه مني السلام، قال: ومضى جابر ورجع أبو جعفر (عليه السلام) فجلس مع أبيه علي بن الحسين (عليهما السلام) وإخوته فلما صلى المغرب قال علي ابن الحسين لأبي جعفر (عليه السلام): أي شيء قال لك جابر بن عبد الله الأنصاري؟ فقال: قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي اسمه محمد بن علي يكنى أبا جعفر فأقرئه مني السلام، فقال له أبوه: هنيئا لك يا بني ما خصك الله به من رسوله من أهل بيتك. لا تطلع إخوتك على هذا فيكيدوا كيدا لك كما كاد إخوة يوسف ليوسف (عليه السلام)».

* الشرح:

قوله (عن فليح) بضم الفاء وفتح اللام والحاء المهملة أخيرا يروي عن علي بن الحسين والباقر والصادق (عليهم السلام) مجهول.

قوله (فخلا به) خلا به ومعه وإليه خلوا وخلاء وخلوة سأله أن يجتمع معه في خلوة ففعل.

قوله (هنيئا لك) أي أشكر أو أذكر هنيئا لك وكل شيء يأتيك من الخير فهو هني وهذه الفضيلة والكرامة التي لا شيء أعظم منها أو يساويها جاءته من فضل الله تعالى بلا تعب ولا اكتساب.

ص:169

باب الإشارة والنص على أبي جعفر (عليه السلام)

* الأصل:

1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن أبي القاسم الكوفي، عن محمد بن سهل عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضر علي بن الحسين (عليهما السلام) الوفاة قبل ذلك أخرج سفطا أو صندوقا عنده، فقال: يا محمد احمل هذا الصندوق، قال: فحمل بين أربعة، فلما توفي جاء إخوته يدعون [ما] في الصندوق فقالوا: أعطنا نصيبنا في الصندوق، فقال: والله ما لكم فيه شيء ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إلي، وكان في الصندوق سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكتبه.

* الشرح:

قوله (أخرج سفطا أو صندوقا) (1) السفط بالتحريك واحد الأسفاط وهو ما يوضع فيه الثياب والآلات ونحوها، والشك من الراوي.

قوله (بين أربعة) رجال بأن أخذ كل واحد واحدا من أعمدته الأربعة.

2 - محمد بن يحيى، عن عمران بن موسى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله، عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: التفت علي بن الحسين (عليهما السلام) إلى ولده - وهو في الموت - وهم مجتمعون عنده، ثم التفت إلى محمد بن علي فقال: يا محمد! هذا الصندوق اذهب به إلى بيتك، قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكن كان مملوءا علما.

3 - محمد بن الحسن، عن سهل، عن محمد بن عيسى، عن فضالة بن أيوب، عن الحسين ابن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يرسل إليه بصدقة علي وعمر وعثمان وإن ابن حزم بعث إلى زيد بن الحسن وكان أكبرهم، فسأله الصدقة، فقال زيد: إن الوالي كان بعد علي الحسن وبعد الحسن الحسين وبعد الحسين علي بن

ص:170


1- (1) قوله «سفطا أو صندوقا» هذا الحديث يدل على أن ما يتركه الإمام إن كان مما يملكه بمنصب الإمامة لا يشترك فيه ورثته بل يختص بالإمام اللاحق، وأما سائر أمواله فيشتركون فيها ومثله الأنفال وسهم الإمام من الخمس. (ش)

الحسين وبعد علي بن الحسين محمد بن علي، فابعث إليه، فبعث ابن حزم إلى أبي، فأرسلني أبي بالكتاب إليه حتى دفعته إلى ابن حزم. فقال له بعضنا: يعرف هذا ولد الحسن؟ قال: نعم كما يعرفون أن هذا ليل ولكنهم يحملهم الحسد ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم، ولكنهم يطلبون الدنيا.

الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الكريم بن عمرو، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم - ثم ذكر مثله، إلا أنه قال: بعث ابن حزم إلى زيد بن الحسن وكان أكبر من أبي (عليه السلام).

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء مثله.

* الشرح:

قوله (بصدقة علي وعمر وعثمان) أي بدفاتر صدقاتهم لا بحاصلها كما هو الظاهر.

قوله (فأرسلني أبي بالكتاب إليه) (1) أراد بالكتاب دفتر الوقف أو كتابه (عليه السلام) بأنه وقف خاص والأول أظهر.

قوله (فقال له بعضنا) كلام الحسين بن أبي العلاء وضمير «له» لأبي عبد الله (عليه السلام) وهذا إشارة إلى ما ذكره زيد بن الحسن أو إلى كون الوالي هؤلاء والمآل واحد.

قوله (ولو طلبوا الحق بالحق) أي لو طلبوا دين الحق أو الآخرة بالإمام الحق ومتابعته لكان خيرا لهم ولكنهم يطلبون الباطل وهو الدنيا بالدعاوى الباطلة.

ص:171


1- (1) قوله «بالكتاب إليه» أي إلى ابن حزم وكان من أخلاف عمرو بن حزم الأنصاري الذي تولى جباية الزكاة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وله رواية في مقادير الزكاة وأنصابها منقولة في كتب الحديث. (ش)

باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصباح الكناني قال: نظر أبو جعفر (عليه السلام) إلى أبي عبد الله (عليه السلام) يمشي فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزوجل: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).

* الشرح:

قوله (ونريد أن نمن) أي ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض بالظلم عليهم وغصب حقوقهم ونجعلهم أئمة في الدين ونجعلهم الوارثين لعلوم الأنبياء والمرسلين، وفي جعل الأرض ظرفا للاستضعاف تنبيه على أنهم ذووا قوة عظيمة في الباطن حتى لو أرادوا إهلاك الخلق دفعة وإزالة الجبال والسماء بغتة لقدروا على ذلك.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حضرت أبي (عليه السلام) الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحدا.

* الشرح:

قوله (لأدعنهم والرجل) أدعنهم بفتح الدال من الودع وهو الترك والواو للحال أي لأتركنهم وحالهم ذلك لكمالهم في علم الدين. وفي بعض النسخ «لأرعينهم» بسكون الراء من الرعاية.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن المثنى، عن سدير الصيرفي قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبه خلقه وخلقه وشمائله، وإني لأعرف من ابني هذا، شبه خلقي وخلقي وشمائلي يعني أبا عبد الله (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (شبه خلقه وخلقه وشمائله) للإنسان الكامل صورة باطنة تسمى تارة بالصورة الملكية وتارة بالخلق الحسن وأخرى بالكمال وهي الإنسان حقيقة، ومعنى وصورة ظاهرة وهي

ص:172

تنقسم على قسمين: أحدهما الجثة المعتدلة والقامة المستوية وهي المراد من الخلق، وثانيهما الاستقامة في كل عضو عضو والاعتدال فيه من حيث اللون والتركيب وهي المراد بالشمائل جمع الشمأل بمعنى الخلق أيضا وإلى هذه الأمور أشار (عليه السلام) بهذا القول وإنما أفرد الأولين وجمع الأخير لأن التعدد معتبر في الأخير دون الأولين.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن طاهر، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأقبل جعفر (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خير البرية أو أخير.

* الشرح:

قوله (هذا خير البرية أو أخير) الشك من الراوي، ولعل المراد بالبرية برية زمانه أو المعصوم مستثنى بدليل العقل والنقل وفيه تنصيص على إمامته لأن الناس لابد لهم من إمام ولا يكون الإمام إلا من هو خير منهم، ثم المراد بالأخير الأبلغ في الخيرية والأكمل فيها والأشهر فيه وفي ضده الخير والشر وأما الأخير والأشر فأصلان مرفوضان إلا نادرا كما قال جل شأنه حكاية عن الكفار (بل هو كذاب أشر) (1) ورد عليهم بقوله تعالى: (سيعلمون غدا من الكذاب الأشر).

5 - أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن يونس بن يعقوب، عن طاهر قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأقبل جعفر (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خير البرية.

* الأصل:

6 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن فضيل بن عثمان، عن طاهر قال: كنت قاعدا عند أبي جعفر (عليه السلام) فأقبل جعفر (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا خير البرية.

* الشرح:

قوله (عن طاهر) الظاهر أنه مولى أبي جعفر (عليه السلام) وأنه مشكور.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل عن القائم (عليه السلام) فضرب بيده على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال:

هذا والله قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، قال عنبسة: فلما قبض أبو جعفر (عليه السلام) دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)

ص:173


1- (1) قوله «بل هو كذاب أشر» لا يخفى أن الأشر بفتح الهمزة وكسر الشين وتخفيف الراء مهموز بصيغة الصفة المشبهة نحو خشن، ولم يقرأ أحد بفتح الشين وتشديد الراء من المضاعف بصيغة أفعل التفضيل إلا شاذا فيما روي عن أبي قلابة، وتمسك الشارح به ليس بجيد بل هو مما لا ينبغي. (ش)

فأخبرته بذلك فقال: صدق جابر، ثم قال: لعلكم ترون أن ليس كل إمام هو القائم بعد الإمام الذي كان قبله.

* الشرح:

قوله (ثم قال لعلكم ترون) المراد بالرؤية الرؤية القلبية وهي العلم والظن وفيه دفع لما يتوهم من أن اسم القائم مختص بالصاحب المنتظر صلوات الله عليه.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبي (عليه السلام) استودعني ما هناك، فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا فدعوت له أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر فقال: اكتب، هذا ما أوصى به يعقوب بنيه (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة وأن يعممه بعمامته وأن يربع قبره ويرفعه أربع أصابع وأن يحل عنه أطماره عند دفنه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت - بعدما انصرفوا - ما كان في هذا بأن تشهد عليه، فقال: يا بني كرهت أن تغلب وأن يقال: إنه لم يوص إليه، فأردت أن تكون لك الحجة.

* الشرح:

قوله (استودعني ما هناك) من الكتب والسلاح وغيرهما مما كان مختصا بالإمام (عليه السلام).

قوله (وأن يحل عنه أطماره) الأطمار جمع الطمر بالكسر وهو الثوب الخلق والكساء البالي، ولعل المراد منه حل عقد الأكفان عند الرأس والرجل، وقيل: أمره بأن لا يدفنه مع ثيابه المخيطة.

قوله (فقلت له يا أبت بعدما انصرفوا) قوله «بعدما انصرفوا» موجود في أكثر النسخ غير موجود في بعض.

قوله (فقال يا بني كرهت أن تغلب) لعل وجه الغلبة أمور: الأول تربيع القبر، والثاني رفعه، فإن روايات العامة مختلفة ففي بعضها تسوية القبور وفي بعضها تسنيمها فذهب بعضهم إلى الأول وذهب أكثرهم إلى الثاني، والثالث التنازع في الإمامة والتخالف فيها فإن الوصية الظاهرة من علامات الإمام كما مر إليه إشارة بقوله: وأن يقال أنه لم يوص فأردت أن تكون لك الحجة أي الحجة التي هي الوصية الظاهرة.

ص:174

باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسى (عليه السلام)

اشاره

1- أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن عبد الله القلا، عن الفيض بن المختار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيم (عليه السلام) - وهو يومئذ غلام - فقال: هذا صاحبكم، فتمسك به.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب عن ثبيت، عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: قد فعل الله ذلك قال: قلت: من هو؟ - جعلت فداك - فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقال: هذا الراقد - وهو غلام -.

* الشرح:

قوله (عن ثبيت) هو ثبيت بن محمد مصغرا لرواية أبي أيوب الخزاز عنه ويحتمل ثبيت بن نشيط الكوفي أيضا والأول متكلم حاذق فقيه محدث، والثاني مجهول.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد قال: حدثني أبو علي الأرجاني الفارسي، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت عبد الرحمن في السنة التي أخذ فيها أبو الحسن الماضي (عليه السلام) فقلت له: إن هذا الرجل قد صار في يد هذا وما ندري إلى ما يصير؟ فهل بلغك عنه في أحد من ولده شيء؟ فقال لي: ما ظننت أن أحدا يسألني عن هذه المسألة، دخلت على جعفر بن محمد في منزله فإذا هو في بيت كذا في داره في مسجد له وهو يدعو وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمن على دعائه فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي الناس بعدك؟ فقال: إن موسى قد لبس الدرع وساوى عليه، فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء.

* الشرح:

قوله (إن هذا الرجل قد صار في يد هذا) أريد بهذا الرجل أبو الحسن الماضي (عليه السلام) وبهذا هارون الرشيد عليه اللعنة.

قوله (إن موسى قد لبس الدرع وساوى عليه) أي لبس درع رسول الله ولبسه له، ومساواته عليه

ص:175

من دلائل إمامته، فإن قلت: السائل سأل عن النص على الرضا (عليه السلام) والمجيب أجاب بالنص على موسى (عليه السلام) فالجواب لا يطابق السؤال، قلنا: آخر الحديث الذي لم يذكره المصنف دل على الجواب عن السؤال المذكور وإنما لم يذكره المصنف لعدم تعلق الغرض بذكره في هذا الباب ولئلا يتوهم أنه المقصود فيه وليس كذلك إذ المقصود فيه ذكر النص على موسى (عليه السلام) وإن لم يتعلق السؤال به.

* الأصل:

4 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن موسى الصيقل، عن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل أبو إبراهيم (عليه السلام) وهو غلام، فقال: استوص به وضع أمره عند من تثق به من أصحابك.

* الشرح:

قوله (فقال استوص به) ضمير قال لأبي عبد الله، وضمير به لأبي إبراهيم (عليهما السلام) والخطاب لمفضل ابن عمر أمره بالتعهد له ومراعاة أحواله وطلب ذلك من الغير ليفعله على غيب منه وفي حضوره وأمره بإظهار إمامته ووضع أمره عند الثقات من الناس للانتشار والحفظ.

*الأصل:

5 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدثني إسحاق بن جعفر قال: كنت عند أبي يوما، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال: إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرتين - يعني الذؤابتين - وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعا، فما لبثنا أن طلعت علينا كفان آخذة بالبابين ففتحهما! ثم دخل علينا أبو إبراهيم (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (يعني الذؤابتين) لما كانت الغديرة يطلق على معان منها الشيء المتخلف ومنها القطعة من الماء فسرها بالذؤابة وهي الخصلة من شعر الرأس.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إن الأنفس يغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك، فمن؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان ذلك فهو صاحبكم - وضرب بيده على منكب أبي الحسن (عليه السلام) - الأيمن فيما أعلم - وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا.

ص:176

* الشرح:

قوله (إن الأنفس يغدا عليها ويراح) أي يأتي أجلها وقت الغداة ووقت الرواح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل وهذا كناية عن قربه ووروده من غير اختيار وقد يستعمل يغدا ويراح للذهاب في مطلق الزمان والظاهر أن الفعلين مجهولان من باب الإفعال لأن غدا يغدو غدوا وراح يروح رواحا لازمان بخلاف أغداه وأراحه فإنهما متعديان بمعنى إذهابه في هذين الوقتين.

قوله (وهو يومئذ خماسي) قيل: يعني كان له خمس سنين وفي القاموس والنهاية: غلام خماسي طوله خمسة أشبار، وفي النهاية والأنثى خماسية ولا يقال سداسي ولا سباعي ولا في غير الخمسة.

قوله (وعبد الله بن جعفر جالس معنا) هو عبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) كان أكبر اخوته بعد إسماعيل ولم تكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده في الإكرام، وكان متهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد، ويقال: إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة وادعى بعد أبيه الإمامة واحتج بأنه أكبر اخوته الباقين فاتبعه جماعة ثم رجع أكثرهم إلى القول بإمامة أخيه موسى (عليه السلام) لما تبينوا ضعف دعواه وقوة أمر أبي الحسن (عليه السلام) ودلالة حقيته وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على إمامة عبد الله وهم الملقبة بالفطحية لأن عبد الله كان أفطح الرجلين، أو لأن داعيهم إلى الإمامة رجل يقال له عبد الله بن أفطح، كذا نقله بعض أصحاب الرجال عن المفيد في إرشاده.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن كان كون - ولا أراني الله ذلك - فبمن أئتم؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسى، قلت: فإن حدث بموسى (عليه السلام) حدث فبمن أئتم؟ قال: بولده، قلت: فإن حدث بولده حدث وترك أخا كبيرا وابنا صغيرا فبمن أئتم؟ قال:

بولده، ثم قال: هكذا أبدا، قلت: فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه؟ قال: تقول: اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فإن ذلك يجزيك إن شاء الله.

* الشرح:

قوله (إن كان كون) أي وجد حادث وهو موته (عليه السلام).

قوله (فإن ذلك يجزيك) وبذلك يخرج عما روي من أنه «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وفيه دلالة واضحة على أن الإيمان على سبيل الإجمال بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) مع عدم

ص:177

العلم بتفاصيله كاف ثم يجب الإيمان به على الخصوص بعد التفصيل وتحصيله وهو الحق الذي لا ريب فيه لئلا يفوت الايمان، ولا يترك الميسور بالمعسور ولا يلزم طلب المحال، والحوالة على المشيئة من باب التبرك.

* الأصل:

8 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن عبد الله القلا، عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أبا الحسن (عليه السلام)، وهو يومئذ غلام. فقال: هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه، ثم قال لي: لا تجفوا إسماعيل.

* الشرح:

قوله (لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) لكثرة شيعته ورجوع شيعة أبيه وحده إليه وحفظه إياهم وتعليمه لهم وخروج غياث هذه الامة منه كما يجيء في الباب الآتي وحصول الرفاهية من العيش بينهم.

قوله (لا تجفوا إسماعيل) أي تعاهدوه ولا تبعدوا عنه ولا تتركوا بره وصلته ورعاية جانبه من الجفاء وهو البعد وترك البر والصلة لأنه وديعة الله عندكم سيرجع إليه، وقيل: لا تجفوه بتشديد الفاء بمعنى لا تذهبوا به أي لا تخبروه بذلك فتجفوه وتذهبوا به لأنه نعيه لعلمه بأن العهد لأكبر ولد أبيه فيعلم بذلك الإخبار أنه يموت قبله، وفيه أن جفه بمعنى ذهب به لم يثبت.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، وأحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن الحسين، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن فيض بن المختار في حديث طويل في أمر أبي الحسن (عليه السلام) حتى قال له أبو عبد الله (عليه السلام): هو صاحبك الذي سألت عنه، فقم إليه فأقر له بحقه. فقمت حتى قبلت رأسه ويده ودعوت الله عزوجل له، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أما إنه لم يؤذن لنا في أول منك.

قال: قلت: جعلت فداك فأخبر به أحدا؟ فقال: نعم أهلك وولدك، وكان معي أهلي وولدي ورفقائي وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا الله عزوجل وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه وكانت به عجلة، فخرج فأتبعه فلما انتهيت إلى الباب سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول له: وقد سبقني إليه يا يونس الأمر كما قال لك فيض، قال: فقال: سمعت وأطعت، فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): خذه إليك يافيض.

* الشرح:

قوله (اما انه لم يؤذن لنا في أول منك) الخطاب لفيض أي لم نكن مأذونين بإظهار

ص:178

أمره لأحد أسبق منك، وحاصله ما أخبرت به أحدا قبلك، وجعل الخطاب لموسى (عليه السلام) والقول بأن معناه لم يؤذن لنا في النص على الإمامة في أقدم منك سنا وهو إسماعيل; بعيد.

قوله (وكان يونس بن ظبيان من رفقائي) الظبيان بفتح الظاء المعجمة وفيه دلالة على حسن حال يونس ولكن علماء الرجال بالغوا في ذمه ونسبوه إلى الكذب والضعف والتهمة والغلو ووضع الحديث ونقلوا عن الرضا (عليه السلام) أنه لعنه وقال «أما أن يونس بن ظبيان مع أبي الخطاب في أشد العذاب» وروي بطريق ضعيف عن هشام بن سالم قال «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن يونس بن ظبيان فقال (رحمه الله): بنى له بيتا في الجنة كان والله مأمونا على الحديث».

قوله (لا والله) أي لا أكتفي بهذا وأذهب والله حتى أسمع منه شفاها فالواو للعطف على المقدر.

قوله (وكانت به عجلة) العجلة بالتحريك خلاف البطء يقال: عجل أسرع عجلا وعجلة وهو عجلان أي مستعجل ولعل المراد أنه كان عجولا في استكشاف الأمور بالطبع أو في تجهيز أسباب السفر.

قوله (خذه إليك يا فيض) الظاهر أن الضمير المنصوب راجع إلى يونس أي يا فيض خذ يونس منضما إليك في تعليمه أو في حفظه من أن يخبر به أحدا ممن ليس بأهل لهذا السر ولعله أظهر من الأول وفيه حينئذ دلالة ما على خباثة ذات يونس حتى صدر منه ما نقل.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن فضيل، عن طاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) يلوم عبد الله ويعاتبه ويعظه ويقول: ما منعك أن تكون مثل أخيك، فوالله إني لأعرف النور في وجهه؟ فقال عبد الله: لم؟ أليس أبي وأبوه واحدا وأمي وأمه واحدة؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إنه من نفسي وأنت ابني.

* الشرح:

قوله (عن طاهر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان) الظاهر أن طاهرا هذا مولى أبي عبد الله (عليه السلام) وفي أكثر النسخ لم يوجد قوله: عن أبي عبد الله (عليه السلام).

قوله (يلوم عبد الله ويعاتبه) عبد الله هو الأفطح الذي ذكرناه سابقا، واللوم العذل والتعنيف، يقال: لامه على كذا لوما ولومة إذا عذله وعنفه فهو ملوم، ولومه شدد للمبالغة، والعتاب هو التوبيخ على الذنب البالغ إلى حد الموجدة والغضب فهو أشد من اللوم وأخص منه.

قوله (وأمي وأمه واحدة) نقل عن كتاب ربيع الشيعة بدل هذا «وأصلي وأصله واحدة»، قيل:

ص:179

هو الصحيح لأن عبد الله ليس من أم أبي الحسن (عليه السلام).

قوله (أنه من نفسي وأنت ابني) يعني أنت منسوب إلي بالنسب الجسداني وهو منسوب إلي بالنسب الجسداني والروحاني جميعا حتى أن نفسه مثل نفسي وعلمه مثل علمي، وخلقه مثل خلقي، وفعله مثل فعلي إلى غير ذلك من صفات الكمال من غير تفاوت، ثم إن الاستدلال بهذا الخبر بناء على أن المراد «بأخيك» أبو الحسن (عليه السلام) وبعد ذلك فدلالته على المطلوب واضحة فإن في قوله (عليه السلام): «إني لأعرف النور في وجهه، وأنه من نفسي» دلالة واضحة على أنه قابل للإمامة دون غيره.

* الأصل:

11 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن سنان، عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يساره طويلا، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي: أدن من مولاك فسلم، فدنوت فسلمت عليه فرد علي السلام بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكان ولدت لي ابنة سميتها بالحميراء. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): انته إلى أمره ترشد، فغيرت اسمها.

* الشرح:

قوله (يساره طويلا) ساره في أذنه وتساروا تناجوا.

12 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن سليمان ابن خالد قال: دعا أبو عبد الله (عليه السلام) أبا الحسن (عليه السلام) يوما ونحن عنده فقال لنا: عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي.

* الأصل:

13 - علي بن محمد، عن سهل أو غيره، عن محمد بن الوليد، عن يونس، عن داود بن زربي، عن أبي أيوب النحوي قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، قال: فلما سلمت عليه رمى بالكتاب إلي وهو يبكي، فقال لي: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثلاثا. وأين مثل جعفر؟ ثم قال لي: اكتب قال: فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: اكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدمه واضرب عنقه، قال: فرجع إليه الجواب أنه قد أوصى

ص:180

إلى خمسة واحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان وعبد الله وموسى وحميدة.

* الشرح:

قوله (قد أوصى إلى خمسة [نفر] واحدهم أبو جعفر المنصور ومحمد بن سليمان) لا يقال لا يصح عطف هؤلاء على واحدهم لأنا نقول كل واحد منهم واحدهم وبالجملة الربط مقدم على العطف.

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد بنحو من هذا إلا أنه ذكر أنه أوصى إلى أبي جعفر المنصور وعبد الله وموسى ومحمد بن جعفر ومولى لأبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقال أبو جعفر:

ليس إلى قتل هؤلاء سبيل.

* الأصل:

15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن علي بن الحسن، عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن موسى - وهو صغير - ومعه عناق مكية وهو يقول لها: اسجدي لربك، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمه إليه وقال: بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب.

* الشرح:

قوله (لا يلهو ولا يلعب) أي لا يغفل عن الله تعالى بالإشغال لغيره ولا يفعل ما يضره في الآخرة ولا ينفعه فيها.

قوله (ومعه عناق مكية) العناق بالفتح الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة.

* الأصل:

16 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن عبيس بن هشام، قال: حدثني عمر الرماني، عن فيض بن المختار قال: إني لعند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ أقبل أبو الحسن موسى (عليه السلام)، وهو غلام، فالتزمته وقبلته، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أنتم السفينة وهذا ملاحها قال: فحججت من قابل ومعي ألفا دينار فبعثت بألف إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وألف إليه، فلما دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا فيض! عدلته بي؟ قلت: إنما فعلت ذلك لقولك، فقال: أما والله ما أنا فعلت ذلك، بل الله عزوجل فعله به.

* الشرح:

قوله (أنتم السفينة وهذا ملاحها) الدنيا بحر عميق والنفس في سيرها إلى الله بمنزلة السفينة، وما معها من الكمالات بمنزلة المتاع والقرب من الله تعالى بمنزلة الساحل، والإمام الهادي لها إليه بمنزلة الملاح إذ كما أن السفينة لا تصل إلى الساحل بدون الملاح كذلك النفس لا تصل إلى قرب الحق بدون الهادي إليه.

قوله (عدلته بي) أي سويت بيني وبينه وجعلته عديلا لي.

ص:181

باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسين بن نعيم الصحاف قال: كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي بن يقطين ببغداد، فقال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح جالسا فدخل عليه ابنه علي فقال لي: يا علي بن يقطين هذا علي سيد ولدي. أما إني قد نحلته كنيتي، فضرب هشام بن الحكم براحته جبهته، ثم قال: ويحك كيف قلت؟ فقال علي ابن يقطين: سمعت والله منه كما قلت، فقال هشام: أخبرك أن الأمر فيه من بعده.

أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن الحسين بن نعيم الصحاف قال: كنت عند العبد الصالح. وفي نسخة الصفواني. قال: كنت أنا. ثم ذكر مثله.

* الشرح:

قوله (فضرب هشام بن الحكم براحته جبهته) للتحسر والتأسف بموته (عليه السلام) لأنه نعى إلى علي ابن يقطين نفسه.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن معاوية بن حكيم، عن نعيم القابوسي، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: إن ابني عليا أكبر ولدي وأبرهم عندي وأحبهم إلي وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي.

* الأصل:

3 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان وإسماعيل بن عباد القصري جميعا، عن داود الرقي قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): جعلت فداك إني قد كبر سني، فخذ بيدي من النار، قال: فأشار إلى ابنه أبي الحسن (عليه السلام)، فقال: هذا صاحبكم من بعدي.

* الشرح:

قوله (قد كبر سني) سن الجارحة مؤنثة ثم استعيرت للعمر استدلا بها على طوله وقصره وبقيت على التأنيث إلا أنه غير حقيقي فلذا لا يجب تأنيث ما نسب إليها.

ص:182

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن الحسن، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): ألا تدلني إلى من آخذ عنه ديني؟ فقال: هذا ابني علي إن أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني إن الله عزوجل قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) وإن الله عزوجل إذا قال قولا وفى به.

* الشرح:

قوله (وأن الله تعالى إذا قال قولا وفى به) دل على أن الأرض لا تخلو من خليفة، والأخبار فيه متظافرة، وقد مر بعضها.

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن يحيى بن عمرو، عن داود الرقي قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إني قد كبرت سني ودق عظمي وإني سألت أباك (عليه السلام) فأخبرني بك، فأخبرني [من بعدك؟] فقال: هذا أبو الحسن الرضا.

* الشرح:

قوله (فأخبرني بك فأخبرني فقال) في بعض النسخ «فأخبرني بك فأخبرني من بعدك فقال» والظاهر أن قوله «فأخبرني» ثانيا على صيغة الأمر.

* الأصل:

6 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن زياد بن مروان القندي وكان من الواقفة قال:

دخلت على أبي إبراهيم وعنده ابنه أبو الحسن (عليه السلام)، فقال لي: يا زياد هذا ابني فلان، كتابه كتابي وكلامه كلامي ورسوله رسولي وما قال فالقول قوله.

* الشرح:

قوله (عن زياد بن مروان القندي وكان من الواقفة) وقف في الرضا (عليه السلام) وكان سبب وقفه مع سماعه النص عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) على ابنه الرضا (عليه السلام) أنه كان عنده سبعون ألف دينار من مال موسى بن جعفر (عليه السلام) فأنكر موته وإمامة الرضا (عليه السلام) لئلا يدفع المال إليه.

* الأصل:

7 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل قال: حدثني المخزومي

ص:183

وكانت أمه من ولد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) قال: بعث إلينا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فجمعنا ثم قال لنا: أتدرون لم دعوتكم؟ فقلنا: لا، فقال: اشهدوا أن ابني هذا وصيي والقيم بأمري وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا ومن كانت له عندي عدة فلينجزها منه ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلا بكتابه.

* الشرح:

قوله (حدثني المخزومي) الظاهر أنه المغيرة بن توبة المخزومي وفي إرشاد المفيد ما يدل على أنه من خاصة أبي الحسن (عليه السلام) وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته.

قوله (فلينجزها منه) تنجز الوعد واستنجزه طلب إنجازه والوفاء به.

قوله (فلا يلقني إلا بكتابه) لشدة الخوف والتقية والضمير للرضا (عليه السلام) أو للموصول على احتمال.

8 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان وعلي بن الحكم جميعا، عن الحسين بن المختار قال: خرجت إلينا ألواح من أبي الحسن (عليه السلام) وهو في الحبس: عهدي إلى أكبر ولدي أن يفعل كذا وأن يفعل كذا، وفلان لا تنله شيئا حتى ألقاك أو يقضي الله علي الموت.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن المغيرة، عن الحسين بن المختار قال: خرج إلينا من أبي الحسن (عليه السلام) بالبصرة ألواح مكتوب فيها بالعرض:

عهدي إلى أكبر ولدي، يعطي فلان كذا وفلان كذا وفلان كذا وفلان لا يعطى حتى أجيء أو يقضي الله عزوجل علي الموت، إن الله يفعل ما يشاء.

* الشرح:

قوله (خرج إلينا) من أبي الحسن (عليه السلام) بالبصرة ألواح. قبض عليه الرشيد لعنه الله من المدينة في صلاته عند رأس النبي (صلى الله عليه وآله) وبعثه إلى أمير البصرة عيسى بن أبي جعفر وكان في حبسه آونة من الزمان ثم حمل سرا إلى بغداد فحبس ثم أطلق ثم حبس ثم سلم إلى السندي بن شاهك لعنه الله فحبسه وضيق عليه ثم بعث إليه الرشيد بسم في رطب وأمره أن يقدم إليه ويحتم عليه في تناوله منه ففعل فمات صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.

ص:184

10 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن ابن محرز، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتب إلي من الحبس: أن فلانا ابني، سيد ولدي وقد نحلته كنيتي.

11 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي علي الخزار، عن داود بن سليمان قال:

قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): إني أخاف أن يحدث حدث ولا ألقاك، فأخبرني من الإمام بعدك؟ فقال:

ابني فلان - يعني أبا الحسن (عليه السلام) -.

12 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن سعيد بن أبي الجهم، عن النصر بن قابوس قال:

قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): إني سألت أباك (عليه السلام) من الذي يكون من بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو، فلما توفي أبو عبد الله (عليه السلام) ذهب الناس يمينا وشمالا وقلت فيك أنا وأصحابي، فأخبرني من الذي يكون من بعدك من ولدك؟ فقال: ابني فلان.

13 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن الضحاك بن الأشعث، عن داود بن زربي قال:

جئت إلى أبي إبراهيم (عليه السلام) بمال، فأخذ بعضه وترك بعضه، فقلت: أصلحك الله لأي شيء تركته عندي؟ قال: إن صاحب هذا الأمر يطلبه منك، فلما جاءنا نعيه بعث إلي أبو الحسن (عليه السلام) ابنه، فسألني ذلك المال، فدفعته إليه.

* الأصل:

14 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي الحكم الأرمني قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن يزيد بن سليط الزيدي، قال أبو الحكم:

وأخبرني عبد الله بن محمد بن عمارة الجرمي، عن يزيد بن سليط قال: لقيت أبا إبراهيم (عليه السلام) - ونحن نريد العمرة - في بعض الطريق، فقلت: جعلت فداك هل تثبت هذا الموضع الذي نحن فيه؟ قال: نعم، فهل تثبته أنت؟ قلت: نعم إني أنا وأبي لقيناك ههنا وأنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) ومعه إخوتك. فقال له أبي: بأبي أنت وأمي أنتم كلكم أئمة مطهرون والموت لا يعرى منه أحد، فأحدث إلي شيئا أحدث به من يخلفني من بعدي فلا يضل، قال: نعم يا أبا عبد الله، هؤلاء ولدي وهذا سيدهم - وأشار إليك - وقد علم الحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج إليه الناس وما اختلفوا فيه من أمر دينهم ودنياهم، وفيه حسن الخلق وحسن الجواب وهو باب من أبواب الله عزوجل وفيه أخرى خير من هذا كله.

فقال له أبي: وما هي؟ - بأبي أنت وأمي - قال (عليه السلام): يخرج الله عزوجل منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها، خير مولود وخير ناشئ، يحقن الله عزوجل به الدماء

ص:185

ويصلح به ذات البين ويلم به الشعث ويشعب به الصدع ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل الله به القطر ويرحم به العباد، خير كهل وخير ناشئ، قوله حكم وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه ويسود عشيرته من قبل أوان حلمه. فقال له أبي: بأبي أنت وأمي وهل ولد؟ قال: نعم ومرت به سنون، قال يزيد: فجاءنا من لم نستطع معه كلاما، قال يزيد: فقلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): فأخبرني بمثل ما أخبرني به أبوك (عليه السلام)، فقال لي: نعم إن أبي (عليه السلام) كان في زمان ليس هذا زمانه، فقلت له: فمن يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله، قال: فضحك أبو إبراهيم ضحكا شديدا، ثم قال: أخبرك يا أبا عمارة، أني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان وأشركت معه بني في الظاهر وأوصيته في الباطن، فأفردته وحده ولو كان الأمر إلي لجعلته في القاسم ابني، لحبي إياه ورأفتي عليه ولكن ذلك إلى الله عزوجل، يجعله حيث يشاء ولقد جاءني بخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم أرانيه وأراني من يكون معه وكذلك لا يوصى إلى أحد منا حتى يأتي بخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجدي علي صلوات الله عليه، ورأيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاتما وسيفا وعصا وكتابا وعمامة، فقلت: ما هذا يا رسول الله؟ فقال لي: أما العمامة فسلطان الله عزوجل وأما السيف فعز الله تبارك وتعالى وأما الكتاب فنور الله تبارك وتعالى وأما العصا فقوة الله وأما ظ: الخاتم فجامع هذه الأمور، ثم قال لي: والأمر قد خرج منك إلى غيرك.

فقلت: يا رسول الله، أرنيه أيهم هو؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما رأيت من الأئمة أحدا أجزع على فراق هذا الأمر منك ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك ولكن ذلك من الله عزوجل، ثم قال أبو إبراهيم (عليه السلام): ورأيت ولدي جميعا الأحياء منهم والأموات، فقال لي أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا سيدهم، وأشار إلى ابني علي، فهو مني وأنا منه والله مع المحسنين.

قال يزيد: ثم قال أبو إبراهيم (عليه السلام): يا يزيد، إنها وديعة عندك فلا تخبر بها إلا عاقلا أو عبدا تعرفه صادقا وإن سئلت عن الشهادة فاشهد بها وهو قول الله عزوجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) وقال لنا أيضا: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) قال: فقال أبو إبراهيم (عليه السلام): فأقبلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: قد جمعتهم لي - بأبي وأمي - فأيهم هو؟ فقال: هو الذي ينظر بنور الله عزوجل ويسمع بفهمه وينطق بحكمته، يصيب فلا يخطئ ويعلم فلا يجهل، معلما حكما وعلما، هو هذا - وأخذ بيد علي ابني - ثم قال: ما أقل مقامك معه فإذا رجعت من سفرك فأوص وأصلح أمرك وافرغ مما أردت فإنك منتقل عنهم ومجاور غيرهم، فإذا أردت فادع عليا فليغسلك وليكفنك فإنه طهر لك ولا يستقيم إلا ذلك وذلك سنة قد مضت، فاضطجع بين

ص:186

يديه وصف إخوته خلفه وعمومته ومره فليكبر عليك تسعا، فإنه قد استقامت وصيته ووليك وأنت حي، ثم اجمع له ولدك من بعدهم، فأشهد عليهم وأشهد الله عزوجل وكفى بالله شهيدا، قال يزيد: ثم قال لي أبو إبراهيم (عليه السلام): إني أوخذ في هذه السنة والأمر هو إلى ابني علي، سمي علي وعلي، فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب وأما الآخر فعلي بن الحسين (عليهم السلام)، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره وليس له أن يتكلم إلا بعد موت هارون بأربع سنين، ثم قال لي: يا يزيد، وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشره أنه سيولد له غلام، أمين، مأمون، مبارك وسيعلمك أنك قد لقيتني فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم إبراهيم، فإن قدرت أن تبلغها مني السلام فافعل، قال يزيد: فلقيت بعد مضي أبي إبراهيم (عليه السلام) عليا (عليه السلام) فبدأني، فقال لي:

يا يزيد، ما تقول في العمرة؟ فقلت: بأبي أنت وأمي ذلك إليك وما عندي نفقة، فقال: سبحان الله وما كنا نكلفك ولا نكفيك، فخرجنا حتى انتهينا إلى ذلك الموضع فابتدأني فقال: يا يزيد إن هذا الموضع كثيرا ما لقيت فيه جيرتك وعمومتك، قلت: نعم ثم قصصت عليه الخبر فقال لي: أما الجارية فلم تجىء بعد، فإذا جاءت بلغتها منه السلام، فانطلقنا إلى مكة فاشتراها في تلك السنة فلم تلبث إلا قليلا حتى حملت فولدت ذلك الغلام، قال يزيد: وكان إخوة علي يرجون أن يرثوه فعادوني إخوته من غير ذنب، فقال لهم إسحاق بن جعفر: والله لقد رأيته إنه ليقعد من أبي إبراهيم بالمجلس الذي لا أجلس فيه أنا.

* الشرح:

قوله (عن أبي الحكم الأرمني) قال الجوهري: أرمنية بالكسر كورة بناحية الروم والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة والميم وأبو الحكم بهذه النسبة لم أجد اسمه في كتب الرجال ويحتمل أن يكون عمار بن اليسع الكوفي من أصحاب الصادق (عليه السلام) ونسبته إلى الكوفة باعتبار توطنه فيها وهو مجهول الحال.

قوله (قال حدثني عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله) هكذا في النسخ كلها، وفي كتب الرجال عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله إلى آخره والظاهر أن جده بلا واسطة ساقط في البين، وهو ثقة صدوق روى أبوه عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) وروى أخوه جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

ص:187

قوله (عن يزيد بن سليط الزيدي) النسبة باعتبار النسب لا باعتبار المذهب وهو مجهول.

قوله (عبد الله بن محمد بن عمارة الجرمي) لم أجده في كتب الرجال، وجرم بطنان في العرب أحدهما في قضاعة وهو جرم بن زيان والآخر في طي.

قوله (هل تثبت هذا الموضع) أي هل تعرفه وتذكره وجعلته ثابتا في ذهنك لا يفارقه.

قوله (والموت لا يعرى منه أحد) يقال: عري من ثيابه يعرى بالكسر فهو عار وعريان شبه الموت بالثوب في الإحاطة وتلبس جميع الخلق به.

قوله (أحدث به) مجزوم بعد الأمر ويحتمل أن يكون مرفوعا صفة لشيئا.

قوله (وقد علم الحكم) الحكم بالضم القضاء بين الناس والحكم أيضا الحكمة والفهم: العلم، والسخاء: الجود وهو تحصيل الشيء مما يجوز وصرفه فيما يجوز، والمعرفة والعرفان مصدر عرفته بمعنى علمته وكثيرا ما تطلق المعرفة على العلم بالجزئيات والعلم على العلم بالكليات ولعل المقصود أنه علم حقائق هذه الأمور وأبوابها وتفاصيلها كما هي.

قوله (من أمر دينهم ودنياهم) متعلق بكلا الموصولين.

قوله (وفيه حسن الخلق) وهو أصل عظيم من أصول الرئاسة، واختلف العلماء في تعريفه فقيل: هو بسط الوجه وكف الأذى وبذل الندى، وقيل: هو كيفية يمنع صاحبها من أن يظلم ويمنع ويجفو أحدا وإن ظلم غفر وإن منع شكر وإن ابتلي صبر، وقيل: هو صدق التحمل وترك التجمل وحب الآخرة وبغض الدنيا، وقيل غير ذلك.

قوله (وحسن الجواب) وهو من دلائل كمال العقل والعلم لأن لسان العاقل العالم تابع لعقله وعلمه فيجيب إذا سئل بما يقتضيه العقل ويناسب المقام ويقول ما يناسب العلم بأحسن العبارة وأفصح الكلام.

قوله (وهو باب من أبواب الله عزوجل) المراد بأبواب الله تعالى الأئمة المعصومون (عليهم السلام) لأنهم أبواب للعلم الإلهي وأسراره كما قال (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها» فمن طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة وجب عليه أن يرجع إليهم ويتمسك بذيل طاعتهم، أو أبواب للجنة كما ورد أنه «لا يدخل الجنة أحد إلا بحب علي وأولاده الطاهرين. وإن عليا قسيم الجنة» وإطلاق الباب على ما ذكر من باب الاستعارة.

قوله (وفيه أخرى خير من هذا كله) أي وفيه صفة أخرى خير من جميع ما ذكر لأنها منشأ لرفاهية الخلق ووصول النفع إليهم وهي خير الخصال وأفضلها.

قوله (يخرج الله تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها) ضمير منه راجع إلى أبي إبراهيم (عليه السلام)

ص:188

والغوث پناه والغياث بالكسر پناه دهنده والأول اسم من غوث الرجل والثاني من أغاثه وكذلك كان الرضا (عليه السلام) فإن العلوية وغيرهم من الشيعة كانوا مستريحين في كهف رأفته معلنين لمذهبهم في ظل إغاثته (عليه السلام).

قوله (وعلمها ونورها وفضلها وحكمتها) يمكن أن يراد بهذه الأربعة الرضا (عليه السلام) على سبيل المبالغة لأنه لما كان مبدأ هذه الأمور ومظهرها في الأمة كان كأنه نفسها وأن يراد بالعلم والفضل والحكمة حقائقها وبالنور ظهور هذه الثلاثة لحسن اهتمامه بين الموافق والمخالف كظهور النور.

قوله (وخير ناشئ) نشأ الغلام نشأ إذا شب وأيفع فهو ناشئ وهو الحدث الذي جاوز حد الصغر وارتفع عن حد الصبا وقرب من الإدراك من قولهم: نشأ السحاب إذا ارتفع.

قوله (يحقن الله تعالى به الدماء) يقال: حقنت له دمه من باب نصر إذا منعت من قتله وإراقته أي جمعه له وحبسه عليه من حقن اللبن إذا جمعه في السقاء.

قوله (ويصلح به ذات البين) أي الحال التي بين الرجل وأهله أو ما بين الرجلين أو القبيلتين والمراد ههنا ما بين المسلمين، والبين الوصل كما قال الله تعالى (لقد تقطع بينكم).

قوله (ويلم به الشعث) الشعث بالتحريك انتشار الأمر، واللم الجمع والإصلاح، تقول: لممت الشيء ألمه من باب نصر إذا جمعته وأصلحته والمقصود ههنا أن الله تعالى يصلح ويجمع بسببه ما تفرق من أمور المسلمين.

قوله (ويشعب به الصدع) الشعب بالفتح والسكون الصدع والتفريق في الشيء وجمعه واصلاحه أيضا، تقول: شعبت الشيء فرقته وصدعته وشعبته جمعته وأصلحته وتقول: تفرق شعبهم إذا تفرقوا بعد الاجتماع والتأم شعبهم إذا اجتمعوا بعد التفرق فهو من الأضداد والمراد هنا المعنى الثاني.

قوله (ويشبع به الجائع) الشبع بكسر الشين وفتح الباء: نقيض الجوع وبسكون الباء اسم ما أشبعك من شيء تقول شبعت خبزا ولحما ومن لحم وخبز شبعا وهو من مصادر الطبائع وأشبعته من الجوع إذا أطعمته ما يكفيه ويرفع جوعه.

قوله (وخير كهل) الكهل من الرجال من انتهى شبابه، قيل: هو من زاد على الأربعين، وقيل: من زاد على ثلاثين إلى الأربعين، وقيل: من زاد على ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين، وقد اكتهل الرجل وكاهل إذا بلغ الكهولة فصار كهلا. ويحتمل أن يراد بالكهل ههنا الحليم الحكيم العاقل من باب الكناية.

قوله (قوله حكم) أي كلام نافع يمنع من الجهل والسفه ومنهي عنهما لاشتماله على المواعظ

ص:189

والأمثال والنصائح والأحكام التي ينتفع بها الناس في الدنيا والآخرة والحكم العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم يحكم.

قوله (وصمته علم) الصمت بالفتح والسكون السكوت يقال: صمت يصمت من باب نصر إذا سكت، والحمل على سبيل المبالغة لأن الصمت سبب للعلم بالتفكر في الله وأسراره التي لا تتناهى ومسبب عنه أيضا لأن العالم يتكلم بما يعنيه ويسكت عما لا يعنيه.

قوله (ويسود عشيرته) سيد القوم من وجب عليهم الرجوع إليه في القول والفعل، ساد قومه ويسودهم سيادة وسوددا وسيدودة فهو سيدهم وهم سادة تقديره فعله بالتحريك لأن تقدير سيد فعيل، وعشيرة الرجل طائفة يعاشرونه ويعاشرهم وهي فعيلة بمعنى مفاعلة من العشرة وهي الصحبة.

قوله (من قبل أوان حلمه) الحلم بالضم والسكون الاحتلام في النوم والاسم الحلم كعنق، والمراد به ههنا البلوغ وجريان حكم الرجال عليه وإن لم يحتلم بل هو منزه عنه، ويحتمل أن يكون بالكسر والسكون بمعنى الفعل من الحلم بمعنى التثبت في الأمور وهذا كناية عن البلوغ وإلا فعقله كان كاملا عند الفطرة.

قوله (فجاءنا من لم نستطع معه كلاما) أي فجاءنا مخالف فقطعنا الكلام لأجل التقية.

قوله (قال يزيد فقلت لأبي إبراهيم) هذا هو المقصود في هذا الباب ويحتمل أن يكون هذا السؤال في هذا المجلس بعد ذهاب الجائي وأن يكون في مجلس آخر وكتاب العيون صريح في الأخير.

قوله (فأفردته وحده) يعني فأردت ابني فلانا أي علي (عليه السلام) منفردا بلا مشارك في الوصية الباطنة وهي الوصية بالعلم والكتب والسلاح وغير ذلك مما يختص بالإمام ولو كان الأمر في نصب الوصي باطنا مفوضا إلي وإلى اختياري لجعلته في القاسم ابني لحبي إياه ورأفتي عليه زايدا على غيره.

أقول: ذلك الحب والرأفة كانا من قبل الله ألقاهما في قلبه المقدس وكذلك ما كان في أكثر الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما مر في داود (عليه السلام) بالنسبة إلى ابنه غير سليمان (عليه السلام) ليعلموا أن لا مدخل لاختيار الخلق وحبه في نصب الخليفة وإنما ينصب الخليفة بمجرد إرادة الله تعالى ومحبته إياه.

قوله (ولقد جاءني) اللام جواب لقسم محذوف تقديره وأقسم بالله لقد جاءني بخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تظنن أنه (صلى الله عليه وآله) جاءه بخبره في المنام بل جاء به على وجه يشاهده بالعين الظاهرة وتكلم معه كتكلمنا مع مخاطبنا.

قوله (وأراني من يكون معه) من شيعته الخلص أو مطلقا.

ص:190

قوله (وأما العمامة فسلطان الله تعالى) لأن العمامة عند العرب بمنزلة التاج للسلاطين لأنهم أكثر ما يكونون في البوادي مكشوفي الرؤوس أو بالقلانس والعمامة فيهم قليلة.

قوله (وأما السيف فعز الله تعالى) إذ بالسيف تكسب العزة وتقهر الأعداء، والعزة تحت ظلاله.

قوله (وأما الكتاب فنور الله تعالى) المراد بالنور العلوم الربانية والأسرار الإلهية على سبيل الاستعارة.

قوله (وأما العصا فقوة الله تعالى) إذ بالعصا يتقوى الضعيف ويقدر على المشي الذي يعجز عنه بدونها فهي كناية عن القوة والقدرة.

قوله (وأما الخاتم فجامع هذه الأمور) لأن الخاتم عند العرب أو مطلقا كالسرير كناية عن الأمور المذكورة وجامع لها.

قوله (ما رأيت من الأئمة أحدا أجزع على فراق هذا الأمر منك) سياق الكلام سابقا ولاحقا دل على أن الأمر عبارة عن نصب الوصي وفراقه منه سلب اختياره عنه وجزعه وهو بالتحريك نقيض الصبر والخوف والحزن على فراقه منه لأجل أنه أحب جعله في ابنه القاسم ثم هذا الجزع كناية عن مجرد فوات محبوبه، وإلا فهو (عليه السلام) كان منزها عن الحزن وعدم الصبر في وقوع محبوب الله تعالى وعدم وقوع محبوبه، ويحتمل أن يراد بالأمر الإمامة وجزعه على فراقها منه لعلمه بأنه سيقع الاختلاف بين بنيه بل بين شيعته أيضا لوقف كثير منهم فيه وإنكارهم خلافة ابنه علي (عليه السلام) والله أعلم.

قوله (فهو مني وأنا منه) أشار به إلى تماثلهما في الذات والصفات والنورية والمنزلة وفي جميع الجهات بحيث لو نظر إليهما ناظر يمكن له أن يقول: هذا من ذاك وذاك من هذا وهذه النسبة واقعة بينه وبين جميع الأئمة، ومفهوم اللقب لا يفيد الحصر.

قوله (وإن سئلت عن الشهادة فاشهد بها) يعني إن سألك شيعتي وأهل ولايتي والمستخبرين عن الخليفة بعدي فاشهد بهذه الوصية وبخلافة علي بعدي. وإنما أمره ههنا بالشهادة المفيدة للقطع وفي السابق بعدم الإخبار رعاية للمناسبة فإن المفيد ههنا هو الشهادة والمضر في السابق هو مجرد الإخبار وإن لم يبلغ حد الشهادة ثم استشهد لهما بقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فإنه دل بحسب المنطوق على الثاني وبحسب المفهوم على الأول واستشهد للثاني بقوله تعالى (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) فإنه صريح في وجوب

ص:191

أداء الشهادة وفي أن من كتمها فهو ظالم لنفسه ولمن يفوت حقه ظلما شديدا.

قوله (فأقبلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) ليس طلب تعيين الوصي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعدما عينه علي (عليه السلام) للشك في قوله بل لتأكيد أمر الوصي والتشرف بخطابه (صلى الله عليه وآله) كما تشرف بخطاب علي (عليه السلام).

قوله (فقال هو الذي ينظر بنور الله) لما كانت الرئاسة بالخلافة متوقفة على أمور أشار إليها أولا ثم عين المتصف بها فمن تلك الأمور أن ينظر في الأشياء وأمور الرعية بنور الله تعالى وعلمه لا بالرأي والتخمين، ومنها أن يسمع ما يسمع بفهمه وعلمه ولا يحتاج إلى مترجم يفهمه ومعلم يعلمه، ومنها أن ينطق بحكمته وإتقانه من غير اضطراب ولا اختلاف، ومنها أن يصيب الحق دائما ولا يخطئ أبدا، ومنها أن يعلم جميع ما يحتاج إليه الناس ولا يجهل شيئا منه، ومنها أن يكون معلما للأحكام والعلوم التي وردت بها الشريعة فمن تقلد الخلافة وتحمل الرئاسة وليس فيه شيء من هذه الأمور فهو جائر لا يجوز العمل بقوله والرجوع إليه.

قوله (ما أقل مقامك) إشارة إلى ما فعله المهدي العباسي وابنه موسى وهارون من إخراجهم له (عليه السلام) عن المدينة إلى البصرة وبغداد حتى قتله الأخير لعنه الله بالسم.

قوله (فإذا أردت فادع عليا) أي فإذا أردت الوصية فادع عليا وإنما أمره أن يفعل ذلك في حال حياته ليعلم إخوة علي (عليه السلام) وعمومته أنه وصيه ووليه وأولى بالخلافة منهم لئلا ينازعوه ويكونوا شهداء له، ثم هذا التغسيل لا يكفي عن تغسيله بعد موته، يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب العيون بإسناده في حديث طويل - إلى أن قال -: قال المسيب بن زهير: دعاني موسى (عليه السلام) قبل وفاته بثلاثة أيام فقال: إني راحل إلى الله عز وجل فإن عليا ابني هو إمامك ومولاك بعدي فاستمسك بولايته فإنك لن تضل ما لزمته، فقلت: الحمد لله، ثم دعاني بعدما سم فقال: يا مسيب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني، هيهات لا يكون ذلك أبدا، ثم رأيت شخصا أشبه الأشخاص به جالسا إلى جانبه وكان عهدي بالرضا (عليه السلام) وهو غلام، فوافى السندي بن شاهك، فوالله لقد رأيتهم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم لا يصنعون به شيئا، ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: يا مسيب مهما شككت فيه فلا تشكن في فإني إمامك ومولاك حجة الله عليك بعد أبي (عليه السلام).

قوله (فإنه ظهر لك ولا يستقيم إلا ذلك) ضمير «إنه» راجع إلى التغسيل وذلك إشارة إليه وإلى التكفين، وفيه دلالة على أن المعصوم لا يغسله ولا يكفنه إلا المعصوم كما دل عليه أيضا غيره من الروايات وسيجئ أن الحسين (عليه السلام) يغسل صاحب الأمر صلوات الله عليه.

ص:192

قوله (وصف إخوته خلفه وعمومته) «صف» أمر، و «إخوته» وما عطف عليه مفعوله، يقال:

صففت القوم فاصطفوا إذا أقمتهم صفا.

قوله (ومره فيكبر عليك تسعا) قيل: وجد بخط الشهيد الثاني (رحمه الله) أن المراد من التسع الخمسة التي في مذهبنا والأربعة التي في مذهب المخالف، وقيل: يمكن أن يكون المراد من التسع التكبيرات الخمسة والأدعية الأربعة تغليبا والله أعلم.

قوله (ووليك وأنت حي) كل من ولي أمر واحد فهو وليه والواو في قوله «وأنت» للحال.

قوله (ثم اجمع له ولدك من بعدهم) أي من بعد جمع العمومة لتحقيق النص قولا بعد تحققه فعلا وضبطه بعض الناظرين بضم الباء أي من كان منهم بعيدا، والظاهر أنه تصحيف وفي بعض النسخ «من تعدهم» بتاء الخطاب من العد أي صغيرهم وكبيرهم والله أعلم.

قوله (سمي علي) تقول: هو سمي فلان إذا وافق اسمه اسمه، وقوله تعالى: (هل تعلم له سميا) أي نظيرا يستحق مثل اسمه.

قوله (أعطي فهم الأول) الأئمة (عليهم السلام) إنما اتصفوا بصفات الكمال دون النقص وكل ما هو من صفة الكمال فهو موجود في كل واحد على وجه الكمال لئلا يلزم اتصافه بالنقص، فهذا التفصيل على هذا باعتبار اشتهار كل بصفة دون أخرى عندنا لا باعتبار أن صفة الأول لم توجد في الثاني وبالعكس.

قوله (إلا بعد موت هارون بأربع سنين) وذلك عند ظهور دولة المأمون، وفي كتاب العيون بعده: فإذا مضت أربع سنين فاسأله عما شئت فإنه يجيبك إن شاء الله تعالى.

قوله (وستلقاه) تصريح بما علم من إذا الدالة على وقوع الشرط بحسب الوضع.

قوله (ما كنا نكلفك ولا نكفيك) الواو عاطفة أو حالية.

قوله (جيرتك وعمومتك) أراد بهم أبا الحسن موسى وأبا عبد الله وأولاده عليهم السلام وسماهم عمومته لأن يزيد كان من أولاد زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام).

قوله (فإذا جاءت بلغتها منه السلام) بلغتها إما بصيغة الخطاب بقرينة السابق أو بصيغة التكلم.

قوله (فعادوني «فعاداني ظ» إخوته من غير ذنب) ذلك إما لزعمهم أن يزيد اشتراها له (عليه السلام) أو لزعمهم أنه أشار إليه بشرائها.

قوله (فقال لهم إسحاق بن جعفر عم الرضا (عليه السلام) لقد رأيته) أي يزيد قال ذلك إصلاحا بينه

ص:193

وبينهم وترغيبا لهم في حبه لأن صديق الأب ومصاحبه وجب إعزازه ومحبته.

* الأصل:

15 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن أبي الحكم قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم الجعفري وعبد الله بن محمد بن عمارة، عن يزيد بن سليط قال: لما أوصى أبو إبراهيم (عليه السلام) أشهد إبراهيم بن محمد الجعفري وإسحاق بن محمد الجعفري وإسحاق بن جعفر بن محمد وجعفر بن صالح ومعاوية الجعفري ويحيى بن الحسين بن زيد بن علي وسعد بن عمران الأنصاري ومحمد بن الحارث الأنصاري ويزيد بن سليط الأنصاري ومحمد بن جعفر بن سعد الأسلمي - وهو كاتب الوصية الأولى - أشهدهم أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن البعث بعد الموت حق وأن الوعد حق وأن الحساب حق والقضاء حق، وأن الوقوف بين يدي الله حق وأن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) حق وما نزل به الروح الأمين حق، على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله.

وأشهدهم أن هذه وصيتي بخطي وقد نسخت وصية جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووصية محمد بن علي قبل ذلك نسختها حرفا بحرف ووصية جعفر بن محمد على مثل ذلك وإني قد أوصيت إلى علي وبني بعد معه إن شاء وآنس منهم رشدا وأحب أن يقرهم فذاك له، وإن كرههم وأحب أن يخرجهم فذاك له ولا أمر لهم معه وأوصيت إليه بصدقاتي وأموالي وموالي، وصبياني الذين خلفت وولدي إلى إبراهيم والعباس وقاسم وإسماعيل وأحمد وأم أحمد، وإلى علي أمر نسائي دونهم وثلث صدقة أبي وثلثي، يضعه حيث يرى ويجعل ما فيه ما يجعل ذو المال في ماله، فإن أحب أن يبيع أو يهب أو ينحل أو يتصدق بها على من سميت له وعلى غير من سميت فذاك له، وهو أنا في وصيتي في مالي وفي أهلي وولدي، وإن يرى أن يقر إخوته الذين سميتهم في كتابي هذا أقرهم وإن كره فله أن يخرجهم غير مثرب عليه ولا مردود، فإن آنس منهم غير الذي فارقتهم عليه فأحب أن يردهم في ولايته فذاك له وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته، فليس له يزوجها إلا بإذنه وأمره فإنه أعرف بمناكح قومه وأي سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه وبين شيء مما ذكرت في كتابي هذا أو أحد ممن ذكرت، فهو من الله ومن رسوله بريء والله ورسوله منه برآء وعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين والنبيين والمرسلين وجماعة المؤمنين وليس لأحد من السلاطين أن يكفه عن شيء وليس لي عنده تبعة ولا تباعة، ولا لأحد من ولدي له قبلي مال فهو مصدق فيما ذكر، فإن أقل فهو

ص:194

أعلم وإن أكثر فهو الصادق كذلك، وإنما أردت بإدخال الذين أدخلتهم معه من ولدي التنويه بأسمائهم والتشريف لهم وأمهات أولادي من أقامت منهن في منزلها وحجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي إن رأى ذلك، ومن خرجت منهن إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهن بمثل ما ذكرت في كتابي هذا وجعلت الله عزوجل عليهن شهيدا وهو وأم أحمد [شاهدان] وليس لأحد أن يكشف وصيتي ولا ينشرها وهو منها على غير ما ذكرت وسميت، فمن أساء فعليه ومن أحسن فلنفسه وما ربك بظلام للعبيد وصلى الله على محمد وعلى آله، وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي هذا الذي ختمت عليه الأسفل، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة المقربين وجماعة المرسلين والمؤمنين من المسلمين وعلى من فض كتابي هذا. وكتب وختم أبو إبراهيم والشهود وصلى الله على محمد وعلى آله.

قال أبو الحكم: فحدثني عبد الله بن آدم الجعفري عن يزيد بن سليط قال: كان أبو عمران الطلحي قاضي المدينة فلما مضى موسى قدمه إخوته إلى الطلحي القاضي فقال العباس بن موسى: أصلحك الله وأمتع بك، إن في أسفل هذا الكتاب كنزا وجوهرا ويريد أن يحتجبه ويأخذه دوننا ولم يدع أبونا رحمه الله شيئا إلا ألجأه إليه وتركنا عالة ولولا إني أكف نفسي لأخبرتك بشيء على رؤوس الملأ، فوثب إليه إبراهيم بن محمد فقال: إذا والله تخبر بما لا نقبله منك ولا نصدقك عليه، ثم تكون عندنا ملوما مدحورا نعرفك بالكذب صغيرا وكبيرا وكان أبوك أعرف بك لو كان فيك خيرا وإن كان أبوك لعارفا بك في الظاهر والباطن وما كان ليأمنك على تمرتين.

ثم وثب إليه إسحاق بن جعفر عمه فأخذ بتلبيبه فقال له: إنك لسفيه ضعيف أحمق أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك، وأعانه القوم أجمعون. فقال أبو عمران القاضي لعلي: قم يا أبا الحسن حسبي ما لعنني أبوك اليوم وقد وسع لك أبوك ولا والله ما أحد أعرف بالولد من والده لا والله ما كان أبوك عندنا بمستخف في عقله ولا ضعيف في رأيه، فقال العباس للقاضي: أصلحك الله فض الخاتم واقرأ ما تحته فقال أبو عمران: لا أفضه حسبي ما لعنني أبوك اليوم، فقال العباس: فأنا أفضه، فقال: ذاك إليك، ففض العباس الخاتم فإذا فيه إخراجهم وإقرار علي لها وحده وإدخاله إياهم في ولاية علي إن أحبوا أو كرهوا وإخراجهم من حد الصدقة وغيرها وكان فتحه عليهم بلاء

ص:195

وفضيحة وذلة ولعلي (عليه السلام) خيرة.

وكان في الوصية التي فض العباس تحت الخاتم هؤلاء الشهود: إبراهيم بن محمد وإسحاق بن جعفر وجعفر بن صالح وسعيد بن عمران وأبرزوا وجه أم أحمد في مجلس القاضي وادعوا أنها ليست إياها حتى كشفوا عنها وعرفوها، فقالت عند ذلك: قد والله قال سيدي هذا: إنك ستؤخذين جبرا وتخرجين إلى المجالس، فزجرها إسحاق بن جعفر وقال: اسكتي فإن النساء إلى الضعف ما أظنه قال من هذا شيئا، ثم إن عليا (عليه السلام) التفت إلى العباس فقال: يا أخي إني أعلم أنه إنما حملكم على هذا الغرائم والديون التي عليكم، فانطلق يا سعيد فتعين لي ما عليهم، ثم اقض عنهم ولا والله لا أدع مواساتكم وبركم ما مشيت على الأرض فقولوا ما شئتم، فقال العباس: ما تعطينا إلا من فضول أموالنا، وما لنا عندك أكثر، فقال: قولوا ما شئتم فالعرض عرضكم فإن تحسنوا فذاك لكم عند الله وإن تسيئوا فإن الله غفور رحيم، والله إنكم لتعرفون أنه مالي يومي هذا ولد ولا وارث غيركم ولئن حبست شيئا مما تظنون أو ادخرته فإنما هو لكم ومرجعه إليكم والله ما ملكت منذ مضى أبوكم رضي الله عنه شيئا إلا وقد سيبته حيث رأيتم، فوثب العباس فقال: والله ما هو كذلك وما جعل الله من رأي علينا ولكن حسد أبينا لنا وإرادته ما أراد مما لا يسوغه الله إياه ولا إياك وإنك لتعرف وأني أعرف صفوان ابن يحيى بياع السابري بالكوفة ولئن سلمت لأغصصنه بريقه وأنت معه، فقال علي (عليه السلام): لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أما إني يا إخوتي فحريص على مسرتكم، الله يعلم، اللهم إن كنت تعلم أني أحب صلاحهم وإني بار بهم واصل لهم رفيق عليهم أعنى بامورهم ليلا ونهارا فاجزني به خيرا، وإن كنت على غير ذلك فأنت علام الغيوب فاجزني به ما أنا أهله إن كان شرا فشرا وإن كان خيرا فخيرا، اللهم أصلحهم وأصلح لهم واخسأ عنا وعنهم الشيطان وأعنهم على طاعتك ووفقهم لرشدك أما أنا يا أخي فحريص على مسرتكم، جاهد على صلاحكم، والله على ما نقول وكيل، فقال العباس: ما أعرفني بلسانك وليس لمسحاتك عندي طين، فافترق القوم على هذا وصلى الله على محمد وآله.

* الشرح:

قوله (عن أبي الحكم) هو إما هشام بن سالم أو عمار بن اليسع.

قوله (حدثني عبد الله بن إبراهيم الجعفري) هو عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) ثقة صدوق.

ص:196

قوله (ومحمد بن جعفر بن سعد الأسلمي) كذا في بعض النسخ ولم أجده في كتب الرجال وفي أكثر النسخ جعد بدل جعفر والمذكور في كتب الرجال محمد بن جعد الأسدي وهو من أصحاب الكاظم (عليه السلام).

قوله (وهو كاتب الوصية الأولى) أما هذه الوصية فكتبها (عليه السلام) كما يدل عليه قوله فيما بعد «إن هذه وصيتي بخطي».

قوله (أشهدهم أنه يشهد) بدل أو بيان لجواب «لما» لإيضاحه وتفسيره، وإنما أعاد لفظ أشهدهم ولم يجعل أنه يشهد مفعولا لجواب «لما» لتكثر الواسطة بينهما وفيه دلالة واضحة على أن استشهاد المؤمنين على النحو المذكور مستحب للمحتضر وغيره.

قوله (لا ريب فيها) أي لا ريب لي فيها أو لا ينبغي أن يرتاب فيها أحد فلا يرد أن طائفة من الجهلة أنكروها.

قوله (وإن الله يبعث من في القبور) يمكن أن يراد به البعث في القبر للسؤال أيضا، كما يمكن أن يراد ذلك بقوله «وإن البعث بعد الموت حق» أي ثابت واقع البتة ويمكن أن يراد بأحدهما البعث في القيامة وبالآخر البعث في القبر إلا أن الأظهر أن المراد بكليهما هو الأول.

قوله (وإن الوعد حق) أي الوعد بالبعث والثواب والعقاب حق لا ريب فيه.

قوله (وإن الحساب حق والقضاء حق) المراد بالحساب ما ذهب إليه المليون من أن الله تعالى يحاسب الخلق على أعمالهم دفعة واحدة لا يشغله كلام عن كلام كما قال عز من قائل (وهو سريع الحساب) وأما الحكماء فقالوا: لما كانت حقيقة المحاسبة تعود إلى تعريف الإنسان ماله وما عليه وكان ما يحصل في النفوس من الملكات الخيرية والشرية بتكرر أعمال الخير والشر أمورا مضبوطة في جوهرها ينكشف لها انكشافا تاما في الآن الذي ينقطع فيه علاقتها مع البدن أشبه ذلك ما يتبين للإنسان عند المحاسبة مما أحصى له وعليه وأطلق عليه لفظ الحساب مجازا أو حقيقة، والمراد بالقضاء إما القضاء والقدر وإما الحكم على وفق الحكمة على الإطلاق واما الحكم بالخلود في الجنة والخلود في النار.

قوله (وإن الوقوف بين يدي الله حق) تمثيل لقصد الإيضاح وهذا الوقوف لأجل الحساب وخروج الخلق عن جرائم أعمالهم متفاوت في السهولة والصعوبة وبحسب تفاوت الدرجات والمقامات والله غفور رحيم.

قوله (وإن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) حق وان ما نزل به الروح الأمين حق) الروح الأمين إما القرآن أو جبرئيل (عليه السلام) وعلى الثاني يمكن أن يراد بالموصول القرآن فالعطف على التقديرين من باب

ص:197

عطف الخاص على العام لشدة الاهتمام ويمكن أن يراد به التأكيد أيضا.

قوله (وإني قد أوصيت إلى علي وبني بعد معه) شارك بنيه مع علي (عليه السلام) وفوض أمرهم إليه إن شاء أن يدخلهم أدخلهم وإن شاء أن يخرجهم أخرجهم سواء آنس وعلم منهم رشدا وصلاحا في القول والعمل أو أنس عدمه، وبالجملة الأمر له انفرادا واجتماعا ولا أمر لهم معه لا انفرادا ولا اجتماعا فإن علم أمرا خيرا كان له فعل ذلك الأمر وليس لهم الاعتراض عليه.

قوله (وأوصيت إليه بصدقاتي) كان له (عليه السلام) صدقات من جملتها أنه تصدق بعض أراضيها بجميع حقوقها على ولده من صلبه للذكر مثل حظ الاثنين وعلى ولد أبيه من أمه بعد انقراض ولده وعلى ولد أبيه بعد انقراض ولد أبيه من أمه وأخرج البنات بعد التزويج إلى أن ترجع بلا زوج وأولاد البنات إلا أن يكون آباؤهم من أولاده وأولاد أبيه.

قوله (وأموالي) لعل المراد بها الموقوفات أو الثلث أو حصص الصغار والله أعلم.

قوله (وموالي) يحتمل أن يراد بهم العبيد والمعتق والعصبة والشيعة كلهم.

قوله (إلى إبراهيم والعباس) لعل المراد أوصيت إلى إبراهيم فهو عطف على إليه بحذف العاطف، وفي كتاب العيون «وإلى إبراهيم» بالواو وهو الأظهر وقيل: إلى ههنا بمعنى مع.

قوله (وإلى علي أمر نسائي وثلث صدقة أبي وثلثي) أي أوصيت إلى علي (عليه السلام) وحده هذه الأمور الثلاثة ولعل المراد بالثلث الثلث الذي كان له (عليه السلام) من أجل ولاية الوقف ووكالته فجعله لعلي (عليه السلام) منفردا بلا مشارك لشدة الاهتمام به.

قوله (فإن أحب أن يبيع) دل على أنه يجوز لمتولي الوقف أن يتصرف في حق التولية كما يتصرف المالك في ملكه، والفرق بين الهبة والنحلة بالكسر كالفرق بين العام والخاص لأن النحلة هي العطية ابتداء من غير عوض وأيضا إعطاء الحق من غير مطالبة المستحق يقال: نحلت المرأة مهرها عن طيب نفس أنحلها من باب نحل ينحل بالضم.

قوله (وهو أنا) إشارة إلى مساواتهما في التصرف من غير تفاوت.

قوله (غير مثرب ولا مردود) التثريب بالثاء المثلثة التعيير والتوبيخ، يعني ليس لأحد من الحكام وغيره تعييره وتوبيخه في إخراجهم أو في تصرفاته مطلقا ولا رد شيء من ذلك لأنه لا يفعل إلا ما فيه مصلحة وهو أعرف بمواقعها.

قوله (فإن أنس منهم غير الذي فارقتهم عليه) أي فإن وجد منهم رشدا تاما وأهلية كاملة وهو غير الذي فارقهم عليه فأحب أن يردهم في ولاية علي (عليه السلام) فله ذلك فكيف إذا لم يجد منهم هذا الوصف.

ص:198

قوله (وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته) دل على أن للأب ولوصيه ولاية على الرشيدة البالغة ويمكن أن يكون هذا في واقعة معينة مع احتمال أن يراد أولوية الإذن إذا كان الأب والأخ والوصي مطلقا أعرف بموارد النكاح وأحوال الرجال كما يرشد إليه التعليل والله أعلم.

قوله (وأي سلطان أو أحد من الناس كفه عن شيء أو حال بينه وبين شيء) من قبيل اللف والنشر المرتب، إذ الكف وهو المنع يناسب السلطان، والحائل وهو المانع من وصول المرء إلى مطلوبه يناسب أحدا من الناس بتخصيصه بغير السلطان بقرينة المقابلة، والتأكيد أيضا محتمل، والترديد من الراوي بعيد، وفي كتاب العيون وفي بعض نسخ هذا الكتاب «وكشفه عن شيء» بالشين المعجمة ولعل المراد كشف العيوب في تصرفاته، وأما بالسين المهملة بمعنى القطع فالظاهر أنه تصحيف.

قوله (أو أحد ممن ذكرت) الظاهر أنه عطف على شيء وأن المراد به الأولاد والنساء والبنات والموالي والمراد بالشيء حينئذ التصرفات في الأموال والتصدقات وإخراج الأخوة من الوصاية.

قوله (والله ورسوله منه برآء) في كتاب العيون «بريئان» على صيغة التثنية وهو الأظهر.

قوله (وليس لأحد من السلاطين أن يكفه عن شيء وليس لي عنده تبعة ولا تباعة) التبعة بفتح التاء وكسر الباء ما يتبع المال من نوائب الحقوق وهو من تبعت الرجل بحقي إذا مشيت خلفه والتبع الذي يتبعه لحق يطالبه، والتباعة مصدر منه، تقول: تبعت القوم بالكسر تبعا وتباعة إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم. وفي بعض النسخ «أن يكشفه» بالشين المعجمة بدل «أن يكفه» وفي كتاب العيون «أن يكشفه عن شيء لي عنده من بضاعة».

قوله (ولا لأحد من ولدي وله قبلي مال - إلى قوله - كذلك) في كتاب العيون «ولا لأحد من ولدي ولي عنده مال وهو مصدق فيما ذكر من مبلغه إن أقل أو أكثر فهو الصادق».

قوله (التنويه بأسمائهم) نوهت باسمه إذا رفعت ذكره.

قوله (إن رأى ذلك) أي إن رأى علي (عليه السلام) ذلك، وفي كتاب العيون: «إن أراد ذلك».

قوله (إلى محواي) أي إلى منزلي الذي كان يحويها والمحوى اسم المكان الذي يحوي الشيء أي يضمه ويجمعه.

قوله (وقد أوصيتهن بمثل ما ذكرت في كتابي هذا) أي أوصيت إلى نسائي أن لا يرجعن بعد تزويجهن إلى محواي إلا بإذنه وإلى بناتي أن لا يتزوجن إلا بإذنه ومشورته.

قوله (وهو وأم أحمد) هو راجع إلى علي (عليه السلام) أي جعلته وأم أحمد أيضا شهيدين عليهن.

قوله (وهو منها) على غير ما ذكرت وسميت وهو راجع إلى أحد والجملة حال عن فاعل

ص:199

يكشف، والمقصود هو النهي عن كشف الوصية مع الحكم بخلافها وأما مع الحكم بها فلا يكون الكشف بمنهي عنه فالنهي راجع إلى القيد، ويحتمل أن يراد بما ذكرت الولاية على الأموال والصدقات وبما سميت الولاية على الأولاد والنساء والبنات.

قوله (وما ربك بظلام للعبيد) لعل المراد المبالغة في نفي الظلم لا نفي المبالغة فيه كما قالوا في قوله تعالى: (ولو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) إن فعل المضارع لاستمرار الثبوت والمقصود بعد دخول «لو» استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ويمكن أيضا أن يقال: كل صفة من صفات الواجب جل شأنه على وجه الكمال فلو كان الظلم صفة له كان على وجه الكمال وحيث لم يكن له ظلم على وجه الكمال لم يكن له ظلم أصلا وإلا لزم خلاف الفرض.

قوله (وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي هذا الذي ختمت عليه الأسفل فمن فعل ذلك) لعله (عليه السلام) بعدما كتب كتاب الوصية وأشهد الشهود المذكورين على ما فيه وأدرجه; كتب في عنوانه قوله سابقا «وليس لأحد أن يكشف وصيتي الخ» وقوله «ليس لأحد من سلطان ولا غيره الخ» وختم على أسفله فقوله على الأسفل بدل الكل من ضمير الغائب في عليه وهو جائز أو مفعول فيه بتقدير في، وقوله «فمن فعل ذلك» إشارة إلى كشف الوصية والعمل بغير ما ذكر فيها وقوله «وعلى من فض كتابي» هذا عطف على «من فعل ذلك» متعلق بقوله «وليس لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي» يعني وعلى من فض كتابي هذا فعليه أيضا لعنة الله وغضبه - الخ. والله أعلم.

قوله (قدمه إخوته) قدمه يقدمه من باب نصر أي تقدمه والمراد إزعاجه إلى القاضي.

قوله (وأمتع بك) أي أمتعنا الله بسببك فالمفعول محذوف لقصد التعميم والباء للسببية يعني جعلنا الله ذا متاع بسببك، والمتاع المنفعة وهي كل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها.

قوله (إلا ألجأه إليه) أي أسنده إليه وجعله له.

قوله (وتركنا عالة) العالة بالتخفيف جمع عائل وهو فقير ذو عيال.

قوله (لأخبرتك بشيء) مراده بذلك الشيء إما المال الكثير أو خلافته وإمامته (عليه السلام) وغرضه من ذلك تخويفه (عليه السلام) وإغراء الأعداء به.

قوله (فوثب إليه إبراهيم بن محمد) هو إبراهيم بن محمد الجعفري أول من تقدم من الشهود «وأبو إبراهيم» في بعض النسخ سهو من الناسخ، والضمير في إليه راجع إلى العباس.

قوله (إذا والله تخبر) إذن جواب وجزاء ينصب المضارع بشرط أن يتأخر عنها وأن تكون للحال وأن لا يكون معمولا لما قبلها وإذا فقد أحد هذه الشروط بطل عملها، وإذا وقفت عليها قلت: إذا.

ص:200

قوله (مدحور) الدحور الطرد والإبعاد.

قوله (وكان أبوك أعرف بك) أي أعرف بك من كل أحد أو منك.

قوله (وإن كان أبوك لعارفا بك في الظاهر والباطن) إن مخففة من المثقلة المكسورة ويلزمها اللام، ويجوز دخولها على كان وأخواته، وفي بعض النسخ «فإنه يعرفك في الظاهر والباطن».

قوله (ثم وثب إليه إسحاق بن جعفر عمه) الضمير في الموضعين راجع إلى العباس.

قوله (فأخذ بتلبيبه) تقول: لببت الرجل تلبيبا إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جررته.

قوله (إنك لسفيه ضعيف أحمق) المراد بالسفيه الجاهل المضطرب والخفيف الطياش وبالضعيف الناقص في الرأي أو الذي لا رأي له أصلا وبالأحمق الناقص في العقل أو الذي لا عقل له أصلا.

قوله (أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك من المنازعة والسفاهة) ولعل الهمزة للاستفهام على سبيل التوبيخ بكسر المنازعة والجمع بالضم بمعنى المجموع كالذخر بمعنى المذخور.

قوله (وأعانه القوم) الضمير راجع إلى إسحاق بن جعفر.

قوله (حسبي ما لعنني أبوك اليوم) «ما» إما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف ولحوق اللعن به باعتبار احضاره والتفتيش عن حاله إذ لم يكن له ذلك.

قوله (فقال أبو عمران لا أفضه حسبي ما لعنني أبوك منذ اليوم) اللعن وقع لأمرين أحدهما الكشف عن حاله والكف عما أراد وثانيهما فض الكتاب وقد ارتكب الأول في الجملة إذا حضره وكشفه وكفه آن المرافعة واجتنب عن الثاني. وفي كتاب العيون «فقال: لا أفضه لا يلعنني أبوك» وهو أيضا صحيح.

قوله (وإدخاله إياهم في ولاية علي) إذ جعلهم كالأيتام في حجره.

قوله (قال سيدي هذا) الظاهر أن «هذا» إشارة إلى علي (عليه السلام) وكونه إشارة إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) بعيد.

قوله (وقال اسكتي فإن النساء إلى الضعف - الخ) أي النساء مائلات إلى ضعف العقل وقلة الرأي فربما يقلن من غير علم وقال ذلك خوفا وتقية وإطفاء للفتنة.

قوله (إنما حملكم على هذا الغرائم) الغرائم جمع الغريم كالقبائح جمع القبيح، والمراد بالغريم هذا من له الدين وقد يطلق على من عليه الدين أيضا.

قوله (فتعين لي ما عليهم) أي اجعل ما عليهم من الديون متعينا معلوما لي، أو اجعله علي وفي

ص:201

ذمتي بأجل من العينة وفي بعض النسخ فعين لي بدون التاء.

قوله (ولا والله) أي ليس الأمر كما زعمتم من ترك الصلة وعدم الرعاية لكم والله لا أدع مواساتكم أي إعطاءكم، وفي النهاية: الإسوة بكسر الهمزة وضمها القدوة والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق وأصلها الهمزة فقلبت واوا تخفيفا، وفي المغرب: آسيته بمالي أي جعلته أسوة أقتدي به ويقتدي هو بي وواسيته لغة ضعيفة.

قوله (ما تعطينا إلا من فضول أموالنا ومالنا عندك أكثر) «ما» موصولة أو موصوفة «ولنا» ظرف عامله محذوف أي وما كان لنا عندك من الأموال أكثر مما تعطينا، ويحتمل أن يكون «مالنا» بالرفع على الابتداء والواو على التقديرين إما للعطف أو للحال. والمراد بفضول الأموال منافعها المتجددة.

قوله (فالعرض عرضكم) في الصحاح: عرض الرجل حسبه، وفي النهاية: العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقض ويثلب، وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير.

قوله (ولئن حبست شيئا مما تظنون أو ادخرته) أي منعته من الإنفاق على أهله وفي قوله «مما تظنون» إشارة إلى أنه منزه عن ذلك وإنما ذلك بحسب ظنهم وفساد عقيدتهم، ويحتمل أن يراد بالحبس الوقف احتمالا بعيدا، وادخار المال جعله ذخيرة ليوم الحاجة وأصله اذتخار وهو افتعال من الذخر يقال: ذخر يذخر ذخرا، فهو ذاخر واذتخر يذتخر فهو مذتخر، فلما أرادوا أن يدغموا ليخف النطق قلبوا التاء إلى ما يقاربها من الحروف وهو الدال المهملة لأنهما من مخرج واحد فصارت اللفظة اذدخر بذال ودال ولهم حينئذ فيه مذهبان: أحدهما وهو الأكثر أن تقلب الذال المعجمة دالا وتدغم فيها فتصير دالا مهملة مشددة، والثاني وهو الأقل أن تقلب الدال المهملة ذالا وتدغم فتصير ذالا مشددة معجمة وهذا العمل مطرد في أمثاله كما ذكر في موضعه.

قوله (إلا وقد سيبته حيث رأيتم) أي أعطيته حيث رأيتم من ذوي الاستحقاق والسيب العطاء، وفي بعض النسخ «وقد سبلته» يعني جعلته في سبل الخير وصرفته فيها وفي بعضها «وقد شتته» يعني فرقته فيها.

قوله (من رأى علينا) مفعول جعل وأصله رأيا علينا زيدت «من» لزيادة العموم يعني ما جعل الله لك شيئا من أفراد الرأي والتدبير والتصرف والزيادة علينا ولكن حسد أبينا ظاهر منك لنا وإرادة أبينا فيك ما أراد من تفوقك علينا وهو ما لا يسوغه الله إياه ولا إياك جعلا لك علينا فضلا وزيادة

ص:202

وتفوقا، وهذا الكلام منه من غاية الركاكة وسوء الأدب بل يشم منه رائحة الارتداد والكفر والله غفور رحيم.

قوله (وإنك لتعرف أني أعرف صفوان بن يحيى بياع السابري بالكوفة) صفوان بن يحيى كان ثقة عينا ورعا عابدا زاهدا وكان وكيل الكاظم (عليه السلام) وقد بذل له جماعة من الواقفة مالا كثيرا للوقف فلم يقبل منهم وسلم مذهبه منه ثم كان وكيلا للرضا وأبي جعفر الثاني (عليهما السلام) وكانت له عندهما منزلة شريفة (رحمه الله).

قوله (ولئن سلمت لأغصصنه بريقه وأنت معه) يقال: غصصت بالماء أغص من باب علم غصصا بالتحريك فأنا غاص وغصان إذا وقف في حلقك فلم تكد تسيغه وأغصصته أنا وهذا كناية عن تشديد الأمر عليه، وفي بعض النسخ لأغصصنه على صيغة المتكلم من الماضي.

قوله (رفيق عليهم) الرفيق فعيل بمعنى فاعل وهو إما بالفاء من الرفق ضد الخرق والعنف أعني الرأفة والتلطف وقد رفق به يرفق من باب نصر فهو رفيق، أو بالقاف من الرقة ضد القسوة والشدة أعني الضعف واللينة، وقد رق له قلبه إذا رحمه، وإنما عداه بعلى لتضمين معنى الحفظ أو نحوه.

قوله (أعنى بأمورهم) بضم الهمزة وفتح النون أو بفتحها وكسر النون تقول: عنيت بحاجتك بضم أوله أعني بها كذلك فأنا بها معني على مفعول وعنيت بها فأنا عان، والأول أكثر أي اهتممت بها واشتغلت في تحصيلها من العناية وهي الحفظ فإن من عنى بشيء حفظه وحرسه.

قوله (أصلحهم وأصلح لهم) إصلاحهم عبارة عن تقويمهم وتعديلهم وتهذيب أخلاقهم وأعمالهم والإصلاح لهم عبارة عن تحصيل المنافع ورفع المضار.

قوله (واخسأ) أمر من خسأ الكلب كمنع إذا طرده.

قوله (ووفقهم لرشدك) أي لقبول هدايتك ودلالتك وسلوك سبيلك، والرشد بالضم خلاف الغي.

قوله (على مسرتكم) المسرة والسرور خلاف الحزن، تقول: سرني فلان إذا جعلك مسرورا والإضافة من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

قوله (والله على ما نقول وكيل) أي والله على ما نقول من الحرص على المسرة والبر والصلة والرفق والمجاهدة وغير ذلك وكيل شاهد حفيظ علينا.

قوله (ما أعرفني بلسانك) صيغة التعجب ويحتمل أن يكون «ما» نافية والفاعل محذوف أي ما أعرفني شيء بلسانك.

قوله (وليس لمسحاتك عندي طين) المسحاة بكسر الميم مفعلة من سحوت الطين عن وجه

ص:203

الأرض إذا جرفته وأزلته وذهبت به كله أو جله وهي آلة من حديدة معوجة يقال لها بالفارسية كلند، وهذا مثل يقال لمن لا يؤثر كلامه أو حيلته في قلب السامع.

* الأصل:

16 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن علي وعبيد الله بن المرزبان عن ابن سنان قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) من قبل أن يقدم العراق بسنة وعلي ابنه جالس بين يديه، فنظر إلي فقال: يا محمد أما إنه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع لذلك، قال: قلت:

وما يكون جعلت فداك؟ فقد أقلقني ما ذكرت، فقال: أصير إلى الطاغية، أما إنه لا يبدأني منه سوء ومن الذي يكون بعده، قال: قلت: وما يكون جعلت فداك؟ قال: يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، قال: قلت: وما ذاك جعلت فداك؟ قال: من ظلم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعدي كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقه وجحده إمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: قلت: والله لئن مد الله لي في العمر لأسلمن له حقه ولأقرن له بإمامته، قال: صدقت يا محمد، يمد الله في عمرك وتسلم له حقه وتقر له بإمامته وإمامة من يكون من بعده، قال: قلت: ومن ذاك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت له:

الرضا والتسليم.

* الشرح:

قوله (أصير إلى الطاغية) اللام للعهد إشارة إلى المهدي العباسي والتاء للمبالغة في طغيانه وتجاوزه عن الحد.

قوله (لا يبدأني منه سوء) بدء كل شيء أوله وابتداؤه، يعني لا يصلني ابتداء منه سوء وهو القتل ولا من الذي بعده وهو موسى بن المهدي، وقد قتله بعده هارون الرشيد بالسم وهذا من دلائل إمامته إذ أخبر بما يكون وقد وقع كما أخبر.

قوله (قال: قلت: وما يكون) سأل السائل عن مآل حاله مع الطواغيت فأشار (عليه السلام) إلى أنه القتل بقوله: «يضل الله الظالمين» أي يتركهم مع أنفسهم الطاغية حتى يقتلوا نفسا معصومة ولم يمنعهم جبرا وهذا معنى إضلالهم وإلى أنه ينصب مقامه إماما آخر بقوله: «ويفعل الله ما يشاء» ولما كان هذا الفعل مجملا بحسب الدلالة والخصوصية سأل السائل عنه بقوله: «وما ذاك» يعني وما ذاك الفعل؟ فأجاب (عليه السلام): بأنه نصب ابني علي للإمامة والخلافة ومن ظلم ابني هذا حقه وجحده إمامته كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقه وجحده إمامته وذلك لأن من أنكر الإمام الآخر لم يؤمن بالإمام الأول ولأنهما صراط الحق فالتارك لأحدهما كان كالتارك للآخر في الخروج عنه قطعا.

ص:204

باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني (عليه السلام)

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يحيى بن حبيب الزيات قال:

أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) جالسا، فلما نهضوا قال لهم: ألقوا أبا جعفر فسلموا عليه وأحدثوا به عهدا، فلما نهض القوم التفت إلي فقال: يرحم الله المفضل إنه كان ليقنع بدون هذا.

* الشرح:

قوله (إنه كان ليقنع بدون هذا) أي بدون الأمر بالتسليم وإحداث العهد بل كان يكفيه في إحداثه الإشارة أو كان يحدثه بدونها أيضا كما أن الناس يسلمون على ولد العزيز الشريف ويحدثون به عهدا وملاقاة بدون أمر أبيه بذلك، وهم لما لم يفعلوا ذلك إلا بعد الأمر تذكر (عليه السلام) حسن فعل المفضل وكمال اعتقاده فترحم عليه، وفيه لوم لهم لهذا الوجه وكمال مدح للمفضل ولكن لم نعلم أن المفضل من هو لاحتماله رجالا كثيرا، وتخصيصه بابن عمر تخصيص بلا مخصص والاشتهار لو سلم فإنما هو عندنا لا عند السلف. ويحتمل أن يكون سبب لومهم أنهم تركوا التسليم وإحداث العهد بعد الأمر وليس في هذا الحديث دلالة على أنهم فعلوا ذلك بعده، ويحتمل أيضا أن يكون اللوم متعلقا بالمخبر وهو من كان جالسا عند أبي الحسن (عليه السلام) فإن الظاهر أنه لم ينهض ولم يسلم عليه ولم يحدث به عهدا بعد الأمر، ثم إحداث العهد وتجديده بوقوع عهد سابق، وهو إما العهد الذي صدر منهم حين كونهم ذرا أو أعم منه ومن الذي وقع عند ظهوره (عليه السلام) في هذه النشأ وفيه دلالة واضحة على أنه ينبغي زيارة الصلحاء ومراقبتهم والابتداء بالتسليم عليهم.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) وذكر شيئا فقال: ما حاجتكم إلى ذلك؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة.

* الشرح:

قوله (القذة بالقذة) القذذ بضم القاف وفتح الذال ريش السهم واحدتها قذة بضم

ص:205

القاف، يقال:

حذو القذة بالقذة إذا تساويا في المقدار حيث يقدر واحدة كل منهما على قدر صاحبتها وتقطع ثم يضرب به مثلا لشيئين يستويان ولا يتفاوتان أصلا.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه محمد بن عيسى قال: دخلت على أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فناظرني في أشياء، ثم قال: يا أبا علي، ارتفع الشك; ما لأبي غيري.

* الشرح:

قوله (عن أبيه محمد بن عيسى) اختلف علماء الرجال في ذم محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين ومدحه وتوثيقه، ونقل عن ابن طاووس أنه جزم في مواضع بضعفه، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى كتب الرجال.

قوله (ما لأبي غيري) أي ليس لأبي ولد غيري، والغرض منه هو الإشعار بأنه الإمام بعده.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن يحيى، عن مالك بن أشيم، عن الحسين بن بشار، قال: كتب ابن قياما إلى أبي الحسن (عليه السلام) كتابا يقول فيه: كيف تكون إماما وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن الرضا (عليه السلام) - شبه المغضب -: وما علمك أنه لا يكون لي ولد! والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولدا ذكرا يفرق به بين الحق والباطل.

* الشرح:

قوله (كتب ابن قياما) الحسين بن قياما من أصحاب الكاظم (عليه السلام) واقفي.

* الأصل:

5 - بعض أصحابنا، عن محمد بن علي، عن معاوية بن حكيم، عن ابن أبي نصر قال: قال لي ابن النجاشي: من الإمام بعد صاحبك؟ فأشتهي أن تسأله حتى أعلم؟ فدخلت على الرضا (عليه السلام) فأخبرته، قال: فقال لي: الإمام ابني، ثم قال: هل يتجرى أحد أن يقول ابني وليس له ولد.

* الشرح:

قوله (فأشتهي أن تسأله) في بعض النسخ: أن أسأله، والضمير راجع إلى الصاحب وهو الرضا (عليه السلام).

قوله (ثم قال هل يتجرى أحد) الظاهر أن ابنه كان موجودا حين الجواب ويحتمل أنه أخبر بذلك لعلمه بأنه سيولد.

6 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن معمر بن خلاد قال: ذكرنا عند أبي الحسن (عليه السلام) شيئا بعدما ولد له أبو جعفر (عليه السلام) فقال: ما حاجتكم إلى ذلك؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي

ص:206

وصيرته في مكاني.

7 - أحمد، عن محمد بن علي، عن ابن قياما الواسطي قال: دخلت على علي بن موسى (عليهما السلام) فقلت له: أيكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت، فقلت له: هو ذا أنت، ليس لك صامت - ولم يكن ولد له أبو جعفر (عليه السلام) بعد - فقال لي: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر (عليه السلام) وكان ابن قياما واقفيا.

* الأصل:

8 - أحمد، عن محمد بن علي، عن الحسن بن الجهم قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) جالسا، فدعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجري، فقال لي: جرده وانزع قميصه، فنزعته، فقال لي: انظر بين كتفيه، فنظرت فإذا في أحد كتفيه شبيه بالخاتم داخل في اللحم، ثم قال: أترى هذا؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (فإذا في أحد كتفيه شبيه بالخاتم) هذا من علامات الإمامة، ولعل المراد بأحد كتفيه كتفه اليسرى كما صرحوا به في خاتم النبوة حيث قالوا: إنه عند ناغض كتفه اليسرى، والناغض من الإنسان قيل: هو أصل العنق حيث ينغض رأسه، ونغض الكتف هو العظم الرقيق على طرفيها، وقيل: هو فرع الكتف سمي ناغضا للحركة، وقيل: هو مارق من الكتف سمي ذلك لنغوضه، وحركته نغض رأسه ومنه قوله تعالى: (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء.

قوله (داخل في اللحم) فيه دفع لتوهم أنه نابت كاللحم الذي قبضت عليه المحجمة.

قوله (أترى هذا) الاستفهام للتقرير.

* الأصل:

9 - عنه، عن محمد بن علي، عن أبي يحيى الصنعاني قال: كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فجيء بابنه أبي جعفر (عليه السلام) وهو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه.

* الشرح:

قوله (لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) لأن الشيعة كانوا في زمانه (عليه السلام) على رفاهية، ويحتمل أن يكون الحصر إضافيا بالنسبة إلى غير الأئمة (عليهم السلام).

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام): قد كنا

ص:207

نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر (عليه السلام) فكنت تقول: يهب الله لي غلاما، فقد وهبه الله لك. فأقر عيوننا، فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين؟! فقال: وما يضره من ذلك، فقد قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين (1).

* الشرح:

قوله (فأقر عيوننا) يقال: قرت عينه إذا سر وفرح وأقر الله عينه أي جعله مسرورا فرحا وحقيقته أبرد الله دمعة عينه لأن دمعة الفرح والسرور باردة، وقيل: معنى أقر الله عينه بلغه أمنيته حتى ترضى نفسه وتسكن عينه فلا تستشرف إلى غيره.

قوله (فلا أرانا الله يومك فإن كان كون) أراد بيومك يوم الموت وبالكون حدوث واقعة وهي الموت.

قوله (وما يضره من ذلك) لأن بلوغ الجثة غير معتبر في الإمامة وإنما المعتبر فيها بلوغ العقل وعقول الأئمة (عليهم السلام) كانت بالغة كاملة منزهة عن العيب والنقص حين الفطرة.

11 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن معمر بن خلاد قال:

سمعت إسماعيل بن إبراهيم يقول للرضا (عليه السلام): إن ابني في لسانه ثقل، فأنا أبعث به إليك غدا تمسح على رأسه وتدعو له فإنه مولاك، فقال: هو مولى أبي جعفر فابعث به غدا إليه.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن محمد بن خلاد الصيقل (2). عن محمد بن الحسن بن عمار قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالسا بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - إذ دخل عليه أبو جعفر محمد ابن علي الرضا (عليه السلام) المسجد - مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) - فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): يا عم اجلس رحمك الله فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا إذا كان الله عزوجل - وقبض على لحيته - لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه; أنكر فضله؟!، نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد.

* الشرح:

قوله (فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء) دل على استحباب تعظيم الفضلاء

ص:208


1- (1) كذا وفي إرشاد المفيد وإعلام الورى «ابن أقل من ثلاث سنين».
2- (2) كذا في النسخ ولم أجد له في كتب الرجال عنوانا إلا أن الأردبيلي (رحمه الله) ذكره في ترجمة محمد بن الحسن ابن عمار قال: روى عنه محمد بن خلاد الصيقل وأشار إلى هذا الحديث.

والعلماء وأهل الورع وعدم جواز ترجيح المفضول على الفاضل، كل ذلك لاشتراك العلة ظاهرا.

قوله (وقبض على لحيته لم يؤهل) مدخول الواو حال عن فاعل قال، ولم يؤهل مفعوله، يقال:

أهله للخير تأهيلا، أي جعله أهلا له وحذف مفعول التأهيل في الموضعين للدلالة على العموم وتفوقه (عليه السلام) من جميع وجوه الخير والكمال، والمعترضون وأرباب التوبيخ نظروا إليه (عليه السلام) بالعين الظاهرة وهو رحمه الله نظر إليه بالبصيرة الباطنة ومن شأنها إدراك الحقيقة الإنسانية والكمالات النفسانية والفضائل الروحانية، وأما العين الظاهرة فكليلة عن إدراكها ولذا قيل: إنما يعرف ذا الفضل ذووه.

قوله (بل أنا له عبد) أي عبد الطاعة والانقياد لأعماله وأقواله وهذه كلمة وجيزة مفيدة للمتابعة من جميع الوجوه.

* الأصل:

13 - الحسين بن محمد، عن الخيراني، عن أبيه قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن (عليه السلام) بخراسان فقال له قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولا نبيا، صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (الحسين بن محمد عن الخيراني) لم يحضرني الآن اسمه وكأني لم أجده ويحتمل أن يكون من أولاد خيران مولى الرضا (عليه السلام)، وفي بعض النسخ: الجواني، وهو محمد بن الحسن بن محمد بن عبيد الله الأعرج بن الحسين بن علي بن الحسين (عليهما السلام) نسبة إلى جوانية قرية بالمدينة، أو علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن محمد أو ابنه محمد بن علي بن إبراهيم.

قوله (صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر) لأنه بعث نبيا وهو في المهد كما دل عليه قوله تعالى: (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) وقوله تعالى:

(فناداها من تحتها ألا تحزني) إلى آخر الآيات، فإذا جاز أن يكون هو نبيا صاحب شريعة مبتدأة غير تابع لشريعة نبي آخر في السن الذي أصغر من سن أبي جعفر فكيف لا يجوز أن يكون أبو جعفر إماما تابعا لشريعة آخر في السن الذي أكبر من سنه وهذا من باب القياس بطريق الأولوية فهو حجة لمن ذهب إلى حجيته، اللهم إلا أن يقال: إن السائل كان قائلا بالقياس فألزمه (عليه السلام) بما هو

ص:209

مذهبه، وهو بعيد لأن الظاهر أنه من أصحابه (عليه السلام) لم يعمل بالقياس، أو يقال: المقصود رفع استبعاد السائل وهو يحصل بما ذكر، لا إثبات الإمام بالقياس فليتأمل.

* الأصل:

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني جميعا، عن زكريا بن يحيى بن النعمان الصيرفي قال: سمعت علي بن جعفر، يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال: والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له الحسن: إي والله - جعلت فداك - لقد بغى عليه إخوته، فقال علي بن جعفر: إي والله ونحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك كيف صنعتم فإني لم أحضركم؟ قال: قال له إخوته: ونحن أيضا، ما كان فينا إمام قط حائل اللون، فقال لهم الرضا (عليه السلام): هو ابني، قالوا: فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قضى بالقافة فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليهم فأما أنا فلا ولا تعلموهم لما دعوتموهم ولتكونوا في بيوتكم، فلما جاؤوا أقعدونا في البستان واصطف عمومته وإخوته وأخواته وأخذوا الرضا (عليه السلام) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاؤوا بأبي جعفر (عليه السلام) فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له ههنا أب ولكن هذا عم أبيه وهذا عم أبيه وهذا عمه وهذه عمته وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن (عليه السلام) قالوا:

هذا أبوه، قال علي ابن جعفر: فقمت فمصصت ريق أبي جعفر (عليه السلام) ثم قلت له: أشهد أنك إمامي عند الله، فبكى الرضا (عليه السلام)، ثم قال: يا عم ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبية الطيبة الفم، المنجبة الرحم (1) ويلهم لعن الله الاغيبس وذريته (2)، صاحب الفتنة ويقتلهم سنين وشهورا وأياما، يسومهم خسفا ويسقيهم كأسا مصبرة وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده، صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك، أي واد سلك؟! أفيكون هذا يا عم إلا مني؟ فقلت: صدقت جعلت فداك.

* الشرح:

قوله (عن يحيى بن زكريا بن النعمان الصيرفي) في بعض النسخ: المصري، والرجل مجهول الحال.

قوله (أي والله جعلت فداك لقد بغى عليه اخوته) إي بكسر الهمزة من حروف التصديق ولا

ص:210


1- (1) وفي أكثر النسخ: المنتحبة الرحم.
2- (2) كذا في النسخ التي رأيناها وفي المرآة أيضا بالعين المهملة.

يستعمل إلا مع القسم. والبغي الظلم والتعدي.

قوله (قال له إخوته) الضميران راجعان إلى الرضا (عليه السلام).

قوله (حائل اللون) كل حائل متغير سمي به لأنه يحول من حال إلى حال والمقصود أن لونه ليس مثل لونك ولون آبائك الطاهرين، لأن لونه (عليه السلام) كان أسمر، وكان غرضهم من ذلك سلب نسبه (عليه السلام) لسلب إمامته طمعا فيها نعوذ بالله من ذلك.

قوله (قالوا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قضى بالقافة فبيننا وبينك القافة) روى مسلم بإسناده عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم تر أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض» (1) وعنها أيضا قالت: دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم مسرورا فقال: «يا عائشة ألم تر أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وعنها أيضا قالت: «دخل قائف ورسول الله (صلى الله عليه وآله) شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض فسر بذلك النبي (صلى الله عليه وآله) وأعجبه» قال عياض: المجزز بفتح الجيم وكسر الزاي الأول سمي بذلك لأنه إذا أخذ أسيرا جز ناصيته، وقيل:

حلق لحيته وكان من بني مدلج وكانت القافة فيهم وفي بني أسد وهي جمع القائف الذي يعرف الآثار، وقال الآبي: اختلف أقوال السلف في القافة هل هي مختصة ببني مدلج أم لا، لأن المدعى فيها إنما هو درك الشبه وذلك غير خاص بهم، أو يقال: إن في ذلك قوة ليست لغيرهم، وكان يقال:

علوم العرب ثلاثة: الشيافة والعيافة والقيافة، فالشيافة شم تراب الأرض ليعلم بها الاستقامة على الطريق والخروج منها، والعيافة زجر الطير والطيرة والتفأل ونحوه. والقيافة اعتبار الشبه بإلحاق الولد، وقال محيي الدين: قيل: إن أسامة كان شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن فكانت الجاهلية تطعن في نسبه لذلك فلما قال القائف ذلك وكانت العرب تصغي لقول القائف سر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه كاف لهم عن الطعن.

قوله (قال ابعثوا أنتم إليه فأما أنا فلا) إنما قال ذلك لعدم اعتقاده بقول القافة لابتناء قولهم على الظن والاستنباط بالعلامات والمشابهات التي يتطرق إليها الغلط، ولكن الخصوم لما اعتقدوا به ألزمهم بما اعتقدوه، وقد أنكر التمسك بقول القافة أبو حنيفة وأثبته الشافعي، والمشهور عن مالك إثباته في الإماء دون الحرائر، ونقل عنه إثباته في الحرائر أيضا، واحتج المثبت بما روي عن

ص:211


1- (1) صحيح مسلم: ج 4 ص 172.

النبي (صلى الله عليه وآله) من حديث زيد وأسامة ابنه وبسروره وعدم إنكاره، واعترض عليه ابن الباقلاني بأنه إنما لم ينكره لأنه وافق الحق الذي كان معلوما له (صلى الله عليه وآله) وإنما استسر لأن المنافقين كانوا يطعنون في نسب اسامة لسواده وبياض زيد وكان (صلى الله عليه وآله) يتأذى من قولهم فلما قال القائف ذلك وهم كانوا يعتقدون حكمه استسر لإلزامهم أنه ابنه وتبين كذبهم على ما يعتقدون من صحة العمل بالقافة.

قوله (ولا تعلموهم لما دعوتموهم) أمرهم بذلك لأنه أدخل لقبولهم قول القائف وأبعد عن تطرق التهمة ودخول الشبهة عليهم.

قوله (ولتكونوا في بيوتكم) أمرهم بذلك ليحصل له الشهود، بقول القائف لسماع جميعهم قوله.

قوله (فلما جاؤوا أقعدونا في البستان) الظاهر أن هذا من كلام الرضا (عليه السلام) وأن أقعدونا على صيغة أمر وأن الخطاب للعمومة والإخوة وانما أمرهم به ليظهر للقافة أنه (عليه السلام) من عبيدهم وخدمهم ليبعد احتمال إلحاق الولد به ويكمل الحجة عليهم بعده.

قوله (ووضعوا على عنقه مسحاة) قال صاحب المقدمة: المسحاة پارو وبيل آهنين وسوهان خوشه ساى.

قوله (قالوا ألحقوا) ضمير قالوا راجع إلى الإخوة والأخوات والعمومة».

قوله (فبكى الرضا (عليه السلام)) بكاؤه لأجل التضرع إلى الله تعالى والتذلل له اداء لشكر نعمته بإظهار الحق عليهم.

قوله (ابن خيرة الإماء) المراد به صاحب الزمان (عليه السلام) لا محمد بن علي الجواد لأن ضمير هو في قوله «وهو الطريد» راجع إلى الابن وهو بيان لحال الصاحب قطعا.

قوله (ابن النوبية) النوبة بالضم بلاد واسعة للسودان بجنب الصعيد ومنها بلاد الحبشة، والنوبة أيضا جبل من السودان والنسبة إليها نوبي ونوبية.

قوله (الطيبة الفم) إما لخلوصه من كلمة اللغو والشرك أو لنظافته وزوال خبثه، بالسواك أو لطيب رائحته.

قوله (المنجبة الرحم) يقال: امرأة منجبة إذا كانت تلد النجباء.

قوله (ويلهم) بالنصب على إضمار الفعل وهي كلمة عذاب، وواد في جهنم شديدة الحرارة والضمير للمفسدين من الخلفاء العباسية.

ص:212

قوله (لعن الله الاغيبس وذريته) (1) الغبس بفتح الغين المعجمة والغبسة بضمها لون كلون الرماد والأغبس الذي له هذا اللون، والذئب الأغبس الذي يقال له بالفارسية گرك سياه والمراد به هنا خليفة من خلفاء بني عباس وفي بعض النسخ الأغيبس وهو تصغير الأغبس بدون الترخيم وهو حذف الزائد والأكثر في تصغيره غبيس بالترخيم كزهير وأزهر.

قوله (يقتلهم) ضمير المنصوب راجع إلى الأغبس وذريته وضمير المرفوع المستكن راجع إلى الله تعالى لكونه معلوما أو إلى ابن خيرة الإماء لأن الصاحب (عليه السلام) يقتلهم بعد الرجعة جزاء بما كانوا يعملون، ويحتمل أن يكون الضمير المرفوع راجعا إلى الأغبس وذريته بتأويل المذكور (؟) وضمير المنصوب (؟) إلى الأئمة (عليهم السلام) والجملة استئناف لبيان سبب اللعن المذكور.

قوله (يسومهم خسفا) الخسف بفتح الخاء وضمها: الذل والنقيصة والمشقة والذهاب في الأرض ويراد به الهلاك، يقال: سامه خسفا أي أولاه هذه الأمور وألزمه عليها قهرا.

قوله (ويسقيهم كأسا مصبرة) الكأس مؤنثة، قال الله تعالى: (بكأس من معين بيضاء) قال ابن الاعرابي: لا تسمى الكأس كأسا إلا وفيها شراب، والمصبرة على وزن مكحلة اسم آلة للصبر وهو بكسر الباء الدواء المر المعروف، وأما المصبرة بشد الباء على صيغة المفعول من باب التفعيل بمعنى التي جعل فيها صبر فهو احتمال بعيد.

قوله (وهو الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده) الضمير راجع إلى ابن خيرة الإماء والمراد صاحب الزمان (عليه السلام) والطريد فعيل بمعنى مفعول من الطرد بالتسكين والتحريك وهو الإبعاد والإخراج والدفع يقال: طرده السلطان إذا أخرجه عن بلده وأبعده ودفعه عن محله فهو مطرود وطريد. والشريد فعيل بمعنى فاعل من شرد فلان إذا نفر عن الخلق وذهب في الأرض وسار في البلاد خوفا وفزعا فهو شارد وشريد، وقال الجوهري: الشريد الطريد وهو حينئذ فعيل بمعنى مفعول والتكرير للتأكيد والموتور من قتل حميمه وأفرد، يقال: وترته إذا قتلت حميمه وأفردته فهو وتر وموتور. وكذلك كان حال الصاحب (عليه السلام) لأنه قتل جده وأبوه (عليه السلام) وقد بقي هو صغيرا طريدا شريدا موتورا سائرا في الأرض خائفا فزعا من الأعداء.

قوله (يقال مات أو هلك أي واد سلك) يقال ذلك لمن طالت غيبته حتى لا يدرى أين هو.

ص:213


1- (1) كذا في النسخ التي رأيناها وفي المرآة أيضا بالعين المهملة.

باب الإشارة والنص على أبي الحسن الثالث (عليه السلام)

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مهران قال: لما خرج أبو جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكر بوجهه إلي ضاحكا وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة، فلما اخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم التفت إلي فقال: عند هذه يخاف علي، الأمر من بعدي إلى ابني علي.

* الشرح:

قوله (إسماعيل بن مهران) وثقه الشيخ والنجاشي، ورميه بالغلو غير ثابت، لقي الرضا (عليه السلام) وروى عنه.

قوله (من خرجتيه) الخروج معروف والخرجة بالفتح للعدد وتثنيته لإفادة أن خروجه كان مرتين.

قوله (فكر بوجهه إلي ضاحكا) الكر الرجوع، يقال: كره وكر به يتعدى ولا يتعدى.

قوله (حتى اخضلت لحيته) اخضل الشيء إخضلالا أي ابتل، وفي بعض النسخ: حتى اخضلت لحيته يعني بلت. وفي الأول من المبالغة ما ليس في الثاني.

قوله (عند هذه يخاف علي) «يخاف» إما بتاء الخطاب أو بالياء المضمومة وهذا من الإخبار بالغيب إذ قتله المعتصم في هذه المرة بالسم في بغداد آخر ذي القعدة، وقيل: يوم الثلاثاء في حادي عشر ذي القعدة سنة عشرين ومائتين ودفن (عليه السلام) في ظهر جده الكاظم (عليه السلام) في مقابر قريش.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن الخيراني، عن أبيه أنه قال: كان يلزم باب أبي جعفر (عليه السلام) للخدمة التي كان وكل بها وكان أحمد بن محمد بن عيسى يجيء في السحر في كل ليلة ليعرف خبر علة

ص:214

أبي جعفر (عليه السلام) وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر (عليه السلام) وبين أبي إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي، فخرجت ذات (1) ليلة وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول لأبي: إن مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني ماض والأمر صائر إلى ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي، ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه وقال لأبي: ما الذي قد قال لك؟ قال: خيرا، قال: قد سمعت ما قال فلم تكتمه؟ وأعاد ما سمع فقال له أبي: قد حرم الله عليك ما فعلت لأن الله تعالى يقول: (ولا تجسسوا) فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوما ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.

فلما أصبح أبي كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمها ودفعها إلى عشرة من وجوه العصابة وقال: إن حدث بي حدث الموت قبل أن اطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها، فلما مضى أبو جعفر (عليه السلام) ذكر أبي أنه لم يخرج من منزله حتى قطع على يديه نحو من أربعمائة إنسان واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده وأنه لولا مخافة الشهرة لصار معهم إليه ويسأله أن يأتيه، فركب أبي وصار إليه، فوجد القوم مجتمعين عنده، فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فقال أبي لمن عنده الرقاع: أحضروا الرقاع فأحضروها، فقال لهم: هذا ما أمرت به، فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر؟ فقال لهم: قد أتاكم الله عز وجل به هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة، وسأله أن يشهد بما عنده، فأنكر أحمد أن يكون سمع من هذا شيئا فدعاه أبي إلى المباهلة، فقال: لما حقق عليه قال: قد سمعت ذلك وهذا مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم، فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعا.

«وفي نسخة الصفواني:

* الشرح:

قوله (انه قال كان يلزم باب أبي جعفر (عليه السلام)) أي أن الخيراني قال: كان أبي يلزم الباب وضمير «إنه» و «قال» راجع إلى الخيراني وضمير «كان» راجع إلى أبيه ويبعد أن يرجع الجميع إلى الأب كما لا يخفى.

قوله (للخدمة التي وكل بها) في بعض النسخ «كان وكل بها».

قوله (وكان أحمد بن محمد بن عيسى) أبو جعفر الأشعري شيخ القميين ووجههم وفقيههم

ص:215


1- (1) كذا في النسخ التي رأيناها.

وقد لقي الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) ثقة له كتب.

قوله (قام أحمد وخلا به أبي) أي قام أحمد عن المجلس وخلا بالرسول أبي، وفيه دلالة على علو منزلة أبيه عنده (عليه السلام).

قوله (فخرج ذات ليلة) (1) أي فخرج الرسول ذات ليلة والذات هنا ظرف زمان والمراد به إما جزء من أجزاء الليلة أو نفسها.

قوله (يقرأ عليك السلام) يجوز فتح الياء وضمها والأول أولى إذا عدي بعلى والثاني أولى إذا عدي بنفسه.

قوله (إياك أن تظهرها إلى وقتها) حذره ونهاه أن يظهرها من زمان سماعها إلى زمان الاحتياج إلى إظهارها.

قوله (حتى قطع على يديه نحو من أربعمائة إنسان) يعني أخذ البيعة منهم للإمام أبي جعفر (عليه السلام) على سبيل القطع والجزم.

قوله (عند محمد بن فرج) محمد بن فرج الرخجي من رجال أبي الحسن الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) ثقة معتمد.

قوله (يتفاوضون هذا الأمر) التفاوض سخن پيوستن با هم وكذا المفاوضة وهي مفاعلة من التفويض كأن كل واحد منهما يفوض ما عنده إلى الاخر.

قوله (هذا ما أمرت به) على صيغة المتكلم المعلوم أو المجهول.

قوله (لا لرجل من العجم) الخيراني وأبوه كانا من الأعاجم.

قوله (وفي نسخة الصفواني أبي محمد (2) بن جعفر الكوفي) قيل: أبو محمد يحتمل أن يكون كنيته ويحتمل أن يكون «أبي» مضافا إلى ياء المتكلم يعني أبي عن محمد بن جعفر.

* الأصل:

3 - محمد بن جعفر الكوفي، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن الحسين الواسطي أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة:

شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وإخوانه وجعل أمر موسى إذا بلغ إليه وجعل عبد الله بن المساور قائما على تركته من الضياع والأموال

ص:216


1- (1) كذا في النسخ التي رأيناها.
2- (2) كذا في جميع النسخ التي رأيناها، وفي المرآة «محمد بن جعفر».

والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن محمد، صير عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه.

يقوم بأمر نفسه وإخوانه ويصير أمر موسى إليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدق بها وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): وهو الجواني على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده».

* الشرح:

قوله (مولى أبي جعفر) محمد بن علي الجواد (عليهم السلام).

قوله (إنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة) ضمير المنصوب في أنه والمرفوع المستكن في «أشهده» راجع إلى أبي جعفر (عليه السلام)، وضمير البارز (؟) راجع إلى أحمد بن أبي خالد والمراد بالوصية المنسوخة هي الوصية على النحو الذي يذكره أحمد بن أبي خالد.

قوله (أوصى إلى علي ابنه) حاصله أنه أوصى إلى ابنه بأمور نفسه وإخوانه وتربيتهم وجعل أمر موسى ابنه إلى موسى عند بلوغه وجعل عبد الله بن المساور قائما على التركة، إلى أن يبلغ علي ابنه فإذا بلغ صير ابن المساور القيام على التركة إليه فيقوم على التركة وأمر نفسه وإخوانه إلا أمر موسى فإنه يقوم بأمره لنفسه بعد علي وابن المساور على ما شرط (عليه السلام) في صدقاته وموقوفاته وفيه نص على ان ابنه علي (عليه السلام) أفضل من إخوته فهو الإمام بعده.

قوله (من الضياع) الضياع بالفتح العيال، قال صاحب النهاية الضياع العيال وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا فسمى العيال بالمصدر كما تقول من مات وترك فقرا أي فقراء وأن كسرت الضاد كان جمع ضائع كجائع وجياع، ويفهم من المغرب أن تسمية العيال بالضياع لأجل أنهم في معرض أن يضيعوا كالذرية الصغار وبالكسر جمع الضيعة وهي العقار وهذا هو الأظهر والأنسب في هذا المقام.

قوله (صير عبد الله بن المساور ذلك إليه) «عبد الله» فاعل «صير» و «ذلك» مفعوله وهو إشارة إلى القيام على التركة وضمير إليه راجع إلى علي بن محمد والمعنى واضح، وفي بعض النسخ:

«ذلك اليوم» وهو غير واضح إلا بتكلف بعيد فليتأمل.

قوله (يقوم بأمر نفسه وإخوانه) فوض إليه أموره وأمور إخوانه إلا موسى حتى التصرفات في

ص:217

الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك وأما موسى فقد فوض أمره إليه بعد علي (عليه السلام) وبعد عبد الله بن المساور وأزال عنه منعهما حينئذ.

قوله (على شرط أبيهما في صدقاته) «على» متعلق بيقوم في الموضعين وفي متعلق بالشرط وضمير التثنية راجع إلى على وموسى بمعنى أنهما يقومان على ما شرط أبوهما في صدقاته.

قوله (وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله) هكذا في النسخ التي رأيناها قال في بعض النسخ «عبيد الله» بالتصغير وهو الموافق للرجال والنسب.

قوله (وهو الجواني) الضمير راجع إلى الحسن بن محمد ونقل بعض أئمة الرجال عن صاحب عمدة الطالب أن الجواني نسبة محمد بن عبيد الله الأعرج بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولعل محمد هذا أباه والأمر فيه سهل.

ص:218

باب الإشارة والنص على أبي محمد (عليه السلام)

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن يحيى بن يسار القنبري قال: أوصى أبو الحسن (عليه السلام) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي.

* الشرح:

قوله (عن يحيى بن يسار العنبري) بالعين المهملة والنون، وفي بعض النسخ «القنبري» بالقاف والنون قيل أورده ابن طاووس في ربيع الشيعة أيضا.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن بشار بن أحمد البصري، عن علي بن عمر النوفلي قال: كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره، فمر بنا محمد ابنه فقلت له: جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك؟ فقال: لا، صاحبكم بعدي الحسن.

3 - عنه، عن بشار بن أحمد، عن عبد الله بن محمد الاصفهاني قال: قال أبو الحسن (عليه السلام):

صاحبكم بعدي الذي يصلي علي، قال: ولم نعرف أبا محمد (عليه السلام) قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد (عليه السلام) فصلى عليه.

4 - وعنه، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن علي بن جعفر قال: كنت حاضرا أبا الحسن (عليه السلام) لما توفي ابنه محمد فقال الحسن (عليه السلام): يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا.

* الشرح:

قوله (عن علي بن جعفر) كان ثقة ووكيلا لأبي الحسن الثالث علي بن محمد ومن أصحابه وأصحاب أبي محمد الحسن بن علي العسكري.

قوله (فقال للحسن بني) في بعض النسخ «يا بني».

قوله (فقد أحدث فيك أمرا) حيث أمات محمدا وقد ظن الشيعة أنه امام بعد أبيه فاظهر الإمامة فيك وخصها بك ورفع الاختلاف بينهم وهذه نعمة عظيمة توجب الشكر.

ص:219

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن عبد الله بن مروان الأنباري قال:

كنت حاضرا عند [مضي] أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) فجاء أبو الحسن (عليه السلام) فوضع له كرسي فجلس عليه وحوله أهل بيته وأبو محمد (عليه السلام) قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد (عليه السلام) فقال: يا بني أحدث لله تبارك وتعالى شكرا فقد أحدث فيك أمرا.

* الشرح:

قوله (قال كنت حاضرا عند أبي جعفر محمد بن علي) أي بعد موته ولابد من هذا القيد ولم يذكره لدلالة المقام عليه، قيل في كشف الغمة وربيع الشيعة «عند مضي أبي جعفر» وهو أخو أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام).

قوله (فلما فرغ) من أمر أبي جعفر أي من تجهيزه وتكفينه.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن محمد بن أحمد القلانسي، عن علي بن الحسين بن عمرو، عن علي بن مهزيار قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) إن كان كون - وأعوذ بالله - فإلى من؟ قال: عهدي إلى الأكبر من ولدي.

* الشرح:

قوله (قال عهدي إلى الأكبر من ولدي) وهو أبو محمد الحسن العسكري ولعل هذا القول كان بعد موت أخيه لأن محمد كان أكبر منه، ويحتمل أن يكون قبله لعلمه (عليه السلام) بأن محمدا، سيموت ويكون أبو محمد أكبر ممن بقي.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن أبي محمد الاسبارقيني، عن علي بن عمرو العطار قال: دخلت على أبي الحسن العسكري (عليه السلام) وأبو جعفر ابنه في الأحياء وأنا أظن أنه هو، فقلت له: جعلت فداك من أخص من ولدك؟ فقال: لا تخصوا أحدا حتى يخرج إليكم أمري، قال: فكتبت إليه بعد: فيمن يكون هذا الأمر؟ قال: فكتب إلي في الكبير من ولدي، قال: وكان أبو محمد أكبر من جعفر.

* الشرح:

ص:220

قوله (عن أبي محمد الاسبا رقيني) لم أجده في كتاب الرجال ويفهم من الصحاح أن بني القين قبيلة من بني أسد والنسبة إليها قيني، قيل في ربيع الشيعة وإعلام الورى: عن أبي محمد الأسترآبادي.

قوله (في الاحياء) أي في زمرة الأحياء.

قوله (أنه هو) أي أنه ولي الأمر بعد أبيه.

قوله (من أخص) على صيغة المتكلم أي من أخصه من ولدك بهذا الأمر بعدك.

قوله (بعد) أي بعد موت ابنه أبي جعفر محمد بن علي أو بعد الزمان الذي سألته فيه عن ولي هذا الأمر شفاها قوله (من جعفر) أراد به جعفر المشهور بالكذاب.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، وغيره، عن سعد بن عبد الله، عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسن الأفطس أنهم حضروا - يوم توفي محمد بن علي بن محمد - باب أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وسائر الناس إذ نظر إلى الحسن بن علي (ع) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه، فنظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) بعد ساعة فقال:

يا بني أحدث لله عز وجل شكرا، فقد أحدث فيك أمرا، فبكى الفتى وحمد الله واسترجع وقال:

«الحمد لله رب العالمين وأنا أسأل الله تمام نعمة لنا فيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون» فسألنا عنه، فقيل: هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه.

* الشرح:

قوله (مشقوق الجيب) دل على جواز شق الرجل ثوبه لموت أخيه كما صرح به الأصحاب.

قوله (فبكى الفتى) دل على أن البكاء ليس بمذموم، وقد بكى النبي (صلى الله عليه وآله) لموت ابنه إبراهيم وإنما المذموم فهو أن يقول ما يوجب الشكاية وإحباط الأجر وعدم الرضا بقضاء الله تعالى.

قوله (وقال الحمد لله رب العالمين) العطف لتفسير الحمد والاسترجاع وهذه الكلمة أفضل كلمة دلت على مدحه وثنائه لاشتماله على الحمد له بذاته وصفاته وآلائه.

ص:221

قوله (وأنا أسال الله تعالى تمام نعمة لنا فيك) أي في بقائك لأن بقاءك نعمة لنا فكلما ازداد تمت لنا النعمة، وقدم المسند إليه لقصد تكرير الحكم وتأكيده واستمراره.

قوله (إنا لله وإنا إليه راجعون) هذه الكلمة أشرف كلمة دلت على الصبر في المصائب وتفويض الأمر إلى الله جل شأنه والانقطاع عن غيره حتى عن نفسه لأن «إنا لله» إقرار له بالملك وجريان تصرفه وقضائه وحكمه «وإنا إليه راجعون» إقرار على النفس بالهلاك ورجوعها إليه كابتدائها منه وذلك موجب لحملها على الصبر والتسليم لقضائه ولذلك قال الله تعالى (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون).

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن محمد بن يحيى بن درياب قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) بعد مضي أبي جعفر فعزيته عنه وأبو محمد (عليه السلام) جالس، فبكى أبو محمد (عليه السلام) فأقبل عليه أبو الحسن (عليه السلام) فقال [له]: إن الله تبارك وتعالى قد جعل فيك خلفا منه فاحمد الله.

* الشرح:

قوله (ان الله قد جعل فيك خلفا منه فاحمد الله) الخلف والخلف بالتحريك والتسكين بمعنى واحد وهو ما جاء من بعد، وقيل: بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر، يقال: هو خلف صدق من أبيه بالتحريك، وخلف سوء بالتسكين إذا قام مقامه، والمراد به ههنا الإمامة والخلافة لأن الناس كانوا يقدرونها في أبي جعفر محمد بن علي فأحدثها الله تعالى وأظهرها بإماتته في أبي محمد الحسن ابن علي (عليهما السلام) كما كان في علمه الأزلي.

* الأصل:

10 - علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإني لافكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما - أعني أبا جعفر وأبا محمد - في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد (عليهم السلام) وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد (عليه السلام) المرجى بعد أبي جعفر فأقبل علي أبو الحسن (عليه السلام) قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاشم! بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى (عليه السلام) بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره

ص:222

المبطلون، وأبو محمد ابني الخلف من بعدي. عنده ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة.

* الشرح:

قوله (إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر) كما كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) المرجى للخلافة بعد إسماعيل عند الشيعة فكما ظهر صنع الله في أبي الحسن موسى (عليه السلام) وأظهر أمره فيه بموت إسماعيل كذلك ظهر صنعه في أبي محمد وأظهر أمره فيه بعد موت أبي جعفر.

قوله (فقال نعم) «نعم» تصديق للكلام المتقدم وهو ههنا ما قرره أبو هاشم في نفسه.

قوله (بدا لله في أبي محمد) كذا في أكثر النسخ وفي بعضها «بدا الله» والبداء بالفتح والمد ظهور الشيء بعد الخفاء وهو على الله عز وجل غير جائز والمراد به القضاء والحكم وقد يطلق عليه كما صرح به صاحب النهاية فالمعنى قضى الله جل شأنه في أبي محمد بعد موت أبي جعفر بما لم يكن معروفا لأبي محمد عند الخلق وهو الإمامة والخلافة.

قوله (ومعه آلة الإمامة) مثل الكتب والسلاح وغير ذلك مما يختص بالإمام وعلامة من علاماته.

* الأصل:

11 - علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن محمد بن يحيى بن درياب، عن أبي - بكر الفهفكي قال: كتب إلي أبو الحسن (عليه السلام): أبو محمد ابني أنصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه ينتهي عرى الإمامة وأحكامها، فما كنت سائلي فسله عنه، فعنده ما يحتاج إليه.

* الشرح:

قوله (عن أبي بكر الفهفكي) اسمه محمد بن خالد، مهمل.

قوله (أنصح آل محمد غريزة) في بعض النسخ «أصح آل محمد غريرة» وهو الأصح، والغريزة الطبيعة والخلق، والنصح الخلوص، والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير والمعنى أنه أنصح آل محمد لله ولرسوله ولعامة المسلمين لأجل استقامة طبيعته وصفاء قريحته وصفاء عقله وكمال خلقه وعلى الثاني أن غريزته أصح الغرائز وطبيعته أحسن الطبائع وقريحته أكمل القرائح وخلقه أفضل الأخلاق.

قوله (وأوثقهم حجة) أي أوثقهم كلاما وأقواهم برهانا وأفصحهم بيانا.

ص:223

قوله (عرى الإمامة) «عرى» بضم العين وفتح الراء جمع العروة بالضم والسكون، وعروة الكوز والقميص معروفة، والعروة أيضا من الشجر الشيء الذي لا يزال باقيا في الأرض ولا يذهب وقد يراد بها الأصل على سبيل التشبيه ويجوز هنا إرادة جميع هذه المعاني أما الأولان فعلى سبيل المكنية والتخييلية بأن شبه الإمامة بالظرف الذي لا يتم ولا يحمل مع ما فيه إلا بالعروة أو بالقميص الذي يحيط باللابس وأثبت لها العرى وأراد بها الآلات التي هي متمسك الإمامة ولا يتم الإمامة إلا بها مثل الكتب والسلاح والعلم وغيرها مما ذكر تفاصيله في مواضع متعددة وأخبار متكثرة، وأما الأخيران فبأن يراد بها أيضا تلك الآلات لأنها باقية مع الإمامة غير زائلة عنها وأصول لها والإضافة فيهما لامية.

قوله (فعنده ما يحتاج إليه) يحتاج إما بصيغة الخطاب أو بصيغة الغائب المجهول.

* الأصل:

12 - علي بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن شاهويه بن عبد الله الجلاب قال: كتب إلي أبو الحسن في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإن الله عز وجل «لا يضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون» وصاحبك بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء الله (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان.

* الشرح:

قوله (وقلقت لذلك) القلق الانزعاج والاضطراب وإنما قلق لأنه ظن أن الخلف أبو جعفر محمد ابن علي فلما مات وبطل ظنه قلق لعدم ظنه بخلف غيره على الخصوص.

قوله (فإن الله لا يضل قوما) ضل ضاع والضلال الضياع وأضله غيره ضيعه وأخرجه عن الطريق أو وجده ضالا، وباب الافعال يجيء لهذا المعنى أيضا كما تقول: أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا وبخيلا وقد صرح به ابن الأثير في النهاية أو سماه ضالا أو أخذه مؤاخذة الضال كما صرح به القاضي وغيره في تفسير هذه الآية، وإذا نسب الإضلال إلى الله تعالى يراد به غير المعنى الأول من المعاني المذكورة، والمعنى: لا يجد الله قوما ضالين خارجين عن طريق الحق أو لا يسميهم ضالين أو لايؤاخذهم مؤاخذتهم بعد إذ هداهم للإيمان حتى يبين لهم ما يجب اتقاؤه ومن جملة ما يجب اتقاؤه خلاف الإمام فلا إضلال ولا مؤاخذة بدون بيان الإمام وفيه دلالة على أن العبد غير

ص:224

مكلف بشيء من أحكام الدين قبل العلم به.

قوله (يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء) أي يقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره بلا معارض ولا مدافع، ولما تعلقت المشية الأزلية بتقديم أبي محمد قدمه وأمات أبا جعفر ليبطل ظن من ظن أنه المتقدم في الخلافة ويظهر علمه الأزلي بذلك.

قوله (ما ننسخ من آية) «ما» شرطية جازمة لننسخ، منصوبة على المفعولية و «من آية» تميز لها وإنساؤها إذهابها عن القلوب يعني أي شيء ننسخ من آية أو نذهبها عن القلوب نأت بما هو خير لهم منها أو مثلها في النفع وقد أنسى وأزال عن قلوبهم ماظنوه من خلافة أبي جعفر بموته وأتى بمن هو خير لهم منه وهو أبو محمد (عليه السلام).

* الأصل:

13 - علي بن محمد، عمن ذكره، عن محمد بن أحمد العلوي، عن داود بن القاسم قال:

سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف) المراد بالخلف الأول الحجة وبالخلف الثاني الحسن العسكري (عليهم السلام) وكيف للإنكار أي لا يكون لكم العلم بالخلف بعد الخلف بشخصه أو بمكانه أو لا يجوز لكم التسمية باسمه.

قوله (لا ترون شخصه) لعل المراد نفي الرؤية عن جماعة أو كلما أرادوا أو في زمان الغيبة أو كناية عن غيبته وإلا فقد رآه جماعة كما سيجيء، والله أعلم.

قوله (ولا يحل لكم ذكره باسمه) دل على أنه لا يجوز تسميته باسمه مطلقا ولا يبعد تخصيصه بالغيبة الصغرى أو بمحل الخوف والتقية كما يشعر به بعض الروايات الآتية وربما يشعر به لفظ «لكم» ويؤيده وقوع التصريح باسمه في بعض الأدعية المأثورة، والاحتياط أمر آخر.

ص:225

باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار (عليه السلام)

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن محمد بن علي بن بلال قال: خرج إلي من أبي محمد قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم خرج إلي من قبل مضيه، بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده.

* الشرح:

قوله (علي بن بلال) من أصحاب أبي جعفر الثاني والهادي والعسكري (عليهم السلام) ثقة، وهذا الإسناد من الأسانيد العلية.

قوله (يخبرني بالخلف) صفة لمحذوف هو فاعل خرج أي خرج رجل أو كتاب يخبرني ومثله ما بعده.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم: فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة.

* الشرح:

قوله (عن أحمد بن إسحاق) أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري أبو علي القمي كان وافد القميين روى عن الجواد والهادي (عليهم السلام) وكان من خاصة أبي محمد (عليه السلام) ورأى صاحب الزمان ويحتمل أن يراد أحمد بن إسحاق الرازي وهو من أصحاب الهادي (عليه السلام) وكان ثقة وكان له اختصاص بالجهة المقدسة يعني صاحب الزمان (عليه السلام).

قوله (عن أبي هاشم الجعفري) كنية لداود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من أهل بغداد جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) قد شاهد الجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر (عليهم السلام) وقد روى عنهم كلهم وله منزلة عظيمة وموقع جليل عندهم، وفي

ص:226

ربيع الشيعة أنه من السفراء والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الشيعة القائلون بإمامة الحسن بن علي فيهم، كذا ذكره بعض أئمة الرجال.

قوله (قال بالمدينة) لعل المراد بالمدينة مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفيه دلالة على أن إقامته حال الغيبة فيها أكثر، وقد نقل أن أبا هاشم رآه - ويحتمل أن يراد بالمدينة سر من رأى، والله أعلم.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن جعفر بن محمد المكفوف، عن عمرو الأهوازي، قال: أراني أبو محمد ابنه وقال: هذا صاحبكم من بعدي.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن حمدان القلانسي قال: قلت للعمري: قد مضى أبو محمد (عليه السلام)؟ فقال لي: قد مضى ولكن قد خلف فيكم من رقبته مثل هذه وأشار بيده.

* الشرح:

قوله (قال قلت للعمري) الظاهر أنه أبو عمر وعثمان بن سعيد ثقة من أصحاب أبي جعفر الثاني والهادي والعسكري والصاحب (عليهم السلام)، وفي ربيع الشيعة عند ذكر أبواب الناحية المقدسة: كان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (قدس سره) بابا لأبيه وجده (عليهم السلام) من قبل وثقة لهما ثم تولى البابية من قبله وظهر المعجزات من يده، ويحتمل أن يكون ابنه محمد بن عثمان، وهما كانا وكيلين في خدمة صاحب الزمان (عليه السلام) ومن السفراء الأربعة بين الصاحب وشيعته أولهم عثمان بن سعيد ثم ابنه محمد بن عثمان ثم أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحير النوبختي ثم أبو الحسن علي بن محمد السمري رضي الله عنهم.

قوله (من رقبته مثل هذه وأشار بيده) الرقبة العنق وقد يراد بها الشخص كله تسمية للشيء باسم جزئه كما صرحوا به، ولعل المراد بها المعنى الثاني والإشارة باليد لبيان طول قامته (عليه السلام) ويبعد أن يكون المراد بها تحديد طول عنقه أو حجمه والله أعلم.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال:

خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري لعنه الله: هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله فيه، وولد له ولد سماه «م ح م د» في سنة ست

ص:227

وخمسين ومائتين.

* الشرح:

قوله (م ح م د) قيل فيه دلالة على أن عدم جواز التسمية باسمه ليس مبنيا على التقية لأن (م ح م د) ظاهر في أن اسمه محمد. أقول: حاصله أن القائل لم يكن في تقية بدليل أنه ذكر ما هو في حكم التصريح باسمه وحيث لم يذكر اسمه صريحا دل على عدم جواز ذكره بدون التقية أيضا.

وفيه نظر لأن التقية في ذلك الوقت كانت شديدة والفرق بين محمد وبين (م ح م د) ظاهر إذ لا مجال لإنكار إرادة الاسم في الأول بخلاف الثاني لجواز أن يقال المراد هو حروف التهجي المركب من هذه الحروف ألا ترى أنك إذا قلت: محمد فأخذ أحد بلبتك وقال: من مسمى هذا الاسم؟ لا سبيل لك إلى الإنكار بخلاف ما إذا قلت: م ح م د. فليتأمل.

قوله (في سنة ست وخمسين ومائتين) قال بعض أئمة الرجال: ولد المهدي محمد بن الحسن (عليهم السلام) يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة ست وخمسين ومائتين، وأمه ريحانة، ويقال لها نرجس، ويقال لها صيقل، ويقال لها سوسن، ووكيله عثمان بن سعيد العمري أبو عمرو وهو أول من نصبه العسكري (عليه السلام)، وقالوا: قتل المعتمد لعنه الله الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) بالسم يوم الرابع من ربيع الأول سنة ستين ومائتين ومنه يظهر سنه الشريف في حياة أبيه (عليه السلام).

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن الحسين ومحمد ابني علي بن إبراهيم، عن محمد بن علي بن عبد الرحمن العبدي - من عبد قيس - عن ضوء بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس سماه قال:

أتيت سامرا ولزمت باب أبي محمد (عليه السلام) فدعاني، فدخلت عليه وسلمت فقال: ما الذي أقدمك؟ قال: قلت: رغبة في خدمتك، قال: فقال لي: فالزم الباب، قال: فكنت في الدار مع الخدم، ثم صرت اشتري لهم الحوائج من السوق وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في الدار رجال، قال: فدخلت عليه يوما وهو في دار الرجال؟ فسمعت حركة في البيت، فناداني: مكانك لا تبرح، فلم أجسر أن أدخل ولا أخرج، فخرجت علي جارية معها شيء مغطى، ثم ناداني: أدخل، فدخلت، ونادى الجارية فرجعت إليه، فقال لها: اكشفي عما معك، فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه وكشف عن بطنه فإذا شعر نابت من لبته إلى سرته أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثم أمرها فحملته فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد (عليه السلام).

ص:228

* الشرح:

قوله (قال أتيت سامرا) بفتح الميم وتشديد الراء مع القصر وبكسر الميم وتخفيف الراء مع المد وهي المدينة التي بناها المعتصم وانتقل إليها وتسمى أيضا سر من رأى بضم السين وفتح الراء وبفتحها، وسار من رأى.

قوله (قلت رغبة في خدمتك) الظاهر أن «رغبة» بالرفع فاعل الفعل محذوف أي أقدمني رغبة في خدمتك.

قوله (إذا كان في دار الرجال) أي في دار يدخل فيها الرجال وهي التي يقال بالفارسية ديوان خانه. قوله (فناداني مكانك) أي فناداني أبو محمد إلزم مكانك. «ولا تبرح» تأكيد له.

قوله (من لبته) اللبة واللبب المنحر وهو موضع القلادة من الصدر.

قوله (أخضر ليس بأسود) الخضرة لون متوسط بين الصفرة والسواد أعني ما فيه دهمة وسمرة، وقد يطلق على السواد، والأخضر على الأسود فقوله: ليس أسود دليل على ما هو المراد من الأخضر ودفع لاحتمال حمله على الأسود.

ص:229

باب في تسمية من رأى القائم (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا، عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال:

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف فقلت له: يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوما، فإذا كان ذلك رفعت الحجة وأغلق باب التوبة (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) فاولئك شرار من خلق الله عز وجل وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكني أحببت أن أزادد يقينا وإن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحيى الموتى قال: (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من أعامل أو عمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون، وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له:

العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فانهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخر أبو عمرو ساجدا وبكى، ثم قال: سل حاجتك، فقلت: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده - فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالاسم: قال محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أحلل ولا أحرم ولكن عنه (عليه السلام)، فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد مضى ولم يخلف ولدا وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له فيه، وهو ذا عياله يجولون. ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئا وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك.

قال الكليني (رحمه الله): وحدثني شيخ من أصحابنا - ذهب عني اسمه - أن أبا عمرو سأل أحمد بن

ص:230

إسحاق عن مثل هذا فأجاب بمثل هذا.

* الشرح:

قوله (والشيخ أبو عمرو) هو عثمان سعيد العمري وهو أول وكيل من الوكلاء الأربعة وأول سفير منهم.

قوله (أحمد بن إسحاق) هو أحد المذكورين سابقا.

قوله (فغمزني أحمد بن إسحاق) الغمز العصر والكبس باليد والإشارة كالرمز بالعين أو الحاجب أو اليد يقال: غمزت الشيء بيدي وغمزته بعيني.

قوله (رفعت الحجة وأغلق باب التوبة) المراد بالحجة القرآن وصاحب الزمان (عليه السلام) وظاهر قوله «أغلق باب التوبة» وظاهر الآية يشعران بسقوط التكليف في ذلك الزمان، وظاهر قوله «فاولئك شرار من خلق الله» يشعر ببقائه، ولم يحضرني من الأخبار ما يدل على أحدهما ويمكن أن يرجح الأول بما دل من الأخبار على أنه «لو بقي في الأرض اثنان لكان أحدهما الحجة» وعلى أنه «لو بقيت الأرض بغير حجة لساخت» بتخصيص هذه الأخبار بزمان التكليف وبذلك يندفع التنافي بينها وبين هذا القول، ويمكن رفع التنافي أيضا بتخصيصها بغير الأربعين وإن وقع التكليف في الأربعين أيضا لعدم الاعتداد به، ولكنه بعيد جدا فليتأمل.

قوله (فلم يكن ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) «إيمانها» فاعل «ينفع» ولم تكن آمنت» صفة لنفسا، و «أو كسبت» عطف على «آمنت» يعني إذا تحققت هذه الآية التي هي من آيات قيام القيامة أعني رفع الحجة وسد باب التوبة لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم تؤمن قبل هذه الآية أو آمنت ولم تكسب في إيمانها خيرا من قبل لأن هذا الزمان لما كان من مقدمات يوم القيامة كان حكمه حكم يوم القيامة في أنه لا ينفع الإيمان والعمل فيه وهذا حجة لمن ذهب إلى أن الإيمان المجرد عن العمل لا ينفع، وأما من ذهب إلى أنه ينفع فهو إما أن يخصص عدم النفع بذلك الزمان أو يجعل العطف على «لم تكن آمنت» ليصير المعنى لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا كسبت في إيمانها خيرا فكيف إذ لم يكسبه.

قوله (فأولئك شرار من خلق الله) أي أولئك الذين بقوا في الأرض بعد رفع الحجة منه وسد باب التوبة عليهم شرار من خلق الله لفقد الخير فيهم، ولابد من تخصيصهم بمن لم يؤمن ولم يعمل خيرا قبل الرفع والسد، والشرار بالكسر خلاف الخيار.

قوله (تقوم عليهم القيامة) بعد إماتتهم جميعا.

ص:231

قوله (ولكني أحببت أن أزداد يقينا) اليقين هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع وله درجات متفاوتة ومراتب متباعدة يحصل بسبب التفاوت في رفع المزاحمات الخيالية والتوهمات الوهمية التي لا تقدح في أصل اليقين حتى يبلغ إلى مرتبة عين اليقين، وإليه يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» ولو لم يكن اليقين متفاوتا لما كان بينه (عليه السلام) وبين غيره في ذلك تفاوت، وأيضا الفرق الضروري بين يقين الأنبياء والأوصياء ويقين غيرهم قاض بذلك، وتفاوت درجات الإيمان أيضا مؤيد له.

قوله (وإن إبراهيم (عليه السلام)) استشهاد لأن سؤاله ليس بسبب الشك فيما يسأله بل لأجل أن يحصل له زيادة بصيرة وكمال يقين وسكون قلب كسؤال إبراهيم (عليه السلام)، نقل أن إبراهيم (عليه السلام) أراد أن يصير علمه البرهاني بإحياء الموتى عيانيا ونوره القلبي شهوديا ليزداد بصيرة وسكون قلب بمشاهدة المعلوم عيانا (قال رب أرني كيف تحيي الموتى) حتى أراه بعيني كما علمته بقلبي، قال جل شأنه (أو لم تؤمن (بأني قادر على إحياء الموتى) قال بلى (آمنت به ولكن سألت) ليطمئن قلبي) ويحصل له سكون وزيادة بصيرة بإضافة البصيرة العينية إلى البصيرة القلبية، والغرض من قوله تعالى (أولم تؤمن) مع علمه أنه مؤمن خالص ليجيب (عليه السلام) بما أجاب فيعلم السامعون غرضه من هذا السؤال وهو حصول زيادة بصيرة والفرق بينه وبين القول المذكور لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) واضح لا يخفى على أحد.

قوله (فخر أبو عمرو ساجدا وبكى) سجد لشكر النعمة وبكى لموت الإمامين.

قوله (رقبته مثل ذا) قد مر تفسيرها.

قوله (فإن الأمر عند السلطان) أراد بالسلطان المعتمد العباسي لعنه الله، وهذا التعليل دل صريحا على أن حرمة التصريح باسمه في زمان الغيبة، إلا أن صاحب كشف الغمة قال: قد جاء في الأخبار أنه لا يحل لأحد أن يسميه باسمه ولا أن يكنيه بكنيته إلى أن يزين الله الأرض بظهور دولته، ومال إليه جماعة من الأصحاب والله أعلم.

قوله (يجولون) جال واجتال جاء وذهب وفي بعض النسخ (يحولون) من التحويل والظاهر أنه تصحيف.

قوله (ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم) أي ليس أحد يجسر أن يجعل نفسه معروفا لهم يعرفونه بالمحبة والولاية أن ينيلهم ويعطيهم شيئا يسد حاجتهم خوفا من السلطان وتبعته.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر وكان أسن شيخ من ولد

ص:232

رسول الله 9 بالعراق فقال: رأيته بين المسجدين وهو غلام (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (بين المسجدين) مسجد مكة والمدينة.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن الحسين بن رزق الله أبو عبد الله قال: حدثني موسى بن محمد القاسم ابن حمزة بن موسى بن جعفر قال: حدثني حكيمة ابنة محمد بن علي (عليه السلام) وهي عمة أبيه أنها رأته ليلة مولده وبعد ذلك.

4 - علي بن محمد، عن حمدان القلانسي قال: قلت للعمري: قد مضى أبو محمد (عليه السلام)؟ فقال:

قد مضى ولكن قد خلف فيكم من رقبته مثل هذا - وأشار بيده -.

* الشرح:

قوله (علي بن محمد عن حمدان القلانسي) مر هذا الحديث متنا وسندا وتفسيرا في الباب السابق.

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن فتح مولى الزراري قال: سمعت أبا علي بن مطهر يذكر أنه قد رآه ووصف له قده.

6 - علي بن محمد، عن محمد بن شاذان بن نعيم، عن خادم لإبراهيم بن عبدة النيسابوري أنها قالت: كنت واقفة مع إبراهيم على الصفا فجاء (عليه السلام) حتى وقف على إبراهيم وقبض على كتاب مناسكه وحدثه بأشياء.

7 - علي بن محمد، عن محمد بن علي بن إبراهيم، عن أبي عبد الله بن صالح أنه رآه عند الحجر الأسود والناس يتجاذبون عليه وهو يقول: ما بهذا أمروا.

* الشرح:

قوله (يتجاذبون عليه) أي، يتنازعون للوصول إلى الحجر الأسود ويتدافعون، يدفع بعضهم بعضا أشد دفع.

* الأصل:

8 - علي، عن أبي علي أحمد بن إبراهيم بن إدريس، عن أبيه أنه قال: رأيته (عليه السلام) بعد مضي أبي محمد حين أيفع وقبلت يديه ورأسه.

* الشرح:

قوله (حين أيفع) أيفع الغلام فهو يافع إذا شارف البلوغ ولما يبلغ وهو من نوادر الأبنية، وفي التكملة: غلام يفاع بمعنى يافع واليفاع واليافع المرتفع من كل شيء.

* الأصل:

9 - علي، عن أبي عبد الله بن صالح وأحمد بن النضر، عن القنبري - رجل من ولد قنبر الكبير - مولى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: جرى حديث جعفر بن علي فذمه: فقلت له: فليس غيره فهل رأيته؟ فقال: لم أره ولكن رآه غيري. قلت ومن رآه؟ قال: قد رآه جعفر مرتين وله حديث.

ص:233

* الشرح:

قوله (من ولد قنبر الكبير) لعل المراد بقنبر الكبير قنبر مولى أمير المؤمنين (عليه السلام) والوصف بالكبير للمدح والإيضاح لا للاحتراز وقوله مولى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بيان أو بدل لرجل.

قوله (قال جرى) فاعل قال وقلت أحمد، وفاعل ذمه وضمير له وغيره راجع إلى القنبري ومفعول ذمه راجع إلى جعفر بن علي وهو المشهور بالكذاب، وضمير المفعول في رأيته راجع إلى صاحب الزمان (عليه السلام).

* الأصل:

10 - علي بن محمد، عن أبي محمد الوجناني أنه أخبرني عمن رآه: أنه خرج من الدار قبل الحادث بعشرة أيام وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنها من أحب البقاع لولا الطرد - أو كلام هذا نحوه -.

* الشرح:

قوله (قبل الحادث) أي قبل وفاة أبيه أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) وضمير أنها راجع إلى البقعة المباركة المعروفة.

قوله (أو كلام نحو هذا) صريح في أن الراوي ليس متذكر اللفظ بعينه وأن المروي هو المعنى فهو حجة لمن جوز نقل الحديث بالمعنى.

* الأصل:

11 - علي بن محمد، عن علي بن قيس. عن بعض جلاوزة السواد قال: شاهدت سيماء آنفا بسر من رأى وقد كسر باب الدار، فخرج عليه وبيده طبرزين فقال له: ما تصنع في داري؟ فقال سيما: إن جعفرا زعم أن أباك مضى ولا ولد له، فإن كانت دارك فقد انصرفت عنك، فخرج عن الدار. قال: علي بن قيس: فخرج علينا خادم من خدم الدار فسألته عن هذا الخبر، فقال لي: من حدثك بهذا؟ فقلت له: حدثني بعض جلاوزة السواد، فقال لي: لا يكاد يخفى على الناس

ص:234

شيء.

* الشرح:

قوله (عن بعض جلاوزة السواد) السواد بالفتح قرى المدينة وعامة الناس و أوباشهم وكل عدد كثير، والجلاوزة جمع الجلواز بالكسر وهو الشرطي والارذل والمتابع للشرطي والعون للسلطان يكون معه بلا رزق.

قوله (شاهدت سيما) هو واحد من عبيد جعفر الكذاب.

قوله (فخرج عليه) فاعل خرج صاحب الدار وهو الصاحب (عليه السلام).

* الأصل:

12 - علي بن محمد، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن جعفر بن محمد المكفوف عن عمرو الأهوازي قال: أراني أبو محمد (عليه السلام) وقال: هذا صاحبكم.

13 - محمد بن يحيى، عن الحسن بن علي النيسابوري، عن إبراهيم بن محمد ابن عبد الله بن موسى بن جعفر، عن أبي نصر ظريف الخادم أنه رآه.

14 - علي بن محمد، عن محمد والحسن [الحسين]؟ ابني علي بن إبراهيم أنهما حدثاه في سنة تسع وسبعين ومائتين، عن محمد بن عبد الرحمن العبدي، عن ضوء بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس سماه، أن أبا محمد أراه إياه.

* الشرح:

قوله (عن رجل من أهل فارس) لعل هذا الحديث وهذا الرجل مر ذكرهما في الباب السابق تفصيلا.

* الأصل:

15 - علي بن محمد، عن أبي أحمد بن راشد، عن بعض أهل المدائن قال: كنت حاجا مع رفيق لي، فوافينا إلى الموقف فإذا شاب قاعد عليه إزار ورداء وفي رجليه نعل صفراء، قومت الإزار والرداء بمائة وخمسين دينارا وليس عليه أثر السفر، فدنا منا سائل فرددناه، فدنا من الشاب فسأله، فحمل شيئا من الأرض وناوله، فدعا له السائل واجتهد في الدعاء وأطال، فقام الشاب وغاب عنا، فدنونا من السائل فقلنا له: ويحك ما أعطاك؟ فأرانا حصاة ذهب مضرسة، قدرناها عشرين مثقالا، فقلت لصاحبي: مولانا عندنا ونحن لا ندري ثم ذهبنا في طلبه فدرنا الموقف كله فلم نقدر عليه، فسألنا كل من كان حوله من أهل مكة والمدينة فقالوا: شاب علوي، يحج في كل سنة ماشيا.

ص:235

باب في النهى عن الاسم

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عمن ذكره، عن محمد بن أحمد العلوي، عن داود بن القاسم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن العسكري (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ قال: إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد صلوات الله عليه وسلامه.

* الشرح:

قوله (علي بن محمد عمن ذكره عن محمد بن أحمد العلوي) هذا الحديث قد مر سندا ومتنا في آخر باب الإشارة والنص على أبي محمد (عليه السلام).

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن أبي عبد الله الصالحي، قال: سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) أن أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: إن دللتهم على الاسم أذاعوه، وإن عرفوا المكان دلوا عليه.

* الشرح:

قوله (عن أبي عبد الله الصالحي) كان وكيلا للناحية المقدسة، يعني الصاحب (عليه السلام).

قوله (إن دللتهم على الاسم أذاعوه) أي أفشوه ولم يكتموه وصار ذلك سببا لتسلط الأعداء عليهم وايذائهم، وفيه دلالة على أن حرمة التصريح بالاسم في زمان التقية والخوف.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن جعفر بن محمد، عن ابن فضال، عن الريان بن الصلت قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول. وسئل عن القائم، فقال: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه.

* الشرح:

قوله (لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه) الأول إخبار عن غيبته والثاني نهي في المعنى عن 236

التصريح باسمه، ولعله في بعض الأزمنة لأجل الخوف.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا كافر.

* الشرح:

قوله (لا يسميه باسمه إلا كافر) لعل المراد بالكافر ههنا تارك الأوامر وفاعل النواهي دون منكر الرب والمشرك به، وفيه مبالغة في تحريم التصريح باسمه، ولعله مختص بزمان التقية بدليل ما ذكرناه في مواضع متفرقة ودلالة بعض الأخبار عليه ظاهرة ويؤيده عدم بقاء التحريم فيه في جميع الأوقات والأزمان فإذا تطرق إليه التخصيص جاز حمله على ما ذكرناه فلا يكون دليلا على شمول التحريم لزمان الغيبة، وبالجملة المانع مستظهر.

ص:237

باب نادر في حال الغيبة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن خالد، عمن حدثه، عن المفضل بن عمر ومحمد ابن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أقرب ما يكون العباد من الله جل ذكره وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله جل وعز ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجة الله جل ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقعوا الفرج صباحا ومساء فإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته ولم يظهر لهم وقد علم أن أولياءه لا يرتابون ولو علم أنهم يرتابون ما غيب حجته عنهم طرفة عين ولا يكون ذلك إلا على رأس شرار الناس.

* الشرح:

قوله (أقرب ما يكون العباد) دل على أن أقرب العباد منه تعالى في زمان غيبة الإمام إذا كانوا عارفين بحقه أزيد وأكمل، ورضاه تعالى عنهم وإضافة الرحمة عليهم إذا كانوا تابعين له أعظم وأشمل وذلك ليتمهم وانتظارهم وتحسرهم وأسرهم وخوفهم على الأنفس والأموال من تغلب الكفار وتسلط الأشرار عليهم، ولأن الإيمان بالغيب دل على ضياء عقولهم ولطف قرائحهم ولينة طبائعهم وصفاء عقيدتهم وكمال هدايتهم وكل ذلك موجب لزيادة القرب من الحق وكمال رضاه.

وفي طرق العامة عن ابن مسعود قال: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ثم تلا قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) قال الطيبي: معنى هذا الحديث مخرج في سنن الدارمي عن أبي عبيدة بن الجراح قال: «يا رسول الله أحد خير منا، أسلمنا وجاهدنا معك! قال: نعم هم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولا يروني» وأنت خبير بأن هذا الحكم غير مختص بالنبي بل يجري في إمام بعده.

قوله (يعلمون أنه لم تبطل حجة الله) أي يعلمون بالبراهين العقلية والأحاديث النبوية أنه لم تبطل حجة الله عز ذكره في الأرض ولا ميثاقه وعهده في الحجة، بل هما باقيان في الخلق ودائمان فيهم ما دامت الدنيا، فلذلك يؤمنون بالإمام وإن لم يروه، ويعتقدون بوجوده وإن لم يشاهدوه.

ص:238

قوله (فتوقعوا الفرج صباحا ومساء) لوجوب ظهوره في وقت ما لدفع الظلم والجور ونصرة دين الحق وأهله، ولكن لما لم نعلم ذلك الوقت بخصوصه واحتمل كل جزء من أجزاء الزمان أن يكون ذلك الوقت لابد لنا من توقع الفرج في جميع الأوقات وإنما ذكر الصباح والمساء لشيوعهما في التعارف واحاطتهما بسائر الأوقات.

قوله (فإن أشد ما يكون) دليل لتوقع الفرج ولعل وجه ذلك مع أن الظاهر أن يكون الغضب عليهم عند ظهور الحجة وعدم ايمانهم به أشد وأجدر ولحقوق النكال بهم أحرى وأظهر لكون الحجة عليهم حينئذ أقوى وأكمل من عدم ظهوره بسبب سوء صنيعهم واعوجاج طبيعتهم حتى حرم المستعدون للهداية والقابلون للفهم والدراية عن مشاهدة جماله وملاحظة كماله، فلذلك كان الغضب عليهم حال الغيبة أشد.

قوله (وقد علم أن أولياءه) أي أولياء الحجة وهذا دفع لما عسى أن يقال من أن إخفاء الحجة موجب لإضلال الخلق ورفع اللطف عنهم ولا يجوز شيء من ذلك، ووجه الدفع ظاهر وحاصله أن ذلك إنما يلزم لو كان أحد من أوليائه يرتاب فيه بعد الغيبة وليس كذلك، فلا مفسدة في الغيبة وإنما هي محض المصلحة وهي حفظ النفس المعصومة أو غيرها.

قوله (ولا يكون ذلك إلا على رأس شرار الناس) دل على أن ظهوره لا يكون إلا عند فشو الشر في الناس وبعد الخير عنهم وقد دل على ذلك أيضا بل على تعيين الشرور والمفاسد بعض الروايات كما يأتي ذكره في كتاب الروضة.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن علي بن مرداس، عن صفوان بن يحيى والحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

أيما أفضل: العبادة في السر مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منكم الظاهر؟ فقال: يا عمار: الصدقة في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية وكذلك والله عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوفكم من عدوكم في دولة الباطل وحال الهدنة أفضل ممن يعبد الله عز وجل ذكره في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق، واعلموا أن من صلى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة مستتر بها من عدوه في وقتها فأتمها، كتب الله له خمسين صلاة فريضة في جماعة، ومن صلى منكم صلاة فريضة وحده مستترا بها من عدوه في وقتها فأتمها، كتب الله عز وجل بها له خمسا وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمها، كتب الله له بها عشر صلوات نوافل، ومن

ص:239

عمل منكم حسنة كتب الله عز وجل له بها عشرين حسنة ويضاعف الله عز وجل حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ودان بالتقية على دينه وإمامه ونفسه وأمسك من لسانه أضعافا مضاعفة، إن الله عز وجل كريم.

قلت: جعلت فداك قد والله رغبتني في العمل وحثثتني عليه ولكن احب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق ونحن على دين واحد؟ فقال: إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل خير وفقه وإلى عبادة الله عز ذكره سرا من عدوكم مع إمامكم المستتر، مطيعين له صابرين معه، منتظرين لدولة الحق، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة تنظرون إلى حق إمامكم وحقوقكم في أيدي الظلمة، قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم، فبذلك ضاعف الله عز وجل لكم الأعمال، فهنيئا لكم، قلت: جعلت فداك فما ترى إذا أن نكون من أصحاب القائم ويظهر الحق ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالا من أصحاب دولة الحق والعدل؟ فقال:

سبحان الله أما تحبون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد ويجمع الله الكلمة ويؤلف الله بين قلوب مختلفة ولا يعصون الله عز وجل في أرضه وتقام حدوده في خلقه ويرد الله الحق إلى أهله فيظهر، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق، أما والله يا عمار! لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأحد فأبشروا.

* الشرح:

قوله (أيما أفضل العبادة في السر مع الإمام منكم المستتر) المراد بالامام - المستتر من لا يقدر على إظهار الدين كما ينبغي خوفا من الأعداء والظلمة سواء كان ظاهرا بين الخلق أو كان غائبا عنهم فكل إمام إلى زمان ظهور صاحب الزمان فهو مستتر بهذا المعنى والمراد بالإمام الظاهر من قدر على ذلك وكان حكمه جاريا على الخلق وهو صاحب الزمان بعد ظهوره.

قوله (الصدقة في السر) دل على أن الصدقة مطلقا في السر أفضل، وبه قال بعض الأصحاب، ووجه ذلك أنها أقرب إلى القربة وأبعد عن الرياء والسمعة واحتقار الفقير، وقيل: هذا لمن لم يتهم بترك الصدقات وإلا فالأفضل أن يعطيها جهرا لدفع التهمة عن نفسه وكذا إن علم أن للناس به اسوة في أداء الصدقات، وقيل: هذا في المندوبة وأما الفريضة فالجهر أفضل.

ص:240

قوله (وكذلك والله) وليس من قبيل إثبات الحكم بالقياس لأن القياس عند أهل البيت (عليهم السلام) باطل بل هي من قبيل ذكر الشيء مع نظيره للايضاح وكان حكم الكل ثابت بالنص.

قوله (وحال الهدنة) هادنه مهادنة صالحه وتهادنوا تصالحوا والهدنة بالضم فالسكون الاسم وأصلها من هدن إذا سكن والمراد بها الهدنة الحاصلة للإمام الحق مع أئمة الجور وعدم منازعته إياهم لحكمة مقتضية لذلك.

قوله (أفضل ممن يعبد الله) أي من عبادة من يعبد الله وإنما حذف العبادة لدلالة المقام والكلام عليها فالمفضل والمفضل عليه من جنس واحد.

قوله (وليست العبادة مع الخوف) أي ليست العبادة مع خوف النفس والمال والعرض في دولة الباطل مثل العبادة والأمن من تلف النفس والمال والعرض في دولة الحق، بل الأولى أجزل ثوابا وأكمل رتبة من الثانية ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت درجات الخوف والأمن، وإنما لم يقل مثل العبادة مع الأمن كما قال مثل العبادة مع الخوف للإشعار بأن الفضل باعتبار العبادة في نفسها والخوف في نفسه على أن يكون كل واحد منهما مستقلا في الاتصاف به لا باعتبار المجموع من حيث المجموع فليتأمل.

قوله (من صلى منكم اليوم) أراد باليوم زمانه (عليه السلام) الذي كان دولة الحق فيه مخفوضة ودولة الباطل فيه مرفوعة.

قوله (في وقتها فأتمها) الجار متعلق بصلى، وأتمها عطف عليه، والمراد بإتمامها الإتيان بأركانها وأفعالها وكيفياتها وآدابها وشرائطها، وبالجملة جميع الأمور المعتبرة في تحققها وصحتها كما هي قوله (كتب الله) اسناد كتب إلى الله مجاز باعتبار أنه آمر له.

قوله (ومن صلى منكم صلاة فريضة وحده) إلى قوله «خمسا وعشرين» كون صلاة المنفرد خمسا وعشرين وصلاة الجماعة خمسين. يحتمل أن يكون باعتبار أقل الأفراد في الجماعة وهو الاثنان ويحتمل أن لا يكون بهذا الاعتبار بل بأعم منه ومن الأكثر، والله أعلم.

قوله (وحدانية) الوحدانية بالفتح والسكون: المفردة بنفسها، المفارقة عن الجماعة منسوبة إلى الوحدة بمعنى الانفراد بزيادة الألف والنون للمبالغة.

قوله (لوقتها) الإتيان باللام لمجرد التفنن فيكون اللام بمعنى في، أو الإتيان بها للإشعار بأن ظرفية الوقت للصلاة لأجل تعلق خاص لها به باعتبار الشارع، فكما يصح استعمال في للإشعار بالظرفية يصح أيضا استعمال اللام للإشعار بالاختصاص وإن كان استعمال في أكثر.

قوله (ومن عمل منكم حسنة) أراد بالحسنة ما عدا الصلاة بقرينة المقابلة.

قوله (ويضاعف الله عز وجل) أشار به إلى أن المراتب المذكورة من التضاعف ليست بمتعينة بل قد يزيد الله تعالى لمن يشاء وهو عزيز كريم.

ص:241

قوله (إذا أحسن أعماله) المراد بإحسانها الإتيان بها على الوجه المطلوب تقربا إلى الله تعالى خالصا لوجهه فلو ترك شيئا من الوجوه المطلوبة أو قصد بها الرياء والسمعة فقد أبطل عمله فلا يكون له قدر فضلا أن يترتب عليه الزيادة.

قوله (وأمسك من لسانه) بأن لا يقول شيئا يوجب وثوب الأعداء على الأولياء وزيادة «من» لبيان أن المطلوب حينئذ هو الإمساك عن بعض الكلام دون الجميع وهو الكلام الموجب للضرر في الدين والدنيا.

قوله (أضعافا مضاعفة) في المغرب: إذا قال لفلان علي دراهم مضاعفة فعليه ستة دراهم فإن قال أضعافا مضاعفة فله عليه ثمانية عشر لأن أضعاف الثلاثة ثلاثة ثلاث مرات ثم أضعفناها مرة أخرى لقوله مضاعفة: أقول: ثم اتسع لزيادة غير محصورة في عدد.

قوله (ان الله عز وجل كريم) أشار بذلك إلى سبب تلك الزيادة وهو الكرم لأن الكريم هو الذي يعطي المستحق من غير نظر إلى قدر ما يستحقه.

قوله (قد والله رغبتني) أي قد أقسم والله رغبتني، أوقد رغبتني والله رغبتني فحذف لوجود المفسر، أو في الكلام تقديم وتأخير أي قد رغبتني والله في العمل.

قوله (ولكن أحب أن أعلم) يريد إني علمت مما ذكرت أن أعمالنا أفضل من أعمال أصحاب المهدي صلوات الله عليه بعد ظهوره وظهور دولة الحق ولكن أحب أن أعلم سبب تلك الأفضلية والحال إنا وإياهم على دين واحد، وهذا يقتضي التساوي بيننا وبينهم؟ فذكر (عليه السلام) من أسباب الأفضلية. ثمانية أمور: الأول: سبقكم إلى الإيمان بالله وبرسوله والدخول في دين الله تعالى والإقرار به، الثاني: سبقكم إلى العمل بالأحكام مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها من الخيرات، الثالث:

عبادتكم سرا مع الإمام المستتر وطاعته كذلك خوفا من الأعداء، الرابع: صبركم مع الإمام المستتر في الشدائد. الخامس: انتظاركم لظهور دولة الحق وهو عبادة، السادس: خوفكم على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة وتغلبهم، السابع: نظركم نظر تأسف وتحسر إلى حق إمامكم وهو الإمامة والفيء وحقوقكم التي هي الأموال في أيدي الظلمة الغاصبين الذين منعوكم عن التصرف فيها واضطروكم إلى حرث الدنيا وكسبها وطلب المعاش من وجوه شاقة، الثامن: صبركم مع تلك البلايا والمصائب على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم قتلا وأسرا ونهبا وعرضا وليس لأصحاب المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره شيء من هذه الأمور فلذلك ضاعف الله تعالى لكم الأعمال.

قوله (فهنيئا لكم) أي فيكون ما أعطاكم الرب من مضاعفة الأعمال هنيئا لكم، وكل أمر يأتيك

ص:242

من غير تعب فهو هنيء والهنيء من الطعام مالا يعقبه الضرر والفساد.

قوله (فما ترى إذا أن نكون من أصحاب القائم ويظهر الحق ونحن اليوم) «ما» نافية وأن نكون مفعول ترى ويظهر الحق عطف على «نكون» ونحن اليوم إلى آخره جملة حالية وهي في الحقيقة تعليل للنفي المتقدم يعني نمى بينيم ما در خود درين هنگام كه اعمال ما مضاعف باشد اينكه بوده باشيم ما از أصحاب قائم (عليه السلام) وآنكه ظاهر شود در دست أو چرا كه اعمال ما أفضل از اعمال أصحاب اوست، والحاصل أنا لا نتمنى أن نكون من أصحابه وأن يظهر الحق، وهذا القول ليس من باب الاستخفاف وإنكار ظهور الحق بل لأجل طلب الفضل والزيادة وهو مع ذلك لا يخلو من سوء أدب.

قوله (فقال سبحان الله) يحتمل التعجب والتنزيه وهو مصدر منصوب بفعل مضمر ومضاف إلى المفعول أي أسبحه سبحانا يعني أنزهه تنزيها عما لا يليق بجناب قدسه، وربما جوز كونه مضافا إلى الفاعل بمعنى التنزه.

قوله (اما تحبون) «ما» نافية والهمزة لإنكار النفي أو للتوبيخ على عدم المحبة، والحق خلاف الباطل وهو القوانين النبوية والنواميس الإلهية، والعدل خلاف الظلم والجور والله سبحانه يظهرهما في البلاد بظهور صاحب الأمر (عليه السلام) بالسيف بعدما كانت البلاد مملوة بالباطل والجور.

قوله (ويجمع الله الكلمة) أي يجمع الله كلمة الخلق حتى لا يكون بينهم اختلاف في الأقوال، أو يجمع الله كلمة الحق بعد تفرقها وتكسرها بصدمات الباطل.

قوله (ويؤلف الله بين قلوب مختلفة) في الأديان والعقائد والأغراض فيرفع المذاهب عن وجه الأرض ويظهر الدين الخالص في الخلق فيرجعون إلى أمر واحد بلا اختلاف ولا تباغض ولا تحاسد ولا حمية، فيقع التآلف والتوافق بينهم.

قوله (ولا يعصون الله عز وجل في أرضه) باعتبار المذاهب والعقائد وإلا فقد يقع المعصية عنهم ويعامل بهم ما يقتضيه الشرع بدليل قوله «وتقام حدوده في خلقه».

قوله (ويرد الله الحق إلى أهله) بعدما غصبوه منه والمراد بالحق هنا الرئاسة والخلافة أو أعم منها وفاعل يظهر راجع إلى الحق من الظهور، أو إلى أهله منه أو من الإظهار ومفعوله على الأخير محذوف.

قوله (فأبشروا) الإبشار الفرح والسرور يقال أبشر أي فرح ومنه أبشر بخير.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن أبي أسامة، عن هشام، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن أبي

ص:243

إسحاق قال: حدثني الثقة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنهم سمعوا أمير المؤمنين يقول في خطبة له: اللهم وإني لأعلم أن العلم لا يأرز كله ولا ينقطع مواده وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمطاع أو خائف مغمور، كيلا تبطل حجتك، ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم، بل أين هم وكم؟ أولئك الأقلون عددا والأعظمون عند الله جل ذكره قدرا، المتبعون لقادة الدين، الأئمة الهادين، الذين يتأدبون بآدابهم وينهجون نهجهم، فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان، فتستجيب أرواحهم لقادة العلم ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم ويأنسون بما استوحش منه المكذبون، وأباه المسرفون، اولئك أتباع العلماء صحبوا أهل الدنيا بطاعة الله تبارك وتعالى وأوليائه ودانوا بالتقية عن دينهم والخوف من عدوهم، فأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى، فعلماؤهم وأتباعهم خرس صمت في دولة الباطل، منتظرون لدولة الحق، وسيحق الله الحق بكلماته ويمحق الباطل، ها، ها، طوبى لهم على صبرهم على دينهم في حال هدنتهم وياشوقاه إلى رؤيتهم في حال ظهور دولتهم وسيجمعنا الله وإياهم في جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.

* الشرح:

قوله (اللهم واني لأعلم) قال الفراء: أصل اللهم يا الله أمنا بالخير فخفف بالحذف لكثرة الاستعمال فالواو حينئذ للعطف على المفهوم ضمنا وهو امنا بالخير وقيل: أصله يا الله فحذف حرف النداء وعوض عنها الميم المشددة فالواو حينئذ للعطف على جملة اللهم.

قوله (أن العلم لا يأرز كله ولا ينقطع مواده) أرز فلان يأرز بالراء ثم الزاي المعجمة إذا تضأم وتقبض، يعني أن العلوم الدينية والمعارف الإلهية والاسرار الربانية لا تذهب كله عن الخلق وإلا لارتفع التكليف عنهم. ولا تنقطع مواد العلم عنهم بالكلية وهم العلماء الراسخون والحكماء الإلهيون الذين يظهرون تلك العلوم على المستعدين للقبول والقائلين لفيضانها وهم علماء الفرقة الناجية رضوان الله عليهم فيبقى فيهم قدرا منها.

قوله (وانك لا تخلى أرضك من حجة لك على خلقك) لا تخلي إما من التخلية أو من الإخلاء والحجة هو الإمام و «ظاهر» صفة له والمغمور المستور من خوف يعلوه من غمره الماء أي علاه.

قوله (كيلا تبطل حجتك) إشارة - إلى قوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة) وإلى سبب عدم تخلية الأرض منه، قال بعض المحققين: ان الإمامية رحمهم الله آووا إلى هذا الكلام ليدفعوا ما أورد مخالفوهم عليهم حيث قالوا: يجب نصب الإمام على الله تعالى لأنه إذا كان لهم رئيس قاهر

ص:244

يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعاصي منهم بدونه، واللطف واجب على الله، فاعترض عليهم مخالفوهم وقالوا: إنما يكون منفعة ولطفا واجبا إذا كان ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء كلمة الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب، فأجابوا بأن وجود الإمام لطف سواء تصرف أو لم يتصرف على ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الكلام المذكور وتصرفه الظاهر لطف آخر، وتوضيحه على ما ذكره الشيخ بهاء الملة والدين نقلا عن القوم: أن الثمرة ليست منحصرة في مشاهدته وأخذ المسائل عنه بل نفس التصديق بوجوده (عليه السلام) وأنه خليفة الله في الأرض أمر مطلوب لذاته وركن من أركان الإيمان كتصديق من كان في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) بوجوده (عليه السلام) ونبوته.

وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر المهدي فقال «ذلك الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلا من امتحن الله قلبه للايمان، قال جابر: فقلت: يا رسول الله هل لشيعته انتفاع به في غيبته؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «إي والذي بعثني بالحق إنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب» ثم قال الإمامية: إن تشنيعكم علينا مقلوب عليكم لأنكم تذهبون أن المراد بإمام الزمان في الحديث الذي رويتموه من قوله (صلى الله عليه وآله) «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية» - وهو منقول من طرق الخاصة أيضا - صاحب الشوكة من ملوك الدنيا كائنا من كان عالما أو جاهلا عادلا أو فاسقا، فأي ثمرة تترتب على معرفة الجاهل الفاسق ليكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، ولما استثمر هذا بعض المخالفين ذهب إلى أن المراد بالإمام في الحديث، الكتاب، وقال الإمامية: إن إضافة الإمام إلى زمان ذلك الشخص يشعر بتبدل الأئمة في الأزمنة، والقرآن العزيز لا تبدل له بحمد الله على مر الأزمان. وأيضا فالمراد بمعرفة الكتاب التي إذا لم تكن حاصلة للانسان مات ميتة جاهلية إن اريد بها معرفة ألفاظه والإطلاع على معانيه أشكل الأمر على كثير من الناس، وإن اريد مجرد التصديق بوجوده فلا وجه للتشنيع علينا إذا قلنا بمثله.

قوله (بل أين هم وكم) أي كم هم أين هم إشارة إلى أنهم مظلومون مستورون مشردون حتى لا يعلم لغاية طردهم مكانهم كما هو المعلوم من مشاهدة أحوال المعصومين سيما في زمن الغيبة و «كم هم» إشارة إلى قلة عددهم مثل قوله تعالى (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) إشارة إلى أن في آخر الزمان يعني بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) لا يكون في كل وقت وزمان إلا واحد من الأوصياء بخلاف الزمان السابق فإنه كان في عهد واحد جماعة من الأنبياء والأوصياء هذا والظاهر أن الضمير راجع

ص:245

إلى الأولياء بدليل ما بعده، وفيه حينئذ شكاية من قلة أنصار الإمام حتى صار مقهورا للأعادي مستورا عن الخلق.

قوله (أولئك الأقلون عددا والأعظمون عند الله جل ذكره قدرا) أولئك إشارة إلى الأولياء وقلتهم ظاهرة فإنهم بمنزلة شعرة بيضاء في فرس أسود وكذا عظمة قدرهم ومنزلتهم إذ هم عباد الله جل ذكره ومنقادون له في الأوامر والنواهي وحافظون لدينه ولهم درجة الهداية والشفاعة وقد نقل عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا اجتمع الخلق على الصراط قيل للعالم: قم ههنا فاشفع لمن أحببت فإنك لا تشفع لأحد إلا شفعت مقام الأنبياء، والأخبار الواردة في رفعة شأنهم كثيرة.

قوله (المتبعون لقادة الدين الأئمة الهادين) الأئمة بدل أو بيان للقادة ولعل المراد بالمتابعة لهم المتابعة في معرفة أصل الدين وهو جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) إذ هم القادة والهداة إليه وبالمتأدب بآدابهم المتخلق بأخلاقهم الفاضلة حتى يحصل بذلك المناسبة الروحانية وبسلوك طريقهم العمل بكل ما عملوه وترك كل ما تركوه، ويحتمل أن يراد بالتأدب التخلق بمثل أخلاقهم والعمل بمثل أعمالهم وبنهج منهجهم إبانة طريقتهم وإيضاحها بالتعليم والإرشاد.

قوله (وينهجون نهجهم) النهج والمنهج الطريق الواضح، يقال: نهجت الطريق أي سلكته، ويقال أيضا: نهجت الطريق أي أبنته وأوضحته، ويجوز إرادة كلا المعنيين هنا كما أشرنا إليه.

قوله (فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان) وذلك إشارة إلى الاتباع لقادة الدين وما بعده، والهجوم على القوم الدخول عليهم بغتة، والباء في «بهم» للتعدية «والعلم» فاعل «يهجم» والمراد به العلم اللدني الفائض، وعلى متعلق بيهجم، والحقيقة الشيء الذي له ثبات ووجود في نفس الأمر كقوله (صلى الله عليه وآله): إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ أي ما الذي ينبئ عن كون ما تدعيه حقا؟ ولها معان اخر، وإضافتها إلى الإيمان لأدنى ملابسة باعتبار أن الإيمان الكامل مقتض لحصولها للمؤمن، والمعنى أن ذلك الاتباع إلى آخره يدخلهم العلم اللدني ويطلعهم على حقائق الإيمان الكامل الذي يقتضي حصولها وهي حقائق الأشياء ويكشف لهم حجبها حتى يعرفوها بعين اليقين على ما هي عليه في نفس الأمر، وهذه هي الحكمة التي أشار إليها جل شأنه بقوله (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) ويحتمل أن يجعل الباء بمعنى على، والجار بعد العلم متعلقا به، يعني يدخل عليهم العلم على حقائق الإيمان، ويحتمل أيضا أن يراد بحقيقة الإيمان أركانه وهي العقائد الصالحة والأعمال الفاضلة والله أعلم.

ص:246

قوله (فتستجيب أرواحهم لقادة العلم) واستجابتها لهم لأجل مناسبة وارتباط بينها وبين أرواحهم المقدسة في أصل الصفاء والنورية والبهاء والاتصاف بالعلوم إلا أنها لما رأت العلوم والصفاء في أرواحهم أشد وأقوى وشاهدت النورية والبهاء في ذواتهم أكمل وأبهى، أقبلت إليهم بالرضا والتسيلم واعترفت لهم بالفضل والتعليم.

قوله (ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم) استوعر بمعنى وعر كاستقر بمعنى قر، والوعر الصعب أي يستسهلون ويجدون سهلا لينا من حديثهم ما صعب على غيرهم من المخالفين والموافقين الذين لم تتنعم عقولهم بنعمة العلم والكمال وذلك لفقدهم المناسبة والارتباط المذكورين وما لم يتحقق المناسبة والارتباط بين المعلم والمتعلم امتنع التفهم والتفهيم وصعب التعلم والتعليم.

قوله (ويأنسون بما استوحش منه المكذبون وأباه المسرفون) الوحشة الهم والحزن والفرار ومنه الوحشي لفراره عن الناس، والمكذبون هم المخالفون الذين يكذبون إمام الحق وأهله والجاهلون مطلقا لأن شأنهم التكذيب، والمسرفون المترفون المتنعمون لأن شأنهم الإسراف غالبا أو دائما لأنهم يصرفون أعمارهم في طلب الدنيا وشهواتها دائما ولا إسراف أعظم من ذلك، والموصول عبارة عن أمور الدين وفضائل الإمام وملازمة الصمت والصبر على قيام الليل وصيام النهار ورياضة السهر والجوع ومراقبة أحوال النفس وأمور الآخرة، ورفض الشهوات النفسانية وقطع التعلقات الدنيوية ورفع المخاطرات الشيطانية، يعني أن الأولياء المذكورين الموصوفين بما مر يأنسون بهذه الأمور التي يحزن ويفر منها المكذبون ويأباها المسرفون لأنهم بأضدادها، وحبهم زهرات الدنيا وشهواتها، وكل من أحب شيئا أبغض ضده.

قوله (أولئك أتباع العلماء) أي أولئك الموصوفون بالصفات المذكورة هم أتباع العلماء الذين هم أئمة الدين وأولاد سيد المرسلين، وتعريف المسند إليه باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بالخير لأجل الصفات المذكورة كما قالوا مثل ذلك في قوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).

قوله (صحبوا أهل الدنيا بطاعة الله تعالى) صحبوا خبر بعد خبر دون العطف وقوله «بطاعة الله» حال عن فاعله والمراد بأهل الدنيا إما المخالفون أو أهلها جميعا يعني أولئك الموصوفون صحبوا أهل الدنيا ورفضوا آدابهم المبتدعة وأطوارهم الشنيعة متلبسين بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة أوليائه ولا ينقض ذلك شيئا من وظائف طاعاتهم لجلوسهم على بساط

ص:247

الانس في حضرة القدس فلا يرون إلا جلاله وكماله ولا يطلبون إلا قربه ووصاله.

قوله (ودانوا بالتقية عن دينهم والخوف من عدوهم) أي أطاعوا ربهم وإمامهم بالتقية عن دينهم وبالخوف من عدوهم أو اتبعوهما بالتقية والخوف أو اتخذوا التقية والخوف دينا لهم أو أذلوا أنفسهم بالتقية والخوف لأن دان يصلح لهذه المعاني كلها كما لا يخفى على المتصفح في اللغة.

قوله (فأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى) أي بالجنة العالية ودرجاتها والروضة الباقية ومقاماتها بل بمقعد صدق عند مليك مقتدر، وفي بعض النسخ: بالملأ الأعلى أي نفضوا عن نفوسهم التعلقات الحسية والوهمية ودفعوا عن قلوبهم حب زهرات الدنيا الدنية حتى توجهت أرواحهم إلى مشاهدة القدسيات الروحانية وملاحظة الفيوضات الربانية فهم بأجسادهم مصاحبون لأهل هذه الدار وبأرواحهم للملائكة المقربين الأبرار وحسن أولئك رفيقا.

قوله (فعلماؤهم وأتباعهم خرس وصمت) لا يقدرون على التكلم بالحق واعلاء كلمته لشدة التقية وكمال الخوف.

قوله (وسيحق الله الحق بكلماته) أي سيظهر الله تعالى دين الحق بالأئمة الطاهرين لأن واحد منهم كلمة الله كعيسى بن مريم (ع) وقد ثبت أنهم يرجعون في دولة المهدي (عليه السلام) وينصرونه، هذا وقال المفسرون في تفسير قوله تعالى: (ويحق الله الحق بكلماته) أن معناه يظهره ويبينه بأوامره وقضاياه. قوله (ها ها) «ها» بالقصر للتنبيه ينبه بها المخاطب على ما يساق إليه من الكلام وتكريرها للتأكيد والمبالغة فيه وإنما ينبه بها ويؤكد فيها إذا كان مضمون الكلام أمرا عظيما.

قوله (طوبى لهم) طوبى اسم الجنة، وقيل: اسم شجرة فيها وأصلها فعلى من الطيب فلما ضمت الطاء انقلبت الياء واوا وعلى التقديرين فهو مبتدأ.

قوله (ويا شوقاه) النداء للتعجب من كثرته أو لطلب حضوره والشوق والاشتياق نزاع النفس إلى الشيء وميلها إليه وهو إنما يحصل بعد تصوره وتصور نفعه ثم التصديق بترتبه عليه فإذا انتقشت في النفس هذه الأمور حصلت لها كيفية أخرى أي ميلها ورغبتها إلى ذلك المتصور وهي الشوق، وفي هذا الكلام دلالة بحسب الظاهر على ثبوت الرجعة.

قوله (في جنات عدن) العدن الإقامة، عدن بها أي أقام ومنه سميت الجنة جنة عدن أي جنة إقامة، يقال: عدن بالمكان يعدن عدنا إذا لزمه ولم يبرح منه.

قول (ومن صلح) عطف على آبائهم أو الواو بمعنى مع، ومتبوعية ما بعد الواو ليست أمرا كليا، قال القاضي وغيره: والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وفي التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا ينفع.

ص:248

باب في الغيبة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى والحسن بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد الكوفي، عن الحسن بن محمد الصيرفي، عن صالح بن خالد، عن يمان التمار قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جلوسا فقال لنا: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد - ثم قال هكذا بيده - فأيكم يمسك شوك القتاد بيده؟ ثم أطرق مليا، ثم قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسك بدينه.

* الشرح:

قوله (كالخارط للقتاد) القتاد شجر له شوك وهو القتاد الأعظم وأما القتاد الأصغر فهي التي ثمرتها نفاخة كنفاخة العشر (1) وخرطه أن يمسك أعلاه بيده ويمرها إلى أسفله وهذا مثل يضرب لكل أمر مشكل.

قوله (ثم قال هكذا بيده) أي ضرب بها على الخشب وأظهر صورة العمل ثم قال على سبيل الإنكار: فأيكم يمسك شوك القتاد بيده ويمرها إلى أسفله؟ وفيه مبالغة على انه لا يصبر على دينه حينئذ إلا الصابرون على جميع أنحاء المشاق.

قوله (ثم أطرق مليا) أي أرخى عينه ورأسه إلى الأرض زمانا طويلا كأنه متفكر في أمر.

قوله (فليتق الله) أمر أولا بإتقاء الله تعالى لأن التمسك بدين الحق حينئذ لا يمكن بدون التقوى الحاملة للنفس على الصبر وتحمل المشاق وتجرع المكاره.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن الحسن بن عيسى بن محمد بن علي بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن علي ابن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهم السلام) قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلكم عنها أحد، يا بني إنه لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصح من هذا لاتبعوه، قال: فقلت: يا سيدي من الخامس من ولد السابع؟ فقال: يا بني! عقولكم تصغر عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه.

ص:249


1- (1) كذا في لسان العرب وفي بعض النسخ لفاحة كرمانة.

* الشرح:

قوله (إذا فقد الخامس من ولد السابع) السابع موسى بن جعفر (عليهما السلام) والخامس هو الصاحب المنتظر.

قوله (فالله الله في أديانكم) الله منصوب بفعل مضمر والتكرير للتأكيد أي أحفظوا الله أو أطيعوا في طاعتكم أو في أموركم أو في سبلكم وطرائقكم لأن كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) فهو سبيل وطريق إلى الله تعالى، والدين يطلق على كل واحد كما يطلق على المجموع، والمقصود هو الأمر برعاية جانب الله عز شأنه فيها وطلب رضاه، ثم أكده بقوله: لا يزيلكم عنها أحد من شياطين الجن والإنس بالخدعة والمكر والوعيد وإلقاء الشبهات وأنواع التدليسات والتلبيسات.

قوله (يا بني) بفتح الباء وكسر النون على صيغة الجمع بقرينة قوله: ولو علم آباؤكم وهو خطاب مع أولاده وليس على صيغة الافراد خطابا مع أخيه علي بن جعفر لإباء السياق وعدم صحته بدون التجوز.

قوله (إنما هي محنة) المحنة بكسر الميم واحدة المحن التي يمتحن بها الإنسان من بلية وشدة محنة وامتحنته أي اختبرته والاسم المحنة، وقد جرت كلمة الله تعالى على اختبار الناس بأنواع المحن والبلايا ليميز الجيد من الردي ويظهر الصابر وغيره كما قال جل شأنه (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) وقال (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فإن قلت: حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفا به والله سبحانه عالم بمضمرات القلوب وخفيات الغيوب فالمطيع في علمه متميز من العاصي، فما معنى الاختبار في حقه؟ قلنا: اختباره تعالى ليس إلا ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي ويتميز ذلك عنده فهو من باب الكناية لأن التميز من لوازم الاختبار وعوارضه فأطلق الملزوم واريد به اللازم كما هو شأن الكناية، أو قلنا: اختباره تعالى استعارة بتشبيه فعله هذا ليثيب المطيع ثوابا جزيلا ويعذب العاصي عذابا وبيلا باختبار الإنسان لعبيده ليتميز عنده المطيع والعاصي ليثيب المطيع ويكرمه ويعذب العاصي ويهينه فأطلق على فعله تعالى الاختبار مجازا.

قوله (ولو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصح من هذا لاتبعوه) دل على أن هذا الدين أصح الأديان وليس دين أصح منه وإلا لاتبعه الصالحون المطهرون الذين شأنهم طلب الأصح والأفضل واتباع الأشرف والأكمل، ولعل التفضل هنا مجرد عن معناه فلا يلزم ثبوت الصحة لغير هذا الدين

ص:250

وفيه حث على التمسك به وعدم مفارقته وتأكيد لما مر من قوله: لا يزيلكم عنها أحد.

قوله (قال فقلت) فاعل الفعلين علي بن جعفر.

قوله (من ولد السابع) كأنه سأل عن حقيقته وحقيقة صفاته المختصة به لا عن اسمه واسم أبيه ولذلك أجاب (عليه السلام) بأن عقولكم قاصرة عن إدراكه على هذا الوجه لأن حقيقة الإمام وصفاته لا يعلمها إلا الله سبحانه كما مر سابقا.

قوله (يا بني) الظاهر أنه على صيغة الجمع وأن علي بن جعفر يدخل في الخطاب على سبيل التغليب.

قوله (ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه) لا يقال: كيف يدركونه مع فقده; لأنا نقول: معناه:

فسوف تدركون زمانه أو فسوف تدركونه قبل فقده وغيبته، أو نقول: معناه أن تعيشوا وتبقوا على هذا الدين فسوف تدركونه بعد الظهور بالرجعة وفيه بعد والله أعلم.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن محمد بن المساور، عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إياكم والتنويه، أما والله ليغيبن إمامكم سنين من دهركم ولتمحصن حتى يقال: مات، قتل، هلك، بأي واد سلك؟ ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر، فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة، لا يدرى أي من أي، قال: فبكيت ثم قلت: فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة، فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟ قلت: نعم، فقال:

والله لأمرنا أبين من هذه الشمس.

* الشرح:

قوله (إياكم والتنويه) لعل المراد تنويه أمره وغيبته وتشهيرها عند المخالفين.

قوله (ولتمحصن) محصت الذهب بالنار إذا أخلصته مما يشوبه من الغش، والتمحيص بالصاد المهملة الابتلاء والاختبار، والمقصود أنكم تختبرون بغيبته ليتميز الخبيث من الطيب.

قوله (حتى يقال مات) الظاهر أن هذا قول الشيعة المفتونين بطول الغيبة أو أن ما نزل عليهم من البؤس والقنوط ومشقة انتظار الفرج وإصابة البلاء والشدة وبعد رجاء الخلاص منه بظهور المنتظر وفيه إشارة إلى ما يقع في آخر الزمان عند قرب ظهور الحجة من الهرج والمرج وانتشار الظلم والجور والسبي والنهب والقتل والغارة وارتفاع الشبهة عن الخلق.

قوله (ولتكفأن) يقال: كفأت الإناء أي كببته وقلبته فهو مكفوء، وقيل: جاء اكفأت والتشبيه من

ص:251

قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح.

قوله (فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه) فإن من قبل ولايته وإمامته عند أخذ العهد والميثاق ينجو من أمواج بحار الفتن ويبقى على دينه ويصبر على الشدائد بعون الله.

قوله (وكتب في قلبه الإيمان) أي أثبته فيه حتى صار مستقرا لا يزول بالشبهات ونزول النوائب والبليات بخلاف الإيمان المستودع فإنه كثيرا ما يزول بتوارد الشكوك والتدليسات.

قوله (وأيده بروح منه) الضمير راجع إلى الله تعالى والمراد بالروح الملك الموكل بالقلب أو نوره وهو نور الهي يرى به صور المعقولات الحسنة والقبيحة فيتبع الأولى ويجتنب عن الثانية، فلا تزل قدمه بعد ثبوتها، أو القرآن فإنه روح القلب وحياته، يتميز به بين الحق والباطل، أو البصيرة على ما ينفع وما يضر، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الإيمان فإنه سبب لحياة القلب ولذلك سماه روحه.

قوله (ولترفعن اثنتا عشرة راية) هذا من علامات ظهور القائم (عليه السلام) وعند هذه يقع الفساد في الخلق وانقطاع نظامهم بالكلية وتضيق الأمور عليهم ولعل المراد باشتباه تلك الرايات ادعاء صاحب كل واحد أنه حق وغيره باطل فيقع الاشتباه فيها ويتحير الخلائق في أمر دينهم ودنياهم حتى لا يدرى أي رجل من أي راية لتبدد النظام فيهم وانقطاع عنان الاجتماع وسلسلة الانضمام عنهم، ويحتمل أن يراد باشتباهها تداخل بعضها على بعض حتى لا يدرى أي راية من أي رجل والله أعلم.

قوله (فكيف نصنع) عند ارتفاع تلك الرايات؟ وبم نميز بين المحق والمبطل؟ فأجاب (عليه السلام) بأن أمرنا عند ظهور الدولة القاهرة أظهر من الشمس أو في قلوب المؤمنين فلا يقع الالتباس بين الحق والباطل كما لا يقع الالتباس بين النور والظلمة، فالعارفون عارفون بحقنا إيمانا وتصديقا والمنكرون منكرون لحقنا حسدا وعنادا.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي نجران، عن فضالة بن أيوب، عن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن في صاحب هذا الأمر شبها من يوسف (عليه السلام)، قال: قلت له: كأنك تذكر حياته أو غيبته؟ قال: فقال لي: وما ينكر من ذلك، هذه الامة أشباه الخنازير، إن إخوة يوسف (عليه السلام) كانوا أسباطا أولاد الأنبياء تاجروا يوسف وبايعوه وخاطبوه وهم إخوته وهو أخوهم، فلم يعرفوه حتى قال: أنا يوسف وهذا أخي، فما تنكر هذه الامة الملعونة أن يفعل الله عز وجل بحجته في وقت من الأوقات، كما فعل بيوسف، إن يوسف (عليه السلام) كان إليه ملك مصر وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوما، فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك، لقد سار

ص:252

يعقوب (عليه السلام) وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الامة أن يفعل الله جل وعز بحجته كما فعل بيوسف، أن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتى يأذن الله في ذلك له، كما أذن ليوسف، (قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف).

* الشرح:

قوله (شبها من يوسف (عليه السلام)) الشبه بالتحريك التماثل والتشابه وكذا الشبه بالكسر والسكون.

قوله (وما ينكر من ذلك) أي ما ينبغي إنكار شيء من ذلك المذكور أو إنكار بعض ذلك إذ لا استبعاد فيه، ثم بين عدم الاستبعاد بقوله «هذه الأمة أشباه الخنازير» باطنا وإن كانوا في صورة الإنسان ظاهرا، وإخوة يوسف (عليه السلام) مع كونهم أسباط الأنبياء وأولادهم وأقرب إلى الحقيقة الانسانية منهم ظاهرا وباطنا إذا فعلوا بأخيهم يوسف من صلب أبيهم ما فعلوا حتى غاب عن أبيه وسائر عشيرته سنين كثيرة مع تمكنه من إظهار وجوده ومكانه ولم يفعله لمصلحة جاز أن يفعل هذه الأمة مع واحد من الأئمة مثل فعلهم، بل تحقق مثل ذلك الفعل من هذه الأمة أقرب وصدوره منهم أظهر وأنسب لعدم الروابط المسفورة والقرابة المذكورة والزواجر المسطورة بينه وبينهم حتى يغيب هو عن أقربائه وعشيرته ويعتزل عن أوليائه وشيعته ظاهرا وهو معهم باطنا حتى أنه يصاحبهم ويصاحبونه ويراهم ويرونه ولكن لا يعرفونه بشخصه ونسبه وهو يعرفهم، وقد روى أنه بعد ظهوره يقول كثير من الناس: رأيناه كثيرا.

قوله (إن يوسف كان إليه ملك مصر) أي كان مصر مفوضا إليه وكان حكمه جاريا وأمره ماضيا مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وعشيرته ولم يخبرهم بوجوده ومكانه مع ما عليهم من الشدائد والمصائب كما حكى عنه جل شأنه في القرآن العزيز وما كان ذلك إلا لمصلحة الهية وحكمة ربانية تعلقت بعدم علمهم بحاله فإذا كان هذا غير منكر في حقه فغيبة المنتظر أولى بعدم الإنكار.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن عبد الله بن موسى، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن للغلام غيبة قبل أن يقوم، قال: قلت: ولم؟ قال: يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - ثم قال: يا زرارة وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر، غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة [قال: قلت: جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل؟ قال: يا زرارة] إذا

ص:253

أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: «اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني»، ثم قال: يا زرارة لابد من قتل غلام بالمدينة، قلت:

جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني؟ قال: لا ولكن يقتله جيش آل بني فلان يجيء حتى يدخل المدينة، فيأخذ الغلام فيقتله، فإذا قتله بغيا وعدوانا وظلما لا يمهلون، فعند ذلك توقع الفرج إن شاء الله.

* الشرح:

قوله (حمل) أي هو حمل عند موت أبيه كما روى أن السلطان وكل القوابل على نساء الحسن العسكري (عليه السلام) وإمائه بعد موته ليعرفن الحوامل.

قوله (ومنهم من يقول أنه ولد قبل موت أبيه بسنتين) الذي يظهر من تاريخ تولده وتاريخ موت أبيه (عليهما السلام) انه ولد قبل موت أبيه بثلاث سنين وسبعة أشهر إلا ثمانية أيام.

قوله (فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان) المراد بالمبطلين المائلون إلى البطلان والفساد وهم الذين قلوبهم مريضة وعقولهم عليلة وايمانهم مستودع وميثاقهم متزلزل وعقائدهم كبيت نسجته العنكبوت يخرقها ريح البليات ويطيرها صرصر الشبهات، وفي بعض النسخ المصححة «فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة، قال: قلت جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل قال: يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان - إلى آخره».

قوله (اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك) سيأتي الدعاء في حال الغيبة عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرفك، اللهم عرفني نبيك فإنك ان لم تعرفني نبيك لم أعرفه قط اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ظللت عن ديني» وهذا أظهر من المذكور ولابد في الجمع من القول باختلاف القضية بأن يكون أحدهما مرويا في وقت غير وقت الآخر أو القول بأن الاختلاف وقع من جهة الراوي، ولعل الوجه في الأول أن معرفة الرب إنما يتحقق بمعرفته على وجه يليق به وهي معرفته بصفات ذاته وأفعاله ومن جملتها ارسال النبي، فلو لم يعرف الرب نفسه للعبد لم يعرف العبد نبيه كما لم يعرف الله، وقس عليه ما يتلوه وفيه دلالة على أن المعرفة موهبية كما دل عليه أيضا صريح بعض الروايات وقد أوضحناه سابقا.

قوله (فعند ذلك توقع الفرج بخروج القائم (عليه السلام)) وقد قيل أن خروجه بعد قتل النفس الزكية ولا يكون إلا بعد عشرة ليال، وروى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: خمس علامات قبل قيام القائم (عليه السلام)

ص:254

الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني، وعنه (عليه السلام) قال اختلاف بني العباس من المحتوم والنداء من المحتوم وخروج القائم من المحتوم وقيل كيف النداء؟ قال ينادي مناد من السماء أول النهار «ألا أن عليا وشيعته هم الفائزون فينادى مناد آخر النهار ألا أن عثمان وشيعته هم الفائزون».

وروى يعقوب السراج قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) متى فرج شيعتكم؟ قال: فقال إذا اختلف ولد العباس ووهى سلطانهم وطمع فيهم من لم يكن يطمع فيهم وخلعت العرب أعنتها، ورفع كل ذي صيصية صيصيته، وظهر الشامي وأقبل اليماني، وتحرك الحسني خرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت ما تراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولامته وسرجه حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده ويستأذن الله في ظهوره فيطلع على ذلك بعض مواليه فيأتي الحسني فيخبره الخبر فيبتدر الحسني إلى الخروج فيثب عليه أهل مكة ويقتلونه ويبعثون برأسه إلى الشامي فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر فيبايعه الناس ويتبعونه ويبعث الشامي عند ذلك جيشا إلى المدينة فيهلكهم الله عز وجل دونها ويهرب يومئذ من كان بالمدينة من ولد علي (عليه السلام) إلى مكة فيلحقون بصاحب هذا الأمر ويقبل صاحب هذا الأمر نحو العراق ويبعث جيشا إلى المدينة فيأمن أهلها ويرجعون إليها.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن إسحاق بن محمد، عن يحيى بن المثنى، عن عبد الله بن بكير، عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه.

7 - علي بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن خالد قال: حدثني منذر بن محمد بن قابوس، عن منصور بن السندي، عن أبي داود المسترق، عن ثعلبة بن ميمون، عن مالك الجهني، عن الحارث بن المغيرة، عن الأصبغ بن نباتة قال: أتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فوجدته متفكرا ينكت في الأرض فقلت: يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ فقال: لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ولكني فكرت في مولود يكون من ظهر [ي] الحادي عشر من ولدي، هو المهدي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما تكون له غيبة وحيرة، يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون، فقلت: يا أمير المؤمنين وكم تكون الحيرة والغيبة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين، فقلت: وإن هذا لكائن؟ فقال: نعم كما أنه مخلوق، وأنى لك

ص:255

بهذا الأمر يا أصبغ! أولئك خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة، فقلت: ثم ما يكون بعد ذلك؟ فقال (عليه السلام) ثم يفعل الله ما يشاء فإن له بداءات وإرادات وغايات ونهايات.

* الشرح:

قوله (ينكت في الأرض) النكت الضرب والأثر اليسير وهو فعل المهموم المتفكر، يقال: نكت في الأرض بالقضيب من باب نصر إذا أثر فيها بطرفه كفعل المتفكر المهموم.

قوله (ارغبة منك فيها) كأنه توهم أن همه وتفكره للرغبة في الدنيا ويبعد حمله على المزاح.

قوله (هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) القسط والعدل متقاربان وكذا الجور والظلم فالعطف للتفسير، والأخبار الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان من نسل الحسين (عليه السلام) في طرق العامة والخاصة متواترة لا ينكره أحد من الامة إلا أن العامة يقولون انه سيولد ونحن نقول انه حي موجود وبوجوده قامت السماوات والأرضون.

ومن جملة روايات العامة ما رواه مسلم (1) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «يكون في آخر أمتي خليفة يحثى المال حثيا ولا يعده عددا» وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «من خلفائكم خليفة يحثى المال حثيا ولا يعده عددا» قال عياض: الحثى الحفن باليد يعطيه الناس كذلك لكثرته لديه كما يحثى التراب لاتساع المجبي والفتوحات.

وقال القرطبي: قيل: هذا الخليفة هو عمر بن عبد العزيز ولا يصح إذ ليست فيه تلك الصفات.

وذكر الترمذي وأبو داود هذا الخليفة وسمياه بالمهدي ومنها ما رواه الترمذي وأبو داود عنه (صلى الله عليه وآله) قالا «لا تقوم الساعة حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» وقالا: هذا حديث حسن صحيح، وزاد أبو داود «يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا» ومنها ما روياه من حديث أبي سعيد قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حدث فسألناه فقال: يخرج من أمتي المهدي يملك خمسا أو سبعا أو تسعا، قال: قلنا: ما ذاك يا رسول الله؟ «قال:

سنين قال: يجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» قال:

هذا حديث حسن، وفي أبي داود من أمتي اجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا يملك سبع سنين».

فهذه أخبار صحيحة مشهورة تدل على خروج هذا الخليفة الصالح في آخر الزمان وهو منتظر ولم يوجد من كملت فيه الصفات التي تضمنتها تلك الأحاديث، كذا نقل عنهم أبو عبد الله الآبي في كتاب إكمال الإكمال وهو من أعاظم علمائهم.

ومنها ما رواه في الجمع بين الصحاح الستة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

ص:256


1- (1) في صحيحه ج 8 ص 185 أبواب الفتن.

المهدي فتى أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما... الحديث ومنها ما رواه الفقيه الشافعي المغازلي في كتاب المناقب من عدة طرق بأسانيدها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يتضمن البشارة بالمهدي (عليه السلام) وذكر فضائله ودولته، ومنها ما ذكره أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء في كتاب المصابيح في حديث يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) «أنه يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث الله تعالى إليهم رجلا من عترتي فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما - الحديث» ومنها ما رواه ابن شيرويه الديلمي في كتاب الفردوس بإسناده إلى حذيفة ابن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «المهدي من ولدي وجهه كالقمر الدري اللون لون عربي والجسم إسرائيلي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ويرضى بخلافته أهل السماوات والأرض والطير في الجو، يملك عشرين سنة» وفي كتاب الطرائف: كان بعض علماء الشيعة قد صنف كتابا وجدته ووقفت عليه وقد سماه كتاب كشف المخفي في مناقب المهدي (عليه السلام) وروى فيه مائة وعشرة أحاديث من طرق رجال المذاهب الأربعة فتركت نقلها باسنادها وألفاظها كراهة للتطويل وأذكر أسماء من روى المائة والعشرة أحاديث التي في كتاب كشف المخفي لتعلم مواضعها على التحقيق:

فمنها من صحيح البخاري ثلاثة أحاديث، ومنها من صحيح مسلم أحد عشر حديثا، ومنها عن الجمع بين الصحيحين للحميدي حديثان، ومنها من الجمع بين الصحاح الستة أحد عشر حديثا، ومنها من كتاب فضائل الصحابة مما خرجه الحافظ عبد العزيز المحدث من مسند أحمد بن حنبل سبعة أحاديث، ومنها من تفسير الثعلبي خمسة أحاديث، ومنها من غريب الحديث لابن قتيبة الدينوري ستة أحاديث، ومنها من كتاب الفردوس لابن شيرويه الديلمي أربعة أحاديث، ومنها من كتاب مسند سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) من تأليف الحافظ أبي الحسن علي الدارقطني ستة أحاديث، ومنها من كتاب الحافظ أيضا من مسند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثلاثة أحاديث، ومنها من كتاب المبتدأ للكسائي حديثان يشملان أيضا على ذكر خروج السفياني والدجال، ومنها من كتاب المصابيح لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء خمسة أحاديث، ومنها من كتاب الملاحم لأبي الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المناوي أربعة وثلاثون حديثا، ومنها من كتاب الحافظ محمد بن عبد الله الحضرمي ثلاثة أحاديث، ومنها من كتاب الرعاية لأهل الدراية لأبي الفتح محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الفرغاني ثلاثة أحاديث، ومنها خبر سطيح رواية الحميدي أيضا ثلاثة أحاديث، ومنها من كتاب الاستيعاب لأبي عمر يوسف بن عبد البر النميري حديثان.

وقال الشيخ محي الدين في الفتوحات: إن لله خليفة يخرج من عترة رسول الله من ولد

ص:257

فاطمة (عليهما السلام) يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) جده الحسين بن علي (عليهما السلام) يبايع بين الركن والمقام يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخلق يفتح الخاء وينزل عنه في الخلق بضمها، أسعد الناس به أهل الكوفة يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يضع الجزية ويدعو إلى الله بالسيف ويرفع بالمذاهب عن الأرض ولا يبقى إلا الدين الخالص، إلى آخر ما ذكره وفيه دلالة على تشيعه والله أعلم.

قوله (يضل فيها أقوام ويهتدي آخرون) المهتدون في غيبته هم المقرون به وبوجوده والضالون هم المنكرون لوجوده والقائلون بأن العصر خال عنه وإن قالوا بأنه سيوجد.

قوله (ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين) لعل السائل سأل عن مقدار زمان الغيبة والحيرة معا فأجاب (عليه السلام) بأن زمان مجموعهما أحد الأزمنة المذكورة وبعد ذلك ترتفع الحيرة وتبقى الغيبة، والترديد بالنسبة إلى تفاوت مراتب الأشخاص، فقد ترتفع حيرة شخص بعد ستة أيام وترتفع حيرة الآخر بعد ستة أشهر أو ست سنين، ويحتمل أن يكون المراد أن الغيبة والحيرة في ذلك القدر من الزمان أمر محتوم ويجري لله فيهما البداء بعد ذلك، ويؤيده ظاهر ما سيأتي من قوله: فإن له بداءات، والترديد للابهام وقصد عدم تعيينه وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي على ما نقل عنه: المراد أن آحاد مدة الغيبة هذا القدر، فيكون ظهوره في السابع ليوافق الأحاديث الدالة على أن ظهوره في فرد من السنين، ولما تجاوز مدة الآحاد ومدة الآحاد مع العشرات بقيت مدة الآحاد مع المئات ومدة الآحاد مع الألوف فيمكن أن يكون زمان الغيبة ثمانمائة وستة أيام أو ثمان مائة وستة أشهر أو ثمانمائة وست سنين أو الفا وستة أيام أو الفا وستة أشهر أو ألفا وست سنين.

أقول: وعلى هذا لما مضت في عصرنا ثمانمائة مع الآحاد المذكورة بقي احتمال تسعمائة منها والترديد لما مر أخيرا.

قوله (كما أنه مخلوق) لعل المراد أن غيبته أمر محتوم كما أن خلقه كذلك.

قوله (وأنى لك هذا) لعل المراد هو الإشارة إلى أنه لا يدرك عصره وأن الذين يدركونه ويقرون به وبغيبته أفضل الأمة.

قوله (ثم ما يكون بعد ذلك) ذلك الإشارة إلى المذكور من الأزمنة، يعني هل ترفع الغيبة بعده أو لا؟ فأجاب (عليه السلام) بأن الله تعالى يفعل بعد ذلك ما يشاء، فإن له بداءات أي تقديرات متجددة في أوقات الزمان وإرادات حادثة فيها إن شاء أظهره وإن شاء أخفاء بحسب المصالح المعلومة له تعالى ولتقديراته وإراداته غايات ونهايات فإن كل وقت تعلق التقدير والإرادة بإخفائه أو إظهاره غاية ونهاية لما قبله وهذا ظاهر الانطباق على ما ذكرناه ثانيا كما أشرنا إليه، بل على ما ذكرناه أولا أيضا وأما على ما ذكره الفاضل المذكور ففيه نوع خفاء إذ ظهوره بعد الأزمنة المذكورة محتوم به لا

ص:258

يجري فيه البداء، اللهم إلا أن يكون ذلك في قول السائل ثم ما يكون بعد ذلك إشارة إلى الغيبة، ويكون السؤال متعلقا بما في زمانها فليتأمل.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان بن سدير، عن معروف بن خربوذ عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إنما نحن كنجوم السماء، كلما غاب نجم طلع نجم، حتى إذ أشرتم بأصابعكم وملتم بأعناقكم غيب الله عنكم نجمكم، فاستوت بنو عبد المطلب، فلم يعرف أي من أي: فإذا طلع نجمكم فاحمدوا ربكم.

* الشرح:

قوله (إنما نحن كنجوم السماء) شبه الإمام بالنجم، وأشار إلى وجه التشبيه بقوله «كلما غاب نجم طلع نجم» والغرض منه أنه لابد من إمام بعد إمام وأن الأرض لا تخلو منه، فإذا لم يكن الإمام ظاهرا وجب أن يكون محتجبا بحجاب الغيبة كالنجم المحتجب بالسحاب، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه سماء الدين بسماء الدنيا في لزوم ظهورها بعد ذهاب آخر.

قوله (حتى إذا أشرتم بأصابعكم وملتم بأعناقكم) في بعض النسخ: بحواجبكم، الإشارة بالأصابع والميل بالأعناق كنايتان عن الشهرة والزيارة وهما من أسباب غيبة الإمام عن شيعته ليحفظ نفسه المعصومة ونفوسهم المحترمة عن شر الأعداء.

قوله (فاستوت بنو عبد المطلب فلم يعرف أي من أي) لعل المراد أنهم قاموا بالرايات ووقع التحارب والاختلاط بينهم حتى لا يعرف أي رجل من أي راية، أو لا يعرف أي راية من أي رجل ونقل عن الفاضل الأسترآبادي أن قوله: فاستوت بنو عبد المطلب، إشارة إلى أن كلهم بعد الغيبة رعية بلا رئيس، وأن قوله: فلم يعرف أي من أي ناظر إلى الاختلاف المشاهد في هذا الزمان، فإن أهل السنة والزيدية يقولون هو محمد بن عبد الله، ثم اختلفوا في أنه حسني أو حسيني.

قوله (فإذا طلع نجمكم فاحمدوا ربكم) المراد بطلوع النجم ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) وهو من أجل نعماء الله تعالى على عباده لكونه سبب الخصب والرخاء ورفاهة العيش واستقامة النفوس ورواج الدين ورفع الظلم والجور، فيجب الحمد والثناء له تعالى شأنه.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن الحسن بن معاوية، عن عبد الله بن جبلة، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن للقائم (عليه السلام) غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولم؟ قال: إنه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل.

ص:259

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تنكروها.

* الشرح:

قوله (أن بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تنكروها) لأن غيبته حق ثابت وأمر محتوم والمنكر لها القائل بعدم وجوده كالمنكر لإمامة علي (عليه السلام) كما دل عليه بعض الروايات من أنه كيف يؤمن بالأول من لا يؤمن بالآخر، ولا وجه للإنكار أصلا لأن سببه إما استبعاد أن يكون الهادي للخلائق غائبا عنهم وهو باطل لتحقق الغيبة لجميع الأنبياء والأوصياء كما دل عليه تصفح الأخبار وتتبع الآثار; وإما طول الزمان واستبعاد أن يكون لأحد هذا العمر الطويل وهو أيضا باطل لتحققه في كثير من الخلائق، ومما يناسب ذكره في هذا المقام ما حكاء السيد الجليل رضي الدين علي بن طاووس (قدس سره) في بعض كتبه قال: اجتمعت يوما في بغداد مع بعض فضلائها فإنجر الكلام بيني وبينه إلى ذكر الإمام محمد بن الحسن المهدي (عليهما السلام) وما يدعيه الإمامية من حياته في هذه المدة الطويلة فشنع ذلك الفاضل على من يصدق بوجوده ويعتقد طول عمره إلى هذا الزمان تشنيعا بليغا، فقلت له: إنك تعلم أنه لو حضر اليوم رجل وادعى أنه يمشي على الماء لاجتمع بمشاهدته أهل البلد كلهم، فإذا مشى على الماء وعاينوه وقضوا تعجبهم منه ثم جاء في اليوم الثاني آخر وقال: أنا أمشي على الماء أيضا فشاهدوا مشيه عليه; لكان تعجبهم أقل من الأول; فإذا جاء في اليوم الثالث آخر وادعى أنه يمشي على الماء أيضا فربما لا يجتمع للنظر إليه إلا قليل ممن شاهد الأولين، فإذا مشى سقط التعجب بالكلية، فإذا جاء رابع وقال: أنا أيضا أمشي على الماء كما مشوا فاجتمع عليه جماعة ممن شاهدوا الثلاثة الأول ثم أخذوا يتعجبون منه تعجبا زائدا على تعجبهم من الأول والثاني والثالث; لتعجب العقلاء من نقص عقولهم وخاطبوهم بما يكرهون، وهذا بعينه حال المهدي (عليه السلام) فإنكم رويتم أن إدريس (عليه السلام) حي موجود في السماء من زمانه إلى الآن، ورويتم أن الخضر (عليه السلام) كذلك في الأرض حي موجود من زمانه إلى الآن، ورويتم أن عيسى (عليه السلام) حي موجود في السماء وأنه سيعود إلى الأرض إذا ظهر المهدي ويقتدي به، فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم زيادة على المهدي (عليه السلام) فكيف لا تتعجبون منهم وتتعجبون من أن يكون لرجل من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة بواحد منهم وتنكرون أن يكون من جملة آياته (صلى الله عليه وآله) أن يعمر واحد من ذريته زيادة على ما هو المتعارف من الاعمار في هذا الزمان؟! والله الهادي.

* الأصل:

11 - الحسين بن محمد ومحمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن الحسن بن معاوية عن

ص:260

عبد الله ابن جبلة، عن إبراهيم بن خلف بن عباد الأنماطي، عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده في البيت أناس، فظننت أنه إنما أراد بذلك غيري، فقال: أما والله ليغيبن عنكم صاحب هذا الأمر وليخملن هذا حتى يقال: مات، هلك، في أي واد سلك؟ ولتكفأن كما تكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قبله وأيده بروح منه، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى أي من أي، قال: فبكيت، فقال: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ فقلت: جعلت فداك كيف لا أبكي وأنت تقول: اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى أي من أي!؟ قال:

وفي مجلسه كوة تدخل فيها الشمس، فقال: أبينة هذه؟ فقلت: نعم، قال: أمرنا أبين من هذه الشمس.

* الشرح:

قوله (إنما أراد بذلك غيري) أي بذلك الخطاب الذي يأتي ذكره.

قوله (أما والله ليغيبن عنكم صاحب هذا الأمر وليخملن) الخطاب لنوع البشر أو لنصف منه وهم الشيعة ويختص بقرينة المقام بمن أدرك عصره (عليه السلام) والخامل: الساقط المنخفض الذي لا ذكر ولا تباعة له.

قوله (حتى يقال مات هلك) استفهام للتعجب في عدم ظهوره لكمال الاحتياج إليه في دفع البلايا والفتن ورفع المصائب والمحن وقد مر شرح هذا الحديث في الثالث من هذا الباب.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن إسماعيل الأنباري، عن يحيى ابن المثنى، عن عبد الله بن بكير، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للقائم غيبتان، يشهد في إحداهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه.

* الشرح:

قوله (قال للقائم غيبتان) إحداهما صغرى وهي سبعون سنة إلا اثنى عشر شهرا وأربعة أيام وكان له (عليه السلام) فيها سفراء بينه وبين الشيعة، أولهم أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري وهو أول من نصب أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، ثم نص أبو عمرو (رحمه الله) بأمر الصاحب على ابنه أبي جعفر محمد ابن عثمان، ونص عليه أيضا العسكري (عليه السلام)، ثم نص أبو جعفر بأمر الصاحب (عليه السلام) على أبي القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي، وقال وعنده وجوه من الشيعة: هو القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام) والوكيل والثقة والأمين فارجعوا في أموركم إليه وعولوا في مهامكم عليه فبذلك أمرت وقد بلغت، ثم نص أبو القاسم بن روح بأمر الصاحب (عليه السلام) على أبي الحسن علي بن محمد السمري فلما حضره الموت سئل أن يوصي فقال: لله أمر هو بالغه،

ص:261

ومات (رحمه الله) سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فوقعت الغيبة الكبرى وهي الغيبة الثانية التي نحن فيها، وقد كتب (عليه السلام) في هذه الغيبة إلى الشيخ المفيد (رحمه الله) مكاتيب مذكورة في آخر كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (رحمه الله).

قوله (يشهد في إحداهما الموسم) لعل المراد بإحداهما الكبرى وبعدم رؤيتهم إياه عدم رؤيتهم على وجه يعرفونه وإلا فقد يقع الرؤية لا على هذا الوجه، وقد دل عليه الروايات والنقل عن الأكابر.

* الأصل:

13 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد; ومحمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد; وعلي ابن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة عن أبي إسحاق السبيعي، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ممن يوثق به أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تكلم بهذا الكلام وحفظ عنه وخطب به على منبر الكوفة: اللهم إنه لابد لك من حجج في أرضك، حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلمونهم علمك، كيلا يتفرق أتباع أوليائك، ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مثبوت علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون.

ويقول (عليه السلام) في هذه الخطبة في موضع آخر: فيمن هذا؟ ولهذا يأرز العلم إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ويروونه، كما سمعوه من العلماء ويصدقون عليهم فيه، اللهم فإني لأعلم أن العلم لا يأرز كله ولا ينقطع مواده وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمطاع، أو خائف مغمور كيلا تبطل حجتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم، بل أين هم؟ وكم هم؟ أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا.

* الشرح:

قوله (تكلم بهذا الكلام وحفظ عنه) المراد بهذا الكلام الكلام الآتي وبالحفظ الحفظ بالكتابة أو بظهر القلب على الاحتمال.

قوله (حجة بعد حجة) بيان لقوله: حجج، وتفسير له ودفع الاحتمال الاجتماع وقد مر أنه لا يجتمع في الأرض حجتان إلا وأحدهما صامت.

قوله (يهدونهم إلى دينك) الجملة حال عن الحجج وكونه إستينافا لبيان سبب الاحتياج إليهم بعيد بالنظر إلى المقام، والمراد بالهداية هنا الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب وبالدين جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله).

قوله (ظاهر غير مطاع أو مكتتم يترقب) أي يترقب ظهوره وهو صاحب الزمان (عليه السلام) وأما غيره

ص:262

من الأئمة فهو مندرج في الأول لظهورهم بين الخلق وعدم إطاعة الخلق لهم ولا ينتقض بأمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام خلافته لأنه أيضا لم يكن مطاعا على وجه الكمال كما دلت عليه الأخبار والآثار وظاهر إما مجرور على أنه صفة لحجة أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.

قوله (إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مثبوت علمهم) الهدنة الاسم من المهادنة وهي المصاحبة، والمثبوت من ثبته بمعنى اثبته وثبت جاء لازما ومتعديا (؟) وإضافة القديم إلى المثبوت والمثبوت إلى العلم من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، يعني إن غاب من الخلق شخصهم بالإنزواء والإعتزال في حال مصالحتهم مع الأعداء المتغلبة وعدم اقتدارهم على الظهور وإجراء الأحكام خوفا منهم وممن تابعهم لم يغب عمن تابعهم علمهم المثبوت القديمي الذي نقله الرواة الثقات، وكأنه (عليه السلام) أخبر عن أمثال زماننا هذا فإن علمهم مع غيبتهم شائع بين أصحاب الإيمان أرباب العرفان بنقل السابقين إلى التابعين وهكذا ينقل إلى ما شاء الله، وإليه يشير ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر المهدي (عليه السلام) فقال: ذلك الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، قال جابر: فقلت: يا رسول الله هل لشيعته انتفاع به في غيبته؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إي والذي بعثني بالحق إنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب.

أقول: هذا تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح، ولا يخفى ما فيه من الحسن واللطف إذ كما أن الشمس المستترة بالسحاب تنور هذا العالم الجسماني وتربيه وتنميه وتغذيه كذلك الإمام المستتر بحجاب الغيبة ينور العالم الروحاني ويربيه وينميه ويغذيه وهو قلوب العارفين وعقول المؤمنين فقلوبهم عارفة بأنوار علومهم وعقولهم مشرقة باشراق نورهم والله الهادي.

قوله (وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة) الظاهر أن آدابهم مبتدأ ومثبتة خبره والجملة حال عن ضمير عنهم، والمراد بالآداب; الأخلاق المرضية والأطوار السنية بقرينة مقابلته مع العلم المراد به علم الأحكام النبوية والمعارف الإلهية، وإنما قلت: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون آدابهم عطفا على علمهم ومثبتة حالا عنهما وفي متعلقا بمثبتة وتخصيص قلوب المؤمنين بالذكر لأنها القابلة لقبول علمهم وآدابهم دون غيرها.

قوله (فهم بها عاملون) تقديم الظرف يفيد الحصر يعني أنهم عاملون بعلوم الأئمة (عليهما السلام) لا بغيرها من الأقيسة والاستحسانات المخترعة والآراء المبتدعة كما هو شأن أهل الخلاف وأرباب الضلال، وفيه أيضا دلالة على أن العمل بدون العلم ليس بعمل، وهو كذلك; لأن العلم أصل

ص:263

والعمل فرع ولا يعقل وجود الفرع بدون الأصل.

قوله (فيمن هذا) في بعض النسخ: فمن هذا، وفيه إشارة إلى قلة وجوده وهو الحق الذي لا ريب فيه لأن المؤمن العالم العامل الخالص عزيز الوجود.

قوله (وإني لأعلم أن العلم لا يأرز كله) قد مر شرحه في آخر الباب المتقدم.

* الأصل:

14 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم بن معاوية البجلي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) قال: إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد.

* الشرح:

قوله (إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) ماء غور أي غائر في الأرض، وصف بالمصدر مبالغة، وماء معين ماء جار في الأرض والمعين فعيل بمعنى فاعل.

قوله (إذا غاب عنكم امامكم فمن يأتيكم بامام جديد) شبه الإمام الغائب بالماء الغائر في الخفاء عن الخلق مع كثرة النفع وشدة احتياجهم إليه، وشبه الإمام الحاضر الذي يأتي بعد غيبته بالماء المعين الجاري في الأرض في جريانه وسيره فيها ونفعه لأهلها، وفيه على هذا التأويل دلالة على الغيبة وعلى أن تعيين الإمام ونصبه من عند الله تعالى وهو الحق كما مر سابقا.

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن بلغكم عن صاحبكم غيبة فلا تنكروها.

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة ولابد له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة.

* الشرح:

قوله (ولابد له في غيبته من عزلة) إشارة إلى الغيبة الكبرى لأنه يعتزل فيها الناس جميعا، وفي بعض النسخ: ولا له في غيبته من عزلة وله وجه أيضا لأنه بين الناس ويراهم ولا يرونه مع ظهور آثاره عليهم ووصول فوائده إليهم كما مر.

قوله (ونعم المنزل طيبة) طيبة بفتح الطاء، وقد يقال: طابة، سمى النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك المدينة من الطيب وهو الطهارة، وقيل: الطيب العيش بها، وقيل: الطيب أرضها، قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: يعني أن طيبة وهي المدينة المعروفة منزله (عليه السلام) وكان يستأنس بثلاثين من أوليائه

ص:264

ويحتمل أن يكون هذا حاله في الصغرى.

أقول: ومما يؤيد هذا ما مر في باب الإشارة إلى صاحب الزمان عن أبي هاشم الجعفري قال:

قلت لأبي محمد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم، قلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة، وقيل:

كان طيبة اسم محل هو منزله (عليه السلام) مع ثلاثين من أصحابه وهو ليس بمستوحش معهم، وقيل:

يحتمل أن يكون المراد أنه (عليه السلام) على هيئة من سنه ثلاثون سنة أبدا، وما في هذا السن من وحشة والله أعلم.

* الأصل:

17 - وبهذا الإسناد، عن الوشاء، عن علي بن الحسن، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين، فيأرز العلم كما تأرز الحية في جحرها، واختلفت الشيعة وسمى بعضهم بعضا كذابين، وتفل بعضهم في وجوه بعض؟ قلت: جعلت فداك ما عند ذلك من خير، فقال لي: الخير كله عند ذلك، ثلاثا.

* الشرح:

قوله (كيف أنت إذا وقعت البطشة بين المسجدين) كيف سؤال عن الحال، والبطشة الاخذ القوي الشديد، والمسجدين مسجد مكة ومسجد المدينة والأرز بالراء ثم الزاء المعجمة الاجتماع والانضمام، والعلم بالتحريك الراية، والجحر بضم الجيم ثم سكون الحاء المهملة بيت الضب والحية واليربوع، والتفل شبيه بالبزاق وهو أقل منه أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ ولعل هذا إشارة إلى وقعة الحسني واليماني والسفياني بين المسجدين وإلى ظهور الفتن والمحن من تراكم العساكر المختلفة وارتفاع الرايات المشتبهة في عراق العرب بل في أقطار الأرض كلها، ومن الشيعة ابن بغي صاحب برقع ودلالة السفياني وعساكره الملعونة على الشيعة ومنازلهم حتى يهربون من صدمتهم إلى قلل الجبال والمغارات وعند ذلك يقولون استبطاء لخروج المهدي (عليه السلام) واستبعادا له:

مات، هلك، أي واد سلك، فإذا بلغت الفتنة إلى هذه المراتب وعمت البلية والنوائب أظهره الله تعالى بين الركن والمقام فيقمع الكفرة بسيف الانتقام ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما وإليه أشار (عليه السلام) في آخر الحديث بقوله: الخير كله عند ذلك، وأراد به ظهور المهدي (عليه السلام) وما يترتب عليه من منافع العباد.

* الأصل:

18 - وبهذا الاسناد عن أحمد بن محمد، عن أبيه محمد بن عيسى، عن ابن بكير، عن زرارة،

ص:265

قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن للقائم غيبة قبل أن يقوم، إنه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل.

19 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والاخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته والاخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه.

* الشرح:

قوله (إلا خاصة مواليه) وهم حواريه لأن لكل واحد من الأئمة (عليهم السلام) حواريين كما كانوا لعيسى (عليه السلام).

* الأصل:

20 - محمد بن يحيى وأحمد بن إدريس، عن الحسن بن علي الكوفي، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لصاحب هذا الأمر غيبتان: إحداهما يرجع منها إلى أهله والاخرى يقال: هلك، في أي واد سلك، قلت: كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال: إذا ادعاها مدع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله.

* الشرح:

قوله (كيف نصنع إذا كان كذلك) يعني إذا خرج رجل وادعى أنه المهدي الموعود كيف نعرف أنه صادق وأنه هو.

قوله (قال إذا ادعاها مدع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله) يعني إذا ادعى الإمامة أحد فاسألوه عن أشياء من العلوم الدينية والمعارف اليقينية التي أنتم منها على بصيرة ويقين فإن أجاب فيها مثل صاحب الأمر أو مثل ما علمتم فهو الإمام لأنه لا يجيب فيها كذلك إلا هو، وهذا طريق من طرق معرفته يختص به العلماء الراسخون الذين يميزون بين الحق والباطل، وإليه يشير قول محي الدين في كتاب الفتوحات في وصف المهدي (عليه السلام) وأصحابه عند خروجه حيث قال: إذا ظهر يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي، له رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه.

* الأصل:

21 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن جعفر بن القاسم، عن محمد بن الوليد الخزاز، عن الوليد بن عقبة، عن الحارث بن زياد، عن شعيب، عن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: لا، فقلت: فولدك؟ فقال: لا، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: لا، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: لا، قلت: من هو؟ قال: الذي يملأها عدلا كما

ص:266

ملئت ظلما وجورا، على فترة من الأئمة، كما أن رسول الله (عليه السلام) بعث على فترة من الرسل.

* الشرح:

قوله (الذي يملأها عدلا) ذكر (عليه السلام) آيتين من آيات صاحب الأمر ولم يوجد فيمن ذكر شيء منهما إحداهما استيلاؤه على أهل الأرض وإظهار العدل شرقا وغربا ورفع الجور أصلا وفرعا وأخراهما ظهوره بعد فترة من الأئمة بمعنى عدم وجود إمام ظاهر بينه وبين السابق والفترة بين الرسولين هي الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة وأصلها الضعف والانكسار.

* الأصل:

22 - علي بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن موسى بن جعفر البغدادي، عن وهب بن شاذان عن الحسن بن أبي الربيع، عن محمد بن إسحاق، عن أم هانىء قالت: سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، عن قول الله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) قالت: فقال: إمام يخنس سنة ستين ومائتين، ثم يظهر كالشهاب يتوقد في الليلة الظلماء، فإن أدركت زمانه قرت عينك.

* الشرح:

قوله (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) قالوا: الخنس جمع خانس وهي الكواكب لأنها تغيب بالنهار وتظهر بالليل، وقيل: هي الكواكب الخمسة السيارة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد يريد به مسيرها ورجوعها لقوله: الجوار الكنس ولا يرجع من الكواكب غيرها، والكنس جمع كانس وهي الكواكب التي تغيب وترجع من كنس الظبي إذا تغيب واستتر في كناسه وهو الموضع الذي يأوي إليه، وفسره (عليه السلام) بإمام يخنس أي يغيب سنة ستين ومائتين وهي سنة مات أبوه (عليه السلام) ثم يظهر ويرجع من أفق الحق كالشهاب المتوقد في الليلة الظلماء يعرف كل أحد أنه الإمام العادل، وإرادة الواحد من الجمع إما للتعظيم أو لأجل أنه داخل فيه ومن آحاده لأن الأئمة (عليهم السلام) كلهم موصوفون بهذه الصفة سيما على القول بالرجعة.

* الأصل:

23 - عدة من أصحابنا، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن الحسن، عن عمر بن يزيد، عن الحسن بن الربيع الهمداني، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن أسيد بن ثعلبة، عن أم هانىء قالت: لقيت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) فسألته، عن هذه الآية (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) قال: الخنس إمام يخنس في زمانه عند انقطاع من علمه عند الناس سنة ستين ومائتين ثم يبدو كالشهاب الواقد في ظلمة الليل، فإن أدركت ذلك قرت عينك.

ص:267

* الشرح:

قوله (عند انقطاع من علمه عند الناس) الظاهر أن من للتبعيض وفاعل الانقطاع وأن العلم بمعنى المصدر وهو الادراك وإضافته إلى الضمير إضافة المصدر إلى المفعول وفيه إشارة إلى أن غيبته وخفاءه عند علم بعض الناس بوجوده دون بعض، ويحتمل أن يكون العلم عبارة عن الحاصل بالمصدر وهو الصور الإدراكية والإضافة لامية، وفيه إشارة إلى أن علومه كلها لم تنقطع عند الناس بل المنقطع هو بعضها ولو لم يذكر لفظة من لفهم على الأول أن أحدا لم يعلم بوجوده وعلى الثاني أن علمه كله منقطع عن الخلق وليس كذلك.

* الأصل:

24 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أيوب بن نوح، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) قال:

إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم.

* الشرح:

قوله (إذا رفع علمكم من بين أظهركم) هذا أيضا من علامات ظهوره (عليه السلام) لأن الناس في ذلك العصر معزولين (؟) عن العلم والعمل وموصوفين (؟) بالجهل والزلل ولا هم لهم إلا السير في ميدان الضلالة والشقاوة ولا عزم إلا السباق في مضمار الغواية والغباوة.

قوله (فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم) مبالغة في قرب زمان ظهوره حينئذ أو كناية عن ظهوره قبل رجوعهم إلى منازلهم.

* الأصل:

25 - عدة من أصحابنا، عن سعد بن عبد الله، عن أيوب بن نوح قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إني أرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسوقه الله إليك بغير سيف، فقد بويع لك وضربت الدراهم باسمك، فقال: مامنا أحد اختلفت إليه الكتب، وأشير إليه بالأصابع وسئل عن المسائل، وحملت إليه الأموال، إلا اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله لهذا الأمر غلاما منا، خفي الولادة والمنشأ، غير خفي في نسبه.

* الشرح:

قوله (إلا اغتيل أو مات على فراشه) الاغتيال الخدعة، يقال: قتله غيلة إذا خدعه فذهب به إلى موضع فقتله، وكلمة أو للتنويع وهو التقسيم لا للشك، لتنزه ساحة قدسه عنه وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها مطلقا فلا ينافي هذا ما تقرر من أن الأئمة (عليهم السلام) كلهم مقتولين (؟) بعضهم بالسيف وبعضهم بالسم.

قوله (خفي الولادة والمنشأ غير خفي في نسبه) المراد بخفاء ولادته خفاؤها عند الأكثر بدليل علم بعض الخواص بها وبخفاء منشئه خفاء مكانه الذي ينشأ فيه ويأوي إليه، وبعدم خفاء نسبه

ص:268

كون نسبه معلوما للخاصة والعامة فإنهم أيضا قائلون بأن المهدي (عليه السلام) من أولاد الحسين بن علي (عليهم السلام).

* الأصل:

26 - الحسين بن محمد وغيره، عن جعفر بن محمد، عن علي بن العباس بن عامر، عن موسى بن هلال الكندي، عن عبد الله بن عطاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن شيعتك بالعراق كثيرة والله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ قال: فقال: يا عبد الله بن عطاء قد أخذت تفرش أذنيك للنوكى، إي والله ما أنا بصاحبكم، قال: قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: أنظروا من عمي على الناس ولادته، فذاك صاحبكم إنه ليس منا أحد يشار إليه بالأصبع ويمضغ بالألسن إلا مات غيظا أو رغم أنفه.

* الشرح:

قوله (ما في أهل بيتك مثلك) أي في العلم والعمل والصلاح والشهرة، والمراد بأهل البيت أولاد فاطمة (عليهم السلام) وإرادة من انتسب إلى قريش بعيدة.

قوله (قد أخذت تفرش أدنيك للنوكى) أخذت من أفعال المقاربة بمعنى شرعت، وتفرش خبره، والنوكى بفتح النون والكاف جمع أنوك وهو الأحمق ويجمع أيضا بالنوك وبالضم على القياس، يقال: رجل أنوك وقوم نوكى ونوك، وهذا مثل يضرب لمن يسمع كلام كل أحد وإن كان أحمقا لا يعقل شيئا.

قوله (من عمي على الناس ولادته) عمي عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى (فعميت عليهم الأنباء يومئذ).

قوله (ويمضغ بالألسن) المضغ باللسان كناية عن تناوله وذكره بالخير والشر.

قوله (أو رغم أنفه) رغم الأنف كناية عن الذل، ولعل المراد به هنا القتل، ووجه الترديد ما مر ويحتمل أن يكون من الراوي.

* الأصل:

27 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يقوم القائم وليس لأحد في عنقه عهد ولا عقد ولا بيعة.

* الشرح:

قوله (وليس لأحد في عنقه عهد ولا عقد ولا بيعة) هذه الأمور الثلاثة متقاربة ويمكن أن يراد بالعهد الميثاق والملاقاة والصحبة، يقول: عهدته إذا لقيته وعرفته، أو الوصية تقول:

ص:269

عهد إليه إذا أوصاه، وبالعقد عقد الصلح والمهادنة، وبالبيعة الإقرار للغير بالخلافة مع التماسح بالأيدي على الوجه المعروف كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وكأن فيه إشارة إلى سبب من أسباب غيبته ومصلحة من مصالحها لأنه (عليه السلام) لو كان ظاهرا إلى أوان ظهور دولته لكان في عنقه لا محالة عهد أو عقد أو بيعة لسلاطين الجور فكان عند خروجه بالسيف ناقضا لذلك العهد ونقض العهد قبيح لا يليق بجنابه.

* الأصل:

28 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن علي العطار، عن جعفر ابن محمد، عن منصور، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: إذا أصبحت وأمسيت لا أرى إماما أئتم به ما أصنع؟ قال: فأحب من كنت تحب وأبغض من كنت تبغض، حتى يظهره الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (فأحب من كنت تحب) يعني أنك تعلم أن الأرض لا تخلو من إمام من أهل بيت نبيك فأحبه وإن لم تعرفه بخصوصه وشخصه فإن ذلك يكفيك حتى يظهره الله عز وجل فإذا أظهره أطعه واتبعه واعرفه بشخصه.

* الأصل:

29 - الحسين بن أحمد، عن أحمد بن هلال قال: حدثنا عثمان بن عيسى، عن خالد بن نجيح، عن زرارة بن أعين قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لابد للغلام من غيبة، قلت: ولم؟ قال: يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، فمنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: مات أبوه ولم يخلف، ومنهم من يقول: ولد قبل موت أبيه بسنتين قال زرارة:

فقلت: وما تأمرني لو أدركت ذلك الزمان؟ قال: ادع الله بهذا الدعاء: «اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرفك، اللهم عرفني نبيك، فإنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرفه قط، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني» قال أحمد بن الهلال: سمعت هذا الحديث منذ ست وخمسين سنة.

30 - أبو علي الأشعري، عن محمد حسان، عن محمد بن علي، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (فإذا نقر في الناقور) قال: إن منا إماما مظفرا مستترا، فإذا أراد الله عز ذكره إظهار أمره نكت في قبله نكتة فظهر فقام بأمر الله تبارك وتعالى.

ص:270

* الشرح:

قوله (فإذا نقر في الناقور) أي فإذا نفخ في الصور وصوت فيه، والناقور فاعول من النقر بمعنى التصويت والنفخ وهو ما ينفخ ويصوت فيه مثل القرن وغيره، وقد شبه (عليه السلام) به قلب المنتظر ففي الكلام مكنية وتخييلية.

* الأصل:

31 - محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن أحمد بن الحسين، عن محمد بن عبد الله.

عن محمد ابن الفرج قال: كتب إلي أبو جعفر (عليه السلام): إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحانا عن جوارهم.

* الشرح:

قوله (إذا غضب الله) أي إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه وسلب رحمته وفيضه عنهم لسوء استعدادهم وقبح صنيعهم وكمال عتوهم نحانا عن جوارهم بالغيبة عنهم وكذلك جرى قضاء الله جل شأنه في قوم أراد أن يصيبهم بعذاب أو يؤاخذهم بعقوبة أو يوردهم في بلية فإنه يخرج من بينهم العلماء والصلحاء إما بالموت أو بالغيبة ثم يفعل بهم ما يشاء كما يشهد به التتبع بأحوال الماضين ويرشد إليه قوله تعالى خطابا لسيد المرسلين (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) (1).

ص:271


1- (1) قوله (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) ولعل قائلا يقول: كانت واقعة الحرة على أهل المدينة وزين العابدين (عليه السلام) كان فيهم! قلنا: هذا من التمسك بالعام والمطلق وظاهر الألفاظ في غير الأحكام العملية ومعلوم انها ليست بحجة لأن عمدة الاعتماد في حجية الظواهر قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا حاجة إلى العلم بالتفاصيل في غير العمل وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الكلام ناظرا إلى بعض الأوقات والأزمنة أو إلى مورد خاص، واعلم أن ما مضى من الأحاديث في النص على الأئمة (عليهم السلام) تأيدت بالقرائن القطعية الموجبة لليقين، بل هي من ضروريات مذهبنا، يعرف ذلك منا كل مؤمن ومخالف بل كل مسلم وكافر من جميع الأمم، وقد روى البخاري وغيره من حديث جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بطرق كثيرة أن الأئمة بعده إثنا عشر، وهذا حجة قاطعة لا يتدخل فيها احتمال الجعل والوضع وقد مات البخاري قبل الغيبة الصغرى وألف صحيحه في عصر أحد العسكريين (عليهما السلام) ولم يكن عنوان الاثنا عشرية مميزا لطائفتنا ولم يقل أحد من المسلمين بانحصار الأئمة في اثني عشر غيرنا فنحن مصداق حديث البخاري وأي دليل أقوى من هذا حتى نتكلف لغيره ولذلك لم نر التكلم في أسانيدها ودلالتها على مطلوبنا كثير فائدة بل رأيناه إضاعة للعمر وتفويتا للوقت، نعم جاء في تضاعيف المقصود الأصلي أعني إثبات إمامتهم (عليهم السلام) بعض أمور قابلة للتأمل والمناقشة كأمر البداء في أبي جعفر ابن علي العسكري وإسماعيل بن جعفر الصادق (عليهم السلام) ومثل أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالرجوع إلى القافة ولم يكن أمثال ذلك قادحة في أصل المقصود المعقود له هذه الأبواب ولذلك تركنا التعليق عليها جملة وإن لم يكن بعضها مرضيا، وأبو جعفر المروي عنه هذا الحديث هو الجواد (عليه السلام)، ومن زعم أنه الباقر (عليه السلام) فقد أوقعه في الخطأ عدم علمه بطبقات الرجال. (ش)

باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة

* الأصل:

1 - علي أبي إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سلام بن عبد الله، ومحمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان جميعا عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عن سلام بن عبد الله الهاشمي، قال محمد بن علي: وقد سمعته منه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بعث طلحة والزبير رجلا من عبد القيس يقال له: خداش إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقالا له: إنا نبعثك إلى رجل طالما كنا نعرفه وأهل بيته بالسحر والكهانة وأنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا من أن تمتنع من ذلك وأن تحاجه لنا حتى تقفه على أمر معلوم واعلم أنه أعظم الناس دعوى فلا يكسرنك ذلك عنه، ومن الأبواب التي يخدع الناس بها الطعام والشراب والعسل والدهن وأن يخالي الرجل، فلا تأكل له طعاما ولا تشرب له شرابا ولا تمس له عسلا ولا دهنا ولا تخل معه واحذر هذا كله منه وانطلق على بركة الله فإذا رأيته فاقرأ آية السخرة وتعوذ بالله من كيده وكيد الشيطان، فإذا جلست إليه فلا تمكنه من بصرك كله ولا تستأنس به، ثم قل له: إن أخويك في الدين وابني عمك في القرابة يناشدانك القطيعة ويقولان لك: أما تعلم أنا تركنا الناس لك وخالفنا عشائرنا فيك منذ قبض الله عز وجل محمدا (صلى الله عليه وآله) فلما نلت أدنى منال، ضيعت حرمتنا وقطعت رجاءنا، ثم قد رأيت أفعالنا فيك وقدرتنا على النأي عنك وسعة البلاد دونك وأن من كان يصرفك عنا وعن صلتنا كان أقل لك نفعا وأضعف عنك دفعا منا، وقد وضح الصبح لذي عينين وقد بلغنا عنك انتهاك لنا ودعاء علينا، فما الذي يحملك على ذلك؟! فقد كنا نرى أنك أشجع فرسان العرب، أتتخذ اللعن لنا دينا وترى أن ذلك يكسرنا عنك، فلما أتى خداش أمير المؤمنين (عليه السلام) صنع ما أمراه فلما نظر إليه علي (عليه السلام) - وهو يناجي نفسه - ضحك وقال: ههنا يا أخا عبد قيس - وأشار له إلى مجلس قريب منه - فقال: ما أوسع المكان، أريد أن أؤدي إليك رسالة، قال: بل تطعم وتشرب وتحل ثيابك وتدهن ثم تؤدي رسالتك، قم يا قنبر فأنزله، قال: ما بي إلى شيء مما ذكرت حاجة، قال: فأخلو بك؟ قال: كل سر لي علانية، قال:

فأنشدك بالله الذي هو أقرب إليك من نفسك، الحائل بينك وبين قلبك الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أتقدم إليك الزبير بما عرضت عليك؟ قال: اللهم نعم. قال: لو كتمت بعدما

ص:272

سألتك ما ارتد إليك طرفك، فأنشدك الله هل علمك كلاما تقوله إذا أتيتني؟ قال: اللهم نعم، قال علي (عليه السلام): آية السخرة؟ قال: نعم، قال: فاقرأها فقرأها وجعل علي (عليه السلام) يكررها ويرددها ويفتح عليه إذا أخطأ حتى إذا قرأها سبعين مرة قال الرجل: ما يرى أمير المؤمنين (عليه السلام) أمره بترددها سبعين مرة، ثم قال له: أتجد قلبك اطمأن؟ قال: إي والذي نفسي بيده - قال: فما قالا لك؟ فأخبره، فقال: قل لهما: كفى بمنطقكما حجة عليكما ولكن الله لا يهدي القوم الظالمين، زعمتما أنكما أخواي في الدين وابنا عمي في النسب، فأما النسب فلا أنكره وإن كان النسب مقطوعا إلا ما وصله الله بالإسلام، وأما قولكما: إنكما أخواي في الدين، فإن كنتما صادقين فقد فارقتما كتاب الله عز وجل وعصيتما أمره بأفعالكما في أخيكما في الدين وإلا فقد كذبتما وافتريتما بادعائكما أنكما أخواي في الدين، وأما مفارقتكما الناس منذ قبض الله محمدا (صلى الله عليه وآله) فإن كنتما فارقتماهم بحق فقد نقضتما ذلك الحق بفراقكما إياي أخيرا وإن فارقتماهم بباطل فقد وقع إثم ذلك الباطل عليكما مع الحدث الذي أحدثتما، مع أن صفقتكما بمفارقتكما الناس لم تكن إلا لطمع الدنيا، زعمتما وذلك قولكما:

فقطعت رجاءنا، لا تعيبان بحمد الله من ديني شيئا وأما الذي صرفني عن صلتكما، فالذي صرفكما عن الحق وحملكما على خلعه من رقابكما كما يخلع الحرون لجامه وهو الله ربي لا أشرك به شيئا فلا تقولا: «أقل نفعا وأضعف دفعا» فتستحقا اسم الشرك مع النفاق، وأما قولكما:

إني أشجع فرسان العرب وهربكما من لعني ودعائي، فإن لكل موقف عملا إذا اختلفت الأسنة وماجت لبود الخيل وملأ سحرا كما أجوافكما، فثم يكفيني الله بكمال القلب، وأما إذا أبيتما بأني أدعو الله فلا تجزعا من أن يدعو عليكما رجل ساحر من قوم سحرة زعمتما، اللهم أقعص الزبير بشر قتلة واسفك دمه على ضلالة وعرف طلحة المذلة وادخر لهما في الآخرة شرا من ذلك، إن كانا ظلماني وافتريا علي وكتما شهادتهما وعصياك وعصيا رسولك في، قل: آمين، قال خداش:

آمين، ثم قال خداش لنفسه: والله ما رأيت لحية قط أبين خطأ منك، حامل حجة ينقض بعضها بعضا، لم يجعل الله لها مساكا أنا أبرأ إلى الله منهما، قال علي (عليه السلام): ارجع إليهما وأعلمهما ما قلت، قال: لا والله حتى تسأل الله أن يردني إليك عاجلا وأن يوفقني لرضاه فيك ففعل فلم يلبث أن انصرف وقتل معه يوم الجمل رحمه الله.

* الشرح:

قوله (عن سلام بن عبد الله الهاشمي) الراوي لهذا الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام).

قوله (ومحمد بن الحسن) لم يظهر لي أنه عطف على سلام بن عبد الله أو على علي بن إبراهيم

ص:273

ولعل الأول أظهر (1).

قوله (وعلي بن محمد) عطف على علي بن إبراهيم وهو علي بن محمد بن أبان الرازي المعروف بعلان بتخفيف اللام وروى عنه المصنف كثيرا (2).

قوله (وأبو علي الأشعري) عطف على علي بن إبراهيم وهو أحمد بن إدريس القمي الذي روى عنه المصنف كثيرا.

قوله (جميعا عن محمد بن علي) لم يظهر لي أنه من هو (3).

قوله (قال محمد بن علي وقد سمعته منه) أي سمعت الحديث من سلام بن عبد الله (4) بلا واسطة أيضا.

قوله (يقال له خداش) (5) خداش ككتاب.

ص:274


1- (1) قوله «لعل الأول أظهر» بل الثاني هو المتعين، وقال العلامة (رضي الله عنه) في الفائدة الثالثة من فوائد آخر كتاب الخلاصة: عن الصدوق عن الكليني: كل ما ذكرته في كتابي المشار إليه يعني الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد، فهم علي بن محمد بن علان ومحمد بن أبي عبد الله ومحمد بن الحسن ومحمد بن عقيل الكليني. (ش)
2- (2) قوله «روى عنه المصنف» هو خاله وكان له كتاب في أخبار القائم (عليه السلام). (ش)
3- (3) قوله «لم يظهر لي أنه من هو» ولكن ظهر لي أنه محمد بن علي بن محبوب الذي ذكر في الإسناد الأول لقرائن عديدة. (ش)
4- (4) قوله «سلام بن عبد الله» مجهول الحال، ذكره النجاشي ولم يصفه بثقة ولا ضعف، ولا يضر ضعفه بالمقصود لأن الغرض إثبات اخبار أمير ألمؤمنين (عليه السلام) بالغيب اعجازا بتعليم الله سبحانه وهو ثابت بالروايات المتواترة في موارد عديدة بل بما ضبط وثبت في الكتب قبل الوقوع بسنين مثل إخباره (عليه السلام) بمجيء الترك المغولي وهو مذكور في نهج البلاغة وتأليف النهج قبلهم بأكثر من مأتي سنة وبين ذلك ابن أبي الحديد في شرحه وقال: كان وقوع ما أخبر به (عليه السلام) في زماننا ومثل اخباره (عليه السلام) بأن أحدا من خلفاء بني العباس بعد هارون الرشيد لا يوفق للحج وهو ثابت مذكور في تاريخ اليعقوبي وفي مروج الذهب وهذان الكتابان ألفا في دولة بني العباس وبقيت دولتهم بعد تأليفهما نحوا من ثلاثمائة بل أربعمائة سنة ولم يوفق أحد منهم للحج كما اخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى انقراضهم وقد روى عن أبي بكر بن العياش في مسجد الكوفة بعد حج هارون أنه لا يوفق أحد منهم بعده فقيل له: هل تقول ذلك بالنجوم؟ قال: لا، قيل: بالوحي؟ قال: نعم، قيل: أوحي إليك؟ قال: لا ولكن روى لنا من صاحب هذا المحراب، أشار إلى محراب أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومنها قوله في أهل نهروان: إن مصرعهم دون النطفة، وهو متواتر عنه (عليه السلام) وفي الصفحة 287 من غيبة الطوسي ما يشعر بأن آخر ملوك بني العباس يسمى عبد الله وهو المستعصم، وفي غيبة النعماني أن زوال دولة بني العباس من حيث بدا ملكهم أي من ناحية خراسان، وفي ما ذكرنا هنا كفاية للعاقل المتدبر في إثبات إمامة أمير المؤمنين وولايته وجميع ما نعتقده فيه جعلنا الله من أتباعه وأوليائه ورزقنا الله الاهتداء بهداه في الدنيا والنجاة بشفاعته يوم الجزاء في الآخرة. (ش)
5- (1) قوله «يقال له خداش» قد روى في نهج البلاغة حديثا شبيها بهذه الحكاية عن رجل اسمه كليب الجرمي. (ش)

قوله (طالما كنا) أي في كثير من الشهور والأيام وفي قديم من الدهور والأعوام كنا نعرفه وأهل بيته بالسحر والكهانة، قيل: الساحر من له قوة على التأثير في أمر خارج عن بدنه آثارا خارجة عن الشريعة مؤذية للخلق كالتفريق بين الزوجين وإلقاء العداوة بين رجلين، وقيل: هو من يأتي بأمر خارق للعادة مسبب عن سبب يعتاد كونه عنه فخرج المعجزة والكرامة لأنهما لا يحتاجان إلى تقديم أسباب وآلات وزيادة اعتمال، بل إنما تحصلان بمجرد توجه النفوس الكاملة إلى المبدأ، وقيل: هو من يتكلم بكلام أو يكتبه أو يأتي برقية أو عمل يؤثر في بدن آخر أو عقله أو قلبه من غير مباشرة، والكاهن هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن ورئيا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما وغرضهما من ذلك القول أن لا يخدع خداش بما سمع من علي (عليه السلام) ورأى منه من الأمور الخارقة للعادة ويمتنع من قبوله ويحمله على السحر والكهانة المذمومين في الشرع حتى أنه يقتل بهما صاحبهما ان لم يتب كما يرشد إليه قولهما: وأنت أوثق من بحضرتنا من أنفسنا من أن تمتنع من ذلك أي من سحره وكهانته وأن تحاجه لنا حتى تقفه أي تطلعه على أمر معلوم، يقال: وقفته على ذنبه بالقاف ثم الفاء أي فعلت به ما وقف على ذنبه وأطلعته عليه.

قوله (واعلم أنه أعظم الناس دعوى) قال في المغرب: الدعوى اسم من الادعاء وألفها للتأنيث فلا تنون، يقال: دعوى باطلة أو صحيحة وجمعها دعاوى بالفتح كفتوى وفتاوى أقول: أرادا لعنهما الله أنه عظيم الدعوى الباطلة وكثير المجادلة والخصومة طلق اللسان في ذلك وحثا بذلك خداشا على الاستعداد للجواب لئلا يكسر ولا يفلت في وقته وعلى عدم الالتفات إلى قوله (عليه السلام) إن لم يظهر له جواب لعلمه مجملا بأن كل ما يدعيه باطل كما هو شأن صاحب الجهل المركب بالنسبة إلى الهادي المرشد ولذلك قالا فلا يكسرنك ذلك المذكور من الدعوى أو عظمته عنه أي عن علي (عليه السلام) ترغيبا له في مناظرته ورد دعاويه وعدم متابعة قوله أصلا سواء ظهر له فساده أم لم يظهر.

قوله (ومن الأبواب التي يخدع الناس بها الطعام) لما كان المتعارف بين العرب أن كل من أكل طعام أحد ورأى منه إحسانا غير ذلك أن يرى حرمته ويراعى عزته ويجتنب مخالفته نهيا خداشا عن أكل طعامه وشرابه واستعمال عسله ودهنه والخلوة معه (عليه السلام) ليبقى له التنافر والتباعد ولا

ص:275

يحصل له الالفة والتقارب ويكون ذلك سببا عن رجوعه سريعا لئلا يشاهد منه (عليه السلام) أفعالا جميلة وأخلاقا شريفة توجب صرف قلبه عنهما.

قوله (فاقرأ آية السخرة) وهي (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض - إلى قوله تعالى رب العالمين) من قرأها حفظ من الشياطين الجن الإنس.

قوله (فلا تمكنه من بصرك) نهاه عنه لئلا يقع في قلبه محبة منه (عليه السلام) لأن النظر إلى وجهه (عليه السلام) بل إلى وجه كل صالح قد يورث المحبة منه.

قوله (ولا تستأنس به) قالا ذلك لأن الأنس به (عليه السلام) قد يوجب صفاء القلب ولينة الطبع ومشاهدة كرائم أخلاقه وعظائم أفعاله وكل ذلك مفوت لمقصودهما.

قوله (إن أخويك في الدين) المؤمن أخ المؤمن لقوله تعالى (إنما المؤمنون أخوة) وهذا حق إلا أنهما خرجا بكفرهما ومخالفتهما للإمام الحق عن الإيمان فلا يندرجان تحت الآية الكريمة.

قوله (وابني عمك في القرابة) هما ابنا عمه باعتبار ارتفاع نسبهما بعد بطون إلى جد واحد، أما طلحة، فهو طلحة بن عبد الله بن عثمان بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب ففي مرة يجتمع مع علي (عليه السلام) وكان لمرة ابن آخر غير تيم وهو كلاب بن مرة وكلاب بن مرة كان من أجداد النبي وعلي صلوات الله عليهما، وأما الزبير فهو زبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة وفي قصي يجتمع مع علي (عليه السلام) وكان لقصي ابن آخر هو عبد مناف بن قصي وهو من أجداد النبي وعلي عليهما الصلاة والسلام.

قوله (يناشدانك القطيعة) أي يسألانك بقطية الرحم ويقسمان عليك بها ويطلبان إليك بحقها وكل من نشد وناشد يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء وبنفسه وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا: نشدتك الله وبالله وناشدتك الله وبالله كما دعوت زيدا وبزيد أو لأنهم ضمنوه معنى ذكرت، والعجب أنهما قطعا رحم الإسلام ورحم القرابة لأغراض باطلة دنيوية ثم نسباه تمويها إليه (عليه السلام).

قوله (أما تعلم أنا تركنا الناس) إشارة إلى عدم بيعتهما مع الخلفاء الثلاثة إنكارا عليهم وادعاء بأن عليا (عليه السلام) أولى بالخلافة منهم ولما مات الثالث بادرا إلى البيعة مع علي (عليه السلام) ثم نقضا بيعتهما لأغراض نذكر بعضها بعيد ذلك.

قوله (فلما نلت أدنى منال ضيعت حرمتنا وقطعت رجاءنا) المنال محل النول وهو العطية والخراج، وقد يطلق عليه مجازا، وقولهما: ضيعت حرمتنا إشارة إلى ما فعله (عليه السلام) في تقسيم الخراج حيث قسم في بدء الخلافة الموجود من بيت المال على المسلمين بأن أعطى كل واحد منهم

ص:276

الشريف والوضيع ثلاثة دنانير ولم يفضلهما على غيرهما، ثم قسم بعد ذلك ما جمع في أيام قلائل على نحو ذلك حتى أخذ عمار بيد غلام له فقال: يا أمير المؤمنين هذا كان عبدا لي وقد أعتقته فأعطاه مثل ما أعطى عمارا أو غيره فثقل ذلك على طبعهما الخسيس، وقولهما: قطعت رجاءنا إشارة إلى ما نقل من أنهما قالا لأمير المؤمنين (عليه السلام): قد علمت جفوة عثمان لنا وميله إلى بني أمية مدة خلافته وطلبا منه أن يوليهما الكوفة والبصرة فمنعهما فسخطا وفعلا ما فعلا من نقض بيعتهما واخراجهما عائشة إلى البصرة وإغواء الخلق وإيقاد نار الحرب وكانا يلبسان على على أهل البصرة وغيرهم ويقولان: نحن نطلب منهم دم عثمان فإنه قتل ظلما، والحال أنهما كانا من جملة قاتليه وخافا من أن يطلبا بدمه إليه، أشار أمير المؤمنين (عليه السلام): والله ما أستعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنة، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه فأراد أن يغالط فيه بما أجلب فيه ليلتبس الأمر ويقع الشك، انتهى كلامه (عليه السلام) وهو إشارة إلى ما نقلوا من أن طلحة حرض الناس على قتل عثمان وجمعهم في داره.

ونقلوا أنه منع الناس ثلاثة أيام من دفنه وأن حكيم بن حزام وجبير بن مطعم استنجدا به (عليه السلام) في دفنه فأقعد لهم طلحة في الطريق اناسا يرميهم بالحجارة فخرج به نفر من أهله يريدون به حائطا في المدينة يعرف بحش كوكب وكانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره فهموا بطرحه، فأرسل إليهم علي (عليه السلام) فكفهم عنه حتى دفن بحش كوكب، ونقلوا أنه جادل في دفنه بمقابر المسلمين وقال: إنه ينبغي أن يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود، وبالجملة فهو كما قال (عليه السلام): لم يكن في القوم أحرص منه على قتله لكنه أراد أن يغالط بما أجلب في الطلب بدمه لتلبيس الأمر وإيقاع الشك من دخوله في قتله.

وقال بعض الأكابر: إن الرجلين كانا يؤملان الأمر لأنفسهما فلما صار إليه (عليه السلام) عادا إلى رجاء أن يدخلهما في أمره وأن يرفعهما في العطايا على غيرهما كما فضل الشيوخ الثلاثة بعضا على بعض وأن يشاركهما في أكثر الآراء المصلحية محبة منهما للجاه ونظرا إلى محلهما وشرفهما، لكن لما جعل (عليه السلام) دليله الكتاب العزيز والسنة النبوية وكان العالم بهما دون غيره وصاحب أسرارهما كما علمت من رجوع أكابر الصحابة والخلفاء السابقين إليه في كثير من الأمور والأحكام; لا جرم لم يكن به حاجة إلى الاستشارة فيما يقع إليه من الوقائع ولم يجوز ترجيح بعض على بعض في العطاء ولذلك تغيرا عليه، وهذا الذي ذكرناه من جملة أسباب نقض بيعتهما وخروجهما على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

قوله (ثم قد رأيت أفعالنا فيك وقدرتنا على النأي عنك وسعة البلاد دونك) النأي بالفتح

ص:277

فالسكون مصدر بمعنى البعد تقول: نأيته ونأيت عنه نأيا إذا بعدت منه، وهما أرادا بأفعالنا فيك نقض العهد وترك الطاعة وإظهار العداوة والاعتزال عن حضور الجماعة حال كونهما في المدينة من غير مبالاة به (عليه السلام) وبأصحابه، وبقدرتنا على النأي عنك قدرتهما على الخروج منها منفردين من غير خوف منه ومن أصحابه، وبسعة البلاد متابعة أهل البصرة ومن حولها لهما حتى جعلوهما أميرين لهم.

والغرض من هذا الكلام هو التهديد والوعيد وإظهار التجلد والقدرة على المحاربة ولذلك أجاب (عليه السلام) في بعض كلامه حين بلوغه ذلك وأمثاله: قد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب وأنا على ما وعدني ربي من النصر.

قوله (وإن من كان يصرفك عنا) ظنا أن بعض أصحابه (عليه السلام) منعه من إنجاح مطالبهما وتفويض ولاية بعض البلاد إليهما وتشريكهما في أمره وتفضيلهما في تقسيم حقوق المسلمين وذلك ظن باطل كما قال جل شأنه (إن بعض الظن إثم) إذ الباعث على التسوية هو الكتاب والسنة والمانع مما ذكر هو الله سبحانه إذ لم يجعل لمن في طبعه اللجاج والعناد وفي ذاته الطغيان والفساد ولاية وحكومة على العباد.

قوله (وقد وضح الصبح لذي عينين) استعارة تمثيلية حيث شبها ظهور دولتهما من الافق المعنوي وهو افق الآمال بظهور الصبح من الافق الحسي في عدم خفائه لكل من له عينان صحيحان، أو شبها قلة نفع أصحابه وضعف دفعهم عنه بالنسبة إليهما بظهور الصبح فيما مر واستعملا لفظ المشبه به في المشبه.

قوله (انتهاك لنا) أي مبالغة في خرق حرمتنا وكسر شأننا ونسبة الغدر ونقض العهد وسوء العقائد إلينا.

قوله (أتتخذ اللعن لنا دينا) وهو من صفة الضعيف العاجز عن استيفاء حقه من الخصم بالطعن والضرب، والاستفهام للتوبيخ.

قوله (وهو يناجي نفسه) يقرأ دون الجهر من القول ما أمراه به من آية السخرة والتعوذ من كيده (عليه السلام) وكيد الشيطان.

قوله (وأشار إلى مجلس قريب منه) هذا الإعزاز لكمال خلقه وتقدم علمه بأنه خدع منهما وأنه سيرجع عنهما عند ظهور الحق عليه.

قوله (الحائل بينك وبين قلبك) كما قال الله تعالى (إن الله يحول بين المرء وقلبه) قال

ص:278

المفسرون: هذا تمثيل لغاية قربه من العبد وإشعار بأنه مطلع على سرائر قلبه ما عسى أن يغفل صاحبه عنه أوحث على المبادرة إلى تخلية القلب وتصفيته قبل أن يحول الله بينه وبين صاحبه بالموت وغيره، أو تخييل لتملكه على قلبه فيفسخ عزائمه ويفسر مقاصده ويحول بينه وبين الكفران إن أراد سعادته، أو بينه وبين الإيمان إن أراد شقاوته.

قوله (الذي يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور) المراد بخائنة الأعين نظراتها إلى مالا ينبغي وتحريك الجفون للغمز ونحوه، وبمخفيات الصدور قصودها ومكنوناتها التي لم تجر على اللسان ولم يتعلق بالبيان.

قوله (وجعل علي (عليه السلام) يكررها) أي يأمره بتكرارها وترددها ويبين غلطه إذا أخطأ في جوهر الكلمة وحركاتها ومخارج حروفها.

قوله (قال الرجل ما يرى) هذا القول إما استعلام عن سبب التكرار أو تعجب منه والسبب حصول الاطمينان لقلبه مما أحدثا فيه بالسحر ونحوه ورفع اضطرابه وقلقه من خدعتهما وفيه دلالة على أن قراءة هذه الآية سبعين مرة يوجب صفاء القلب واطمئنانه ورفع شكه ووساوسه.

قوله (وإن كان النسب مقطوعا إلا ما وصله الله بالإسلام) يريدان القرابة التي وجبت رعايتها في الدنيا والآخرة هي القرابة الدينية وهي ما به الارتباط بين المؤمنين كما قال جل شأنه: (إنما المؤمنون إخوة) وأما القرابة النسبية بدون روابط الإسلام والوصل بالإيمان فلا تنفع في الدنيا والآخرة ولا يجب رعايتها فيهما أما في الآخرة فظاهر. وأما في الدنيا فلأنه قتل كثير من المؤمنين أقرباءه لأجل المخالفة في الدين.

قوله (فإن كنتما صادقين) هذا الذي ذكره (عليه السلام) لا مفر لهما بالجواب عنه، والفرق بين التقديرين أنهما على الثاني لم يؤمنا أصلا وعلى الأول آمنا ثم كفرا، وليس لهما على التقدير الأول نسبة المفارقة عن كتاب الله والخروج عن الدين إليه (عليه السلام) لاعترافهما بأنه على الدين حيث قالا: أن أخويك في الدين، حيث جعلاه أصلا فيه وادعيا أنهما أخويه (؟) فيه.

قوله (وأما مفارقتكما الناس) أي لأجلي كما يدل عليه قولهما «أما تعلم أنا تركنا الناس لك وخالفنا عشائرنا فيك» وقوله (عليه السلام): فقد نقضتما ذلك الحق بفراقكما إياي أخيرا، فعلى هذا ليس لهما أن يقولا: نحن نختار الشق الأول ونقول إنا فارقناهم بحق والحق لغيرك فلا يلزم من فراقنا إياك نقضنا ذلك الحق.

قوله (فإن كنتما فارقتماهم بحق) هذا أيضا ظاهر الورود عليهما ولا مفر لهما بالجواب عنه ولا فرق بين التقديرين في أنه يلزمهما مفارقة الحق إلا أن الحق في الأول علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي

ص:279

الثاني من سبقه، ثم هذا على سبيل الإلزام وإلا فالواقع هو الشق الأول والحق هو (عليه السلام).

قوله (مع الحدث الذي أحدثتما) وهو إخراج زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإحداث الفتنة بين المسلمين والخروج على الإمام العادل فلزمكما الإثم من وجهين.

قوله (مع ان صفتكما بمفارقتكما الناس لم يكن إلا لطمع الدنيا زعمتما) كذبهما فيما ادعيا من أن مفارقتنا الناس كانت لأجل أن الحق لك، بأن مفارقتكما إنما كانت لطمع الدنيا، والدليل على ذلك قولكما: فقطعت رجاءنا، ورجاؤكما كان في زهرات الدنيا وهذا يؤيد ما ذكره بعض الأكابر وأشرنا إليه سابقا من أنهما كانا يؤملان الأمر لأنفسهما فلما صار الأمر إلى علي (عليه السلام) عادا إلى رجاء أن يدخلهما في أمره ويرفعهما في العطاء على غيرهما ويشاركهما في الآراء محبة منهما للجاه، وبالجملة كلامهما أيضا مشتمل على التناقض لدلالة أوله على أن المفارقة كانت لطلب الحق ودلالة آخره على أنها كانت لطمع الدنيا ورجائها.

قوله (وأما الذي صرفني عن صلتكما فالذي صرفكما عن الحق) يعني أن الصارف هو الله تعالى فلا تقولا بعدما عرفتما أنه الصارف هو أقل نفعا وأضعف دفعا منكما فإن قلتما ذلك تستحقا اسم الشرك مع النفاق وفيه دلالة على أنهما بقولهما ذلك سابقا لم يستحقا اسم الشرك بناء على أن الجاهل معذور، لا يقال: نسبة صرفهما عن الحق إلى الله تعالى إنما يتم على مذهب الجبرية، لأنا نقول: صرفهما من فعلهما أو فعل الشيطان لكن صدوره عنهما لما كان بإقداره تعالى نسب إليه مجازا من باب نسبة الفعل إلى السبب البعيد، أو نقول: لما تمكن الصرف عن الحق في قلبهما بحيث لم يمكن رفعه عنه إلا بالقسر ثم لم يقسر رعاية لغرض التكليف عبر عن ترك القسر بالصرف إلى غير ذلك من التوجيهات التي قالوا في (ختم الله على قلوبهم) وأمثاله ويمكن أن يقال: المراد من هذه العبارة أن الذي صرفني عن صلتكما وتفويض البلاد إليكما هو الذي صرفكما عن الحق من أفعالكما القبيحة وصفاتكما الذميمة التي سلبت عنكما قابلية الصلة والولاية على المسلمين، ثم أشار بقوله «وهو الله ربي» إلى أن صارفه (عليه السلام) عن الصلة هو الله تعالى وإن كان صرفه تعالى مستند إلى ما هو صارفهما من أفعالهما وصفاتهما، وعلى هذا لا يرد ما ذكر، فتأمل.

قوله (كما يخلع الحرون) شبه نفوسهما بالفرس الحرون في عدم الانقياد لصاحبه، قال الجوهري: فرس حرون: لا ينقاد، إذا اشتد به الجري وقف. قال صاحب المغرب: حرن الفرس:

وقف ولم ينقد.

قوله (وهو الله ربي لا أشرك به شيئا) أي الذي صرفني عن صلتكما هو الله ربي لأنه لم يجعل للفاسق المنافق حرمة، وقوله: لا أشرك، تعريض بهما.

ص:280

قوله (فإن لكل موقف عملا) العمل عند تلاقي الصفوف والمحاربة مع أعداء الدين هو التجلد وإظهار الشجاعة، وعند تباعدهم وعدم إمكان محاربتهم هو اللعن عليهم والبراءة منهم كما هو المعروف في النهي عن المنكر، وهذا لا ينافي الشجاعة ولا يكون من عجز وضعف.

قوله (وماجت لبود الخيل) أي اضطربت لشدة الجري واللبود جمع اللبد وهو شعر متراكم بين كتفي الفرس.

قوله (وملأ سحرا كما أجوافكما) السحر الرئة والجمع أسحار مثل برد وأبراد وكذلك السحر والجمع سحور مثل فلس وفلوس وقد يحرك فيقال: سحر مثل نهر ونهر لمكان حروف الحلق، ويقال: للجبان قد انتفخ سحره لأن الرئة تنتفخ عند الخوف.

قوله (وأما إذا أبيتما إلى قوله: زعمتما) يعني إنكما زعمتما إني رجل ساحر من قوم سحرة ودعاء الساحر لا أثر له فلا تجزعا من دعائي عليكما.

قوله (اللهم أقعص الزبير) يقال أقصعه إذا قتله قتلا سريعا وقد استجاب الله تعالى دعاءه (عليه السلام) فإن الزبير خرج من المعركة في ابتداء القتال هاربا فلحقه رجل من بني تميم وقتله، وطلحة قتل في ابتدائه في المعركة وكفى الله تعالى شرهما من المسلمين فلما قتلا انهزم أكثر الناس وبقيت عائشة مع الذين معها من الأزد وضبة وهي تنادي في الهودج على الجمل أصحابها وتحرضهم على القتال حتى قتلوا أكثرهم وعقر جملها وتفرق من بقي منهم فأخذت عائشة وحملها محمد بن أبي بكر في الليل إلى البصرة ثم منها إلى المدينة بأمر أمير المؤمنين (عليه السلام).

قوله (إن كانا ظلماني وافتريا علي كتما شهادتهما) لعل المراد بالظلم هو مخالفتهما له (عليه السلام) ونقض بيعته وإنكار خلافته وبالافتراء ما ادعيا من نسبة قتل عثمان إليه (عليه السلام) مع أنهما قتلاه وحثا الناس على قتله كما هو المشهور، وبكتمان الشهادة كتمان ما سمعاه من النبي (صلى الله عليه وآله) في وصف علي (عليه السلام) وقد نقلوا أنه (عليه السلام) طلب الزبير بين الصفين فقال له: أما تذكر يا زبير يوم لقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بني ضبة وهو راكب على حمار فضحك إلي وضحكت إليه فقال: أتحبه يا زبير؟ فقلت:

والله إني لأحبه فقال: أما إنك ستقاتله وإنك له ظالم ولينصرن عليك؟ فقال: استغفر الله لو ذكرت هذا ما خرجت، ثم نادى على طلحة بعد أن رجع الزبير فقال له: أما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في:

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأنت أول من بايعني ثم نكثت وقد قال الله تعالى (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه)؟ فقال: استغفر الله ثم رجع.

قوله (لم يجعل الله لها مساكا) أي لم يجعل الله لها ما يعتصم به من الخير وما يمسك به بعضها بعضا من الروابط.

ص:281

* الأصل:

2 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان جميعا، عن محمد بن علي، عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعيد، عن جراح بن عبد الله، عن رافع ابن سلمة قال: كنت مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يوم النهروان، فبينا علي (عليه السلام) جالس إذ جاء فارس فقال: السلام عليك يا علي، فقال له علي (عليه السلام): وعليك السلام، مالك - ثكلتك أمك - لم تسلم علي بأمرة المؤمنين؟ قال: بلى سأخبرك عن ذلك، كنت إذ كنت على الحق بصفين فلما حكمت الحكمين برئت منك وسميتك مشركا. فأصبحت لا أدري إلى أين أصرف ولايتي والله لأن أعرف هداك من ضلالتك أحب إلي من الدنيا وما فيها.

فقال له: علي (عليه السلام): ثكلتك أمك، قف مني قريبا أريك علامات الهدى من علامات الضلالة، فوقف الرجل قريبا منه فبينما هو كذلك إذ أقبل فارس يركض حتى أتى عليا (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين: أبشر بالفتح أقر الله عينك، قد والله قتل القوم أجمعون، فقال له: من دون النهر أو من خلفه؟ قال: بل من دونه، فقال: كذبت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يعبرون أبدا حتى يقتلوا، فقال الرجل: فازددت فيه بصيرة، فجاء آخر يركض على فرس له فقال له مثل ذلك فرد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل الذي رد على صاحبه، قال الرجل الشاك: وهممت أن أحمل على علي (عليه السلام) فأفلق هامته بالسيف ثم جاء فارسان يركضان قد أعرقا فرسيهما فقالا: أقر الله عينك يا أمير المؤمنين أبشر بالفتح قد والله قتل القوم أجمعون، فقال علي (عليه السلام): أمن خلف النهر أو من دونه؟ قالا: لا بل من خلفه إنهم لما اقتحموا خيلهم النهروان وضرب الماء لبات خيولهم رجعوا فأصيبوا، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) صدقتما، فنزل الرجل: عن فرسه فأخذ بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) وبرجله فقبلهما، فقال علي (عليه السلام) هذه لك آية.

* الشرح:

قوله (نصر بن مزاحم) بالصاد المهملة كوفي مستقيم الطريقة صالح من أصحاب الباقر (عليه السلام).

قوله (جراح بن عبد الله) بالجيم أولا والحاء المهملة آخرا من أصحاب الباقر (عليه السلام).

قوله (عن رافع بن سلمة) كأنه رافع بن سلمة الأشجعي الكوفي وهو ثقة من ثبت الثقات وعيونهم وهو كان معمرا لأنه روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام).

قوله (يوم النهروان) هو بفتح النون والراء: بلد اجتمع فيه الخوارج وتعاهدوا على القتال والخروج.

ص:282

قوله (إذ جاء فارس) قيل: هو جندب بن عبد الله الأزدي.

قوله (ثكلتك أمك) في النهاية: أنه قال لبعض أصحابه: ثكلتك أمك أي فقدتك والثكل فقد الولد وامرأة ثاكل وثكلى ورجل ثاكل وثكلان كأنه دعا عليه بالموت لسوء فعله أو قوله، والموت يعم كل أحد فإذا الدعاء عليه كلا دعاء، أو أراد: إذا كنت هكذا فالموت خير لك لئلا تزداد سوء، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء كقولهم: تربت يداك، وقاتلك الله.

قوله (كنت إذ كنت على الحق بصفين) يحتمل أن يكون على الحق متعلقا بالفعلين على سبيل التنازع والفعل الأول على صيغة المتكلم والثاني على صيغة الخطاب، ويحتمل أن يكون متعلقا بالأخير وخبر الأول محذوف والفعلان كما مر أي كنت قائلا بإمارتك إذ كنت على الحق ولا يبعد أن يكون الفعلان على صيغة المتكلم ويكون إذ كنت معمولا للأول فليتأمل.

قوله (فلما حكمت الحكمين برئت منك) لم يكن (عليه السلام) راضيا بالتحكيم وقد غلب عليه أكثر أصحابه حتى أذن لهم به كرها فوقع ما وقع، بيان سبب ذلك مجملا أن معاوية لما أحس بالغلبة لعلي (عليه السلام) ليلة الهرير راجع عمرو بن العاص في كيفية الخلاص، فقال: هيأت لك رأيا لمثل هذا الوقت وهو أن تأمر أصحابك برفع المصاحف على الرماح وتدعو أصحاب علي إلى المحاكمة إلى كتاب الله فإنهم إن فعلوا افترقوا وإن لم يفعلوا افترقوا، وكان الأشتر صبيحة تلك الليلة قد أشرف على الظفر فلما أصبحوا رفعوا المصاحف على أطراف الرماح وكان عددها خمسمائة مصحف ورفعوا مصحف المسجد الأعظم على ثلاثة أرماح مشدودة يمسكها عشرة رهط ونادوا بأجمعهم:

الله الله معشر العرب في النساء والبنات، الله الله في دينكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، فاختلف أصحابه (عليه السلام) فقال طائفة: القتال القتال وقال أكثرهم: المحاكمة إلى الكتاب ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب، فقال (عليه السلام) «أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن إني أعرف بهم منكم، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل وإنهم رفعوها للخدعة والمكر والوهن، أعينوني ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر القوم الظالمين» فجاء عشرون ألفا من أصحابه (عليه السلام) ونادوه باسمه دون أمير المؤمنين: أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت وإلا قتلناك كما قتلنا عثمان، فقال (عليه السلام) ويحكم أنا أول من أجاب كتاب الله وأول من دعا إليه فكيف لا أقبله وإنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم وليس العمل بالقرآن يريدون، فقالوا: ابعث إلى الأشتر يأتيك، فبعث إليه فرجع على كره منه ونادى المجيبون إلى الحكومة من كل جانب: رضي أمير المؤمنين بالتحكيم

ص:283

وكتبوا عهدا على الرضا فلما كتبوه خرج بعض أصحابه (عليه السلام) وهم خوارج النهروان وقالوا: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد، وغرضهم من ذلك القول إظهار أنك شاك في إمامة نفسك فنحن أولى به منك، ووقعوا في شبهة وأصروا فيها حتى اتخذوها يقينا وبنوا عليها مابنوا وفعلوا ما فعلوا حتى قتلوا طائفة من المؤمنين وقتلوا إلا تسعة انتشروا في البلاد وبقي آثارهم إلى الآن.

قوله (قف مني قريبا أريك) في بعض النسخ «أرك» بالجزم لوقوعه بعد الأمر.

قوله (علامات الهدى من علامات الضلالة) اللام عوض عن المضاف إليه أي علامات هداي من علامات ضلالتي بقرينة قول ذلك الرجل: لئن أعرف هدايتك من ضلالتك وما أراه علامات لا علامة واحدة ولذلك أتى بصيغة الجمع والمراد بعلامات الهدى علامات الإمامة وبعلامات الضلالة علامات عدمها وهي التي استدل بها الخوارج على أنه ليس بإمام، ثم المراد بإرادة تلك من هذه إفادة أن هذه ليست من علامات الضلالة لأنها لا تجتمع مع ضدها ولا تكون منشأ له ويحتمل تضمين معنى التميز، فليتأمل.

قوله (فقال من دون النهر أو من خلفه) أي من بعد تجاوز النهر والعبور عنه أو من خلفه قبل العبور.

قوله (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة) أي الذي شق الحبة للانبات وخلق ذات الروح، وكثيرا كان (عليه السلام) يقولها إذا اجتهد في يمينه لكونها من أخص صفاته تعالى.

قوله (فازددت فيه بصيرة) أي في خطئه وضلالته لإنكاره من أخبرنا بأمر محسوس وادعى علم الغيب بخلافه.

قوله (فأفلق هامته) أي فأشق رأسه، والهامة الرأس والجمع هام.

قوله (لما اقتحموا خيلهم النهروان) أي أدخلوها فيه من غير روية وتثبت خوفا من عساكره (عليه السلام) يقال: أقحم فرسه النهر فانقحم واقتحم النهر أيضا دخله. كذا في الصحاح، وفي بعض النسخ فلما امتحنوا.

قوله (وضرب الماء لبات خيولهم) لبة الفرس صدره والجمع لبات مثل حبة وحبات، واللبب محركة من سيور السرج ما يقع على اللبة، كذا في المصباح.

قوله (فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) صدقتما) أي صدقتما في أنهم اصيبوا من خلف النهر، وقد نقل أنهم أصيبوا إلا تسعة سلموا وتفرقوا في البلاد فانهزم اثنان منهم إلى عمان واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى تل مورون (موزن ظ) وظهرت بدعتهم في أطراف

ص:284

البلاد بعده وأصيب من أصحابه (عليه السلام) ثمانية، وأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) حين عزم الخوارج وقيل له انهم عبروا النهروان بقوله: إن مصارعهم دون النطفة يعني بها ماء النهر، والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة فوجدوا المفلت منهم تسعة والمقتول من أصحابه ثمانية وهذه أيضا آية من آياته وكرامة من كراماته.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن أبي علي محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أحمد بن القاسم العجلي، عن أحمد بن يحيى المعروف بكرد، عن محمد بن خداهي، عن عبد الله بن أيوب، عن عبد الله بن هاشم، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، عن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمار ما هي والزمار ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان، فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين وما جند بني مروان؟ قال: فقال له: أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا، فلم أر ناطقا أحسن نطقا منه، ثم أتبعته فلم أزل أقفوا أثره حتى قعد في رحبة المسجد، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما دلالة الإمامة يرحمك الله؟ قالت: فقال أئتيني بتلك الحصاة - وأشار بيده إلى حصاة - فأتيته بها فطبع لي فيها بخاتمة، ثم قال لي: يا حبابة إذا ادعى مدع الإمامة، فقدر أن يطيع كما رأيت، فاعلمي أنه إمام مفترض الطاعة، والإمام لا يعزب عنه شيء يريده، قالت: ثم انصرفت حتى قبض أمير المؤمنين (عليه السلام) فجئت إلى الحسن (عليه السلام) وهو في مجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) والناس يسألونه فقال: يا حبابة الوالبية، فقلت: نعم يا مولاي، فقال: هاتي ما معك قالت: فأعطيته فطبع فيها كما طبع أمير المؤمنين (عليه السلام)، قالت: ثم أتيت الحسين (عليه السلام) وهو في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقرب ورحب، ثم قال لي: إن في الدلالة دليلا على ما تريدين أفتريدين دلالة الإمامة؟ فقلت: نعم يا سيدي فقال: هاتي ما معك، فناولته الحصاة فطبع لي فيها، قالت: ثم أتيت علي بن الحسين (عليهما السلام) وقد بلغ بي الكبر إلى أن أرعشت وأنا أعد يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة فرأيته راكعا وساجدا ومشغولا بالعبادة فيئست من الدلالة، فأومأ إلي بالسبابة فعاد إلي شبابي قالت: فقلت: يا سيدي. كم مضى من الدنيا وكم بقي؟ فقال: أما ما مضى فنعم، وأما ما بقي فلا، قالت: ثم قال لي: هاتي ما معك فأعطيته الحصاة فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا جعفر (عليه السلام) فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا الحسن موسى (عليه السلام) فطبع لي فيها ثم أتيت الرضا (عليه السلام) فطبع لي فيها.

ص:285

وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر على ما ذكره محمد بن هشام.

* الشرح:

قوله (في شرطة الخميس) الخميس: الجيش، سمي به لأنه يقسم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم، والشرطة بالسكون والحركة أول كتيبة تحضر الحرب وخيار جند السلطان ونخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده وهم الأمراء، والجمع شرط مثل غرفة وغرف، والشرطي بالسكون والحركة منسوب إلى الشرطة لا إلى الشرط لأنه جمع.

قوله (ومعه درة لها سبابتان) أي شقتان والدرة بالكسرة التي يضرب بها.

قوله (يضرب بها بياعي الجري والمارماهي) في المغرب: الجري الجريث وهو ضرب من السمك، وفي النهاية: الجريث: نوع من السمك يشبه الحيات، ويقال لها بالفارسية مار ما هي والمفهوم منهما أن الجري والمار ما هي واحد ومن هذا الحديث أنهما نوعان متغايران.

قوله (فمسخوا) المسخ قلب الخلقة من شيء إلى شيء آخر وتبديل صورة إلى صورة اخرى وفيه دلالة على أن حلق اللحية كان حراما في الشريعة السابقة، وأما في هذه الشريعة فلا دلالة فيه عليه، نعم في بعض الروايات دلالة عليه وإن كان في السند كلام (1).

ص:286


1- (1) قوله «وان كان في السند كلام» يدل على توقف الشارح في حرمة حلق اللحية للشك في سند الرواية الدالة عليه، والحق انه لا ينبغي الترديد في صدور ما روي في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) من جهة الإسناد لاتفاق الرواة من العامة والخاصة على نقله وشهرته بينهم وقيام القرائن عليه وليس مثل هذه الواقعة مما يخفى على الناس أو يحتمل اختراع أوهام الرواة له إذ لم يختلف أهل السيرة والمؤرخون في أن جماعة من مجوس العجم جاءوا رسلا من جانب أمير اليمن لتبليغ رسالة سلطان العجم وكلموه (صلى الله عليه وآله) بما هو خارج عن قانون الأدب فوق رتبتهم ومقدرتهم ومقدارهم إذ كان شأن ملك العجم أن يتواضع ويتذلل عند من بعثه الله لكسر الأصنام وإزالة التماثيل وقهر الجبابرة لكن هتكوا جلباب الحياء فقالوا: إن ملك الملوك يعنون ابرويز يأمرك أن تترك ما تدعيه من النبوة وإلا فعلنا بك ما فعلنا ولو كان المخاطب في مثل هذا الكلام من غير الأنبياء لواجههم بالسخرية والاستهزاء مثلا لو قال جاهل لطبيب حاذق معترضا عليه: إني أعالج السل المزمن في ثلاثة أيام وأنت لا تقدر على ذلك لقال الطبيب له مستهزئا سرح لحيتك واغسل وجهك حتى يزول عنك اثر النوم والنعاس ويجتمع حواسك وأمثال ذلك لكن جل مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن اللغو فكلمهم بحق يفيد فائدة الهزء معترضا على زيهم فقال لهم ما هذا الزي والهيئة حلقتم اللحى وفتلتم الشوارب؟ فقالوا: أمرنا ربنا بذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكن أمرني ربي بالعكس باعفاء اللحى واحفاء الشوارب، وبالجملة فصدوره من النبي (صلى الله عليه وآله) مسلم ولا ينبغي الشك في اسناده، وإنما يخالف من يخالف في دلالته على الحرمة لأن قص الشوارب مستحب غير واجب وبحسب السياق إعفاء اللحى مثله وقال الطيبي في شرح المشكاة وهو من أعاظم علماء العامة: قصر اللحية من صنع الأعجام وهو اليوم شعار كثير من المشركين كالإفرنج والهنود ومن لا خلاق له في الدين من الفرق الموسومة بالقلندرية طهر الله حوزة الدين عنهم، وقال النووي في شرح صحيح مسلم: ويكره حلقها أي اللحية وقصها وتحريفها، واما الاخذ من طولها وعرضها بقدر التحسين فحسن ويكره الشهرة في تعظيمها كقصها انتهى. فحلق اللحى عند هؤلاء من قبيل ترك الشعار كان يسمى الشيعي ابنه يزيد ومعاوية أو المسلم بنته اليصابات وحنة أو يشتغل يوم الجمعة ويعطل يوم الاحد ونقل في مجمع البحرين الخلاف في ذلك ولم نر في كلام فقهائنا تنقيح البحث فيه إلا عند المتأخرين (ش).

قوله (حتى قعد في رحبة المسجد) الرحب بالضم السعة والرحبة، بفتح الراء وتسكين الحاء وتحريكها أحسن، الصحراء بين أفنية القوم ورحبة المسجد ساحته وقد يسمى بها ما يتخذ على أبواب بعض المساجد من حظيرة أو دكان.

قوله (والإمام لا يعزب عنه شيء يريده) لأن الإمام يد الله وقدرته فكما لا يعزب شيء عن قدرة الله ولا تعجز قدرته عنه فكذلك لا يعزب شيء عن الإمام.

قوله (فقالت نعم يا مولاي) هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها: فقلت: نعم، وهو الأظهر وفي الأول لابد من تكلف بعيد.

قوله (ورحب) رحب له ترحيبا إذا قال: مرحبا أي أتيت سعة ولقيتها.

قوله (إن في الدلالة دليلا) أي أن لنا دليلا في دلالتك على ماتريدين من أمر الإمامة.

قوله (إلى أن ارعشت) أرعشت على البناء للمفعول، يقال: رعش بالكسر وارتعش أي ارتعد وأرعشه الله فارتعش.

قوله (أما ما مضى فنعم) أي إماما مضى من الدنيا فنعم هو معلوم لنا وكان بينه لها ولم تذكره هي وأماما بقي فلا نعلمه لأن عنده علم الساعة ويحتمل أن يكون المراد ان السؤال عما مضى نعم له صورة لأن الواقع معلوم، وأما السؤال عما بقي فلا صورة له وذلك اما لاختصاص علمه بالله سبحانه أو لعدم المصلحة لإظهاره.

قوله (وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر) قال الفاضل الأسترآبادي كان عمرها مأتي سنة.

* الأصل:

4 - محمد بن أبي عبد الله وعلي بن محمد، عن إسحاق بن محمد النخعي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال: كنت عند أبي محمد (عليه السلام) فاستؤذن لرجل من أهل اليمن عليه، فدخل رجل عبل، طويل جسيم فسلم عليه بالولاية فرد عليه بالقبول وأمره بالجلوس، فجلس ملاصقا لي، فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟ فقال أبو محمد (عليه السلام): هذا من ولد الأعرابية

ص:287

صاحبة الحصاة التي طبع آبائي (عليهم السلام) فيها بخواتيمهم فانطبعت وقد جاء بها معه يريد أن أطبع فيها، ثم قال: هاتها فأخرج حصاة وفي جانب منها موضع أملس، فأخذها أبو محمد (عليه السلام) ثم أخرج خاتمه فطبع فيها فانطبع فكأني أرى نقش خاتمه الساعة «الحسن بن علي» فقلت لليماني:

رأيته قبل هذا قط؟ قال: لا والله وإني لمنذ دهر حريص على رؤيته حتى كأن الساعة أتاني شاب لست أراه فقال لي: قم فادخل، فدخلت، ثم نهض اليماني وهو يقول (رحمه الله): رحمة وبركاته عليكم أهل البيت، ذرية بعضها من بعض أشهد بالله أن حقك لواجب كوجوب حق أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين، ثم مضى فلم أره بعد ذلك، قال إسحاق: قال أبو هاشم الجعفري: وسألته عن اسمه فقال اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أم غانم وهي الأعرابية اليمانية، صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) والسبط إلى وقت أبي الحسن (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (رجل عبل) في النهاية: رجل عبل أي ضخم، وفي الصحاح: رجل عبل الذراعين أي ضخمها وفرس عبل الشوى أي غليظ القوائم وقد عبل بالضم عبالة وامرأة عبلة تامة الخلق.

قوله (الحسن بن علي) مفعول ثان لأرى وبيان لنقش خاتمه (عليه السلام).

قوله (رأيته قبل هذا قط) الغرض من هذا السؤال أن يعلم أن قوله (عليه السلام): إنه من ولد الأعرابية صاحب الحصاة وأنه جاء بها يريد أن اطبع فيها، من باب كراماته (عليه السلام) وأن ينبه به ذلك الرجل أيضا.

قوله (والسبط إلى وقت أبي الحسن (عليه السلام)) السبط وهو ولد الولد عطف على أمير المؤمنين (عليه السلام) أي فطبع فيها سبط أمير المؤمنين إلى وقت أبي الحسن الثاني الرضا (عليهم السلام) وإرادة أبي الحسن الثالث الهادي (عليه السلام) محتملة احتمالا بعيدا (1).

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي

ص:288


1- (1) قوله «محتملة احتمالا بعيدا» صريح الرواية السابقة أن حبابة الوالبية كانت نفسها حية من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عصر الرضا (عليه السلام) وكانت لها مائة وثلاث عشرة سنة في زمان زين العابدين (عليه السلام) فلم تكن سنها أقل من مائتين وثلاثين سنة عند رحلة موسى بن جعفر وإمامة الرضا (عليهم السلام)، ولكن يحتمل أن بعض أبنائها جاء بالحصاة بعد موتها إلى أبي جعفر الجواد وأبي الحسن الثالث (عليهما السلام) وجاء بعده هذا الرجل اليماني إلى العسكري (عليه السلام) إذ ليس في هذه الرواية أن حبابة نفسها كانت تأتي بالحصاة إلى الأئمة (عليهم السلام) فيحتمل أن يكون تأتي إلى بعضهم بنفسها وإلى بعضهم بعض أولادها. (ش)

عبيدة; وزرارة جميعا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قتل الحسين (عليه السلام) أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فخلا به فقال له: يا ابن أخي قد علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفع الوصية والإمامة من بعده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم إلى الحسن (عليه السلام)، ثم إلى الحسين (عليه السلام) وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى على روحه ولم يوص وأنا عمك وصنو أبيك وولادتي من علي (عليهما السلام) في سني وقديمي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصية والإمامة ولا تحاجني، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام): يا عم اتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق إني أعظك أن تكون من الجاهلين إن أبي يا عم صلوات الله عليه أوصى إلي قبل ان يتوجه إلى العراق وعهد إلي في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندي، فلا تتعرض لهذا فإني أخاف عليك نقص العمر وتشتت الحال، إن الله عز وجل جعل الوصية والإمامة في عقب الحسين (عليه السلام) فإذا أردت أن تعلم ذلك فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك.

قال أبو جعفر (عليه السلام): وكان الكلام بينهما بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود، فقال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفية: ابدأ أنت فابتهل إلى الله عز وجل وسله ان ينطق لك الحجر ثم سل، فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر، فلم يجبه فقال علي بن الحسين (عليه السلام): يا عم لو كنت وصيا وإماما لأجابك، قال له محمد: فادع الله أنت يا ابن أخي وسله: فدعا الله علي بن الحسين (عليه السلام) بما أراد ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، فقال: اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فانصرف محمد بن علي وهو يتولى علي بن الحسين (عليهما السلام).

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى على روحه ولم يوص) هذا القول مستغرب من وجوه: أحدها أنه شهادة على النفي ولا عبرة بها عقلا وشرعا وثانيها أنه معترف بأن الإمامة بالوصاية ولم يدع أن أحدا أوصى إليه بها فكيف يدعيها لنفسه، وثالثها أنه قد أوصى أبوه علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحضرته إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) كما مر في باب الإشارة والنص على الحسن بن علي (عليهما السلام)، ويحتمل أن يكون هذه المناظرة لأجل إثبات الحق لعلي بن الحسين (عليهما السلام)

ص:289

لتعلم الشيعة أنه الإمام لا هو ولا ينخدعوا بأنه أكبر وأقرب من علي (عليه السلام). ويؤيده ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن المحامدة تأبى أن يعصى الله عز وجل وعد منهم ابنه محمد بن الحنفية.

قوله (وصنو أبيك) في الصحاح: إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحدة فكل واحد منهن صنو والاثنتان صنوان. والجمع صنوان برفع النون، وفي الحديث: عم الرجل صنو أبيه، وفي النهاية: الصنو المثل وأصله أن تطلع نخلتان عن عرق واحد ومقصوده من هذا القول أن أنا وأباك من أب واحد وهو مثلي وأنا مثله فكما هو كان مستحقا للإمامة فكذلك أنا مستحق لها، وهذا الاستدلال باطل لأن كون الرجلين من أب واحد لا يستلزم تساويهما في الصفات المعتبرة في الإمامة، ولهذا أمثلة جزئية كثيرة، وهذا أيضا من جملة العجائب عن مثله.

قوله (إن أبي يا عم صلوات الله عليه أوصى إلي) أشار (عليه السلام) إلى أنه أحق بالإمامة منه لأمرين معتبرين في الإمام أحدهما الوصية، والثاني وجود سلاح النبي (صلى الله عليه وآله) عنده وأنهما له.

قوله (فإني أخاف عليك نقص العمر وتشتت الحال) يحتمل أن يكون سبب النقص والتشتت معصية الإمام ومخالفته فدل على أن العصيان سبب لذلك وأن يكون سببهما القتل وتغلب الأعادي كما كان في زيد وأمثاله ممن ادعى الخلافة وخرج فقتل.

قوله (ابدأ أنت فابتهل) الابتهال أن تمد يديك جميعا، وأصله التضرع والمبالغة في السؤال والإخلاص فيه.

قوله (أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء) إشارة إلى ما ثبت بالنصوص المعتبرة من أن الله تعالى لما أخذ من ابن آدم الميثاق له بالربوبية، ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، ولأوصيائه بالإمامة جعل تلك المواثيق وديعة عند الحجر وكان ملكا عظيم الشأن وكان شديد المحبة لمحمد وآله (صلى الله عليه وآله) ثم جعله في صورة درة بيضاء ووضعه في ذلك المكان وأمر الخلق بإتيانه وتجديد العهد والميثاق عنده وهو يجيء يوم القيامة وله لسان ناطق وعين ناظرة يشهد لكل من وافاه إلى ذلك المكان وحفظ الميثاق.

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن محمد بن علي قال: أخبرني سماعة بن مهران قال: أخبرني الكلبي النسابة قال: دخلت المدينة ولست أعرف شيئا من هذا الأمر فأتيت المسجد فإذا جماعة من قريش فقلت: أخبروني عن عالم أهل هذا البيت؟ فقالوا: عبد الله بن الحسن. فأتيت منزله فاستأذنت، فخرج إلي رجل ظننت أنه غلام له، فقلت له: استأذن لي على مولاك، فدخل ثم خرج فقال لي: ادخل فدخلت فإذا أنا بشيخ معتكف شديد الاجتهاد، فسلمت عليه فقال لي: من أنت؟

ص:290

فقلت: أنا الكلبي النسابة، فقال: ما حاجتك؟ فقلت: جئت أسألك، فقال: أمررت بابني محمد؟ قلت: بدأت بك، فقال: سل، فقلت: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنت

ص:291

طالق عدد نجوم السماء، فقال تبين برأس الجوزاء والباقي وزر عليه وعقوبة، فقلت في نفسي: واحدة; قلت: ما يقول الشيخ في المسح على الخفين؟ فقال: قد مسح قوم صالحون ونحن أهل البيت لا نمسح، فقلت في نفسي: ثنتان، فقلت: ما تقول في أكل الجري أحلال هو أم حرام؟ فقال: حلال إلا أنا أهل البيت نعافه، فقلت في نفسي: ثلاث، فقلت: فما تقول في شرب النبيذ؟ فقال: حلال إلا أنا أهل البيت لا نشربه.

فقمت فخرجت من عنده وأنا أقول: هذه العصابة تكذب على أهل هذا البيت فدخلت المسجد فنظرت إلى جماعة من قريش وغيرهم من الناس فسلمت عليهم ثم قلت لهم: من أعلم أهل هذا البيت؟ فقالوا: عبد الله بن الحسن، فقلت: قد أتيته فلم أجد عنده شيئا فرفع رجل من القوم رأسه فقال: ائت جعفر بن محمد (عليهما السلام) فهو أعلم أهل هذا البيت، فلامه بعض من كان بالحضرة - فقلت: إن القوم إنما منعهم من إرشادي إليه أول مرة الحسد - فقلت له: ويحك إياه أردت.

فمضيت حتى صرت إلى منزله فقرعت الباب. فخرج غلام له فقال: ادخل يا أخا كلب، فوالله لقد أدهشني، فدخلت وأنا مضطرب ونظرت فإذا شيخ على مصلى بلا مرفقة ولا بردعة، فابتدأني بعد أن سلمت عليه، فقال لي: من أنت؟ فقلت في نفسي: يا سبحان الله، غلامه يقول لي بالباب: ادخل يا أخا كلب ويسألني المولى من أنت؟! فقلت له: أنا الكلبي النسابة؟ فضرب بيده على جبهته وقال كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا وخسروا خسرانا مبينا، يا أخا كلب، إن الله عز وجل يقول: (وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) أفتنسبها أنت؟ فقلت: لا جعلت فداك؟ فقال لي: أفتنسب نفسك؟ قلت: نعم أنا فلان بن فلان بن فلان حتى ارتفعت فقال لي: قف، أتدري ليس حيث تذهب، ويحك أتدري من فلان بن فلان؟ قلت: نعم فلان بن فلان، قال: إن فلان بن فلان بن فلان الراعي الكردي إنما كان فلان الراعي الكردي على جبل آل فلان فنزل إلى فلانة امرأة فلان من جبله الذي كان يرعى غنمه عليه فأطعمها شيئا وغشيها فولدت فلانا وفلان بن فلان من فلانة وفلان بن فلان، ثم قال: أتعرف هذه الأسامي؟ قلت: لا والله جعلت فداك فإن رأيت أن تكف عن هذا فعلت؟ فقال: إنما قلت فقلت:، فقلت:

إني لا أعود، قال: لا نعود إذا واسأل عما جئت له. فقلت له: أخبرني عن رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء، فقال: ويحك أما تقرأ سورة الطلاق؟ قلت: بلى، قال: فاقرأ فقرأت (فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) قال: أترى ههنا نجوم السماء؟ قلت: لا، قلت: فرجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا؟ قال: ترد إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: لا طلاق إلا على طهر، من غير جماع بشاهدين مقبولين، فقلت في نفسي: واحدة، ثم قال: سل، قلت: ما تقول في المسح على الخفين؟ فتبسم ثم قال: إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه ورد الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم؟ فقلت في نفسي: ثنتان، ثم التفت إلي فقال: سل.

فقلت: أخبرني عن أكل الجري فقال: إن الله عز وجل مسخ طائفة من بني إسرائيل فما أخذ منهم بحرا فهو الجري والمار ما هي والزمار وما سوى ذلك وما أخذ منهم برا فالقردة والخنازير والوبر والورك وما سوى ذلك، فقلت: في نفسي ثلاث ثم التفت إلي فقال: سل وقم، فقلت: ما تقول في النبيذ؟ فقال: حلال، فقلت: إنا ننبذ فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك ونشربه، فقال: شه شه تلك الخمرة المنتنة، فقلت: جعلت فداك فأي نبيذ تعني؟ فقال: إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تغيير الماء وفساد طبائعهم، فأمرهم أن ينبذوا، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له، فيعمد إلى كف من التمر فيقذف به في الشن فمنه شربه ومنه طهوره، فقلت: وكم كان عدد التمر الذي في الكف، فقال: ما حمل الكف، فقلت: واحدة أو ثنتان؟ فقال: ربما كانت واحدة وربما كانت ثنتين، فقلت: وكم كان يسع الشن؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك، فقلت:

بالأرطال؟ فقال: نعم أرطال بمكيال العراق، قال: سماعة: قال الكلبي: ثم نهض (عليه السلام) وقمت، فخرجت وأنا أضرب بيدي على الاخرى وأنا أقول: إن كان شيء فهذا، فلم يزل الكلبي يدين الله بحب آل هذا البيت حتى مات.

* الشرح:

قوله (قال أخبرني الكلبي النسابة) هو الحسن بن علوان الكلبي (1) كوفي ثقة

ص:292


1- (1) قوله «هو الحسن بن علوان» بل هو محمد بن السائب المعروف عند الخاصة والعامة ذكره ابن النديم وذكر كتبه وقد أكثر أصحاب التفسير والأخبار من نقل مروياته وأقواله وله تفسير قالوا هو أطول تفاسير القدماء، وقال ابن حجر في التقريب: أبو النضر الكوفي المفسر النسابة متهم بالكذب ورمى بالرفض من السادسة مات سنة ست وأربعين يعني بعد مائة، وأما الحسن بن علوان فكان عاميا على ما صرح به النجاشي ولم يكن في الشهرة بحيث ينصرف إليه اطلاق الكلبي النسابة ولم يكن دأبى المناقشة في هذه الأمور لكن دعاني إلى ذكره قضاء حق هذا العالم الشيعي الذي هو من مفاخر العرب واماثلهم في التاريخ والسير والأدب وقد تشرف بزيارة مولانا الصادق (عليه السلام) والكلام معه. (ش)

منسوب إلى بني كلب، روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) والتاء للمبالغة.

قوله (معتكف شديد الاجتهاد) أي مقيم بمصلاه مقبل على العبادة مواظب لها شديد الاجتهاد عليها.

قوله (فقال تبين برأس الجوزاء) الجوزاء نجم يقال إنها تعترض في جوز السماء أي وسطها وهي ثمانية عشر كوكبا على صورة صبيين متعانقين رأسهما إلى الشمال والمشرق رجلهما إلى المغرب والجنوب وربما قيل إنها على صورة رجل معه منطقة وسيف يداه الواقعتان فوق المنطقة وهي ثلاثة كواكب كوكبان مضيئان واليمنى أضوء ومنها يعتبرون الارتفاع، ورجلاه الواقعتان تحت المنطقة كوكبان مضيئان واليسرى اضوء ومنها أيضا يعتبرون الارتفاع (1) وما بين يديه من جانب الفوق ثلاثة كواكب صغار متصلة متلاصقة (2) وهي رأس الجوزاء، إذا عرفت هذا فنقول: مراده برأس الجوزاء: أما الجيم وهو ثلاثة في الحساب أو الكواكب الثلاثة، وعلى التقديرين مراده أن المرأة تصير مطلقة ثلاثة والبواقي وزر وعقوبة عليه حيث أنه طلق من ليست بزوجة له مع اعتقاد أنه طلاق وذلك يوجب الوزر.

قوله (قد مسح قوم صالحون) أفاد أن المسح على الخفين جائز وأن المسح على البشرة أفضل ومثله أفاد في الجري والنبيذ وهو المسكر من الأشربة المعمول من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا فصرف من مفعول إلى فعيل وانتبذته اتخذته نبيذا.

قوله (بلا مرفقة ولا بردعة) المرفقة كالوسادة وأصله من المرفق كأنه استعمل مرفقه واتكى عليه، والبردعة بالفتح الحلس وهو الكساء الرقيق الذي يلقى تحت الرحل ويلي ظهر البعير تحت القتب، ولعل المراد أنه لم يكن تحته شيء من هذين.

قوله (يا سبحان الله) أي يا قوم سبحان الله، والنداء للتعجب.

قوله (ويسألني المولى من أنت) لعل الغرض من سؤاله مع علمه بحاله أن يقول: أنا الكلبي النسابة فيلزمه فيما يدعيه من العلم بالأنساب ويظهر جهله فيه حتى يظهر عنده فضله (عليه السلام) في فنه

ص:293


1- (2) قوله «يعتبرون الارتفاع» يعني بالاسطرلاب لتعيين انه كم مضى من الليل (ش)
2- (3) قوله «متصلة متلاصقة» ترى أوائل الليل في الشتاء إذا استقبلت القبلة صورة من الكواكب جالبة للنظر جدا كمربع مستطيل ضلعه الأطول نحو سبعة أو ثمانية اذرع من الشمال إلى الجنوب وعرضه نحو ذراعين أو أكثر من اليمين إلى اليسار وعلى زواياه الأربع أربعة كواكب مضيئة وفي مركزه ثلاثة كواكب متصلة موربة وقد يقال لهذه الصورة الجبار أيضا وهذه الثلاثة تسمى برأس الجوزاء. (ش)

وهو ادعى إلى معرفة حقه.

قوله (فضرب بيده على جبهته) لعل وجهه هو التأسف بحاله حيث ادعى علما بالأنساب وهو ليس بعالم بها في الحقيقة لأن الأنساب لا يعلمها إلا الله وخواص خلقه ولذلك قال كذب العادلون بالله، والمراد بهم هنا من ادعى علما مختصا بالله تعالى وبمن أوحاه إليه، وفيه تنبيه على أن أمثال هذا العلم ينبغي أخذه من أهله لا من أفواه الرجال وكتب السير فإن من أخذ منها فهو ضال إذ قد يلحق برجل من لا يلحق به.

قوله (افتنسبها أنت) أي فتعرف نسب عاد وثمود وأصحاب الرس وقرون بين ذلك؟ قيل:

أصحاب الرس هم الذين يبتدعون الكذب ويوقعونه في أفواه الرجال، وقيل: هم من رس بين القوم وأفسد، وقيل: هم قوم رسوا نبيهم أي رسوه في البئر حتى مات.

قوله (فقال لي قف أتدري ليس حيث تذهب) لما ارتفع نسبه إلى أب ونسبه إلى أبيه بحسب الظاهر وهو ليس بأبيه بحسب الواقع بل أبوه فلان الكردي أشار (عليه السلام) إلى قطع نسبه هناك والقدح به في النسب مع العلم بانقطاعه ليس بحرام بل قد يكون واجبا، وقد ذكر مثله في كتب العامة عن النبي (عليه السلام) قال مسلم: سأله حذاقة - وكان يطعن في نسبه - فقال من أبي؟ قال أبوك حذاقة. وقال آخر: من أبي؟ قال: أبوك فلان الراعي فنسبه إلى غيره فنزل قوله تعالى (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم).

قوله (ويحك) ويح كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجب وهي منصوبة على المصدر وقد ترفع وتضاف ولا تضاف ويقال: ويح ويحا له وويح له.

قوله (أتدري من فلان بن فلان) فلان بن فلان في المواضع الثلاثة كناية عن اسم الزاني واسم أبيه والراعي الكردي صفة لفلان الأول أو بدل عنه.

قوله (فنزل إلى فلانة امرأة فلان) وهو الذي انقطع عنه سلسلة آباء الكلبي شرعا.

قوله (فولدت فلانا) وهو آخر آبائه شرعا.

قوله (وفلان بن فلان من فلانة وفلان بن فلان) الظاهر أن هذا ابتداء كلام آخر لبيان قطع نسب آخر أو نسب الكلبي من جهة أخرى، وليس معطوفا على فلانا بقرينة قوله: من فلانة كما لا يخفى على المتأمل وفي هذا الكلام دلالة على أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون نسب كل شخص صحيحا وفاسدا إلى آدم (عليه السلام) وهذه الأسامي في قوله: أتعرف هذه الأسامي، إشارة إلى الخمسة الأخيرة أو إليها وإلى

ص:294

الامرأة المفعولة المذكورة أولا لا إلى جميع ما سبق كما لا يخفى على المتدبر.

قوله (أترى ههنا نجوم السماء قلت لا) هذا الجواب مجمل إذ يحتمل أن يكون المراد أنه يقع واحدة بقوله: أنت طالق ويلغو قوله: عدد نجوم السماء، ويحتمل أن لا يقع الطلاق أصلا ولابد في ترجيح أحدهما من أمر خارج.

قوله (قال ترد إلى كتاب الله وسنة نبيه) دل ظاهر بعض الروايات أن الطلاق ثلاثا في طهر; واحدة، وهو مذهب جماعة من أصحابنا مثل الشيخ والمرتضى في أحد قوليه وابن إدريس والمحقق لأن الواحدة حصلت بقوله: أنت طالق ولغى قوله ثلاثا، وذهب ابن أبي عقيل وابن حمزة والمرتضى (رضي الله عنه) في القول الآخر إلى بطلانه من رأس لصحيحة أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشيء والجواب أن الثلاث ليس بشيء وهو لا ينافي وقوع الواحدة وأن الثلاث في الحيض ليس بشيء ولا ينافي هذا أن الطلاق ثلاثا في الطهر واحدة وتحقيق الحق يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

قوله (ثم قال لا طلاق إلا على طهر) هذا بعض شرائط الطلاق إذ الطلاق في الحيض أو في الطهر مع الجماع أو في الطهر من غير جماع مع عدم عدلين باطل.

قوله (ثم قال إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شيء إلى شيئه) أفاد (عليه السلام) أن المسح وجب أن يكون على بشرة الرجلين وذلك لأن كل أحد يجيء يوم القيامة بعوارضه من الأعمال، والعرض المركب كالمسح إنما يتحقق جميع أجزائه لمن اتصف بذلك العرض، فلو مسح المكلف على جلد وصار الجلد معروضا لبعض أجزاء المسح ورد الله الجلد إلى أصله لم يكن المكلف معروضا للمسح فلا يعد ماسحا يوم القيامة ولا يخفى لطف هذا البيان فإن فيه إشارة إلى المطلب مع البرهان.

قوله (إن الله عز وجل مسخ طائفة من بني إسرائيل) المقصود أن أكل الجري حرام لأنه من المسوخات وفيه أيضا إشارة إلى المطلب وعلته مع الإشارة إلى التعميم في الحكم لشموله جميع المسوخات.

قوله (والوبر والورك) الوبر بالسكون دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء حجازية والأنثى وبرة وجمعها وبر ووبار، كذا في النهاية. وقال الجوهري: الوبرة بالتسكين دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها ترجن في البيوت وجمعها وبر ووبار، والورك - محركة - قيل: هي دويبة كالضب.

قوله (فنطرح فيه العكر) في المغرب: العكر - بفتحتين - دردي الزيت ودردي النبيذ في قوله وان صب العكر فليس بنبيذ حتى يتغير وفي الصحاح: العكر دردي الزيت وغيره وقد عكرت

ص:295

المسرجة بالكسر تعكر عكرا إذا اجتمع فيها الدردي، وعكر الشراب والماء والدهن آخره وخاثره، وقد عكر وشراب عكر. وأعكرته أنا وعكرته تعكيرا: جعلت فيه العكر.

قوله (فقال شه شه) قيل: هي كلمة ضجر واستقذار، ويحتمل أن يكون أمرا باتصاف المخاطب بالفتح من شاه يشوه إذا قبح.

قوله (في الشن) الشنان الأسقية الخلقة واحدها شن وشنة بفتح الشين وهي أشد تبريدا للماء من الجدد.

قوله (نعم أرطال بمكيال العراق) الرطل العراقي مائة وثلاثون درهما والرطل المدني مائة وخمسة وتسعون درهما، قدر رطل عراقي ونصف.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن هشام بن سالم قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده وذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة، فدخلنا عليه نسأله عما كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ فقال: في مائتين خمسة، فقلنا: ففي مائة؟ فقال: درهمان ونصف، فقلنا: والله ما تقول المرجئة هذا، قال: فرفع يده إلى السماء فقال:

والله ما أدري ما تقول المرجئة.

قال: فخرجنا من عنده ضلالا، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى أين نتوجه ولا من نقصد؟ ونقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج، فنحن كذلك إذ رأيت رجلا شيخا لا أعرفه، يومي إلي بيده فخفت أن يكون عينا من عيون أبي جعفر المنصور، وذلك أنة كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر (عليه السلام) عليه، فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم فقلت للأحول: تنح فإني خائف على نفسي وعليك وإنما يريدني لا يريدك فتنح عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه وقد عزمت على الموت حتى ورد بي على باب أبي الحسن (عليه السلام) ثم خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أدخل رحمك الله فدخلت فإذا أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال لي ابتداء منه: لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ولا إلى الزيدية ولا إلى المعتزلة ولا إلى الخوارج إلي إلي فقلت: جعلت فداك مضى أبوك؟ قال: نعم قلت: مضى موتا؟ قال. نعم، قلت: فمن لنا من

ص:296

بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك، قلت: جعلت فداك إن عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه. قال:

يريد عبد الله أن لا يعبد الله، قال: قلت جعلت فداك فمن لنا من بعده؟ قال: إن شاء الله أن يهديك هداك، قال: قلت: جعلت فداك فأنت هو؟ قال: لا، ما أقول ذلك، قال: فقلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك عليك إمام؟ قال: لا فداخلني شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل إعظاما له وهيبة أكثر مما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه.

ثم قلت له: جعلت فداك أسألك كما كنت أسأل أباك؟ فقال: سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح، فسألته فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلال فألقي إليهم وأدعوهم إليك وقد أخذت علي الكتمان قال: من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان فإن أذاعوا فهو الذبح - وأشار بيده إلى حلقه - قال: فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر الأحول فقال لي: ما وراءك، قلت: الهدى، فحدثته بالقصة، قال: ثم لقينا الفضيل وأبا بصير فدخلا عليه وسمعا كلامه وساءلاه وقطعا عليه بالإمامة، ثم لقينا الناس أفواجا فكل من دخل عليه قطع إلا طائفة عمار وأصحابه وبقي عبد الله لا يدخل إليه إلا قليل من الناس، فلما رأى ذلك قال: ما حال الناس؟ فأخبر أن هشاما صد عنك الناس، قال هشام: فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني.

* الشرح:

قوله «وصاحب الطاق» اسمه محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر الأحول يلقب بمؤمن الطاق وصاحب الطاق وشاه الطاق لكون دكانه في طاق المحامل في الكوفة، وكان المخالفون يسمونه شيطان الطاق، وكان ثقة كثير العلم وحسن الخاطر كذا ذكره العلامة، وقال صاحب القاموس: الطاق اسم حصن بطبرستان وكان يسكنه محمد بن النعمان شيطان الطاق، وهذا مخالف لما ذكره العلامة ولكن العلامة أعرف والوثوق بكلامه أتم.

قوله (وذلك أنهم رووا) في تعيين المشار إليه تأمل ولعله اجتماع الناس على عبد الله إلا أن أول هذا الحديث المروي وإن كان مقتضيا للاجتماع المذكور لكون عبد الله أكبر إلا أن آخره يقتضى عدم الاجتماع لأنه كان بعبد الله عاهة أنه كان أفطح الرجلين فكأنهم تمسكوا بأوله وتركوا آخره أو غفلوا عنه ويحتمل أن يكون المشار إليه دخول هشام وصاحب الطاق عليه مع تقييد الدخول بكونه على سبيل الإنكار عليه أو الامتحان له ليصح أن يكون ما بعد ذلك تعليلا له فليتأمل.

قوله (فخرجنا من عنده ضلالا) (1) بضم الضاد وتشديد اللام جمع ضال وهو الذي لم يهتد إلى

ص:297


1- (1) قوله «فخرجنا من عنده ضلالا» هذا الحديث يدل على أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحتجون بالمتواتر ويقدمونه على الآحاد أعني يحكمون ببطلان كل ما خالف المتواتر وذلك لأن نصاب الفضة مأتا درهم وهو متواتر من الأئمة (عليهم السلام) فلما خالف عبد الله حكموا ببطلان قوله وعدم كونه إماما، ولو كان نصاب الفضة مرويا بطريق الآحاد وخالفه من يدعي الإمامة، وكان يحتمل صحة قوله ودعواه لم يجعلوه دليلا على بطلان إمامة عبد الله وقد اتفق كثيرا أن سألوا الإمام عن مسألة رووا فيها قبل فأجابهم بخلافها وإن ما سمعوه باطل. (ش)

طريق المقصود.

قوله (حيارى) جمع حيران وهو الذي يتحير في أمره.

قوله (يريد عبد الله أن لا يعبد الله) لا يعبد يجوز أن يكون على صيغة المعلوم وأن يكون على صيغة المجهول قال بعض أصحاب الرجال: أن عبد الله كان أكبر إخوته بعد إسماعيل ولم يكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده في الإكرام وكان متهما بالخلاف على أبيه في الاعتقاد ويقال:

أنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذهب المرجئة وادعى بعد أبيه الإمامة احتج بأنه أكبر إخوته الباقين، فاتبعه جماعة، ثم رجع أكثرهم إلى القول بامامة أخيه موسى (عليه السلام) لما تبينوا ضعف دعواه وقوة أمر أبي الحسن ودلالة أحقيته وبراهين إمامته وأقام نفر يسير منهم على إمامة عبد الله وهم الملقبة بالفطحية.

قوله (قال لا ما أقول ذلك) أي قال: لست أنا هو من عندي، ما أقول ذلك من قبلي، بل أنا هو من عند الله وعند رسوله، ولما كان هذا الجواب غير صريح في المطلوب بل هو ظاهر في غيره، وكان السؤال على الوجه المذكور لم يلجأه (عليه السلام) إلى الجواب بالنفي والإثبات صريحا. قال السائل: فقلت في نفسي إلى آخره.

قوله (قال لا) هذا صريح في أنه (عليه السلام) إمام إذ المكلف وجب أن يكون إماما أو يكون له إمام فإذا انتفى الثاني ثبت الأول ولا ثالث.

قوله (سل تخبر) تخبر على صيغة المجهول وإنما حذف مفعول الفعلين للدلالة على أن كل ما يتعلق به السؤال كائنا ما كان يتعلق به الإخبار لكمال خبره به وعدم عجزه عنه.

قوله (ولا تذع) الإذاعة الإفشاء. نهى عن إفشائه إلى غير أهله ممن لا يثق به.

قوله (فإذا هو بحر لا ينزف) يقال للعالم الواسع العلم المتعمق فيه: بحر، وعدم النزف عبارة عن كثرته وعدم انتهائه، وفيه مكنية وتخييليه.

قوله (ثم لقينا الفضيل وأبا بصير) قال بعض الأصحاب أراد بهما الفضيل بن عثمان الأعور المرادي وأبا بصير ليث المرادي.

قوله (إلا طائفة عمار) هو عمار بن موسى الساباطي وهو وأصحابه فطحية.

ص:298

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد، عن محمد بن فلان الواقفي قال: كان لي ابن عم يقال له: الحسن بن عبد الله، كان زاهدا وكان من أعبد أهل زمانه وكان يتقيه السلطان لجده في الدين واجتهاده وربما استقبل السلطان بكلام صعب، يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وكان السلطان يحتمله لصلاحه، ولم تزل هذه حالته حتى كان يوم من الأيام إذ دخل عليه أبو الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المسجد فرآه فأومأ إليه فأتاه فقال له: يا أبا علي ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني إلا أنه ليست لك معرفة، فاطلب المعرفة، قال: جعلت فداك وما المعرفة؟ قال: اذهب فتفقه واطلب الحديث، قال: عمن؟ قال: عن فقهاه أهل المدينة، ثم أعرض علي الحديث.

قال: فذهب فكتب ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كله ثم قال له: اذهب فاعرف المعرفة، وكان الرجل معنيا بدينه فلم يزل يترصد أبا الحسن (عليه السلام) حتى خرج إلى ضيعة له، فلقيه في الطريق فقال له: جعلت فداك إني أحتج عليك بين يدي الله فدلني على المعرفة قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) وما كان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بأمر الرجلين فقبل منه، ثم قال له فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: الحسن (عليه السلام) ثم الحسين (عليه السلام) حتى انتهى إلى نفسه ثم سكت، قال: فقال له:

جعلت فداك فمن هو اليوم؟ قال: إن أخبرتك تقبل؟ قال: بلى جعلت فداك؟ قال: أنا هو، قال: فشئ أستدل به، قال: إذهب إلى تلك الشجرة - وأشار [بيده] إلى أم غيلان - فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر أقبلي، قال: فأتيتها فرأيتها والله تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت، قال: فأقر به، ثم لزم الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك.

محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن هاشم، مثله.

* الشرح:

قوله (وكان يتقيه السلطان) (1) المراد بتقية السلطان منه تركه خلاف الشرع بحضرته خوفا من هتكه، أو رعاية لحرمته.

قوله (وكان الرجل معنيا بدينه) يقال عنيت بديني بضم أوله أعني به عناية فأنا به معنى وعنيت به بفتح أوله فأنا به عان والأول أكثر أي اهتممت به واشتغلت به.

قوله (يترصد أبا الحسن (عليه السلام)) أي يقعد له في طريقه يترقبه وينتظر لقاءه.

ص:299


1- (1) قوله «وكان يتقيه السلطان» يعني حاكم المدينة وملأه (ش).

قوله (وأشار [بيده] إلى ام غيلان) هو شجر السمر من شجر الطلح.

قوله (فقل لها يقول لك موسى بن جعفر أقبلي) النداء للشجرة مع أن الخطاب في عرف العقلاء لمن يعقل باعتبار أنه (عليه السلام) لما علم اعدادها لما يروم منها واستعدادها لقبول أمر الله بما أراد منها أمر بخطابها خطاب من يعقل استعارة ملاحظة شبهها بمن يعقل في إجابة دعاء رسوله وإتيانه، وإنما لم يدعها في نفسه ولم يخاطبها بنفسه. بل أمر غيره بالخطاب لأنه بقبول المخاطب الطالب لدليل أنسب، وإلى إقراره وإذعاته بحق الإمام أقرب ووجود ما رام منها عقيب الخطاب اغرب، واستقرار الإعجاز في نفس الحاضر أبلغ وأعجب لتوجه ذهنه إلى أنها سمعت ذلك النداء وعقلت ذلك الخطاب مع أنها ليست من شأنها ذلك، وهذه دلالة أخرى غير حركتها وانتقالها من مكانها. ثم الظاهر أن الله تعالى خلق فيها الحياة وما يكون مشروطا بها من السمع والفهم حتى أدركت بذلك الخطاب وفهمته وهذا أحسن مما قيل من أن الخطاب في الأصل لله تعالى فإنه قال: اللهم إن هذه الشجرة أثر من آثارك الدليل على وجودك. اللهم أن جعلت فلانا إماما فاجعل ما سألت منها صادقا على صدق دعواه ولما كانت الشجرة محل ما سأل من الله خاطبها لذلك فعلى هذا يكون مجازا من باب إقامة السبب مقام المسبب. ومما قيل من أن الخطاب في الأصل للملائكة المقربين بالشجرة لأن فيما ذكرنا غنته عن هذه التكلفات.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن أحمد بن الحسين، عن محمد بن الطيب، عن عبد الوهاب بن منصور، عن محمد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن أكثم - قاضي سامراء بعدما جهدت به وناظرته وحاورته وواصلته وسألته عن علوم آل محمد - فقال: بينا أنا ذات يوم دخلت أطوف بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرأيت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يطوف به، فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إلي، فقلت له: والله إني أريد أن أسألك مسألة وإني والله لأستحيي من ذلك، فقال لي: أنا أخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الإمام، فقلت: هو والله هذا، فقال: أنا هو، فقلت: علامة! فكان في يده عصا فنطقت، وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة.

* الشرح:

قوله (قال سمعت يحيى بن أكثم) بالثاء المثلثة وكان ليحيى مناظرات مع محمد بن علي (عليهما السلام) في صغر سنه، وكان (عليه السلام) يغلبه في جميع ذلك ويظهر عليه وجوها من العلم، وهذا الحديث يدل

ص:300

على أنه كان مؤمنا بآل محمد (صلى الله عليه وآله) سرا.

قوله (قاضي سامراء) قد ذكرنا أنه بفتح الميم وتشديد الراء مع القصر، وبكسر الميم وتخفيف الراء مع المد.

قوله (بعدما جهدت به) الباء بمعنى مع والضمير راجع إلى يحيى يقال: جهد الرجل في الشيء إذا بذل الوسع والطاقة فيه وبالغ تفتيشه، يعني بعدما بلغت معه في الأمور الدينية والعلوم الشرعية وبذلت الوسع بحثها، ومنه الاجتهاد وهو افتعال من الجهد والطاقة يعني بذل الوسع في طلب الأمر ورد القضية التي ترد على الحاكم إلى الكتاب والسنة، لا على رأيه واستحساناته العقلية فإنه مذموم عندنا.

قوله (فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إلي) أراد بالمسائل المسائل المشكلة التي لا يهتدي هو إلى وجهها وحلها وبإخراجه (عليه السلام) إياها بيانها بجواب شاف كاف رافع لحجاب الشبهة عنها ويبعد أن يراد بالمسائل المسائل المعلومة له ويحمل السؤال على الامتحان لأن قوله:

فأخرجها إلي ينافيه بعض التنافي.

قوله (فقلت علامة) علامة بالنصب على إضمار فعل، أي هات علامة أو اطلب علامة تدل على ما ادعيت وإنما طلب علامة ظاهرة بعدما وجد علامة باطنة، وهي كمال العقل والعلم في صغر سنه ليتأكد المدعى ويطمئن القلب، وقد يجعل على حرف جر وما للاستفهام باسقاط الألف وإلحاق الهاء للوقف وهو بعيد مع أن رسم الخط لا يلائمه. (1)

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد أو غيره، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن عمر ابن يزيد قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) وأنا يومئذ واقف وقد كان أبي سأل أباه عن سبع مسائل فأجابه في ست وأمسك عن السابعة، فقلت: والله لأسألنه عما سأل أبي أباه، فإن أجاب بمثل جواب أبيه كانت دلالة، فسألته فأجاب بمثل جواب أبيه أبي في المسائل الست، فلم يزد في الجواب واوا ولا ياء وأمسك عن السابعة، وقد كان أبي قال لأبيه: إني أحتج عليك عند الله يوم القيامة، أنك زعمت أن عبد الله لم يكن إماما، فوضع يده على عنقه، ثم قال له: نعم احتج علي بذلك عند الله عز وجل، فما كان فيه من إثم فهو في رقبتي.

فلما ودعته قال: إنه ليس أحد من شعيتنا يبتلى ببلية أو يشتكي فيصبر على ذلك إلا كتب الله له

ص:301


1- (1) هذا الحديث يدل على جواز الطواف حول قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا مانع من تجويزه بالنسبة إلى سائر الأئمة (عليهم السلام) ولا يتوهم فيه التشبه بالمشركين وعبادة القبور. (ش)

أجر ألف شهيد، فقلت في نفسي: والله ما كان لهذا ذكر، فلما مضيت وكنت في بعض الطريق، خرج بي عرق المديني فلقيت منه شدة. فلما كان من قابل حججت فدخلت عليه وقد بقي من وجعي بقية، فشكوت إليه وقلت له: جعلت فداك عوذ رجلي - وبسطتها بين يديه -، فقال لي: ليس على رجلك هذه بأس ولكن أرني رجلك الصحيحة، فبسطتها بين يديه فعوذها فلما خرجت لم ألبث إلا يسيرا حتى خرج بي العرق وكان وجعه يسيرا.

* الشرح:

قوله (الحسين بن عمر بن زيد) قال بعض أصحاب الرجال: هو من أصحاب أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ثقة، وفي الكشي ما يدل على عدم وقفه.

قوله (كانت دلالة) أي كانت تلك المسائل دلالة على ما يدعيه من الإمامة والحمل للمبالغة أو المصدر بمعنى الفاعل.

قوله (خرج بي عرق المديني) قيل: هو شيء يخرج في الرجل (1) ينمو مثل الشعر إذا قطع يشد رأسه لئلا يدخل وإن قطع من داخل بعد الخلاص منه.

* الأصل:

11 - أحمد بن مهران، عن محمد بن علي، عن ابن قياما الواسطي - وكان من الواقفة - قال:

دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: يكون إمامان؟ قال: لا إلا وأحدهما صامت، فقلت له: هو ذا أنت ليس لك صامت - ولم يكن ولد له أبو جعفر بعد - فقال لي: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر (عليه السلام)، فقيل لابن قياما: ألا تقنعك هذه الآية؟ فقال: أما والله إنها لآية عظيمة ولكن كيف أصنع بما قال أبو عبد الله (عليه السلام) في ابنه؟

* الشرح:

قوله (فقلت له يكون إمامان قال: لا. إلا وأحدهما صامت فقلت له: هو ذا أنت ليس لك صامت) فيه تأمل إذ تفريع قوله: فقلت له: هو ذا أنت - إلى آخره - على جوابه (عليه السلام) ليس بصحيح لأنه لم يدع أن الإمام وجب أن يكون له صامت في جميع أيام إمامته، ولا أن كل إمام وجب أن يكون معه إمام صامت حتى يتوجه عليه ما ذكر، بل أفاد أنه إذا اجتمع إمامان وجب أن يكون

ص:302


1- (1) قوله «قيل هو شيء يخرج في الرجل» أقول: هو مرض معروف في الطب يقال له بالفارسية: رشته، وقال السعدي: يكى را حكايت كنند از ملوك * كه بيمارى رشته كردش چو دوك

أحدهما صامتا، ولا يتوجه عليه حينئذ ذلك ولو حمل قول السائل: هو ذا أنت على لزوم وجود إمامين من غير صموت أحدهما، أحدهما هو (عليه السلام) والآخر أبوه بناء على اعتقاد السائل لكونه واقفيا قائلا بأن أباه حي موجود وغرضه من ذلك رد إمامته (عليه السلام) ولو حمل قوله: ليس لك صامت على الرد عليه بوجه آخر وهو أن الإمام غير القائم (عليه السلام) لابد أن يكون له ولد صامت وليس لك ولد صح التفريع إلا أن سياق الكلام يأباه لظهور أن قوله: ليس لك صامت، تفسير وتأكيد لقوله: هو ذا أنت، مع لزوم خلو الرد الأول عن الجواب.

قوله (ولكن كيف أصنع بما قال أبو عبد الله في ابنه) قال الفاضل الأسترآبادي: كأنه إشارة إلى ما ذكره الكشي في ترجمة يحيى بن القاسم أبي بصير حيث قال: قال محمد بن عمران: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: منا ثمانية محدثون سابعهم القائم فقام أبو بصير وقبل رأسه وقال: سمعت أبا جعفر منذ أربعين سنة أقول: هذا الحديث من الموضوعات التي وضعتها الواقفية لغرض من الاغراض النفسانية، وأمر من الأمور الدنيوية، ولو صح لامكن وروده في شأن الباقر إلى آخر الأئمة (عليهم السلام)، وسابعهم القائم، وكلهم محدثون مروجون للأحاديث النبوية والأحكام الشرعية بخلاف الأئمة قبلهم ولو حمل على ما ذهبوا إليه وجب التكلف في الثمانية بعد الرسول أو فاطمة (عليهما السلام) منهم وإلا لزمهم القول بأن القائم هو الرضا (عليه السلام) وهم لم يقولوا به.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: أتيت خراسان - وأنا واقف - فحملت معي متاعا وكان معي ثوب وشي في بعض الرزم ولم أشعر به ولم أعرف مكانه، فلما قدمت مرو ونزلت في بعض منازلها لم أشعر إلا ورجل مدني من بعض مولديها، فقال لي: إن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول لك: ابعث إلي الثوب الوشي الذي عندك، قال: فقلت: ومن أخبر أبا الحسن بقدومي وأنا قدمت آنفا وما عندي ثوب وشي؟! فرجع إليه وعاد إلي، فقال: يقول لك:

بلى هو في موضع كذا وكذا ورزمته كذا وكذا، فطلبته حيث قال، فوجدته في أسفل الرزمة، فبعثت به إليه.

* الشرح:

قوله (عن الوشاء قال أتيت خراسان وأنا واقف) الحسن بن علي بن زياد الوشاء، كوفي وكان من وجوه هذه الطائفة وعينا من عيونها. إلا أنه كان واقفيا ثم رجع لظاهر هذا الحديث، ولما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن صالح بن أبي حماد عن الحسن بن علي الوشاء قال: كنت قبل أن أقطع على الرضا (عليه السلام) جمعت ما روي عن آبائه (عليهم السلام) وغير ذلك مسائل

ص:303

كثيرة في كتاب وأحببت أن أثبت في أمره واختبره وحملت الكتاب في كمي وصرت إلى منزله أريد منه خلوة أناوله الكتاب، فجلست ناحية متفكرا في الاحتيال للدخول فإذا بغلام قد خرج من الدار في يده كتاب فنادى: أيكم الحسن بن علي الوشاء؟ فقمت إليه وقلت: أنا، قال: فهاك خذ الكتاب فأخذته وتنحيت ناحية فقرأته فإذا والله جواب مسألة مسألة فعند ذلك قطعت عليه وتركت الوقف.

ولما رواه الشيخ في التهذيب في آخر باب الخمس عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الحافظ الهمداني عن أبي جعفر بن محمد بن المفضل بن إبراهيم الأشعري قال: حدثنا الحسن بن علي بن زياد وهو ابن بنت إلياس وكان وقف ثم رجع فقطع... إلى آخره، وذكر وقفه يحتمل أن يكون من الشيخ وأن يكون من الراوي، ومن الأصحاب من أنكر أصل وقفه وقدح في الروايات الدالة عليه بضعف السند والله أعلم.

قوله (وكان معي ثوب وشي) الوشي خلط لون بلون ومنه وشى الثوب يشيه وشيا إذا رقمه ونقشه والوشي نوع من الثياب الموشية تسمية بالمصدر يقال: فلان يلبس الوشي.

قوله (في بعض الرزم) الرزم جمع رزمة بالكسر وهي الثياب المجموعة وغيرها، والفتح لغة.

كذا في المغرب. وفي الصحاح: رزمت الشيء جمعته، والرزمة الكارة من الثياب، وقد رزمتها ترزيما إذا شددتها رزما، والكارة ما يحمل على الظهر من الثياب، وتكوير المتاع جمعه وشده.

* الأصل:

13 - ابن فضال، عن عبد الله بن المغيرة قال: كنت واقفا وحججت على تلك الحال فلما صرت بمكة خلج في صدري شيء، فتعلقت بالملتزم ثم قلت: اللهم قد علمت طلبتي وإرادتي فأرشدني إلى خير الأديان، فوقع في نفسي أن آتي الرضا (عليه السلام)، فأتيت المدينة فوقفت ببابه وقلت للغلام: قل لمولاك: رجل من أهل العراق بالباب، قال: فسمعت نداءه وهو يقول أدخل يا عبد الله بن المغيرة أدخل يا عبد الله بن المغيرة، فدخلت فلما نظر إلي قال لي: قد أجاب الله دعاءك وهداك لدينه فقلت: أشهد أنك حجة الله وأمينه على خلقه.

* الأصل:

14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال: كان عبد الله بن هليل يقول بعبد الله فصار إلى العسكر فرجع عن ذلك، فسألته عن سبب رجوعه فقال: إني عرضت لأبي الحسن (عليه السلام) أن أسأله عن ذلك فوافقني في طريق ضيق، فمال نحوي حتى إذا حاذاني، أقبل نحوي بشيء من فيه، فوقع على صدري فأخذته فإذا هو رق فيه مكتوب: ما كان

ص:304

هنالك، ولا كذلك.

* الشرح:

قوله (كان عبد الله بن هليل) ضبط بضم الهاء وشد اللام.

قوله (يقول بعبد الله) أي يقول بإمامة عبد الله الأفطح.

قوله (عرضت لأبي الحسن (عليه السلام) أن أسأله عن ذلك) أي أظهرت له أن أسأله عن أمر عبد الله وإمامته، يقال: عرضت له الشيء أي أظهرته وأبرزته، ويجوز أن يكون: عرضت بمعنى تعرضت، يقال: تعرضت له أي تصديت.

قوله (فوافقني) أي صادفني، والموافقة: المصادفة، تقول: وافقته إذا صادفته.

قوله (فإذا هو رق فيه مكتوب ما كان هنالك ولا كذلك) الرق بالفتح: جلد رقيق يكتب فيه وهنا للتقريب إذا أشرت إلى مكان، وهناك وهنالك للتبعيد، واللام زائدة، والكاف للخطاب، وفيها دليل على البعيد، تفتح للمذكر وتكسر للمؤنث، ولعل المراد أنه ما كان في ساحة عبد الله ومرتبته شيء من أمر الإمامة ولا ينبغي أن يكون فيه شيء من ذلك. ثم الآية هنا أما خروج مكتوب من فيه (عليه السلام) أو هو مع علمه بما في ضمير عبد الله من قصد السؤال عنه (1) والتصدي له.

* الأصل:

15 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا ذكر اسمه قال: حدثنا محمد بن إبراهيم قال: أخبرنا موسى بن محمد بن إسماعيل بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب قال: حدثني جعفر بن زيد بن موسى، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قالوا: جاءت أم أسلم يوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في منزل أم سلمة، فسألتها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: خرج في بعض الحوائج والساعة يجيء; فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء (صلى الله عليه وآله) فقالت أم أسلم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني قد قرأت الكتب وعلمت كل نبي ووصي، فموسى كان له وصي في حياته ووصي بعد موته وكذلك عيسى، فمن وصيك يا رسول الله؟ فقال لها: يا أم أسلم وصيي في حياتي وبعد مماتي واحد ثم قال لها: يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي، ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق، ثم عجنها، ثم طبعها بخاتمه، ثم قال: من فعل فعلي هذا فهو وصيي في حياتي وبعد مماتي، فخرجت من عنده، فأتيت أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقلت: بأبي أنت وأمي أنت وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم يا أم أسلم ثم ضرب بيده إلى حصاة ففركها فجعلها كهيئة الدقيق، ثم عجنها وختمها بخاتمه، ثم قال: يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي فأتيت الحسن (عليه السلام) وهو غلام

ص:305


1- (1) قوله «قصد السؤال عنه» وكأنه المتعين في بيان الإعجاز، واعلم أن أم أسلم في الحديث التالي يشبه حكايتها حكاية الحبابة الوالبية، فكأنها هي إلا أنها ذكرت بالكنية. (ش)

فقلت له: يا سيدي! أنت وصي أبيك؟ فقال: نعم يا أم أسلم، وضرب بيده وأخذ حصاة ففعل بها كفعلهما، فخرجت من عنده فاتيت الحسين (عليه السلام) - وإني لمستصغرة لسنه - فقلت له: بأبي أنت وأمي، أنت وصي أخيك؟ فقال: نعم يا أم أسلم أيتيني بحصاة، ثم فعل كفعلهم، فعمرت أم أسلم حتى لحقت بعلي بن الحسين بعد قتل الحسين (عليه السلام) في منصرفه، فسألته أنت وصي أبيك؟ فقال: نعم ثم فعل كفعلهم صلوات الله عليهم أجمعين.

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن الجارود، عن موسى بن بكر بن دأب، عمن حدثه، عن أبي جعفر (عليه السلام): أن زيد بن علي بن الحسين دخل على أبي جعفر محمد بن علي (عليهم السلام) ومعه كتب من أهل الكوفة يدعونه فيها إلى أنفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم إليه؟ فقال: بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما يجدون في كتاب الله عز وجل من وجوب مودتنا وفرض طاعتنا ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء، فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن الطاعة مفروضة من الله عز وجل وسنة أمضاها في الأولين وكذلك يجريها في الآخرين والطاعة لواحد منا والمودة للجميع وأمر الله يجري لأوليائه بحكم موصول، وقضاء مفصول وحتم مقضي وقدر مقدور، واجل مسمى لوقت معلوم، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، فلا تعجل، فإن الله لا يعجل لعجلة العباد ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك، قال: فغضب زيد عند ذلك، ثم قال: ليس الإمام منا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبط عن الجهاد ولكن الإمام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده ودفع عن رعيته وذب عن حريمه.

قال أبو جعفر (عليه السلام): هل تعرف يا أخي من نفسك شيئا مما نسبتها إليه فتجيء عليه بشاهد من كتاب الله أو حجة من رسول الله (عليه السلام) أو تضرب به مثلا؟ فإن الله عز وجل أحل حلالا وحرم حراما وفرض فرائض وضرب أمثالا وسن سننا ولم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة فيما فرض له من الطاعة أن يسبقه بأمر قبل محله أو يجاهد فيه قبل حلوله، وقد قال الله عز وجل في الصيد: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) أفقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرم الله؟ وجعل لكل شيء محلا وقال الله عز وجل: (وإذا حللتم فاصطادوا) وقال عز وجل: (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) فجعل الشهور عدة معلومة، فجعل منها أربعة حرما وقال: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) ثم قال تبارك وتعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين

ص:306

حيث وجدتموهم) فجعل لذلك محلا، وقال: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) فجعل لكل شيء أجلا ولكل أجل كتابا.

فإن كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك، فشأنك، وإلا فلا ترومن أمرا أنت منه في شك وشبهة ولا تتعاط زوال ملك لم تنقض أكله ولم ينقطع مداه ولم يبلغ الكتاب أجله، فلو قد بلغ مداه وانقطع أكله وبلغ الكتاب أجله لا نقطع الفصل وتتابع النظام ولأعقب الله في التابع والمتبوع الذل والصغار، أعوذ بالله من إمام ضل عن وقته، فكان التابع فيه أعلم من المتبوع، أتريد يا أخي أن تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات الله وعصوا رسوله واتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله وادعوا الخلافة بلا برهان من الله ولا عهد من رسوله؟! أعيذك بالله يا أخي أن تكون غدا المصلوب بالكناسة، ثم أرفضت عيناه وسالت دموعه، ثم قال: الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرنا ونسبنا إلى غير جدنا وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا.

* الشرح:

قوله (ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء) (1) هذة الثلاثة متقاربة المفهوم والصدق ويمكن تخصيص الأول بضيق القلب والثاني بضيق المعاش وقلة أسبابه والثالث بالمكاره من الأعداء.

قوله (إن الطاعة مفروضة من الله عز وجل) أراد بالطاعة طاعة الله وطاعة الرسول والوصي، وأشار بذلك إلى أنه تعالى أوجبها على الأولين والآخرين ثم أشار إلى الفرق بينها وبين المودة بقوله: والطاعة لواحد منا والمودة للجميع. أما الأول فلقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله

ص:307


1- (1) قوله «من الضيق والضنك والبلاء» هذا الحديث في المكالمة بين الباقر (عليه السلام) وأخيه زيد ومنعه من الخروج، واعلم أن المتواتر من طريقة أئمتنا (عليهم السلام) وأصحابهم في زمانهم وعلمائنا بعد الغيبة الصغرى عدم المعاملة مع أئمة الزيدية معاملة الكفار وإن ادعوا الإمامة لأنفسهم وانكروا الإمام الحق وليس من يدعي الإمامة لنفسه كافرا ولا من انكر إمامة أئمتنا (عليهم السلام) كجميع أهل السنة وكذلك لم يعاملوا مع الواقفية المنكرة لامامة الرضا (عليه السلام) والناوسية الواقفين على الصادق (عليه السلام) أيضا معاملة الكفار، بل ترحم الأئمة (عليهم السلام) على زيد وإن خالف امرهم وخرج، وكذلك على ابنه يحيى بن زيد وبعضهم (عليهم السلام) بكوا على قتلهما وأمثالهما، وهذا كله معلوم بالضرورة والتواتر وإنما يبقى الكلام في مدح زيد وذمه بعد الفراغ عن إجماع المسلمين على عدم كفره، ونقل بعض أهل عصرنا عن العلامة المجلسي (رضي الله عنه) أنه حكم بذم زيد بل بكفره لإنكاره إمامة إمام الحق وساحة المجلسي (رضي الله عنه) بريئة عن هذه النسبة، بل صرح في مرآة العقول في شرح هذا الحديث بخلافها، قال: والأنسب حسن الظن به وعدم القدح فيه، بل عدم التعرض لأمثاله من أولاد الأئمة (عليهم السلام) إلا من ثبت الحكم بكفرهم والتبري منهم. انتهى، وقد سبق منا في المجلد الخامس في الصفحة 131 شيء يتعلق بدفع الطعن عنه. (ش)

وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) وولي الأمر ليس إلا واحدا باتفاق الأمة، فالطاعة واجبة لواحد، وأما الثاني فقوله تعالى (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فالمودة لكل من يتقرب به (صلى الله عليه وآله) إلا من أخرجه الدليل، والغرض منه هو الرد على زيد حيث صرح بأنه تعالى أوجب طاعته كما أوجب مودته، وأعلم أن الروايات في مدح زيد وذمه مختلفة وروايات المدح أكثر مع أن روايات الذم لا تخلو من علة.

قوله (وأمر الله يجري لأوليائه بحكم موصول وقضاء مفصول وحتم مقضي وقدر مقدور وأجل مسمى لوقت معلوم) إذا قدر وقوع أمر في وقت معين كان هناك ثلاثة أشياء: الوقت المعين المعلوم وتقدير ذلك الأمر والأجل وهو المدة المسماة المعلومة من حين التقدير إلى ذلك الوقت المعين ثم لابد بعد ذلك من حتم ذلك الأمر أي يصير محتوما به ويتعلق القضاء بحتمه ولابد أيضا في وقوعه في ذلك الوقت المعين من انقضائه به وهو الحكم عليه بوجوده فيه، وأصل القضاء القطع والفصل والقضاء المفصول القضاء المحكم المبرم ولابد من الحكم بإتمامه وإنفاذه وهذا الحكم هو المتصل بوجود ذلك الشيء في ذلك الوقت من غير انفصال بينهما ولذلك وصفه بالموصول فهذه ستة أمور لابد منها في وجود كل أمر من الأمور، وقد مر في باب البداء ما يعين في هذا المقام والمقصود منه هو التنبيه على أن ظهور هذا الدين ودفع الظالمين وقمع المعاندين منوط بوقت معين لا ينفع القيام به قبله ولا ينبغي لأحد غير من يأتيه أمر الله تعالى بذلك من أوليائه، وفيه نصيحة لزيد بأنه ليس هو أهله ولا هذا الزمان وقته.

قوله (فلا يستخفنك الذين لا يوقنون) أي لا يحملوكم على الخفة وهي العجلة والحركة والسرعة في الأمر، والمقصود نفي زيد عن قبول ذلك منهم، وفي قوله: لا يوقنون إشارة إلى عدم وفائهم بالعهد لأنه فرع اليقين وهو منتف عنهم.

قوله (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) يعني أنهم لن يكفوا ولن يصرفوا عنك من الله شيئا أراد بك، وقد فسر الاغناء بالكف والصرف في قوله تعالى: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) وفي قوله تعالى (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) ومنه يقال: اغن عني شرك أي أصرفه وكفه، وفيه تصريح بأنهم لا ينفعونه فيما أراد وحث له على قطع الطمع منهم لعلمه (عليه السلام) بسوء صنائعهم وقبح أعمالهم وعدم نفع الاستعانة بهم.

قوله (فلا تعجل فإن الله لا يعجل لعجلة العباد) لأن الله تعالى إذا علق أمرا بوقت وقدر وقوعه فيه لمصلحة; لا ينفع تعجيل العباد فيه وطلبهم له في غيره، ولا يصرفونه تعالى عما أراد لتكون إرادته تعالى ذلك حتمية فلا يجري فيه التقديم والتأخير.

ص:308

قوله (ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك) أي لا تجعل إرادتك سابقة على إرادة الله فإنك إن فعلت ذلك تعجزك البلية والمكاره من الأعداء فتهلك. فانظر رحمك الله كيف فتح له (عليه السلام) جميع أبواب النصح أولها الطاعة لواحد منا للتنبيه على أنه ليس ممن يجب له الطاعة، وثانيها أن لهذا الأمر وظهوره وقتا معينا يأتي فيه أمر الله إلى أوليائه لا يتقدم ولا يتأخر، وثالثها أن القوم الذين استنهضوه غير موقنين بالله وباليوم الآخر ولا موفين بما وعدوا ولا ثابتين عند ظهور نار الحرب، ورابعها أنهم لا يصرفون عنه ما أراد الله، وخامسها أنهم على تقدير سعتهم وبذل وسعهم لا ينفعونه لأن الله لا يعجل لعجلة العباد، وسادسها أنه ان فعل ذلك كان عاقبته الهلاك فإن قلت: قد فعل الحسين (عليه السلام) مع علمه بجميع ذلك؟ قلت: فعله بأمر الله تعالى كما دلت عليه النصوص المعتبرة ولعل السر في أمر الله تعالى له بذلك أن لا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، وفيه أسرار اخر.

قوله (ليس الإمام منا من جلس في بيته وأرخى ستره) الجلوس في البيت كناية عن عدم الخروج وادعاء الإمامة، وإرخاء الستر كناية عن منع الناس من الدخول والمعاشرة.

قوله (وثبط عن الجهاد) ثبط بفتح الفاء وكسر العين كما هو المضبوط في الفائق بمعنى ثقل وبطؤ، شغل عن المراد، يقال: هو ثبط أي ثقيل بطيء وثبطه عن الأمر تثبيطا شغله عنه وغرضه نفي الإمامة عنه (عليه السلام) لجلوسه في بيته وإرخاء ستره عليه، وتركه للجهاد، والحق أنه تكلم بلا معرفة لأن الإمام يجب أن يعمل بما أمر الله به ويترك ما نهاه عنه، والجلوس في البيت وإرخاء الستر وترك الجهاد مما أمر الله تعالى به في حال التقية، ولأنه يلزم عليه أن لا يكون أبوه سيد العابدين، وجده علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في أيام الخلفاء الثلاثة إمامين وهو لم يقل به.

قوله (ولكن الإمام منا من منع حوزته) أي جمعه أو ناحيته وحدوده، قال في النهاية: الحوز الجمع، وحوزة الإسلام حدوده ونواحيه، وفلان مانع لحوزته أي لما في حيزه، والحوزة فعلة منه سميت بها الناحية.

قوله (ودفع عن رعيته) أي دفع الظلم والجور عن رعيته.

قوله (وذب عن حريمه) حريم الرجل ما وجب عليه حفظه، والمنع من انتهاكه ومنه دينه.

قوله (قال أبو جعفر هل تعرف يا أخي من نفسك شيئا مما نسبتها إليه - إلى آخر الحديث -) لما وقع زيد في شبهة من وجهين: أحدهما أنه الإمام لظنه أنه المتصف بالأمور المذكورة وهي منع الحوزة وما عطف عليه، وثانيهما أن من لم يتصف بها فهو ليس بإمام أجاب (عليه السلام) عن الأول بأنه إن كانت لك بينة من الكتاب والسنة والأمثال المذكورة فيهما دالة على ما تدعيه فقولك صادق وإلا فهو باطل لأن كل قول لا يوافق السنة والقرآن فهو موصوف بالبطلان، والإمام لا يخفى عليه

ص:309

شيء فيهما، وعن الثاني بأن الله تعالى جعل لكل شيء وقتا وجرت حكمته على ذلك كما قيل: إنما الأمور مرهونة بأوقاتها، فعدم إقدام الإمام على ما هو مرهون بوقت قبله لا يدل على نفي إمامته بل يدل على كمال علمه.

قوله (أو تضرب به مثلا) يدل على وجود إمام بلا شاهد، وهو عطف على تجيء والمراد به الدليل الخطابي وبالمعطوف عليه البرهان والغرض أنه لا وجه لما يدعيه أصلا لا برهان ولا مثل وهو في الأصل النظير وفي العرف القول السائر الممثل فيضربه بمورده.

قوله (فإن الله عز وجل أحل حلالا) تعليل لما تقدم والمقصود أن الله تعالى ذكر الأشياء كلها حدودها وأوقاتها وحرامها وحلالها وأمثالها في الكتاب وجعل الإمام عالما بها ولم يجعله في شبهة في شيء منها وجعل الإنسان على نفسه بصيرة فإن كنت عالما بها وبأنك إمام وبأنه يجب عليك الخروج في هذا الزمان فافعل وان كنت عالما بعدم وجود هذه الأمور فيك أو كنت في شك منها وهو كذلك، فلا تفعل واحفظ نفسك كيلا تكون مصلوبا بالكناسة وهذا في غاية النصح والإنصاف وكمال القرب إلى القبول ولكن لم ينفعه ذلك.

قوله (وقد قال الله عز وجل في الصيد) أشار (عليه السلام) بذلك إلى أمثلة جزئية لافعال مخصوصة موقتة بوقت لا يجوز الاقدام عليها قبله ليدفع بذلك ما توهمه من أنه يجوز الإقدام على ما قصده في كل وقت وإن لم يقدم عليه ليس بإمام ولينبهه على أن أحكام الله تعالى مختلفة بحسب الأوقات والمصالح فربما يجب علينا القعود وربما يجب علينا النهوض انقيادا لأمره عز وجل.

قوله (أفقتل الصيد أعظم أم قتل النفس) يعني كما أن قتل الصيد حرام في وقت وحلال في وقت آخر، كذلك قتل النفس فقد جعل الله تعالى لكل من حرمة القتل وحله وقتا محدودا لا يجوز التجاوز عنه فكيف يجوز ذلك للإمام وهو ينبغي أن يكون أعرف بأحكام الله تعالى وأشد امتثالا بها.

قوله (وإذا حللتم فاصطادوا) الأمر بالاصطياد للإباحة لأنها بالأصل في الأمر بعد التحريم إلى أن يثبت بالدليل أنه للوجوب أو للندب.

قوله (وقال عز وجل: (لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام)) شعائر الحج آثاره وعلاماته جمع شعيرة وهي الآثار والعلامة، وقيل: هي كل ما كان من أعماله كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك وقيل: هي المعالم التي ندب الله تعالى إليها وأمر بالقيام عليها والشهور الحرام أربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم سميت بذلك لحرمة القتال فيها أي لا تحلوا شعائر الله بالترك وعدم الاحترام ولا الشهر الحرام بالقتال أو النسيء فجعل الشهور عدة معلومة وهي اثنى

ص:310

عشر شهرا فجعل من تلك الشهور أربعة حراما فهذه أجزاء من الزمان وقد أوجب أفعال الحج في بعضها دون بعض، وأوجب القتال في بعضها وحرمه في بعضها، فعلم من ذلك أن القتال والجهاد مع الأعداء لا يجوز في كل وقت فضلا عن أن يجب.

قوله (غير معجزي الله) فإنه يدرككم أينما تفرون منه ولا تفوتونه وإن أمهلكم.

قوله (فجعل لذلك محلا) أي جعل للقتال مع المشركين محلا فكذا جعل لظهور الإمام وخروجه ودعاء الخلق إلى دين الحق، وجهاده معهم محلا لا يجوز له النهوض قبله.

قوله (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) أي لا تقصدوا عقد نكاح المعتدة حتى يبلغ ما كتبه الله تعالى عليها من العدة أجله ونهايته، والأجل الوقت المضروب للشيء فقد حرم عقدها في وقت واحد بعده فكذا ما نحن فيه.

قوله (لم تنقض أكله) في بعض النسخ «أجله» الاكل بالضم والضمتين الحظ من الدنيا وكل ما يؤكل من رزق، ومنه قوله تعالى (أكلها دائم) ويقال للميت: انقطع أكله.

قوله (ولم ينقطع مداه) أي لم تنقطع المدة المقدرة له ولم يبلغ ما كتب من زمانه بقلم التقدير نهايته.

قوله (أعوذ بالله من إمام ضل عن وقته) أي من شره وكأنه أراد به زيدا، وبالتابع الأعلم الإمام الحق وهو هو (عليه السلام).

قوله (أتريد يا أخي أن تحيي ملة قوم) أراد بهم خلفاء الجور واضرابهم ممن ادعى الإمامة بلا برهان.

قوله (بالكناسة) الكناسة بضم الكاف الكساحة والقمامة وموضعها أيضا، وبها سميت كناسة كوفان وهي موضع قريب من الكوفة قتل بها وصلب زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام).

قوله (ثم ارفضت عيناه) ارفضاض الدموع ترشيشها وكل متفرق ذاهب مرفض.

قوله (من هتك سترنا) الهتك الخرق والستر بالكسر ما يستر به وبالفتح مصدر، والأول هو المراد هنا ولعل المراد بالستر العصمة والإمامة، ويمكن أن يكون هتك الستر كناية عن التشهير الموجب للقتل وغيره من أنواع الأذى.

قوله (وجحدنا حقنا) وهو الإمامة والخلافة الثابتة لهم بأمر الله تعالى.

قوله (وأفشى سرنا) إلى أعدائنا ومخالفينا لأن ذلك جالب لأنواع الظلم إليهم وإلى شيعتهم.

قوله (ونسبنا إلى غير جدنا) لعل هذا كناية عن عدم نسبتهم إلى جدهم والمراد بالنسبة النسبة المعنوية وهي النسبة في العلم والعمل، ورئاسة الدارين، وأما النسبة الصورية فالظاهر أنه لم ينكرها

ص:311

أحد.

قوله (وقال فينا ما لم نقله في أنفسنا) (1) هذا القائل في مرتبة الإفراط، والسابق عليه في مرتبة التفريط والذم يلحق الفريقين.

* الأصل:

17 - بعض أصحابنا، عن محمد بن حسان، عن محمد بن رنجويه، عن عبد الله بن الحكم الأرمني، عن عبد الله بن إبراهيم بن محمد الجعفري قال: أتينا خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نعزيها بابن بنتها، فوجدنا عندها موسى بن عبد الله بن الحسن، فإذا هي في ناحية قريبا من النساء، فعزيناها، ثم أقبلنا عليه فإذا هو يقول لابنة أبي يشكر الراثية:

قولي، فقالت:

اعدد رسول الله واعدد بعده * أسد الإله وثالثا عباسا واعدد علي الخير واعدد جعفرا * واعدد عقيلا بعده الرؤاسا فقال: أحسنت وأطربتني، زيديني، فاندفعت تقول:

ومنا إمام المتقين محمد * وحمزة منا والمهذب جعفر ومنا علي صهره وابن عمه * وفارسه ذاك الإمام المطهر فأقمنا عندها حتى كاد الليل أن يجيء، ثم قالت خديجة: سمعت عمي محمد بن علي صلوات الله عليه وهو يقول: إنما تحتاج المرأة في المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها ولا ينبغي لها أن تقول هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح، ثم خرجنا فغدونا إليها غدوة فتذاكرنا

ص:312


1- (1) قوله «ما لم نقله في أنفسنا» كأنه (عليه السلام) أراد به الغلاة في الأئمة فإنهم كانوا كثيرين في الكوفة وكانوا ينتسبون إلى الأئمة (عليهم السلام) من غير حق وأرادوا به الدنيا ويستعينون بتعصب السذج والضعفة من شعية أهل البيت ويستتبعونهم ويغتنمون عدم رضاهم من ولاة الجور فيثيرون الفتن ويشعلون نار الحرب من غير فائدة عقلية ومصلحة ملزمة وبغير أمر امامهم ومثل هؤلاء كثير في جميع الأزمنة لا يراعون المصالح والنتائج في أعمالهم وحذر الباقر (عليه السلام) أخاه زيدا من الاغترار بهم، ولعل المراد من قوله (عليه السلام) نسبنا إلى غير جدنا ان هؤلاء الغلاة لما كان غرضهم جلب العوام والتقوى باجتماعهم كانوا يخترعون أمورا يغتر بها الناس ويرغبون فيها كإباحة الفحشاء والمنكر وترك العبادات الشاقة ويقولون: هذا مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فيقطعون الرابطة بين الأئمة وبين شريعة النبي (صلى الله عليه وآله) وكانوا لعجلتهم وحرصهم على الدنيا لا يرضون بالسكوت والتقية فيفشون ما أمر الله أئمتهم بالستر ومنهم من كانوا يصالحون مع أعدائهم بانكار ما علم ثبوته من مذهب الأئمة إذ لابد لمن يتعجل لادراك الدنيا أن لا يجاهر كثيرا بمخالفة العامة وان كانوا مخطئين، ولذلك لم يكن الزيدية يخالفون الناس في تعظيم الخلفاء وتصحيح أحاديث أهل السنة، وهم إلى زماننا يعتمدون على الصحاح الستة ويأخذون عنها معالم الدين وكان الباقر (عليه السلام) يعلم أن زيدا يقع بين طائفتين هذا شأنهم، والله أعلم (ش)

عندها اختزال منزلها من دار أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقال: هذه دار تسمى دار السرقة.

فقالت: هذا ما اصطفى مهدينا - تعني محمد بن عبد الله بن الحسن - تمازحه بذلك - فقال موسى بن عبد الله: والله لاخبرنكم بالعجب، رأيت أبي رحمه الله لما أخذ في أمر محمد بن عبد الله وأجمع على لقاء أصحابه فقال: لا أجد هذا الأمر يستقيم إلا أن ألقى أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فانطلق وهو متك علي فانطلقت معه حتى أتينا أبا عبد الله (عليه السلام).

فلقيناه خارجا يريد المسجد فاستوقفه أبي وكلمه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ليس هذا موضع ذلك، نلتقي إن شاء الله، فرجع أبي مسرورا، ثم أقام حتى إذا كان الغد أو بعده بيوم، انطلقنا حتى أتيناه. فدخل عليه أبي وأنا معه فابتدأ الكلام، ثم قال له فيما يقول: قد علمت - جعلت فداك - أن السن لي عليك وأن في قومك من هو أسن منك ولكن الله عز وجل قد قدم لك فضلا ليس هو لأحد من قومك، وقد جئتك معتمدا لما اعلم من برك، واعلم - فديتك - أنك إذا أجبتني لم يتخلف عني أحد من أصحابك ولم يختلف علي اثنان من قريش ولا غيرهم، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إنك تجد غيري أطوع لك مني ولا حاجة لك في، فوالله إنك لتعلم أني أريد البادية أو أهم بها فأثقل عنها، وأريد الحج فما أدركه إلا بعد كد وتعب ومشقة على نفسي، فاطلب غيري وسله ذلك ولا تعلمهم أنك جئتني فقال له: إن الناس مادون أعناقهم إليك وإن أجبتني لم يتخلف عني أحد ولك أن لا تكلف قتالا ولا مكروها، قال: وهجم علينا ناس فدخلوا وقطعوا كلامنا، فقال أبي:

جعلت فداك ما تقول؟ فقال: نلتقي إن شاء الله، فقال: أليس على ما أحب فقال: على ما تحب إن شاء الله من إصلاحك.

ثم انصرف حتى جاء البيت، فبعث رسولا إلى محمد في جبل بجهينة، يقال له: الأشقر، على ليلتين من المدينة، فبشره وأعلمه أنه قد ظفر له بوجه حاجته وما طلب، ثم عاد بعد ثلاثة أيام، فوقفنا بالباب ولم نكن نحجب إذا جئنا فأبطأ الرسول، ثم أذن لنا، فدخلنا عليه فجلست في ناحية الحجرة ودنا أبي إليه فقبل رأسه، ثم قال: جعلت فداك قد عدت إليك راجيا مؤملا، قد انبسط رجائي وأملي ورجوت الدرك لحاجتي، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا ابن عم إني اعيذك بالله من التعرض لهذا الأمر، الذي أمسيت فيه، وإني لخائف عليك أن يكسبك شرا، فجرى الكلام بينهما، حتى أفضى إلى ما لم يكن يريد، وكان من قوله: بأي شيء كان الحسين أحق بها من الحسن؟ فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): رحم الله الحسن ورحم الله الحسين وكيف ذكرت هذا؟ قال: لأن الحسين (عليه السلام): كان ينبغي له إذا عدل أن يجعلها في الأسن من ولد الحسن، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن

ص:313

الله تبارك وتعالى لما أن أوحى إلى محمد (صلى الله عليه وآله) أوحى إليه بما شاء ولم يؤامر أحدا من خلقه، وأمر محمد (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بما شاء، ففعل ما أمر به ولسنا نقول فيه إلا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبجيله وتصديقه، فلو كان أمر الحسين أن يصيرها في الأسن أو ينقلها في ولدهما - يعني الوصية - لفعل ذلك الحسين (عليه السلام) وما هو بالمتهم عندنا في الذخيرة لنفسه، ولقد ولى وترك ذلك ولكنه مضى لما أمر به وهو جدك وعمك فإن قلت خيرا فما أولاك به، وإن قلت هجرا فيغفر الله لك، أطعني يا ابن عم واسمع كلامي، فوالله الذي لا اله إلا هو لا آلوك نصحا وحرصا فكيف ولا أراك تفعل! وما لأمر الله من مرد.

فسر أبي عند ذلك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): والله إنك لتعلم أنه الأحول الأكشف الأخضر المقتول بسدة أشجع عند بطن مسيلها، فقال أبي: ليس هو ذلك والله ليحاربن باليوم يوما وبالساعة ساعة وبالسنة سنة وليقومن بثار بني أبي طالب جميعا، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يغفر الله لك، ما أخوفني أن يكون هذا البيت يلحق صاحبنا.

«منتك نفسك في الخلاء ضلالا». لا والله لا يملك أكثر من حيطان المدينة ولا يبلغ علمه الطائف إذا أحفل - يعني إذا أجهد نفسه - وما للأمر من بد أن يقع، فاتق الله وارحم نفسك وبني أبيك، فوالله إني لأراه أشأم سلحة أخرجتها أصلاب الرجال إلى أرحام النساء والله إنه المقتول بسدة أشجع بين دورها والله لكأني به صريعا مسلوبا بزته بين رجليه لبنة ولا ينفع هذا الغلام ما يسمع - قال موسى بن عبد الله يعنيني - وليخرجن معه فيهزم ويقتل صاحبه، ثم يمضي فيخرج معه راية أخرى، فيقتل كبشها ويتفرق جيشها، فإن أطاعني فليطلب الأمان عند ذلك من بني العباس حتى يأتيه الله بالفرج، ولقد علمت بأن هذا الأمر لا يتم، وأنك لتعلم ونعلم أن ابنك الأحول الأخضر الأكشف المقتول بسدة أشجع بين دورها عند بطن مسيلها، فقام أبي وهو يقول:

بل يغني الله عنك، ولتعودن أو ليفي الله بك وبغيرك، وما أردت بهذا إلا امتناع غيرك وأن تكون ذريعتهم إلى ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): الله يعلم ما أريد إلا نصحك ورشدك وما علي إلا الجهد.

فقام أبي يجر ثوبه مغضبا، فلحقه أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له: أخبرك أني سمعت - عمك وهو خالك - يذكر أنك وبني أبيك ستقتلون، فإن أطعتني ورأيت أن تدفع بالتي هي أحسن فافعل، فوالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الكبير المتعال على خلقه لوددت أني فديتك بولدي وبأحبهم إلي وبأحب أهل بيتي إلي، وما يعدلك عندي شيء فلا ترى أني غششتك.

فخرج أبي من عنده مغضبا أسفا، قال: فما أقمنا بعد ذلك إلا قليلا - عشرين ليلة أو نحوها -

ص:314

حتى قدمت رسل أبي جعفر فأخذوا أبي وعمومتي: سليمان بن حسن، وحسن بن حسن، وإبراهيم بن حسن، وداود بن حسن، وعلي بن حسن، وسليمان بن حسن، وحسن بن حسن، وإبراهيم بن حسن وداود بن حسن، وعلي بن حسن، وسليمان بن داود بن حسن، وعلي بن إبراهيم بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن، وطباطبا إبراهيم بن إسماعيل بن حسن، وعبد الله بن داود، قال: فصفدوا في الحديد، ثم حملوا في محامل أعراء لا وطاء فيها ووقفوا بالمصلى لكي يشتمهم الناس، قال: فكف الناس عنهم ورقوا لهم للحال التي هم فيها، ثم انطلقوا بهم حتى وقفوا عند باب مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

قال عبد الله بن إبراهيم الجعفري: فحدثتنا خديجة بنت عمر بن علي، أنهم لما أوقفوا عند باب المسجد - الباب الذي يقال له باب جبرئيل - أطلع عليهم أبو عبد الله (عليه السلام) وعامة ردائه مطروح بالأرض، ثم أطلع من باب المسجد فقال: لعنكم الله يا معاشر الأنصار - ثلاثا - ما على هذا عاهدتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا بايعتموه، أما والله كنت حريصا ولكني غلبت، ليس للقضاء مدفع، ثم قام وأخذ إحدى نعليه فأدخلها رجله والأخرى في يده وعامة ردائه يجره في الأرض، ثم دخل بيته فحم عشرين ليلة، لم يزل يبكي فيها الليل والنهار حتى خفنا عليه، فهذا حديث خديجة.

قال الجعفري: وحدثنا موسى بن عبد الله بن الحسن أنه لما طلع بالقوم في المحامل، قام أبو عبد الله (عليه السلام) من المسجد ثم أهوى إلى المحمل الذي فيه عبد الله بن الحسن يريد كلامه، فمنع أشد المنع وأهوى إليه الحرسي فدفعه وقال: تنح عن هذا، فإن الله سيكفيك ويكفي غيرك، ثم دخل بهم الزقاق، ورجع أبو عبد الله (عليه السلام) إلى منزله، فلم يبلغ بهم البقيع حتى ابتلي الحرسي بلاء شديدا، رمحته ناقته فدقت وركه فمات فيها ومضي بالقوم، فأقمنا بعد ذلك حينا، ثم أتى محمد بن عبد الله بن حسن، فأخبر أن أباه وعمومته قتلوا - قتلهم أبو جعفر - إلا حسن بن جعفر، وطباطبا، وعلي بن إبراهيم، وسليمان بن داود، وداود بن حسن، وعبد الله بن داود، قال: فظهر محمد بن عبد الله عند ذلك ودعا الناس لبيعته، قال: فكنت ثالث ثلاثة بايعوه واستونق الناس لبيعته ولم يختلف عليه قرشي ولا أنصاري ولا عربي. قال: وشاور عيسى بن زيد وكان من ثقاته وكان على شرطه فشاوره في البعثة إلى وجوه قومه، فقال له عيسى بن زيد: إن دعوتهم دعاء يسيرا لم يجيبوك أو تغلظ عليهم فخلني وإياهم فقال له محمد: امض إلى من أردت منهم، فقال:

ابعث إلى رئيسهم وكبيرهم - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) - فإنك إذا أغلظت عليه علموا جميعا أنك ستمرهم على الطريق التي أمررت عليها ابا عبد الله (عليه السلام). قال: فوالله مالبثنا: أن أتي

ص:315

بأبي عبد الله (عليه السلام): حتى أوقف بين يديه فقال له عيسى بن زيد: أسلم تسلم: فقال له أبو عبد الله (عليه السلام):

أحدثت نبوة بعد محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال له محمد: لا، ولكن بايع تأمن على نفسك ومالك وولدك ولا تكلفن حربا، فقال له أبو عبد الله (صلى الله عليه وآله): ما في حرب ولا قتال ولقد تقدمت إلى أبيك وحذرته الذي حاق به ولكن لا ينفع حذر من قدر، يا ابن أخي عليك بالشباب ودع عنك الشيوخ، فقال له محمد: ما أقرب ما بيني وبينك في السن.

فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إني لم أعازك ولم أجىء لأتقدم عليك في الذي أنت فيه، فقال له محمد: لا والله لابد من أن تبايع، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما في يا ابن أخي طلب ولا حرب وإني لاريد الخروج إلى البادية فيصدني ذلك ويثقل علي حتى تكلمني في ذلك الأهل غير مرة ولا يمنعني منه إلا الضعف، والله والرحم أن تدبر عنا ونشقى بك، فقال له: يا أبا عبد الله! قد والله مات أبو الدوانيق - يعني أبا جعفر - فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وما تصنع بي وقد مات؟ قال: أريد الجمال بك، قال: ما إلى ما تريد سبيل، لا والله ما مات أبو الدوانيق إلا أن يكون مات موت النوم قال: والله لتبايعني طائعا أو مكرها ولا تحمد في بيعتك، فأبى عليه إباء شديدا وأمره به إلى الحبس.

فقال له عيسى بن زيد: أما إن طرحناه في السجن - وقد خرب السجن وليس عليه اليوم غلق - خفنا أن يهرب منه، فضحك أبو عبد الله (عليه السلام)، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أو تراك تسجنني؟ قال: نعم والذي أكرم محمدا (صلى الله عليه وآله) بالنبوة لأسجننك ولاشددن عليك، فقال عيسى بن زيد: احبسوه في المخبأ - وذلك دار ريطة اليوم - فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أما والله إني سأقول ثم أصدق، فقال له عيسى بن زيد: لو تكلمت لكسرت فمك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أما والله يا أكشف يا أرزق، لكأني بك تطلب لنفسك جحرا تدخل فيه وما أنت في المذكورين عند اللقاء وإني لأظنك إذا صفق خلفك طرت مثل الهيق النافر فنفر عليه محمد بانتهار: احبسه وشدد عليه واغلظ عليه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أما والله لكأني بك خارجا من سدة أشجع إلى بطن الوادي وقد حمل عليك فارس معلم في يده طرادة، نصفها أبيض ونصفها أسود; على فرس كميت أقرح فطعنك فلم يصنع فيك شيئا وضربت خيشوم فرسه فطرحته وحمل عليك آخر خارج من زقاق آل أبي عمار الديليين عليه غديرتان مضفورتان وقد خرجتا من تحت بيضته، كثير شعر الشاربين، فهو والله صاحبك، فلا رحم الله رمته.

فقال له محمد: يا أبا عبد الله حسبت فأخطأت وقام إليه السراقي بن سلخ الحوت فدفع في ظهره حتى أدخل السجن واصطفى ما كان له من مال وما كان لقومه ممن لم يخرج مع محمد،

ص:316

قال: فطلع بإسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو شيخ كبير ضعيف، قد ذهبت إحدى عينيه وذهبت رجلاه وهو يحمل حملا، فدعاه إلى البيعة، فقال له: يا ابن أخي إني شيخ كبير ضعيف وأنا إلى برك وعونك أحوج، فقال له: لابد من أن تبايع، فقال له: وأي شيء تنتفع ببيعتي والله إني لأضيق عليك مكان اسم رجل إن كتبته، قال: لابد لك أن تفعل، وأغلظ له في القول، فقال له إسماعيل: ادع لي جعفر بن محمد، فعلنا نبايع جميعا، قال: فدعا جعفرا (عليه السلام) فقال له إسماعيل:

جعلت فداك إن رأيت أن تبين له فافعل، لعل الله يكفه عنا، قال: قد أجمعت ألا أكلمه، فليرفي برأيه.

فقال إسماعيل لأبي عبد الله (عليه السلام) أنشدك الله هل تذكر يوما أتيت أباك محمد بن علي (عليه السلام) وعلي حلتان صفراوان، فدام النظر إلي فبكى، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال لي: يبكيني أنك تقتل عند كبر سنك ضياعا، لا ينتطح في دمك عنزان، قال: قلت: فمتى ذاك؟ قال: إذا دعيت إلى الباطل فأبيته وإذا نظرت إلى الأحول مشؤوم قومه ينتمي من آل الحسن (عليه السلام) على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يدعو إلى نفسه، قد تسمى بغير اسمه فأحدث عهدك واكتب وصيتك، فإنك مقتول في يومك أو من غدا فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): نعم وهذا ورب الكعبة لا يصوم من شهر رمضان إلا أقله، فاستودعك الله يا أبا الحسن وأعظم الله أجرنا فيك وأحسن الخلافة على من خلفت وإنا لله وإنا إليه راجعون، قال:

ثم احتمل إسماعيل ورد جعفر (عليه السلام) إلى الحبس، قال: فوالله ما أمسينا حتى دخل عليه بنو أخيه:

بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر فتوطئوه حتى قتلوه، وبعث محمد بن عبد الله إلى جعفر (عليه السلام) فخلى سبيله، قال: وأقمنا بعد ذلك حتى استهللنا شهر رمضان فبلغنا خروج عيسى بن موسى يريد المدينة.

قال: فتقدم محمد بن عبد الله على مقدمته يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وكان على مقدمة عيسى بن موسى ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن وقاسم ومحمد بن زيد وعلي وإبراهيم بنو الحسن بن زيد، فهزم يزيد بن معاوية وقدم عيسى بن موسى المدينة وصار القتال بالمدينة فنزل بذباب ودخلت علينا المسودة من خلفنا وخرج محمد في أصحابه حتى بلغ السوق، فأوصلهم ومضى، ثم تبعهم حتى انتهى إلى مسجد الخوامين فنظر إلى ما هناك فضاء ليس فيه مسود ولا مبيض، فاستقدم حتى انتهى إلى شعب فزارة ثم دخل هذيل ثم مضى إلى أشجع، فخرج إليه الفارس الذي قال أبو عبد الله (عليه السلام) من خلفه، من سكة هذيل فطعنه، فلم يصنع فيه شيئا وحمل على الفارس، فضرب خيشوم فرسه بالسيف، فطعنه الفارس، فأنفذه في الدرع وانثنى عليه محمد، فضربه فأثخنه وخرج عليه حميد بن قحطبة وهو مدبر على الفارس يضربه

ص:317

من زقاق العماريين فطعنه طعنة أنفذ السنان فيه، فكسر الرمح وحمل على حميد فطعنه بزج الرمح فصرعه، ثم نزل إليه فضربه حتى أثخنه وقتله وأخذ رأسه ودخل الجند من كل جانب وأخذت المدينة وأجلينا هربا في البلاد.

قال موسى بن عبد الله: فانطلقت حتى لحقت بإبراهيم بن عبد الله، فوجدت عيسى بن زيد مكمنا عنده فأخبرته بسوء تدبيره وخرجنا معه حتى أصيب - رحمه الله - ثم مضيت مع ابن أخي الأشتر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن حتى أصيب بالسند، ثم رجعت شريدا طريدا، تضيق علي البلاد، فلما ضاقت علي الأرض واشتد [بي] الخوف ذكرت ما قال أبو عبد الله (عليه السلام) فجئت إلى المهدي وقد حج وهو يخطب الناس في ظل الكعبة، فما شعر إلا وإني قد قمت من تحت المنبر، فقلت: لي الأمان يا أمير المؤمنين؟ وأدلك على نصيحة لك عندي؟ فقال: نعم ما هي؟ قلت: أدلك على موسى بن عبد الله بن حسن; فقال لي: نعم لك الأمان، فقلت له: أعطني ما أثق به، فأخذت منه عهودا ومواثيق ووثقت لنفسي ثم قلت: أنا موسى بن عبد الله فقال لي: إذا تكرم وتحبا، فقلت له: اقطعني إلى بعض أهل بيتك يقوم بأمري عندك، فقال لي: انظر إلى من أردت، فقلت: عمك العباس ابن محمد، فقال العباس: لا حاجة لي فيك، فقلت: ولكن لي فيك الحاجة، أسألك بحق أمير المؤمنين إلا قبلتني، فقبلني شاء أو أبى، وقال لي المهدي: من يعرفك؟ - وحوله أصحابنا أو أكثرهم - فقلت: هذا الحسن بن زيد يعرفني وهذا موسى بن جعفر يعرفني وهذا الحسن بن عبد الله بن العباس يعرفني. فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين! كأنه لم يغب عنا، ثم قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين لقد أخبرني بهذا المقام أبو هذا الرجل وأشرت إلى موسى بن جعفر.

قال موسى بن عبد الله: وكذبت على جعفر كذبة، فقلت له: وأمرني أن أقرئك السلام وقال: إنه إمام عدل وسخاء، قال: فأمر لموسى بن جعفر بخمسة آلاف دينار، فأمر لي منها موسى بألفي دينار ووصل عامة أصحابه ووصلني، فأحسن صلتي، فحيث ما ذكر ولد محمد بن علي بن الحسين، فقولوا: صلى الله عليهم وملائكته وحملة عرشه والكرام الكاتبون وخصوا أبا عبد الله بأطيب ذلك، وجزى موسى بن جعفر عني خيرا، فأنا والله مولاهم بعد الله.

* الشرح:

قوله (فوجدنا عندها موسى بن عبد الله بن الحسن) هو موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ص:318

قوله (أعدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) واعدد بعده) أعدد أمر بفك الإدغام.

قوله (واعدد علي الخير واعدد جعفرا) يجوز أن يكون على حرف جر ومفعول أعدد محذوف أي اعددهم على الخير، ويجوز أن يكون بتشديد الياء، ويراد به علي بن أبي طالب (عليه السلام) أو يراد به علي بن الحسين الأكبر الذي قتل معه بكربلاء أو علي بن الحسين الأصغر سيد العابدين، والإضافة إلى الخير لكونهم منشأ لجميع الخيرات.

قوله (وأعدد عقيلا بعده الرؤاسا) في بعض النسخ بعد ذا الرؤاسا ضمير بعده أو اسم الإشارة راجع إلى جعفر أو إلى عقيل والرؤسا بضم الراء والهمزة جمع رئيس على الأول صفة للمذكورين وعلى الأخير مفعول لفعل محذوف أي أعدد بعد عقيل الرؤاسا.

قوله (فاندفعت تقول) أي ابتدأت وأسرعت تقول، دفعت الفرس فاندفع أي أسرع في سيره واندفعوا في الحديث أي ابتدؤا وأسرعوا فيه.

قوله (في المأتم) المأتم كمقعد عند العرب: النساء يجتمعن في فرح أو حزن والجمع المآتم، وعند العامة المصيبة، والنياحة يقال: كنا في مأتم بني فلان، قال ابن الأنباري والجوهري: هذا غلط والصواب في مناحة بني فلان.

قوله (ولا ينبغي لها أن تقول هجرا) الهجر بالفتح الهذيان، ومنه قوله تعالى (سامرا تهجرون) وبالضم الفحش اسم من اهجر في منطقه إذا أفحش.

قوله (اختزال منزلها من دار أبي عبد الله) انخزل الشيء: انقطع، والاختزال: انقطاع، يقال:

اختزل من كذا إذا انفرد وبعد عنه.

قوله (هذه دار تسمى دار السرقة) هذه إشارة إلى دار أبي عبد الله (عليه السلام) (1) وسميت بدار السرقة

ص:319


1- (1) قوله «إشارة إلى دار أبي عبد الله (عليه السلام)» اشتبه الأمر على الشارح وحمله على غير محمله وزعم أن قائل هذا القول موسى بن عبد الله والحق أن بعض رواة هذا الحديث وكان متأخرا عن زمن الصادق (عليه السلام) جدا حين تغير وضع دور المدينة واسامي محالها وأرباب املاكها مثلا محمد بن حسان الذي كان بعد عهده (عليه السلام) بمائة وخمسين سنة لما حكى هذه الواقعة وجرى ذكر دار خديجة بنت عمر وانخزالها عن دار أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هذه الدار تسمى في عهدنا دار السرقة يعني الدار التي اتفق فيها الواقعة من النياحة والتعزي وليس تسميتها بدار السرقة مربوطة بتلك الواقعة بين الصادق (عليه السلام) وعبد الله بن الحسن، بل لواقعة مجهولة لا نعلمها اتفقت في مدة مائة وخمسين سنة ومثله ما سيأتي من قوله: دار ريطة اليوم حيث أن المخبأ الذي حبسوا فيه أبا عبد الله (عليه السلام) كان في زمان الراوي دار ريطة وهي امرأة لا نعرفها كان الراوي والسامعون يعرفونها ويعرفون دارها في عهدهم وقال المجلسي (رحمه الله). هي ريطة بنت عبد الله بن محمد بن الحنفية ولكن عبد الله مات سنة 98 وبنتها أيضا كانت مقدمة في الزمان على الصادق (عليه السلام) ولا يمكن أن تكون هي المرادة في هذا الخبر البتة، ونظيره أن يحكي في زماننا من دار جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فنقول: هي في أيامنا في الجانب الشرقي من السكة التي جنب مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو يجري ذكر بيت فاطمة (عليها السلام) ونقول: في زماننا في الشباك المقدس خلف قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله). (ش)

لوقوع السرقة ونهب الأموال فيها لما سيجئ من أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) لما حبسه (عليه السلام) في السجن اصطفى ما كان له في مال وما كان لقوله (عليه السلام) ممن لم يخرج مع محمد بن الحسن ولم يبايعه.

قوله (تمازحه بذلك) ضمير الفاعل راجع إلى خديجة وضمير المفعول إلى محمد بن عبد الله ابن الحسن، والمزاح بضم الميم اسم من المزح وهو الدعابة، والفرق بينه وبين السخرية هنا يرجع إلى القصد.

قوله (لما أخذ في أمر محمد بن عبد الله) أي لما أخذ البيعة في إمامة ابنه محمد أو لما شرع في أخذ البيعة له وأجمع يعني عزم على لقاء أصحاب محمد الذين كانوا معه في جبل الأشقر على ليلتين من المدينة، ويحتمل أن يراد بأصحابه أصحابه الذين كانوا في المدينة وأراد أخذ البيعة منهم.

قوله (وكلمه) أي كلمه في أمر ابنه محمد وقصد خروجه وإرادة بيعته (عليه السلام) معه.

قوله (فرجع أبي مسرورا) وجه سروره أنه (عليه السلام) لم ينكر عليه ذلك صريحا، ووعده بالكلام عند اللقاء تارة أخرى، فظن بذلك الرضا منه (عليه السلام) ورجا منه قبول ما ادعاه.

قوله (واعلم فديتك أنك) فديتك على صيغة المجرد المعلوم جملة دعائية معترضة بين أجزاء الكلام أي استنقذتك من البلية بنفسي ومالي قال في المغرب: فداه من الأسر فداء وفدى استنقذه منه بمال والفدية اسم ذلك المال.

قوله (إنك تجد غيري أطوع لك مني) هذا ظاهر لأن متابعته إما لطلب الدين أو لطلب الدنيا وهو (عليه السلام) عالم بأن شيئا من ذلك لا يكون مع براءة ساحته من طلب الدنيا على وجه لا يحل بخلاف قوله (ولا حاجة لك في) وذلك إما لضعف حاله كما يرشد إليه ما بعده فلا تحصل له قوة بمتابعته (عليه السلام)، أو لأنه لا يتصور منه ما هو المقصود وهو القتال كما يشعر به قوله بعد ذلك، ولك أن لا تكلف قتالا ولا مكروها ثم إن هذا من كمال أخلاقه (عليه السلام) وإلا فهو كان أشجع الناس لو كان القتال جائزا وكان بأمر الله تعالى.

قوله (إني أريد البادية أو أهم بها) الترديد من الراوي.

قوله (وأعلمه أنه قد ظفر له بوجه حاجته) لقوله (عليه السلام): على ما تحب ان شاء الله تعالى وقد غفل عن قوله إن شاء الله حيث علق الإتيان بما أحبه بمشية الله تعالى، ومشيته لم تتعلق بذلك، ومع

ص:320

ذلك بين الموصول بقوله: من إصلاحك وقد غفل عنه أيضا، ونعم ما قيل: حبك للشيء يعمى ويصم.

قوله (ورجوت الدرك لحاجتي) الدرك اللحاق والوصول إلى الشيء أدركته إدراكا ودركا رجوت اللحاق لحاجتي والوصول إليها والمراد بها متابعته عليه لابنه محمد وبيعته معه.

قوله (بأي شيء كان الحسين أحق بها من الحسن) حيث جعلت الوصية والإمامة في ولد الحسين دون الحسن، وكأنه قال ذلك إنكارا له وادعاء، بأن أولاد الحسن أولى بها كما يشعر به سياق كلامه فيما بعد.

قوله (كان ينبغي له إذا عدل أن يجعلها في الأسن من ولد الحسن) قال ذلك تخمينا وظنا بأن الإمامة ينبغي أن تكون في الأسن من أولاد علي وفاطمة (عليهما السلام)، وولد الحسن كان أسن من ولد الحسين، وكان الحسن أسن من الحسين فعلى هذا كان ولد الحسن أولى بها من ولد الحسين وقد أخطأ من وجوه شتى، ولو كان لو بدل إذا كان أنسب بزعمه.

قوله (وهو جدك وعمك) كانت فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) أم عبد الله بن الحسن. فكان الحسين (عليه السلام) جده من قبل الأم.

قوله (لا آلوك نصحا وحرصا) أي لا أمنعك نصيحتي لك وحرصي على اصلاحك أو أصرفهما عنك بل أنصحك على قدر الوسع واصلحك بقدر الطاقة ولكن لا أراك تفعل ما أردت وتسمع ما أنصحت وتقبل ما أصلحت.

قوله (فسر أبي عند ذلك) وجه سروره غير ظاهر لأن كل ما ذكره (عليه السلام) دل على خلاف مراده ظاهرا اللهم إلا أن يقال إنه حمل الأمر في قوله (عليه السلام): وما لأمر الله من مرد على ظهور ابنه محمد واستيلائه على البلاد ولذلك قال (عليه السلام):

قوله (والله انك لتعلم أنه الأحول الأكشف الأخضر المقتول بسدة أشجع) للتصريح بأنه يقتل ابنه ولا يتمشى أمره. والحول أن تميل احدى الحدقتين إلى الأنف والأخرى إلى الصدغ وصاحبه أحول والأكشف من به كشف وهو بالتحريك انقلاب شعيرات من قصاص الناصية كأنها دائرة وهي شعيرات تنبت صعداء والعرب تتشأم به، وفي المغرب: الأكشف الذي انحسر مقدم رأسه، وقيل:

الكشف انقلاب في قصاص الشعر، وهو من العيوب: والأخضر الأسود، قال في النهاية والعرب تطلق الخضرة على السواد، ومنه حديث الحرث بن الحكم أنه تزوج امرأة فرآها خضراء فطلقها أي سوداء، والسدة بالضم الباب وقد تطلق على الظلة فوقه والأشجع قبيلة من غطفان.

قوله (والله ليحاربن) أخبر مؤكدا بالقسم بأن ملك ابنه يستمر وهو يجازي بني أمية وبني عباس

ص:321

جزاء بما كانوا يصنعون بالطالبيين، وكأنه سمع أن مهدي هذه الأمة الذي يخرج بالسيف ويملك الأرض من أولاد علي وفاطمة (عليهما السلام) وظن أنه ابنه. وإن بعض الظن إثم.

قوله (ما أخوفني أن يكون هذا البيت يلحق صاحبنا) فاعل يلحق راجع إلى البيت وصاحبنا مفعوله أي يصير هذا الشعر الآتي مصداق حال صاحبنا، والمراد به محمد بن عبد الله بن الحسن أو أبوه وإنما اكتفى بمصراع لعلم المخاطب بالآخر.

قوله (منتك نفسك في الخلاء ضلالا) منتك من المن وهو الاعطاء والانعام، والضلال ضد الرشاد أي أعطتك نفسك في الخلوة هذه الخصلة الذميمة الناشئة من التخيلات الفاسدة والتوهمات الكاسدة، أو من المنة وحينئذ يحتاج إلى الحذف والايصال في موضعين أي منت عليك نفسك بالضلال، وعلى التقديرين يكون المغايرة بين الفاعل والمفعول اعتبارية إذ النفس باعتبار صدور المن أو المنة منها فاعل وباعتبار القبول مفعول.

قوله (أني لأراه أشأم سلحة) إطلاق السلحة على النطفة على سبيل الاستعارة والتشبيه في الخباثة ونسبة الإخراج إلى الأصلاب من باب التجوز في الإسناد، ووجه كونه أشأم إنكار الإمامة لمن اتصف بها وادعائها لنفسه وكونه سببا لقتل جماعة من الهاشميين وغيرهم مع ما فيه من صفات أخر.

قوله (والله لكأني به صريعا مسلوبا بزته بين رجليه لبنة) أي كأنه حاضر به مشاهد لحالاته المستقبلة، ولما كانت تلك الحالات واجبة الوقوع بحسب العلم المطابق للواقع جعلها بمنزلة الواقع وأتى بالتشبيه تقريبا لها إلى الإيضاح أو شبه الرؤية العلمية بالرؤية البصرية تحقيقا لها بالوقوع والإيضاح، والبزة بكسر الباء وشد الزاي والهاء أخيرا: الثياب والسلاح وهو آلة الحرب، واللبنة بوزن الكلمة واحدة اللبن وهي التي تتخذ من طين ويبنى بها وتخفف مع نقل كسرة الباء إلى اللام فيقال:

لبنة.

قوله (ويقتل صاحبه) هو أخوه محمد بن عبد الله.

قوله (فيقتل كبشها) الكبش واحد الكباش، والكبش سيد القوم وأميرهم أيضا، والمراد به ابن أخي موسى بن عبد الله عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحسن فإن موسى بن عبد الله بعد قتل أخيه محمد يمضي مع ابن أخيه عبد الله بن محمد فيقتل عبد الله.

قوله (ولتعودن أو ليفيء الله بك وبغيرك) أي ولتعودن إلينا بعد وضوح أمرنا وغلبتنا على الأعداء والفيء الرجوع يقال: فاء الرجل يفيء فيئا إذا رجع والباء للتعدية ولعل الترديد من الراوي.

قوله (وما أردت بهذا) أي ما أردت بمتابعتك لنا واتفاقك معنا إلا لأجل امتناع غيرك من

ص:322

أصحابك وأن تكون ذريعة لهم في المتابعة والمبايعة.

قوله (مغضبا أسفا) الأسف بفتح الهمزة وكسر السين: الحزين والغضبان والأول هو المراد هنا ليخلو الكلام عن شائبة التكرار.

قوله (إبراهيم بن إسماعيل بن حسن) في بعض كتب الرجال إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعده الشيخ من أصحاب الصادق (عليه السلام).

قوله (فصفدوا) على صيغة المجهول يقال: صفده صفدا من باب ضرب وصفده تصفيدا إذا شده وأوثقه بالاغلال.

قوله (ومحامل أعراء لاوطاء فيها) المحامل جمع المحمل، قال في المغرب المحمل بفتح الميم الأول وكسر الثاني أو على العكس الهودج الكبير الحجاجي وأما تسميته بغير المحمل به فمجاز وإن لم نسمعه، والأعراء جمع عرى، والمحمل عري إذا لم يكن فيها بساط وإلا عليه وطاء وغطاء والفرس عري إذا لم يكن عليه جل وسرج.

قوله (أطلع عليهم أبو عبد الله (عليه السلام)) طلعت على القوم أي اتيتهم وأطلع من باب أكرم لغة في اطلع من باب افتعل بمعنى أشرف، وجاء أيضا بمعنى خرج، ومنه أطلع النبات من الأرض أي خرج ولعل المراد منه هنا الاشراف وفي قوله «ثم اطلع من باب المسجد» الخروج ليخلو عن التكرار.

قوله (وأهوى إليه الحرسي) الحارس الحافظ والجمع الحرس كخادم وخدم، وهم خدم السلطان المرتبون لحفظه وحراسته. والحرسي بفتح الراء وكسر السين وشد الياء واحد الحرس كأنه منسوب إليه حيث قد صار اسم جنس ويجوز أن يكون منسوبا إلى الجمع شاذا.

قوله (رمحته ناقته) أي ضربته برجلها جزاء بما فعل.

قوله (واستونق الناس) أي اجتمعوا يقال: استونقت الإبل إذا اجتمعت في محل واحد.

قوله (ولا عربي) العربي واحد العرب، وهم الذين استوطنوا المدن والقرى، والأعراب أهل البدو والنسبة إليهم أعرابي.

قوله (وكان على شرطه) الظاهر أنه كان أميرا عليهم كما يشعر به لفظة على وسياق ما بعده والشرط بضم الأول وفتح الثاني جمع الشرطة بالسكون والحركة وهي خيار الجند وأول كتيبة تحضر الحرب.

قوه (أو تغلظ عليهم) أي إلى أن تغلظ عليهم كما في قولك لا لزمنك أو تعطيني حقي.

قوله (فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) أحدثت نبوة) لما كان قوله: اسلم تسلم إنما يلقيه ظاهرا من

ص:323

يدعي دينا إلى من يكره وإن كان مراده غير هذا كما سيصرح به، أجاب (عليه السلام) نظرا إلى ظاهر هذا القول وان كان أعرف بمراده بقوله: أحدثت نبوة بعد محمد (صلى الله عليه وآله) استفهاما أو توبيخا وتهكما.

قوله (ما في حرب ولا قتال) أي ليس في خاطري حرب وقتال معك حتى تفرغ خاطرك عن ذلك بمبايعتي معك أو ليس في قدرة حرب وقتال مع أحد لضعفي وكبر سني فلا ينفعك مبايعتي معك وهذا أنسب بقوله: عليك بالشباب، والأول أنسب بقوله: اني لم اعازك ولم أجىء لأتقدم عليك.

قوله (والله والرحم أن تدبر عنا أو نشقى بك) تدبر اما مجرد أو مزيد والدابر الرجل الذي يقطع رحمه والادبار عن الشيء نقيض الإقبال إليه، وهو هنا كناية عن التقاطع، والشقاء التعب والعناء أقسمه بالله والرحم ورعاية حقوقهما من أن يقطع الرحم وينصب للحوق التعب به (عليه السلام) وبأصحابه.

قوله (ولا تحمد في بيعتك) حال عن مكرها رغبة به في مبايعته طوعا ليكون محمودا عنده.

قوله (أو تراك تسجنني) السجن الحبس سجنه يسجنه سجنا حبسه في السجن.

قوله (وذلك دار ريطة اليوم) (1) في المغرب: الريطة كل ملاءة لم تكن لفقتين أي قطعتين متضامتين، وقيل: كل ثوب رقيق لين ريطة وبها سميت ريطة امرأة ابن مسعود.

قوله (تطلب لنفسك جحرا) الجحر بالجيم المضمومة ثم الحاء جحر الضب والحية واليربوع وثقبها.

قوله (مثل الهيق) الهيق والهيقم بزيادة الميم: الظليم وهو الذكر من النعام، والعرب تشبه الجبان به لشهرته من بين الطيور بالخوف والنفور.

قوله (فنفر عليه محمد بانتهار) التنفير الحكم بالغلبة، قال الجوهري: نفر عليه تنفيرا أي قضى له عليه بالغلبة وكذلك أنفره، وقال ابن الأثير: نفره أنفره إذا حكم له بالغلبة، والانتهار الزبر والزجر يعني قضى محمد لعيسى بن زيد وحكم له على أبي عبد الله بالزجر والمنع عما يقول، وعلى هذا قوله احبسه وما عطف عليه استئناف كأنه قال: كيف انتهر وازجره؟ أجاب عنه بقوله: احبسه ويحتمل أن يكون المراد أنه صاح على عيسى بالغلظة بقوله: احبسه على سبيل الكناية لأن التنفير والنفر مستلزمان للصوت والصيحة، والانتهار مستلزم للغلظة، هذا وفي بعض النسخ: فنغر عليه بالغين المعجمة قال الجوهري: نغر الرجل بالكسر أي اغتاظ قال الأصمعي: وهو الذي يغلي جوفه

ص:324


1- (1) قوله «وذاك دار ريطة اليوم» هذا قول بعض رواة الحديث المتأخرين عن عهد الصادق (عليه السلام) حكى للسامعين ان المخبأ الذي حبس فيه الصادق (عليه السلام) هو الدار الذي تسكنها ريطة اليوم وقد مضى شيء يتعلق بذلك في الحاشية السابقة في الصفحة 308.

من الغيظ، والله أعلم.

قوله (فارس معلم) العلم العلامة وأعلم الفارس جعل لنفسه علامة الشجعان يعرف بها فهو معلم وأعلم الفرس علق عليه صوفا متلونا في الحرب والطراد والطرادة والمطرد والمطردة بالكسر في الجميع: الرمح القصير لأن صاحبه يطرد به العدو عن نفسه ويبعده.

قوله (نصفها أبيض ونصفها أسود) إشارة إلى ان نصفها سنان مجلو ونصفها خشب ونحوه.

قوله (على فرس كميت أقرح) قال الجوهري: الكميت من الفرس يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولونه الكمتة وهي حمرة تدخلها قنوة قال سيبويه: سألت الخليل عن كميت فقال إنما سفر لأنه بين السواد والحمرة كأنه لم يخلص له واحد منهما فأرادوا بالتصغير أنه منهما قريب، والفرق بين الكميت والأشقر بالعرف والذنب فإن كانا احمرين فهو أشقروان كانا أسودين فهو كميت والاقرح من الفرس ما في وجهه قرحة وهي ما دون الغرة والغرة بياض في جبهة الفرس ما فوق الدرهم.

قوله (أبي عمار الديليين) قال الجوهري: الديل في عبد القيس ينسب إليهم الديلي وهما ديلان: أحدهما الديل بن شن بن أقصى بن عبد القيس بن أقصى، والآخر الديل بن عمرو بن وديعة بن أقصى بن عبد القيس منهم أهل عمان، واما الدئل بهمزة مكسورة فهم حي من كنانة وينسب إليهم أبو الأسود الدؤلي فتفتح الهمزة استثقالا لتوالي الكسرتين مع ياء النسبة، وربما قالوا: الدولي بقلب الهمزة واوا لأن الهمزة إذا انفتحت وكانت قبلها ضمة فتخفيفها ان تقلبها واوا محضة.

قوله (عليه غديرتان) الغديرة المضفورة الخصلة من الشعر المنسوج بعضها على بعض وقوله:

«وقد خرجتا من تحت بيضته» إشارة إلى طولها وبيضة الحديد معروفة سميت بها لشبهها ببيضة النعامة في الشكل.

قوله (كثير شعر الشاربين) الشارب معروف.

قوله (فلا رحم الله رمته) الرمة بالكسر العظام البالية وهذا كناية عن سلب الرحمة عنه أبدا لأن الأول يستلزم الثاني عرفا.

قوله (ان رأيت أن تبين له) الإبانة والتبين الإيضاح أي أن توضح له أمره وفساد رأيه ووخامة عاقبة ما ارتكبه من الأمر الخطير الذي ليس هو أهله.

قوله (وعلي حلتان) قال الجوهري: قال عبيد: الحلل برود اليمن، والحلة إزار ورداء لا تسمى حلة حتى تكون ثوبين، وقال صاحب النهاية: مثله وزاد، حيث قال: حتى تكون ثوبين من جنس واحد وقال صاحب المغرب: الحلة إزار ورداء هذا هو المختار وهي من الحلول أو الحل لما بينهما

ص:325

من الفرجة.

قوله (لا ينتطح في دمك عنزان) قال في المغرب: في الأمثال: لا ينتطح فيها عنزان يضرب في أمر هين لا يكون له تعيير ولا نكير قال الجاحظ: أول من تكلم به النبي (صلى الله عليه وآله) قال حين قتل عمير ابن عدي عصماء، وقال في النهاية: لا ينتطح فيها عنزان أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا من شأن العنوز، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجري فيها خلف ولا نزاع.

قوله (قد تسمى بغير اسمه) سمى بالمهدي، وبالنفس الزكية.

قوله (وهذا ورب الكعبة) هذا إشارة إلى محمد بن عبد الله.

قوله (فنزل بذباب) قيل: هو جبل بالمدينة.

قوله (ودخلت علينا المسودة) هي عساكر عيسى بن موسى وهو كان أميرا من قبل المنصور إلى جعفر الدوانيقي، وسموا بالمسودة لكون ثيابهم اسود بخلاف المبيضة.

قوله (وخرج محمد في أصحابه) ليدرك مقدمة عيسى بن موسى الذي نزل بذباب حتى بلغ السوق الذي كان قريبا منه فأوصل أصحابه وأبلغهم هناك فتركهم ومضى لبعض شأنه كملاحظة بعض الدروب ومراعاة بعض المصالح ثم رجع وتبع أصحابه ليلحق بهم فمر بالسوق الذي تركهم فيه فلم يرهم فمضى حتى انتهى إلى مسجد الخوامين وهو مسجد كان في خلفه فنظر إلى ماهنا فضاء وميدان ليس فيها مسود ولا مبيض لتفرق أصحابه وانهزامهم، فاستقدم ليرى ما حال أصحابه مع الخصوم فلم يرهم حتى انتهى إلى شعب فزارة - وهو أبو حي من غطفان وهو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان - ثم دخل هذيل - وهي حي من مضر وهو هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر - ثم مضى إلى أشجع - وهي قبيلة من غطفان - فخرج إليه الفارس إلى آخر ما ذكره.

قوله (وخرج إليه حميد بن قحطبة وهو مدبر على الفارس يضربه من زقاق العماريين) وهو مدبر حال عن ضمير إليه، وعلى الفارس متعلق بمحذوف، وهو قائم، ومن متعلق بخرج وفي بعض النسخ: وهو «مدير» بالياء المثناة من تحت.

قوله (بزج الرمح) الزج بالضم الحديدة التي في أسفل الرمح.

قوله (فأخبرته بسوء تدبيره) أي بسوء تدبير محمد بن عبد الله أو بسوء تدبير عيسى بن زيد، ومن سوء التدبير تفريق العساكر ورجوع محمد حين أوصل أصحابه.

قوله (وخرجنا معه) أي مع إبراهيم بن عبد الله أو مع عيسى بن زيد والأول أظهر.

قوله (حتى أصيب بالسند) هو ما ارتفع من الأرض، وقيل: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح

ص:326

وكأنه كان محلا معروفا.

قوله (فجئت إلى المهدي) في زمان خلافته بعد موت أبيه المنصور الدوانيقي.

قوله (وأدلك على نصيحة لك عندي) النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وارشاده إلى ما هو خير وصالح له.

قوله (تحبا) أي تعطي والحباء العطية.

قوله (وسخاء) كان له سخاء بخلاف أبيه وقد صرف خزائن أبيه في السنة التي حج بها على المسلمين ولكن كان في ضلال وكان عاقبة أمره خسرا.

* الأصل:

18 - وبهذا الإسناد، عن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم الجعفري قال: حدثنا عبد الله بن المفضل مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ واحتوى على المدينة، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة، فأتاه فقال له: يا ابن عم لا تكلفني ما كلف ابن عمك عمك أبا عبد الله، فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد.

فقال له الحسين: إنما عرضت عليك أمرا فإن أردته دخلت فيه وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان ثم ودعه.

فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودعه: يا ابن عم إنك مقتول فأجد الضراب فإن القوم فساق يظهرون إيمانا ويسترون شركا وإنا لله وإنا إليه راجعون، أحتسبكم عند الله من عصبة، ثم خرج الحسين وكان من أمره ما كان، قتلوا كلهم كما قال (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (لما خرج الحسين بن علي) هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والفخ بئر على نحو فرسخ من مكة.

قوله (فأجد الضراب) أمره بعدما أخبره بأنه يقتل بإجادة المضاربة والمقاتلة والحزم فيها وكمال الاحتياط في أمرها، وعلله بأن القوم مشركون لا يراعون لأهل البيت حرمة ولا لعترة الرسول عزة فلا يبالون بقتلهم.

قوله (أحتسبكم عند الله من عصبة) أي أعدكم عند الله من عصبة واعتد أجرا، نوى به وجه الله تعالى، وقال في المغرب: العصبة قرابة الرجل لأبيه وكأنها جمع عاصب وإن لم يسمع به، من عصبوا به إذا أحاطوا حوله، ثم سمي بها الواحد والجمع المذكر والمؤنث للغلبة، وقالوا في مصدرها العصوبة، وقال الجوهري: عصبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه، وإنما سموا عصبة لأنهم

ص:327

عصبوا به أي أحاطوا به فالأب طرف والابن طرف والعم جانب والأخ جانب والجمع العصبات.

* الأصل:

19 - وبهذا الإسناد، عن عبد الله بن إبراهيم الجعفري قال: كتب يحيى بن عبد الله بن الحسن إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) «أما بعد فإني أوصي نفسي بتقوى الله وبها أوصيك فإنها وصية الله في الأولين ووصيته في الآخرين، خبرني من ورد علي من أعوان الله على دينه ونشر طاعته بما كان من تحننك مع خذلانك وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك وقديما ادعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله، فاستهويتم وأظللتم وأنا محذرك ما حذرك الله من نفسه».

فكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) «من موسى بن - عبد الله - جعفر وعلي مشتركين في التذلل لله وطاعته إلى يحيى بن عبد الله بن حسن، أما بعد فإني أحذرك الله ونفسي وأعلمك أليم عذابه وشديد عقابه وتكامل نقماته وأوصيك ونفسي بتقوى الله فإنها زين الكلام وتثبيت النعم، أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع وأبي من قبل، وما سمعت ذلك مني و (ستكتب شهادتهم ويسألون) ولم يدع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم، حتى يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم وذكرت إني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغبا ضعف عن سنة ولا قلة بصيرة بحجة ولكن الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجا وغرائب وغرائز، فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك وما الصهلج في الإنسان؟ ثم اكتب إلي بخبر ذلك وأنا متقدم إليك، أحذرك معصية الخليفة وأحثك على بره وطاعته وأن تطلب لنفسك أمانا قبل أن تأخذك الأظفار ويلزمك الخناق من كل مكان، فتروح إلى النفس من كل مكان ولا تجده حتى يمن الله عليك بمنه وفضله، ورقة الخليفة - أبقاه الله - فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسلام على من أتبع الهدى «إنا قد أوحي إلينا ان العذاب على من كذب وتولى».

قال الجعفري: فبلغني أن كتاب موسى بن جعفر (عليهما السلام) وقع في يدي هارون فلما قرأه قال:

الناس يحملوني على موسى بن جعفر وهو بريء مما يرمى به.

تم الجزء الثاني من كتاب الكافي ويتلوه بمشيئة الله وعونه الجزء الثالث وهو باب كراهية التوقيت والحمد لله رب العالمين والصلام والسلام على محمد وآله أجمعين.

* الشرح:

ص:328

قوله (فإني أوصي نفسي بتقوى الله) تقواه طريقه المسلوك إليه وهي في الحقيقة خشيته المستلزمة للسداد في الطاعات والإعراض عن المنهيات ووصية الرجل نفسه بها ربطها بها وحملها عليها ووصية الغير بها تذكيرة لها وأمره بها ليرتكبها ويلتزمها.

قوله (من تحننك مع خذلانك) أي من شوقك إلى الدنيا وميلك إلى أغراضها وإمارتها مع عدم وجدانك إياها.

قوله (للرضا من آل محمد) أي للمرضي منهم، أراد به نفسه لزعمه أن كل من خرج من ولد فاطمة (عليهما السلام) بالسيف ويدعو الخلق إلى نفسه فهو واجب الاتباع.

قوله (وقد احتجبتها) أي ما قبلت الدعوة ومع ذلك منعت غيرك ممن تبعك منها لزعمك أنك صاحب الدعوة ومالك هذا الأمر.

قوله (واحتجبها أبوك من قبلك) إشارة إلى ما فعله (عليه السلام) بالنسبة إلى ابن عمه محمد بن عبد الله بن الحسن.

قوله (وقديما ادعيتم ما ليس لكم) من أمر الخلافة واستحقاق الإمامة، أراد بالزمان القديم زمان علي بن الحسين (عليهما السلام) لزعمه أن الإمامة بعد الحسين (عليه السلام) انتقلت إلى ولد الحسن وذلك ظن الذين لا يوقنون.

قوله (فاستهويتم وأظللتم) أي فأردتم شيئا وأحببتم إياه، أوقعتم في وهدة الضلال وأظللتم كثيرا من الناس، قال ذلك ظنا بأن كل من تبع علي بن الحسين وأولاده الطاهرين فهو في ضلال، ذلك ظن الذين لا يؤمنون.

قوله (ما حذرك الله من نفسه) من العقوبة الدنيوية والاخروية لمخالفة أمره وأمر أولي الأمر، ولعل هذا الكتاب تدليس منه ليرجع إليه الجاهلون، فإن أصحاب الباطل في كل عصر يحتاجون في ترويج باطلهم إلى أمثال هذه الأقاويل الفاسدة.

قوله (من موسى بن عبد الله جعفر وعلي مشتركين في التذلل لله وطاعته) جعفر وعلي بدل من عبد الله ومشتركين حال عنهما وإنما ذكر عليا مع أن المكتوب إليه لا ينكر فضله للتنبيه على أن منهج جعفر منهجه وطريقته طريقته.

قوله (أما بعد فإني أحذرك الله ونفسي) قدم المخاطب لأنه أولى بالتحذير وضم نفسه لأنه أدخل في النصيحة وأقرب من القبول.

قوله (وأعلمك أليم عذابه) في العدول من التحذير إلى الاعلام اعلام بوقوع ذلك ولزومه والمعطوفات متغايرة، وان كان العذاب العقوبة والنقمة متقاربة لأن الأليم وصف للعذاب باعتبار

ص:329

تعلقه بالغير وتأثيره فيه إيلاما وإيجاعا والشدة وصف للعقوبة باعتبار تحقق الزيادة فيها والتكامل وصف للنعمة باعتبار بلوغها إلى الغاية ووصولها إلى النهاية، اما بالنظر إلى ذاتها، أو باعتبار كمال السبب ونهاية قوته لأن المسببات تابعة للأسباب في القوة والضعف.

قوله (فإنها زين الكلام وتثبيت النعم) اسم ان راجع إلى الوصية أو إلى التقوى والخبر الأول يناسب الأول والخبر الثاني يؤيد الثاني، أما أنها زين الكلام فلأن زينة الكلام باعتبار اشتماله على الخبر النافع في الدارين فكلما كان اشتماله عليه أكثر كانت زينته أوفر ولا شبهة في أن الوصية بالتقوى مشتملة على جميع الخيرات لأن التقوى عبارة عن الإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن جميع المنهيات فلا شبهة اذن في أنها زين الكلام، وأما انها تثبيت النعم فلان كل خير وطاعة فهو حافظ للنعم الواصلة مثبتة إياها كما يرشد إليه قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والتقوى لكونها شاملة لجميع الخيرات كانت أولى بحفظها وتثبيتها.

قوله و (ستكتب شهادتهم ويسئلون) أشار بهذا التضمين إلى أن الشهادة أمر عظيم لابد من العلم بها وهم يسئلون عنها بين يدي الله عز وجل حيث لا مفر لهم إلى الإنكار لكونها مكتوبة في دفتر أعمالهم، مودعة في أعضائهم تؤديها عند الطلب كما قال سبحانه. (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

قوله (ولم يدع حرص الدنيا) هذا ظاهر لأن الحرص على الدنيا يوجب حبها والميل إليها والسعي لها والتقحم في تحصيلها من أي وجه كان وكل ذلك يوجب ترك مطلب الآخرة التي هي ضد الدنيا وضرتها إذ التعلق بأحد الضدين يوجب قطع التعلق بالآخر والسلوك في أحد السبيلين المتقابلين يورث البعد من الآخر، وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: ولم يدع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم ثم إن الحرص قد يشتد حتى يجعل مطلب الآخرة كالعلم والعمل والوعظ والنصيحة وأمثال ذلك ذريعة إلى طلب الدنيا وتحصيلها كما هو المشاهد في كثير من أبناء الزمان، وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: حتى يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم، نعوذ بالله من ذلك.

قوله (وذكرت أني ثبطت الناس عنك) ثبطت بتشديد الباء من التثبيط وهو المنع والتعويق والشغل عن الأمر.

قوله (وما منعني من مدخلك) أي ليس المانع من الدخول فيما دخلت ضعف العلم بالسنة، ولا عدم البصيرة بالحجة بل المانع شيء آخر وهو أن الله تعالى خلق الإنسان على أمشاج مختلفة وصفات مختلفة وطبائع متفاوتة، والخلق على هذا النحو منعني من ارتكاب مثل ما ارتكبت لأن

ص:330

الأصل والصفة والطبيعة مني مانعة عن مثل هذا.

قوله (ما العترف في بدنك وما الصهلج في الإنسان) كأن الصهلج عرق والعترف داء عظيم خبيث يحرك صاحبه فيما لا ينبغي، والغرض من هذا السؤال هو التنبية على أن الجاهل بشيء ما لا يكون إماما أبدا.

قوله (أحذرك معصية الخليفة) الظاهر أنه أراد بالخليفة هارون العباسي وإنما حذره عن معصيته لعلمه بأنه لا يقدر على مقاومته مع خوف الضرر والهلاك في مخالفته، ولا يجوز التعرض لذلك عقلا وشرعا لا لأنه حق ومتابعته واجبة من حيث أنه خليفة، ويحتمل أن يراد بالخليفة نفسه (عليه السلام) على سبيل التورية لأنه الخليفة في الواقع.

قوله (قبل أن تأخذك الأظفار) كناية عن الأخذ الشديد بحيث لا يمكن التخلص منه.

قوله (ويلزمك الخناق) الخنق بكسر النون مصدر خنقه إذا عصر حلقه والخناق فاعله والخناق بكسر الخاء وتخفيف النون ما يخنق به من حبل أو وتر أو نحوه، وبضمها داء يمنع نفوذ النفس إلى الرئة والقلب، والمراد سوء حاله وضيق البلاد عليه.

قوله (من كل مكان) متعلق بالفعلين على سبيل التنازع.

قوله (فتروح إلى النفس من كل مكان ولا تجده) الظاهر أنه متفرع على الفعل الأخير أي تسير وتغدو إلى طلب النفس والراحة من كل مكان ولا تجده أو لا تجد مكانه.

قوله (أبقاه الله) إخبار بأنه أبقاه، أو دعاء له بالبقاء لعله أنه تعالى أبقاه إلى مدة فدعاؤه تابع لإرادته عز وجل وحيث لا يجوز الدعاء للظالم بالبقاء لا يجوز إذا جعل الدعاء وسيلة لبقائه على أنه يمكن أن يراد بها صورة الدعاء، وإنما جاء بها حفظا لنفسه، ودفعا لما تقرر في نفس الطاعن السعاية لعلمه بأنه سيقع في يده.

قوله (والسلام على من اتبع الهدى - الآية) أي سلام الرسل والملائكة أو السلام من الفتن والآفات والتخلص من المحن والعقوبات على من اتبع الهدى وطريق الرشاد واستقام في منهج الحق وسبيل السداد، وإنما ختم الكتاب بهذه الآية للتنبيه على أن الرشاد فيما هو فيه من السكون في دولة العصاة والتصريح بالوعيد على من كذبه وتولى عنه بإظهار الخلافة في تلك الطغاة.

قد فرغت من تسويده يوم الجمعة رابع شهر شعبان المعظم من شهور سنة سبع وستين بعد الألف حامدا مصليا على محمد وآله الطاهرين - غفر الله لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والحمد لله رب العالمين.

ص:331

بسم الله الرحمن الرحيم

باب كراهية التوقيت

* الأصل:

1 - علي بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: يا ثابت إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض، فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع السر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتا عندنا ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: قد كان كذلك.

* الشرح:

أي كراهية تعيين الوقت لظهور هذا الأمر وصاحبه وحمل الكراهة على الظاهر ظاهر وعلى التحريم محتمل.

قوله (قد كان وقت هذا الأمر في السبعين) توقيت ظهور هذا الأمر في السبعين من الغيبة على الظاهر أو من الهجرة على احتمال بعيد - حتى يرجع الخلق إلى دين واحد - توقيت بدائي فلذلك جرى فيه البداء. أو غير السبعون إلى ضعفه وهو مائة وأربعون ثم غير ضعفه إلى ما شاء الله.

قوله (فكشفتم قناع السر) القناع والمقنع والمقنعة بالكسر في الجميع ما تقنع به المرأة رأسها إلا أن القناع أوسع. والسر واحد الاسرار وهو ما يكتم، وإضافة القناع إليه لامية وفيه مكنية وتخييلية وترشيح.

قوله (ولم يجعل الله) عطف على محذوف دل عليه ظاهر الحال بل ظاهر المقال أي فحدثناكم حديثا ينبغي كتمانه فأذعتم الحديث كما فتشتموه فكشفتم قناع السر فاخره الله عن الأربعين ومائة ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتا عندنا أي لم يجعل لنا توقيته بعد ذلك، ولا يجوز لنا إظهار وقته، ويحتمل أن يكون المراد أنه لم يجعل لنا علما بوقته بعد ذلك.

ص:332

قوله (ويمحو الله ما يشاء) أي يمحو الله ما يشاء محوه كالسبعين وضعفه ويثبت ما يشاء اثباته كما زاد عليهما. وعنده أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ على أشهر الأقوال وقد كتب فيه جميع ذلك.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم. فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظره متى هو؟ فقال: يا مهزم كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون.

* الشرح:

قوله (أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظره متى هو؟) سأله عن تعيين الوقت لظهور هذا الأمر فأجاب (عليه السلام) بأن الموقت له والمخبر بأن وقته كذا كاذب إما لعدم علمه به أو لأن كل وقت فرض فهو في معرض البداء وبأن المستعجل لظهوره هالك لعدم رضائه بالقضاء الإلهي والتقدير الأزلي، وبأن المسلم لظهوره والقائل به في وقت ما ناج لاعتقاده بالحق من وجهين: أحدهما ظهوره وثانيهما عدم الاستعجال المستلزم لتفويض الأمر إليه تعالى والرضا بقضائه وتقديره.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن القائم (عليه السلام) فقال: كذب الوقاتون إنا أهل بيت لا نوقت.

* الشرح:

قوله (أنا أهل البيت لا نوقت) دل ظاهرا على أن لهم علما بالوقت إلا أنهم لا يوقتون لمصالح منها ما سيذكره علي بن يقطين.

* الأصل:

4 - أحمد بإسناده قال: قال: أبى الله إلا أن يخالف وقت الموقتين.

* الشرح:

قوله (أبى الله إلا أن يخالف وقت الموقتين) أي يخالف الوقت المقدر عنده تعالى لظهوره أو يخالف الله تعالى، وفيه على الثاني دلالة على أنه ليس لظهور هذا الأمر وقت حتمي، وإلا لم يكن المخالفة لو وافقه وقت الموقت.

ص:333

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسين بن علي الخزاز، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لهذا الأمر وقت؟ فقال: كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، إن موسى (عليه السلام) لما خرج وافدا إلى ربه، واعدهم ثلاثين يوما، فلما زاده الله على الثلاثين عشرا قال قومه: قد أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا، فإذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم [به] فقولوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، تؤجروا مرتين.

* الشرح:

قوله (إن موسى (عليه السلام) لما خرج) ظاهر التعليل يشعر بأنه ينبغي عدم تعيين الوقت لظهور هذا الأمر إذ كل وقت فرض فهو وقت بدائي يجري فيه البداء والإرادة والتخلف كما قالوا في باب الغيبة لله تعالى فيها بداءات وارادات فلو عين الوقت له وجرى فيه البداء وتخلف الظهور لافتتن الخلائق ورجعوا عن الحق كما وقع مثل ذلك في قوم موسى (عليه السلام) ولكن الأنبياء والأوصياء قد يخبرون عن أمثال ذلك وكان إخبارهم في علم الله معلقا بشروط معتبرة في تحققها بحسب نفس الأمر وبذلك يخرج عن حد الكذب ويدخل في حيز الصدق، وقد ذكرنا في باب البداء من كتاب التوحيد ما يناسب هذا المقام.

قوله (توجروا مرتين) مرة للتصديق الأول، ومرة للتصديق الثاني وكلاهما حق، وذلك كما إذا أخبر بموت زيد في وقت كذا ولم يمت فيه فإن ظهور خلافه يشعر بأن موته في ذلك الوقت كان متعلقا بشرط في علم الله تعالى وكان غير محتوم به فلما لم يتحقق ذلك الشرط لم يمت وليس ذلك الإخبار كذبا إذ هو مقيد في نفس الأمر إذا لم يتعلق بأمر حتمي، وقد ذكرنا في باب البداء ما يوضحه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى وأحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن السياري، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن أبيه علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة، قال: وقال يقطين لابنه علي بن يقطين: ما بالنا قيل لنا فكان وقيل لكم فلم يكن؟ قال: فقال له علي: إن الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد، غير أن أمركم حضر، فأعطيتم محضه، فكان كما قيل لكم، وإن أمرنا لم يحضر، فعللنا بالأماني، فلو قيل لنا: إن

ص:334

هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألفا لقلوب الناس وتقريبا للفرج.

* الشرح:

قوله (الشيعة تربى بالأماني) أراد بتربيتهم اصلاح حالهم وتثبيت قلوبهم بالوعد القريب لظهور صاحب الأمر (عليه السلام) واستيلائه على العباد والبلاد ولو تحقق الوعد البعيد حصل لهم اليأس من لقائه واضطربت نفوسهم وفسدت عقائدهم.

قوله (منذ مائتي سنة) منذ مبني على الضم ومذ مبني على السكون وكل واحد منهما يصلح أن تكون حرف جر فتجر ما بعدهما وتجري بهما مجرى في ولا تدخلهما حينئذ إلا على زمان أنت فيه فتقول: ما رأيته مذ الليلة ويصلح أن يكونا اسمين فترفع ما بعدهما على التاريخ أو على التوقيت وتقول في التاريخ: ما رأيته مذ يوم الجمعة أي أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وتقول في التوقيت:

ما رأيته مذ سنة أي أمد ذلك سنة ولا يقع ههنا إلا نكرة لأنك لا تقول مذ سنة كذا وإنما تقول مذ سنة والأول هو المراد هنا لأن الليلة كما جعل مجموعها حالا مع أن بعض أجزائها ماض وبعضها مستقبل كذلك مائتي سنة.

قوله (قال وقال يقطين لابنه) لما دل قول علي بن يقطين على أن المخبر عنه وهو ظهور هذا الأمر لم يقطع على نحو ما أخبروا ووفق ما أظهروا من زمان قريب سأله أبوه يقطين امتحانا واختبارا بأنه هل يعلم سبب الأخبار بقرب ظهوره وسره أم لا، حيث قال: ما بالنا يعني ما حالنا قيل لنا من الأمور الغائبة مطلقا أو من الخلافة العباسية من دولة آل يقطين أمر فكان ذلك الأمر كما قيل، وقيل لكم منها أمر من قرب ظهور صاحب الأمر فلم يكن على نحو ما قيل عن قريب، فأشار علي إلى الجواب على سبيل الإجمال بأن ما قيل لنا ولكم كلاهما حق ومخرجهما واحد لصدورهما من أهل العصمة (عليهم السلام) فوجب علينا التصديق والتسليم.

وعلى سبيل التفصيل بأن بين ما قيل لنا وما قيل لكم فرقا وهو أن ما قيل لكم أمر حضر وقته وقرب زمانه فأعطيتم محضه وخالصه الذي غير مشوب باحتمال غيره فلذلك كان ذلك الأمر كما قيل لكم بخلاف ما قيل لنا من الأمر فإنه لم يحضر وقته ولم يقرب زمانه فالهينا بالأماني وقيل لنا إن هذا الأمر ظهوره قريب تألفا لقلوبنا وإمالة لها إلى قبوله فإنه لو قيل لنا: هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة أو أكثر من ذلك لقست قلوب أكثر الناس وارتدوا عن الإسلام، وبالجملة القول بأن وقوع ذلك الأمر قريب محتمل لأقرب الأوقات إلينا وأبعده لأن ما يقع في أبعد الأوقات لكونه

ص:335

متحقق الوقوع قريب أيضا ولذلك حكم جل شأنه بقرب قيام القيامة في مواضع عديدة من القرآن ومن هذه الجهة صدر هذا القول ليحمل المخاطب على أقرب الأوقات ليطمئن قلبه ويستقيم، وإذا مضى الأقرب ولم يظهر حمله على الأقرب وهكذا دائما وان كان مراد القائل أبعد الأوقات ففي هذا القول الإجمالي مصلحة عظيمة ومنفعة جليلة وهم (عليهم السلام) حكماء لا يتركون أمثال هذه المصالح.

قوله (فعللنا بالأماني) علله بالشيء أي ألهاه به كما يعلل الصبي بشيء من الطعام يتجزى به عن اللبن وعله يعله ويعله أي سقاه السقية الثانية وعل بنفسه يتعدى ولا يتعدى وأعل القوم، شربت إبلهم العلل، والتعليل سقي بعد سقي، والمعنى الأول أنسب هنا أي ألهينا بالأماني وشغلنا بها في تلك المدة والثاني أيضا محتمل أي سقينا بالأماني مرة بعد أخرى على سبيل المكنية والتخييلية.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن إسماعيل الأنباري، عن الحسن بن علي، عن إبراهيم بن مهزم، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكرنا عنده ملوك آل فلان، فقال:

إنما هلك الناس من استعجالهم لهذا الأمر، إن الله لا يعجل لعجلة العباد، إن لهذا الأمر غاية ينتهي إليها، فلو قد بلغوها لم يستقدموا ساعة ولم يستأخروا.

* الشرح:

قوله (ذكرنا عنده ملوك آل فلان) أي ذكرنا عنده ملوك آل عباس وظهور دولتهم الباطلة وخفاء هذا الأمر ووليه وأملنا ظهوره واستعجلنا.

قوله (إنما هلك الناس من استعجالهم لهذا الأمر) أراد بالهلاك الهلاك الأخروي باستحقاق العذاب. والحصر من باب المبالغة لأن الاستعجال من أعظم أسباب الهلاك حتى استدل طائفة بعدمه على عدم وجود صاحب هذا الأمر وارتدوا عن دينهم.

قوله (إن الله لا يعجل) لبناء أفعاله على الحكم والمصالح، ولا تبدل حكمته ومصالحه عجلة العباد ووسائلهم.

قوله (لم يستقدموا ساعة) ذكر عدم الاستقدام من باب الأطراد إذ لا يتصور الإستقدام على الغاية بعد فرض بلوغها وهو ظاهر.

ص:336

باب التمحيص والامتحان

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج وعلي بن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر وخطب بخطبة - ذكرها - يقول فيها: ألا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (صلى الله عليه وآله) والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سباقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا، والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم.

* الشرح:

قوله (التمحيص والامتحان) التمحيص بالحاء والصاد المهملتين ابتلاء الإنسان واختباره ليظهر جيده من رديه وخالصه من مغشوشه ويمتاز بعضهم من بعض من محصت الذهب بالنار إذا خلصته مما يشوبه من تراب المعدن وغيره، والامتحان الاختبار بالمحنة وهي ما يمتحن به الإنسان من بلية ومشقة وتكليف ونحو ذلك، من محنت البئر إذا أخرجت ترابها وطينها ليبقى ماؤها خالصا صافيا، ومنه الرجل الممتحن أي المصفى المهذب، والابتلاء لطف من الله تعالى كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) وان الله يبتلى عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات واغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر».

وليس المراد منه في حقه تعالى الحقيقة وهي طلب العلم بما يؤول إليه أحوال العباد لأنه علام الغيوب لا يعزب عنه شيء بل المراد به المجاز فإن ابتلاءه لعباده بالتكليف مثلا باعتبار أن ثوابه وعقابه لهم كانا موقوفين على تكليفهم وطاعتهم وعصيانهم فأشبه ذلك ابتلاء الإنسان عبيده بأمر ونهي اختباره لهم ليعلم من أطاعه منهم ممن عصاه فيكرم الأول ويهين الثاني، فأطلق عليه لفظ الابتلاء والاختبار باعتبار التشارك في الصورة والأثر وكذلك ابتلاء الإنسان واختباره بما أوجد فيه من الطبيعة المائلة إلى الفساد فإنه لما خلق فيه من القوة الشهوية والغضبية وما يتبعها، وكان لهذه القوى ميول إلى لذات الدنيا وكانت النفس في الأكثر تابعة لها مائلة إلى مشتهياتها ثم مع ذلك كان المطلوب من النفس ترك تلك المتابعة والالتفات إلى أمر الآخرة وجذب تلك القوى واستعمالها في ذلك الأمر كانت إرادته تعالى لذلك الالتفات مع منازعة الهوى وجذب القوى وما يترتب عليه

ص:337

من الثواب والعقاب أشبه ابتلاء الإنسان واختباره لعبده، فوهب له جميع ما يشتهيه ثم كلفه مع ذلك تكاليف شاقة لا يتمكن من فعلها إلا بالتفاته عن مشتهاه وتنغيصه عليه فلا جرم صدر صورة الابتلاء والاختبار من الله تعالى شبيهة بصورة ابتلاء الإنسان، وعليه فقس الاختبار بكل ما يختبره به، والله أعلم.

قوله (ألا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (عليه السلام)) أشار إلى أنهم لم يكونوا على دين الحق ومن أهل التقوى والديانة كما لم يكونوا عليه يوم بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفيه رمز على بطلان خلافة الثلاثة وخروج أكثر الصحابة عن الدين وقيل: أشار به إلى ما هم عليه في اختلاف الأوهام وتشتت الآراء وعدم الالفة والاجتماع في نصرة الله عن شبهات يلقيها الشيطان على الأذهان القابلة لوسوسته المقهورة في يده وذلك من أعظم الفتن التي يبتلي الله عباده (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) وهي أمور تشبه ما كان الناس عليه حال بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفي ذلك تنبيه على أنهم ليسوا من تقوى الله في شيء.

قوله (والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة) أي لتحركن بالشدائد حركة تزعجكم من مكانكم وتحيركم في شأنكم، أشار به إلى ما يوقع بهم بنو أمية وغيرهم من الخوارج وأمراء الجور من القتل والأذى والهموم: قال في النهاية: البلابل الهموم والأحزان وبلبلة الصدر وسوسته ومنه حديث علي (عليه السلام): لتبلبلن إلى آخره.

قوله (ولتغربلن غربلة) أي يذهب خياركم ويبقى اراذلكم وفيه كناية عن التقاط آحادهم وقصدهم بالأذى والقتل كما فعل بكثير من الصحابة والتابعين وفي ذلك تشبيه لفعلهم بغربلة الدقيق ونحوه ليتميز شيء منه عن شيء ولذلك استعير له لفظها، ويحتمل أن يراد به خلط بعضهم ببعض ووقوع الاضطراب بينهم لأن غربلة الدقيق يخلط بعضه ببعض وهو الأنسب بقوله «حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم» لتصريف أئمة الجور إياكم وتقليبكم من حال إلى حال واهانتكم وتغييركم من وضع إلى وضع ومن دين إلى دين، ويحتمل أن يراد بقوله حتى يعود، إلى آخر أنه يصير عزيزكم ذليلا وذليلكم عزيزا وهو اخبار عما وقع في عهده (عليه السلام) مع القاسطين والمارقين وبعد عهده من أمراء بني أمية وغيرهم.

قوله (وليسبقن سباقون كانوا قصروا) أشار إلى بعض نتائج تغلب الزمان، قيل: أشار بالمقصرين الذين يسبقون إلى قوم قصروا عن نصرته في مبدء الأمر عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ثم نصروه في أيام خلافته وقاتلوا معه في أيام ولايته وحاربوا عدوه في محاربته، وبالسابقين الذين يقصرون إلى من كان له في الإسلام سابقة ثم يخذله وينحرف عنه ويقاتله كأهل الشام وأصحاب الجمل وأهل النهروان، وقيل: أراد أعم من ذلك، أراد بالمقصرين الذين يسبقون كل من أخذت العناية الإلهية

ص:338

بيده وقاد زمان التوفيق إلى الجد في طاعة الله واتباع سائر أوامره والوقوف عند نواهيه وزواجره بعد تقصير في ذلك وعكس هؤلاء من كان في مبدء الأمر مشمرا في سلوك سبيل الله ثم جذبه هواه إلى غير ما كان عليه وسلك به الشيطان مسلكه فاستبدل بسبقه في الدين تقصيرا وانحرافا.

قوله (والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة) الوشمة بالشين المعجمة الكلمة وبالمهملة العلامة، أقسم بالقسم البار أنه لم يكتم كلمة حق يجب عليه بيانها أو علامة من علامات الدين يتعين عليه إظهارها أنه لم يكذب قط ترويجا لما قبله من الأخبار بوقوعهم في البلية وتوطئة لقوله «ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم» أي بمقام بيعة الخلق ويوم اجتماعهم، وكل ذلك تنفير لهم عن الباطل إلى الحق وتثبيت لهم على اتباعه.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى والحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن إسماعيل الأنباري، عن الحسن بن علي، عن أبي المغرا، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ويل لطغاة العرب، من أمر قد اقترب، قلت: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال: نفر يسير، قلت: والله إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال: لابد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا ويستخرج في الغربال خلق كثير.

* الشرح:

قوله (من أمر قد اقترب) أراد به ظهور الحجة واستيلاءه على طغاة العرب وهم المنكرون له أو أهل الظلم والفساد ومبدء الجور والعناد.

قوله (لابد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا) أي لابد لهم من أن يختبروا بالمخمصة والمجاعة ويبتلوا بالمجاهدة والمشقة ويمتحنوا بالمخاوف والمكاره والتكاليف الشاقة وغيرها من أنواع المحن والبلايا ويميزوا ليمتاز المطيع من العاصي والسعيد من الشقي ويغربلوا ويستخرج في الغربال خلق كثير وإلى هذا المعنى يشير ما رواه مسلم عن عائشة قالت: «سمعت عن رسول الله (عليه السلام) يقول، لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق - إلى قوله - ولو كره المشركون) إن ذلك تام قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل مسلم من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم» (1) وفي رواية أخرى «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه» (2) قال أبو عبد الله الآبي في قول عائشة:

ص:339


1- (1) صحيح مسلم ج 8 ص 182.
2- (2) صحيح مسلم ج 8 ص 182.

إن كنت لأظن ان ذلك تام حين انزل الله الآية فقال في جوابها: يكون ذلك ما شاء الله، وحاصل الجواب أن ما دلت عليه الآية من ظهوره على الدين كله ليست قضية دأئمة، وقال: قوله «يا ليتني مكانه» لما يرى من تغيير الشريعة أو لما يرى من البلاء والمحن والفتنة، وبالجملة تغيير الشرائع ووقوع الهرج في العالم وظهور الفتن والبلايا ورجوع الناس عن الإسلام علامات أشراط الساعة عند العامة والخاصة.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى والحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن الحسن بن محمد الصيرفي، عن جعفر بن محمد الصيقل، عن أبيه، عن منصور قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا منصور! إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس ولا والله حتى تميزوا، ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.

* الشرح:

قوله (إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد إياس) اليأس ضد الرجاء والإياس مصدر أيأس والأصل ايئاس بوزن إفعال حذف منه الهمز الذي هو عين الكلمة تخفيفا.

قوله (حتى تميزوا) قد ثبت أنه قد يقع الامتحانات والاختبارات قبل خروج القائم (عليه السلام) بخروج الدجال والسفياني وظهور الآراء المختلفة والرايات المتكثرة واختلاط الأديان حتى يرجع أكثر الخلق عن الأديان، نعوذ بالله من شر ذلك الزمان.

قوله (حتى يشقى من يشقى) أي حتى يشقى من كان في شأنه الشقاء وكتب في بطن أمه أنه من الأشقياء ويسعد من كان في شأنه السعادة وكتب في بطن أمه أنه من السعداء، فيبرز في كل منهما ما كان مستورا فيه ويميز كل واحد من الآخر.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت:

جعلت فداك، الذي عندنا الفتنة في الدين، فقال: يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.

* الشرح:

قوله (الفتنة في الدين) أي الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومقاتلة الإخوان ومحاربة الأقرباء ومجاهدة الأعداء والإتيان بالطاعات والهجران عن الشهوات والصبر على الفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم واضرارهم ومعنى الآية: أحسب الذين آمنوا واجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول

ص:340

بالإيمان أن يتركوا على حالهم! لا يتركون بل يفتنون بأنواع المحن ليظهر ثبات أقدامهم ورسوخ عقائدهم وخلوص نياتهم ويميز المخلص من غير المخلص والراسخ من غير الراسخ كما يفتن الذهب بالنار ليظهر جيده من رديه وخالصه من خبيثه.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن سليمان بن صالح رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: إن حديثكم هذا لتشمئز منه قلوب الرجال، فمن أقر به فزيدوه، ومن أنكره فذروه، إنه لابد من أن يكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة حتى يسقط فيها من يشق الشعر بشعرتين، حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا.

* الشرح:

قوله (إن حديثكم هذا لتشمئز منه قلوب الرجال) الظاهر أن هذا إشارة إلى حديث معلوم هو وجود صاحب الأمر وظهوره واستيلاؤه على جميع البلاد والعباد، والمراد باشمئزاز قلوبهم انقباضها باستماع هذا الحديث وعدم قبولها إياه استنكافا واستنكارا.

قوله (يسقط فيها كل بطانة ووليجة) أي يسقط في تلك الفتنة ويضل بها كل من كان داخلا في الدين وصاحب سر فيه بحسب الظاهر، وبطانة الرجل صاحب سره وداخل أمره ومن يشاوره في أحواله، ووليجته بطانته ودخلاؤه وخاصته.

قوله (من يشق الشعر بشعرتين) كناية عن شدة ذكائه يعني أن الذكي المتوقد يقع فيها فكيف غيره.

* الأصل:

6 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سنان، عن محمد بن منصور الصيقل، عن أبيه قال: كنت أنا والحارث بن المغيرة وجماعة من أصحابنا جلوسا وأبو عبد الله (عليه السلام) يسمع كلامنا، فقال لنا: في أي شيء أنتم؟ هيهات، هيهات، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا. لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا، لا والله ما يكون ما تمدون إليه أعينكم إلا بعد إياس، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد.

* الشرح:

قوله (هيهات هيهات) أي بعدما أنتم فيه من ظهور المهدي عن قريب والتكرير للتأكيد والمبالغة.

ص:341

باب إنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اعرف إمامك، فإنك إذا عرفته لم يضرك، تقدم هذا الأمر أو تأخر.

* الشرح:

قوله (فإنك إذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر) الجملة فاعل باعتبار مضمونها أو بتقدير أن والمقصود الحكم بالمساواة بين الأمرين فلا يرد أن الضرر لا يتصور في صورة التقدم أو ذكر التقدم تبعا أو استطرادا.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن صفوان بن يحيى عن محمد بن مروان، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: «يوم ندعوا كل اناس بإمامهم» فقال: يا فضيل أعرف إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر، كان بمنزلة من كان قاعدا في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه، قال: وقال بعض أصحابه بمنزلة من استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (فقال: يا فضيل اعرف إمامك) أشار (عليه السلام) إلى أن المراد بالامام في الآية من وجب على الأمة معرفته والتصديق به وهو إمام كل عصر وإلى أن معرفته على وجه يمتاز عن غيره كافية وإن لم ير شخصه ولم يدرك ملازمته لأن ذلك مما لا يجب باتفاق الأمة.

قوله (كان بمنزلة من كان قاعدا في عسكره) لا يقال: قد فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لأنا نقول: هذا إذا حضر ولم يجاهد، وأما من آمن به في غيبته ومات قبل ظهوره فلا يبعد أن يكون مساويا للمجاهد في الدرجة.

* الأصل:

ص:342

3 - علي بن محمد، رفعه، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

جعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير؟ وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فرج عنه لانتظاره.

* الشرح:

قوله (متى الفرج) سأل أبو بصير عن زمان حصول الفرج بظهور الصاحب (عليه السلام) أجاب (عليه السلام) بأنك ممن يريد الدنيا وزينتها حيث تطلب الفرج الدنيوي وهو أمر سهل هين وإنما الفرج هو الفرج الأخروي بالخلاص من العذاب الأبدي وهذا الفرج قد حصل لك بالفعل لأنك عرفت هذا الأمر ومن عرف هذا الأمر فقد فرج الله عنه ورفع عنه ضيق الصدر ووسوسة القلب وعذاب الآخرة، كل ذلك لانتظاره ظهور هذا الأمر، وانتظاره لكونه من أفضل الطاعات سبب للفرج الحقيقي وهو الفرج الأخروي.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن إسماعيل بن محمد الخزاعي قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا أسمع، فقال: تراني أدرك القائم (عليه السلام)؟ فقال: يا أبا بصير: ألست تعرف إمامك؟ فقال: إي والله وأنت هو - وتناول يده - فقال: والله ما تبالي يا أبا بصير.

ألا تكون محتبيا بسيفك في ظل رواق القائم صلوات الله عليه.

* الشرح:

قوله (تراني أدرك القائم (عليه السلام)) ترقبه إدراك القائم (عليه السلام) إما لعدم علمه بأنه الثاني عشر أو لطول عمره أو لتوقعه زوال دولة الباطل بسرعة وظهور دولة الحق عن قريب لما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «إن الله عز ذكره إذا أراد فناء قوم أمر الفلك فأسرع إليه فكان على مقدار ما يريد» وإما لأنه تمناه وهو لا يتوقف على إمكان التمني بحسب العادة فسلاه (عليه السلام) بأنك إذا عرفت إمام زمانك فكأنك أدركت القائم (عليه السلام)، وفي ظل رواقه معنى ولا تفاوت بين الحالين أصلا ولا تبالي أن لا تكون في ظل رواقه ظاهرا، والرواق ككتاب وغراب بيت كالفسطاط أو سقف في مقدم البيت.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن محمد بن مروان عن فضيل ابن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية. ومن مات وهو عارف لإمامه، لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن مات وهو عارف لإمامه، كان

ص:343

كمن هو مع القائم في فسطاطه.

* الشرح:

قوله (فميتته ميتة جاهلية) الجاهلية ما قبل البعثة والميتة بالكسر حالة الموت أي يموت كما يموت أهل الجاهلية في الكفر والضلال، والحديث منقول من طريق العامة أيضا وقد مر زيادة توضيح لذلك.

* الأصل:

6 - الحسين بن علي العلوي، عن سهل بن جمهور، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن هاشم، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما ضر من مات منتظرا لأمرنا ألا يموت في وسط فسطاط المهدي وعسكره.

* الشرح:

قوله (ما ضر من مات منتظرا لأمرنا ألا يموت) ألا يموت فتح الهمزة فاعل ضر و «من مات» مفعوله، يعني من عرف حقنا وقال بوجود المهدي وانتظر لظهوره لا يضر أن لا يدرك المهدي ولا يموت في فسطاطه أو في عسكره فإنه يدرك تلك الفضيلة وينال تلك الكرامة. بحسب الواقع.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، إن الله عز وجل يقول: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) فمن عرف إمامه كان كمن كان في فسطاط المنتظر (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (اعرف العلامة) أراد بالعلامة الإمام لأنه علامة تعرف به أحوال المبدء والمعاد والقوانين الشرعية والطريقة الإلهية.

قوله (إن الله عز وجل يقول) تعليل لما تقدم من وجوب معرفة الإمام، وعدم لحوق الضرر المذكور بعدها أما دلالته على الأول فظاهر وأما على الثاني فقد أشار بالتفريع المذكور ووجه أن المعية المستفادة من الباء مع عدم إظهار الفرق بين من كان في فسطاطه وغيرهم يقتضي ذلك كما لا يخفى على الفطن.

ص:344

باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي سلام، عن سورة بن كليب، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: قول الله عز وجل: (ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)؟ قال: من قال: إني إمام وليس بإمام، قال: قلت: وإن كان علويا؟ قال: وإن كان علويا قلت: وإن كان من ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قال: وإن كان.

* الشرح:

قوله (وان كان من ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال وإن كان) الظاهر أنه تأكيد لقوله: وإن كان علويا ويحتمل أن يراد بولد علي بن أبي طالب ولده من صلبه بلا واسطة، والعلوي أعم منه أو مباين له بتخصيصه بولد بواسطة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان، عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر.

* الشرح:

قوله (فهو كافر) أي كافر خارج عن دين الإسلام كمن ادعى النبوة وليس من أهلها ومن أنكر إمامة من هو من أهلها.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن الحسين بن المختار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك (ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله) قال: كل من زعم أنه إمام وليس بإمام، قلت: وإن كان فاطميا علويا؟ قال:

وإن كان فاطميا علويا.

* الشرح:

ص:345

قوله (قلت وإن كان فاطميا علويا) ذكر علويا للتأكيد ولو قدمه لكان للاحتراز.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن داود الحمار عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا.

* الشرح:

قوله (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة) أي لا يكلمهم كلام رضى بل كلام سخط مثل (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) أو هو كناية عن الإعراض وسلب الرحمة فإن من منع منا أحد كلامه أعرض عنه وسلب الرحمة منه ومعنى (لا ينظر إليهم) لا يحسن إليهم وليس المراد نفي الرؤية عنهم لأن الرؤية العينية بالنسبة إلى الكل غير متحققة والرؤية العلمية بالنسبة إلى الجميع ثابتة فلا وجه للتخصيص على التقديرين وخصص يوم القيامة لأن الإحسان غير منتف عنهم في الدنيا ومعنى لا يزكيهم لا يطهرهم من الذنوب لعظمتها أو لا يثني عليهم لأن من لا يثنيه سبحانه يعذبهم ولهم في الآخرة عذاب أليم مؤلم موجع.

قوله (من ادعى إمامة من الله) فيه شيء لأن أبا جعفر (عليه السلام) فسر الثلاثة في باب الكبر بشيخ زان وملك جبار ومقل مختال ويمكن دفعه بأن المراد بالثلاثة في الآية جنس الثلاثة دون الشخص فلا تنافي بين التفسيرين لتحقق الجنس في الفريقين.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن يحيى أخي أديم، عن الوليد بن صبيح قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن هذا الأمر لا يدعيه غير صاحبه إلا بتر الله عمره.

* الشرح:

قوله (أن هذا الأمر لا يدعيه غير صاحبه إلا بتر الله عمره) كل من ادعى أنه صاحب الأمر ولم يكن هو صاحبه بتر الله عمره وقطعه كما وقع في كثير.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشرك مع إمام إمامته من عند الله; من ليست إمامته من الله، كان مشركا بالله.

ص:346

* الشرح:

قوله (كان مشركا بالله) أشرك بالله فهو مشرك إذا جعل له شريكا وقد جعل هذا الرجل له بزعمه مثلا يفعل مثل فعله، ويحتمل أن يراد بالمشرك الكافر والشرك الكفر.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن محمد ابن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل قال لي: اعرف الآخر من الأئمة ولا يضرك أن لا تعرف الأول، قال: فقال: لعن الله هذا فإني أبغضه ولا أعرفه وهل عرف الآخر إلا بالأول.

* الشرح:

قوله (قال لي اعرف الآخر) ذهب هذا الرجل إلى أنه لا يجب معرفة الأئمة كلهم والتصديق بجميعهم ولا ينفع معرفة الأول بدون معرفة الآخر وينفع العكس وهو معرفة الآخر بدون معرفة الأول لتحقق حسن الخاتمة وهو أصل في نيل الدرجات والخلاص من الدركات والاتصاف بالسعادات. وأجاب (عليه السلام) بأن هذا الرجل ملعون مبغوض خارج عن دين الله لوجوب معرفة الأئمة جميعهم ولا ينفع معرفة الآخر بدون معرفة الأول ولا يعقل ذلك لأن الآخر فرع الأول وثابت بنصه ولا يعقل القول بالفرع مع إنكار الأصل.

* الأصل:

8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن صفوان، عن ابن مسكان قال: سألت الشيخ عن الأئمة (عليه السلام)، قال: من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات.

* الشرح:

قوله (سألت الشيخ) أراد به الكاظم (عليه السلام).

قوله (من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات) فالزيدية والجارودية والإسماعيلية والفطحية والواقفية وغيرهم من فرق الشيعة الباطلة كانوا كالمنكرين لخلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بل لنبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي وهب، عن محمد بن منصور قال: سألته عن قول الله عز وجل (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها

ص:347

قل إن الله لا يأمر بالفحشاء * أتقولون على الله مالا تعلمون) قال: فقال: هل رأيت أحدا زعم أن الله أمر بالزناء وشرب الخمر أو شيء من هذه المحارم؟ فقلت: لا. فقال: ما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرهم بها قلت: الله أعلم ووليه، قال: فإن هذا في أئمة الجور، ادعوا أن الله أمرهم بالإئتمام بقوم لم يأمرهم الله بالإئتمام بهم، فرد الله ذلك عليهم فأخبر أنهم قد قالوا عليه الكذب وسمى ذلك منهم فاحشة.

* الشرح:

قوله (قال فقال هل رأيت أحدا زعم أن الله أمر بالزنا) فيه مناقشة من وجهين: أحدهما إن هذا دل على أن أحدا لم يزعم أن الله أمر بالفحشاء، وقد مر في باب الجبر والقدر أن الأشاعرة القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة له تعالى قائلون بأن الله تعالى أمر بالفحشاء وثانيهما أن هذا دل على أن التابعين لأئمة الجور يقولون بأن الله تعالى أمر باتباعهم وأن النص دل على ذلك وهذا خلاف ما هو معروف عندهم من أن الخلافة للثلاثة غير مستفادة من النص، ويمكن دفع الاولى بأن الأشاعرة لم يقولوا صريحا بأن الله تعالى يأمر بالفحشاء وإنما يلزمهم ذلك بناء على مذهبهم فإن الأمر تابع للإرادة وإرادة الفحشاء متحققة عندهم فيلزمهم تحقق الأمر أيضا والفرق بين الأمرين واضح، ويمكن دفع الثانية أيضا بأنهم وإن لم يقولوا بأن ثبوت أصل الخلافة بالنص صريحا لكنهم قالوا بأنه تعالى رضي بمتابعتهم وأمر بها في ضمن القواعد الكلية مثل آية وجوب متابعة الإجماع وغيرها.

قوله (ادعوا أن الله أمرهم بالإئتمام بقوم) المراد بقوم أئمة الجور وضمير ادعوا لاتباعهم.

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي وهب عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا عن قول الله عز وجل: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق.

* الشرح:

قوله (من ذلك أئمة الجور) أي بعض المحرم في الظاهر والباطن إمامة أئمة الجور أو متابعتهم والحاصل أن هذا المحرم كغيره من المحرمات القرآنية ينقسم على قسمين: أحدهما ظاهر بيانه والآخر باطن يحتاج إلى نحو من التنقير والتفسير وقس عليه ما بعده.

ص:348

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب: عن عمرو بن ثابت، عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) قال: هم والله أولياء فلان وفلان إتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إماما، فلذلك قال: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * قال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): هم والله يا جابر، أئمة الظلمة وأشياعهم.

* الشرح:

قوله (أندادا) الأنداد جمع ند بالكسر وهو مثل الشيء يضاده في أموره ويناده أي يخالفه.

قوله (يحبونهم كحب الله) أي يعظمونهم كتعظيم الله تعالى واطاعته ويسوون بينه وبينهم في الطاعة والتعظيم والمحبة ومحبة العبد له إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه وكمال الانقياد له في أوامره ونواهيه ومحبته للعبد إرادة اكرامه وإحسانه وصونه عن المعاصي وإقامته في مقام مرضاته.

قوله (قال هم والله أولياء فلان وفلان) يعني أراد بالأنداد أئمة الجور وبمن الناس أولياءهم المطيعون لهم والتابعون لأمرهم ونهيهم، وقد فسر الأنداد بذلك أيضا جماعة من مفسري العامة ومنهم من فسرها بالأصنام، ومنهم من قال: المراد أعم منهما وهو كل من يشغل عن الله سواء كان أئمة جور أو أصناما.

قوله (فلذلك قال ولو يرى الذين ظلموا) استدلوا على ان المراد بالأنداد أئمة الجور دون الأصنام كما ظن بوجهين: أحدهما الإتيان بضمير جمع المذكر العاقل وهو لا يناسب الأصنام وثانيهما التبري من الطرفين وإنكار كل من التابع والمتبوع الآخر وهو لا يتصور من هذا، وقوله «يرى» بمعنى يعلم، وقوله «أن القوة لله جميعا» في موضع مفعولية وجواب «لو» محذوف ويرون من الرؤية العينية يعني لو يعلم الذين ظلموا على أنفسهم باتخاذ الأنداد أن القوة لله جميعا إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لندموا على ما فعلوا أشد الندم، وقيل: أن القوة لله جميعا متعلق الجواب والمفعولان محذوفان والتقدير: لو يرى الذين ظلموا أن الأنداد لا تنفع لعلموا أن القوة لله جميعا، لا ينفع ولا يضر غيره.

ص:349

قوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا) أي لو يرى الذين ظلموا إذ تبرأ المتبعون من اتباعهم أن القوة لله جميعا فهو بدل من قوله «إذ يرون العذاب».

قوله (ورأوا العذاب) حال عن فاعل تبرأ بتقدير قد أي رائين ويحتمل أن يكون معطوفا على «تبرأ».

قوله (وتقطعت بهم الأسباب) عطف على رأوا وحكمه حكمه، والأسباب جمع السبب وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء من التوافق والتودد والاتباع على الدين والأغراض الداعية إليه وغير ذلك، والباء في «بهم» للسببية أي بسبب كفرهم أو بمعنى عن، كما في قوله تعالى (فاسئل به خبيرا) أو للملابسة والظرف حال.

قوله (لو أن لنا كرة) «لو» للتمني و «لنا» فاعل فعل محذوف أي نتمنى أن يثبت لنا كرة ورجعة إلى الدنيا وإنما تمنوا ذلك لأن التبرى منهم في الآخرة لا يغيضهم لأنهم في هول هائل.

قوله (كذلك يريهم الله) أي مثل تلك الإراءة الفظيعة يريهم الله يوم القيامة أعمالهم القبيحة حسرات وندامات عليهم وهي مفعول ثالث ليريهم إن كان رؤية القلب، وإلا فحال.

قوله (وما هم بخارجين من النار) قيل: أصله: وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق، عن علي بن ميمون، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماما من الله. ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا.

* الشرح:

قوله (لا ينظر الله إليهم) معنى النظر هنا الرحمة والعطف والإحسان لأن النظر في الشاهد دليل المحبة، وترك النظر دليل البغض والكراهة.

ص:350

باب فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، [عن ا] بن أبي نصر، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) قال: يعني من اتخذ دينه رأيه، بغير إمام من أئمة الهدى.

* الشرح:

قوله (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر) هكذا في النسخ التي رأيناها، والأظهر: عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر لأن نقل العدة عن ابن أبي نصر غير ثابت.

قوله (من اتخذ دينه رأيه) أي يعتقد أن ما يقتضيه عقله ويؤديه وهمه دين له، وأصحاب الرأي أصحاب القياس وأرباب الاستحسان الذين يأخذون بآرائهم فيما يشكل من القرآن والحديث أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن زرين عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير والله شانىء لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطيع مع غير راعيها فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في ربضتها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها.

فحنت إليها واغترت بها فصاح بها الراعي: الحقي براعيك وقطيعك، فإنك تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة نادة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذ اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله جل وعز ظاهرا عادلا; أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق.

واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو

ص:351

الضلال البعيد.

* الشرح:

قوله (قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول كل من دان الله) مر هذا الحديث متنا وسندا في باب معرفة الإمام والرد إليه ومر شرحه أيضا فلا نعيده.

قوله (بصرت بقطيع من غير راعيها) في بعض النسخ: مع غير راعيها وفي الباب السابق «بصرت بقطيع غنم مع راعيها» ولكل وجه.

قوله (في ربضتها) ربض الغنم مأواها وفي الباب السابق: في مربضها والأمر هين.

قوله (فهجمت ذعرة متحيرة نادة) أي شاردة نافرة، من ند البعير يند ندا ونديدا وندودا وندادا إذا شرد ونفر. وفي الباب السابق «فهجمت ذعرة متحيرة تائهة».

قوله (ظاهرا عادلا) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: «ظاهرا» بالظاء المعجمة أي البين إمامته بنص صريح جلي من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وغرضه أن ليس المراد بالظاهر الظاهر بين الناس ليرد النقض بالصاحب (عليه السلام) وفي الباب السابق: ظاهر عادل بالرفع دون النصب.

قوله (مات ميتة كفر) أي مات على ما مات عليه الكفار من الضلال والجهل.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد العزيز العبدي، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلانا وفلانا، لهم أمانة، وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق؟ قال: فاستوى أبو عبد الله (عليه السلام) جالسا فأقبل علي كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله، قلت: لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء؟ قال: نعم لا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء، ثم قال، ألا تسمع لقول الله عز وجل: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) يعني [من] ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من الله! وقال: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) إنما عنى بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من الله عز وجل خرجوا بولايتهم [إياه] من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار، ف (اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

* الشرح:

قوله (فيكثر عجبي) لعظم ذلك عندي وإنما يتعجب الإنسان من الشيء إذا عظم موقعه وخفي عليه سببه فيخبر ليعلم موقع هذا الشيء عنده.

ص:352

قوله (لا دين لمن دان الله) أي لمن أطاعه وعبده وأذل نفسه له.

قوله (ولا عتب) العتب الموجدة والغضب من باب ضرب، والعتاب مخاطبة الأراذل ومذاكرة الموجدة. قوله (قال لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء) قال ذلك استبعادا ولا استبعاد فيه لأن أولئك من أهل الإيمان وأصولهم مستحكمة والنقص إنما هو في الفروع بل في العمل بها بخلاف هؤلاء، فإن أصولهم فاسدة لعدم إيمانهم وإن جدوا في العمل بالفروع، فالنسبة بينهما كالنسبة بين المؤمن وغيره وبين الموحد والمشرك، وبين المعترف بالنبوة ومنكرها.

قوله (أولياؤهم الطاغوت) أي الشياطين أو أئمة الجور، والتعميم أولى.

قوله (خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر) يشعر بأن نفس ولايتهم ظلمة الكفر.

* الأصل:

4 - وعنه، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: لاعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من الله وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة.

* الشرح:

قوله (وعنه عن هشام بن سالم) تأمل في مرجع الضمير، ولعله ابن محبوب أو أحمد بن محمد مع الإرسال.

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الله لا يستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام ليس من الله وإن كانت في أعمالها برة تقية، وإن الله ليستحيي أن يعذب أمة دانت بإمام من الله وإن كانت في أعمالها ظالمة مسيئة.

* الشرح:

قوله (إن الله لا يستحيي أن يعذب) أي لا يترك عذابه ترك من يستحيي أن يعذب، والحياء قيل:

هو انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح وعدم المبالاة بها والخجل الذي هو انحصار النفس من الفعل مطلقا، وإذا نسب إلى الله تعالى يراد به الترك اللازم للانقباض كما يراد بالرحمة والغضب إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعناها الحقيقي الممتنع في حقه تعالى.

ص:353

باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى، وهو من الباب الأول

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن ابن اذينة، عن الفضيل بن يسار قال: ابتدأنا أبو عبد الله (عليه السلام) يوما وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية، فقلت: قال ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: إي والله قد قال، قلت: فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (وهو من الباب الأول) الفرق بين البابين أن الإمام في الأول مضاف إلى الله تعالى وفي هذا مطلق وان من لم يعرفه عمله غير مقبول في الأول، وميتته ميتة جاهلية في الثاني، ولما كان المطلق محمولا على المقيد وكانت الميتة الجاهلية مستلزمة لعدم قبول العمل بل عبارة عنه; قال المصنف: وهو من الباب الأول لأن مآلهما واحد.

قوله (فميتته ميتة جاهلية) قد مر أن الميتة بكسر الميم الهيئة التي يكون عليها الإنسان من الموت، والمعنى: من مات وليس له إمام يعني خرج عن طاعته وفارقه بعد معرفة شخصه أو لم يعتقد بأن له إماما صادقا من الله وإن لم يعرف شخصه; فقد مات على هيئة كانت الجاهلية تموت عليها في كونهم لا يرجعون إلى طاعة إمام ولا يتبعون أثرها بل كانوا مستبدين بالأمر لا يجتمعون في شيء من الأمر الحق.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، قال: حدثني عبد الكريم بن عمر، عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول رسول الله (عليه السلام): «من مات وليس له إمام، فميتته ميتة جاهلية»، قال: قلت: ميتة كفر؟ قال: ميتة ضلال، قلت: فمن مات اليوم وليس له إمام، فميتته ميتة جاهلية؟ فقال: نعم.

* الشرح:

قوله (قال قلت ميتة كفر قال ميتة ضلال) لما كان للكفر معان، منها الكفر بالله واليوم الآخر أعني

ص:354

إنكارهما رأسا وهو إنكار أصل الإيمان; ومنها الضلال والارتداد أعني الخروج عن طريق الحق بعد الدخول فيه وتركه بعد طلبه; لوح (عليه السلام) إلى ما هو المقصود ههنا، فإن من اعترف بهذا الشرع وأنكر إمام الحق اعترف بوجوب الإيمان وضل عن طريقه لزعمه أن طريقه ما سلكه، فهو كافر بهذا المعنى لا بالمعنى الأول وإن كانا متشاركين في الخلود في النار.

* الأصل:

3 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن الفضيل، عن الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية؟ قال: نعم: قلت: جاهلية جهلاء؟ أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال.

* الشرح:

قوله (قلت جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه) يقال جاهلية جهلاء وليلة ليلاء تأكيدا للأول أشتق له من اسمه ما يؤكد به ويفيد حصول الأصل فيه على وجه الكمال، ولما كانت الجاهلية هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله واليوم الآخر وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك من الذمائم استعلم السائل بأن المراد بها هل هو الفرد الكامل البالغ في الجهل إلى حد الكمال وهو الذي لا يعرف الصانع والرسول واليوم الآخر أو فرد آخر وهو من لا يعرف إمامه؟ وأشار (عليه السلام) بقوله: جاهلية كفر ونفاق وضلال بأن المراد هو الفرد الآخر، وقد ذكرنا أنه لا تفاوت بينهما في الخلود وإن كان بينهما تفاوت في الطهارة والنجاسة، والعطف للتفسير وبيان أن المراد بالكفر هو هذا الفرد المسمى بالنفاق والضلال دون الفرد الذي هو إنكار الصانع واليوم الآخر وقد عرفت معنى الضلال وأما النفاق; فقال صاحب النهاية: كفر النفاق هو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه وفيه إيماء إلى أن عدم معرفة الإمام يشمل إنكاره ظاهرا وباطنا وإنكاره باطنا فقط وأما العكس وهو إنكاره ظاهرا فقط فالظاهر أنه داخل في المعرفة إلا أن يكون ذلك الإنكار مستندا إلى الحسد فإنه أيضا كفر كإنكار من عرف حق علي (عليه السلام) وأنكره ظاهرا حسدا وعنادا.

* الأصل:

4 - بعض أصحابنا، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن مالك بن عامر، عن المفضل بن زائدة، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله

ص:355

البتة إلى العناء، ومن ادعى سماعا من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك وذلك الباب المأمون على سر الله المكنون.

* الشرح:

قوله (ألزمه الله البتة إلى العناء) العناء بالفتح المشقة اسم من عناه يعنيه، والمراد بها المشقة الاخروية والشقاوة الأبدية، وفي لفظ البتة إشعار بأن الإلزام مقطوع به لا رجعة فيه.

قوله (فهو مشرك) لأن من جعل للإمام شريكا كان كمن جعل للنبي شريكا، ومن جعل للنبي شريكا كان كمن جعل لله تعالى شريكا، وأيضا من رد إمام الله تعالى وأخذ إماما آخر فقد ضاد الله تعالى في أمره، ومن ضاده فهو مشرك، وأيضا من اتخذ إماما آخر فكأنه اتخذ إلها فهو مشرك.

قوله (وذلك الباب المأمون) «ذلك» إشارة إلى الباب الذي فتحه الله تعالى وهو مبتدأ و «الباب المأمون» خبره ويحتمل أن يكون «ذلك الباب» مبتدأ «والمأمون» خبره والجملة كالتعليل للسابق.

ص:356

باب فيمن عرف الحق من أهل البيت (عليهم السلام) ومن أنكر

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سليمان بن جعفر قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: إن علي بن عبد الله (1) بن الحسين ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وامرأته وبنيه من أهل الجنة، ثم قال: من عرف هذا الأمر من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) لم يكن كالناس.

* الشرح:

قوله (قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول إن علي بن عبد الله) أخبر (عليه السلام) أولا بأن عارف هذا الأمر من أهل الجنة مطلقا، وثانيا بأن العارف إذا كان من ولد علي وفاطمة كان له فضل على غيره والظاهر بالنظر إلى حديث آخر هذا الباب أن له أمرين: أحدهما لأصل المعرفة وثانيهما للنسب وحصول الأجر للنسب مشروط بالمعرفة وإلا فلا أثر له بل هو مضر ثم ظاهر هذا الخبر يشعر بأن حصول الفضل مشروط بكونه من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) جميعا فعلى هذا لو كان من ولد علي (عليه السلام) فقط لم يكن له فضل على غيره ويمكن إجراء الفضل في ولده أيضا في الهاشمي مطلقا والله أعلم.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: حدثني الوشاء قال: حدثنا أحمد بن عمر الحلال قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عمن عاندك ولم يعرف حقك من ولد فاطمة; هو وسائر الناس سواء في العقاب؟ فقال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: عليهم ضعفا العقاب.

* الشرح:

قوله (عليهم ضعفا العقاب) أي مثلاه لأن ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه، وربما قيل: ضعفا الشيء ثلاثة أمثاله لأن ضعفه مثله مرتين فضعفاه مثله ثلاث مرات ونقل صاحب المغرب عن الشافعي في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا ضعف ما يصيب ولدي قال: تعطى مثله مرتين، ولو قال: ضعفي ما يصيب ولدي، تنظر إن أصابه مائة أعطيته ثلاثمائة، ونظيره ما روى عن أبي عبيدة

ص:357


1- (1) في الرجال علي بن عبيد الله وهو الظاهر.

في قوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) قال: معناه يجعل الواحدة ثلاثة وأنكره الأزهري وقال: هذا الذي يستعمله الناس في مجاز كلامهم وتعارفهم وإنما الذي قال حذاق النحويين أنها تعذب مثلي عذاب غيرها.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن راشد قال: حدثنا علي بن إسماعيل الميثمي قال: حدثنا ربعي بن عبد الله قال: قال لي عبد الرحمن بن أبي عبد الله: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المنكر لهذا الأمر من بني هاشم وغيرهم سواء؟ فقال لي: لا تقل: المنكر، ولكن قل: الجاحد من بني هاشم وغيرهم، قال أبو الحسن: فتفكرت [فيه] فذكرت قول الله عز وجل في إخوة يوسف: (فعرفهم وهم له منكرون).

* الشرح:

قوله (لا تقل المنكر ولكن قل الجاحد من بني هاشم وغيرهم) ولعل الفرق أن الجحود هو الإنكار مع العلم، والإنكار أعم منه وهذا الكلام يحتمل أحد أمرين: أحدهما أن الموجود في الخارج من الفريقين هو الجاحد لحقنا دون المنكر له لعلم كل أحد من هذه الأمة بحقنا إنما أنكره من أنكره بعد العلم به فهو جاحد، وثانيهما أن التفاوت بين الفريقين إنما هو في الجاحد منهما يعني في المنكر بعد العلم وأما المنكر منهما بلا علم فلا تفاوت بينهما في العقوبة والأول أظهر.

قوله (وهم له منكرون) تفكر أبو الحسن في الفرق بين الإنكار والجحود حيث نهى عن الأول وأمر بالثاني فذكر هذه الآية فعرف أن المراد من الإنكار الإنكار من غير علم ومعرفة لوقوعه في مقابلة المعرفة وعرف بذلك أن الجحود إنكار مع علم ومعرفة.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، قال: سألت الرضا (عليه السلام) قلت له:

الجاحد منكم ومن غيركم سواء؟ فقال: الجاحد من له ذنبان والمحسن له حسنتان.

ص:358

باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل:

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم.

* الشرح:

قوله (إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس) سأل عما يجب على الناس عند موت الإمام فأجاب (عليه السلام) بأنه يجب عليهم النفر على سبيل الكفاية ليعلموا الإمام بعده ويخبروا به قومهم إذا رجعوا إليهم، والنفر إنما يجب لو لم يعلموا أن خبره يصل إليهم قبل بلوغهم بلد الموت وما يتوقف عليه النفر يجب على النافر وقومه كفاية كأصل النفر ولو تعذر كانوا في سعة إلى حين زواله ويجب عليهم حينئذ الإقرار اجمالا بأن للإمام الماضي نائبا يقوم بالأمر بعده وإن لم يعلموا اسمه وشخصه ولو ماتوا حينئذ خرج موتهم عن موتة الجاهلية، ثم هذا حال من بلغه أصل الدين وبعثة النبي وأن له نائبا من قبل الله يقوم بأمره وأما من لم يبلغه شيء من ذلك فالظاهر أنه ليس مكلفا بالطلب لاستحالة تكليف الغافل نعم يتوجه إليه صورة التكليف في القيامة رفعا لعذره كما دل عليه بعض الروايات، والله أعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن قال: حدثنا حماد عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، فقال: الحق والله، قلت: فإن إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك؟ قال: لا يسعه! إن الإمام إذا هلك وقعت حجة وصيه على من هو معه في البلد وحق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم، إن الله عز وجل يقول: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة

ص:359

ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم؟ قال: إن الله جل وعز يقول: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) قلت: فبلغ البلد بعضهم فوجدك مغلقا عليك بابك ومرخى عليك سترك لا تدعوهم إلى نفسك ولا يكون من يدلهم عليك فبما يعرفون ذلك؟ قال: بكتاب الله المنزل، قلت، فيقول الله جل وعز كيف؟ قال: أراك قد تكلمت في هذا قبل اليوم، قلت: أجل، قال:

فذكر ما أنزل الله في علي (عليه السلام) وما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حسن وحسين (عليهما السلام) وما خص الله به عليا (عليه السلام) وما قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من وصيته إليه ونصبه إياه وما يصيبهم وإقرار الحسن والحسين بذلك ووصيته إلى الحسن وتسليم الحسين له بقول الله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).

قلت: فإن الناس تكلموا في أبي جعفر (عليه السلام) ويقولون: كيف تخطت من ولد أبيه من له مثل قرابته ومن هو أسن منه وقصرت عمن هو أصغر منه؟ فقال: يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره: هو أولى الناس بالذي قبله وهو وصيه، وعنده سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيته وذلك عندي لا أنازع فيه، قلت: إن ذلك مستور مخافة السلطان؟ قال: لا يكون في ستر إلا وله حجة ظاهرة، إن أبي استودعني ما هناك، فلما حضرته الوفاة قال: ادع لي شهودا فدعوت أربعة من قريش، فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، قال: اكتب:

هذا ما أوصى به يعقوب بنيه (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وأوصى محمد بن علي إلى ابنه جعفر بن محمد وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمع وأن يعممه بعمامته وأن يربع قبره ويرفعه أربع أصابع، ثم يخلي عنه، فقال: اطووه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت بعد ما انصرفوا: ما كان في هذا يا أبت أن تشهد عليه؟ فقال: إني كرهت أن تغلب وأن يقال: إنه لم يوص، فأردت أن تكون لك حجة، فهو الذي إذا قدم الرجل البلد قال: من وصي فلان، قيل فلان، قلت: فإن اشرك في الوصية؟ قال: يسألونه فإنه سيبين لكم.

* الشرح:

قوله (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة) أي عن قول عامة الأمة بمعنى جميعهم أو عن قول أكثر الأمة المخالفين للفرقة الناجية القائلين بخلافة الثلاثة، والحديث حجة عليهم في نفي الإمام من عترة الرسول في كل عصر لنقلهم هذا الحديث في كتبهم وقبولهم له وما ذهب إليه قدماؤهم من

ص:360

أن المراد بالامام فيه صاحب الشوكة والاقتدار من ملوك الأمة كائنا من كان عالما أو جاهلا عدلا أو فاسقا في غاية السخافة لأنه (صلى الله عليه وآله) لم يأمر أمته بمتابعة الجاهل الفاسق لأن متابعته توجب الخروج عن الدين لمخالفة الحق ولذا ذهب بعض متأخريهم إلى أن المراد بالإمام فيه الكتاب وهو في غاية الضعف إذ لا يمكن الاقتداء بالقرآن إلا بالاقتداء بإمام يفسره وهذا الإمام ليس بقرآن بالضرورة ولا جاهل فاسق بالاتفاق، فتعين ما ذهب إليه الفرقة الناجية من أنه ناطق من الله وهو المطلوب.

قوله (فقال الحق والله) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق.

قوله (لم يسعه ذلك) من باب الاستفهام وذلك إشارة إلى عدم العلم المفهوم من سياق الكلام.

قوله (إن الإمام إذا هلك) تعليل لما سبق. توضيح ذلك أن الناس عند موت الإمام على صنفين:

صنف حاضرون في بلد موته عالمون بمن هو وصي له بوصية ظاهرة أو باطنة فوجب عليهم الإذعان له والاعتقاد به من غير مهلة، وصنف ناؤون عنه قد بلغهم خبر موت الإمام دون خبر وصيه، وهذا الصنف يجب عليهم الإيمان اجمالا بأن له وصيا يقوم مقامه، ثم يجب عليهم النفر ليعرفوه باسمه وشخصه، وقوله «وحق النفر» جملة فعلية أي وجب النفر ولزم.

قوله (قبل أن يصل فيعلم) أي قبل أن يصل إلى بلد موت الإمام وقبل أن يعلم وصيه باسمه وشخصه، والجواب يدل على أنه مؤمن عند الله تعالى وأنه مثاب لأجل الحركة.

قوله (فوجدك مغلقا عليك بابك، ومرخى عليك سترك) الستر بالكسر ما يستر به ومغلقا ومرخى على صيغة اسم المعفول من أغلقت الباب وأرخيت الستر أي أرسلته، لا على صيغة اسم الفاعل كما لا يخفى، والإغلاق والإرخاء كنايتان عن عدم إظهار إمامته (عليه السلام) وعدم الدعوة والإذن بالدخول عليه مع احتمال حملهما على الظاهر.

قوله (قال فذكر ما أنزل الله في علي (عليه السلام)) هذا الذي أشار إليه (عليه السلام) من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوصية من أقوى الدلائل على خلافتهم وإمامتهم وعصمتهم في هذا العصر وتفصيله مذكور في كتب الموافقين والمخالفين وتوضيحه مسطور في دفاتر المتقدمين والمتأخرين، بحيث لا يشتبه الحق على أحد من الناظرين، والحمد لله رب العالمين.

قوله (ووصيته إلى الحسن) الضمير راجع إلى علي (عليه السلام) أو النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه أيضا أوصى إلى الحسن (عليه السلام) كما مر.

قوله (وتسليم الحسين له) أي للأمر إلى من بعده أو للحسن (عليه السلام) وهو نص على خلافته.

قوله (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) فأولاد الحسين (عليه السلام) أولى بوراثة الإمامة منه من أولاد الحسن (عليه السلام) لأن الابن أقرب من الأخ وابن الأخ وسائر الأقارب.

ص:361

قوله (ويقولون كيف تخطت) أي كيف يعلم أن الإمامة تجاوزت من له مثل قرابة أبي جعفر كزيد وغيره من أولاد علي بن الحسين (عليهما السلام).

قوله (ومن هو أسن منه) عطف على الموصول المذكور إلا أن الأول مبين بالبيان المتقدم، والثاني مطلق يراد به غيره مثل زيد بن الحسن ونظرائه ممن ينتسب إلى فاطمة (عليها السلام) وبهذا التقرير ظهر أن الأسن ليس من ولد أبيه فلا يرد أن هذا ينافي ما تقرر من أن الخلافة إنما هي للولد الأسن دون الأصغر.

قوله (وقصرت عمن هو أصغر منه) قصرت على صيغة المجهول، يقال قصرت الشيء على كذا أي حبسته عليه ولم أتجاوز به إلى غيره فمن بمعنى على وضمير منه راجع إلى الأسن والمراد بالأصغر اما أبو جعفر (عليه السلام) وهو الأنسب بالسياق أو أبو عبد الله (عليه السلام) وهو الأظهر بالنطر إلى الجواب فليتأمل.

قوله (فقال يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره) أي لا يوجد مجموع تلك الخصال من حيث المجموع في غيره أو لا يوجد كل واحدة منها في غيره وفي الأخير مناقشة لأن الخصلة الأولى أما قوله وهو أولى الناس بالذي قبله وهو الولد أو هذا مع قوله وهو وصيه وهي على التقديرين توجد في غير صاحب هذا الأمر أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن غيره قد يكون مشاركا معه في الوصية الظاهرة كما مر، في باب الإشارة والنص علي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وكما سيجيء في آخر هذا الحديث ويمكن دفعها بحمل قوله «وهو وصيه» على الوصية الباطنة أعني الوصية بالإمامة فليتأمل.

قوله (هو أولى الناس) الظاهر أن قوله «هو أولى الناس بالذي قبله وهو وصيه» خصلة أولى وأولى الناس به هو الولد دون الأخ والعم وبنيهما وقوله «وعنده سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله)» خصلة ثانية وقد عرفت سلاحه سابقا وقوله «ووصيته» أي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصلة ثالثة والمراد بها الوصية التي نزلت من عند الله تعالى كتابا مسجلا نزل به جبرئيل (عليه السلام) مع أمناء الله تعالى من الملائكة ودفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وأمره أن يدفعه إلى علي (عليه السلام) وهكذا يدفعه كل إمام إلى إمام بعده وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون السلاح وما بعده خصلة ثالثة وما قبله خصلتين ولكنه بعيد جدا فليتأمل.

قوله (وذلك عندي) ان كان المراد بالأصغر في قوله وقصرت عمن هو أصغر منه أبا عبد الله (عليه السلام) كان ذكر ذلك ظاهرا وأن كان المراد به أبا جعفر (عليه السلام) كان ذكره لدفع مثل ما تكلموا فيه عن نفسه أيضا فإن تكلم الناس على الوجه المذكور مشترك بينهما فليتأمل.

قوله (قلت ان ذلك مستور) ذلك إشارة إلى سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيته بالاعتبار المذكور

ص:362

والغرض من هذا السؤال استبعاد معرفة صاحب هذا الأمر بهذه الخصلة لاستتارها واختفائها ومحصل الجواب أن عليه دليلا ظاهرا وهو الوصية الظاهرة ولا ينافي ذلك استقلالها في الدلالة على صاحب هذا الامر لجواز أن يكون الشيء دليلا على الشيء بنفسه ومع ذلك يدل على دليل آخر له فليتأمل.

قوله (وأمره أن يكفنه) فيه خمسة أمور من أمور سنن الكفن والدفن وهو ظاهر.

قوله (وان يربع قبره ويرفعه أربع أصابع) أختلف الأصحاب والاخبار في كونها مفرجات أو مضمومات وما في بعض الروايات من رفعه بشبر يقوى الأول لأنه أقرب إليه كما يقوى الثاني رواية سماعة عن الصادق (عليه السلام) قال: «يستحب أن يرفع القبر من الأرض قدر أربع أصابع مضمومة» والكل جائز وفيه رد على العامة فإن بعضهم قالوا بالتسوية وأكثرهم ذهبوا إلى التسنيم.

قوله (ثم يخلى عنه) دل على رجحان ترك التجصيص والتطيين والبناء وحكى في الذكرى عن الشيخ أن المكروه تجصيصه بعد اندراسه لا ابتداء لما روى أن الكاظم (عليه السلام) أمر بعض مواليه بتجصيص قبر ابنة له ماتت وكتب اسمها على لوح وجعله في القبر وفي المنتهى حمل الأمر بالتجصيص في هذا الحديث على التطيين وحكم بكراهية التجصيص مطلقا والتطيين بعد اندراسه لا ابتداء. وقال بعض المحققين في قول الشيخ قوة خصوصا إذا كان المراد به دوام تميزه ليزار ويترحم وقد يقال الكراهة مختصة بما عدا قبور الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لاطباق السلف والخلف على فعل ذلك بها ولأن فيه تعظيما لشعائر الله ولفوات كثير من المقاصد الدينية بترك ذلك وعلى هذا ما في الرواية من الوصية بالتخلية يحمل على الجواز دفعا لتوهم الوجوب وإن لم يذهب إليه أحد.

قوله (ما كان في هذا يا أبت أن تشهد عليه) لأنه لو أمره بذلك من غير شهود لفعله فالاشهاد عليه بحسب الظاهر غير مفيد.

قوله (فقال أني كرهت أن تغلب وأن يقال إنه) ذكر للاشهاد فائدتين أحدهما أن لا يغلب في تربيع قبره ورفعه بقدر أربع أصابع لأنهم يستوونه أو يسنمونه كما عرفت وأخريهما أن يقال لم يوص إليه ولا يستدل بذلك على عدم خلافته فأوصى إليه ليستدل بالوصية الظاهرة على الوصية الباطنة وهي الخلافة وقد أشار إلى ثمرة الفائدتين بقوله: فأردت أن يكون لك حجة يعني على التربيع والرفع والخلافة لأن الوصية الظاهرة دليل على الخلافة.

قوله (فهو الذي) ضمير هو راجع إلى الإمام بعد مضي إمام، أو إلى الوصي الذي عبارة عن الخليفة، والمآل واحد.

قوله (فإن أشرك في الوصية) أي فإن أشرك الإمام وغيره في الوصية الظاهرة فكيف يستدل بها

ص:363

على الإمام وتميزه عن غيره؟ فأجاب (عليه السلام) بأنكم تسألونه أي الوصي الصادق على كل واحد منهما عن الحلال والحرام والمسائل الدينية والأمور العقلية فإنه سيبين لكم الإمام عن غيره إذ بالسؤال والعلم يعلم المحق والمبطل ويميز بينهما والقادر على المعرفة بهذا الوجه إنما هو العالم الماهر فإذا ميزه وجب على الغير اتباعه كما قالوا مثل ذلك في إعجاز القرآن وإعجاز ما هو شبيه بالسحر كإعجاز موسى وعيسى (عليهما السلام).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

أصلحك الله بلغنا شكواك وأشفقنا، فلو أعلمتنا أو علمتنا من؟ قال: إن عليا (عليه السلام) كان عالما والعلم يتوارث، فلا يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله، قلت: أفيسع الناس إذا مات العالم ألا يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أما أهل هذه البلدة فلا - يعني المدينة - وأما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم، إن الله يقول: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) قال: قلت: أرأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، قال: قلت: فإذا قدموا بأي شيء يعرفون صاحبهم؟ قال: يعطى السكينة والوقار والهيبة.

* الشرح:

قوله (بلغنا شكواك) في النهاية: الشكوى المرض، وفي الصحاح: الشكوى اسم من شكوت فلانا أشكوه شكوا إذا أخبرت عنه سوء فصله وقد يطلق الشكوى على المكروه والبلية، والمراد بالإشفاق الخوف من موته (عليه السلام) أو من الضلالة بعده، والترديد في قوله: أو علمتنا من الراوي والمراد بقوله (عليه السلام): إن عليا (عليه السلام) كان عالما، هو أن الإمام يعرف بعلمه جميع الأشياء ولا يشتبه على غيره فإنه بإضاءة علمه كالنور الساطع، وقد ذكرنا أن القادر على معرفته بسبب علمه هو العالم دون غيره، وقوله «أو ما شاء الله» يحتمل الترديد من الراوي وحتم ما لم يكن محتوما قبل فإنه قد يحصل لكل إمام علم بالحتم الذي لم يكن قبله. والله أعلم.

قوله (أرأيت من مات في ذلك) أي أخبرني، من مات في حال نفره ووقت طلبه قبل الوصول إلى المطلوب كيف حاله أهو مؤمن أم لا؟ ومحصل الجواب أنه مؤمن ومثاب لأجل النفر، وفيه

ص:364

دلالة على أن الإيمان بالإمام على سبيل الإجمال عند تعذر معرفة اسمه وشخصه كاف وهو كذلك لاستحالة التكليف بالمحال.

قوله (قال يعطى السكينة والوقار والهيبة) السكينة والوقار متقاربان، ولذا قد يفسر أحدهما بالآخر ويفسران بالثاني والحلم والرزانة والرحمة وتلك الأمور من حيث سكون النفس إليها تسمى سكينة من حيث ثبوتها للنفس، واستقرارها فيها تسمى وقارا، يقال: وقر الشيء في النفس إذا ثبت فيها واستقر، وقد يخص الأول بالأعضاء الظاهرة والآخر بالأعضاء الباطنة، والهيبة هي الخوف، والمراد به الخوف من الله لأجل عظمته عنده تعالى أو الخوف منه لأن الناس يهابون المؤمن الكامل كما يهابون الله لأجل إيمانه وقربه منه تعالى لا لأجل شوكته، فلا يرد أن الهيبة قد يحصل من سلطان الجور مع كمال بعده عنده تعالى، فلا يكون حجة على إمامة المهاب.

ص:365

باب في أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه

* الأصل:

1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي جرير القمي قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك ثم إليك، ثم حلفت له - وحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحق فلان وفلان - حتى انتهيت إليه بأنه لا يخرج مني ما تخبرني به إلى أحد من الناس، وسألته عن أبيه أحي هو أو ميت؟ فقال: قد والله مات، فقلت: جعلت فداك إن شيعتك يروون: أن فيه سنة أربعة أنبياء، قال: قد والله الذي لا إله إلا هو هلك، قلت: هلاك غيبة أو هلاك موت؟ قال: هلاك موت، فقلت: لعلك مني في تقية؟ فقال: سبحان الله، قلت: فأوصى إليك؟ قال:

نعم، قلت: فأشرك معك فيها أحدا؟ قال: لا، قلت: فعليك من إخوتك إمام؟ قال: لا، قلت: فأنت الإمام؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (قد والله مات) أي قد مات والله قدم لتصديق القسم وتأكيد مضمون الجملة وتقريره ابتداء.

قوله (إن فيه سنة أربعة أنبياء) سنة موسى وعيسى ويوسف ومحمد (صلى الله عليه وآله) فأما سنة موسى فخائف مترقب، وأما سنة عيسى فيقال إنه مات ولم يمت، وأما سنة يوسف فالسجن والغيبة، وأما سنة محمد (صلى الله عليه وآله) فالسيف والجهاد عند ظهور دولته. وهم يزعمون أنه مهدي هذه الأمة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ويسمون واقفية.

قوله (فقلت لعلك مني في تقية) خوفا من أن يطلبوا منك مكانه لو أخبرت بأنه غائب.

قوله (فقال سبحان الله) أي أنزهه تنزيها من أنه لم يمته، أو من يجعلني على تقية منك أو هي للتعجب فيما زعمه.

قوله (قلت فأوصى إليك) أي فأوصى إليك عند موته؟ قال: نعم، والخبر بهذه العناية ينطبق على ما هو المقصود من هذا الباب، وإلا ففيه تأمل.

* الأصل:

ص:366

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن رجلا عنى أخاك إبراهيم، فذكر له أن أباك في الحياة وأنك تعلم من ذلك ما يعلم، فقال: سبحان الله يموت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يموت موسى؟؟ قد والله مضى كما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن الله تبارك وتعالى لم يزل منذ قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) هلم جرا يمن بهذا الدين على أولاد الأعاجم ويصرفه عن قرابة نبيه (صلى الله عليه وآله) هلم جرا فيعطي هؤلاء، لقد قضيت عنه في هلال ذي الحجة ألف دينار، بعد أن أشفى على طلاق نسائه وعتق مماليكه ولكن قد سمعت ما لقي يوسف من إخوته.

* الشرح:

قوله (إن رجلا عنى أخاك إبراهيم فذكر له) فاعل «ذكر» راجع إلى الرجل وضمير «له» إلى إبراهيم، وعنى بمعنى قصد وأراد، وفي بعض النسخ «غر أخاك» قيل: ذلك الرجل أخوهما عباس.

قوله (وإنك تعلم من ذلك ما لا يعلم) أي ذكر أيضا له أنك تعلم مالا يعلم من مكانه وموضع غيبته ولفظه «لا» غير موجودة في بعض النسخ ومعناه واضح.

قوله (هلم جرا) في النهاية: هلم معناه: تعال وفيه لغتان وأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والجمع والاثنين والمذكر والمؤنث بلفظ واحد مبني على الفتح، وبنو تميم تثني وتجمع وتؤنث فتقول: هلم وهلمي وهلما وهلموا، وفي الصحاح: هلم يا رجل بفتح الميم بمعنى تعال، قال الخليل: أصله لم، من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك الينا أي أقرب وها للتنبيه وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث في لغة أهل الحجاز قال الله تعالى (والقائلين لإخوانهم هلم الينا) وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللنساء هلمن والأول أفصح.

قوله (يمن بهذا الدين على أولاد الأعاجم) كسلمان وغيره وفيه مدح عظيم للعجم وتفضيل لهم على العرب وسبب المن والإعطاء والصرف والمنع هو استعمال الاستعداد الفطري وقبوله وإبطاله والإعراض عنه فلا يلزم الجبر.

قوله (لقد قضيت عنه) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: أي قضيت عن الذي غر إبراهيم وكأنه عباس أخوهما ألف دينار بعد أن أشرف وعزم على طلاق نسائه وعتق مماليكه وعلى أن يشرد من الغرماء وكان قصده من الطلاق والعتق أن لا يأخذ الغرماء مماليكه ويختموا بيوت نسائه، وقيل:

عزمه على ذلك لفقره وعجزه عن النفقة.

قوله (ولكن سمعت ما لقي يوسف من اخوته) يعني أنهم يقولون ذلك افتراء وينكرون حقي

ص:367

حسدا وعنادا.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إنهم رووا عنك في موت أبي الحسن (عليه السلام) أن رجلا قال لك: علمت ذلك بقول سعيد؟ فقال: جاء سعيد بعد ما علمت به قبل مجيئه، قال: وسمعته يقول: طلقت أم فروة بنت إسحاق في رجب بعد موت أبي الحسن (عليه السلام) بيوم، قلت: طلقتها وقد علمت بموت أبي الحسن؟ قال: نعم، قلت: قبل أن يقدم عليك سعيد؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (أن رجلا قال لك علمت ذلك) بقول سعيد يحتمل الاستفهام والإخبار وأن يكون القائل واقفيا في صدد الإنكار والتمسك بأن قول سعيد لا يفيد العلم، وسعيد قيل: هو خادم أبي الحسن (عليه السلام) وذلك إشارة إلى موته.

قوله (قال وسمعته يقول طلقت أم فروة) قيل: أم فروة كانت من نساء أبيه (عليه السلام) وكان (عليه السلام) وكيلا في طلاقها وطلاقها بعد العلم بموت أبيه مبني على أن العلم الذي يكون مناط الحكم الشرعي هو العلم بطريق المتعارف لا العلم الذي يحصل بطريق الإلهام وأمثاله، وقيل: هذا كان من خصائهم (عليهم السلام) كما طلق علي (عليه السلام) عائشة بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) فخرجت من عداد أمهات المؤمنين.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفون قال: قلت للرضا (عليه السلام): أخبرني عن الإمام متى يعلم أنه إمام؟ حين يبلغه أن صاحبه قد مضى أو حين يمضي؟ مثل أبي الحسن قبض ببغداد وأنت ههنا؟ قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه. قلت: بأي شيء؟ قال: يلهمه الله.

* الشرح:

قوله (قال يلهمه الله) إما بإلقاء ذلك في قلبه المقدس بلا واسطة أو بواسطة ملك موكل به أو بإسماعه صوت ملك لأنهم محدثون أو بانتقال الروح الذي كان مع الإمام السابق إليه على أن بين الأرواح المقدسة كمال اتصال وارتباط يشاهد كل منهما الآخر ويعلم حركاته وسكناته حتى كان كل واحد منهما مرآة للآخر ووراء ذلك جواب آخر وهو حضور الجسم وانتقاله سريعا إلى مكان صاحبه ولم يذكره (عليه السلام) لئلا يستغربه المخاطب وإن كان المذكور أغرب منه عند أهل التحقيق.

* الأصل:

ص:368

5 - علي بن إبراهيم، عن أبي الفضل الشهباني، عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن علي ابن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر (عليه السلام) فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر (عليه السلام)، فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذلة لله لم أكن أعرفها.

* الشرح:

قوله (عن أبي الفضل الميثاني) في بعض النسخ «الشهباني» وهو مشترك بين جماعة ولم يعرف أحد منهم بهاتين النسبتين.

قوله (تداخلني ذلة لله) أي تواضع وإخبات وخشية منتشأ من كمال القرب ورتبة الإمامة.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن مسافر قال: أمر أبو إبراهيم (عليه السلام) حين أخرج به أبا الحسن (عليه السلام) أن ينام على بابه في كل ليلة أبدا ما كان حيا إلى أن يأتيه خبره قال: فكنا في كل ليلة نفرش لأبي الحسن في الدهليز، ثم يأتي بعد العشاء فينام، فإذا أصبح انصرف إلى منزله، قال:

فمكث على هذه الحال أربع سنين، فلما كان ليلة من الليالي أبطأ عنا وفرش له فلم يأت كما كان يأتي، فاستوحش العيال وذعروا ودخلنا أمر عظيم من إبطائه، فلما كان من الغد أتى الدار ودخل إلى العيال وقصد إلى أم أحمد فقال لها: هات التي أودعك أبي، فصرخت ولطمت وجهها وشقت جيبها وقالت: مات والله سيدي، فكفها وقال لها: لا تكلمي بشي ولا تظهريه، حتى يجيء الخبر إلى الوالي، فأخرجت إليه سفطا وألفي دينار أو أربعة آلاف دينار. فدفعت ذلك أجمع إليه دون غيره وقالت: إنه قال لي فيما بيني وبينه - وكانت أثيرة عنده -: احتفظي بهذه الوديعة عندك، لا تطلعي عليها أحدا حتى أموت، فإذا مضيت فمن أتاك من ولدي فطلبها منك فادفعيها إليه، واعلمي أني قد مت، وقد جاءني والله علامة سيدي، فقبض ذلك منها وأمرهم بالإمساك جميعا إلى أن ورد الخبر، وانصرف فلم يعد لشيء من المبيت كما كان يفعل، فما لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءت الخريطة بنعيه فعددنا الأيام وتفقدنا الوقت فإذا هو قد مات في الوقت الذي فعل أبو الحسن (عليه السلام) ما فعل، من تخلفه عن المبيت وقبضه لما قبض.

* الشرح:

قوله (عن مسافر) هو مولى أبي الحسن (عليه السلام) وقال ابن داود: هو من رجال الكاظم (عليه السلام) ونقل عن الكشي أنه ممدوح.

ص:369

قوله (في الدهليز) هو بالكسر ما بين بالباب والدار.

قوله (فاستوحش العيال وذعروا) عيال الرجل من عليه إنفاقهم وكسوتهم وغيرهما يحتاجون إليه، والذعر بالضم الفزع والخوف يقال: ذعرته أي فزعته وخوفته فهو مذعور.

قوله (فأخرجت إليه سفطا) السفط محركة واحد الأسفاط وهو ما يحرز فيه شيء من متاع وغيره، والمراد به هنا صندوق كان فيه سلاح النبي (صلى الله عليه وآله) ووصيته وغيرهما من علامة الإمامة، والترديد في قوله «أو أربعة آلاف دينار» من مسافر على الظاهر.

قوله (وكانت أثيرة عنده) أي كانت مختارة مكرمة عنده وخاصته التي يعتمد عليها في أسراره وفي بعض النسخ: أميرة بالميم والأمير ذو الأمر والأنثى بالهاء.

قوله (حتى جاءت الخريطة بنعيه) النعي خبر الموت والخريطة وعاء من أدم وغيره تشرح على ما فيها وفي الكلام تجوز عقلي لأن الناعي إما المكتوب الذي فيها أو كاتبه.

قوله (وتفقدنا الوقت) أي طلبنا وقت فوته (عليه السلام).

ص:370

باب حالات الأئمة (عليهم السلام) في السن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): أكان عيسى بن مريم (عليه السلام) حين تكلم في المهد حجة لله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل أما تسمع لقوله حين قال: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) قلت:

فكان يومئذ حجة الله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان، وكان زكريا الحجة لله عز وجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عز وجل: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) فلما بلغ عيسى (عليه السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله تعالى إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين وليس تبقى الأرض - يا أبا خالد - يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (عليه السلام) وأسكنه الأرض.

فقلت: جعلت فداك أكان علي (عليه السلام) حجة من الله ورسوله على هذه الامة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: نعم يوم أقامه للناس ونصبه علما ودعاهم إلى ولايته وأمرهم بطاعته، قلت:

وكانت طاعة علي (عليه السلام) واجبة على الناس في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته؟ فقال: نعم ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت الطاعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمته وعلى علي (عليه السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت الطاعة من الله ومن رسوله على الناس كلهم لعلي (عليه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان علي (عليه السلام) حكيما عالما.

* الشرح:

قوله (غير مرسل) إذ لم يرسل إليه الإنجيل في تلك الحال ولم يكن مأمورا بأحكامه وتبليغه ولكن كان نبيا عالما بالتوراة تابعا لها «قال إني عبد الله الخ» قدم العبودية على إعطاء الكتاب والنبوة

ص:371

لتقدمها في الواقع وليندفع توهم ربوبيته أول مرة وأراد بالكتاب التوراة وفي لفظ الماضي حيث قال «آتاني وجعلني» دلالة واضحة على أنه كان حين التكلم نبيا عالما بالتوراة ولو أريد بالكتاب الإنجيل كما زعم لاشكل لأنه إن أعطي الإنجيل كما جعل نبيا في ذلك الوقت لكان رسولا فلا يوافق قوله غير مرسل اللهم إلا أن يحمل قوله «آتاني الكتاب» على مجاز المشارفة أو على أن محقق الوقوع كالواقع أو على القضاء السابق بقرينة عدم إرسال الإنجيل إليه في ذلك الوقت ولا يلزم منه أن يحمل قوله (وجعلني نبيا) على هذه الأمور لعدم وجود قرينة صارفة له عن ظاهره وبالجملة حمل أحد اللفظين المتجاورين على المجاز لقرينة لا يوجب حمل الآخر عليه مع عدمها.

قوله (وجعلني مباركا) أي نفاعا للخلق، معلما للخير، دليلا لهم على مصالحهم.

قوله (وأوصاني بالصلاة والزكاة) أي أمرني بهما وأراد بالزكاة زكاة المال أو تطهير الظاهر والباطن عن الرذائل.

قوله (فقال كان عيسى في تلك الحال) أي كان عيسى أو تكلمه على حذف المضاف والثاني أنسب بقوله «ورحمة».

قوله (فعبر عنها) تقول: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه، وفي بعض النسخ فغير عنها بالغين المعجمة ولعل المراد فغير التهمة عنها.

قوله (وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال) الظرف وهو قوله «في تلك الحال» إما متعلق بسمع أو بنبيا أو بهما على سبيل التنازع فعلى الأول نبوته وحجيته مطلقة غير مقيدة بوقت التكلم وعلى الأخيرين مقيدة به ويؤيدهما أن الحجة على الناس بعد صمته عن التكلم بالنبوة إلى سبع سنين كان زكريا ويحيى.

قوله (فلم يتكلم حتى مضت له سنتان) لعل المراد أنه لم يتكلم في تلك المدة بالنبوة وغيرها ثم تكلم بغيرها قبل السبع وبها بعده، ويؤيده قوله «فلما بلغ عيسى (عليه السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة أنه لم يتكلم فيها بالنبوة ثم تكلم بها وحدها قبل السبع وبها وبالرسالة جميعا بعده، ويؤيده ما في الخبر الآتي من أنه قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين، والفرق بينهما انه كان نبيا بعد السنتين وقبل السبع وكان نبيا ورسولا بعده، والله أعلم.

قوله (يا يحيى خذ الكتاب) المراد بالكتاب التوراة وبأخذه فهمه والعمل بما فيه وبالقوة السعي البليغ والجد التام والاستظهار بالتوفيق، وبالحكم الحكمة والشريعة وفهم التوراة، وقيل:

النبوة، كذا في تفسير القاضي وغيره.

ص:372

قوله (وكان علي (عليه السلام) حكيما عالما) أي كان قاضيا بالحق أو محكما للأشياء ومتقنا لها أو حاكما بمعنى ذي الحكمة وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم أو معرفة القوانين الشرعية والنواميس الإلهية، والعلم أعم منها فذكره بعدها من باب ذكر العام بعد الخاص واتصافه (عليه السلام) بهما متفق عليه بين العامة والخاصة وفي بعض النسخ «حليما عالما».

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام): قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر (عليه السلام) فكنت تقول: يهب الله لي غلاما، فقد وهب الله لك فقر عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين؟ قال: وما يضره من ذلك شيء، قد قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين.

* الشرح:

قوله (وما يضره من ذلك شيء) لأن بناء الهداية والإرشاد لما كان على الكمال في القوة النظرية والعملية وكانت نفوس الأنبياء والأوصياء على غاية الكمال فيهما في أصل الفطرة بعثوا لإصلاح النفوس المختلفة الغافلة عن النظر إلى مصالحها ومنافعها ورشدها بالجذب والترغيب فيما أعده سبحانه لأوليائه في دار القرار، وبالتنبيه والتنفير عما أبغضه لأصفيائه من خصائص هذه الدار ولا مدخل في ذلك لكبر الجسم ولا يضره صغره، بل الحجة في صغره أعظم وأجل والدلالة فيه أفخم وأكمل لحصول القطع ضرورة بأنه حجة من الله تعالى وليس للاكتساب فيه مدخل.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: قلت له: إنهم يقولون في حداثة سنك.

فقال: إن الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عباد بني إسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الله إلى داود (عليه السلام) أن خذ عصي المتكلمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود (عليه السلام)، فقالوا: قد رضينا وسلمنا.

* الشرح:

قوله (فأخبرهم داود (عليه السلام) فقالوا: قد رضينا وسلمنا) فيه إيجاز الحذف بقرينة المقام كما في

ص:373

قوله تعالى حكاية (فأرسلون يوسف أيها الصديق) أي فأخبرهم داود ففعلوا ذلك فأورقت عصا سليمان وأثمرت فقالوا: قد رضينا بخلافته وسلمنا له.

* الأصل:

4 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن مصعب، عن مسعدة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أبو بصير: دخلت إليه ومعي غلام يقودني خماسي لم يبلغ، فقال لي: كيف أنتم إذا احتج عليكم بمثل سنه. [أو قال: سيلي عليكم بمثل سنه].

* الشرح:

قوله (خماسي) أي خمس سنين أو خمسة أشبار، وفي النهاية: غلام خماسي أي طوله خمسة أشبار والانثى خماسية، ولا يقال سداسي ولا سباعي ولا في غير الخمسة.

قوله (بمثل سنه) يحتمل الجواد والقائم (عليهم السلام) فإن كل واحد وقت انتقال الإمامة إليه كان قريبا من الخماسي على أن مثل سنه يحتمل أن يكون كناية عن عدم البلوغ أو عن الصغر.

* الأصل:

5 - سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألته - يعني أبا جعفر (عليه السلام) - عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون الإمام ابن أقل من سبع سنين؟ فقال: نعم وأقل من خمس سنين، فقال سهل: فحدثني علي بن مهزيار بهذا في سنة إحدى وعشرين ومائتين.

6 - الحسين بن محمد، عن الخيراني، عن أبيه قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن (عليه السلام) بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم (عليه السلام) رسولا نبيا، صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر.

* الشرح:

قوله (بعث عيسى بن مريم (عليه السلام) رسولا، نبيا صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (عليه السلام)) فإذا جاز تحقق النبوة والرسالة في صاحب شريعة مبتدأة في أصغر منه جاز تحقق الإمامة التابعة لشريعة في أبي جعفر وهو أكبر بطريق أولى وفيه دلالة على جواز العمل بالقياس بطريق الأولوية.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد

ص:374

خرج علي فأخذت النظر إليه وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال: يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال:

(وآتيناه الحكم صبيا) (ولما بلغ أشده) (وبلغ أربعين سنة) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة.

* الشرح:

قوله (فأخذت النظر إليه) أخذت بالخاء والذال المعجمتين وفي بعض النسخ «فأجدت» بالجيم.

قوله (وآتيناه الحكم صبيا ولما بلغ أشده) دلت الآية الأولى على إعطاء الحكمة في حال الصبا والطفولية والآية الثانية على إعطائها في حال شدة الجسم وبلوغه أربعين، وبهذا يبطل قول من زعم أن الله تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بعد أربعين سنة.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه قال: قال علي بن حسان لأبي جعفر (عليه السلام) يا سيدي إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، فقال: وما ينكرون من ذلك، قول الله عز وجل؟ لقد قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله): (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) فوالله ما تبعه إلا علي (عليه السلام) وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين.

* الشرح:

قوله (فوالله ما تبعه إلا علي (عليه السلام)) قال بعض العامة: روي في الصحاح أنه كأنه يجاور بحراء في كل سنة شهرا وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره انصرف إلى مكة وطاف بها سبعا قبل أن يدخل بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه الله بالرسالة فجاور في حراء شهر رمضان ومعه أهله خديجة وعلي وخادمه، وروى الطبري وغيره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل بعثته كان إذا حضرت الصلاة يخرج إلى شعاب مكة ويخرج علي (عليه السلام) مستخفين من أبي طالب وسائر أعمامه يصليان الصلاة، ويروي أن أبا طالب عبر عليهما يوما وهما يصليان فقال: يا بني ما هذا الذي تدين به؟ فقال: يا أبة إني آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء به وصليت لله معه. فقال: أما انه لا تدعو إلا إلى الخير فالزم. وروى الطبري في تاريخه عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول «أنا عبد الله وأخو رسول الله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كاذب مفتري» وفي رواية اخرى «أنا الصديق الأكبر والفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر وصليت قبل صلاته بسبع سنين» وروي

ص:375

عن ابن مسعود: قدمت إلى مكة فانتهيت إلى العباس بن [عبد] المطلب وهو يومئذ عطار جالس إلى زمزم ونحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا وعلى يمينه غلام مراهق حسن الوجه تقفوهما امرأة قد سترت محاسنها فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثم الغلام ثم المرأة ثم أطافوا بالبيت ثم استقبلوا الحجر وقام الغلام إلى جانب الرجل والمرأة خلفهما فأتوا بأركان الصلاة مستوفاة فلما رأينا ما لا نعرفه بمكة قلنا للعباس: إنا لا نعرف هذا الدين فيكم؟ فقال: أجل والله فسألناه عن هؤلاء فعرفنا إياهم ثم قال: والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.

وروى أبو رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فقال لي: سيكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول له: أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين» وروي عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي رجل غيره».

قوله (وله تسع سنين) لا عبرة بما رواه أبو قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن خمسة عشر سنة، ولا بما رواه شداد بن أوس قال: سألت حباب عن سن علي بن أبي طالب يوم أسلم فقال: أسلم وهو ابن خمسة عشر سنة، ولا بما روى عن حذيفة بن اليمان قال: كنا نعبد الحجارة وعلي من أبناء أربعة عشر سنة يصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلا ونهارا وقريش يومئذ تشافهه، ما يذب عنه إلا علي.

ص:376

باب إن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أحمد بن عمر الحلال أو غيره عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: إنهم يحاجوننا يقولون: إن الإمام لا يغسله إلا الإمام، قال: فقال: ما يدريهم من غسله، فما قلت لهم؟ قال فقلت: جعلت فداك قلت لهم: إن قال مولاي إنه غسله تحت عرش ربي فقد صدق وإن قال: غسله في تخوم الأرض فقد صدق; قال: لا هكذا [قال] فقلت: فما أقول لهم؟ قال: قل لهم: إني غسلته، فقلت: أقول لهم إنك غسلته؟ فقال: نعم.

* الشرح:

قوله (إنهم يحاجوننا يقولون إن الإمام لا يغسله إلا الإمام) مقصودهم من هذا القول نفي الإمامة عن الرضا وأبيه (عليهما السلام) على سبيل الإلزام وحاصله أن المقرر عندكم أن الإمام لا يغسله إلا الإمام وموسى بن جعفر لم يغسله ابنه الرضا لأنه مات في بغداد وابنه كان في المدينة فلا يكونان إمامين.

قوله (فقال ما يدريهم من غسله) حاصل الجواب كيف علموا أنه لم يغسله الإمام وإنما توهموا ذلك بالنظر إلى بعد المسافة ولم يعلموا أن أولياء الله يقطعون المسافة البعيدة أقل من طرفة عين كما يشهد بذلك قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى... الآية) إنه إذا جاز حركة عرش بلقيس من مكان بعيد في زمان قليل إلى سليمان بأمر صاحبه كان جواز مثل ذلك في عبد الله تعالى بأمره أولى.

قوله (جعلت فداك) مقول قلت فلا يلزم التكرار.

قوله (إن قال مولاي) أراد به الرضا (عليه السلام).

قوله (في تخوم الأرض) التخوم بضم التاء الحدود جمع تخم كفلوس جمع فلس وبفتحها مفرد جمعه تخم بضمتين.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور قال: حدثنا أبو معمر قال:

ص:377

سألت الرضا (عليه السلام) عن الإمام يغسله الإمام؟ قال: سنة موسى بن عمران (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (لا هكذا) لما لم يكن جوابه رافعا للشبهة ولم يكن صريحا في أنه غسله نهاه عنه وقال: لا هكذا أي لا تقل هكذا.

قوله (قال سنة موسى بن عمران (عليه السلام)) فإنه غسل أخاه هارون في التيه فصار ذلك سنة مستمرة، فإن قلت: يشكل ذلك في غسل القائم (عليه السلام) قلت: روى الصدوق أن الحسين (عليه السلام) يغسله يدل على ذلك أيضا ما رواه المصنف [في الروضة] قبل باب الصيحة بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أنه خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهب لكل بيضة وجهان المؤدون إلى الناس أن هذا الحسين (عليه السلام) قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه وإنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم بين أظهرهم فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنه الحسين (عليه السلام) جاء الحجة الموت فيكون الذي يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده في حفرته الحسين (عليه السلام) ولا يلي الوصي إلا الوصي» لا يقال يشكل الأمر في الحسين (عليه السلام) بعده لأنا نقول لعل تغسيله الأول يكفي عن مؤونة تغسيله ثانيا.

* الأصل:

3 - وعنه، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن يونس، عن طلحة قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن الإمام لا يغسله إلا الإمام؟ فقال: أما تدرون من حضر لعله؟ (1) قد حضره خير ممن غاب عنه، الذين حضروا يوسف في الجب حين غاب عنه أبواه وأهل بيته.

* الشرح:

قوله (عن طلحة) كان طلحة بن زيد وهو بتري عامي يروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أيضا.

قوله (فقال أما تدرون) هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها «ما تدرون» بدون الهمزة، وهو الأظهر.

قوله (لعله قد حضره خير ممن غاب عنه الذين حضروا يوسف في الجب) أراد بمن غاب عنه ذاته المقدس، وبالذين جبرئيل والملائكة المقربين (عليهم السلام) وربما يتوهم أن هذا مناف لما سبق من أن الإمام لا يغسله إلا الإمام وأنه (عليه السلام) قد غسله، ويجاب تارة بحمل هذا على التقية لأن طلحة بتري عامي، وتارة بتخصيص ما سبق بأن الإمام لابد أن يغسله الإمام إن لم يغسله من هو خير منه،

ص:378


1- (1) في بعض النسخ: لغسله قد حضره.

وفيه أن التخصيص لا يدفع المنافاة بالكلية إذ قد صرح سابقا بأنه (عليه السلام) غسله الإمام والحق أنه لا ينافي ما سبق أصلا إذ لم يصرح فيه أنه (عليه السلام) لم يغسله وأن الملائكة غسلوه، بل قال أن الملائكة حضروه وهو حق لا ريب فيه، غاية ما في الباب أنه لم يذكر الغاسل صريحا، بقي شيء وهو أن قوله: لعله قد حضره خير ممن غاب عنه أي غاب عنه بزعمكم ينافي ما ثبت في الأخبار المتكثرة من أنه (عليه السلام) أفضل من الملائكة ويمكن دفعه بأن المراد خير منه بزعمكم أو خير منه من حيث أنه بشر ولا ينافي ذلك كونه (عليه السلام) أفضل من الملائكة وخيرا منهم من حيث إنه معصوم وجد فيه كمالات لم توجد فيهم فليتأمل.

ص:379

باب مواليد الأئمة (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - علي بن محمد، عن عبد الله بن إسحاق العلوي، عن محمد بن زيد الرزامي، عن محمد ابن سليمان الديلمي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: حججنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (عليه السلام)، فلما نزلنا الأبواء وضع لنا الغداء وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثر وأطاب، قال: فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة فقال له: إن حميدة تقول: قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد إذا حضرت ولادتي، وقد أمرتني أن لا أستبقك بابنك هذا، فقام أبو عبد الله (عليه السلام) فانطلق مع الرسول، فلما انصرف قال له أصحابه: سرك الله وجعلنا فداك فما أنت صنعت من حميدة، قال: سلمها الله وقد وهب لي غلاما وهو خير من برأ الله في خلقه ولقد أخبرتني حميدة عنه بأمر ظنت أني لا أعرفه ولقد كنت أعلم به منها.

فقلت: جعلت فداك وما الذي أخبرتك به حميدة عنه؟ قال: ذكرت أنه سقط من بطنها حين سقط واضعا يديه على الأرض، رافعا رأسه إلى السماء، فأخبرتها أن ذلك أمارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمارة الوصي من بعده.

فقلت: جعلت فداك وما هذا من أمارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمارة الوصي من بعده؟ فقال لي: إنه لما كانت الليلة التي علق فيها بجدي أتى آت جد أبي بكأس فيه شربة أرق من الماء وألين من الزبد وأحلى من الشهد وأبرد من الثلج وأبيض من اللبن، فسقاه إياه وأمره بالجماع، فقام فجامع، فعلق بجدي ولما أن كانت الليلة التي علق فيها بأبي أتى آت جدي فسقاه كما سقى جد أبي وأمره بمثل الذي أمره فقام فجامع، فعلق بأبي، ولما أن كانت الليلة التي علق فيها بي أتى آت أبي فسقاه بما سقاهم وأمره بالذي أمرهم به فقام فجامع فعلق بي ولما أن كانت الليلة التي علق فيها بابني أتاني آت كما أتاهم، ففعل بي كما فعل بهم فقمت بعلم الله وإني مسرور بما يهب الله لي، فجامعت فعلق بابني هذا المولود فدونكم، فهو والله صاحبكم من بعدي.

إن نطفة الإمام مما أخبرتك وإذا سكنت النطفة في الرحم أربعة أشهر وانشىء فيها الروح بعث الله تبارك وتعالى ملكا يقال له حيوان، فكتب على عضده الأيمن (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) وإذا وقع من بطن امه وقع واضعا يديه على الأرض

ص:380

رافعا رأسه إلى السماء فأما وضعه يديه على الأرض فإنه يقبض كل علم لله أنزله من السماء إلى الأرض، وأما رفعه رأسه إلى السماء فإن مناديا ينادي به من بطنان العرش من قبل رب العزة من الافق الأعلى باسمه واسم أبيه يقول: يا فلان بن فلان اثبت تثبت، فلعظيم ما خلقتك، أنت صفوتي من خلقي وموضع سري وعيبة علمي وأميني على وحيي وخليفتي في أرضي، لك ولمن تولاك أوجبت رحمتي ومنحت جناني وأحللت جواري، ثم وعزتي وجلالي لاصلين من عاداك أشد عذابي وإن وسعت عليه في دنياي من سعة رزقي.

فإذا انقضى الصوت - صوت المنادي - أجابه هو واضعا يديه، رافعا رأسه إلى السماء يقول:

(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) قال: فإذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول والعلم الآخر واستحق زيارة الروح في ليلة القدر، قلت: جعلت فداك الروح ليس هو جبرئيل؟ قال: الروح هو أعظم من جبرئيل، إن جبرئيل من الملائكة وإن الروح هو خلق أعظم من الملائكة، أليس يقول الله تبارك وتعالى: (تنزل الملائكة والروح).

محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن الحسن، عن المختار بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير مثله.

* الشرح:

قوله (فلما نزلنا الأبواء) (1) قال في النهاية: الأبواء بفتح الهمزة وسكون الياء والمد

ص:381


1- (1) «فلما نزلنا الأبواء» محمد بن سليمان الديلمي راوي الحديث ضعيف جدا على ما ذكره علماء الرجال ولكن لا داعي إلى رده وتكذيبه لأن له معنى صحيحا معقولا على ما يعتقده الحكماء الإلهيون في تركب الجسم من الهيولى والصورة وأن الصورة شريكة لعلة الهيولى وأن قوام الصورة والجسم بموجود عقلي مجرد هو علته وعلة الصورة وهو مقوم للهيولي بسبب الصورة وقد تحقق لديهم أن العلة ليست مباينة للمعلول بينونة عزلة فيستنتج من جميع ذلك أن كل جسم مركب من هيولى وصورة جسمية ونوعية متعلقة بموجود مجرد عقلاني غير مباين عنه فصح أن شيئا من عالم الملكوت دخيل في تقويم الأجسام وهذا في المركبات المزاجية أظهر منه في البسائط وفي النبات والحيوان أظهر منه في المركبات المعدنية وفي الإنسان أظهر منه في غيرهم إذ لولا تأثير ذلك الموجود الملكوتي في تكون الأمزجة من العناصر المتداعية إلى الانفكاك لم يعقل بقاء المركب كالماء مثلا عند أهل عصرنا من الأوكسجين والهيدروجين مع اختلاف ثقلهما آلافا من السنين في البحار ولا بقاء الأوراق والثمار على الأشجار مدة طويلة بحيث لو فصل من الشجر لذبل بعد يوم وفسد، واللحم والشحم في بدن الحيوان متصلا يبقى سنين ولو انفصل لتعفن وفسد في بضعة أيام ولولا معيته مع الجنين في رحم أمه لم يعقل حصول تلك الحكم والمصالح المرعية فيه وأما الإنسان فإدراكه العقلي قوة له حاصلة من الملكوت كشعاع من الشمس وهو واضح فبالأولى أن يكون الروح القدسي المسدد للحجج (عليهم السلام) من تحت العرش فائضا عليهم من أول تكونهم. وبالجملة عالم العناصر جميعه تحت تدبير العقل المجرد ويختلف حظهم منه على حسب استعدادهم فالروح القدسي بقدره والعقل بقدره والحيوان والنبات والمعادن والعناصر كل بقدرها. (ش)

جبل بين مكة والمدينة وعنده بلد ينسب إليه.

قوله (وضع لنا الغداء) هو الطعام الذي يؤكل أول النهار..

قوله (أكثر وأطاب) دل على جواز ذلك في الضيافة بل على رجحانه واستحبابه ولا يعد إسرافا كما يدل عليه أيضا بعض الروايات.

قوله (وأنكرت نفسي) أي وجدتها منكرة متغيرة عن حالها ومنه التنكر وهو أن يتغير الشيء عن حاله حتى ينكر. قوله (ما كنت أجد) من الضعف والوجع وتغير الحال.

قوله (وقد أمرتني أن لا أسبقك) لعله أراد أن يكون وضع الحمل في حال حضوره (عليه السلام) وفي بعض النسخ: لا أستبقك من الاستباق.

قوله (وما هذا من أمارة رسول الله) هذا إشارة إلى الأمر المذكور و «من» بيان له و «ما» سؤال عن سببه وأثره المترتب عليه ولذلك اشتمل الجواب عليهما.

قوله (علق فيها بجدي) لعل أصله علقت يقال: علقت المرأة إذا حبلت حذف الفاعل واقيم الظرف مقامه والمعنى تعلقت إرادته تعالى بجدي من علق بالشيء إذا تعلق به على إضمار الفاعل وان بعد، والجد المضاف إلى ياء المتكلم علي بن الحسين وإلى الأب الحسين (عليه السلام).

قوله (فيه شربة) هذه الشربة مادة العلوم وكمال الذات (1) ونورانيتها وصفاء الباطن والظاهر من رذائل الأخلاق والأعمال وطهارة النفس.

قوله (وألين من الزبد) الزبد بالضم والسكون ما يستخرج من اللبن بالمخض قوله (فقمت بعلم الله) أي فقمت مستعينا بذات الله أو بأمره مجازا من باب تسمية المسبب

ص:382


1- (1) قوله «هذه الشربة مادة العلوم وكمال الذات» يعني بناء على أن لكل شيء في كل عالم صورة تناسبه ولا يقدح اختلاف الصور في وحدة الماهية كما ترى أن الماء ينجمد أو يصير بخارا وهو ماء في كل حالة وكذلك الشيء في عالم العقول علم وكمال ومنقبة، وفي عالم المثال ماء كما في الحديث، واعلم أن ما أورده الكليني في هذا الباب وما يلحقه في صفات الإمام مما لم يبحث عنه المتكلمون ولم يذكروه فيما يعتقده الشيعة الإمامية في أئمتهم (عليهم السلام) وليس أكثرها نقية الأسناد ولو كانت صحيحة لم تكن حجة في الاعتقاديات لكونها منقولة بطريق الآحاد وعدم تواتر مضامينها وعدم إجماع الشيعة عليها ومع ذلك لا بأس بنقلها والتكلم فيها لأن نقل الكليني لها يدل على عدم إنكار الشيعة لها وعدم استبشاعهم إياها وإلا لنسبوا الكليني بروايتها إلى الغلو والتخليط كما نسبوا غيره لرواية المناكير والشواذ، والشيعي المعترف بإمامة المعصومين أهل تسليم واعتراف فإن لم يفهم معنى ما روي رد إلى الله ورسوله لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز عندهم ولا يرون بأسا بأن يرووا حديثا عن المعصوم مجملا لا يعرف معناه إذا لم يكن متعلقا بالعمل وأما ما يتعلق بالعمل فلابد أن يكون مبينا عند العمل حتى يتمكن من امتثاله. (ش)

باسم السبب لأن أمره مسبب عن علمه أو بعلم الله المحيط بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، خفيها وجليها على أتم الوجوه. أو فقمت بتحصيل علم الله بفتح اللام وهو علامته ومناره على احتمال بعيد.

قوله (فدونكم) فيه إغراء بالأخذ والتمسك به والعرب تقول في الإغراء بالشيء: دونك.

قوله (فكتب على عضده الأيمن) في الحديث الآخر: بين كتفيه، وفي الآخر من بين عينيه فالتخيير صحيح والجمع محتمل.

قوله (وتمت كلمة ربك) بلغت الغاية في الإحكام صدقا في الأخبار وعدلا في القضاء والأحكام، والنصب للتميز أو الحال أو العلية «لا مبدل لكلماته» أي لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل منه وهو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون وكأن المراد بالكلمة الإمام الذي تعلق حكم الله تعالى بوجوده عينا وبتمامها كون وجوده العيني على نحو وجوده في العلم الأزلي وبالصدق مطابقة الوجود العيني للوجود العلمي وبالعدل عدم الجور في هذا الحكم والتقدير بل هو محض العدل وبالسمع سماع ما يقول ويقولون فيه وبالعلم العلم بما يعتقد ويعتقدون فيه والله أعلم.

قوله (من بطنان العرش) أي وسطه وكأن المراد بالعرش العرش الجسماني وهو المحيط الأعظم أو عرش رب العزة وهو المطاف للملائكة المقربين.

قوله (من الافق الأعلى) الافق بالضم والضمتين مثل عسر وعسر: الجانب والناحية ووصفه بالأعلى للدلالة على علوه وشرفه.

قوله (أثبت تثبت) مجزوم بالشرط المقدر لوقوعه بعد الأمر والظاهر أنه على صيغة الخطاب من الإثبات أو التثبيت أي أثبت أنت على الطريقة المستقيمة، إن تكن ثابتا عليها ثبت غيرك عليها، وفيه دلالة على أن المكمل للغير لابد أن يكون كاملا في نفسه، يدل على ذلك أيضا روايات متكثرة، ويحتمل أن يكون على صيغة المتكلم مع الغير من الفعلين المذكورين، أي إن تثبت عليها نثبتك في المقام الرفيع أو نثبت بك غيرك والله أعلم.

قوله (فلعظيم ما خلقتك) أي لأمر عظيم خلقتك وهو إرشاد الخلق وهدايتهم.

قوله (وعيبة علمي) العيبة ما يجعل فيه الشيء مثل الصندوق ونحوه، وقلبه اللطيف لكونه صافيا مجلوا خاليا من الرذائل كلها كان محلا للمعارف الإلهية والعلوم الربانية والأسرار اللاهوتية.

قوله (ثم وعزتي وجلالي) الواو للقسم، والعزة في الأصل القوة والشدة والغلبة، تقول: عز يعز بالكسر إذا صار عزيزا، وبالفتح إذا اشتد، ومن أسمائه تعالى العزيز، وهو الغالب القوي الذي لا

ص:383

يغلب، والجلال والعظمة، ومن أسمائه تعالى: الجليل، وهو الموصوف بنعوت الجلال والحاوي جميعها هو الجليل المطلق وهو راجع إلى الصفات كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات، والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات.

قوله (لاصلين) قال الجوهري: صليت الرجل نارا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد إحراقه قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية. وقال صاحب النهاية: يقال صليت الحلم بالتخفيف أي شويته فهو مصلي فأما إذا أحرقته وألقيته في النار قلت: صليته بالتشديد وأصليته.

قوله (شهد الله انه لا إله إلا هو) بنصب الدلائل على توحيده أو بقوله «أنا الله لا إله إلا أنا» أو بهذا القول.

قوله (والملائكة وأولوا العلم) هم يقرون بذلك ويشهدون به.

قوله (قائما بالقسط) أي قائما بالعدل في تقسيم الأرزاق والآجال وفي تقرير الأقضية والأحكام، وهو حال من الله أو نصب على المدح، وقيل: يحتمل أن يكون صفة للمنفي، أي لا إله قائما بالقسط إلا هو، وهو بعيد لفظا ومعنى، اما لفظا فبالفصل بين الصفة والموصوف والمشهور أنه لا يجوز، وأما معنى فلأنه لا يلزم منه نفي إله غيره مطلقا لأن النفي راجع إلى القيد غالبا.

قوله (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) تأكيد لما سبق لزيادة الاعتبار بإظهار التوحيد وأدلته ورفعهما على البدل من الضمير الغائب وهو في بدل الكل جائز.

قوله (فإذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول والعلم الآخر) لعل المراد بالعلم الأول علوم الأنبياء السابقين، وبالعلم الآخر علوم خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ويحتمل أن يراد بالأول العلم بأحوال المبدء وأسرار التوحيد وقوانين الشرائع، وبالآخر العلم بأحوال المعاد والحشر والنشر والبرزخ وكل ما يكون بعد الموت، ووضع يديه على الأرض كناية عن أخذه جميع العلوم حينئذ وفيه دلالة على أن قراءة هذه الآية توجب زيادة العلم.

قوله (واستحق زيارة الروح في ليلة القدر) كناية عن استحقاقه للإمامة لأن ذلك من خواصها وزيارة الروح لقصد التبرك والإخبار بما يقع في تلك السنة ويحتم الله بوقوعه كما مر.

قوله (قلت جعلت فداك الروح ليس هو جبرئيل) لعل الغرض من هذا السؤال أما تصحيح العطف في قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها) فكأنه قال على سبيل التقرير: أليس الروح هو جبرئيل وجبرئيل داخل في الملائكة فكيف يصح عطفه عليهم؟ وأما استبعاد قوله (عليه السلام) «استحق زيارة الروح» فكأنه قال: الروح هو جبرئيل وهل ينزل جبرئيل على الإمام؟ والجواب على الأول أن جبرئيل من الملائكة والروح غيره وأعظم منه، فالمعطوف مغاير للمعطوف عليه، وعلى الثاني أن

ص:384

جبرئيل من الملائكة النازلين إليه والروح أعظم منه، وإذا جاز زيارة الأعظم جاز زيارة الأصغر بطريق الأولى، وقد مر أن الروح غير جبرئيل وانه أعظم منه، مفصلا في باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (عليهم السلام) فلا نعيده.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن الحسن بن راشد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى إذا أحب أن يخلق الإمام أمر ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش. فيسقيها أباه، فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوما وليلة في بطن امه لا يسمع الصوت، ثم يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق، فبهذا يحتج الله على خلقه.

* الشرح:

قوله (ثم يسمع بعد ذلك الكلام) الظاهر منه أن الإمام تتميز أعضاؤه بعد الأربعين ويتعلق به الروح ويسمع كلام من تكلم ممن حضر امه، ويحتمل أن يراد بالكلام كلام الملك الجليل الذي يلقى إليه في الأسرار وغيرها، والله أعلم.

قوله (رفع لهذا منار من نور) المنار جمع منارة وهي العلامة على غير القياس لأن وزنها مفعلة وقياسها في الجمع مفاعل، والمراد بالنور هنا ضياء العمل الصالح، فإن العبد إذا عمل عملا صالحا يصعد به وهو حسن مشرق اللون ينظر إليه الإمام ويعلم أنه من أعمال العباد (فبهذا يحتج الله على خلقه) هذا إشارة إلى الإمام، يعني يحتج الله تعالى به على خلقه لأنه جعله دليلا لهم على سبيله كما يحتج بالإمام الماضي عليهم، وبالجملة الإمام حجة الله على كل من كان في عصره.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن منصور بن يونس، عن يونس بن ظبيان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عزوجل إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش، ثم أوقعها أو دفعها إلى الإمام فشربها فيمكث في الرحم أربعين يوما لا يسمع الكلام، ثم يسمع الكلام بعد ذلك، فإذا وضعته امه بعث الله إليه ذلك الملك الذي أخذ الشربة، على عضده الأيمن (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة منارا ينظر به إلى أعمال العباد.

ص:385

* الشرح:

قوله (ثم أوقعها أو دفعها) الترديد من الراوي لعدم حفظه اللفظ المسموع بخصوصه.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الربيع بن محمد المسلي، عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الإمام ليسمع في بطن امه فإذا ولد خط بين كتفيه (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور، يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.

* الشرح:

قوله (عن الربيع بن محمد المسلي) هو الربيع بن محمد بن عمر بن حسان المسلي روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) له كتاب، والمسلية قبيلة من مذحج.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن ابن مسعود، عن عبد الله بن إبراهيم الجعفري قال: سمعت إسحاق بن جعفر يقول: سمعت أبي يقول: الأوصياء إذا حملت بهم امهاتهم أصابها فترة شبه الغشية، فأقامت في ذلك يومها ذلك إن كان نهارا، أو ليلتها إن كان ليلا، ثم ترى في منامها رجلا يبشرها بغلام عليم حليم، فتفرح لذلك، ثم تنتبه من نومها، فتسمع من جانبها الأيمن في جانب البيت صوتا يقول: حملت بخير وتصيرين إلى خير، وجئت بخير، أبشري بغلام حليم عليم، وتجد خفة في بدنها، ثم لم تجد بعد ذلك امتناعا من جنبيها وبطنها، فإذا كان لتسع من شهرها سمعت في البيت حسا شديدا، فإذا كانت الليلة التي تلد فيها ظهر لها في البيت نور تراه، لا يراه غيرها إلا أبوه، فإذا ولدته قاعدا وتفتحت له حتى يخرج متربعا يستدير بعد وقوعه إلى الأرض، فلا يخطي القبلة حيث كانت بوجهه، ثم يعطس ثلاثا يشير بإصبعه بالتحميد ويقع مسرورا مختونا ورباعيتاه من فوق وأسفل وناباه وضاحكاه، ومن بين يديه مثل سبيكة الذهب نور ويقيم يومه وليلته تسيل يداه ذهبا وكذلك الأنبياء إذا ولدوا، وإنما الأوصياء أعلاق من الأنبياء.

* الشرح:

قوله (عن عبد الله بن إبراهيم الجعفري) كان من أولاد جعفر بن أبي طالب، ثقة صدوق.

قوله (قال سمعت إسحاق بن جعفر) كان من أهل الفضل والصلاح والورع والاجتهاد، وروى عن أبيه الصادق (عليه السلام) الحديث والآثار، وكان ابن كاسب إذا حدث عنه يقول: حدثني الثقة الرضي

ص:386

إسحاق بن جعفر، وكان إسحاق (رضي الله عنه) يقول بإمامة أخيه موسى (عليه السلام) وروى عن أبيه النص على أخيه (عليه السلام) قاله المفيد في إرشاده.

قوله (أصابها فترة شبه الغشية) الفترة الانكسار والضعف، والغشية الإغماء، تقول: غشي غشية وغشيا وغشيانا فهو مغشي عليه إذا اغمي عليه، يعني أنها حصلت لها حينئذ حالة شبيهة بالإغماء بسبب صيرورتها محلا لنور إلهي وتجلي رباني، وثقل ذلك عليها وقد يعرض مثل ذلك للكمل من أولياء الله إذا شاهدوا من نور الحق ما لا يطيقون النظر إليه.

قوله (أبشري بغلام حليم عليم) (1) أبشري بقطع الألف، يقال: بشرته بمولود فأبشر إبشارا أي سر، ومنه قوله تعالى: (وأبشروا بالجنة).

قوله (لم تجد بعد ذلك امتناعا من جنبيها وبطنها) أي لم تجد من جنبها وبطنها بعد ذلك امتناعا من تحمل ذلك المولود المبارك لالفها به وارتفاع ثقله عنهما، وفي كثير من النسخ المعتبرة «ثم تجد بعد ذلك اتساعا من جنبها وبطنها».

قوله (سمعت في البيت حسا شديدا) يحتمل أن يراد بالحس صوت المتكلم أو صوت المشي والحركة.

قوله (ولدته قاعدا) فيخرج على هيئة قعوده في الرحم ولعل السر فيه هو الإشعار بعدم إقباله إلى الدنيا، أو بإقباله إلى الملأ الأعلى.

قوله (وتفتحت له) أي صارت متفتحة ليخرج بسهولة وفي بعض النسخ «وتفسحت له» بالسين، وفي بعضها «نفجت له» بالجيم، والنفج النفخ والرفع ومنه يقال: انتفج جنبا البعير إذا ارتفعا ولعل المراد هنا الانفراج.

قوله (يستدير) دل على أن الحامل عند الوضع ينبغي استقبالها للقبلة لأن امه (عليها السلام) كانت مستقبلة وإلا لم يحتج هو عند خروجه قاعدا إلى الاستدارة إلى القبلة بناء على ما تقرر من أن وجه الحمل إلى ظهر الام.

قوله (فلا يخطي القبلة حتى كانت بوجهه) حتى غاية للاستدبار، أي يستدير حتى كانت القبلة مقابلة بوجهه، وفي بعض النسخ «حيث كانت» وهو تعليل لقوله «فلا يخطي» مع احتمال أن يكون حيث للمكان ويعود اسم كانت إلى الام ويتعلق قوله «بوجهه» بقوله لا يخطي، فليتأمل.

قوله (ثم يعطس ثلاثا) عطس يعطس من باب ضرب ونصر، والعطاس يكون مع خفة البدن وانفتاح المسام وتيسر الحركات ويخرج بالعطسة الأولى كل ريح يورث أمراضا لا يليق بمنصب

ص:387


1- (1) قوله «أبشري بغلام حليم عليم» صوت من عالم الملكوت تسمعه الام ولا يسمعه غيرها كما صرح به في النور أنها تراه ولا يراه غيرها ولو كان نورا من الأنوار الجسمانية لأدركه جميع الناس. (ش)

الإمامة، ويخرج بالثانية كل ريح يحرك إلى حب الدنيا والإقبال إليها، ويخرج بالثالثة كل ريح يثقل البدن عن العمل بالطاعات والاجتناب عن المنهيات.

قوله (يشير بإصبعه بالتحميد) أي متلبسا بالتحميد، فيفهم أنه يتكلم به، ولو جعل الباء بمعنى إلى لم يفهم منه ذلك. قوله (ويقع مسرورا) أي مقطوع السر يقال: سررت الصبي أسره سرا أي قطعت سره، والسر بالضم ما تقطعه القابلة من سر الصبي، ولا تقول: تقطعت سرته لأن السرة لا تقطع وانما هي الموضع الذي قطع منه السر.

قوله (ورباعيتاه) الأسنان ثمانية وعشرون، اثنا عشر مقاديم، ثنيتان ورباعيتان ونابان; ومثلها من أسفل، وستة عشر مآخير وهي من كل الجوانب الأربع: ضاحك وثلاثة أضراس، فالرباعية مثال الثمانية بين الثنية والناب والجمع رباعيات، والضاحكة بين الأنياب والأضراس.

إذا عرفت هذا فنقول: الحديث ساكت عن الأضراس، فإما فيه اقتصار بذكر المذكور عن ذكرها أو فيه إشارة إلى عدم ظهورها حينئذ، والثاني أظهر بالنظر إلى الأصل، والأول أنسب بالنسبة إلى الكمال، والله أعلم.

قوله (ومن بين يديه مثل سبيكة الذهب نور) قيل: النور جسم، وقيل: عرض، وقيل: قد يكون هذا وقد يكون ذاك، وظاهر تشبيهه بالسبيكة من الذهب يؤيد الأول مع احتمال جعل وجه التشبيه مجرد اللون والضياء دون الجسمية أيضا، ثم المراد به إما نور العلم وهو نور الله الذي لا يضل من اهتدى به، أو نور الإمامة وهو الذي أشار إليه جل شأنه بقوله (يريدون ليطفئوا نور الله.. الآية) أو النور الذي في جوهر ذاته، أو القوانين النبوية، وقد فسر بهما قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدعاء للنبي (صلى الله عليه وآله) «اللهم أتمم نوره» والمراد بإتمامه على الأول زيادة كماله وعلى الثاني انتشاره بين العباد، أو المراد به بعض تجليات الحق المضيء في أبصار أصحاب النفوس الطاهرة كما يشهد ظهور نور الطور لموسى (عليه السلام).

قوله (تسيل يداه ذهبا) أي نورا شبيها بالذهب وحمله على الظاهر بعيد (1).

قوله (وإنما الأوصياء أعلاق من الأنبياء) الأعلاق جمع علقة وهي القطعة، أو جمع علق بالكسر وهو النفيس من كل شيء، والمقصود أن أمر الأوصياء فيما ذكر كأمر الأنبياء، لأن الوصي قطعة من النبي أو أشرف ولده وأقربائه فحكمه حكمه.

ص:388


1- (1) قوله «حمله على الظاهر بعيد» أي على النور الظاهري بعيد، والأولى حمله على تجل وظهور في نظر بعض من يراه من أصحاب النفوس الطاهرة، وأما النور بمعنى العلم والإمامة فلا يختص بيوم وليلة بل هو معهم مطلقا وليس تجلي ذلك النور في نظر بعضهم مما يستدام. (ش)

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج قال:

روى غير واحد من أصحابنا أنه قال: لا تتكلموا في الإمام فإن الإمام يسمع الكلام وهو في بطن امه، فإذا وضعته كتب الملك بين عينيه (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا قام بالأمر رفع له في كل بلدة منار ينظر منه إلى أعمال العباد.

* الشرح:

قوله (لا تتكلموا في الإمام) أي لا تتكلموا في حقيقة ذاته ولا في معرفة صفاته لأنكم لا تقدرون على معرفتها وما بعده بمنزلة التعليل لذلك.

قوله (رفع له في كل بلدة) (1) الدراية والرواية; بالتاء في بلدة، والضمير محتمل.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: كنت أنا وابن فضال جلوسا إذ أقبل يونس فقال: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك قد أكثر الناس في العمود، قال: فقال لي: يا يونس! ما تراه، أتراه عمودا من حديد يرفع لصاحبك؟ قال: قلت: ما أدري، قال:

لكنه ملك موكل بكل بلدة يرفع الله به أعمال تلك البلدة، قال: فقام ابن فضال فقبل رأسه وقال:

رحمك الله يا أبا محمد لا تزال تجيء بالحديث الحق الذي يفرج الله به عنا.

* الشرح:

قوله (أتراه عمودا من حديد) (2) العمود بالفتح واحد أعمدة في القلة أو عمد

ص:389


1- (1) قوله «في كل بلدة» يعني في جميع البلاد، فبلدة بالتاء لا في بلده بالخصوص، ومعنى رفع العمود في كل بلدة أن من كل بلدة كالكوفة والبصرة والشام يرفع عمود إلى عنان السماء ينعكس في ذلك العمود صورة أهل تلك البلدة وما يفعلون، فينظر الإمام إلى تلك الصور المنعكسة في العمود، لأن الأذهان تذهب إلى أن نفس البلدة لبعدها عن الإمام ووجود الحائل والحاجب لا يمكن أن تكون مرئية وأما صورها وعكوسها في العمود الخارج منها إلى عنان السماء فيمكن رؤيتها، وبالجملة يمكن أن يكون العمود تعبيرا عن إحاطة نفسه القدسية بما وراء الحجب والفواصل أو يكون تمثل جسم شبيه بالعمود لهم كتمثل جبرئيل لمريم بشرا سويا وتمثل سائر الحقائق للأنبياء والأولياء في صور جسمانية، وكذلك الكلام في كتابة الملك بين عينيه (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) يمكن أن يكون من تمثل المعنى في صورة الكتابة بحيث يقرؤها بعض أصحاب النفوس القدسية.
2- (2) قوله «أتراه عمودا من حديد» يعني من حديد أو خشب أو أمثاله، أي ترى عمودا من الأجسام العنصرية المادية، ولا ريب أن ما يتبادر إلى الذهن من الألفاظ حجة في الأحكام العملية بمعنى أن صاحبه معذور إن عمل بما فهم من اللفظ وأما في الاعتقادات فربما يرد في القرآن والحديث ألفاظ لا يراد منه ظاهره كاللوح والقلم، فقد ورد أنهما ملكان، والذهن يتبادر من اللفظتين إلى المعنى المتداول، والعمود من النور في هذا الحديث كذلك ذهب ذهن السامعين إلى العمود العنصري إلى أن بينه الإمام وليس للاعتقادات وقت عمل حتى يقبح تأخير البيان عن وقت العمل، وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز، والوظيفة لأهل السلامة والتسليم أن يردوا تفصيل كل شيء لا يحتاج إلى علمه في العمل إلى الله والرسول ولا يتكلفوا بالتسرع إلى شرحه من عند نفسه سواء كان أوفق بظاهر اللفظ أم لا. (ش)

بالفتحتين أو الضمتين في الكسرة وذكر الحديد على سبيل التمثيل وإلا فقد يكون العمود من خشب ونحوه.

قوله (يرفع لصاحبك) الظاهر منه إمام عصره ويمكن إرادة الأعم منه.

قوله (لكنه ملك موكل) الضمير راجع إلى العمود وظاهره أن العمود هو الملك الموكل برفع أعمال العباد، وعلى هذا يحمل المنار من النور المذكور في الأخبار السابقة على الملائكة الموكلين به لأن المبين يفسر المجمل، وتسميتهم أعمدة من باب إطلاق اسم أحد المتجاورين على الآخر أو من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن العمود في الحقيقة نور الأعمال.

قوله (لا تزال تجيء بالحديث الحق الذي يفرج الله به عنا) الفرج من الغم ونحوه، يقال: فرج الله غمك تفريجا، وفرج الله عنك غمك، يفرج بالكسر أي كشفه وأزاله، وعلى هذا كان المفعول محذوفا أي يفرج به الخفاء عنا، وفي بعض النسخ: يفرج الله به الحق عنا، ولابد فيه من اعتبار حذف المضاف أي يفرج به الخفاء الحق عنا فليتأمل.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن ابن أبي عمير، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: للإمام عشر علامات: يولد مطهرا، مختونا، وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعا صوته بالشهادتين، ولا يجنب، وتنام عيناه ولا ينام قلبه، ولا يتثاءب ولا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوه كرائحة المسك، والأرض موكلة بستره وابتلاعه، وإذا لبس درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت عليه وفقا، وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبرا، وهو محدث إلى أن تنقضي أيامه.

* الشرح:

قوله (يولد مطهرا مختونا) هذه علامة اولى، ويمكن أن يراد بالمطهر المطهر من رجس الحيض وبالمختون مقطوع الغلفة والسرة مجازا استعمالا للمقيد في المطلق لأن المختون مقطوع الغلفة وأن يراد بالمطهر المسرور والمختون حينئذ على حقيقته والأول أظهر وأعم.

قوله (وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعا صوته بالشهادتين) هذه علامة ثانية قد مر لم وضع الراحتين ورفع الصوت بالشهادتين في أول هذا الباب إلا أنه ليس فيه الشهادة بالرسالة

ص:390

ولابد من تقييده بها أيضا حملا للمطلق على المقيد.

قوله (ولا يجنب) هذه علامة ثالثة، أي لا يلحقه خبث الجنابة كما يلحق غيره إلا أنه يجب عليه الغسل. أو لا يحتلم (1) لأن كلا من الجنابة والاحتلام يطلق على الآخر مجازا.

قوله (وتنام عيناه ولا ينام قلبه) هذه علامة رابعة، النعاس مقدمة النوم وهو ريح لطيف بخاري يأتي من قبل الدماغ يغطي العين ولا يصل إلى القلب فإذا وصل إليه صار نوما، والمراد بنوم العين بطلان إدراكها المسمى بالإبصار وبعدم نوم القلب عدم بطلان إدراكه لأن قلبه محل للإلهامات الإلهية والأسرار الربانية وحافظ لما في عالم الإمكان ومتصرف في العالم العلوي والسفلي فلا يجوز أن يستغرق عليه النوم ويبطله عن عمله، وقد ذكر العامة في وصف النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «تنام عيناي ولا ينام قلبي» وقال القرطبي: إنما لم ينم قلبه لأنه يوحى إليه، فلا يجوز أن يستغرق عليه النوم، ثم قال: وفيه دلالة على أنه كان محفوظا في حال النوم من الحدث كما جاء أنه ينام حتى ينفخ وحتى يسمع غطيطه ويصلي ولا يتوضأ.

قوله (ولا يتثاءب ولا يتمطى) هذه علامة خامسة، التثاؤب معروف وهو من الشيطان، لأنه إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل وإعطاء النفس وشهواتها وتوسع في المطعم والإكثار فيه فيثقل عن الطاعات ويكسل عن الخيرات كما صرح به في النهاية، والتمطي:

التمدد والتبختر باليدين على نحو معروف، وأصل تمطى تمطط من المط وهو المد، وهو أيضا من الشيطان.

قوله (ويرى من خلفه كما يرى من أمامه) هذه علامة سادسة، الرؤية بالعين يتعدى إلى مفعول واحد كما تقول: رأيت زيدا أي أبصرته، وبمعنى العلم إلى مفعولين كما تقول: رأيت زيدا عالما، والمراد هنا هو المعنى الأول ومفعوله من خلفه إن كانت «من» موصولة أو موصوفة، ومحذوف إن

ص:391


1- (1) قوله «أولا يحتلم» هو المتعين في الإرادة ويستأنس لإثباته بأن الحجة في كل عصر هو المثل الأعلى للتنزه من الشيطان ووساوسه والاحتلام من غلبة الشهوة وهي من جنود الشيطان، وبعبارة أخرى وجود كل شيء ناقص يدل على كامل هو الأصل كالممكن والواجب، وفي كل صفة ينتهي ما بالعرض منها إلى ما بالذات والماء الممزوج بالملح والتراب يدل على وجود ماء محض، والتقوى والعدالة والفضيلة غير الخالصة تدل على تقوى خالصة وعدالة محضة وفضيلة صرفة في موضع، المكرمة المشوبة بالوسوسة الشيطانية تدل على وجود الأصل للمكرمة الخالصة هو الحجة في كل عصر كما تدل على مبدء وسوسة خالصة هي الشيطان، والاعتقاد الحق الصحيح الموافق للواقع يدل على من يدرك الحق مطلقا وهو العقل، والغلط والباطل يدل على مبدء بخلافه وهو الوهم، والاختلاط منهما في بعض أفراد البشر يدل على وجود الخالص غير المشوب، والحجة من لا يدخل فيه ما يشوبه ويخرجه عن محض الحق. (ش)

كانت حرف جر، أي يرى الأشياء من خلفه كما يراها من أمامه وذلك إما بأن يخلق له إدراك في القفاء كما يخلق النطق في الرجل واليد في الآخرة، أو بأن يدرك بالعين ما ليس بمقابل لها من باب خرق العادة فيفهم أن البنية المخصوصة أعني العين والمقابلة من الشروط العادية للإبصار فيجوز أن تنخرق فيخلق الإدراك في غير العين من الأعضاء فيرى المرئي ويرى بالعين غير المقابل، ومن قال أنهما من الشروط العقلية التي لا تنخرق يشكل عليه ذلك إلا أن يقول: رؤية الخلف يجوز بانعكاس شعاع البصر من غير لزوم انطباقه على الصيقل، وهذا أيضا من باب خرق العادة. وحمل الرؤية على المعنى الثاني بعيد جدا.

قوله (ونجوه كرائحة المسك) هذه علامة سابعة، وفيه حذف أي رائحة نجوه، والنجو ما يخرج من ريح أو غائط وذلك لأن باطنه كظاهره طاهر مطهر مما يوجب التأذي والتنفر منه.

قوله (والأرض موكلة بستره وابتلاعه) هذه علامة ثامنة، وذلك إما لتشرفها به كما شرب الحجام دمه (صلى الله عليه وآله) للتشرف والتبرك أو لأنه وإن لم يكن له رائحة إلا أن صورته كصورة نجو غيره ومشاهدة ذلك يوجب التنفر عنه في الجملة فامرت الأرض بابتلاعه إكراما له (عليه السلام).

قوله (وإذا لبس - إلى قوله - شبرا) هذه علامة تاسعة، فإن قلت: هذا ينافي ما رواه المصنف في باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لبس أبي درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات الفضول فخطت ولبستها أنا ففضلت» حيث دلت على أنه زاد عليهما، قلت: هذا من علامات الإمام الذي يغلب على الأديان كلها (1) ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وهو المهدي (عليه السلام) يدل على ذلك ما رواه أيضا في ذلك الباب عنه (عليه السلام) قال «ولقد لبس أبي درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطت على الأرض خطيطا، ولبستها فكانت وكانت، وقائمنا من إذا لبسها ملأها إن شاء الله تعالى» وقد ذكرنا تفصيل ذلك سابقا فلا تغفل.

قوله (وهو محدث) هذه علامة عاشرة (2)، وقد مر توضيح ذلك وتفصيله سابقا فلا نعيده.

ص:392


1- (1) قوله «الإمام الذي يغلب على الأديان» تخصيص يأبى عنه عبارة الحديث، فلابد أن يحمل على أن هذا الدرع غير ذلك أو على وهم في إحدى الروايتين إذ لم يثبت لدينا صحة إحداهما. (ش)
2- (2) قوله «هذه علامة عاشرة» إن قيل: لم يذكر علماؤنا في كتب الاعتقادات هذه العشرة وأمثالها من شروط الإمامة، قلنا: لأن المتكلمين رضي الله عنهم اكتفوا بما ثبت صحته يقينا بإجماع أو ضرورة أو دليل عقل أو حديث متواتر، وهذه العشرة وأمثالها مما ورد في أحاديث الآحاد ولا يعتمد عليها في الأصول إذ لابد فيها من اليقين. (ش)

باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم وقلوبهم تحن إلينا.

* الشرح:

قوله (إن الله خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك) أي خلق أبداننا من تحت العرش وخلق أرواحنا فوق ذلك من نور عظمته، والعليون اسم للسماء السابعة (1) وقيل: هو اسم لديوان الملائكة الحفظة ترفع إليه أعمال الصالحين من العباد، وقيل: أعلى الأمكنة وأشرف المراتب وأقربها من الله تعالى، والحق أنه اسم لكل واحد من الأمور المذكورة وأن الأقرب هاهنا هو الأخير ثم الأول واعلم أن وجود البشر كلهم من مبدء واحد بالذات والصفات عالم بجميع الأشياء فلما علم أن بعضهم يعود بالحالات العلية إلى مكان القرب، خلقهم منه وهو لطف يعينهم على اكتساب w:393


1- (1) قوله «والعليون اسم للسماء السابعة» والصحيح كما يأتي أن يفسر العليون بما فسر به القرآن الكريم (إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) وهو التفسير الثاني في كلام الشارح وإطلاق اسم الكتاب عليه باعتبار انتقاش العلوم فيه وليس قرطاسا وخشبا وحديدا بل هو عالم من عوالم الملائكة كما فسر اللوح والقلم به، فإن قيل: ألا يعلم الملائكة الموكلون بأعمال الصلحاء شيئا من أعمال الأشقياء حيث خص العليون بالأبرار والسجين بالأشرار؟ قلنا: لعل المأمور بالحفظ والضبط لعمل كل واحد من الأبرار والفجار ملائكة خاصة بهم وإن كان جميع الملائكة يعلمون جميع الأعمال، وخلق بدن الإمام وروح الشيعة من اللوح الذي انتقش فيه أعمال الأبرار لا باعتبار إطلاق اسم الكتاب عليه بل باعتبار كونه من عالم القرب والشرف، فقد يطلق على شيء واحد أسماء مختلفة باعتبارات مختلفة كما يقال: فلان مولود الكتاب ومولود العلم مربى الزهد ومنشأ من التقوى. ثم إن المجلسي - قدس الله سره - نقل في مرآة العقول عبارة الشارح في تفسير العليين ثم ذكر أمورا يتعلق بألفاظ الحديث ونقل بعد ذلك عبارة الفيض (رحمه الله) في الوافي هكذا: كان المراد بالعليين عالم الملكوت وبما فوقه عالم الجبروت وبما دونه عالم الشهادة، فمن أجل ذلك يعني من أجل أن أصل أجسادنا وأرواحهم واحد وإنما نسب أجسادهم إلى عليين لعدم علاقتهم (عليهم السلام) إلى هذه الأبدان الحسية، فكأنهم بعد في هذه الجلابيب قد نفضوها وتجردوا عنها. انتهى (ش).

تلك الحالات وعلم أن بعضهم يعود بالحالات الدنية إلى محل البعد خلقهم منه ليكون عود كل أحد إلى أصله ومحله المأنوس كما قيل «كل شيء يرجع إلى أصله»، وبالجملة تلك الحالات علة للإيجاد على نحو مخصوص ومحل معلوم دون العكس فليتأمل فإنه دقيق جدا، وبذلك يندفع كثير من الشبهات (1) والله الموفق للخيرات.

قوله (فمن أجل ذلك) وذلك لأن أبدانهم وأرواحنا من محل واحد فبينهما كمال القرابة والاتصال وأرواحهم المتعلقة بأبدانهم متعلقة ومتصلة بأرواحنا فلذلك يفيض منهم إلينا ما شاء الله من علومهم وصفاتهم، وأرواحنا المتعلقة بأبداننا متعلقة ومتصلة بأبدانهم وأرواحهم فلذلك تحن قلوبنا إليهم وتشتاق إلى لقائهم في الدنيا والآخرة والله هو الموفق والمعين.

* الأصل:

2 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن شعيب عن عمران بن إسحاق الزعفراني، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله خلقنا من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة، مكنونة، من تحت العرش.

فأسكن ذلك النور فيه، فكنا (2) نحن خلقا وبشرا نورانيين، لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة، أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيبا إلا للأنبياء ولذلك صرنا نحن وهم: الناس،

ص:394


1- (1) قوله «يندفع كثير من الشبهات» منها شبهة لزوم الجبر أو خلق بعض الناس أقرب إلى الخير وبعضهم أقرب إلى الشر وهو ظلم أيضا وربما يختلج في ذهن أوباش الناس والماديين منهم إنكار خلق بدن الإنسان بل روحه من غير العناصر الموجودة في الأرض ولا يعقلون دخول شيء آخر من تحت العرش والسماوات في عجن طينتهم وقد ذكرنا أن مذهب الحكماء عدم استقلال المادة والصورة في تكون أي جسم من الأجسام بل العلة التي لا تباين المعلول بينونة عزلة البتة هي الأصل المجرد من عالم العقول فيصح أن يقال: تقوم كل جسم من نور فائض عليه من عالم الملكوت وإنما الكلام في وجه تخصيص الإمام أو الشيعة بذلك والحق أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه فكل شيء يستمد من عالم الملكوت وما من جسم إلا هو مرتبط بجوهره بذلك العالم كارتباط النور بالشمس وينعدم الأجسام بفرض قطع تلك الرابطة كما تنعدم بفرض انعدام مادة تحمل صورتها أو صورة تقيم مادتها، والفرق بين الأجسام إنما هو فيما يستعد لقبوله، فحظ النبات من عالم الملكوت أكثر وأقوى من الجماد، وحظ الحيوان أكثر، والإنسان كذلك، وحظ العلماء والكمل من الأولياء والنفوس القدسية أكثر من سائر أفراد الإنسان وحظ الحجج (عليهم السلام) أوفر وأعظم منهم جميعا، وأما شبهة الجبر والتبعيض في اللطف فينكشف إن شاء الله حين يحين حينه، وغلبة ظهور الملكوت في الحجج (عليهم السلام) أوجبت تخصيصهم بالعليين، وغلبة ظهور المادة والطبيعة في الأشرار أوجبت نسبتهم إلى السجين، كما أن ظهور ملك الله تعالى وانعزال جميع من سواه يوم الحشر أوجب وصفه تعالى بأنه مالك يوم الدين مع أنه مالك كل يوم. (ش)
2- (2) في بعض النسخ [فكذا].

وصار سائر الناس همج، للنار وإلى النار.

* الشرح:

قوله (إن الله خلقنا من نور عظمته) أي خلق أرواحنا من نور عظمته وهي مشتقة منه والظاهر أن الإضافة لامية، ولعل المراد به النور الذي مبدؤه العظمة لأن المضاف إليه كثيرا ما يكون مبدأ للمضاف كما صرح به بعض المحققين، وكان هذا النور هو نور الحجب الذي دل على عظمته تعالى ولذلك صاروا أدلة على الحق، وعظمته التي هي عبارة عن تجاوز قدره عن العقول والإدراك حتى لا يتصور الإحاطة بكنه حقيقة ذاته وصفاته، وفيه إشارة إلى أنه كما لا يمكن الإحاطة المذكورة بالنسبة إليه تعالى كذلك لا يتصور بالنسبة إليهم، وقد مر أن حقيقة ذات الإمام وصفاته لا يعلمها إلا هو ويحتمل أن يكون الإضافة بيانية وإنما سمى عظمته نورا لأن بعظمته ظهر عالم الكون من ظلمة العدم كما أن بالنور ظهرت الأشياء.

قوله (ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش) أي خلق أبداننا من طينة والطين معروف والطينة أخص منه وهي الخلقة والجبلة، يقال: فلان من الطينة الأولى كذا، في الصحاح، وقوله «من تحت العرش» متعلق بالخلق والتصوير وهو المراد بالعليين كما أشرنا إليه.

قوله (فكذا نحن خلقا وبشرا نورانيين) كذا كناية من الشيء وما بعده منصوب على التميز والمراد بالخلق الروح وبالبشر البدن وهم نورانيون في الظاهر والباطن وبنورهم أشرقت قلوب المؤمنين، والألف والنون من زيادات النسب.

قوله (لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا) قد عرفت مما ذكرنا أن خلقهم على الوجه المذكور كان من توابع علمه تعالى بالأخلاق والأعمال وكمال الميل إليه تعالى ولما كان ذلك منهم على وجه الكمال الذي لا يشاركهم فيه أحد غيرهم كان خلقهم على الوجه المذكور مختصا بهم وأما النبي (صلى الله عليه وآله) فيعلم حاله بطريق الأولوية.

قوله (وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا) فيه دلالة على أن جسدهم جسد روحاني وبدنهم بدن نوراني حتى أنه اشتق منه الروح المجرد الصرف.

قوله (أسفل من ذلك الطينة) هكذا في النسخ التي رأيناها ولعل التذكير بتأويل الطينة بالطين أو الأصل، وأنت إذا تأملت فيما ذكر علمت أن بين أبداننا وأبدانهم مباينة في المادة مقارنة في المحل وكذا بين أرواحنا وأرواحهم ويظهر بواقي النسب بالتأمل الصادق إن شاء الله تعالى.

قوله (إلا للأنبياء) أراد بهم الأنبياء السابقين، وأما نبينا (صلى الله عليه وآله) فحاله يعلم من حال الأئمة (عليهم السلام)

ص:395

بطريق الأولوية كما أشرنا إليه.

قوله (ولذلك صرنا نحن وهم الناس) اللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية الموصوفون بصفاتها فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه من أفراد ذلك المسمى ولذلك يسلب عن غيره من أفراده، فيقال:

زيد ليس بإنسان، وسر ذلك أن الإنسان عند أهل العرفان إما نفس الروح المتصفة بما يليق به ويطلب منه، أو هي مع البدن، وعلى التقديرين إذا ماتت الروح بموت كمالها لم يكن البدن وحده عندهم إنسانا.

قوله (وصار سائر الناس همج للنار وإلى النار) (1) المراد بالناس غير من ذكر وهو من خالف الإمامية وعري عن صفة الإنسانية، والهمج محركة جمع همجة وهي ذباب صغير يقع على وجوه الغنم والحمير، وقيل: هي ضرب من البعوض شبه بها الأراذل من الناس والسفلة في عدم الاعتناء بشأنهم وإنزال الهوان والحقارة بهم، وقوله «للنار وإلى النار» إما صفة لهمج أو خبر ثان وثالث، وإلى الأصناف الثلاثة أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة

ص:396


1- (1) قوله «وصار سائر الناس همجا للنار» قد مر في شرح الحديث السابق ما ينبغي أن يقال في مدخلية الجواهر الملكوتية في أبدان الأئمة (عليهم السلام) وأرواحهم بل وأبدان غيرهم والوجه في تخصيصهم، ولكن بعض من له ميل إلى استقلال المواد في الوجود وعدم احتياج الأجسام بقاء إلى العلة استبعد خلق الأبدان العنصرية من الطينة المخزونة عند العرش وانصرف ذهنه من الطينة التي عند العرش إلى مبدء لعالم المثال والأجسام المثالية، فقال: خلق الله روح الأئمة (عليهم السلام) من نور عظمته وجسمهم يعني الجسم المثالي لا العنصري من الطينة التي عند العرش وقال: إن روحهم قبل أن تتعلق بأبدانهم العنصرية تعلقت ببدن مثالي نظير ما يتعلق أرواحنا بعد الموت به، وأقول: لا حاجة إلى هذه التكلفات التي لا توافق ظاهر الخبر ولا قواعد الحكماء. وأيضا القائلون بالأجساد المثالية لا يعتقدون كونها في عرض الأبدان العنصرية بحيث يخرج من أحدهما ويدخل في الآخر كدخوله في الأول، بل التعلقان طوليان لا ينافي أحدهما الآخر والتعلق بالبدن الدنيوي مترتب على مزاج وبنية خاصة وبالبدن المثالي ليس كذلك بل هو نظير تعلق العلة بالمعلول ويمكن تكثر الأجسام المثالية بجعل الروح كما حضر أمير المؤمنين (عليه السلام) في ضيافة أربعين على ما روي، ويحضر عند الموتى في مشارق الأرض ومغاربها في وقت واحد ولو كان على ما تصوره القائل المذكور لم يمكن تعلقه إلا بجسم واحد وكونه في مكان واحد لأن الروح عنده جسم وتعلقه بمعنى كون جسم في جسم فالحق إبقاء لفظ الحديث على ظاهره وتفسيره على مذهب الإلهيين من الحكماء من أن الأجسام محتاجة في بقائها إلى علتها التي أوجدها وليست النسبة بين العلة والمعلول نسبة البينونة العزلية، وظهور حكم الملكوت في الأئمة (عليهم السلام) وغلبته على مقتضى الشهوات البدنية يدلنا على كون أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة على ما ورد، ولكن الخطب سهل لضعف هذه الروايات إسنادا وعدم كون مضامينها من ضروريات المذهب، وما يقال في تفسيرها على فرض صحتها تبرع ممدوح (ش).

وهمج رعاع أتباع لكل ناعق يميلون لكل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن علي بن حسان، ومحمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب وغيره، عن علي بن حسان، عن علي بن رئاب رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن لله نهرا دون عرشه ودون النهر الذي دون عرشه نور نوره وإن في حافتي النهر روحين مخلوقين:

روح القدس وروح من أمره، وإن لله عشر طينات، خمسة من الجنة وخمسة من الأرض، ففسر الجنان وفسر الأرض، ثم قال: ما من نبي ولا ملك من بعده جبلة إلا نفخ فيه من إحدى الروحين وجعل النبي من إحدى الطينتين - قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): ما الجبل؟ فقال: الخلق - غيرنا أهل البيت، فإن الله عزوجل خلقنا من العشر طينات ونفخ فينا من الروحين جميعا فأطيب بها طيبا.

وروى غيره عن أبي الصامت قال: طين الجنان: جنة عدن وجنة المأوى وجنة النعيم والفردوس والخلد، وطين الأرض: مكة والمدينة والكوفة وبيت المقدس والحير.

* الشرح:

قوله (إن لله نهرا) قيل: فتح الهاء من نهر أشهر من سكونها، والظاهر أن المراد بالعرش الفلك التاسع.

قوله (نور نوره) الظاهر أن فاعل نوره راجع إلى النور والضمير إلى العرش أو النهر، ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل راجعا إلى الله سبحانه وضمير المفعول إلى النور.

قوله (وروح من أمره) وهو الروح الذي أشار إليه جل شأنه بقوله (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) وهو غير روح القدس أعني جبرئيل (عليه السلام).

قوله (ففسر الجنان وفسر الأرض) بما يأتي عن أبي الصامت.

قوله (ثم قال ما من نبي ولا ملك من بعده) ضمير من بعده راجع إلى النبي والمراد به غير نبينا (صلى الله عليه وآله) أما نبينا فيعلم كيفية خلقه من كيفية خلق الأئمة (عليهم السلام) بطريق الأولوية، والحاصل أن كل نبي من الأنبياء السابقين وكل ملك خلقه الله تعالى نفخ فيهم من إحدى الروحين وخلق كل نبي منهم من إحدى الطينتين، ولم يذكر الملك هنا إذ ليس له بدن كما يكون للنبي، وأما الأئمة (عليهم السلام) فنفخ فيهم من كلا الروحين وخلقهم من العشر طينات وبذلك يعلم خلق نبينا بالأولوية فلهم فضل على

ص:397

هؤلاء ونور زائد على نورهم وقرب من الحق زائد على قربهم.

قوله (ما الجبل) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: قوله ما الجبل بسكون الباء سؤال عن مصدر الفعل المتقدم وقوله الخلق غيرنا (1) جواب له، وحاصله أن مصداق الجبل في الكلام المتقدم خلق غيرنا أهل البيت لأن الله خلق طينتنا من عشر طينات ولأجل ذلك شيعتنا منتشرة في الأرضين والسماوات وجبل فينا الروحين جميعا انتهى، أقول: يمكن أن يراد بالخلق الجماعة من المخلوقات ويجعل مبتدء وما بعده خبره ويراد حينئذ بالجبل الجماعة المذكورين من الناس وغيرهم الذين جبلهم الله تعالى من إحدى الروحين وإحدى الطينتين. قال الجوهري: الجبل الجماعة من الناس وفيه لغات قرء بها قوله تعالى: (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) [بضم الجيم وسكون الباء] عن أبي عمرو. وجبلا [بضمهما] عن الكسائي وجبلا [بكسر الجيم وسكون الباء] عن الأعرج وعيسى بن عمر.

وجبلا بالتشديد والكسر عن أهل المدينة. ونقل عن الشيخ بهاء الملة والدين أن معنى قوله «الخلق غيرنا» أن مادة بدننا لا تسمى جبلة بل تسمى طينة لأنها خلقت من العشر طينات. انتهى.

وفيه أن هذا الكلام لا يدل على هذا المعنى على أنه لا وجه لتخصيصهم بذلك لأن غيرهم من الأنبياء خلقت أبدانهم من الخمس طينات.

قوله (فأطيب بها طيبا) (2) الظاهر أن الضمير راجع إلى العشر طينات والروحين وأن أطيب

ص:398


1- (1) قوله «الخلق غيرنا جواب له» حمله الأسترآبادي على غير محمله لأن قوله (عليه السلام): الخلق، جواب فقط «وغيرنا أهل البيت» مستثنى من قوله في الجملة السابقة «ما من نبي ولا ملك انتهى» يعني كل نبي وملك من إحدى الطينتين وأحد الروحين غيرنا أهل البيت فإنا من كليهما والجملة المعترضة تمت عند قوله: الخلق يعني، سألته (عليه السلام) عن معنى الجبل فقال (عليه السلام): الجبل بمعنى الخلق. ثم رجع الراوي إلى كلامه السابق وأتمه بالاستثناء، وعلى هذا فقول الشارح: ويجعل مبتدء وما بعده خبره أيضا غير صحيح بل هو أفحش (ش).
2- (2) قوله «فأطيب بها طيبا» قال صاحب الوافي (رحمه الله) ونقله المجلسي في المرآة أيضا: كأنه شبه علم الأنبياء (عليهم السلام) بالنهر لمناسبة ما بينهما في كون أحدهما مادة حياة الروح والآخر مادة حياة الجسم وعبر عنه بالنور لإضاءته وعبر عن علم من دونهم من العلماء بنور النور لأنه من شعاع ذلك النور، وكما أن حافتي النهر يحفظان الماء في النهر ويحيطان به فيجري إلى مستقره كذلك الروحان يحفظان العلم ويحيطان به ليجري إلى مستقره وهو قلب النبي (صلى الله عليه وآله) أو الوصي والطينات الجنانية كأنها من الملكوت والأرضية من الملك فإن من مزجهما خلق أبدان نبينا والأوصياء (عليهم السلام) من أهل البيت بخلاف سائر الأنبياء والملائكة فإنهم خلقوا من إحدى الطينتين كما أن لهم أحد الروحين خاصة من بعد جبله خلقه دون مرتبته. انتهى. وانما عبر بكأن الدال على ترديده لعدم حكمه بأن مراد الإمام (عليه السلام) ما ذكره ولا بأس به لأن الحديث غير نقي الإسناد وليس معناه من واجبات الاعتقاد والغرض التبرع بالشرح إن فرض صدوره من الإمام (عليه السلام) وهذا الحديث على فرض صحته مصداق ما ورد: «إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان» وفيه رد على من زعم أن ما لا يفهمه العقول السذج فهو باطل وأن كل ما ورد في الأحاديث يجب أن يعرفه جميع الناس وإلا فهو زخرف ونحن نرى في الأحاديث أمورا يختص بفهمه الحكماء الإلهيون الماهرون في العقليات ولا يعرف الناقلون شيئا من معناه أصلا وقد يدق عن فهم الحكماء أيضا وما ذكره صاحب الوافي (رحمه الله) لا يخلو عن تكلف خصوصا حمله الروحين على قلب النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي (عليه السلام) لأن الظاهر أن الروحين مع جميع الأئمة (عليهم السلام) فهما قوتان من قوى النفوس القدسية لقوله «وأما الأرواح فمن فوق ذلك» وجميع هذه الروايات تدل على استقلال الروح عن الجسد وعدم كونها عرضا من أعراض المادة وإلا لكان متأخرا مترتبا على خلق الأجسام خلافا للملاحدة والماديين عليهم لعائن الله فإن الموجود عندهم منحصر في الجسم المادي وكل شيء غيره عرض أو مظهر وحركة لها، قالوا: إن الروح الإنساني واقع في عمق عميق من مراحل المادة كالنور والحرارة وسائر مظاهر التموجات والتشعشعات إلا أن الصنعة وآلاتها إلى الآن لم تعثر على مرحلة الروح كما عثرت على هذه التموجات والحق أن الروح من أمر الله جاء من أعلى درجات العليين فوق المادة تحت عرش الرحمن وليس واقعا في العمق ولا في المادة. (ش)

صيغة المتكلم من الإطابة أو التطيب، يقال أطابه وطيبه أي وجده طيبا، ووصفه بالطيب أي أجد بهذه الطينات والروحين طيبا طاهرا من الأعمال الخسيسة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة والحاصل أني أصف الطيب الطاهر مما ذكر بالطهارة الذاتية والنزاهة الأصلية، ويحتمل أن يكون أطيب على صيغة المتكلم من طاب وطيبا منصوبا على التميز أو على المصدر لو ثبت مجيئه له، هذا وقال الفاضل الأسترآبادي: أن أطيب صيغة التعجب وفيه أنه لا يظهر حينئذ لقوله طيبا محل من الإعراب فليتأمل.

قوله (جنة عدن) أي جنة إقامة من عدن بالمكان إذا أقام سميت بها لأنها دار إقامة، ووجه التسمية لا يجب اطراده، قال في النهاية: الجنة من الاجتنان وهو الستر لتكاثف أشجارها وتظليلها بالتفاف أغصانها وسميت بالجنة من مصدر جنه جنا إذا ستره فكأنها سترة واحدة لشدة التفافها وإظلالها.

قوله (وجنة المأوى) سميت بها لرجوع الخواص إليها ونزولهم فيها.

قوله (النعيم) عطف على المأوى أو هو بانفراده اسم سميت بذلك لاشتمالها على النعمة الدأئمة الغير المتناهية.

قوله (والفردوس) اسم للبستان الذي فيه الكرم والأشجار، وفي الصحاح: الفردوس حديقة في الجنة.

قوله (والخلد) الخلد دوام البقاء وهو اسم لموضع من الجنة وقد يطلق هذه الأسماء على الجنة كلها اما استقلالا وحقيقة أو تسمية للكل باسم الجزء.

قوله (وبيت المقدس) التقديس التطهير. وبيت المقدس بفتح الميم وسكون القاف وكسر

ص:399

الدال. وبضم الميم وتشديد الدال وفتحها وبيت القدس بضم الدال وسكونها: موضع في الشام سمي به لأنه الموضع الذي يتقدس فيه من الذنوب. قوله (والحير) الحير بفتح الحاء وسكون الياء مصدر حار يحار حيرة وحيرا أي تحير، والمراد به حائر الحسين (عليه السلام) سمي به مجازا لوقوعه فيه، وفي بعض النسخ «والحائر» قال في الصحاح: الحائر مجتمع الماء.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن أبي نهشل قال: حدثني محمد بن إسماعيل، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا وخلق أبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إلينا، لأنها خلقت مما خلقنا [منه]، ثم تلا هذه الآية: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون) وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوي إليهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم).

* الشرح:

قوله (خلقنا من أعلى عليين) أي خلق الأجساد وأما الأرواح فمن فوق ذلك كما مر.

قوله (ثم تلا هذه الآية إن كتاب الأبرار لفي عليين) لعل المراد أن كتابة أعمالهم أو ما يكتب من أعمالهم لفي عليين أي في دفتر أعمالهم وصحائفها، أو المراد أن دفتر أعمالهم وصحائفها لفي عليين أي في مكان شريف من الجنة، فعلى الأول قوله (وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم) أي مسطور أو مختوم (يشهده المقربون) أي يحضرونه ويحفظونه أو يشهدون لهم على ما فيه يوم القيامة، محمول على ظاهره. وعلى الأخير فيه حذف مضاف أي: وما أدراك ما كتاب عليين، وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين، والثاني أنسب بالمقام، ولعل تلاوة الآية للإشارة بتعظيم كتابهم إلى تعظيمهم أو للإشعار بأن بدءهم من مكان شريف وعودهم إليه كما أن كتابهم فيه.

قوله (وخلق عدونا من سجيل) سجيل كسكين حجارة كالمدر معرب: سنك گل، أو كانت طبخت بنار جهنم وكتب فيها أسماء أهلها، من سجل أي كتب أنهم يعذبون بها، أو هو بمعنى سجين كما قيل، ويؤيده أن في بعض النسخ «من سجين» قال الجوهري: سجين موضع فيه كتاب الفجار، قال ابن عباس: ودواوينهم. وفي النهاية: هو علم للنار، فعيل من السجين وهو الحبس، وقيل: هو اسم واد في جهنم أو حجر في الأرض السابعة، وقيل: هو دفتر أعمال الفجار وصحائفها.

قوله (إن كتاب الفجار لفي سجين) يعلم ذلك بالقياس إلى ضده المذكور فليتأمل.

ص:400

باب التسليم وفضل المسلمين

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن سدير، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني تركت مواليك مختلفين، يتبرأ بعضهم من بعض؟ قال:

فقال: وما أنت وذاك؟ إنما كلف الناس ثلاثة: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد عليهم، والرد إليهم فيما اختلفوا فيه.

* الشرح:

قوله (قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إني تركت مواليك) هذا الكلام يحتمل أمرين: أحدهما إني تركت مواليك مختلفين في الأحكام الشرعية والفروع الدينية والمسائل الكلامية حتى يبرأ بعضهم من بعض لسوء عقائده وقبح فوائده، فأجاب (عليه السلام) بقوله: وما أنت وذاك؟ يعني لا يجوز لك ولهم ذلك الاختلاف والقول بالرأي والاعتماد على العقول الناقصة وإنما يجب عليكم الرجوع إلى الأئمة والأخذ منهم حتى تسلموا من الاختلاف والبراءة، وثانيهما: إني تركت مواليك مختلفين في التودد والتحبب والتألف للتحاسد والتباغض والتشاجر حتى يبرأ بعضهم من بعض لفوات روابط الالفة بينهم فأجاب (عليه السلام) بقوله: «وما أنت وذاك» أي لا ينبغي لك لومهم بذلك لأن الناس إنما كلفوا بأمور ثلاثة مذكورة وموالينا قد تمسكوا بها فلا لوم عليهم بعد ذلك، والحصر إضافي أو حقيقي ادعائي باعتبار أن بواقي التكليف أمر هين بالنسبة إلى المذكور.

قوله (معرفة الإمام) (1) المراد بها هو الإذعان بأنه إمام والإيقان بأنه واجب الإطاعة من قبله تعالى وليس المراد بها معرفة شخصه وعينه.

قوله (والتسليم) وهو فوق الرضا لأن الراضي يرى لنفسه وجودا وإرادة إلا أنه يرضى بما صدر منهم (عليهم السلام) وإن خالف طبعه والمسلم بري من جميع ذلك، وإنما نظره إليهم.

إذا عرفت فنقول: من أصول الشريعة التسليم لهم (عليهم السلام) بكل ما جاء منهم وصدر عنهم وإن كان لا يظهر وجه حكمته للناس ولا يفهمونه فإن لله تعالى أسرارا ومصالح (2) يخفى بعضها ولا يعلمه

ص:401


1- (1) كذا في ما عندنا من النسخ.
2- (2) قوله «فإن لله تعالى أسرارا ومصالح» قد يقتضي المصلحة إخفاء بعض الامور أو التعبير عنه بعبارة دون أخرى أو العدول من الحقيقة إلى المجاز وأمثال ذلك وهذا واضح يعرف كل أحد في أمور نفسه وأوامره بالنسبة إلى خدمه وعبيده وأولاده، ويجب التسليم لجميع ما ورد منهم (عليهم السلام) ورد علمه إليهم سواء عرفنا حقيقته أم لا وإن كان فيما ورد عنهم ما نعلم قطعا عدم صحته كتجويز الطلاق ثلاثا من غير رجعة أو المسح على الخفين أو بماء جديد فلا نرفع اليد عن المسلمات والضروريات، ومع ذلك نرد علم ما خالفه إليهم وما ورد في المبدء والمعاد والمعراج والنبوة وعذاب القبر وثوابه من الأمور التي لا نعرف حقيقتها خصوصا فيما يتعلق بتجسيم الله تعالى مما نعلم عدم إرادة الظاهر منها كذلك نسلمها من غير بحث ونرد علمه إليهم، مثلا كيف يعذب أحد في القبر ولا يراه أحد وكيف يكون القبر للصلحاء روضة من رياض الجنة وبجنب الصالح رجل شقي وقبره مملوء نارا ولا يستفيد هذا من روضة ذلك ولا يستضر ذلك من نار هذا، وما كان السماوات التي عبرها النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج وما نقله لنا مما رآه هناك من الملائكة والجنة والنار وتعذيب أهلها هل كان بحيث يراه كل أحد غيره إن صعد إلى السماء أو هي أمور ملكوتية تختص رؤيتها بالنبي (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك، ولو عمل الناس بهذه القاعدة أعني التوقف والتسليم لم يضلوا، ولكن أصر بعضهم على التمسك بالظاهر فوقعوا في التجسيم وأثبتوا له تعالى عينا ويدا ووجها ورأوا الخروج من ظاهر الألفاظ بدعة مضلة وبعضهم أصر على التأويل وكما أن التأويل مزلة كذلك الإصرار على الظاهر مزلة. ثم اعلم أن ما يتضمن هذه الروايات من الأصول الاعتقادية لا يجب أن يكون معلوما تفصيلا لجميع الناس بل يكفي فيه العلم الإجمالي والتصديق بالواقع وإن كان مجهولا لنا كيفية وتفصيلا، ونظيره تفاصيل الرجعة وما سبق من أعمال القائم (عليه السلام) ونوابه بل وتفصيل أحواله زمان الغيبة وغير ذلك إذ لا يتعلق بالعمل وما يتبادر إليه الذهن ليس بحجة كما كان يتبادر إلى ذهن كثير منهم إن الفرج قريب جدا وإنما التبادر حجة فيما يتعلق بالأعمال الفرعية التي لابد أن يعلم المكلف بها تفصيلا حتى يتمكن من العمل ويعذر إن أخطأ في فهم المراد وعمل على وجه لم يرده الشارع وقد تبين في الأصول أن تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز لا عن وقت العمل (ش).

إلا الله والراسخون في العلم، فينبغي أن لا يعترفوا ولا يردوا ما لم يعرفوا، كما يفعله المبتدعة بل يجب عليهم التسليم بما صح نقله عنهم (1).

قوله (والرد إليهم) فيما اختلفوا كما قال جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول) وإنما لم يذكر أولي الأمر في الحكم بالرد للتنبيه على أن الرد إليهم رد إلى الرسول لكمال الاتصال بينهم ولذلك ترك الفعل في الحكم بالإطاعة.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن

ص:402


1- (1) قوله «بما صح نقله عنهم» لعل المقصود ما يعلم صدوره عنهم يقينا لا الصحيح المصطلح عند الرواة أي الذي يكون رواته عدولا إماميين والحق أن التسليم لا يختص بالرواية الصحيحة بل كل ما يحتمل صدوره عنهم وإن روى بإسناد ضعيف وليس معنى التسليم الحكم بالوقوع قطعا كما سيأتي في الحديث السادس فيما بلغني عنهم وما لم يبلغني أما التسليم بمعنى الحكم بالوقوع فمختص بما روي متواترا نصا غير محتمل التأويل. (ش)

حماد بن عثمان عن عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم.

* الشرح:

قوله (لكانوا بذلك مشركين) دل على أن كل من خطر بباله أو جرى على لسانه ذلك فهو مشرك وإن أخذ وعمل به لفوات معنى الرضا والتسليم منه، فاحفظ نفسك فإن الطريق دقيق والشيطان رفيق.

قوله (فلا وربك) أقسم بذاته وأخص صفاته أنهم لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر وبك حتى يحكموك ويجعلوك حاكما فيما وقع بينهم من التشاجر والتنازع والتخاصم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا وضيقا أو شكا بما قضيت وحكمت به أو من حكمك ويسلموا وينقادوا لك تسليما وانقيادا بظاهرهم وباطنهم. قال المحقق الطوسي: قوله (ثم لا يجدوا) إشارة إلى مرتبة الرضا، وقوله (ويسلموا) إلى مرتبة التسليم وهي فوق الرضا.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عندنا رجلا يقال له:

كليب، فلا يجيء عنكم شيء إلا قال: أنا أسلم، فسميناه كليب تسليم، قال: فترحم عليه، ثم قال:

أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا، فقال: هو والله الإخبات، قول الله عزوجل: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم).

* الشرح:

قوله (فقال هو والله الإخبات) الإخبات الخشوع في الظاهر والباطن والتواضع بالقلب والجوارح والطاعة في السر والعلن وأصله من الخبت: المطمئن من الأرض.

قوله (وأخبتوا إلى ربهم) ذكر الإخبات بعد الإيمان والعمل لأنه الأشرف والأفضل وبه يتحقق كمالهما وقبولهما.

* الأصل:

ص:403

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) قال: الاقتراف التسليم لنا والصدق علينا وألا يكذب علينا.

* الشرح:

قوله (الاقتراف التسليم) لعل المراد أن التسليم مندرج في الاقتراف ومن أفضل أفراده لأنه هو هو وحده وإن أمكن حمله عليه على سبيل المبالغة.

* الأصل:

5 - علي بن محمد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن عبد الحميد، عن منصور بن يونس، عن بشير الدهان، عن كامل التمار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):

(قد أفلح المؤمنون) أتدري من هم؟ قلت: أنت أعلم، قال: قد أفلح المؤمنون المسلمون، إن المسلمين هم النجباء، فالمؤمن غريب فطوبى للغرباء.

* الشرح:

قوله (قد أفلح المؤمنون المسلمون) قد عرفت أن الإيمان بدون التسليم غير معتبر بل ليس بإيمان فعلى هذا المؤمنون المحكوم عليهم بالفلاح هم الذين سلموا لله ولرسوله وللأئمة (عليهم السلام) في الظاهر والباطن.

قوله (إن المسلمين هم النجباء) النجيب الفاضل من كل شيء والنفيس في نوعه، ومن البين أن كمال الإنسان وفضله بالإيمان والعمل وكمالهما بالرضا والتسليم، وإذا كان له هذه الخصال كان في الدنيا غريبا مستوحشا وكان أنسه بالله وبأوليائه وكانت داره التي تسكن إليها نفسه دار الآخرة.

قوله (فطوبى للغرباء) قيل: طوبى من الطيب قلبت فيه الياء واوا لانضمام ما قبلها فالمعنى للغرباء طيب العيش، وقيل: المعنى لهم الجنة لأنها تستلزم طيبه، وللمفسرين فيها أقوال غير هذا.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن الخشاب، عن العباس بن عامر، عن ربيع المسلي، عن يحيى بن زكريا الأنصاري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من سره أن يستكمل الإيمان كله فليقل: القول مني في جميع الأشياء قول آل محمد، فيما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني.

* الشرح:

قوله (من سره أن يستكمل الإيمان كله) توجيهه - إن رجع الضمير في (كله) إلى

ص:404

الإيمان - أن الإيمان كما يطلق على الاعتقاد بالله والرسول والأئمة واليوم الآخر كذلك يطلق على الاعتقاد بكل واحد واحد إلا أن كل واحد من تلك الاعتقادات شرط لاعتبار البواقي، ثم القبول من الإمام (عليه السلام) وهو عبارة عن التسليم إما جزء من الإيمان به أو شرط لأصله أو لكماله، وعلى التقادير إذ انتفى القبول لحقه النقص وإذا لحقه النقص لحق النقص بجميع أفراد الإيمان، والنقص في الجزء والشرط نقص في الكل والمشروط، فقد ظهر أن من أراد أن يستكمل جميع أفراد الإيمان وجب عليه القبول منه، ويحتمل أن يكون الكل باعتبار المراتب كما أنه بذلك الاعتبار إن رجع الضمير إلى الاستكمال.

قوله (قول آل محمد) بدل عن المذكور وهذا في الحقيقة مشتمل على التعليل للقبول ولذلك يحتمل الاستئناف أيضا.

قوله (فيما أسروا وما أعلنوا) لعل المراد بالأول ما يتعلق بعالم التجرد من المعارف الإلهية والرموز الملكوتية أو ما لم يظهر وجه حكمته أو وجه صحته أو ما وجب إخفاؤه عن غير أهله وبالثاني مقابله بهذه المعاني.

قوله (فيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني) ضمير عنهم راجع إلى آل محمد وفيه إشارة إلى أنه وجب قبول قوله سواء نقله عن آبائه الطاهرين أم لا.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة أو بريد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال، قال: لقد خاطب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه، قال: قلت: في أي موضع؟ قال:

في قوله: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم (فيما تعاقدوا عليه لئن أمات الله محمدا ألا يردوا هذا الأمر في بني هاشم) ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت (عليهم من القتل أو العفو) ويسلموا تسليما).

* الشرح:

قوله (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله) «جاؤوك» خبر «أن» و «إذ» متعلق به أو بقوله «فاستغفروا الله» والخطاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) يعني أنهم إذ ظلموا أنفسهم بالنفاق ورد الأمر عنك جاؤوك نادمين فاستغفروا الله بالتوبة والندامة عنه واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله وعلموه توابا رحيما أي قابلا لتوبتهم ومتفضلا عليهم بالرحمة، والذي يدل على أن الضمير له (عليه السلام)

ص:405

لا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله تعالى: (واستغفر لهم الرسول) إذ لو كان الضمير للرسول لكان المناسب واستغفرت لهم بالخطاب والقول بأن فيه التفاتا من الخطاب إلى الغيبة لقصد تعظيم شأن الرسول وتفخيمه بعيد جدا.

* الأصل:

8 - أحمد بن مهران - رحمه الله - عن عبد العظيم الحسني، عن علي بن أسباط، عن علي ابن عقبة، عن الحكم بن أيمن، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) إلى آخر الآية قال: هم المسلمون لآل محمد، الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه، جاؤوا به كما سمعوه.

* الشرح:

قوله (الذين إذا سمعوا الحديث) وصف للمسلمين وكاشف عن حقيقتهم والأظهر أنه إشارة إلى بعض أوصافهم بدليل أن مفهوم التسليم ليس عدم الزيادة والنقصان.

ص:406

باب أن الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام فيسألونه معالم دينهم ويعلمونهم ولايتهم ومودتهم له

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية! إنما امروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم).

* الشرح:

قوله (فقال هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية) التشبيه إما باعتبار وقوع الخلل في طوافهم أو لعدم رجوعهم إلى إمام مفترض الطاعة.

قوله (إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا) يعني امروا بالطواف والنفر كليهما، فالنفر واجب مثل الطواف بل أولى لأنه الغرض منه.

قوله (واجعل أفئدة من الناس) هكذا بالواو في جميع النسخ وفي القرآن «فاجعل» بالفاء وضمير إليهم راجع إلى ذرية إبراهيم (عليه السلام) وأفضلهم النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، والأفئدة جمع الفؤاد وهو القلب «ومن» للابتداء والمعنى اجعل أفئدة الناس تهوي وتسرع إليهم شوقا للقائهم وقصدا لزيارتهم وإظهارا لمودتهم، وقد أجاب الله تعالى دعاء إبراهيم (عليه السلام) وأوجب النفر إلى مكة للطواف وقصد زيارة أفاضل أولاده الطاهرين فمن طاف ولم يزرهم فقد خان الله تعالى وخالف أمره.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن داود بن النعمان، عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) - ورأى الناس بمكة وما يعملون - قال: فقال: فعال كفعال الجاهلية، أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم.

* الشرح:

ص:407

قوله (قال فقال فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا) إن كان التشبيه باعتبار اشتمال أفعالهم على النقص والخلل كان قوله «ما امروا بهذا» محمولا على ظاهره وإن كان باعتبار عدم رجوعهم إلى إمام مفترض الطاعة كان المراد من هذا القول ما أمروا بهذا وحده بل أمروا بالرجوع إلينا أيضا، وما أمروا بهذا قصدا وبالذات إنما أمروا به للرجوع إلينا.

قوله (وما امروا إلا أن يقضوا تفثهم) أي إلا أن يزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال، قال صاحب النهاية: التفث هو ما يفعله المحرم بالحج إذا حل كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقا.

روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله جل شأنه (ثم ليقضوا تفثهم) قال: هو ما يكون من الرجل من إحرامه فإذا دخل مكة فتكلم بكلام طيب كان ذلك كفارة لذلك الذي كان منه.

وروى عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعلمه قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عزوجل (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) قال (ليقضوا تفثهم) لقاء الإمام (وليوفوا نذورهم) تلك المناسك، قال عبد الله بن سنان: فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك قول الله عزوجل (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك فإن ذريح المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: ليقضوا تفثهم، لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك! فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهرا وباطنا ومن يحتمل ما يحتمل ذريح.

قوله (وليوفوا نذورهم) قيل: هي مناسك الحج من الواجب والمندوب وقد عرفت ما يدل عليه وقيل: هي ما نذروا من البر في حجهم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير. ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال جميعا، عن أبي جميلة، عن خالد بن عمار، عن سدير قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) وهو داخل وأنا خارج وأخذ بيدي، ثم استقبل البيت فقال: يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا وهو قول الله: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) ثم أومأ بيده إلى صدره: إلى ولايتنا، ثم قال:

يا سدير فأريك الصادين عن دين الله، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد، فقال: هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن

ص:408

هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (صلى الله عليه وآله) حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (واني لغفار لمن تاب) لعل المراد إني لغفار لمن تاب عن الذنوب وآمن بما يجب الإيمان به وعمل صالحا يقتضيه ذلك الإيمان ثم استقام على ما يهتدي به، وقد أشار (عليه السلام) بأن ذلك ولاية أهل البيت (عليهم السلام).

قوله (ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري) أبو حنيفة الكوفي نعمان بن ثابت قد كان يتردد إلى أهل العصمة (عليهم السلام) ويسمع منهم وقد خالفهم حبا للرياسة، فعظموه (كذا) الخلفاء ورفعوه على رقاب الناس حتى جعلوه إماما لهم. وسفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وكان من المتصوفة المعترضين على أهل البيت (عليهم السلام) وكان له أيضا منزلة عظيمة عند الخلفاء وأهل الجور وكانا مرجعي الطواغيت، وبحكم «الناس على دين ملوكهم» مرجعين للخلائق.

قوله (وهم حلق) في النهاية: الحلق بكسر الحاء وفتح اللام جمع الحلقة مثل قصعة وقصع وهي الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيرها، والتحلق تفعل منها وهو أن يتعمدوا ذلك، وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق بفتح الحاء على غير قياس، وحكى عن أبي عمرو: أن الواحد حلقة بالتحريك، والجمع حلق بالفتح، وقال ثعلب:: كلهم يجيزه على ضعفه، وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا جمع حالق.

قوله (بلا هدى من الله ولا كتاب مبين) هذا من باب التأكيد لما ذكر لظهور أن الصد عن دين الله بلا هدى من الله ومن رسوله ولا كتاب منزل ظاهر الدلالة على جوازه بل بمجرد التقليد واتباع الأهواء والآراء والقياسات الباطلة أو بمجرد العناد والحسد.

ص:409

باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن مسمع كردين البصري قال:

كنت لا أزيد على أكلة بالليل والنهار، فربما استأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأجد المائدة قد رفعت، لعلي لا أراها بين يديه. فإذا دخلت دعا بها فأصيب معه من الطعام ولا أتأذى بذلك وإذا عقبت بالطعام عند غيره لم أقدر على أن أقر ولم أنم من النفخة، فشكوت ذلك إليه وأخبرته بأني إذا أكلت عنده لم أتأذ به، فقال: يا أبا سيار! إنك تأكل طعام قوم صالحين تصافحهم الملائكة على فرشهم قال: قلت: ويظهرون لكم؟ قال: فمسح يده على بعض صبيانه، فقال: هم ألطف بصبياننا منا بهم.

* الشرح:

قوله (وأجد المائدة) الواو للعطف أو الحال ولعل الأخير أنسب وأظهر لما فيه من الإشارة إلى أنه كان يترقب رفعها لئلا يلجأ إلى الأكل.

قوله (قال فمسح يده) أشار إلى أن الملائكة يظهرون لهم على أبلغ وجه والمراد بالظهور هو الظهور عيانا وبالصورة الأصلية وغيرها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن القاسم، عن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: يا حسين - وضرب بيده إلى مساور في البيت - مساور طالما اتكت عليها الملائكة وربما التقطنا من زغبها.

* الشرح:

قوله (وضرب بيده إلى مساور في البيت) المساور جمع المسور بكسر الميم وهو متكأ من أدم ونحوه.

قوله (مساور طال -، زغبها) أي هذه مساور. والزغب بتحريك المعجمتين الشعيرات الصفر على ريش الفراخ وصغار الشعر والريش، ولينه أول ما يبدو منها وفيه دلالة على ما ذهب إليه بعض

ص:410

المحققين (1) من أن الملائكة أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة.

* الأصل:

3 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم قال: حدثني مالك بن عطية الأحمسي، عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على علي بن الحسين (عليهما السلام) فاحتبست في الدار ساعة، ثم دخلت البيت وهو يلتقط شيئا وأدخل يده من وراء الستر فناوله من كان في البيت.

فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقط أي شيء هو؟ فقال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا، نجعله سيحا لأولادنا.

فقلت: جعلت فداك وإنهم ليأتونكم؟ فقال: يا أبا حمزة إنهم ليزاحمونا على تكأتنا.

ص:411


1- (1) قوله «على ما ذهب إليه بعض المحققين» كلام الشارح يدل على وجود قائل بغير هذا القول أعني كون الملائكة أجساما لطيفة يتشكل بأشكال مختلفة. وهذا يشتمل على ثلاثة قيود والمخالف لابد أن ينكر أحدها بأن ينفي كونها أجساما أو يلتزم بأنها أجسام غير لطيفة أو لا يتشكل بأشكال مختلفة، وإني لا أعرف قائلا بذلك، والشارح أعلم بما قال والحكماء القائلون بالعقول المجردة لا يخالفون في تمثلهم بصورة جسمانية كما أن علماء الشريعة لا يلتزمون بأن الملائكة أجسام غير مدركة للكليات، واعلم أن الملائكة من موجودات عالم الغيب لا من عالم الشهادة ولذلك لا يراهم الناس مطلقا إلا الأنبياء والأولياء، وقد وقع الاصطلاح على أن يسمى ما يختص برؤيته بعض الناس جسما مثاليا وما يتشارك في رؤيته الجميع جسما ماديا وهذه قاعدة كلية في تميز الجسم المثالي عن المادي وكذلك ما يراه الرجل في وقت دون الآخر، والملائكة والجن والأجسام التي تتعلق بها النفوس وعالم البرزخ من القسم الأول وكذلك الروضة من رياض الجنة في قبر المؤمن والحفرة من حفر النيران في قبر الكافر وغير ذلك، ومما ينبغي أن ينبه عليه الفرق بين الجسم المثالي المحقق في الخارج وبين ما يتراءى للممرورين والمبرسمين من الخيالات التي لا تحقق لها إلا في ذهن الرائي والعلامة الفارقة بينهما أن كل ما يراه الرجل ولا يراه غيره إن كان مقرونا بأخبار وإعلام يعلم الرائي قصور مقدرته عن إدراكها فهو جسم مثالي حقيقي له مبدء خارج عن قوى الرائي ووهمه وخياله، مثلا إذا رأى صورة متمثلة أخبرته بأن حادثا سيقع في المستقبل مثل أن زيدا يجيء غدا وعمرا يموت بعد غد ووقع ما أخبر كما أخبر فهذه علامة أنه لم يكن من خيالاته وأوهامه لأنه لا يقدر على أن يستنبط بنفسه ما يقع بعد ذلك إذ هو من علم الغيب فلابد أن يكون مبدؤه خارجا عن ذهن الرائي، ومثله إذا ألقى عليه مسألة علمية يعلم قصور فكره عن فهمها بنفسه كعامي لا يعرف شبهة ابن كمونة إذا ألقى عليه دفع هذه الشبهة، ثم الفرق بين الجن والملك والعلامة المايزة بينهما أن الملك يلقي على النفس الفضائل والعلوم الحقيقية الكلية والخير والمستحسنات، والجن الأمور الجزئية والحيل الدنيوية والتدابير الجسمية والشعر والغزل وأمثال ذلك، ولا يشتبه الأمر قط إذ يلهم المكاشف الحقيقي ويعلم علما ضروريا لا يختلج بباله غيره أنه ملك، فإن بقي الشك له فالشك دليل عدم كونه ملكا لأن الشك من الشيطان لا محالة. (ش)

* الشرح:

قوله (نجعله سيحا لأولادنا) (1) السيح ضرب من البرود والعباء، وبرد مسيح أي فيه خطوط مختلفة.

قوله (على تكأتنا) التكأة كهمزة ما يتكأ عليه.

4 - محمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن أسلم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من ملك يهبطه الله في أمر ما يهبطه إلا بدأ بالإمام، فعرض ذلك عليه وإن مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى صاحب هذا الأمر.

ص:412


1- (1) «نجعله سيحا لأولادنا» قيل: سبحا بالباء الموحدة لا بالياء المثناة والمراد القلادة من زغب الملائكة تجعل في سلك ويعلق على أعناق الأطفال، ويؤيد ذلك برواية رواها في البصائر أن مفضل بن عمر رأى القلادة من الريش على بعض أولاد الأئمة (عليهم السلام) فسأل عنها فقال الإمام: إنها من ريش الملائكة فإن قيل: قد تواتر أن الناس لم يكونوا يرون الملائكة في عهد الرسول والأئمة (عليهم السلام) كما لا نراهم الآن إلا نادرا لبعض الأولياء وكان من شبهات الكفار على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قولهم «لولا أنزل عليه ملك» ولم تكن خديجة ترى جبرئيل حين نزل عليه أول البعثة وهذا ظاهر للمتتبع في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) فكيف رأى المفضل أو أبو حمزة الثمالي ريش الملائكة وليس الريش إلا بعض جسم الملك فكما لا يرى جسمه لا يرى ريشه؟ قلنا: أما أبو حمزة فلا يدل هذا الحديث على أنه رأى زغب الملائكة بل يدل على أن علي بن الحسين (عليهما السلام) كان يلتقط كأنه يأخذ شيئا من غير أن يرى أبو حمزة الشيء الملتقط فسأله (عليه السلام) عن التقاطه مع أنه لا يرى شيئا. وأما رواية المفضل فضعيفة جدا وأيضا فإنها لا تدل على أن غير المفضل لو كان حاضرا كان يرى الريش والقلادة إذ لا يمتنع اختصاص رؤية الملائكة ببعض الناس في بعض الأوقات وكذا ريشهم (ش).

باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم

* الأصل:

1 - بعض أصحابنا، عن محمد بن علي، عن يحيى بن مساور، عن سعد الإسكاف قال: أتيت أبا جعفر (عليه السلام) في بعض ما أتيته فجعل يقول: لا تعجل، حتى حميت الشمس علي وجعلت أتتبع الأفياء، فما لبث أن خرج علي قوم كأنهم الجراد الصفر، عليهم البتوت، قد انتهكتهم العبادة، قال:

فوالله لأنساني ما كنت فيه من حسن هيئة القوم، فلما دخلت عليه قال لي: أراني قد شققت عليك، قلت: أجل والله لقد أنساني ما كنت فيه قوم مروا بي لم أر قوما أحسن هيئة منهم في زي رجل واحد، كأن ألوانهم الجراد الصفر، قد انتهكتهم العبادة، فقال: يا سعد رأيتهم؟ قلت: نعم، قال:

أولئك إخوانك من الجن، قال: فقلت: يأتونك؟ قال: نعم يأتونا [ننا - ظ] يسألونا عن معالم دينهم وحلالهم وحرامهم.

* الشرح:

قوله (كأنهم الجراد الصفر) التركيب من قبيل الدينار الصفر وإنما شبههم بها لصفرتهم لكثرة العبادة والرياضة.

قوله (عليهم البتوت) البتوت جمع البت وهو الطيلسان من خز ونحوه، والبتي الذي يعمله أو يبيعه، والبتات مثله.

قوله (قد انتهكتهم العبادة) أي جهدتهم وهزلتهم ونقصت لحومهم من كثرة المشقة.

قوله (فوالله لأنساني ما كنت فيه من حسن هيئة القوم) لعل فاعل أنساني هو الله تعالى أو رؤية القوم بقرينة المقام و «ما» مفعوله والمراد به المشقة الشديدة و «من» تعليل لنسبة الإنساء إلى فاعله، فليتأمل.

قوله (قد شققت عليك) أي أوقعتك في المشقة.

قوله (أولئك إخوانك من الجن) الجن خلاف الإنس والواحد جني سميت بذلك لأنها تستر ولا ترى، وهذا التركيب يدل على الخفاء والاستتار ومنه الجنة بحركات الجيم، والجنين، وأمثال

ص:413

ذلك والجن لا ترى إذا بقيت على الصورة الأصلية (1) وأما إذا تشكلت بصورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالإنسان والحية والثعبان فإنها ترى، والأحاديث الدالة على إمكان رؤيتها بالصورة المبدلة كثيرة من طرق العامة والخاصة، ومن أنكر رؤيتها، فإن أنكرها بالصورة الأصلية فله صورة وإن أنكرها رأسا فهو معارض بالنصوص; والنص أولى بالاتباع.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن ابن جبل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنا ببابه فخرج علينا قوم أشباه الزط عليهم أزر وأكسية، فسألنا أبا عبد الله (عليه السلام) عنهم، فقال: هؤلاء إخوانكم من الجن.

* الشرح:

قوله (أشباه الزط عليهم أزر وأكسية) الزط بالضم جيل من السودان والهنود، والازر بالضم جمع الإزار وهو المئزر وقد يفسر بالملحفة، والأكسية جمع الكساء وهو معروف.

* الأصل:

3 - أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي الكوفي، عن ابن فضال، عن بعض أصحابنا، عن سعد الإسكاف قال: أتيت أبا جعفر (عليه السلام) أريد الإذن عليه، فإذا رحال إبل على الباب مصفوفة، وإذا الأصوات قد ارتفعت، ثم خرج قوم معتمين بالعمائم يشبهون الزط، قال:

فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك أبطأ إذنك علي اليوم ورأيت قوما خرجوا علي معتمين بالعمائم فأنكرتهم؟ فقال: أوتدري من أولئك يا سعد؟ قال: قلت: لا، قال: فقال: أولئك إخوانكم من الجن يأتونا فيسألونا [ننا - ظ] عن حلالهم وحرامهم ومعالم دينهم.

ص:414


1- (1) قوله «والجن لا ترى إذا بقيت» ما ذكره الشارح واضح معلوم لمن تتبع السير والروايات، والقاعدة التي ذكرنا في الفرق بين الجسم المثالي والمادي جارية هنا، والجن بحسب الصورة الأصلية مما لا يرى فإن رآها أحد فهو مختص برؤيتها ولا يشترك في رؤيتها جميع الناس وقال الله تعالى: (انه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) وسميت الجن جنا لأنها لا ترى، فأجسامهم بحسب الاصطلاح من الأجسام المثالية. واعلم أن الدليل على وجود الجن هو النقل، وأما الحكماء المسلمون فمتعبدون بقبول خبر الأنبياء والأئمة، معترفون بوجودها اعتمادا على خبرهم وعدم الدليل على امتناعها فهم وسائر الناس سواء في الاعتقاد بوجود الجن من هذه الجهة، وكل ما ذكره صدر المتألهين والداماد والفيض وأمثالهم من الحكماء الإلهيين فهو مأخوذ من الروايات والآيات ومستفاد منها، ولم يؤثر من اليونانيين شيء، وفي كتاب عين اليقين فصول مشبعة في ذلك لولا مخافة التطويل نقلناها هنا لكثرة فوائدها وإن كان فيه بعض التكلفات والله الموفق. (ش)

* الشرح:

قوله (فإذا رحال إبل على الباب مصفوفة) في بعض النسخ «رحايل إبل مصفوفة» صفة لإبل وهي مؤنثة والرحال جمع رحل ورحل البعير أصغر القتب، والرحائل جمع الرحالة وهي سرج من جلود ليس فيه خشب كانوا يتخذونه للركض الشديد.

قوله (معتمين بالعمائم) في بعض النسخ «متعممين بالعمائم» اعتم بالعمامة وتعمم بها بمعنى.

قوله (فقال أوتدري) السؤال بعد قول المخاطب «فأنكرتهم» أي لم أعرفهم إما لإمكان حصول معرفة بعده أو لتنشيطه بها وتشويقه إليها.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن سدير الصيرفي قال: أوصاني أبو جعفر (عليه السلام) بحوائج له بالمدينة فخرجت، فبينا أنا بين فج الروحاء على راحلتي إذا إنسان يلوي بثوبه، قال: فملت إليه وظننت أنه عطشان فناولته الأداوة فقال لي: لا حاجة لي بها، وناولني كتابا طينه رطب، قال: فلما نظرت إلى الخاتم إذا خاتم أبي جعفر (عليه السلام)، فقلت: متى عهدك بصاحب الكتاب؟ قال: الساعة وإذا في الكتاب أشياء يأمرني بها، ثم التفت فإذا ليس عندي أحد، قال: ثم قدم أبو جعفر (عليه السلام) فلقيته، فقلت: جعلت فداك رجل أتاني بكتابك وطينه رطب، فقال: يا سدير! إن لنا خدما من الجن فإذا أردنا السرعة بعثناهم.

وفي رواية أخرى قال: إن لنا أتباعا من الجن، كما أن لنا أتباعا من الإنس، فإذا أردنا أمرا بعثناهم.

* الشرح:

قوله (بالمدينة) متعلق بأوصاني والباء بمعنى في.

قوله (فبينا أنا بين فج الروحاء) الفج: الطريق الواسع والطريق بين الجبلين والجمع فجاج، والروحاء موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين ميلا من المدينة.

قوله (إذا إنسان يلوي بثوبه) لوى بثوبه وألوى به إذا لمع وحركه وأشار به (1)

ص:415


1- (1) قوله «وحركه وأشار به» أورد الفيض (رحمه الله) هذا الحديث وما قبله وما بعده في كتاب عين اليقين في فصل أوله ومن الغرائب مصاحبتهم للجن ومجالستهم معهم ثم إن في الحديث مواضع يجب الالتفات إليها وإعمال النظر فيها منها قوله «كتابا طينه رطب» وطين الكتابة كان في ذلك العصر يلصق به الرسائل وكان من معدن خاص في نواحي الشام له تماسك ولزوجة كالغرى وكانوا يختمون عليه بعد إلصاقه. منها قوله «فإذا ليس عندي أحد» هذا يدل على أنه كان من الأجسام المثالية بناء على القاعدة التي ذكرناها أنه رآه الراوي في وقت وغاب عنه لمحة بعده مع أنه لو كان من الأجسام المادية لم يغب عنه في لمحة. وأما الكلام في الكتاب الذي حمله الجني وجاء به هل كان من الأجسام المثالية أو المادية فلم يعلم من الحديث وكلاهما ممكن فلو كان الراوي بعد المطالعة والاطلاع على مضمونه فقد الكتاب علم أنه من الأجسام المثالية وإلا فلا وعلى كل حال فقد علم الراوي أن الذي رآه كان موجودا حقيقيا أتى بكتاب حقيقة وليس من تجسم الخيال وتمثيل الأوهام المرتكزة في ذهنه لأنه كان متضمنا لما يريده الإمام منه وليس للذهن قوة على الاطلاع على منويات غيره حتى يتجسم في نظره فثبت أنه كان حقيقة متحققة خارجة عن ذهن الراوي. (ش)

* الأصل:

5 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عمن ذكره، عن محمد بن جحرش قال: حدثتني حكيمة بنت موسى (عليه السلام) قالت: رأيت الرضا (عليه السلام) واقفا على باب بيت الحطب وهو يناجي ولست أرى أحدا، فقلت: يا سيدي لمن تناجي؟ فقال: هذا عامر الزهرائي أتاني يسألني ويشكو إلي، فقلت: يا سيدي أحب أن أسمع كلامه، فقال لي: إنك إن سمعت به حممت سنة، فقلت: يا سيدي أحب أن أسمعه، فقال لي: اسمعي فاستمعت فسمعت شبه الصفير وركبتني الحمى فحممت سنة.

* الشرح:

قوله (عن محمد بن جحرش) (1) فرس جحرش كجعفر: غليظ مجتمع الخلق.

ص:416


1- (1) قوله «محمد بن جحرش» الحديث ضعيف من حيث الإسناد ولا ضعف فيه من جهة المعنى ويستحق لفت النظر إليه كسابقه قوله «ولست أرى أحدا» يدل على أن عامر الزهرائي كان من الأجسام المثالية بناء على القاعدة التي مر ذكرها والزهراء التي نسب إليها غير معلومة لنا أكان اسم بلد أو قبيلة وقد كان في الأندلس مدينة عظيمة موسومة بالزهراء ولكن يبعد نسبته إليه من جهة تأخر تاريخ بناء البلد وقوله «إن سمعت به حممت سنة» الصوت الذي سمعته من عالم المثال أيضا وأما الحمى العارضة فلعله للوحشة من إدراك أمر غير معتاد. واعلم أن إدراك الحواس الخمس ليس بتلك الأعضاء الظاهرة بل بقوة أخرى يسمى الحس المشترك ولذلك يرى القطر النازل خطأ والشعلة الجوالة حلقة من النار، فإن ارتسم الصورة في الحس المشترك من العين وسائر الأعضاء الظاهرة كان دليلا على وجود المحسوس في الخارج في طرف من أطراف عالم الشهادة حيث يمكن أن يؤثر في أعيننا وآذاننا وأنوفنا بإرسال شعاع وتموج. وإن ارتسم في الحس المشترك من موجود حقيقي خارجي لكن غير واقع في طرف من أطراف هذا العالم بل من عالم الغيب من المجردات المحضة والملائكة الروحانيين كالصور التي نراها في الرؤيا الصادقة كرؤية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) في المنام فإن ارتسام صورهم المتمثلة في الحس المشترك ليس بتأثير شيء في العضو الظاهر وباب أعضاء الحس مغلق على الدنيا في النوم بل هو تأثير في الحس المشترك من مبدء في عالم آخر وسماع حكيمة راوية الحديث كان من هذا القبيل ولما كان يقظة لا نوما وكان حالة خارجة عما اعتاده قوى البدن استوحشت وركبتها الحمى، وقد يتفق أن يرتسم في الحس المشترك صورة لا من الموجودات العنصرية في جهات الفضاء ولا من الموجودات المجردة الحقيقية بل بتأثير مرتكزات ذهنه وتجسم خيالات نفسه كما يراه المريض والمصروع والمغشي عليه وأضغاث الأحلام في النوم ويجب الفرق بينه وبين ما قبله بأن ما يقرن بعلم الغيب وأمثاله مما لا يمكن أن يكون من مرتكزات خاطرنا فهو من عالم حقيقي غيبي يعلم جميع ما يقع في العالم إلى آخر الدهر وليس وهما باطلا وخيالا مجسما، وبالجملة للجن والملك وأمثالهما وجود حقيقي خارجي ويمكن أن يؤثر وجودهم في حسنا المشترك بحيث يوجب الرؤية كما يؤثر وجود الأجسام المادية. (ش)

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن هاشم، عن عمرو بن عثمان، عن إبراهيم بن أيوب، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنبر إذ أقبل ثعبان من ناحية باب من أبواب المسجد، فهم الناس أن يقتلوه، فأرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) أن كفوا، فكفوا وأقبل الثعبان ينساب حتى انتهى إلى المنبر فتطاول فسلم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فأشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه أن يقف حتى يفرغ من خطبته، ولما فرغ من خطبته أقبل عليه فقال: من أنت؟ فقال: أنا عمرو بن عثمان خليفتك على الجن وإن أبي مات وأوصاني أن آتيك فأستطلع رأيك وقد أتيتك يا أمير المؤمنين، فما تأمرني به وما ترى؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله وأن تنصرف فتقوم مقام أبيك في الجن، فإنك خليفتي عليهم، قال: فودع عمرو أمير المؤمنين (عليه السلام) وانصرف، فهو خليفته على الجن، فقلت له: جعلت فداك فيأتيك عمرو، وذاك الواجب عليه؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (إذ أقبل ثعبان) ضرب من الحيات طوال.

قوله (ينساب) انسابت الحية مشت وجرت مسرعا.

قوله (أنا عمرو بن عثمان (1) خليفتك على الجن) خليفتك بالجر بدل عن عثمان.

ص:417


1- (1) قوله «أنا عمرو بن عثمان» مما يستبعد في هذا الحديث تسمية الجن بأسماء العرب ولا ضير فيه لأن في رواية أخرى لهذه القصة درجان بن مالك بدل عمرو بن عثمان وهذا يدل على عدم ضبط الرواة وليس في رواية الإرشاد اسم الثعبان أصلا، وأما ظهور ثعبان في المسجد وعلي (عليه السلام) يخطب على المنبر واضطراب الناس ونهيه (عليه السلام) إياهم عن قتله وتسميته جنا وانسياب الثعبان وخفاؤه دفعة فمروي بطرق عديدة وإن اختلفت في تفاصيل القصة وضعف الإسناد منجبر بكثرة الطرق وليس في المضمون المشترك بين الروايات أمر ممتنع عقلا خصوصا رواية المفيد في الإرشاد فإن بناءه على رواية ما أيد بالقرائن من المعجزات العجيبة الخارقة للعادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وتشكيك بعضهم في القصة لا يعتد به لأن الاعتماد على المضمون المشترك بين الطرق لا على آحاد ما روى بالإسناد الضعيف وتأويل بعضهم بأنه (عليه السلام) سمى الثعبان جنا لأنه شوش خواطر المستمعين بالخوف وصرفهم عن إصغاء كلامه (عليه السلام) لا أنه جن واقعا، فبعيد عن ظاهر الروايات ولا يحتاج إليه بعدما نعلم وجود الجن ومكالمتهم وتمثلهم على ما ورد في القرآن والسنة، وأما عدم التمسك بهذه المعجزة في الاحتجاج على المخالف لكونها غير متواترة فهي كسائر المعجزات يحتج بنوعها لا بأفرادها. (ش)

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن محمد بن اورمة، عن أحمد بن النضر، عن النعمان بن بشير، قال: كنت مزاملا لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنا بالمدينة دخل على أبي جعفر (عليه السلام) فودعه وخرج من عنده وهو مسرور حتى وردنا الأخيرجة أول منزل نعدل من فيد إلى المدينة يوم جمعة، فصلينا الزوال، فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب فناوله جابرا فتناوله فقبله ووضعه على عينيه وإذا هو: من محمد بن علي إلى جابر بن يزيد، وعليه طين أسود رطب، فقال له: متى عهدك بسيدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة: ففك الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكا ولا مسرورا حتى وافى الكوفة، فلما وافينا الكوفة ليلا بت ليلتي، فلما أصبحت أتيته إعظاما له فوجدته قد خرج علي وفي عنقه كعاب. قد علقها وقد ركب قصبة وهو يقول: «أجد منصور بن جمهور أميرا غير مأمور» وأبياتا من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئا ولم أقل له وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع علي وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون: جن جابر بن يزيد جن.

فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أن أنظر رجلا يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر ابن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلا له علم وفضل وحديث وحج فجن وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب، فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله، قال ولم تمض الأيام حتى دخل منصور بن جمهور الكوفة وصنع ما كان يقول جابر.

* الشرح:

قوله (أول منزل نعدل من فيد إلى المدينة) قيل: هي أول منزل للخارج من الكوفة معادلة لفيد أي البعد بينها وبين الكوفة مساو للبعد بين فيد وبين المدينة.

قوله (إذا أنا برجل طوال آدم) في الراموز: الطول كصرد الطويل فإذا أفرط في الطول فهو طوال والأدم من الناس الأسمر وهو في الأصل أفعل من الأدمة وهي السمرة.

ص:418

باب في الأئمة (عليهم السلام) انهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود و آل داوود ولا يسألون البينة، عليهم السلام والرحمة والرضوان

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور، عن فضل الأعور، عن أبي عبيدة الحذاء قال: كنا زمان أبي جعفر (عليه السلام) حين قبض نتردد كالغنم لا راعي لها، فلقينا سالم بن أبي حفصة، فقال لي: يا أبا عبيدة من إمامك؟ فقلت: أئمتي آل محمد، فقال: هلكت وأهلكت أما سمعت أنا وأنت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية؟ فقلت: بلى لعمري، ولقد كان قبل ذلك بثلاث أو نحوها دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فرزق الله المعرفة، فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن سالما قال لي كذا وكذا، قال: فقال: يا أبا عبيدة إنه لا يموت منا ميت حتى يخلف من بعده من يعمل بمثل عمله، ويسير بسيرته، ويدعو إلى ما دعا إليه، يا أبا عبيدة إنه لم يمنع ما أعطي داود أن أعطي سليمان. ثم قال: يا أبا عبيدة إذا قام قائم آل محمد (عليه السلام) حكم بحكم داود وسليمان [و] لا يسأل بينة.

* الشرح:

قوله (ولقد كان قبل ذلك بثلاث أو نحوها) أي وقد كان السماع قبل قبض أبي جعفر (عليه السلام) أو قبل لقاء سالم بثلاث سنين أو نحوها.

قوله (دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)) استئناف كأنه قيل: ما فعلت؟ فقال: دخلت.

قوله (حتى يخلف من بعده) خلفه تخليفا جعله خليفة كاستخلفه.

قوله (إنه لم يمنع ما أعطي داود) أن أعطي سليمان كما أن الله سبحانه أعطى داود حكما وأعطى سليمان حكما آخر كما حكما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ولم يمنعه إعطاء الأول من إعطاء الثاني مع أن دينهما واحد لوقوع كل على وفق مصلحة، كذلك أعطى الأئمة حكما وأعطى قائمهم حكما آخر وهو أنه يحكم بعلمه ولا يطلب بينة كما حكم به أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض القضايا وحكم به داود وسليمان (عليهما السلام) في بعض الأوقات: وقوله (إذا قام قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله)) يحتمل الكلية والجزئية (1) لأن إذا بحسب العرف يفيد الكلية وبحسب اللغة يفيد الجزئية والأخير

ص:419


1- (1) قوله «يحتمل الكلية والجزئية» وقد نقل المجلسي (رحمه الله) عن الطبرسي (قدس سره) الترديد في أصل الحكم بل ردها وتأويلها لأن الأئمة (عليهم السلام) لا يغيرون شريعة النبي (صلى الله عليه وآله) ولا ينسخونها فما ورد من أنه لا يقبل الجزية من أهل الكتاب ويقتل كل من بلغ عشرين سنة ولم يتفقه في الدين وأنه لا يقبل البينة ويحكم بحكم آل داود وأمثالها فإن جميع ذلك غير ثابتة ولا تعتمد على ما روي فيها، والحق أنه لا حاجة إلى تحقيق ذلك القدر الواجب إنا نعلم أن هذه الشريعة لا تنسخ إلى يوم القيامة وأما تأويل جميع ذلك بأن هذه ليست نسخا بل بيانا لكون مدة الحكم الأول محدودة بظهور القائم فلا يغني شيئا لأن هذا هو معنى النسخ بعينه ونحن لا نعتقد أن أحكام القرآن خاصة بزمان محدود. نعم يمكن أن تكون مشروطة بشرط يتحقق في زمان دون زمان وبلد دون بلد، مثلا: الجهاد واجب بأمر الإمام العادل، والحج واجب مع أمن الطريق، والتقية واجبة في بلاد الكفر وعدم تحقق الشرط غير النسخ. (ش)

أظهر لأن عرف الشرع فيه غير معروف فالأولى بقاؤه على عرف اللغة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود ولا يسأل بينة، يعطي كل نفس حقها.

3 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بما تحكمون إذا حكمتم؟ قال: بحكم الله وحكم داود فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا، تلقانا به روح القدس.

* الشرح:

قوله (فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا تلقانا به روح القدس) كما تلقى داود (عليه السلام) في رجل استعدى على رجل فقال: إن هذا أخذ مالي، فأوحى إليه أن هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل وأخذ ماله فدفعه إلى المستعدى عليه فعجب الناس. وكما تلقاه في شيخ تعلق بشاب معه عنقود من عنب فقال الشيخ: يا نبي الله إن هذا الشاب دخل بستاني وخربه وأكل منه بغير إذني، فقال داود للشاب: ما تقول؟ وأقر به، فأوحى إليه أن يا داود إن هذا الشيخ قد اقتحم على أبي هذا الغلام في بستانه فقتله وغصب بستانه وأخذ منه أربعين ألف درهم فدفنها في جانب بستانه فادفع إلى الشاب سيفا ومره أن يضرب عنق الشيخ وادفع إليه البستان ومره أن يحضر موضع كذا ويأخذ ماله. وكما تلقاه في بقرة اختصم رجلان فيها فجاء هذا ببينة وجاء هذا ببينة فأوحى إليه خذ البقرة ممن هي في يده فادفعها إلى الآخر واضرب عنقه لأن الذي كانت البقرة في يده قتل أبا هذا وأخذ البقرة منه، وأمثال ذلك كثيرة.

* الأصل:

4 - محمد بن أحمد، عن محمد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن

ص:420

حمران بن أعين، عن جعيد الهمداني، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، قال: سألته: بأي حكم تحكمون؟ قال: حكم آل داود، فإن أعيانا شيء تلقانا به روح القدس.

* الأصل:

5 - أحمد بن مهران (رحمه الله) عن محمد بن علي، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما منزلة الأئمة؟ قال: كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان، قال: فبما تحكمون؟ قال: بحكم الله وحكم آل داود وحكم محمد (صلى الله عليه وآله) ويتلقانا به روح القدس.

* الشرح:

قوله (قال كمنزلة ذي القرنين) وجه التشبيه إما الوصية أو العلم والقرب والرفعة وليس الغرض منه إلحاق الناقص بالكامل لأنهم (عليهم السلام) أعلم وأقرب وشأنهم أرفع وأجل بل الغرض منه هو الإلحاق بالمعروفين بالعلم والقرب والرفعة في الصدر الأول، وبالجملة لا يجب أن يكون الوجه في المشبه به أقوى لجواز أن يكون مشهورا مسلم الثبوت له عند المخاطب، وقد مر توضيح ذلك في باب أن الأئمة (عليهم السلام) بمن يشبهون ممن مضى.

قوله (بحكم الله وحكم آل داود وحكم محمد (صلى الله عليه وآله)) لعل المراد بحكم محمد (صلى الله عليه وآله) الحكم بظاهر الشريعة وبحكم الله أو حكم داود الحكم بباطنها وهو الحكم بالواقع وبما يلقي إليهم روح القدس وفيه دلالة على ما أشرنا إليه من أن القائم قد يحكم بحكم داود لا دائما كما أن داود قد كان يحكم به لا دائما، فليتأمل.

ص:421

باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب قال: حدثنا يحيى بن عبد الله أبي الحسن صاحب الديلم قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول - وعنده أناس من أهل الكوفة -: عجبا للناس إنهم أخذوا علمهم كله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعملوا به واهتدوا ويرون أن أهل بيته لم يأخذوا علمه ونحن أهل بيته وذريته، في منازلنا نزل الوحي ومن عندنا خرج العلم إليهم، أفيرون أنهم علموا واهتدوا وجهلنا نحن وضللنا، إن هذا لمحال.

* الشرح

قوله (باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد (عليهم السلام)) الاستقاء بيرون كشيدن وآوردن آب از چاه تقول: استقيت الماء من البئر إذا أخرجته أو طلبت إخراجه منها، فقد شبه العلم بالماء في التسبب للحياة وبيت آل محمد (صلى الله عليه وآله) بمعدنه، وطلبه منهم بالاستقاء وإضافة المستقى إلى العلم من باب إضافة المصدر إلى المفعول أو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.

قوله (يحيى بن عبد الله أبي الحسن) الظاهر أنه يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام).

قوله (عجبا للناس إنهم أخذوا علمهم) تعجب (عليه السلام) عن أقوام زعموا أنهم أخذوا علومهم بأحوال المبدء والمعاد والشريعة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع كمال بعدهم عنه حسبا ونسبا ومنزلة وفهما وعقلا ومع زعمهم أنهم تمموا دينه بالقياس والاستحسان والرأي بعد وفاته ويرون أهل بيته لم يأخذوا علمه عنه مع كمال قربهم منه في الأمور المذكورة كأنهم جحدوا كتاب الله (اليوم أكملت لكم دينكم) (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فإن المطهر من جميع الرذائل والرجس لا يكون جاهلا أصلا والدين الكامل لا يحتاج إلى إتمام الرعية إياه. ونسوا ما روي في كتبهم وصححوه من قوله (صلى الله عليه وآله) «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك» ومن قوله «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض» إلى غير ذلك من مناقب العترة وفضائلهم المسطورة في كتبهم وما

ص:422

وقع ذلك إلا حسدا وعنادا وحبا للرئاسة، ومما يدل على ذلك أنهم رووا عن الصحابة الذين كفر بعضهم بعضا وكذب بعضهم بعضا أخبارا متكثرة وتمسكوا بأذيال مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل حتى جعلوهم أئمة مع شدة اختلاف هؤلاء في الأمور العقلية والنقلية ورووا عن عائشة التي كانت مبغضة معاندة لأهل البيت (عليهم السلام) وقد صرح بعنادها وبغضها لهم من علمائهم الآبي في كتاب إكمال الإكمال روايات متكثرة لا تكاد تحصى من كثرتها ولم يرووا عشر أعشارها من سائر زوجاته (صلى الله عليه وآله) مع أنهم رووا أن نبيهم قد استوعبت أكثر أوقاته الرجال وأن ليلة عائشة كليلة غيرها، وأن أوقاته في الليلة كانت موزعة، ولم يرووا من علي (عليه السلام) إلا قليلا جدا مع صرف أوقاته صغيرا وكبيرا في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله) وكمال عقله وحرصه بالتعلم وحرص النبي (صلى الله عليه وآله) بتعليمه ومن فاطمة (عليها السلام) إلا حديثين مع أن عمرها الشريف مضى في صحبة النبي (صلى الله عليه وآله) وكمال المحبة بينهما وقد قال فيها «فاطمة سيدة نساء العالمين» وقال «فاطمة بضعة مني» ومناقبها ودلائل فضلها أكثر من أن تذكر، ولم يرووا من الحسن والحسين إلا شيئا قليلا جدا مع اعترافهم بفضلهما وشرفهما حتى رووا في كتبهم أنه (صلى الله عليه وآله) قال «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ولم يدروا أن سيد شباب أهل الجنة لا يكون جاهلا بشيء من الأحكام، ثم إنهم لم يكتفوا بذلك حتى عاندوا شيعتهم ومواليهم وتركوا أخبارهم التي يروونها عنهم وما ذلك إلا الضلال البعيد.

قوله (ومن عندنا خرج العلم إليهم) كما يرشد إليه قوله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر» يعني عندنا أبواب الأحكام والعلوم التي يبتنى عليه الأمور والأعمال البدنية والدنيوية وما ينبغي أن يهتدي الناس به من قوانين الشرع ونظام الدين ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «علي أقضاكم» والقضاء محتاج إلى جميع أنواع العلوم فلما رجحه على الكل في القضاء فقد رجحه عليهم في كل العلوم وقد ذكروا أنه (عليه السلام) أستاذ الخلق في علم الاصول وأسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر والمعاد والكلام والأحكام والأخلاق والفقه والتفسير والنحو والعربية وغير ذلك من العلوم كلها.

قوله (إن هذا لمحال) نقل صاحب الطرائف عن محمد بن عمر الرازي المعروف بابن الخطيب وهو أعلم علماء الأشعرية صاحب التصانيف الكثيرة أنه يقول في الكتاب الذي صنفه وجعله دستورا لولده وسماه كتاب الأربعين، في الفصل الخامس من المسألة التاسعة والثلاثين في بيان أفضل الصحابة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأورد عشرين حجة في أن علي بن أبي طالب أفضل الصحابة، يقول في الحجة الثالثة منها ما هذا لفظه: «الحجة الثالثة: أن عليا (عليه السلام) كان أعلم الصحابة والأعلم

ص:423

أفضل، إنما قلنا إن عليا (عليه السلام) كان أعلم الصحابة للإجمال والتفصيل، أما الإجمال فهو أنه لا نزاع أن عليا (عليه السلام) كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء والفطنة والاستعداد للعلم وكان محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل الفضلاء وأعلم العلماء، وكان علي (عليه السلام) في غاية الحرص في طلب العلم وكان محمد (صلى الله عليه وآله) في غاية الحرص في تربية علي (عليه السلام) وفي إرشاده إلى اكتساب الفضائل، ثم إن عليا (عليه السلام) ربي من صغره في حجر محمد (صلى الله عليه وآله) وفي كبره صار ختنا له وكان يدخل إليه في كل الأوقات، ومن المعلوم أن التلميذ إذا كان في غاية الذكاء والحرص في التعلم وكان الأستاد في غاية الفضل وفي غاية الحرص على التعليم ثم اتفق لمثل هذا التلميذ أن يتصل بخدمة هذا الأستاد من زمان الصغر وكان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كل الأوقات فإنه يبلغ ذلك التلميذ مبلغا عظيما. وهذا بيان إجمالي في أن عليا (عليه السلام) كان أعلم الصحابة فأما أبو بكر إنما اتصل بخدمته في زمان الكبر وأيضا ما كان يصل إلى خدمته في اليوم والليلة إلا مرة واحدة زمانا يسيرا وأما علي فإنه اتصل بخدمته في زمان الصغر، وقد قيل «العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنقش في المدر» فثبت لما ذكرنا أن عليا كان أعلم من أبي بكر.

* الأصل:

2 - علي بن محمد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن عبد الله بن حماد، عن صباح المزني، عن الحارث بن حصيرة، عن الحكم بن عتيبة قال: لقي رجل الحسين بن علي (عليهما السلام) بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلم عليه، فقال له الحسين (عليه السلام): من أي البلاد أنت؟ قال:

من أهل الكوفة، قال: أما والله يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل (عليه السلام) من دارنا ونزوله بالوحي على جدي، يا أخا أهل الكوفة أفمستقى الناس العلم من عندنا، فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون.

* الشرح:

قوله (بالثعلبية) في الصحاح: الثعلبية: موضع بطريق مكة، وفي المغرب: الثعلبية بضم اللام: من منازل البادية ووضعها موضع العلث في حد السواد خطأ، وفيه العلث بفتح العين وسكون اللام:

قرية موقوفة على العلوية وهي أول العراق شرقي دجلة.

قوله (لأريتك أثر جبرئيل (عليه السلام) من دارنا ونزوله بالوحي على جدي) هذا كناية عن كونهم معادن العلوم والمعارف والشرائع والآداب والأخلاق واحتياج الناس إليهم في الأخذ والتعليم والاسترشاد والاستفاضة.

ص:424

قوله (أفمستقى الناس العلم من عندنا) الاستفهام للتقرير وإضافة المستقى إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى الفاعل إن كان على صيغة اسم المفعول ومن باب إضافة اسم الفاعل إلى فاعله إن كان على صيغة اسم الفاعل، والعلم على التقديرين منصوب على المفعولية فقد شبه العلم الذي به حياة الأرواح بالماء الذي به حياة الأشباح، ونسب إليه الاستقاء، ففيه مكنية وتخييلية.

قوله (فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون) لظهور أن الأصل يزيد على الفرع وأن الغني أغنى من المحتاج الفقير وأن المرشد أعلم من المسترشد. وقد روي أن معاوية كتب كتابا إلى علي (عليه السلام) ذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله) لدينه وتأييده إياه بمن أيده وقواه من أصحابه وغير ذلك من النصائح فأجابه (عليه السلام) بقوله: «فلقد خبأ» (أي ستر) لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا ونعمته علينا في نبينا فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر وداعي مسدده إلى النضال» استعار (عليه السلام) الخبء لما ستره الدهر في وجود معاوية من العجب، ووجه العجب ههنا أنه أخبر أهل النبي بحال النبي وما أنعم الله به عليه من اصطفائه لدينه وتأييده بأصحابه مع علمهم البالغ بحاله وكونهم أولى بالإخبار عنها وضرب له في ذلك مثلين، وأصل المثل الأول أن رجلا قدم من الهجر إلى البصرة بمال يشتري به شيئا للربح فلم يجد فيه أكسد من التمر فاشترى بماله تمرا وحمله إلى هجر وادخر في البيوب ينظر به السعر فلم يزدد به إلا رخصا حتى فسد جميعه وتلف ماله فضرب مثلا لمن حمل الخبر بما أخبر به إلى معدنه الذي هو أولى به منه، كحامل التمر إلى معدنه، وهجر معروفة بكثرة التمر، حتى أنه ربما يبلغ سعر خمسين جلة بدينار، ووزن الجلة مائة رطل، فذلك خمسة آلاف رطل لم يسمع مثل ذلك في بلاد أخرى. ثم شبهه بداعي مسدده إلى ما هو أولى بأن يدعوه إليه، كما يدعو الإنسان مسدده واستاده في الرمي إلى المرماة، ومسدده أولى بأن يدعوه إليه.

ص:425

باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان عن محمد ابن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حق إلا ما خرج منا أهل البيت، وإذا تشعبت بهم الأمور كان الخطأ منهم والصواب من علي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (إلا ما خرج منا أهل البيت) فانهم سبب الهداية بأنوار الدين والأحكام والدعوة إلى الله تعالى والعلم بكيفية السلوك إلى حضرة القدس حيث كان الخلق في ظلمات الجهل، وفيه تنبيه على وجوب اقتفاء آثارهم والرجوع إلى أشعة أنوارهم عند مزال الأقدام واختلاف الألسنة والأفهام ووجه صحة الحصر مع أن بعض العامة قد يكون عنده حق وقد يقضي بقضاء حق إما لأن النبي (صلى الله عليه وآله) داخل في أهل البيت، يدل على ذلك رواية الثعلبي، وأحمد بن حنبل في مناقبه، والطبراني في معجمه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «نزل قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في خمسة: في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة». أو لأن المراد أن كل حق وصواب وقضاء حق خرج منا، ولا ينافيه أخذ العامة بعد ذلك منه (صلى الله عليه وآله) والأول أظهر بل هو متعين، والله أعلم.

قوله (وإذا تشعبت بهم الأمور) دل على ذلك ما نقلته العامة عنه (صلى الله عليه وآله) من أن الحق مع علي يدور حيث ما دار، وأن أقضاكم علي وأنه لا يفارق القرآن، وأنه لا يفارق الحق حتى يرد على الحوض، وأن عليا مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، وأنه رجل يحب الله ورسوله، وأنه نفس النبي بحكم آية المباهلة، وقد قال الآمدي على ما نقل عنه الآبي: لا يخفى أن عليا (رضي الله عنه) كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة بعضها كاف في استحقاق الإمامة وقد اجتمع فيه من حميد الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة حتى أنه من أشجع الصحابة

ص:426

وأعلمهم وأزهدهم وأفصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقربهم نسبا وصهرا منه، كان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة، وقد قال فيه رباني هذه الأمة ابن عباس (رضي الله عنه) وسأله معاوية عنه قال كان وكان فلم يبق محمدة من محامد الدين والدنيا إلا وصفه بها، مع ما ورد فيه من الآثار المنبهة على مناقبه، هذه صفاته وأما إثبات إمامته فبإجماع الأمة عليها بعد قتل عثمان، انتهى كلامه بعبارته. فانظر أيها اللبيب كيف اعترف بفضله واستحقاقه للخلافة وأخره عن عثمان بدعوى الإجماع وقد عرفت حال الإجماع مما ذكرناه سابقا.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن مثنى، عن زرارة قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له رجل من أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «سلوني عما شئتم، فلا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به» قال: إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين (عليه السلام). فليذهب الناس حيث شاؤوا، فوالله ليس الأمر إلا من ههنا، وأشار بيده إلى بيته.

* الشرح:

قوله (سلوني عما شئتم) قال بعض الأفاضل: أجمع الناس على أنه لم يقل أحد من الصحابة وأهل العلم: سلوني عما شئتم غيره (عليه السلام) ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب وقال بعضهم:

تعرض للأسئلة عن كل ما شاؤوا وأرادوا ولم يكن يجترئ أحد غيره من سائر الصحابة والتابعين ولو ادعى غيره ذلك لكذبه العيان وفضحه الامتحان، وقال بعضهم: قام إليه أنس النخعي حين قال (عليه السلام) ذلك فقال: أخبرني كم في لحيتي ورأسي طاقة شعر، فقال: والله حدثني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن على كل طاقة شعر من رأسك ملك يلعنك وأن كل طاقة شعر من لحيتك شيطان يغويك وأن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله. وكان ابنه سنان بن أنس قاتل الحسين (عليه السلام) وهو يومئذ طفل يحبو، قال صاحب الطرائف: ومن عجيب آيات الله في مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومعجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أصحاب التواريخ وجماعة من العلماء ذكروا أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال على رؤوس الأشهاد بمحضر الأعداد والحساد «سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أخبرتكم به» ثم قال بعد كلام طويل: وفي ذلك عدة عجائب منها أن هذا مقام لم يبلغه ولا ادعاه أحد من القرابة والصحابة قبله ولا بعده بل ما تحققنا مثله عن نبي سابق ولا وصي لاحق، وأقصى ما عرفناه عن أحد من الأنبياء والأولياء في نحو ما علمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) من

ص:427

الأشياء قول عيسى (عليه السلام) (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) وما بلغنا عنه مثل عموم قول علي (عليه السلام) وهذه حجة له على أهل المشارق والمغارب وآية لله قاهرة ومعجزة لرسوله باهرة.

قوله (فليذهب الناس حيث شاؤوا) أي فليذهب الناس في طلب العلم حيث شاؤوا، والأمر للتهديد كما في قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) أو للارتداد كما في قوله تعالى: (قل تمتعوا) وهما متقاربان، والفرق أن الإنذار إبلاغ التخويف، والتهديد هو التخويف.

قوله (فوالله ليس الأمر إلا من ههنا) المراد العلم أو الذهاب في طلبه أو الأمر بالذهاب فيه: وفيه إشارة إلى أن علم علي (عليه السلام) لم يذهب بذهابه، بل انتقل جميعه إلى أولاده الطاهرين، وقد دلت روايات العامة والخاصة على أن الله تعالى لا يقبض العلم من الناس ولا ينتزعه منهم بعدما يهبط.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي مريم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت.

* الشرح:

قوله (عن أبي مريم) اسمه عبد الغفار بن قيس الأنصاري، روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، ثقة.

قوله (لسلمة بن كهيل) تابعي بتري من رؤسائهم، والحكم بن عتيبة أيضا بتري مذموم، كان من فقهاء العامة، وفي بعض كتب الرجال: أنه كان أستاد زرارة وحمران وليار قبل أن يروا هذا الأمر.

قوله (شرقا وغربا) أي اذهبا في طلب العلم إلى جهتي الشرق والغرب أو إلى المشرق والمغرب، وذكرهما على سبيل التمثيل، والمراد إذهبا في طلبه حيث شئتما فيكون كناية عن الجد وشدة طلبه في وجه الأرض.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن يحيى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن معلى بن عثمان، عن أبي بصير قال: قال لي: إن الحكم بن عتيبة ممن قال الله:

(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) فليشرق الحكم وليغرب، أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (عن أبي بصير قال: قال لي أن الحكم بن عتيبة ممن قال الله تعالى) القائل غير معلوم

ص:428

وكأنه الباقر (عليه السلام) وفي كتاب الرجال للفاضل الأسترآبادي: قال علي بن الحسن: حدثني العباس عن عامر وجعفر بن محمد عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الحكم بن عتيبة وسلمة وكثير النوا وأبا المقدام والتمار - يعني سالما أضلوا كثيرا ممن كان من هؤلاء وأنهم ممن قال الله عزوجل: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين).

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن صالح السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا تجوز؟ فقال: لا، فقلت: إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز، فقال: اللهم لا تغفر ذنبه، ما قال الله للحكم (إنه لذكر لك ولقومك)! فليذهب الحكم يمينا وشمالا، فوالله لا يؤخذ العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا تجوز فقال: لا) دل على أن شهادته لا تجوز روايات مذكورة في باب الشهادات من هذا الكتاب.

قوله (ما قال الله للحكم إنه لذكر لك ولقومك) قد مر أن الضمير المنصوب راجع إلى القرآن وأن الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) وأن المراد بقومه أهل العصمة من عترته، والمقصود أن الحكم ليس من قومه الذين قال الله تعالى أن القرآن ذكر لهم.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن الحسين بن الحسن بن يزيد، عن بدر، عن أبيه قال: حدثني سلام أبو علي الخراساني، عن سلام بن سعيد المخزومي قال: بينا أنا جالس عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه عباد بن كثير - عابد أهل البصرة - وابن شريح فقيه أهل مكة وعند أبي عبد الله (عليه السلام) ميمون القداح مولى أبي جعفر (عليه السلام)، فسأله عباد بن كثير فقال: يا أبا عبد الله في كم ثوب كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وثوب حبرة؟ وكان في البرد قلة فكأنما ازور عباد بن كثير من ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) إن نخلة مريم (عليها السلام) إنما كانت عجوة وأنزلت من السماء، فما نبت من أصلها كان عجوة، وما كان من لقاط فهو لون، فلما خرجوا من عنده قال عباد بن كثير لابن شريح: والله ما أدري ما هذا المثل الذي ضربه لي أبو عبد الله، فقال ابن شريح: هذا الغلام يخبرك، فإنه منهم - يعني ميمون - فسأله فقال ميمون: أما تعلم ما قال لك؟

ص:429

قال: لا والله، قال: إنه ضرب لك مثل نفسه فأخبرك أنه ولد من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلم رسول الله عندهم، فما جاء من عندهم فهو صواب وما جاء من عند غيرهم فهو لقاط.

* الشرح:

قوله (قال في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة) قال ابن الأثير: فيه - يعني في الحديث -: كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ثوبين صحاريين. صحار بالضم قرية باليمن نسب الثوب إليها، وقيل: هو من الصحرة بالضم والسكون وهي حمرة خفية كالغبرة، يقال: ثوب أصحر وصحاري.

وثوب حبرة بوزن عنبة على الوصف والإضافة وهو برد يمان والجمع حبر، وفي الفائق: الحبرة ضرب من البرود.

قوله (وكان في البرد قلة) قيمته أغلى لقلة وجوده.

قوله (فكأنما أزور عباد بن كثير من ذلك) أي عدل وانحرف عنه من ظ: الازورار وهو العدول والانحراف، ووجه ذلك غير معلوم ولعله كان مكابرة لأن من طرقهم أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة كما نقله في الفائق والنهاية، اللهم إلا أن يكون أزوراره عن قوله (عليه السلام) «وكان في البرد قلة» أو باعتبار ما روي في طرقهم من أنه (صلى الله عليه وآله) كفن في ثلاثة أثواب سحولية بناء على أن السحولية بفتح السين منسوبة إلى السحو لا قرية باليمن، وكلا الوجهين ضعيف، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلوجوه: منها أنه أن يكون سحولا وصحارا اسم لقرية واحدة، ومنها أنه يجوز أن يكون السحولية بفتح السين منسوبة إلى السحول وهو القصار لأنه يسحلها أي يغسلها، ومنها أنه يجوز أن يكون السحولية بضم السين جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي ولا يكون إلا من قطن وقد صرح بذلك جماعة من علمائهم مثل ابن الأثير وابن العربي والدارقطني وغيرهم، وعلى جميع هذه التقادير لا تخالف بين حديثهم وحديثنا مع أن حديثهم الذي ذكرناه أولا موافق لحديثنا فلابد من حمل حديثهم الثاني على ما ذكر جمعا بينهما.

قوله (إنما كانت عجوة) في المغرب: العجوة أجود التمرة، وفي الفائق: العجوة هو تمر المدينة الجيد منه، وفيه شفاء من الأدواء كالسم. وفي النهاية: العجوة نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد من غرس النبي (صلى الله عليه وآله). وفي الصحاح: ضرب من أجود تمر المدينة ونخلتها تسمى لينة.

قوله (وما كان من لقاط فهو لون) اللقاط بالضم ما كان ساقطا لا قيمة له، يقال: فلان لقط التمر أي التقطه من ههنا وههنا. وفي الصحاح: اللون الدقل وهو ضرب من النخل والدقل أردء التمر، وفي

ص:430

النهاية: اللون نوع من النخل، وقيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله ما خلا البرني والعجوة، ويسميه أهل المدينة الألوان واحدته لينة وأصله لونة فقلبت الواو ياء لكسرة اللام وفي حديث عمر بن عبد العزيز أنه كتب في صدقة التمر «أن يؤخذ في البرني من البرني وفي اللون من اللون» وفي المغرب:

اللون بفتح اللام الردي من التمر، وأهل المدينة يسمون النخل كله ما خلا البرني والعجوة الألوان، ويقال للنخلة اللينة واللونة بالكسر والضم.

ص:431

فهرس الآيات

(آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) المائدة: 255... 118

(اخسؤوا فيها ولا تكلمون) المؤمنون: 108... 347

(إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة) الأعراف: 34... 152

(إذ أرسلنا إليهم اثنين) يس: 14... 67

(الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من

شيء) الطور: 21... 82

(الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم). هود: 3... 404

(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر: 18... 407

(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة: 55... 116

(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) البقرة: 257... 353

(ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت: 2... 250 - 340

(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في

كتاب الله) الأحزاب: 6... 116 - 361

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: 3... 121 -

124 - 423 - 119

(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك النساء: 105... 59

(إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1... 9

(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا

بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم

ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم) فصلت: 30 - 32... 4

(إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم

للتقوى) الحجرات: 3... 165

(إن الله عنده علم الساعة - لقمان: 34... 152

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرع: 11... 329

ص:432

(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) النساء: 56... 87 - 84 - 186 - 191

(إن الله يحول بين المرء وقلبه) الأنفال: 24... 278

(إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام

مبين) يس: 12... 97

(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض - إلى قوله تعالى - رب

العالمين) الأعراف: 54... 276

(إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) البقرة: 94... 42

(إنك لعلى خلق عظيم) القلم: 4... 58

(إن كيد الشيطان كان ضعيفا) النساء: 76... 162

(إنما المؤمنون إخوة) الحجرات: 10... 3 - 5 - 279 - 276

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم

راكعون) المائدة: 55... 117 - 116 - 118

(إنما يبلوكم الله به) النمل: 92... 127

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 28... 94

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب: 33... 109 - 112 -

131 - 423

(إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) الاعلى: 18... 130

(إنه لذكر لك ولقومك) الزخرف: 44... 430

(إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه

والذين هم به مشركون) النحل: 99... 162

(إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) الجاثية: 19... 308

(إني أخاف أن يكذبون) القصص: 34... 119

(إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة: 30... 183

(إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما

دمت حيا) مريم: 31... 370

(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) لقمان: 5... 247

(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح) النحل: 1... 78

ص:433

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59... 84 - 109 - 132

(أكلها دائم) الرعد: 35... 310

(ألا له الخلق والأمر) الأعراف: 54... 74

(أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد

القهار) الرعد: 16... 54

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء

وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) البقرة: 214... 250

(أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) البقرة: 260... 230

(أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) فاطر: 37... 156

(بديع السماوات والأرض) البقرة: 117... 31

(بكأس من معين بيضاء) الصافات: 45 - 46... 213

(بل هو كذاب أشر) القمر: 25... 173

(تنزل الملائكة والروح فيها) القدر: 4... 384 - 381

(ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) الواقعة: 13 - 14... 245

(ثم رددنا لكم الكرة عليهم) الاسراء: 6... 102 - 378

(ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) الحج: 29... 409

(حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان: 1 - 3... 12

(ختم الله على قلوبهم) البقرة: 7... 280

(رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - من اتبعكما الغالبون) طه: 25 - 26... 117

(سامرا تهجرون) المؤمنون: 67... 319

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...

الآية) الاسراء: 1... 377

(ستكتب شهادتهم ويسئلون) الزخرف: 19... 329 - 327

(سيعلمون غدا من الكذاب الأشر) القمر: 26.... 173

(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز) آل

عمران: 18... 381

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 26... 31

ص:434

(فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة: 5... 306

(فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب) الشرح 7 - 8... 131 - 135

(فإذا نقر في الناقور) المدثر: 8... 270

(فاسئل به خبيرا) الفرقان: 25... 351

(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43... 131

(فإن تنازعتم في شيء) النساء: 59... 85

(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الانعام: 33... 131

(فذوقوا فما للظالمين من نصير) فاطر: 37... 156

(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) التوبة: 2... 306

(فسينغضون إليك رؤوسهم) الاسراء: 51... 207

(فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) الطلاق: 1... 291

(فعميت عليهم الأنباء يومئذ). القصص: 66... 269

(فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) التكوير: 15... 267

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما

قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65... 404

(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم

تسئلون) الأنبياء: 12 - 13... 102

(لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) الانعام: 158... 230

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم

يحذرون) التوبة: 122... 360

(فناداها من تحتها ألا تحزني) مريم: 24... 209

(قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل: 40... 33

(قال رب أرني كيف تحيي الموتى) البقرة: 260... 232

(قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف). يوسف: 90... 253

(قالوا أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا) الأحقاف: 22... 22

(قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني

مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) مريم: 29... 209

ص:435

(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله

يجحدون) الانعام: 33... 135

(قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) الجمعة: 8... 152

(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأعراف: 33... 349

(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) الملك: 30... 264

(قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد: 43... 33

(قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) الشورى: 23... 307 - 131 - 132

(قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف: 108... 375

(كذبوا بآياتنا كلها) القمر: 42... 135

(كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده

المقربون) المطففين: 20... 400

(كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم). المطففين 7... 400

(كل شيء هالك إلا وجهه). القصص:: 89... 156

(كل من عليها فان ويبقى وجه ربك) الرحمن: 27 - 26... 156

(لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) المائدة: 2... 306 - 310

(لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) المائدة: 101.... 294

(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) المائدة: 45... 306

(لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) عبس: 37... 308

(ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه الحشر: 7... 59 - 55 - 58

(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) البقرة: 106... 224

(ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3 - 4... 127

(من بعد وصية توصون بها). النساء: 12... 93

(من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء: 80... 53

(وآت ذا القربى حقه) الاسراء: 26... 131

(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) الأنفال: 25... 10

(واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). إبراهيم: 37... 408

(وإذا حللتم فاصطادوا) المائدة: 2... 306

ص:436

(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء * أتقولون

على الله مالا تعلمون) آل عمران: 35... 348

(وإذ أوحينا إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا بالله واشهد بأننا

مسلمون) المائدة: 111... 133

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الأنفال: 41... 131

(والأرض بعد ذلك دحيها) النازعات: 30... 32

(والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) البقرة: 257... 353

(الذين يؤمنون بالغيب) البقرة: 3... 238

(أم السماء بناها رفع سمكها وسويها أغطش ليلها وأخرج ضحيها) النازعات: 28... 32

(والقائلين لإخوانهم هلم الينا) الأحزاب: 18... 366

(وإنك لعلى خلق عظيم) القلم: 4... 53

(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فاطر: 24... 12

(وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون) الزخرف: 44... 131

(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) طه: 82... 409

(وأشركه في أمري) طه: 32... 125

(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا

يعلمون) النحل: 38... 102

(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل: 44... 131

(وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) الأنفال: 75... 108 - 125 - 110

(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من

ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) البقرة: 156.... 222

(وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) الانعام: 115... 380 -

385 - 389

(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما

تبين لهم الحق) البقرة: 109... 162

(بالروح من أمره) النحل: 2... 397

(وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا) الفرقان 38... 291

ص:437

(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من

قبلهم) إلى قوله - فأولئك هم الفاسقون النور: 55... 15

(وفوق كل ذي علم عليم) يوسف: 76... 161

(وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) النحل: 91... 127

(وقرن في بيوتكن) الأحزاب: 33... 167

(وكان عرشه على الماء) هود: 7... 31

(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة: 45... 150

(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) الشورى: 52... 74 -

75 - 76

(وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة الواقعة: 7... 69

(ولا تجسسوا) الحجرات: 12... 215

(ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) الفتح: 235... 306

(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن

تكون) النحل: 92... 127

(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة: 195... 93

... 127

ولتسألن يوم القيامة عما كنتم تعلمون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد

ثبوتها) النحل: 94... 127

(ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) غافر: 78... 130

(ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) يس: 62... 398

(لقد تقطع بينكم). الانعام: 94... 189

(ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) الحجر: 97... 131

(ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن

الله عزيز حكيم). لقمان: 27... 8

(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول

لوجدوا النساء: 64... 406

(ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين

ص:438

اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم البقرة: 165 - 166... 350

(ولو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) الحجرات: 7... 199

(وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون * لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من

يشاء ويهدي من) النحل: 92... 127

(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر: 7... 53

(وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم) المطففين: 20... 400

(وما تغني الآيات والنذر) يونس: 101... 135

(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم). الأنفال: 33... 271

(وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا

قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم التوبة: 22... 364

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات آل عمران: 144... 10

(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) البقرة: 165... 349

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) البقرة: 207... 95

(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) البقرة: 8... 429

(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) القصص: 50... 352

(ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) البقرة: 140... 186 - 191

(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) الفتح: 10... 281

(ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على

الله) النساء: 100... 361

(ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) الشورى: 23... 405

(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) البقرة: 269... 246

(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين

القصص: 5... 172

(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الزخرف: 84... 63 - 64

(وهو سريع الحساب) الرعد: 41... 197

(ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 35... 338

(ويحق الله الحق بكلماته) يونس: 82... 248

ص:439

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الاسراء: 85... 397

(ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) الزمر: 60... 346

(هب لي من لدنك ذرية طيبة) آل عمران: 38... 82

(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير ص: 39... 58 - 59 - 55

(هل تعلم له سميا) مريم: 65... 192

(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) الرحمن: 55... 97

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق - إلى قوله - ولو كره المشركون) الصف: 9... 339

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه

إلى الله وإلى الرسول) النساء: 59... 403 - 307 - 84

(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الأحزاب: 53... 165

(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الحجرات: 2... 165

(يا أيها الذين آمنوا كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) البقرة: 172... 64

(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من

الناس) المائدة: 99... 99 - 122 - 118 - 132

(يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة: 132... 174 - 361

(يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) مريم: 12... 370

(يريدون ليطفئوا نور الله.. الآية) الصف: 8... 388

(يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الاسراء: 85... 70 -

75 - 76

(يسألونك عن ذي القرنين) الكهف: 83... 63

(يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال). النور: 36... 154

(يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر: 19... 31

(يوم تشهد عليهم ألسنتهم النور: 24... 329

(يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) الاسراء: 71... 345

ص:440

فهرس المطالب

الحديث الثاني من باب شأن (إنا أنزلناه)...3

باب في أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون في ليلة الجمعة...24

باب لولا أن الأئمة (عليهم السلام) يزدادون لنفد ما عندهم...26

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل (عليهم السلام)...28

باب نادر فيه ذكر الغيب...30

باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا...36

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم...37

باب أن الأئمة (عليهم السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم...43

باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنينوأنه كان شريكه في العلم...48

باب جهات علوم الأئمة (عليهم السلام)...49

باب أن الأئمة (عليهم السلام) لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه...51

باب التفويض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى الأئمة (عليهم السلام) في أمر الدين...53

باب في أن الأئمة (عليهم السلام) بمن يشبهون ممن مضى، وكراهية القول فيهم بالنبوة...60

باب أن الأئمة (عليهم السلام) محدثون مفهمون...66

باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (عليهم السلام)...69

باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (عليهم السلام)...74

باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله عليهم جميعا السلام...80

باب في أن الأئمة صلوات الله عليهم في العلم والشجاعة والطاعة سواء...82

باب أن الإمام (عليه السلام) يعرف الإمام الذي يكون من بعده وأن قول الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات) إلى أهلها، فيهم (عليهم السلام) نزلت...84

باب أن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود من واحد إلى واحد (عليهم السلام)...89

باب أن الأئمة لم یفعلوا شیئا و لا یفعلون إلا بعهد من الله عزوجل وأمر منه لا يتجاوزونه...92

باب الأمور التي توجب حجة الإمام (عليه السلام)...104

ص:441

باب ثبات الإمامة في الأعقاب وأنها لا تعود في أخ ولا عم ولا غيرهما من القرابات...108

باب ما نص الله عزوجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحدا فواحدا...109

باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام)...126

باب الإشارة والنص على الحسن بن علي (عليهما السلام)...148

باب الإشارة والنص على الحسين بن علي (عليهما السلام)...158

باب الإشارة والنص على علي بن الحسين (عليهما السلام)...168

باب الإشارة والنص على أبي جعفر (عليه السلام)...170

باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)...172

باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسى (عليه السلام)...175

باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)...182

باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني (عليه السلام)...205

باب الإشارة والنص على أبي الحسن الثالث (عليه السلام)...214

باب الإشارة والنص على أبي محمد (عليه السلام)...219

باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار (عليه السلام)...226

باب في تسمية من رأى القائم (عليه السلام)...230

باب في النهى عن الاسم...236

باب في الغيبة...238

باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة...272

باب كراهية التوقيت...332

باب التمحيص والامتحان ...337

باب إنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر...342

باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل...345

باب فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله...351

باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى، وهو من الباب الأول...354

باب فيمن عرف الحق من أهل البيت (عليهم السلام) ومن أنكر...357

ص:442

باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام (عليه السلام)...359

باب في أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه...366

باب حالات الأئمة (عليهم السلام) في السن...371

باب إن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة (عليهم السلام)...377

باب مواليد الأئمة (عليهم السلام)...380

باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم (عليهم السلام)...393

باب التسليم وفضل المسلمين...401

باب أن الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام فيسألونه معالم دينهم ويعلمونهم ولايتهم ومودتهم له...407

باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار (عليهم السلام)...410

باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم...413

باب في الأئمة (عليهم السلام) انهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود و آل داوود ولا يسألون البينة، عليهم السلام والرحمة والرضوان...419

باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد (عليهم السلام)...422

باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة (عليهم السلام) وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل...426

ص :443

المجلد 7

اشاره:

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب أن حديثهم صعب مستصعب

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب 1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن جابر قال: قال: أبو جعفر (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فما ورد عليكم من حديث آل محمد (صلى الله عليه وآله) فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد، وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله، فيقول: والله ما كان هذا، والله ما كان هذا، والإنكار هو الكفر.

* الشرح:

قوله (إن حديث آل محمد صعب مستصعب (1)) لعل المراد أن حديثهم وحديث ما هم عليه

ص:3


1- 1 - قوله «صعب مستصعب» مفاد هذا الباب نهي العوام عن التعرض لما لا يفهمون ولا يستعدون لإدراكه ونهي الخواص عن إلقائه على العوام كما قال موسى بن جعفر (عليهما السلام) ليونس «ارفق بهم فإن كلامك يدق عليهم» وقد نهى الحكماء عن مثل ذلك. قال ابن سينا في أول الإشارات: وأنا أعيد وصيتي وأكرر التماسي أن يضن بما يشتمل عليه هذه الأجزاء كل الضن على من لا يوجد فيه ما اشترطه في آخر هذه الإشارات وقال في آخر الإشارات: فضنه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والدربة والعادة وكان صغاه مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء المتفلسفة، انتهى. وسر ذلك أنه ما من مسألة من المسائل العقلية والأصولية إلا وللوهم فيها معارضة ومكافحة يجب التمرن لدفع وسوسته حتى يؤمن العقل من إبداء الأدلة ويخضع النفس له ولا بد أن يكون الناظر في الأدلة متمرنا في تفكيك مدركات الوهم عن مدركات العقل ويرتاض حتى يعتاد ولا يحصل ذلك بسهولة لكل أحد، وهذا معنى قوله (عليه السلام) «امتحن الله قلبه للإيمان» والمثال المعروف أن العقل يركب قياسا من مقدمات بينه يوافقه الوهم فيقول: الميت جماد والجماد لا يخاف منه، فينتج: الميت لا يخاف منه، فيعترف العقل بهذه النتيجة ولا يعترف الوهم، وكذلك الإيمان بالله يعارضه الوهم بأن كل موجود محسوس، والله تعالى ليس بمحسوس فهو - نعوذ بالله - ليس بموجود، والإيمان بالوحي والنبوة يعارضه الوهم بأن ليس للإنسان قوة إدراكية غير هذه الحواس الظاهرة والباطنة فكيف يدرك النبي أو الولي الوقايع الماضية والآتية والأمور الحالية الحادثة في الأماكن البعيدة مع وجود الحائل؟ وكيف يسمع الصوت من عالم آخر لا يسمعه غيره؟ ويرى الملك والموجودات الغيبية وليس لأحد قوة مدركة لذلك وكذلك كل شيء معارض بشبهة ولا يتخلص عنها إلا من ارتاض وتمرن وساوس الأوهام من مدركات العقول والوهم متقيد بالعادات وانحاصر الحقيقة في حدود خاصة استأنسها فإذا فاجأها غير المأنوس أنكر واستوحش منه وعد قائله سفيها أو نسبه إلى الضلال والكفر اعني بكل ما يراه شر العقائد ومن نشأ زمنا طويلا من عمره على تعظيم الخلفاء يستوحش إذا سمع لعنهم قهرا لعادته لا لدليل دل عقله وينسب اللاعن إلى أشد ما يراه من العقائد. (ش)

من شرافة الذات ونورانيتها والكلمات الفاضلة والأخلاق الكاملة والأشراق التي تختص بها عقولهم والقدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم من العلم بالأمور الغيبية والأسرار الإلهية والأخبار الملكوتية والآثار اللاهوتية والأطوار الناسوتية والأوضاع الفلكية والأوصاف الملكية والوقايع الخالية والبدائع الآتية والحالية والأحكام الغريبة والقضاء العجيبة، صعب في نفسه، مستصعب فهمه على الخلق، لا يؤمن به ولا يقبله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان وأعده بتطهيره وامتحانه وابتلائه بالتكاليف العقلية والنقلية وكيفية سلوك سبيله لحصول الإيمان الكامل بالله وبرسوله وبالأئمة وباليوم الآخر حتى يتحلى بالكمالات العلمية والعملية والفضائل الخلقية والنفسية ويعرف مبادئ كمالاتهم وقدرتهم وكيفية صدور مثل هذه الغرايب والعجائب عنهم، فيصدقهم ولا يستنكر ما ذكر من فضائلهم وما يأتون به من قول وفعل وأمر و نهي وإخبار ولا يتلقاهم بالتكذيب، كما كان جماعة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) يفعلون ذلك معه فيما كان يخبر به من الفتن والوقايع حتى فهم ذلك منهم فقال: يقولون يكذب، قاتلهم الله فعلى من أكذب؟ أعلى الله وأنا أول من آمن به، أو على رسوله وأنا أول من صدقه؟ بل يحمل كل ما يقولون ويفعلون ويأتون به على وجهه وينسبه إلى مبدئه ويتلقاه بالقبول عليه ويحمله على الصواب إن عرفه ووجد له محملا صحيحا، وإن اشمأز قلبه وعجز عن معرفته تثبت فيه وآمن به على سبيل الإجمال وفوض علم كنهه إلى الله وإلى الرسول وإلى عالم من آل محمد ولا ينسبهم إلى الكذب; إذ كما أن للقرآن ظاهرا وباطنا ومحكما ومتشابها ومجملا ومفسرا كذلك ما صدر منهم، ومن نسبهم إلى الكذب فقد كفر بالله العظيم، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: «أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فإذا انكشف لكم أو وضح لكم أمر فاقبلوه وإلا فأمسكوا تسلموا، وردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع ما بين السماء والأرض».

ص:4

قوله: (فما ورد عليكم من حديث آل محمد (صلى الله عليه وآله) - إلى آخره - سواء دل ذلك الحديث على أسرار المبدأ والمعاد أو على الأحكام والأخلاق (1)، أو على أحوال القرون الماضية والآتية، أو على صفاتهم وكمالاتهم الفايقة على كمالات غيرهم فما ورد عليكم من هذه الأحاديث فإن لانت له قلوبكم واحتملته ولم تستصعبه وعرفت المراد منه إما لكونه ظاهرا أو لكونه مؤولا بتأويل موافق لقوانينهم عقلا ونقلا فاقبلوه واعملوا به إن كان متعلقا بالعمل، وإن اشمأزت منه قلوبكم وتقبضت منه وأنكرته أي لم تعرف المراد منه ولم تجد له محملا صحيحا فلا تردوه ولا تقولوا هو كاذب بل ردوا علم كنهه و حقيقته إلى أهله هذا إذا لم تجده مخالفا للكتاب والسنة النبوية مخالفة لا يمكن معها الجمع بينهما وإلا فلا ضير في رده; لما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) من «أن كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» وعنه (عليه السلام) «ما جاءكم عني يخالف كتاب الله فلم أقله».

قوله (لا يحتمله) لصعوبة فهمه عليه وخروجه عن وسعه إما لقصور في عقله أو لغموض في المقصود.

قوله (والإنكار هو الكفر) أي إنكارهم أو إنكار حديثهم ونسبة الكذب إليه مع العلم أو الظن بأنه حديثهم سواء سمعه شفاها أو بواسطة.

* الأصل:

2 - أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكرت التقية يوما عند علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله. ولقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء.

* الشرح:

قوله (فقال والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله) المراد بما في قلب سلمان العلوم

ص:5


1- 1 - قوله «أو على الاحكام والاخلاق» والحق أن ما ورد للعمل يجب أن يكون مبنيا حتى يمكن أن يعمل به جمع المكلفين والا لزم نقص الغرض وأما الاعتقادات كاسرار المبدء والمعاد ومقامات الأئمة والأنبياء فلا، يختلف الناس في استعداد فهم الحقائق ومنع الفطن المدقق عنه ظلم، وتحليف البليد به تكليف بما لا يطاق، لا يبعد أن يرد في الأدلة ما يختص بفهمه بعضهم دون بعض ويكون مبينا لهم دون غيرهم ونحن نرى استعداد الناس يختلف فبعضهم يسهل عليه فهم العلوم الرياضية وبعضهم علوم الأدب ولا يمكن تعليم غير المستعد ولا يجوز منع المستعد كذلك مسائل الأصول وأما ما يتعلق بالعمل كالفقه والاخلاق فيسهل فهمه لجميع الناس وجميعهم مكلفون به. (ش)

والأسرار و منشأ القتل هو الحسد (1) والعناد، وفيه مبالغة على التقية من الإخوان فضلا عن أهل الظلم والعدوان، فان قلت: هل فيه لوم لأبي ذر؟ قلت: لا لأن المقصود في مواضع استعمال «لو» هو أن عدم الجزاء مترتب على عدم الشرط، وأما ثبوته فقد يكون محالا لابتنائه على ثبوت الشرط وثبوت الشرط قد يكون محالا عادة أو عقلا كعلم أحدنا بجميع ما في القلب وثبوت حقيقة الملائكة للمتكلم في قوله: «لو كنت ملكا لم أعص»

ص:6


1- 1 - قوله «ومنشأ القتل هو الحسد» بل هو الجهل واستيحاش كل أحد عما لم يستأنسه وخالف مرتكزات ذهنه وعادته، ولا ريب أن من نشأ على تعظيم معاوية طول عمره استوحش من سماع لعنه ونسب اللاعن إلى كل سوء والأسوأ من كل سوء في نظر المتدين الكفر فينسبه إلى الكفر ويقتله، ومن نشأ على القول بتجسم الواجب تعالى ينسب القائل بتجرده إلى الضلال والكفر وبالعكس. ومن نشأ على الاعتقاد بأن الاحتياج إلى العلة للحدوث ينسب مخالفه إلى إنكار الواجب، وبالعكس من ذهب إلى أن الاحتياج للإمكان نسب غيره إلى الكفر. إذ يقول لو جاز على الواجب العدم لما ضر عدمه وجود العالم وهكذا. وأصل الاستيحاش من عدم فهم السامع وعدم مبالاة المتكلم بإلقاء المطالب العويصة على غير المستعد. وممن رموه بالكفر والزندقة يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين الذي أمر الرضا (عليه السلام) بأخذ معالم الدين عنه، وروى الكشي روايات كثيرة في ذلك منها عن أبي جعفر البصري قال «دخلت مع يونس بن عبد الرحمن على الرضا (عليه السلام) فشكى ما يلقى من أصحابه من الوقيعة، فقال الرضا (عليه السلام): «دارهم فإن عقولهم لا يبلغ»، وفي رواية عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «يا يونس ارفق بهم فإن كلامك يدق عليهم»، قال: قلت: إنهم يقولون لي زنديق، قال لي: «وما يضرك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس لؤلؤة» انتهى. كتب أبو جعفر الجواد (عليه السلام) إلى رجل في يونس «أحبه وأترحم عليه وإن كان يخالفك أهل بلدك» انتهى. والظاهر أن المقصود من البلد البصرة، وكتب رجل إلى الكاظم (عليه السلام) يسأله عن الزكاة: عندنا قوم يقولون بمقالة يونس، فأعطيهم من الزكاة شيئا؟ قال فكتب إليه: نعم أعطهم» انتهى. وفي كتاب أعيان الشيعة بعد ما نقل عن بعض علمائنا أن أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يقعون بعضهم في بعض بالانتساب إلى الكفر والزندقة والغلو و غير ذلك بل وفي حضورهم (عليهم السلام) أيضا، وربما كانوا يمنعون وربما كانوا لم يمنعوا لمصالح وأن هذه النسب كلها لا أصل لها فإذا كانوا في زمان الحجة بل وفي حضوره يفعلون أمثال هذه فما ظنك بهم في زمان الغيبة - إلى أن قال - إنهم لو سمعوا من أحد لفظ الرياضة وأمثال ذلك رموه بالتصرف وجمع منهم يكفرون معظم فقهائنا رضي الله عنهم لإثباتهم إسلام بعض الفرق الإسلامية، ثم قال: وبالجملة كل منهم يعتقد أمرا أنه من أصول الدين بحيث يكفر غير المقر به، بل آل الامر إلى أن المسائل الفرعية غير الضرورية ربما يكفرون من جهتها والأخباريون يطعنون على المجتهدين بتخريب الدين والخروج عن طريق الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) انتهى كلام أعيان الشيعة. وأنا أعتقد أن تكفير العقلاء والحكماء هو الذي يريده الملاحدة ويقر أعينهم به; لأن مذهبهم أن كل متدين سفيه وكل عاقل كافر وقال قائلهم: اثنان في الدنيا فذو عقل بلا * دين وآخر دين لا عقل له فمن يحكم بأن كل حكيم عاقل كافر، فهو أقوى معاون للملاحدة وأنفذ مؤيد لهم. (ش)

ومن هذا القبيل قوله تعالى: (ولئن أشركت ليحبطن عملك) على أنه يمكن أن يكون المقصود من التعليق هو التعريض بوجوب التقية وكتمان الأسرار على من يخاف منه الضرر كما في قولك: «و الله لو شتمني الأمير لضربته» فإنه تعريض بشاتم آخر وتهديد له بالضرب بدليل أن الأمير ما شتمك ولو شتمك; لما أمكنك ضربه. فليتأمل. قوله: (ان علم العلماء) منهم سلمان كما يصرح به.

قوله: (وإنما صار سلمان من العلماء لأنه) قال القرطبي: سلمان يكنى أبا عبد الله وكان ينسب إلى الإسلام فيقول: أنا سلمان ابن الإسلام، ويعد من موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه أعانه بما كوتب عليه; فكان سبب عتقه، وكان يعرف بسلمان الخير، وقد نسبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيته فقال: «سلمان منا أهل البيت» وأصله فارسي من رامهرمز قرية يقال لها جي، وقيل: بل من أصبهان، وكان أبوه مجوسيا فنبهه الله تعالى على قبح ما كان عليه أبوه وقومه وجعل في قلبه الشوق إلى طلب الحق فهرب بنفسه وفر عن أرضه فوصل إلى المقصود بعد مكابدة عظيم الشعاب والصبر على المكابدة.

وقال علي (عليه السلام): «سلمان علم العلم الأول والآخر، وهو بحر لا ينزف، وهو منا أهل البيت» وعنه أيضا:

«سلمان مثل لقمان» وله أخبار حسان وفضائل جمة.

قوله: (فلذلك نسبته إلى العلماء) أراد بالعلماء أهل البيت (عليهم السلام).

* الأصل:

3 - علي إبراهيم، عن أبيه، عن البرقي، عن ابن سنان أو غيره رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حديثنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا صدور منيرة، أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة. إن الله أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم (ألست بربكم) فمن وفى لنا وفى الله له بالجنة ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا، ففي النار خالدا مخلدا.

* الشرح:

قوله: (لا يحتمله إلا صدور ومنيرة) (1) وهي صدور الأنبياء شبه نفوسهم القدسية بالشمس لمكان المشابهة بينهما في اتصافهما بأنوار الكمالات وحصول الهداية عنها مع لطفها وصفائها.

قوله: (وقلوب سليمة) وهي قلوب العلماء، لسلامتها من الآفات والجهالات، فنفى ما يلقى

ص:7


1- 1 - قوله «صدور منيرة: هي صدور الأنبياء» لا حاجة إلى التخصيص أصلا، بل الحق تعميمه حتى يشمل أصحاب العقول السليمة والأذهان الصافية والحدس القوي والذوق السليم من العوام وإن لم يمارسوا الكتب و لم يشاركوا في العلوم الرسمية، كما أن كثيرا من الممارسين والمشاركين في العلوم قاصرون عن فهم الدقائق، وبعضهم لا يستطيع أن يجاوز ما يقرب إلى الحس ولا يدركه إلا بالسمع والبصر، فيقتصر على أمثال علم التاريخ; لأن نقوش كتابتها تدرك بالبصر وأصوات حروفها بالسمع ولا يحتاج إلى العقل. (ش)

إليها من تلك الأسرار ولا يحملها سماع تلك الغرايب على الاستنكار.

قوله: (أو أخلاق حسنة) أي صاحب أخلاق حسنة، بحذف المضاف. ويحتمل أن يكون إطلاق الأخلاق مجازا عن إطلاق اسم المتعلق على المتعلق، واسم الحال على المحل وهي قلوب أعدها الله تعالى من أجل اتصافها بالأخلاق الحسنة; لقبول الصواب والحق من أهل العلم، فإن عرفوا له محملا صحيحا حملوه، وإن عجزوا عن معرفته ردوا علم كنهه وحقيقته إلى أهل العلم والترديد من باب منع الخلو.

قوله: (إن الله أخذ) أي إن الله أخذ من شيعتنا في عالم الأرواح الميثاق على ولايتنا كما أخذ من بني آدم كلهم الميثاق على ربوبيته، وفيه دلالة على أن غير الشيعة لم يقروا لهم في عالم الأرواح بالولاية، كما لم يقروا لهم بها في عالم الأبدان، يدل على ذلك ما روي عن الباقر (عليه السلام) «من أن الله تعالى دعا الخلق في الظلال إلى ولايتنا فأقر بها لله من أحب، وأنكرها من أبغض وهو قوله: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (1) ثم قال (عليه السلام) كان التكذيب ثم».

قوله (فمن وفى لنا) قال الفاضل الأسترآبادي: قد وقع التصريح في كلامهم (عليهم السلام) بأن فعل الأرواح في عالم الأبدان موافق لفعلهم يوم الميثاق فالمراد: من وفى لنا في عالم الأرواح وعالم الأبدان بما كلفه الله تعالى من التسليم، وفى الله له بالجنة.

قوله (ومن أبغضنا) أي ومن أبغضنا في عالم الأبدان كما أبغضنا في عالم الأرواح ولم يرد الينا حقنا الذي هو الولاية ولم يسلم لنا فهو في النار خالدا مخلدا ولم ينفعه الإقرار بالربوبية كما لا ينفعه مع انكار النبوة، لأن النافع إنما هو الإيمان والإيمان إنما هو الإقرار بالجميع.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى وغيره، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابنا قال: كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) جعلت فداك ما معنى قول الصادق (عليه السلام) «حديثنا لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان» فجاء الجواب إنما معنى قول الصادق (عليه السلام) «أي لا يحتمله ملك ولا نبي ولا مؤمن»: أن الملك لا يحتمله حتى يخرجه إلى ملك غيره والنبي لا

ص:8


1- 1 - قوله «وما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» إن قيل ظاهر هذه اللفظة يدل على الجبر وأن من لم يقر بولايتهم في الميثاق فلا بد أن لا يقر بهم في الدنيا، قلنا ظاهر الألفاظ حجة في العمل والفرعيات، وأما في الأصول الاعتقادية فلا، ولذلك لا نلتزم بأن الواجب الاعتقاد بالجبر لمن سمع مثل هذه الرواية إلى أن يقوم القرينة على خلافها كما نقول في العمل الذي لا محيص عن امتثاله بل نقول يجب فيه التوقف حتى يبين وجهه وسيجئ في محله، وقد مضى شيء منه في أواخر المجلد الرابع وأوائل الخامس. (ش)

يحتمله حتى يخرجه إلى نبي غيره والمؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره، فهذا معنى قول جدي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (ما معنى قول الصادق (عليه السلام) حديثنا لا يحتمله ملك مقرب) لما كان ظاهر هذا الحديث أن حديث فضائلهم (عليهم السلام) لا يحتمله هؤلاء المقربون ولا يؤمنون به وهو باطل، سأله سائل عن محمل صحيح (1) له فأجاب (عليه السلام) بأن الغاية محذوفة ومعناه أنهم لا يحتملونه حتى يؤدونه ويخرجون

ص:9


1- 1 - قوله «و هو باطل سأله سائل عن محمل صحيح» الكلام ليس خاصا بفضائلهم (عليهم السلام) وليس عاما أيضا لجميع فضائلهم، بل في كل باب من أبواب الأصول أسرار، لا يحتملها إلا ملك مقرب... الخ. أما مع كلمة إلا الاستثنائية بمعنى أن الملك المقرب والنبي المرسل والمؤمن الممتحن يحتملونه. وأما بحذف كلمة إلا بمعنى أن الملك المقرب أيضا لا يحتمله، والإشكال فيه على الحذف أنه إذا لم يحتمله هؤلاء فلا يحتمله غيره بالطريق الأولى، فما فائدة ذكر هذا الحديث و نقله وروايته إذا لم يحتمله أحد. الجواب عن الإشكال على ما نسب في هذه الرواية إلى الإمام (عليه السلام) أن المقصود ليس عدم احتمال الملك المقرب وغيره لهذا الحديث مطلقا بل يحتمله; ليوصل الحديث الصعب إلى غيره، وكان الشارح لم يرض بهذا الجواب وتمسك بالتسليم ورد علمه إليهم والحق أن الرواية ضعيفة والراوي مجهول، ولازم هذا الجواب أن الاحتمال بمعنى النقل والرواية، مع أن الظاهر بل صريح ما يأتي في الحديث الخامس أنه بمعنى القبول والإدراك، فإن صح حديث الحذف، كان المفاد أن الملك المقرب أيضا لا يدرك ولا يفهم حديثهم، فالوجه أن يحمل على ما لم يظهر منهم (عليهم السلام) أصلا لا ما نقل واشتهر وتداول من حديثهم ووجد بأيدي الناس إذ يخلو حينئذ نقله عن الفائدة. وربما ينصرف ذهن الماديين والملاحدة من هذا الحديث إلى أن مسائل الإمامة وأمثالها من مسائل ما وراء الطبيعة التي ليس للإنسان قوة على دركها ولذلك هي صعب مستصعب وإنما الإنسان له قوة الحس فقط والحس لا يجاوز أجسام هذا العالم المادي. وفيه أن هذا غير مفهوم من هذا الحديث بل المستفاد منه أن بعض المسائل لغموضه مما لا يصل إليه ذهن أكثر أفراد الإنسان ولا ينافي ذلك وجود قوة على ادراك ما وراء الطبيعة بل تلك القوة هي الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، ثم إن هذا المعنى الخبيث الباطل لا يصح نسبته إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مع أن شأنهم صرف الأذهان إلى إدراك ما وراء الطبيعة والتفكر فيه وذم الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ومنع الناس عن القول بالتقليد ومتابعة الكبراء وأمرهم بالتدبر والتعقل في أدلة التوحيد والنبوة والمعاد، فلو كان مسائل ما بعد الطبيعة مما لا يصل إليه ذهن الإنسان بطل هذه كلها، والعجز عن البعض لا يوجب العجز عن الكل كما أن عجز البصر عن رؤية بعض الأشياء لا يوجب عجزه عن رؤية كلها ولو كان عجز العقل عن إدراك بعض المسائل العويصة الإلهية موجبا لإنكار قوة للإنسان يدرك بها الكليات المعقولة، كان عجزه عن إدراك بعض المبصرات موجبا لإنكار القوة الباصرة التي يدرك بها الجزئيات المبصرة والحق انه ليس بين مسائل ما وراء المادة والمسائل الطبيعة فرق أصلا والمادي يدق فطنته عن ادراك المسائل المادية العويصة، كما يدق عن مسائل ما بعد الطبيعة، ولذلك لا يعترفون بتناهي الأبعاد; لضعف عقلهم عن إدراكه، ولا بوجود الصورة النوعية النباتية والحيوانية، ويتحيرون في سر الحياة ولا يعلمون أن المادة أصل للقوى، أو القوى أصل للمادة، ولا يتعقلون أن المادة استعداد محض وأن القوة أعني مبدأ التأثير من جانب الصورة إلى غير ذلك. (ش)

غيرهم ممن هو أهل له. أقول وله محمل آخر وهو أن لهم (عليهم السلام) علوما وأسرارا مخصوصة بهم لا يحتملها ولا يعلمها هؤلاء المقربون كما يأتي في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ولكن ما أجاب به (عليه السلام) وجب التسليم به.

قوله (و المؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره) انما قال إلى مؤمن للتنبيه على أن المؤمن المحتمل لحديث فضائلهم يجب أن يكون أمينا يعني ما يلقى إليه منه يوصله إلى أمين مثله ويحفظ عن الإذاعة إلى من لا يحتمله ولا ينتفع به ولا يكون أهلا له. وقد دلت الروايات المتكثرة على وجوب كتمان العلم عن غير أهله.

* الأصل:

5 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن منصور بن العباس، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) يا أبا محمد إن عندنا والله سرا من سر الله وعلما من علم الله والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان والله ما كلف الله ذلك أحدا غيرنا ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا وإن عندنا سرا من سر الله وعلما من علم الله، أمرنا الله بتبليغه؟ فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك - أقواما خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته، ومن نور الله منه محمدا وذريته، وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمدا وذريته، فبلغنا عن الله ما امرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك [فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه] وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا، لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه.

ثم قال: إن الله خلق أقواما لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا: ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق، فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة ليكون ذلك دفعا عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن امر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله بالستر والكتمان عنه، قال: ثم رفع يده

ص:10

وبكى وقال: اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدوا لك فتفجعنا بهم، فإنك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبدا في أرضك و صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

* الشرح:

قوله (إن عندنا والله سرا من سر الله) إن كان «من» للتبعيض يستفاد منه أن بعض الأسرار والعلوم مختص به سبحانه وبعضها أظهر لهم (عليهم السلام) وهو على قسمين قسم يختص بهم وقسم لا يختص بهم بل هم مأمورون بتبليغه إلى الخلق ولا يقبله منهم إلا من كان بينه وبينهم مناسبة ذاتية وموافقة روحانية ولا بد من استثناء نبينا (عليه السلام) من قوله «ولا نبي مرسل» لأنه أولى بالاختصاص بذلك العلم المختص بهم إذ منه وصل إليهم.

قوله (فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة) الظاهر أن الحمالة بتشديد الميم من صيغ المبالغة، والتاء إما للمبالغة كعلامة أو للتأنيث بتقدير موصوف مؤنث أي طائفة حمالة، ثم القابل لذلك العلم باعتبار أنه يوضع فيه يسمى موضعا، وباعتبار أنه مستعد لقبوله يسمى أهلا، وباعتبار أنه يحتمله يسمى حمالة، فهي بالذات واحد، وبالاعتبار مختلف.

قوله (حتى خلق الله لذلك أقواما من طينة) لما علم الله تعالى أن أقواما يقبلون حديث محمد وذريته (صلى الله عليه وآله) خلقهم لطفا وتفضلا من طينتهم وأصلهم; ليكون ذلك معينا لهم في القبول والتحمل وليرجعوا في الدنيا والآخرة إلى أصلهم فلا يلزم الجبر ولا الظلم في خلق من عداهم من غير طينتهم، وحينئذ قوله فيما بعد «فلو لا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك» معناه أن كونهم كذلك أي قائلين محتملين لحديثهم، لأجل تحقق خلقهم من هذا معين لهم في القبول والتحمل أو لأن تحقق المسبب دليل على تحقق السبب وعدم نقيضه، وبعبارة أخرى: لما خلق الله تعالى طينتهم (عليهم السلام) وأرواحهم نورانيين وأشرقت أنوارهم على طينة كل من يحتمل حديثهم وسلم لهم في عالم الأعيان وعلى أرواحهم بحيث يستضيء بنورهم في عالم الأنوار، كل من يستضيء بنورهم في عالم الأبدان على أن يكون ذاك سببا عن هذا كما أن ظل الشيء مسبب عنه خلقه الله تعالى من نور طينتهم وأرواحهم فهو نوراني في العالمين كما أن من لم ينتفع بحديثهم ولم يسلم لهم ظلماني فيهما، وهذا الذي ذكرته من باب الاحتمال (1) والله - تعالى شأنه - عالم بحقيقة الحال.

ص:11


1- 1 - قوله «ذكرته من باب الاحتمال» كأن الشارح أحس في توجيهه لنفي لزوم الجبر دغدغة وذلك لأن خلق أفراد الإنسان من طينتين مختلفتين إن استلزم ترتب ما يترتب عليها من الخير والشر قهرا لزم الجبر وهو ظلم، وإن لم يستلزم بل اقتضى أقربية من خلقهم الله من الطينة الطيبة إلى الخير ومن خلقهم من الطينة الخبيثة إلى الشر لزم التبعيض والظلم، ومقتضى العدل أن يخلق جميع الناس من طينة واحدة حتى يتساوى نسبة جميعهم إلى الخير والشر، وبالجملة يجب تأويل أخبار الطينة بما لا يوجب الجبر ولا أقربية بعض الناس إلى الشر من بعض. (ش)

قوله (و صنعهم بفضل رحمته) يعني رحمته تعلقت أولا بصنع محمد وذريته (عليهم السلام) ولذلك سماه رحمة للعالمين، وثانيا بصنع شيعتهم ومواليهم وهم الذين كانوا في علم الله تعالى تابعين لأقوالهم وأعمالهم قابلين لاشراقاتهم وأنوارهم ثم خلق من عقبه أقواما كانوا في علم الله تعالى نافرين من نورهم مائلين إلى الظلمة وهو الذي سبقت رحمته غضبه.

قوله (فقبلوه واحتملوا ذلك) (1) لعل المراد بالاحتمال: الإذعان بالجنان، وبالقبول: التصديق باللسان بأن يقول هذا حق ويحتمل العكس كما يحتمل التأكيد.

قوله (فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه) الظاهر أنه تأكيد للأول، ويحتمل أن يكون الأول مختصا بمن سمع مشافهة، والثاني بمن سمع بواسطة.

قوله (إلى معرفتنا وحديثنا) العطف إما على المضاف، أو على المضاف إليه، والمراد بالمعرفة:

التصديق بولايتهم والإذعان بصدق حديثهم.

قوله (ثم قال: إن الله خلق أقواما لجهنم والنار) اللام للعاقبة لا للتعليل يعني أنه خلق أقواما عاقبة عملهم دخول النار لردهم التكليف الأول بالولاية (2) في عالم الأرواح والتكليف الثاني بها في عالم الأبدان والفائدة في التكليف الثاني هي التأكيد وإلزام الحجة والتنبيه عن الغفلة ولجريان الحكمة على عدم التعذيب بدونه كما قال جل شأنه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

قوله (واشمأزوا من ذلك إلى قوله ساحر كذاب) يريد أنهم أنكروا ذلك ظاهرا وباطنا، أما باطنا فلأنه لم يحصل لهم التصديق. والإذعان به وأما ظاهرا فلأنهم نسبوا الكذب والافتراء إليه، كل ذلك لمانع اختياري لهم هو معارضة الحق الصريح والنص الصحيح بمقدمات باطلة خيالية، والقدح فيهما باحتمالات فاسدة وهمية كاحتمال السحر ونحوه.

قوله (فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك) لما أعرضوا عن الحق وأنكروه وأبطلوا استعدادهم

ص:12


1- 2 - قوله «فقبلوه واحتملوا ذلك» هذا تصريح بأن الاحتمال بمعنى الفهم والقبول دون النقل والرواية كما سبق الإشارة إليه. (ش)
2- 3 - قوله «التكليف الأول بالولاية» تسميته تكليفا لا يخلو عن مسامحة بل التكليف إنما هو في دار التكليف أعني الدنيا. (ش)

الفطري (1) استحقوا سلب اللطف عنهم، فشبه ذلك بالطبع لأنه مانع من دخول الحق في قلوبهم كالطبع، قال الفاضل الأسترآبادي: هذا صريح في أن إضلال الله تعالى بعض عباده من باب المجازاة لا الابتداء كما زعمته الأشاعرة.

قوله (ثم اطلق الله لسانهم) أي وفقهم لذلك وهداهم إليه لا لأن ينفعهم به بل لأن يدفع به ضررهم عن أوليائه.

قوله (فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه) قال الله تعالى فيما ناجى موسى بن عمران (عليه السلام) «إني أنا الله فوق العباد والعباد دوني وكل لي داخرون، فاتهم نفسك ولا تأتمن ولدك على دينك إلا أن يكون ولدك مثلك يحب الصالحين».

قوله (فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم) المحيا: مفعل من الحياة وهو ضد الموت، أي اجعل حياتهم مثل حياتنا في صرفها إلى طاعاتك والتوصل إلى مرضاتك، واجعل موتهم مثل موتنا في الابتهاج بدخول جنانك والسرور بمشاهدة رضوانك، ويحتمل أن يكون المراد اجعل زمان حياتهم و موتهم مثل زمان حياتنا وموتنا فيما ذكر.

قوله (ولا تسلط عليهم عدوا لك) طلب دفع قدرته عنهم ورفع امضاء شوكته منهم.

قوله (فتفجعنا بهم) أي فتوجعنا بسبب تسلط العدو عليهم أو فتوجعنا معهم وقد يكنى به عن الهلاك وهو الأنسب هنا بالسياق.

ص:13


1- 1 - قوله «وأبطلوا استعدادهم الفطري» تصريح بأن هؤلاء الأقوام ذوو استعداد فطري نحو الخير وليس معنى خلقهم من طينة خبيثة قهرهم على الباطل والشر أو تقريبهم إليهما، وبالجملة قيد الشارح (رحمه الله) كل كلمة يتوهم منها الظلم والجبر بقيد يندفع منه احتمال ذلك. وهنا سؤال وهو أنه ما الفرق بين ما تحقق عقلا ونقلا من اختلاف استعداد أفراد الناس في الفهم والإدراك كما مر في أول الباب، وبين اختلاف فطرتهم في قبول الحق والتوحيد والولاية؟ قلنا أما الأول فلا يجب ظلما ولا جبرا وكل من له استعداد لشيء يجزي على قدر استعداده، كما لا يعد حرمان الحيوان عن علوم الإنسان ظلما ولا حرمان البليد عن فضائل الفطن جبر بعد أن لكل منهما ثوابا على عمله بقدر استحقاقه، وأما محرومية الملحد والناصب عن التوحيد والولاية بمقتضى الفطرة قهرا ثم عقابه على تلك المحرومية القهرية ظلم ولو فرض محالا أن بعض أفراد الإنسان بمنزلة السباع ليس فيهم فطرة نحو الخير بل مجبولون على الشر ومجبورون عليه التزمنا بنفي التكليف عنهم كالمجانين. (ش)

باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان ابن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافى دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.

و رواه أيضا عن حماد بن عثمان، عن أبان، عن ابن أبي يعفور، مثله، وزاد فيه: وهم يد على من سواهم، وذكر في حديثه أنه خطب في حجة الوداع بمنى في مسجد الخيف.

* الشرح:

قوله (في مسجد الخيف) بفتح الخاء وسكون الياء ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يسمى مسجد الخيف; لأنه في سفح جبلها.

قوله (نضر الله عبدا) نضره ونضره وأنضره أي نعمه، فنضر ينضر من باب نصر وشرف يتعدى ولا يتعدى، وفي النهاية: روى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره، وفي المغرب عن الأزدي: ليس هذا من الحسن في الوجه، وانما هو في الجاه والقدر، واستدل النافي لنقل الحديث بالمعنى بهذا الحديث، الجواب لا يدل هذا على المطلوب لأنه دعا لمن نقله بصورته لأنه أولى وأحسن ولا نزاع في أن نقله بصورته أولى، وقد مرت الروايات الدالة على جواز نقله بالمعنى على أنه يمكن حمل هذا الحديث على مطلق حفظه وتبليغه الشامل لحفظ المعنى وتبليغه فإن من سمع الحديث وضبط معناه وبلغه صح أن يقال أداه كما سمعه ولذلك صح أن يقول المترجم أديته كما سمعته.

قوله (قرب حامل فقه) (1) تعليل للتبليغ وإشارة إلى فائدته فإن المبلغ إليه قد يكون فقيها دون

ص:14


1- 1 - قوله «فرب حامل فقه» تصريح بأن قوة الاجتهاد شيء زائد على نقل الروايات وحفظ المسائل، ولذلك قد لا يكون حامل الفقه فقيها. (و الفقيه هنا بمعنى المجتهد في عرف المتأخرين) والسر فيه أن بعض الناس ناقصوا الاستعداد يقرب ذهنهم من أذهان الماديين ونفوسهم متوجهة إلى الحواس الخمس ويسهل عليهم إدراك المحسوسات وحفظها دون الكليات والمعقولات فيطالبون الكتب لأن نقوش الكتابة تدرك بالبصر ويحفظون ألفاظ المنقولات لأن أصوات الحروف تدرك بالسمع ولا يعسر عليهم ذلك، أما التنبه للمعاني غير المدركة بالسمع والبصر فمعسور عليهم وخلقهم الله لنقل العلم إلى غيرهم الذين يسهل عليهم التنبه للكليات والمعاني ولا يتمحضون كالجماعة الأولى لحفظ المحسوس والمسموع، والجامعة البشرية محتاجة إلى وجود كلتا الطائفتين، ولم يهمل الحكمة الأزلية مصلحتهم وهو مقتضى قاعدة اللطف (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وكل ميسر لما خلق له. فإن قيل: أليس الفقه عندنا مأخوذا من النصوص دون القياس والاعتبار، أو ليس ظواهر الألفاظ حجة؟ أو ليس فهم المعنى من اللفظ مشتركا بين جميع من عرف اللغة العربية؟ وإذا كان هذا حقا فكيف يعقل أن يكون حامل الألفاظ غير فقيه؟ قلنا: الاختلاف في فهم المراد من القرائن اللفظية والمعنوية الداخلية والخارجية وغير خفي ويتفاضل الناس في ذلك تفاضلا بينا جدا، ونضرب لذلك مثالا وهو أن صلاة الاحتياط بعد الشك في عدد الركعات هل هي صلاة مستقلة يصح أن يؤخر عن الصلاة الأصلية أو يجب فعلها متصلة بها وفهم أكثر العلماء من الروايات الواردة فيها أن فعلها لأجل تتميم الصلاة على فرض نقصها واقعا، ومبناه على الاحتياط بحيث يتيقن المصلي أنه فعل ما أراده الشارع فإن كانت أصل الصلاة كاملة فقد أتى بصلاة الاحتياط مفصلة بالتكبير والنية ولم يدخل المشكوك في المتيقن، وإن كانت ناقصة كانت جبرا لنقصها، وتبادر ذهنهم بالقرينة العقلية واللفظية إلى وجوب الاتصال والفور بعد تكميل الأصل، وعلم عدم قدح الفاصلة بالتكبير والنية في تتميم الأصل بصلاة الاحتياط تعبدا ولم يفهم بعضهم ذلك بتلك القرائن. وهذه هي المسألة التي اختلف فيها نظر الحكيم المتأله المولى علي النوري وصاحب القوانين (قدس سرهما) في الرسالة المشهورة التي كتبها إليه وأجاب عنها على ما نقل في جامع الشتات وذلك أن المولى المذكور (رحمه الله) استنبط باجتهاده أن صلاة الاحتياط تصح منفصلة عن الصلاة الأصلية وكان بناؤه على إعادة الاحتياطات التي فعلها سابقا لعلة ذكرها، لكن كان في قلبه دغدغة الاحتمال وجوب اتصال الاحتياط بالأصل، كما هو المشهور، ورفع صاحب القوانين دغدغته بتصويب الفعل، ولكن المشهور مخالف لفتوى صاحب القوانين، وكانت دغدغة المولى في محله، ولعل الله يوفقنا لبيان ذلك تفصيلا فيما يأتي إن شاء الله. (ش)

المبلغ وقد يكون أفقه منه فهو ينتفع منه ما لا ينتفع به المبلغ ويفهم منه إن نقل بصورته مالا يفهمه الناقل فالأولى أن يكون نقله بصورته لئلا يفوت شيء من الأغراض.

قوله (ثلاث لا يغل قلب امرئ مسلم) أي يغل فيها وهذا إما نهي أو خبر في معناه، ويغل إما بضم الياء من الإغلال وهو الخيانة في كل شيء، بخلاف الغلول فإنه خيانة في المغنم خاصة أو بفتحها من الغل وهو الحقد والشحناء أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق أو من الوغول وهو الدخول في الشر يقال: يغل - بالتخفيف - إذا دخل فيه والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر كما صرح به ابن الأثير.

ص:15

قوله (والنصيحة لأئمة المسلمين) النصيحة إرادة الخير للمنصوح والمراد بها طاعة الأئمة وإعانتهم على الحق وتأليف القلوب إلى انقيادهم والصلاة خلفهم والجهاد معهم وبالجملة إرادة كل ما هو خير في الدنيا والآخرة لهم وترك الغش عليهم ويمكن تعميم الأئمة بحيث يتناول العلماء أيضا، ومن النصح لهم قبول رواياتهم والرجوع إليهم في الأحكام وحسن الظن بهم والذب عنهم وعن أعراضهم وتوقيرهم وجلب المنافع المشروعة إليهم وسد خلتهم وترك حسدهم وغشهم ودفع الضرر عنهم.

قوله (و اللزوم لجماعتهم) أي الحضور فيها والدوام عليها والاهتمام بها على قدر الإمكان وانما خص الثلاثة المذكورة بالذكر لأنها أصول لجميع الخيرات وفروع للإيمان الحقيقي بالله وبرسوله وباليوم الآخر.

قوله (فان دعوتهم محيطة من ورائهم) تعليل للزوم الجماعة وترغيب في حضورها والدعوة أخص من الدعاء لأنها للمرة الواحدة، والمراد أن دعوتهم تحيط بهم أي تحدق بهم من جميع جوانبهم وتحفظهم من جميع جهاتهم، يقال: حاطه يحوطه حوطا وحياطة إذا حفظه وذب عنه، وأحاط به إذا أحدقه من جميع جوانبه، ومنه قولك: أحطت به علما أي أحدق علمي به من جميع جهاته وعرفه من كل وجه.

قوله (والمسلمون إخوة تتكافى دماؤهم) أي يتساوى في القصاص والجنايات والديات لا تفاوت بين الشريف والوضيع، وا لكفؤ النظير والمساوي.

قوله (و يسعى بذمتهم أدناهم) المراد بالذمة عهد الأمان الذي يجعله بعض المسلمين للعدو، يعني إذا أعطى أحد من المسلمين وإن كان أدناهم العدو أمانا جاز ذلك على جميع المسلمين (1)

ص:16


1- 1 - قوله «جاز ذلك على جميع المسلمين» يعني وجب على جميع المسلمين الوفاء بعهد آحادهم في الأمان فالجواز بمعنى المضي و يصير الحربي بالأمان محقون الدم و مصون المال بل شبهة الأمان أيضا كذلك، وحاصل الكلام: أن الكافر الحربي الذي يحل ماله و دمه ولا حرمة له إنما هو غير المعاهد وغير صاحب الشبهة فلا يجوز قتله غيلة و اختلاس أمواله حين يعتقد كونه مصونا و لا يحترز فإذا دخل بلدا بظن الأمن واعتقاد أنه لا يتعرض له أحد من المسلمين و لو لشبهة غلط فيها فهو آمن، وإنما يجوز قتل من يحتمل القتل و يمكنه التحرز ومع ذلك لا يبالي و يلقي بنفسه إلى التهلكة حتى يكون عهدة هلكه عليه. قال العلامة (رحمه الله) في القواعد: كل موضع حكم فيه بانتفاء الأمان إما لصغر العاقد أو جنونه أو لغيره ذلك فإن الحربي لا يغتال بل يرد إلى مأمنه ثم يصير حربيا، وكذا لو دخل بشبهة الأمان مثل أن يسمع لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب رفقة أو يدخل في تجارة إلى آخره. فعقد الأمان إما صحيح وإما باطل، وللصحيح شرائط مذكورة في الفقه منها أن آحاد المسلمين يجوز لهم عقد الأمان لآحاد الكفار و لا يجوز عاما لجميع الكفار ولا لأهل إقليم و لا لبلد و لا لقرية وحصن وإنما ذلك خاص بالإمام ومن نصبه له و خص بعضهم عقد الآحاد بالعشرة فما دون من الكفار و لا يجوز للواحد التجاوز عن العشرة فان كان تخصيصهم مستفادا من لفظ الآحاد وأنه في مقابل العشرات و المئات فالمستند ضعيف، وإن كان لنص فإنا لم نره، وإن كان لإجماع فلم يثبت لنا، والحق أن ذلك غير خاص بعدد نعم نعلم عدم جواز تأمين الآحاد للحصن والقرية وأمثالهما بالسيرة والعادة و أنه لو جاز تأمين الآحاد لحصن أو قرية من الكفار لبطل أمر الجهاد والحصار وتشوشت عساكر المسلمين وفسد الأمر على الامام، وأما إن كان عقد الأمان فاسدا و صار شبهة للكفار فدخلوا بلاد الإسلام باعتقاد الأمن لم يجز سلب مالهم و قتلهم ولا الخيانة في أماناتهم و ودايعهم كما استفيد من عبارة القواعد، بل للإمام الحق أن يبلغهم مأمنهم و لسائر المسلمين أن لا يتعرضوا لهم، و منه يعلم حكم الكفار الذين يدخلون بلاد الإسلام في زماننا باعتقاد الأمن وشبهة المعاهدات الدولية وضمان الحكومات سواء كانوا تجارا أو سفراء أو عابري سبيل أو لغير ذلك من الأغراض وإن لم يكونوا ذميين و لا معاهدين بعهد صحيح صادر عمن هو أهله، والله العالم. (ش)

وليس لهم أن يظفروا ولا أن ينقضوا عليه عهده.

قوله (و رواه أيضا) فاعل «رواه» غير معلوم ولعله أحمد بن محمد أبي نصر فهو رواه عن أبان بن عثمان تارة بلا واسطة وتارة بواسطة مع زيادة وهي قوله (وهم يد على من وسواهم) أي هم متناصرون على أعدائهم ومجتمعون عليهم وعلى عداوتهم، وهو خبر بمعنى الامر يعنى لا يجوز لهم التخاذل بل يجب عليهم أن يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل بحيث يكون أيديهم كيد واحدة وفعلهم كفعل واحد.

قوله (بمنى) منى بكسر الميم: اسم لهذا الموضع المعروف، والغالب عليه التذكير والصرف، وقد يكتب بالألف.

* الأصل:

2 - محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن علي بن الحكم، عن حكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد، قال: فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف، قال: دعني حتى أذهب في حاجتي فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك. فقال:

أسألك بقرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما حدثتني. قال: فنزل، فقال له سفيان مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته، فدعا به ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه: يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم

ص:17

محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافى دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم» فكتبه سفيان ثم عرضه عليه وركب أبو عبد الله (عليه السلام) وجئت أنا وسفيان.

فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث، فقلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله (عليه السلام) رقبتك شيئا لا يذهب من رقبتك أبدا فقال: وأي شيء ذلك؟ فقلت له: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله قد عرفناه، والنصيحة لأئمة المسلمين من هؤلاء الأئمة الذين تجب علينا نصيحتهم؟ معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وكل من لا تجوز شهادته عندنا ولا تجوز الصلاة خلفهم؟ وقوله: واللزوم لجماعتهم فأي الجماعة؟ مرجئي يقول من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح امه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟ أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس؟ أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب وشهد عليه بالكفر؟ أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شيء غيرها؟!! قال: ويحك وأي شيء يقولون؟ فقلت: يقولون: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والله الإمام الذي يجب علينا نصيحته، ولزوم جماعتهم: أهل بيته، قال: فأخذ الكتاب فخرقه ثم قال: لا تخبر بها أحدا.

* الشرح:

قوله (مر لي بدواة) في بعض النسخ «من لي بدواة» وهو بضم الميم وشد النون أمر من «المن» والاستفهام بعيد.

قوله (كما أنت) أي قف في مكانك وألزمه كما أنت فيه.

قوله (مرجئي) المرجئة بالهمزة والمرجية بالياء: فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، يقال: أرجأت الامر وأرجيته بالهمزة أو الياء إذا أخرته، والنسبة إلى المهموز «مرجئي» بضم الميم وسكون الراء وكسر الجيم وتشديد الياء وإلى غيره مرجي بياء مشددة عقيب الجيم.

قوله (أو قدري) قد ذكرنا في باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين أن القدرية تطلق على معنيين أحدهما - وهو الأشهر - أنهم الفرقة المجبرة الذين يثبتون كل الأفعال بقدر الله وينسبون القبايح كلها إليه، وثانيهما المفوضة الذين يقولون فوض الله جميع أفعال العباد إليهم بحيث يخرجون عن ربقة الانقياد له من غير أن يكون له تصرف وتدبير وإرادة فيها، والأخير هو الأنسب هنا بقرينة قوله: «لا

ص:18

يكون ما شاء الله ويكون ما شاء إبليس» فنفى أن يكون له تعالى مشية وإرادة وتدبير وتصرف في أفعال العباد وأثبت ذلك لإبليس، وقد مر فساد ذلك في ذلك الباب.

قوله (أو حروري) الحرورية: فرقة من الخوارج منسوبة إلى «حروراء» بالمد والقصر وفتح الحاء فيهما، وهي قرية قريبة من الكوفة كان أول جماعتهم وتحكيمهم فيها وإنما سموا بذلك لأنهم لما رجعوا عن الصفين وأنكروا التحكيم نزلوا بحروراء وتآمروا فيها على قتال علي (عليه السلام) فسموا حرورية.

قوله (أو جهمي) في المغرب: رجل جهم الوجه: عبوس، وبه سمى جهم بن صفوان المنسوب إليه الجهمية وهي فرقة شايعته على مذهبه وهو القول بان الجنة والنار تفنيان وأن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار ودون سائر الطاعات وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله وأن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجر تحركه الريح فإن الإنسان لا يقدر على شيء إنما هو في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الأفعال فيه على حسب ما يخلق في الجمادات (1) وتنسب إليه مجازا كما تنسب إليها ولا يجوز الاقتداء بالجهمي.

قوله (إنما هي معرفة) الضمير راجع إلى الإيمان، والتأنيث باعتبار الخبر.

قوله (ليس الإيمان شيء غيرها) (2) «شيء» مرفوع في جميع النسخ التي رأيناها، ولعل وجهه أن اسم ليس ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها، أو أن خبرها - وهو الإيمان - مقدم على اسمها وهو «شيء».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جمعيا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما نظر الله عز وجل إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه والنصيحة إلا كان معنا في الرفيق الأعلى.

* الشرح:

قوله (في الرفيق الأعلى) قيل يعني به الملائكة والنبيين الذين يسكنون أعلى عليين وهو اسم

ص:19


1- 1 - قوله «على حسب ما يخلق في الجمادات» ويسمونه الجبرية الخالصة ولا يعترف الأشعرية بأنهم مجبرة. وجهم بن صفوان ظهر بمرو أواخر دولة بني أمية وقتلوه. (ش)
2- 2 - قوله «ليس الإيمان شيء غيرها» ويدل هذا الحديث على أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومعاصريهم كانوا يقيدون ألفاظ الأحاديث بالدليل العقلي والمتواتر من النقلي وهو الذي يأبى عنه الأخباريون المتأخرون، فإن قوله «النصيحة لأئمة المسلمين» الأئمة لفظ عام يشمل العادل والجائر، وقيده الراوي بالعادل وأخرج منه معاوية وأمثاله، وقبل منه سفيان، وكذلك قوله «لزم جماعة المسلمين» قيده بغير المرجي والخارجي والقدري وغيرهم بدليل العقل. (ش)

جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط يقع على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى (و حسن أولئك رفيقا) والرفيق: المرافق في الطريق وقيل يعني به الله تعالى يقال الله رفيق بعبادة من الرفق وهو الرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل والمراد في قربه.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

* الشرح:

قوله (من فارق جماعة المسلمين قيد شبر) يقال بينهما قيد شبر وقادة شبر أي قدره وفيه ترغيب في الكون معهم ظاهرا أو باطنا والمراد بهم الأئمة عليهم السلام أو الأعم منهم بشرط أن لا يكونوا من أهل البدعة وبالمفارقة المفارقة على وجه الاستنكاف والاستكبار والشناعة والمراد بها ترك السنة واتباع البدعة، والربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها أو رجلها تمسكها وإضافتها إلى الإسلام من باب إضافة المشبه به إلى المشبه والوجه هو الحفظ من الوقوع في المهالك، وذكر الخلع والعتق ترشيح للتنبيه، أو من باب الإضافة بتقدير اللام بأن يراد بها على سبيل الاستعارة ما يشد به المسلم نفسه من حدود الإسلام وأحكامه وأوامره ونواهيه وتجمع الربقة على ربق ك (لقحة) على لقح وكسرة على كسر، ويقال للحبل الذي فيه الربقة ربق ويجمع على رباق وأرباق مثل قداح على أقداح وحمل على أحمال.

* الأصل:

5 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإبهام جاء إلى الله عز وجل أجذم.

* الشرح:

قوله (صفقة الإبهام) في بعض النسخ «صفقة الإمام» في المغرب: الصفقة ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، ثم جعلت عبارة عن العقد نفسه. وفي النهاية: هي أن يعطى الرجل عهده وميثاقه لأن المتعاقدين يضع أحدهما يده في يد الآخر كما يفعل المتبايعان وهي المرة من التصفيق باليدين، والصفق: الضرب الذي يسمع له صوت وكذلك التصفيق.

قوله (أجذم) قال في النهاية: وفيه «من تعلم القرآن ثم نسيه لقى الله يوم القيامة وهو أجذم» أي مقطوع اليد من الجذم القطع ومنه حديث علي «من نكث بيعته لقى الله وهو أجذم ليست له يد»

ص:20

وقال القتيبي: الأجذم ليس مخصوصا بمقطوع اليد بل المراد به كل من ذهبت أعضاؤه كلها وليست اليد أولى بالعقوبة من باقي الأعضاء، يقال: رجل أجذم ومجذوم إذا تهافتت أطرافه من الجذام وهو الداء المعروف. وقال ابن الأنباري: معنى الحديث أنه لقي الله وهو أجدم الحجة لا لسان له يتكلم ولا حجة في يده، وقول علي (عليه السلام) «ليست له يد» أي لا حجة له وقيل معناه لقيه منقطع السبب، وقال الخطابي: معنى الحديث ما ذهب إليه ابن الأنباري وهو أن من نسي القرآن لقى الله خالي اليد من الثواب فكنى باليد عما يحويه ويشتمل عليه من الخير.

إذا عرفت هذا فنقول: الأجذم في حديثنا هذا يحتمل معاني أحدها مقطوع اليد، وثانيها مقطوع الأعضاء كلها، وثالثها مقطوع الحجة لا لسان له يتكلم به، ورابعها مقطوع السبب لا سبب له يتمسك به، وخامسها مقطوع الخير كله. والأول أرجح لأن البيعة تباشر اليد من بين الأعضاء; لأن المبايع يضع يده في يد الإمام عند عقد البيعة وأخذها عليه ثم الثالث; لأن اللسان يتكلم بالتعاهد والميثاق.

ص:21

باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عثمان عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق الإمام على الناس؟ قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قلت: فما حقهم عليهم؟ قال: يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية، فإذا كان ذلك في الناس فلا يبالي من أخذ ههنا وههنا.

* الشرح:

قوله (قال حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا) أي حقه عليهم أن يسمعوا لأقواله وأوامره ونواهيه ومواعظه ونصايحه وندائه إلى الجهاد وأن يطيعوه في جميع ذلك، لأن نظام الكلي الجامع لهم معه لا يتم بدون ذلك، وهذان الحقان وإن كانا له عليهم إلا أنه يطلبهما منهم لما يعود عليهم من نفع الدنيا والآخرة فإن السماع من الداعي إلى الله وإطاعته جاذبان للسامع والمطيع في الدنيا والآخرة إلى الخير والكرامة عنده تعالى.

قوله (قال يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية) أي حق الرعية على الإمام أن يقسم الفيء بينهم بالسوية (1) لا يفرق بين الشريف والوضيع كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلافته على خلاف ما فعله الثلاثة حتى أنه أعطى عمارا وعتيقه وطلحة والزبير على السواء فغضب طلحة والزبير ونكثا البيعة ورجعا عن الحق. وأن يعدل بين الرعية في التأديب والتعليم والتقسيم والتحديد

ص:21


1- 1 - قوله «يقسم الفيء بينهم بالسوية» قيد الشارح (رحمه الله) التسوية بالفيء وهو حق، والمراد من التسوية أن لا يرجح أحدا بغير رجحان واقعي شرعي وإن كان الرجحان لرجلين بالسوية سوى بينهما في العطية لا أن لا يرشح لأحد بفضله، وربما يتمسك الجهال بقوله (عليه السلام) «يقسم بينهم بالسوية» على أنه يجب على الإمام تقسيم جميع الأموال الموجودة في العالم بين الناس بالسوية على ما عليه الملاحدة الاشتراكية والفوضوية وأمثالهم، وهو باطل; إذ لم يجوز الإمام أن يغصب أموال الناس التي بأيديهم ويسلبها منهم ثم يقسمها بين الناس، وهذا خلاف الضروري من دين الإسلام بل جميع الأديان; ولذلك ينكر أصحاب هذه الآراء الفاسدة وجود الخالق جل شأنه ونبوة الأنبياء والشريعة الإلهية لأنهم يعلمون أن الاعتقاد بهذه الأشياء يناقض ما يريدون من تقسيم الأموال والإباحة المطلقة. (ش)

والنصيحة وفي جميع الأمور ولا يجوز فيهم; إذ بذلك يحصل صلاح الدنيا والدين ويتم نظام الألفة والاجتماع والتودد والعزة، وبخلافه يظهر معالم الجور والفساد ويفشو أسباب الظلم والعناد وتفترق الكلمة بين العباد. والعدل متوقف على العلم والحكمة والعفة والشجاعة والسخاوة وهذه الأمور لا تحصل إلا لمن تخلى عن جميع الرذائل وتحلى بجميع الفضائل.

قوله (فإذا كان ذلك في الناس) أي فإذا كان ذلك المذكور وهو السماع والإطاعة من الرعية، والتسوية والعدل من الإمام ظاهرا في الناس لا يبالي ولا يكترث (1) بمن أخذ ههنا وههنا أي ذهب إلى اليمين والشمال وأي جهات شاء أي بمن ذهب إلى مذاهب مختلفة، قال الفاضل الأسترآبادي:

معناه أن صاحب حق اليقين في دينه لا يحتاج إلى موافقة الناس إياه وإنما يحتاج إليه من يكون متزلزلا في دينه.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله إلا أنه قال: هكذا وهكذا وهكذا [وهكذا] يعني [من] بين يديه وخلفه وعن يمينه عن شماله.

* الشرح:

قوله (إلا أنه قال: هكذا وهكذا وهكذا) في أكثر النسخ ثلاث مرات وفي بعضها أربع مرات وهو الأنسب بالتفسير، والظاهر أن هذا العبارة وقعت موضع ههنا وههنا.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى العطار، عن بعض أصحابنا، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تختانوا ولاتكم ولا تغشوا هداتكم ولا تجهلوا أئمتكم ولا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم، وعلى هذا فليكن تأسيس اموركم

ص:23


1- 1 - قوله «لا يبالي ولا يكترث» ضمير الفاعل راجع إلى الإمام يعنى أن أكثر الناس إذا أطاعوا وعمل الإمام بينهم بالعدل والتسوية فلا يجوز له أن يكترث بمخالفة من خالف كطلحة وزبير وعائشة ومعاوية لأن العمدة هي قبول العامة. وينبغي أن يتفطن اللبيب هنا لما يشتبه على العامة بانصراف ذهنهم من الكلام إلى فروع غير لازمة، مثلا من قوله (عليه السلام) «حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا» ينصرف ذهنهم إلى أن للأمير أن يحكم بما أراد، وليس كذلك بل يجب عليه أيضا التقسيم بالتسوية والعدل، وقبول الناس وإطاعتهم مشروط بهما، وكذلك إذا قلنا للولي أن يتصرف في مال اليتيم وليس للصغير الاعتراض عليه بعد البلوغ لا يدل على عدم وجوب مراعاة الغبطة، وإذا قلنا يجب على الابن إطاعة والده لا يدل على جواز أن يأمره بالمعاصي، وهكذا، بل كل مقيد في فعله بشيء. (ش)

والزموا هذه الطريقة، فإنكم لو عاينتم ما عاين من قد مات منكم ممن خالف ما قد تدعون إليه لبدرتم وخرجتم ولسمعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريبا ما يطرح الحجاب.

* الشرح:

قوله (لا تختانوا ولاتكم) خانه في كذا خونا وخيانة واختانه أي عده خاينا ونسب الخيانة إليه، وهي تدخل في المال وغيره وفي جميع أعضاء الإنسان، ومنه خائنة الأعين أي ما تخونون فيه من مسارقة النظر إلى ما لا يحل، والخاينة بمعنى الخيانة وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعل، يعني: لا تنسبوا الخيانة إلى ولاة الحق وأئمة الصدق في الأموال والأحكام والعقايد والأقوال والأفعال والحركات والسكنات.

قوله (ولا تغشوا هداتكم) الغش بالكسر خلاف النصح - غشه يغشه - من باب نصر - غشا بالكسر: إذا لم ينصحه وأظهر عليه شيئا وأراد غيره، ومن الغش أن يريد بهم سوءا ومكروها وأن لا يأتمر بأوامرهم ولا ينتهي بنواهيهم ولا يذب عنهم ولا يتساوى نسبته إليهم في السراء والضراء.

قوله (ولا تجهلوا أئمتكم) (1) أي لا تنسبوا الجهل بأمر من الأمور مطلقا لا مركبا ولا بسيطا إليهم فإنهم حكماء ربانيون وعلماء إلهيون، خلقوا لبيان الحق وهداية الخلق إليه سبحانه فلا يجوز لهم الجهل بشيء وإلا لفات الغرض.

قوله (ولا تصدعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم) الصدع الشق ومنه تصدع الناس إذا تفرقوا، والحبل: النور، ومنه كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض أي نور ممدود يعني نور هداه، والعرب تشبه النور الممدود بالحبل والخيط. والحبل أيضا: العهد والميثاق والوسيلة والسبب والنصرة والقوة، والفشل: الفزع والجبن والضعف، والريح معروف وقد يكون بمعنى الغلبة والقوة وتستعمل أيضا في الدولة مجازا «وتفشلوا» وما عطف عليه مجزومان على أنهما جواب النهي، يعني: لا تتفرقوا عن النور الذي هو الإمام أو عن السبب الذي جعله الله وسيلة للتقرب منه والوصول إليه وهو التمسك بذيله أو عن عهده وميثاقه أو عن نصرته وقوته فإنكم إن تتفرقوا عنه تفزعوا باستيلاء الأعداء وتضعفوا عن مقاومتهم وتذهب غلبتكم عليهم وقوتكم في دفع صولتهم أو تذهب دولتكم باستعارة الريح لها من حيث أنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بالريح في هبوبه

ص:24


1- 1 - قوله «ولا تجهلوا أئمتكم» ظاهر الحديث يدل على أن كلامه (عليه السلام) كان بعد وقعة الصفين واختلاف الكلمة في أصحابه وانحراف ضعفاء الإيمان، ومقصوده من أئمتكم نفسه الشريفة وإطلاق الجمع وإرادة الفرد غير عزيز، وهو بمنزلة الكلى المنحصر في الفرد كالشمس والقمر، ويمكن أن يكون المراد أئمة الحق من ذريته وإن لم يتولوا أمر المسلمين في الحكومة والسياسة وأمور العامة أو ما يعم ذلك بفرض ثبوت الولاية الظاهرية. وعلى كل حال فلا يعم كلامه (عليه السلام) أئمة الجور قطعا لأن الإنسان إذ رأى الجهل في أحد كيف يمكن أن يؤمر بأن لا يجهله. (ش)

ونفوذه أو تذهب ريحكم الطيب وهو نور الإيمان، ويحتمل أن يراد بالريح المعنى المعروف فإن النصرة لا يكون إلا بريح يبعثه الله وفي الحديث «نصرت بالصبا وأهلك عادا بالدبور» وبالجملة:

التفرق عن الحبل المذكور وعدم التمسك به موجب لغلبة الأشرار ومذلة الأبرار.

قوله (وعلى هذا فليكن) «على» متعلق بالتأسيس، قدم للحصر، يقول: أسست البناء تأسيا إذا أحكمته، والمقصود: اجعلوا بناء أموركم الدنيوية والأخروية على هذا الأساس الذي ذكرته لكم والزموا هذه الطريقة المستقيمة في السير إلى الله تعالى ولا تفارقوها.

قوله (فإنكم لو عاينتم) تعليل لما ذكر، وترغيب فيه، وحث على قبوله، و «ممن خالف» بيان ل «من»، والخطاب لطايفة من عساكره، فإن أكثرهم لم يعرفوه حق معرفته، ويندرج فيه من يحذو حذوهم إلى يوم القيامة، يعني: أنكم لو عاينتم وشاهدتم بالمعاينة ما عاين من الأهوال والعقوبات من قد مات منكم وهو من خالف ما قد تدعون إليه (1) من بناء أموركم على ما ذكر ولزوم الطريقة المذكورة لبدرتم إلى ما تدعون إليه وأسرعتم إلى قبوله، وخرجتم عن المخالفة إلى الموافقة، وعن التثاقل من متابعة الهداة إلى التبادر فيها، ولسمعتم ما أقول لكم وأحرضكم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا لاقتضاء حكمة التكليف ذلك وقريبا ما - وهو وقت الموت أو يوم القيامة - يطرح الحجاب فترون وخامة عاقبتهم وشدة عقوبتهم.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن حماد وغيره، عن حنان بن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نعيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه وهو صحيح ليس به

ص:25


1- 1 - قوله «خالف ما تدعون إليه» من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرته وطريقته وهذا أيضا يدل على أن جماعة من مخالفيه كأصحاب الجمل والصفين كانوا قد مضوا وماتوا حين كان يتكلم (عليه السلام) بهذا الكلام، وظاهر قوله: «ما عين من قد مات منكم» انهم عاينوا العذاب الإلهي بعد الموت من غير ريث لمخالفتهم وكانوا حين تكلم أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الكلام معذبين وأن الأحياء إن كشف لهم الغطاء لأبصروا ما يلقونه من العذاب فعلا ولاعتبروا بهم وبدروا إلى ترك الخلاف وسارعوا إلى اطاعته (عليه السلام) والعود إلى الجهاد مع أعدائه، ويؤيد ذلك قوله «ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا» فإنه يدل على وجود العذاب فعلا ولو لم يقم القيامة بعد فإن العذاب لا يتوقف على ذلك، وبالجملة فمن كان مائتا من مخالفيه (عليه السلام) في حياته كان معذبا بمخالفته; لكن عذابه كان محجوبا عن الأحياء، فإذا طرح الحجاب لرأوا ما بهم وتابوا عن التثاقل. وهذا صريح فيما يقول علماؤنا من وجود العذاب والثواب في عالم البرزخ وأن ذلك نشأة من النشآت خفية عن أبصار أهل عالم الملك والشهادة في الدنيا لكونها من الغيب والملكوت وعالم الآخرة، والحاجب بين العالمين هو تعلق الروح بالبدن العنصري وطرح الحجاب بطرحه، ولذلك قرائن كثيرة وأدلة وبراهين في الروايات يعجز عن إحصائها المتتبع فكم قد ضل من أنكر النشآت وآخر الجزاء وأطال المدى، والله الهادي (ش).

وجع، قال: نزل به الروح الأمين، قال: فنادى (صلى الله عليه وآله) الصلاة جامعة وأمر المهاجرين والأنصار بالسلاح واجتمع الناس، فصعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر فنعى إليهم نفسه ثم قال: «اذكر الله الوالي من بعدي على امتي ألا يرحم على جماعة المسلمين فأجل كبيرهم ورحم ضعيفهم ووقر عالمهم ولم يضر بهم فيذلهم ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ولم يخبزهم في بعثهم فيقطع نسل امتي، ثم قال: [قد] بلغت ونصحت فاشهدوا». وقال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا آخر كلام تكلم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) على منبره.

* الشرح:

قوله (نعيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه) النعي خبر الموت، وهو يتعدى بنفسه، يقال نعى الميت ينعاه - من باب علم - إذا أذاع موته وأخبر به وإذا ندبه، فتعديته بإلى للتأكيد والمبالغة أو لتضمين معنى الإلقاء، والناعي ههنا هو نفسه المقدسة بإلهام رباني أو بنفخ روح القدس وهو الأظهر لقوله (نزله به الروح الأمين).

قوله (وأمر المهاجرين والأنصار بالسلاح) السلاح - بالكسر -: آلة الحرب، ولعل الغرض من أمرهم بالسلاح هو أن ينظر إلى شدة بأسهم واستعدادهم.

قوله (أذكر الله الوالي) (1) تقول أذكرته إذا جعلته على ذكر منه.

قوله (ألا يرحم) «الا» حرف التحضيض للتحريض على الرحمة والحث عليها.

قوله (فأجل كبيرهم) عدل عن المضارع إلى الماضي لإظهار الحرص على وقوع الفعل، وقد روى عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال «من إجلال الله ذي الشيبة المسلم» قيل وسر ذلك أنه أكبر سنا وأعظم تجربة (2) وأكيس حزما وأقرب من الرجوع إلى الله تعالى.

ص:26


1- 1 - قوله «أذكر الله الوالي» ربما يتوهم الجاهل من هذه العبارة صحة مذهب العامة وأنه (صلى الله عليه وآله) لم يعين الوالي بعده بالنص وإنما رشح عليا (عليه السلام) ليختاروه ويرجحوا إن أرادوا، ولكن المعلوم لا يندفع بالمحتمل، والذي يجب أن يقال هنا: إن الغرض تنبيه الناس وإعلامهم بما يجب على الوالي حتى يطالبوه إن بخس حقهم وتماطل، ويدفعوه إن أصر ويعلموا أن من لا يراعى حقوق الناس فليس واليا حقا يجب عليهم إطاعته بمقتضى قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) فينحصر الولاية الحقة في أمير المؤمنين (عليه السلام). (ش)
2- 2 - قوله «و أعظم تجربة» تأثير التجربة في إصلاح أمر الدنيا وأكثر وأشد من العلم والتفطن والعزم والشجاعة وأمثالها، وقوله أكيس لأن العقول معارضة بالأوهام والأوهام مستمدة من الشهوة والغضب، وباصطلاح أهل زماننا الغرائز والاحساسات والعواطف لا تترك العقل يجزم بالحق الصراح، وبعد عهد الشباب يضعف هذه الأمور والأوهام الناشئة منها، ولذلك يستفاد كل الخير من آراء الشيوخ وإن ضعفوا في البدن ثم إن لم يكن لهم فضل تجربة وحزم فهم مستأهلون للترحم كالصغار ولا يجوز للوالي تركهم وما هم فيه من الضعف والهوان والعجز عن طلب الرزق ويجب عليه الإنفاق عليهم والمواساة معهم من بيت المال وما جعله الله لهم. (ش)

قوله (ورحم ضعيفهم) (1) يشمل الصغير والفقير والنساء، والروايات الدالة على الترحم عليهم والإحسان إليهم والشفقة بهم أكثر من أن تحصى.

قوله (ووقر عالمهم) في بعض النسخ «عاملهم» وفي بعضها «عاقلهم» بالقاف، وقد دلت الآيات المتكثرة والروايات المتظافرة على توقير العالم (2) والعاقل وتعظيمهم وهم المقصودون من ايجاد الإنسان.

قوله (و لم يضر بهم فيذلهم) للإضرار أفراد متفاوتة (3) في الشدة والضعف، منها ترك الإجلال والترحم والتوقير المذكورة، ومنها إيصال السوء والمكروه إليهم، ومنها عدم ودفع الظلم عنهم، وكل هذه وأمثالها مما يوجب لحوق الذل بهم ورفع العز عنهم، وإذلال المؤمن وفعل ما يوجب إذلاله مذموم قطعا وموجب لتبدد النظام وانقطاع الألفة المطلوبة شرعا.

قوله (و لم يفقرهم فيكفرهم) (4) أفقره وأكفره أي جعله فقيرا وكافرا يعني لم يجعلهم فقراء

ص:27


1- 1 - قوله «و رحم ضعيفهم» هذا أيضا من وظائف الوالي لأن الضعفاء الذين لا ولي لهم يقوم بأمرهم لا يجوز أن يتركوا وما هم فيه بل على الوالي أن يتعهدهم كالأب الشفيق بالإنفاق والتربية من الأموال التي جعلها الله لهم وبترغيب أهل الخير وتأسيس مجامع الإعانات وغيرها. (ش)
2- 2 - قوله «على توقير العالم» كان ذلك صعبا على الولاة الظلمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن العلماء كانوا يمنعونهم من تفريط الأموال وصرفها عن مصارفها إلى اللهو والمناهي، ولكن في توقير العلماء إقامة أمر الله تعالى وتعظيم أحكامه وتقوية قلوب أهل التقوى وجرأتهم على النهي عن المنكر، وفي حدتهم فلول حد استبداد الظلمة، وتوقيرهم يدل على عدل الوالي وعدم سوء نيته. (ش)
3- 3 - قوله «للإضرار أفراد متفاوتة» والأصح في تفسير الإضرار إيجاد الضرورة، والمعنى أنه لا يجوز للوالي إيجاد الضرورة والإلجاء على الرعية حتى يلتزموا بالطاعة بأن يقبض على ضروريات معاشهم كالخبز والماء والملح والمساكن حتى لا يتمكنوا من الاعتراض والمخالفة ولا يطالبوا من الولاة حقوقهم إن بخسوا وماطلوا، والإطاعة من الخوف مذلة، والمذلة مانعة من الرقي في كل شيء; وذلك لأن الرعية إذا رأوا أنفسهم عاجزين عن كل فعل وعمل ومحتاجين إلى أعاظمهم في حاجاتهم الضرورية كانوا كاسراء أذلاء وعلى خلاف مقتضى الفطرة الانسانية المختارة مجبورة محبوسة آيسة من الحياة، وهذه الصفات تمنعهم من النشاط في كل شيء ويقسرهم على خلاف مقتضى طبايعهم كالجمادات آلات بيد الولاة ولا يحصل لهم حظ في العلوم والصناعات وغير ذلك، بخلاف ما إذا وجد كل واحد منهم نفسه مالكا قادرا يفعل ما يريد من غير أن يمنعه مانع فينشط للعمل والفكر والاختراع ولا يتصور نفسه ذليلا، أما خوف الملوك من ترك الطاعة إذا استغنى الرعية فلا يوجب ارتكاب الأفسد، وما حكى عن بعض الخلفاء «أجع كلبك يتبعك» كلام لا يطابق أصول الإسلام ولا فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) بل يجب أن يكون الإطاعة بالرضا والاختيار لا بالإضرار والإلجاء وأي سبب موجب للإطاعة أقوى من العدل وترك الطمع وترويج أحكام الله تعالى وقد أمر بحضور الوالي نفسه في المساجد وإقامة الجماعة، ومنع من المقاصير في محراب المساجد ليكون الولاة مجدين في حفظ رضا الرعية، وقد حكي أن ولاة بلاد النصارى يحضرون بأنفسهم في المجامع من غير خوف وتحرز مع إطاعة رعاياهم إياهم بالرضا والاختيار. (ش)
4- 1 - قوله «و لم يفقرهم فيكفرهم» ايجاد الفقر من الولاة يتصور بأمور، منها: تثقيل الخراج وتكثيره واختراع الضرائب حتى يقل نفع الزارع والتاجر ويترك عمله، ومنها: إيجاد الموانع لنقل الأمتعة من بلد إلى بلد وضرب المكوس والعشور ومنها القبض على المباحات ومنع الناس من الحيازة كالصيد والأراضي والمياه إلا بقيود شديدة، ومنها: منع الناس من المسافرة ومن الصنائع المشروعة ووضع القيود والشرائط السالبة للحرية والاختيار وأمثال ذلك كثيرة، وقد ورد «أن ظلم الولاة يمنع بركات السماء.». (ش)

ذوي الفاقة لا صبر لهم بمنع حقوقهم فيجعلهم كفارا لأنهم ربما ارتدوا إذا منعوا عن الحق; ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) - كما روي عنه -: «الفقر كاد أن يكون كفرا» وأصل الكفر تغطية الشيء تغطية تستهلكه.

قال في النهاية: الكفر صنفان أحدهما بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان، وقيل: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، وكفر جحود ككفر إبليس يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه، وكفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل وأضرابه، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه.

قوله (و لم يغلق الباب [كذا] دونهم) تقول أغلقت الباب إغلاقا فهو مغلق إذا سددته، وأما غلقت الباب غلقا على صيغة المجرد فهي لغة ردية متروكة، وإغلاق الباب كناية عن منع الوالي رعيته من الدخول عليه والوصول إليه وعرض الأحوال عليه، وعدم تفقده لأحوالهم غفلته عنها فإن ذلك يوجب وقوع الهرج والمرج فيهم وأكل قويهم ضعيفهم وتسلط الظلمة والأعداء عليهم.

قوله (و لم يخبزهم في بعوثهم) الخبز بفتح الخاء المعجمة فالباء الموحدة الساكنة فالزاي المعجمة: السوق الشديد، عن أبي زيد، وأنشد:

لا تخبزوا خبزا وبسا بسا * و لا تطيلا بمناخ حبسا والبس: السوق اللين، والبعوث: الجيوش، جمع بعث وهو الجيش، تقول كنت في بعث فلان أي في جيشه الذي بعث معه، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن الوالي لا ينبغي له أن يسوق جيشه إلى العدو سوقا شديدا بل ينبغي أن يسوقهم سوقا لينا ويطلب الماء والكلأ والمرعى في سيرهم فإنه أبقى لقوتهم وقوة دوابهم وبهما يتوقع الغلبة على العدو، وثانيهما أنه ينبغي أن لا ينهض المسلمين كلهم دفعة فإنه قد يوجب قتل جميعهم فينقطع نسل الأمة بل ينبغي أن ينهض طائفة منهم كما قال جل شأنه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) وفي بعض النسخ: «ولم يجنزهم» بالجيم والنون أي لم يجمعهم، وفي بعضها «ولم يجمرهم» بالجيم والميم والراء المهملة.

قال في النهاية: تجمير الجيش جمعهم في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم، ومنه حديث الهرمزان كسرى جمر بعوث فارس.

ص:28

قوله (قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا آخر الكلام - الخ) الغرض منه إما لبيان الواقع أو للدلالة على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يمض إلا وقد كان له ولي يقوم مقامه وهو ليس بالاتفاق غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) فبطل قول من زعم بخلافه.

* الأصل:

5 - محمد بن علي وغيره، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن رجل عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.

* الشرح:

قوله (قال جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان) همدان قبيلة من اليمن وبلد في العجم، وحلوان بالضم: اسم قرية قريبة من كردستان (1). والظاهر أن فيه لفا ونشرا مرتبا وأن إسناد «جاء» إلى «عسل وتين» إسناد مجازي.

قوله (فأمر العرفاء) جمع عريف بمعنى عارف مثل عليم بمعنى عالم، والمراد به هنا النقيب وهو دون الرئيس.

قوله (فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها) الأزقاق جمع زق بالكسر وهو السقاء واللعق

ص:29


1- 1 - قوله «قرية قريبة من كردستان» ويسمى في زماننا (پل زهاب) وهي أول الجبل وهمدان، الظاهر أنها البلد المشهور دون القبيلة إذ لا يؤتى بالعسل من القبيلة بل من البلد، قد ذكر الجهشياري في كتاب «الوزراء» خراج همدان ودستيبى أحد عشر ألف ألف وثمانمائة ألف درهم (11800000) ورب ريباس ألف من والعسل الاروندى (يعنى جبال الوند) عشرون ألف رطل، والظاهر أن عسل همدان كان مشهورا بالجودة، ودستبى كورة وقرى واقعة بين الري وهمدان ويشمل قزوين وآوج وأمثالهما. ولم يكن الخراج في ذلك العهد خاصا بالدراهم ولا بالغلات الأربع بل كان يؤخذ من كل جنس وذكر في خراج خراسان الأهليلج وفي خراج السواد طين الختم وفي خراج فارس ماء الورد ثلاثين ألف قارورة والانبجات وغيرها وكان ذلك كلها من مال الصلح الذي التزم أهل هذه البلاد أن يدفعوها إلى الإمام حتى يبقي أراضيهم وأملاكهم في أيديهم، ولذلك لا يعد أراضي تلك البلاد وأمثالها من أملاك عامة المسلمين بل هي ملك لمن هي بيده عليه أن يؤدي الخراج الذي هو مال الصلح وليست من المفتوحة عنوة بالمعنى الأخص فإن الأراضي المفتوحة على قسمين: الأول: ما كافح أهلها وحاربوا المسلمين حتى قهروا وغلب عليهم جنود الإسلام وأراضي هؤلاء ملك لعامة المسلمين وهذا القسم قليل جدا. والقسم الثاني ما صالح أهلها مع جنود الإسلام قبل أن يستأصلوا ويقهروا على مال يؤدونه ويقرون على أملاكهم الخاصة، وهكذا غالب البلاد، وهذه الأراضي خاصة بأربابها انتقلت منهم يدا بيد وعليهم الخراج. (ش)

«ليسيدن» والفعل من باب علم يقال لعقت الشيء العقه لعقا أي لحسته.

قوله (برعاية الآباء) دل على أنه ينبغي رعاية الأطفال والأيتام واحترامهم وأنها الحقيقة رعاية احترام للآباء كما دل عليه أيضا حفظ موسى وخضر (عليهم السلام) للطفل الكنز الذي تحت الجدار بإقامته لكون أبيه صالحا وقد نقل أنه كان الأب السابع.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن القاسم بن محمد الأصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي، فقيل، له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النبي (صلى الله عليه وآله) من ترك دينا أو ضياعا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنهم أمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم.

* الشرح:

قوله (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) هذا الحديث مع تفسيره الآتي مذكور في كتب العامة أيضا.

روى مسلم بإسناده في باب خطبة الجمعة عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في آخرها:

«أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فعلي وإلي» قال الآبي:

و «أولي» إما من الولي بمعنى القرب أو المالكية كما في قوله تعالى (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) أي مالكهم، أو من الولاية بالكسر، ومنه: ولي اليتيم والقتيل أي من يتولى أمرهما، والوالي في البلد، أو من الولاية بالفتح بمعنى النصرة، ومنه قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) أي ناصرهم، واستدل المازري وغيره بقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» على أنه لو اضطر (صلى الله عليه وآله) طعام أو غيره وهو بيد ربه وربه أيضا مضطر إليه لكان أحق به من ربه ووجب على ربه بذله له، وهذا وان جاز لكنه لم يقع و لم ينقل.

نقل محيي الدين البغوي عن ابن قتيبة أن الضياع بفتح الضاد: العيال وهو مصدر في الأصل يسمى به العيال، ضاع ضياعا كقضى قضاء، وأما الضياع بالكسر فجمع ضايع كجياع جمع جايع، الضيعة: ما يكون منه عيش الرجل من حرفة أو تجارة يقال ما ضيعته فيقال كذا. وفي الصحاح:

ص:30

الضيعة: العقار وقوله «فعلي» معناه فعلي قضاء دينه وكفاية ضياعة أي عياله (1). وهذا الحكم عندنا ليس مختصا به (صلى الله عليه وآله) بل هو جار في أوصيائه من بعده كما دل عليه قوله وعلي وإلي» فعليهم أيضا إنفاق ذرية المسلمين وقضاء ديونهم بل قضاء ديون الأحياء إذا عجزوا عن قضائها كما دل عليه حديث آخر هذا الباب. وأما عندهم فقد اختلفوا فيه، قال المازري الأصح أنه ليس مختصا به بل يجب ذلك على الأئمة من بيت المال إن كان فيه سعة وليس ثمة ما هو أهم منه وقال بعضهم: إنه من خصايصه فلا يجب على الأئمة (عليهم السلام).

ثم الظاهر من هذا الحديث والصريح من كلام المازري أن ذلك كان واجبا لا أن فعله تكرمة وتفضل، هذا ينافي ما روي في طرقنا وطرقهم من أنه (صلى الله عليه وآله) ترك الصلاة على من توفي وعليه دين وقال: «صلوا على صاحبكم» وفي طرقنا «حتى ضمنه بعض أصحابه» ويمكن الجواب بأن هذا كان قبل ذلك عند التضيق وعدم حصول الغنائم، وذلك كان بعد التوسع في بيت المال والفتوحات والغنائم، ويؤيده ما روي من طرقهم أنه كان يؤتى بالمتوفى وعليه دين فيقول (صلى الله عليه وآله): هل ترك لدينه قضاء؟ فإن قيل ترك صلى فلما فتح الله تعالى الفتوح قال (صلى الله عليه وآله): «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك دينا فعلي ومن ترك مالا فلورثته» وقال المازري: تركه الصلاة على من مات ولم يترك وفاء إنما كان يفعله لئلا يتسامح الناس في عدم قضاء الدين. وفيه أنه يلزم أن يترك ما هو واجب عليه وهو قول لا يجوز التقول به فالأولى ما مر أو يقال إن ذلك في قضية مخصوصة إما لأن الدين لم يحصل على وجه مشروع أو لغير ذلك، والله أعلم.

قوله (فالرجل ليست له على نفسه ولاية) أي ليست له ولاية في أداء ديونه إذا عجز عنه ولا له على عياله أمر ونهي في الإنفاق وصرف النفقة وتقدير المعيشة إذا لم يقدر على اجراء النفقة عليهم وإنما الولاية في ذلك للرسول وأوصيائه (عليهم السلام).

قوله (و النبي وأمير المؤمنين ومن بعدهما) تفسير لقوله «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي» وضمير التثنية راجع إلى النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما، وضمير الفاعل في ألزمهم لله تعالى، وضمير المفعول للنبي وأمير المؤمنين ومن بعدهما وهذا إشارة إلى ما ذكر من الولاية المذكورة.

ص:31


1- 1 - قوله «كفاية ضياعه أي عياله» وزعم بعض الناس أن المراد بالضياع الأراضي والأملاك غير المنقولة والمراد بالمال المنقول والمعنى أن من مات فماله المنقول لوارثه وأراضيه وأملاكه لعامة المسلمين ويتصرف فيها الإمام ولاية عن العامة، وهذا غلط ناش من الجهل ومخالف للضرورة من الدين، ولا يتصور أن يكون المراد هنا من الضياع الأملاك البتة (ش).

قوله (وما كان سبب إسلام عامة اليهود) إشارة إلى بعض فوائد هذا القول حيث إن عامة اليهود مع تصلبهم في دينهم آمنوا بعد سماعه طمعا في وعده الصادق; لأن الإنسان عبيد الإحسان.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن صباح ابن سيابة، عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك، إن الله تبارك وتعالى يقول: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين» الآية فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيما مؤمن مسلم) فيه دلالة على أنه لا يقضيه عن الحي بحسب المفهوم إلا أنه معارض بما هو أقوى منه فلا عبرة به وعلى أنه يقضيه عن مسلم غير مؤمن والروايات تنافيه إلا أن يكون الترديد من الراوي ويكون المراد بالمسلم المعنى الأخص أو يراد بالمؤمن من علم إيمانه وبالمسلم مجهول الحال، ويؤيده ما وراه سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أطعم سائلا أعرفه مسلما؟ فقال: نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق إن الله يقول (وقولوا للناس حسنا) ولا تطعم من نصب بشيء من الحق أو دعا إلى شيء من الباطل، وعلى أنه لا يقضيه ان كان في فساد ومعصية ولا في إسراف وتبذير، هذا إن كان ميتا، وأما إذا كان حيا وتاب - إن شرطنا العدالة - فيجوز أن يعطى من سهم الفقراء دون الغارمين فيقضي هو، ثم هذا إن علم مصرف ديونه وأما إن جهل فقد جوز بعض الأصحاب إعطاءه من حق الغرماء.

قوله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) وهما من قصر ماله - ولو بالحرفة اللايقة - عن مؤونة السنة له ولعياله على الوجه اللائق به ولا لتحديدهما بمالا يملك نصابا ولا قيمة، وقد بسط العلماء الكلام في أن أيهما أسوأ، ولا يليق ذكره في هذا المقام.

قوله (فهو من الغارمين) أي من مات وله دين فهو من الغارمين الذين جعل الله تعالى لهم سهما عند الإمام وأوجب عليه إعطاؤه، فإن حبسه مع عدم كون الدين في فساد وإسراف فإثمه عليه، والضمير في إثمه راجع إلى الحبس أو إلى الدين أو إلى الغارم.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن حنان عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن

ص:32

معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.

وفي رواية اخرى: حتى يكون للرعية كالأب الرحيم.

* الشرح:

قوله (لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال) إذ لو يكن فيه تلك الخصال لاحتاج هو إلى إمام آخر يأمره بالطاعة وينهاه عن المعصية، فلا يكون هو الإمام الذي فرض الله تعالى طاعته على الخلق أجمعين، والخصلتان الأخيرتان من حق الرعية عليه، وأما الأولى فليست من حقه على الرعية ولا من حق الرعية عليه إلا بتكلف وهو أن الورع هو لزوم الأعمال الجميلة والكف عن المحارم كلها ومن جملتها حقوق الرعية.

قوله (و حلم يملك به غضبه) الحلم ملكة نفسانية تحت الشجاعة وهي الرزانة عند الغضب بحيث لا يستحقه شيء من موجباته ولا يستفزه نحو الانتقام.

قوله (و حسن الولاية) من جملته ما ذكر من إجلال الكبير وترحم الضعف وتوقير العالم وعدم الإضرار بالرعية وعدم منع حقوقهم والقسمة بينهم بالسوية.

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن معاوية بن حكيم، عن محمد بن أسلم، عن رجل من طبرستان يقال له: محمد قال: قال معاوية: ولقيت الطبري محمدا بعد ذلك فأخبرني قال: سمعت علي ابن موسى (عليهما السلام) يقول المغرم إذا تدين، أو استدان في حق - الوهم من معاوية - اجل سنة، فإن اتسع وإلا قضى عنه الإمام من بيت المال.

* الشرح:

قوله (اجل سنة) جوازا أو وجوبا إن ظن إمكان قضائه (1) من فضل المؤونة ولو بالاكتساب.

ص:33


1- 1 - قوله «ان ظن إمكان قضائه» المقصود من هذه الأحاديث تشريع هذا الحكم في الجملة ويثبت به وجوب أداء ديون الغارمين من بيت الماء في الجملة كمفاد القضية المهملة مثل ما يقال: إن مصرف الزكاة الفقراء وأبناء السبيل والغارمون وغير ذلك، ومصرف الخراج: مصالح الأمة كالجهاد وأرزاق القضاة ومعلمي الآداب والمؤذنين، وليس المقصود الإطلاق والتعميم وأنه يجب على الإمام مطلقا وفي كل حال وعلى جميع الشروط أن يعين أبناء السبيل وغيرهم ولا ينافي ذلك التقييد بالشروط وأن ينظر الإمام الأهم ويقدمه على غير الأهم وأن يكون واجبا بشرط وجود سعة في بيت المال فلا ينافي ما روى أنه (صلى الله عليه وآله) ترك الصلاة على من توفى وعليه دين وقال صلوا على صاحبكم، ولو كان قضاء دينه واجبا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأداه وصلى، ولكن كان في بيت المال ضيق ولم يكن سهم من الزكاة للغارمين حاضرا. (ش)

باب أن الأرض كلها للامام (عليه السلام)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) (أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها وأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم.

* الشرح:

قوله (أنا وأهل بيتي) أشار إلى أن المراد بمن يشاء أهل البيت (عليهم السلام) ومن في قوله «من عباده» إما بيان للموصول والإضافة لكمال الاختصاص، أو ابتدائية، والعباد حينئذ تشتمل الخلص وغيرهم وفيه إشارة إلى أنهم هم المقصودون من إيجاد الدنيا والآخرة وأن كل من له نصيب فيهما فبتوسطهم واحسانهم (عليهم السلام).

قوله (والأرض كلها لنا) أي الأرض معمورها ومواتها كلها لنا، ونحن مالكها، أما المعمورة فإن كان المتصرف فيها كافرا وفاءت إليهم (عليهم السلام) بحرب وقتال فلهم الخمس والبواقي للمسلمين كافة.

وإن فاءت إليهم بلا حرب ولا قتال فهي لهم (عليهم السلام) بلا شركة وإن كان المتصرف مسلما فهي له باذن الإمام ولا شيء عليه في حال غيبته سوى الزكاة في حاصلها، وعليه في حال حضوره الخراج أيضا وأما الموات فيجوز للمسلم إحياؤها بإذنه مع حضوره وعليه طسقها له بدون إذنه مع غيبته ولا طسق عليه بل قد وقع الاذن لشيعته عموما مع إسقاط الخراج. وإنما قلنا يجوز للمسلم فإن الكافر لا يجوز له إحياؤها ولا يملكها مع الحضور والغيبة، ومع الإذن وعدمه عند جماعة الأصحاب، وجزم المحقق الشيخ علي (رحمه الله) بحصول الملك مع حضور الإمام بإذنه ووجد في بعض كلام الشهيد انه

ص:34

يملك في حال الغيبة أيضا والله أعلم.

قوله (فمن أحيى أرضا من المسلمين) هذا حجة لمن خص جواز الإحياء بالمسلم.

قوله (فإن تركها أو أخربها) هذا دل بإطلاقه على ما ذهب إليه أكثر الأصحاب من أن كل من سبق إلى إحياء ميتة فهو أحق بها وإن كان لها مالك معروف وعليه طسقها وذهب بعضهم (1) إلى أن المالك الأول أحق بها وأن له انتزاعها منه، وإنما قلنا بإطلاقه لأنه يحتمل أن يراد بتركها تركها قبل التعمير.

قوله (إلا ما كان في أيدي شيعتنا) دل هذا على أن المراد بالمسلمين الذين أذن لهم إحياء الموات أعم من أن يكون شيعته أو غيرهم بدليل أنه يمنع غير الشيعة منها بعد الظهور وأما قبله فلا.

قوله (فإن يقاطعهم على ما في أيديهم) القطيعة طائفة من أرض الخراج يقطعها السلطان من يريد وهو يتصرف فيها ويعطي خراجها والمقاطعة من الطرفين لأن الإقطاع لا يتحقق بدون رضائهما.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد قال: أخبرني أحمد بن محمد بن عبد الله، عمن رواه قال: الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتق الله وليؤد حق الله تبارك وتعالى وليبر إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن برآء منه.

* الشرح:

قوله (فمن غلب على شيء منها فليتق الله) أمر أولا بالاتقاء من عقوبة الله تعالى لأن الاتقاء سبب لأداء حق الله تعالى مثل الزكاة والخمس والخراج ومنشأ للبر بالإخوان وقضاء حوائجهم وسد خلتهم، ويمكن أن يكون المراد بالاتقاء الاتقاء في الغلبة بأن لا يغلب على المتصرف ولا يمنع الحق عن ذوي الحق ولا يغصبه منه.

قوله (براء منه) البراء بضم الباء وفتح الراء والمد: جمع بريء كشرفاء جمع شريف وكرماء جمع كريم، ووجه براءتهم منه انتفاء اعتقاده بهم وعدم تدينه بدينهم، وفيه دلالة على أن مانع

ص:35


1- 1 - قوله «وذهب بعضهم» كلام الشارح هنا مجمل وتفصيل الكلام في كتب الفقه وليس ما ذكره هنا إطلاقه مرادا إذ لم يذهب أحد من الأصحاب إلى أن ملك المالك المعروف إذا باد وخرب بإهماله وتركه جاز لغيره إحياؤه وتملكه بالإحياء إلا نادرا، نعم إذا أحيى رجل أرضا مما يختص بالامام بغير إذنه كما في زمن الغيبة فهو أحق بها من غير أن يملك رقبتها فإذا تركها وعاد إلى حالته الأولى جاز لغيره إحياؤها لعدم ملك المالك الأول. (ش)

الحقوق المالية كافر بالله العظيم.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد قال: رأيت مسمعا بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالا فرده أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت له:

لم رد عليك أبو عبد الله (عليه السلام) المال الذي حملته إليه؟ قال: فقال: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأن أعرض لها وهي حقك الذي جعله الله تبارك وتعالى في أموالنا، فقال: أو مالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟ يا أبا سيار إن الأرض كلها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا، فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أبا سيار قد طيبناه لك، وأحللناك منه فضم إليك مالك وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة.

قال عمر بن يزيد: فقال لي أبو سيار: ما أرى أحدا من أصحاب الضياع وممن يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلا من طيبوا له ذلك.

* الشرح:

قوله (وليت البحرين الغوص) وليت إما بفتح الواو وكسر اللام المخففة يقال ولي الأمر يليه بالكسر فيهما، وتولاه إذا فعله بنفسه من غير أن يوليه أحدا، وبضم الواو وكسر اللام المشددة من التولية يقال: ولاه الأمير عمل كذا فتولاه وتقلده، والغوص وهو استخراج اللئالي من تحت الماء على التقديرين إما بدل من البحرين أو مفعول، والتقدير وليت في البحرين لغوص.

قوله (و قد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم) دل على أنه كان المتعارف عندهم نقل جميع الخمس إلى الإمام في حال حضوره وقد صرح بوجوب ذلك جماعة من الأصحاب للرواية عن الكاظم (عليه السلام) وفي قول المحقق: «لو أخر المكلف حصة الأصناف أجزأ» لا يدل على عدم الوجوب وقد صرح بعضهم بأن الخمس كله سهم الإمام إلا أنه مأمور بتقسيم سهمه على ستة أقسام ثلاثة له.

وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل، وقول مسمع «وهي حقك» مؤيد لهذا كتقريره (عليه السلام).

قوله (يا أبا سيار إن الأرض كلها لنا) فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا وإن كان لعمل الغير

ص:36

واكتسابه، هذا وأمثاله مما ذكر في هذا الباب من جملة حديثهم الذي مر أنه صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان.

قوله (يا أبا سيار قد طيبناه لك) دل على أن الإمام لا يجب عليه قبول الخمس وله الإبراء كما كان ذلك لكل ذي حق ولما كان الخمس للإمام و هو يعطي الفرق الثلاثة من نصف ماله على قدر مؤونة سنتهم ولذلك لو نقص النصف عنه أتمه ولو فضل عنه كان الفاضل له، جاز له إحلال صاحبه من الجميع فلا يرد أنه كيف يجوز ذلك وفيه حق الفرق الثلاثة، على أن للامام ولاية على الجميع وهو أولى بكل مؤمن من نفسه فيجوز له ذلك كما يجوز لكل ولي مع المصلحة.

قوله (وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا (عليه السلام)) أشار هنا بعد ما ذكر أن الأرض كلها لهم إلى أن شيعتهم في حل من التصرف فيها وفي حاصلها ومن خراجها حتى يظهر القائم (عليه السلام) فيأخذ منهم خراجها وتركها في أيدهم، وأما غير الشيعة فإن حاصلها حرام عليهم وإذا قام القائم (عليه السلام) يأخذها منهم ويخرجهم صاغرين، ولا منافاة بين كونهم أولى بالأرض التي في أيديهم في زمان الغيبة وبين كون حاصلها حراما عليهم.

قوله (فيجيبهم طسق ما كان في أيديهم) الجباية: الخراج، تقول جبيت الخراج جباية، أخذته، والتقدير فيجبى منهم، من باب الحذف والإيصال، والطسق بالفتح: ما يوضع من الخراج على الجربان أو شبه ضريبة معلومة، وكأنه مولد أو فارسي معرب.

قوله (و يخرجهم صغرة) الصغرة بالتحريك: جمع الصاغر: الراضي بالذل، كالكتبة جمع الكاتب.

قوله (من أصحاب الضياع) الضياع بالكسر جمع الضيعة وهي العقار أي الأرض والنخل كذا في الصحاح، وقال ابن الأثير: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك.

قوله (ألا من طيبوا له ذلك) ضمير الجمع راجع إلى الأئمة (عليهم السلام) وضمير المجرور للموصول، والمراد به الشيعة و «ذلك» إشارة إلى الأكل.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أبي عبد الله الرازي، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال:

أحلت يا أبا محمد أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله، إن الإمام يا أبا محمد! لا يبيت ليلة أبدا ولله في عنقه حق يسأله عنه.

ص:37

* الشرح:

قوله (فقال أحلت) أحال الرجل أتى بالمحال وتكلم به وذلك لأن وجوب الزكاة على الإمام محال، والسؤال عن وقوع المحال محال. والمحال من الكلام بالضم: ما عدل عن وجهه.

قوله (جايز له ذلك من الله) كأنه استيناف جواب عما يقال من أين جاز له ذلك.

قوله (إن الإمام يا أبا محمد) تعليل لما سبق من عدم وجوب الزكاة على الإمام ولذا ترك العاطف; توضيحه أن الإمام لا يبيت ليلة أبدا ولله في عنقه حق يسأله عنه فلو وجب عليه الزكاء لزم أن يبيت ليلة بل أكثر منها ولله في عنقه حق يسأله عنه; وذلك لأن الزكاة في الغلات تجب عند بدو الصلاح وهو انعقاد الحصرم واشتداد الحب واحمرار التمرة أو اصفرارها ولا تخرج إلا عند التصفية فلو وجب الزكاة عليه لزم اشتغال ذمته بإخراجها في تلك المدة الطويلة، وقس على الغلات الأنعام وغيرها فإن الأنعام مرعاها قد تكون بعيدا عن بلده ولو وجب عليه الزكاة فيها لزم اشتغال ذمته بواجب في مدة هي ما بين وقت الوجوب ووقت الإخراج.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبد الله بن أحمد، عن علي بن النعمان عن صالح بن حمزة، عن أبان بن مصعب، عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسم ثم قال: إن الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل (عليه السلام) وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض، منها سيحان وجيحان وهو نهر بلخ والخشوع وهو نهر الشاش ومهران وهو نهر الهند ونيل مصر ودجلة والفرات، فما سقت أو استقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه وإن ولينا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه - يعني بين السماء والأرض - ثم تلا هذه الآية: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا (المغصوبين عليها) خالصة (لهم) يوم القيامة) بلا غصب.

* الشرح:

قوله (بابهامه) أي بإبهام رجله لما سيأتي.

قوله (منها سيحان وجيحان) لفظة «من» في «منها» للتبعيض، فلا يرد أن الموعود ثمانية والمعدود سبعة، وقد فسر جيحان بأنه نهر بلخ، وفي النهاية: سيحان وجيحان نهران بالعواصم قريبا من المصيصة وطرطوس، والمصيصة بكسر الصاد المخففة بلد بالشام. وفي الصحاح سيحان نهر بالشام وفي القاموس على ما نقل عنه: سيحان نهر بالشام وآخر بالبصرة، ويقال له ساحين وسيحان

ص:38

نهر بما وراء النهر ونهر بالهند. وفي المغرب سيحان فعلان نهر معروف بالروم وسيحون نهر الترك.

وفي صحيح مسلم في باب صفة الجنة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» قال عياض: الأنهار الأربعة أكبر أنهار الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق.

سيحان وجيحان - ويقال سيحون وجيحون - هما بخراسان وما وراها، قال المازري: في كلامه إنكار من وجوه، منها قوله الفرات بالعراق ليس هذا بالعراق وانما هو فاصل بين العراق والجزيرة، ومنها أن قوله ويقال سيحون وجيحون يقتضى أن هذه الأسماء مترادفة وليس كذلك فإن سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق ومنها قوله إنهما بخراسان وليس كذلك فإن سيحان وجيحان ببلاد الأردن بقرب الشام فسيحان نهر اردنة وجيحان نهر المصيصة، واتفقوا على أن جيحون بالواو و راء خراسان عند بلخا ثم قال عياض: قوله كل من أنهار الجنة، يحتمل أنها من الجنة حقيقة ويدل عليه حديث الأسرى فإنه رآها يخرج تحت سدرة المنتهى ويحتمل أنها كناية عن أن الإيمان يعم بلادها وأن الأجسام المتغذية بمائها تصير إلى الجنة، وقال المازري: والأظهر أنها على ظاهرها في أنها من الجنة والجنة مخلوقة عند أهل السنة.

قوله (وهو نهر الشاش) نقل عن القاموس: أن الشاش بلد بما وراء النهر (1) وموضع بأرض بابل فيها قبر ذي الكفل.

قوله (ونيل مصر) في المغرب النيل نهر مصر، وبالكوفة نهر يقال له: النيل.

قوله (ودجلة) في المغرب دجلة بغير تعريف نهر بغداد وإنما سميت بذلك لأنها تدجل أرض أي تغطيها بالماء إذا فاضت.

قوله (والفرات) في المغرب الفرات نهر في الكوفة.

قوله (فما سقت أو استقت فهو لنا) أي فما سقته تلك الأنهار بالإضافة من الزروع وغيرها أو استقت بالدولاب وحفر البئر فهو لنا، ونسبة الاستقاء إلى تلك الأنهار مجاز لأن الاستقاء في الحقيقة فعل لمن يخرج الماء منها بالحفر والدولاب، يقال: استقيت من البئر أي أخرجت الماء منها، وبالجملة يعتبر في الاستقاء ما لا يعتبر في السقي من المبالغة في الكسب والاعتمال.

قوله (إلا ما غصب عليه) الغصب: أخذ مال الغير ظلما وعدوانا وفعله من باب «ضرب» تقول

ص:39


1- 1 - قوله «بلد بما وراء النهر» وقد يقال له چاچ، ومعروف بصنعة القسي وأما نهر الخشوع فلا أعرفه والخبر ضعيف جدا واشتماله على أمور منكرة غير بعيد، ولا حاجة إلى التكلف في توجيهه ومع ذلك يكثر في أسامي المواضع بما وراء النهر الكلمات المبدوة بلفظة خش مثل خشوفغن وخشميثن ولا يبعد أن يكون خشوع مصحفة من مثل هذه الكلمات. (ش)

غصبه منه وغصبه عليه بمعنى، وضمير المجرور في «عليه» هنا راجع إلى الموصول بتضمين معنى الاستيلاء أو التسلط، والظاهر أن الاستثناء منقطع إلا أن يراد بالشيء النصيب مطلقا أعم من أن يكون حقا أو باطلا.

قوله (بين ذه إلى ذه) ذه للإشارة إلى المؤنث الواحدة وأصلها ذي قلبت الياء هاء.

قوله (ثم تلا هذه الآية (قل هي للذين آمنوا)) أي قل يا محمد: الزينة والطيبات التي أوجدها الله تعالى للذين آمنوا ظاهرا وباطنا في الحياة الدنيا وهم الأوصياء وشيعتهم المغصوبون عليها وليس لغيرهم فيها حظ وتصرف إلا أن يغصبوا عليها ويتصرفوا فيها ظلما وعدوانا والحال أنها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ولا مشاركة لغيرهم لأن قوة الأغيار داحضة يوم القيامة وغلبة الكفار ساقطة فيه، وقوله «خالصة» بالنصب على الحال من فاعل الظرف وهو «الذين» عند أكثر القراء وبالرفع على أنها خبر بعد خبر عند نافع، وقوله «في الحياة الدنيا» ظرف للنسبة بين المبتدأ والخبر أو متعلق بآمنوا على احتمال بعيد.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن الريان قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام): جعلت فداك روي لنا أن ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا إلا الخمس: فجاء الجواب: أن الدنيا وما عليها لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (روى لنا أن ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا إلا الخمس) هذا الحصر باطل أما أولا فلأن الدنيا كلها له (صلى الله عليه وآله) وما كان منها في أيدي الكفار كان بطريق الغصب، وأما ثانيا فلأن الأنفال له بنص القرآن وهي غير الخمس نعم لو أريد بالدنيا الأرض المفتوحة عنوة صح الحصر ولكن لم يرو ذلك.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد رفعه، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم (عليه السلام) فلرسول الله (صلى الله عليه وآله) وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للأئمة من آل محمد (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (خلق الله آدم وأقطعه الدنيا) قد جرت الحكمة على أن يكون الدنيا لأوليائه ليستعينوا بها على أعدائه.

ص:40

* الأصل:

8 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن جبرئيل (عليه السلام) كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه: الفرات ودجلة ونيل مصر ومهران ونهر بلخ فما سقت أو سقي منها فللامام والبحر المطيف بالدنيا [للامام].

علي بن إبراهيم، عن السري بن الربيع قال: لم يكن ابن أبي عمير يعدل بهشام بن الحكم شيئا وكان لا يغب إتيانه، ثم انقطع عنه وخالفه وكان سبب ذلك أن أبا مالك الحضرمي كان أحد رجال هشام ووقع بينه وبين ابن أبي عمير ملاحاة في شيء من الإمامة، قال ابن أبي عمير: الدنيا كلها للإمام (عليه السلام) على جهة الملك وأنه أولى بها من الذين هي في أيديهم، وقال أبو مالك: كذلك أملاك الناس لهم إلا ما حكم الله به للإمام من الفيء والخمس والمغنم فذلك له وذلك أيضا قد بين الله للامام أين يضعه وكيف يصنع به، فتراضيا بهشام بن الحكم وصارا إليه، فحكم هشام لأبي مالك على ابن أبي عمير فغضب ابن أبي عمير وهجر هشاما بعد ذلك.

* الشرح:

قوله (كرى برجله) تقول كريت النهر بالفتح كريا أي حفرته.

قوله (فما سقت أو سقى منها) أي فما سقته بالإفاضة بنفسها أو سقى منها بالحفر والدولاب ونحوهما.

قوله (و البحر المطيف بالدنيا) بالنصب عطف على خمسة أنهار أو بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على قوله «ان جبرئيل» أي قال البحر المطيف بالدنيا للإمام، وفيه مبالغة على أن الدنيا وما فيها له.

قوله (قال لم يكن ابن أبي عمير يعدل بهشام بن الحكم شيئا) أي لم يسو بينه وبين غيره بل فضله على من سواه، تقول عدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما.

قوله (و كان لا يغب إتيانه) أي كان لا يأتيه ولا يزوره يوما دون يوم بل كان يأتيه كل يوم لكمال المحبة والمصاحبة، تقول: أغببته وغببت عنه، إذا جئته يوما وتركت يوما.

قوله (إن أبا مالك الحضرمي) الظاهر أنه الضحاك الحضرمي المتكلم الثقة.

قوله (ملاحاة) أي منازعة تقول لاحاه ملاحاة، إذا نازعه.

قوله (من الذين هي في أيديهم) من الشيعة وغيرهم إلا أنه أذن للشيعة من التصرف فيها. وفي

ص:41

بعض النسخ «هي» بدل «هم» وهو الأظهر.

قوله (وقال أبو مالك كذلك) كذلك إما للإنكار ويؤيده أنه في بعض النسخ «ليس له» بدل «منه»، أو المراد أنه كما أنها أملاك للناس وفي أيديهم بحسب الظاهر، أملاك لهم في الواقع.

قوله (من الفيء والخمس والمغنم) المغنم الغنيمة وهي ما أخذ من أهل الكفر عنوة والمراد بالفيء ما رجع إليه بغير قتال بانجلاء أهله أو بتسليمهم طوعا أو بانقراضهم ويدخل فيه بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام وما لم يكن عليه يد أصلا وبالخمس خمس ما أخذ عن القتال وما فيه الخمس مما عده الفقهاء ودلت عليه الروايات وبالمغنم صفايا الملوك وما اصطفاه من الغنيمة من ثوب وفرس وجارية ونحوها.

قوله (فغضب ابن أبي عمير) الغضب والهجر من أجل أنه حكم بخلاف الواقع وعدل عن منهج الصواب، وفيه دلالة على جواز الهجران من العالم وإن كان متدينا إذا حكم بخلاف الحق.

ص:42

باب سيرة الإمام في نفسه وفي المطعم والملبس إذا ولي الأمر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن حماد، عن حميد وجابر العبدي قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه.

* الشرح:

قوله (ففرض على التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي) قدر الشيء: مبلغه، وتقديره وتعيينه، والتقدير أيضا: التقتير، ومنه قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) وإنما قال «في نفسي» للإشارة إلى أنه لم يفرض ذلك على غيره من الرعية والمشرب الوجه الذي يشرب منه ويكون موضعا ويكون مصدرا والأخير أظهر هنا وقس عليه جاريه.

قوله (كي يقتدي الفقير بفقري ولا يطغي الغني غناه) يقال أطغاه الغنى أي جعله طاغيا متمردا وفيه إشارة إلى فائدة الفرض المذكور لأن الفقير إذا نظر إليه (عليه السلام) وإلى سيرته وطريقته مع علمه بأنه أشرف المخلوقات وأقرب من الله جل وعز، رضي بفقره ولا يطمع في الدنيا وما فيها ولا يحزن على فواتها، والغني إذا نظر إليه (عليه السلام) علم أنه لا عبرة بالغنى في الدنيا ويورثه ذلك ذلا وانكسارا يخرجه من منزل الطغيان ويمنعه عن ارتكاب العصيان ويزجره عن التكبر والتفوق على الإخوان.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن المعلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوما: جلعت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم، فقال: هيهات يا معلى أما والله أن لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا، فهل رأيت ظلامة قط صيرها الله تعالى نعمة هذه.

* الشرح:

قوله (لعشنا معكم) أي لو كان هذا الأمر مفوضا إليكم لعشنا معكم لكثرة النعمة

ص:43

وحصول أسباب العيش فقال (عليه السلام): هيهات هيهات، يعني بعد بعد ما توهمت يا معلى من توسعنا في المعيشة وأخذنا في الانتفاع بزهرات الدينا لو كان ذلك الأمر إلينا وأتى به مكررا للتأكيد، ثم أكد مضمون ذلك بقوله: «أما والله لو كان ذلك ما كان حالنا إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل لجشب»، والسياسة مصدر «سست الرعية سياسة» وهي القيام عليهم بما يصلحهم والتدبير في أمورهم والنظر إلى مصالحهم، وإنما أضافها إلى الليل لأن أكثر الفساد يقع فيه فهو أولى بأن يقع السياسة فيه، ولأن الأمير كثيرا ما يدبر أمور الرعية فيه، والسياحة مصدر ساح في الأرض يسيح سياحة» إذا ذهب فيها، وأصله من السيح وهو الماء الجاري على وجه الأرض، وإنما أضافها إلى النهار لأن الذهاب إلى الجهاد والجماعة ونحوهما الحركة في الأرض لإجراء الأحكام على الخلق ونحوه يقع في النهار غالبا، وحمل سياحته على الصوم بعيد في هذا المقام إذ لا مدخل لكثرة النعمة فيه إلا أن يكون المراد زجر النفس عنها، وهذا الحمل مع قلته منقول عن الشرع، قال ابن الأثير: ومنه حديث «سياحة هذه الأمة الصيام» قيل للصايم: «سائح» لأن الذي يسيح في الأرض متعيدا يسيح ولا زاد معه ولا ماء فحين يجد يطعم والصائم يمضي نهاره لا يأكل ولا يشرب فشبه به، والمراد بلبس الخش لبس الثوب الذي لا قدر له ولا قيمة يعتد بها ويأكل الجشب أكل طعام غليظ لا يميل إليه طبع أكثر الخلق أو أكل ما لا أدم معه.

قوله (فزوى ذلك عنا) أي فصرف ذلك الأمر وقبض عنا فهل رأيت يا معلى ظلامة قط صيرها الله تعالى نعمة إلا هذه الظلامة فإنها جعلت نعمة علينا لسقوط السياسة والسياحة ولبس الخشن وأكل الجشب وغيرها من المشقات التي لزم على صاحب هذا الأمر التزامها ليقتدي به الضعفاء ويهتدي به الأغنياء. والظلامة بالضم الحق الذي أخذ من صاحبه ظلما.

قوله (حين لبس العباء وترك الملاء) العباء بالفتح والمد جمع العباءة كذلك وهي كساء واسع من صوف، والملاء بالضم والمد جمع الملاءة كذلك وهي الإزار وكل ثوب لين رقيق. وفي النهاية:

قال بعضهم: إن الجمع ملأ بغير مد، والواحد ممدود، والأول أثبت.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وغيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قد غم أهله وأحزن ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): علي بعاصم بن زياد، فجيء به فلما رآه عبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها، أنت أهون على الله

ص:44

من ذلك، أو ليس الله يقول: (والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام) [الله] يقول: (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان) - إلى قوله - (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال، وقد قال الله عز وجل:

(وأما بنعمة ربك فحدث) فقال عاصم: يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك إن الله عز وجل فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره، فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء.

* الشرح:

قوله (انه فدغم أهله وأحزن ولده بذلك) فاعل «غم» و «أحزن» ضمير راجع إلى عاصم، وأهله وولده مفعولان، يقال: غمه فاغتم وأحزنه فحزن. والباء في ذلك للسببية وذلك إشارة إلى المذكور من لبس العباء وترك الملاء.

قوله (علي بعاصم بن زياد) أي إيتونى وجيئوني به وهو مثل: عليك زيدا أو بزيد أي خذه.

قوله (أترى الله) الاستفهام على حقيقته أو للإنكار و «هو يكره» حال من فاعل أحل أي لا ينبغي أن يظن منه ذلك لأنه كالجمع بين النقيضين.

قوله (أنت أهون على الله من ذلك) كأن المراد أنك أهون وأخف من كل شيء خفيف هين على الله من أجل ذلك وهو أن ترى الله يكره أخذك من الطيبات بعد ما أحلها لك أو المراد أنك أهون على الله من ذلك أي من أن يكره أخذك منها وانما يكره ذلك لولاة الأمر ليقتدى بهم الفقراء، والله أعلم.

قوله (أو ليس الله يقول) الاستفهام لتقريره على الإثبات واعترافه بأن الأرض المدحوة وما فيها من ضروب الفواكه والحبوبات مثل الحنطة والشعير والأرز وسائر ما ينتفع به كالخوان الموضوع للأنام وانتفاعهم ليعلم أن الأخذ منها أحسن عند الكريم من تركها كما يحكم به التجربة في ضيافة الكرماء وقد رغب أكرم الأكرمين في الأخذ والتناول منها بقوله (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) وقوله (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون) وقوله (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا) وقوله (اليوم أحل لكم الطيبات) وقوله (وما لكم إلا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) وقوله (وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)

ص:45

إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

قوله (أو ليس الله يقول مرج البحرين) المرج: الإرسال من «مرجت الناقة» إن أرسلتها، والبحرين: البحر الملح والبحر العذب، والبرزخ: الحاجز، أي: أرسل البحرين يلتقيان يتماسان سطوحهما بينهما حاجز من قدرة الله لا يبغيان أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، هكذا ذكره بعض المفسرين، وفيه أقوال أخر.

قوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره والخرز الأحمر، قيل:

الدر يخرج من المالح لا من العذب، فما وجه قوله يخرج منهما؟ أجيب بأن المراد أنه يخرج من مجتمعها أو من أحدهما وهو الملح إلا أنه لما اجتمع مع العذب حتى صار كالشئ الواحد كان المخرج من أحدهما كالمخرج منهما ولا يبعد أن يقال أن يخرج من العذب أيضا بتأثير المجاور وان كان خروجه منه أقل من خروجه من الملح، والغرض من ذكرهما أن الله تعالى أخرجهما لانتفاع الخلق، فلا وجه لتحريمهم على أنفسهم ما أحل الله لهم ولا لتنزههم عن ذلك مع القدرة وفيه مبالغة عظيم في مدح الدنيا والطلب لحلالها والتوجه إلى اكتساب طيباتها واستعمالها سيما لمن له أهل وعيال واتفق عليه علماء العامة والخاصة قال أبو عبد الله الآبي: ذم رجل الدنيا بحضرة علي رضي الله عنه فقال علي (عليه السلام) مالك ولذمها وهي دار غنى لمن تزود منها ودار عظمة لمن فهم عنها، ذكرت بسرورها السرور، ببلائها البلاء وهي مهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الحسنات وأكلوا فيها الطيبات وشكروا لمنعمها» وفي الحديث «إذا قال الرجل لعن الله الدنيا قالت الدينا لعن الله أعصانا لربه» وفي آخر «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن هي بها يبلغ الخير وعليها ينجو من الشر».

قوله (فبالله لابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال) أقسم بالقسم البار على ابتذال نعم الله تعالى واستعمالها يعني اظهارها وتشهيرها بالفعال، وهو الشكر الفعلي، أحب إلى الله من ابتذالها بالمقال وهو الشكر القولي وقد صرح بعض المحققين أن الشكر الفعلي أقوى دلالة على تعظيم المنعم من الشكر القولي.

قوله (وقد قال الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث)) حال عن فاعل «أحب» والمقصود أنه تعالى أمر بتحديث نعمته أداء لشكرها فإظهارها بالفعال أولى بالأمر به لكونه أحب وأقوى.

قوله (فقال عاصم يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت) يعني إذا كان ابتذال نعم الله وإظهارها بالفعال أحب إليه فعلى أي شيء وأي سبب اقتصرت من مطعمك على الأطعمة الجشوبة الغليظة وفي لبسك على الثياب الخشونة الخشنة.

ص:46

قوله (فقال ويحك) فيه جواز أن يقول الرجل لغيره: ويحك، وقد يقال ويلك قال عياض:

«ويلك» كلمة يقال لمن وقع في هلكة و «ويحك» زجر لمن أشرف على الهلكة وقال الفراء ويح بمعنى ويل وقيل ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيرثى له من غير ترحم عليه وويل بضدها وقيل: لا يراد بهما حقيقة الدعاء وإنما يراد بهما المدح والتعجب.

قوله (أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس) قدرت الشيء بالشيء قسته به وجعلته على مثاله واعتبرته على مقداره.

قوله (كيلا يتبيغ بالفقير فقره) التبيغ بالتاء الفوقانية والباء الموحدة والياء والتحتانية: التهيج، وقيل أصل يتبيغ يتبغى من البغي مجاوزة الحد فغلب مثل جبذ وجذب والأول الوجه أي فرض ذلك كيلا يتهيج بالفقير فقره فيهلكه فإنه حينئذ يقيس نفسه بإمامه ويقتدي به ويرضى بالفقر ويصبر على شدايده.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن يحيى الخزاز، عن حماد ابن عثمان قال: حضرت أبا عبد الله (عليه السلام) وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن. يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد، فقال له: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر [عليه] ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب علي (عليه السلام) وسار بسيرة علي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (شهر به) أي شهر بلبس مثل ذلك الثوب شهرة وفضاحة وشناعة كما يشهد به التجربة فيمن ترك زي أهل زمانه.

ص:47

باب نادر

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن أيوب بن نوح قال: عطس يوما وأنا عنده، فقلت: جعلت فداك ما يقال للإمام إذا عطس؟ قال: يقولون: صلى الله عليك.

* الشرح:

قوله (عن أيوب بن نوح) وثقه أصحاب الرجال وعدوه من أصحاب الرضا والجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) ونقل أنه كان وكيلا للهادي والعسكري (عليهما السلام) وكان عظيم المنزلة عندهما مأمونا شديد الورع كثير العبادة، وعلى هذا فاعل «عطس» يحتمل أن يكون كل واحد من الأئمة المذكورين (عليهم السلام).

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الدينوري عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل عن القائم يسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: لا، ذاك اسم سمى الله به أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر، قلت: جعلت فداك كيف يسلم عليه؟ قال: يقولون: السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين).

* الشرح:

قوله (لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر) لم ينقل أن أحدا سمي بأمير المؤمنين قبله (؟) وأما بعده فقد سمي به بعض جبابرة هذه الأمة، ولعل المراد بالكافر هنا ضد المؤمن وهو من لم يؤمن بالله وبرسوله فضلا عما جاء به الرسول إن اعتقد جواز ذلك شرعا أو مطلقا كمن سمى نفسه باسم الله أو نبي الله أو رسول الله، ويحتمل أن يراد بالكفر كفر النعمة بتغيرها ووضعها في غير موضعها أو تغطية الحق، وأصل الكفر هو التغطية، والمتصف بهما يسمى كافرا وإن لم يكن خارجا عن الإيمان، والله أعلم.

قوله (قال يقولون السلام عليك يا بقية الله) الإضافة في «بقية الله» لامية، كبيت الله وطاعة الله،

ص:48

وبقية الشيء: ما بقي منه، والبقية أيضا: ما ينتظر وجوده ويترقب ظهوره من «بقيت الرجل أبقيته» إذا انتظرته و رقبته، وإنما سمي الصاحب (عليه السلام) بذلك لأنه بقية الأنبياء والأوصياء السابقين وينتظر وجوده ويترقب ظهوره.

قوله (ثم قرأ بقية الله خير لكم) أي خليفة الله الباقي وانتظار ظهوره خير لكم إن كنتم مؤمنين به، و هذا التفسير أحسن مما قيل من أن المراد ببقية الله طاعته وانتظار ثوابه والحالة الباقية لكم من الخير أو ما بقي لكم من الحلال.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) لم سمي أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: لأنه يميرهم العلم، أما سمعت في كتاب الله (ونمير أهلنا).

وفي رواية اخرى قال: لأن ميرة المؤمنين من عنده، يميرهم العلم.

* الشرح:

قوله (قال لأنه يميرهم العلم) الميرة بكسر الميم وسكون الياء: الطعام يمتاره الإنسان ويجلبه للبيع وغيره، تقول: مار أهله يميرهم ميرا إذا اتاهم بالميرة وأعطاهم إياها، وقد شبه العلم بالطعام في الاغتذاء به لأن أحدهما غذاء روحاني والآخر غذاء جسماني، قال الفاضل الأسترآبادي: من المعلوم أن الأمير مهموز الفاء (1) وأن «يمير» أجوف، ولك أن تقول قصده (عليه السلام) أن تسميته بأمير المؤمنين ليس لأجل أنه مطاعهم بحسب الدنيا، بل لأجل أنه مطاعهم بحسب العلم أي الأحكام الإلهية فعبر (عليه السلام) عن هذا المعنى بلفظ مناسب في الحروف للفظ الأمير. قوله (اما سمعت في كتاب الله (ونمير أهلنا)) أي نعطيهم الميرة، ولعل الغرض من ذكره هو التنبيه على أنه يفهم منه وجه التسمية بأدنى تأمل فليتأمل.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي الربيع القزاز عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: لم سمي أمير المؤمنين؟ قال: الله سماه، وهكذا أنزل في كتابه: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) وأن محمدا

ص:49


1- 1 - قوله «إن الأمير مهموز الفاء» والأولى في توجيه الرواية أن أمير صيغة المتكلم من مار يمير أو يقال هي ضعيفة ولا يحتاج إلى تكلف التصحيح. (ش)

رسولي وأن عليا أمير المؤمنين.

* الشرح:

قوله: (قال لأن ميرة المؤمنين من عنده) أي طعامهم الروحاني وهو العلم من عنده كما أشار إلهي بقوله يميرهم العلم.

قوله (عن أبي الربيع القزاز) لم أجده بهذا الوصف في كتب الرجال وبدونه مجهول.

قوله (قال الله تعالى سماه) السائل سأل عن سبب التسمية وهو (عليه السلام) أجاب بها من باب تقلى المخاطب بغير ما يترقبه للتنبيه بأن الأهم له أن يعرف التسمية ويصدق بها، والجهل لسببها لا يضره. قوله (وأن محمدا رسولي) إشارة إلى أن هذا كان منزلا حذفه المحرفون (1) المنافقون حسدا وعنادا.

ص:50


1- 1 - قوله «حذفه المحرفون» الخبر ضعيف في الغاية ولو فرض صحته إسنادا لكان اشتماله متنه على أمر محال كافيا في رده لعدم إمكان صدوره من المعصوم (عليه السلام). (ش)

باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية

* الشرح:

(قوله باب فيه نكت ونتف من التنزيل) النكت جمع النكة والمراد بها هنا الوجوه الخفية المستنبطة من القرآن الدالة على الولاية، والنتف كصرد جمع النتفة بالضم والسكون وهي هنا عبارة عن وجوه منتزعة من التنزيل دالة على الولاية من قولهم نتف الشعر والريش إذا نزعه.

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعد، عن بعض أصحابنا عن حنان ابن سدير، عن سالم الحناط قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين)؟ قال: هي الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال هي الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)) اعلم أن في القرآن ظاهرا وباطنا ومجملا ومؤولا ومحكما ومتشابها وأنهم (عليهم السلام) أعلم الأمة بجيمع ذلك وأن ظاهر هذه الآية هو أن الضمير في «به» راجع إلى القرآن وما بعده بيان لمآله وغايته ولكنه (عليه السلام) أرجعه إلى الولاية باعتبار المنزل وأوله بأن معناه نزل بها الروح الأمين وهو جبرئيل (عليه السلام) على قلبك يا محمد لتكون من المنذرين عن مخالفة ولي أمرك، بلسان عربي مبين واضح الدلالة على المقصود كيلا يقولون يوم القيامة على سبيل المعذرة ما كنا نفهم لسانك وتبليغك في وليك، وفي رواية علي بن إبراهيم أيضا تصريح بذلك فإنه قال في تفسيره: حدثني أبي عن حنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) قال: الولاية نزلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير (1).

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين. عن إسحاق بن عمار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض

ص:51


1- 1 - قوله «الولاية نزلت لأمير المؤمنين» لعل معناه أن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) يدخل في المراد. (ش) وقوله (وإنه لتنزيل رب عالمين) لأن ولايته أيضا مما نزل في القرآن. (ش)

والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) قال: هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)) كان المراد أنا عرضنا الأمانة التي هي ولاية أمير المؤمنين على الأجرام المذكورة بعد خلق الفهم والاختيار فيها، أو عرضناها على أهلها من الملائكة والحيوانات الإنسية والوحشية وأظهرناها عليهم وأقدرناهم على غصبها من علي (عليه السلام) فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان وهو الأول، إنه كان ظلوما على نفسه وعلى من تبعه، جهولا بعاقبة أمره وشناعة خيانته، وفي كلام الفاضل الإسترابادي دلالة عليه حيث قال:

فأبين أن يدعينها أو يغصبنها أهلها وأشفقن منها وحملها الإنسان الأول، إنه كان ظلوما جهولا، ويقرب منه كلام علي بن إبراهيم حيث قال في تفسير الأمانة: هي الإمامة والأمر والنهي، والدليل على أن الأمانة هي الإمامة قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) يعني الأمانة والإمامة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، قال: أبين أن يدعونها ويغصبوها أهلها وأشفقن منها وحملها الإنسان الأول، كذا في تفسير علي بن إبراهيم «إنه كان ظلوما جهولا» والمشهور عند المفسرين (1) أن المراد بالأمانة التكليف مطلقا وأن هذه الأجرام أشفقن من

ص:52


1- 1 - قوله «والمشهور عند المفسرين» حكي عنهم في تفسير الأمانة أمور يرجع جميعها إلى وجه واحد، وهي الخاصة المميزة للانسان عن ساير الموجودات، وهذه الخاصة أصلها إدراك الكليات والتمييز بين الحسن والقبح أعني العقل النظري والعملي، ويتفرع على هذا الأصل فروع منها التكليف والأمر والنهي، ومنها خلافة الله في الأرض وتفوقه على ساير الموجودات وكونها مسخرة بأمره، ومنها إطاعة الله تعالى اختيارا وهي فرع قبول التكليف وغير ذلك، وأما كيفية عرض الأمانة على الجمادات ونسبة الإباء والخشية إليها مع عدم شعورها فبعضهم تكلف فيها وقال: المراد من السماوات والأرض أهلها غير الإنسان وهذا غير معقول لأن الأهل إن كان المراد منه الحيوان فهو كالجماد في عدم قابلية الخطاب وإن كان الملائكة فإنهم لا يخشون من الخيانة في الأمانة ويفعلون ما يؤمرون، ووصف جبرئيل بأنه الروح الأمين، وبعضهم تكلف أشد من هذا والتزم بأنه تعالى خلق فيهم الشعور وكلمهم، وقال بعضهم إن هذا تمثيل وتعبير عن عظمة أمر الأمانة وأنه بحيث لا يحتملها الجبال كما هو عادة الفصحاء يقال: لو حمل ما بي من الغم على الصخور لأذابها، وأحسن الوجوه أنه بيان لاستعداد الإنسان لقبول التكاليف وعدم استعداد غيره من هذه الأجسام الكبيرة كما قال تعالى (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) وأما تفسير الأمانة بالولاية فهي من قبيل بيان أهم المصاديق وأعظم موارد التكاليف لأن العقل والتكليف وأي معنى مثلهما لا يمكن أن ينفك عن ولايته (عليه السلام) والمعرض عنها خائن في أمانة الله قطعا إذا لم يعمل بعقله ولم يمتثل تكليفه ولا فائدة في عقل لا يهدي الإنسان إلى الاعتراف بأنه (عليه السلام) الغاية القصوى في الكمال الممكن لغير واجب الوجود تعالى. ووصف الإنسان بأنه ظلوم جهول ليس ذما وتنقيصا بل عطف وترحم وإلا فقد قال الله تعالى (فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) ولو كان وصفه بالجهول الظلوم تنقيصا لزم تفضيل ساير الخلق على الإنسان.

حملها خوفا من المخالفة واستحقاق العقوبة.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن أبي زاهر، عن الحسن بن موسى الخشاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من الولاية ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان، فهو الملبس بالظلم.

* الشرح:

قوله (والذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم) تقول لبست الأمر - بالفتح - ألبسه - بالكسر - إذا خلطت بعضه ببعض، وقوله «بما جاء» متعلق بآمنوا يعني الذين آمنوا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) من الولاية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يخلطوا ولايته بولاية فلان وفلان أولئك لهم الأمن من العذاب وهم مهتدون إلى طريق الحق، فقد فسر الظلم في هذه الآية بظلم مخصوص ومعصية معينة وهي الخلط المذكور، وفسره أكثر المفسرين بالشرك وبعضهم بالمعصية مطلقا وتفسيرهم شامل لما نحن فيه.

قوله (فهو الملبس بالظلم) ضمير «هو» راجع إلى أمر معلوم وهو الذي خلط الولاية النبوية بالولاية الثنوية، والملبس بكسر الباء المشددة - قال الجوهري: التلبيس كالتدليس والتخليط شدد للمبالغة ورجل لباس ولا تقل ملبس ويفهم من هذا الحديث بطلان قوله ولا تقل ملبس، وإرجاعه إلى الولاية أو إلى خلطها وقراءة الملبس بفتح الباء بعيد جدا.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن نعيم الصحاف قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فقال: عرف الله إيمانهم بولايتنا وكفرهم بها، يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم (عليه السلام) وهم ذر.

* الشرح:

قوله (فمنكم مؤمن ومنكم كافر) في سورة التغابن هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن دم المؤمن لكونه أكثر، و «عرف» إما من المعرفة أو من التعريف والثاني أنسب، ولعل السائل سأل عن وقت الإ يمان والكفر، وعن سببهما جميعا ولذلك أجاب (عليه السلام) عنها بقوله عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق على ولايتنا في صلب آدم وهم ذر والذر

ص:53

واحدتها الذرة وهي تطلق على النملة الصغيرة وعلى ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة وكلاها محتمل، وبناء الأول على التشبيه في الصغر والدبيب، توضيح ذلك نسل آدم كانوا كامنين في صلبه فلما أراد الله تعالى أن يأخذ منهم الميثاق على الربوبية والرسالة والولاية تعلق نور إرادته وقدرته بآدم فانتقل كل من كان فيه من حد الكمون إلى حد الظهور على مثال الذر مع العقل والفهم فأخذ منهم الإقرار بالولاية فمنهم من أقر بها وآمن ومنهم من أنكرها وكفر فيومئذ كان الإيمان والكفر وامتاز المؤمن من الكافر.

فإن قلت: قوله (عليه السلام) «في صلب آدم» ينافي قوله «وهم ذر» لأنهم إن كانوا ذرا لم يكونوا في صلب آدم بل كانوا خارجين منه، وإن كانوا في صلبه لم يكونوا ذرا؟ قلت: لا تنافي بينهما لاحتمال كونهم ذرا وهم في صلبه، ولا بعد فيه بالنظر إلى القدرة القاهرة.

فإن قلت: هذا التوجيه ينافي ما في بعض الروايات من أنه أخذ منهم الميثاق بعد خروجهم من صلبه وهم ذر يدبون؟ قلت: لا يبعد أن يقال: إن أخذ الميثاق وقع ثلاث مرات تأكيدا ومبالغة مرة بعد عرك الطين حين خرجوا كالذر يدبون، ومرة حين كونهم ذرا في صلب آدم (عليه السلام) بعد تكميل خلقة، وقبل نفخ الروح فيه، ومرة ثالثة بعد نفخه حين خرجوا من صلبه يدبون حتى رآهم آدم (عليه السلام) والروايات الآتية في باب الكفر والإيمان ربما تشعر بذلك وهذا الذي ذكرته من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

* الأصل:

5 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يوفون بالنذر) قال: يوفون بالنذر الذي اخذ عليهم من ولايتنا.

* الشرح:

قوله (يوفون بالنذر) النذر التزام الشيء وإيجابه على نفسه، ومنه العهد الذي أخذه الله تعالى على عباده حين كونهم ذرا من ولاية الأئمة (عليهم السلام) والمراد بالوفاء بها الإقرار بها بعد وجودهم في الأعيان إلى انقضاء العمر.

* الأصل:

6 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم)

ص:54

قال: الولاية.

* الشرح:

قوله (قال الولاية) الظاهر أنه بيان لما أنزل وإنما فسره بالولاية مع أنه أعم منها لأنها مقصودة منه أولا وأصل للبواقي، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون بيانا للتوراة والإنجيل أيضا لأن الولاية مذكورة فيهما أيضا، والمراد بإقامتها إذاعتهما والإقرار بما فيهما مما يجب الإقرار به كالتوحيد والرسالة والولاية ونحوها مما يكون مستمرا في هذه الشريعة.

* الأصل:

7 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن المثنى، عن زرارة، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قال: هم الأئمة (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (قال هم الأئمة) (1) اتفق المفسرون على أن القربى أهل البيت (عليهم السلام) وذهب النواصب إلى أن هذه الآية منسوخة ورد عليه الثعلبي في تفسيره بأنه لاوجه لنسخها وكيف تكون منسوخة والحال أن محبة أهل البيت من جملة أصول الدين وأركان الإسلام وخلاف ذلك كفر وموجب للخروج من الإسلام، والدليل عليه ما رواه عبد الله بن حامد الأصفهاني بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «من مات على حب آل محمد فهو شهيد تائب مغفور مرحوم كامل الإيمان، يبشره ملك الموت بالجنة ويفتح له في قبره باب من الجنة ويزوره ملائكة الرحمة في قبره ويزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ومن مات على بغض آل محمد فهو كافر لا يشم رايحة الجنة، مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله». فإذا كان حب آل محمد بهذه المرتبة وكان أجر أداء الرسالة الذي لا يوازنه شيء كيف تكون الآية منسوخة؟ وما سبب نسخها؟

* الأصل:

8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن علي ابن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يطع الله ورسوله (في ولاية علي وولاية

ص:55


1- 1 - قوله «هم الأئمة» يعني القربى وهذه الآية في سورة حم السجدة وذكرها الكميت في قصيدته البائية المعروفة: وان لنا في آل حم آية * تأولها منا تقي ومعرب (ش)

الأئمة من بعده) فقد فاز فوزا عظيما) هكذا نزلت.

* الشرح:

قوله (هكذا نزلت) ظاهره أن الآية نزلت هكذا لفظا وتصرفت فيها يد التحريف ويحتمل أنها نزلت هكذا معنى بتفسير الروح الأمين، وعلى التقديرين علم ولاية على والأئمة من بعده من هذه الآية بالتنزيل لا بالتأويل، والفرق أن الولاية مقصودة من الآية على الأول ومندرجة فيها باعتبار ملاحظة أمر خارج وهو أنه تعالى ورسوله أمر بها على الثاني إذ لو لم يعلم ثبوتها بدليل آخر لم يعلم اندراجها في هذه الآية، وسيجئ زيادة توضيح لذلك.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان رفعه إليهم في قول الله عز وجل: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (في علي والأئمة) (كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا).

* الشرح:

قوله (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي ما صح أو ما جاز لكم أن تؤذوا رسول الله وتفعلوا ما يكرهه في علي والأئمة من بعده بعداوتهم وبغضهم ومنع حقوقهم من الولاية وغيرها كالذين آذوا موسى واتهموه بقتل هارون فبرأه الله مما قالوا بإحيائه وإخباره ببراءة موسى. وهذا يحتمل أن يكون تنزيلا وأن يكون تأويلا ومما يدل على أن إيذاء علي إيذاء النبي ما رواه أحمد بن حنبل في «مسنده» والشافعي ابن المغازلي في «المناقب» من عدة طرق أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من آذى عليا فقد آذاني» وزاد فيه ابن المغازلي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «يا أيها الناس من آذى عليا فقد آذاني وبعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا. فقال جابر بن عبد الله الأنصاري: يا رسول الله! وإن شهدوا أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) يا جابر كلمة يحتجون بها أن لا تسفك دماؤهم وتؤخذ أموالهم وأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون».

* الأصل:

10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن السياري، عن علي بن عبد الله قال:، سأله رجل عن قوله تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) قال: من قال بالأئمة واتبع أمرهم ولم يجز طاعتهم.

* الشرح:

قوله (قال من قال بالأئمة) تفسير للتابع والمتبوع يعني من اعتقد بالأئمة الطاهرين واتبع أمرهم ونهيهم ولم يجز طاعتهم ولم يتركها فلا يضل في الدنيا عن طريق الحق ولا يشقى في

ص:56

الآخرة باستحقاق العقوبة، وفيه دلالة على أن التابع لهم في جميع الأمور ناج في الآخرة من جميع المكاره، وأما من اعتقد بهم وترك طاعتهم فهو في خطر والشفاعة تدركه إن شاء الله.

* الأصل:

11 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله رفعه في قوله تعالى: (لا اقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد) قال أمير المؤمنين وما ولد من الأئمة (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل) «لا» زايدة أو نافية من باب الإنكار والتعجب أي لا أقسم بهذا البلد والحال أنك حال فيه بل أقسم به البتة لحصول مزيد شرف له بحلولك فيه، وهذا كما تقول: لا أحضر في ذلك المجلس والحال أن حبيبي فيه يعني أحضره قطعا. قوله (ووالد وما ولد) عطف على «هذا البلد» أي أقسم بوالد وما ولد، الوالد أمير المؤمنين «و ما ولد» الأئمة من ولده، قيل: تنكير والد للتعظيم وإيثار «ما» على «من» للتعجب كما في قوله (والله أعلم بما وضعت) والمفسرون من أهل السنة قالوا الوالد آدم أو إبراهيم، «وما ولد» ذريتهما أو محمد (صلى الله عليه وآله)، وتفسير الأئمة أولى بالاتباع لأنهم أعرف بمراد الله تعالى وأعلم بموارد آيات القرآن.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمه ومحمد بن عبد الله، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) قال: أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين والأئمة) قد تقرر عندنا أن ذا القربى الأئمة (عليهم السلام) وأن السهام الثلاثة المذكورة بعد النبي لهم، وأما العامة فقد اختلفوا فقال بعضهم: ذو القربى بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وقال بعضهم: بنو هاشم وحدهم، وقال بعضهم: جميع قريش، وذهب أبو حنيفة عنادا أو جهلا إلى أن تلك السهام تسقط بعد الرسول ويصرف الكل إلى الثلاثة الباقية اليتامى والمساكين وابن السبيل، وقال بعضهم: يصرف سهم الله إلى الكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة اقسام قسمان للسلطان والثلاثة للثلاثة، وقيل: سهم الله لبيت المال، والباقي كما ذكر.

* الأصل:

13 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا

ص:57

عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) قال: هم الأئمة.

* الشرح:

قوله (وممن خلقنا أمة) وصف الله تعالى أمة - يعني طائفة من هذه الأمة - بأنهم يهدون الخلق بالحق الذي هو دين الإسلام وحدوده ومعارفه، وبه يعدلون أي بالحق يعدلون ويحكمون حكما عدلا وقسطا لا ظلما وجورا، وقد أشار (عليه السلام) إلى أنهم الأئمة (عليهم السلام) ولا ريب فيه لأن تلك الصفات لا تتحقق إلا فيمن هو أمين معصوم عادل عارف عالم بالدين وأحكامه وحدوده بأسرها، وهم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) كما دل عليه قوله المنقول من طرق العامة والخاصة: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح - الحديث» وقال القاضي: (ذكر الله تعالى ذلك بعدما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة امة هادين بالحق عادلين في الأمر).

أقول: فانظر كيف أجرى الله سبحانه الحق على لسانه ليكون حجة عليه; لأن هذه الامة وجب أن يكون بهذه الصفة أبدا وإلا لزم اندراجهم في الامة الاولى فبطل الغرض من خلقهم، والمتصف بهذا الصفة أبدا لا يكون إلا معصوما، لا يقال: لعله يراد بهذه الامة أهل الإجماع وهم معصومون فيما أجمعوا عليه بدليل قوله: «لا يزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله»، لأنا نقول:

لا دلالة في الآية على أنه تعالى خلق في كل عصر طائفة موصوفين بالصفات المذكورة وعلى اجتماعهم في أمر واحد لجواز أن يخلق كل واحد منهم في عصر، ولو سلم فنقول: اختلاف أهل الإجماع في الموارد الكلية والجزئية أكثر من اتفاقهم على بعض تلك الموارد، فيكون عدولهم عن الحق أكثر من قيامهم بالحق، وهو ينافي دوام القيام بالحق المستفاد من الآية، والحديث المذكور - كالآية - دليل لنا لا علينا، وتمام البحث قد ذكرناه في بعض كتبنا الاصولية.

* الأصل:

14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى، (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب) قال: «أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة، (واخر متشابهات) قال: فلان وفلان، (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أصحابهم وأهل ولايتهم (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام)».

* الشرح:

قوله: (في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات)) كما

ص:58

أن في الكتاب آيات محكمات معراة عن احتمال خلاف المقصود أحكامها لفظا ومعنى هن ام الكتاب وأصله يرد إليها غيرها، واخر متشابهات محتملات لوجوه مختلفة بعضها ظاهر وبعضها باطن وبعضها حق وبعضها باطل، لا يعرف الحق من الباطل إلا الراسخون في العلم، وأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف عن الحق فيتبعون ما تشابه منه ويتلقونه بوجه باطل لابتغاء فتنة الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس وابتغاء تأويله على ما يشتهونه، كذلك في هذه الامة طائفة محكمة في الظاهر والباطن والعلم والعمل هم بمنزلة الآيات وهم أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، وطائفة متشابهة بمنزلة الآيات المتشابهات لهم ظاهر وباطن، ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر والنفاق وهم فلان وفلان وفلان يعني الثلاثة، وما يعلم تأويل كفرهم وفساد رأيهم وبطلان عقيدتهم إلا الله والراسخون في العلم وهم أمير المؤمنين والأئمة من بعده ومن تبعهم، فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف عن الحق إلى الباطل فيتبعون الطائفة المتشابهة لابتغاء الفتنة يعني متاع الدنيا وابتغاء تأويلهم بعد قبايحهم حسنات، وبالجملة شبه الأئمة بالآيات المحكمات (1) والأول والثاني والثالث بالمتشابهات، وأصحابهم بالذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه، والله العالم.

* الأصل:

15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة): «يعني بالمؤمنين الأئمة (عليهم السلام) لم يتخذوا الولائج من دونهم».

* الشرح:

قوله: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الاستفهام للإنكار

ص:59


1- 1 - قوله: «شبه الأئمة بالآيات المحكمات» التمثل بالقرآن جائز في كل مورد يناسب معنى الآية ووقع في أحاديث الأئمة (عليهم السلام) منها كثير، والتمثل بالقرآن احسن وأولى من التمثل بأشعار العرب وأقوال الفصحاء، وتمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول الأعشى: شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر وحكي أن نوح بن منصور الساماني خوف بعض قواده الخارج عن طاعته بالعذاب والتنكيل وأرسل إليه كتابا في ذلك، فكتب في جوابه كاتب القائد: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)، وهو من أحسن التمثلات، وقد جرت سيرة الادباء بالتمثل بالآيات والأحاديث كثيرا وكذلك الأئمة (عليهم السلام) تمثلوا، وربما يتوهم الجاهل أنه من التفسير وأن غرض الأئمة (عليهم السلام) بيان مورد الآية ومعناها، وقول الشارح هنا يشير إلى ما ذكر، يعني ليس مراد الإمام (عليه السلام) تفسير المحكمات بأمير المؤمنين (عليه السلام)، بل المراد التشبيه والتمثيل وأن الشيء بالشيء يذكر. (ش)

والتوبيخ، والجهاد يشمل جهاد النفس وجهاد العدو و «لما» مثل لم إلا أن في «لما» توقع الفعل فيما يستقبل بخلاف لم، وقد ينزل عدم تحقق المعلوم بعد منزلة عدم تحقق العلم مجازا أو شبه حاله معهم بحال المختبر مع صاحبه ليعلم ووليجة الرجل خاصته وبطانته ودخلاؤه ومن يتحذه معتمدا عليه.

* الأصل:

16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، [قال]:

قلت: ما السلم؟ قال: «الدخول في أمرنا».

* الشرح:

قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الجنوح الميل، جنح فلان إذا مال، وقد يعدى باللام، والى والسلم - بكسر السين وفتحها وسكون اللام - الصلح، والضمير في (لها) راجع إلى السلم، وتأنيثه باعتبار أن السلم يذكر ويؤنث كما صرح به في المغرب، وقيل: تأنيثه بحمل السلم على نقيضها فيه وهو الحرب.

* الأصل:

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (لتركبن طبقا عن طبق) قال: «يا زرارة، أو لم تركب هذه الامة بعد نبيها طبقا عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان؟!».

* الشرح:

قوله: (أو لم تركب هذه الامة بعد نبيها طبقا عن طبق) الاستفهام للتقرير، والطبق - بالتحريك - الحال المطابقة بحال اخرى، أي قد ركبت هذه الامة بعد نبيها حالا بعد حال مطابقة لاختها في الشدة أو في الشناعة أو في العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) في أمر فلان وفلان وفلان. وفي تفسير علي بن إبراهيم (رحمه الله): «لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لاتخطئون طريقتهم، حتى أن لو كان من قبلكم دخل حجر ضب لدخلتموه»، والمشهور عند المفسرين أن تلك الطبقات هي الموت ومواطن القيامة و أهوالها أو هي وما قبلها من الدواهي (1).

* الأصل:

18 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حماد بن عيسى، عن

ص:60


1- 1 - قوله: (و ما قبلها من الدواهي) وما روي عن الإمام ليس تفسيرا للآية بل تمثلا بها; لأن الشيء بالشيء يذكر. (ش)

عبد الله ابن جندب، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) قال: «إمام إلى إمام».

* الشرح:

قوله: (ولقد وصلنا لهم القول) وصله توصيلا إذا أكثر من الوصل، أي ولقد وصلنا لهم القول في ولاية الأئمة وأتبعنا بعضا، وجعلنا إماما إلى إمام لا فصل بينهما ليتصل الحجة بالحجة لعلهم يتذكرون فيؤمنون به ويطيعونه ويهتدون إلى ما هو صالح لهم في الدنيا والآخرة. يدل على ذلك أيضا ما رواه علي بن إبراهيم حيث قال في تفسيره: أخبرنا أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد، عن معاوية بن حكيم، عن أحمد بن محمد، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) قال: «إمام بعد إمام»، والمفسرون فسروا القول (1) بالمواعظ والنصايح.

* الأصل:

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان، عن سلام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا) قال: «إنما عني بذلك عليا (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمة (عليهم السلام)، ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: (فان آمنوا) يعني الناس (بمثل ما آمنتم به) يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق».

* الشرح:

قوله: (في قوله تعالى (آمنا بالله)) خاطب الله المؤمنين بقوله: (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا) إنما عني بذلك عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجرت الآية بعدهم في الأئمة أيضا، ثم يرجع القول من الله في الناس الذين لم يؤمنوا بهم فقال: فإن آمنوا، يعني الناس المذكورين بمثل ما آمنتم به يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) فقد اهتدوا كما اهتديتم، وان تولوا وأعرضوا عن الإيمان فإنما هم في شقاق الحق وهو المخالفة، فإن كل واحد من المتخالفين في شق غير شق الآخر. وقوله (بمثل ما آمنتم به) من باب التعجيز والتبكيت كقوله (فأتوا بسورة من مثله) إذ لا مثل لمن آمن بهم المؤمنون. وبعض المفسرين فسروا (ما أنزل إلينا) بالقرآن، وبعضهم فسروه بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو شامل لما نحن فيه على سبيل العموم.

ص:61


1- 2 - قوله: «و المفسرون فسروا القول» ولا منافاة بين تفسيرهم وما ذكره الصادق (عليه السلام)، وقوله تعالى (وصلنا لهم القول) أي بنصب إمام يقول ويعظ وينصح بعد إمام وتوصيل الإمام بالإمام لتوصيل القول بالقول. (ش)

* الأصل:

20 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا) قال: «هم الأئمة (عليهم السلام) ومن اتبعهم».

* الشرح:

قوله (إن أولى الناس بإبراهيم) أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه للذين اتبعوه من امته وهذا النبي لموافقته له في أصول شريعته والذين آمنوا بهذا النبي إيمانا حقيقيا وهم الأئمة (عليهم السلام) ومن اتبعهم من الشيعة وفيه قطع لافتخار كل من نسب نفسه إليه في النسب، أو الذين مع مخالفته له في اصول شريعته التي من جملتها تعيين الخليفة، هذا إذ قرأ «النبي» بالرفع على أنه خبر بعد خبر ك (إن)، وأما إن قرئ بالنصب على العطف بالهاء في «اتبعوه» أو بالجر على العطف بإبراهيم فيظهر معناه بأدنى تأمل ويتعين حينئذ تفسير الذين آمنوا بالأئمة لا بهم وبمن اتبعهم ويفتقر في قراءة الجر إلى تقدير، والسياق قرينة له فليتأمل.

* الأصل:

21 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن ابن اذينه، عن مالك الجهني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله عز وجل: (واوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (فأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) هذه الآية من جملة المتشابهات (1) التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، إذ يحتمل أن يراد بضمير المخاطبين الموجودين في عصره (صلى الله عليه وآله) ويعطف من بلغ عليه ويراد به من يوجد إلى يوم القيامة،

ص:62


1- 1 - قوله: «هذه الآية من جملة المتشابهات» ليس مفهوم الآية متشابها بوجه ومعناه الظاهر ما ذكره المفسرون وأن كل من بلغه دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) فهو مكلف بمتابعته، وبالجملة من بلغ عطف على الضمير المنصوب الظاهر في قوله تعالى: (أنذركم) وأما احتمال كونه عطفا على الضمير المستتر المرفوع في (أنذركم) فبعيد جدا لا يجوز أن يدفع به الظاهر. وإنما قلنا بعيد لأن إطلاق من بلغ وإرادة من بلغ الإمامة من غير أن يكون في اللفظ أو العقل قرينة عليه غير صحيح، وكان الشارح زعم الحديث صحيحا من جهة الإسناد يقطع به العذر ويثبت به الحجية ويترك به ظاهر القرآن، وليس كذلك لأن معلى بن محمد ضعيف ومالك بن أعين مجهول الحال، قيل: إنه ليس منا، وعلى فرض اعتباره لا يجوز حمل ظاهر القرآن على وجه غير بليغ مرغوب عنه عند الفصحاء. (ش)

ويكون المعنى لأنذركم به وانذر من بلغه إلى يوم القيامة كما ذهب إليه المفسرون، وفيه دلالة على انه لا يؤاخذ من لم يبلغه ويحتمل أن يراد بضمير المذكور الموجودون في عصره (صلى الله عليه وآله) ويدخل في حكم الإنذار من يوجد بالاجماع، أو يراد به الجميع على الاختلاف ويعطف من بلغ على الضمير المرفوع المستتر في انذركم لوقوع الفصل كما أشار إليه (عليه السلام)، ويكون معناه حينئذ لانذركم به ولينذر من بلغ. ومن البين أن كل من بلغ لا يصلح أن يكون منذرا بل هو من كان عالما بجميع ما فيه مثل النبي (صلى الله عليه وآله) لكونه قائما مقامه فلذلك فسره (عليه السلام) بقوله: «من بلغ» أن يكون إماما من آل محمد لاتفاق الأئمة على أن غيره لا يعلم جميع ما في القرآن.

* الأصل:

22 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مفضل به صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) قال: عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده، فترك ولم يكن له عزم أنهم هكذا، و إنما سمي اولوا العزم اولي العزم لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده والمهدي وسيرته وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك والإقرار به.

* الشرح:

قوله (قال عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده) لعل المراد أنه تعالى أخذ الميثاق على النبيين بأن محمدا رسولي وعليا أمير المؤمنين وأوصياءه من بعده ولاة أمري وخزان علمي وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي فعزموا على الاقرار وقالوا: يا رب أقررنا وشهدنا، إلا أن قوة خمسة منهم كانت أقوى وعزائمهم كانت أوكد لأن مراتب القوة في قبول العهد متفاوتة ودرجات العزائم في الإقرار به متصاعدة، فلذلك سموا اولي العزم لتأكد القوة والعزم فيهم، وأما آدم (عليه السلام) فهو وان عزم على قبول العهد وأقر به إلا أنه لما كان متأسفا ومتحزنا فيما يجري على أولاده من النوايب وما يرد عليهم من القتل والأسر والمصايب بيد الإمام المنتظر الصاحب (عليه السلام) كأن لم يعزم على قبول العهد وتركه ولم يقر به لأن المتأسف بأمر وإن أقر به ظاهرا وباطنا كأنه غير مقر به، وليس المراد أنه (عليه السلام) لم يقر به حقيقة لأن النبي العظيم الشأن لا يليق به عدم القرار بأمر ربه وعدم الرضا بقضائه، وما ذكرناه من باب الاحتمال (1) والله جل شأنه أعلم

ص:63


1- 1 - قوله «من باب الاحتمال» يعني أقر به متأسفا فكأنه لم يقر به، وهذا التأسف جار في كل من اطلع على حال الكفار والفساق، حتى الأنبياء اولي العزم فيتأسفون على ترك جماعة من الناس أحكام الله تعالى وعلى عصيانهم وكفرهم، وحمله المجلسي قدس سره على ترك الأولى، ولكن الخطب سهل لأن مفضل بن صالح راوي هذا الحديث، قال العلامة في الخلاصة: ضعيف كذاب يضع الحديث. (ش)

بحقيقة الحال.

قوله (فترك) تفسير لقوله «نسي» يعني أن المراد بالنسيان الترك واللازم له لا معناه الحقيقي. ثم المراد بالترك ليس معناه الحقيقي وهو ترك العهد وعدم الإقرار به لما ذكرناه، بل المراد التأسف به فجعل ما هو من مبادى الترك غالبا بمنزلته مجازا، وقس عليه قوله ولم يكن له عزم أنهم هكذا وهكذا إشارة إلى ما فهم ضمنا ودل عليه صريح بعض الأحاديث من قتل بني آدم وأسرهم بين يدي الصاحب.

قوله (والمهدي وسيرته) أي طريقته في القتل والأسر والانتقام وغيرها.

قوله (وأجمع عزمهم) على ذلك من غير تأسف وتحزن (1) وشائبة إكراه يجعل الإقرار والعزم كلا إقرار ولا عزم.

* الأصل:

23 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله، عن محمد بن عيسى القمي، عن محمد بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل) كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) من ذريتهم «فنسي» هكذا والله نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات) لعل المراد بالكلمات ما أشرنا إليه آنفا.

قوله (فنسى) قد عرفت معنى النسيان.

قوله (هكذا والله نزلت) لعل المراد هكذا نزلت لفظا في القرآن أو نزلت معنى بتفسير جبرئيل (عليه السلام) بأمر ربه، وهو على التقديرين تنزيل لا تأويل (2).

* الأصل:

24 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن خالد بن ماد، عن محمد بن الفضيل، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) (فاستمسك بالذي

ص:64


1- 2 - بل تأسفوا كما قال تعالى (فلما اسفونا).
2- 1 - قوله «و هو على التقديرين تنزيل لا تأويل» كلام دقيق يليق بالتأمل الصادق لدفع أوهام جماعة يزعمون أن كل ما ورد في الأحاديث أن القرآن نزل هكذا على خلاف ما في المصحف المعروف لا يدل على التنزيل اللفظي، بل يمكن أن يراد تنزيل المعني وهو حسن جدا، ومع ذلك فالحديث ضعيف بمحمد ابن سليمان قال النجاشي: محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي ضعيف جدا لا يعول عليه في شيء. انتهى. (ش)

اوحي إليك إنك على صراط مستقيم) قال: إنك على ولاية علي، وعلي هو الصراط المستقيم.

* الشرح:

قوله (قال: إنك على ولاية علي وعلي هو الصراط المستقيم) دل على أن فيه مضافا محذوفا وإنما سمي (عليه السلام) صراطا مستقيما لأنه طريق الحق المستوى الذي لا يضل سالكه ومن تمسك بذيله أبدا، وهذا التفسير أحسن مما قيل من أن الصراط المستقيم عبارة عن الدين (1) لأنه حينئذ تأكيد لفهم ذلك من الأمر بالاستمساك والوحي لأن الله لا يأمر بالاستمساك ولا يوحي إلى نبيه إلا دينا مستقيما، والتأسيس أولى من التأكيد.

* الأصل:

25 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في علي بغيا)».

* الشرح:

قوله (بئس ما اشتروا به أنفسهم) ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن فيه، واشتروا به صفته ومعناه باعوا واستبدلوا على سبيل التشبيه والاستعارة، وأن يكفروا مخصوص بالذم وبغيا علية ليكفروا أو اشتروا، والفصل ليس بأجنبي يعني بئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم وهو الإيمان وذلك الشيء كفرهم بما أنزل الله في علي بغيا وعدوانا لغصبهم حقه حسدا وعنادا، وربما يتوهم أن في هذا الحديث (2) دلالة على أن قوله في علي كان في نظم التنزيل وهم حذفوه إخفاء لأمره».

* الأصل:

26 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد هكذا: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فأتوا بسورة من مثله).

ص:65


1- 2 - قوله «عبارة عن الدين» وليس الدين إلا طريقة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكل صراط غير صراطه ليس بمستقيم وكل ما ليس بمستقيم ليس من الدين في شيء، ولو لم يكن هذا الحديث لم يكن لنا شك في كون الصراط المستقيم صراط علي (عليه السلام) بما تحقق لنا من سيرته وعمله وعلمه وإخلاصه. (ش)
2- 1 - قوله «وربما يتوهم الخ» إشارة إلى أن هذا توهم باطل، بل المراد أنه تنزيل المعنى لا تنزيل اللفظ. (ش)

* الشرح:

قوله (قال نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا (وإن كنتم في ريب)) دل ظاهرا (1) على أن قوله «في علي» كان في نظم القرآن، وأن بناء كونهم في ريب مما نزله الله على محمد (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) على كونهم في ريب من النبوة ومن كون القرآن من عند الله ولذلك خاطبهم على سبيل التعجيز بقوله: (فأتوا بسورة من مثله) ليعلموا أن القرآن من قبله تعالى وأن محمدا نبيه وأن كل ما جاء به في حق علي من قبله تعالى.

* الأصل:

27 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله) بهذه الآية هكذا: (يا أيها الذين أتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا (في علي) نورا مبينا).

* الشرح:

قوله (في علي نورا مبينا) دل ظاهر هذا الحديث على أن قوله «في علي نورا مبينا» كان في نظم القرآن والمنافقون حرفوه وأسقطوه (ونورا) حال عن «علي» وإنما سماه نورا لأنه كما يظهر بالنور الأشياء كذلك يظهر بعلي حقايقها في قلوب المؤمنين، وقوله تعالى بعده (مصدقا لما معكم) أي لما معكم من القرآن حال بعد حال عنه، وقد مر سابقا أنه يصدق القرآن والقرآن يصدقه وأوضحنا ذلك هناك.

* الأصل:

28 - علي بن محمد، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي طالب، عن يونس بن بكار، عن أبيه، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم).

* الشرح:

قوله (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم) قوله: «في علي» يحتمل التنزيل والتأويل، و «خير» هنا مجرد عن معنى الزيادة كما في قوله تعالى: (خير من اللهو

ص:66


1- 2 - قوله «دل ظاهرا» لكن هذا الحديث ضعيف قال الشيخان النجاشي والكشي في منخل بن جميل: إنه ضعيف فاسد الرواية، وكذلك العلامة في الخلاصة، وكل رواية في إسناده منخل في هذا الباب حاله كذلك ولا حاجة لنا إلى تصحيح رواية ينسب إلينا بسببها اللين والتسامح وقلة التدبر، مع أن أدلة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضله على الصحابة بل على جميع أفراد البشر بلغت في الوضوح مرتبة اعترفت بها اليهود والنصارى والمشركون وكل من سمع به واطلع على أخباره وقرأ شيئا من كلامه، ومع ذلك فلا فائدة في التمسك بروايات ضعيفة الإسناد واهية المعاني منقولة ممن شهد المتبحرون من علماء الرجال بكذبهم ولا يحتمل صدروها من الأئمة المعصومين (عليهم السلام). (ش)

ومن التجارة).

* الأصل:

29 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن مثني الحناط عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) قال: في ولايتنا.

* الشرح:

قوله (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (1) الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا، والسلم - بكسر السين وفتحها وسكون اللام - في الأصل الاستسلام والطاعة، والمراد هنا الولاية، و (كافة) - وهي اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق - حال عن الضمير أو السلم لأنها مؤنث كالحرب، والخطوات - بسكون الطاء وضمها وفتحها - جمع الخطوة بالضم في القلة وهي بعد ما بين القدمين في المشي، يعني يا أيها الذين آمنوا بولاية علي وطاعته ظاهرا ادخلوا كافة في ولايته وطاعته ظاهرا وباطنا على صميم القلب ولا تتبعوا خطوات الشيطان ووساوسه وأمره بالتفرق والتفريق والكفر، (إنه لكم عدو مبين) ظاهر العداوة يريد أن يخرجكم عن الدين ويزيلكم عن الحق.

* الأصل:

30 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله جل وعز: (بل تؤثرون الحياة الدنيا) قال:

ولايتهم، (والآخرة خير وأبقى) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، (إن هذا لفي الصحف الاولى * صحف إبراهيم وموسى).

* الشرح:

قوله: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا) قال: ولايتهم) ذم الأشقياء وهم أئمة الجور ومن تبعهم بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا وزخارفها على الآخرة وعبر بالحياة الدنيا عن ولا يتهم لأنها سبب لجمعها من كل وجه وصرفها في التوسع والتعيش وبذلها في غير وجوه شرعية وطرق عدلية. وعبر بالآخرة عن ولاية علي (عليه السلام) لأن ولايته سبب للوصول إلى نعيمها والفوز بسعادتها والنجاة عن شقاوتها، ثم رغب في اختيار الآخرة بأنه خير وأبقى من الدنيا وما فيها لأن كل نعيم الآخرة خالص

ص:67


1- 1 - قوله: «في السلم كافة» لا ريب في أن ولايتهم سبب السلم في الآخرة والدنيا وأن خطوات الشيطان متابعة أعدائهم، وكذلك ولاية أهل الجور من إيثار الحياة الدنيا وأما الآخرة فحاصلة بولاية أئمة الحق. (ش)

من الكدورات ومتصف بالبقاء بخلاف نعيم الدنيا والعاقل لا يرجح المكدر المنقطع على الخالص الدائم، وفي بعض النسخ بدل قوله «ولايتهم» «ولاية شبوية» شبوة العقرب أبرتها وقد تطلق عليها أيضا والنسبة شبوية شبه الجاير بالعقرب في الأذى، ثم أشار إلى أن كون الآخرة - يعني ولاية علي (عليه السلام) - خير وأبقى مذكور في الصحف الأولى وصحف إبراهيم وموسى للتنبيه على أن ولايته مما جاء به الرسل وأخبروا به ونطقت به كتبهم.

* الأصل:

31 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن محمد بن علي، عن عمار بن مروان، عن منخل، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (أفكلما جاءكم (محمد) بما لا تهوى أنفسكم (بموالاة علي) فاستكبرتم ففريقا (من آل محمد) كذبتم وفريقا تقتلون).

* الشرح:

قوله (جاءكم محمد بما لا تهوى أنفسكم) أي بما لا تحبه أنفسكم، وقوله: بموالاة علي تفسير لقوله: (بما لا تهوى) (1) وقوله: (فاستكبرتم) ثم إشارة إلى أن علة عدم المحبة بموالاته الاستكبار عن الإيمان به والإقرار بموالاته، ويحتمل أن يكون متفرعا عليه، والحديث تفسير للآية لا ذكر لها بعبارتها، والله أعلم.

* الأصل:

32 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن عبد الله بن إدريس، عن محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (كبر على المشركين (بولاية علي) ما تدعوهم إليه) يا محمد من ولاية علي هكذا في الكتاب مخطوطة.

* الشرح:

قوله (كبر على المشركين بولاية علي) بولاية علي متعلق بالمشركين وصلة له أي عظم على الذين أشركوا بولاية علي ما تدعوهم إليه يا محمد من ولاية علي والإقرار بها ظاهرا وباطنا، «وهكذا» يعني هذه الآية بهذا اللفظ مخطوطة في الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) أو اللوح المحفوظ، وفي بعض النسخ «في الكتاب محفوظة» بالهاء، وفي بعضها «في كتاب محفوظ» بلا هاء.

ص:68


1- 1 - قوله «تفسير لقوله بما لا تهوى» ولا يخفى أن الآية في بني إسرائيل وأنهم كانوا قبل ذلك يقتلون كل نبي يأتي بما يخالف أهواءهم، وكأن الشارح لم ينظر في الآية بتمامها، والرواية ضعيفه وقلنا في منخل راويها ما سبق. (ش)

* الأصل:

33 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن هلال، عن أبيه، عن أبي السفاتج، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) فقال: إذا كان يوم القيامة دعي بالنبي (صلى الله عليه وآله) وبأمير المؤمنين وبالأئمة من ولده (عليهم السلام) فينصبون للناس فإذا رأتهم شيعتهم قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) يعني هدانا الله في ولاية أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (فقال إذا كان يوم القيامة) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه: أيها الناس، أن الله تعالى و عد نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) الوسيلة ووعده الحق ولن يخلف الله وعده، ألا وأن الوسيلة أعلى درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الامنية، لها ألف مرقاة، ما بين المرقاء إلى المرقاء حضر الفرس الجواد مائة عام، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قاعد عليها مرتد بريطتين ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله، عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة، قد أشرف بنوره المواقف، وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته، وعلي ريطتان ريطة من ارجوان النور وريطة من كافور، والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا قد تجللتهم حلل النور والكرامة، لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا وعجب من ضيائنا وجلالتنا، وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (صلى الله عليه وآله) غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء: يا أهل الموقف، طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الامي العربي ومن كفر به فالنار موعده، وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول ظلة يأتي منها النداء: يا أهل الموقف، طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي. والذي له الملك الأعلى، لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقة بالإخلاص لهما والاقتداء بنجومهما، فأيقنوا يا أهل ولاية الله تبييض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين، ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون.

أقول: هذا معنى قوله: فينصبون للناس فإذا رأتهم الشيعة على هذه المنزلة والكرامة وسمعوا هذه البشارة قالوا: الحمد لله الذي هدانا بلطفه وتوفيقه لهذا المقام وهذا الفضل وما كنا لنهتدي إليه بمحض قوتنا لولا أن هدانا الله.

* الأصل:

34 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، ومحمد بن عبد الله، عن

ص:69

علي بن حسان، عن عبد الله بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (عم يتساءلون * عن النبأ العظيم) قال: النبأ العظيم الولاية، وسألته عن قوله: (هنالك الولاية لله الحق) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (و محمد بن عبد الله) عطف على «محمد بن اورمة» وسيأتي ما يدل عليه.

قوله (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال المفسرون معنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يسأل عنه كأنه لفخامته خفى جنسه. وقوله: (عن النبأ العظيم) بيان لشأن المفخم أو صلة (يتساءلون) و (عم) متعلق مفسر به.

قوله (قال النبأ العظيم الولاية) قال في الطرايف: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في كتابه في تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) بإسناده إلى السدي يرفعه، قال: أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، هذا الأمر لنا من بعدك أم لمن؟ قال (صلى الله عليه وآله): يا صخر، الأمر بعدي لمن هو مني بمنزلة هارون من موسى (عليهما السلام)، فأنزل الله عز وجل: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) (1) يعني يسألك أهل مكة عن خلافة علي بن أبي طالب الذي فيه مختلفون، منهم المصدق بولايته وخلافته ومنهم المكذب، قال: (كلا) وهو رد عليهم (سيعلمون) أي سيعرفون خلافته بعدك أنها حق (ثم كلا سيعلمون) أي سيعرفون خلافته وولايته، إذ يسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا منكر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد الموت، يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟.

قوله (هنالك الولاية لله الحق) الثابت الذي لا يغيره شيء ولا يعتريه ضعف، فلا يقدر أن يشاركه فيها أحد، وفسرها (عليه السلام) بأنها ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أعلم بمواقع التنزيل والتأويل، إنما نسبت إلى الله لأن ما لأوليائه وعليهم ينسب إليه توسعا كما روى عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله تعالى: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: إن الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم، ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته يقول: (انما وليكم الله

ص:70


1- 1 - قوله «عن النبأ العظيم» النبأ العظيم بمقتضى ظاهر الآية هو القيامة، وكأن المراد بهذا الحديث أن ولاية علي (عليه السلام) أيضا نبأ عظيم، والشيء بالشيء يذكر ويتبادر الذهن إلى معنى بعد خطور ما يناسبه بالبال إذ كثر التمثل بآيات القرآن في الأحاديث، ولكن هذا الحديث ضعيف الإسناد ولا حاجة في الاحتجاج على مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضله مع كثرة البراهين الساطعة إلى التمسك بالاحتمالات المشكوكة والدعاوي الواهنة. (ش)

ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة منا.

* الأصل:

35 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا) قال: هي الولاية.

* الشرح:

قوله (فأقم وجهك للدين حنيفا) الدين الطريق إلى الله، والمراد به هنا ولاية علي (عليه السلام)، و (حنيفا) حال عن ضمير والخطاب الخطاب عام، الحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق، وقد غلب هذا الوصف على إبراهيم (عليه السلام) حتى نسب إليه من هو على دينه، يعني أقم وجهك للولاية الثابتة لعلي (عليه السلام) من قبله تعالى ولا تلتفت عنها إلى غيرها من الولايات الباطلة الدائرة وهو تمثيل للإقبال عليها والإقرار بها والمتابعة لها والاهتمام بها وعدم الإعراض عنها أصلا.

* الأصل:

36 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن إبراهيم الهمداني يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) قال: الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة) قيل لجزاء يوم القيامة أو لحسابه أو لأهله، أو فيه كقولك جئت لخمس خلون من الشهر أي في خمس، وإفراد القسط - وهو العدل - لأنه مصدر وصفت به الموازين للمبالغة واريد بها الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، ولعل إطلاقها عليهم من باب الحقيقة اللغوية لأن الميزان في الأصل ما يوزن به الشيء ويعرف به قدره، فالشرع ميزان والنبي ميزان إذ بهما تعرف قدر الحق، واشتهار إطلاقه على هذه الآلة التي لها لسان وكفتان يفيدانه حقيقة عرفية فيها كاشتهار العام في بعض أفراده عند أهل العرف، ولا ينافي ذلك كونه حقيقة لغوية في المعنى الأعم على أنه لو ثبت أنه حقيقة لغوية في الآلة المذكورة فقط لم يمنع ذلك إطلاقه على من ذكر من باب المجاز والمجاز في القرآن شايع.

* الأصل:

37 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن الحسين بن عمر بن يزيد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى:

(ائت بقرآن غير هذا أو بدله) قال: قالوا: أو بدل عليا.

* الشرح:

قوله ((ائت بقرآن غير هذا)) صدره: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا

ص:71

يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا) لعل المراد بالآيات علي وأولاده المعصومون، وقد مر باب أن الآيات التي ذكرها الله تعالى في كتابه هم الأئمة (عليهم السلام)، أو المراد بها الآيات القرآنية المشتملة على ذكرهم وولايتهم، و على التقديرين إذا تتلى عليهم تلك الآيات قال الذين لا يرجون لقاء الرب وجزاءه - يعني المشركين والمنافقين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم -: ائت بقرآن غير هذا ليس فيه ما نستكرهه من وصف علي. أو بدله يعني عليا (1) بأن يجعل مكان آية متضمنة له آية أخرى فقال الله تعالى لرسوله (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي) أي بالتبديل من قبل نفسي (عذاب يوم عظيم).

* الأصل:

38 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن القمي عن إدريس ابن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن تفسير هذه الآية: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين) قال: عني بها لم نك من أتباع الأئمة الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم:

(والسابقون السابقون اولئك المقربون) أما ترى الناس يسمون الذي يلي السابق في الحلبة مصلي، فذلك الذي عني حيث قال: (لم نك من المصلين) لم نك من أتباع السابقين.

* الشرح:

قوله ((ما سلككم في سقر)) قال في النهاية: سقر اسم أعجمي علم لنار الآخرة ولا ينصرف للعجمة والتعريف، وقيل: هو من قولهم سقرته الشمس إذا أذابته، فلا ينصرف للتأنيث والتعريف.

قوله (عني بها لم نك من اتباع الأئمة الذين قال الله تعالى فيهم) الموصول صفة للأئمة يعني إلا الأئمة الذين قال الله تعالى في وصفهم: (والسابقون السابقون) أي السابقون إلى الطاعة والإيمان والإقرار بالله تعالى أو في حيازة الفضائل والكمالات، السابقون في الورود على الله والدخول في أعلى درجات الجنان والفوز بجزيل الثواب والرحمة والرضوان، وقيل هم الذين عرفت في السبق حالهم وعلمت في التقديم مآلهم فلا يحتاجون إلى بيان كمالاتهم وتوضيح حالاتهم.

قوله (أما ترى الناس يسمون الذي يلي السابق في الحلبة مصلي) الحلبة - بفتح الحاء المهملة وتسكين اللام - خيل تجمع للسباق من كل أوب لا تخرج من اصطبل واحد كما يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنصرة: قد أحلبوا واستحلبوا، أي اجتمعوا للنصرة والإعانة. والسابق منها يقال

ص:72


1- 1 - قوله: «أو بدله يعني عليا» «أو بدل عليا» هذا أيضا من باب التمثل بالقرآن وأن الشيء يذكر بنظيره. (ش)

له: المجلي أيضا، هو الذي يقدم على غيره، والمصلي منها هو الذي يحاذي رأسه صلوى السابق، والصلوان عظمان نابتان عن يمين الذنب وشماله.

قوله (لم نك من اتباع السابقين) بيان لقوله: (لم نك من المصلين) وتفسير له.

* الأصل:

39 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن موسى بن محمد، عن يونس بن يعقوب، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) يقول: لأشربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة هي ولاية علي بن أبي طالب والأوصياء (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (و الطريقة هي ولاية علي بن أبي طالب والأوصياء (عليهم السلام)) ومعنى الآية حينئذ أن الخلق لو استقاموا وثبتوا على ولايتهم لأشربنا قلوبهم إيمانا كاملا ينتفعون به في الدنيا والآخرة. فقد شبه الإيمان بالماء الغدق وهو الكثير النافع في التسبب للحياة، وأطلق الماء عليه على سبيل الاستعارة المصرحة ورشحها بذكر الإسقاء، ولو فسر الماء بالرزق كما فسروه به مجازا من باب إطلاق السبب على المسبب كان المراد بالطريقة ولاية الأئمة أيضا لأن ولايتهم سبب لجلب النعم الظاهرة والباطنة كما دلت عليه الآيات والروايات.

* الأصل:

40 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فضالة بن أيوب عن الحسين بن عثمان، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): استقاموا على الأئمة واحدا بعد واحد (تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).

* الشرح:

قوله (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) استقاموا على الأئمة واحدا بعد واحد) دل عليه أيضا ما رواه محمد ابن فضيل عن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن معنى قوله: (ثم استقاموا) قال: هي والله ما أنتم عليه (1). يعني متابعة أهل البيت (عليهم السلام).

ص:73


1- 1 - قوله «هي والله ما أنتم عليه» المتتبع العاقل البصير في السير والأخبار يعلم أن الاختلاف بين الأئمة (عليهم السلام) وبين مخالفيهم كان استمرارا للاختلاف الذي كان بين مشركي مكة ومسلمي المدينة، ولما غلب المسلمون على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) على المشركين ولم يجد هؤلاء بدا من أن يظهروا الإسلام بألسنتهم مكرهين منتهزين فرصة للانتقال، فلما انتقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جوار ربه ولم يكن لهم مقدرة على هدم أساس الدين لتمكنه في قلوب الأكثرين توسلوا بكل وسيلة لسلب الملك عن آل النبي (صلى الله عليه وآله) إذ لم يكونوا يرون نبوته إلا ملكا وكان هذا غاية ما أمكنهم، وكذلك كل عدو مغلوب يجهد حتى يسلب القدرة عن الغالب وأهله، ولم يكن الحرب بين معاوية وعلي (عليه السلام) إلا تكملة لغزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينه وأبي سفيان وكذلك وقعة الطف وقتل الحسين (عليه السلام) و قتل الأنصار في المدينة بأمر يزيد يوم الحرة كان انتقاما منه لنصرتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ترويج الإسلام، وهكذا جرى الأمر في دولة بني امية، فكل من آمن واستقام على الدين من كل جهة فهو من شيعة أهل البيت وكل من خالفهم فهو من أتباع أعداء الإسلام ومشركي مكة سواء كان شاعرا بذلك أو غير شاعر، فرب رجل يتبع طريقة لا يعلم مصدرها وعلة وجودها وسر مخالفتها للطريقة الاخرى. (ش)

والمعنى أن الذين قالوا: ربنا إقرارا بربوبيته ووحدانيته ثم استقاموا على ولاية الأئمة وثبتوا فيها إلى آخر العمر تتنزل عليهم الملائكة في وقت الموت أو في القبر أو في تلك المواضع كلها ألا تخافوا من لحوق المكروه والعقاب، ولا تحزنوا من خوف فوات المرغوب والثواب، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون في الدنيا على لسان الرسول.

والروايات الدالة على سرور المؤمن كل السرور إذا بلغ النفس الحلقوم أكثر من أن تحصى.

* الأصل:

41 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة) فقال: إنما أعظكم بولاية علي (عليه السلام) هي الواحدة التي قال الله تبارك وتعالى: (إنما أعظكم بواحدة).

* الشرح:

قوله (عن محمد بن الفضيل) مشترك بين الغالي وغيره.

قوله ((قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة))، الوعظ النصح والتذكر بالعواقب، وقد فسر المفسرون الواحدة بخصلة واحدة وقالوا هي ما دل عليه قوله تعالى: (أن تقوموا لله) وفسرها (عليه السلام) بولاية علي (عليه السلام) وارتباطها حينئذ بما بعدها لا يخلو من اشكال (1) اللهم إلا أن يكون الباء للقسم و (ان تقوموا) متعلقا ب (أعظكم) بحذف الباء أو بكون الياء للسببية على تقدير أن يكون نسبة الجنون إليه (عليه السلام) باعتبار إفراطه في محبة علي (عليه السلام)

ص:74


1- 1 - قوله «لا يخلو من اشكال» إذ لا يجرى فيه ما ذكرنا في أمثاله في كلامهم من أن الأئمة (عليهم السلام) كثيرا ما كانوا يتمثلون بآيات القرآن كما كانوا يتمثلون باشعار العرب قال علي (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية. شتان ما يومى على كورها * ويوم حيان اخى جابر و الشعر للأعشى ولم يكن مراده ذكر تأخير أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخلافة ولكن تمثل به (عليه السلام) لتشبيه حاله بمدلول الشعر وهنا. ليس مثله قول الباقر (عليه السلام) الواحدة التي في القرآن اريد بها ولاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه ولكن الخطب سهل لضعف الحديث. (ش)

وإظهار ولايته، فليتأمل.

* الأصل:

42 - الحسين بن محمد، من معلى بن محمد، عن محمد بن اورمة، وعلي بن عبد الله، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) لن تقبل توبتهم قال: نزلت في فلان وفلان وفلان، آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) في أول الأمر وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية، حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم كفروا حيث مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء.

* الشرح:

قوله (في قوله الله تعالى: (إن الذين آمنوا) الآية) في سورة النساء هكذا: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا. بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) وليس فيها «لن تقبل توبتهم» نعم هو في آية في سورة آل عمران وهو: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم الضالون) ولعله ذكر آية النساء (1) وضم إليها بعض آية آل عمران للتنبيه على أن مورد الذم في الآيتين واحد وإن كان واحدة منهما مفسرة للاخرى.

قوله (لن تقبل توبتهم) وقع في موقع (لم يكن الله ليغفر لهم) لإفادته مفاده والنفي المؤبد باعتبار انتفاء الموضوع وهي التوبة لعلمه تعالى أزلا بأن من كانت لهم هذه الخصال الذميمة يستحيل منهم التوبة عن الكفر والتمسك بالايمان والتثبت به لعميان بصائرهم عن الحق وتعود ضمائرهم بالباطل، لا باعتبار أنهم لو تابوا وأخلصوا الإيمان لن تقبل منهم ولن يغفر لهم، والله أعلم.

قوله (قال: نزلت في فلان وفلان وفلان) يوافق هذا التفسير ما ذكره بعض المفسرين من أن الآية نزلت في قوم تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي والجحود والعناد

ص:75


1- 1 - قوله: «ولعله ذكر آية النساء الخ» أقول: واحتمال سهو الرواة في نقل الآية قريب جدا كما نرى من الناس في كل زمان، وهذه التكلفات التي ارتكبها الشارح مبنية على مذهب الأخباريين مع أنه لم يكن منهم، يعتقدون أن الرواة معصومون من السهو والنسيان وبعضهم يجوزون السهو على الأنبياء بل على نبينا (صلى الله عليه وآله) ولا يجوزونه على الرواة، بل يقولون: جميع ما روي عنهم ونقلوه في الكتب صادر من الإمام بجميع خصوصيات ألفاظه وهذا اليقين غير ممكن الحصول إلا مع الاعتقاد بعصمة الرواة جميعا. (ش)

إلا إنهم لم يذكروا أن المرتدين من هم.

وقال بعضهم: نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا لعبادة العجل ثم آمنوا بعد عوده إليهم ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليه وآله). ولا يخفي بعده لدلالة الآية على عدم المغايرة في موضوع هذه الصفات المتضادة وما ذكره هذا القائل يدل على مغايرته على أن عبدة العجل تابوا وقبلت توبتهم كما هو مذكور في كتب السير والتفاسير.

قوله (آمنوا بالنبي في أول الامر) لعل المراد بالايمان في الموضعين اقرار اللسان وحده (1) وبالكفر انكاره مع مخالفة القلب له في صورة الإقرار وموافقته في صورة الإنكار.

قوله (حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فهذا علي مولاه) روي أن أحدهم عند القول قال للآخر: انظر إلى عينه تدور كأنها عين مجنون.

قوله (ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين) أي آمنوا باللسان قال علي بن إبراهيم في تفسيره لما نزلت الآية وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الميثاق عليهم لأمير المؤمنين صلوات الله عليه آمنوا إقرارا لا تصديقا، فلما مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفروا وازدادوا كفرا، ولم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم.

* الأصل:

43 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) قلت:

قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما وهو قول الله عز وجل الذي نزل به جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله): (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله (في علي (عليه السلام)) سنطيعكم في بعض الأمر) قال: دعوا بني امية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يعطونا من الخمس شيئا وقالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء ولم يبالوا أن يكون الأمر فيهم، فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي

ص:76


1- 2 - قوله: «إقرار اللسان وحده» والمحققون من علمائنا أن الارتداد لا يكون بعد الإيمان الحق وإنما يتفق بعد الإسلام الظاهري، فرب رجل شاك أو ظان يحكم بإسلامه ظاهرا كما يحكم بإسلام أطفال المسلمين وكفر أطفال الكفار من جهة الأحكام الظاهرية ويسمى كفرهم بعده ارتدادا وهذا إسلام وكفر عند الفقهاء. وأما الإيمان الواقعي والكفر الواقعي عند الله وفي اصطلاح المتكلمين فلا يمكن أن يضل أحد بعد أن هداه الله للإيمان إذ لا يمكن اجتماع الثواب والعقاب في الآخرة، لا بأن يقدم ثواب الإيمان ويؤخر عقاب الارتداد، ولا أن يحبط ثواب إيمانه ويعاقبه في الآخرة محضا أو يثيبه محضا كمن مات على الإيمان. تحقيق ذلك في محل آخر. (ش)

دعوتمونا إليه وهو الخمس ألا نعطيهم منه شيئا وقوله: (كرهوا ما نزل الله) والذي نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان معهم أبو عبيدة وكان كاتبهم، فأنزل الله (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) - الآية.

* الشرح:

قوله: ((ان الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)) تمام الآية: «الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم» الهدى الولاية والنص عليها، والتسويل تحسين الشيء وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله. والإملاء المد في الآمال والأماني، أملى له أي مد له فيهما، وذلك إشارة إلى التسويل والإملاء، والباء في قوله: (بأنهم) للسببية، والضمير فيه للمنافقين وهم فلان وفلان وفلان حيث ارتدوا عن الإيمان بترك ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). وقد روى عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شأن المنافقين حيث أظهروا الإيمان أولا وارتدوا عنه آخرا. وقال أكثر المفسرين:

إنها نزلت في شأن اليهود، وفسروا الهدى بالرسالة ومعجزاتها. وفيه أن الارتداد لا يناسبهم.

قوله (قال: نزلت والله فيهما وفي أتباعهما) ما نزل الله تعالى هو الولاية والكارهين لها هم الثلاثة المذكورة، وإنما خص الأولين بالذكر لأنهما أساس الظلم والجور والذين قالوا لهم: سنطيعكم في بعض الأمر أتباعهم من بني امية وذلك البعض هو منع أهل البيت (عليهم السلام) من الخمس بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما خصوا وعد الإطاعة بالبعض لأن الإطاعة في بعض آخر و هو العهد بأن لا يصيروا أمر الولاية في أهل البيت بعد النبي وقع منجزا في حال حياته.

قوله (و لم يبالوا أن يكون الأمر فيهم) (1) هكذا في أكثر النسخ وفيه دلالة على كمال عداوتهم

ص:77


1- 1 «و لم يبالوا أن يكون الأمر فيهم» هكذا كان سنخ فكر بني امية وسائر أهل الدنيا مثلهم يزعمون أن كل من يجهد لشيء فإنما غرضه تحصيل المال والتنعم، ولم يكونوا يتعقلون للانسان غرضا آخر في حركاته وأفعاله غير ذلك، حتى أن دعوى النبوة من النبي (صلى الله عليه وآله) كان عندهم لجلب المال وتنعمه به وتنعم أولاده بعده بالخمس وغيره فإذا أعطوا من الخمس رضوا واستراحوا إذ حصل غرضهم ومقصودهم ولم يبالوا بامارة من تأمر، وكان هذا غلطا فإنهم (عليهم السلام) ما كان جهدهم إلا لترويج الدين جدهم وتعليم المعارف الحقيقية أحكام الله وإرشاد الناس إلى ما فيه صلاحهم يطلبون به رضا خالقهم، فلم يكن صرف الخمس والأموال عنهم وإيجاب الفقر لهم نقضا لغرض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي زماننا ظهر جماعة من الماديين الملحدين يزعمون أن جميع أفعال البشر وحركاتهم وآرائهم وعقايدهم ودينهم وسياستهم وجميع مظاهر اجتماعهم وجماعتهم لأجل المال والمعيشة سواء اعترفوا به أو لا واستشعروا له أو لا، وكان رئيس هذه الطائفة ومخترع طريقتهم رجلا من بني إسرائيل وهذا دأبهم وسجيتهم في جميع أمورهم ومبنى آرائهم على أصالة المال وجميع الامور تدور حول المال، وأما نظر غيرهم من المجدين في إصلاح أمر البشر ورفع الظلم عنهم فمبنى على تساويهم في الحقوق البشرية والحرية وهؤلاء على التساوي في الأموال ولا يرون الحقوق والحرية شيئا يعني به ويستحسنون الاستبداد المحض للولاة بشرط أن يقسموا الأموال بين الناس بالسوية ولو بالقتل والتشريد والتعذيب فإن المال هو الأصل والنفس والحياة والحرية ليست بشيء في مقابل المال. وأما غير هؤلاء فبناؤهم على أصالة العدل في الحقوق والمساواة في الحرية والاختيار وان لم يوجب التساوي في المال فإن الحق والحرية عندهم أرجح من المال والاستبداد للوالي من أفحش الشرور إذا لم يكن معصوما، واتفق العقلاء على أن الولاة يجب أن يكونوا مقيدين بقيود وأعمالهم مشروطة بشروط، كما سبق، نعم إذا كان معصوما فهو محفوظ من مخالفة أمر الله وما لا يرضى به عمدا وسهوا. (ش)

لأهل البيت (عليهم السلام) حيث قصدوا مع غصب الخلافة منهم كسر قلوبهم لضيق المعيشة، وفي بعض النسخ «ولم يبالوا إلا أن يكون الأمر فيهم» وفيه دلالة على أن الغرض من منع الخمس ألا يقدروا على دعوى الخلافة وانتزاعها من الغاصبين.

قوله (وكان معهم أبو عبيدة) اسمه: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن امية بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن نضر بن كناية، وفي فهر يجتمع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قرشي ومنه تقرشت قريش على الصحيح لا عن النضر بن كنانة، وفي فهر يجتمع بطون قريش كلها ومن لم يكن من ولد فهر فليس بقرشي، وبطون خمسة وعشرون.

قوله (فأنزل الله: (أم أبرموا أمرا)) ذكر الله تعالى ما تعاهدوا عليه في الكعبة ألا يردوا الأمر والخمس إلى أهل البيت (عليهم السلام) فقال: (أم أبرموا أمرا) أي أحكموا بينهم أمرا من رد الولاية ومنع الخمس (فإنا مبرمون) أمرا وهو مجازاتهم بالعذاب أو إثبات الولاية والخمس لأهل البيت، (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم) أي حديث نفوسهم، (ونجواهم) أي حديثهم فيما بينهم من منع الحق بل نسمعها ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ذلك ليكون حجة عليهم يوم القيامة ونحن نجازيهم فيه.

* الأصل:

44 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) قال:

نزلت فيهم حيث دخلوا الكعبة فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين (عليه السلام) فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه فبعدا للقوم الظالمين.

* الشرح:

قوله (قال نزلت فيهم) يعني من يرد الكفر بولاية علي (عليه السلام) وإنكارها وغصبها في بيت الله حال كونه متلبسا بإلحاد أي عدول عن الصراط المستقيم، وبظلم على الرسول ووليه فهما حالان عن فاعل (يرد) أو الثاني بدل عن الأول بإعادة الجار وهو جواب من قوله تعالى (نذقه

ص:78

من عذاب أليم) وعلى هذا مفعول يرد مخصوص، حذف لعلم المخاطب به وقال أكثر المفسرين: حذف مفعوله للدلالة على التعميم، وهو على تقدير عمومه يتناول ما نحن فيه أيضا.

قوله (فالحدوا في البيت بظلمهم) أي فعدلوا عن القصد وانحرفوا عن الحق في بيت الله بسبب ظلمهم، فالباء للسببية والبيت ظرف للالحاد.

* الأصل:

45 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فستعلمون من هو في ضلال مبين) يا معشر المكذبين حيث أنبأتكم رسالة ربي في ولاية علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، من هو في ضلال مبين؟ كذا انزلت وفي قوله تعالى: (إن تلووا أو تعرضوا) فقال: إن تلووا الأمر وتعرضوا عما امرتم به (فان الله كان بما تعملون خبيرا) وفي قوله: (فلنذيقن الذين كفروا (بتركهم ولاية أمير المؤمنين) عذابا شديدا (في الدنيا) ولنجزينهم أسوء الذي كانوا يعملون).

* الشرح:

قوله (يا معشر المكذبين) أي فستعلمون عند الموت أو بعده يا معشر المكذبين لرسالتي من أجل أني أنبأكم رسالة ربي في ولاية علي والأئمة من بعده من هو في ضلال مبين منا أو منكم؟ وهم نسبوا الضلالة إليه (صلى الله عليه وآله) من أجل تبليغ الولاية مرارا وقالوا: إنما يقول ذلك من قبله حبا لتحقق الرئاسة في أهل بيته وفيه دلالة على أنهم لم يؤمنوا بالله وبرسوله أصلا.

قوله (كذا أنزلت) لا يدل هذا على أن ما ذكره (عليه السلام) قرآن لأن ما أنزل إليه (صلى الله عليه وآله) عند الوحي يجوز أن يكون بعضه قرانا وبعضه تأويلا وتفسيرا، وقد أشار صاحب الطرائف إلى هذا حيث قال روى الفقيه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى - وذكر حديثا طويلا إلى أن قال: ثم نزل (فاستمسك بالذي أوحى إليك) في أمر علي (إنك على صراط مستقيم) وإن عليا (عليه السلام) (لعلم للساعة وذكر لك ولقومك وسوف تسئلون) عن علي بن أبي طالب هذا آخر الحديث، وكان اللفظ المذكور المنزل في ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) بعضه قرآنا وبعضه تأويلا. انتهى كلامه بعبارته.

قوله (فقال أن تلووا الأمر) لواه أي أماله وصرفه من جانب إلى جانب، وقد يجعل كناية عن التأخر والتخلف يعني أن تصرفوا أمر الخلافة من موضعها وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أو تعرضوا عما امرتم به من ولايته وتخلفتم عنه فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيعاقبكم بذلك.

قوله (فلنذيقن الذين كفروا بتركهم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) عذابا شديدا في الدنيا) بالنوايب

ص:79

والمصائب والقتل والأسر سيما بيد الصاحب، ولنجزينهم في الآخرة أسوء الذي كانوا يعملون أي بأقبح الجزاء على أقبح أعمالهم وهو ترك الولاية، ذلك أي الأسوء الأقبح جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد أي دار الإقامة أبدا جزاء بما كانوا بآياتنا وهو علي بن أبي طالب والأئمة (عليهم السلام) يجحدون.

وقال الذين كفروا بولاية علي (عليه السلام) واتبعوا أئمة الجور حين دخلوا في النار وذاقوا حر عذابها ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس أي الشيطان والإنسان نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ثم صرف الكلام إلى وصف شيعة علي (عليه السلام) وقال: إن الذين قالوا ربنا الله اقرارا بالتوحيد والربوبية ثم استقاموا على الولاية تتنزل عليهم الملائكة ألا لا تخافوا ولا تحزنوا إلى آخر ما ذكر سابقا.

* الأصل:

46 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط عن علي بن منصور، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام): (ذلك بأنه إذا دعي الله وحده (و أهل الولاية) كفرتم).

* الشرح:

قوله (ذلك بأنه إذا دعى الله وحده وأهل الولاية كفرتم) هكذا في جميع النسخ والقرآن «ذلكم» على خطاب الجمع أي ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله وحده وأهل الولاية كفرتم بالتوحيد والولاية وأنكرتموها. يدل على ذلك أيضا ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره حيث قال أخبرنا الحسن بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن جمهور عن جعفر بن بشير عن الحكم بن زهير عن محمد بن حمدان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: (إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) يقول إذا ذكر الله وحده بولاية من أمر الله تعالى بولايته كفرتم، وإن يشرك به من ليست له ولاية تؤمنوا بأن له ولاية.

* الأصل:

47 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سليمان عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين (بولاية علي (عليه السلام)) ليس له دافع) ثم قال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين - الخ) قال القاضي: أي دعا داع به بمعنى

ص:80

استدعاه ولذلك عدى الفعل بالباء، والسائل نضر بن الحارث فإنه قال إن كان هذا هو الحق من عندك أو أبو جهل فإنه قال: (أسقط علينا كسفا من السماء) سأله استهزاء أو الرسول (صلى الله عليه وآله) استعجل بعذابهم.

وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه الكرام (عليهم السلام) ما يوضح هذا المقام ومضمونه أنه لما نصب رسول (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) يوم الغدير للخلافة (1) وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه واشتهر ذلك الخبر ركب الحارث بن النعمان الفهري ناقته حتى لحقه بالمدينة فقال: يا محمد، أمرتنا بكلمة الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج فقبلنا منك، فما ترضى بذلك حتى جعلت ابن عمك عليا أميرا علينا، أهذا من رأيك أو أمر ربك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): بأمر ربي، فقام الحارث وقال: اللهم إن كان محمد صادقا فأمطر علينا حجارة فنزل عليه حجارة من السماء فقتل، فنزل قوله تعالى: (سأل سائل) أي دعا داع بعذاب واقع للكافرين بولاية علي ليس له دافع يرده من الله لتعلق ارادته بذلك حتما.

وقوله (عليه السلام): هكذا والله نزل به جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) لا يدل على أن قوله: «بولاية علي» من القرآن لما عرفت سابقا.

* الأصل:

48 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن سيف، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف (في أمر الولاية) يؤفك عنه من أفك) قال: من أفك عن الولاية أفك عن الجنة.

* الشرح:

قوله (عن أبي جعفر في قوله أنكم لفي قول مختلف) قال الله تعالى: (إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك) قال علي بن إبراهيم في تفسيره: حدثنا جعفر بن أحمد قال حدثنا عبد الكريم بن عبد الرحيم عن محمد بن علي عن محمد ابن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: (إنما توعدون لصادق) يعني في علي (وإن الدين لواقع) يعني في علي (عليه السلام) وعلي هو الدين، وقوله:

(والسماء ذات الحبك) قال السماء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي ذات الحبك، وقوله عز وجل: (انكم لفي قول مختلف) يعني مختلف في علي، اختلفت هذه الامة في ولايته فمن استقام على ولاية علي دخل الجنة ومن خالف ولاية علي دخل النار، وقوله عز وجل: (يؤفك عنه من أفك) يعني من أفك عن ولايته أفك عن الجنة. انتهى.

ص:81


1- (1) - قوله «يوم الغدير للخلافة» وهذا ضعيف ونسبته إلى الصادق (عليه السلام) فرية لأن السورة مكية بالاتفاق، ولو كانت الرواية صحيحة كانت مدنية من سور أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع. (ش)

* الأصل:

49 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن يونس، قال: أخبرني من رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة): يعني بقوله (فك رقبة) ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك فك رقبة.

* الشرح:

قوله (من أفك عن الولاية أفك عن الجنة) الإفك بالكسر الكذب، وبالفتح وصدر قولك أفكه يأفكه أفكا إذا قلبه وصرفه عن الشيء، وأفك فلان فهو مأفوك أي صرف عن الشيء ومنع منه.

قوله (فلا اقتحم العقبة) أي لم يرتكبها ولم يدخل فيها، من اقتحم الإنسان الأمر العظيم إذا رمى نفسه فيه لشدة اعتنائه به. والعقبة الطريق في الجبل، والمراد بها هنا ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) على سبيل التشبيه. والاستعارة كما دل عليه قوله تعالى (وما أدريك) أي ما علمك ما العقبة (فك رقبة) يعنى بقوله فك رقبة ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك فك رقبة من النار، وفي حمله على العقبة بمعنى الولاية مبالغة لأن الولاية سبب لفك الرقاب من النار وهي تفكها منها، فحمله عليها من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة في السببية، أو من باب حمل المصدر على المتصف به كزيد عدل، وأما قوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) وهي مفعلة من سغب إذا جاع، فحمله عليها كحمل المشبه به على المشبه مثل زيد أسد، فإن الولاية سبب لحياة النفس كالإطعام في اليوم المذكور، وإنما خص يتيما ذا مقربة ومسكينا ذا متربة بالذكر لأن إطعامهما أفضل وأدخل في التسبب للحياة.

* الأصل:

50 - وبهذا الإسناد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (بشر الذين آمنوا) أي بشر الذين آمنوا بولاية علي (عليه السلام) بأن لهم قدما صادقة في مقام المجاهدة مع النفس والأعداء عند ربهم، ويمكن أن تجعل كناية عن أن لهم مرتبة سابقة هي مرتبة الإقرار بالولاية في الميثاق عند وجودهم الظلي، وسميت صادقة لأنها موافقة لمرتبتهم في الوجود العيني، أو كناية عن أن لهم منزلة رفيعة ومرتبة في الآخرة لأن ثبات القدم في المجاهدة مستلزم لها.

* الأصل:

ص:82

51 - علي بن إبراهيم عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا (بولاية علي) قطعت لهم ثياب من نار).

* الشرح:

قوله (هذان خصمان) أي هذان فوجان (اختصموا) جمعه حملا على المعنى (في ربهم) أي في قوله أو أمره بولاية علي (عليه السلام) (فالذين كفروا) بولاية علي (عليه السلام) (قطعت لهم) أي قدرت لهم على مقادير جثتهم (ثياب من نار) محيطة بهم كإحاطة الثياب (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) أي الماء الحار وهو خبر بعد خبر أو حال عن الضمير في (لهم). (يصهر) أي يذاب (به) لفرط حرارته (ما في بطونهم) من الأحشاء والأمعاء ويصهر به الجلود فتذاب به الجلود كما تذاب به الأحشاء (ولهم) مع ذلك (مقامع) أي سياط (من حديد) يجلدون بها.

قال علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن حماد، عن ابن طيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال: نحن وبنو أمية قلنا: صدق الله ورسوله، وقال بنو امية: كذب الله ورسوله، (فالذين كفروا) يعني بني أمية (قطعت لهم ثياب من نار) إلى قوله (حديد) قال: تشوبه النار فتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته وتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه (ولهم مقامع من حديد) قال: الأعمدة التي يضربون بها.

* الأصل:

52 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن أورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق) قال:

ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله تعالى هنالك الولاية) قد مر هذا سندا ومتنا وذكرنا ما يتعلق به فلا نعيده.

* الأصل:

53 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

ص:83

* الشرح:

قوله (صبغة الله) الصبغة بالكسر ما يصبغ به ونصبها على الإغراء كما قيل أي ألزموها، والمراد بها الولاية التي صبغ الله المؤمنين بها في الميثاق، وإنما سميت الولاية صبغة لأن الولاية حلية المؤمن كما أن الصبغة حلية المصبوغ. وفي تفسير علي بن إبراهيم: المراد بها الإسلام، وقيل: هي الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، وقيل: هي الهداية أو الحجة، وقيل: هي الإيمان بالله وعبر عنه بالصبغة للمشاكلة باعتبار وقوعه في صحبة صبغة النصارى تقديرا. ولنصبها وجوه آخر تركناها خوفا للإطناب.

* الأصل:

54 - عده من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن المفضل بن صالح، عن محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا) يعني الولاية، من دخل في الولاية، دخل في بيت الأنبياء (عليهم السلام)، وقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) يعني الأئمة (عليهم السلام) وولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النبي (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (رب اغفر لي) طلب مغفرته مع عصمته إما لفتراته وغفلاته أو لاشتغاله ببعض المباحات المانعة من العروج إلى أعلى المقامات أو لعدم إيقاعه بعض الطاعات على أفضل الحالات. أو لتأثر نفسه النورانية ببعض الكدورات عند التنزل من مقام كمال القرب لنصح العباد، والمعصوم يعد كل ذلك ذنبا ويستغفر منه. ههنا زيادة تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

قوله ((ولمن دخل بيتي مؤمنا) يعني الولاية) البيت المنزل والعيال والشرف والمراد به هنا الولاية على سبيل الكناية لأن الدخول في الولاية مستلزم للدخول في بيت الأنبياء بالمعاني المذكورة وكذا العكس، فأطلق الملزوم واريد اللازم مع ما فيه من الإيماء إلى أن الداخل في الولاية يصح أن يقال له أهل بيت الأنبياء، توسعا.

قوله (يعني الأئمة) يريد أن الخطاب لهم وحدهم لا لهم وللنساء من باب التغليب كما زعمه بعض النواصب، وقد ذكرنا سابقا أن في رواياتهم أيضا دلالة صريحة على ذلك وأن عدم العصمة فيهن وانتفاء حقيقة الرجس من كل وجه عنهن مانعان من دخولهن في الخطاب، وأن اختصاص الخطاب فيما قبل هذه الآية وما بعدها بهن لا يقتضي دخولهن فيها على أن أحدا لم يقل أن هذه الآية نزلت مع ما قبلها وما بعدها دفعة واحدة وإنما وضعوها كذلك عند الجمع والتأليف وأمثال

ص:84

ذلك في القرآن كثيرة وقد مر مثل ذلك، ولو ثبت نزول الجميع دفعة ففي اختصاص الخطاب في هذه الآية بالأئمة وفيما قبلها أو ما بعدها بالنساء فائدة لطيفة هي أن الله تعالى لما أراد أن يختص الأئمة بهذا الوصف الجميل وعلم أن بعض النساء يظلمهم خاطبهن ووعظهن بالوعد والوعيد سابقا ولاحقا في موافقتهم ومخالفتهم.

ومما يؤيد ذلك ما رواه علي بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن أحمد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن غالب عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد عن حريز قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) قال:

الفاحشة الخروج بالسيف.

وقال: حدثنا حميد بن زياد عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه صلوات الله عليه في هذة الآية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال:

أي ستكون جاهلية اخرى.

ويؤيده أيضا ما نقله القاضي عن بعض المفسرين من أن الجاهلية الاولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق في الإسلام. هذا حال الآية السابقة.

وأما الآية اللاحقة وهي قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) فلا يبعد أن يراد بالآيات الأئمة (عليهم السلام) وبالحكمة ساير الشرائع، ولو كان المراد بها الآيات القرآنية كانت الآية المذكورة. قال: هذه الآية في وصف الأئمة من جملتها وعلى التقديرين فيها ترغيب لهن في حفظ حقوق الأئمة (عليهم السلام).

قال علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال: نزلت هذه الآية في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وذلك في بيت أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ثم ألبسهم كساء خيبريا ودخل معهم فيه ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم، نزلت هذه الآية فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ فقال: أبشري يا أم سلمة فإنك إلى خير. قال أبو الجارود: وقال زيد بن علي ابن الحسين: إن جهالا من الناس يزعمون أنما أراد الله تبارك وتعالى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما لو عنى

ص:85

أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لقال ليذهب عنكن الرجس ويطهركن ولكان الكلام مؤنثا كما قال تبارك وتعالى:

(واذكرن ما يتلى في بيوتكن) (ولا تبرجن) و (لستن كأحد من النساء).

وقال علي بن إبراهيم: ثم انقطعت مخاطبة نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وخاطب أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ثم عطف على نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا) ثم عطف على آل محمد فقال: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات - إلى قوله - أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما).

قوله (وولايتهم) لعل المراد أهل ولايتهم بحذف المضاف وفيه إشعار بأن أهل ولايتهم من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، ولعل السر فيه أن من تشبه بقوم فهو منهم ومن أحب رجلا فهو مع من أحب ويمكن أن يراد بالبيت الدين.

* الأصل:

55 - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن محمد بن الفضيل، عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) قال: بولاية محمد وآل محمد (عليهم السلام) هو خير مما يجمع هؤلاء من دنياهم.

* الشرح:

قوله (قل بفضل الله) قال الله تعالى (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) قال علي بن إبراهيم: حدثني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسين عن صالح بن أبي حماد عن الحسن بن موسى الخشاب عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) قال قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الأعداء - إلى أن قال -: ثم قال: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقرآن، ثم قال: قل يا محمد: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون، قال: الفضل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورحمته أمير المؤمنين صلوات الله عليه، (فبذلك فليفرحوا) قال:

فليفرحوا شيعتنا (هو خير مما) أعطوا أعداؤنا من الذهب والفضة.

ص:86

* * الأصل::

56 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن علي بن أسباط عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) - ونحن في الطريق في ليلة الجمعة -: اقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت: (إن يوم الفصل (كان) ميقاتهم أجمعين * يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن والله الذي رحم الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنا نغني عنهم.

* الشرح:

قوله (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) أي لا يغني ولي عن ولي في ذلك اليوم شيئا من العذاب والصعوبة إلا آل محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين فإنهم يغنون عن أوليائهم وشيعتهم، وأما من والى غير أولياء الله فلا يغني بعضهم عن بعض شيئا.

قوله (نحن والله الذي) الموصول مفرد لفظا لموافقة المستثنى وجمع معنى فلذلك صح حمله على نحن وعليه فقس ما بعده.

* الأصل:

57 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله، عن يحيى بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

لما نزلت: (وتعيها أذن واعية) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هي أذنك يا علي.

* الشرح:

قوله (قال: وتعيها أذن واعية) لما أخبر الله تعالى عن اهلاك ثمود وعاد وفرعون وأتباعه وقوم لوط وقوم نوح وانجاء أصحابه بحملهم في الجارية قال: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) أي لنجعل لكم هذه الفعلة وهي إنجاء المؤمنين بحملهم في الجارية وإغراق الكافرين، أو لنجعل العقوبات المذكورة كلها تذكرة للعقوبة والرحمة بسبب المعصية والطاعة وعبرة لأهل التذكر والتفكر في عاقبة الامور (وتعيها اذن واعية) أي تحفظها اذن حافظة يحفظ ما يجب حفظه وينبغي ضبطه بتذكيره وإشاعته والعمل بموجبه.

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هي أذنك يا علي) قال صاحب الطرائف قدس الله روحه روى الثعلبي في تفسير قوله تعالى (وتعيها أذن واعية) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي: فما نسيت بعد ذلك شيئا وما كان لي أن أنساه.

وروى نحو ذلك ابن المغازلي في كتابه بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ونقل بعض المفسرين عن أبي الحسن الواحدي وهو من مشاهير علماء أهل السنة أنه قال في تفسيره المسمى بأسباب النزول: إن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وروى بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: ضمني

ص:87

رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وقال: يا علي، أمرني ربي أن أقربك مني وأعلمك وأن كل ما سمعت مني تحفظه ولا تنساه.

ونقل عن الثعلبي أنه روى عن بريدة عنه (صلى الله عليه وآله) أن هذة الآية نزلت بعد أن أمره الله تعالى بتعليم علي (عليه السلام) وأخبره بأنه يحفظ كل ما يسمعه ولا ينساه.

وعن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أنه نقل في حلية الأولياء عن رزين أنه قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام). وعن الثعلبي أيضا أنه روى عن عبد الله بن الحسن قال لما نزلت هذه الآية قال النبي (عليه السلام): «اللهم اجعلها أذن علي، فما سمع شيئا إلا حفظه».

وذكره صاحب الكشاف فيه ونقله الطبرسي عن المكحول.

وبالجملة روايات العامة والخاصة ناطقة بأن هذه الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإذا كان له من بين الصحابة اختصاص بهذه الفضيلة الشريفة والمرتبة الرفيعة كيف يرضى أحد أن تقدم عليه جماعة من الجهلة، وطائفة من الفسقة؟! والله ولي التوفيق ومنه هداية الطريق.

* الأصل:

58 - أحمد بن مهران، عن عبد العظيم بن عبد الله، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله) هكذا: (فبدل الذين ظلموا (آل محمد حقهم) قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا (آل محمد حقهم) رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).

* الشرح:

قوله (فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم) وهو الولاية والخمس والطاعة وغيرها من حقوقهم على الامة.

قوله (فأنزلنا

ص:88

على الذين ظلموا آل محمد حقهم) وضع الظاهر موضع الضمير للمبالغة في تقبيح أمرهم والإشعار بأن إنزال الرجز وهو العذاب عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه وتبديلهم ما يوجب هدايتهم ونجاتهم بما يوجب ضلالتهم وهلاكهم، ولعل الغرض من نزول جبرئيل (عليه السلام) بالآية هكذا هو الإشعار بأن هذه الامة يخالفون قول الله تعالى فيما يوجب حطة لذنوبهم وهو الولاية كما خالف بنو إسرائيل أمره بأن يقولوا حطة عند دخول الباب سجدا وبدلوها بغيرها حذو النعل بالنعل، وإلا فالظاهر أن الآية نزلت في ذم بني إسرائيل بقرينة التفريع وقد صرح علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية بما ذكره (عليه السلام) قال قوله تعالى (وقولوا حطة) أي حط عنا ذنوبنا فبدلوا ذلك وقالوا: حنطة وقال الله تعالى (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا (آل محمد حقهم) رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).

* الأصل:

59 - وبهذا الاسناد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا: (إن الذين ظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) ثم قال: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم (في ولاية علي) فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا (بولاية علي) فان لله ما في السموات وما في الأرض).

* الشرح:

قوله (إن الذين ظلموا) في سورة النساء (إن الذين كفروا وظلموا) ولعل الاختصار للدلالة على أن العطف للتفسير مع احتمال عدم نزوله، يدل على ما ذكره (عليه السلام) ما رواه علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قرأ هذه الآية هكذا: (الذين كفروا وظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم) وفيه دلالة على أن ذلك نزل قرآنا.

ويقرب من الروايتين ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المراد: إن الذين كفروا وظلموا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم لأن من ظلم آل محمد حقهم فقد ظلم الناس وهم التابعون له عما فيه صلاحهم وخلاصهم من العذاب.

قوله (وكان ذلك على الله يسيرا) أي وكان ذلك الحكم المذكور وهو عدم غفرانهم ودلالتهم بعد البحث إلى طريق جهنم وخلودهم فيها يسيرا على الله لا يصعب عليه ولا يستعظمه.

قوله (فآمنوا خيرا لكم) أي فصدقوا خيرا لكم هو الولاية، أو فآمنوا ايمانا خيرا لكم وهو الإيمان بالولاية.

قوله (وإن تكفروا (بولاية علي) فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) يعني إن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، والمراد بالموصول السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن وما فوقهن وما يطلق عليه اسم شيء من الكائنات.

* الأصل:

60 - أحمد بن مهران - رحمه الله - عن عبد العظيم، عن بكار، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال هكذا نزلت هذه الآية: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم).

* الشرح:

قوله (ولو أنهم فعلوا) مر هذا الحديث متنا لا سندا وقد عرفت ما يتعلق به.

ص:89

* الأصل:

61 - أحمد، عن عبد العظيم، عن ابن اذينة، عن مالك الجهني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

(وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد ينذر بالقرآن كما ينذر به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (وأوحي الي) هذا القرآن مر هذا أيضا مع بيانه.

* الأصل:

62 - أحمد، عن عبد العظيم، عن الحسين بن مياح (1)، عمن أخبره، قال: قرأ رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام): (قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) فقال: ليس هكذا هي، إنما هي والمأمونون، فنحن المأمونون.

* الشرح:

قوله (إنما هي والمأمونون) المأمونون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أيضا عبارة عنهم (عليهم السلام) كما مر في باب عرض الأعمال عن يعقوب بن شعيب قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن قوله الله تعالى (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال: هم الأئمة (عليهم السلام).

* الأصل:

63 - أحمد، عن عبد العظيم، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (هذا صراط علي مستقيم).

* الشرح:

قوله (قال هذا صراط علي مستقيم) لعله إشارة إلى أن قراءة قوله تعالى في سورة الحجر (هذا صراط علي مستقيم) بتنوين صراط وفتح اللام في (علي) تصحيف وأن الحق هو الإضافة وكسر اللام، يعني أن الإخلاص أو طريق المخلصين طريق علي مستقيم لا انحراف عنه ولا اعوجاج فيه يؤدي سالكه إلى المقصود، وقرئ على بكسر اللام من علو الشرف كما صرح به القاضي وغيره، وفيه خروج عن التصحيف في الجملة وإخفاء للحق ولا ينفعهم ذلك بعد تصريح شيوخهم به على ما نقله صاحب الطرائف قال: روى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي بإسناده إلى قتادة عن الحسن البصري قال: كان يقرأ هذا الحرف (صراط علي مستقيم) فقلت للحسن وما معناه قال: يقول هذا طريق علي بن أبي طالب ودينه طريق ودين مستقيم فاتبعوه وتمسكوا به فإنه واضح لا عوج فيه.

* الأصل:

64 - أحمد، عن عبد العظيم، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل

ص:90


1- (1) قال ابن الغضائري: إنه ضعيف غال. (صه)

جبرئيل بهذه الآية هكذا: (فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا) قال: ونزل جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية هكذا: (وقل الحق من ربكم (في ولاية علي) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر * إنا اعتدنا للظالمين (آل محمد) نارا).

* الشرح:

قوله (فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا) قال الله تعالى (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا) لعل الضمير في (صرفناه) راجع إلى علي (عليه السلام) والغرض من تصريفه بينهم هو أن يتفكروا فيه ويعرفوا علو قدره وحق نعمته (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) بولايته وجحودا لها، وفي تفريع الاستثناء مبالغة في إنكارهم لها.

قوله (وقل الحق من ربكم (في ولاية علي)) قال علي بن إبراهيم قال أبو عبد الله (عليه السلام): نزلت هذه الآية هكذا (قل الحق من ربكم) يعني ولاية علي (عليه السلام) (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين (آل محمد (صلى الله عليه وآله))) (نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) قال:

المهل: الذي يبقى في أصل الزيت المغلي (يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) ثم ذكر ما أعد الله للمؤمنين فقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - إلى قوله - وحسنت مرتفقا).

* الأصل:

65 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) قال: هم الأوصياء.

* الشرح:

قوله (قال هم الأوصياء) يعني أن المساجد هم الأوصياء لأنهم محال السجود لله تعالى ومواضعها حتى لو لم يكونوا لم يتحقق السجود له، وقوله (لله) إشارة إلى أنهم منصوبون من قبله مختصون به، وقوله: (فلا تدعوا مع الله أحدا) إشارة إلى أن من عدل عنهم أشرك بالله واتخذ معه إلها آخر، ومثله في تفسير علي بن إبراهيم بإسناد آخر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «المساجد الأئمة صلوات الله عليهم»، والمفسرون اختلفوا في تفسيرها ففسرها بعضهم بهذه المساجد المعروفة، وبعضهم بالمسجد الحرام لأنه قبلة لتلك المساجد، وبعضهم بالمساجد السبعة في الإنسان، وبعضهم بالسجود على أنها جمع مسجد بالفتح بمعنى السجود وبعضهم بالأرض كلها.

* الأصل:

66 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن الأحول عن سلام ابن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) قال: ذاك رسول الله وأمير المؤمنين والأوصياء من بعدهم.

* الشرح:

قوله (قل هذه سبيلي) أي هذه الطريقة أو الدعوة إلى الله وشرايعه سبيل إليه.

قوله (قال: ذاك رسول الله) قال علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود عن أبي - جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله - إلى قوله - أنا ومن اتبعني): يعني نفسه ومن

ص:91

تبعه علي ابن أبي طالب وآل محمد صلوات الله عليهم (1).

قال علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر الثاني صلوات الله عليه: يا سيدي، إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك، قال: وما ينكرون من ذلك فوالله لقد قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) فما تبعه غير علي (عليه السلام) وكان ابن تسع سنين وأنا ابن تسع سنين.

* الأصل:

67 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان، عن سالم الحناط، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) فقال أبو جعفر (عليه السلام): آل محمد لم يبق فيها غيرهم.

* الشرح:

قوله (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) أي غير أهل بيت من المسلمين، والظاهر أن ضمير (فيها) في الموضعين راجع إلى قرية قوم لوط وإن لم يجر لها ذكر لأنها معلومة من سياق الكلام، واستدل به على أن الإسلام هو الإيمان بدليل استثناء المسلم من المؤمن وهو يقتضي تناول المؤمن له، وهذا التناول إنما يتحقق إذا كان الإسلام عين الإيمان إذ لو كان غيره لم يصدق المؤمن على المسلم.

والجواب: لا نسلم قوله: إنما يتحقق...، وما ذكره لإثباته مدخول المفهومين المتغايرين قد يتصادقان كليا إما من الطرفين كالناطق والضاحك أو من طرف واحد كالضاحك والماشي، وقد يتصادقان جزئيا كالسواد والكتابة.

قوله (فقال أبو جعفر (عليه السلام): آل محمد لم يبق فيها غيرهم) أي في المدينة ولعل المراد حال آل محمد صلوات الله عليهم مع هذه الامة كحال آل لوط (عليه السلام) مع امته حيث لم يوجد مؤمن غيرهم،

ص:92


1- (1) - قوله «ومن تبعه علي بن أبي طالب وآل محمد (عليهم السلام)» هذا حديث لا يحتاج في تطبيقه عليهم (عليهم السلام) إلى تكلف، وأما الحديث التالي والسابق فتمثيل كما قلنا في كثير من أمثالهما لأن الشيء بالشيء يذكر. (ش)

ويحتمل أن يكون ضمير (فيها) في الآية أيضا راجعا إلى المدينة ويكون الغرض من هذا التأويل هو الإشارة إلى حال علي (عليه السلام) وأهل بيته عند خروجهم منها، والله أعلم.

* الأصل:

68 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن إسماعيل بن سهل، عن القاسم بن عروة، عن أبي السفاتج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) قال: هذه نزلت في أمير المؤمنين وأصحابه الذين عملوا ما عملوا، يرون أمير المؤمنين (عليه السلام) في أغبط الأماكن لهم، فيسيء وجوههم ويقال لهم: (هذا الذي كنتم به تدعون) الذي انتحلتم اسمه.

* الشرح:

قوله (فلما رأوه) أي فلما رأوا عليا (عليه السلام) ذا زلفة وهي القرب والمنزلة سيئت وجوه الذين كفروا بولايته وبان عليها أثر الكآبة والحزن والمحنة في ظاهر وجوههم، وإنما عدل من الضمير إلى الموصول للدلالة بصلته على العلة.

قوله (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) هذا إشارة إلى علي (عليه السلام) والخطاب للكافرين بولايته، والقائل المؤمنون أو الملائكة، والغرض منه هو التعبير والشماتة.

قوله (يرون أمير المؤمنين (عليه السلام) في أغبط الأماكن لهم) أي أفضل الأماكن للمؤمنين وأفضل المراتب لهم وأصل الغبط حسن الحال والمسرة.

قوله (الذي انتحلتم اسمه) بدل من الموصول المتقدم أو بيان له أو خبر بعد خبر، والانتحال أن يدعي الرجل حق الغير لنفسه ظلما كما انتحل خلفاء الجور اسم أمير المؤمنين والولاية وهما حق علي (عليه السلام) لأنفسهم. قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: إذا كان يوم القيامة ونظر أعداء أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى ما أعطاه الله تبارك وتعالى من المنزلة الشريفة العظيمة وبيده لواء الحمد، وهو على الحوض يسقي ويمنع، يسود وجوه أعدائه فيقال لهم: (هذا الذي كنتم به تدعون) أي هذا الذي كنتم به تدعون منزلته وموضعه واسمه. وقال بعض المفسرين: نقل الحاكم أبو القاسم الحسكاني بأسانيده الصحيحة عن شريك عن الأعمش أنه قال لما رأوا ما لعلي بن أبي طالب عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا.

* الأصل:

69 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) قال: النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).

ص:93

* الشرح:

قوله (وشاهد ومشهود) أقسم الله تعالى بشاهد ومشهود كما أقسم بالسماء ذات البروج واليوم الموعود أنه قتل أصحاب الاخدود والمراد بها النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، إما باعتبار أن كل واحد منها شاهد على الخلق بما فعلوا ومشهود له بما بلغوا ونصحوا، أو بأن يراد بالأول الأول وبالثاني الثاني من باب اللف والنشر المرتب. والمفسرون اختلفوا في تفسيرهما اختلافا كثيرا فقيل:

الشاهد هو الله والمشهود الخلق، وقيل بالعكس لأن الخلق شاهدون على وجوده. وقيل: الشاهد النبي (صلى الله عليه وآله) والمشهود الامة، وقيل: الشاهد النبي والمشهود يوم القيامة. وفيه أن اليوم الموعود يوم القيامة ففيه تكرار لا يدفع إلا بتكلف، وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وقيل الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج، وقيل الشاهد اليوم والليل والمشهود الخلق. وكتاب منهج الصادقين متكفل لذكر أقوالهم تفصيلا.

* الأصل:

70 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عمر الحلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قوله تعالى: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الضالمين) قال: المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (عن أحمد بن عمر الحلال) الحلال - بالحاء غير المعجمة واللام المشددة - وكان يبيع الحل وهو الشيرج، وضبطه ابن داود بالخاء المعجمة أي يبيع الخل.

قوله (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) بعده (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون * وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجالا يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجال يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) والمؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤذن بين الفريقين التابعين له إلى يوم القيامة والظالمين له. ويخص الظالمين باللعن والبعد عن الرحمة وينادي التابعين بالسلام والبشارة بالدخول في الجنة.

ومما يدل على أن المؤذن هو (عليه السلام) ما رواه علي بن إبراهيم قال حدثني أبي عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤذن أذانا يسمع الخلائق، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة براءة (وأذان من الله ورسوله) فقال أمير المؤمنين صلوات

ص:94

الله عليه: «كنت أنا الأذان في الناس».

* الأصل:

71 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن أورمة، عن علي بن حسان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) قال: ذاك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبو ذر والمقداد بن الأسود وعمار هدوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). وقوله: «حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم (يعني أمير المؤمنين) وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان»: الأول والثاني والثالث (1).

* الشرح:

قوله (قال ذاك حمزة وجعفر وعبيدة) أراد أن صراط الحميد علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه طريق الحق والمحمود في نفسه وعاقبته، وأن ضمير الجمع لهؤلاء الأكابر وإنما خصهم بالذكر لأنهم كانوا على المودة الخالصة له (عليه السلام) وأما غيرهم فلم يخل قلوبهم عن زيغ ما عنه، ولعل المراد بالطيب من القول كلمة التوحيد أو أعم ويحتمل النصيحة له (عليه السلام)، قال علي بن إبراهيم: الطيب من القول التوحيد والإخلاص وصراط الحميد الولاية. وعبيدة هو عبيدة بن عمرو، وقيل: ابن قيس بن عمر، والسلماني من بني سلمان بن يشكر بطن من مراد وكان من أولياء علي (عليه السلام) وخواص أصحابه وهو مذكور في طرق العامة أيضا، روى مسلم بإسناده عن عبيده: قال القرطبي: عبيدة بفتح العين هو عبيدة السلماني.

قوله (يعني أمير المؤمنين) يريد أن الإيمان أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه أصل الإيمان وسببه والخطاب حينئذ لشيعته لا لجميع الامة. وقد أشار بعض المفسرين إلى التخصيص أيضا حيث قال:

«حبب إليكم» أي إلى بعضكم.

قوله (قال الأول والثاني والثالث) وإنما نسب الأول إلى الكفر لأنه باني الكفر أصله وبداية الخروج عن الدين منه، والثاني إلى الفسوق لأنه باني الفسوق كلها مع مراعاته لظاهر الشرع في الجملة، والثالث إلى العصيان لأنه باني العصيان وهو الخروج عن الحق بالطغيان وقد بلغ طغيانه إلى حيث أجمعت الصحابة على قتله.

ص:95


1- (1) راوي هذا الخبر عبد الرحمن بن كثير قال فيه النجاشي والعلامة (رحمه الله): إنه كان يضع الحديث، وكذا راوي راويه محمد بن أورمة طعنوا عليه بالغلو والتخليط خصوصا الكتاب الذي فيه هذا الحديث نص عليه النجاشي بأنه مختلط، وهكذا رواية معلى بن محمد البصري قال مشايخ الشيعة فيه: إنه مضطرب الحديث والمذهب.

* الأصل:

72 - محمد بن يحيى، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله تعالى: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) قال: عني بالكتاب التوراة والإنجيل. وأثارة من علم فانما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (ائتوني بكتاب من قبل هذا) قد أشار جل شأنه إلى أنه ليس للمشركين دليل عقلي على الشرك وعبادة الأصنام ولا دليل نقلي على ذلك بقوله جل وعز: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) أي قل يا محمد للمشركين هل لآلهتكم مدخل في خلق شيء من هذه الأجرام ومشاركة فيه حتى تستحق العبادة، وفيه إلزامهم بعدم ما يقتضي عبادة الأصنام عقلا، ثم قال لإلزامهم بعدم ما يقتضيها نقلا: (ائتوني بكتاب من قبل هذا) أي هذا القرآن الناطق بالتوحيد (أو أثارة من علم) أي بقية من علم العلماء وهم أوصياء الأنبياء (إن كنتم صادقين) في دعواكم.

والغرض من هذا التفسير الصادر عن أهل العصمة هو الإشارة إلى امرين أحدهما الرد على من قال: مضى (صلى الله عليه وآله) بلا وصي بأنه كان له وصي كما كان للأنبياء (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). وثانيهما أن تشريك الثلاثة مع علي (عليه السلام) في العبارة ليس له دليل لا عقلا ولا نقلا كتشريك الأصنام مع الله تعالى في العبادة.

* الأصل:

73 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عمن أخبره، عن علي بن جعفر، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تيما وعديا وبني أمية يركبون منبره أفظعه، فأنزل الله تبارك وتعالى قرآنا يتأسي به: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) ثم أوحى إليه: يا محمد، إني أمرت فلم أطع، فلا تجزع أنت إذا أمرت فلم تطع في وصيك.

* الشرح:

قوله (يقول لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تيما وعديا) قال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في نومه كأن قرودا تصعد منبره فساءه ذلك وغمه غما شديدا فأنزل الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس (ليعمهوا فيها) والشجرة الملعونة في القرآن) نزلت في بني أمية ثم حكى الله خبر إبليس فقال (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا - إلى قوله - لاحتنكن ذريته إلا قليلا) أي لافسدنهم إلا قليلا، فقال الله:

ص:96

(اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) وهو محكم.

* الأصل:

74 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسين بن نعيم الصحاف، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فقال: عرف الله عز وجل إيمانهم بموالاتنا وكفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم. وسألته عن قوله عز وجل:

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين) فقال: أما والله، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) إلا في ترك ولايتنا وجحود حقنا. وما خرج رسول الله (عليه السلام) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الامة حقنا (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

* الشرح:

قوله (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن)) قد مر سندا ومتنا بلا تفاوت إلا في تقديم كافر على مؤمن هنا كما في القرآن وتأخيره سابقا.

قوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم) الآية في سورة التغابن يعني أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في الأمر والنهي وجميع ما جاء به الرسول وأعظم ما جاء به الولاية، فإن توليتم عن الإطاعة فإنما على رسولنا البلاغ المبين الواضح الفارق بين الحق والباطل ولا يضره توليكم وإعراضكم وانما يعود ضرره إليكم، فقال (عليه السلام): أما والله ما هلك من كان قبلكم من الامم باستحقاق عقوبة الأبد وما هلك من هلك من هذه الأمة حتى يقوم قائمنا (عليه السلام) إلا في ترك ولايتنا وجحود حقنا. وذلك لما عرفت مرارا من أن الله تعالى أخذ على الخلق الميثاق على ولايتهم فمن قبلها فهو حي ناج ومن أنكرها فهو هالك معذب سواء كان من الامم الماضية أو من هذة الامة، ثم قال (عليه السلام): وما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الامة حقنا. ولقد أكثر وبالغ في تبليغ حق علي (عليه السلام) ما لم يكثر ولم يبالغ أحد من الأنبياء في تبليغ حق وصيه لعلمه بأن الامة يخالفون وينازعونه ويغصبون حقه (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي إلى دينه الحق أو إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام).

* الأصل:

75 - محمد بن الحسن وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم البجلي، عن علي ابن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: (وبئر معطلة وقصر مشيد) قال: البئر المعطلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق.

ص:97

ورواه محمد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (قال: البئر المعطلة الإمام الصامت) البئر المعطلة البئر العامرة التي لا يستقي منها، والقصر المشيد القصر المحكم المزين بأنحاء الزينة ولعل قصده (عليه السلام) أن الآية منطبقة على آل محمد (صلى الله عليه وآله) ومثل لهم. قال علي بن إبراهيم: بئر معطلة هي التي لا يستقى منها وهو الإمام الذي قد غاب فلا يقتبس منه العلم والقصر المشيد هو المرتفع، وهو مثل لأمير المؤمنين صوات الله عليه وسبطاه ثم يشرف على الدنيا.

* الأصل:

76 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحكم بن بهلول، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) قال: يعني إن أشركت في الولاية غيره (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) يعني بل الله فاعبد بالطاعة وكن من الشاكرين أن عضدتك بأخيك وابن عمك.

* الشرح:

قوله «قال: يعني إن أشركت في الولاية غيره) أي إن أشرك النبي (صلى الله عليه وآله) على سبيل الفرض والتقدير كما يفرض المحالات في الولاية غير علي (عليه السلام)، وفيه تعريض على من أشرك فيها غيره بحبط عمله وخسرانه، قال علي بن إبراهيم: خاطب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فهذه مخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله) والمعنى لامته، وهو ما قال الصادق (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه (صلى الله عليه وآله) بإياك أعني واسمعي يا جارة. والدليل على ذلك قوله تعالى (فاعبد وكن من الشاكرين) وقد علم تعالى أن نبيه (صلى الله عليه وآله) يعبده ويشكره ولكن استعبد نبيه (صلى الله عليه وآله) بالدعاء إليه تأديبا لامته. وقال أيضا: حدثنا جعفر بن أحمد عن عبد الكريم بن عبد الرحيم عن محمد بن علي عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) قال: تفسيرها لئن أمرت بولاية غير علي (عليه السلام) مع ولاية علي صلوات الله عليه من بعدك ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. قوله: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) الظاهر أنه طلب العبادة والشكر على النعمة المذكورة منه (عليه السلام)، ويحتمل التعريض أيضا بغيره من الأمة بأن يعبدوه ويشكروه على النعمة المذكورة وهي تقوية الله تعالى نبيه بأخيه وابن عمه وهو أنسب بالسابق.

ص:98

* الأصل:

77 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محمد الهاشمي، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن عيسى قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده (عليهم السلام) في قوله عز وجل: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) قال: لما نزلت (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) اجتمع نفر من أصحاب رسول الله (عليه السلام) في مسجد المدينة، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في هذه الآية؟ فقال: بعضهم إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا ابن أبي طالب، فقالوا: قد علمنا أن محمدا صادق فيما يقول ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا فيما أمرنا، قال: فنزلت هذه الآية (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) يعرفون يعني ولاية [علي بن أبي طالب] وأكثرهم الكافرون بالولاية.

* الشرح:

قوله (ولكنا نتولاه ولا نطيع عليا) ضمير «نتولاه» راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى علي (عليه السلام) بعيد لفظا ومعنى.

قوله (يعرفون يعني ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) إشارة إلى أن النعمة هي الولاية، يعني يعرفون الولاية التي أنعم الله بها عليهم لتكميل مصالحهم في الدنيا والآخرة بالنصوص القرآنية والسنة النبوية والمشاهدات العينية الدالة في نهاية كماله علما وعملا ثم ينكرونها حسدا واستنكافا عليهم، (وأكثرهم الكافرون) وذكر الأكثر مع أن العارفين المنكرين كلهم كافرون إما لأن الأكثر قام مقام الكل كما صرح به القاضي أو لأن الضمير في أكثرهم راجع إلى الامة لإفادة أن أكثر هذه الامة كافرون بالولاية والله أعلم.

قال علي بن إبراهيم في قوله عز وجل: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) نعمة الله هم الأئمة، والدليل على أن الأئمة (عليهم السلام) نعمة الله جل جلاله قول الله تعالى (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) قال الصادق (عليه السلام): نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده وبنا فاز من فاز.

* الأصل:

78 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن محمد بن النعمان، عن سلام، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله تعالى: (الذين يمشون على الأرض هونا) قال: هم الأوصياء من مخافة عدوهم.

ص:99

* الشرح:

قوله (قال: هم الأوصياء) قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية نزلت في الأئمة صلوات الله عليهم، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي نجران عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله الله تبارك وتعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) قال: الأئمة (عليهم السلام) يمشون على الأرض هونا خوفا من عدوهم.

وعنه عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سليمان بن جعفر، قال: سألت أبا الحسن صلوات الله عليه عن قول الله تبارك وتعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) قال: الأئمة صلوات الله عليهم.

* الأصل:

79 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد (1) عن بسطام بن مرة، عن إسحاق بن حسان، عن الهيثم بن واقد، عن علي بن الحسين العبدي، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ بن نباتة أنه سأل أمير المؤمنين عن قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) فقال: الوالدان اللذان أوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما، ثم قال الله: (إلي المصير) فمصير العباد إلى الله والدليل على ذلك الوالدان، ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه، فقال: في الخاص والعام (وإن جاهداك على أن تشرك بي) يقول: في الوصية وتعدل عمن أمرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما، ثم عطف القول على الوالدين فقال:

(وصاحبهما في الدنيا معروفا) يقول: عرف الناس فضلهما وادع إلى سبيلهما وذلك قوله: (واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم) فقال: إلى الله ثم إلينا، فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين فإن رضاهما رضى الله وسخطهما سخط الله.

* الشرح:

قوله (هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم) لعل المراد بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) على سبيل التشبيه في التربية. والقرآن قد يكون ظاهرا في شيء ويراد به خلاف ظاهره أو يومي به إليه على سبيل الرمز، فلا يرد أن هذا التأويل ينافي ما قبل الآية وهو قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين).

قوله (والدليل على ذلك الوالدان) أي الدليل على مصير العباد إلى الله الوالدان لدلالتهما العباد إلى طريق الحق وكيفية سلوكه وحمل ما يحتاجون إليه من الزاد للمعاد.

قوله (ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه) أي صرف الكلام إلى ذمهما والتنفير عنهما،

ص:100


1- (1) مر أن معلى بن محمد مضطرب الحديث والمذهب.

وحنتمة - بفتح الحاء المهملة - والنون قبل التاء الفوقانية - أم عمر بن الخطاب وهي بنت هشام اخت أبي جهل على ما صرح به صاحب النهاية، ونقل عن القاموس: أن حنتمة بلا لام بنت ذي الرمحين أم عمر بن الخطاب وليست اخت أبي جهل بل بنت عمه ونسبته إلى امه إما لذمه أو لأنه لا أب له.

قوله (فقال في الخاص والعام) لعل المراد بالخاص وهو ابن حنتمة وصاحبه، وبالعام من تبعهما إلى يوم القيامة.

قوله (يقول في الوصية) لأن ترك وصية النبي (صلى الله عليه وآله) شرك بالله.

قوله (ثم عطف القول على الوالدين) أي على مدحهما والأمر باتباعهما.

* الأصل:

80 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن سيف، عن أبيه، عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) قال:

فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها وأمير المؤمنين (عليه السلام) فرعها والأئمة من ذريتهما أغصانها وعلم الأئمة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل فيها فضل؟ قال: قلت: لا والله، قال: والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.

* الشرح:

قوله (أصلها ثابت) أي أصلها ثابت في الأرض ضارب بعروقه و (فرعها) أي أعلاها في السماء (تؤتى أكلها) يعني تعطي ثمرها (كل حين).

قوله (قال فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصلها) كل ذلك على التشبيه والتمثيل ولا يخفى على المتدبر اعتباره. قال بعض المفسرين نقل في شواهد التنزيل عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «خلق الله تعالى الأنبياء من أشجار مختلفة وخلقني وعليا من شجرة واحدة أنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة أكمامها والحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا أوراقها، ومن تمسك بغصن من أغصانها نجا، ومن انحرف هلك هلاكا أبديا».

وقال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل: (مثلا كلمة طيبة) الآية قال: الشجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وغصن الشجرة فاطمة (عليها السلام) وثمرتها الأئمة من ولد علي وفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين والأئمة من أولادها أغصانها وشيعتهم ورقها، وإن المؤمن من شيعتنا ليموت

ص:101

فتسقط من الشجرة ورقة، وإن المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة. قلت: أرأيت قوله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) قال: يعني بذلك ما يعني به الأئمة من شيعتهم في كل حج وعمرة من الحلال والحرام، ثم ضرب الله لأعداء آل محمد مثلا فقال: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار).

وفي رواية أبي الجارود قال «كذلك الكافر لا تصعد أعمالهم إلى السماء وبنو امية لا يذكرون الله في مجلس ولا في مسجد ولا تصعد أعمالهم إلى السماء إلا قليل منهم».

قوله (هل فيها فضل) أي هل في الشجرة شيء غير ما ذكر فكذلك الشجرة الطيبة ليس فيها غيرنا وغير شيعتنا، وفي بعض النسخ «هل فيها شوب» قال الجوهري: الشوب الخلط. وفي المثل:

هو يشوب ويروب يضرب لمن يخلط في القول أو العمل.

* الأصل:

81 - محمد بن يحيى، عن حمدان بن سليمان، عن عبد الله بن محمد اليماني، عن منيع بن الحجاج، عن يونس، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل (يعني في الميثاق) أو كسبت في إيمانها خيرا) قال: الإقرار بالأنبياء والأوصياء وأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، قال: لا ينفع إيمانها لأنها سلبت.

* الشرح:

قوله (لا ينفع نفسا إيمانها) قال الله تعالى: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) أي إيمانها بالله والأنبياء والأوصياء، ولعل المراد ببعض الآيات بعض أشراط الساعة وهي على ما نقلوه عن حذيفة عن البراء بن عازب عنه (صلى الله عليه وآله):

عشرة الدجال ودابة الأرض وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن. أو المراد به المهدي (عليه السلام) لأن الأئمة آيات الرب وهو بعضهم.

قوله (لم تكن آمنت من قبل) يعني في الميثاق أو كسبت في إيمانها خيرا قال: الإقرار بالأنبياء (عليهم السلام) (أو كسبت) عطف على (آمنت) يعني لا ينفع نفسا إيمانها في ذلك اليوم بالله وبالنبي والوصي إذا لم تكن آمنت في الميثاق بالله أو آمنت به ولم تكن آمنت فيه بالنبي والوصي، وإنما لا ينفعها الإيمان في ذلك اليوم لأنها سلبت عن الإيمان وتذهب من الدنيا بغير إيمان، لا لأن الإيمان على تقدير بقائه وعدم زواله لا ينفعها، ويفهم منه أن كل من لم يؤمن بأمير المؤمنين (عليه السلام) في

ص:102

الميثاق لو آمن به في الدنيا لا ينفعه (1) لأنه يموت بغير إيمان.

* الأصل:

82 - وبهذا الإسناد، عن يونس، عن صباح المزني، عن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهم السلام) في قول الله جل وعز: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال: إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

* الشرح:

قوله (بلى من كسب سيئة وأحاطت به) السيئة الأمر القبيح والخطيئة الذنب، وقال القاضي:

الفرق بينهما أن السيئة قد يقال فيما يقصد بالذات، والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ والمراد بإحاطتها به شمولها له من جميع جوانبه، وهذا يقال لمن لا يرجع إلى خير أصلا، ولعل قوله (عليه السلام): إذا جحد إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بيان للسيئة فإن جحد إمامته يجر الجاحد إلى جميع المساوئ حتى تحيط من جميع جوانبه.

ومما يناسب هذا التفسير ما نقله بعض المفسرين عن أبي حمزة الثمالي عن السدي أن الحسنة في قوله تعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) عبارة عن مودة أهل البيت (عليهم السلام)، وبما ذكرناه آنفا من أن القرآن قد يكون ظاهرا في شيء ويكون إيماء ورمزا آخر يندفع أن هذه الآية بالنظر إلى ما قبلها ظاهرة في ذم اليهود (2).

ص:103


1- 1 - قوله «لو آمن به في الدنيا لا ينفعه» مبنى هذه التكلفات التي يرتكبها الشارح وربما يخرج بظاهر كلامه عن مقتضى مذهب أهل العدل التزامه بتصحيح روايات لا حاجة إلى الالتزام به، وينبغي الكلام في موضعين: الأول في الآية الكريمة: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ولا إشكال في معناها ولا يلزم منه مناقضة ولا في الالتزام به خروج عن مقتضى قواعد العدل وأحكام العقل لأن الإنسان إن لم يؤمن في الدنيا وهي دار التكليف وهو مختار فلا يفيده إيمانه في الآخرة بعد ذلك عند مشاهدة الثواب والعقاب ملائكة الرحمة والعذاب بسلب الاختيار وعدم توجه التكليف إليه وهذا مفاد الآية. وأما عدم الإيمان في الميثاق وأن كل من لم يؤمن في عالم الذر فلابد أن لا يؤمن في الدنيا وإن آمن فلابد أن يسلب عنه الإيمان فشئ يخالف القرآن إن فسر قوله: (ألست بربكم) بما في عالم الذر لأن صريح الآية المزبورة أن جميع الناس آمنوا وقالوا بلى ولم يكن هناك كافر أصلا ومع ذلك فيخالف العدل الإلهي وهو مذهب أهل البيت، ولا يزال علماء مذهبنا يطعنون على مخالفيهم بالجبر وبذلك ملؤوا كتبهم في الكلام والتفاسير فكيف يمكن الالتزام بأن من لم يؤمن في عالم الذر بأمير المؤمنين (عليه السلام) فلابد أن لا يؤمن به في الدنيا وهل هذا إلا ظلم وجبر؟! واتفق العقلاء أن دار التكليف هي الدنيا لا عالم الذر وأن الأنبياء والأئمة مأمورون بهدايتنا وإرشادنا في الدنيا إذ ليس للإنسان إلا ما سعى في الدنيا فإذا كان الأمر قد حتم في عالم الذر فلا فائدة في بعثة الأنبياء وإرسال الرسل في الدنيا. ومنيع بن الحجاج وعبد الله بن محمد اليماني كلاهما مجهولان (ش).
2- (1) - قوله «ظاهرة في ذم اليهود» أقول: أول الآية وان كان في ذم اليهود بكسب السيئة والخطيئة لكن أسس بعده قاعدة كلية يشمل كل من يكسب خطيئة من اليهود وغيرهم، ومن أظهر أفراده وأوضح مصاديقه من أعرض عن أهل الحق والتوحيد وأبغض أمير المؤمنين وساير أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) ومال إلى الظلمة والفسقة فالآية تشملهم صريحا، ولكن الشارح وقع في تفسير هذا الحديث في عكس ما وقع فيه في شرح الحديث السابق لأنه تكلف في السابق في تطبيق الآية على مالا ينطبق عليه وعلى فرض الانطباق يوجب الظلم والجبر، وفي هذا الحديث تردد في تطبيق الآية على مبغضي أمير المؤمنين (عليه السلام) مع وضوح المطابقة وعدم استلزامه جبرا وظلما وهو أعلم بما قال هنا وهناك (ش).

* الأصل:

83 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الاستطاعة وقول الناس، فقال - وتلا هذه الآية - (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم): يا أبا عبيدة، الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك، قال: قلت: قوله: (إلا من رحم ربك) قال: هم شيعتنا ولرحمته خلقهم وهو قوله: «ولذلك خلقهم» يقول: لطاعة الإمام الرحمة التي يقول: (ورحمتي وسعت كل شيء) يقول: علم الإمام، ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء هم شيعتنا ثم قال: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني ولاية غير الإمام وطاعته، ثم قال: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) يعني النبي (صلى الله عليه وآله) والوصي والقائم (يأمرهم بالمعروف (إذا قام) وينهاهم عن المنكر) والمنكر من أنكر فضل الإمام وجحده (ويحل لهم الطيبات) أخذ العلم من أهله (ويحرم عليهم الخبائث) والخبائث قول من خالف (ويضع عنهم إصرهم) وهي الذنوب التي كانوا فيها قبل معرفتهم فضل الإمام (والأغلال التي كانت عليهم) والأغلال ما كانوا يقولون مما لم يكونوا أمروا به من ترك فضل الإمام، فلما عرفوا فضل الإمام وضع عنهم إصرهم والإصر الذنب وهي الآصار، ثم نسبهم فقال: (الذين آمنوا به (يعني بالإمام) وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه اولئك هم المفلحون) يعني الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان والعبادة طاعة الناس لهم، ثم قال: (أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) ثم جزاهم فقال: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) والإمام يبشرهم بقيام القائم وبظهوره وبقتل أعدائهم وبالنجاة في الآخرة والورود على محمد - صلى الله على محمد وآله الصادقين - على الحوض.

* الشرح:

قوله (عن الاستطاعة وقول الناس) أي عن طاعة الإمام أو طلب طاعته وقول الناس في طاعة غيره، ويحتمل أن يراد بالاستطاعة (1) قدرة العبد على الشيء، وبقول الناس قولهم

ص:104


1- (1) - قوله «ويحتمل أن يراد بالاستطاعة» هذا هو المتعين، ولكن المراد من قوله: الناس، التفويض على ما يقول به المعتزلة لأن مذهبنا الأمر بين الأمرين ولا نقول بالجبر ولا بالاستطاعة المطلقة والآيات التي استشهد الإمام بها تدل جميعا على نفي الاستطاعة بهذا المعنى. (ش)

بعدمها والجواب مشتمل على ذمهم باعتبار رجوعهم عن الأئمة حتى قالوا ما قالوا بمقتضى عقولهم الناقصة.

قوله (يا أبا عبيدة، الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك) أراد بالناس غير الشيعة بقرينة قوله: وكلهم هالك.

قال بعض المفسرين: روى زاذان [فضيل بن عبد الملك] قال: كنت جالسا في مجلس أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ جاؤوا بجاثليق ورأس الجالوت ونظر إلى رأس الجالوت وقال: أتدري كم كان عدد فرق امة موسى بعده؟ فقال: لا أنظر في الكتاب. ثم نظر إلى جاثليق وقال له: أتعلم كم كان عدد فرقة امة عيسى بعده؟ فقال: أربع وأربعون، فقال (عليه السلام): كذبت والله انا أعلم بالتوراة من رأس الجالوت وبالإنجيل من جاثليق، صارت امة موسى بعده إحدى وسبعين فرقة واحدة منها ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون) وصارت امة عيسى بعده اثنتين وسبعون فرقة وواحدة منهم ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم (وإذا سمعوا ما أنزل من الحق) الآية.

وصارت امة خاتم الأنبياء بعده ثلاثة وسبعين فرقة واحدة منهم ناجية وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) ثم قال: يا زاذان الامة في صاروا اثنتي عشرة فرقة واحدة منهم ناجية والبواقي هالكة.

قوله (قال: هم شيعتنا ولرحمته خلقهم) فهم المرحومون وحدهم كما دل عليه الاستثناء، والمراد بالشيعة كل من أقر بولايتهم في الميثاق من الأولين والآخرين وهم المؤمنون في الدنيا والراجعون إلى الله تبارك وتعالى مع الإيمان.

قوله (يقول لطاعة الإمامة) تفسير لقوله: (ولذلك خلقهم) وبيان للمشار إليه. وفي بعض النسخ «لطاعة الإمام» وقال علي بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: لا يزالون مختلفين في الدين إلا من رحم ربك يعني آل محمد وأتباعهم لقول الله تبارك وتعالى:

(ولذلك خلقهم) يعني أهل رحمة لا يختلفون في الدين.

قوله (الرحمة التي يقول (ورحمتي وسعت كل شيء) يقول علم الإمام) الرحمة المبتدأ وعلم الإمام خبره، وإعادة يقول للتأكيد، والغرض أن الرحمة هناك علم الإمام وقد وسع علمه الذي هو من علم الله تعالى كل شيء والمراد بكل شيء الشيعة، ويحتمل أن يرجع ضمير من علمه أن الإمام

ص:105

وهو الأظهر ليوافق الضمير السابق فيفيد أن علمه المحيط بكل شيعة بعض علومه (عليه السلام)، وإحاطة علمه بكل فرد من الشيعة بحيث لا يشذ منهم واحد أمر دلت عليه روايات متكثرة وإنما ترك عطف هذه الجملة على السابقة لانقطاعها عنها أو لأنها مستأنفة، فكأن السائل لما سمع أن الرحمة في الآية السابقة عبارة عن طاعة الإمام سأل عن الرحمة التي في هذه الآية فاجابه بأن الرحمة فيها عبارة عن علم الإمام، فليتأمل.

قوله (فسأكتبها) أي فساثبت الرحمة وإقرارها عند ظهور المهدي (عليه السلام) للذين يتقون ولاية غير الإمام العدل وطاعته (ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا) أي بالأئمة يؤمنون (الذين يتبعون النبي الامي الذين يجدونه (أي النبي والوصي) مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) أسماء وصفة وإنما أفرد الضمير لأن أمرهما أمر واحد ومتابعتهما كمتابعة واحد والقائم يأمرهم بالمعروف إذا قام وظهر، وينهاهم عن المنكر (1) وهو جحد فضل الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويحل لهم الطيبات وهي أخذ العلوم والأحكام من أهلها، ويحرم عليهم الخبائث وهي قول من خالف الإمام وأخذ العلم من غير أهله، ويضع عنهم إصرهم بالتوبة والرجوع إلى الإمام والإصر هي الذنوب التي كانوا فيها قبل معرفتهم فضل الإمام، ويضع عنهم الاغلال التي كانت عليهم وهي قوله: بما لم يؤمروا به، من ترك فضل الإمام فلما عرفوا فضله ورجعوا عما كانوا عليه وضع عنهم آثام ذلك.

قوله (والإصر الذنب) الإصر في الأصل الحبس والثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكان لفرط ثقله، ثم شاع استعماله في الوزر والذنب العظيم فهو أعم من الذنب والتعريف اللفظي بالأعم جايز.

قوله (وهي الآصار) أي الأغلال وهي جمع إصر كأحمال جمع حمل.

قوله (ثم نسبهم) أي ذكر نسبهم وحليتهم وصفاتهم الكاملة فقال: (الذين آمنوا) يعني بالإمام وفي القرآن (فالذين آمنوا به وعزروه) أي عظموه بالتقوى والكمال ونصروه في أمر الدنيا والدين باليد واللسان (واتبعوا النور الذي أنزل معه) أي واتبعوا مع اتباعه النور الذي انزل فيكون «معه» متعلقا باتبعوا. ولعل المراد بالنور القرآن سمى به لأنه مظهر لحقائق الأشياء كما أن النور مظهر للأشياء. وقال علي بن إبراهيم: هو أمير المؤمنين (عليه السلام).

ص:106


1- 1 - قوله (وينهاهم عن المنكر) قول الشارح وهو جحد فضل الإمام يدل على أنه قرأ (منكر) بفتح الكاف بصيغة اسم المفعول وفي متن الرواية «والمنكر من أنكر فضل الإمام» يدل على أن «المنكر» بكسر الكاف بصيغة اسم الفاعل، واحتمال صدوره من الإمام (عليه السلام) غير ممكن لأنه خلاف الواقع والصحيح حمله على وهم الراوي وأن ما صدر عن الإمام (عليه السلام) إن كان صدوره منه صحيحا عبارة مفادها ما فهمه الشارح. (ش)

قوله (والعبادة طاعة الناس) الطاعة لأحد تسمى عبادة ولذلك قال الله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وقد مر أن المطاع إن كان من أهل الحق كانت الطاعة له طاعة الله تعالى وعبادة له، وان كان من أهل الجور كانت الطاعة له عبادة له وللشيطان.

قوله: (ثم قال (أنيبوا إلى ربكم وأسلموا)) هذه الآية في القرآن ليست متصلة بما قبلها لأنها في سورة الزمر وما قبلها في سورة الأعراف والآية هكذا (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جنهم مثوى للمتكبرين * وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).

قال علي بن إبراهيم قوله تعالى: (وأنيبوا) أي توبوا وقوله: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) من القرآن وولاية أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) والدليل على ذلك قوله تعالى (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فطرت في جنب الله) فإنه الإمام لقول الصادق (عليه السلام): نحن جنب الله، وقوله تعالى لرد قولها (لو أن لي كرة) الآية (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت) يعني بالآيات أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)، وقوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) فإنه حدثني أبي، عن ابن أبي عمير عن أبي المعزا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: من ادعى أنه إمام وليس بامام، قلت: وإن كان علويا فاطميا؟ قال: وإن كان علويا فاطميا. وقوله: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى الله تعالى من شدة حره وسأله أن يتنفس فأذن الله فتنفس فأحرق جهنم.

قوله (ثم جزاهم فقال: لهم البشرى) الآية ليست متصلة بما قبلها في القرآن لأنها في سورة يونس وما قبلها في سورة الزمر والآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة * لا تبديل لكلمات الله ذلك الفوز العظيم) وعد الله تعالى أولياءه الذين يتولونه بطاعة وليه بأنه لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون بفوات مأمول وهم الذين آمنوا به وبرسوله وولي أمره وكانوا يتقون طاعة غيره وغير أوليائه

ص:107

ثم جزاهم بما صنعوا فقال: (لهم البشرى) بنكال أعدائهم في الحياة الدنيا وثواب أعمالهم في الآخرة والمبشر بذلك الإمام كما أشار إليه (عليه السلام).

* الأصل:

84 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند الله) فقال: الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع [الله] لهم الدرجات العلى.

* الشرح:

قوله (أفمن اتبع رضوان الله) أي أفمن اتبع ما يوجب اتباعه رضوان الله (كمن باء) أي رجع إلى الله بسخط من الله لأجل اتباعه غيره، والغرض نفي التشبيه بينهما لعدم مساواتهما في أمر من الأمور.

قوله (هم الأئمة) الظاهر أن الضمير راجع إلى الذين اتبعوا. ويحتمل أن يكون راجعا إلى رضوان الله، وإطلاقه على الأئمة مجاز من باب إطلاق المسبب على السبب لأنهم سبب لرضوان الله تعالى.

قوله (وهم والله يا عمار درجات للمؤمنين) الحمل للمبالغة أو التقدير ذو درجات باعتبار تفاوت مقامات المؤمنين بهم بالنسبة إليهم في المحبة والطاعة والعلم والعمل.

قوله (يضاعف الله لهم أعمالهم) على حسب أحوالهم فيما ذكر وكذلك قوله (يرفع الله لهم الدرجات العلى).

* الأصل:

85 - علي بن محمد، وغيره، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن عمار الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه): ولايتنا أهل البيت - وأهوى بيده إلى صدره - فمن لم يتولنا لم يرفع الله له عملا.

* الشرح:

قوله ((اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) ولايتنا) كأن قوله ولايتنا تفسير للعمل الصالح فإنها من أعظم الأعمال القلبية والمستكن في يرفعه راجع إليه والبارز إلى التكلم الطيب.

ولعل المراد به كلمة الإخلاص والأذكار كلها، وبصعوده بلوغه إلى محل الرضا والقبول يعني أن العمل الصالح وهو الولاية يرفع الكلم الطيب ويبلغه حد القبول ولا يقبل الله شيئا

ص:108

بدون ذلك، ويحتمل أن يكون تفسيرا للكلم الطيب وإشارة إلى أن المراد به الولاية والإقرار بها، وحكم الضمير حينئذ عكس ما مر وهو الأنسب بآخر الحديث (1). وبما ذكره علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية حيث قال: قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) كلمة الإخلاص والإقرار بما جاء به من عند الله من الفرائض والولاية يرفع العمل الصالح إلى الله.

* الأصل:

86 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (يؤتكم كفلين من رحمته) قال: الحسن والحسين (ويجعل لكم نورا تمشون به) قال: إمام تأتمون به.

* الشرح:

قوله (يؤتكم كفلين من رحمته) قال علي بن إبراهيم: قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته) أي نصيبين من رحمته أحديهما أن لا يدخل النار، والثانية أن يدخل الجنة، وقوله عز وجل: (ويجعل لكم نورا تمشون به) يعني الإيمان، ثم قال:

أخبرني الحسين بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن القاسم بن سليمان عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله صلوات الله عليه في قوله تعالى: (يؤتكم كفلين من رحمته) قال: الحسن والحسين (ويجعل لكم نورا تمشون به) قال: إمام تأتمون به.

أقول: هذا التأويل مع ما مر مراد من الآية فإن للقرآن ظهرا وبطنا ولكل واحد منهما حدا ومطلعا، وإرادة الظاهر مع التأويل جايزة كما صرح به القاضي في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم - إلى قوله - وأنتم تعلمون) على أن لنا أن نقول: ليس كل ما ذكروه في تفسير هذة الآية بأظهر من هذا التأويل.

* الأصل:

87 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: (ويستنبؤونك أحق هو) قال: هو ما تقول في علي (قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين).

* الشرح:

قوله (ويستنبؤونك) قال الله تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتم به آلئن وقد كنتم به

ص:109


1- (1) قوله «وهو الأنسب بآخر الحديث» يعني قوله (عليه السلام): فمن لم يتولنا لم يرفع الله له عملا، فالكلم الطيب رافع للعمل الصالح لأن الكلم الطيب من باب الاعتقادات والعمل الصالح من أفعال الجوارح ولا يقبل العمل من غير صاحب الاعتقاد الصالح. (ش)

تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبؤونك أحق هو قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين * ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلون) قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتم به) أي صدقتم في الرجعة فيقال: لهم الآن تؤمنون يعني بأمير المؤمنين وقد كنتم به من قبل تكذبون ثم قيل للذين ظلموا آل محمد حقهم: ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم تكسبون، ثم قال عز وجل (ويستنبؤونك) يا محمد أهل مكة في علي (أحق هو) أي إمام هو (قل أي وربي) إنه إمام، ثم قال تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت (آل محمد) حقهم ما في الأرض جميعا لافتدت به) في ذلك الوقت يعني الرجعة وقوله عز وجل: (وأسروا الندامة): حدثني محمد بن جعفر قال: حدثني محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسين عن صالح بن أبي حماد عن الحسن بن موسى الخشاب عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله الله تعالى: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) قال: قيل لهم: ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: شماتة الأعداء.

قوله (هو ما تقول في علي) الموصول مرجع للضمير والاستفهام على أصله لقوله:

(ويستنبؤونك) أي يستخبرونك، وقيل للإنكار و (حق) مبتدأ لوقوعه بعد الاستفهام وهو خبر أو بالعكس.

قوله (أي وربي) «أي» مثل نعم للتصديق إلا أن «أي» لا يستعمل إلا مع القسم.

* الأصل:

88 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك قوله: (فلا اقتحم العقبة) فقال: من أكرمه الله بولايتنا فقد جاز العقبة، ونحن تلك العقبة التي من اقتحمها نجا، قال: فسكت فقال لي: فهلا أفيدك حرفا خير (خيرا خ) لك من الدنيا وما فيها؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال: قوله: (فك رقبة) ثم قال: الناس كلهم عبيد النار غيرك وأصحابك فإن الله فك رقابكم من النار بولايتنا أهل البيت.

* الشرح:

قوله (ونحن تلك العقبة) قد مر شرحه مفصلا.

* الأصل:

89 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله جل وعز: (وأوفوا بعهدي) قال: بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) (أوف بعهدكم) أوف لكم بالجنة.

ص:110

* الشرح:

قوله (أوفوا بعهدي) (1) قال بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، الولاية داخلة في العهد لأنها بعض أفراده وأكملها فهي أولى بالإرادة منه ثم إنه أخذ العهد عليهم بالولاية في التوراة حيث ذكرها فيه كما ذكر الرسالة، أو في الذر على احتمال بعيد.

* الأصل:

90 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا قريشا إلى ولايتنا فنفروا وأنكروا، فقال الذين كفروا من قريش للذين آمنوا: الذين أقروا لأمير المؤمنين ولنا أهل البيت: أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، تعييرا منهم، فقال الله ردا عليهم: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن - من الأمم السالفة - هم أحسن أثاثا ورءيا). قلت: قوله (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) قال: كلهم كانوا في الضلالة لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين 7 ولا بولايتنا فكانوا ضالين مضلين، فيمد لهم في ضلالتهم وطغيانهم حتى يموتوا فيصيرهم الله شرا مكانا وأضعف جندا، قلت: قوله: (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا)؟ قال: أما قوله: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) فهو خروج القائم وهو الساعة، فسيعملون ذلك اليوم وما نزل بهم من الله على يدي قائمه، فذلك قوله: (من هو شر مكانا (يعني عند القائم) وأضعف جندا). قلت: قوله (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)؟ قال: يزيدهم ذلك اليوم هدى على هدى باتباعهم القائم حيث لا يجحدونه ولا ينكرونه، قلت: قوله: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا)؟ قال: إلا من دان الله بولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده فهو العهد عند الله،

ص:111


1- (1) قوله (أوفوا بعهدي) ظاهر القرآن أنه خطاب لليهود بعد تذكيرهم بما في التوراة من البشارة بالنبي الموعود وأن بني إسرائيل إن آمنوا به أمنوا من عذاب الله وإن أنكروه نزل عليهم البوار والهلاك على ما هو موجود في التوراة التي بأيديهم في زماننا هذا، في سفر التثنية الفصل الثامن عشر فقال تعالى: (أوفوا بعهدي) وهو الإيمان بالنبي الموعود، (أوف بعهدكم) وهو الأمن والخصب والعزة ودفع العذاب، وأما تمثيل حال الامة مع ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بحال اليهود مع نبوة خاتم النبيين فأمر وقع نظيره مكررا ومر منا التنبيه عليه ولا إشارة في الحديث ولا في الآية إلى نهي اليهود عن الاستئثار بالمال والثروة، وأن العهد الذي يجب عليهم الوفاء به هو ترك الأموال الخاصة حتى يقسمها أمير المؤمنين وسائر الأئمة (عليهم السلام) مع ثروة غيرهم بين جميع الناس بالسوية على ما يراه الشيوعيون كما توهم. (ش)

قلت: قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)؟ قال: ولاية أمير المؤمنين هي الود الذي قال الله تعالى، قلت: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا)؟ قال: إنما يسره الله على لسانه حين أقام أمير المؤمنين (عليه السلام) علما، فبشر به المؤمنين وأنذر به الكافرين وهم الذين ذكرهم الله في كتابه لدا أي كفارا. قال: وسألته عن قول الله: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) قال: لتنذر القوم الذين أنت فيهم كما أنذر آباؤهم فهم غافلون عن الله وعن رسوله وعن وعيده (لقد حق القول على أكثرهم (ممن لا يقرون بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده) فهم لا يؤمنون) بإمامة أمير المؤمنين والأوصياء من بعده، فلما لم يقروا كانت عقوبتهم ما ذكر الله (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) في نار جهنم، ثم قال: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) عقوبة منه لهم حيث أنكروا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده هذا في الدنيا، وفي الآخرة في نار جهنم مقمحون، ثم قال: يا محمد (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) بالله وبولاية علي ومن بعده، ثم قال: (إنما تنذر من أتبع الذكر (يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)) وخشي الرحمن بالغيب فبشره (يا محمد) بمغفرة وأجر كريم).

* الشرح:

قوله (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) بنفسها أو ببيان الرسول (صلى الله عليه وآله) أو واضحات الاعجاز وأعظمها الأئمة (عليهم السلام).

قوله (خير مقاما وأحسن نديا) المنصوب تمييز أي خير من حيث المكان أو المنزلة وأحسن من حيث المجلس والمجتمع، والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم ما داموا فيه وإن تفرقوا فليس بندي.

قوله (اقروا لأمير المؤمنين) أي أقروا بالولاية له.

قوله (تعييرا منهم) مفعول له ل (قال) والضمير للذين كفروا وهم عيروا الكاملين بالفضل والكمال بقلة المال وافتخروا عليهم من كثرته وكثرة زهرات الدنيا وأسباب العيش واعتقدوا لقلة عقلهم بزيادة حظهم فيما على فضلهم لأنهم كانوا لا يعملون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فقال الله تعالى ردا عليهم مع التهديد: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) من الامم السالفة (هم أحسن أثاثا ورءيا) والأثاث متاع البيت والرأي; من همزه جعله من المنظر من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة أو كسوة ظاهرة، ومن لم يهمزه إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا أمتلئت وحسنت. وقال علي بن إبراهيم: عني به الثياب والأكل والشرب، وفي رواية

ص:112

أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأثاث المتاع وأما رءيا فالجمال والمنظر الحسن.

قوله (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) قال القاضي: فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره كقوله تعالى: (انما نملي لهم ليزدادوا إثما) وكقوله: (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) انتهى، وإنما قال: الرحمن، للدلالة على شدة طغيانهم وقوة عصيانهم لأن المتصف بالرحمة الكاملة لا يعذب إلا من اشتد طغيانا كما قيل مثل ذلك في غضب الحليم.

قوله (فيصيرهم الله شرا مكانا وأضعف جندا) أي أضعف فئة وأنصارا قابل بالأول قولهم: (خير مقاما) للتنبيه بأنه يصير أمرهم حينئذ إلى عكس ما قدروه لأنفسهم ويعود افتخارهم وتمتعهم بمتاع الدنيا وبالا عليهم، وقابل بالثاني قولهم: (وأحسن نديا) للإشعار ببطلان حسن تأديبهم وتعاونهم وتعاضدهم حينئذ بالكلية فيعودون ضعفاء يتبرأ بعضهم من بعضهم.

قوله (أما العذاب وأما الساعة) من باب منع الخلو فيجوز الجمع فيرون الساعة وهي زمان خروج القائم (عليه السلام) ويرون العذاب وهو القتل بأيدي عساكره المنصورة، أو من باب منع الجمع أيضا بأن يراد بالساعة ما ذكر وبالعذاب العذاب عند الموت قبلها.

قوله (قال: يزيدهم ذلك اليوم هدى على هدى) لأن الشهادة العينية تنضم إلى الشهادة الغيبية فتصير نورا على نور، وفيه دلالة على بطلان قول من ذهب إلى الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

قوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) ضمير الجمع للعباد كلهم بدليل الاستثناء والمستثنى في محل الرفع على البدل منه، والعهد ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) قال علي بن إبراهيم: حدثنا جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال: لا يشفع ولا يشفع إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا إلا من أذن له بولاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه والأئمة (عليهم السلام) من بعده فهو العهد عند الله تبارك وتعالى.

وقد فسر العهد بالوصية عند الموت ودلت عليه أيضا الرواية عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وكيفيتها مذكورة في تفسير علي بن إبراهيم، ولا منافاة بين الروايتين لأن القرآن ذو وجوه مختلفة كلها مقصودة.

قوله (قال ولاية أمير المؤمنين هي الود) قال علي بن إبراهيم في تفسير قوله: (إن الذين آمنوا

ص:113

وعملوا الصالحات) الآية، قال الصادق (عليه السلام): كان سبب نزول هذه الآية أن أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: قل يا علي اللهم اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا فأنزل الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا).

قوله قلت (فإنما يسرناه بلسانك) مثل هذا السؤال والجواب رواه علي بن إبراهيم بأسناده المذكورة في الحاشية السابقة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) بلا تفاوت إلا إنه قال بدل قوله (عليه السلام) (على لسانه حين أقام) «على لسان نبيه حتى أقام».

قوله (ما أنذر آباؤهم) دل على أن «ما» موصولة لا نافية كما ذهب إليها بعض المفسرين.

قوله (لقد حق القول) وهو الوعيد بالقتل في الدنيا بيد الصاحب (عليه السلام) والعقوبة بالنار في الآخرة.

قوله (فهم مقمحون) لا يقدرون على أن يطأطئوا رؤوسهم من الإقماح وهو رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من صيقه.

قوله (وجعلنا من بين أيديهم سدا) لما أنكروا ولاية الأئمة (عليهم السلام) وضربوا في الجهالة أخذ الله أبصارهم وسمعهم وقلوبهم فصاروا بحيث لا يدركون الهدى وطريق الحق، فالسد الأول مانع من إبصار الآيات والثاني مانع من استماعها والإغشاء مانع من إدراكها والاستدلال بها والمتفرع على جميع ذلك انتفاء الهداية وإدراك الحق. وشبههم بمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ولا خلفهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل.

قوله (عقوبة منه لهم حيث أنكروا) «عقوبة» تعليل للجعل «حيث» تعليل للعقوبة أو لجعل المعلل بها.

قوله (هذا في الدنيا) أي الجعل المذكور أو العقوبة المذكورة والتذكير باعتبار العقاب عقوبة لهم في الدنيا يسلب اللطف والتوفيق عنهم، وأما في الآخرة فهم في نار جهنم مقمحون.

قوله (ثم قال يا محمد وسواء - الخ) لما علم الله تعالى أنه لا يؤمنون به وبالولاية وأخبر نبيه به قطعا لطمعه فقال: (وسواء) أي مستو عليهم إنذارك وتخويفك إياهم بالمخالفة والعقوبة وعدمه وأداة الاستفهام هنا مجردة عن معناه مستعملة لمجرد تقرير معنى الاستواء وتأكيده كما ذكره بعض المفسرين.

قوله (ثم قال (إنما تنذر من أتبع الذكر)) الذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) والموصول من تبعه وأقروا بولايته إلى يوم القيامة وإنما خص الإنذار بهم لأنهم ينفعهم دون غيرهم فجعل إنذارهم الغير لعدم تحقق ثمرته فيهم بمنزلة عدمه.

ص:114

قوله (وخشي الرحمن بالغيب) قيل: خاف عقابه قبل حلوله ومعاينة، أهواله، أو في سره وحال غيبته عن الخلق لا في حضوره فقط كما هو شأن المنافقين.

* الأصل:

91 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: سألته عن قوله الله عز وجل: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال:

يريدون ليطفئؤا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم، قلت: (والله متم نوره) قال: والله متم الإمامة، لقوله عز وجل: (الذين آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) فالنور هو الإمام، قلت: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) قال: هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق، قلت: (ليظهره على الدين كله) قال: يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم، قال: يقول الله:

(والله متم نوره): ولاية القائم (ولو كره الكافرون) بولاية علي، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم أما هذا الحرف فتنزيل وأما غيره فتأويل.

قلت: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) قال: إن الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله في ولاية وصيه منافقين وجعل من جحد وصيه إمامته كمن جحد محمدا وأنزل بذلك قرآنا فقال: يا محمد (إذا جاءك المنافقون (بولاية وصيك) قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين (بولاية علي) لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله (والسبيل هو الوصي) إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا (برسالتك) وكفروا (بولاية وصيك) فطبع (الله) على قلوبهم فهم لا يفقهون).

قلت: ما معنى لا يفقهون؟ قال: يقول: لا يعقلون بنبوتك، قلت: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله)؟ قال: وإذا قيل لهم ارجعوا إلى ولاية علي يستغفر لكم النبي من ذنوبكم (لووا رؤسهم) قال الله: (ورأيتهم يصدون (عن ولاية علي) وهم مستكبرون) عليه ثم عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) يقول: الظالمين لوصيك.

قلت: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم) قال: إن الله ضرب مثل من حاد عن ولاية علي كمن يمشي على وجهه لا يهتدي لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).

قال: قلت: قوله: (إنه لقول رسول كريم)؟ قال: يعني جبرئيل عن الله في ولاية علي (عليه السلام). قال:

ص:115

قلت: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون)؟ قال: قالوا: إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في علي؟ فأنزل الله بذلك قرآنا فقال: إن ولاية علي (تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا (محمد) بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) ثم عطف القول فقال: إن ولاية علي (لتذكرة للمتقين (للعالمين) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * (إن عليا) لحسرة على الكافرين * و (إن ولايته) لحق اليقين فسبح (يا محمد) باسم ربك العظيم) يقول: اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل.

قلت: قوله: (لما سمعنا الهدى آمنا به)؟ قال: الهدى الولاية، آمنا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) قلت: تنزيل؟ قال: لا تأويل، قلت قوله: (لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى ولاية علي فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: يا محمد أعفنا من هذا، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا إلى الله ليس إلي، فاتهموه وخرجوا من عنده فأنزل الله:

(قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله (إن عصيته) أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته (في علي)) قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم، ثم قال توكيدا: (ومن يعص الله ورسوله (في ولاية علي) فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا» قلت: (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) يعني بذلك القائم وأنصاره.

قلت: (فاصبر على ما يقولون)؟ قال: يقولن فيك. (واهجرهم هجرا جميلا * وذرني (يا محمد) والمكذبين (بوصيك) اولي النعمة ومهلهم قليلا) قلت: إن هذا تنزيل؟ قال: نعم، قلت: (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب)؟ قال: يستيقنون أن الله ورسوله ووصيه حق، قلت: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا)؟ قال: ويزدادون بولاية الوصي إيمانا، قلت: (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون)؟ قال: بولاية علي (عليه السلام)، قلت: وما هذا الارتياب؟ قال: يعني بذلك أهل الكتاب والمؤمنين الذين ذكر الله فقال: ولا يرتابون في الولاية، قلت: (وما هي إلا ذكرى للبشر) قال: نعم ولاية علي (عليه السلام)، قلت:

(إنها لإحدى الكبر)؟ قال: الولاية، قلت: (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)؟ قال: من تقدم إلى ولايتنا أخر عن سقر ومن تأخر عنا تقدم إلى سقر (إلا أصحاب اليمين)؟ قال: هم والله شيعتنا، قلت: (لم نك من المصلين)، قال: إنا لم نتول وصي محمد والأوصياء من بعده ولا يصلون عليهم، قلت: (فمالهم عن التذكرة معرضين)؟ قال: عن الولاية معرضين، قلت: (كلا إنها تذكرة)؟ قال: الولاية.

قلت: قوله: (يوفون بالنذر)؟ قال: يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا،

ص:116

قلت: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا)، قال: بولاية علي (عليه السلام) تنزيلا، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم ذا تأويل، قلت: (إن هذه تذكرة)؟ قال: الولاية، قلت: (يدخل من يشاء في رحمته)؟ قال: في ولايتنا، قال: (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) ألا ترى أن الله يقول: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: إن الله أعز وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى ظلم ولكن الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم.

قلت: (ويل يومئذ للمكذبين) قال: يقول: ويل للمكذبين يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية [[علي بن أبي طالب] (عليه السلام)]، (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين) قال: الأولين الذين كذبوا الرسل في طاعة الأوصياء (كذلك نفعل بالمجرمين) قال: من أجرم إلى آل محمد وركب من وصيه ما ركب.

قلت: (إن المتقين)؟ قال: نحن والله وشيعتنا، ليس على ملة إبراهيم غيرنا وسائر الناس منها برآء، قلت: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون) الآية، قال: نحن والله المأذون لهم يوم القيام والقائلون صوابا، قلت: ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال: نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربنا، قلت: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) قال: هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم، قلت: ثم يقال (هذا الذي كنتم به تكذبون)؟ قال: يعني أمير المؤمنين قلت، تنزيل؟ قال: نعم.

* الشرح:

قوله (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) قال القاضي: أي يريدون أن يطفئوا واللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها كما زيدت - لما فيها من معنى الإضافة تأكيدا لها - في لا أبا لك، أو يريدون الافتراء ليطفئوا نور الله يعني دينه أو كتابه أو حجته.

قوله (يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم) شبه طعنهم في نور الولاية وترغيبهم الخلق في الاعراض عنه بنفخ الفم على نور الشمس لقصد اطفائه وأن ذلك لمحال كما قال (والله متم نوره) يعني بنشره في قلوب المؤمنين وبسطه في صدور العارفين.

قوله (أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) أي بالقرآن المعجز والولاية لوصيه وهي دين الحق وما سواها من الأديان باطل.

قوله (قال يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (عليه السلام)) بهذا الجواب يندفع ما خلج في قلب من له زيغ من أن هذا الوعد لم يتحقق لأن دينه (صلى الله عليه وآله) ما غلب على جميع الأديان، وأما الجواب بأن

ص:117

دينه قد غلب على جميع الأديان إذ ما من دين إلا وهو مقهور لدين الإسلام فهو مدفوع بالضرورة.

وتحقيق ذلك الجواب أنه إذا ظهر القائم (عليه السلام) رفع عن الخلق جميع الأديان حتى لا يبقى فيهم دين إلا دين الإسلام، وقد نقل بعض المفسرين عن العياشي بإسناده عن عمران بن هيثم عن عباية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ذلك، وقال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: (والله متم نوره) يعني بالقائم من آل محمد إذا خرج يظهر الله الدين حتى لا يعبد غير الله تعالى وهو قوله (يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

قوله (قلت: هذا تنزيل قال: نعم) لعل هذا إشارة إلى ما ذكره في تفسير قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) وقد عرفت مما نقلناه سابقا عن صاحب الطرايف أن المراد بالتنزيل ما جاء به جبرئيل (عليه السلام) لتبليغ الوحي وأنه أعم من أن يكون قرآنا وجزءا منه وأن لا يكون فكل قرآن تنزيل دون العكس فعلى هذا قوله (عليه السلام) «وأما غيره فتأويل» يراد به ما ذكره في الآيات السابقة والله أعلم.

قوله «وأنزل بذلك قرآنا فقال يا محمد (إذا جاءك المنافقون)» هذا وإن سلم نزوله في عبد الله بن أبي وأضرابه لقضية مشهورة لكنه شامل لكل منافق حاله كحالهم وفعله كفعلهم لأن خصوص السبب لا يخصص عموم الحكم وكذلك كل من ذمه الله تعالى أو مدحه لصفة من الصفات أو أمر من الامور فهو عام يندرج فيه كل من اتصف بتلك الصفة، فلا يرد أن الآية نزلت في فرقة من أهل النفاق لأمر معلوم فكيف تحمل على غيرهم وينساق حكمها فيه؟! قوله (قالوا نشهد) أكدوا كلامهم بتأكيدات لاقتضاء المقام ذلك وتقرير مضمونه في قلب السامع ورفع توهمه للخلاف ولذلك أيضا قال: (والله يعلم إنك لرسوله) مبالغة في التأكيد في وقوع المشهود به لأن ما علم الله وقوعه فهو واقع قطعا.

قوله (اتخذوا أيمانهم جنة) أي وقاية لأنفسهم وأموالهم ولحوق الضرر واللوم بهم.

قوله (فصدوا) أي فصدوا الناس ممن يقبل قولهم بإلقاء الشبهات الباطلة عن سبيل الله واتباع الطريق الموصل إليه والسبيل هو الوصي لأنه الهادي والداعي إليه.

قوله (إنهم ساء ما كانوا يعملون) من إظهار الإيمان وإبطال الخلاف وصد الناس عن سبيل الله.

قوله (ذلك بأنهم) أي ذلك المذكور من نفاقهم وكذبهم وسوء أعمالهم بسبب أنهم آمنوا برسالتك ظاهرا وكفروا بولاية وصيك باطنا.

قوله (فطبع الله على قلوبهم) قال في الصحاح: الطبع الختم وهو التأثير في الطين ونحوه يقال:

طبع الكتاب وعلى الكتاب إذا ختمه، والطابع بالفتح الخاتم ومنه طبع الله على قلبه إذا ختمه فلا يعى وعظا ولا يوفق لخير ولا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وقال فيه أيضا: الرين الطبع. فالألفاظ

ص:118

الثلاثة متقاربة في المعنى، وقيل: الرين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الختم والأقفال.

وتحقيق ذلك أن الله سبحانه خلق القلب نورانيا أبيض بمنزلة المرآة المجلوة الصافية فإذا أذنب العبد جعل الله ذلك الذنب نقطة سوداء في قلبه فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي النور والبياض فعند ذلك لا يرجع إلى خير أبدا، فهذه التغطية صحت نسبتها إليه سبحانه كما صحت نسبتها إلى الذنوب كما في قوله تعالى: (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وما ذكرنا دلت عليه الأخبار الكثيرة المعتبرة. ويقرب منه قول بعض المعتزلة:

إنها علامة يخلقها الله تعالى في القلب تعرف الملائكة (عليهم السلام) بها أن من خلقت فيه يذم فيلعنونه.

وقال بعضهم: هي إعدام اللطف وأسباب الخير، والتمكين من أسباب. ضده. وقال بعضهم: هي الشهادة عليهم. وقال محي الدين والآبي من علمائهم: هي عند أهل السنة خلق الكفر.

قوله (لا يعقلون بنبوتك) أي لا يدركون حقيتها وحقيقتها لفرط رسوخ الباطل في قلوبهم وعدم تفكرهم في المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على صحة نبوتك.

قوله (سواء عليهم استغفرت لهم) أي الاستغفار وعدمه متساويان في أنه تعالى لن يغفر لهم أبدا، وفيه إخبار بأنهم يموتون بغير إيمان.

قوله (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) إلى طريق الخير والصلاح، يعني يسلب لطفه وتوفيقه عنهم لفرط رسوخهم في الكفر وشدة انهماكهم في الشر حتى أبطلوا بذلك استعداد قبول اللطف والتوفيق، أو المراد أنه لا يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة.

قوله (قال: إن الله ضرب مثل من حاد) أي مال، تقول: حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدا وحيدودة إذا مال عنه، وعدل يعني من مال عن ولاية علي كمن ضل عن الطريق ويمشي على وجهه مثل الحيات والعقارب لا يهتدي لأمره ويتحير فيه حيث لا يبصر إلا موضع قدمه فلا يقدر على أن يدرك طريق مقصده، وجعل من تبع عليا (عليه السلام) واتخذه علما هاديا سويا قائما سليما من العثار، ناظرا إلى جميع جوانبه، عارفا بطريق الخير والشر، يمشي على صراط مستقيم يوصل سالكه المقصود، والصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).

قوله (يعني جبرئيل عن الله في ولاية علي) أشار إلى أن الرسول الكريم جبرئيل (عليه السلام) وهو مكرم ومعزز من عند الله تعالى يأتي بالوحي من قبله، وأن الضمير في قوله «إنه» راجع إلى ولاية علي (عليه السلام) وتخصيصه بالقرآن غير موجه، نعم يمكن إرجاعه إلى المنزل ليعم ما نحن فيه لأنه من أفراد المنزل وكأنه المراد هنا.

قوله (قليلا ما تؤمنون) أي ما تؤمنون بالولاية إيمانا قليلا عند ظهور كونها من قبله تعالى لفرط

ص:119

الحسد والعناد.

قوله (قالوا: إن محمدا كذاب) قيل: نقل أنه (صلى الله عليه وآله) لما نصب عليا ونزلت آية المودة قال الذين لم يكونوا راسخين في الدين والاعتقاد: إن محمدا كذاب مفتر على الله لم يأمره الله بذلك وإنما نصبه من عنده لئلا تخرج الحكومة والخلافة من أهل بيته فرد الله قولهم.

قوله (فقال: إن ولاية علي تنزيل من رب العالمين) في القرآن: (تنزيل من رب العالمين) والمفسرون قالوا: التقدير هو التنزيل بتقدير المبتدأ، وما ذكره (عليه السلام) إما بيان لمرجع الضمير أو إيماء وقوع التحريف فيه، والله أعلم.

قوله (ولو تقول علينا) التقول الافتراء لتضمنه معنى التكلف.

قوله (لأخذنا منه باليمين) كناية عن شدة الأخذ، لأن الأخذ باليمين أقوى وأشد من الأخذ باليسار.

قوله (ثم لقطعنا منه الوتين) الوتين عرق في القلب متصل بالعنق إذا قطع مات صاحبه وهذا كناية عن إهلاكه، أو تمثيل لغضبه وإهلاكه بغضب الملوك وإهلاكهم.

قوله (فقال: إن ولاية علي لتذكرة) كأنه إشارة إلى أن الضمير في قوله تعالى: (إنه لتذكرة) راجع إلى الولاية ولما كان الانتفاع بها مختصا بالمتقين كانت هي تذكرة لهم.

قوله (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) يعني بالولاية أو بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيها والغرض منه هو الوعيد على التكذيب.

قوله (وإن عليا لحسرة على الكافرين) بولايته حين رأوا ثواب المؤمنين بها وكان هذا أيضا بيان لمرجع الضمير في قوله (وإنه لحسرة).

قوله (وإن ولايته لحق اليقين) كأن الإضافة بيانية للتأكيد في حقيقة الولاية لكونها منزلة من عند الله تعالى ويقينا لا شك فيه.

قوله (فمن آمن بولاية مولاه) أي فمن آمن بولاية مولاه الذي كانت ولايته من أمره تعالى (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) يعني نقصا في الجزاء ولا لحوق مكروه ومذلة به.

قوله (لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) أي الضر ودفعه والرشد والخير والصلاح والهداية والتوفيق إنما هو بيد الله تعالى، لا أملك لكم شيئا من ذلك وفيه ترغيب للخلق بالتوسل في جلب المنافع ودفع المضار إلى الله سبحانه.

قوله (فاتهموه يعني) بالكذب والافتراء في ولاية علي (عليه السلام) أو في قوله هذا إلى الله لا إلي. والمآل واحد.

ص:120

قوله (قل: إني لن يجيرني أحد من عقوبة الله إن عصيته بكتمان ما امرت بإظهاره وتبليغه من ولاية علي (عليه السلام) (ولن أجد من دونه ملتحدا) يعني مأوى وملجاء يحفظني من غضب الله وعقوبته، وفيه تنبيه للعباد بالإنابة إليه عند صدور المعصية منهم.

قوله (إلا بلاغا من الله) استثناء من قوله لا أملك وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة أو من قوله (ملتحدا) يعني لن أجد ملتحدا إلا تبليغا من الله ورسالاته من غير زيادة ونقصان، ومنها رسالته في ولاية علي (عليه السلام).

قوله (ثم قال توكيدا) أي ثم قال توكيدا لأمر الولاية وتقريرا له: (ومن يعص الله ورسوله «في ولاية علي» فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) وفيه وعيد شديد للكافرين بولايته وفي مفهوم الشرط دلالة على أن المقر بها لا يدخل النار أو لا يخلد فيها، ولا ريب في الثاني وأما الأول فالروايات فيه مختلفة والله أعلم.

قوله (يعني بذلك القائم وأنصاره) تفسير لقوله (ما يوعدون) روى علي بن إبراهيم عن الحسين ابن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله عز وجل: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) قال:

القائم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم في الرجعة. وفي قوله: (فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) قال: وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لزفر: والله يا ابن صهاك، لولا عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا. فلما أخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يكون في الرجعة قالوا: متى يكون هذا؟ قال الله تعالى قل يا محمد: إن أدري قريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا.

وفي قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) قال: يخبر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) الذي يرتضيه بما كان قبله من الأخبار وما يكون بعده من أخبار القائم (عليه السلام) والرجعة والقيامة.

وروى أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني الموت والقيامة (فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) يعني فلان وفلان وفلان ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضغائن من قريش من أضعف ناصرا وأقل عددا، قالوا: فمتى يكون هذا يا محمد؟ قال الله تعالى لمحمد: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) قال: أجلا (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) يعني علي المرتضى من الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو منه فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، قال: في قلبه العلم ومن خلفه الرصد يعلمه علمه ويزقه زقا ويعلمه الله تعالى إلهاما والرصد التعليم من النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلم

ص:121

النبي (صلى الله عليه وآله) أن قد أبلغ رسالات ربه وأحاط علي (عليه السلام) بما لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العلم (وأحصى كل شيء عددا) ما كان أو يكون منذ خلق الله تعالى آدم إلى أن تقوم الساعة من فتنة أو زلزلة أو خسف أو قذف أو أمة هلكت فيما مضى أو تهلك فيما بقي، وكم من إمام جائر أو عادل يعرفه باسمه ونسبه ومن يموت موتا أو يقتل قتلا. وكم من إمام مخذول لا يضره خذلان من خذله وكم من إمام منصور لا ينفعه نصر من نصره.

قوله (قال: يقولون فيك) مالا يليق بذاتك من السحر والكهانة والشعر والجنون والكذب.

قوله (واهجرهم هجرا جميلا) بالمعاداة باطنا والمداواة ظاهرا.

قوله (ومهلهم قليلا) فإن وبال أمرهم سيلحقهم عند قيام القائم (عليه السلام) والقيامة كما قال (ان لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما).

قوله (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) لما أخبرهم الله تعالى أن الملائكة الموكلين على النار تسعة عشر أي عددا أو صنفا قال (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) يعني يستيقنون أن الله ورسوله ووصيه حق، لموافقة هذه الأخبار بما في كتبهم وتصديقه إياه فيعلمون أن من جاء به ولم يقرأ كتبا ولم يكتسب علما فهو صادق في دعوى نبوته ونصب وصيه.

قوله (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) «إيمانا» مفعول «يزداد» لا تأكيد لآمنوا يعني ويزداد الذين آمنوا بالنبي إيمانا بولاية الوصي أي يزداد إيمانهم بها، أو يحصل لهم الإيمان بها فيكون ازدياده في الأول باعتبار الكيفية وفي الثاني باعتبار الكمية، وسبب الزيادة على الاحتمالين أمور أحدها أن علمهم بأن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كان في الكتب الماضية يوجب زيادة التصديق بما جاء به من ولاية علي (عليه السلام) لحصول كمال الوثوق به، وثانيهما أن استيقان أهل الكتاب بالوصي لما ذكر يوجب ازدياد إيمان المؤمنين به، وثالثها أن الوعيد المذكور لأهل جهنم كان لمن أنكر ولايته (عليه السلام) كما يظهر ذلك من رواية علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهو مذكور في سورة المدثر، وقد جعل أكثر آيات هذه السورة في ذم منكر الولاية. ومن أراد أن يعرف ذلك فليرجع إليه. لا يقال: الوعيد مذكور في التوراة أيضا فكيف نزل في منكر الولاية؟ لأنا نقول هذا الوعيد ونحوه من لدن آدم (عليه السلام) إلى يوم القيامة ليس إلا لمن أنكر ولاية علي (عليه السلام) لأنا قد ذكرنا في تضاعيف الروايات أنه لا يدخل النار إلا من أنكر ولايته.

قوله (ولا يرتاب الذين) هذا تأكيد للاستيقان والازدياد، ونفي لارتيابهم بشبهة.

قوله (قلت: ما هذا الارتياب؟) لعل السائل جعل قوله (عليه السلام) «بولاية علي» متعلقا بالمؤمنين فلا يعلم حينئذ أن متعلق الارتياب المنفي ما هو فلذلك سأل عنه فأجاب (عليه السلام) بأنه الولاية أي لا يرتابون

ص:122

فيها، فليتأمل.

قوله (وما هي إلا ذكرى للبشر قال نعم ولاية علي) أراد أن «هي» راجع إلى الولاية، ولعل هذا أولى من إرجاعه إلى سقر أو إلى تسعة عشر وهم خزنتها أو إلى السورة كما قيل لأن التذكر بالولاية أقوى وأشد من التذكر بما ذكر.

قوله (قلت: (إنها لإحدى الكبر) قال الولاية) أقسم الله تعالى ببعض مخلوقاته لتقرير عظمة الولاية فقال «كلا» وهو ردع لإنكار الولاية (كلا والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر) أي الولاية إحدى النعم الجسام والأمور العظام التي لا نظير لها، وهذا أولى من إرجاع الضمير إلى سقر ووصفها بأنها إحدى الكبر أي بلية عظيمة كما قيل بقرينة قوله تعالى: (نذيرا للبشر) لأن نسبة الإنذار إلى علي (عليه السلام) أولى من نسبته إلى سقر.

قوله (قال: من تقدم إلى ولايتنا اخر عن سقر) يعني هو ناج منها لا يدخلها أبدا.

قوله (ومن تأخر عنا تقدم إلى سقر) يعني ومن تأخر عن ولايتنا ومحبتنا تقدم إلى سقر وسبق في الدخول فيها.

قوله (إلا أصحاب اليمين) قال الله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين).

قال (عليه السلام): هم - أي أصحاب اليمين - والله شعيتنا وهم الذين فكوا رقابهم عن الرهانة بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). روى علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اليمين أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه شيعته.

قوله (قلت: لم نك من المصلين قال: إنا لم نتول) حكى الله تعالى المكالمة بين أصحاب اليمين وغيرهم فقال: (إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين) روى علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قالوا لم نك من المصلين) أي لم نك من أتباع الأئمة صلوات الله عليهم (ولم نك نطعم المسكين) قال: حقوق آل محمد (صلى الله عليه وآله) من الخمس لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وهم آل محمد صلوات الله عليهم (وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين (أي يوم المجازات) حتى أتانا اليقين (أي الموت) فما تنفعم شفاعة الشافعين) قال: لو أن كل ملك مقرب ونبي مرسل شفعوا في ناصب آل محمد صلوات الله عليهم ما شفعوا فيه (فما لهم عن التذكرة معرضين) قال: يذكرهم من موالاة أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

قوله (يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا) لعل المراد أن عهد الولاية

ص:123

مندرج تحت النذر وإن كان الظاهر منه خلافه وقد مر.

قوله (قال: نعم ذا تأويل) لعل المراد نعم هذا وهو ما ذكر في نحن نزلنا تنزيلا وذا وهو ذكر في (يوفون بالنذر) تأويل.

قوله (قال الولاية) تفسير لهذه والحمل للمبالغة لأن التذكر إنما تحصل بالولاية ولهذا هلك كل من تركها تمسك في الدين برأيه أو بأحمق آخر مثله.

قوله (قال في ولايتنا) أطلق الرحمة على الولاية لأن الولاية سبب لها إذ كل من أقر بالولاية فهو مرحوم وكل من تخلف عنها فهو مغضوب.

قوله (والظالمين) أي أنفسهم أو الأئمة (عليهم السلام) والثاني أنسب بالمقام.

قوله (ألا ترى) الغرض منه هو الإشارة إلى كل ما نسب الله تعالى المظلومية إلى ذاته المقدس عن الانفعال بها وقبولها نفيا أو إثباتا أراد نفيها أو إثباتها للأئمة (عليهم السلام).

قوله (من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى ظلم) بأن يكون مظلوما أو ظالما لتنزه قدسه عن العجز والانفعال والظلم فلابد من صرف نفيهما حيث أمكن إلى من هو قابل لهما ليكون له فائدة كما أشار اليه (عليه السلام) بقوله ولكن الله خلطنا بنفسه. أي ضمنا إلى ذاته المقدس وشاركنا فجعل ظلمنا ظلمه فقال:

(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لرجوع جزاء الظلم إليهم وجعل ولايتنا للمؤمنين ولايته حيث قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) يعني الأئمة، ثم أنزل بذلك - أي بجعل ظلمنا ظلمه مجازا أو بضمنا إلى نفسه إظهارا لشرفنا - قرآنا على نبيه فقال: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) والغرض نفي الظلم عن الأئمة إلا إنه ضمهم إلى نفسه فقال: (وما ظلمناهم) وإنما قلنا حيث أمكن لأنه قد يقصد نفي الظلم عنه بحيث لا يحتمل غيره كما في قوله تعالى (وما أنا بظلام للعبيد) ولعل المخاطب أو غيره كان يعتقد ثبوت الظلم له مع زيادة وإن لم يكن ذلك معقولا فيكون للنفي فائدة، على أنه يمكن أن يكون القصد نفي الظلم عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث إنه قسيم الجنة والنار ولا يدخل أحد فيهما إلا بحكمه ولا يكون ظالما فيه وانما نسبه إلى ذاته المقدسة لأنه آمر، والله أعلم.

قوله (قال: الأولين الذين كذبوا الرسل في طاعة الأوصياء) لم يذكر الآخرين لأنه يعلم حالهم من حال الأولين.

قوله (كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل الفعل المذكور وهو الإهلاك نفعل بالمجرمين في الدنيا بيد القائم (عليه السلام) وفي الآخرة بعذاب النار.

قوله (قلت: إن المتقين) قال الله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا

ص:124

واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون كذلك نجزي المحسنين).

قوله (قلت يوم يقوم الروح) قال الله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) قال علي بن إبراهيم: الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمة (عليهم السلام). وقال القاضي: هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم «يوم» ظرف ل (لا يملكون) والروح ملك موكل على الأرواح أو منها أو جبرئيل أو خلق أعظم من الملائكة، ونقل عن ابن عباس أن الروح أعظم المخلوقات وهو وحده في صف وباقي الملائكة في صف.

قوله (قال هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم) قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى:

(إن كتاب الفجار لفي سجين) ما كتب الله تعالى لهم من العذاب لفي سجين (وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) أي مكتوب (يشهده المقربون) الملائكة الذين كتبوا عملهم، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «السجين الأرض السابعة» حدثنا أبو القاسم الحسني قال حدثنا فرات بن إبراهيم [عن محمد إبراهيم عن محمد بن الحسين بن إبراهيم] عن علوان بن محمد قال حدثنا محمد بن معروف عن السدي عن الكلبي عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه في قوله تعالى (ان كتاب الفجار لفي سجين) قال: فلان وفلان وما أدريك ما سجين إلى قوله تبارك وتعالى -: (الذين يكذبون بيوم الدين) الأول والثاني (وما يكذب بها إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) وهو الأول والثاني كانوا يكذبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) - إلى قوله تعالى: (إنهم لصالوا الجحيم) ثم يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون).

* الأصل:

92 - محمد بن يحيى. عن سلمة بن الخطاب، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى عز وجل: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) قال: يعني به ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قلت: (ونحشره يوم القيامة أعمى)، قال:

يعني أعمى البصر في الآخرة; أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: وهو متحير في القيامة يقول: (لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) قال:

الآيات الأئمة (عليهم السلام) (فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) يعني تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة (عليهم السلام) فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم. قلت: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) قال: يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) غيره ولم

ص:125

يؤمن بآيات ربه وترك الأئمة معاندة فلم يتبع آثارهم ولم يتولهم، قلت: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء) قال: ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، قلت: (من كان يريد حرث الآخرة) قال: معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (نزد له في حرثه)؟ قال: نزيده منها، قال: يستوفي نصيبه من دولتهم (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب) قال: ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب.

* الشرح:

قوله (يعني به ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)) (فمن اتبع هداي فلا يضل) أي في الدنيا (ولا يشقى) أي في الآخرة (ومن أعرض عن ذكري) أي هداي أي الذاكر والداعي إلى سبيلي وعبادتي وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن له معيشة ضنكا.

قوله (يعني أعمى البصر في الآخرة) دل على أن المراد به أعمى البصر قوله تعالى: (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا).

قوله (كذلك) أي مثل ذ لك فعلت ثم فسره بقوله: (أتتك آياتنا فنسيتها).

قوله (يعني من أشرك) تفسير لمن أسرف لأن الشرك أقوى أفراد الإسراف.

قوله (ترك الأئمة معاندة) بيان لقوله (ولم يؤمن بآيات ربه) وإشارة إلى أن الآيات الأئمة، وفي ذكر المعاندة إشعار بأن من تركهم لا معاندة بل لشبهة لا يجزي بهذا الجزاء المخصوص وهو حشره أعمى البصر ولا بعد فيه، والله أعلم.

قوله (الله لطيف بعباده) أي يعلم ظاهرهم وباطنهم وسرائرهم وضمائرهم يرزق من يشاء منهم ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) باللطف والتوفيق لقبولها لصفاء قلبه ولينة طبعه وحسن استعداده.

قوله (قال: معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة) المراد بإرادة معرفته إرادتها مع التصديق والإذعان بولايته وحقوقه وإنما شبه معرفته بالحرث وهو إلقاء البذر في الأرض لاستلزامها منافع جليلة وفوائد جزيلة في الآخرة ومن ثم قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.

قوله (نزيده منها) تفسير قوله: (نزد له في حرثه) وإشارة إلى أن «في» بمعنى (من) للتعليل وهي قد تجيء له كما صرح بعض المحققين وضمير التأنيث راجع إلى الحرث باعتبار أنه عبارة عن المعرفة يعني نزيده من أجل تلك المعرفة، ثم بين تلك الزيادة بقوله يستوفي نصيبه من دولتهم وهي دولة المنتظر (عليه السلام) وفيه دلالة على رجعة الشيعة كلهم مع احتمال تخصيصها بالخلص، أو حصول زيادة الفيض حينئذ لأرواحهم بدونها، والله أعلم.

قوله (ومن كان يريد حرث الدنيا) لعل المراد به متاع الدنيا، أو معرفة أئمة الجور والإقرار

ص:126

بولايتهم ولعل الأخير أظهر بقرينة المقابلة.

قوله (ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب) دل بحسب الظاهر على أن المراد بالآخرة ساعة قيام القائم (عليه السلام) سميت بالآخرة لأنها من علاماتها، ويحتمل أن يراد بالآخرة القيامة ويجعل انتفاء النصيب في دولة الحق دليلا على انتفائه في القيامة لاستحالة تحقق الملزوم بدون اللازم، والله أعلم (1).

ص:127


1- (1) قوله «لاستحالة تحقق الملزوم بدون اللازم» والأظهر أن هذا تمثيل وتشبيه حال بحال كما مر في أمثاله كثيرا ولا يعتبر في التمثيل تطبيق كل كلمة من المثل على الممثل كما لا يجب في تمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول الأعشى: شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر أن يتكلف في تطبيق حيان أخي جابر على رجل معين اتفق ملاقاته مع علي (عليه السلام) في خلافته ولم يكن يلاقيه أيام قعوده، بل المراد تشبيه اختلاف الحالين باختلاف الحالين، قط على ما هو مقرر في علم البيان والحاصل من جميع ما ذكر في تفسير الآيات المذكورة بالولاية أن غير المتدبر في الأمور القليل الممارسة لمجاري كلام العرب يتعجب مما روى عن أئمتنا (عليهم السلام) في تطبيق آيات القرآن على ولايتهم. مع عدم ارتباطها معها جدا وعدم تناسب سابقتها ولاحقتها معها وربما ينكرها نعوذ بالله. ومخالفونا يطعنون على تلك التفاسير وينسبوننا إلى الغباوة والجهل ويضحكون من تمسكنا في إثبات أصل عظيم في اعتقادنا وهو الإمامة بأدلة واهية واحتمالات غير مسلمة عند مخالفينا ولا ثابتة عند موافقينا ويقال مثلا: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله) هم الأئمة الاثنا عشر مع أن الشيعة أنفسهم تمسكوا في إثبات الأشهر الحرم بتلك الآية، فكون المراد بها الأئمة غير ثابتة عندهم أنفسهم فكيف عند مخالفيهم ولا وجه لتمسكهم بتلك الآية على إثبات الإمامة. والجواب عن جميع هذه الشبهات أن مرجع جميع هذه الآيات والروايات في تأويلها بالولاية إما تطبيق الكلي على أظهر الأفراد كتأويل الصراط المستقيم بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وإما من التمثيل كتأويل النبأ العظيم بولايته (عليه السلام) مع أن لفظ القرآن منطبق على القيامة وقد اتفق في تضاعيف الروايات ما روى عن الكذابين المشهورين الوضاعين والمجاهيل ولا حاجة إلى التكلف في توجيهها وتصحيحها، وبذلك يندفع الشبهة عن غرائب التفاسير. (ش)

باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية

* الأصل:

93 - محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن الحسن، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بكير بن أعين قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية وهم ذر، يوم أخذ الميثاق على الذر والإقرار له بالربوبية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة.

* الشرح:

قوله (وهم ذر) أي في صلب آدم أو بعد إخراجهم منه ولكل واحد رواية تدل عليه، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: إن الأرواح تعلقت ذلك اليوم بأجساد صغيرة مثل النمل (1) فأخذت منهم الميثاق بالولاية وغيرها.

أقول: ثم إنهم لما غفلوا - إلا من شاء الله - عن تذكرة في عالم هذه الأبدان إما لعدم شرط التذكر أو لوجود مانع منه بعث الله الأنبياء تكليفا لهم ثانيا لدفع الغفلة وتكميل الحجة والغفلة عن التكليف الأول لتعلقهم بالعوائق وتمسكهم بالعلائق المانعة من التذكر لا يوجب خلوه عن الفائدة.

قوله (والإقرار له بالربوبية) وهو بالجر عطف على الذر أو على الولاية والأول أولى لأنه أعم حيث يشمل الشيعة وغيرهم.

* الأصل:

94 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفري، عن أبي جعفر (عليه السلام). وعن عقبة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الخلق، فخلق ما أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق ما أبغض

ص:128


1- (1) قوله «بأجساد صغيرة مثل النمل» يفهم مما يأتي في كلام الشارح أن هذه الأجساد الصغيرة هي بعينها الظلال التي فسرها فيما بعد واختلف التعبير وهي بالنسبة إلى هذه الأبدان الكثيفة كالظل بالنسبة إليها (ش).

مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال: فقلت: وأي شيء الظلال؟ قال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء، ثم بعث الله فيهم النبيين يدعونهم إلى الإقرار بالله وهو قوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) ثم دعاهم إلى الإقرار بالنبيين، فأقر بعضهم وأنكر بعضهم، ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله:

(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم.

* الشرح:

عن عبد الله بن محمد الجعفري) كذا في النسخ ولم أره في الرجال والأولى الجعفي وهو من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) وسيجئ في خامس باب مولد الزهراء (عليها السلام) رواية رجال هذا السند بأعيانهم عن عبد الله بن محمد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وهو يؤيد ما قلناه.

قوله (وعن عقبة) كان عقبة بن قيس بن سمعان، وعطف على صالح بن عقبة وهو ابنه لجواز أن يروي عنه محمد بن إسماعيل بن بزيع كما يروي عن ابنه.

قوله (قال: إن الله خلق الخلق فخلق ما أحب مما أحب) قد ذكرنا في باب خلق أبدان الأئمة أنه تعالى لما علم أعمال العباد وعقائدهم في الأعيان من الخير والشر خلق أبدان أهل الخير من طينة الجنة وخلق أبدان أهل الشر من طينة النار ليرجع كل إلى ما هو أهل له ولايق به وأن أعمالهم سبب لخلق الأبدان على الوجه المذكور دون العكس، وأن كثيرا من الشبهات يندفع (1) بهذا التقرير وقد

ص:129


1- (1) قوله «وأن كثيرا من الشبهات يندفع» وأصل الشبهات لزوم الجبر والظلم وعدم فائدة في إنزال الكتب وإرسال الرسل وإبداع التكاليف وذلك لأن الإنسان إذا خلق من طينة لزمه أن يعمل على طبق طينته خيرا كانت أو شرا، ومحصل كلام الشارح في الدفع أن الله تعالى خلق أبدانا من الطينة الطيبة وجعل فيها أرواحا علم أنهم لو كانوا مختارين في الدنيا لآمنوا لا محالة، وخلق أيضا أبدانا من الطينة الخبيثة وجعل فيها أرواحا علم أنهم لا يؤمنون في الدنيا باختيارهم، ومفاد كلام الأسترآبادي أن تلك الأرواح آمنوا في عالم الذر باختيارهم وبعضهم لم يؤمنوا كذلك وجعل كلا في بدن يناسبه، وشئ من الكلامين لا يدفع الشبهة الطينة الطيبة أو الخبيثة أما أن تؤثر في الإيمان والكفر أو لا تؤثر، فإن لم تؤثر لم تصح وصفها بالطيب والخبيث لأن طينة لا تقرب العبد إلى الإيمان ولا إلى الكفر تتساوى في جميع الناس من هذه الجهة وليست من حيث كونها طينة متصفة بخير ولا شر، وإن أثرت في تقريب صاحبها إلى إيمان أو كفر لزم منه سلب الاختيار عن الناس أو التبعيض في القرب إلى الخير أو الشر في دار التكليف حين يشرع عليهم الشرائع ويرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب، وأن اختيارهم في عالم الذر لا يدفع محذور لزوم الجبر والتبعيض حين التكليف. والجواب الحق في ذلك أنا نعلم أنه تعالى ليس بظلام للعبيد وأنه لا يسلب الاختيار عن العبد حين يأمره بالتكليف وما خالف ذلك ظاهرا يجب رده أو تأويله. وقد سبق منا في حاشية صفحة 374 من المجلد الرابع وقبلها وبعدها ما يبين ذلك. (ش)

وجدت ههنا كلام الفاضل الإسترآبادي موافقا لما ذكرت وحصل لي وثوق آخر بذلك وكلامه هذا المراد خلق التقدير لا خلق التكوين محصل المقام أنه تعالى قدر أبدانا مخصوصة من الطينتين ثم كلف الأرواح فظهر منها ما ظهر، ثم قدر لكل روح ما يليق بها من تلك الأبدان المقدورة، وإذا تأملت فيه وجدت أنه لا فرق بينه وبين ما ذكرت إلا إنه اعتبر أعمالهم في الوجود الظلي وجعلها سببا للأبدان المخصوصة ونحن اعتبرنا أعمالهم في الوجود العيني، والأمر في ذلك الاختلاف سهل بعد التوافق في أصل المقصود.

قوله (ثم بعثهم في الظلال) قال الفاضل الإسترآبادي يفهم من الروايات أن التكليف الأول وقع مرتين مرة في عالم المجرد الصرف ومرة في عالم الذر، بأن تعلقت الأرواح فيه بجسد صغير مثل النمل ولما لم يكن تصل أذهان أكثر الناس (1) إلى إدراك الجوهر المجرد عبروا (عليهم السلام) عن المجردات

ص:130


1- (1) قوله «ولما لم يكن يقبل أذهان أكثر الناس إدراك الجوهر المجرد» مقصوده أن إطلاق هذه الكلمة أعني الجوهر المجرد - على المعنى المصطلح المتداول في العصر الأخير بين أهل المعقول وهو الموجود المستقل بنفسه غير الجسماني لم يكن مشهورا في عصر الأئمة (عليهم السلام) بحيث يفهمه السامعون، كما أن لفظ الواجب والمكروه والحرام في عصرهم (عليهم السلام) لم يكن متداولا في الإطلاق على خصوص المعنى المتداول بين الفقهاء المتأخرين، لا أنهم ما كانوا يدركون الجوهر المجرد أصلا بل كانوا يدركون معناه ولا يطلقون عليه هذا اللفظ. ولا يتعجب من الفاضل الإسترآبادي وصدور مثل هذا الكلام منه لأن توغله في الأخبارية لا ينافي تبصره في العقليات ولا يبعد منه اعترافه بأن الأئمة والعلماء ربما يعبرون عن المعاني المجردة بالتعبير الجسماني لتقريبه إلى أذهان الناس كما قال الله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) إذ يعلم كل أحد أن العمل لا يوزن بالمثاقيل ولا يقاس بالذرة سواء كان المراد النمل الصغير أو الذرات المنبثة في الهواء، لكن عبر عنه الله تعالى تعبيرا جسمانيا تقريبا إلى الذهن وهكذا هنا عبر عن المجرد بالظل لأنه أقرب المحسوسات إلى المجردات، والغبي يقف على الجسم والبصير يعبر من العبارة إلى المعنى ولك مثاب بحسب استعداده ما لم يتنافثوا ويتناغضوا، والمعهود من أهل الظاهر أنهم يحصرون الحقيقة فيما يفهمه العوام أو ويتبادر إلى ذهنهم من ظواهر الألفاظ بضميمة مرتكزات خاطرهم ولا يقتصرون على حجية الظواهر فقط بل يجعلونها دليلا على الواقع. فإن قيل: إن فتحنا الباب على الناس لاقتحموا على كل ما ورد في الشريعة وحملوا جميع الجسمانيات على المجردات كالجنة والنار والمعراج والملائكة وغير ذلك. قلنا: لا نفتح هذا الباب على الناس ولا نجوز تأويل كل شيء لكل أحد وإنما ذلك للعلماء المتبحرين العارفين بالقرائن العقلية والنقلية في غير ضروريات الدين بشرط أن لا يذهب ذهن الناس من التأويل إلى غير الحقيقة لأن المرتكز في أذهانهم أن كل شيء غير جسماني فهو موهوم لا حقيقة له، إلا في أمور نادرة يعترفون بتحققها من غير تجسم كوجوده تعالى لظهور الأدلة ووجود أنفسهم لوجدانها، فنجوز التأويل فيها كيد الله بقدرة الله وكمقدار الأعمال في (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره) بخلاف المعراج فإن الروحاني منه عند العامة تخيل رؤيا لا حقيقة له. (ش)

بالظلال لتفهيم الناس، وقصدهم من ذلك أن موجودات ذلك العالم مجردة عن الكثافة الجسمانية كما أن الظل مجرد عنها فهي شيء وليست كالأشياء المحسوسة الكثيفة وهذا نظير قولهم (عليهم السلام) في معرفة الله تعالى: شيء بخلاف الأشياء الممكنة ا ه. أقول: يمكن أن يراد بالظلال الأجساد الصغيرة التي كانت في عالم الذر وهي بالنسبة إلى هذه الأبدان الكثيفة كالظل بالنسبة إليها، فليتأمل.

قوله (ثم بعث الله فيهم النبيين يدعوهم إلى الاقرار بالله) الظاهر أن يدعوهم حال عن الله والمستكن فيه له والبارز للنبيين وغيرهم من الخلائق جميعا، ويحتمل أن يكون علة للبعث والمستكن حينئذ للنبيين والبارز لغيرهم والتقدير لأن يدعوهم، ويؤيده يدعونهم بالنون كما في بعض النسخ وهو على هذه النسخة حال عن النبيين، فليتأمل.

قوله (وهو قوله ولئن سألتهم) لعل الاستشهاد به باعتبار أن إقرارهم بأن الله خالقهم اضطرارا من أجل إقرارهم به في ذلك اليوم حتى لو لم يكن هذا أو باعتبار إقرارهم بذاك عند تحقق هذا السؤال في أي وقت كان دل على إقرارهم بذلك في ذلك اليوم، والله أعلم.

قوله (فأقر بها والله من أحب) أي من أحب الإقرار بها أو من أحبها أو من أحبنا أو من أحبه الله، وكذا قوله من أبغض.

قوله (وهو قوله) أي الإنكار أو الإخبار به قوله تعالى في شأن المنكرين: (وما كانوا ليؤمنوا) أي في التكليف الثاني (بما كذبوا به) من النبوة والولاية (من قبل) أي من قبل هذا التكليف وهو التكليف الأول في الميثاق (1) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) «كان التكذيب ثم» يعني في الميثاق يريد أن

ص:131


1- (1) قوله «وهو التكليف الأول في الميثاق» راوي هذا الخبر صالح بن عقبة كذاب غال ملعون باتفاق علماء الرجال ومتنه مخالف لأصول المذهب، وظاهر القرآن يخالفه أيضا والأليق عدم التكلف لتوجيهه وتوجيه أمثاله وقد سبق مثل هذا المضمون في الخبر الحادي والثمانين من باب فيه نكت من التنزيل عن منيع بن الحجاج. واما كلام الشارح ففيه أن التكليف الثاني في الدنيا يوجب كون المكلف مختارا يحتمل في حقه الإيمان والانكار والا سقط فائدة بعثة الأنبياء وأيضا التكليف الأول يغني عن الثاني وأيضا من أين ثبت عند الشارح أن عرض الإيمان على الناس في عالم الذر كان تكليفا، وأيضا ظاهر القرآن أن جميع من في ذلك العالم آمنوا وقالوا بلى في جواب (ألست بربكم) إلا أنهم اختلفوا لما جاؤوا إلى الدنيا، وأيضا ظاهر القرآن في سورة يونس والأعراف أن قوله تعالى (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) في شأن جماعة كانوا قبل موسى بن عمران (عليه السلام) (اتتهم رسلهم بالبينات) فكفروا بالرسول السابق، ثم جاءهم رسول بعده فكفروا به وما كانوا ليؤمنوا به بعد ما كذبوا من قبله. وأيضا هذا يناسب لطريقة الماديين ومذهبهم وكان صالح بن عقبة وأمثاله من الغلاة منهم اتخذوا تظاهرهم بولاية أهل البيت (عليهم السلام) وغلوهم فيهم جنة يتوقون بها طعن المؤمنين وكانوا يروجون الكفر والفساد والتشكيك في التوحيد والنبوة وتقرب الناس إلى أصول الماديين ضمن اظهارتها لكم في حب النبي وأهل بيته، ومن لوازم مذهب الماديين الجبر لأن كل شيء عندهم بتأثير الطبيعة والطبيعة مجبورة لا تستطيع النار أن لا تحرق ولا الماء أن لا يبرد وأفعال الإنسان وأفكاره من آثار ذرات دماغه أو قلبه وتلك الآثار تترتب على تلك الذرات لا محالة فكما تهضم الكبد الغذاء قهرا اما هضما جيدا أو رديئا كذلك من ذرات الدماغ ترشح الافكار أياما كان وهو مقتضى طبيعتها ولا يستطيع أد أن يغير مقتضى طبيعة أعضائه وجوارحه وعند الملاحدة لعنهم الله أن اختلاف فهم أفراد البشر متفرع على اختلاف خلايا دماغه، ولا يعترفون بأصالة في النفس والروح فلا إرادة واختيار أصلا عندهم، وإذ لا نفس ولا اختيار فلا تكليف. (ش)

من كذب فيه كذب في التكليف الثاني ومن صدق فيه صدق فيه.

* الأصل:

95 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن سيف، عن العباس بن عامر، عن أحمد ابن رزق الغمشاني، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيا قط إلا بها.

* الشرح:

قوله (قال ولايتنا ولاية الله) (1) أي ولايتنا ولايته تعالى والحمل للمبالغة والاتحاد أو ولايتنا ولاية من قبله تعالى لا من قبل الخلق حتى يكون لهم الخيرة في ردها وقبولها، وفيه دلالة على أن كل من لم يؤمن بولايتهم لم يؤمن بنبيهم وأن الهالك من لدن آدم (عليه السلام) إلى قيام الساعة ليس إلا من أنكر ولايتهم كما ذكرناه مرارا.

* الأصل:

96 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس ابن يعقوب، عن عبد الأعلى، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من نبي جاء قط إلا بمعرفة حقنا وتفضيلنا على من سوانا.

* الأصل:

ص:132


1- (2) قوله «ولايتنا ولاية الله» ظاهر الخبر أن كل نبي بعث فإنما بعث بولاية الله لأن الأنبياء يدعون إلى معرفته تعالى والتسليم لأمره وأنه هو أصل الوجود ومبدؤه ولا حكم تشريعا ولا تكوينا إلا له وأمثال ذلك وهي ولاية الله، وليس ولاية الأئمة (عليهم السلام) إلا ذلك بخلاف ولاية مخالفيهم فإنها للدنيا، وكل حق فهو طريق الأئمة (عليهم السلام) وكل باطل فهو مخالف لطريقهم، فصح أن يقال: جميع من مضى من أهل الحق وأتباع الأنبياء فهم تابعون لطريق الأئمة (عليهم السلام). وبالجملة ليس معنى الولاية هنا معرفته باسمه وشخصه بل متابعة طريقته (ش).

97 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: والله إن في السماء لسبعين صفا من الملائكة، لو اجتمع أهل الأرض كلهم يحصون عدد كل صف منهم ما حصوهم، وإنهم ليدينون بولايتنا.

* الأصل:

98 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ولاية علي (عليه السلام) مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولن يبعث الله رسولا إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ووصية علي (عليه السلام).

* الأصل:

99 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، قال: حدثنا يونس، عن حماد بن عثمان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل نصب عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا، ومن نصب معه شيئا، كان مشركا ومن جاء بولايته دخل الجنة.

* الشرح:

قوله (فمن عرفه كان مؤمنا) الخلق بالنسبة إليه (عليه السلام) أربعة أقسام القسم الأول مؤمن وهو من عرف حقه وصدق بولايته وتقدمه على جميع الخلق وهو من أهل الجنة قطعا، القسم الثاني كافر خارج عن الإيمان وهو من أنكر حقه وولايته وهو من أهل النار قطعا، القسم الثالث ضال وهو من جهله أي لم يعرف حقه ولم ينكره فهو بمنزلة من لم يسلك طريق الحق ولا طريق الباطل بل هو متحير بينهما والنسبة بينه وبين الكافر كالنسبة بين صاحب الجهل البسيط والجهل المركب وهذا في مشية الله تعالى. القسم الرابع مشرك منافق وهو من عرف حقه وأشرك معه غيره فهو عارف بحقه من وجه ومنكر له من وجه آخر كأكثر هذه الامة وهذا حكمه حكم الكافر في أنه من أهل النار (1) قطعا لا يقال الضال أسوء حالا منه لأنه عرفه في الجملة بخلاف الضال فكيف يكون هذا من

ص:133


1- (1) قوله «حكمه حكم الكافر في أنه من أهل النار» قال المحقق الطوسي في التجريد: محاربو علي كفرة ومخالفوه فسقة، وقال العلامة (رحمه الله): المحارب لعلي كافر لقول النبي (عليه السلام) «يا علي حربك حربي» ولا شك في كفر من حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النص الجلي الدال على إمامته مع تواتره، وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو الأقوى، ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة أحدها أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة. الثاني قال بعضهم: إنهم يخرجون من النار إلى الجنة. الثالث ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا انهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب انتهى. لعل الله يوفقنا لتفصيل ذلك في موضع آخر إن شاء تعالى، فما ذكر الشارح هو قول بعضهم لا جميعهم وقول الإمام (عليه السلام) في الخبر الثامن (ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تبارك وتعالى لي فيهم المشيئة) تدل على أوسع مما ذكره الشارح وهو رجاء النجاة فيمن لم يعرض عنه (عليه السلام) وإن لم يدخل في ولايته ويؤيده العقل مع ضعف الأسباب وعدم التقصير. (ش)

أهل النار قطعا دون الضال؟ لأنا نقول: إنكار الحق بعد المعرفة أشد وأقبح من إنكاره قبلها ومن عدم إنكاره بالطريق الأولى.

قوله (من جاء بولايته دخل الجنة) دل بمفهومه على أن غير أهل الولاية لا يدخل الجنة وبظاهر منطوقه على أن أهل الولاية لا يدخل النار، والروايات الدالة على الحكمين متظافرة.

* الأصل:

100 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) باب فتحه الله، فمن دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين قال الله تعالى: لي فيهم المشيئة.

* الشرح:

قوله (إن عليا (عليه السلام) باب فتحه الله) أي باب علم النبي وشرائعه كما قال (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها» أو باب رحمة الله تعالى أو أسراره ومعارفه وتقربه، كل ذلك على سبيل التمثيل والتشبيه.

قوله (فمن دخله كان مؤمنا) قسم الناس بالنسبة إليه (عليه السلام) على ثلاثة أقسام وهي الاقسام المذكورة أولا في الحديث السابق على الترتيب، وأما الشرك فهو داخل في القسم الثاني لأنه أيضا خارج منه.

ص:134

* الأصل:

101 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بكير بن أعين قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر، يوم أخذ الميثاق على الذر بالإقرار له بالربوبية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، وعرض الله جل وعز على محمد (صلى الله عليه وآله) أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة التي خلق منها آدم، وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام وعرضهم عليه وعرفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرفهم عليا ونحن نعرفهم في لحن القول.

* الشرح:

قوله (وعرض الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله) امته في الطين - إلى قوله - وعرضهم عليه) يفهم منه أنه وقع عرض الامة المجيبة الناجية على الظاهر مرتين: مرة عند كونهم أظلة أي أجسادا صغارا مثل النمل مستخرجة من الطين الذي هو مادة أبدانهم بعد تعلق الأرواح بها، ومرة عند كونهم أرواحا مجردة صرفة قبل أبدانهم بألفي عالم (1).

قوله (ونحن نعرفهم في لحن القول) لحن القول أي معناه وفحواه قال الله تعالى: (ولتعرفهم في

ص:135


1- (1) قوله «قبل أبدانهم بألفي عام» معناه أن خلق جميع الأرواح أو جنس الأرواح كان قبل خلق جميع الأجسام بألفي عام، والحاصل أن عالم الأرواح خلق قبل عالم الأجسام بألفي عام، ويحتمل بعيدا أن يكون المراد خلق كل واحد واحد من الأرواح قبل كل واحد واحد من الأبدان فيكون خلق كل روح قبل بدن نفسه بألفي عام وهذا لا يطابق سياق عبارة الحديث وتفريع الإمام (عليه السلام) عليه، إذ ربما يكون تولد ولي من أولياء الإمام (عليه السلام) بعد عهده (عليه السلام) بثلاثة آلاف سنة فيكون خلق روحه بعد عصره (عليه السلام) بألف سنة ولم يكن رآه الإمام (عليه السلام) في عالم الأظلة ولم يعرفه مع أنه (عليه السلام) جعل خلق الأرواح قبل الأجسام مقدمة لعرضهم عليه ومعرفته إياهم فالمقصود ما ذكرناه أولا، وقبلية الأرواح والمجردات على الأجسام والماديات بالعلية والطبع كما سبق مرارا في مواضعه لأنا نرى أن بقاء البدن بسبب الروح لا بالعكس، لأن الروح يقهر العناصر على الاجتماع على خلاف طبعها مدة طويلة بحيث لو لم يكن الروح لتداعت إلى الانفكاك وتفرقت فإنه لا يبقى البدن على ما هو عليه بعد الموت البتة والعلة للاجتماع لا يمكن أن يكون معلولا له وإلا لدار، والروح علة الاجتماع لا معلوله وهذا مذهب الإلهيين، وأما الماديون والملاحدة فينكرون ذلك البتة ويجعلون البدن وامتزاج العناصر علة للحياة. فإن قيل: صرح المتكلمون والفلاسفة أيضا بأن خلق النفوس بعد حصول الاستعداد للبدن. قلنا: التحقيق في ذلك أن النفوس الإنسانية جسمانية الحدوث وروحانية البقاء على ما ثبت في محله، وفي التعبير بألفي عام نكتة ليس هنا بموضع ذكرها فمن قال بحدوثها فإنما مقصوده حدوث النفس من حيث تعلقها بالبدن وما ورد في الروايات من تقدمها فالمراد جهة روحانيتها. (ش)

لحن القول) أي معناه وفحواه واللحن أيضا اللغة والنحو ويمكن أن يراد إنا نعرفهم في تكلمهم بالكلام بالأصوات.

ص:136

باب في معرفتهم أولياءهم والتفويض إليهم

* الأصل:

102 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مع أصحابه فسلم عليه ثم قال له: أنا والله أحبك وأتولاك، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كذبت، قال: بلى والله إني أحبك وأتولاك، فكرر ثلاثا، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): كذبت ما أنت كما قلت، إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرض علينا المحب لنا، فوالله ما رأيت روحك فيمن عرض، فأين كنت؟ فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه. وفي رواية أخرى قال: أبو عبد الله (عليه السلام) كان في النار.

* الأصل:

103 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عمرو بن ميمون، عن عمار بن مروان، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق.

* الشرح:

قوله (قال إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه) لكل شيء ظاهر وباطن والباطن حقيقته والظاهر مثل التركيب والوضع والحركة والسكون والهيئة واللون والصوت والكلام أدلة وعلامات للباطن وهم (عليهم السلام) يعرفون من ظاهر كل شيء باطنه كما هو بمجرد المشاهدة وهذا نوع من أنواع علومهم.

* الأصل:

104 - أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي الكوفي. عن عبيس بن هشام، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الإمام: فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود؟ فقال: نعم. وذلك أن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول، ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين، ثم قال: (هذا عطاؤنا فامنن أو) (اعط) (بغير حساب) وهكذا هي في قراءة علي (عليه السلام)، قال: قلت: أصلحك الله فحين أجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام؟ قال: سبحان الله أما تسمع الله يقول: (إن في ذلك لآيات

ص:137

للمتوسمين) وهم الأئمة (إنها لبسبيل مقيم) لا يخرج منها أبدا، ثم قال لي: نعم إن الإمام إذا أبصر إلى الرجل عرفه وعرف لونه، وإن سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو، إن الله يقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) وهم العلماء، فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به إلا عرفه، ناج أو هالك، فلذلك يجيبهم بالذي يجيبهم.

* الشرح:

قوله (قال سألته عن الإمام فوض الله) أي فوض الله إليه المنع والإعطاء في كل شيء حتى في العلوم.

قوله (وذلك أن رجلا) هذا كلام عبد الله بن سليمان والغرض منه بيان منشأ السؤال المذكور «ذلك» إشارة إليه وحاصله أن ثلاثة رجال سألوا أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة واحدة على سبيل التعاقب وهو أجاب كل واحد بجواب غير جواب الآخرين ثم قرأ آية سليمان (عليه السلام) (هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب) فسألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود فقال: نعم، ثم قلت: أصلحك الله فحين أجابهم الإمام بهذا الجواب المشتمل على الاختلاف يعرفهم الإمام باختلاف حالاتهم وصفاتهم من الإيمان والنفاق وغيرهما قال (عليه السلام) - على سبيل التعجب -: سبحان الله ما تسمع الله يقول: (إن في ذلك) أي العذاب والنكال الوارد على الامم السالفة خصوصا على قوم لوط مثل الصيحة وتقليب المدينة وإمطار الحجارة ونحوها (لآيات للمتوسمين) الذين يتوسمون الأشياء ويتفرسون حقائقها وآثارها ومبادئها وعواقبها ويعلمون جميع ذلك وهم الأئمة (عليهم السلام).

و (انها) أي الآيات والعلم بها (لبسبيل) أي مع سبيل (مقيم) أو متلبس به وهو الإمام لا يخرج ذلك السبيل منها اي من تلك الآيات أبدا، ولعل فيه قلبا إذ الأنسب أنها لا تخرج من السبيل والغرض من ذكر الآية أن الإمام متوسم يعرف جميع الأشياء بسماتها وعلاماتها فكيف لا يعرف الرجال بحالاتهم وصفاتهم، ثم صرح بأن الإمام يعرفهم وقال: إن الإمام إذا أبصر إلى الرجل عرفه من جهة ذاته وصفاته وأعماله وعقائده وعرف لونه الدال على خيره وشره وإن سمع كلامه من خلف حائط مثلا عرفه من صوته وإن لم يسمع كلامه قط ولم ير شخصه أبدا وعرف ما هو أمن أهل الإيمان أو الكفر أو النفاق ثم استشهد لعلمه بالرجال كلامهم وألوانهم بقوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم) أي لغاتكم وألوانكم (إن في ذلك لآيات) دلالة على

ص:138

حالاتكم (للعالمين) وهم العلماء من أهل البيت والأئمة من العترة (عليهم السلام) فليس أي الإمام يسمع شيئا من الأمر ينطق به من أمر الدين أو الدنيا أو السؤال إلا عرفه، أي ذلك الناطق أهو ناج ومن أهل إيمان أو هو هالك ومن أهل الكفر والنفاق؟ فلذلك يجيبهم على حسب اختلاف حالاتهم بالذي يجيبهم فيجيب أهل الإيمان بالحق وأهل الضلالة بالتقية حفظا لنفسه وعرضه ولشيعته وتابعيه أو يجيب كل واحد بما هو الأصلح بحاله (1).

* الشرح:

قوله (وهكذا هي قراءة علي (عليه السلام)) لعل المراد بالمن في هذه القراءة القطع أو النقص وأما القراءة المشهورة وهي (فامنن أو أمسك بغير حساب) فالمراد به الإعطاء والإحسان.

«باب» مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته

* الأصل:

105 - ولد النبي (صلى الله عليه وآله) لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في عام الفيل يوم الجمعة مع الزوال. وروي أيضا عند طلوع الفجر.

* الشرح:

قوله (ولد النبي لاثنتي عشرة ليلة) ذهب الشيخ والشهيد في الدروس إلى أنه ولد يوم السابع عشر منه (2) عند طلوع الفجر من يوم الجمعة.

* الأصل:

106 - قبل أن يبعث بأربعين سنة. وحملت به أمه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى وكانت في منزل عبد الله بن عبد المطلب وولدته في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في الزواية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار، وقد أخرجت الخيزران ذلك البيت فصيرته مسجدا، يصلي الناس فيه. وبقي بمكة بعد مبعثه ثلاثة عشر سنة، ثم هاجر إلى المدينة ومكث بها عشر سنين، ثم

ص:139


1- (1) قوله «بما هو الأصلح بحاله» وبالجملة نوع الحكم الذي فوض إلى الإمام فيجيب فيه بالاختلاف مجهول لنا، ونعلم بالإجمال أنه ليس من الحكم الواقعي الذي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بتبليغه والأئمة (عليهم السلام) بحفظه وبيانه، بل من الجزئيات التي يتغير حكمها لمصالح الوقت كمنع فقير وإعطاء آخر وجهاد قوم والصلح مع آخرين. (ش)
2- (2) قوله «ولد يوم السابع عشر منه» وهذا قول عند العامة أيضا وعن زبير بن بكار أنه (صلى الله عليه وآله) ولد في رمضان قيل وهو مطابق لما روى أن حمل امه به كان في أيام التشريق. (ش)

قبض (عليه السلام) لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول يوم الاثنين وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبوه عبد الله ابن عبد المطلب بالمدينة عند أخواله وهو ابن شهرين، وماتت امه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو (صلى الله عليه وآله) ابن أربع سنين، ومات عبد المطلب وللنبي (صلى الله عليه وآله) نحو ثمان سنين، وتزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة، فولد له منها قبل مبعثه (صلى الله عليه وآله) القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم وولد له بعد المبعث الطيب والطاهر وفاطمة (عليهما السلام)، وروي أيضا أنه لم يولد بعد المبعث إلا فاطمة (عليها السلام) وأن الطيب والطاهر ولدا قبل مبعثه، وماتت خديجة (عليها السلام) حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشعب وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة، فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) شنأ المقام بمكة ودخله حزن شديد وشكا ذلك إلى جبرئيل (عليه السلام) فأوحى الله تعالى إليه: اخرج من القرية الظالم أهلها، فليس لك بمكة ناصر بعد أبي طالب وأمره بالهجرة.

* الشرح:

قوله (قبل أن يبعث بأربعين سنة) دل على أنه بعث وقد مضى من عمره الشريف أربعون سنة، وقال عياض لم يختلف أنه ولد عام الفيل، واختلف في مبعثه فقيل على رأس أربعين ونقل عن ابن عباس على رأس ثلاث وأربعين سنة.

قوله (وحملت به امه في أيام التشريق) هنا سؤال مشهور وهو أنه يلزم منه مع تاريخ مولده أن يكون مدة حمله ثلاثة أشهر أو سنة وثلاثة أشهر وهذا مخالف لما اتفق الأصحاب عليه من أن مدة الحمل لا تزيد على سنة ولم ينقل أحد أن ذلك من خصائصه، والجواب أن المراد بأيام التشريق الأيام المعلومة من شهر جمادى الأول الذي وقع فيه حج المشركين في عام الفيل باعتبار النسيء (1) حيث كانوا يؤخرون الحج عن ذي الحجة فيحجون سنتين في محرم وسنتين في صفر

ص:140


1- (1) قوله «باعتبار النسيء» هذا احتمال ذكره بعض المجازفين فتبعه الشارح من غير تحقيق واعتبار وكان النسيء متداولا بين الناس قبل الإسلام ولم يرتفع إلا بعد حجة الوداع وكان حج الناس ومناسكهم وتشريقهم مطابقا للنسيء، قال المسعودي في مروج الذهب: وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرا وتسميه النسيء وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله (إنما النسيء زيادة في الكفر) فإن أراد القائل المجازف أن أيام التشريق التي حملت فيها امه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ذي الحجة لكن لو فرضنا عدم النسىء قبل حجة الوداع وحسبنا الشهور من غير ملاحظة النسىء كان الشهر الذي سموه ذا الحجة وحجوا فيه مطابقا لجمادى الأول الواقعي في سنة ولادة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وحمله فهذا خطأ لأنا إن أسقطنا اعتبار النسيء وحسبنا السنين والشهور كما نحسب بعد حجة الوداع على ما نحن عليه الآن انطبق ذو الحجة في سنة حمل خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) على المحرم لا على جمادى على ما سنبين إن شاء الله تعالى. وكان بناء الناسئين على أن يزيدوا شهرا في كل ثلاث سنين أو سنتين لئلا يتزايل الشهور القمرية عن الفصول الشمسية فكانت سنتان عندهم اثني عشر شهرا والسنة الثالثة ثلاثة عشر بزيادة شهر بعد ذي الحجة كما يفعله اليهود حتى الآن، وكان نتيجة هذا العمل أن يصير المحرم حلالا بعد ذي الحجة وهو الشهر الثالث عشر ويصير شهر صفر مكان المحرم من الأشهر الحرم، وقال مجاهد على ما نقله الطبري: ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ثم يسمون رمضان شعبان ثم يسمون شوال رمضان ثم يسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ويحجون فيه واسمه عندهم ذوا الحجة ثم عادوا مثل هذه القصة انتهى. لكن الله تعالى أبطل ذلك بقوله (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) أي ليس أزيد من ذلك ولا تصير أبدا ثلاثة عشر بزيادة النسيء أي الشهر الزائد. وزيادة الشهور في مدة ثلاث وستين سنة ثلاثة وعشرون شهرا على ما يأتي إن شاء الله تعالى. ثم إن المعتاد والمتعارف بين الناس أنهم إذا أطلقوا أسامي الشهور لم يريدوا إلا المتداول لا المفروض المتوهم، ألا ترى أن العجم بعد التاريخ الجلالي المتداول إذا أطلقوا فروردين واردى بهشت وغيرهما لم يريدوا إلا ما تداول بينهم لا ما لو فرض عدم جعل التاريخ الجلالي وبنى على التاريخ القديم بحذف أيام الكبيسة كان يسمى فروردين وينطبق على آبان مثلا، وكذلك المؤرخ الذي ذكر تاريخ الحمل والولادة في أيام التشريق أو الربيع الأول لم يرد إلا المتداول بينهم وهو مع ملاحظة النسي فالصحيح ما ذكره السهيلي في شرح السيرة وغيره من العارفين غير المجازفين أن قضية الحمل في أيام التشريق لا ينطبق إلا مع قول زبير بن بكار أن مولده (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في شهر رمضان والجمع بين الحمل أيام التشريق والولادة في ربيع الأول غير ممكن، والأصح إنكار تاريخ الحمل. (ش)

وهكذا إلى أن يتم الدور ثم يستأنفونه وعلى هذا كانت مدة حمله عشر أشهر بلا زيادة ولا نقصان.

بيان ذلك: أنه ذكر الشيخ الطبرسي في مجمع البيان عند تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) نقلا عن مجاهد أنه كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في الصفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي العقدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله) في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة فلذلك قال (صلى الله عليه وآله) في خطبته: «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنى عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان». أراد (عليه السلام) بذلك أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. انتهى. إذا عرفت ذلك وعرفت أن النبي (صلى الله عليه وآله) توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ودورة النسيء أربعة وعشرون (1) سنة ضعف عدد الشهور فإذا

ص:141


1- (1) قوله «دورة النسيء أربع وعشرون» كأن هذا القائل لم يأخذ ما ذكره في باب النسىء من أهل الفن بل اعتمد على ما تبادر إلى ذهنه من مرتكزات خاطره ومن عبارات مجملة لبعض المفسرين، والمستفاد من كلام المتضلعين في هذه الأمور العارفين بأخبار العرب والبصراء بالتواريخ والنجوم أن غرضهم من النسيء كان تطبيق السنين الشمسية على القمرية حتى يكون الحج دائما عند اعتدال الهواء وإدراك الثمار والغلات بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي على ما قال النيسابوري في تفسيره: (والخارج من الحساب أن حجة الوداع كان في الاعتدال الربيعي) وقال النيسابوري أيضا لذلك كبسوا تسع عشرة سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية، فزادوا في السنة الثانية شهرا، ثم في الخامسة، ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهز يجوح عند المنجمين وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فإنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم فالشهر الزائد هو الكبس، وسمى بالنسيء لأنه المؤخر - إلى أن قال - إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهرا كان مخالفا لحكم الله بأن عدة الشهور اثنا عشر شهرا أي لا أزيد ولا أنقص، ثم قال: ويلزمهم ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها. انتهى. أقول: وكلام النيسابوري وإن كان مأخوذا من الإمام الرازي لكنه أبين وأقوم وأوفى تحقيقا وتفصيلا ولذلك اخترنا نقله. وسر عملهم هذا أن السنة القمرية 354 يوما وخمس وسدس يوم ومجموع أيام تسع عشرة سنة 6733 يوما والسنة الشمسية 365 يوما وربع يوم بالتقريب ومجموع أيام تسع عشرة سنة 6939 تقريبا يزيد على القمرية 206 يوما وهي مع كسورها سبعة أشهر قمرية تقريبا إذا زيد على السنين القمرية تساوت الأيام في تسع عشرة سنة اللهم إلا في كسور قليلة لم يعبأوا بها، وعلى هذا فإذا لاحظنا النسىء وما كانوا يعملون كان تأخر الشهور في سنة حجة الوداع عن سنة مولد النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة وعشرين شهرا وكان ذو الحجة في سنة الولادة منطبقا على المحرم واقعا لا على جمادى الأولى. (ش)

كانت السنة الثالثة والستون ابتدأ الدور كانت السنة الثانية والستون نهايته، فإذا بسطنا دورين أخذ من الثانية والستين على ما قبلها وأعطينا كل شهر عامين تصير السنة الخامسة عشرة من مولده ابتداء الدور لأنه إذا نقصنا من اثنين وستين ثمانية وأربعين تبقى أربعة عشر إلا ثنتان الأخيرتان منها لذي العقدة واثنتان قبلهما لشوال وهكذا فيكون الأوليان منها لجمادى الأول فكان حجهم في عام مولد النبي وهو عام الفيل في جمادى الأولى، فإذا فرض أن حمله كان في ثاني عشر منه وتولده كان في ثاني عشر من ربيع الأول كانت مدة الحمل عشرة أشهر بلا زيادة ولا نقصان. وظهر مما ذكر بطلان ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أن امه حملت به في رجب فإنه محض التخمين وما ذهب إليه ابن طاووس في الإقبال من أن امه حملت به في ثمان عشر مضت من جمادى الآخرة هذا ما أفاد بعض الأفاضل، والله أعلم بحقيقة الحال.

قوله (في شعب أبي طالب) الشعب بالكسر الطريق في الجبل والجمع الشعاب.

قوله (في دار محمد بن يوسف) كانت هذه الدار للنبي (صلى الله عليه وآله) بحسب الإرث فوهبها عقيل بن أبي طالب ثم باعها أولاد عقيل بعد أبيهم من محمد بن يوسف أخي حجاج بن يوسف فاشتهرت بدار محمد بن يوسف فأدخلها محمد في قصره الذي يسمونه بالبيضاء، ثم بعد انقضاء دولة بني أمية

ص:142

حجت خيزران ام هارون الرشيد فأفرزها عن القصر وجعلها مسجدا.

قوله (في الزواية القصوى) هي تأنيث الأقصى وهو الأبعد.

قوله (ومكث بها عشر سنين) قال عياض مدة مقامه بالمدينة من قدومه إلى وفاته عشر سنين لا تزيد ساعة لأنه توفى في النهار في الساعة الأولى التي قدم فيها، ولم يختلفوا في ذلك واختلفوا في إقامته بمكة بعد مبعثه فقيل خمس عشرة سنة، وعن ابن عباس: ثلاث عشرة سنة، وفي رواية اخرى: ثمان سنين. انتهى كلامه.

قوله (ثم قبض لاثنتي عشرة ليلة مضت) في التهذيب قبض مسموما يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرة من الهجرة. وفي تفسير الثعلبي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول حين زاغت الشمس.

قوله (وهو ابن ثلاث وستين سنة) مثله من طرق العامة عن أنس عن عائشة وعن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى عنه توفاه الله وهو ابن خمس وستين وفي الأخرى عن أنس توفاه الله على رأس الستين.

قوله (وتوفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب) قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: ولابد من معرفة نسبه (صلى الله عليه وآله) فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدرك بن الياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان، ولم يختلف في صحة هذه السلسلة وإنما اختلف النسابون فيما بين عدنان وإسماعيل (عليه السلام) وبينهم في ذلك اختلاف كثير، واختلف من أين تقرشت قرش هل من النضر ابن كنانة أو من فهر بن مالك والمشهور أنه من النضر وكان لكنانة ولد غير النضر ولا يسمون قريشا، وسبب ذلك أن أولاد النضر كانوا تفرقوا في البلاد فلما انتقل أمر مكة من خزاعة إلى قصي ابن كلاب جمع أولاد النضر في مكة فسموا قريشا فهم لم يتقرشوا، أي لم يجتمعوا. وقال المازري غير قريش من العرب ليسوا بكفو لقريش ولا غير بني هاشم كفوا لبني هاشم إلا بنو المطلب فإنهم وبنو هاشم شيء واحد.

قوله (وتزوج خديجة) قال القرطبي هي خديجة بنت خويلد بن أسد عبد بن العزى بن قصي وفي قصي يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد تزوجها قبل النبوة ثيبا بعد زوجين بعد ابن هالة التميمي وبعد عتيق المخزومي ثم تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله) وهي بنت أربعين سنة وأقامت معه أربعا وعشرين سنة، وتوفيت وهي بنت أربع وستين، سنة وستة أشهر وسن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين تزوجها إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمس وعشرين سنة. وقيل ثلاثة وثلاثون سنة واجتمع أهل النقل أنها ولدت له أربع

ص:143

بنات وكلهن أدركن الإسلام وهاجرن: زينب وفاطمة ورقية وأم كلثوم، وأجمعوا أنها ولد ولدا سماه القاسم وبه كان يكنى، واختلف هل ولدت له ذكرا غيره فقيل: ولدت ثلاثة عبد الله والطيب والطاهر والخلاف في ذلك كثير ومات القاسم بمكة صغيرا قبل أن يمشي وقيل: إنه لم يعش إلا أياما يسيرة ولم يكن له (صلى الله عليه وآله) من غير خديجة ولد غير إبراهيم (عليه السلام) ولدته مارية القبطية بالمدينة وبها توفي وهو رضيع وتوفي جميع أولاده في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها فإنها توفيت بعده لستة اشهر، وكانت خديجة رضي الله عنها عاقلة فاضلة ذات أموال، قيل: هي أول من أسلم وبعث (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين فأسلمت هي ذلك اليوم وكانت له عونا على حاله كله تثبته على أمره وتصبره على ما يلقي من أذى قومه وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبها ويقول: رزقت حبها، ولم يتزوج عليها حتى ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل بخمس وقيل بأربع وقيل بثلاث وهو أصح وأشهر وتوفيت هي وأبو طالب في سنة واحدة قيل: كان بينهما ثلاث أيام. انتهى كلامه.

قوله (وهو ابن بضع وعشرين سنة) قال ابن الأثير: البضع في العدد - بالكسر وقد يفتح - ما بين ثلاث إلى التسع وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد، وقال الجوهري: يقول بضع سنين وبضع عشر رجلا فإذا جاوزت لفظ العشر لا تقول: بضع وعشرين، وهذا يخالف ما جاء في الحديث. انتهى كلامه.

قوله (القاسم ورقية) قال عياض اختلف في أصغر بناته قال أبو عمرو: الذي تركن إليه النفس أن الاولى زينب ثم رقية ثم ام كلثوم ثم فاطمة رضى الله عنها.

قوله (وروى أيضا أنه لم يولد) تجىء هذه الرواية في كتاب الروضة في حديث إسلام علي (عليه السلام) والحديث طويل قال فيه علي بن الحسين (عليهما السلام): ولم يولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة على فطرة الإسلام إلا فاطمة (عليهم السلام).

قوله (حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الشعب) أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ذلك بقوله:

«واضطرونا إلى جبل وعر (يعني صعب) وكتبوا علينا بينهم كتابا» نقل أنه لما أسلم حمزة وحامى أبو طالب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشا الإسلام في القبائل فاجتمع المشركون في إطفاء نور الله واجتمعت قريش وكتبوا بينهم كتابا وكتبوا فيه أنواعا من الكفر والضلال وقطع الرحم، وتعاهدوا على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا وتقاسموا على ذلك وعلقوها في جوف الكعبة تأكيدا لذلك الأمر على أنفسهم وهذا هو الصحيفة المشهورة وأخرجوهم إلى الشعب خيف بني كنانة وخرج عنهم من بني هاشم أبو لهب. وظاهر المشركين وقطعوا عنهم الميرة والمارة حتى بلغهم الجهد وسمعوا صوت صبيانهم من وراء الشعب من شدة

ص:144

الجوع فأقاموا على ذلك ثلاث سنين وقد كان يسوق لهم القليل من التمر والدقيق ويلقى إليهم حتى أوحى الله إليه (صلى الله عليه وآله) أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم ما كان فيها من ظلم وجور وبقي ما كان فيها من ذكر الله فأخبر بذلك عمه أبا طالب وأمره أن يأتي قريشا فيعلمهم بدلك فجاء إليهم وقال: ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فإن كان صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وان كان كاذبا دفعته إليكم لتقتلوه، فقالوا:

قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة فوجدوه كما أخبر وعرفوا أنهم بالظلم والقطيعة والقضية مشهورة.

قوله (شنأ المقام بمكة) المقام بضم الميم الإقامة والشناءة مثل الشناعة البغض، وقد شنئته شناء بحركات الشين وسكون النون في المصدر: أبغضته.

* الأصل:

107 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عبد الله بن محمد بن أخي حماد الكاتب، عن الحسين بن عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد ولد آدم؟ فقال: كان والله سيد من خلق الله، وما برأ الله برية خير [ا] من محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (سيد ولد آدم) السيد المالك والرب والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والرئيس والمقدم والمفزع إليه في الشدائد وأصله من ساد يسود فهو سيود قلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم ادغمت، قال ابن الأثير: ومنه في الحديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» قاله إخبارا عما أكرمه الله تعالى به من الفضل والسؤدد تحدثا بنعمة الله عنده، وإعلاما لامته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه ولهذا اتبعه بقوله «ولا فخر» أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بقوتي فليس لي أن أفتخر بها.

قوله (وما برأ الله برية خير من محمد) «خير» بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو خير وأراد أنه خير من جميع البرية بقرينة ما تقدم فهو تأكيد لمنطوقه ولو أراد نفي الخير عن الغير كان تأكيدا لمفهومه.

* الأصل:

108 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما برأ الله نسمة خيرا من محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (وما برأ الله نسمة) النسمة بالتحريك كل ذي روح وإنما خصه بالذكر لأنه أشرف من غيره

ص:145

والأشرف من الشرف أشرف من ذلك الشيء أيضا وبالجملة هو أشرف من جميع المخلوقات حتى من الملائكة (عليهم السلام).

* الأصل:

109 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمد بن عيسى ومحمد بن عبد الله عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمد إني خلقتك وعليا نورا يعني روحا بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة: محمد واحد وعلي واحد والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحا بلا بدن، ثم مسحنا بيمينه فأفضى نوره فينا.

* الشرح:

قوله (يا محمد اني خلقتك وعليا نورا) الخطاب وقع بعد الوجود الشهودي والغرض منه مع علمه (صلى الله عليه وآله) بذلك هو الحث على الشكر لتلك النعمة العظيمة والفضيلة الجسيمة.

قوله (يعني روحا بلا بدن) يعني روحا مجردا صرفا بلا بدن مطلقا قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري وهو تأكيد لما مر وبيان لتقدمه في الوجود والشرف فلم تزل مذ خلقتك تهللني وتمجدني أي تذكرني بالعظمة والجلال قضاء لشكر تلك النعمة وهي نعمة الوجود وأداء لحق الثناء بالذات ثم جمعت روحيكما في مادة بدنية لكما طيبة نورانية كامنة في صلب آدم فجعلتهما واحدة باعتبار تعلقهما بتلك المادة المركبة كتعلق المجموع بالمجموع على سبيل التوزيع فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني لمثل ما مر وزيادة الثناء هنا لزيادة النعمة.

وهكذا كانت تنتقل تلك المادة من أصلاب طاهرة إلى عبد المطلب ثم قسمتها ثنتين في صلب عبد الله وأبي طالب وتقسيمها باعتبار تقسيم المادة وتعلق كل واحدة بما يخصه من تلك المادة المركبة، وقسمت الثنتين ثنتين حيث خلق محمدا مما في صلب عبد الله وخلق عليا مما في صلب أبي طالب وخلق الحسن والحسين مما في صلبهما فصارت أربعة محمد واحد من عبد الله وعلي واحد من أبي طالب والحسن والحسين اثنان منهما، فقد ظهر من ذلك أن بينهم كمال الاتصال في الوجودين، وهذا الذي ذكرناه على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

هذا وقال الفاضل الأمين الإسترآبادي: من الامور المعلومة أن جعل المجردين واحدا ممتنع وكذلك قسمة المجرد فينبغي حمل الروح هنا على آل جسمانية نورانية منزهة عن الكثافة البدنية، وقال بعض الأفاضل: المراد بخلق الروحين بلا بدن خلقهما مجردين وبجمعهما وجعلهما واحدة

ص:146

جمعهما في بدن مثالي نوراني لاهوتي وبتقسيمهما تفريقهما وجعل كل واحد منهما في بدن شهودي جسماني واستحالة تعلق الروحين ببدن واحد إنما هي في الأبدان الشهودية لا في الأبدان المثالية اللاهوتية.

قوله (ثم مسحنا بيمينه) كلما نسب من أسماء الجوارح وأفعالهما إليه سبحانه فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة والتمثيل لتنزهة عنها، ولعل المراد بها الإفاضة والإعطاء والإحسان لأن المحسن منا إذا أحسن أحسن بيمينه والله سبحانه لما أحسن إليهم وأفاض نوره عليهم أضاء نوره وأظهر آثار عظمته فيهم لحكمة مقتضية لذلك ومن جملتها إرشاد الخلق وهدايتهم بسببهم إلى الخيرات وما ينجيهم من العقوبات.

* الأصل:

110 - أحمد، عن الحسين، عن محمد بن عبد الله، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أوحى الله تعالى إلى محمد (صلى الله عليه وآله): إني خلقتك ولم تك شيئا ونفخت فيك من روحي كرامة مني أكرمتك بها حين أوجبت لك الطاعة على خلقي جميعا، فمن أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني وأوجبت ذلك في علي وفي نسله، ممن اختصصته منهم لنفسي.

* الشرح:

قوله (ولم تك شيئا) أي موصوفا بالإنسانية إذ لا يطلق اسم الإنسان على من لم يكمل صورته وأعضاؤه.

قوله (فمن أطاعك فقد أطاعني) دل على اتحاد طاعتهما ومعصيتهما وهو كذلك لتوافقهما في الأوامر والنواهي.

* الأصل:

111 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أبي الفضل عبد الله بن إدريس عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم. فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، ثم قال: يا محمد هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق ومن لزمهها لحق، خذها إليك يا محمد.

ص:147

* الشرح:

قوله (فأجريت اختلاف الشيعة) لعل المراد اختلاف مذاهبهم.

قوله (ألف دهر) الدهر اسم للزمان الطويل ومدة حياة الدنيا، وقيل الدهر إذا عرف باللام يراد به الزمان الطويل وإذ أنكر يراد به مدة الدنيا.

قوله (فأشهدهم خلقها) فهم كانوا يشاهدون خلقها وانتقالها من طور إلى طور ويعظمون الله على كمال قدرته.

قوله (وفوض أمورها إليهم) ضمير التأنيث راجع إلى الأشياء فإما أن يراد بها جميعها وبالامور أعم من الأحكام وغيرها من التدبير في المحركات والساكنات، أو يراد بها المكلفون منها وبالامور الأحكام، زيادة ونقصانا، أمرا ونهيا، وهذا أنسب بسياق الكلام.

قوله (هذه الديانة التي من تقدمها مرق) مرق السهم عن الرمية مروقا إذا خرج من الجانب الآخر، وفيه إشارة إلى أن الناس في حقهم على ثلاثة أصناف الأول من وصفهم فوق وصفهم وجاوز عن حدهم وهم الغلاة. والثاني من تخلف عنهم ولم يصفهم بوصفهم ولم يقر بحقهم وهم النواصب وأضرابهم، والثالث من لزمهم قولا وفعلا وعقدا وتبعهم في جميع الأمور وهم شيعتهم وأهل ديانتهم، والأولان في طرف الإفراط والتفريط والأخير في الوسط المسمى بالعدل.

* الأصل:

112 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بعض قريش قال لرسول الله (عليه السلام): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله.

* الشرح:

قوله (بأي شيء سبقت الأنبياء) أي في الفضل والكمال والقرب بالحق وليس المراد وجه سبقته في الوجود الروحاني لأن الجواب لا يناسبه، لا يقال التفضيل ينافي قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد من رسله) لأنا نقول: لعل المقصود من ذلك نفي الفرق في الرسالة والنبوة وأما تفضيل بعضهم على بعض فخصائص خص الله بها بعضهم قال الله تعالى: (تلك الرسل) الآية.

قوله (قال أني كنت أول من آمن بربي) دل على أن للمعلم فضلا على المتعلم، ولمن آمن أولا

ص:148

على من آمن آخرا وهو أمر يثبته العقل والنقل.

* الأصل:

113 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن علي بن إبراهيم، عن علي بن حماد عن المفضل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة؟ فقال: يا مفضل كنا عند ربنا ليس عنده أحد غيرنا، في ظلة خضراء، نسبحه ونقدسه ونهلله ونمجده وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم، ثم أنهى علم ذلك إلينا.

* الشرح:

قوله (في ظلة خضراء) قال الفاضل الإسترآبادي: أي في نور أخضر والمراد تعلقهم بذلك العالم لا كونهم في مكان، أقول: يحتمل أن يراد بها الرحمة الربانية لأن الرحمة توصف بالخضرة كما مر.

قوله (حتى بدا له في خلق الأشياء) أي حتى حصل له إرادة في خلقها وليس المراد بالبداء ظهور شيء بعد الخفاء لتعاليه عنه وقد مر تحقيقه سابقا.

قوله (ثم أنهى علم ذلك الينا) أي أبلغ العلم بكيفية خلقهم أو العلم بأحوالهم وأعمالهم وصفاتهم وسعادتهم وشقاوتهم أو العلم بأوامرهم ونواهيهم إلينا.

* الأصل:

114 - سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد قال: سمعت يونس بن يعقوب، عن سنان بن طريف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: قال: إنا أول أهل بيت نوه الله بأسمائنا إنه لما خلق السماوات والأرض أمر مناديا فنادى: أشهد أن لا إله إلا الله - ثلاثا - أشهد أن محمدا رسول الله - ثلاثا - أشهد أن عليا أمير المؤمنين حقا - ثلاثا -.

* الشرح:

قوله (نوه الله بأسمائنا) أي رفع الله ذكرنا بين المخلوقات، تقول نوهت باسمه إذا رفعت ذكره ثم أشار إلى كيفية التنويه بقوله: «إنه لما خلق السماوات إلى آخر» وإنما أكد الشهادات على إمارة علي (عليه السلام) بقوله: «حقا» لعلمه بأن كثيرا ممن يقر بالرسالة ينكر إمارته (عليه السلام) فالمقام يقتضي التأكيد.

* الأصل:

115 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله الصغير، عن محمد بن إبراهيم الجعفري عن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن

ص:149

الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار، الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمدا وعليا فلم يزالا نورين أولين، إذ لا شيء كون قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (قال إن الله كان إذ لا كان) أي إن الله كان موجودا وحده إذ لم يكن شيء من الممكنات موجودا أو لم يوجد شيء منها، أولا وجود لغيره سبحانها، أو لا كأين غيره، ف (كان) الثاني إما ناقصة أو تامة و «كان» الأول ناقصة قطعا، وجعلها تامة بمعنى وجد يوهم الحدوت تعالى الله عنه.

قوله (فخلق الكان والمكان) الكان مصدر مثل القيل والقال ولذلك أدخل عليه الألف واللام أي فخلق الكون والوجود أو الكاين من الممكنات ولا دلالة في الفاء على القدم الزماني لمدخولها لوقوعه على عقب آخر الأجزاء الموهومة من الزمان الموهوم (1) المراد من «إذ» ههنا.

قوله (وخلق نور الأنوار) لعل المراد به آلة نورانية ومادة روحانية لنبينا (صلى الله عليه وآله) وبالأنوار نظائرنا للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وتلك الأنوار تستفيض النور من ذلك النور كما أشار إليه بقوله (الذي نورت منه الأنوار) فهو نور فوق تلك الأنوار كما أن نور الشمس فوق أنوار الكواكب ثم أجرى الله تعالى في نور الأنوار من نوره، وهو الروح النبوي والإضافة لكمال الاختصاص أو العلم، وإطلاق النور عليهما شايع، والضمير في قوله «وهو النور» راجع إلى نور الأنوار، وهو الذي خلق الله تعالى منه محمدا وعليا (عليه السلام) فلم يزالا نورين أولين إذ لم يكن شيء قبلهما ولا معهما وهذه العناية مطوية ليتم الدليل فلم يزالا من لدن آدم (عليه السلام) يجريان طاهرين من الأخباث مطهرين من الذنوب والأرجاس في الأصلاب الطاهرة من السفاح حتى افترقا في صلب عبد المطلب ووقعا في صلب أطهر طاهرين في عصره في صلب عبد الله وصلب أبي طالب فخرج من صلب عبد الله سيد الأنبياء ومن صلب أبي طالب أشرف الأوصياء صلى الله عليهما، هذا ما خطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.

* الأصل:

116 - الحسين [عن محمد] بن عبد الله (2)، عن محمد بن سنان، عن المفضل، عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): يا جابر، إن الله أول ما خلق خلق محمد (صلى الله عليه وآله) وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله، قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور أبدان نورانية بلا أرواح وكان

ص:150


1- (1) الزمان الموهوم يوجب الحدوث الموهوم (ش).
2- (2) في بعض النسخ «الحسين بن محمد عن عبد الله».

مؤيدا بروح واحدة وهي روح القدس فبه كان يعبد الله وعترته ولذلك خلقهم حلماء، علماء، بررة، أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون.

* الشرح:

قوله (قال ظل النور) الإضافة لامية، والظل الفيىء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس مثلا والمراد به هنا على سبيل التشبيه أبدان نورانية غير جسمانية كثيفة بلا أرواح حيوانية وقوى جسمانية كاينة في الأبدان الحيوانية والنور المضاف إليه إما الروح أو النور المعروف، وكان ذلك الظل مؤيدا بروح واحدة وهي روح القدس وقد مر أنه كان مع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أعظم من جبرئيل وغيره فبذلك الروح كان النبي وعترته (صلى الله عليه وآله) يعبدون الله تعالى و «لذلك» يعني لتأييدهم بذلك الروح في أول الفطرة الروحانية خلقهم في النشأة الشهودية حلماء علماء بررة أصفياء في أول الفطرة الشهودية الجسمانية.

* الأصل:

117 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي، عن مالك بن إسماعيل النهدي، عن عبد السلام بن حارث، عن سالم بن أبي حفصة العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثة لم تكن في أحد غيره: لم يكن له فيىء وكان لا يمر في طريق فيمر فيه بعد يومين أو ثلاثة إلا عرف أنه قد مر فيه لطيب عرفه، وكان لا يمر بحجر ولا بشجر إلا سجد له.

* الشرح:

قوله (لم يكن له فييء) لأن الفيىء ظلم المظلم الكثيف الحاجز بينه وبين النور والنبي (صلى الله عليه وآله) كان نور الأنوار وإن كان مع لباس فهو يضئ ما يقابله لا يظلمه وإن كان جسمه بحسب الظاهر كسائر أجسام الناس التي شأنها الإظلام ومنع النور.

قوله (لطيب عرفه) العرف بالفتح والتسكين الريح طيبة كانت أم منتنة وإن كان أكثر استعمالها في الطيبة ولذلك أدرج الطيب لدفع التوهم وللتصريح بالمقصود، ثم المراد بالعرف العرف الذاتي ويحتمل الأعم منه والأول أنسب بالاختصاص.

قوله (وكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له) أي كل واحد وسجوده وخضوعه له وذله لأجل نور النبوة وكمال القرب بصانعه أو حركته وانحنائه تعظيما له أو لله على كمال نعمته ببعثته وقد كان

ص:151

يرى ذلك بعض المجردين من أهل العرفان.

* الأصل:

118 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله) انتهى به جبرئيل إلى مكان فخلى عنه، فقال له: يا جبرئيل تخليني على هذه الحالة؟ فقال: أمضه فوالله لقد وطئت مكانا ما وطئه بشر وما مشى فيه بشر قبلك.

* الشرح:

قوله (إلى مكان) التنكير للتعظيم لكونه من أشرف الأماكن وأرفعها بحيث لا يصل إليه عقل البشر.

قوله (تخليني على هذه الحال) إشارة إلى الحال التي عرضت له بسبب القرب والوصال والمحو في الهوية المطلقة والعظمة والكمال وما يتبعها من الخوف والخشية والرجاء كما قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

قوله (فوالله لقد وطئت مكانا ماوطئه بشر) في دلالته على الوجه للتخلف نظر وإنما الدال عليه ماوطئه ملك اللهم إلا أن يقال: عدم وطأ البشر مستلزم لعدم وطأ الملك بناء على أن البشر أفضل منه، وفيه دلالة على أن عروجه كان جسمانيا وهو الحق ولا عبرة بإنكار من أنكره وخصه بالروحاني وعلى أنه (صلى الله عليه وآله) أفضل من الملائكة المقربين وهو كذلك، والأخبار في ذلك متظافرة ومن أنكر ذلك من العامة استدل بما روى عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله تعالى: اذكروني في ملائكم أذكركم في ملاء خير من ملائكم» يعني في ملاء الملائكة فإذا ذكرناه في ملاء أحدهم النبي لزم بحكم الرواية المذكورة أن يكون ملاء الملائكة خيرا من ملائنا فيلزم أن يكون الملائكة أعظم وأشرف من النبي، وهو أقوى ما استدلوا به.

أقول: على تقدير بقاء الرواية على عمومها لا يلزم من كون المجموع خيرا من مجموع آخر أن يكون كل واحد من أجزاء الأول خيرا من كل واحد من أجزاء الآخر ألا يرى أنا إذا قلنا مجموع تلك البيوتات خير من مجموع هذة البيوتات لا يلزم من ذلك أن يكون كل واحد من تلك البيوتات خيرا من كل واحد من هذه البيوتات لجواز أن يكون في هذه البيوتات بيت لا يوازيه ولا يدانيه واحد من تلك البيوتات، وبالجملة حكم الكل غير حكم كل واحد.

* الأصل:

ص:152

119 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل وكيف يصلي؟ قال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي، فقال: اللهم عفوك عفوك، قال: وكان كما قال الله قاب قوسين أو أدنى، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها، فقال: كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا أعلمه إلا وقد قال: زبرجد، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك ربي قال: من لأمتك من بعدك؟ قال: الله أعلم، قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لأبي بصير: يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية علي (عليه السلام) من الأرض ولكن جاءت من السماء مشافهة.

* الشرح:

قوله (سبوح قدوس) يجوز في السين والقاف الضم، والفتح أقيس والضم أكثر قال المازري نقلا عن ثعلب كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا فإن الضم فيهما أكثر ومثله قال ابن الأثير. هذا حال أولهما وأما حكم آخرهما فقال الآبي: إنهما يرويان بضم آخرهما وفتحه والفتح قياس بإضمار فعل أي أسبح سبوحا والضم وهو أكثر على الخبر أي أنا سبوح إن قاله الباري جل شأنه أو ذكرى لمن هو سبوح وقدوس وبناؤهما للمبالغة من التسبيح والتقديس، والمعنى أنه تبارك وتعالى مطهر عن صفات المخلوقين ومنزه عن العيوب والنقايص، والأظهر أنهما اسمان بمعنى مسبح ومقدس واما سبوح قدوس فمذكورة في الأسماء وأما سبوح فنص على أنه من الأسماء الزبيدي وابن فارس، وقال المازري: واختلف في الروح فقيل: هو جبرئيل (عليه السلام)، وقيل: ملك عظيم، وقيل خلق لا تراهم الملائكة وقيل: الروح الذي به الحياة.

قوله (سبقت رحمتي غضبي) كما قال جل شأنه (وسعت رحمتي كل شيء) ومن سعتها وسبقها أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بتفضله وأنه يغفر الذنوب كلها إلا لمن أشرك به وأبطل قبول فيضه بالكلية كما قال عز شأنه: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) وقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا).

ص:153

قوله (فقال اللهم عفوك عفوك) قال ذلك لبسط الرجاء والاستعطاف وإظهار أن سبق الرحمة بمجرد العفو دون الاستحقاق. وعفوك إما منصوب باضمار الناصب أي أطلب عفوك أو مرفوع بتقدير الخبر أي عفوك محيط بالمذنبين.

قوله (قاب قوسين أو أدنى) ألقاب القدر وعينها واو يقال بيني وبينه قاب رمح وقاب قوس أي مقدارها وألقاب أيضا في القوس ما بين المقبض والسية (يعني ما بين قبضة كمان وگوشه آن) فلكل قوس قابان. ومن حمله في الآية على هذا قال فيها قلب أي قابي قوس وهذا على التقديرين كناية عن كمال القرب والاطلاع على حقيقة الامر.

قوله (ما قاب قوسين أو أدنى) كأنه سؤال عن قوله أو أدنى ولذلك بينه (عليه السلام) وقال ما بين سيتها إلى رأسها. سية القوس على وزن عدة بتعويض الهاء عن الواو المحذوفة ما عطف من طرفيها والمشهور فيها عدم الهمزة، ومنهم من يهمزها ويقول سئة.

قوله (قال كان بينهما حجاب يتلألأ يخفق) لعل المراد بالبين البين المعنوي إذ لا مكان له وبالحجاب الحجب النورية الدالة على جلاله وكماله وعظمته المانعة من إدراكها وإدراك ما وراءها وهي الأنوار التي لو كشفت لأحرقت من أبصرها وأهلكت من نظرها كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكاء عند تجليها، وخلفها أنوار لم يقدر على مشاهدة شيء منها إلا خاتم النبيين لقوة قلبه وكمال قربه ونظر إليها من الحجاب ما شاء الله، ونسبتها إلى نور الحجاب كنسبة نور الشمس إلى نور الكواكب، والمراد بقوله «يتلألأ يخفق» أنه يشرق ويستنير ويلمع كما يلمع البرق ويضطرب ويتحرك، هذا الذي ذكرت من باب الاحتمال (1) والله اعلم بحقيقة ذلك.

ص:154


1- (1) قوله «هذا الذي ذكرت من باب الاحتمال» هذا عذره في التأويل. والرواية وإن كانت ضعيفة كما قلنا لكن ذكر الحجاب ونور الحجب وارد في أحاديث كثيرة فتأويله بما يوافق اصول المذهب واجب ومن اصولنا عدم تجسم الواجب تعالى وعدم وجود حجاب بينه وبين خلقه حجابا جسمانيا، فما ورد من ذلك لابد أن يكون المراد به أمرا معنويا لكيلا ينافي اصولنا الثابتة بالعقل والنقل وكما يجب تأويل الحجاب يجب تأويل النور أيضا لأن النور المحسوس كالأجسام مرئي متحيز ومتحرك، جل جناب الحق أن يكون بصفته وإذا كان الحجاب أمرا معنويا مجردا كان النور كذلك وانما يعبر عن الشيء بأمر يتمثل به إن تمثل كما يتمثل العلم في صوره البن والملك في صورة إنسان كدحية الكلبي وتمثل بشرا سويا لمريم (عليها السلام)، وإنما تردد الشارح وتشكك لئلا يتوهم الغبي أن مرجع ذلك إلى إنكار المعراج بشبهة أن إدراك الحجاب المعنوي أو مشاهدة رفعة لا يتوقف على صعوده إلى السماوات بل يمكن تمثل جميع ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فيشاهدها وهو في الأرض أيضا كما كان يرى الجنة والنار والملائكة وساير ما قص علينا رؤيته ليلة المعراج في غير تلك الليلة وهو في بيته أو في المسجد أو غير ذلك. والحق أن رؤية الامور الغيبية بل جميع ما روى انه (صلى الله عليه وآله) رآه ليلة المعراج وإن كانت ممكنة وهو على الأرض لكن في الاعتقاد بصعوده إلى السماوات حكمة ومصلحة وفي اراءتها إياه تلك الليلة بالخصوص سرا كان هو أعلم بها وليس علينا إلا الإذعان والتصديق وان لم نعلم سره ونعلم أن غير النبي (صلى الله عليه وآله) لو عرج إلى الكرات السماوية لم ير هناك أرواح الأنبياء ولا الجنة ولا النار ولا الملائكة وسدرة المنتهى والحجب وأنوارها كما لا نرى عذاب القبر ولا نسمع أصوات منكر ونكير في القبر وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يراها وهو في الأرض، وقد روى أنه ليس منا من لم يؤمن بهذة الأربعة: سؤال القبر والمعراج وخلق الجنة والنار والشفاعة. وجميع ذلك من باب واحد. ولم يعرج به (صلى الله عليه وآله) إلى السماوات ليريه جبال القمر وترع المريخ وجو الزهرة إذ لم ينقل لنا من ذلك شيئا والشبهة في باب المعراج على مذهب القدماء في السماوات سهل الاندفاع لأن الخرق والالتيام عندهم غير جائز على محدد الجهات فقط وهو الفلك التاسع، وأما ساير الأفلاك فمستغنى عنها في التحديد ولا يستلزم المعراج خرق الفلك التاسع، وأما عند أهل زماننا من نفي الفلك وإنكار السماوات فشبهتهم غير قابلة للاندفاع لمن اعتقد مثل اعتقادهم والروايات متواترة في أنه (صلى الله عليه وآله) قد جاوز سبع سماوات ورأى في كل سماء نبيا من الأنبياء وأمورا من تلك العوالم مذكورة في محالها، وإذ لا سماء عند هؤلاء وليس إلا فضاء خال غير متناه منبثة فيه كواكب غير متناهية العدد فلا يستطيعون التخلص من الشبهة إلا بتأويل أبعد في التكلف من جوابات القدماء عن شبهة الخرق والالتيام، فما أشد حماقة من يدعي أن بإنكار السماوات يرتفع الشبهة عن المعراج، وما أجهل من يرغم أن اختلاف الناس في المعراج الجسماني كان لا ستلزمه الخرق في الأفلاك مع أن منكري الجسماني على ما نقل المفسرون ومنهم أبو الفتوح الرازي (رحمه الله) جماعة من حشوية أهل الحديث اعتمادا على ما روى أنه كان رؤيا صالحة ومن المنكرين الحسن البصري وكان بعيدا من أن يعتمد على قول الفلاسفة بل من أن يعلم مذهبهم في الأفلاك وكذلك الحشوية، وقد تردد محمد بن إسحاق صاحب السيرة في ذلك حيث إنه نقل اختلاف الناس في كون المعراج جسمانيا أو روحانيا ثم قال: الله أعلم أي ذلك كان، ومحمد بن إسحاق كان معاصرا للباقر (عليه السلام) ولم يكن في ذلك العصر بحث بين علماء الإسلام عن الفلك وانخراقه. وحل جميع ذلك إنا متعبدون بما نقل في ذلك ونفوض علمه إلى أهله وليس في هذا الكتاب تفصيل للمعراج حتى نتكلم فيه أزيد من ذلك. (ش).

قوله (من نور العظمة) إضافة النور إليها باعتبار دلالته عليها، أو ظهوره منها وهذا المعنى وإن وجد في غيره إلا إنه فيه أقوى وآكد.

قوله (وسيد المسلمين) يجوز تشديد اللام وتخفيفها وسيد القوم أشرفهم وأفضلهم وأكرمهم.

قوله (وقائد الغر المحجلين) القائد خلاف السائق وهو من يقود أحدا خلفه كصاحب الجيش، والغر جمع الأغر من الغرة وهي في الأصل البياض الذي يكون في وجه الفرس، والمحجل من الخيل هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم يكن معها رجل أو رجلان ثم استعير لذوي الشرف من الناس في العلم والعمل والصلاح وكرم الذات.

قوله (ما جاءت ولاية علي (عليه السلام) من الأرض) أي من قوله النبي (صلى الله عليه وآله) وحده أو من الوحي إليه في

ص:155

الأرض فقط (1).

* الأصل:

120 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد عن علي بن سيف، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (صلى الله عليه وآله): صف لي نبي الله (صلى الله عليه وآله) قال: كان نبي الله (عليه السلام) أبيض مشرب حمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف كأن الذهب أفرغ على براثنه عظيم مشاشة المنكبين، إذا يلتفت يلفت جميعا من شدة استرساله، سربته سائلة من لبته إلى سرته كأنها وسط الفضة المصفاة وكأن عنقه إلى كاهله إبريق فضة، يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء وإذا مشى تكفأ، كأنه ينزل في صبب; لم ير مثل نبي الله قبله ولا بعده (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (أبيض مشرب حمرة) قال في النهاية في صفته (عليه السلام): أبيض مشرب حمرة الإشراب خلط لون بلون كان أحد اللونين سقى اللون الآخر يقال: بياض مشرب حمرة بالتخفيف وإذا شدد كان للتكثير والمبالغة.

قوله (أدعج العينين) الأدعج الأسود والدعج شدة سواد العين مع سعتها يقال: عين دعجاء

ص:156


1- (1) قوله «في الأرض فقط» ما فهم من هذه الرواية أن آيات سورة النجم حكاية حال المعراج وأن قاب قوسين مقدار ما بينه وبين ربه تعالى وهو احتمال مرجوح في سياق الآيات، بل الظاهر أنها تصف حال رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) جبرئيل أوائل النبوة وهو على الأرض كما كان يراه بعد ذلك في غير حال المعراج، قال في مجمع البيان: فكان قاب قوسين أي كان ما بين جبرئيل وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاب قوسين، وقال أيضا في (ثم دنى فتدلى) دنى جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد (صلى الله عليه وآله). وأما هذه الرواية فضعيفة جدا وعلي بن أبي حمزة ملعون على لسان الرضا (عليه السلام) والجوهري كذاب أيضا ولا يحتج بها واعلم أنه ليس في هذا باب حديث صحيح إلا أربعة: الثاني، والسابع عشر، والثاني والعشرون وتمام الأربعين وأما ما سواها فما لم يثبت من مضامينها بدليل آخر لم يثبت به حجه وما ثبت بدليل قاطع اعتمد عليه للاعتماد على الدليل الخارج فما يشتمل عليه هذه الرواية من ولاية أمير المؤمنين وكونها بأمر الله تعالى وما اشير إليه من ثبوت أصل المعراج فهو حق لأنه من ضروريات الدين والرواية فيه متواترة، وأما ما دل عليه من نزول آية قاب قوسين وآيات النجم في المعراج فلا نسلمه وإلا قويت شبهة المجسمة يزعمون أن الله تعالى جسم فوق السماوات وعرج برسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه تعالى ليدنو منه ويتكلم معه بلا واسطة وتشرف هناك برؤيته تعالى وقرب منه قاب قوسين أو أدنى، ولا يعلمون أن الله تعالى أقرب من كل قريب إلى الإنسان في الأرض ولو عرج إلى السماوات الجسمانية لم يزد منه قربا ولن يرى هناك إلا أجساما جامدة أو ناطقة كما يرى في الأرض ولا يرى المجردات بالعين الظاهرة في السماوات ولا في الأرض ويراها من يراها بعين القلب وبالفؤاد في السماوات وفي الأرض جميعا، ولا فرق بين الأرض والسماء من الجهة التي توهمها المجسمة بل للمعراج سر آخر غير ما توهموه. (ش)

ويطلق أيضا على سواد غيرها، وقيل: الدعج شدة سواد العين مع شدة بياضها.

قوله (مقرون الحاجبين) في النهاية: القرن بالتحريك التقاء الحاجبين. واختلف روايات العامة في ذلك ففي بعضها: «سوابغ في غير قرن» والسوابغ الحواجب ووضع الحواجب موضع الحاجبين لأن التثنية جمع، وفي بعضها «أزج أقرن» أي مقرون الحاجبين، وقال صاحب النهاية: الأول الصحيح في صفته.

قوله (شثن الأطراف) قال في النهاية في صفته (عليه السلام): شثن الكفين والقدمين أي إنهما يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم ويذم في النساء، وفي الصحاح: الشثن بالتحريك مصدر شثنت كفه بالكسر أي خشنت وغلظت ورجل شثن الأصابع بالتسكين وكذلك العضو.

قوله (كأن الذهب افرغ على براثنه) البراثن بفتح الباء جمع البرثن كقنفذ وهي الأصابع مع الكف، شبه كفه وأصابعه (عليه السلام) بالذهب في اللون والضياء والصفاء مع الشدة واللينة.

قوله (مشاشة المنكبين) المشاشة واحد المشاش بضم الميم وهي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. كذا في الصحاح والقاموس والمغرب، وقال ابن الأثير في صفته (عليه السلام) جليل المشاش أي عظيم رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين.

قوله (إذا التفت يلتفت جميعا من شدة استرساله) قال الجوهري: استرسل إليه أي انبسط واستأنس، وقال ابن الأثير: الاسترسال الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه وأصله السكون والثبات وهذا من كمال خلقه وانبساطه للناس ومداراته معهم حيث كان يتلفت إليهم بكله لا بعينه ولا يسرق النظر، وقيل: إراداته لا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر إلى الشيء وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف ولكن كان يقبل جميعا ويدبر جميعا.

قوله (مسربته سائلة) في بعض النسخ «سربته سائلة» وهو الأظهر قال صاحب القاموس: السربة بالضم الشعر وسط الصدر إلى البطن كالمسربة، وقال ابن الأثير في صفته (عليه السلام): إنه كان ذا مسربة المسربة بضم الراء ما دق من شعر الصدر سائلا إلى الجوف والضمير في قوله: (كأنها) راجع السربة وكان لتقريب تشبيهها بالفضة الصافية المستديرة في السواد اللطيف لأنه يحسن السواد في وسط الفضة المذكورة.

قوله (وكأن عنقه إلى كاهلة إبريق فضة) الكاهل مقدم أعلى الظهر، والإبريق بالكسر الشديد البرق واللمعان والاستعارة من البرق والإضافة بيانية والمراد تشبيه عنقه بالفضة الخالصة في البرق واللمعان.

ص:157

* الأصل:

121 - عدة من أصحابنا; عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته، إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة، قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة ولهم تبدل السيئات حسنات.

* الشرح:

قوله (وعلمني أسماءهم) يحتمل أن يراد بها إعلامهم كما يحتمل أن يراد بها هي مع ذواتهم وصفاتهم.

قوله (فمر بي أصحاب الروايات) لعل المراد بهم خلفاء الجور وبنو أمية وبنو عباس وأضرابهم ممن يعادي أهل البيت وشيعتهم إلى يوم القيامة.

قوله (قال: المغفرة لمن آمن منهم) هذا وإن دل على كمال الرجاء وانتفاء العقوبة مطلقا لأن الله تعالى لا يخلف وعده إلا إن الشرط وهو قوله: (لمن آمن منهم) يوجب الخوف لأن حقيقة الإيمان ومراتبه متفاوتة في الشدة والضعف سيما عند القائلين بدخول الأعمال فيها ولا يعلم أن أي فرد من أفراده هو المراد هنا ولا يمكن حمله هنا على أقل المراتب لأن ذكر هذا الشرط حينئذ مستدرك كما لا يخفى على من له درية بأساليب الكلام.

قوله (ولهم تبدل السيئات حسنات) تقديم الظرف للحصر وظاهر هذا الخبر ونحوه كظاهر قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) حجة لمن ذهب إلى أن كل سيئة تبدل بحسنة صغيرة كانت أو كبير، ومنهم من خص التبديل في الآية بتبديل السيئات في الكفر بحسنات الإيمان والمخصص غير معلوم، ثم أن هذه الحسنة يمكن أن تثاب بعشرة أمثالها كالحسنة بالأصالة، والله أعلم وأكرم.

* الأصل:

122 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن سيف، عن أبيه، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفه ثم قال: أتدرون أيها الناس ما في كفي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثم رفع يده الشمال فقال: أيها الناس أتدرون ما في كفي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال

ص:158

أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثم قال: حكم الله وعدل، حكم الله وعدل [حكم الله وعدل] فريق في الجنة وفريق في السعير.

* الشرح:

قوله (ثم قال أتدرون أيها الناس ما في كفي) قيل سؤاله إياهم عن هذا الأمر الذي لا يعلمه إلا الله ورسوله يكون للحث على استماع ما يلقي إليهم والكشف عن مقدار فهمهم ومبلغ علمهم فلما راعوا الأدب بقولهم: الله ورسوله أعلم، علم أنهم يريدون استخراج ما عنده فأجاب بما ذكر. وقيل:

فائدته التعريف بمنزلته من الله تعالى في إعلامه بهذه الأمور المغيبة. وقيل: فائدته استنطاقهم وحملهم على الإقرار بأن الله ورسوله أعلم.

قوله (قال فيها أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم) ضمير «فيها» راجع إلى الكف وهي مؤنثة والقبيلة واحدة القبائيل وهم بنو أب واحد ولعل المراد بأسمائهم وأسماء آبائهم أسماؤهم منسوبين إلى آبائهم مثل فلان بن فلان وفلان بن فلان إلى آخرهم، فلا يرد أن الجمع المضاف يفيد العموم فذكر أسماء آبائهم بعد ذكر أسماء جميع أهل الجنة يوجب التكرار، وفيه دلالة على أن ولد الزنا لا يدخل الجنة كما أن في مقابله دلالة على أنه لا يدخل النار، والقول بالواسطة غير معروف فلابد من تخصيص أسماء آبائهم بمن له أب أو بتعميم الأب بحيث يشمل الأب لغة وعرفا والله أعلم.

قوله (حكم الله وعدل) ذكره ثلاث مرات والتكرير للتأكيد أو الأول إشارة إلى الحكم الأزلي والثاني إلى الحكم الشهودي والثالث إلى الحكم الاخروي، ومثل هذه الرواية موجود من طريق العامة ففي الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي يده كتابان فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، وقال للذي في يده اليسرى:

هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلايزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، وقال للذي في يده اليسرى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلايزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم رمى بهما وقال: فرغ ذلك من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير». قال بعضهم هذا حديث صحيح وأمثاله كثيرة يفيد مجموعها القطع بفساد مذهب القدرية (1) لكنهم كابروا في ذلك

ص:159


1- (1) قوله «القطع بفساد مذهب القدرية» سبق تفصيل هذه المسائل في المجلد الرابع والخامس فلانعيده. (ش)

كله وتأولوه تأويلات فاسدة وموهوه بالاصول التي ارتكبوها من التحسين والتقبيح والتعديل والتجويز والقول بتأثير القدرة الحارثة وهي كلها فاسده انتهى كلام هذا القائل.

أقول: القدر على ما استفدت من تصفح كلام العلماء يطلق على ثلاثة معان الأول أنه في عرف المتكلمين عبارة عن تعلق علم الله وإرادته بالكائنات إذ لا قبل وجودها فلا حادث إلا وقد قدره سبحانه في الأزل أي سبق علمه به، ولا ينكر هذا المعنى أحد من أهل الإسلام إلا شرذمة قليلون نشأوا في آخر زمن الصحابة فقال بعضهم: إنه تعالى يعلم الأشياء بعد وجودها وقال بعضهم أنه يعلمها قبل وجودها بمعنى أنه يوجد لنفسه علما بها ثم يوجدها. الثاني أنه يطلق على جبر الله تعالى عباده على الأفعال وعلى ما قدره وقضاه وهذا مذهب الأشاعرة. الثالث أنه يطلق على قدرة العبد على أفعاله وهذا مذهب المعتزلة والإمامية.

إذا عرفت هذا فنقول: لا دلالة في الحديث على إثبات مذهب الأشاعرة ونفي مذهب الإمامية والمعتزلة لجواز أن يكون المراد منه إثبات القدر بالمعنى الأول لعلمه (صلى الله عليه وآله) بأنه سيوجد قوم ينكرونه، ويؤيده قول القرطبي وهو من أعاظم علمائهم فما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) العلم فيما جفت به الأقلام وجرت عليه المقادير حيث قال: أبطل (صلى الله عليه وآله) بهذا القول قول من قال: إن الأمر مستأنف والمقصود أن الأمر ليس بمستأنف أي ليس علم الله بذلك مستأنفا بل سبق به علمه وإرادته أزلا وجفت به أقلام الكتبة في اللوح المحفوظ انتهى كلامه.

* الأصل:

123 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في خطبة له خاصة يذكر فيها حال النبي والأئمة (عليهم السلام) وصفاتهم: فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم، أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) في حومة العز مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير مشوب حسبه، ولا ممزوج نسبه ولا مجهول عند أهل العلم صفته، بشر به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها وتأمله الحكماء بوصفها، مهذب لا يداني، هاشمي لا يوازي، أبطحي لا يسامي شميته الحياء وطبيعته السخاء، مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها، مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها.

إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها، وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها، أداه محتوم قضاء الله إلى غاياتها، تبشر به كل أمة من بعدها، ويدفعه كل أب إلى أب من ظهر إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إلى أبيه عبد الله، في خير

ص:160

فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط وأكلا حمل وأودع حجر، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه وآتاه من العلم مفاتيحه ومن الحكم ينابيعه، ابتعثه رحمة للعباد وربيعا للبلاد وأنزل الله إليه الكتاب فيه البيان والتبيان قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله ودين قد أوضحه وفرائض قد أوجبها وحدود حدها للناس وبينها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به وصدع بما أمر وأدى ما حمل من أثقال النبوة وصبر لربه وجاهد في سبيله ونصح لأمته ودعاهم إلى النجاة وحثهم على الذكر ودلهم على سبيل الهدى، بمناهج ودواع، أسس للعباد أساسها ومنار رفع لهم أعلامها كيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفا رحيما.

* الشرح:

قوله (فلم يمنع ربنا) «ربنا» مفعول لم يمنع (1) وما كان فاعله، وكان تامة أو ناقصة بتقدير الخبر و «من» بيان لما وأن بصلتها مجرور محلآ بإضمار عن عند الخليل ومنصوب بإفضاء الفعل إليه وهو لم يمنع بعد حذفها عند سيبويه والحلم وتالياه متلازمة في التحقيق والحلم هو الأصل لأن الحليم من لا يستخفه العصيان ولا يستفزه الغضب وكل من كان كذلك فهو ذو أناة ووقار لا يستعجل في المؤاخذة وذو عطف ورحمة لميله إلى المرحوم، والغرض من هذه الفقرة هو حث العباد على الشكر لتلك النعمة العظيمة والفضيلة الجسمية بعد استحقاقهم للعذاب واستيهالهم للعقاب.

قوله (في حومة العز مولده) قدم الخبر على المبتدأ لقصد الحصر والجملة في محل النصب على أنها حال عن «أحب»، وحومة العز معظمة كحومة الماء وحومة الرمل والمراد بها إما مكة لأنها أعز بقاع الأرض وأشرفها أو ذرية إبراهيم الخليل لأنهم أشرف الخلائق وأعزهم.

قوله (وفي دومة الكرم محتدة) في المغرب الدومة بالضم، والمحدثون على الفتح وهو خطأ عن ابن دريد، وفي الصحاح أصحاب اللغة يضمون الدال وأصحاب الحديث يفتحونها. والمحتد بفتح الميم وكسر التاء بمعنى المقام أو الأصل، قال الجوهري: حتد بالمكان يحتد أقام به وثبت والمحتد الأصل يقال فلان من محتد صدق ومحفد صدق. وعين حتد بضم الحاء والتاء إذا كان لا

ص:161


1- (1) قوله «فلم يمنع ربنا» ربنا مفعول «لم يمنع» لم يمض في هذا الباب حديث صحيح غير الثاني وهذا الحديث وكان معنى الحديث الثاني ما برأ الله تعالى نسمة أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله) ولا ريب فيه ولا في مضامين هذا الحديث وهو السابع عشر، وليس مقصودنا أن جميع مضامين غيرهما باطلة بل لا اعتماد على ما يشك فيه مما لم يقم عليه دليل آخر. (ش)

ينقطع ماؤها من عيون الأرض. وأما الدومة فيطلق على ضخام الشجر والظل والحصن ولعل المراد أن في ظل الكرم مقامه أو أصله على سبيل المنكية والتخييلية وفيه وصف له ولآبائه بالكرم والسخاء والدين.

قوله (غير مشوب حسبه) الشوب الخلط وقد شبت الشيء أشوبه وهو مشوب. وحسب الرجل دينه وقدره وأفعاله الحسنة وصفاته الجميلة وأعماله المرضية وحسب أيضا مآثر آبائه لأنه يحسب بها في الفضائل والمناقب ومنه قيل من فات حسب نفسه لم ينتفع بحسب أبيه ولعل المراد أن مآثر آبائه الكرام غير مشوبة بالخصال الذميمة والأفعال القبيحة.

قوله (ولا ممزوج نسبه) (1) لكرم أصله وطهارة نسبه من الطرفين إلى آدم (عليه السلام).

قوله (ولا مجهول عند أهل العلم صفته) أراد بأهل العلم الأنبياء والأوصياء (2) ومن أخذ من

ص:162


1- (1) قوله «ولا ممزوج نسبه» وكذلك يجب أن يكون كل نبي بقاعدة اللطف لأن الناس مجبولون على التنفر من فاقد هذه الصفات ولا ينقادون له إلا قهرا بالسيف وشأن الأنبياء أن يطاعوا بالرغبة حتى يستمر الناس على قبول أحكامهم ولو بعد مضيهم وانقطاع زمانهم وتسلط الأعداء على ملكهم. (ش).
2- (2) قوله «أراد بأهل العلم الأنبياء والأوصياء» بل أراد الأعم حيث قال: وتأملته الحكماء بوصفها والمراد بالحكماء هنا أصحاب العقول السليمة. والحاصل إثبات نبوته بشيئين الأول إخبار الأنبياء السابقين به على ما حكاه العارفون بهذا الشأن في الكتب الخاصة به وقد ذكرنا شيئا في كتابنا بالفارسية الموسوم براه سعادت، ولا يقدح فيه تدخل غير العارف في هذه المباحث ونقل أمور من كتبهم لا توجد فيها أو توجد ولا يحتج بها وكذلك ما احتج به حشوية أهل الحديث مما وجدوه في الأخبار الضعيفة منسوبا إلى التوراة والإنجيل فزعموه حقا ونشروه وأخذته النصارى وسخروا من المسلمين واستهزؤا بعلمائهم، فإن اعترض على الناقلين قالوا هذه موجودة في أصل كتب الأنبياء لا في هذه الموجودة بأيديهم فإنها محرفة ولا يعرفون أن الاحتجاج لا يمكن إلا بما يعترف به الخصم ولا يعترفون إلا بما هو موجود عندهم والله تعالى احتج في القرآن الكريم عليهم بأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فلا يجوز الاحتجاج بما روي في الأخبار الضعيفة منسوبا إليها كما روى أن في التوراة أحمد رسول الله واسمه محمد وياسين والفتاح والختام والحاشر والعاقب والماحي ووصيه ووزيره وخليفته في امته وأحب خلق الله إلى الله بعده علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن بعده ثم أحد عشر إماما من ولد محمد وولده الأول اثنان منهما سمى ابني هارون شبر وشبير إلى غير ذلك، ولا يعرف أهل الكتاب شبرا ولا شبيرا ابنا لهارون ولا يوجب صحته واقعا أن فرض صحته صحة الاحتجاج به. والثاني مما استدل به (عليه السلام) على نبوته تأمل أوصافه فإنه كأنه كان أمينا لم يعرف منه خيانة وكذب ولم يوجد فيه شيء يظن به المكر والحيلة وطمع الملك وهوى التلذذ بالقهر وجمع الأموال، وإذا تأمل الحكيم في أفعاله وأوصافه عرف صدقه في دعواه وإذا تأمل فيما أتى به من الأحكام المشتملة على المصالح ودقائق التوحيد ومسائل علوم الآخرة على ما ذكره العلماء في كتبهم تبين له صحة ما يدعيه من نزول الوحي عليه وليس الصدق والأمانة والكذب والمكر والخديعة في آحاد الناس مما يخفى على العارف بهم والمعاشر لهم، ولا يستثنى من ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) قال الصادق (عليه السلام): شيمته الحياء وطبيعة السخاء مجبول على وقار النبوة. الخ (ش)

مشكاة إفاداتهم وبصفته صفة النبوة ومبادئها وتوابعها وأوصافها الخلقية والخلقية وإنما خص ذلك بأهل العلم لأن الجاهل في معزل عن هذه المكرمة بل شأنهم إنكار الأنبياء والعلماء ترويجا لجهلهم.

قوله (بشرت به الأنبياء) استيناف كأنه قيل لم لم يكن صفته مجهولة عند أهل العلم فأجاب بذلك وضمير التذكير في به راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وضمير التأنيث في كتبها راجع إلى الأنبياء باعتبار الجماعة وفي نعتها ووصفها راجع إلى الصفة والمراد بالعلماء علماء أمة كل نبي وبالحكماء والأوصياء وعكسه بعيد لأن الحكيم فوق العالم كما مر في كتاب العلم.

قوله (مهذب لا يداني) أي مطهر الأخلاق ومهذب من النقائص لا يقاربه أحد.

قوله (هاشمي لا يوازى) أي لا يساويه أحد من الهاشميين وغيرهم وإنما وصفه بالهاشمية لإظهار علو نسبه لأن غير الهاشمي ليس بكفو للهاشمي.

قوله (أبطحي لا يسامى) ساماه فاخره وطاوله في صفة من الأوصاف من السمو وهو الارتفاع، والمعنى لا يعاليه في شرافة ذاته أحد ولا يفاخره في كمال صفاته رجل وإنما نسبه إلى الأبطح باعتبار تولده ونشئته فيه لأنه خير بقاع الأرض.

قوله (شيمته الحياء) الشيمة بالكسر الخلق والطبيعة، والحياء ملكة نفسانية توجب انقباض النفس عن القبيح وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح والخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.

قوله (وطبيعته السخاء) السخاء ملكة توجب بذل المال في وجوهه وكان (صلى الله عليه وآله) لا يرد السائل إلا بوجه يرضيه وكان يعطي المستحق من غير مسألة حتى نزل فيه (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا).

قوله (مجبول على أوقار النبوة وأخلاقها) الأوقار جمع الوقر بالكسر وهو الحمل والثقل ولعل المراد بها الفضائل العلمية والعملية وبالأخلاق الأخلاق النفسانية وهذه الأمور على وجه الكمال من لوازم النبوة.

قوله (مطبوعة على أوصاف الرسالة وأحلامها) (1) الأحلام الألباب والعقول واحدها حلم

ص:163


1- (1) قوله «أوصاف الرسالة وأحلامها» المراد بالأحلام رؤيا النبوة وهو من أوضح أدلة النبوة أشار إليه الإمام (عليه السلام) لأنا إذا رأينا أحدا تعرض له حالة توجب إعراضه عن عالم الشهود كالغشوة ثم يأتي بعد الصحو بامور خارجة عن قدرة أحد هو من أفراد البشر لم يبق لنا شك في أنه مرتبط بعالم آخر هو عالم الغيب، وإذا رأينا ما أخبرنا به صدقا مطابقا للواقع والعقل ومصالح الناس لم نشك في أن عالم الغيب الذي هو مرتبط به فيه الموجودات العالمة بأدق العلوم المطلعة على ما كان وما يكون ولا معنى للنبوة إلا ذلك ولا يكن تكلفه بالتصنع ولم ينكر وقوع الأحلام له (صلى الله عليه وآله) أحد حتى المشركين من معاصريه، لكن نسبوه إلى ما نسبوا ليماروه ويشككوه في صحة ما يرى كما حكى الله تعالى عنهم: (أفتمارونه على ما يرى) وقال: (قل هل انبئكم على من تتنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) وقال تعالى: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) والعلامة المميزة بين الحق والباطل أن ما يراه الرائي إن كان مشتملا على العلوم الدقيقة الإلهية والمصالح الحقيقية فهو من عالم الملائكة ولا يحتمل نسبته إلى الأوهام وتجسم الخيالات والأمراض إذ لا يتمثل بالأوهام إلا ما هو مرتكز في ذهن الإنسان نفسه. فإذا أخبر صاحب الرؤيا بما نعلم عدم إمكان ارتكازه في خاطره علمنا أنه من عالم خارج عنه، مثلا إذا عرفنا رجلا لا يحفظ من القرآن شيئا ثم نام ورأى في نومه من علمه فاستيقظ حافظا للقرآن علمنا أن ذلك من عالم الغيب، وإن رأينا رجلا لا يعرف العربية فحصل تغير في نفسه وتكلم بها علمنا أنه بتعليم ملك مثلا، وإذا رأينا رجلا من العوام تكلم مع أعاظم العلماء في مسألة علمية لا عهد له بها مثل كردي عامي شرح معنى قوله «الحق ماهية إنيته» بوجه صحيح عرفنا أخذه من عالم آخر فكيف لا يدل إخبار خاتم الأنبياء (عليهم السلام) بقوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) على ارتباطه مع عالم غير عالم الشهادة، إذ لا يعلم أحد من موجودات عالم الشهادة ما سيأتي بعد سنين ومثله قوله: (لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وقال: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس). ولولا ارتباطه بعالم آخر من أين تجرأ مع دعوى النبوة والصدق أن لا يحتاط في الإخبار ويحكم جزما بأنه لا يأتي أحد بمثل القرآن إلى آخر الدهر، وكذلك ادعاؤه أنه خاتم النبيين ولن يبعث نبي بعده وقد يتفق للإنسان العادي تغيير في بعض ملكاته يسميه أهل زماننا تغيير الشخصية تغييرا يدوم كبليد يصير فطنا أو يزول بسرعة وهو في تلك الحالة كرجل يتكلم عن لسان غيره كما يحكى عن الكهان، وهذا أيضا يدل على وجود عالم الغيب وتلقي روح الإنسان منه ما ليس في استطاعته لو خلى ونفسه، والفرق بين الكهانة والنبوة أخذ الأول من الشياطين وعدم وضوح الرؤيا وامتزاجه مع الأوهام كرؤيانا في النوم والنبوة خالصة من هذه الشوائب كما بينه تعالى في القرآن. (ش)

بالكسر وكأنه أراد من الحلم الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شعار العقلاء، والجمع المضاف في الموضعين يفيد العموم، ولعل المراد بأوصاف الرسالة المواعظ الشافية والنصائح الوافية والوحي وتبليغ الأحكام وغيرها، وفي جميع الأحلام إشعار بأن عقله فوق عقول جميع الرسل بل هو عقل الكل.

قوله (إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها) «إلى» متعلق بمجبول ومطبوع وغاية لجبلة ويحتمل أن يكون التدريج فيهما لإفادة كماله لأن كل فعل صدر من الفاعل القادر المختار على وجه التدريج فهو في غاية الكمال، والضمير في به راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وإرجاعه إلى الجبل والطبع بعيد والظرف متعلق بانتهت أو حال عن الأسباب بتقدير متلبسة أو متعلقة، وإضافة الأسباب إلى مقادير الله بيانية، والمراد بها الأسباب التي قدرها الله تعالى لنبوته وهي كل ماله

ص:164

مدخل في الكمال والمراد بأوقاتها الأوقات التي قدرها الله تعالى لحصول تلك الأسباب فيها ولما لم يكن هذا مستلزما لوقوع كل واحد من تلك الأسباب على نهاية الكمال، أشار إلى وقوع ذلك بقوله وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها أي نهايات تلك الأسباب في الكمال والحمل على التأكيد محتمل لأن انتهاء الأسباب إلى أوقاتها مستلزم لجريان القضاء إلى نهاياتها كما أن حمل الأول على تقدير الأسباب والثاني على القضاء بوجودها كذلك إلا أن قوله إلى أوقاتها ينافيه في الجملة، والله أعلم.

قوله (أداء محتوم قضاء الله إلى غاياتها) هذا كالنتيجة للسابق والثمرة له والضمير في أداء راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله) والمراد بالقضاء المحتوم القضاء المبرم الذي لا راد له، وبغايات تلك الأسباب المذكورة النبوة والرسالة وكمال القرب والشرف والتقدم على جميع الخلق.

قوله (تبشر به كل أمة من بعدها) البشارة الخبر الموجب للسرور حتى يظهر أثره في البشرة من النشاط والبشاشة وطلاقة الوجه وغيرها، والامة الطائفة من الناس إذا اشتركوا في دين أو لغة، ومن موصولة أو موصوفة، ولما قدر الله تعالى النبوة والرسالة وهيأ له أسبابها وجعله نبيا في عالم الأرواح كما قال (عليه السلام): «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (1) وأعلم بذلك الأنبياء وسائر الخلق وجعله أميرا لهم جميعا ثم قدمهم في عالم الأبدان الذي هو مقام المجاهدة مع النفس والشيطان كتقديم المقدمة على الأمير فصار يبشر كل أمة من بعده بموكبه وظهوره ويوصيهم بمتابعته وموافقته وترك

ص:165


1- (1) قوله «وآدم بين الماء والطين» كونه نبيا في تلك الحالة بل وقبل ذلك لا ينافي نزول جبرئيل والوحي إليه تدريجا وإظهاره (صلى الله عليه وآله) عدم العلم بامور قبل نزول الوحي عليه فإن العلم البسيط الإجمالي الثابت للإنسان كالملكة مبدء للعلوم التفصيلية، ولا ينافي تقدم الأول حدوث الثاني. ويعلم العارف البصير أنه لولا العلم البسيط الإجمالي لم ينفع تلقين العلوم التفصيلية واحدا واحدا فلو نزل جبرئيل بالوحي على بعض الأعراب البدوي وقرأ عليه آيات القرآن لم يكن في استعداد هذا البدوي أن يتلقى إلا ألفاظا لا يعرف حقائقها ولا يقدر على شرحها وتفصيلها وبيانها للناس والدفاع عنها وترويجها بين الأنام، ولم يكن قراء القرآن في عصره (صلى الله عليه وآله) مع حفظهم جميع القرآن مساوين له ولو لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) غير ما يتلقى من ألفاظ الوحي كما توهمه القاصرون لم يكن فرق بينه وبين أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود. لأن الواسطة الواحدة لا يؤثر في العلم شيئا، وبالجملة العلم الأول البسيط الكائن معه منذ أن خلقه الله شيء والعلم التفصيلي الثاني النازل عليه تدريجا شيء آخر ولا ينافي ذلك أيضا كونه نبيا في عالم الأرواح قبل خلقه الجسماني واستفادة أرواح الأنبياء من روحه، ونعم ما قال البوصيري: وكل آي أتى الرسل الكرام بها * فإنها اتصلت من نوره بهم فإنه شمس فضل هم كواكبها * يظهرن أنوارها للناس في الظلم والذي يستبعد ذلك توهم تقدم وجوده الشخصي البدني بعلومه التفصيلية وليس المراد ذلك بل المراد تقدم نوره كتقدم وجود سائر الناس في عالم الذر بفطرتهم على وجودهم الدنيوي. (ش)

معاندته (صلى الله عليه وآله).

قوله (لم يخلطه في عنصره سفاح ولم ينجسه في ولادته نكاح) العنصر بضم العين وفتح الصاد الأصل وقدم تضم الصاد، والنون مع الفتح زائدة عند سيبويه لأنه ليس عنده فعلل بالفتح. والسفاح بالكسر الزنا مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته والنكاح الوطي والعقد والمراد به هنا الزنا أو العقد المخالف للقوانين الشرعية بقرينة التنجيس وفيه إشارة إلى أنه كان كريم الطرفين من لدن آدم إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب والفقرة الأولى لبيان طهارة الآباء والثانية لبيان طهارة الامهات.

قوله (في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط) الفرقة الطائفة من الناس، والسبط بالكسر القبيلة وأولاد الأولاد والرهط الأهل والعشيرة وهذه الألفاظ متقاربة في المعنى، ولعل المراد بالخيرية الخيرية باعتبار الدين لأن أباءه (عليهم السلام) كانوا على الشريعة السابقة وبالأكرمية الزيادة في المنح والصفح والشرف والفضائل لأن كثيرا من آبائه (عليهم السلام) كانوا أنبياء ذوى فضائل كثيرة، منهم يصل الخير إلى الغير، وبالأمنعية زيادة الاتصاف بمنع العار عن العشيرة والأغيار واتصاف القريشي والهاشمي بهذا الوصف مشهور.

قوله (وأكلأ حمل وأودع حجر) الكلاء بالكسر الحفظ والحراسة والحمل بالفتح ما يحمل بالبطن وبالكسر ما يحمل على ظهر من الأحمال والأثقال ولعل الأول هو المراد هنا وحجر الإنسان بفتح الحاء وكسرها معروف، والأودع من ودع بالضم وداعة ودعة بالفتح وهي السكون والوقار والترفه يقال رجل وادع أي رافه، ويحتمل أن يراد بالأودع الأحفظ يقال استودعته وديعة أي استحفظته إياها، ولعل المراد بالأكلأ امه آمنة وبالأودع هي أو مرضعته حليمة السعدية أو فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) أو أعم منهن بحيث يشمل امهاته إلى حواء (عليها السلام).

قوله (وآتاه من العلم مفاتيحه) (1) دل على أن العلوم كلها خرجت منه وأنه المعلم في العالم

ص:166


1- (1) قوله «من العلم مفاتيحه» مفتاح كل علم اصول كلية قليلة من جهة العدد يستنبط منها جميع المسائل بكثرتها ولا يحصل إلا لأوحدي من الناس صاحب قوة تفوق البشر، فإن كان من العلوم الحقيقية الإلهية سمى صاحبها صاحب القوة القدسية، وتدل تلك الاصول القليلة على إحاطة صاحبها بجميع ذلك وقدرته على بيان تفصيلها كما ألقى أمير المؤمنين (عليه السلام) اصول علم النحو على أبي الأسود الدؤلي فهدى ذهنه إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه فقال: الكلمة على ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف، لينبه على أن الحرف مأمون من التغيير أي الإعراب لبنائه والاسم في معرض التغير، والفعل واقع بينهما. فتنبه أبو الأسود لسائر ما ينبغي أن يضيف إليه ومثله اتفق لمخترعي سائر العلوم كالخليل للعروض والملك العالم أبي نصر ابن عراق لعلم المثلثات الذي هو مبنى أكثر العلوم في زماننا، ومحمد بن موسى الخوارزمي للجبر والمقابلة، ولا ريب أن مفاتيح العلوم الإلهية في القرآن، وتنبه من تنبه للتفاصيل بتنبيه القرآن إياه إذ نبه على إثبات العمد والتدبير في خالق الموجودات وعلمه بها بالتأمل في آثاره تعالى كما قال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) وهو مفتاح من مفاتيح علم التوحيد ونبه بقول: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) على شبه الموت بالنوم، وأن للنفس حواس اخرى ومدارك غير المشاعر الظاهرة النائمة ورفع الاستبعاد عن تجرده وبقائه وهكذا سائر مفاتيح المسائل الشرعية، وإذا كان التنبه لمفاتيح العلوم ممكنا في الجملة لسائر الناس كيف يستبعد ثبوته للأنبياء (عليهم السلام). (ش)

الروحاني كما انه المعلم في العالم الجسماني، ويؤيده بعض الروايات.

قوله (ومن الحكم ينابيعه) الحكم بالضم والسكون الحكمة والحكيم صاحب الحكمة المتقن للامور والحكم أيضا القضاء بين الخلق، والينابيع جميع الينبوع وهو عين الماء سميت به لأنه ينبع منه الماء أي يخرج وفي جميع الينبوع والمفتاح إشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله) أوتى جميع فنون العلم والحكمة (1) وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية.

قوله (ابتعثه رحمة للعباد) أي بعثه وأرسله إلى العباد رحمة لهم لأنه يهديهم إلى الكرامة والسعادة وينجيهم من الضلالة والشقاوة.

قوله (وربيعا للبلاد) الربيع النهر والمطر، وربيع الأزمنة عند العرب ربيعان الربيع الأول هو الفصل الذي تأتي فيه الكماة (2) والنور وهو ربيع الكلأ والربيع الثاني هو الفصل الذي تدرك فيه

ص:167


1- (1) قوله «العلم والحكمة» بل هو منبع العلوم غيره ومنه أخذ سائر العلماء والحكماء تفاصيل علومهم، خص الكلام والحكمة بالذكر مع أن سائر العلوم الشرعية كالفقه أيضا مأخؤذة منه لأهمية هذين العلمين، والدليل الظاهر على حكمة الرسول (صلى الله عليه وآله) أن المسلمين بعد أن نقلوا علوم الامم إلى العربية ومن علومهم المنقولة كتب في الأخلاق والسياسات والقوانين وما يعرف بالحكمة العملية وقايسوا بين مستنبطات أفكار اليونانيين فيها وما وصل إليهم من صاحب الشريعة وجدوا تفوق الثاني وفضله عليها جميعا فتركوها واكتفوا بما وصل إليهم من الشرع كما تركوا آدابهم وخطابتهم لتفوق آداب العرب وخطابة علماء المذهب واكتفوا من علوم الامم بالطبيعيات في الإلهيات والطب والرياضيات مما لم يبعث الأنبياء لبيانها، ووجدوا ما وصل إليهم من صاحب الشريعة في الإلهيات والمعاد موافقا أو غير مخالف لأشهر حكماء الأوائل وأعاظم فلاسفتهم الإلهيين ومخالفا للماديين الظاهريين منهم وأيضا مخالفا لقول اليهود والنصارى فأعجبهم ذلك وجعلوا ذلك دليلا على صدق الرسول في دعواه لأن الوحي من جانب الله العالم بكل شيء لا يكون مخالفا للواقع المعلوم بالعقل وكان اليهود معتقدين لتجسم الباري تعالى وأنه يرى بالبصر وكانوا يصفون الملائكة بصفات المادة كالأكل والشرب، وقالوا: أكل ضيف إبراهيم من العجل الحنيذ دليلا على أنهم ما كانوا عرفوا المجردات والفرق بينهما وبين الماديات والنصارى كانوا قائلين بالتثليث وتجسم الواجب بصورة الإنسان، وأما حكماء اليونان أعني الإلهيين منهم فكان مذهبهم المؤيد بالأدلة العقلية موافقا لما ورد عن صاحب الشريعة الإسلامية في التوحيد والمجردات وبقاء النفوس وهذه معجزة عظيمة. (ش)
2- (1) قوله «تأتي فيه الكماة» الكمأة شيء يحدث في الأرض المرطوبة من جنس الفطر ويقال له بالفارسية دنبلان، وأعلم أن الربيع يطلق في لغة العرب على فصل المطر والخصب وقد يسمون ربيعنا صيفا والصيف قيظا والربيع عند بعضهم هو الخريف وكانوا غالبا مقتصرين في الفصول على شهرين، وأشار بهذا الكلام إلى أنه بعثة رسولنا (صلى الله عليه وآله) كانت بمنزلة الربيع بعد الشتاء والخصب بعد الجدب فقد أحيى العرب حياة لا موت لها كما مات الكلدانيون والآشوريون والبابليون ونسخ لغة الإغريق من مدارس العالم وبدلها باللغة العربية وغير مجرى الحوادث وأزال الحكومات الوثنية المستبدة وأقام رسوم العدل باحترام الحقوق الشخصية في الأموال والدماء والأعراض، وجعل من أفراد البشر إنسانا إذ لم يكونوا في دولة الروم والفرس إلا جمادات لا إرادة لها إلا أن يأمرهم أمراؤهم بشيء فيطيعوهم وما كانوا يجهدون ويسعون ويتفكرون ويعقلون ويشعرون إلا بأذن ملوكهم، وكان بيد الأمراء اختيار حياة الرعايا وقتلتهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم ومعلوم أن الإنسان المسلوب الإرادة لا يكون انسانا فنجاهم الله تعالى بظهور الإسلام وغلبته على الدول الوثنية من ظلم الولاة فنشطوا للعلوم والصنائع وتحصيل المعارف وعرفوا أن أفراد الإنسان متساوون وأن أكرمهم عند الله أتقاهم، وأن الطبقات الأربع المتداولة بينهم باطلة وغير ذلك. وبالجملة تغير وجه العالم عما كان وتهلل بعد لعبوس حتى أن نصارى عهدنا يعدون الامة العربية الركن الثاني للتمدن للعالم البشري واليونان الركن الأول وهذا معنى قول الصادق (عليه السلام): «ربيعا للبلاد»، وأعلم أن في هذا الحديث الشريف الذي يظن صدوره من المعصوم علما كثيرا لا نقدر على ذكر جميع ما خطر بالبال منه لضيق المجال، وما يستفاد منه مؤيد بالحس والاستقراء وتتبع المذاهب والأديان وللإسلام اصول وقواعد مستقلة متأصلة مباينة لأصول غيره. أما المذاهب الوثنية المبنية على أصالة المادة وأمثالها فواضحة، وأما مذهب النصارى فلبنائه على التثليث، وحلول الواجب في موجود جسماني وتخمر طينة الإنسان على الخباثة، وتطهيره بصلب المسيح وأمور غير معقولة أمثال ذلك، وأما اليهود فلبنائه على التجسم ثم على عدم عناية الله تعالى بخلقه غير أولاد يعقوب وأنه تركهم وما يعملون ولم يرسل إليهم نبيا ولا شريعة ولا يشك ذو مسكة أن الحق من بين هذه الآراء هو الإسلام وان لم يكن له دليل ومعجزة غير فضله على مذاهب أهل العالم لكفى. (ش)

الثمار، ويجوز إرادة كل واحد من هذة المعاني هاهنا على سبيل التشبيه لاريتاح قلوب الخلق وميلهم إليه وانتفاعهم منه وخروجهم من الضيق ورفاهيتهم في التعيش وهدايتهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم.

قوله (فيه البيان والتبيان) حال عن الكتاب والتبيان أخص من البيان وأبلغ منه لأنه بيان للشيء مع دليل وبرهان أو يراد بالتبيان تبيان المعارف الإلهية الأسرار اللاهوتية وبالبيان بيان الأحكام الشرعية والقوانين العملية وتقديم الظرف إما لقصد الحصر أو القرب المرجع أو للاهتمام واشتمالة على ضمير الكتاب أو لربط الحال على ذي الحال ابتداء.

قوله (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) قرآنا حال بعد حال عن الكتاب لتأكيد اشتماله على كل شيء وعربيا صفة مخصصة أو مادحة واشتماله على غير العربي نادرا لا يضر في عربيته، وغير ذي عوج أي لا اختلاف فيه أو لا شك صفة بعد صفة للمدح ولعلهم يتقون علة غائبة للإنذار

ص:168

ولم يذكر متعلق يتقون لقصد التعميم أو الاختصار أو التحرز عن توهم التخصيص.

قوله (قد بينه للناس) إما حال ثالثة للكتاب أو استئناف كأنه قيل: ما فعل به بعد إنزاله فأجاب بأنه قد بينه للناس. وفيه دلالة على أن الناس يحتاجون في فهم ما فيه من أمر المبدأ والمعاد وغيرهما إلى مبين والروايات الدالة على ذلك كثيرة بل متواترة معنى والعقل الصحيح شاهد له فبطل قوله من قال بأن الإمام بعد النبي هو القرآن للتخلص عن الموتة الجاهلية التي رووها عنه (صلى الله عليه وآله) «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ولم ينفعهم البيان النبوي لاتفاقهم على أنه لم يعلم أحد من الامة جميع ما فيه.

قوله (ونهجه) أي أوضحه من نهجت الطريق إذا أوضحته وهو عطف على «بينه» ولعل الأول متعلق ببيان مدلولاته الظاهرة والباطنة والثاني بايضاح دلائلها وبماديها ويحتمل تعلق الأول بالمدلولات الظاهرة والثاني بالمدلولات الباطنة.

قوله (يعلم قد فصله - إلى قوله وأعلنها لعل القرائن الأربع أحوال متعاقبة للقرآن أي حال كون متلبسا بعلم، من التفسير والتأويل والمجمل والمفصل والمحكم والمتشابه والعام والخاص قد فصله، وبدين من الشرائع والاحكام والمعارف قد أوضحه، وبفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها قد أوجبها ولم يرخص لهم تركها، وبحدود في الجروح والقصاص ونحوها حدها للناس وبينها، وبأمور من العبر والأمثال وغيرها قد كشفها لخلقه وأعلنها، وقوله «لخلقه» متعلق بالأخير أو بالأفعال الأربعة على سبيل التنازع وإنما قلنا: لعل، لاحتمال أن يكون متعلقا بنهجه على أن يكون نهجه من نهجت الطريق بمعنى سلكته.

قوله (فيها دلالة إلى النجاة) ينبغي الوقف ليتم السجع مع هداه أي في الأمور المذكورة دلالة نجاة العباد من النكال والعقوبة وخلاصهم من الوبال والصعوبة.

قوله (ومعالم تدعو إلى هداه) المعالم مواضع العلوم ومحلها وهي بالرفع عطف على دلالة وبالجر عطف على النجاة، وتدعو صفة لها، والهدى خلاف الضلالة، والضمير المجرور لله أو للرسول (صلى الله عليه وآله) أو للكتاب، والإضافة على جميع التقادير من باب إضافة المصدر إلى الفاعل ومفعول تدعو محذوف وهو العباد، وقيل الهدى بمعنى ما يهتدى به وهو الله أو الرسول أو الكتاب والإضافة على التقدير الأول لامية وعلى الأخيرين بيانية.

قوله (ما أرسل به) من الأوامر والنواهي وغيرها.

قوله (وصدع بما أمر) أي أجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أظهره من صدعه إذا ظهره وبينه أو فرق به بين الحق والباطل من صدعه إذا شقه على سبيل الاستعارة والتشبيه لزيادة 169

المبالغة والايضاح و «ما» مصدرية أو موصوفة أو موصولة والعائد محذوف أي بما أمر به والباء على الأخيرين زائدة أو للتعدية على طريق التجوز.

قوله (وأدى ما حمل من أثقال النبوة) الأثقال جمع ثقل بالكسر وهو ضد الخفة أو جمع ثقل بالتحريك وهو متاع البيت، وأراد به هنا ما أتى به الوحي على سبيل الاستعارة وقد أدى كله إلى وصية أمير المؤمنين (عليه السلام).

قوله (وصبر لربه) أي صبر على تحمل ما حمل وتبليغه وأدى المعاندين وطعن الطاعنين لرضاء ربه وامتثال أمره.

قوله (وجاهد في سبيله) الذي هو دين الحق وطريق التوحيد مع قلة عدده وكثرة عدوه ومجاهداته مع الأعداء مشهورة وفي الآثار وكتب السير مسطورة.

قوله (ونصح لامته) النصح الخلوص والمراد به إرشادهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وعونهم عليه والذب عنهم وعن أعراضهم.

قوله (ودعاهم إلى النجاة) أي دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى ما فيه نجاتهم من العقوبات والشدائد.

قوله (وحثهم على الذكر) أي على ذكر الله تعالى في جميع الأحوال بالقلب واللسان والمراد بالذكر كل ما يوجب التقرب منه تعالى.

قوله (ودلهم على سبيل الهدى بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها) لعل المراد بسبيل الهدى الدين الحق بالمناهج وهي الطرق الواضحة الأوصياء وبالدواعي المناهج التي تدعو إلى سبيل الهدى وبتأسيس أساس هذه المناهج والدواعي وضعها وتعيينها وأحكامها، ويحتمل أن يراد بالدواعي الأدلة الدالة على خلافة الأوصياء وأن يراد بسبيل الهدى والأوصياء وبالمناهج والدواعي الأدلة على خلافتهم.

قوله (ومنار رفع لهم أعلامها) المنار جمع منارة على غير القياس وأصلها منورة وهي موضع النور ومحله واستعير للأوصياء (عليهم السلام) لأنهم محال أنوار عقلية يستنير بها قلوب العارفين كما أن المشبه به محال أنوار حسية بها يبصر الأشياء أبصار الناظرين ورفع أعلامها عبارة عن نصب أدلة دالة على خلافتهم وإمامتهم.

قوله (كيلا يضلوا) علة غائية لما ذكر أي دلهم على سبيل الهدى إلى آخره كيلا يضلوا عن الدين من بعده إلى يوم القيامة والتمسك بذيل الهادي والإمام العادل والاهتداء بهداه.

قوله (وكان بهم رؤوفا رحيما) الواو للعطف على الأفعال السابقة أو للحال عن المستكن فيها أو

ص:170

عن البارز في «يضلوا».

* الأصل:

124 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن جماعة من أصحابنا، عن أحمد بن هلال، عن أمية ابن علي القيسي قال: حدثني درست بن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول (عليه السلام): أكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا بأبي طالب؟ فقال: لا ولكنه كان مستودعا للوصايا فدفعها إليه (صلى الله عليه وآله) قال: قلت:

فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال: لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية، قال: فقلت:

فما كان حال أبي طالب؟ قال: أقر بالنبي وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه.

* الشرح:

قوله (سأل أبا الحسن الأول) سأل هل كان أبو طالب حجة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو محجوج به فقال (عليه السلام): لا، أي لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا بأبي طالب ولما زاد في الجواب أن أبا طالب كان مستودعا للوصايا ودفعها إليه، ولعل المراد بها وصايا عيسى (عليه السلام) (1) أو غيره، تمسك به السائل وقال ما قال وحاصله أن أبا طالب إن كان من أهل الوصية ودفعها إليه كان حجة عليه وكان (صلى الله عليه وآله) «محجوجا به فقال (عليه السلام)» «لو كان» أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا به وكان أبو طالب حجة عليه ما دفع اليه الوصية لأن الوصية مع الحجة ما دام حيا ثم سأل بقوله: فما كان حال أبي طالب، يعني إذا لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) محجوجا به فهل كان محجوجا برسول الله وآمن به؟ فأجاب (عليه السلام) بأنه كان محجوجا بالنبي وأقر به وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه، لا يقال دفع الوصية في يوم الموت لا ينافي كون الدافع حجة على المدفوع إليه بل يجمعه كما في الأئمة (عليهم السلام) فلا يتم ما مر من أنه لو كان محجوجا به ما دفع إليه الوصية لأنا نقول: موته في يوم الدفع لا يستلزم مقارنة الموت

ص:171


1- (1) قوله «وصايا عيسى (عليه السلام)» لم يرو في السير والتواريخ شيء يدل على كون أبي طالب نصرانيا ولم يحتمله أحد ممن يعتد بقوله، ولو كان كذلك لكان النبي (صلى الله عليه وآله) متهما بأنه أخذ العلم بالتوراة والإنجيل والشرائع السابقة وأخبار النبيين من عمه أبي طالب لأنه كان في حضانته وتربيته منذ صباه مدة ثلاثين سنة بل أربعين والنصارى يقرؤون التوراة وكتب الأنبياء السابقين ولا يتركونها نظير ترك المسلمين، ولكن لم يدع أحد من المنكرين من معاصرين (صلى الله عليه وآله) فيه ولا في أبي طالب شيئا يوهم ذلك، ولا ريب في ضعف هذه الرواية لأن أحمد بن هلال غال كذاب، وأمية بن قيس الذي روى عنه أحمد أيضا ضعيف متصف بالكذب ورد الخبر أولى من التكلف في تأويله صونا لحجة النبي (صلى الله عليه وآله) عن الوهن إذ لا يستغرب ممن نشأ في بيت نصراني عنده كتب عيسى ووصاياه أن يكون عالما بتواريخهم وقصصهم، وقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) يخالفه نعوذ بالله من الضلال. (ش).

للدفع لجواز وقوع الدفع في أوله والموت في آخره فلا يكون الدافع حجة على المدفوع إليه لأن الحجة لا يبقى بعد دفع الوصية زمانا طويلا ولا قصيرا، على أن الواو لمطلق الجمع فعلى هذا يجوز أن يكون المراد أنه دفع إليه الوصية وآمن به باطنا ثم أقر به ومات من يوم الإقرار فليتأمل.

* الأصل:

125 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن منصور بن العباس، عن علي بن أسباط، عن يعقوب بن سالم، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنوا أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتر الأقربين والأبعدين في الله (1)، فبيناهم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة ونجاة من كل هلكة ودركا لما فات (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) إن الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه وجعلكم تابوت علمه، وعصا عزه وضرب لكم مثلا من نوره وعصمكم من الزلل وآمنكم من الفتن، فتعزوا بعزاء الله، فإن الله لم ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة واجتمعت الفرقة وائتلفت الكلمة وأنتم أولياؤه، فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق، مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين، ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير فاصبروا لعواقب الامور، فانها إلى الله تصير، قد قبلكم الله من نبيه وديعة واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض فمن أدى أمانته آتاه الله صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودة الواجبة والطاعة المفروضة وقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أكمل لكم الدين وبين لكم سبيل المخرج، فلم يترك لجاهل حجة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه، والله من وراء حوائجكم، وأستودكم الله، والسلام عليكم.

فسألت أبا جعفر (عليه السلام) ممن أتاهم التعزية، فقال: من الله تبارك وتعالى.

* الشرح:

قوله (بات آل محمد (صلى الله عليه وآله) بأطول ليلة) لسهرهم وشدة حزنهم والحزين يصف الليل بالطول.

قوله (أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم) أظله إذا ألقى الظل عليه وأقله إذا حمله ورفعه وذلك لما وقع عليهم من تلك المصيبة وما وصل إليهم من هذه الامة والنفي راجع إلى القيد أو إلى المقيد أو إليهما جميعا.

ص:172


1- (1) يعني أنه (صلى الله عليه وآله) قتل منهم فأرادوا الانتقام من أهل بيته (ش).

قوله (وتر الأقربين والأبعدين) الوتر الذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو طلب المكافاة بجناية جنيت على الرجل من قتل أو جرح أو نحو ذلك والحمل للمبالغة، والمقصود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان طالب الجنايات للأقارب والأباعد ودافع الجور والظلم عنهم وحافظ حقوقهم، وفي ذكر الأبعدين تنبيه على أن ذلك كان من كمال عدله وانصافه شفقة لخلق الله لا على التصعب كما هو شأن أكثر الخلق.

قوله (فبينما هم) في بعض النسخ «فبيناهم» وهما ظرفان مضافان إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وخفض المفرد بهما قليل وبينما في الأصل بين التي هي ظرف مكان أشبعت فيها الحكرة فصارت بينا وزيدت الميم فصارت بينما ولما فيهما من معنى الشرط يفتقران إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما عند الأصمعي أن تصحبهما (إذ) و (إذا) الفجائيتان والأفصح عند غيره أن يجرد عنهما.

قوله (إذ أتاهم آت) روى الصدوق في كتاب كمال الدين بإسناده عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أن الرجل الآتي كان الخضر (عليه السلام).

قوله (إن في الله عزاء من كل مصيبة) العزاء الصبر، والهلكة والهلك بالتحريك الهلاك وبالضم والسكون ما يهلك منه أي بسببه من الذنوب الموجبة للنار، والدرك والإدراك اللحوق والوصول إلى الشيء تقول: أدرك الفائت إدراكا ودركا إذا وصلت إليه وتلاقيته، ولعل المراد أن في سبيل الله ودينه أو في طلب رضا الحق هذه الأمور، وفيه ترغيب في التوسل به لأنه أصل لجميع الخيرات.

قوله (كل نفس ذائقة الموت) فيه مكنية وتخييلية بتشبيه الموت بالمأكول والمشروب ونسبة الذوق إليه وليس الغرض هنا إفادة الحكم أو لازمة لعلم المخاطبين بهما وإنما الغرض حملهم على العمل بمقتضى علمهم وهو التصبر بتلك المصيبة لأن المصيبة إذا عمت طابت مع ما فيه من الوعد لهم والوعيد لمن ظلمهم.

قوله (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) أي إنما تعطون جزاء عملكم وهو الصبر في تلك المصيبة أو مطلقا تاما وافيا يوم تقومون من القبور وفيه أيضا وعد لهم بالإحسان والإكرام ووعيد لمن خالفهم بالإذلال والانتقام كما في قوله (فمن زحزح عن النار) أي بعد عنها (وادخل الجنة فقد فاز) أي فقد فاز بنيل الجنة ودرجاتها والنجاة من النار ودركاتها. روي علي بن إبراهيم عند تفسير هذه الآية بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديثا طويلا دل على أن قوله تعالى: (فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز) نزل في محمد وعلي والحسن والحسين والأئمة من ذرية الحسين (عليهم السلام)

ص:173

وشيعتهم.

قوله (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحياة الدنيا إما معناها المعروفة أو لذات الدنيا وزخارفها وأسبابها، والمتاع بالفتح السلعة وما يتمتع به والمنفعة، والغرور بالضم إما مصدر بمعنى الخدع يقول: غره يغره غرورا إذا خدعه، أو جمع غار أو ما اغتر به من متاع الدنيا، والإضافة على الأولين لامية وعلى الأخير بيانية وقد شبه متاع الحياة الدنيا بالمتاع الذي يدلس صاحبه على المشتري ويغره ويخفي عليه عيبه ليشتريه، وفيه تسلية لهم على فوات ما أحبوه من حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وزوال ما قرر لهم من الملك والخلافة بغصب الأعداء.

قوله (إن الله اختاركم) لما ذكر أحوال الدنيا ومجملة وعدم اعتبارها ذكر جملة من فضائلهم التي لا يوازيها شيء تبشيرا لهم بالكرامة وتذكيرا لهم بأن ما آتاهم الله خير مما فات منهم وإنما ترك العطف لعدم التناسب بينهما.

قوله (وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه) كما قال جل شأنه: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

قوله (واستودعكم علمه) أي جعلكم حفظة لعلمه الذي أنزله من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء تقول. استودعته وديعة إذا استحفظته إياها.

قوله (وجعلكم تابوت علمه) التابوت الصندوق الذي يحرز فيه المتاع، قال الجوهري: أصله تابوة مثل ترقوة وهو فعلوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيت تاء.

قوله (وعصا عزه) العز والعزة القوة والغلبة ومنه العزيز في أسمائه تعالى وهو القوي الغالب الذي لا يغلب، وجعلهم عصا عزه كناية عن ظهور عزه تعالى في الخلق وقيامه بهم كقيام الرجل بالعصا إذ لو لم يكونوا لم يعرفه الخلق أصلا فضلا عن معرفته بأنه عزيز.

قوله (وضرب لكم مثلا من نوره) إشارة إلى آية النور وهي (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية وقد مر شرحها.

قوله (وعصمكم من الزلل) العصمة المنعة والزلل الزلقة، والمراد به هنا الذنب والخطأ يعنى منعكم الله من الذنب والخطأ في العقائد والأقوال والأعمال وفيه دلالة على أن العصمة موهبية لا كسبية كما ظن.

قوله (وآمنكم من الفتن) أي من الضلالة أو من الإثم والكفر والصرف عن الحق أو من فتنة النفس والشيطان وفتنة المحيا والممات وفتنة القبور وغيرها والتعميم أولى.

قوله (فتعزوا بعزاء الله) الفاء للتفريع لأن ما تقدم موجب لتعزيهم بعزاء الله والتعزي الانتساب

ص:174

والتأسي والتصبر عند المصيبة والترجيع وهو قول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» عندها كما أمر الله تعالى به وعزاء الله صبره الذي أمر به في مواضع من الكتاب أو تعزية الله إياهم بإقامة الاسم مقام المصدر والاحتمالات ثمانية حاصلة من ضرب الأربعة في الاثنين فتأمل فيها واتبع أحسنها.

قوله (فأنتم أهل الله عز وجل) أهل الله من كان حركاته وسكناته لله تعالى وموافقة لرضاه وقوله «الذين بهم تمت النعمة» أي نعمة الله على الخلق إما خبر بعد خبر أو صفة موضحة لأهل الله وهو إشارة إلى ما نزل يوم نصب علي (عليه السلام) للخلافة من قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

قوله (واجتمعت الفرقة) الفرقة بالضم الإسلام من المفارقة وفي إسناد الاجتماع إليها مبالغة في تبدل المفارقة بالجمعية ولو قرئت بالكسر واريد بها جنس الطائفة الشامل للطوائف المتفرقة لم يكن بعيدا.

قوله (وائتلفت الكلمة) الائتلاف والتألف مطاوع التأليف تقول ألفت بين الأشياء تأليفا فتألفت وائتلفت والمقصود أن بسبب تأليفهم بين العرب وغيرهم من الطوائف المختلفة في الآراء والعقائد والأعمال ائتلفت كلمتهم فيها.

قوله (وأنتم أولياؤه) أي أنصاره أو أحباؤه والأولى بالتصرف في أمور خلقه والمالك له.

قوله (مودتكم من الله واجبة في كتابه) كما قال جل شأنه مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله): (قل لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى) والقربى أهل البيت (عليهم السلام).

قوله (ثم الله على نصركم إذا يشاء قدير) لا يبعد أن يكون المراد وما وعدهم الله ورسوله من نصر الصاحب المنتظر (عليه السلام).

قوله (فاصبروا لعواقب الأمور) لعل المراد بها ما وعد الله للصابرين أو الأعم منه ومما وعد من نصرة الصاحب (عليه السلام) أو الأعم منهما ومن الوعيد للمخالفين فيشمل الوعد والوعيد جميعا ويؤيده قوله: (فإنها إلى الله تصير) إذ فيه وعد ووعيد يعني أن الأمور أو عواقبها تصير إلى الله لا إلى غيره فيجزي كل أحد بما يستحقه.

قوله (قد قبلكم الله - إلى قوله - في الأرض) فأهل البيت وديعة النبي عند الله والأولياء المؤمنون وديعة الله عند أهل البيت فحفظ الأولياء عليهم وعلى الله كما أن حفظهم على الله وعلى الأولياء إذ لا يجوز لأحد ضياع وديعة الغير، ويفهم منه أن حفظ هذه الودايع ورعاية حقوق الإخوان من أفضل الأعمال وأكمل أركان الإيمان وقيد «في الأرض» إما لاستغراق الأولياء وزيادة تعميمه أو

ص:175

للإشعار بأن الدنيا هي دار الفساد فيحتاجون إلى معتمد يحفظهم عن فساد أهلها وأما الآخرة فهي دار الأمن لهم فلا يتطرق إليهم الفساد ولا يصل إليهم أيد الجور والعناد، وهذا الذي ذكرنا من أن الأولياء وديعة الله عند الأئمة هو الأظهر بالنظر إلى هذه العبارة، وأما العكس فهو الأنسب بظاهر قوله «فمن أدى أمانته أتاه الله صدقه» إذ الظاهر أن الضمير في أمانته راجع إلى «من» وأن الأمانة هي الوديعة التي استودعه الله إياها وأنه إذا أداها كما هي من غير تغلب وتقصير أعطاه الله جزاء صدقه من المثوبات الجزيلة والدرجات العالية، وانما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يعود الضمير إلى الله أو إلى النبي، وأن يراد بالأمانة الوديعة التي قبلها الله تعالى من نبيه، وبأدائها الاعتراف بأنها وديعة النبي عند الله والإقرار بحقوقها وعدم قطعها من الله، والله أعلم.

قوله (وبين لكم سبيل المخرج) أي سبيل الخروج من الباطل إلى الحق أو من الدنيا إلى الآخرة) أو من الجور إلى العدل أو من الشر إلى الخير أو من الفساد إلى الصلاح أو من العكس في الجميع، وبالجملة بين كل ماله مدخل في الدخول في الدين والخروج عنه.

قوله (والله من وراء حوائجكم) الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى خلف وقدام من الأضداد، وهذا الكلام تمثيل والمعنى أنه تعالى يعلم حوائجكم فيقضيها كمن يكون وراء الشيء مهيمنا لديه ومحافظا عليه.

قوله (واستودعكم الله) الظاهر أن استودع بفتح الهمزة على صيغة المتكلم أي أجعلكم وديعة عند الله واستحفظه إياكم.

* الأصل:

126 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن إسماعيل بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا رئي في الليلة الظلماء رئي له نور كأنه شقة قمر.

* الشرح:

قوله (كأنه شقة قمر) من طريق العامة أن نور وجهه يرى على الحائط في الليل. الشق بالكسر نصف الشيء وكذا الشقة والظاهر منها نصف جرم القمر ويجوز أن يراد منها نفس القمر في وسط الشهر أعني البدر الكامل نوره فعلى الأول شبه كلا من نصفي الوجه بنصف القمر وعلى الثاني شبه وجهه في النور والإضاءة في البدر الكامل، واعلم أن تشبيه الشيء بالشيء إنما يكون فيما اختص واشتهر به الشيء المشبه به مع القصد إليه، فتشبيه الوجه بالقمر إنما يكون في النور والإضاءة لا في

ص:176

جميع أوصافه فقد أخطأ من عاب هذا التشبيه باعتبار أن في القمر الكلف.

* الأصل:

127 - أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبيد الله، عن أبي عبد الله الحسين الصغير، عن محمد ابن إبراهيم الجعفري، عن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ومحمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن فضال، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب - وفي رواية ابن فضال - وفاطمة بنت أسد.

* الشرح:

قوله (فالصلب صلب أبيك) ذهبت الفرقة الناجية رضي الله عنهم إلى أن أبوي النبي (صلى الله عليه وآله) لم يدنسهما الكفر ولا صفات الجاهلية وأن أبا طالب آمن به والروايات على ذلك متظافرة، وذهب المخالفون خذلهم الله إلى أن أبا طالب مات في الكفر وأما أبواه فقال بعضهم: إنهما ماتا كافرين وإنهما معذبان في النار واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم من أنه (عليه السلام) قال لرجل حين سأله عن حال أبيه وأين هو: إن أبي وأباك في النار.

وقال السهيلي: ليس لنا أن نقول ذلك وقد قال ذلك لحسن خلقه تسلية لذلك الرجل وبما رواه أبو هريرة قال: «زار النبي (صلى الله عليه وآله) امه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي وأستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت». قال القاضي القرطبي: في هذا الحديث دلالة على جواز زيارة المشركين في الحياة لأنه إذا جازت زيارته بعد الموت ففي الحياة أولى وعلى تحريم الاستغفار للكفار، وأما بكاؤه فلأجل أنها لم تدرك أيامه لتؤمن به، وقال بعضهم: إنهما ماتا كافرين ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) سأل الله تعالى فأحياهما فآمنا به وإنما ذكرنا مقالتهم مجملا لتعلم سوء عقائدهم والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

* الأصل:

128 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة امة وحده، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك.

ص:177

* الشرح:

قوله (قال يحشر عبد المطلب يوم القيامة امة وحده) (1) الامة الرجل المنفرد بدين كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان امة (2) قانتا لله) والمقصود أنه إذا حشر الناس فوجا فوجا وامة امة حشر عبد المطلب وحده لأنه كان منفردا في زمانه بدين الحق ولرعاية حق النبي (صلى الله عليه وآله)، والسيماء بالمد والقصر العلامة، والأصل فيها الواو فقلبت الكسرة السين، والهيبة المهابة وهي العظمة والإجلال والمخافة.

* الأصل:

129 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن الهيثم بن واقد، عن مقرون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عبد المطلب أول من قال بالبداء; يبعث يوم القيامة أمة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء.

* الشرح:

قوله (قال إن عبد المطلب أول من قال بالبداء) أي أول من قال بهذا اللفظ أو أول من قال من أولاد إسماعيل، أو أول من قال من غير الأنبياء والأوصياء، فلا ينافي ما مر عن أبي عبد الله (عليه السلام) من أنه ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس وعد منها البداء وقد عرفت معنى البداء وفضله في بابه.

* الأصل:

130 - بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن عبد الرحمن ابن الحجاج [و] عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء وذلك أنه أول من قال بالبداء، قال:

وكان عبد المطلب أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رعاته في إبل قد ندت له، فجمعها فأبطأ عليه فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: «يارب أتهلك؟ ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك» فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالإبل وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه وجعل يصيح: «يا رب أتهلك ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك» ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذه فقبله وقال: يا بني لا وجهتك بعد هذا

ص:178


1- (1) قوله «امة وحده» هذا ثالث الروايات الصحيحة في هذا الباب وقلنا: إن فيه أربعين رواية منها أربع صحيحة، وسر كون عبد المطلب امة وحده أنه كان موحدا ولم يكن يهوديا حتى يحشر في امة موسى ولا نصرانيا حتى يحشر في امة عيسى (عليهما السلام) ولم يدرك الإسلام فيحشر في المسلمين فيحشر امة وحده، ولا يعذب في النار بعدم تبعية دين موسى وعيسى (عليهم السلام) لكونه معذورا، وكذلك كل من مات في الجاهلية ولم يؤمن بعيسى (عليه السلام) لشبهة أو غفلة وعدم التفات، جل جناب الحق عن الظلم وعذاب الغافل وروي الحشر امة واحدة في حق كثير منهم قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل. (ش)
2- (2) كقدوة أي إماما يقتدى به.

في شيء فإني أخاف أن تغتال فتقتل.

* الشرح:

قوله (في إبل قد ندت له) أي في إبل له قد ندت أي نفرت وذهبت على وجهها شاردة.

قوله (يا رب أتهلك ألك إن تفعل فأمر ما بدا لك) الاستفهام في المواضع الثلاثة على حقيقته أو للإنكار ومفعول تهلك محذوف أي أتهلك محمدا أو عبادك لعلمه بأن ابنه محمدا سيبعث رسولا عليهم هاديا لهم فيكون إهلاكه إهلاكهم، ألك، أن تفعل هذا الفعل المخصوص وهو إهلاكه أو إهلاكهم فأمر ما أي إذ أمر من الأمور وسبب من الأسباب بدا لك في إهلاكه وإهلاكهم بعد ما قدرت رسالته وهدايتهم، ومنهم من قرأ آلك بمد الألف على أنه مفعول تهلك وآل الله وأهل الله من كان لله وآثر رضاه على رضا نفسه، وقرئ «إن تفعل» بكسر الهمزة على الشرط وجعل فأمر على صيغة الأمر جزاه وقال: معناه إن تفعل فامر ما بدا لك، يعني فأهلكني قبل أهلاكه أو فامر ما بدا لك في عدم إهلاكه فليتأمل.

قوله (فإني أخاف أن تغتال فتقتل) الاغتيال أن يخدعه ويذهب به إلى موضع لا يراه فيه أحد فيقتله، وإنما خاف ذلك لظهور أثر النجابة والجلالة والعظمة والمجد فيه عند الحاسدين.

* الأصل:

131 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما أن وجه صاحب الحبشة بالخيل ومعه الفيل ليهدم البيت، مروا بإبل لعبد المطلب فساقوها فبلغ ذلك عبد المطلب فأتى صاحب الحبشة فدخل الآذن، فقال: هذا عبد المطلب بن هاشم قال: وما يشاء؟ قال الترجمان: جاء في إبل له ساقوها يسألك ردها فقال: ملك الحبشة لأصحابه: هذا رئيس قوم وزعيمهم، جئت إلى بيته الذي يعبده لأهدمه وهو يسألني إطلاق إبله، أما لو سألني الإمساك عن هدمه لفعلت، ردوا عليه إبله، فقال عبد المطلب لترجمانه: ما قال لك الملك؟ فأخبره فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه، فردت إليه إبله وانصرف عبد المطلب نحو منزله، فمر بالفيل في منصرفه; فقال للفيل: يا محمود فحرك الفيل رأسه، فقال له: أتدري لم جاؤوا بك؟ فقال الفيل برأسه: لا، فقال عبد المطلب: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتراك فاعل ذلك؟ فقال برأسه: لا، فإنصرف عبد المطلب إلى منزله فلما أصبحوا غدوا به لدخول الحرم فأبى وامتنع عليهم، فقال عبد المطلب لبعض مواليه عند ذلك: اعل الجبل فانظر ترى شيئا؟ فقال: أرى سوادا من قبل

ص:179

البحر، فقال له: يصيبه بصرك أجمع؟ فقال له: لا ولأوشك أن يصيب، فلما أن قرب، قال: هو طير كثير ولا أعرفه يحمل كل طير في منقاره حصاة مثل حصاة الخذف أو دون حصاة الخذف، فقال عبد المطلب: ورب عبد المطلب ما تريد إلا القوم، حتى لما صارت فوق رؤوسهم أجمع ألقت الحصاة فوقعت كل حصاة على هامة رجل فخرجت من دبره فقتلته فما انفلت منهم إلا رجل واحد يخبر الناس، فلما أن أخبرهم ألقت عليه حصاة فقتلته.

* الشرح:

قوله (لما أن وجه صاحب الحبشة) وجه ملك الحبشة أبرهة بن الصباح ملك اليمن وكان تابعا لملك الحبشة ليهدم الكعبة الكعبة بالخيل والأفيال وكان فيها فيل عظيم جسيم أبيض اسمه محمود سموه به لأن الفتح والظفر كان لعسكر هو فيه وسبب ذلك أن أبرهة بنى في الصنعاء كنيسة في غاية الرفعة ونهاية الزينة وأمر الخلق بزيارتها وقصد هدم الكعبة وتخريبها لترويج كنيسته فأرسل إلى ملك الحبشة وأظهر قصده وطلب منه الإمداد بالخيل والأفيال فأجابه فسار مع العساكر والأفيال إلى الحجاز ونهب الأموال وساق المواشي ومن جملة ما ساق إبل عبد المطلب وكانت مائتين على ما نقله أرباب السير وأرسل إلى قريش وأخبرهم بأنه ما جاء ليحاربوهم ويقتلوهم وإنما جاء لهدم الكعبة فقط.

قوله (قال الترجمان) هو من يفسر لكلام أحد بلسان آخر.

قوله (وزعيمهم) زعيم القوم كفيلهم وسيدهم.

قوله (فلما أصبحوا غدوا به) أي بمحمود وقدموه على سائر الأفيال في المقدمة وسار العساكر خلفها، ولما بلغ محمود حد الحرم وقف وأبى من الدخول فيه وامتنع على سائقه ولم يؤثر فيه جلبته ووقف العساكر خلفه صفوفا وحينئذ وقعت الواقعة.

قوله (ولا أعرفه) أي لا أعرف أنه أي نوع من أنواع الطيور.

قوله (مثل حصاة الخذف) في المقدار والصغر والخذف أي ترمى بحصاة أو نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك، وقيل أن يضع طرف الابهام على طرف السبابة، وفعله من باب ضرب.

قوله (فخرجت من دبره) ومن كان راكبا خرجت من سرة مركوبه أيضا فقتلت الجميع ولم ينفلت إلا محمود ورجل واحد يخبر الناس وهو أبرهة فإنه فر ودخل على ملك الحبشة وقص عليه القصة وتعجب منها الملك فإذا طير من تلك الطيور كان يطير فوق رأسه فقال أيها الملك كانت الطيور من جنس هذا الطير فألقى الطير ما كان معه من الحصاة فوقعت على رأسه وخرجت من دبره

ص:180

فقتله.

* الأصل:

132 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن رفاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عبد المطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره وكان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه، فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه، فقال له عبد المطلب: دع ابني فإن الملك قد أتاه.

* الشرح:

قوله (بفناء الكعبة) الفناء بالكسر سعة أمام البيوت وقيل ما امتد من جوانبها، والجمع أفنية.

قوله (يدرج) درج يدرج دروجا من باب نصر فهو دارج إذا دب ومشى.

قوله (فإن الملك قد أتاه) الظاهر فتح الميم واللام مع جواز الضم والسكون وأتاه على الأول يحمل على ظاهره وعلى الثاني على خلاف ظاهره بتنزيل ما يقع منزلة الواقع لتحقق وقوعه.

* الأصل:

133 - محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن علي بن المعلى، عن أخيه محمد، عن درست بن أبي منصور، عن علي بن أبي حمزة (1)، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله) مكث أياما ليس له لبن، فألقاه أبو طالب على ثدي نفسه، فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما حتى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه إليها.

* الشرح:

قوله (مكث أياما ليس له لبن) إذا لم يكن لامه لبن ومن طرق العامة قال (عليه السلام) «كنت عجيا» قال الزمخشري في الفايق: العجي هو الذي لا لبن لامه أو ماتت امه وكذلك كان (عليه السلام) يعلل بلبن غيرها.

قوله (على حليمة السعدية) هي حليمة بنت أبي ذويب من قبيلة بني سعد بن بكر بن هوازن.

* الأصل:

134 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين.

* الشرح:

قوله (إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين) مرة لإيمانهم ومرة لتقيتهم، واعلم أن الإيمان كما سيجئ هو التصديق القلبي وحده

ص:181


1- (1) علي بن أبي حمزة كذاب متهم ملعون (صه)

والإقرار باللسان شرط لقبوله أو دليل على تحققه وثبوته، ومنهم من جعل الإيمان مركبا من المجموع وعلى التقديرين يسقط الإقرار عند التعذر بالنطق كما في حال التقية ونحوها، وترك أبي طالب للإقرار إنما هو للتقية فلا نقصان في إيمانه على أن تركه مطلقا غير ثابت بل الظاهر أنه تركه عند الناس لا عند النبي (صلى الله عليه وآله) وحده، ومما ذكرنا ظهر اندفاع ما ذهب إليه بعض العامة من أنه قد ثبت في السير أن أبا طالب كان مصدقا بقلبه وحده والتصديق القلبي مع القول بأنه هو الإيمان وحده لا ينفع لأن الإقرار شرط لقبوله على أن الإقرار لا يجوز تركه مع القدرة اتفاقا وأما إنه شرط لقبول الإيمان فهو محل كلام.

* الأصل:

135 - الحسين بن محمد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) قال: قيل له: إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافرا؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافرا وهو يقول:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب وفي حديث آخر: كيف يكون أبو طالب كافرا وهو يقول:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

* الشرح:

قوله (ألم تعلموا أنا) الخطاب للمنكرين والمقرين جميعا للدعوة والتثبيت أو للمنكرين فقط والاستفهام على حقيقته أو للتقرير والتوبيخ والتشبيه بموسى في أصل النبوة والعزم وكونه صاحب شريعة وشوكة ولا ينافي ذلك فضله عليه، والمراد بكونه مخطوطا في أول الكتب كون اسمه ونعته مذكورا في الكتب المتقدمة وفيه دلالة على أن كل من أنكره أنكره حسدا وعنادا كما يشعر به قوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).

قوله (لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل) هذا البيت وتاليه في قصيدة مشهورة لأبي طالب (رضي الله عنه) عند العامة والخاصة وأكثر أبياتها مذكورة في الطرائف، والعبأ المبالاة بالشيء والاعتناء وإنما قال «ابننا» ولم يقل «محمد» للافتخار به يعني قد علموا والله أن ابننا محمدا غير مكذب لدينا لطلوع أنوار الصدق من مطلع لسانه وظهور ضياء الحق من أفق بيانه، وعلموا أيضا أنه لا يبالي بقول أهل الباطل الذين ينكرون نبوته ويدعون مع الله إلها

ص:182

آخر ولا يعده بشيء إذ لا قدر للباطل ولا أهله عنده.

قوله (وابيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل) البياض أحسن الألوان ولذلك يوصف به كل محسن ويجعل كناية عن الأفعال الحسنة. والغمام السحاب، والثمال بالكسر، الغياث يقال: فلان ثمال قومه أي غياث لهم وقائم بأمرهم، والعصمة المنعة والعاصم المانع الحامي كذا فسره ابن الأثير في النهاية، ثم قال: ومنه شعر أبي طالب «ثمال اليتامى عصمة للأرامل» أي يمنعهم من الحاجة والضياع، والأرامل جمع الأرملة وهي المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة محتاجة، والمراد به أنه (صلى الله عليه وآله) أبيض الوجه وجواد يطلب السحاب ماء بماء وجهه والبواقي ظاهرة.

* الأصل:

136 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا النبي (صلى الله عليه وآله) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملؤوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله فذهب إلى أبي طالب فقال له: يا عم كيف ترى حسبي فيكم؟ فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة: خذ السلى، ثم توجه إلى القوم والنبي معه فأتى قريشا وهم حول الكعبة، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه، ثم قال لحمزة: أمر السلى على سبالهم ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم، ثم التفت أبو طالب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا ابن أخي هذا حسبك فينا.

* الشرح:

قوله (وعليه ثياب له جدد) الجدد بضم الجيم وفتح الدال جمع الجدة وهي الخطة والطريقة قال الله تعالى: «ومن الجبال جدد بيض وحمر» أي طرائق تخالف لون الجبل وكساء مجدد فيه خطوط مختلفة والمقصود أن ثيابه كانت وشاء خلط فيها لون بلون قوله (سلى ناقة) السلى مقصورا الجلدة الرقيقة التي فيها الولد من المواشي، قوله (أمر السلى على سبالهم) السبال بالكسر جمع السبلة بالتحريك وهي الشارب وقيل هي الشعرات التي هي تحت اللحى الأسفل، وقيل: هي عند العرب مقدم اللحية ومنها على الصدر.

* الأصل:

137 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي نصر، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد اخرج

ص:183

من مكة، فليس لك فيها ناصر، وثارت قريش بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فخرج هاربا حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له: الحجون فصار إليه.

* الشرح:

قوله (يقال له الحجون) قال ابن الأثير: الحجون الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة، وقيل: هو موضع بمكة فيه اعوجاج والمشهور الأول وهو بفتح الحاء.

* الأصل:

138 - علي بن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الله رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل، قال بكل لسان.

* الشرح:

قوله (قال: إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل قال بكل لسان (1)) لعل المراد بالحساب العدد والقدر وبالجمل جمع الجملة وهي الطائفة يعني أنه آمن بعدد كل طائفة وقدرهم وقوله: بكل لسان تفسير لقوله: بحساب الجمل، وكذا في الحديث التالي. وأما قوله «وعقد بيده ثلاثا وستين» فلعله أراد به عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى فإنه يدل على هذا العدد عند أهل الحساب وأراد بهذا الرمز أنه آمن بالله مدة عمر زمان تكليفه وهي ثلاث وستون سنة أو آمن برسول الله في سنة ثلاث وستين من عمره هذا، وقال بعض الأفاضل: معنى قوله عقد بيده ثلاثا وستين أنه

ص:184


1- (1) قوله «قال بكل لسان» ذكر أصحاب المعقول أن الوجود على أربع مراتب الوجود الكتبي يدل على اللفظي، واللفظي على الذهني، والذهني على الخارجي، والدلالتان الأولتان وضعيتان. والثالثة طبعية، والعربي العامي الذي لا يستطيع أن يقرأ الكتابة العربية ولا يفهم منها شيئا ويعرف هذه اللغة إن تكلم بها شفاها عالم بوضع اللفظ وجاهل بوضع نقوش الكتابة وبالعكس الكاتب العربي الذي يقرأ الكتابة الفارسية والتركية فيضبط اللفظ ولا يفهم معناه، عالم بوضع الكتابة دون اللفظ الفارسي، وأما دلالة المعنى الذهني على الخارجي وكونها طبعية فواضحة وقد يوضح نقوش أو هيئات للدلالة على المعنى الذهني من غير وساطة لفظ كنقش (5) مثلا إذا رآه العربي قال هو خمس أو الفارسي يقول پنج والتركي يقول بش بتساوي نسبته إلى جميع الألسنة إذ لم يوضح هذا النقش للفظ بل لمعنى فيقرأ نقش (5) بكل لسان، وكذلك العقود فمن جمع أصابع كفه اليمنى إلا السبابة فمدها ونصبها فكل من رآى هذه الهيئة في يده وهو عالم بوضع العقود عرف أنه أراد ثلاثة وستين وعبر عنها كل بلسانه وكذا أبو طالب عقد بيده ثلاثة وستين وهيئة اليد والأصابع عند هذا العقد كما يأتي إن شاء الله كهيئة يد رجل يشهدان لا إله إلا الله ويشير بسبابته، ولو كان آمن بلفظه فهم كلامه من يعرف اللغة العربية ولكن أشار بيده ففهم مقصوده كل من رآه سواء كان عربيا أو حبشيا أو غير ذلك فقال (عليه السلام) أسلم بكل لسان نظير نقش (5) لا نقش (پنج) فاعرف دلك من غرائب اللطائف خطر ببالنا وبالله التوفيق. (ش)

أشار بإصبعه المسبحة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى يدل على الثلاث والستين على اصطلاح أهل الحساب (1) وكان المراد بحساب الجمل

ص:185


1- (1) قوله «على اصطلاح أهل الحساب» نورد هنا تفصيل حساب العقود لكثرة تداوله. (حساب العقود) قال العلامة المجلسي (رحمه الله) - لما ذكر في حل هذا الخبر حساب العقود وكثيرا ما يبتني على معرفته حل الأخبار الموردة في الاصول المعتبرة أردت أن أذكرها هاهنا -: اعلم أن القدماء قد وضعوا ثماني عشرة صورة من أوضاع الأصابع الخمسة اليمنى لضبط الواحد إلى تسعة وتسعين ومثلها من أوضاع الأصابع الخمسة اليسرى لضبط المائة إلى تسعة آلاف فيضبطون بتلك الأوضاع من الواحد إلى عشرة آلاف، وذكر (رحمه الله) تفصيل ذلك ونحن ننقلها معنى بعبارة اخرى فنقول: الخنصر والبنصر والوسطى من اليد اليمنى للآحاد، ومن اليسرى لآحاد الالوف، والسبابة والإبهام من اليمنى للعشرات، ومن اليسرى للمئات فتثنى الخنصر تثنية غير تامة

هذا (1) والدليل على ما ذكرته ما ورد في رواية شعبة عن قتادة عن الحسن في خبر طويل ننقل منه موضع الحاجة هو أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى وقال: يا محمد إني أخرج من الدنيا ومالي غم إلا غمك إلى أن قال (صلى الله عليه وآله): يا عم إنك تخاف علي أذى أعادي ولا تخاف على نفسك عذاب ربي. فضحك أبو طالب وقال: يا محمد دعوتني وقد كنت أمينا وعقد بيده على ثلاثة وستين عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على أصبعه الوسطى وأشار بإصبعه المسبحة (2)

ص:186


1- (1) قوله «وكان المراد بحساب الجمل هذا» في عبارة الحديث جملتان الاولى أسلم بحساب الجمل والثانية عقد بيده ثلاثة وستين، والظاهر أن الجملة الثانية تفسير وتتميم للاولى، والمقصود أن أبا طالب استعمل العدد في الدلالة على إيمانه، وبين العدد بالعقد لا باللفظ وقد يتوهم أنه لا يطلق حساب الجمل إلا إذا استعمل حروف أبجد في الدلالة على العدد ولم يستعمل أبو طالب حرفا. والجواب أنه يصح أن يراد بحساب الجمل العدد مطلقا دل عليه بأي أمارة فإن العدد في معرض الجمع ويقال: أجملت الحساب إذا جمعت آحاده أو الإضافة لأدنى مناسبة كما يقال: حساب هندسة لما يكتب بالأرقام الهندية في مقابل حساب السياق لمناسبة بين الأول والهندسة بتداوله عند المهندسين وكذلك حساب الجمل يضاف إليه بأدنى مناسبة لأنه مستعمل أرباب أبجد هوز. (ش)
2- (2) قوله «وأشار بإصبعه المسبحة» لأن في عقد ثلاث وستين يجمع الأصابع وينصب السبابة والعادة جارية عند الشهادة بالتوحيد بالإشارة بالسبابة هكذا كما يفعله العامة في تشهدهم، ويسمى عندنا السبابة بأصبع الشهادة، وهذا أحسن الوجوه في تفسير الخبر بل هو المتعين. ثم إن هنا مطلبين: الأول معنى قوله عقد بيده ثلاثة وستين وقد تبين بحمد الله ولا ينبغي أن يختلف فيه إذ لا معنى لقولهم: عقد بيده كذا، إلا ذلك فمن ادعى غيره فمن المعلوم عدم تتبعه وعدم بصيرته بكلامهم. والمطلب الثاني كشف هذا العدد أو هيئة اليد أعني العقد الدال عليه عن إيمان أبي طالب وإقراره بالتوحيد، واختلفوا في هذا المطلب الثاني والحق ما ذكره هذا الفاضل وأن الكاشف عن إيمانه عقد يده لا عدده وقد تكلف بعضهم لإبداء مناسبة بين العدد أيضا وبين الإيمان بالله تعالى وذكروا وجوها وإن لم يخل عن تكلف مثل قوله بعضهم: إن «لا» أحد وثلاثون و «إلا» اثنان وثلاثون والمجموع ثلاثة وستون وقوام التوحيد بلا، و (إلا) أي نفي الأوثان وإثبات الحمن وهو لطيف جدا، وعن الشيخ البهائي أن ثلاثة وستين سج بحروف أبجد ومعنى سج أخف وغط من التسجية وهو أمر بالتقية وإذا قال أحد: أنا اتقى فمعناه أنا مؤمن وهو لطيف أيضا، ومنها توجيه الشارح أن ثلاثة وستين مدة زمان تكليف أبي طالب أو آمن برسول الله في سنة ثلاث وستين من عمره وهو مع بعده وتكلفه ليس فيه لطف، وقال بعضهم: أراد ثلاثة وستين قصيدة قالها في مدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أيضا كتوجيه الشارح. (ش)

يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقام علي (عليه السلام) وقال: الله أكبر الله أكبر والذي بعثك بالحق نبيا لقد شفعك في عمك وهداه بك. فقام جعفر وقال: لقد سدتنا في الجنة ياشخي كما سدتنا في الدنيا. فلما مات أبو طالب أنزل الله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) انتهى. وأما قوله (عليه السلام): قال بكل لسان، فكأنه أشار إلى أن ما روي من أنه إنما أسلم بلسان الحبشة غير واقع بل أسلم بلسان العرب أيضا والمراد أنه قال بكل لسان حتى بلسان الحبشة أيضا، في تفسير الوكيع قال حدثني سفيان عن منصور وإبراهيم عن أبيه عن أبي ذر الغفاري قال والله الذي لا إله غيره ما مات أبو طالب حتى أسلم بلسان الحبشة، قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) اتفقه الحبشة قال: نعم يا عم إن الله علمني جميع الكلام قال: يا محمد أسدن لمصاقا فاطالاها، يعني أشهد مخلصا لا إله إلا الله فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: إن الله أقر عيني بأبي طالب.

وهاتان الروايتان نلقتهما عن كتاب مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (رضي الله عنه)، وقد روى الصدوق (رضي الله عنه) في كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن أبي الفرج محمد بن المظفر بن نفيس المصري الفقيه قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد الداودي عن أبيه قال كنت عند أبي القاسم الحسين بن روح (قدس سره) فسأله رجل قال: قول العباس للنبي (صلى الله عليه وآله): إن عمك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمل وعقد بيده ثلاثة وستين، فقال: عني بذلك إله أحد جواد وتفسير ذلك أن الألف واحد، واللام ثلاثون، والهاء خمسة، والألف واحد، والحاء ثمانية والدال أربعة، والجيم ثلاثة والواو ستة. وآلاف واحد، والدال أربعة فذلك ثلاثة وستون. ولا يخفي عليك بعد هذا التأويل جدا وأن قوله بيده لا فائدة له (1) حينئذ سواء كان الضمير لعباس أو لأبي طالب على ما هو الأظهر، إلى هنا كلام ذلك الفاضل، وأورد عليه بعض المعاصرين بأنه لا يخفى على ذي مسكة عدم اطلاع ذلك الفاضل (2)

ص:187


1- (1) قوله (بعد هذا التأويل جدا وأن قوله بيده لا فائدة له» والذي يخطر ببالي أن الاستبعاد في غير محله لأن الشيخ أبا القاسم بن روح (قدس سره) لم يرد نفي ثلاثة وستين بأصابع اليد كما ظنه هذا الفاضل بل أقر به. وإنما أراد تفسير المطلب الثاني الذي ذكرناه في الحاشية السابقة فكأن سائلا سأله: إني أتعقل عقد اليد ودلالته على ثلاثة وستين لكن لا أفهم مناسبة بين هذا العدد والشهادة بالتوحيد فذكر الشيخ (رحمه الله) وجها لإبداء المناسبة وهي تساوي حروف إله أحد جواد بحساب أبجد له، وإنما يرد اعتراض هذا الفاضل واستبعاده لو كان أنكر الشيخ (قدس سره) العقد باليد أصلا وليس كذلك ولكن يحتاج إلى التزام أن دخول كلمة جواد مع عدم دخله في التوحيد كان بعهد ومواضعة بين أبي طالب وحاضري مجلسه مثلا كأن يذكر كلمة جواد كثيرا للدلالة على الباري تعالى. (ش)
2- (1) قوله «عدم اطلاع ذلك الفاضل» بل الظاهر أن ما ذكره هذا الفاضل هو الوجه الصحيح الذي يجب أن يفسر به الخبر، وما سواه تكلف جدا بل يقطع بعدم كونها مرادة وان كان بعضها مشتملا على مناسبة لطيفة. (ش)

على مضمون الخبر وصار ذلك سببا لجرأته على الإيراد (1) ورد الخبر إذ المراد أن أبا طالب أظهر إسلامه للنبي (صلى الله عليه وآله) كما هو ظاهر الخبر السابق أو لغيره كما يظهر من هذا الخبر بحساب العقود بأن أظهر الألف أولا ثم اللام ثم الهاء (2) وهكذا ذلك لأنه (رضي الله عنه) كان يتقى من قريش ويخفي منهم إسلامه ولذلك آتاه أجره مرتين ويظهر منه التوجيه مع إرجاع الضمير إلى العباس أيضا بل يرد الإيراد على ما اختاره من الحمل أولا بأن تسمية العقود حساب الجمل لم يعهد (3) في لغة ولا اصطلاح.

وهاهنا وجوه اخر منها أنه إشارة إلى (لا) و (إلا) وهي كناية عن كلمة التوحيد إذ العمدة فيها النفي والإثبات، ومنها أن عقد ثلاث وستين إشارة إلى سج أمر من التسجية وهي التغطية والإخفاء أي أخفى إيمانه لمكان التقية وهو المنقول عن الشيخ بهاء الملة والدين، ومنها أنه إشارة إلى أنه أسلم بثلاث وستين لغة، ومنها أنه إشارة إلى أنه أسلم بثلاث وستين سنة، ومنها أن أبا طالب كان

ص:188


1- (2) قوله «سببا لجرأته على الإيراد» هذا المورد المعاصر للشارح زعم أن ما نقل عن الحسين بن روح (قدس سره) هو كلامه واقعا وصدر عنه يقينا، وكان كلامه مأخوذا عن الحجة عجل الله فرجه لكونه من سفرائه ولعله اوحى إليه ونفث روح القدس في قلبه وأما هذا الفاضل الذي استبعد المنقول فلم يحصل له اليقين بصحته كما حصل لمعاصر الشارح فلا يتعجب من رده وقد اتفق لكثير من العلماء رد أحاديث منقولة عن المعصومين أنفسهم لشك في الصدور فكيف بما نقل عن سفرائهم، وأما من جهة المعنى والمتن فلعل الحق أن استبعاد الفاضل في غير محله أد يبعد كل البعد أن لا يعرف مثل الحسين بن روح قاعدة عقد الأصابع مع شهرته وتداوله بين التجار والمحترفة وكتاب الدواوين في ذلك العصر، وكان حساب العقود عندهم بمنزلة الحساب بالمكينة وما نسميه بالچرتكة في زماننا (وقد بينا ذلك في حواشي نفائس الفنون) وكان عملهم عليه فلم يكن مراده من التفسير بإله أحد جواد إنكار عقد الأصابع مع وضوح دلالة قولهم: عقد بيده كذا على ذلك. بل مراده إبداء المناسبة بين هذا العدد والإيمان بعد إثبات عقد الأصابع، وقلنا: إن دلالة العقد على ثلاثة وستين شيء، ودلالة ثلاثة وستين على الشهادة بالتوحيد شيء آخر، وإنما يستبعد من الشيخ أبي القاسم إنكار الأول ولم ينكره كما توهمه هذا الفاضل ومعاصر الشارح المورد عليه بل المناسبة التي نقل عنه نظير المناسبات التي نقلنا عن الشيخ البهائي وغيره فيما سبق. (ش)
2- (3) قوله «بأن أظهر الألف أولا ثم اللام ثم الهاء» لا معنى لهذا الكلام البتة إذ لا يمكن أن يكون المراد التلفظ بالحروف المقطعة من قوله: أسلم بحساب الجمل وعقد بيده كذا، وأي عارف بلغة العرب يستجيز إفادة هذا المعنى بهذه الجملة وأي رجل يفهم من قوله عقد بيده تكلم بلسانه حروفا مقطعة ولا يمكن أن يراد عقد بيده عشر مرات مرة للواحد ليفهم منه الألف واخرى للثلاثين لينقل منه الذهن إلى اللام وثالثة للخمس ليفهموا منه الهاء إلى آخره وظاهر أن أبا طالب عقد بيده ثلاثة وستين في عقد واحد ومعاصر الشارح لا يدري ما يقول، وإنما طولنا الكلام في شرح هذا الحديث لاستصعاب جماعة من العلماء إياه واشتماله على فوائد كثيرة وبالله التوفيق. (ش)
3- (4) قوله «تسمية العقود حساب الجمل لم يعهد» ظهر جوابه مما سبق ثم إنه لم يعهد تسمية حساب أبجد عقدا ولم يسمع أن يقال عقد بيده عددا ويراد به أنه تلفظ بألف لام ها أو غيره. (ش)

عالما بالجفر وأنه علم نبوة نبينا قبل بعثته بالجفر بسبب حساب مفردات حروفه، والله أعلم بحقيقة كلام وليه.

* الأصل:

139 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن علي ابن الحزور الغنوي، عن أصبغ بن نباتة الحنظلي قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم افتتح البصرة وركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) [ثم] قال: أيها الناس ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم الله، فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدثنا فإنك كنت تشهد ونغيب، فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله سبعة من ولد عبد المطلب لا ينكر فضلهم إلا كافر ولا يجحد به إلا جاحد، فقام عمار بن ياسر (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين سمهم لنا لنعرفهم فقال: إن خير الخلق يوم يجمعهم الله الرسل وإن أفضل الرسل محمد (صلى الله عليه وآله) وإن أفضل كل امة بعد نبيها وصي نبيها حتى يدركه نبي ألا وإن أفضل الأوصياء وصي محمد عليه وآله السلام، ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصياء الشهداء، ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنة، لم ينحل أحد من هذه الامة جناحان غيره، شيء كرم الله به محمد (صلى الله عليه وآله) وشرفه والسبطان الحسن والحسين والمهدي (عليهم السلام)، يجعله الله من شاء منا أهل البيت، ثم تلا هذه الآية: (ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما).

* الشرح:

قوله (عن علي بن الحزور) بالحاء والزاي المفتوحتين والواو المشددة.

قوله (فإنك كنت تشهد وتغيب) أي تغيب عنا فالفرصة غنيمة وفي بعض النسخ «نغيب» بالنون أي كنت تشهد رسول الله وفي أوقات كنا نغيب عنه فيها كذلك قيل.

قوله (ولا يجحد به إلا جاحد) أي جاحد بالله تعالى أو بمحمد (صلى الله عليه وآله) لا بفضلهم فلا يرد أن حمل الجحد على الجاحد بلا فائدة.

قوله (وإن أفضل الرسل محمد (صلى الله عليه وآله)) مثل هذه الرواية رواه صاحب الطرائف نقلا عن الشافعي ابن المغازلي بإسناده في كتاب المناقب يرفعه إلى أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «يا فاطمة، إنا أهل البيت اعطينا سبع خصال لم يعطها أحدا من الأولين والآخرين قبلنا - أو قال:

الأنبياء ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا - نبينا أفضل الأنبياء وهو أبوك ووصينا أفضل

ص:189

الأوصياء وهو بعلك وشهيدنا أفضل الشهداء وهو حمزة عمك ومنا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث شاء وهو ابن عمك ومنا سبطا هذه الامة وهما ابناك ومنا - والذي نفسي بيده - مهدي هذه الامة».

قوله (ألا وإن أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب) أراد بالشهداء من استشهد في عصره إلى سالف الزمان، أو العام مخصص بالحسين (عليه السلام) فلا ينافي أن الحسين (عليه السلام) أفضل الشهداء على الإطلاق.

قوله (وجعفر بن أبي طالب له جناحان خضيبان) أي بدمه، في كتاب إكمال الإكمال جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) يكنى أبا عبد الله وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى الحبشة وقدم منها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعانقه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر» وكان قدومه من الحبشة في السنة السابعة وقال له: «أشبهت خلقي وخلقي» ثم غزى غزوة مؤتة سنة ثمان فقتل فيها بعد أن قاتل حتى قطعت يداه معا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله تعالى أبدله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، فمن ثم قيل له: ذو الجناحين، ولما بلغه (صلى الله عليه وآله) نعى جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها فيه، فدخلت فاطمة تبكى وتقول واعماه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن الله تعالى أبدله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة على مثل جعفر فلتبك البواكي».

قوله (ثم تلا هذه الآية: (ومن يطع الله والرسول) أشار به إلى فضل شيعتهم وكمال اتصافهم بهم ظاهرا وباطنا مع ما فيه من الترغيب في طاعة الرسول وطاعة أولى الأمر من بعده حيث علم أن ثمرتها مرافقة هؤلاء الأخيار ومصاحبة هؤلاء الأبرار.

قوله (وحسن اولئك رفيقا) فيه معنى التعجب لزيادة الترغيب في الطاعة قال القاضي: و «رفيقا» نصب على التميز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق أو لأنه اريد وحسن كل واحد رفيقا.

قوله (ذلك الفضل من الله) ذلك مبتدأ وإشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء الأخيار، أو إلى فضل هؤلاء الأخيار وعلو منزلتهم، والفضل صفة «ذلك» و «من الله» خبره أو الفضل خبره و «من الله» حال والعامل فيه معنى الإشارة كذا في تفسير القاضي.

قوله (وكفى بالله عليما) فيعلم المطيع ويجزيه على قدر استحقاقه بل زائدا عليه تفضيلا وفيه أيضا ترغيب في الطاعة لأن المطيع إذا علم أن المطاع عالم بفعله وإطاعته ازداد سعيه إلى الانقياد وشوقه إلى الطاعة.

ص:190

* الأصل:

140 - محمد بن الحسين، عن سهل بن زياد، عن علي بن النعمان، عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: كيف كانت الصلاة علي النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام) وكفنه سجاه ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم فقال: «إن الله وملائكة يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» فيقول القوم كما يقول حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي.

* الشرح:

قوله (لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام)) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله) والملائكة أعواني فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج. وما فارقت سمعي هنيمة (أي صوت خفي) منهم، يصلون عليه حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حيا وميتا» كذا في نهج البلاغة.

قوله (فداروا حوله) الظاهر أن ضمير حوله راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ورجوعه إلى علي (عليه السلام) بعيد ثم الظاهر أن صلاتهم كانت مجرد قراءة هذه الآية من غير تكبير ولا دعاء إلا أن يقال: إن قراءتها كانت قبل الصلاة، والله أعلم.

قوله (وأهل العوالي) في النهاية: العوالي أماكن بأعلى أرضى المدينة والنسب إليها علوي غير قياس وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة النجد ثمانية، وفي المغرب العوالي موضع على نصف فرسخ من المدينة، وفي كتاب إكمال الإكمال عوالي المدينة القرى التي عند المدينة.

* الأصل:

141 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن علي بن سيف، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجا فوجا، قال: وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في صحته وسلامته: إنما أنزلت هذه الآية علي في الصلاة علي بعد قبض الله لي: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

* الشرح:

قوله (إنما أنزلت هذه الآية على في الصلاة) على ظاهره يشعر بما ذكرناه من أن صولته كانت قراءة هذه الآية.

قوله (ما معنى السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) لما كان السلام شائعا في التحية بالسلامة عن الآفات

ص:191

والفتن والعقوبة الدنيوية والآخروية وموجباتها سأله هل المراد من السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا المعنى أو معنى آخر؟ فأجاب (عليه السلام) بأن له تأويلا آخر وهو المقصود الأصلي هنا بيانه أنه تعالى لما خلق نبيه ووصيه وابنته وجميع الأئمة وشيعتهم أخذ على شيعتهم أو على الجميع الميثاق والعهد بالربوبية والنبوة والولاية والصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى ووعدهم أن يسلم لهم الأرض المباركة وهي هذه الأرض سميت مباركة لكونها منازل الأنبياء والأوصياء والصلحاء ومعبدهم ومحل استباقهم أو بيت المقدس أو الكوفة أو الجميع وأن يسلم لهم الحرم الآمن وهو حرم مكة أو المدينة أو كلاهما وأن ينزل لهم البيت المعمور وهو بيت الشرف والمجد أو البيت الذي في السماء حيال الكعبة في عصر الصاحب (عليه السلام) وأن يظهر لهم السقف المرفوع أي عيسى (عليه السلام) لكونه عالما مرفوع المنزلة أو مرفوعا من الأرض إلى السماء أو السماء بإرسال عزاليها وإنزال أمطارها الموجب للخصب والرخاء وسعه العيش وأن يريحهم من عدوهم بقهر المهدي وإهلاكه إياهم ووعد لهم الأرض التي يبدلها الله من دار السلام وهي الجنة ويسلم ما فيها لهم لا خصومة فيها لعدو فهم لانتفاء قدرتهم فيها وزهوق الباطل هناك فلا يمكن لهم المنازعة مع أهل الحق بخلاف الدنيا وأن يكون لهم فيها ما يحبون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وأخذ أيضا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جميع الامة والشيعة الميثاق بذلك والسلام عليه (صلى الله عليه وآله) إنما هو تذكر نفس الميثاق وتجديد له على الله تعالى لعله أن يعجل الوعد، وبالجملة أخذ الله ورسوله عليهم الميثاق بما ذكروا ووعد لهم أن يؤجرهم بالوفاء به وأن يسلم لهم الأمور المذكورة والسلام على النبي تذكرة للعهد وطلب لتعجيل الوعد.

* الأصل:

142 - بعض أصحابنا رفعه، عن محمد بن سنان، عن داود بن كثير الرقي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما معنى السلام على رسول الله؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق نبيه ووصيه وابنته وابنيه وجميع الأئمة وخلق شيعتهم أخذ عليهم الميثاق وأن يصبروا ويصابروا ويرابطوا وأن يتقوا الله ووعدهم أن يسلم لهم الأرض المباركة والحرم الآمن وأن ينزل لهم البيت المعمور ويظهر لهم السقف المرفوع ويريحهم من عدوهم والأرض التي يبدلها الله من السلام ويسلم ما فيها لهم، لا شية فيها - قال: لا خصومة فيها - لعدوهم وأن يكون لهم فيها ما يحبون وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جميع الأئمة وشيعتهم الميثاق بذلك; وإنما السلام عليه تذكرة نفس الميثاق وتجديد له على الله، لعله أن يعجله جل وعز ويعجل السلام لكم بجميع ما فيه.

ص:192

* الشرح:

قوله (وإن يصبروا ويصابروا ويرابطوا) الصبر أصله الحبس يقال صبرت نفسي على كذا أي حبستها والربط أصله الشد، يقال: ربط الدابة أي شده والمرابطة: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وأعدادها في الثغور وقد يطلق على ربط النفس على الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، ولعل المقصود أنه تعالى أخذ عليهم أن يصبروا على الدين ومشاق تكاليفه وسائر ما ينزل عليهم من النوائب والمصائب وأن يصابروا أعداءهم في الجهاد ويغالبوهم في الصبر على شدائد الحروب أو يحمل بعضهم بعضا على الصبر في الشدائد وأن يرابطوا أي يقيموا على جهادهم أو على الثغور بأنفسهم وخيولهم أو على الطاعات مطلقا.

قوله (والأرض التي يبدلها الله من السلام) عطف على أن يسلم لا على أن يريحهم لأنه عطف على ينزل أو يسلم ولا يصح تقدير «أن» هنا ولا على البيت المعمور للزوم الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ولبعد تعلق الإنزال بها في الجملة ولا على الأرض المباركة وإن صح بحسب المعنى للزوم الفصل بالأجنبي، والظاهر أن من السلام بيان للأرض وأن المراد بها دار السلام وهي الجنة وحمل من على التعليل للتبديل وحمل الأرض على أرض الدنيا أن يبدلها الله من أجل السلام، وبسببه يعني يجعلها سالمة لهم بعدما لم تكن، بعيد جدا.

قوله (ويسلم ما فيها لهم) عطف على يبدلها وقوله لا شية فيها حال مؤكدة.

* الأصل:

143 - ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اللهم صل على محمد صفيك، وخليلك ونجيك، المدبر لأمرك.

* الشرح:

قوله (قال سمعته يقول اللهم صل على محمد) وجه ذكره في هذا الباب غير ظاهر وفيه دلالة على جواز الصلاة على النبي منفردا، والصفي المصطفى المختار والذي يصافي الود لصاحبه ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والخليل الصديق المحب من الخلة وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه ولذلك يخص بمن كانت خلته مقصورة على حب الله تعالى ليست فيها شركة لغيره، وهي حالة شريفة لا ينالها أحد بكسب واجتهاد، وإنما يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده مثل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله الطيبين الطاهرين، والنجي المناجي المخاطب لصاحبه والمحدث له وصاحب سره، والمدبر للأمر المحدث به والمتقن له والناظر في أدباره وعواقبه والساعي في ترويجه.

ص:193

باب النهي عن الإشراف على قبر النبي

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن جعفر بن المثنى الخطيب قال: كنت بالمدينة وسقف المسجد الذي يشرف على القبر قد سقط والفعلة يصعدون وينزلون ونحن جماعة، فقلت لأصحابنا: من منكم له موعد يدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) الليلة؟ فقال مهران بن أبي نصر: أنا، وقال إسماعيل بن عمار الصيرفي: أنا، فقلنا لهما: سلاه لنا عن الصعود لنشرف على قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما كان من الغد لقيناهما، فاجتمعنا جميعا، فقال إسماعيل: قد سألناه لكم عما ذكرتم، فقال: ما أحب لأحد منهم أن يعلو فوقه ولا آمنه أن يرى شيئا يذهب منه بصره أو يراه قائما يصلي أو يراه مع بعض أزواجه (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (ما أحب لأحد منهم أن يعلو فوقه) ظاهره الكراهة والتحريم يحتمل والعلة ترك الأدب بأن يعلو فوقه وعدم الأمن من أن يرى شيئا يذهب منه بصره وهو الملائكة أو أزواجه الطاهرة أو أن يراه قائما يصلي أو يراه مع بعض أزواجه وفيه هتك حرمته، ودلالة الجميع على المطلوب ظاهرة إلا قوله أو يراه قائما يصلي، إلا أن يقال: كراهة رؤيته كذلك أو عدم جوازها باعتبار الإشراف على بيته (1) (عليه السلام). واعلم أن الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) والشهداء والأولياء والصلحاء بعد مفارقتهم الدنيا بأبدانهم أحياء مرزوقون فاعلون للأعمال الصالحة وإنما المانع من رؤيتهم عادة حجاب قرره الله

ص:194


1- (1) قوله «باعتبار الإشراف على بيته» والذي يؤخذ على الشارح أن مقتضى التعليل تعليق حرمة الإشراف أو كراهته على احتمال الرؤية لا تعليق حرمة الرؤية على الإشراف، والجواب أن النهي عن الإشراف لترك الأدب وهو علته كما ذكره الشارح أولا لكن يذكر للتنفير عن بعض المنيهات أمور نظير قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) في التنفير عن الغيبة وقد أبدع (عليه السلام) في التعبير لأن كل من ينفر عن حرام لابد أن يشبهه بشيء خبيث ويمثله في صورة موهنة مزجرة ألا ترى أنه نفر عن النظر إلى الشطرنج بأن الناظر إليه كمن ينظر إلى فرج امه ومثل المال الحرام بعراق خنزير في كف مجذوم وذكر الخبائث هنا إساءة أدب لكنه ذكر (عليه السلام) ما يزجر عن الإشراف ولا يوهن ولا يستلزم ترك الأدب وهذا أعلى درجات البلاغة لا يتأتى لكل أحد وإن تفكر أياما وأسابيع أن يعبر تعبيرا غيره يفيد فائدته. (ش)

تعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو وأهل البصائر من عباده (1) وربما يظهر صورتهم لمن يشاء الله تعالى كما ظهر النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر في حال يقظته فقال: يا أبا بكر آمن بعلي وبأحد عشر من ولده إنهم مثلي إلا النبوة وتب إلى الله مما في يدك فإنه لا حق لك فيه. فأراد أن يعزل نفسه عما فيه فمنعه صاحبه وقال: هذا من سحر بني هاشم. وسيجئ هذا في باب النص على الأئمة (عليهم السلام).

ونظير ما ذكرنا موجود من طريق العامة أيضا، روى مسلم بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: مررت على موسى بن عمران (عليه السلام) وهو يصلي في قبره، قال الآبي: صلاته في قبره من الجائز عقلا وأخبر الشرع به فيجب الإيمان به وليست صلاة تكليف لانقطاع التكليف بالموت بل محبة واستحلاء كما يجد كثير من العباد من اللذة في قيام الليل، ولما دفن ثابت البناني ووضعت اللبن عليه سقطت لبنة فرآه بعضهم من ألحده قائما يصلي فقال لمن ألحده معه: ألا ترى، فلما انصرفا من دفنه أتيا داره (2) وسألا ابنته ما كان حاله في حياته فقالت لا أخبر كما حتى تخبراني بما رأيتما، فأخبراها فقالت:

علمت أن الله تعالى لا يضيع دعاءه كان كثيرا ما يقول: اللهم إن أعطيت أحد الصلاة في قبره فأعطنيها هذا كلامه بعبارته.

ص:195


1- (2) قوله «وأهل البصائر من عباده) فإنهم يعلمون عدم انحصار العوالم والنشآت في الوجود المادي وعدم خلق الحواس الجسمانية لإدراك جميع الموجودات والعوالم متطابقة ولإدراك كل منها حاسة إن أمكن الإحساس به ومدرك إن أمكن إدراكه وكما كان يرى النبي (صلى الله عليه وآله) ثواب المنعمين في القبر ويسمع ضجة المعذبين ولا يراه غير كذلك أمكن أن يرى بعض من رأى الله المصلحة في رؤيته النبي والأئمة (عليهم السلام) في ضرائحهم، وقد روى في ذلك قصص وحكايات كثيرة يجب إيرادها في موضع أليق إن شاء الله تعالى. (ش)
2- (1) قوله «أتيا داره» عن رجال الشيخ (رحمه الله) أنه قتل بصفين مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وكأنه غير صاحب هذه الحكاية وذكر ابن حجر في التقريب أن ثابت بن أسلم البناني مات سنة بضع وعشرين ومائة، وذكر الشيخ أيضا هذا الاسم والنسب في أصحاب السجاد (عليه السلام) وكأنه المراد، هنيئا له ما ناله. (ش)

باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه

* الأصل:

ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة وقتل (عليه السلام) في شهر رمضان لتسع بقين منه ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، بقي بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثين سنة وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وهو أول هاشمي ولده هاشم مرتين.

* الشرح:

قوله (ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد عام الفيل) قال القرطبي هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. وامه فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت هاشميا وهو أصغر ولد أبي طالب جعفر وعقيل وطالب وعلي، واتفق الجمهور على أنه أول من أسلم لحديث «أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب» وعن علي (عليه السلام) قال «عبدت الله تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الامة بخمس سنين» وعنه «ما كان يصلي مع رسول الله (عليه السلام) غيري وغير خديجة وخديجة أول من أسلم من النساء» واختلف في سنه (1) حين أسلم فقيل: خمس سنين، وقيل: ثمان. وقيل: اثنى عشر، وقيل: ثمانية عشر، وشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشاهد كلها إلا تبوك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلفه مع أهله وقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة وله من الشجاعة والعلم والحلم والورع وكرم الأخلاق ما لا يسعه كتاب، بويع بالخلافة يوم قتل عثمان واجتمع على بيعته أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير، وسئل عنهم فقال:

ص:196


1- (1) قوله «واختلف في سنه» تحقيق الحق فيه سهل لأن شهادته في سنة أربعين بالتواتر وهو ابن ثلاث وستين أو أزيد فكان في سنة الهجرة ابن ثلاث وعشرين سنة، وعند بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) ابن عشر سنين، وإن قيل: إنه كان عمره (عليه السلام) خمسا وستين كانت له عند البعثة اثنتا عشرة ولا عبرة بغير هذين الاحتمالين والعجب أنه لم يذكر العشر وهو الأظهر. فإن قيل كيف يحكم بصحة إيمانه وهو صبي لم يبلغ أوان الحلم؟ قلنا: البلوغ حكم شرعي لا يثبت إلا بعد ثبوت الشرع والتكليف بالإيمان مقدم على الإقرار بالشرع وما يترتب عليه من الأحكام فهو تكليف عقلي والتكليف العقلي لا يتوقف على البلوغ الشرعي، وهذا جواب أجاب به المفيد (رضي الله عنه) عن إيراد بعض العثمانية في صحة إيمانه ولم يبلغ. (ش)

اولئك خذلوا الحق ولم يعضدوا الباطل، وتخلف عن بيعته معاوية في أهل الشام والتحمت بينهم حروب ولم يزل فيها الظفر على الفئة الباغية إلى أن وقع التحكيم وخدع فيه وحينئذ خرجت الخوارج فكفروه وكفروا من معه وقالوا حكمت الرجال في دين الله والله تعالى يقول: (إن الحكم إلا لله) ثم اجتمعوا وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء فخرج إليهم بمن معه وطلبهم إلى الرجوع فأبوا إلا القتال فقاتلهم بالنهروان فقتلهم ولم يستأصل منهم ولم ينج منهم إلا اليسير فانتدب إليه رجل من بقية الخوارج يقال له عبد الرحمن بن ملجم، فدخل عليه فقتله. انتهى كلامه.

قوله (ولده هاشم مرتين) مرة من جهة الابن ومرة من جهة البنت والحاصل أنه ينتسب من قبل الأب والام إلى هاشم.

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن محمد بن يحيى الفارسي، عن أبي حنيفة محمد بن يحيى، عن الوليد بن أبان، عن محمد بن عبد الله بن مسكان، عن أبيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشره بمولد النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أبو طالب: اصبري سبتا أبشرك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة وكان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثون سنة.

* الشرح:

قوله (اصبري سبتا) السبت الدهر والمدة من الزمان قليلة أو كثيرة والمراد به هنا ثلاثون سنة وقوله ذلك اما من باب الكرامات أو علمه به من الكتب السماوية أو من إخبار عالم بذلك.

* الأصل:

2 - علي بن محمد بن عبد الله، عن السياري، عن محمد بن جمهور، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله من مكة إلى المدينة على قدميها وكانت من أبر الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا، فقالت: وا سوأتاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله):

فأني أسأل الله أن يبعثك كاسية، وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاني أسأل الله أن يكفيك ذلك.

وقالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما: إني أريد أن أعتق جاريتي هذه، فقال لها: إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار، فلما مرضت أوصت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمرت أن يعتق خادمها،

ص:197

واعتقل لسانها فجعلت تومي إلى رسول الله إيماه فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصيتها. فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يبكي فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك؟ فقال: ماتت أمي فاطمة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وأمي والله، وقام مسرعا حتى دخل فنظر إليها وبكى؟ ثم أمر النساء أن يغسلنها وقال (صلى الله عليه وآله): إذا فرغتن فلا تحدثن شيئا حتى تعلمنني، فلما فغرن أعلمنه بذلك، فأعطاهن أحد قميصيه الذي يلي جسده وأمرهن أن يكفنها فيه.

وقال للمسلمين: إذا رأيتموني قد فعلت شيئا لم أفعله قبل ذلك فسلوني لم فعلته، فلما فرغن من غسلها وكفنها دخل (صلى الله عليه وآله) فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر، ثم أنكب عيها طويلا يناجيها ويقول لها: ابنك، ابنك [ابنك] ثم خرج وسوى عليها، ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلا الله، اللهم إني أستودعها إياك، ثم انصرف، فقال له المسلمون: إنا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم، فقال: اليوم فقدت بر أبي طالب، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها، وإني ذكرت القيامة وأن الناس يحشرون عراة، فقالت:

وا سوأتاه، فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية، وذكرت ضغطة القبر فقالت: واضعفاه، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك، فكفنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك وانكببت عليها، فلقنتها ما تسأل عنه، فأنها سئلت عن ربها فقالت، وسئلت عن رسولها فأجابت وسئلت عن وليتها وإمامها فارتج عليها، فقلت: ابنك ابنك [ابنك].

* الشرح:

قوله (أول امرأة هاجرت) دلت الرواية على مهاجرتها وفي بعض روايات العامة أيضا دلالة عليها قال المازري: وما جاء في الحديث من ذكر فاطمة بنت أسد صحيح وصحت هجرتها كما قال غير واحد خلافا لمن زعم أنها لم تهاجر، في الحديث حجة عليه. هذا كلامه.

قوله (إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة) كان المراد أنه يحشر بعضهم أو أكثرهم عراة لدلالة ظاهر بعض الروايات على حشر بعضهم مكسوا، والأمر بتجويد الأكفان معللا بأنهم يحشرون يوم القيامة بها دال عليه أيضا وحشرهم عراة مذكور في كتبهم العامة أيضا، روى مسلم عن عائشة قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة» قلت: يا رسول الله الرجل والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال: «الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».

قوله (وا سوأتاه» أظهرت التفجع والتحسر على ظهور السوأة وهي العورة وكل ما يستحيي منه إذا ظهر.

ص:189

قوله (يذكر ضغطه القبر) الضغطة العصر ومنه ضغطة القبر لتضييقه وعصره وفي رواية: «إن الميت يسئل وهو مضغوط» وفي اخرى «ما أقل من يفلت من ضغطة القبر» نعوذ بالله منها.

قوله (واعتقل لسانها) في المغرب: اعتقل لسانه بضم التاء إذا احتبس من الكلام ولم يقدر عليه.

قوله (امي والله) أي فاطمة امي أو ماتت امي، وسماها اما على سبيل التشبيه في الشفقة والمحبة.

قوله (وبكى) دل على جواز البكاء على الميت وهو كذلك مع ترك الجزع والشكاية.

قوله (فلا تحدثن شيئا) أي لا تفعلن بعد الفراغ من غسلها حتى تعلمنني، نهاهن عن تكفينها قبل الإعلام لأنه أراد أن يكفنها بقميصيه ليبعثها الله تعالى كاسية أو لفوائد اخر.

قوله (على عاتقه) وهو موضع الرداء من المنكب وفيه حث على حمل الجنازة سيما جنازة الصلحاء والأتقياء.

قوله (بر أبي طالب) البر بالكسر الإحسان والخير واللطف وبالفتح العطوف والشفيق، والظاهر أن «ان» في «ان كانت» مخففة من المشددة المكسورة وهي بعد التخفيف وإبطال عملها يدخل على كانت ونحوه الداخل على خبره اللام كما في قوله تعالى: (وإن كانت لكبيرة).

قوله (وسئلت عن وليها وإمامها فارتج عليها) ارتاج الباب وارتجاجه إغلاقه وإقفاله تقول: ارتج على القارى، وارتج عليه مبنيا للمفعول فيهما إذا استغلق عليه القراءة واستبهم وارتج على الرجل وارتج عليه إذا أراد الكلام فامتنع عليه ومعناه أغلق عليه ولعل في ذلك الارتاج حكمة لله تعالى وهي أن يلقنها النبي (صلى الله عليه وآله) ويظهر إمامة ابنها وولايته للناس سيما للحاضرين، وفيه دلالة واضحة على أن عليا (عليه السلام) كان إماما في عهده (صلى الله عليه وآله) (1) وتعضده روايات آخر.

ص:199


1- (1) قوله «كان إماما في عهده (صلى الله عليه وآله)» اختلف عبارتهم في إمامة متعاصرين كأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) في وقت واحد، والحق أنه إن اريد الولاية الباطنة أي الربط الباطني بينهم وبين روح القدس وأمثال ذلك فهم أئمة في عصر واحد، وإن اريد استحقاق التصرف ظاهرا ووجوب الإطاعة للظاهر فالإمام في كل عصر واحد، وقد مضى شيء من هذا المعنى في المجلد السادس، ولما كان المقام مقام السؤال عن الاعتقاد والبحث عن الواقع وما يناسب عالم الآخرة كان المناسب المعنى الأول وهو أصل الولاية، وحينئذ فلا ريب أن عليا (عليه السلام) كان اماما في عهد الرسول أيضا نعم يستشكل بأنه لو كان السؤال عن الإمام حتما في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) لزم كون أكثر من مات في ذلك العهد غير عالم بما يجب عليهم من معرفة علي (عليه السلام) بالإمامة، والذي يسهل الخطب أن السياري راوي هذا الحديث من الكذابين المشهورين فيقتصر من مضامين الحديث على مالا يخالف الاصول، مع أن لنا أن نلتزم بكون الناس في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) عارفين بولاية علي (عليه السلام) لكثرة ما رأوا وسمعوا من تصريح النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك من أول نبوته (صلى الله عليه وآله) وما ينبغي أن يقال في حقه مشهور لا حاجة إلى تفصيل ذكره هنا. (ش)

* الأصل:

3 - بعض أصحابنا، عمن ذكره، عن ابن محبوب، عن عمر بن أبان الكلبي، عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة، فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبو طالب: وتتعجبين من هذا، إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره.

* الشرح:

قوله (بياض فارس) نسب البياض إلى فارس لبياض ألوانهم; أو لأن الغالب على أموالهم الفضة، أو لكون أكثر مواضعها في ذلك العصر خاليا عن الغرس والزرع، فإن الخراب من الأرض يتصف بالبياض والأبيض كما أن المعمور يتصف بالسواد والأسود.

قوله (وتتعجبين من هذا) تعجبها من ولادته حين شاهدت ما جرى من خوارق العادات ومحاسن الحالات مما لا عين رأت ولا أذن سمعت لعظم موقعها عندها وخفاء سببها عليها وغرابتها لديها فتلقاها زوجها أبو طالب (رضي الله عنه) بأن ذلك ليس محل تعجب وموضع استغراب من مهبط المعجزات ومحل الكرامات ومعدن السعادات ومظهر الرسالات ثم بشرها بأنك تحبلين وتلدين بعد ثلاثين سنة كما في خبر آخر بوصيه ووزيره ومتكفل أموره ومتحمل شريعته وهذا دل على كمال أبي طالب وعلمه بالغيب لأنه أخبر بما يقع وقد وقع كما أخبر.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي. عن أحمد بن زيد النيسابوري قال: حدثني عمر بن إبراهيم الهاشمي، عن عبد الملك بن عمر، عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتج الموضع بالبكاء ودهش الناس كيوم قبض النبي (صلى الله عليه وآله) وجاء رجل باكيا وهو مسرع مسترجع وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: رحمك الله يا أبا الحسن كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا وأخوفهم لله وأعظمهم عناء وأحوطهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآمنهم على أصحابه وأفضلهم مناقب وأكرمهم سوابق وأرفعهم درجة وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا وأشرفهم منزلة وأكرمهم عليه فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرا، قويت حين ضعف أصحابه وبرزت حين استكانوا ونهضت حين وهنوا ولزمت منهاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ هم أصحابه، [و] كنت خليفته حقا، لم تنازع

ص:200

ولم تضرع برغم المنافقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين وصغر الفاسقين، فقمت بالأمر حين فشلوا ونطقت حين تتعتعوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا، فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم قنوتا وأقلهم كلاما وأصوبهم نطقا وأكبرهم رأيا وأشجعهم قلبا وأشدهم يقينا وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالامور.

كنت والله يعسوبا للدين أولا وآخرا الأول حين تفرق الناس والآخر حين فشلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا وحفظت ما أضاعوا ورعيت ما أهملوا وشمرت إذ اجتمعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ أسرعوا وأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا ونهبا وللمؤمنين عمدا وحصنا، فطرت والله بنعمائها وفزت بحبائها وأحرزت سوابقها وذهبت بفضائلها، لم تفلل حجتك ولم يزغ قلبك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم تخر، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، وكنت كما قال: أمن الناس في صحبتك، وذات يدك، وكنت كما قال: ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك عظيما عند الله، كبيرا في الأرض، جليلا عند المؤمنين.

لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز [ولا لأحد فيك مطمع] ولا لأحد عندك هوادة الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، والقريب والبعيد عندك في ذلك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وحتم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم فيما فعلت، وقد نهج السبيل وسهل العسير واطفئت النيران واعتدل بك الدين وقوي بك الإسلام، فظهر أمر الله ولو كره الكافرين وثبت بك الإسلام والمؤمنون وسبقت سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك تعبا شديدا، فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك في السماء وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه وسلمنا لله أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بمثلك أبدا، كنت للمؤمنين كهفا وحصنا وقنة راسيا وعلى الكافرين غلظة وغيظا، فألحقك الله بنبيه ولا أحرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك. وسكت القوم حتى انقضى كلامه وبكى وبكى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم طلبوه فلم يصادفوه.

* الشرح:

قوله (ارتج الموضع بالبكاء) الارتجاج الاضطراب والحركة.

قوله (وجاء رجل) يفهم من كلام الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة أن ذلك الرجل هو الخضر (عليه السلام). «مسترجع» سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون فقال: إن قولنا إنا لله، إقرار على أنفسنا بالملك. وإنا إليه راجعون، إقرار على أنفسنا بالهلك.

ص:201

أقول: فيه اعتراف بأنه مبدء كل شيء ومرجعه وهو احرى كلمة يقال في مقام التسليم والرضا بقضاء الله وحمل النفس على النوائب وصبرها على المصائب.

قوله (انقطعت خلافة النبوة) أي خلافتها الظاهرة وهو كما قال لأن تلك الخلافة بعده (عليه السلام) وقعت في أيدي أئمة الجور وبطلت السنة وعطلت الشريعة.

قوله (كنت أول القوم إسلاما) هذا مما اتفقت الامة عليه ولا عبرة بمخالفة شاذ من النواصب.

قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال وهو من أعاظم علمائهم: واتفق الجمهور على أن عليا (رضي الله عنه) أول من أسلم لحديث: «أولكم واردا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب (عليه السلام)» وعن علي (رضي الله عنه) قال «عبدت الله تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الامة بخمس سنين» وعنه «ما كان يصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري وغير خديجة».

قوله (وأخلصهم إيمانا) الإيمان الخالص بوصف الزيادة هو الذي لا يطلب به غير وجه الله تعالى أو الذي بلغ غاية الكمال ولا يبلغها إلا بالتخلي عن جميع الرذائل والتحلي بجميع الفضائل وتهذيب الظاهر عن الأفعال القبيحة وتزيينها بالأعمال الحسنة وليس المتصف به غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) اتفاقا.

قوله (وأشدهم يقينا) وهو نوع من الإدراك مطابق للواقع غير محتمل للنقيض وبتفاوت ذلك في الشدة والضياء حتى يصير المعلوم كأنه مشاهد كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» والتفاوت ليس باعتبار الطباق بل باعتبار طهارة النفس وكمالها في القوة النظرية والعملية.

قوله (وأخوفهم لله) لأن مراتب الخوف متفاوتة باعتبار تفاوت مراتب العلم كما يشعر به قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهو (عليه السلام) أعلم الامة اتفاقا فهو أخوفهم.

قوله (وأعظمهم عناء) كمال عنائه وفضله في الرياضات والعبادات والمجاهدات مع النفس والأعداء بحيث لا يدانيه أحد مشهور بين العامة والخاصة.

قوله (وأحوطهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)) حاطه يحوطه حوطا وحياطة إذا حفظه وصانه وذب عنه وتوفر على مصالحه وكل ذلك كان له (عليه السلام) على وجه الكمال بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) حتى إنه كان ترسه في جميع النوائب ووقايته في جميع المكاره.

قوله (وآمنهم على أصحابه) كان (عليه السلام) أمين الله على عباده وأمين رسول الله على امته وزيادة اتصافه بهذه الصفة على غيره كائنا من كان أمر لا ينكره إلا النواصب.

قوله (وأفضلهم مناقب) قد اتفق عليه العامة والخاصة ولا ينكره عدوه قال الآبي: ذكر ابن عبد

ص:202

البر باسناده إلى ضرار وقال له معاوية صف لي عليا فقال: أعفني يا أمير المؤمنين فقال: لابد، فقال:

أما إذ ولابد من وصفه فكان والله شديد القوى، بعيد المدى، يقول فضلا، ويحكم عدلا، ينفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته.

وقد ذكر مناقب كثيرة جليلة تركنا تفصيلها للإطناب - إلى أن قال - فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، كيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها. ثم قال الآبي: وهذا من معاوية يدل على معرفته بفضل علي (رضي الله عنه) وعظيم حقه ومنزلته، وقال أيضا قال صعصعة بن صوحان يوم بايع عليا (رضي الله عنه) فقال يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي إليك أحوج منك إليها، وقام ثابت بن قيس خطيب الأنصار فقال: والله يا أمير المؤمنين لئن سبقوك في الولاية فما يقدمونك في الدين وقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك يحتاجون إليك فيما لا يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك. وقام خزيمة الأنصاري ذو الشهادتين فقال: يا أمير المؤمنين ما وجدنا لامرنا هذا غيرك أنت أقدم الناس إيمانا وأعلمهم بالله وأولى المؤمنين برسول الله.

وقال عياض: لعلي (رضي الله عنه) من الشجاعة والعلم والحلم والزهد والورع وكرم الاخلاق وغير ذلك من المناقب مالا يسعه كتاب. وقال الآمدي: لا يخفى أن عليا (رضي الله عنه) كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة كان بعضها كافيا في استحقاق الإمامة وقد اجتمع فيه من حميد الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة حتى إنه من أشجع الصحابة وأعلمهم وأزهدهم وأفصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقربهم نسبا وصهرا منه كان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كمال فضيلة وقد قال فيه رباني هذه الامة ابن عباس (رضي الله عنه).

قوله (وأكرمهم سوابق) لسبقه عليهم في الإيمان والعلم والحلم والكرم والسخاء وغيرها من المناقب والمفاخر.

قوله (وأرفعهم درجة) لأن رفعة الدرجة وعلو المنزلة باعتبار العلم والعمل والمناقب وكرم الأخلاق وقد فاق (عليه السلام) جميع الامة بجميع ذلك فدرجته فوق درجتهم.

قوله (وأقربهم) أي أقربهم منه فيمن يدعي الخلافة أو في استحقاقها أو في النسب الجسماني والروحاني معا فإنهما من نور واحد فلا يرد أن عباس أقرب.

قوله (وأشبهم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا) الهدي بفتح الهاء وسكون الدال السيرة والهيئة والطريقة، والخلق بضم الخاء واللام وسكونها الدين والطبع والسجية وحقيقته أنه لصورة الإنسان

ص:203

الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورة الظاهر وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة وتعلق الثواب والعقاب والنقص والكمال بأوصاف الصورة الباطنة أكثر وأشد من تعلقها بأوصاف الصورة الظاهرة ولهذا تضمنت الآيات والروايات في مدح حسن الخلق والسمت والهيئة الحسنة والقصد وقد كان (عليه السلام) في سيرته الباطنة وهيئته الظاهرة وأخلاقه الفاضلة وأفعاله الجميلة مشابها للنبي (صلى الله عليه وآله) على وجه الكمال ولا يشاركه في تلك أحد من الصحابة وغيرهم.

قوله (وأشرفهم منزلة وأكرمهم عليه) قد كانت منزلته أشرف وأرفع وهو عليه (صلى الله عليه وآله) أكرم وأعز لما فيه من جميع أنواع الخير والشرف والفضائل واستحقاق رئاسة الدنيا والدين.

قوله (فجزاك الله) دعاء له بمقابلة إحسانه بالإحسان ولفظ الخبر جامع لكل ما يطلبه ويرغب فيه.

قوله (قويت) وصفه بالقوة المطلقة كما وصفهم بالضعف المطلق وحذف المتعلق فيهما للدلالة على التعميم أو المراد قويت في الدين والعلم والجهاد حين ضعفوا فيها.

قوله (وبرزت) أي برزت إلى الجهاد حين استكانوا وعجزوا كما يظهر ذلك في غزوة البدر والأحد والأحزاب والخيبر وغيرها.

قوله (ونهضت) أي قمت بإعلان الحق والعمل به ودفع شبهات المنكرين حين وهنوا وضعفوا عن ذلك وذلك مشهور.

قوله (ولزمت) أي لزمت منهاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشريعته البيضاء إذ هم أصحابه العدول عنه وقصدوا إبداع البدع وإفشاءه وفيه إشارة إلى متانته في الدين ورزانته في اليقين.

قوله (كنت خليفته حقا لم تنازع ولم تضرع) الفعل الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل تقول:

ضرع يضرع من باب علم ومنع وشرف إذا ذل وضعف أو للمفعول أيضا من أضرعه إذا أذله يعني كنت خليفته وقائما مقامه في حياته وبعد موته بأمره وأمر الله تعالى بلا منازعة ولا ذل وضعف فيك ومن أدعى الخلافة إنما ادعاها من قبل نفسه الشريرة لا من قبل الله تعالى ولا من قبل رسوله والذل إنما يرجع إليه بمخالفته لا إليك.

قوله (برغم المنافقين) تقول أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهو التراب هذا هو الأصل ثم شاع استعماله في الذل والعجز والظرف في موضع النصب على أنه حال من فاعل لم تضرع أو كنت، ولعل المراد بالمنافقين من وافقه من أصحابه ظاهرا لا باطنا فإن كثيرا من أصحابه كانوا على صفة النفاق وبالكافرين من خالفه وقاتله كمعاوية وأضرابه وبالحاسدين الخلفاء الماضين وبالفاسقين

ص:204

اتباعهم وأشياعهم مع احتمال أن يراد بالجميع من خالفه ظاهرا وباطنا أو فيهما، قاتله أم لا، والتكرار باعتبار تعدد صفاتهم أعني النفاق والكفر والحسد والفسق فإن كل من خالفه بنحو من الأنحاء فهو متصف بهذه الصفات.

قوله (فقمت بالأمر حين فشلوا) أي قمت بأمر الدين ومصالح الخلق حين جبنوا وضعفوا عنه كضعف الجاهل عن المسائل اليقينية والمصالح الدينية والاخروية.

قوله (ونطقت حين تتعتعوا) التعتعة في الكلام التردد فيه من حصر أو عجز عن فهم مؤداه وجهل عن درك مغزاه، ورجوعهم إليه في المسائل المعضلة والأمور المشكلة واستضاءتهم بنوره في الحدود والاحكام أمر مشهور بين الخواص والعوام وقد كان (عليه السلام) أمير الكلام كما كان أمير الأنام.

قوله (ومضيت بنور الله إذ وقفوا) أي سرت في سبيل الحق ومنهج الشرع بالهداية الربانية والعلوم اللدنية والإشراقات اللاهوتية، إذ وقفوا عن السلوك فيه لظلمة ضمائرهم وفقد بصائرهم.

قوله (فاتبعوك فهدوا) فيه إشارة إلى أن ما حصل لهم من الهداية لشيء من الحق إنما حصل لهم بسبب متابعته فيه ولولا ذلك لم يهتدوا إلى شيء أصلا، أو مدح للسالكين في قفاه والتابعين لهداه من الفرقة الناجية، والتفريع بالأول أقرب وفي كتاب كمال الدين «ولو اتبعوك لهدوا» وهو بالسياق أنسب.

قوله (وكنت أخفضهم صوتا) خفض الصوت كناية عن العلم والحلم واللينة والدعة والسكون والوقار كما إن رفع الصوت وغلظته كناية عن أضداد هذه الأمور.

قوله (وأعلاهم قنوتا) القنوت يرد لمعان متعددة كالطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام والسكوت وقد فاق (عليه السلام) جميعهم في جميع ذلك.

قوله (وأقلهم كلاما) قلة الكلام وحفظ اللسان عما لا ينفع وصرفه عما لا يعني دليل على نبالة العقل وشرافة النفس وكمالها في القوة النظرية والعملية.

قوله (وأصوبهم نطقا) إذ نطقه كان صوابا وصدقا دائما بخلاف نطقهم فإنه كان خطأ وكذبا غالبا.

قوله (وأكبرهم رأيا) الرأي يطلق على العقل والمراد بكبره نجدته وشرافته وضياؤه وعلى التفكر في الأسرار الإلهية والنواميس الربانية والتأمل في عواقب الأمور وحوادث الدهور، وأما الرأي بمعنى القياس فليس بمراد هنا قطعا، وفي بعض النسخ «أكثرهم رأيا» بالثاء المثلثة والمراد بالرأي فيه هو المعنى الثاني.

قوله (وأشجعهم قلبا) شجاعة القلب عبارة عن قوته في المجاهدات على أنحائها والتجنب عن متمنيات النفس واغوائها وعن قدرته على ترتيب المعاني والحقائق وترصيف النكات والدقائق

ص:205

على وجه يتحير لكماله الفصحاء ويتعجب من جماله البلغاء.

قوله (وأشدهم يقينا) الظاهر أنه مكرر من الناسخ الأول مع إمكان أن يراد بالقين هاهنا اليقين بالاحكام بقرينة اقترانه بالعمل وفي السابق اليقين بالله وبرسوله بقرينة اقترانه بالإيمان والله أعلم.

قوله (وأحسنهم عملا) حسن العمل باعتبار اشتماله على ماله مدخل في كماله من الأجزاء والمقارنات والشرائط مع اتصاف فاعله بقصد التقرب وكمال التوجه إلى المعبود الحق والاستغراق في مشاهدة جلاله وكماله وكل ذلك كان له (عليه السلام) على الوجه الأتم والأكمل بحيث لم يشاركه أحد من الصحابة.

قوله (وأعرفهم بالأمور) اعترف به جميع الامة وقد مر مرارا أنه (عليه السلام) كان عالما بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وما كان أحد من الصحابة بهذه الصفة اتفاقا.

قوله (كنت والله يعسوبا للدين) أي لأهله واليعسوب في الأصل أمير النحل والياء زائدة ثم اطلق على سيد القوم ورئيسهم المقدم عليهم في جميع الأمور لرجوعهم إليه واجتماعهم عليه كما يجتمع النحل على يعسوبها.

قوله (الأول حين تفرق الناس) أي الأول حين تفرق الناس في الدين ونفروا عنه والآخر حين فشلوا وعجزوا عن إدراك حقيقته وحقيقة ما هو مطلوب فيه. وفيه تنبيه على أن إمارته (عليه السلام) كانت ثابته في كلا الزمانين ولا يدفعها خلاف من خالفه لأنها كانت من الله ومن رسوله لا من الخلق حتى يثبتها توافقهم ويدفعها تخالفهم، ويمكن أن يكون كلا الزمانين بعد مضي النبي (صلى الله عليه وآله) وأن يكونا قبله وأن يكون الأول بعده والآخر قبله وبالعكس.

قوله (كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا) العيال بالكسر جمع عيل كجياد جمع جيد وعال عيالة أقاتهم وأنفق عليهم فعيال الرجل هو من جمعهم ليقيتهم وينظر في أمورهم ويصلح حالهم، والله سبحانه جعل الخلق عيال الإمام وجمعهم تحت عنايته ليصلح أحوالهم في معاشهم ومعادهم وجعله كالأب الرحيم لئلا يجور في رعاية حقوقهم. وتقديم الظرف في الموضعين لقصد الحصر، ففي الحصر الأول تنبيه على غلظته بالنسبة إلى الكافرين وفي الحصر الثاني إيماء إلى بطلان قول من زعم أنهم عيال على غيره (عليه السلام) من الفاسقين الذين انتحلوا اسم الإمامة والخلافة لأنفسهم.

قوله (فحملت أثقال ما عنه ضعفوا) لما ذكر نبذة من مناقبه المقتضية لكونه خليفة وذكر خلافها لهم مع التصريح بذلك حيث قال: «كنت خليفته» فرع عليه هذا القول ومعناه فحملت أثقال ما ضعفوا عنه لقلة علومهم وضعف قلوبهم من النواميس الإلهية والأسرار الربانية والشرائع النبوية

ص:206

وحفظت ما أضاعوا من الحدود والأحكام وغيرها ورعيت ما أهملوا من الآداب والأخلاق وشمرت يعني اجتهدت وصممت في إعلان الحق والجهاد إذا اجتمعوا في الباطل أو الفرار من الزحف والعدو، وفي بعض النسخ «إذا خشعوا» أي خضعوا وذلوا من الميل إلى الباطل أو كرهوا الموت وفزعوا لفراق الأهل والأولاد. وعلوت في الرتبة وجمع المكارم كلها إذ هلعوا في الدنيا ولم يصبروا على تحمل المشاق والهلوع شديد الحرص وقليل الصبر. وصبرت في طلب حقك أو في النوائب أو في القيام على الحق إذ أسرعوا في غضبه أو في الجزع أو في الباطل وأدركت أوتار ما طلبوا يخاطب بهذا الكلام أمير قوم يدفع العار والضر والشين عنهم حين ضعفوا عن مدافعتها ويطلب لهم الجنايات والدماء حين عجزوا عن مطالبتها وقد كان (عليه السلام) موصوفا بهذه الصفة إذ كان جنة لهم في مناظرة أهل الملل من العلماء ومقاتلة أهل الباطل من الأعداء ونالوا بك من الخير والبركة ما لم يقدروا أن يحتسبوا ويعدوه لكثرته.

قوله (كنت على الكافرين عذابا صبا ونهبا) صب الماء صبه صبا إذا أفرغه ونهب الشيء ينهبه نهبا إذا أخذه وسلبه قهرا، وفيه إشارة إلى شوكته وغلبته على الكافرين والحمل للمبالغة أو الصب بمعنى الفاعل أو المعفول والنهب بمعنى الفاعل.

قوله (وللمؤمنين عمدا وحصنا) شبهه بالعمود لقيام بناء أحوال المؤمنين به وبالحصن لحفظه لهم عند الشدائد والضراء ورجوعهم إليه عند صولة الأعداء ولأن وجوده كان سببا لحياتهم وبقائهم وإلا لساخت بهم الأرض كما أن العمود والحصن سببان لبقاء البناء والخلق، وإنما جمع العمود بالعمد بفتح العين والميم أو بضمهما وأفرد الحصن لافتقار البناء غالبا إلى الأعمدة فهو (عليه السلام) وحده يقوم مقام الجميع بخلاف الحصن فإن الواحد المتين منه كاف في الصيانة. وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة «للمؤمنين غيثا وخصبا».

قوله (فطرت والله بنعمائها) فطرت إما على صيغة المجهول من الفطر أي خلقت والله بنعماء الخلافة وجبلت بالطبع المتهيىء لقبولها لم تزل عنها ولم تفارقها والمراد بنعمائها الأسباب المقتضية لها والآثار المرتبة عليها أو على صيغة المعلوم من الطيران ففيه إشارة إلى انقطاع الخلافة بموته (عليه السلام) وفي بعض النسخ بغمائها بالغين المعجمة وتشديد الميم وهي الداهية والبلية وفي كتاب كمال الدين «بعنائها» بالعين المهملة والنون وهما متقاربان.

قوله (وفزت بحبائها) الحباء بالكسر العطية نبه به على أن الخلافة عطية خصة الله تعالى بها لا يشاركه أحد، فيها من مرتبة وجوده.

قوله (وأحرزت سوابقها) أي حفظتها وضممتها إليك وصنتها عن الأخذ منها وسوابق الخلافة

ص:207

ماله مدخل في تحققها من الأخلاق النفسانية والكمالات الروحانية والأعمال البدنية.

قوله (وذهبت بفضائلها) لعل المراد بفضائلها العدل في الحكم والرشد في الحق والتدبير في الأمر وغير ذلك من القوانين العدلية والنواميس الإلهية.

قوله (لم تفلل حجتك) منشأ فل الحجة وانقطاعها وزيغ القلب وميله إلى الباطل وضعف البصيرة عن الحق وعدم اهتدائه إليه وجبن النفس في إجراء الحدود والمعارك قلة العلم وضعف اليقين وعدم ملكة الشجاعة وقد كانت هذه الأمور أعني العلم واليقين والشجاعة فيه (عليه السلام) على أكمل المراتب وأعلاها وفي أرفع الدرجات وأسناها.

قوله (ولم تخر) الخر والخرور السقوط مطلقا أو من علو إلى سفل وفعله من باب نصر وضرب وفي بعض النسخ «ولم تخن» من الخيانة ووجه ذلك ظاهر لأن السقوط من الحق إلى الباطل دأب الغافلين والخيانة في الدين شأن الجاهلين وقد كان (عليه السلام) أعرف العارفين وأشرف العالمين وسيد الراشدين، وقوله «كنت كالجبل لا تحركه العواصف» أي الرياح الشديدة مثل يضرب لمن ثبت في أمره لضياء عقله وكمال علمه وقوة حلمه بحيث لا تحركه الآراء ولا تزعجه الأهواء.

قوله (كنت كما قال (عليه السلام) - الخ) للناس في صحبة الغير مفاسد منشاؤها انحرافه عن الدين وضعفه في اليقين ولما كان (عليه السلام) أمينا في الدين وقويا في اليقين كان الناس آمنين في صحبته راشدين في خلته واثقين بعدله في تقسيم ما في يده من بيت المال وغيره.

قوله (لم يكن لأحد فيك مهمز) المهمز الغيبة والوقيعة في الناس وذكر عيوبهم والمهمز موضعه وهو ما يهمز به والغمز العصر والكبس باليد والإشارة بها وبالعين والحاجب.

والطمع قد يتعلق بالحق والباطل والمراد به هنا هو الثاني وعدم تحقق هذه الأمور فيه ظاهر لأنه (عليه السلام) كان منزها عن جميع المعائب والنقائص.

قوله (ولا لأحد عندك هوادة) أي سكون في الباطل وميل إلى الجور ورخصة في الظلم والهوادة السكون والميل والرخصة.

قوله (وأمرك حلم وحزم) الحلم الأناة والتثبت في الأمور والحزم ضبط الرجل أمره والحذر من فواته من قولهم حزمت الشيء أي شددته وهما من شعار العقلاء ودثار العلماء الذين يرون آخر الأمر في أوله وأوله في آخره.

قوله (ورأيك علم وعزم فيما فعلت) لعل المراد بالرأي هنا ما ارتآه الإنسان واعتقد أي فكر فيه وتأنى ثم اعتقده، والعزم على الشيء تأكد إرادته والجد فيه أي رأيك فيما فعلت واعتقادك فيه علم لا ظن وتخمين وعزم عليه لاشتماله على مصالح جمة لا تردد فيه لأن الظن والتردد من صفات

ص:208

العاجز الذي لا دراية له بحقائق الأشياء ومنافعها وحسن عواقبها.

قوله (واعتدل بك الدين) تقديم الظرف على الفاعل لقصد الحصر، والظرف متعلق بالأفعال الأربعة المذكورة أعني نهج وما عطف عليه على سبيل التنازع.

قوله (وسبقت سبقا بعيدا) أي سبقت غيرك في سبيل الخيرات والفضائل كلها سبقا بعيدا بالغا إلى النهاية متجاوزا عن الغاية.

قوله (وأتعبت من بعدك تعبا شديدا) اتعابه من بعده من الشيعة والأحباء إما لأجل حيرتهم في الدين أو تعظيم المصيبة، والأخير أنسب بقوله: «فجللت عن البكاء» أي فعظمت أي يبكي عليك باك ويأتي بحق البكاء «وعظمت رزيتك يعني مصيبتك في أهل السماء» من الملائكة المقربين وأرواح القدسيين «وهدت مصيبتك الأنام» أي هدت صدورهم وكسرت قلوبهم.

قوله (وقنة راسيا) أي جبلا ثابتا مرتفعا وهو مثل يضرب به لمن هو ظهير القوم في النوازل والنوائب والقنة بالضم الجبل.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن صفوان الجمال قال: كنت أنا وعامر وعبد الله بن جذاعة الأزدي عند أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقال له عامر: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن أمير المؤمنين (عليه السلام) دفن بالرحبة؟ قال: لا، قال: فأين دفن؟ قال: إنه لما مات احتمله الحسن (عليه السلام) فأتى به ظهر الكوفة قريبا من النجف يسرة عن الغري يمنة عن الحيرة، فدفنه بين ذكوات بيض، قال: فلما كان بعد ذهبت إلى الموضع فتوهمت موضعا منه، ثم أتيته فأخبرته فقال لي: أصبت رحمك الله - ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله (دفن بالرحبة) الرحبة - بالفتح - ساحة المسجد وما يتخذ على أبواب بعض المساجد في القرى والرساتيق من حظيرة أو دكان للصلاة والصحراء بين أفنية القوم ورحبة الكوفة كانت موضعا منها معروفا عندهم.

قوله (قريبا من النجف) النجف الموضع الرفيع شبه التل، وفي المغرب النجف بفتحتين كالمسناة بظاهر الكوفة على فرسخين منها يمنع ماء السيل أن يعلوا منازلها ومقابرها، وفي معجم البلدان في هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). والغري موضع معروف. والغراء بالمد والقصر: ما يلصق به الأشياء ويتخذ من أطراف الجلود والسمك. والغريان بناءان طويلان

ص:209

يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش. وسميا غربين لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله إذا خرج في يوم بؤسه. والحيرة بالكسر البلد القديم بظهر الكوفة. والذكوات جمع الذكوة وهي في الأصل الجمرة الملتهبة والمراد بها الأحجار البيض، قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال في باب فضائل علي (عليه السلام): إن عليا (رضي الله عنه) لما استأصل الخوارج بالنهروان وبقي منهم اليسير وكان من جملتهم ابن ملجم المرادي وقال: ما أصنع بالبقاء بعد إخواني، فعزم بقتل علي (رضي الله عنه) واستكن مقابلا لباب سدة التي يخرج منها علي (رضي الله عنه) وكان يخرج كل غداة أول الأذان يوقظ الناس لصلاة الصبح فخرج ينادي أيها الناس الصلاة الصلاة فضربه ابن ملجم وقتل به وخرج به ليلا فدفن بظهر الكوفة خوف أن ينبشه الخوارج وكان بالكوفة اناس منهم ممن قتلت آباؤهم وإخوانهم يوم النهروان.

* الأصل:

6 - أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن القاسم بن محمد، عن عبد الله بن سنان قال: أتاني عمر بن يزيد فقال لي: اركب، فركبت معه، فمضينا حتى أتينا منزل حفص الكناسي فاستخرجته فركب معنا، ثم مضينا حتى أتينا الغري فانتهينا إلى قبر، فقال: انزلوا هذا قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقلنا:

من أين علمت؟ فقال: أتيته مع أبي عبد الله (عليه السلام) حيث كان بالحيرة غير مرة وخبرني أنه قبره.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن عبد الله بن محمد، عن عبد الله بن القاسم، عن عيسى شلقان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) له خؤولة في بني مخزوم وإن شابا منهم أتاه فقال: يا خالي إن أخي مات وقد حزنت عليه حزنا شديدا، قال: فقال له: تشتهي أن تراه؟ قال: بلى، قال: فأرني قبره، قال: فخرج ومعه بردة رسول الله (صلى الله عليه وآله) متزرا بها، فلما انتهى إلى القبر تلملمت شفتاه ثم ركضه برجله فخرج من قبره وهو يقول بلسان الفرس، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام)، ألم تمت وأنت رجل من العرب؟!! قال: بلى ولكنا متنا على سنة فلان وفلان فانقلبت ألسنتنا.

* الشرح:

قوله (عن عيسى شلقان) هو عيسى بن صبيح - بفتح الصاد المهملة - وهو ثقة والظاهر أنه وعيسى بن أبي منصور واحد، وجزم ابن داود بالتغاير بينهما والذي يظهر من الخلاصة هو التردد في الاتحاد.

ص:210

قوله (فانقلبت ألستنا) الظاهر أن أهل النار يتكلمون كلهم بلسان الفرس وإن كانوا عربا وأن أهل الجنة يتكلمون بلغة العرب وإن كانوا من أهل الفرس (1).

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض أمير المؤمنين (عليه السلام) قام الحسن بن علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: أيها الناس إنه قد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، إنه كان لصاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل، لا ينثني حتى يفتح الله له، والله ما ترك بيضاء ولا حمراء إلا سبعمائة درهم فضلت عن عطائه، أراد أن يشتري بها خادما لأهله والله لقد قبض في الليلة التي فيها قبض وصي موسى يوشع بن نون والليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم والليلة التي نزل فيها القرآن.

* الشرح:

قوله (والليلة التي نزل فيها القرآن) دل هذا مع قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) على أن ليلة القدر ليلة أحد وعشرين من شهر رمضان المبارك.

* الأصل:

[9 - عبد الله بن جعفر وسعد بن عبد الله جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ولدت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) بعد مبعث رسول الله بخمس سنين وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما.]

* الشرح:

قوله (عبد الله بن جعفر وسعد بن عبد الله جميعا) هذه الرواية فيما رأينا من النسخ موجودة في هذا المقام والأنسب ذكرها في مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام) (2).

* الأصل:

10 - سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال، عن عبد

ص:211


1- (1) «كلمهم بلسان الفرس» إن ثبت صحة هذه النسبة كان المعنى مفوضا إليهم لأنا لا نعلم مناسبة لسان الفرس وأهل النار إلا أن الفرس ذلك الزمان كانوا كفارا. (ش)
2- (2) وكأنه كان في الباب الآتي فاشتبه على الكاتب وكتبه هنا.

الله بن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: لما قبض أمير المؤمنين (عليه السلام) أخرجه الحسن والحسين ورجلان آخران حتى إذا خرجوا من الكوفة تركوها عن أيمانهم، ثم أخذوا في الجبانة حتى مروا به إلى الغري فدفنوه وسووا قبره فانصرفوا.

* الشرح:

قوله (ثم أخذوا في الجبانة) الجبان والجبانة بفتح الجيم وتشديد الباء الصحراء وتسمى بهما المقابر لأنها تكون في الصحراء تسمية الشيء بموضعه.

ص:212

باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام)

اشاره:

ولدت فاطمة عليها وعلى بعلها السلام بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخمس سنين وتوفيت (عليها السلام) ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما وبقيت بعد أبيها (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوما.

* الشرح:

قوله (مولد الزهراء) الزهراء والزهرة البياض المنير المشرق وهو أحسن الألوان وسميت فاطمة (عليها السلام) بالزهراء لبياض وجهها وإشراق لونها وكمال حسنها وبهجتها وكثرة خيرها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليه السلام) قال:

إن فاطمة (عليها السلام) صديقة شهيدة وإن بنات الأنبياء لا يطمثن.

* الشرح:

قوله (قال إن فاطمة (عليها السلام) صديقة شهيدة) الصديقة فعيلة للمبالغة سميت بها لشدة تصديقها بما جاء به أبوها، ولتصديق قولها بالفعل والعمل، والشهيد من قتل من المسلمين في معركة القتال المأمور به شرعا، ثم اتسع فاطلق على كل من قتل منهم ظلما كفاطمة (عليها السلام) إذ قتلوها بضرب الباب على بطنها وهي حامل فسقط حملها فماتت لذلك، وسميت شهيدة لشهادة الله تعالى وملائكته لها بالجنة أو لاتصافها بالحياة كأنها شاهدة حاضرة لم تمت، أو لأنها تشهد ما أعد الله لها من الكرامة فهي فعيلة بمعنى فاعلة أو مفعولة على اختلاف التأويل.

* الأصل:

3 - أحمد بن مهران (رحمه الله) رفعه وأحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار الشيباني، قال حدثني القاسم بن محمد الرازي قال: حدثنا علي بن محمد الهرمزاني، عن أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: لما قبضت فاطمة (عليها السلام) دفنها أمير المؤمنين سرا وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: السلام عليك يا رسول الله عني والسلام عليك عن ابنتك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي، إلا أن لي في التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعز فلقد وسدتك في ملحودة قبرك وفاضت نفسك بين نحري وصدري، بلى وفي كتاب

ص:213

الله [لي] أنعم القبول إنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة وأخلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله، أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد، وهم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح وهم مهيج سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين سلام مودع لا قال ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين، واه واها والصبر أيمن وأجمل ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفا ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا وتهضم حقها وتمنع إرثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر وإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان.

* الشرح:

قوله (ببقعتك) دل على أنها (عليها السلام) دفنت في بيتها (1) وبيتها قريب من بيته (صلى الله عليه وآله).

قوله (والمختار الله لها سرعة اللحاق بك) والمختار اسم فاعل مضاف إلى الفاعل والألف واللام فيه موصولة والسرعة مفعولة و «بك» متعلق باللحاق أي التي اختار الله تعالى لها سرعة اللحاق بك، وفيه إظهار التفجع والتشكي إليه من سرعة تواتر المصائب عليه بموته وموتها عقيبه، ثم أشار إلى التشكي إليه من قلة صبره ورقة تجلده وزوال قوة تحمله للمصيبة بها بقوله: «قل يا رسول الله عن صفيتك» أي عن مصيبتها «صبري» وعفى أي انمحى وزال عن سيدة نساء العالمين تجلدي أي جلادتي وقوتي، وقوله: «في صفيتك» إشارة إلى ما كان له (صلى الله عليه وآله) في حقها من التعظيم والإكرام والتبجيل ما لم يكن في حق غيرها حتى قال القرطبي على ما نقل عنه الآبي في كتاب إكمال الإكمال: إن فاطمة رضي الله عنها أحب بناته (صلى الله عليه وآله) وأكرمهن عنده وسيدة نساء الجنة وكان (صلى الله عليه وآله) إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيصلي ركعتين ثم أتى بيت فاطمة رضي الله عنها فيسأل عنها ثم يدور على نسائه إكراما لفاطمة واعتناء بها.

ص:214


1- (1) قوله «دفنت في بيتها» هو الأظهر في العقل أيضا لأن الدفن في البيت كان معهودا متداولا، وكان الغرض إخفاء موتها، وكان دفنها في بيتها صلوات الله عليها أوفق بهذا الغرض، وأما الدفن في الروضة، وهو من المسجد فغير معقول في ذلك العصر وبعده، وأما البقيع فلم يكن حاجة إليه، ولم يكن يوافق غرض الإخفاء ولم يرد إلا في بعض روايات ضعيفة لا اعتماد عليها. (ش)

قوله (إلا أن لي في التأسي بسنتك في فرقتك موضع تعز) التأسي هنا إما بمعنى الاقتداء أو التعزي وهو التصبر عند المصيبة، وهذا كالعذر والتسلية لنفسه القدسية بأن مصيبة صفيتك وإن كانت عظيمة يقل بها صبري ويرق لها تجلدي فإن المصيبة بفراقك أجل وأعظم والبلية بموتك أكمل وأفخم، كما صبرت على هذه أصبر على تلك بطريق أولى، وفي بعض النسخ موضع ثغر بالثاء المثلثة والغين المعجمة وهو تصحيف، ولعل المراد على تقدير ثبوته أن لي بسنتك في فرقتك موضع ثغر أي موضع مخافة لهجوم الأعداء علي، ولي اسوة بها في فرقة صفيتك يعني حصل لي بذلك أيضا موضع ثغر ومخافة لهجومهم والأنسب بهذا المعنى أن يقرأ (ألا) بالتخفيف للتنبيه و «إن» بكسر الهمزة.

قوله (فلقد وسدتك في ملحودة قبرك) الوساد والوسادة المخدة وقد وسدته الشيء فتوسده جعلته تحت رأسه. واللحد الشق المائل في جانب القبر يقال: لحدت القبر فالقبر ملحود وألحدته فهو ملحد، وإضافة الملحودة إلى القبر بيانية وتأنيثها باعتبار القطعة أو البقعة وفيه إظهار للتفجع بمصيبته به (صلى الله عليه وآله) والتوجع بمقاساته ألم الفراق منه كما في قوله «وفاضت نفسك» أي خرجت روحك «بين نحري وصدري» فإن أعظم المصائب وأشد الآلام أن يخرج روح أحب الخلق إلى الرجل ورأسه في صدره، ويدفنه في قبره بيده.

قوله (بلى وفي كتاب الله لي أنعم القبول) أي أطيب القبول وأحسنه وهو كناية عن الرضاء بقضاء الله وبما أثبته في كتابه قال جل شأنه: (إنك ميت وإنهم ميتون) وقال (كل نفس ذائقة الموت).

فإن قلت: بلى ايجاب بعد النفي أو الاستفهام كما إذا قيل: لم يقم زيد أو ألم يقم فقلت: بلى، كان المعنى قد قام وليس هنا بعدهما؟ قلت هذا الكلام استئناف جواب عما يقال: أليس في كتاب لله ما ينعم البال ويطيب النفس بمثل تلك المصيبة؟ ثم تمسك بالله وفوض أمره إليه وأقر بملك الأشياء كلها له وجريان حكمه عليها بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وامتثالا لقوله عزوجل:

(وبشر اللذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ثم رجع إلى ما ورد عليه جديدا من مصيبة الزهراء وإظهار التوجع عليها فقال: قد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة، كما هو شأن أصحاب المصائب المكاثرة حيث يذكرون بعضها في بعض وينتقلون من بعضها إلى بعض، وإطلاق الوديعة والرهينة على نفسها القدسية المطهرة من باب الاستعارة، ووجه الاستعارة الأولى أن المرأة عند الزوج كالوديعة كما يقال: النساء ودائع الكرام، أو أن النفس في هذا البدن

ص:215

تشبه الوديعة في رجوعها إلى مالكها وقتا ما، ووجوب حفظها من المهلكات. ووجه الثانية أن النفس رهينة بما كسبت ومعناه أن الكسب لازم لها لابد منه. فشبهها في لزومه لها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن.

قوله (واخلست الزهراء) يقال خلست الشيء أي استلبته. واخلست فلافا أي أخذت حقه، والخلسة - بالضم - ما يؤخذ سلبا ومكابرة، والغرض منه إما الإخبار والتعجب أو التحسر من وقوع الظلم عليها وغصب حقها عليها الصلاة والسلام.

قوله (فما أقبح الخضراء والغبراء) الخضراء السماء والغبراء الأرض ومن شأن العرب أنه إذا شاع الشر في أهل الأرض وانتشر الجور فيهم واشتهر القبح منهم وأرادوا المبالغة في ذمهم والإشعار بعموم قبائحهم نسبوا ذلك إلى الزمان والمكان والسماء والأرض لقصد التعميم والشمول في ذمهم وليس في قصدهم من ذلك ذم هذه الأشياء وأمثال ذلك كثيرة شائعة في كلام الفصحاء والبلغاء.

قوله (أما حزني فسرمد) أي دائم طويل، ولما وصف نفسه بالصبر جاء بهذا الكلام دفعا لتوهم ان ذلك بسبب تنزل الحزن والهم وتنقصهما.

قوله (وأما ليلي فمسهد) المسهد اسم مكان من السهاد وهو الأرق والسهر والمحزون لا ينام في الليل.

قوله (وهم لا يبرح) هم مبدأ موصوف بجملة بعده وكمد خبره وهو بالتحريك الحزن المكتوم أو الكاف للتشبيه والمد بالكسر والتشديد وهو القيح و «أو» في قوله «أو يختار الله» بمعنى إلى أن، والمراد بدارك الجنة أو القبر، وبالهم المهيج هم يتبعه هم آخر والهم في الأصل الإذابة ثم اطلق على الحزن المقلق المذيب للبدن يقال أهمه الأمر إذا أقلقه وأحزنه وأذابه، ومنه قولهم: همك ما أهمك أي أذابك ما أحزنك، وقولهم للمحزون المغموم: مهموم.

قوله (سرعان ما فرق بيننا) سرعان مثلث الفاء اسم فعل يرفع ما بعده بمعنى سرع وقرب مع تعجب أي ما أقرب وما أسرع، وما عبارة عن الموت.

قوله (وإلى الله أشكو) تقديم الظرف للحصر، والشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك وهو ممدوح بالنسبة إلى الله وإلى أوليائه لا إلى أعدائه فإنه شكاية عليه وهو مذموم.

قوله (بتظافر امتك على هضمها) أي إمداد بعضهم بعضا وتوافقهم على كسر حرمتها وغصب حقوقها وتفصيل ذلك مذكورة في كتب العامة والخاصة.

قوله (فاحفها السؤال واستخبرها الحال) أي بالغ واستقص في السؤال منها واستخبرها حالي

ص:216

وحالها في الحزن وحال الامة عما فعلوا بعدك، وفيه إشارة إلى غاية حزنها ونهاية غيظه (عليه السلام) منهم.

قوله (فكم من غليل معتلج بصدرها) «كم» خبرية للتكثير، والغليل الضعف والغيظ والحزن، والاعتلاج الالتطام وهو ضرب الوجه ونحوه بالكف يقال: اعتلجت الأمواج إذا التطمت.

قوله (سلام مودع لا قال ولا سئم) يقال قلاه فهو قال إذا أبغضه وسئم يسأم فهو سئم إذا مل وضجر أي لا مبغض لزيارتكم ولا ضجر للقيام عندكم وهذه صورة وداع المحبين الناصحين بحسب مجاري العادة.

قوله (فإن أنصرف) (1) لما كان الانصراف عن قرب الحبيب والقيام عنده أبدا يوهم الملالة وعدم الصبر يعني سوء الظن بما وعد الله الصابرين نفاهما للدلالة على أن كلا منهما بسبب أمر آخر وأما ما وعد الله الصابرين على نزول المصائب فهو صلواته ورحمته وهدايته في قوله جل شأنه:

(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وانا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون).

قوله (واه واها) الظاهر أن الواوين للعطف والربط قال ابن الأثير في النهاية: «اوه» كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع. وهي ساكنة الواو. مكسورة الهاء. وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: «آه من كذا» وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه. وربما حذفوا الهاء فقالوا «أو» وبعضهم يفتح الواو مع التشديد فيقول «اوه» وقال الزمخشري في الفايق: آها كلمة تأسف وانتصابها على إجرائها مجرى المصادر كقولهم: ويحا له، وتقدير فعل ينصبها كأنه قال تأسفا على تقدير أتأسف تأسفا.

قوله (والصبر أيمن وأجمل) أي من الجزع وبث الشكوى ووجود الجمال فيهما لما فيهما من ثلج الصدر وليس الغرض منه الإخبار بل تسلية النفس وحملها على الصبر أو مجرى العادة فإن الإنسان كثيرا ما يقول ذلك إذا أصابه مكروه.

قوله (ولولا غلبة المستولين) لعل المراد بغلبتهم ترددهم إليه وعدم تركهم إياه بحال ويحتمل أن يراد بها التعيير والتوبيخ أيضا.

قوله (ولا عولت إعوال الثكلى) العول والعولة رفع الصوت بالبكاء يقال: منه أعول، والثكلى امرأة مات ولدها.

ص:217


1- (1) «فإن أنصرف فلا عن ملالة» لا يدل على خلاف ما عليه محققوا علمائنا من الدفن في البيت لأن الانصراف ليس بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان بل من حال مطلقا إلى حال ولذلك يطلق على سلام الصلاة الانصراف ويقال: ينصرف، أي يتم صلاته ويسلم فمعنى أنصرف أي أترك المكالمة. (ش)

قوله (فبعين الله) أي أستعين بذات الله أو بشهوده وحضوره أو أعوذ بها من شر الخلائق تدفن ابنتك سرا من أجل شرورهم ويهضم حقها ويمنع إرثها. وفيه إظهار للتوجع والتحسر مما فعلوه وارتكبوه من الظلم عليها. روى مسلم بإسناده عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته «أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فأبى أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر (1) في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد أبيه ستة أشهر لما توفيت دفنها زوجها علي ابن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر (2) وصلى عليها علي وكان لعلي وجهة حياة فاطمة (3) فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن الخطاب فقال عمر لأبي بكر لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر وما عساهم أن يفعلوا والله لأتينهم فدخل عليهم فكلمه علي (رضي الله عنه) وقال: إنك استبددت علينا بالأمر (4)

ص:218


1- (1) قوله «فوجدت فاطمة على أبي بكر» ركب أصحابنا قياسا من هذا الحديث الذي رواه الشيخان وهو عندهم في غاية الاعتبار، ومن حديث آخر رواه الشيخان وغيرهما أيضا وهو «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني» وفي رواية: «يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها» فاستنتجوا منه أن أبا بكر أغصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآذاه، وتركيب القياس هكذا: إن أبا بكر مغضوب فاطمة، وكل مغضوب فاطمة مغضوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبو بكر مغضوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويجيب مجيبهم بأنا نعلم إجماع الصحابة على خلاف قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي ما يستفاد من مجموع الحديثين. (ش)
2- (2) قوله «لم يؤذن بها أبا بكر» خفاء قبر فاطمة من أكبر الآيات الدالة على غضب فاطمة صلوات الله عليها على المتآمرين عليها وهو متواتر وتواتر الخفاء قرينة صحة الحديث ووقوع مضمونه وعدم صلاة أبي بكر عليها متفق عليه أيضا رواه البخاري ومسلم ولا يعبأ بما يخالفه. (ش)
3- (3) قوله «كان لعلي وجهة حياة فاطمة» هذا كلام عائشة، ومعناه أن عليا (عليه السلام) في حياة فاطمة كان له من يتوجه إليه، ويستأنس به ويسر برؤيته، والوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة ما يقبل إليه ومنه قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) فلما ماتت سلام الله عليها حزن لموتها، ولم يكن أحد يسر برؤيته، وكان جميع الناس في عينه مستنكرين، وحق له (عليه السلام) أن يستنكر بعد وفاة فاطمة جميع الكائنات كما قيل عن لسان آدم بعد قتل هابيل: «فوجه الأرض مغبر قبيح» لكن بيعته (عليه السلام) لأبي بكر لم يكن في الظاهر لاستنكاره الناس أو لإزالة غمه وحزنه كما زعمه عائشة ولكن لمصلحة رآها وأمر سبق إليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يختلف المؤرخون في أنه (عليه السلام) لم يبايع ما دامت فاطمة حية مع تلك الهنات التي اتفقت عند باب بيتها ولم يستطيعوا أن يقهروه على البيعة بل أبى وأصر على الامتناع حتى ماتت فاطمة فأظهر الإطاعة.
4- (4) قوله «انك استبددت علينا بالأمر» هذا صريح في اختلاف رأيهم في الخلافة فكان علي (عليه السلام) يرى أولويته بالأمر وأبو بكر بالعكس، وكان وظيفة المسلمين في كل مورد اختلف هو (عليه السلام) مع غيره أن يتبعوا طريقته ويقبلوا قوله أما على مذهب الشيعة فواضح لعصمته وولايته. وأما عند أهل السنة فلما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إن الحق مع علي يدور معه حيثما دار» فلنا أن نركب قياسا نظير ما مر من حديث غضب فاطمة هكذا: رأي أبي بكر مخالف لرأي علي (عليه السلام) في الخلافة (بمقتضى هذا الحديث) وكل رأي خالف رأي علي فهو مخالف للحق، فرأي أبي بكر مخالف للحق. مثله القياس المتألف من حديثين مضمون أحدهما افتراق امته على ثلاثة وسبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة، والآخر «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا» فنقول من الشكل الثالث: الناجي فرقة واحدة من فرق الإسلام فقط، والناجي تبعة أهل البيت فقط، ينتج أن تلك الفرقة الواحدة هي تبعة أهل البيت فقط. وهذا طريق حسن ينجح سالكه في نقض كل شريعة باطلة ومذهب غير صحيح كما قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وشأن من لا ينطق عن الله، وليس قوله مبنيا على أصل سديد أن ينسى ما التزم به يوما فيلتزم بعده بضده، وحكى أن بعض الزنادقة كان يرى قبح الزنا إذا أكره عليه فقط لا إذا وقع برضا الطرفين وكان يرى العقد على صبية لم تبلغ ثمان عشرة سنة قبيحا فقيل له: إن فلانا تزوج صبية بنكاح قبل هذه السن قال: بئس ما فعل، فقيل له: سهونا في النقل إنه لم يعقد عليها وإنما زنى بها برضاها، فبهت الذي كفر إذ لم يستطع أن يعترف بعدم قبحه بعد حكمه بقبح العقد. وروي أن رجلا سأل أبا حنيفة عن الصلوات الواجبة اليومية فأجابه هي خمس، وسأله عن الوتر فقال: هي واجبة قال الراوي: لا أدري أسهى في العدد أو في وجوب الوتر. (ش)

وكنا نرى أن لنا حقا لقرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر، ثم بايعه العشية».

قوله (ولم يتباعد العهد) الواو للحال يشكي إليه (صلى الله عليه وآله) من أمته بعده في تظافرهم على غصب حقه وحقها (عليهم السلام) وهضمها على قرب عهدهم به (صلى الله عليه وآله) وطراوة ذكره أو الذكر الذي هو القرآن الآمر بإكرام ذوي القربى.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الرحمن بن سالم، عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من غسل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين - وكأني استعظمت ذلك من قوله - فقال: كأنك ضقت بما أخبرتك به؟ قال: فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك؟ قال: فقال: لا تضيقن فإنها صديقة ولم يكن يغسلها إلا الصديق أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسى.

* الشرح:

قوله (كأنك ضقت) الضيق الضجر والملال والشك في القلب.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن

ص:219

عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهم السلام) قالا: إن فاطمة (عليها السلام) لما أن كان من أمرهم ما كان أخذت بتلابيب عمر فجذبته إليها ثم قالت: أما والله يا ابن الخطاب لولا أني أكره أن يصيب البلاء من لا ذنب له لعلمت أني سأقسم على الله ثم أجده سريع الإجابة.

* الشرح:

قوله (أخذت بتلابيب عمر) التلابيب جمع التلبيب وهو ما في موضع اللبب من ثياب الرجل تقول: أخذت بتلبيب فلان إذا جمعت عليه ثوبه الذي هو لابسه وقبضت عليه تجره وكان ذلك حين مزق كتابها الذي كتبها أبو بكر في رد فدك إليها بعد إكمال الحجة عليه فآذاها وآذى الرسول بذلك لما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) «إن فاطمة يؤذيني ما آذها» فصار مصادقا لقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) الآية، قال القرطبي: بتأذيها يتأذى النبي واذايتها لا تحل ولو بما يحل للإنسان أن يفعله وهي في ذلك بخلاف غيرها فإن من فعل ما يجوز له فتأذى به الغير لم يحرم.

قوله (ساقسم على الله) قال في المغرب: القسم على الله في قوله لو أقسم على الله أن يقول:

لحقك فافعل كذا وانما عدي بعلى لأنه ضمن معنى التحكم.

* الأصل:

6 - وبهذا الإسناد عن صالح بن عقبة، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله إلى ملك فأنطق به لسان محمد (صلى الله عليه وآله) فسماها فاطمة، ثم قال: إني فطمتك بالعلم وفطمتك من الطمث، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد فطمها الله بالعلم وعن الطمث في الميثاق.

* الشرح:

قوله (وفطمتك من الطمث) قال صاحب الطرائف قال عبد المحمود الخوارزمي في كتابه ومن طرائف ما وجدته في حديث سفيان الثوري تأليف أحمد الطهراني عن هشام بن عروة عن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله) أنه وصف فاطمة رضي الله عنها في حديث طويل وفي آخره: إن فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتل كما يعتللن، يعني به الحيض.

* الأصل:

7 - وبهذا الإسناد عن صالح بن عقبة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): يا فاطمة قومي فأخرجي تلك الصحفة فقامت فأخرجت صحفة فيها ثريد وعراق يفور. فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ثلاثة عشر يوما، ثم إن ام

ص:220

أيمن رأت الحسين معه شيء فقالت له: من أين لك هذا؟ قال: إنا لنأكله منذ أيام فأتت أم أيمن فاطمة فقالت: يا فاطمة إذا كان عند أم أيمن شيء فانما هو لفاطمة وولدها وإذا كان عند فاطمة شيء فليس لام أيمن منه شيء؟ فأخرجت لها منه فأكلت منه أم أيمن ونفدت الصحفة، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): أما لولا أنك أطعمتها لأكلت منها أنت وذريتك إلى أن تقوم الساعة، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والصحفة عندنا يخرج بها قائمنا (عليه السلام) في زمانه.

* الشرح:

قوله (فأخرجي تلك الصحفة) في المغرب: الصحفة واحدة الصحاف وهي قصعة صغيرة منبسطة تشبع الخمسة وفي بعض نسخه كبيرة.

قوله (فيها ثريد وعراق يفور) الثريد الخبز المفتوت المكسور فعيل بمعنى مفعول والعراق كغراب جمع العرق بفتح العين وسكون الراء وهو العظم بلحمه ويطلق أيضا على العظم الذي أخذ منه معظم لحمه. والفور الغليان يقال: يفور الماء أي يغلي.

قوله (ثم إن أم أيمن) (1) هي حاضنة النبي (صلى الله عليه وآله) وام أسامة بن زيد وأيمن أخو اسامة لامه.

* الأصل:

8 - علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قبر فاطمة (عليها السلام) فقال: دفنت في بيتها فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد.

* الشرح:

قوله (فقال دفنت في بيتها) (2) قال ابن بابويه (رحمه الله) اختلفت الروايات في موضع قبر فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام) فمنهم من روى أنها دفنت في البقيع ومنهم من روى أنها دفنت بين القبر والمنبر.

وأن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما قال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» لأن قبرها بين القبر والمنبر.

ومنهم من روى أنها دفنت في بيتها فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد، وهذا هو الصحيح عندي وبيتها (عليها السلام) على ما ذكره (رحمه الله) من عند الأسطوانة التي تدخل إليها من باب جبرئيل (عليه السلام) إلى مؤخر الحظيرة التي فيها النبي (صلى الله عليه وآله) بحيث إذا قمت عند الحظيرة وجعلت يسارك إليها وظهرك

ص:221


1- (1) قوله «ثم إن أم أيمن» إن كان في هذا الحديث شيء يشمئز منه الطبع فالعهدة فيه على صالح بن عقبة راويه فإنه كذاب ملعون غال على ما قال أصحاب الرجال. (ش)
2- (2) قوله «دفنت في بيتها» هذا هو الصحيح في موضع قبرها (عليها السلام) كما مر. (ش)

إلى القبلة استقبلت إلى بيتها بوجهك.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء عن الخيبري، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لولا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين لفاطمة (عليها السلام) ما كان لها كفؤ على ظهر الأرض من آدم ومن دونه.

* الشرح:

قوله (ما كان لها كفؤ على ظهر الأرض من آدم فمن دونه) المقصود أن فاطمة (عليها السلام) أفضل من آدم فمن دونه مع قطع النظر عن حرمة النكاح أو حله، فلا يرد انها (عليها السلام) كانت حراما على آدم (عليه السلام) وإذا كانت هي (عليها السلام) أفضل من الرجال كانت أفضل من النساء أيضا وقد رويت في ذلك أخبار من طريق العامة والخاصة أما من طريق الخاصة فظاهر، وأما من طريق العامة فكما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) قال «إنما ابنتي - يعني فاطمة - بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها» وعنه أيضا: «إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها» وعنه أيضا «يا فاطمة أما ترضين أن تكون سيدة نساء المؤمنين» وفي أخرى «أن تكون سيدة نساء هذه الامة» وأمثال ذلك كثيرة قال القرطبي: حسبها ما بشرها به من الكرامة وأخبرها بأنها سيدة نساء المؤمنين وسيدة نساء هذه الامة وسيد نساء أهل الجنة، وقال: به يحتج من فضل فاطمة رضي الله عنها على عائشة، ثم قال عياض: واختلف في أن عايشة أفضل من فاطمة أو بالعكس، فقيل بالأول لأن عائشة مع النبي في درجته وفاطمة مع علي في درجته ودرجة النبي أرفع من درجة علي، وقيل بالعكس للروايات المذكورة ونحوها وتوقف الأشعري في المسألة وتردد فيها. انتهى.

أقول: قد أخطأ في اعتبار النسبة بينهما إذ لا نسبة بين النور والظلمة ومن فضل عائشة بأنها مع النبي في درجته إن كان له دليل فليأت به ليعلم صحته وفساده وإن تمسك بأن الزوجة مع الزوج في الدرجة فهو ممنوع (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) الآية، وبالجملة الدخول في الجنة والفضل إنما هو بالعمل لا بالعلاقة الزوجية ولا بالعلاقة النسبية ثم إنهم لم فضلوا عائشة وحدها على فاطمة (عليها السلام) ولم يفضلوا غيرها من النساء مثل أم سلمة وضرائرها (1)؟ ولعل الوجه فيه

ص:222


1- (1) قوله «مثل أم سلمة وضرائرها» قرينة تدل على أن ما رووه من المناقب والفضائل في الامراء ومن يتعلق بهم كبناتهم وأبنائهم لم يكن إلا نوعا من الملق ليتقربوا إليهم ويستفيدوا من دنياهم، وكان علة تأخر أم سلمة عدم نيل أبيها الخلافة فلم يكن في تعظيمها أجر دنيوي، وهكذا السر في كون معاوية خال المؤمنين دون محمد بن أبي بكر وإخوته مع أن عائشة أشهر وأفضل عندهم من ام حبيبة أخت معاوية. (ش)

شجاعتها (1) وخروجها مع طلحة وزبير على أمير المؤمنين (عليه السلام) وركوبها على الجمال والبغال وسيرها من بلد إلى بلد وأمرها بقتل جمع كثير من صلحاء البصرة (2) عند دخولها فيها خوفا من اجتماعهم ومنعهم لها من التمكن فيها وعداوتها لعلي وفاطمة (عليهم السلام) (3) وقد صرحوا أيضا بعداوتها،

ص:223


1- (2) قوله «ولعل الوجه فيه شجاعتها» أراد بالشجاعة قساوة القلب لا معناها المفسر به في علم الأخلاق. فإنها كانت سريعة الفتيا بالقتل كانت تقول: اقتلوا نعثلا فإنه قد كفر يعني عثمان وقد هيجت الناس على الخلاف عليه، ولم ينجح في ردعهم منع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن قتل عثمان وأمر الحسن ابنه (عليه السلام) بالدفاع عنه فلم يستحيوا من حضور ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى دخلوا عليه وقتلوه فلما قتل ندمت عائشة على ما فعلت إذ رأت الخلافة في يد أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان هواها مع طلحة وخرجت إلى البصرة مع طلحة وزبير لحرب الجمل إلى غير ذلك من الهنات على ما هو مشهور رواه المؤرخون. (ش)
2- (1) قوله «وأمرها بقتل جمع كثير من صلحاء البصرة» ممن أمرت بقتله عثمان بن حنيف الأنصاري البدري عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) على البصرة بعد أن منعه أصحابها من صلاة الصبح بالناس في مسجد البصرة حتى كادت الشمس تطلع، وصاح أهل المسجد ألا تتقون الله يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) وقد طلعت الشمس فتأخر عثمان بن حنيف فأسره أصحاب عائشة وضربوه حتى كاد يموت ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وكل شعرة في وجهه ورأسه، وقالت عائشة لأبان بن عثمان: اخرج إليه واضرب عنقه فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله، وهذا الكلام مستغرب منها إذ يدل على عدم علمها بالفقه وأحكام الشريعة وغلبة عادات الجاهلية عليها، لأن القصاص في الإسلام على مباشر القتل باتفاق الفقهاء لا على المعاون إن سلم أن الأنصار عاونوا قاتل عثمان بن عفان ولو كان عقوبة المعاون القتل لم يكن إعانتهم أكثر من إعانة عائشة وطلحة وزبير وأيضا لم يكن كل أنصاري مستحقا للعقوبة بإعانة بعض أهل قبيلته ثم إنهم خافوا من قتل عثمان بن حنيف ولم يقتلوه لأن سهل بن حنيف أخاه كان عاملا على المدينة وخشوا أن يوقع بهم إلا أن عائشة أرسلت إلى الزبير أن أقتل حراس بيت المال فجاء إليهم في جيش وأسرهم وذبحهم مع من كان في يده من الاسراء كما يذبح الغنم. ثم أمرت بقتل جماعة من أصحاب حكيم بن جبلة من عبد القيس وهم ثلاثمائة لما أرادوا منابذتهم انتقاما لما فعل بعثمان بن حنيف فقتلوا جميعا ولما ورد عثمان على أمير المؤمنين (عليه السلام) بكى وقال: فارقتك شيخا وجئتك أمرد وقال بعضهم: إنها تابت بعد ما، انهزمت والله العالم. (ش)
3- (2) قوله «وعداوتها لعلي وفاطمة (عليهم السلام)» قد يقال: إن هذه العداوة مما هو معهود بين النساء والضرات والاحماء، ولا تقدح في فضائلها وسائر كمالاتها فإنها أمر قلبي، ليس للإنسان فيه اختيار، ولا يكلف فيه بشيء فكما لا يلام أحد على محبة ابنه كذلك لا تلام امرأة على عداوة ضراتها وأحمائها وهو مسلم إن لم يترتب على العداوة الافعال الاختيارية التي يصح أن يكلف الإنسان بها كالخروج والقتل والضرب والشتم وكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أزواج لم يظهر منهن شيء من ذلك وأقوى ما يوجب الشبهة في أمرها الآية الكريمة في سورة التحريم: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو موليه) الآية، فإنها تدل على شيء في قلبها بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والصغوا الميل والانحراف. وكان لها هوى مع قومها المعادين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان إسلام من أسلم من تيم وأحلافهم نوعا من النفاق والتظاهر ورووا عنه (صلى الله عليه وآله) خطابا لها: «لولا قومك حديثوا عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين» وروى السهيلي في شرح السيرة كلاما عنها في خديجة وتضجرا من ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) إياها فأجابها بأن خديجة آمنت بي وقومك كافرون وأعانت المؤمنين بمالها وكان قومك مكافحين معادين أو نحوا من ذلك ولولا أن هوى عائشة مع قومها لم يرجح خديجة عليها لأن خديجة أيضا من قريش وقومها من أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن من هذه الجهة فرق بينهما لو كان إيمانهما خالصا من شوب الهوى وفي درجة واحدة. وضرب الله مثلا لعائشة وحفصة امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وأدرج في خلال القصة قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) الخ، ولا نريد بذلك رميها بالنفاق ولا قدحا في إيمانها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو في براءتها مما قذفت به على ما في سورة النور، كلا، فإن لها حرمة بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن لم يدع أحد فيها العصمة، وروي موادة من حاد الله عن غيرها من الصحابة مثل أبي لبابة كان من نقباء الأنصار والمؤمنين الأولين منهم الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) في العقبة وقد روى ابن عبد البر في الاستيعاب أنه أشار إلى يهود بني قريظة أن لا يقبلوا حكم سعد بن معاذ فإنه سيحكم بالذبح، ونزل في حقه: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) وربط نفسه بأسطوانة المسجد للتوبة حتى نزل قبول توبته. وكذلك كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى مكة يخبرهم بعزم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الخروج إليهم، وكان لعثمان هو في قومه تشفع مرارا فيهم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يبعد من عائشة وحفصة هوى قومهما مع أن فيهم منافقين وكافرين ولا تضجر النبي (صلى الله عليه وآله) من تواطئهم على عدم إطاعة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) إن تأمروا على الانتقام من الأنصار الذين قتلوا صناديدهم ورؤساءهم والأخذ بثأرهم على عادة العرب قديما وحديثا فإن قريشا بعد أن أظهروا الإسلام كرها لم ينسوا قتلاهم في بدر واحد وغيرهما ولم يخرج ضغن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنصاره أهل المدينة من قلوبهم وتصميمهم على أن لا يقبلوا إمارة أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن يتفرسوا فيه المساهلة والمسامحة معهم في الجملة كأبي بكر وعمر حتى يجدوا الفرصة، ولم يكن يخفى هذه الأمور منه (صلى الله عليه وآله). وقد روى المفسرون في تفسير الحديث الذي أسره (صلى الله عليه وآله) إلى بعض أزواجه أنه إخباره بإمارتهما بعده، وروي ذلك في طرقنا أيضا عن الباقر (عليه السلام)، والمعقول من ذلك أنه لم يكن على وجه البشارة من الله والرضا منه (صلى الله عليه وآله). بل على وجه الشكاية من المنافقين ولا يخفى على كل ملك وأمير حال اتباعه ونيتهم ومقاصدهم وخلوصهم في الخدمة أو عداوتهم باطنا وكيف برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان يأتيه الوحي وينظر بنور الله وقال تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) ولا يخفى أن تظاهرهما عليه (صلى الله عليه وآله) كان في هذه الأمور الهامة المتعلقة بمصالح المسلمين دينا ودنيا حتى يناسب قوله تعالى: (فإن الله مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) وأمر العداوة مع الضرات والاحماء لا يجاوز صرف قلوب الأزواج عن المحبة أو كسر قصعة وإنكار رائحة لا يليق ذكر ولاية جبرئيل الملائكة وصالح المؤمنين في هذه الأمور التافهة. (ش)

قال القرطبي على ما نقل عنه الآبي في كتاب إكمال الإكمال: إن فاطمة رضي الله عنها لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء بنت عميس إذا أنا مت فاغسلني أنت وعلي ولا تدخلا أحدا فلما جاءت

ص:224

عائشة لتدخل قالت أسماء لا تدخلي، فشكت عائشة ذلك إلى أبي بكر وقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء ما حملك (1) أن منعت أزواج رسول الله أن يدخلن على ابنته قالت أسماء: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، فقال أبو بكر: اصنعي ما أمرتك ورجع. وفيها دلالة على أنها (عليها السلام) مضت وهي ساخطة على أكثر الصحابة، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

ص:225


1- (1) قوله «يا أسماء ما حملك» كانت أسماء زوجة أبي بكر حينئذ ومع ذلك منعته بوصية فاطمة (عليها السلام) وأخفت موتها ودفنها ولم يعلم أبا بكر به أمانة ولم يكن الأمر في دولة بني أمية وبني العباس كذلك إذ ما كان يمكن مخالفة أمر الخلفاء لأحد من الأجانب فضلا عن الأقارب والأزواج ومبنى شرع الأنبياء الذي عمل به أبو بكر على أن كل أحد مستقل في إرادته وأفعاله ليس للأمير ولا لغيره صرفه عما يختاره إلا في معصية الله تعالى بخلاف شرع الجبابرة فإن لطاغوتهم الحكم بما شاء وعلى أتباعه القبول والطاعة. (ش)

باب مولد الحسن بن علي صلوات الله عليهما

اشاره:

أصل ولد الحسن بن علي (عليهم السلام) في شهر رمضان في سنة بدر، سنة اثنين بعد الهجرة، وروي أنه ولد في سنة ثلاث ومضى (عليه السلام) في شهر صفر في آخره من سنة تسع وأربعين. ومضى وهو ابن سبع وأربعين سنة وأشهر. وأمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عمن سمع أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما حضرت الحسن (عليه السلام) الوفاة بكى، فقيل له: يا ابن رسول الله تبكي ومكانك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أنت به; وقد قال فيك ما قال; وقد حججت عشرين حجة ماشيا، وقد قاسمت مالك ثلاث مرات حتى النعل بالنعل؟ فقال: إنما أبكي لخصلتين، لهول المطلع وفراق الأحبة.

* الشرح:

قوله (لهول المطلع) المطلع بفتح الطاء المشددة واللام موضع الاطلاع من اشراف إلى انحدار، يريد به الموقف يوم القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت فشبه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

* الأصل:

11 - سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي [بن مهزيار] عن الحسن بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قبض الحسن بن علي (عليهما السلام) وهو ابن سبع وأربعين سنة في عام خمسين، عاش بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعين سنة.

* الشرح:

قوله (في عام خمسين) دل على ما روى من أنه ولد في سنة ثلاث من الهجرة.

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي قال: إن جعدة بنت أشعث بن قيس الكندي سمت الحسن بن علي وسمت مولاة

ص:226

له، فأما مولاته فقاءت السم وأما الحسن فاستمسك في بطنه ثم انتفط به فمات.

* الشرح:

قوله (سمت الحسن) سمته بإغواء معاوية ومروان بن الحكم طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعنهما الله.

قوله (ثم انتفط به) أي تورم والنفط - بالتحريك - بلا هاء بثر يخرج باليد من القمل ملآن ماء.

والنفطة بوزن الكلمة الجدري، وفي بعض النسخ «ثم انتقض» أي انهدم وتشقق.

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن القاسم النهدي، عن إسماعيل بن مهران، عن الكناسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي (عليهم السلام) في بعض عمرة ومعه رجل من ولد الزبير، كان يقول بإمامته، فنزلوا في منهل من تلك المناهل تحت نخل يابس، قد يبس من العطش، ففرش للحسن (عليه السلام) تحت نخلة وفرش للزبيري بحذاه تحت نخلة أخرى، قال: فقال الزبيري ورفع رأسه: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه، فقال له الحسن:

وإنك لتشتهي الرطب؟ فقال الزبيري: نعم، قال: فرفع يده إلى السماء فدعا بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة ثم صارت إلى حالها فأورقت وحملت رطبا، فقال الجمال الذي اكتروا منه:

سحر والله، قال: فقال الحسن (عليه السلام): ويلك ليس بسحر ولكن دعوة ابن نبي مستجابة، قال: فصعدوا إلى النخلة فصرموا ما كان فيه فكفاهم.

* الشرح:

قوله (في منهل) قال ابن الأثير: المنهل من المياه كلما يطؤه الطريق وما كان على غير الطريق لا يدعى منهلا ولكن يضاف إلى موضعه أو إلى من هو مختص به فيقال: منهل بني فلان أي مشربهم وموضع نهلهم، وقال الجوهري: المنهل المورد، وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي وتسمى المنازل التي في المفاوز على طرق السقاء مناهل لأن فيها ماء.

قوله (لو كان في هذا النخل) يحتمل التمني والشرط.

قوله (سحر والله) يحتمل أن يكون «سحر» خبر بتقدير مبتدأ أي هذا سحر، وأن يكون فعلا، وينبغي أن يعلم أن الأمر الخارق للعادة من حيث إنه دال على صدق من أتى به وحقيقته يسمى آية وعلامة وبينة، ومن حيث إنه دال على أن صاحبه مكرم من عند الله تعالى يسمى كرامة ومن حيث إنه دال على تصديقه تعالى إياه يسمى معجزة، ومن ثم قال ابن التلمساني شرط المعجزة أن يكون إخبار النبي بأنه نبي للتحدي بها، والفرق بينهما وبين الآية أن المعجزة ما وقع التحدي بها فإن كان

ص:227

المدعي نبيا دلت على صدق نبوته وإن كان وليا دلت على صدق ولايته.

* الأصل:

14 - أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الحسن (عليه السلام) قال: إن لله مدينتين إحداهما بالمشرق والاخرى بالمغرب; عليهما سور من حديد وعلى كل واحد منهما ألف ألف مصراع وفيها سبعون ألف ألف لغة، يتكلم كل لغة صاحبها وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما، وما عليهما حجة غيري وغير الحسين أخي.

* الشرح:

قوله (إن لله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب) قيل: جابلس بفتح اللام بلد بالمشرق ليس وراءه شيء وجابلق بلد بالمغرب. وفي المغرب قالوا: جابلقا وجابلسا قريتان إحداهما بالمغرب والأخرى بالمشرق، وفي كتاب اللوامع لما صالح الحسن (عليه السلام) معاوية قال: «يا أيها الناس لو أنكم طلبتم من جابلق إلى جابلس رجلا (1) جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما وجدتم غيري وغير أخي» ولا يبعد أن تكون المدينتان (2) هاتين القريتين. وروى عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن من وراء اليمن واديا يقال له وادي برهوت لا يجاوز ذلك الوادي إلا الحيات السود، وخلف ذلك الوادي قوم يقال لهم الذريح لما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) صاح عجل لهم فيه وضرب بذنبه فنادى فيهم يا آل ذريح بصوت فصيح أتى رجل بتهامة يدعو إلى شهادة أن لا اله إلا الله قالوا لأمر ما أنطق الله هذا العجل فنادى فيهم ثانية فعزموا على أن يبنوا سفينة فبنوها ونزل فيهم سبعة منهم وحملوا من

ص:228


1- (1) قوله «لو أنكم طلبتم من جابلق إلى جابلس رجلا» ذكر في معجم البلدان جابلق وأورد كلام الحسن بن علي (عليهم السلام) هكذا «أيها الناس لو نظرتم ما بين جابرس وجابلق (وفي رواية جابلص - ما وجدتم ابن نبي غيري وغير أخي وأني رأيت أن أصلح بين أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وكنت أحقهم بذلك إلا إنا بايعنا معاوية وجعل يقول «وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين» فجعل معاوية يقول أنزل أنزل». انتهى وليس ما في هذا الخبر شيئا مستنكرا عجيبا حتى يحتاج إلى تأويل وتوجيه إذ وجود بلدين بهذين الاسمين أحدهما في شرق العالم والآخر في غربه غير بعيد مع أنه يمكن التعبير بمثل هذه العبارة لإفادة التعميم فيما لا يعتقد القائل تحققه كما يقول بين السماك والسمك أي جميع الفضاء والسمك حوت يحمل الأرض وربما يتكلم بهذا الكلام من لا يعتقد بوجود السمك تحت الأرض ولكن جابلق بلد موجود على ما نقل أهل اللغة وصاحب معجم البلدان كما قلنا. (ش)
2- (2) قوله «ولا يبعد أن تكون المدينتان» ولكن لابد أن يلتزم بكون ما روى في وصف المدينتين من الأبواب واللغات مبالغة مما قد يتفق في نقل الغرائب، وقد روى الخبر عن جماعة من رجال مجهولين لا يبعد منهم نقل المبالغات فإن قيل: ابن أبي عمير راوي الخبر ممن أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم. قلنا تحقق لنا بالتتبع التام في كلام أعاظم الفقهاء في موارد متفرقة عدم تعبدهم بقبول روايات هؤلاء والإجماع غير محقق. (ش)

الزاد ما قذف الله في قلوبهم ثم رفعوا شراعا وسيبوها في البحر فما زالت تسير بهم حتى رمت بجدة فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): أنتم أهل الذريح نادى فيكم العجل قالوا نعم قالوا:

أعرض عينا يا رسول الدين والكتاب فعرض عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدين والكتاب والسنن والفرائض والشرائع كما جاء به من عند الله وولى عليهم رجلا من بني هاشم سيره معهم فما بينهم اختلاف حتى الساعة. ولا يبعد أن تكون هذه إحدى هاتين المدينتين، وللسهروردي تأويل (1) في جابلق وجابلس ذكره في كتابه حكمة الإشراق تركناه تحرزا من الإطناب (2).

ص:229


1- (1) قوله «وللسهروردي تأويل» أوله شارحه قطب الدين بعالم المثال وأصل الخبر على ما في معجم البلدان واللوامع لا يحتاج إلى تأويل كما قلنا، وأما في الكتاب فمشتمل على غرائب من المبالغات التي تسري الأخبار على ما هو معهود في نقل الوقائع لأن ألف ألف مصراع يقتضي كون محيط البلد أعظم من محيط كرة الأرض خمس مرات إن فرض بين كل باب وباب آخر أربعمائة ذراع فقط ومحيط الأرض لا يزيد على ستة آلاف فرسخ، والمقدار المذكور يناهز ثلاثين ألف فرسخ. وأيضا سبعون ألف ألف لغة يقتضى على فرض كون المتكلم بكل لغة ألف إنسان على الأقل - إذ لا يتصور لأقل من هذا العدد لغة مستقلة - أن يكون عدة نفوس تلك المدينة سبعين ألف ألف إنسان وأهل الأرض كلها في زماننا جزء من ثلاثين جزءا من هذا العدد، وبالجملة فهذه الأمور مما أوجبت على عقلاء الناس إما تأويله بعالم المثال أورده بجهالة حال الرواة لئلا يستهزئ الملاحدة بالأخبار المنسوبة إلى المعصومين (عليهم السلام) ولا يطغوا فيها فكم شككوا ضعفاء العقول من المؤمنين بهذا الخبر وأمثاله، والإصرار في تحصيح الخبر وحمله على ظاهره مفسدة للدين ومنفرة للمؤمنين ولا حاجة إليه بعد الشك في صدوره من المعصوم أو اليقين بعدم صدوره. (ش)
2- (2) قوله «تحرزا من الإطناب» كأن الشارح استحسن تأويله وارتضاه إلا إنه تحرز من الإطناب ولا بأس بنقل عبارة شرح حكمة الإشراق هنا قال: «إن في الوجود عالما مقداريا غير العالم الحسي لا يتناهى عجائبه ولا يحصى مدنه ومن جملة تلك المدن جابلقا وجابرصا وهما مدينتان عظيمتان لكل منها ألف باب لا يحصى ما فيها من الخلائق لا يدرون أن الله خلق آدم وذريته وهو يحذو حذو العالم الحسي في دوام حركة أفلاكه المثالية وقبول العنصريات ومركباته آثار حركة أفلاكه وإشراقات العوالم العقلية ويحصل في ذلك أنواع الصور المختلفة إلى غير النهاية على طبقات مختلفة باللطافة والكثافة وكل طبقة لا يتناهى أشخاصها وإن تناهت الطبقات والأنبياء والأولياء والمتألهون من الحكماء معترفون بهذا العالم وللسالكين فيه مآرب وأغراض من اظهار العجائب وخوارق العادات والمبرزون من السحرة والكهنة يشاهدونه ويظهرون من العجائب انتهى. والمبالغة فيه أقل من خبر الكتاب إذا اكتفى بألف باب ولم يذكر اللغات، والإنصاف أن رد الخبر أولى من تأويله بعالم المثل المعلقة وإن كان وجود هذا العالم حقا اعترف به العلماء واستشهدوا عليه بأحاديث كثيرة وحلوا به كثيرا من العويصات إلا إن كون المراد في كلام الحسن بن علي (عليه السلام) ذلك بعيد جدا ولعل من أوله به لم ينظر في الخبر من أوله إلى آخره ولم يتأمل الخبر الأصل الخالي عن المبالغة كما ورد في معجم البلدان غير المحتاج إلى التأويل والقاعدة في أمثال ذلك أن يجعل المضمون الخالي عن الاغراقات والمبالغات أصلا ويتكلم فيه ويجعل الإغراق مما زيد بتلاحق الأفكار. (ش)

قوله (ألف ألف مصراع) يحتمل أن يكون هذا عدد مصراع السور وأن يكون عدد مصراع البيوتات، والأول أنسب بقوله «وفيها سبعون ألف ألف لغة».

* الأصل:

15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي بن النعمان، عن صندل، عن أبي أسامة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي (عليهم السلام) إلى مكة سنة ماشيا، فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت لسكن عنك هذا الورم، فقال: كلا إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتر منه ولا تماكسه، فقال له مولاه: بأبي أنت وأمي ما قدمنا منزلا فيه أحد يبيع هذا الدواء. فقال له: بلى إنه أمامك دون المنزل، فسارا ميلا فإذا هو بالأسود، فقال الحسن (عليه السلام) لمولاه: دونك الرجل، فخذ منه الدهن وأعطه الثمن، فقال الأسود:

يا غلام لمن أردت هذا الدهن؟ فقال: للحسن بن علي فقال: انطلق بي إليه، فانطلق فأدخله إليه فقال له: بأبي أنت وأمي لم أعلم أنك تحتاج إلى هذا أو ترى ذلك ولست آخذ له ثمنا، إنما أنا مولاك ولكن ادع الله أن يرزقني ذكرا سويا يحبكم أهل البيت; فأني خلفت أهلي تمخض، فقال:

انطلق إلى منزلك فقد وهب الله لك ذكرا سويا وهو من شيعتنا.

* الشرح:

قوله (خرج الحسن بن علي (عليه السلام) إلى مكة) في هذا الحديث من إخباره (عليه السلام) بالغيب أمر أن مع ما فيه من الترغيب في المشي إلى بيت الله لأنه (عليه السلام) مشى مع كمال سعته وقدرته على الرواحل وينسحب حكمه في الزيارات.

ص:230

باب مولد الحسين بن علي (عليهم السلام)

* الأصل:

ولد الحسين بن علي (عليهم السلام) في سنة ثلاث وقبض (عليه السلام) في شهر المحرم من سنة إحدى وستين من الهجرة وله سبع وخمسين سنة وأشهر. قتله عبيد الله بن زيادة لعنه الله في خلافة يزيد بن معاوية لعنه الله وهو على الكوفة وكان على الخيل التي حاربته وقتلته عمر بن سعد لعنه الله بكربلاء يوم الاثنين، لعشر خلون من المحرم وامه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

16 - سعد وأحمد بن محمد جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قبض الحسين ابن علي (عليهما السلام) يوم عاشورا وهو ابن سبع وخمسين سنة.

* الأصل:

17 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الرحمن العرزمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بين الحسن والحسين (عليهما السلام) طهر وكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشرا.

* الشرح:

قوله (ولد الحسين بن علي (عليهم السلام) في سنة ثلاث) هذا لا ينافي ما روي من أنه ولد الحسن بن علي في سنة ثلاث لما سيجيء من أنه كان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشرا، قال القرطبي: ولد الحسن بن علي في سنة ثلاث والحسين بن علي في سنة أربع، وقال: كان الحسن فاضلا كثير الصلاة والصوم والحج، حج خمسا وعشرين ماشيا، وقال النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي الحسين «سيدا شباب أهل الجنة» وقال، «هما ريحانتاي» وفي أبي داود: إن الحسن والحسين جاءا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يخطب فقطع الخطبة ونزل فأخذهما وصعد بهما المنبر وقال: رأيت هذين فلم أصبر. وقتل الحسين (عليه السلام) سنة احدى وستين بموضع يقال له: كربلاء، قرب الكوفة.

قوله (قال: كان بين الحسن والحسين (عليهم السلام) طهر) أي أقل زمان الطهر وهو عشرة أيام وكان مدة الحمل ستة أشهر فكان بينهما في الميلاد ستة أشهر وعشرة أيام، والمولد الموضع والوقت،

ص:231

والميلاد الوقت لا غير.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، والحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حملت فاطمة (عليها السلام) بالحسين جاء جبرئيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ستلد غلاما تقتله أمتك من بعدك، فلما حملت فاطمة بالحسين كرهت حمله وحين وضعته كرهت وضعه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): لم تر في الدنيا أم تلد غلاما تكرهه ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل، قال: وفيه نزلت هذه الآية: (ووصينا الإنسان بوالديه احسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).

* الشرح:

قوله (وفيه نزلت هذه الآية ووصينا الإنسان) قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية: قوله عز وجل: (بوالديه) إنما عني الحسن والحسين صلوات الله عليهما، ثم عطف الحسين صلوات الله عليه فقال: (حملته امه كرها ووضعته كرها) وذلك إن الله تبارك وتعالى أخبر نبيه (صلى الله عليه وآله) وبشره بالحسين قبل حمله وأن الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة، ثم أخبره تعالى بما يصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده، ثم عوضه بأن جعل الإمامة في عقبه وأعلمه أنه يقتل ثم يرده إلى الدنيا وينصره حتى يقتل أعداءه ويملكه الأرض وهو قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) الآية، وقوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فبشر الله نبيه (صلى الله عليه وآله) أن أهل بيتك يملكون الأرض ويرجعون إليها ويقتلون أعداءهم فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة صلوات الله عليها بخبر الحسين (عليه السلام) وقتله فحملته كرها، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): فهل رأيتم أحدا يبشر بولد ذكر فيحمله كرها. أي أنها اغتمت فكرهت لما أخبرها بقتله ووضعته كرها لما علمت من ذلك وكان بين الحسن والحسين (عليهم السلام) طهر واحد وكان الحسين (عليه السلام) في بطن امه ستة أشهر وفصاله أربعة وعشرون شهرا وهو قول الله تبارك وتعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن علي بن إسماعيل، عن محمد بن عمرو الزيات، عن رجل من

ص:232

أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن جبرئيل (عليه السلام) نزل على محمد (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة، تقتله أمتك من بعدك فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمتي من بعدي، فعرج ثم هبط (عليه السلام) فقال له مثل ذلك، فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي فعرج جبرئيل (عليه السلام) إلى السماء ثم هبط فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: قد رضيت ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يولد لك، تقتله أمتي من بعدي فأرسلت إليه لا حاجة في مولود [مني] تقتله أمتك من بعدك، فأرسل إليها أن الله قد جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه إني قد رضيت ف (حملته كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي) فلولا أنه قال: أصلح لي في ذريتي لكانت دريته كلهم أئمة ولم يرضع الحسين من فاطمة (عليها السلام) ولا من أنثى، كان يؤتى به النبي فيضع إبهامه في فيه فيمص منها ما يكفيها اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين (عليه السلام) من لحم رسول الله ودمه (صلى الله عليه وآله) ولم يولد لستة أشهر إلا عيسى بن مريم (عليه السلام) والحسين بن علي (عليهم السلام).

وفي رواية أخرى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يؤتى به الحسين فيلقمه لسانه فيمصه فيجتزىء به ولم يرتضع مع أنثى.

* الشرح:

قوله (ولم يولد لستة أشهر) يعني لم يولد لستة أشهر ولد يعيش وقد يقال إن يحيى (عليه السلام) أيضا ولد لستة أشهر.

قوله (فيلقمه لسانه) لا ينافي ما سبق لوقوع هذا تارة وذلك أخرى.

* الأصل:

5 - علي بن محمد رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله الله عز وجل: (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) قال: حسب فرأى ما يحل بالحسين (عليه السلام) فقال: إني سقيم لما يحل بالحسين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (فقال: إني سقيم) ما كان (عليه السلام) سقيما في بدنه وإنما كان سقيما في نفسه ومغموما في قلبه لأجل ما رأى ينزل بالحسين (عليه السلام) ولد خاتم الأنبياء من المصيبة والبلية في نفسه وأهله وولده.

* الأصل:

6 - أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن عن محمد بن عيسى بن عبيد عن علي بن أسباط

ص:233

عن يوسف ابن عمير عن محمد بن حمران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان ضجت الملائكة إلى الله بالبكاء وقالت: يفعل هذا بالحسين صفيك وابن نبيك؟ قال: فأقام الله لهم ظل القائم (عليه السلام) وقال: بهذا أنتقم لهذا.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى; عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزل النصر على الحسين بن علي حتى كان بين السماء والأرض ثم خير: النصر أو لقاء الله فاختار لقاء الله.

* الشرح:

قوله (نزل النصر) النصر الإعانة يقال نصره ينصره نصرا أي أعانه على عدوه وشد منه والمراد به نصره بالملائكة فقيل نزل ثمانون ألفا من الملائكة وروي أربعة آلاف منهم.

* الأصل:

8 - الحسين بن محمد قال: حدثني أبو كريب وأبو سعيد الأشج قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه إدريس بن عبد الله الأودي قال: لما قتل الحسين (عليه السلام) أراد القوم أن يوطئوه الخيل، فقالت فضة لزينب: يا سيدتي إن سفينة كسر به في البحر فخرج إلى جزيرة فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهمهم بين يديه حتى وقفه على الطريق والأسد رابض في ناحية، فدعني أمضي إليه وأعلمه ما هم صانعون غدا، قال: فمضت إليه فقالت يا أبا الحارث فرفع رأسه ثم قالت: أتدري ما يريدون أن يعملوا غدا بأبي عبد الله (عليه السلام)؟ يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره، قال: فمشى حتى وضع يديه على جسد الحسين (عليه السلام)، فأقبلت الخيل فلما نظروا إليه قال لهم عمر ابن سعد - لعنه الله - فتنة لا تثيروها انصرفوا، فانصرفوا.

* الشرح:

قوله (إدريس بن عبد الله الأودي) لم أعرفه بهذه النسبة وفي بعض النسخ الأزدي وهو بهذا النسب من أصحاب الصادق (عليه السلام).

قوله (أراد القوم أن يوطئوه الخيل) وطئ الشيء برجله وطء وأوطأ فلان فلانا دابته أي ألقاه لها حتى وضعت عليه رجلها.

قوله (لزينب) هي بنت أمير المؤمنين (عليه السلام).

قوله (إن سفينة كسر به في البحر) قال ابن حجر في التقريب سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكنى أبا عبد الرحمن يقال: كان اسمه مهران أو غير ذلك فلقب سفينة لكونه حمل شيئا كثيرا في السفر مشهور له أحاديث. وقال الذهبي أعتقته أم سلمة وفي اسمه أقوال فقيل: عمر، وقيل: سعيد بن

ص:234

جمهان وقيل: أبو ريحان، مات مع جابر. وقيل: سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكنى أبا عبد الرحمن وأما ريحانة واسمه مهران لقب بالسفينة وقصته مشهورة واختلف في نقلها ففي كتاب الخرائج عن ابن الأعرابي عن سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: خرجت غازيا فكسر بي المركب فغرق مع ما فيه وأفلت وما علي إلا خرقة إلى آخر ما نقله، والقصة طويلة وحاصله أنه ضل الطريق فهداه الأسد وأوصله إليه. وفي شرح السنة: سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخطأ الجيش بأرض الروم وأسر فانطلق هاربا يطلب الجيش فإذا هو بأسد فقال. يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله وكان من أمري كيت وكيت فأقبل الأسد حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوتا أهوى إليه ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى أبلغه الجيش ثم رجع. وقال المازري: اسم سفينة قيس، وقيل: نجران، وقيل: رومان، وقيل: مهران، وكنيته المشهورة أبو عبد الرحمن وسبب تسميته بسفينة أنه حمل متاعا كثيرا لرفقائه في الغزو فقال (صلى الله عليه وآله): أنت سفينة.

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن علي، عن يونس، عن مصقلة الطحان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما قتل الحسين (عليه السلام) أقامت امرأته الكلبية عليه مأتما وبكت وبكين النساء والخدم حتى جفت دموعهن وذهبت فبينا هي كذلك إذا رأت جارية من جواريها تبكي ودموعها تسيل فدعتها فقالت لها: مالك أنت من بيننا تسيل دموعك؟ قال: إني لما أصابني الجهد شربت شربة سويق، قال: فأمرت بالطعام والأسوقة. فأكلت وشربت وأطعمت وسقت وقالت: إنما نريد بذلك أن نتقوى على البكاء على الحسين (عليه السلام) قال: وأهدى إلى الكلبية جونا لتستعين بها على مأتم الحسين (عليه السلام) فلما رأت الجون قالت: ما هذه؟ قالوا: هدية أهداها فلان لتستعيني على مأتم الحسين (عليه السلام) فقالت: لسنا في عرس، فما نصنع بها ثم أمرت بهن فأخرجن من الدار فلما أخرجن من الدار لم يحس لها حس كأنما طرن بين السماء والأرض ولم ير لهن بها بعد خروجهن من الدار أثر.

* الشرح:

قوله (أقامت امرأته الكلبية) قيل هي بنت امرء القيس الكلبي ام سكينة بنت الحسين (عليه السلام)، وبنو كلب حي من قضاعة.

قوله (وأهدى إلى الكلبية جونا) أي أهدى رجل ولو قرىء على البناء للمفعول لم يظهر وجه لنصب جونا والجون كصرد جمع الجوني وهو ضرب من القطا (1).

ص:235


1- (1) قوله «ضرب من القطا» هو الصحيح المتعين في معنى الخبر لا يحتمل غيره والعجب أن العلامة المجلسي (رضي الله عنه) ذكر وجوها آخرها أن الجون كن نساء من الجن أو كن من الأرواح الماضيات فتجسدن، ثم قال: بالجملة الخبر لا يخلو من تشويش واضطراب والحق أنه لا تشويش ولا اضطراب فيه والمعنى كما قاله الشارح من الجون طيور يقال لها بالفارسية اسفرود ومعروفة بباقرقره اهديت إلى الكلبية لتجعلها طعاما وتتقوى بها في مأتم الحسين (عليه السلام) فقالت: إطعام الطيور في المأتم غير مناسب وإنما يناسب الأغذية اللذيذة في الأعراس فأمرت فاخرجت الطيور من الدار فطرن وفقدن ولم ير لهن أثر. (ش).

باب مولد علي بن الحسين (عليهما السلام)

* الأصل:

ولد علي بن الحسين (عليهما السلام) في سنة ثمان وثلاثين وقبض في سنة خمس وتسعين وله سبع خمسون سنة، وامه سلامة بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن كسرى أبرويز وكان يزدجرد آخر ملوك الفرس.

* الشرح:

قوله: (وقبض في سنة خمس وتسعين) قال الصدوق (سمه الوليد بن عبد الملك لعنه الله فقتله) وقال حمد الله المستوفى: ذهب علماء الشيعة إلى أن الوليد بن عبد الملك بن مروان سمه.

قوله (وامه شهربانويه) في بعض النسخ سلامة، وفي بعضها شاه زنان وقد قال بعض أصحاب السير: اسمها بانو و قال بعضهم: شهربانو وقال بعضهم: سلامة، وقال بعضهم: غزالة، وقيل: روي في كشف الغمة عن ابن خشاب أن اسمها كان خويلة.

* الأصل:

1 - الحسين بن الحسين الحسني - رحمه الله - وعلي بن محمد بن عبد الله جميعا، عن إبراهيم ابن إسحاق الأحمر، عن عبد الرحمن بن عبد الله الخزاعي، عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما اقدمت بنت يزدجرد على عمر أشرف لها عذارى المدينة وأشرق المسجد بضوئها لما دخلته، فلما نظر إليها عمر غطت وجهها وقالت: اف بيروج باذان هرمز فقال عمر: أتشتمني هذه وهم بها، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ليس ذلك لك، خيرها رجلا من المسلمين واحسبها بفيئه، فخيرها فجاءت حتى وضعت يدها على رأس الحسين (عليه السلام) فقال لها أمير المؤمنين: ما اسمك؟ فقالت: جهان شاه، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): بل

ص:236

شهربانويه، ثم قال للحسين: يا أبا عبد الله لتلدن لك منها خير أهل الأرض، فولدت علي بن الحسين (عليهما السلام) وكان يقال لعلي بن الحسين (عليهما السلام): ابن الخيرتين، فخيرة الله من العرب هاشم، ومن العجم فارس. وروي أن أبا الأسود الدؤلي قال فيه:

وإن غلاما بين كسرى وهاشم * لأكرم من نيطت عليه التمائم

* الشرح:

قوله (أف بيروج باذان هرمز) معرب أف بيروز بادا هرمز، تكلمت به لما نزلت بها من إبرازها في الأجانب وخذلانها بالأسر بعد ما كانت مخدرة مستورة لا يراها أحد منهم ومعززة مكرمة عند أهلها وهذه الكلمة يتكلم بها من وقع في بلية لا تخطر بباله أصلا ولا يذهب وهمه إليها أبدا.

قوله (وهم بها) أي بتأديبها أو بأخذها لنفسه.

قوله (وأحسبها بفيئه) أي بحصته من الغنيمة.

قوله (ومن العجم فارس) ضبط بكسر الراء وفسر بفارس بن فهلو.

قوله (بين كسرى) هو بكسر الكاف وفتحها ملك الفرس معرب خسرواى واسع الملك والجمع أكاسرة.

قوله (لأكرم من نيطت عليه التمائم) النوط التعليق يقال: ناطه ينوطه نوطا أي علقه عليه، والتمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت الأعراب يعلقونها على أولادهم يتقون بها العين بزعمهم.

قال القتيبي: وبعضهم يتوهم أن المعاذات هي التمائم وليس كذلك إنما التميمة الخرزة، وقد وقع النهي عنها وأما المعاذات فلا بأس بها إذا كتب فيها القرآن أو أسماء الله تعالى، قال الأزهري: ومن جعل التمائم سيورا فغير مصيب، وأما قول الفرزدق:

وكيف يضل العنبري ببلدة * بها قطعت عنه سيور التمايم فإنه أضاف السيور إليها لأنها تثقب وتجعل فيها سيور أو خيوط تعلق بها ومقصود أبي الأسود أنه (عليه السلام) كريم نجيب من الطرفين طرف الأب وطرف الأم وهو أكرم الخلق وأشرفهم.

* أصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان لعلي بن الحسين (عليهما السلام) ناقة، حج عليها اثنين وعشرين حجة، ما قرعها قرعة قط، قال: فجاءت بعد موته وما شعرنا بها إلا وقد جاءني بعض خدمنا أو بعض الموالي فقال: إن الناقة قد خرجت فأتت قبر علي بن الحسين فانبركت عليه، فدلكت بجرانها القبر وهي ترغو، فقلت: أدركوها أدركوها وجيئوني بها قبل أن يعلموا بها أو يروها، قال: وما

ص:237

كانت رأت القبر قط.

* الشرح:

قوله (أو بعض الموالي) الترديد من الراوي.

قوله (فدلكت بجرانها القبر وهي ترغو) الجران - بكسر الجيم وتخفيف الراء - مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره والجمع جرن، والرغا صوت ذوات الخف، رغى البعير والنعام والظبي رغاء بالضم صوتت فضجت.

قوله (قبل أن يعلموا بها) دل على أنهم عليهم السلام كانوا على كمال الخوف من الأعداء حتى لو صدر فعل دل على كمال منزلتهم، ولو من عديم العقل خافوا منه.

قوله (أو يروها) يحتمل الجمع، والترديد من الراوي.

* أصل:

3 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى، عن حفص بن البختري، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما مات أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) جاءت ناقة له من الرعي حتى ضربت بجرانها على القبر وتمرغت عليه، فأمرت بها فردت إلى مرعاها وإن أبي 7 كان يحج عليها ويعتمر ولم يقرعها قرعة قط.

* الأصل:

ابن بابويه:

4 - الحسين بن محمد بن عامر، عن أحمد بن إسحاق بن سعد، عن سعدان بن مسلم، عن أبي عمارة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما كان في الليلة التي وعد فيها علي بن الحسين (عليهما السلام) قال لمحمد (عليه السلام): يا بني ابغني وضوءا قال: فقمت فجئته بوضوء، قال: لا أبغي هذا فإن فيه شيئا ميتا، قال فخرجت فجئت بالمصباح فإذا فيه فارة ميتة فجئته بوضوء غيره، فقال: يا بني هذه الليلة التي وعدتها، فأوصى بناقته أن يحظر لها حظار وأن يقام لها علف، فجعلت فيه. قال: فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتي محمد بن علي فقيل له:

إن الناقة قد خرجت فأتاها فقال: صه الآن قومي بارك الله فيك، فلم تفعل. فقال: وإن كان ليخرج عليها إلى مكة فيعلق السوط على الرحل فما يقرعها حتى يدخل المدينة، قال: وكان علي بن الحسين (عليهما السلام) يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب فيه الصرر من الدنانير والدراهم حتى يأتي

ص:238

بابا بابا; فيقرعه ثم ينيل من يخرج إليه فلما مات علي بن الحسين (عليهما السلام) فقدوا ذاك، فعلموا أن عليا (عليه السلام) كان يفعله.

* الشرح:

قوله (ابن بابويه الحسين بن محمد) أي هذا الحديث في كتاب ابن بابويه ولعل المراد به على ابن الحسين (1) بن موسى بن بابويه لا ابنه محمد بن على لتأخره عن المصنف.

قوله (ابغنى وضوءا) قال ابن الأثير يقال ابغنى كذا بهمزة الوصل أي اطلب لي وبهمزة القطع أي أعنى على الطلب فيجوز هنا الوصل والقطع والوضوء بالفتح ما يتوضؤ به.

قوله (فأوصى بناقته أن يحظر لها حظار) أي يجعل لها حظار والحظار بفتح الحاء المهملة وكسرها، والظاء المعجمة الحظيرة وهي الموضع الذي يحاط عليه لتأوى إليه الغنم والإبل ويقيها من الريح والحر والبرد، وفي أكثر النسخ أن يحضر بالضاد وهذه الوصية أما لأجل الشفقة عليها، أو لئلا تضطرب بموته (عليه السلام) ولا تخرج كما فعلت.

قوله (صه الآن قومي) في النهاية: صه كلمة زجر يقال عند الإسكات، ويكون للواحد والاثنين والجمع المذكر والمؤنث بمعنى اسكت وهي من أسماء الأفعال وتنون ولا تنون فإذا نونت فهي للتنكير كأنك قلت اسكت سكوتا، وإذا لم تنون فللتعرف أي اسكت السكوت المعروف منك، ومعنى قوله «فلم تفعل» أنها سكتت ولم تفعل بعد الأمر بالقيام ذلك الفعل.

5 - محمد بن أحمد، عن عمه عبد الله بن الصلت، عن الحسن بن علي بن بنت إلياس عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن علي بن الحسين (عليهما السلام) لما حضرته الوفاة أغمي عليه ثم فتح عينيه وقرأ (إذا وقعت الواقعة) (وإنا فتحنا لك) وقال: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين. ثم قبض من ساعته ولم يقل شيئا.

6 - سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قبض علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو ابن سبع وخمسين سنة، في عام خمس وتسعين، عاش بعد الحسين خمسا وثلاثين سنة.

ص:239


1- (1) قوله «لعل المراد به على بن الحسين» رواية الكليني عن ابن بابويه هذا غير معهود وإن كان في عصره والأوضح أن المراد هو الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه، المعنى أن هذا الخبر كان في نسخة ابن بابويه كما قد يقال في نسخة الصفواني كذا وكان للكافي نسخ متعددة وقد يتفق اختلاف في نسخه فيصرح الراوي بأن هذا من أي نسخة وقد نرى في أوائل الكتاب سلسلة اسناد قبل صاحب الكتاب لتعيين النسخة المنقول عنها. (ش).

باب مولد أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام

اشاره:

ولد أبو جعفر (عليه السلام) سنة سبع وخمسين وقبض (عليه السلام) سنة أربع عشرة ومائة وله سبع وخمسون سنة ودفن بالبقيع بالمدينة في القبر الذي دفن فيه أبوه علي بن الحسين (عليه السلام) وكانت أمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وعلى ذريتهم الهادية.

* الشرح:

قوله (عاش بعد الحسين خمسا وثلاثين سنة) فكان له حين قتل أبيه عليهما السلام اثنتان وعشرون سنة.

قوله (وقبض (عليه السلام) سنة أربع عشرة ومائة) قال الصدوق: سمه إبراهيم بن الوليد، وقال بعض أرباب السير: سمه عند علماء الشيعة هشام بن عبد الملك بن مروان عليه اللعنة والخذلان.

قوله (كانت أمه أم عبد الله) وهذه كنيتها واسمها فاطمة.

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن عبد الله بن أحمد، عن صالح بن مزيد عن عبد الله ابن المغيرة، عن أبي الصباح، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت امي قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وسمعنا هدة شديدة، فقالت بيدها: لا وحق المصطفى ما أذن الله لك في السقوط فبقي معلقا في الجو حتى جازته فتصدق أبي عنها بمائة دينار، قال: أبو الصباح: وذكر أبو عبد الله (عليه السلام) جدته أم أبيه يوما فقال: كانت صديقة: لم تدرك في آل الحسن (عليه السلام) امرأة مثلها.

محمد بن الحسن، عن عبد الله بن أحمد مثله.

* الشرح:

قوله (وسمعنا هدة شديدة) الهدة صوت ما يقع من السماء مثل الحايط ونحوها قوله «فقالت بيدها لا» معناه أشارت بيدها لا تسقط أولا تنزل أو قالت وحق المصطفى ما أذن الله لك في السقوط حتى أجوز حال كونها مشيرة بيدها لا.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن جابر بن عبد الله الأنصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت وكان يقعد في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو معتجر بعمامة سوداء وكان ينادي يا باقر العلم، يا باقر العلم، فكان أهل المدينة يقولون: جابر يهجر، فكان يقول: لا

ص:240

والله ما أهجر ولكني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنك ستدرك رجلا مني اسمه اسمي وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقرا، فذاك الذي دعاني إلى ما أقول، قال: فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذا مر بطريق في ذاك الطريق كتاب، فيه محمد بن علي، فلما نظر إليه قال: يا غلام أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي نفسي بيده: يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين، فأقبل عليه يقبل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمي أبوك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرئك السلام ويقول ذلك، قال: فرجع محمد بن علي بن الحسين إلى أبيه وهو ذعر فأخبره الخبر، فقال له: يا بني وقد فعلها جابر قال: نعم قال: ألزم بيتك يا بني فكان جابر يأتيه طرفي النهار وكان أهل المدينة يقولون: واعجباه لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يلبث أن مضى علي ابن الحسين (عليهما السلام) فكان محمد بن علي يأتيه على وجه الكرامة لصحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فجلس (عليه السلام) يحدثهم عن الله تبارك وتعالى، فقال أهل المدينة: ما رأينا أحدا أجرأ من هذا، فلما رأى ما يقولون حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال أهل المدينة: ما رأينا أحدا قط أكذب من هذا يحدثنا عمن لم يره، فلما رأى ما يقولون، حدثهم عن جابر بن عبد الله، قال: فصدقوه وكان جابر بن عبد الله يأتيه فيتعلم منه.

* الشرح:

قوله (وهو معتجر بعمامة سوداء) قال في النهاية: الاعتجار هو أن يلف العمامة على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.

قوله (يا باقر العلم) أي يا واسع العلم وفاتحه ومظهره من بقره إذا شقه ووسعه وكشفه وقد كانت مدارس العلوم النبوية والأحكام الشرعية مندرسة بعد على (عليه السلام) إلى زمان محمد بن علي (عليهما السلام)، وقد عمرها بإذن الله تعالى.

قوله (يهجر) يجوز بضم الياء من باب الإفعال وفتحها من باب طلب يقال أهجر في منطقة يهجر إهجارا أي أفحش وأكثر الكلام فيما لا ينبغي وقال قبيحا من القول والاسم الهجر بالضم، وهجر يهجر هجرا بالفتح إذا خلط في كلامه وهذى بسبب كبر سن أو مرض أو جنون ومنه قول عمر مريدا به النبي (صلى الله عليه وآله) حين طلب الدواة والكتف ليكتب لهم ما لا يضلوا بعده: «إن الرجل ليهجر».

قوله (وشمائله شمائلي) الشمائل جمع الشمال وهو الطبع والخلق والخلق والصفة.

قوله (كتاب) الكتاب كرمان المكتب والجمع كتايب.

قوله (وهو ذعر) أي فزع خايف وذلك من الأعداء ولذلك أمره (عليه السلام) بلزوم البيت وعدم خروجه.

* الأصل:

ص:241

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مثنى الحناط، عن أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له: أنتم ورثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم: قلت: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وارث الأنبياء علم كل ما علموا: قال لي: نعم، قلت: فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤا الأكمه والأبرص؟ قال: نعم بأذن الله، ثم قال لي: ادن مني يا أبا محمد. فدنوت منه فمسح على وجهي وعلى عيني فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في البلد، ثم قال لي: أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصا؟ قلت: أعود كما كنت، فمسح على عيني فعدت كما كنت: قال: فحدثت ابن أبي عمير بهذا، فقال: أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق.

* الشرح:

قوله (وكل شيء في البلد) هذا العام مخصص والتعميم باعتبار الكرامة بعيد. وفي بعض النسخ في الدار وهو أظهر.

قوله (ولك الجنة خالصا) دل على أن ذا البلية لا يحاسب ويغفر له ما لا يغفر لغيره.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن علي، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنت عنده يوما إذ وقع زوج ورشان على الحائط وهدلا هديلهما فرد أبو جعفر (عليه السلام) عليهما كلامهما ساعة، ثم نهضا، فلما طارا على الحائط هدل الذكر على الانثى ساعة ثم نهضا، فقلت: جعلت فداك ما هذا الطير؟ قال: يا ابن مسلم كل شيء خلقه الله من طير أو بهيمة أو شيء فيه روح فهو أسمع لنا وأطوع من ابن آدم، إن هذا الورشان ظن بامرأته فحلفت له ما فعلت فقالت: ترضا بمحمد بن علي، فرضيا بي فأخبرته أنه لها ظالم فصدقها.

* الشرح:

قوله (إذ وقع زوج ورشان) الورشان بفتح الواو وسكون الراء وبفتحها أيضا طائر من الحمام قال الجوهري: وهو ساق حر، والزوج هنا مقابل الفرد.

قوله (وهدلا هديلهما) الهديل صوت الحمام يقال: هدل القمري يهدل هديلا مثل يهدر إذا صوت ولعل هديلهما كان من بعد نزولهما من الحايط إلى مجلس أبي جعفر (عليه السلام) بقرينة قوله: فلما طارا على الحايط مع احتمال أن يراد بهذا الحايط حايط آخر.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن صالح بن حمزة، عن أبيه، عن أبي بكر الحضرمي قال: لما حمل أبو جعفر (عليه السلام) إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه قال

ص:242

لأصحابه ومن كان بحضرته من بني امية:

إذا رأيتموني قد وبخت محمد بن علي ثم رأيتموني قد سكت فليقبل عليه كل رجل منكم فليوبخه ثم أمر أن يؤذن له، فلما دخل عليه أبو جعفر (عليه السلام) قال بيده: السلام عليكم، فعمهم جميعا بالسلام ثم جلس فازداد هشام عليه حنقا بتركه السلام عليه بالخلافة، وجلوسه بغير إذن، فأقبل يوبخه ويقول فيما يقول له: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا إلى نفسه وزعم أنه الإمام سفها وقلة علم. ووبخه بما أراد أن يوبخه، فلما سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبخه حتى انقضى آخرهم، فلما سكت القوم نهض (عليه السلام) قائما ثم قال: أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم، بناهدى الله أولكم وبنايختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكا مؤجلا وليس بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة يقول الله عز وجل: (والعاقبة للمتقين). فأمر به إلى الحبس فلما صار إلى الحبس تكلم فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن إليه فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال: يا أمير المؤمنين إني خائف عليك من أهل الشأم أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا; ثم أخبره بخبره، فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ليردوا إلى المدينة وأمر أن لا يخرج لهم الأسواق وحال بينهم وبين الطعام والشراب فساروا ثلاثا لا يجدون طعاما ولا شرابا حتى انتهوا إلى مدين، فاغلق باب المدينة دونهم فشكا أصحابه الجوع والعطش قال: فصعد جبلا ليشرف عليهم فقال بأعلى صوته: يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) قال: وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدقوني في هذه المرة وأطيعوني وكذبوني فيما تستأنفون فإني لكم ناصح، قال:

فبادروا فأخرجوا إلى محمد بن علي وأصحابه بالأسواق، فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشيخ فبعث إليه فحمله فلم يدر ما صنع به.

* الشرح:

قوله (إلى هشام بن عبد الملك) قتل زيد بن علي بن الحسن (عليه السلام) في عهد خلافته وكان أمير الجيش الذي قتله يوسف بن عمر الثقفي والي العراق.

قوله (قال بيده) أي أومأ بها.

قوله (قد شق عصا المسلمين) أي فرق جماعتهم وأوقع الخلاف بينهم ومنعهم من الالتيام والايتلاف ولم يرد العصا ولا الضرب بها ولكن جعله مثلا للتفريق، وقد يراد بالعصا الجماعة والإضافة بيانية.

ص:243

قوله (أين تذهبون وأين يراد بكم) الاستفهام للتوبيخ والتنبيه على ضلالتهم وغوايتهم، الأول لبيان سلوكهم سبيل الضلالة والغواية والثاني لبيان خروجهم عن منهج الحق والهداية الذي أراد الله تعالى من العباد وسلوكه.

قوله (إلا ترشفه) أي مسه تبركا أو قبل يديه ورجليه، وفي تاج اللغة الرشف (بوسه كردن در وقتي كه آب در دهن گردد) ونقل عن القاموس: رشفه يرشفه كنصره وضربه وسمعه مصه كارتشفه وترشفه.

قوله (أن يحولوا بينك وبين مجلسك) هذا كناية عن عزلهم له عن الخلافة ونصبهم أبا جعفر (عليه السلام).

قوله (فحمل على البريد) هو وأصحابه قال الزمخشري في الفائق: البريد الرسول ويجمع على برد بضم الباء والراء، وقد تسكن الراء للتخفيف كرسل ورسل والبريد في الأصل البغل وهي كلمة فارسية أصلها بريده دم أي محذوفة الذنب لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها فأعربت وخففت بحذف الآخر وفتح الأول ثم سمى الرسول الذي يركبه بريد أو المسافة التي بين السكتين بريدا والسكة الموضع الذي كان يسكنه الفيوح المرتبون من رباط أوقبة أو بيت أو نحو ذلك وبعد ما بين السكتين فرسخان وكان يرتب في كل سكة بغال وكتب في الحاشية: قيل والصواب أربعة فراسخ، ونقل هذا القول صاحب النهاية أيضا.

قوله (حتى انتهوا إلى مدين) قيل: هي قرية شعيب النبي، قيل: منها إلى الشام ثلاثة منازل، وقال علي بن إبراهيم ((رحمه الله)): هي قرية على طريق الشام. قوله (أنا بقية الله) مر تفسيره في باب نادرة.

قوله (لتؤخذن من فوقكم وتحت أرجلكم) وهو كان في ذلك ناصحا أمينا إذ لو لم ينزلوا لنزل عليهم عذاب أليم مثل ما نزل على قوم شعيب كما قال الله عز شأنه: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود).

* الأصل:

6 - سعد بن عبد الله والحميري جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قبض محمد بن علي الباقر وهو ابن سبع وخمسين سنة، في عام أربع عشرة ومائة، عاش بعد علي ابن الحسين (عليهما السلام) تسع عشرة سنة وشهرين.

ص:244

باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام

* الأصل:

ولد أبو عبد الله (عليه السلام) سنة ثلاث وثمانين ومضى في شوال من سنة ثمان وأربعين ومائة وله خمس وستون سنة ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده والحسن بن علي (عليهم السلام) وامه ام فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وامها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن أحمد، عن إبراهيم بن الحسن قال:

حدثني وهب بن حفص، عن إسحاق بن جرير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان سعيد بن المسيب والقاسم ابن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: وكانت امي ممن آمنت واتقت وأحسنت، والله يحب المحسنين، قال: وقالت امي: قال أبي: يا أم فروة إني لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرة، لأنا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر على ما نعلم من الثواب وهم يصبرون على مالا يعلمون.

* الشرح:

قوله (ومضى (عليه السلام) في شوال) قال الصدوق (رحمه الله): سمه أبو جعفر المنصور الدوانقي فقتله.

قوله (عن عبد الله بن أحمد - إلى آخر السند -) عبد الله مشترك بين مجهول وغيره وإبراهيم بن الحسن ووهب بن حفص غير مذكورين فيما رأيت من كتب الرجال وفي بعض النسخ وهيب بن حفص بالتصغير وهو وإسحاق بن جرير واقفيان ثقتان.

قوله (كان سعيد بن المسيب) في مدحه وذمه روايات متعارضة مذكورة في كتب الرجال وذمه بعضهم ذما عظيما والله أعلم بحقيقة حاله، وأما القاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي الأصغر واسمه وردان ليس لهما مدح ولا ذم فيما رأينا من كتب الرجال وإنما قلنا: الأصغر، لأن أبا خالد الكابلي الأكبر وأسمه كنكر قيل: إنه ينتمي إلى الغلاة، وقيل: كنكر لقب وردان وأنهما واحد والله أعلم.

قوله (قال وقالت امي قال: أبي) أراد بأبي محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) فهو (عليه السلام) نقل ما ذكر عن امه عن أبيه.

قوله (لإنا نحن فيما ينوبنا) تعليل للدعاء لهم على الوجه المذكور ودليل على أن الصبر على

ص:245

المصائب والرزايا والتحمل للنوائب والبلايا مع عدم العلم بما يترتب عليها من الأجر والثواب ليس مثل الصبر عليها مع العلم به بل الأول أشق على النفس ألا يرى أن المريض والمعاقب إذا علما زوال المرض والعقوبة كان صبرهما أسهل بالنسبة إلى من لم يعلم زوالهما ولا يلزم من ذلك أن يكون ثواب الأول أجزل من ثواب الثاني، لأن ثواب المزاول للعمل أكثر من ثواب غير المزاول له مع أن العمل على غير المزاول أشق وهذا أمر وجداني ضروري.

* الأصل:

2 - بعض أصحابنا، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الله بن القاسم، عن المفضل بن عمر قال: وجه أبو جعفر المنصور إلى الحسن ابن زيد وهو واليه على الحرمين أن احرق على جعفر بن محمد داره. فألقى النار في دار أبي عبد الله (عليه السلام) فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) يتخطى النار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (الحسن بن زيد) هو الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم تغير عليه المنصور وخاف منه فحبسه ثم أخرجه المهدي بن المنصور بعد وفاة أبيه من الحبس وقربه.

قوله (يقول: أنا ابن أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله) جمع عرق وهو الأصل والثرى الأرض يعني أنا ابن أصول الأرض أو أصول أهلها على حذف المضاف، والمراد بالأصول الأنبياء، منهم خاتم الأنبياء وإبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهم. فقد شبه الأرض وأهلها بالأشجار والأنبياء بالأصول في أن بقاءها وثباتها بهم كما أن بقاء الأشجار وثباتها بالأصول. ثم خص إبراهيم (عليه السلام) بالذكر لأن وقوعه في النار وعدم تأثيرها فيه مشهور وفي القرآن الكريم مذكور.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن البرقي، عن أبيه، عمن ذكره، عن رفيد مولى يزيد بن عمرو بن هبيرة قال: سخط علي ابن هبيرة وحلف علي ليقتلني فهربت منه وعذت بأبي عبد الله (عليه السلام) فأعلمته خبري، فقال لي: انصرف واقرئه مني السلام وقل له: إني قد أجرت عليك مولاك رفيدا فلا تهجه بسوء، فقلت له: جعلت فداك شامي خبيث الرأي فقال: اذهب إليه كما أقول لك، فأقبلت فلما كنت في بعض البوادي استقبلني أعرابي فقال: أين تذهب إني أرى وجه مقتول ثم قال لي: أخرج يدك، ففعلت فقال: يد مقتول، ثم قال لي: أبرز رجلك فأبرزت رجلي، فقال:

رجل مقتول، ثم قال لي: أبرز جسدك؟ ففعلت، فقال: جسد مقتول، ثم قال لي: أخرج لسانك،

ص:246

ففعلت، فقال لي: امض، فلا بأس عليك فإن في لسانك رسالة لو أتيت بها الجبال الرواسي لانقادت لك، قال: فجئت حتى وقفت على باب ابن هبيرة، فاستأذنت، فلما دخلت عليه قال: أتتك بحائن رجلاه يا غلام النطع والسيف ثم أمر بي فكتفت وشد رأسي وقام علي السياف ليضرب عنقي فقلت: أيها الأمير لم تظفر بي عنوة وإنما جئتك من ذات نفسي وههنا أمر أذكره لك ثم أنت وشأنك. فقال: قل، فقلت: أخلني فأمر من حضر فخرجوا فقلت له: جعفر بن محمد يقرئك السلام ويقول لك: قد آجرت عليك مولاك رفيدا فلا تهجه بسوء، فقال: الله لقد قال لك جعفر [بن محمد] هذه المقالة وأقرأني السلام فحلفت له فردها علي ثلاثا ثم حل أكتافي، ثم قال: لا يقنعني منك حتى تفعل لي ما فعلت بك.

قلت: ما تنطلق يدي بذاك ولا تطيب به نفسي، فقال: والله ما يقنعني إلا ذاك، ففعلت به كما فعل بي وأطلقته فناولني خاتمه وقال: اموري في يدك فدبر فيها ما شئت.

* الشرح:

قوله (مولى يزيد بن عمرو بن هبيرة) في معجم البلدان يزيد بن عمر بن هبيرة كان والي العراق من قبل مروان بن محمد.

قوله (واقرئه مني السلام) فيه جواز تبليغ السلام إلى الغايب والظاهر أنه يجب على الغائب أن يرده إذا بلغه.

قوله (فلا تهجه بسوء) هاجه بالسوء فهاج أي هيجه وأثار عليه فثار وبعثه فانبعث يتعدى ولا يتعدى والمقصود أني أجرت رفيدا عليك فلا تظلمه ولا تؤذيه.

قوله (قال أتتك بخائن رجلاه) خاطب ابن هبيرة نفسه والباء في بخاين للتعدية ورجلاه فاعل أتتك.

قوله (فكتفت) كتفه فهو مكتوف أي شددت يديه إلى خلفه بالكتاف وهو بالكسر حبل يشد به.

قوله (عنوة) أي قهرا وغلبة.

قوله (أخلني) أي تفردني يقال: خلوت به ومعه وإليه وأخليت به إذا انفردت به ففي الكلام حذف وإيصال.

قوله (فردها على ثلاثا) كرره إما تأكيدا لتحقق مضمونه، أو سرورا لاستماع ذلك. أو استصغارا لنفسه عن أهليته للتشرف بهذا الشرف وعن توجه مثل هذه الكرامة الجليلة إليه.

قوله (ثم حل أكتافي) الأكتاف جمع الكتاف، وفي بعض النسخ «ثم خلا كتافي» أي قطعة يقال

ص:247

خلاه واختلاه إذا قطعه.

قوله (لا يقنعني) الإقناع من القناعة أو من القنوع وهو الرضا أي لا يرضيني منك شيء حتى تفعل بي مثل ما فعلت بك.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن الخيبري، عن يونس بن ظبيان ومفضل بن عمر وأبي سلمة السراج والحسين بن ثوير بن أبي فاختة قالوا: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: عندنا خزائن الأرض ومفاتيحها ولو شئت أن أقول بإحدي رجلي أخرجي ما فيك من الذهب لأخرجت، قال: ثم قال بإحدي رجليه فخطها في الأرض خطا فانفجرت الأرض ثم قال بيده، فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر ثم قال: انظروا حسنا، فنظرنا فإذا سبائك كثيرة بعضها على بعض يتلألأ فقال له بعضنا: جعلت فداك اعطيتم ما اعطيتم وشيعتكم محتاجون؟ قال: فقال:

إن الله سيجمع لنا ولشيعتنا الدنيا والآخرة ويدخلهم جنات النعيم ويدخل عدونا الجحيم.

* الشرح:

قوله (ولو شئت أن أقول بإحدى رجلي) أي ولو شئت أن أومى أو أضرب بإحدى رجلي إلى الأرض أخرجي يا أرض ما فيك من الذهب لأخرجت. وقوله: قال بيده معناه أخذ بها، قال في النهاية: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان فتقول قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقالت له العينان سمعا وطاعة أي أومأت وقال بالماء على يده أي قلب، وقال ثبوبه أي رفعه كل ذلك على المجاز والاتساع: ويقال: قال بمعنى أقبل وبمعنى مال واستراح وضرب وغلب وغير ذلك.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن بعض أصحابه، عن أبي بصير قال: كان لي جار يتبع السلطان فأصاب مالا، فأعد قيانا وكان يجمع الجميع إليه ويشرب المسكر ويؤذيني، فشكوته إلى نفسه غير مرة، فلم ينته فلما أن ألححت عليه فقال لي: يا هذا أنا رجل مبتلى وأنت رجل معافى، فلو عرضتني لصاحبك رجوت أن ينقذني الله بك، فوقع ذلك له في قلبي فلما صرت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ذكرت له حاله، فقال لي: «إذا رجعت إلى الكوفة سيأتيك فقل له: يقول لك جعفر بن محمد دع ما أنت عليه وأضمن لك على الله الجنة» فلما رجعت إلى الكوفة أتاني فيمن أتى، فاحتبسته عندي حتى خلا منزلي ثم قلت له: يا هذا إني ذكرتك لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) فقال لي: إذا رجعت إلي الكوفة سيأتيك فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دع ما

ص:248

أنت عليه وأضمن لك على الله الجنة، قال: فبكى ثم قال لي: الله لقد قال لك أبو عبد الله هذا؟ قال:

فحلفت له أنه قد قال لي ما قلت، فقال لي: حسبك ومضى، فلما كان بعد أيام بعث إلي فدعاني وإذا هو خلف داره عريان، فقال لي: يا أبا بصير لا والله ما بقي في منزلي شيء إلا وقد أخرجته وأنا كما ترى، قال فمضيت إلى إخواننا فجمعت له ما كسوته به ثم لم تأت عليه أيام يسيرة حتى بعث إلي إني عليل فأتني فجعلت أختلف إليه واعالجه حتى نزل به الموت فكنت عنده جالسا وهو يجود بنفسه، فغشي عليه غشية ثم أفاق، فقال لي: يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا، ثم قبض - رحمة الله عليه - فلما حججت أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت عليه فلما دخلت قال لي ابتداء من داخل البيت وإحدى رجلي في الصحن والاخرى في دهليز داره: يا أبا بصير قد وفينا لصاحبك.

* الشرح:

قوله (فأعد قيانا) القيان جمع القينة وهي الأمة مغنية كانت أو غير مغنية وكثيرا ما يطلق على المغنية.

قوله (فبكى) بكى فرحا لضمان المعصوم له على الله الجنة وتأهله لهذه المنزلة العالية وقوله:

الله لقد قال لك أبو عبد الله هذا، مبالغة وتحقيق لصدور هذا القول بخصوصه لا بوجه الإبهام مثل أن يقول: دع ما أنت عليه تكن من أهل الجنة أو نحوه، فحلف أبو بصير أنه قال ذلك القول على سبيل التحقيق ولم يضمره أصلا.

قوله (فقال لي حسبك) حسبك يجوز أن يقرأ بفتح الحاء والسين وحسب الفعال الحسن له ويطلق أيضا على الفعال الحسن لآبائه، ومنه قيل: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه، وهو حينئذ أما فاعل فعل محذوف أي بلغني حسبك أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا حسبك أن فعالك الحسن ويجوز أن يقرأ بكسر الحاء وفتح السين جمع الحسبة وهو الأجر وهو حينئذ مبتدأ خبره محذوف أي أجورك في التبليغ على الله ويجوز أن يقرأ بفتح الحاء وسكون السين وهذا هو الأظهر وهو حينئذ أيضا مبتدأ خبره محذوف أي حسبك وكفاك ما بلغت وليس على الرسول إلا البلاغ أو حسبك الله وكفاك في جميع المهمات جزاء لما فعلت.

قوله (وهو يجوز بنفسه) أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله ويجود به والجود الكرم يعني أنه كان في النزع وسياق الموت كذا في النهاية.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن جعفر بن محمد بن محمد ابن الأشعث قال: قال لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر ومعرفتنا به وما كان

ص:249

عندنا منه ذكر ولا معرفة شيء عند الناس؟ قال: قلت له: ما ذاك؟ قال: إن أبا جعفر - يعني أبا الدوانيق - قال لأبي، محمد بن الأشعث: يا محمد ابغ لي رجلا له عقل يؤدي عني فقال له أبي: قد أصبته لك هذا فلان بن مهاجر خالي، قال: فاتني به، قال: فأتيته بخالي فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر خذ هذا المال وأت المدينة وأت عبد الله بن الحسن بن الحسن وعدة من أهل بيته فيهم جعفر بن محمد فقل لهم: إني رجل غريب من أهل خراسان وبها شيعة من شيعتكم وجهوا إليكم بهذا المال، وادفع إلى كل واحد منهم على شرط كذا وكذا، فإذا قبضوا المال فقل: إني رسول واحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم، فأخذ المال وأتى المدينة فرجع إلى أبي الدوانيق ومحمد بن الأشعث عنده.

فقال له أبو الدوانيق ما وراءك قال: أتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمد، فإني أتيته وهو يصلى في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فجلست خلفه وقلت حتى ينصرف فأذكر له ما ذكرت لأصحابه، فعجل وانصرف، ثم التفت إلي فقال: يا هذا اتق الله ولا تغر أهل بيت محمد فإنهم قريبوا العهد بدولة بني مروان، وكلهم محتاج، فقلت: وما ذاك أصلحك الله؟ قال: فأدنى رأسه مني وأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى كأنه كان ثالثنا، قال: فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر أعلم أنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيه محدث وإن جعفر بن محمد محدثنا اليوم وكانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة.

قوله (ولا تغر أهل بيت محمد) أي لا تدخل إليهم الهم على غفلة منهم عن حالك وقصدك ومآل أمرهم ولا تطلب منهم ذلك، يقال: اغتررت الرجل إذا طلبت غرته أي غقلته وفعله بعينه كان فعل الشيطان حيث أنه يحمل الإنسان على محابه ووراء ذلك ما يسوءه.

قوله (فأنهم قريبوا العهد) كأنه تعليل لغرتهم وغفلتهم عما يراد بهم من المكر والخديعة.

بيان ذلك: أنهم قريبوا العهد بدولة بنى مروان وبنو مروان لبعد قرابتهم وشدة عداوتهم منعوا حقوقهم فصاروا محتاجين مضطرين يقبلون منك ما عرضت عليهم من المال لغاية الاضطرار لا لإدعائهم ما تزعمون من الخلافة، ولو لم يكن حاجة ما قبلوا منك، والحاصل أن أخذهم مستند إلى الحاجة لا إلى الخلافة كما زعمتم.

* الأصل:

7 - سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: قبض أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو ابن خمس وستين سنة، في عام ثمان وأربعين ومائة وعاش بعد أبي

ص:250

جعفر (عليه السلام) أربعا وثلاثين سنة.

8 - سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر محمد بن عمر بن سعيد، عن يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: سمعته يقول: أنا كفنت أبي في ثوبين شطويين، كان يحرم فيهما وفي قميص من قمصه وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وفي برد اشتراه بأربعين دينارا.

* الشرح:

قوله (في ثوبين شطويين) الشطا اسم قرية بناحية مصر تنسب إليها الثياب الشطوية.

قوله (وفي برد اشتراه بأربعين دينارا) وفي التهذيب «لو كان اليوم لساوى أربعمائة دينار» والبرد ثوب مخطط معروف من برود اليمن والبردة الشملة المخططة.

ص:251

باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام

* الأصل:

ولد أبو الحسن موسى (عليه السلام) بالأبواء سنة ثمان وعشرين ومائة وقال بعضهم: تسع وعشرين ومائة وقبض (عليه السلام) لست خلون من رجب من سنة ثلاث وثمانين ومائة وهو ابن أربع أو خمس وخمسين سنة، وقبض (عليه السلام) ببغداد في حبس السندي بن شاهك وكان هارون حمله من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة وقد قدم هارون المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثم شخص هارون إلى الحج وحمله معه، ثم انصرف على طريق البصرة فحبسه عند عيسى بن جعفر، ثم أشخصه إلى بغداد، فحبسه عند السندي بن شاهك فتوفي (عليه السلام) في حبسه ودفن ببغداد في مقبرة قريش وامه ام ولد يقال لها: حميدة.

* الشرح:

قوله (بالأبواء) قال في النهاية: هو بفتح الهمزة وسكون الباء والمد جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه. وفي المصباح هو منزل بين مكة والمدينة قريب من الجحفة من جهة الشمال دون مرحلة.

قوله (وهو ابن أربع أو خمس وخمسين سنة) الخمس باعتبار الثمان والأربع باعتبار التسع.

قوله (وقبض (عليه السلام) ببغداد في حبس السندي بن شاهك) سمه السندي بن شاهك صاحب الحرس، وقيل يحيى بن خالد البرمكي بأمر الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور الدوانقي لعنهم الله، وبقي الرشيد بعده (عليه السلام) عشر سنين.

قوله (فحبسه عند عيسى بن جعفر) هو عيسى بن جعفر بن منصور الدوانقي وابن عم هارون وواليه في البصرة، وكان (عليه السلام) في حبسه سنة فبعث هارون إلى عيسى وأمره بقتله (عليه السلام) فأبى واستعفا عن ذلك فأشخصه هارون إلى بغداد وحبسه عند الفضل بن الربيع وبقي في حبسه مدة وأمره أيضا بقتله فأبى عنه، ثم حبسه عند الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي فضيق عليه الفضل أولا الطعام والشراب والمسكن ثم عظمه وأكرمه واحترمه ووسع عليه لما رأى منه كثرة الصلاة والصيام والخشوع فأنهى ذلك إلى هارون فغضب عليه وكتب إلى السندي أن يضرب الفضل مائة سوط فضربه ثم حبسه (عليه السلام) عند السندي ولما رأى يحيى بن خالد تغير هارون على ابنه وأسر إلى هارون

ص:252

أن يتجاوز عن تقصير ابنه وتكفل هو ذلك الفعل الشنيع فسر بذلك هارون وأمره أن يذهب إلى بغداد ويأتي بما أمره به خفية لكيلا يعلمه العلويون وغيرهم فدخل بغداد وأظهر أنه جاء لتعمير بعض العمارات وبقي أياما قلائل وأظهر ما في ضميره على السندي ففعلا ما فعلا وسمه أحدهما عليهما لعنة الله والملائكة ولعن اللاعنين.

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن علي بن السندي القمي قال: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: دخل ابن عكاشة بن محصن الأسدي على أبي جعفر (عليه السلام) وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قائما عنده، فقدم إليه عنبا فقال: حبة حبة يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع وكله حبتين حبتين فإنه يستحب، فقال لأبي جعفر (عليه السلام):

لأي شيء لا تزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج؟ قال: وبين يديه صرة مختومة، فقال: أما إنه سيجيء نخاس من أهل بربر فينزل دار ميمون، فنشتري له بهذه الصرة جارية، قال: فأتى لذلك ما أتى، فدخلنا يوما على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: ألا اخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم، فأذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية، قال: فأتينا النخاس فقال: قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحديهما أمثل من الاخرى، قلنا: فأخرجهما حتى ننظر إليهما فأخرجهما فقلنا:

بكم تبيعنا هذه المتماثلة؟ قال: بسبعين دينارا، قلنا: أحسن، قال: لا أنقص من سبعين دينارا، قلنا له: نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال:

فكوا وزنوا، فقال النخاس: لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين دينارا لم ابايعكم فقال الشيخ:

ادنوا فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون دينارا لا تزيد ولا تنقص، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر (عليه السلام) وجعفر قائم عنده فأخبرنا أبا جعفر بما كان، فحمد الله وأثني عليه ثم قال لها: ما اسمك؟ قالت: حميدة، فقال: حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة، أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب؟ قالت: بكر، قال: وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شيء إلا أفسدوه، فقالت: قد كان يجيئني فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط الله عليه رجلا أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني، ففعل بي مرارا وفعل الشيخ به مرارا فقال: يا جعفر خذها إليك. فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله (دخل ابن عكاشة) عكاشة كرمانة ويخفف صحابي وفي المغرب: عكاشة صح بالتشديد

ص:253

سماعا عن الثقات، والمحدثون على التخفيف وعن الفارابي بالتشديد لا غير وهو عكاشة ابن محصن الغنمى الأسدي.

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * قوله (سيجيء نخاس من أهل بربر) النخاس بياع الرقيق والدواب ودلالها والبربر قوم بالمغرب حفاة كالأعراب في رقة الدين وقلة العلم، كذا في المغرب.

قوله (إحديهما أمثل من الاخرى) أي أحسن وأجود وأقرب إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم.

قوله (بكم تبيعنا هذه المتماثلة) إشارة إلى واحدة منهما على التعيين ولما ادعى البايع تماثلهما مع ادعاء زيادة إحديهما في الجودة كانت كل واحدة منهما متماثلة للاخرى عند البايع والمشتري، وأما الزيادة فغير مسلمة عند المشتري كما هو المتعارف في المساومة فلذلك عبر عنها المشتري بالمتماثلة إجراء لكلامه على سنن كلام البايع ولعل هذا أجلى من القول بأن المراد بالمتماثلة المتقاربة إلى البرء يقال: تماثل من علته أي قارب البرء أو المقاربة إلى الموت ومن القول بأن المتمايلة بالياء المثناة التحتانية بعد الألف وأن المراد بها المتمايلة إلى البرء أو الموت والله أعلم.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن عبد الله بن أحمد، عن علي بن الحسين، عن ابن سنان، عن سابق بن الوليد، عن المعلى بن خنيس أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى اديت إلي كرامة من الله لي والحجة من بعدي.

* الشرح:

قوله (ما زالت الأملاك تحرسها) لعل الملك الذي كان يحرسها هو أبيض الرأس واللحية الذي كان يلطم النخاس وكان عنده عند اشترائها والله أعلم.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن أبي قتادة القمي، عن أبي خالد الزبالي قال: لما اقدم بأبي الحسن موسى (عليه السلام) على المهدي القدمة الاولى نزل زبالة فكنت احدثه، فرآني مغموما فقال لي: يا أبا خالد مالي أراك مغموما؟ فقلت: وكيف لا أغتم وأنت تحمل إلى هذه الطاغية ولا أدري ما يحدث فيك؟ فقال: ليس علي بأس إذا كان شهر كذا وكذا ويوم كذا فوافني في أول الميل، فما كان لي هم إلا إحصاء الشهور والأيام حتى كان ذلك اليوم، فوافيت الميل فمازلت عنده حتى كادت الشمس أن تغيب ووسوس الشيطان في صدري وتخوفت أن أشك فيما قال، فبينا أنا كذلك إذا نظرت إلى سواد قد أقبل من ناحية العراق،

ص:254

فاستقبلتهم فإذا أبو الحسن (عليه السلام) أمام القطار على بغلة، فقال: إيه يا أبا خالد، قلت; لبيك يا ابن رسول الله، فقال: لا تشكن، ود الشيطان أنك شككت، فقلت: الحمد لله الذي خلصك منهم فقال:

إن لي إليهم عودة لا أتخلص منهم.

* الشرح:

قوله (لما أقدم بأبي الحسن (عليه السلام) على المهدي) لما كان عالما بحاله (عليه السلام) وعلو منزلته وسمو مكانه وميل الخلق إليه خاف منه وأنهضه من المدينة إلى بغداد وحبسه فرأى في المنام بعد أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: يا محمد (فهل عسيتم أن توليتهم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) ففزع واستيقظ وطلب ربيع الحاجب وأمره باحضاره (عليه السلام)، فأحضره فعانقه المهدي وأجلسه بجنبه ونقل له الرؤيا وقال له: هل لك أن تؤمنني بخروجك علي وعلى ولدي فقال (عليه السلام): لم يخطر ببالي ذلك ولا أفعله أبدا فقال له المهدي صدقت فأوصله عشرة آلاف دينار وأمر الربيع بتجهيز سفره إلى المدينة فجهز في تلك الليلة وهيأ ما يحتاج إليه وأرسله فيها خوفا من أن يبدو للمهدي رأي ويمنعه من الذهاب فكان (عليه السلام) في المدينة إلى أن مات المهدي وقام مقامه ابنه هارون عليه اللعنة فأنهضه هارون من المدينة إلى بغداد ثانيا كما مر، قوله (فوافني) وافاه أتاه مفاعلة من الوفاء.

قوله (فقال: إيه يا أبا خالد) قال في النهاية: ايه كلمة يراد بها الاستزادة وهي مبنية على الكسر فإذا وصلت نونت فقل: ايه حدثنا، وإذا قلت: إيها بالنصب فإنما تأمره بسكوت وقد ترد المنصوبة بمعنى التصديق والرضاء بالشيء.

* الأصل:

4 - أحمد بن مهران وعلي بن إبراهيم جميعا، عن محمد بن علي، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر بن إبراهيم قال: كنت عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) إذ أتاه رجل نصراني ونحن معه بالعريض فقال له النصراني: أتيتك من بلد بعيد وسفر شاق وسألت ربي منذ ثلاثين سنة أن يرشدني إلى خير الأديان وإلى خير العباد وأعلمهم وأتاني آت في النوم فوصف لي رجلا بعلياء دمشق، فانطلقت حتى أتيته فكلمته، فقال: أنا أعلم أهل ديني وغيري أعلم مني، فقلت: أرشدني إلى من هو أعلم منك فإني لا أستعظم السفر ولا تبعد علي الشقة ولقد قرأت الإنجيل كلها ومزامير داود وقرأت أربعة أسفار من التوراة وقرأت ظاهر القرآن حتى استوعبته كله، فقال لي العالم: إن كنت تريد علم النصرانية فأنا أعلم العرب والعجم بها، وإن كنت تريد علم اليهود فباطي بن شرجيل السامري أعلم الناس بها اليوم. وإن كنت تريد علم الإسلام وعلم التوراة وعلم الإنجيل وعلم الزبور

ص:255

وكتاب هود وكلما انزل على نبي من الأنبياء في دهرك ودهر غيرك وما انزل من السماء من خبر - فعلمه أحد أولم يعلم به أحد - فيه تبيان كل شيء وشفاء للعالمين وروح لمن استروح إليه وبصيرة لمن أراد الله به خيرا وانس إلى الحق فارشدك إليه، فاأته ولو مشيا على رجليك، فإن لم تقدر فحبوا على ركبتيك، فإن لم تقدر فزحفا على استك، فإن لم تقدر فعلى وجهك فقلت: لابل أنا أقدر على المسير في البدن والمال.

قال: فانطلق من فورك حتى تأتي يثرب، فقلت: لا أعرف يثرب، قال: فانطلق حتى تأتي مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) الذي بعث في العرب وهو النبي العربي الهاشمي فإذا دخلتها فسل عن بني غنم بن مالك بن النجار وهو عند باب مسجدها وأظهر بزة النصرانية وحليتها فإن واليها يتشدد عليهم والخليفة أشد، ثم تسأل عن بني عمرو بن مبذول وهو ببقيع الزبير، ثم تسأل عن موسى بن جعفر وأين منزله وأين هو؟ مسافر أم حاضر فإن كان مسافرا فالحقه فإن سفره أقرب مما ضربت إليه، ثم أعلمه أن مطران عليا الغوطة - غوطة دمشق - هو الذي أرشدني إليك وهو يقرئك السلام كثيرا ويقول لك: إني لاكثر مناجاة ربي أن يجعل إسلامي على يديك. فقص هذه القصة وهو قائم معتمد على عصاه، ثم قال: إن أذنت لي يا سيدي كفرت لك وجلست فقال: آذن لك أن تجلس ولا آذن لك أن تكفر، فجلس ثم ألقى عنه برنسه ثم قال: جعلت فداك تأذن لي في الكلام قال: نعم ما جئت إلا له، فقال له النصراني، اردد على صاحبي السلام أو ما ترد السلام، فقال أبو الحسن (عليه السلام): على صاحبك أن هداه الله فأما التسليم فذاك إذا صار في ديننا، فقال النصراني: إني أسألك - أصلحك الله - قال: سل، قال: أخبرني عن كتاب الله تعالى الذي انزل على محمد ونطق به، ثم وصفه بما وصفه به، فقال: (حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم) ما تفسيرها في الباطن؟ فقال: أما «حم» فهو محمد (عليه السلام) وفي كتاب هود الذي انزل عليه وهو منقوص الحروف وأما «الكتاب المبين» فهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأما الليلة ففاطمة (عليها السلام) وأما قوله (فيها يفرق كل أمر حكيم) يقول: يخرج منها خير كثير فرجل حكيم ورجل حكيم ورجل حكيم، فقال الرجل: صف لي الأول والآخر من هؤلاء الرجال، فقال: إن الصفات تشتبه ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله وانه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم إن لم تغيروا وتحرفوا وتكفروا، وقديما ما فعلتم، قال له النصراني: إني لا أستر عنك ما علمت ولا اكذبك وأنت تعلم ما أقول في صدق ما أقول وكذبه، والله لقد أعطاك الله من فضله، وقسم عليك من نعمه ما لا يخطره الخاطرون ولا يستره الساترون ولا يكذب فيه من كذب، فقولي لك في ذلك الحق كما ذكرت، فهو كما ذكرت، فقال له أبو إبراهيم (عليه السلام): اعجلك أيضا خبرا لا يعرفه إلا قليل

ص:256

ممن قرأ الكتب. أخبرني ما اسم ام مريم؟ وأي يوم نفخت فيه مريم؟ ولكم من ساعة من النهار؟ وأي يوم وضعت مريم فيه عيسى (عليه السلام)؟ ولكم من ساعة من النهار؟ فقال النصراني: لا أدري، فقال أبو إبراهيم (عليه السلام): أما ام مريم فاسمها مرثا وهي وهيبة بالعربية. وأما اليوم الذي حملت فيه مريم فهو يوم الجمعة للزوال وهو اليوم الذي هبط فيه الروح الأمين وليس للمسلمين عيد كان أولى منه. عظمه الله تبارك وتعالى وعظمه محمد (صلى الله عليه وآله)، فأمر أن يجعله عيدا فهو يوم الجمعة وأما اليوم الذي ولدت فيه مريم فهو يوم الثلاثاء، لأربع ساعات ونصف من النهار، والنهر الذي ولدت عليه مريم عيسى (عليه السلام) هل تعرفه؟ قال: لا، قال: هو الفرات وعليه شجر النخل والكرم وليس يساوي بالفرات شيء للكروم والنخيل. فأما اليوم الذي حجبت فيه لسانها ونادى قيدوس ولده وأشياعه فأعانوه وأخرجوا آل عمران لينظروا إلى مريم، فقالوا لها ما قص الله عليك في كتابه وعلينا في كتابه، فهل فهمته؟ قال:

نعم وقرأته اليوم الأحدث (1)، قال: إذن لا تقوم من مجلسك حتى يهديك الله، قال النصراني: ما كان اسم امي بالسريانية وبالعربية؟ فقال: كان اسم امك بالسريانية عنقالية، وعنقورة كان اسم جدك لأبيك وأما اسم امك بالعربية فهومية وأما اسم أبيك فعبد المسيح وهو عبد الله بالعربية وليس للمسيح عبد، قال: صدقت وبررت، فما كان اسم جدي؟ قال: كان اسم جدك جبرئيل وهو عبد الرحمن سميته في مجلسي هذا قال: أما إنه كان مسلما؟ قال أبو إبراهيم (عليه السلام): نعم وقتل شهيدا.

دخلت عليه أجناد فقتلوه في منزله غيلة والأجناد من أهل الشام، قال: فما كان اسمي قبل كنيتي؟ قال: كان اسمك عبد الصليب، قال: فما تسميني؟ قال: اسميك عبد الله، قال: فإني آمنت بالله العظيم وشهدت أن لا إله إلا وحده لا شريك له فردا صمدا، ليس كما تصفه النصارى وليس كما تصفه اليهود، ولا جنس من أجناس الشرك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق فأبان به لأهله وعمي المبطلون وأنه كان رسول الله إلى الناس كافة إلى الأحمر والأسود كل فيه مشترك فأبصر من أبصر واهتدى من اهتدى وعمي المبطلون وضل عنهم ما كانوا يدعون، وأشهد أن وليه نطق بحكمته وأن من كان قبله من الأنبياء نطقوا بالحكمة البالغة وتوازروا على الطاعة لله وفارقوا الباطل وأهله والرجس وأهله وهجروا سبيل الضلالة ونصرهم الله بالطاعة له وعصمهم من المعصية، فهم لله أولياء وللدين أنصار، يحثون على الخير ويأمرون به، آمنت بالصغير منهم والكبير ومن ذكرت منهم ومن لم أذكر وآمنت بالله تبارك وتعالى رب العالمين، ثم قطع زناره وقطع صليبا كان في عنقه من ذهب، ثم قال: مرني حتى أضع صدقتي حيث تأمرني فقال: ههنا أخ لك كان على

ص:257


1- (1) كذا في جميع النسخ والصحيح «الاجدب».

مثل دينك وهو رجل من قومك من قيس بن ثعلبة وهو في نعمة كنعمتك فتواسيا وتجاورا ولست أدع أن أورد عليكما حقكما في الإسلام فقال: والله - أصحلك الله - إني لغني ولقد تركت ثلاثمائة طروق بين فرس وفرسة وتركت ألف بعير، فحقك فيها أوفر من حقي، فقال له: أنت مولى الله ورسوله وأنت في حد نسبك على حالك، فحسن إسلامه وتزوج امرأة من بني فهر وأصدقها أبو إبراهيم (عليه السلام) خمسين دينارا من صدقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأخدمه وبوأه وأقام حتى اخرج أبو إبراهيم (عليه السلام)، فمات بعد مخرجه بثمان وعشرين ليلة.

* الشرح:

قوله (بالعريض) هو بضم العين مصغرا واد بالمدينة به أموال لأهلها.

قوله (ومزابير داود) المزابير جمع المزبور وهو العلم والمراد به كتاب داود (عليه السلام) أو جمع المزبرة وهو مفعل من زبر الكتاب زبرا وزبارة وهو اتقان الكتاب والزبر بلسان اليمن الكتاب والمراد به أيضا ما ذكر وفي كثير من النسخ المعتبرة (مزامير) بالميم بدل مزابير وهو الأصوب والمزمار آلة يزمر بها والمراد بها هنا ما ذكر قال الزمخشري في الفايق: سمع يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله) صوت الأشعري وهو يقرأ فقال لقد اوتي هذا من مزامير آل داود، قال بريدة: فحدثته بذلك فقال: لو علمت أن نبي الله استمع لقراءتي لحبرتها ضرب المزامير مثلا لحسن صوت داود (عليه السلام) وحلاوة نغمته كأن في حلقه مزامير يزمر بها. والآل مقحم ومعناه الشخص، التحبر: التحسين.

قوله (فباطي بن شرجيل السامري) السامرة كصاحبة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض أحكامهم.

قوله (وشفاء للعالمين) من مرض الجهل والحيرة. روح أي راحة روحانية لمن استروح إليه وبصيرة نفسانية لمن أراد الله به خيرا يرى بها وجوه الأسرار الإلهية والمعارف الربانية، وأنس إلى الحق جل شأنه، وفيما ذكره إجمالا جميع ما هو مطلوب من نوع الإنسان فإن الساير إلى الله وطالب الانس به والوحشة عما سواه لابد له من طلب الشفاء عن الأمراض النفسانية وتحصيل الدواء للأدواء الروحانية حتى تحصل له راحة نفسانية وخفة روحانية عن تحمل مشاق تلك الأمراض فإذا صفى روحه عن كدرتها وخلص قلبه من غبرتها حصل له بصيرة كاملة يبصر بها ما في عالم الملك والملكوت ويأنس بالحي الذي لا يموت.

قوله (فإن لم تقدر فحبوا على ركبتيك) حبوا منصوب على أنه تمييز أي فاأته حبوا أو على أنه مصدر لفعل مقدر من جنسه والحبو أن يمشي على يديه وركبتيه، وفي بعض النسخ «ولو جثوا»

ص:258

بالجيم والثاء المثلثة يقال جثا يجثو جثوا إذا جلس ركبتيه.

قوله (فزحفا على استك) أي فمشيا على استك كما يمشي الطفل قبل أن يقوم، من زحف الصبي إذا انسحب على استه والاست العجز أو حلقة الدبر.

قوله (حتى تأتي يثرب) قال ابن الأثير: هي اسم مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) قديمة فغيرها وسماها طيبة وطابة كراهية للتثريب وهو اللوم والتعيير، وقيل: هو اسم أرضها، وقيل: سميت باسم رجل من العمالقة، وقال الزمخشري: يثرب اسم المدينة، وقيل: هي أرض المدينة بناحيه منها. وقال الآبي:

يثرب كانت اسم المدينة في الجاهلية وسميت في الإسلام بالمدينة وطيبة.

قوله (فسل عن بني غنم بن مالك بن النجار) (1) غنم بالفتح والتسكين أبو طايفة من الأنصار كما أن بني النجار فرقة منهم والنجار أيضا قبيلة منهم.

قوله (وهو بنقيع الزبير) النقيع بالنون في أكثر النسخ وهي البئر الكثيرة الماء ولعل الباء كما في بعض النسخ تصحيف والبقيع موضع بظاهر المدينة فيه قبور أهلها، ويقال له: بقيع الغرقد لأنه كان فيه شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه والغرقد بفتح العين المعجمة ضرب من شجر العضاة وشجر الشوك.

قوله (ثم اعلمه أن مطران عليا الغوطة) مطران النصارى وبكسر لقب لكبيرهم وعليا اسم للمكان المرتفع وليست بتأنيث الأعلى، والغوطة بالضم موضع بالشام كثير الماء والشجر وهو غوطة دمشق.

قوله (وهو قايم) الضمير للنصراني.

قوله (كفرت لك) التكفير أن يذل الإنسان ويخضع لغيره بأن يصنع يده على صدره وينحنى ويطأطأ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه.

قوله (ثم ألقى عنه برنسه) كما هو المتعارف في التعظيم عند النصارى والبرنس قلنسوة طويلة كان النساك يلبوسنها في صدر الإسلام، وعن الأزهري كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كانت أوجبة أو ممطرا.

ص:259


1- (1) قوله «عن بني غنم بن مالك بن النجار» كانت النواحي والمحلات في بلاد العرب تسمى باسم أهلها وكان منزل موسى بن جعفر (عليهما السلام) على ما يظهر من هذا الخبر في محلة بني عمرو بن مبذول وكانوا طائفة من بني غنم وكانت منازل بني غنم عند باب مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فأمره بأن يأتي باب المسجد ويسأل عن محلة بني غنم ثم عن بني عمرو بن مبذول وأمره بأن لا يغير حلية النصرانية فإن الوالي والجواسيس إذا رأوا نصرانيا يسأل عن محلة يسكنها موسى بن جعفر (عليهما السلام) لم يتهموه بالتشيع والبيعة والخروج على الخلفية ولم يمنعوه وإنما كانوا يتشددون على أهل البيت وشيعتهم. (ش).

قوله (أو ما ترد السلام) الترديد من الراوي، ويحتمل الجمع على أن يكون الهمزة للاستفهام.

قوله (على صاحبك أن هداه الله) دعا عليه بالهداية وأن بفتح الهمزة والقول بكسرها بأن معناها على صاحبك السلام بشرط الهداية فمع بعده يأباه سياق ما بعده.

قوله (قال: أخبرني عن كتاب الله الذي أنزل على محمد) الظاهر أن المراد بالكتاب هو قوله تعالى: (والكتاب المبين) «وفاعل نطق ووصف في الموضعين ما الله تعالى أو محمد (صلى الله عليه وآله) والموصول في قوله «بما وصفه» للتفخيم والتعظيم والمراد به هو قوله: (إنا أنزلناه) إلى آخر الآية، والفاء في قوله: فقال: (حم) للتفصيل أو التفريع على احتمال.

قوله (ما تفسيرها في الباطن) أي تفسير هذه الآية أو تفسير الليلة المباركة والأول أظهر وتفسيرها ظاهرا ما ذكره علي بن إبراهيم من أن الكتاب المبين القرآن والليلة ليلة القدر وأن الله تعالى أنزل القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة ثم نزل من البيت المعمور إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طول عشرين سنة (فيها يفرق كل أمر حكيم) أي في ليلة القدر يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشية يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء، ويلقيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين صلوات الله عليه ويلقيه أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى الأئمة صلوات الله عليهم حتى ينتهي ذلك إلى صاحب الزمان صلوات الله عليه ويشترط فيها البداء والمشية والتقديم والتأخير قال: حدثني بذلك أبي عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن صلوات الله عليهم، وحدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن أبي المهاجر عن أبي جعفر صلوات الله عليه قال: «يا أيها المهاجر لا يخفى علينا ليلة القدر، إن الملائكة يطوفون بنا فيها».

قوله (وهو منقوص الحروف) (1) حيث حذف أوله وآخره واقتصر على الوسط.

ص:260


1- (1) قوله «وهو منقوص الحروف» حذف الميم من أوله والدال من آخره، وكتاب هود لا يعرفه النصارى وقد وصف المجلسي (رحمه الله) في المرآة هذه الرواية بالضعف وفيه أمور منبئة عنه مثل ولادة المسيح (عليه السلام) على نهر فرات والمشهور أن مولده بيت اللحم قرية قرب بيت المقدس. وقيدوس كأنه مصحف تيدوس من جبابرة الروم كان يضيق على النصارى ويستأصلهم ولم يكن في عصر مريم وعيسى عليهما السلام بل بعد الميلاد بزمان طويل واشتبه في ذلك الأمر على الراوي وكان سمع أن تيدوس تشدد على النصارى ولم يكن يعرف زمانه، وقال بعض الشعراء: مثل النصارى قتلوا المسيحا. اشتبه الأمر عليه قاسه بقتل المسلمين علي بن أبي طالب والحسين (عليهما السلام)، وبالجملة دخل فيها أوهام من بعض الرواة لا يقدح في المقصود وهو اهتداء النصراني بهداية موسى بن جعفر عليهما السلام وأما حفظ ما جرى من الكلام بينهما فلا حاجة إلى تحقيقه. (ش).

قوله (وأما الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)) سمي به لأنه مكتوب في زبر الأولين وأخبر به جميع الأنبياء والمرسلين.

قوله (وأما الليلة ففاطمة صلوات الله عليها) سميت بها على الاتساع والتجوز لأن الزوج يأوي إلى الزوجة في الليل غالبا.

قوله (يخرج منها خير كثير) وهو الأئمة عليهم السلام ويجوز في الخير التشديد، والمراد بالرجل الحكيم أولا الحسن (عليه السلام) وثانيا الحسين (عليه السلام) وثالثا علي بن الحسين (عليهم السلام) والكل خرجوا منها لأن ولد ولد الشخص ولده أما حقيقة أو مجازا على اختلاف القولين، ويحتمل أن يكون قوله «فرجل حكيم» منقطعا عما قبله وبيانا للأئمة لا تفصيلا لمن يخرج منها فيراد حينئذ بالرجل الحكيم أولا علي (عليه السلام). وثانيا الحسن (عليه السلام) وثالثا الحسين وهذا أنسب بسياق ما بعده كما لا يخفى على المتأمل.

قوله (فقال الرجل: صف لي الأول - الخ) كأنه سأل عن صفاتهم وشمائلهم. لعلمه بها في كتابه وإنما اقتصر بالأول والآخر لأن بمعرفتهما يحصل له المعرفة بحقيقة جميعهم. أو أراد صف الأول إلى الآخر، وإرادة هذا المعنى من مثل هذا العبارة شايعه فقال (عليه السلام): إن الصفات تشتبه وتختلط فهي وأن بولغ فيها لا تكاد تنتهي إلى شيء تسكن إليه النفس. ويتعين الموصوف به ولكن الثالث من القوم الحكماء الأوصياء الذين أوجب الله تعالى طاعتهم وهو الحسين بن علي وفاطمة بنت محمد صلوات الله عليهم كما هو في كتابكم أصف لك ما يخرج من نسله وهو قائم آل محمد الذي يظهر الدين ويغلب على الأعداء، وهو أيضا في كتابكم كما أشار إليه بقوله: وإنه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم واستعمال ما في مقام من شايع، ومنه قوله تعالى: (والسماء وما بناها) ولما ذكر هذه العلامة التي دلت على صدق نبوة خاتم الأنبياء وحقية خلافة الأوصياء عند النصراني لكونها مذكورة في كتابهم صدقه النصراني، وقال مخاطبا له (عليه السلام) في آخر كلامه: فقولي لك في ذلك الحق كلما ذكرت فهو كما ذكرت، يعني هو الحق لا ريب فيه، وأما قوله: «إني لا أستر عنك - إلى قوله - فقولي» فهو تمهيد لهذا التصديق وأشعار بأن العاقل لا ينبغي أن يكذب الصادق العالم المتبحر، لأنه مع إنكار الصدق يوجب ظهور الجهل فيه، وقوله «والله لقد أعطاك الله من فضله» تأكيد لما قبله من علمه (عليه السلام) بصدقه وكذبه في كل ما يقول مع ما فيه من إظهار كمال نفسه بسبب معرفة كماله (عليه السلام) وقوله: «ولا يكذب فيه من كذب» أيضا تأكيد لما قبله أي لا يقدر أن يكذبك فيما ذكرت من أراد أن يكذبك على قراءة التشديد فيهما أومن شأنه الكذب على قراءة التخفيف في الثاني أو لا يكذب فيه من شأنه الكذب على قراءة التخفيف فيهما، وذلك لظهور صدقك وفضلك وكما لك في غاية

ص:261

الظهور والله أعلم.

قوله (فاسمها مرتا) وهي بالتاء المثناة الفوقانية أو الثاء المثلثة كما في بعض النسخ سريانية، ومعناها وهيبة بالعربية بضم الواو وفتحها.

قوله (ولدت عليه) أي على شاطيه، وفي بعض النسخ فيه أي في شاطيه وليس يساوي بالفرات شيء للكروم والنخيل. والباء زايدة للمبالغة في التعدد إلا أن يعتبر تضمين معنى المقابلة، وشئ فاعل يساوي واللام في «للكروم» بمعنى في والمعنى أن الفرات أكثر كرما ونخيلا وأجودهما من غيره، ولا يساويه شيء من الأنهار فيهما.

قوله (فأما اليوم الذي حجبت فيه لسانها) أي منعت مريم لسانها من التكلم وقالت (اني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا (فلن اكلم اليوم إنسيا) أي بعد أن أخبرتكم بنذري، وقيل: أخبرتهم بالإشارة.

قوله (فقالوا لها ما قص الله عليك في كتابه وعلينا في كتابه) من تعبيرهم وتوبيخهم لها وسكوتها واشارتها إلى عيسى (عليه السلام) وحوالة الجواب إليه وتكلمه بقوله: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) إلى آخر ما ذكره الله تعالى في سورة مريم، وينبغي أن يعلم أن تكلمه إنما كان لأن الله تعالى خلفه له عقلا كاملا وفهما صحيحا وإدراكا تاما كما يكون للأنبياء عليهم السلام في حال كمال جسمهم لأنهم عليهم السلام بلغاء بحسب العقل دائما وإن كانوا صغارا بحسب الجسم في بعض الأحيان وليس ذلك التكلم باعتبار أنه أجرى ذلك الكلام فيه وهو لا يعقل كما خلقه في بعض الجمادات مع بقائه على جماديته هذا إذا كان المتكلم نبيا أو وصيا وأما غيرهما مثل شاهد يوسف (عليه السلام) فيحتمل الأمرين والله أعلم.

قوله (قال نعم وقرأته اليوم الأجدب) أي قرأت في الإنجيل ما وقع في ذلك اليوم وهو اليوم المسمى باليوم الأجدب عندنا لتوجه الكرب والشدة فيه إليها ووقوع العيب والذم عليها من جدبه إذا ذمه وعابه وكل عايب جادب.

قوله (قال النصراني ما كان اسم امي) لعل فيه اقتصار في اللفظ دون القصد أي ما كان اسم امي وجدتي وأبي بالسريانية والعربية بقرينة ذكر اسم جدته وأبيه في الجواب ويحتمل أن يكون السؤال عن اسم الجدة والأب مسكوتا عنه في النية أيضا ويكون ذكر الجد والأب في الجواب زيادة إفادة لأظهار زيادة كرامة.

قوله (عنقالية وعنقورة) ضبط بالقاف وفتح العين فيهما والراء في الأخيرة فيما رأيناه من النسخ، وبالدال بدل الراء في بعض النسخ. ولم يذكر ما اسم الجدة بالعربية وحمل الأم في قوله

ص:262

«وأما اسم امك» على المسمى بها وإن كان من باب الاتساع لتشمل الجدة ويعود الاسمان بالسريانية إلى معنى واحد بالعربية بعيد جدا.

قوله (قال صدقت وبررت) أي صدقت فيما قلت من أنه ليس للمسيح عبد (1) وبررت في تغيير اسم أبي وتسميته بعبد الله.

قوله (قال كان اسم جدك جبرئيل وهو عبد الرحمن سميته في مجلسي هذا) سميته يحتمل التكلم والخطاب فمعناه على الأول أن اسم جدك كان جبرئيل وسميته أنا عبد الرحمن في هذا المجلس، وعلى الثاني أنك سميته في نفسك عبد الرحمن في هذا المجلس لتعلم مبلغ علمي، وفيه حينئذ كرامة أخرى.

قوله (غيلة) الغيلة القتل خفية بالخنق بالخاء المعجمة وكسر النون وهو عصر الحلق، واغتاله قتله غيلة.

قوله (قال: كان اسمك عبد الصليب) الصليب شيء مثلث كالتمثال تعبده النصارى.

قوله (قال: فإني آمنت) لما ذكر (عليه السلام) أن الأئمة عليهم السلام مذكورون في كتاب النصراني وألزمه التصديق به وأخبره بأشياء من الغيب علم النصراني أن الله تعالى لا شريك له كما زعمته النصارى وأن خاتم الأنبياء حق وأن الأئمة من عترته صادقون في كل ما يقولون رجع عن الباطل إلى الحق فقال: آمن بالله، ووصفه بالعظمة المطلقة التي تنافي الشركة في استحقاق العبودية ثم صرح بذلك، وقال: شهدت أن لا إله إلا الله، للتنبيه على أن ذلك القول صدر منه من صميم القلب وأنه تعالى هو المستحق بالعبادة والألوهية وأثبت بقوله: وحده، أنه كان لم يزل منفردا لم يكن معه غيره سواء كان الغير مستحقا للعبادة أو لم يكن، ونفى بقوله: لا شريك له، الشريك مطلقا وإن لم يكن مثله في ذاته وصفاته، وبقوله: فرد، التركيب والتجزى إذ الفردية المطلقة ينافي التركيب لظهور أن الجزء غير الكل فلا يكون الكل متصفا بالفردية على الإطلاق، ثم أشار بقوله: صمدا، إلى أنه تعالى شأنه مبدأ كل شيء، والدائم الباقي بعد كل شيء وإليه يصمد في الحوائج كلها، وبذلك تم التوحيد إلا إنه أردفه للمبالغة، والتأكيد بقوله: ليس كما يصفه النصارى، من أن عيسى ابنه وأنه ثالث ثلاثة، وليس

ص:263


1- (1) قوله «ليس للمسيح عبد» إن قيل: إنا نسمي بعبد النبي وعبد الحسين فهل هي حرام؟ وما الفرق بينه وبين عبد المسيح؟ قلنا: أولا أن هذه الرواية ضعيفة لا يطمئن النفس بخفظ الرواة جميع ألفاظ الإمام (عليه السلام) وثانيا أن عبد المسيح كان عندهم بمعنى عبد الله والمسيح عندهم هو الله والنهي بهذا الاعتبار فغير (عليه السلام) اسمه استظهارا وأما إن امن من هذا التوهم ولم يكن لفظ العبد دالا على العبادة بل على عبودية الرق والخدمة فلا منع قطعا كعبد المطلب وأولى منه أن لا يقصد المعنى الإضافي أصلا كعبد مناف. (ش).

كما يصفه اليهود من أن عزيرا ابنه، ولا جنس من أجناس الشرك مثل المجسمة والمشبهة والمصورة والثنوية وغيرهم من أصحاب الملل الفاسدة.

قوله (ثم قطع زناره) هو ما على وسط النصارى والمجوس (1).

قوله (صدقتي) هي ذهب الصليب.

قوله (وهو في نعمة) هي نعمة الإيمان.

قوله (ولقد تركت ثلاثمائة طروق بين فرس وفرسة) الطروق فعول بمعنى فاعل وهو الفحل الذي يستحق أن ينزو على الأنثى، وأما الطروقة فهي فعولة بمعنى مفعولة وهي الأنثى التي يستحق أن ينزو عليها الفحل، وفي المصباح: الفرس يقع على الذكر والانثى قال ابن الأنباري: وربما بنوا الانثى على الذكر فقالوا فيها فرسة، وحكاه يونس سماعا من العرب. إذا عرفت هذا فنقول: ظاهر العبارة أن ثلاثمائة طروق غير فرس وفرسة وأن عددها غير معلوم ويحتمل أن يراد أن الفرس والفرسة ثلاثمائة بعضها طروق وبعضها طروقة، وفيه خلاف ظاهر من وجهين أحدهما إطلاق الطروق على الطارق والمطروقة معا. والثاني تغليب الذكر على الانثى فليتأمل.

قوله (فحقك فيها أوفر من حقي) هذا القول إما لقصد التعظيم والصلة، أو لظنه وجوب الزكاة على الكافر إذا أسلم أو لما عليه من الزكاة بعد الإسلام ثم كونه أوفر أما باعتبار الكمية فإن الفريضة قد تزيد على الأصل إذا أخذت في سنوات متعددة أو باعتبار الكيفية فإن نفع المأخوذ للمالك أكثر من الباقي له ونسبة الحق إليه (عليه السلام) باعتبار أنه الآمر بأخذه، والصارف في محله لا باعتبار أنه مالكه ومستحقه.

قوله (أنت مولى الله ورسوله) أي معتقهما من النار أو ناصرهما ومحبهما أو المنتسب إليهما،

ص:264


1- (1) قوله «هو ما على وسط النصارى والمجوس» والأصل أن الزنار للمجوس ويعرف عندهم بكستي ومعربه كستيج وهو من شعائرهم التي لا يتركونها بحال وأما النصارى فليس عندهم شيء موظف إلا أن يجب عليهم عقد علامة ولا لهم شعار وإنما يطلق الزنار على منطقتهم إن كانت لهم منطقة مجازا وتشبيها والسر فيه أن الرواة من العجم كانوا معاشرين للمجوس ومساكنين لهم في بلادهم فزعموا أن كل كافر له زنار وكستيج حتى إنهم عبروا عن الإسلام بقطع الكستيج ورووا أن يهوديا أسلم على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وقطع كستيجه وليس لليهود كستيج ولا يعد استعمال أمثال هذه الكلمات على خلاف وضعها الأصلي غلطا إذا اشتهر في كلام العرب وقبله الفصحاء ومنه كلمة الإسكندر واليسع كان الألف واللام في العجمية جزء من الكلمة وصار في لغة العرب حرفا زائدا، وقيل: إسكندر ويسع بغير اللام ومثله في الاصطلاحات الخاصة اليتوع بتقديم الياء على التاء عند الأطباء لبعض النباتات وبالعكس عند أهل اللغة والجدي بصيغة التصغير عند المنجمين، ومثله أيضا في لساننا الحصبة كانت في الأصل لمرض في الأطفال يعرف بسرخجه ويستعمل في زماننا لحمي عارضة بقروح في الأمعاء. (ش).

والمولى يطلق على غير العربي إذا انتسب بالعربي ولحق به.

قوله (من بني فهر» فهر بالكسر قبيلة من قريش.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم وأحمد بن مهران جميعا، عن محمد بن علي، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفر قال: كنت عند أبي إبراهيم (عليه السلام) وأتاه رجل من أهل نجران اليمن من الرهبان ومعه راهبة، فاستأذن لهما الفضل بن سوار، فقال له: إذا كان غدا فأت بهما عند بئر ام خير، قال: فوافينا من الغد فوجدنا القوم قد وافوا فأمر بخصفة بواري، ثم جلس وجلسوا فبدأت الراهبة بالمسائل فسألت عن مسائل كثيرة، كل ذلك يجيبها. وسألها أبو إبراهيم (عليه السلام) عن أشياء لم يكن عندها فيه شيء، ثم أسلمت ثم أقبل الراهب يسأله فكان يجيبه في كل ما يسأله، فقال الراهب: قد كنت قويا على ديني وما خلفت أحدا من النصارى في الأرض يبلغ مبلغي في العلم ولقد سمعت برجل في الهند، إذا شاء حج إلى بيت المقدس في يوم وليلة، ثم يرجع إلى منزله بأرض الهند، فسألت عنه بأي أرض هو؟ فقيل لي: إنه بسبذان وسألت الذي أخبرني فقال: هو علم الاسم الذي ظفر به آصف صاحب سليمان لما أتى بعرض سبا وهو الذي ذكر الله لكم في كتابكم ولنا معشر الأديان في كتبنا فقال له أبو إبراهيم (عليه السلام): فكم لله من اسم لا يرد؟ فقال الراهب: الأسماء كثيرة فأما المحتوم منها الذي لا يرد سائله فسبعة، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): فأخبرني عما تحفظ منها، قال الراهب: لا والله الذي أنزل التوراة على موسى وجعل عيسى عبرة للعالمين وفتنة لشكر اولي الألباب وجعل محمدا بركة ورحمة وجعل عليا (عليه السلام) عبرة وبصيرة وجعل الأوصياء من نسله ونسل محمد ما أدري ولو دريت ما احتجت فيه إلى كلامك ولا جئتك ولا سألتك، فقال له أبو إبراهيم (عليه السلام): عد إلى حديث الهندي، فقال له الراهب: سمعت بهذه الأسماء ولا أدري ما بطانتها ولا شرايحها ولا أدري ما هي ولا كيف هي ولا بدعائها. فانطلقت حتى قدمت سبذان الهند، فسألت عن الرجل، فقيل لي: إنه بنى ديرا في جبل فصار لا يخرج ولا يرى إلا في كل سنة مرتين وزعمت الهند أن الله فجر له عينا في ديره وزعمت الهند أنه يزرع له من غير زرع يلقيه ويحرث له من غير حرث يعمله، فانتهيت إلى بابه فأقمت ثلاثا، لا أدق الباب ولا اعالج الباب، فلما كان اليوم الرابع فتح الله الباب وجاءت بقرة عليها حطب تجر ضرعها، يكاد يخرج ما في ضرعها من اللبن، فدفعت الباب فانفتح فتبعتها. فوجدت الرجل قائما ينظر إلى السماء فيبكي وينظر إلى الأرض فيبكي وينظر إلى الجبال فيبكي.

ص:265

قلت: سبحان الله ما أقل ضربك (1) في دهرنا هذا، فقال لي: والله ما أنا إلا حسنة من حسنات رجل خلفته وراء ظهرك، فقلت له: اخبرت أن عندك اسما من أسماء الله تبلغ به في كل يوم وليلة بيت المقدس وترجع إلى بيتك، فقال لي: وهل تعرف بيت المقدس؟ قلت: لا أعرف إلا بيت المقدس الذي بالشام قال: ليس بيت المقدس ولكنه البيت المقدس وهو بيت آل محمد، فقلت له: أما ما سمعت به إلى يومي هذا فهو بيت المقدس، فقال لي تلك محاريب الأنبياء، وإنما كان يقال لها: حظيرة المحاريب حتى جاءت الفترة التي كانت بين محمد وعيسى صلى الله عليهما وقرب البلاء من أهل الشرك وحلت النقمات في دور الشياطين فحولوا وبدلوا ونقلوا تلك الأسماء وهو قول الله تبارك وتعالى - البطن لآل محمد والظهر مثل -: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فقلت له: إني قد ضربت إليك من بلد بعيد، تعرضت إليك بحارا وغموما وهموما وخوفا وأصبحت وأمسيت مؤيسا إلا أكون ظفرت بحاجتي فقال لي: ما أرى امك حملت بك إلا وقد حضرها ملك كريم ولا أعلم أن أباك حين أراد الوقوع بامك إلا وقد اغتسل وجاءها على طهر ولا أزعم إلا أنه قد كان درس السفر الرابع من شهره ذلك، فختم له بخير، ارجع من حيث جئت، فانطلق حتى تنزل مدينة محمد (صلى الله عليه وآله) التي يقال لها:

طيبة وقد كان اسمها في الجاهلية يثرب.

ثم اعمد إلى موضع منها يقال له البقيع، ثم سل عن دار يقال لها: دار مروان (2)، فانزلها وأقم ثلاثا. ثم سل [عن] الشيخ الأسود الذي يكون على بابها يعمل البواري وهي في بلادهم اسمها الخصف، فالطف بالشيخ وقل له: بعثني إليك نزيلك الذي كان ينزل في الزواية في البيت الذي فيه الخشيبات الأربع. ثم سله عن فلان بن فلان الفلاني وسله أين ناديه وسله أي ساعة يمر فيها فليريكاه أو يصفه لك، فتعرفه بالصفة وسأصفه لك.

قلت: فإذا لقيته فأصنع ماذا؟ قال: سله عما كان وعما هو كائن وسله عن معالم دين من مضى ومن بقي، فقال له أبو إبراهيم (عليه السلام): قد نصحك صاحبك الذي لقيت. فقال الراهب: ما اسمه جعلت فداك؟ قال: هو متمم بن فيروز وهو من أبناء الفرس وهو ممن آمن بالله وحده لا شريك له وعبده

ص:266


1- (1) قوله «ما أقل ضربك» أي مثلك. (ش).
2- (2) قوله «يقال لها: دار مروان» دار مروان في المدينة معروفة وكانت جنوبي المسجد الشريف متصلة به وهي بعيدة من البقيع وكان يفتح منها باب إلى مقصورة المسجد منه يدخل الأمراء والولاة الساكنون في تلك الدار المسجد لئلا يفتك بهم الناس في الطرق، وكانت المقصورة مسدودة الأطراف بحيث لا يرى الناس الوالي في الصلاة إلى أن هدمها المنصور، والذي يظهر من هذا الخبر أن الدار كانت على عهد بني العباس منزلا للغرباء والزوار أو محلا للتجار بعد ما كانت دار الإمارة. (ش).

بالإخلاص والإيقان وفر من قومه لما خافهم، فوهب له ربه حكما وهداه لسبيل الرشاد وجعله من المتقين، وعرف بينه وبين عباده المخلصين وما من سنة إلا وهو يزور فيها مكة حاجا ويعتمر في رأس كل شهر مرة ويجيء من موضعه من الهند إلى مكة، فضلا من الله وعونا وكذلك يجزي الله الشاكرين، ثم سأله الراهب عن مسائل كثيرة، كل ذلك يجيبه فيها وسأل الراهب عن أشياء لم يكن عند الراهب فيها شيء، فأخبره بها، ثم إن الراهب قال: أخبرني عن ثمانية أحرف نزلت فتبين في الأرض منها أربعة وبقي في الهواء منها أربعة، على من نزلت تلك الأربعة التي في الهواء ومن يفسرها؟ قال: ذاك قائمنا، ينزله الله عليه فيفسره وينزل عليه ما لم ينزل على الصديقين والرسل والمهتدين. ثم قال الراهب فأخبرني عن الاثنين من تلك الأربعة الأحرف التي في الأرض ما هي؟ قال: اخبرك بالأربعة كلها، أما أولهن فلا إله إلا الله وحده لا شريك له باقيا. والثانية محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخلصا، والثالثة نحن أهل البيت، والرابعة شيعتنا منا ونحن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله من الله بسبب، فقال له الراهب: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله حق وأنكم صفوة الله من خلقه وأن شيعتكم المطهرون المستبدلون ولهم عاقبة الله والحمد لله رب العالمين، فدعا أبو إبراهيم (عليه السلام) بجبة خز وقميص قوهي وطيلسان وخف وقلنسوة، فأعطاه إياها وصلى الظهر وقال له: اختتن، فقال: قد اختتنت في سابعي.

* الشرح:

قوله (من أهل نجران اليمن من الرهبان) النجران موضع معروف بين الحجاز والشام واليمن، والراهب هو واحد الرهبان عابد النصاري، والرهبانية من الرهبة وهي الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتحمل مشاقها حتى أن منهم من يخصى نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب ولا رهبانية في الإسلام.

قوله (بخصفة بواري) الخصفة بالتحريك شيء منسوج من خوص النخل وورقة من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء، والبواري جمع باري وهو الحصير ويقال له: بوريا بالفارسية.

قوله (قال الراهب: لا والله الذي) إنما حلف في نفي العلم بها لئلا يتوهم أنه يعلمها ويضن بإظهارها.

قوله (وجعل عيسى عبرة للعالمين وقتنة لشكر اولي الألباب) العبرة كالموعظة ما يتعظ به وينظر إليه ليعتبر ويستدل به على غيره وهو (عليه السلام) عبرة للعالمين لأنهم يستدلون به على عظمة الصانع وكمال قدرته وإن كان كل شيء عبرة لكنه أعظم العبر إذ لم يعهد بعد شهودهم وجود إنسان

ص:267

بلا أب وهو أيضا فتنة أي امتحان واختيار لشكر أرباب العقول الخالصة من زيغ الشك والوهم لأنهم يقابلون كمال عظمته وقدرته وإحسانه وجوده بإعطاء الوجودات ولواحقها من العطايا العظام والنوائل الجسام بالقول والثناء الجزيل، والفعل الحسن الجميل، ويذعنون أنه مولاها ويعتقدون أنه معطيها.

قوله (ولا أدري ما بطانتها) للاسم الأعظم باطن في غاية الدقة والخفاء وظاهر وهو كالشرح للباطن والشريعة للأزكياء وماهية وكيفية ليست لسائر الأسماء وبعد ذلك لابد من العلم بكيفية الدعاء، وقد حلف الراهب بأنه لا يدري شيئا من هذه الأشياء.

قوله (وزعمت الهند) الهند هنا جيل معروف والنسبة هندي.

قوله (وهل تعرف بيت المقدس) قال في النهاية: سمي بيت المقدس لأنه الموضع الذي يتقدس فيه الذنوب، يقال: بيت المقدس والبيت المقدس وبيت القدس بضم الدال وسكونها سأله عن بيت المقدس وأراد به معنى هو بيت آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحمله الراهب على معنى آخر معروف عنده وهو بيت المقدس الذي بالشام فرد عليه بأن هذا البيت ليس بيت المقدس في الأصل وإنما كان يقال له: حظيرة المحاريب ثم بدله أهل الشرك وسموه بيت المقدس وبيت المقدس إنما كان في الأصل بيت آل محمد (صلى الله عليه وآله) لتطهره عن النقائص والعيوب، وتنزهه عن الرذايل والذنوب.

قوله (وهو قول الله تعالى - البطن لآل محمد والظهر - مثل إن هي) قوله: إن هي مقول القول وقوله: «البطن لآل محمد والظهر مثل) إشارة إلى أن للآية ظاهرا وباطنا الظاهر بيان لما فعله المشركون من تبديل اسم الإله ونقله عن موضعه وهو الله جل شأنه إلى الأصنام حتى سموها آلهة، والباطن بيان لما فعله الجاهلون من تبديل اسم البيت المقدس ونقله عن موضعه وهو بيت آل محمد (صلى الله عليه وآله) إلى البيت الذي في الشام وهو حظيرة المحاريب والله أعلم.

قوله (مؤيسا إلا أكون ظفرت بحاجتي) قيل هذا الاستثناء من قبيل قولك أسألك إلا فعلت والاستثناء من المعنى كأنك قلت: لا أسال إلا فعلك، وههنا كأنه قال: كنت في جميع الأحوال والأوقات مؤيسا إلا وقت الظفر بحاجتي أو قل: يحتمل أن يكون ألا بفتح الهمزة ومتعلقا بمؤيسا مفعولا له على تضمين الخوف والقرينة أن اليأس مستلزم للخوف أي مؤيسا خايفا من أن لا أكون ظفرت بحاجتي والله أعلم.

قوله (ولا أزعم إلا أنه قد كان درس) أي قرأ السفر الرابع في شهر الإيقاع، خص السفر الرابع بالذكر لاشتماله على الدعاء والإنابة. وفيه دلالة على أن من أراد الإيقاع ينبغي أن يفعل مثل هذه الامور المذكروة قبله فإن له مدخلا عظيما في صلاح الولد.

ص:268

قوله (ثم سله عن فلان بن فلان) كناية عن أبي الحسن موسى (عليه السلام).

قوله (وسله أي ساعة يمر فيها فليريكاه) ضمير «فيها» راجع إلى الساعة والألف في قوله «فليريكاه» للإشباع.

قوله (وسأصفه لك) لابد له من الوفاء بالوعد فقد وصفه ولكن وصفه غير مذكور في هذا الحديث.

قوله (وسله عن معالم دين من مضى ومن بقي) أراد بدين من مضى دين الأنبياء السابقين وبدين من بقي دين نبينا (صلى الله عليه وآله) فإنه باق إلى يوم القيامة.

قوله (وبقي في الهواء منها أربعة) الهواء ما بين الأرض والسماء، ولعل المراد ببقائها فيه بقاؤها فيه عند خزنة الأسرار الإلهية والكلمات الربانية وعدم تبينها وظهورها في أهل الأرض بعد.

قوله (وينزل عليه ما لم ينزل على الصديقين والرسل والمهتدين) لعل المراد بالصديقين أولو العزم من الرسل، وبالرسل غير أولي العزم منهم، وبالمهتدين الأنبياء والأوصياء، وبما ينزل عليه هو الأمر بأن يحكم بباطن الشريعة فإن غيره كانوا يحكمون بظاهرها أو العلم الشهودي بالكلية بعد كونه مسبوقا بالعلم الحصولي بها، والفرق بينهما كالفرق بين الخبر والمعاينة، ومن البين أن ذلك لم يكن لغيره من السابقين، إذ العلم الشهودي بالشيء إنما يحصل عند وجود الشيء وحضوره، ولا ينافي ذلك حصول العلم بوجود ذلك الشيء قبل وجوده لغيره من الصديقين فليتأمل.

قوله (والثانية محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخلصا) لعل المراد بالإخلاص هو التوافق بين اللسان والجنان، وأما الإقرار باللسان مع الإنكار بالجنان وهو النفاق فهو أقبح من الإنكار بهما جميعا.

قوله (والثالثة نحن أهل البيت) في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) لا غيرنا كما زعمه جماعة من المبتدعة.

قوله (بسبب) السبب في الأصل هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء كقوله «وتقطعت بهم الأسباب» أي الوصل والمودات، ولعل المراد أن شيعتنا على ديننا ونحن على دين رسول الله ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على دين الله الذي أنزل إليه بالوحي، وهذا الدين هو حبل متصل بين الحق والخلق فتمسكوا بحبل من الله وأن شيعتنا متصل بنا اتصالا روحانيا معنويا ونحن متصل برسول الله كذلك ورسول الله متصل بالله، وهذا الاتصال هو السبب الذي يتوصل به الخلق إلى الحق أو أن شيعتنا منا ومعنا، ونحن من رسول الله ومعه ورسول الله من الله ومعه وهذه المعية هي السبب إلى الله والكل متقاربة.

قوله (وأن شيعتكم المطهرون المستبدلون) أي المطهرون من الكفر والنفاق والمستبدلون

ص:269

للباطل والكفر بالحق. والإيمان أو المستبدلون الذين أشار إليهم جل شأنه بقوله: (ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) والأول على تقدير كسر الدال، والثاني على تقدير فتحها.

قوله (وقميص قوهي) هو ثوب ينسج بقوهستان كورة بخراسان بلدتها قاين.

قوله (في سابعى) أي في اليوم السابع من الولادة أو العام السابع منها أو اليوم السابع من زمان التكلم، والأول أقرب، والثالث أبعد.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن المغيرة قال:

مر العبد الصالح بامرأة بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون وقد ماتت لها بقرة، فدنا منها ثم قال لها: ما يبكيك يا أمة الله؟ قالت: يا عبد الله إن لنا صبيانا يتامى وكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها، وقد ماتت وبقيت منقطعا بي وبولدي لا حيلة لنا، فقال: يا أمة الله هل لك أن احييها لك؟ فالهمت أن قالت: نعم يا عبد الله، فتنحى وصلى ركعتين، ثم رفع يده هنيئة وحرك شفتيه ثم قام فصوت بالبقرة فنخسها نخسة أو ضربها برجله، فاستوت على الأرض قائمة، فلما نظرت المرأة إلى البقرة صاحت وقالت: عيسى بن مريم ورب الكعبة، فخالط الناس وصار بينهم ومضى (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (فنخسها نخسة أو ضربها برجله) نخس الدابة - كنصر وجعل - غرز مؤخرها وجنبها بعود والترديد من الراوي.

* الأصل:

7 - أحمد بن مهران - رحمه الله - عن محمد بن علي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق ابن عمار قال: سمعت العبد الصالح ينعي إلى رجل نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته؟ فالتفت إلي شبه المغضب، فقال: يا إسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك، ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع، فإن عمرك قد فنى وإنك تموت إلى سنتين وإخوتك وأهل بيتك لا يلبثون بعدك إلا يسيرا حتى تتفرق كلمتهم ويخون بعضهم بعضا حتى يشمت بهم عدوهم، فكان هذا في نفسك فقلت: فإني أستغفر الله بما عرض في صدري. فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلا يسيرا حتى مات، فما أتى عليهم إلا قليل حتى قام بنو عمار بأموال الناس فأفلسوا.

* الشرح:

قوله (قد كان رشيد الهجري) ضبطه العلامة في الخلاصة بضم الراء وقال: إنه

ص:270

مشكور من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام وقال الشهيد الثاني في حاشيته على الخلاصة قال ابن داود: رشد بغير ياء وجعل الياء قولا واستقرب الأل وكذا ذكره الشيخ في الفهرست بغير ياء، وأما النجاشي فقد جعله بالياء كالعلامة، ونقل الفاضل الإسترآبادي في رجاله عن الكشي أنه كان قد ألقي إليه علم البلايا والمنايا، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسميه رشيد البلايا.

قوله (حتى تتفرق كلمتهم) أي توافقهم واجتماعهم.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن موسى بن القاسم البجلي، عن علي بن جعفر قال: جاءني محمد بن إسماعيل وقد اعتمرنا عمرة رجب ونحن يومئذ بمكة، فقال: يا عم إني اريد بغداد وقد أحببت أن اودع عمي أبا الحسن - يعني موسى بن جعفر (عليهما السلام) - وأحببت أن تذهب معي إليه، فخرجت معه نحو أخي وهو في داره التي بالحوبة وذلك بعد المغرب بقليل، فضربت الباب فأجابني أخي فقال: من هذا؟ فقلت: علي فقال: هو ذا أخرج - وكان بطيء الوضوء - فقلت:

العجل قال: وأعجل، فخرج وعليه إزار ممشق قد عقده في عنقه حتى قعد تحت عتبة الباب، فقال علي بن جعفر فانكببت عليه فقبلت رأسه وقلت: قد جئتك في أمر إن تره صوابا فالله وفق له، وإن يكن غير ذلك فما أكثر ما نخطي قال: وما هو؟ قلت: هذا ابن أخيك يريد أن يودعك ويخرج إلى بغداد، فقال لي: ادعه، فدعوته وكان متنحيا، فدنا منه فقبل رأسه وقال: جعلت فداك أوصني فقال: اوصيك أن تتقي الله في دمي، فقال مجيبا له:

من أرادك بسوء فعل الله به وجعل يدعو على من يريده بسوء، ثم عاد فقبل رأسه، فقال، يا عم أوصني فقال: اوصيك أن تتقي الله في دمي فقال: من أرادك بسوء فعل الله به وفعل، ثم عاد فقبل رأسه، ثم قال: يا عم أوصني.

فقال: اوصيك أن تتقي الله في دمي، فدعا على من أراده بسوء، ثم تنحى عنه ومضيت معه فقال لي أخي: يا علي مكانك، فقمت مكاني فدخل منزله ثم دعاني فدخلت إليه فتناول صرة فيها مائة دينار فأعطانيها وقال: قل لابن أخيك يستعين بها على سفره قال علي: فأخذتها فأدرجتها في حاشية ردائي، ثم ناولني مائة اخرى وقال: أعطه أيضا. ثم ناولني صرة اخرى وقال: أعطه أيضا، فقلت: جعلت فداك إذا كنت تخاف منه مثل الذي ذكرت فلم تعينه على نفسك؟ فقال: إذا وصلته وقطعني قطع الله أجله، ثم تناول مخدة أدم، فيها ثلاثة آلاف درهم وضح وقال: أعطه هذه أيضا قال: فخرجت إليه فأعطيته المائة الاولى ففرح بها فرحا شديدا ودعا لعمه، ثم أعطيته الثانية

ص:271

والثالثة ففرح بها حتى ظننت أنه سيرجع ولا يخرج، ثم أعطيته الثلاثة آلاف درهم فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسلم عليه بالخلافة، وقال: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة فأرسل هارون إليه بمائة ألف درهم فرماه الله بالذبحة فما نظر منها إلى درهم ولا مسه.

* الشرح:

قوله (وعليه إزار ممشق) في المغرب: ثوب ممشق أي مصبوغ بالمشق أي بالمغرة وهي طين أحمر.

قوله (ثم تناول مخدة أدم فيها ثلاثة آلاف درهم وضح) في المغرب: الأدم بفتحتين اسم لجمع أديم، وهو الجلد المدبوغ المصلح بالدباغ من الأدام وهو ما يؤتدم به، والجمع ادم بضمتين، والوضح محركة الدرهم الصحيح.

قوله (فرماه الله بالذبحة) قال في النهاية: الذبحة بفتح الباء وقد تسكن وجع يعرض في الحلق من الدم وقيل: هي قرحة تظهر فيه فينسد معها وينقطع النفس فيقتل. ونقل عن القاموس: أن الذبحة كهمزة وعنبة وكسرة وصبرة وكتاب وغراب وجع في الحلق أودم يخنق فيقتل. وفي الفائق المصحح المعرب: الذبحة بضم الذال وفتح الباء والذبحة بضم الذال وسكون الباء والذباح بضم الذال أن يتورم الحلق حتى ينطبق فلا يسوغ فيه شيء، ويمنع من التنفس فيقتل، وروى أبو حاتم عن أبي زيد أنه لم يعرفها بإسكان الباء.

* الأصل:

9 - سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: قبض موسى بن جعفر (عليهما السلام) وهو ابن أربع وخمسين سنة في عام ثلاث وثمانين ومائة. وعاش بعد جعفر (عليه السلام) خمسا وثلاثين سنة.

ص:272

باب مولد أبي الحسن الرضا عليه السلام

اشاره:

ولد أبو الحسن الرضا (عليه السلام) سنة ثمان وأربعين ومائة وقبض (عليه السلام) في صفر من سنة ثلاث ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة وقد اختلف في تاريخه إلا إن هذا التاريخ هو أقصد إن شاء الله.

وتوفي (عليه السلام) بطوس في قرية يقال لها: سناباد من نوقان على دعوة. ودفن بها وكان المأمون أشخصه من المدينة إلى مرو على طريق البصرة وفارس. فلما خرج المأمون وشخص إلى بغداد أشخصه معه، فتوفي في هذه القرية. وامه ام ولد يقال لها: ام البنين.

* الشرح:

قوله (وقبض (عليه السلام) في صفر - الخ) قال الصدوق (رحمه الله): قتله المأمون بالسم وهذا الذي ذكره الصدوق هو المشهور بين علماء الإمامية، وقد دلت عليه روايات كثيرة، وقيل: مات (عليه السلام) بأجله، ونقل عن صاحب كشف الغمة أنه قال: بلغني ممن أثق به أن السيد رضي الدين علي بن طاووس (رحمه الله) كان لا يوافق على أن المأمون (1) سم علي بن موسى عليهما السلام ولا يعتقده.

قوله (وقد اختلف في تاريخه) أي في تاريخ ولادته وقبضه كليهما فأحد الأقوال ما ذكر، والقول الثاني أنه ولد في أحد عشرة من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين ومائة (2) وقيل: في أحد عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وقيل: قبض في شهر رمضان (3) من شهور سنة ثلاث ومائتين والعلم عند الله.

ص:273


1- (1) قوله «كان لا يوافق على أن المأمون» ما ذكره أول الباب من أن المأمون أشخصه (عليه السلام) على طريق البصرة وفارس ومنعه من دخول الكوفة وقم والجبل لكثيرة الشيعة بها يدل على أن غرضه من الأشخاص لم يكن تفويض الخلافة إليه حقيقة وإنما أراد القبض عليه والتخلص منه بوجه لا يعاب عليه ولا يتنفر قلوب الناس منه، وما كان يبالي المأمون أن يكون الرضا (عليه السلام) مكرما معظما عنده في الظاهر أو مسجونا وإيذاء العدو وسجنه مع عدم الخوف من مبارزته جهل وحماقة ومع سوء نيته لا يستبعد منه قتله (عليه السلام)، (ش).
2- (2) قوله «ثلاث وخمسين ومائة» فيكون عمره (عليه السلام) خمسين سنة. (ش).
3- (3) قوله «وقيل: قبض في شهر رمضان» كان شهر رمضان تلك السنة في صميم الشتاء على ما يستفاد من الزيجات وكان صفر في برج السنبلة والسفر في الشتاء في بلاد خراسان مشقة على الجنود ومواكب السلاطين ولم يكن شهر رمضان فصل العنب فالصحيح أن قتل الإمام (عليه السلام) في صفر كما هو معروف. (ش).

قوله (هو أقصد) القصد من الأمور المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط.

قوله (من موقان) هكذا بالميم في أكثر النسخ، وفي بعضها نوفان وهو الأصح، وقيل: لعل موقان بالميم معرب نوقان والله أعلم.

قوله (على دعوة) أي بعد سناباد من نوقان على قدر سماع صوت الأذان أو مطلقا يقال: هو مني على دعوة الرجل أي البعد بيني وبينه على قدر سماع الصوت.

قوله (فلما خرج المأمون وشخص إلى بغداد) لما أخذها هارون البيعة لابنه محمد الأمين، وبعد للمأمون وقسم البلاد بينهما بأن جعل شرقي عقبة حلوان من نهاوند وقم وكاشان وأصفهان وفارس وكرمان إلى حيث يبلغ ملكه من جهة الغرب (الشرق ظ) للمأمون وأمره أن يسكن في مرو وجعل غربيها إلى جهة الشرق (الغرب ظ) لمحمد الأمين وأمره أن يسكن في بغداد فكان المأمون في حياة أبيه في مرو فلما مات أبوه في خراسان وقع النزاع بين المأمون وأخيه فقتل المأمون أخاه واستقل في السلطنة وجرى حكمه في شرق الأرض وغربها فأنهض علي بن موسى الرضا إلى مرو لغرض ما ثم بلغه الاختلاف في عراق العرب فنهض إلى بغداد لتداركه وأنهض معه علي بن موسى عليهما السلام فتوفي (عليه السلام) في سناباد بالسم.

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن أحمر قال: قال لي أبو الحسن الأول: هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم؟ قلت: لا.

قال: بلى قد قدم رجل فانطلق بنا، فركب وركبت معه حتى انتهينا إلى الرجل فإذا رجل من أهل المدينة معه رقيق، فقلت له: أعرض علينا فعرض علينا سبع جوار، كل ذلك يقول أبو الحسن: لا حاجة إلي فيها، ثم قال: أعرض علينا، فقال: ما عندي إلا جارية مريضة، فقال له: ما عليك أن تعرضها، فأبى عليه فانصرف، ثم أرسلني من الغد، فقال: قل له: كم كان غايتك فيها فإذا قال كذا وكذا، فقل: قد أخذتها، فأتيته فقال: ما كنت اريد أن أنقصها من كذا وكذا، فقلت: قد أخذتها فقال:

هي لك ولكن أخبرني من الرجل الذي كان معك بالأمس؟ فقلت: رجل من بني هاشم، قال: من أي بني هاشم؟ فقلت: ما عندي أكثر من هذا. فقال: اخبرك عن هذه الوصيفة إني اشتريتها من أقصى المغرب فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذه الوصيفة معك.

قلت: اشتريتها لنفسي، فقالت: ما يكون ينبغي أن تكون هذه عند مثلك إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما ما يولد بشرق الأرض ولا غربها مثله، قال: فأعطيته بها فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ولدت الرضا (عليه السلام).

ص:274

* الشرح:

قوله (ما عليك أن تعرضها) «ما» يحتمل النفي والاستفهام.

قوله (ما هذه الوصيفة) قال في النهاية: الوصيف العبد، والأمة وصيفة وجمعهما وصفاء ووصائف أقول الوصفاء جمع الوصيف والوصائف جمع الوصيفة من باب اللف والنشر المرتب.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عمن ذكره، عن صفوان بن يحيى قال: لما مضى أبو إبراهيم (عليه السلام) وتكلم أبو الحسن (عليه السلام) خفنا عليه من ذلك، فقيل له: قد أظهرت أمرا عظيما وإنا نخاف عليك هذه الطاغية، قال: فقال: ليجهد جهده فلا سبيل له علي.

* الشرح:

قوله (وتكلم أبو الحسن (عليه السلام)) أي تكلم في الخلافة وأنه مستحقها أو في العلم والشرايع أو مع كل قوم بلغاتهم وكان (عليه السلام) كثيرا ما يفعل ذلك.

قوله (هذه الطاغية) يريد به هارون الرشيد عليه اللعنة.

* الأصل:

3 - أحمد بن مهران - رحمه الله - عن محمد بن علي، عن الحسن بن منصور، عن أخيه قال:

دخلت على الرضا (عليه السلام) في بيت داخل في جوف بيت ليلا، فرفع يده، فكانت كأن في البيت عشرة مصابيح واستأذن عليه رجل فخلى يده، ثم أذن له.

* الشرح:

قوله (كان في البيت عشرة مصابيح) كان كل أصبع من العشرة يضيء مثل المصباح.

قوله (فخلى يده) أي خلى يده من النور والضياء لئلا يراه ذلك الرجل ثم أذن في الدخول.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن إبراهيم بن عبد الله، عن أحمد بن عبد الله عن الغفاري قال: كان لرجل من آل أبي رافع مولى النبي (صلى الله عليه وآله) يقال له: طيس علي حق فتقاضاني وألح علي وأعانه الناس فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم توجهت نحو الرضا (عليه السلام) وهو يومئذ بالعريض، فلما قربت من بابه إذا هو قد طلع على حمار وعليه قميص ورداء، فلما نظرت إليه استحييت منه، فلما لحقني وقف ونظر إلي فسلمت عليه - وكان شهر رمضان - فقلت:

جعلني الله فداك إن لمولاك طيس علي حقا وقد والله شهرني وأنا أطن في نفسي أنه يأمره بالكف عني ووالله ما قلت له: كم له علي ولا سميت له شيئا، فأمرني بالجلوس إلى رجوعه. فلم أزل حتى

ص:275

صليت المغرب وأنا صائم، فضاق صدري وأردت أن أنصرف فإذا هو قد طلع علي وحوله الناس وقد قعد له السؤال وهو يتصدق عليهم، فمضى ودخل بيته، ثم خرج ودعاني فقمت إليه ودخلت معه، فجلس وجلست، فجعلت أحدثه عن ابن المسيب وكان أمير المدينة وكان كثيرا ما احدثه عنه. فلما فرغت قال: لا أظنك أفطرت بعد؟ فقلت: لا، فدعا لي بطعام فوضع بين يدي وأمر الغلام أن يأكل معي فأصبت والغلام من الطعام، فلما فرغنا قال لي: ارفع الوسادة وخذ ما تحتها.

فرفعتها وإذا دنانير فأخذتها ووضعتها في كمي وأمر أربعة من عبيده أن يكونوا معي حتى يبلغوني منزلي، فقلت: جعلت فداك إن طائف ابن المسيب يدور وأكره أن يلقاني ومعي عبيدك، فقال لي:

أصبت أصاب الله بك الرشاد. وأمرهم أن ينصرفوا إذا رددتهم فلما قربت من منزلي وآنست رددتهم فصرت إلى منزلي ودعوت بالسراج ونظرت إلى الدنانير وإذا هي ثمانية وأربعون دينارا وكان حق الرجل علي ثمانية وعشرين دينارا وكان فيها دينار يلوح فأعجبني حسنه فأخذته وقربته من السراج فإذا عليه نقش واضح: حق الرجل ثمانية وعشرون دينارا وما بقي فهو لك، ولا والله ما عرفت ما له علي والحمد لله رب العالمين الذي أعز وليه.

* الشرح:

قوله (وقد والله شهرني) أي وقد شهرني والله فحذف الفعل لوجود المفسر يقال: شهرته بكذا والتشديد مبالغة.

قوله (عن ابن المسيب) هو هارون بن المسيب الآتي.

قوله (فأصبت والغلام من الطعام) هذا من باب العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد إلا أن يجعل الواو بمعنى مع.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه خرج من المدينة في السنة التي حج فيها هارون يريد الحج فانتهى إلى جبل عن يسار الطريق - وأنت ذاهب إلى مكة - يقال له: قارع، فنظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) ثم قال: باني قارع وهادمه يقطع إربا إربا. فلم ندر ما معنى ذلك فلما ولى وافى هارون ونزل بذلك الموضع صعد جعفر بن يحيى ذلك الجبل وأمر أن يبنى له ثم مجلس فلما رجع من مكة صعد إليه فأمر بهدمه، فلما انصرف إلى العراق قطع إربا إربا.

* الشرح:

قوله (يقال له: قارع) جبل قارع إذا كان أطول ما يليه وقارعة الجبل أعلاه.

ص:276

قوله (باني قارع وهادمه) إضافة الباني إلى القارع على سبيل الاتساع كما في مالك يوم الدين، والتقدير باني البناء في القارع، وضمير في دمه يرجع إلى البناء المستفاد من الباني والإرب بالكسر والسكون العضو.

قوله (فلما ولى وافى هارون) أي فلما ولى أبو الحسن (عليه السلام) وارتحل من ذلك الموضع أتاه هارون ونزل بذلك الموضع، وصعد جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ذلك الجبل وأمر أن يبنى عليه مجلس، فلما رجع من مكة صعد إليه فأمر بهدمه فلما انصرف إلى بغداد قطع إربا إربا وكان سبب قتله أن اخت هارون في ذكاء الذهن وجودة الطبع وطلاقة البيان وفصاحة اللسان، كانت في غاية الكمال، وكذلك كان جعفر بن يحيى وكان لهارون شغف وسرور في حضروهما وصحبتهما فأوقع العقد بينهما ليجمعهما في مجلس واحد بشرط أن لا يقاربها يحيى ولا يجالسها في غير مجلسه فراودته حتى جامعها فولدت ذكرا فأرسلته إلى مكة لئلا يعلم به هارون فأخبر به فنهض إلى مكة وظهرت له القضية، ولم يظهرها ولم يتغير على يحيى بل كان يحسن إليه زايدا على السابق حتى رجع إلى العراق فقتله وأحرقه (1) وقتل أباه يحيى وأخويه محمدا وموسى وغيرهم ممن انتسب إليهم من البرامكة.

* الأصل:

6 - أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن حمزة بن القاسم، عن إبراهيم بن موسى قال: ألححت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في شيء أطلبه منه، فكان يعدني، فخرج ذات يوم ليستقبل والي المدينة وكنت معه فجاء إلى قرب قصر فلان، فنزل تحت شجرات ونزلت معه أنا وليس معنا ثالث فقلت: جعلت فداك هذا العيد قد أظلنا ولا والله ما أملك درهما فما سواه فحك بسوطه الأرض حكا شديدا، ثم ضرب بيده فتناول منه سبيكة ذهب، ثم قال: انتفع بها واكتم ما رأيت.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم والريان بن الصلت جميعا قال: لما انقضى أمر المخلوع

ص:277


1- (1) قوله «فقتله وأحرقه» وهكذا كان ملوك بني العباس في صدر دولتهم يقتلون المستولين على الأمور من أمرائهم ووزرائهم لئلا تضعف حكومتهم فقتل أبو العباس السفاح أبا سلمة الخلال المشهور بوزير آل محمد، والدوانقي أبا مسلم الخراساني مع أن دولة بني العباس قامت بجهده، وقتل هارون البرامكة بعد أن استوثق الأمور برأيهم وقتل المأمون الفضل بن سهل ذا الرياستين وأما بعد ذلك فلم يحتاطوا هذا الاحتياط فاستولت الأمراء على الخلفاء خصوصا الأتراك وضعفوا جدا وخرجت الحكومة من يدهم ولم يكن للخليفة أمر ولا نهي إلى انقراض دولتهم وكذلك قتل في العصر الأخير الشاه عباس الصفوي مربيه وممهد الملك له مرشد قليخان إذ رأى استيلاءه على الأمور وأمثال ذلك غير بعيدة من الملوك. (ش)

واستوى الأمر المأمون كتب إلى الرضا (عليه السلام) يستقدمه إلى خراسان، فاعتل عليه أبو الحسن (عليه السلام) بعلل، فلم يزل المأمون يكاتبه في ذلك حتى علم أنه لا محيص له وأنه لا يكف عنه، فخرج (عليه السلام) ولأبي جعفر (عليه السلام) سبع سنين، فكتب إليه المأمون: لا تأخذ على طريق الجبل وقم، وخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس، حتى وافى مرو، فعرض عليه المأمون أن يتقلد الأمر والخلافة، فأبى أبو الحسن (عليه السلام)، قال: فولاية العهد؟ فقال: على شروط أسألكها. قال المأمون له: سل: ما شئت، فكتب الرضا (عليه السلام): إني داخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا افتي ولا أقضي ولا اولي ولا أعزل ولا اغير شيئا مما هو قائم وتعفيني من ذلك كله، فأجابه المأمون إلى ذلك كله، قال:

فحدثني ياسر قال: فلما حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا (عليه السلام) يسأله أن يركب ويحضر العيد ويصلي ويخطب، فبعث إليه الرضا (عليه السلام): قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر، فبعث إليه المأمون إنما اريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك، فلم يزل (عليه السلام) يراده الكلام في ذلك فألح عليه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال المأمون: اخرج كيف شئت وأمر المأمون القواد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن قال: فحدثني ياسر الخادم أنه قعد الناس لأبي الحسن (عليه السلام) في الطرقات والسطوح، الرجال والنساء والصبيان واجتمع القواد والجند على باب أبي الحسن (عليه السلام) فلما طلعت الشمس قام (عليه السلام) فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن. ألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين كتفيه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازا ثم خرج ونحن بين يديه وهو حاف شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة فلما مشى ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه والقواد والناس على الباب قد تهيؤوا ولبسوا السلاح وتزينوا بأحسن الزينة، فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة وطلع الرضا (عليه السلام) وقف على الباب وقفة ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا، نرفع بها أصواتنا، قال ياسر: فتزعزعت مرو بالبكاء والضجيج والصياح لما نظروا إلى أبي الحسن (عليه السلام) وسقط القواد عن دوابهم ورموا بخفافهم لما رأوا أبا الحسن (عليه السلام) حافيا وكان يمشي ويقف في كل عشر خطوات ويكبر ثلاث مرات، قال ياسر: فتخيل إلينا أن السماء والأرض والجبال تجاوبه وصارت مرو ضجة واحدة من البكاء وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس والرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفه فلبسه وركب ورجع.

ص:278

* الشرح:

قوله (لما انقضى أمر المخلوع) هو أخو هارون (1) محمد أمين بن زبيدة بنت جعفر بن منصور الدوانقي سمي مخلوعا لأنه خلع نفسه عن الخلافة عند إحاطة عساكر هارون (2) بعد توجه العجز والانكسار إليه، وطلب الأمان من هر ثمة بن أعين وخرج من السور ليلحق به فقتله قبل الوصول إليه الطاهر ذو اليمينين، وهو كان أمير العساكر وبعث برأسه إلى هارون وهو في مرو.

قوله (فاعتل عليه أبو الحسن (عليه السلام) بعلل) أي اعتذر إليه بوجوه من الاعتذار والاعتلال من العلة وهي قد توضع موقع العذر.

قوله (لا تأخذ على طريق الجبل وقم) المراد بالجبل همدان ونهاوند وطبرستان، ولعل علة النهي هي كثرة شيعته في ذلك الطريق فخاف توازرهم واجتماعهم عليه (3).

قوله (فعرض عليه المأمون أن يتقلد الأمر والخلافة) كان ذلك اختبار أو امتحانا ولذلك أبى (عليه السلام) لعلمه بحاله وعدم تمشية ذلك وبأن عدم قبول ذلك أصلح له ولشيعته.

قوله (قال: فولاية العهد، فقال: على شروط) وقد روي أنه (عليه السلام) أبى عليه ولاية العهد أيضا إباء شديدا إلى أن وقعت الخشونة والتهديد والتخويف، فلما رأى (عليه السلام) أنه لا محيص له عن قبولها قبلها على الشروط المذكورة مع أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والافتاء، والحكم، وعزل الفاسق، وتغيير الباطل واجب على الإمام عند التمكن لعلمه بأنه لا يمكنه ذلك في عصر ذلك الطاغي، وأنه يوجب هتك عرضه، وكسر شرفه، وقد روي أنه لما قبل ولاية العهد كرما كتب في آخر صحيفة العهد: الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك (4) (أو ما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين).

قوله (فلما حضر العيد) لعله عيد قربان بدليل آخر التكبير.

ص:279


1- (1) سهو في ثلاثة مواضع والصحيح المأمون.
2- (2) سهو في ثلاثة مواضع والصحيح المأمون.
3- (3) قوله «فخاف توازرهم واجتماعهم عليه» هذا يدل على أن قصد المأمون لم يكن تفويض الخلافة والولاية بل حبسه وقتله والأمن من جهته عليه السلام كما قلنا. (ش).
4- (4) قوله «يدلان على ضد ذلك» والإمام (عليه السلام) كان يعلم قصد المأمون مما تبين له من أخبار آبائه عليهم السلام لكن كان في ظهوره وإقبال الخلق عليه ومباشرتهم نشر مناقبه وفضائله وعلومه وحججه على الأديان ولعل سر قبوله (عليه السلام) ذلك نشير إليه إن شاء الله وثم أن أصل السياسة على إطاعة الناس أوامر الولاة طوعا أو كرها وأصل الدين على فهم العقايد والالتزام بالشرائع اعتقادا وإيمانا، والأول يضاد الاحتجاج والنظر والثاني يتوقف عليهما وهو (عليه السلام) فتح هذا الباب وروجه في الإسلام. (ش).

قوله (أن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي) لعلمه (عليه السلام) بأنه لا يقع قطعا.

قوله (وأمر المأمون القواد) القادة والقواد بالضم جمع القايد خلاف السائق وهو رؤساء العسكر ومصدره القيادة.

قوله (ثم أخذ بيده عكازا) العكاز عصاء ذات زج وهو حديدة في أسفل الرمح. والجمع عكاكيز.

قوله (ثم قال: الله أكبر - الخ) الروايات في عدد التكبيرات وبواقي الأذكار مختلفة وتفصيلها وتفصيل القول بوجوبها أو ندبها في كتب الفروع، قال: الشهيد الثاني: والكل جايز وذكر الله حسن على كل حال.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن ياسر قال: لما خرج المأمون من خراسان يريد بغداد، وخرج الفضل ذو الرياستين وخرجنا مع أبي الحسن (عليه السلام) ورد على الفضل بن سهل ذي الرياستين كتاب من أخيه الحسن بن سهل ونحن في بعض المنازل: إني نظرت في تحويل السنة في حساب النجوم فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا وكذا يوم الأربعاء حر الحديد وحر النار وأرى تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمام في هذا اليوم وتحتجم فيه وتصب على يديك الدم ليزول عنك نحسه، فكتب ذو الرياستين إلى المأمون بذلك وسأله أن يسأل أبا الحسن ذلك، فكتب المأمون إلى أبي الحسن يسأله ذلك. فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام): لست بداخل الحمام غدا ولا أرى لك ولا للفضل أن تدخلا الحمام غدا. فأعاد عليه الرقعة مرتين، فكتب إليه أبو الحسن: يا أمير المؤمنين لست بداخل غدا الحمام فإني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الليلة في النوم فقال لي: «يا علي لا تدخل الحمام غدا» ولا أرى لك ولا للفضل أن تدخلا الحمام غدا، فكتب إليه المأمون: صدقت يا سيدي وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) لست بداخل الحمام غدا والفضل أعلم، قال: فقال ياسر: فلما أمسينا وغابت الشمس قال لنا الرضا (عليه السلام): قولوا: «نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة» فلم نزل نقول ذلك، فلما صلى الرضا (عليه السلام) الصبح قال لي: اصعد [على] السطح فاستمع هل تسمع شيئا؟! فلما صعدت سمعت الضجة والتحمت وكثرت فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان إلى داره من دار أبي الحسن وهو يقول: يا سيدي يا أبا الحسن آجرك الله في الفضل فإنه قد أبى وكان دخل الحمام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه واخذ ممن دخل عليه ثلاث نفر كان أحدهم ابن خالة الفضل بن ذي القلمين قال: فاجتمع الجند والقواد ومن كان من رجال الفضل على باب المأمون فقالوا: هذا اغتاله وقتله - يعنون المأمون ولنطلبن بدمه وجاؤوا بالنيران ليحرقوا الباب،

ص:280

فقال المأمون لأبي الحسن (عليه السلام): يا سيدي ترى أن تخرج إليهم وتفرقهم، قال: فقال ياسر: فركب أبو الحسن وقال لي: اركب. فركبت فلما خرجنا من باب الدار نظر إلى الناس وقد تزاحموا، فقال لهم بيده تفرقوا تفرقوا، قال ياسر: فأقبل الناس والله يقع بعضهم على بعض وما أشار إلى أحد إلا ركض ومر.

* الشرح:

قوله (فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين) كان الفضل وزير المأمون بالاستقلال وترقى أمره حتى تصرف في الإمامة أيضا، فلذلك سمى بذى الرياستين رياسة الوزارة ورياسة الإمارة (1).

قوله (الحسن بن السهل) كان والي بغداد من قبل المأمون في ذلك الوقت.

قوله (والتحمت) أي اشتدت الضجة والصياح وفي بعض النسخ «والنحيب» وهو شدة البكاء بصوت طويل ومد كالنحيب وكانت تلك القضية في سرخس.

قوله (فدخل عليه قوم) في كتب السير دخل عليه غالب بن أسود المسعودي وقسطنطين الرومي، وفرخ الديلمي، وموفق الصقلبي بالسيوف فقتلوه وهربوا فأمر المأمون بالفحص فأخذهم أبو العباس الدينوري وأحضرهم عند المأمون فقال لهم المأمون: لم قتلتموه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين اتق الله قتلناه بأمرك فلم يلتفت إلى كلامهم فقتلهم.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن مسافر، وعن الوشاء، عن مسافر قال: لما أراد هارون بن المسيب أن يواقع محمد بن جعفر قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): اذهب إليه وقل له: لا تخرج غدا فإنك إن خرجت غدا هزمت وقتل أصحابك فإن سألك من أين علمت هذا؟ فقل:

رأيت في المنام، قال: فأتيته فقلت له: جعلت فداك لا تخرج غدا فإنك إن خرجت هزمت وقتل أصحابك فقال لي: من أين علمت هذا؟ فقلت: رأيت في المنام، فقال: نام العبد ولم يغسل استه، ثم خرج فانهزم وقتل أصحابه، قال: وحدثني مسافر قال: كنت مع أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بمنى فمر يحيى بن خالد فغطى رأسه من الغبار فقال: مساكين لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة، ثم قال:

وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين - وضم إصبعيه - قال مسافر: فوالله ما عرفت معنى حديثه حتى دفناه معه.

* الشرح:

قوله (أن يواقع محمد بن جعفر) أي يحاربه، وهو محمد بن جعفر الصادق (عليه السلام) وقيل

ص:281


1- (1) قوله «رئاسة الوزارة ورئاسة الإمارة» الوزارة منصب من له التصرف في أمر الحكومة غير الحرب. والإمارة منصب رؤساء الجنود. (ش).

كان ملقبا بالديباج وكان شجاعا كريما سخيا. وفي بعض كتب السير أنه كان يرى رأي الزيدية في أن الإمام من نسل فاطمة عليها السلام من يخرج بالسيف فخرج في سنة تسع وتسعين ومائة على المأمون فغلب بعد المحاربة وأخذ وبعث إلى المأمون وهو في خراسان فعززه وأكرمه ومات في جرجان عند توجه المأمون إلى بغداد فدخل المأمون بنفسه في قبره ودفنه.

قوله (فقل: رأيت في المنام) أمره بذلك أما باعتبار أنه رأى ذلك في النوم في الواقع، أو باعتبار أن الكذب للمصلحة وحفظ النفس المحترمة (1) جاير.

قوله (لا يدرون ما يحل بهم في تلك السنة) قد ذكرنا سابقا ما حل بهم وسببه.

قوله (ثم قال: وأعجب من هذا هارون وأنا كهاتين وضم أصبعيه) أي سبابتيه ويحتمل غيرهما وأراد بقوله: «هارون وأنا كهاتين» ما بينهما من المقاربة والمجاورة، وأنا أما في محل النصب على أن الواو بمعنى مع، أو في محل الرفع بالعطف، وقوله: «كهاتين» في موضع الرفع على الخبر أي مقترنان ويقع التشبيه بالجوار.

قوله (حتى دفناه معه) لما بلغ هارون خروج رافع بن ليث بن نصر بن سيار واستيلاؤه في ما وراء النهر بعث هرثمه بن أعين إلى دفعه ونهض في عقبة إلى خراسان، وبلغ هذا الموضع فمرض مرضا شديدا وعند ذلك انهي إليه أن هرثمة هزم رافع بن ليث وأسر أخاه بشيرا وأرسله فأمر بإحضار بشير وأمر القصاب بقطع أعضائه ومات بعده بثلاثة أيام سنة ثلاث وتسعين ومائة ودفن في ذلك الموضع ثم دفن فيه الرضا (عليه السلام) سنة ثلاث ومائتين فالتفاوت بينهما عشر سنين.

* الأصل:

10 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن محمد القاساني قال: أخبرني بعض أصحابنا أنه حمل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) مالا له خطر، فلم أره سر به قال: فاغتممت لذلك وقلت في نفسي: قد حملت هذا المال ولم يسر به، فقال: يا غلام الطست والماء، قال: فقعد على كرسي وقال بيده للغلام: صب علي الماء، قال: فجعل يسيل من بين أصابعه في الطست ذهب، ثم التفت إلي فقال لي: من كان هكذا [لا] يبالي بالذي حملته إليه؟

* الشرح:

قوله (فلم أره سر به - الخ) كأنه لم يدع لصاحبه مع أن الدعاء له مستحب لعلمه بأن في قلب السامع شيئا من الزيغ فأراد أن يريه شيئا من الإعجاز والكرامات ليرفعه كما هو شأن الحكيم.

* الأصل:

11 - سعد بن عبد الله; وعبد الله بن جعفر جميعا، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي بن

ص:282


1- (1) قوله «إن الكذب للمصلحة وحفظ النفس المحترمة» الخبر ضعيف وتأويل الشارح تكلف. (ش).

مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان قال: قبض علي بن موسى (عليهما السلام) وهو ابن تسع وأربعين سنة وأشهر، في عام اثنين ومائتين. عاش بعد موسى بن جعفر عشرين سنة إلا شهرين أو ثلاثة.

* الشرح:

قوله (في عام اثنين ومائتين) (1) ينافي ما مر في أول الباب من أنه قبض سنة ثلاث ومائتين وهذا هو الراجح عند المصنف كما مر.

ص:283


1- (1) قوله «عام اثنين ومائتين» قال اليعقوبي ما معناه: لبث إلى سنة اثنين ومائتين وقبض أول السنة الثالثة ومائتين كما مر أنه (عليه السلام) قبض في صفر وورد المأمون بغداد بعد سنة في ربيع الأول من السنة الرابعة ومائتين وكان كلما دخل بلدا في مسيره ينظر في أمره ويصلحه حتى دخل العراق والمأمون تأثر بمعاشرة الرضا (عليه السلام) تأثرا عظيما في مذهبه وأن قتله ظلما وعدوانا لأن الملك عقيم ولم يكن الرضا (عليه السلام) أعز عليه من أخيه وقد قتله فكم قتل الملوك أبناءهم وآباءهم وإخوانهم وعشيرتهم ولم يبالوا، وبالجملة جوز الاحتجاج والمناظرة وأحل الناس إظهار عقائدهم والتكلم والبحث فيها وهذا باب فتحه الرضا (عليه السلام) إذ جلس وناظر أهل الأديان واحتج عليهم وتكلم في الأحاديث المروية ورد منها مالا يوافق القرآن وأول منها ما كان ظاهره غير مراد وكانت هذه الطريقة معمولة مدة خلافة المأمون وبعده في زمن المعتصم والواثق إلى أن تولى المتوكل فمنع من ذلك وأمر بمتابعة ظواهر أقوال السلف تقليدا وحرم التدبر في معانيها فصار التقليد شعار أهل السنة وبقى طريقة النظر من شعار الشيعة وتبعهم المعتزلة وهذا كله من فوائد سفر الرضا (عليه السلام) وكان يباح البحث في مجالس الديالمة لكونهم من الشيعة ولم يتبعوا سياسة المتوكل. ثم إن المتوكل ضم ذلك إلى الجسارة مع أئمتنا عليهم السلام حتى أمير المؤمنين والحسين عليهما السلام إذ علم أنهم الأصل في هذه الأمور، ويعجبني ما حكاه اليعقوبي في رد فدك قال: أحضر المأمون الفقهاء فسألهم عن [ذلك] فرووا أن فاطمة قد كانت قالت وشهدت لها هؤلاء وأن أبا بكر لم يجز شهادتهم فقال لهم المأمون ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير ونصهم إلى أن قالوا: إن عليا والحسن والحسين لم يشهدوا إلا بحق فلما أجمعوا على هذا ردها على ولد فاطمة (عليها السلام). أيضا حكى اليعقوبي أن قاضي بغداد ضرب رجلا اتهم بأنه شتم أبا بكر وعمر وأطافه على جمل فأحضره المأمون وأحضر الفقهاء وخاطب القاضي وقال: إني نظرت في قضيتك فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، بم أقمت الحد على هذا الرجل؟ قال: بشتم أبي بكر وعمر، قال: حضرك خصومه؟ قال: لا. قال: فوكلوك؟ قال: لا. قال فللحاكم أن يقم حد الفرية بغير حضور خصم؟ قال: لا. قال: وكنت تأمن أن يهب بعض القوم حصته فيبطل الحد؟ قال: لا، قال: فامهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال: بل كافرتان، قال: فيقام في الكافرة حد المسلمة؟ قال لا. ثم عد من أمثال ذلك إلى أن قال: ثم حملته على جمل فأطفت به فالمحدود يطاف به؟ قال: لا. قال ثم حبسته بعد أن أقمت عليه الحد فالمحدود يحبس بعد الحد؟ قال: لا، قال: لا يراني الله أبوء بإثمك - إلى أن قال -: فأمر به فحبس في داره حتى مات. انتهى. لعن الله قاضي السوء وناصبه وعازله ومصوب حكمه جميعا. (ش).

باب مولد أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام

* الأصل:

ولد (عليه السلام) في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة وقبض (عليه السلام) سنة عشرين ومائتين في آخر ذي القعدة وهو ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما ودفن ببغداد في مقابر قريش عند قبر جده موسى (عليه السلام) وقد كان المعتصم أشخصه إلى بغداد في أول هذه السنة التي توفي فيها (عليه السلام). وامه ام ولد يقال لها: سبيكة نوبية وقيل أيضا: إن اسمها كان خيزران وروي أنها كانت من أهل بيت مارية ام إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (وقبض (عليه السلام) سنة عشرين ومائتين) قال الصدوق: قتله المعتصم بالسم، وقال بعض أهل السير: ذهب بعض علماء الشيعة وأهل السنة إلى أن المعتصم قتله بالسم، وذهب طايفة إلى أنه مات بأجله.

قوله (وقد كان المعتصم أشخصه) هو محمد بن هارون ملك الخلافة بعد أخيه المأمون وأشخص محمد بن علي عليهما السلام من المدينة إلى بغداد في السنة المذكورة وقتله بالسم فيها، ومات المعتصم عليه اللعنة سنة سبع وعشرين ومائتين، فعاش بعده (عليه السلام) سبع سنين.

* الأصل:

1 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان. عن علي بن خالد - قال محمد: وكان زيديا - قال:

كنت بالعسكر فبلغني أن هناك رجل محبوس اتي به من ناحية الشام مكبولا وقالوا: إنه تنبأ، قال علي بن خالد: فأتيت الباب وداريت البوابين والحجبة حتى وصلت إليه فإذا رجل له فهم، فقلت:

يا هذا ما قصتك وما أمرك؟ قال: إني كنت رجلا بالشام أعبد الله في الموضع الذي يقال له: موضع رأس الحسين فبينا أنا في عبادتي إذا أتاني شخص فقال لي: قم بنا، فقمت معه فبينا أنا معه إذا أنا في مسجد الكوفة. فقال لي: تعرف هذا المسجد؟ فقلت: نعم هذا مسجد الكوفة، قال: فصلى وصليت معه فبينا أنا معه إذا أنا في مسجد الرسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة، فسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلمت وصلى وصليت معه، وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبينا أنا معه إذا بمكة، فلم أزل معه حتى قضى مناسكه وقضيت مناسكي معه فبينا أنا معه،

ص:284

إذا أنا في الموضع الذي كنت أعبد الله فيه بالشام ومضى الرجل، فلما كان العام القابل إذا أنا به فعل مثل فعلته الاولى، فلما فرغنا من مناسكنا وردني إلى الشأم وهم بمفارقتي قلت له: سألتك بالحق الذي أقدرك على ما رأيت إلا أخبرتني من أنت؟ فقال: أنا محمد بن علي بن موسى. قال: فتراقى الخبر حتى انتهى إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فبعث إلي وأخذني وكبلني في الحديد وحملني إلى العراق، قال: فقلت له: فارفع القصة إلى محمد بن عبد الملك، ففعل وذكر في قصته ما كان فوقع في قصته: قل للذي أخرجك من الشام في ليلة إلى الكوفة ومن الكوفة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة وردك من مكة إلى الشام أن يخرجك من حبسك هذا، قال علي بن خالد:

فغمني ذلك من أمره ورققت له وأمرته بالعزاء والصبر قال: ثم بكرت عليه فإذا الجند وصاحب الحرس وصاحب السجن وخلق الله، فقلت ما هذا؟ فقالوا: المحمول من الشام الذي تنبأ افتقد البارحة فلا يدرى أخسفت به الأرض أو اختطفه الطير.

* الشرح:

قوله (قال محمد وكان زيديا) أي قال محمد بن حسان: كان علي بن خالد زيديا وقال ذلك أيضا أصحاب الرجال فالعجب منه بقاؤه على مذهبه (1) بعد سماع هذا الحديث.

قوله (كنت بالعسكر) العسكر اسم سر من رأى (2).

قوله (مكبولا) أي مقيدا، والكبل بالتسكين القيد الضخم يقال: كبلت الأسير وكبلته مخففا ومثقلا إذا قيدته فهو مكبول ومكبل.

قوله (إلا أخبرتني) الاستثناء من حيث المعنى أي سألتك في جميع الأوقات إلا وقت إخبارك من أنت، أو ما سألتك شيئا إلا إخبارك من أنت وفيه على التقديرين مبالغة في السؤال وإلحاح في الإخبار.

قوله (فتراقى الخبر) أي تصاعد وارتفع حتى انتهى إلى محمد بن عبد الملك الزيات، وهو وزير المعتصم (3) وبعده وزير ابنه الواثق هارون بن المعتصم، وكان أبوه يبيع دهن الزيت في بغداد.

ص:285


1- (1) قوله: «بقائه على مذهبه» حكي عن المفيد أنه قال بالإمامة بعد مشاهدة هذه المعجزة. (ش).
2- (2) قوله «العسكر اسم سر من رأى» ذكرنا أن سر من رأى ما بدء بعمارته إلا بعد وفاة أبي جعفر (عليه السلام) قال في معجم البلدان بدأ بالبناء فيه سنة 221 وكانت وفاته (عليه السلام) سنة 220 وبالجملة لم يكن هناك سجن وعسكر وعمارة وقصر اشتبه الأمر فيه على محمد بن حسان فذكر العسكر بدل بغداد. (ش). والصحيح رجلا محبوسا.
3- (3) قوله «وهو وزير المعتصم» كانت وزراته للمعتصم بعد قتل الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قطعا لأن المعتصم تولى الخلافة بعد وفاة المأمون سنة 218 وأخذ البيعة له الفضل بن مروان وهو غائب وحلصت له يد عنده فاستورزه المعتصم واستمر في منصبه جزاء لخدمته إلى سنة 221 على ما ذكره المؤرخون ابن خلكان (وقد قبض أبو جعفر (عليه السلام) سنة 220) ثم غضب عليه المعتصم لجمعه الأموال الكثيرة من أموال السلطان وصادره واستخرج منه ألف ألف دينار نقدا ومثل ذلك من الرياش والجواهر وغيرها واستوزر في تلك السنة أحمد بن عمار البصري فمكث في الوزارة مدة لا يحضرني مقدارها إلى أن ورد كتاب فيه ذكر الكلأ فسأل المعتصم وزير عن معنى الكلاء ولم يكن عالما به فاستحضر كاتبا من كتاب الديوان فاحضروا محمد بن عبد الملك الزيات فأحسن الجواب، واستحسنه المعتصم ونصبه وزيرا وعزل أحمد بن عمار وكان جميع ذلك بعد وفاة أبي جعفر (عليه السلام)، وما كان يعلم راوي هذا الخبر تاريخ وزرارة ابن الزيات فذكره في أثناء الخبر ولم يكن الإمام (عليه السلام) زمان وزارته حيا ولعل وقوع المعجزة كان في زمان وزارة فضل بن مروان فاشتبه الأمر على الراوي لأن ابن الزيات كان أشهر لطول مدته وشدته وكان تنور الحديد ذي المسامير الذي يعذب به من أراد مصادرته واستخراج أموال الدولة مما لا ينسى، وكان تعذيبه بذلك التنور الذي اخترعه أربعين يوما حتى مات فيه عبرة من العبر لا تمحو من الخواطر وتحقق به المثل المشهور «من حفر بئرا لأخيه وقع فيها» وأعجب من ذلك أن الراوي ذكر في الخبر العسكر يعني سر من رأى ولم يكن بني ذلك البلد إلا بعد وفاة أبي جعفر (عليه السلام)، وبالجملة الحديث ضعيف بمحمد بن حسان ووصف الخبر المجلسي - رحمه الله - أيضا بالضعف ولا ينافي وقوع المعجزة وإن اشتبه على الراوي زمانه فتصرف فيه. وفي كل زمان عدول ينفون عن أحاديثهم تحريف الغالين وتأويل الجاهلين والحمد لله على نعمائه. (ش).

قوله (فإذا الجند وصاحب الحرس) الخبر محذوف أي حاضرون متأسفون متكلمون في أمره.

والحرس بفتحتين جمع حارس كخدم وخادم.

قوله (أو اختطفه الطير) خطفه واختطفه إذا استلبه بسرعة، واختطاف الطير مبالغة في سرعة غيبته.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري قال: حدثني شيخ من أصحابنا يقال له: عبد الله ابن رزين قال:

كنت مجاورا بالمدينة - مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) - وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجييء في كل يوم مع الزوال إلى المسجد فينزل في الصحن ويصير إلى رسول (صلى الله عليه وآله) الله ويسلم عليه ويرجع إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، فيخلع نعليه ويقوم فيصلي فوسوس إلي الشيطان، فقال: إذا نزل فأذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه فجلست في ذلك اليوم أنتظره لأفعل هذا، فلما أن كان وقت الزوال أقبل (عليه السلام) على حمار له، فلم ينزل في الموضع الذي كان ينزل فيه وجاء حتى نزل على الصخرة التي على باب المسجد ثم دخل فسلم على رسول الله، قال: ثم رجع إلى المكان الذي كان يصلي فيه ففعل هذا أياما، فقلت: إذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه، فلما أن كان من الغد جاء عند الزوال فنزل على الصخرة ثمق دخل فسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم جاء إلى الموضع الذي كان يصلي فيه فصلى في نعليه ولم يخلعهما حتى فعل ذلك أياما، فقلت في نفسي: لم يتهيأ لي ههنا

ص:286

ولكن أذهب إلى باب الحمام فإذا دخل إلى الحمام أخذت من التراب الذي يطأ عليه، فسألت عن الحمام الذي يدخله، فقيل لي: إنه يدخل حماما بالبقيع لرجل من ولد طلحة فتعرفت اليوم الذي يدخل فيه الحمام وصرت إلى باب الحمام وجلست إلى الطلحي احدثه وأنا أنتظر مجيئه (عليه السلام) فقال الطلحي: إن أردت دخول الحمام، فقم فادخل فإنه لا يتهيأ لك ذلك بعد ساعة، قلت: ولم؟ قال:

لأن ابن الرضا يريد دخول الحمام، قال: قلت: ومن ابن الرضا؟ قال: رجل من آل محمد له صلاح وورع، قلت له، ولا يجوز أن يدخل معه الحمام غيره؟ قال:

نخلي له الحمام إذا جاء قال: فبينا أنا كذلك إذ أقبل (عليه السلام) ومعه غلمان له، وبين يديه غلام معه حصير حتى أدخله المسلخ فبسطه ووافى فسلم ودخل الحجرة على حماره ودخل المسلخ ونزل على الحصير، فقلت للطلحي: هذا الذي وصفته بما وصفت من الصلاح والورع؟! فقال: يا هذا لا والله ما فعل هذا قط إلا في هذا اليوم فقلت في نفسي: هذا من عملي أنا جنيته، ثم قلت: أنتظره حتى يخرج فلعلي أنال ما أردت إذا خرج فلما خرج وتلبس دعا بالحمار فادخل المسلخ وركب من فوق الحصير وخرج (عليه السلام) فقلت في نفسي: قد والله آذيته ولا أعود [ولا] أروم ما رمت منه أبدا وصح عزمي على ذلك، فلما كان وقت الزوال من ذلك اليوم أقبل على حماره حتى نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه في الصحن فدخل وسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاء إلى الموضع الذي كان يصلي فيه في بيت فاطمة (عليها السلام) وخلع نعليه وقام يصلي.

* الشرح:

قوله (وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجييء في كل يوم مع الزوال - إلى آخر الحديث) أي يجيء أبو جعفر الثاني عند الزوال والغرض من نقل هذا الحديث هو الإشعار بأنه (عليه السلام) كان عالما بما في الضمير، وإنما أبى (عليه السلام) من أن ينال ابن رزين مطلوبه لخوف الاشتهار والفتنة، أو لإظهار حاله وكماله عليه ولكن قولة ابن رزين: «آذيته» ينافي الأخير ويؤيد الأول.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط قال: خرج (عليه السلام) علي فنظرت إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد وقال: يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، فقال: (وآتيناه الحكم صبيا) قال: «ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة» فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبيا ويجوز أن يعطاها وهو ابن أربعين سنة.

ص:287

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن الريان قال: احتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلما اعتل وأراد أن يبني عليه ابنته دفع إلي مائتي وصيفة من أجمل ما يكون، إلى كل واحدة منهن جاما فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر (عليه السلام) إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت إليهن وكان رجل يقال له: مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية، فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا اكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار وجعل يضرب بعوده ويغني، فلما فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه لا يمينا ولا شمالا: ثم رفع إليه رأسه وقال: اتق الله يا ذا العثنون قال: فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيديه إلى أن مات قال: فسأله المأمون عن حالة قال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا افيق منها أبدا.

* الشرح:

قوله (قال: احتال المأمون) أراد بذلك الاحتيال إظهار عدم صلاحه على الخلق ليعلموا أنه ليس بأولى منه بالخلافة، وقوله: «اعتل» معناه عجز عن الاحتيال، واسم ابنته ام الفضل والمراد بالبناء التزويج والزفاف والجام طبق أبيض من زجاج أو فضة، والأجناد جمع الجند، وفي بعض النسخ «الأخيار» (1) بالخاء المعجمة والراء وقد نقل أنه جعل صداقها مثل صداق فاطمة عليها السلام خمسمائة درهم وجهز أسباب سفره (عليه السلام) وأذن له الرجوع مع زوجته إلى المدينة، و (2) كان (عليه السلام) فيها

ص:288


1- (1) قوله «وفي بعض النسخ الأخيار» قال المجلسي - رحمه الله - كلاهما تصحيف والظاهر الأختان جمع الختن كما في نسخ مناقب ابن شهر آشوب ونعم ما قال. (ش).
2- (2) قوله «مع زوجته إلى المدينة» لا يحضرني الآن تاريخ تزويج ابنة المأمون وكان ولادة الإمام كما ذكر سنة خمس وتسعين ومائة وكان وفاة أبيه عليهما السلام سنة ثلاث ومائتين وقدم المأمون بغداد سنة أربع وكان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) في المدينة ثم استقدمه إلى بغداد وزوجه ابنته في بعض سنى إقامته في بغداد، ولم يتفق لي العثور على تاريخه ولا في مدة إقامته حتى رجع إلى المدينة، وقال المؤرخون: إن يحيى بن أكثم تولى قضاء البصرة سنة اثنتين ومائتين وأما قضاه بغداد فلا أعلم تاريخه وذكروا أن يحيى بن أكثم كان في مجلس عقد أبي جعفر (عليه السلام) فإن فرضنا أنه (عليه السلام) كان ابن ست عشرة سنة كان استقدامه في سنة عشر ومائتين تقريبا ولعل يحيى حينئذ انتقل من قضاء البصرة إلى قضاء بغداد، وروى عن المناقب أنه (عليه السلام) كان ابن تسع سنين وقريب منه عن محمد بن طلحة. ثم إن المأمون لم يحبسه عنده بعد التزويج بل أرجعه مع زوجته أم الفضل إلى المدينة وكان ينفذ إليه كل سنة ألف ألف درهم وأكثر على ما حكاه ابن العماد الحنبلي وكان هناك إلى أن قبض المأمون سنة ثمان عشرة وتولى أخوه المعتصم فاستقدمه سنة عشرين فكان (عليه السلام) جميع مدة إمامته معاصرا للمأمون الا سنتين من آخرها وكان قاطنا بمدينة الرسول (عليه السلام) إلا مرتين قدم بغداد أولاهما لأجل تزويج ابنة المأمون والأخرى سنة عشرين التي ارتحل فيها في خلافة المعتصم ولم يكن غرض المأمون من استقدامه وتزويجه قتله أو حبسه ومنعه من معاشرة شيعته واختلافهم إليه بل التقرب إلى الشيعة تأليفا لقلوبهم حتى لا يجاهروا بعداوته ولا يتبعوا من يخرج عليه من آل أبي طالب من الزيدية وغيرهم وأمثال هذه الأغراض مع أن المأمون كان متبرعا من حشوية أهل الحديث والظاهريين من منتحلي السنة وكان يريد أن يمزج بعض ما استفاده من الرضا (عليه السلام) في عقايد العامة تعديلا لهم. (ش).

إلى أن أنهضه المعتصم إلى بغداد فقتله بالسم.

قوله (يا ذا العثنون) في النهاية: العثنون: اللحية، وفي القاموس: العثنون اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين أو نبت على الذقن وتحته سفلا، أو هو على طولها وشعيرات طوال تحت حنك البعير.

* الأصل:

5 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن داود بن القاسم الجعفري قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت علي فاغتممت فتناول إحداهما وقال: هذه رقعة زياد بن شبيب، ثم تناول الثانية، فقال: هذه رقعة فلان، فبهت أنا فنظر إلي فتبسم قال:

وأعطاني ثلاثمائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه وقال: أما إنه سيقول لك: دلني على حريف يشتري لي بها متاعا، فدله عليه، قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري لي بها متاعا، فقلت: نعم.

قال: وكلمني جمال أن اكلمه (عليه السلام) له يدخله في بعض اموره، فدخلت عليه لاكلمه له فوجدته يأكل ومعه جماعة ولم يمكني كلامه، فقال (عليه السلام): يا أبا هاشم كل. ووضع بين يدي ثم قال - ابتداء منه من غير مسألة -: يا غلام انظر إلى الجمال الذي أتانا به أبو هاشم فضمه إليك. قال: ودخلت معه ذات يوم بستانا فقلت له: جعلت فداك إني لمولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثم قال [لي] بعد [ثلاثة] أيام ابتداء منه: يا أبا هاشم قد أذهب الله عنك أكل الطين. قال أبو هاشم: فما شيء أبغض إلي منه اليوم.

* الشرح:

قوله (ومعي ثلاث رقاع - إلى آخر الحديث) فيه أربع كرامات من خوارق العادات وسبب البهت، وهو التحير مشاهدة أمر غريب غير معهود من البشر، وسبب التبسم التعجب من بهته الإشعار بأن تمييزه بين المكاتيب لعلمه باغتمامه ورفع ذلك، وحريف: الرجل - بفتح الحاء وكسر الراء المخففة - معامله في الحرفة وهي الاكتساب.

ص:289

قوله (لمولع) على صيغة المفعول من أولعته بالشيء فهو مولع بفتح اللام أي مغرى به.

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن علي، عن محمد بن حمزة الهاشمي، عن علي بن محمد; أو محمد بن علي الهاشمي قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) صبيحة عرسه حيث بنى بابنة المأمون وكنت تناولت من الليل دواء فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء فنظر أبو جعفر (عليه السلام) في وجهي وقال: أظنك عطشان؟ فقلت أجل، فقال: يا غلام أو جارية اسقنا ماء. فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء يسمونه به فاغتممت لذلك فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسم في وجهي ثم قال: يا غلام ناولني الماء فتناول الماء، فشرب ثم ناولني فشربت، ثم عطشت أيضا وكرهت أن أدعو بالماء ففعل ما فعل في الاولى، فلما جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الاولى، فتناول القدح، ثم شرب فناولني وتبسم.

قال محمد بن حمزة: فقال لي هذا الهاشمي: وأنا أظنه كما يقولون.

* الشرح:

قوله (دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) صبيحة عرسه - إلى آخر الحديث) فيه أربع من خوارق العادات والبناء بالمرأة الدخول بها ووجه كراهة طلب الماء الاحتشام أو الخوف من السم، ووجه التبسم وشرب الماء أولا هو التنبيه له بما في ضميره لا لأجل احتياجه إلى الشرب، وقوله: فقال لي هذا الهاشمي: وأنا أظنه كما يقولون، معناه قال لي محمد بن علي الهاشمي (1): أنا أظن أن أبا

ص:290


1- 1 - قوله «قال لي محمد بن الهاشمي) مجهول وكأنه من بعض أقرباء الخليفة من بني العباس ونقل عنه هذا الخبر لأن نقل المعجزة من غير أهل الإمامة أقوى حجة ويدل على أن الشيعة كانوا معروفين باعتقاد العلم بما في الضمير في إمامهم، واعلم أن إمامة أبي جعفر (عليه السلام) من أعظم الحجج على مذهبنا لأن أباه (عليه السلام) توفي وهو صغير وقبله الشيعة إماما بالاتفاق من غير نكير كما اختلفوا فيمن قبله إذ قد اختلفوا بعد مضي الإمام الصادق (عليه السلام) في موسى بن جعفر عليهما السلام وقال جماعة من فقهاء الطائفة وعظمائها بإمامة الأفطح واختلفوا بعد رحلة موسى بن جعفر (عليه السلام) في الرضا (عليه السلام) وأنكره الواقفية وأما أبو جعفر (عليه السلام) فلم يختلفوا فيه وهذا آية أنهم رأوا فيه من دلائل الإمامة ما لم يكن سبيل إلى التوقف فيها ووجود الشرائط المعتبرة عند الشيعة غير سهل الحصول، وأول شيء كانوا يختبرون الإمام به العلم بالشرائع وإن كان صغيرا ولم يكن أبو جعفر (عليه السلام) مستورا عن الناس بحيث لا يلاقى ولا يسئل أو يعترف الشيعة به من غير سؤال، وممن رآه وسمع منه الحديث على ما نقله الخطيب في تاريخ بغداد عبد العظيم بن عبد الله الحسنى ولا يعقل أن يكون الصبي الذي غاب عنه أبوه وهو ابن ثلاث أو أربع سنين ثم لم يره أحد ذهب إلى العلماء لأخذ العلم يجيب عن مسائل الشيعة على ما يتوقعون فضلا عن العلم بما في الضمير والغيب والكرامات إلا أن يكون مؤيدا بروح القدس. (ش).

جعفر (عليه السلام) يعلم ما في النفوس كما يقول شيعته.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: استأذن على أبي جعفر (عليه السلام) قوم من أهل النواحي من الشيعة فأذن لهم، فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة (1) فأجاب (عليه السلام) وله عشر سنين.

ص:291


1- 1 - قوله «عن ثلاثين ألف مسألة» سكت الشارح عن هذا الخبر لأنه كلام إبراهيم بن هاشم غير منقول عن معصوم حتى يحتاج إلى توجيه ما يرى فيه من المحال ظاهرا إذ لا يبعد الخطأ من إبراهيم بن هاشم وذكره صاحب الكافي لأن المبالغات الواردة في كلام الناس يدل على صفة في المنقول عنه في الجملة مثلا بالغوافي أبي علي بن سينا بأنه كان يسمع من بخارا أصوات أواني النحاس بيد الصناع في كاشان، وفي أبي ريحان البيروني بأنه استخرج من حساب النجوم أن السلطان لا يخرج من أبواب البيت أصلا فثلم السلطان ناحية من الجدار وخرج من الثلمة وهذه المبالغات تدل على صفة في ابن سينا هي الفطانة ومهارة في أبي ريحان في النجوم إذ لا يبالغ إلا في صفة ثابتة، وهكذا هنا المبالغة في الإجابة عن ثلاثين ألف مسألة في مجلس واحد تدل على وجود هذه الصفة أعنى التسريع في جواب المسائل في الإمام (عليه السلام). والعلامة المجلسي - رحمه الله - أورد الإشكال بأن ثلاثين ألف مسألة إن فرض الجواب عن كل مسألة بيتا واحدا أعني خمسين حرفا لكان أكثر من ثلاث ختمات للقرآن فكيف يمكن ذلك في مجلس واحد وأجاب بوجوه: الأول الحمل على المبالغة في كثرة الأسئلة والأجوبة وهو ما ذكرنا. الثاني أنه يمكن أن يكون في خواطر القوم أسئلة كثيرة متفقة فلما أجاب (عليه السلام) عن واحد فقد أجاب عن الجميع. الثالث أجاب بكلمات موجزة مشتملة على أحكام كثيرة جدا. الرابع أن يكون المراد بوحدة المجلس الوحدة النوعية أو مكان واحد كمنى وإن كان في أيام متعددة، الخامس أن يكون مبنيا على بسط الزمان الذي يقول به الصوفية وأجاب بجوابين آخرين أيضا لم أفهم معناهما وما نقلتهما ولا حاجة إلى توجيه كلام إبراهيم بن هاشم بهذه التكلفات ولم يقل أحد بعصمته بل لم يصرحوا بصحة أحاديثه بل عدوه من الحسان. وقد روى المفيد عليه الرحمة في الاختصاص هذا الخبر مفصلا في الصفحة 102 والمستفاد منه أن هذا المجلس كان في مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) بحضور عمه عبد الله بن موسى بن جعفر (عليهما السلام) بعد أن عجز وغلط عن جواب مسائل الحاضرين وكان إبراهيم بن هاشم في جماعة من الحجاج دخلوا عليه (عليه السلام) بعد وفاة أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وكان لأبي جعفر (عليه السلام) تسع سنين ولم يكن المجلس في منى ولا وحدة نوعية في المكان ولا أياما متعددة ولا كان يسمع المجلس ثلاثين ألف نفس ولا طومار ولا كتاب أما وقوع مثل هذا المجلس فلا شك فيه لأن عادة الشيعة بعد مضى إمام أن يبحثوا عن الحجة بعده ويبعثوا جماعة من ثقاتهم وامنائهم إلى المدينة ليتفحصوا ويختبروا ويأتوا بالخبر الصحيح وكان أهل الكوفة مقدمين على ذلك، فأصل المجلس والسؤال والإجابة والاختبار والمجيء ببشارة الإمامة كلها حق وحضور إبراهيم بن هاشم وهو من أهل الكوفة في ذلك المجلس غير بعيد ولو لم يكن هذا الخبر أيضا كنا نعلم أن جماعة من شيعة الكوفة وغيرها من البلاد ذهبوا إلى المدينة واختبروا أبا جعفر (عليه السلام) وجاؤوا بالخبر الصحيح المقنع وإلا لم يكن الشيعة يتفقون على إمامته، ومن الغفلة أن يرد الأخبار برمتها أو تقبل بكليتها بل يجب التدبر فرب واقعة لا يشك فيها رويت بعبارة لا يصح جميعها فالرد المطلق والقبول المطلق كلاهما جهل وبينهما واسطة وقد اتفق لكل أحد أن سمع خبرا تيقن صحة بعضه وبطلان بعضه وشك في بعضه وسمعت أن رجلا كنت أعرفه مات ووصى بمال لصهره وشئ من البر في سبيل الله فأيقنت موته وبطلان الوصية لصهره إذ كنت عالما بأنه لا صهر له وشككت في باقي الوصية.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم، عن دعبل بن علي أنه دخل على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد الله، قال: فقال له: لم لم تحمد الله؟ قال: ثم دخلت بعد على أبي جعفر (عليه السلام) وأمر لي بشيء فقلت: الحمد لله، فقال لي: تأدبت.

* شرح:

قوله (تأدبت) (1) أشار به إلى تأديب الرضا (عليه السلام) إياه، يقال أدبه تأديبا فتأدب أي عرف الأدب واتصف به، والأدب كل ما فيه خير ومنافع.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر فقال: الحمد لله، حتى أحصيت له أربعا وعشرين مرة، فقلت: يا سيدي لو علمت أن هذا يسرك لجئت حافيا أعدو إليك، قال: يا محمد أو لا تدري ما قال - لعنه الله - لمحمد بن علي أبي (2).

ص:292


1- 1 - قوله «تأدبت» ما تضمنه الخبر إشارة إلى قصة دعبل وقصيدته المشهورة وصلة الرضا (عليه السلام) وعن الأغاني أنه قصد علي بن موسى الرضا عليهما السلام بخراسان فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة بإسمه وخلع عليه خلعة من ثيابه فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم فلم يبعها فقطعوا عليه الطريق فاخذوها فقال لهم: إنها تراد لله تعالى وهي محرمة عليكم فحلف أن لا يبيعها أو يعطونه بعضها فيكون في كفنه فأعطوه قرب كم كان في أكفانه وكتب قصيدته «مدارس آيات» فيما يقال على ثوب وأحرم فيه وأمر بأن يكون في كفنه. انتهى، ومن المعجزات التي لا سبيل إلى الارتياب فيها بيتان من هذه القصيدة ألحقهما الرضا (عليه السلام): وقبر بطوس يا لها من مصيبة * الحت على الأحشاء بالزفرات إلى الحشر حتى يبعث الله قائما * يفرج عنا الغم والكربات ولا يعقل للقبر مصيبة إلا هتك حرمته وقتل زواره وقد تكرر ذلك على ما ذكره المؤرخون واتفق في عصرنا مرتين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفي كتيبه على مقتل الجماعة سورة البروج وكأنها جرت على يد كاتبها من غير قصد هذه الآيات (قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) إشارة إلى جماعة من مؤمنين النصارى كان يفتنهم الكفار ويلقونهم في النار إن لم يرجعوا عن دينهم. والله يحكم لا معقب لحكمه. (ش).
2- 2 - قوله «لمحمد بن على أبي» إن صح هذا الخبر كان قول عمر للإمام الجواد قبل أن ينال عملا يعتد به في دولة بني العباس فإن أول ما ظهر أمره كان في خلافة الواثق بعد قبض مولانا الجواد (عليه السلام) بسنين وفوض الواثق إلى عمر ديوان الضياع وغلب عليه في الأمور وكان عمر أذل وأهون من أن يجترى على مخاطبة الإمام (عليه السلام) بهذا الكلام المنكر إذ كان له (عليه السلام) موقع في القلوب عظيم مع كونه ختن الخليفة وشأنه في الدولة وعظمته في أنظار أصحاب الحكومة وسعة ذات يده وكثرة عطاياه وحشمه فقد كان عطاؤه أكثر من ألف ألف درهم غير ما يصل إليه من شيعته من الخمس، وهذا هو الذي دعاني إلى النظر في الخبر وتحقيق وجه الضعف فيه. (ش).

قال: قلت: لا، بل خاطبه في شيء فقال: أظنك سكران فقال أبي: اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائما فأذقه طعم الحرب وذل الأسر، فوالله إن ذهبت الأيام حتى حرب ما له وما كان له ثم اخذ أسيرا وهو ذا قد مات - لا رحمه الله - وقد أدال الله عز وجل منه وما زال يديل أولياءه من أعدائه.

* الشرح:

قوله (فأذقه طعم الحرب (1) وذل الأسر) الحرب بالتحريك نهب مال الإنسان، وتركه لا شيء له

ص:293


1- 1 - قوله «فأذقه طعم الحرب» إن كان في الخبر شيء ينكر فالعهدة فيه على معلى بن محمد فقد قال النجاشي أنه مضطرب الحديث والمذهب، قال المجلسي - رحمه الله - ضعيف على المشهور وأقول فيه من الضعف رواية محمد بن سنان عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وأخباره بموت عمر بن فرج مع أن محمد بن سنان مات سنة عشرين ومائتين تلك السنة التي قبض فيها الإمام أبو جعفر الثاني (عليه السلام). ولم يدرك موت عمر بن فرج الرخجي ولا الإمام أبا الحسن الثالث زمان إمامته، وقد كان عمر في خلافة المتوكل حيا أعني بعد سنة اثنتين وثلاثين، وفي سنة خمس وثلاثين واليا على مكة والمدينة إذ خرج في تلك السنة علي بن عبد الله الجعفري من ولد جعفر الطيار من المدينة إلى المتوكل على ما في الأغاني وقال أبو الفرج أيضا في مقاتل الطالبين - وليس هو ممن يجازف في القول -: استعمل المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من برهم. انتهى. وظهر منه ضعف آخر في الخبر إذ زعم راويه أن ولاية عمر بن الفرج على المدينة كانت حين ما كان أبو جعفر (عليه السلام) حيا أعني قبل خلافة المتوكل أكثر من اثنتي عشرة سنة قال المسعودي في مروج الذهب - وهو ممن لا يجازف -: في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي وكان من علية الكتاب وأخذ منه مالا وجوهرا نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار وأخذ من أخيه نحوا من مائة ألف وخمسين ألف دينار ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد عليه ضياعه ثم غضب عليه غضبة ثانية وأمر أن يصفع في كل يوم فأحصى ما صفع فكان ستة آلاف صفعة وألبسه جبة صوف ثم رضى عنه وسخط عليه ثالثه واحدر إلى بغداد وأقام بها حتى مات انتهى، وليس فيها مصادرة مال، وبالجملة فمعلى بن محمد كان متأخرا زمانا عن هذه الوقائع وسمع اسم عمر بن الفرج وولايته على المدينة وسمع غضب المتوكل عليه ومصادرة أمواله وسمع اسم محمد بن سنان واختلط في ذهنه ولم يعلم تاريخ هذه الأمور واضطرب حديثه لذلك. وقال اليعقوبي: وسخط يعني المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي وعلى أخيه محمد وكان محمد بن الفرج عامل مصر إذ ذاك فوجه كتابا في حمله وقبضت أموالهما وكان ذلك في سنة 233 وكان عمر محبوسا بسر من رأى فأقاما سنتين انتهى، وكان محمد بن الفرج أخا عمر بن الفرج من رجال الشيعة وله خبر يأتي إن شاء الله. (ش).

يقال: حرب الرجل ماله فهو حريب ومحروب إذا أخذ ماله كله و (إن) في قوله: إن ذهبت، نافية.

قوله (وقد أدال الله تعالى منه) الأدالة من الدولة وهي الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء، والأدالة الغلبة يقال أديل لنا على أعدائنا أي نصرنا عليه والدولة لنا، وفي الفائق: يقول أدال الله زيدا من عمرو ومجازه نزع الله الدولة من عمرو فاتاها زيدا، وعلى هذا فمفعول أدال محذوف وهو من محمد بن على وضمير منه راجع إلى عمر و «أولياء» مفعول يديل.

* الأصل:

10 - أحمد بن إدريس، عن محمد بن حسان، عن أبي هاشم الجعفري قال: صليت مع أبي جعفر (عليه السلام) في مسجد المسيب وصلى بنا في موضع القبلة سواء وذكر أن السدرة التي في المسجد كانت يابسة، ليس عليها ورق، فدعا بماء وتهيأ تحت السدرة فعاشت السدرة وأورقت وحملت من عامها.

* الشرح:

قوله (في مسجد المسيب) واضيف إليه لأنه بناه، وفي بعض النسخ في مسجد السدرة، وهي شجرة معروفة والنبق بفتح النون وكسر الباء ثمرتها، وإنما اضيف المسجد إليها لكونها فيه.

قوله (وصلى بنا في موضع القبلة سواء) أي في موضع مستو من طرفه القبلي والمراد باستوائه إما عدم انحداره وغلظته أو تساويه بالنسبة إلى الجانبين، قال في النهاية: سواء الشيء وسطه لاستواء المسافة إليه من الأطراف.

قوله (كانت يابسة) في بعض النسخ كانت راسية. وهي من رسى الشيء يرسو إذا ثبت فعلى الأصل قوله: ليس عليها ورق، تأكيد وعلى النسخة تأسيس.

قوله (وتهيأ تحت السدرة) أي تهيأ للصلاة بالوضوء تحتها أو تهيأ للوضوء فتوضأ تحتها، وفي بعض كتب السير أنه عليه السلام بعد ما تزوج أم الفضل بنت المأمون توجه مع أهله وخدمه إلى المدينة وبلغ الكوفة فدخل لصلاة المغرب في مسجد في صحنه شجرة سدرة لم تثمر بعد فطلب ماء فتوضأ تحتها وصلى فلما فرغوا من الصلاة رأوا أن الشجرة أورقت وحملت فوثبوا إليها وأكلوا من ثمرها تبركا ما شاؤوا.

* الأصل:

ص:294

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحجال وعمرو بن عثمان. عن رجل من أهل المدينة، عن المطرفي قال: مضى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ولي عليه أربعة آلاف درهم، فقلت في نفسي: ذهب مالي، فأرسل إلي أبو جعفر (عليه السلام): إذا كان غدا فاأتني وليكن معك ميزان وأوزان، فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال لي: مضى أبو الحسن ولك عليه أربعة آلاف درهم؟ فقلت: نعم، فرفع المصلى الذي كان تحته فإذا تحته دنانير فدفعها إلي.

* الشرح:

قوله (عن المطرفي) منسوب إلى المطرف لكونه مزاوله، والمطرف بكسر الميم وفتحها وضمها الثوب الذي في طرفيه علمان والميم زائدة كذا في النهاية.

* الأصل:

12 - سعد بن عبد الله والحميري جميعا; عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان قال: قبض محمد بن علي وهو ابن خمس وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوما، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين، عاش بعد أبيه تسعة عشر سنة إلا خمسا وعشرين يوما.

ص:295

باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام

اشاره:

ولد (عليه السلام) للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين. وروي أنه ولد في رجب سنة أربع عشرة ومائتين. ومضى لأربع بقين (1) من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين. روي أنه قبض (عليه السلام) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين وله أحد وأربعون سنة وستة أشهر، وأربعون سنة على المولد الآخر الذي روي، وكان المتوكل أشخصه مع يحيى بن هرثمة بن أعين من المدينة إلى سر من رأى، فتوفي (عليه السلام) بها ودفن في داره، وامه ام ولد يقال لها سمانة.

* الشرح:

قوله (وروي أنه ولد في رجب) كان له عند موت أبيه على هذه الرواية ست سنين وعلى الرواية الأولى ثمان سنين.

قوله (ومضى (عليه السلام) لأربع بقين) قال الصدوق - رحمه الله - قتله المتوكل (2) لعنه الله بالسم. وقال بعض أرباب السير: عند علماء الشيعة أن المتوكل سمه فقتله وعند أهل السنة أنه مات بأجله.

قوله (وكان المتوكل أشخصه مع يحيى بن هرثمة) أرسل يحيى بن هرثمة مع أصحابه إلى المدينة فأشخصه إلى سر من رأى كما سيجيء فتوفي بها بعد أن أقام فيها عشرة سنين وبضعة أشهر (3) على ما قيل.

قوله (وامه ام ولد) قال بعض أرباب السير: امه ام الفضل بنت المأمون.

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن خيران الأسباطي قال: قدمت على

ص:296


1- 1 - قوله «لأربع بقين» قال اليعقوبي: لثلاث بقين، ويمكن الجمع بينهما وحققنا ذلك في كل تاريخ يختلف بيوم في موضع آخر (ش).
2- 2 - قوله «قتله المتوكل» هذا غير صحيح لأن المتوكل قتل في اليوم الثالث من شوال سنة 247 قتله الأتراك ومضى أبو الحسن الثالث (عليه السلام) سنة 254 أعنى سبع سنين بعد المتوكل في أيام المعتز، وقال اليعقوبي: بعث المعتز بأخيه أبي أحمد بن المتوكل فصلى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكائهم وضجتهم فرد النعش إلى داره فدفن فيها انتهى. (ش).
3- 3 - قوله «عشر سنين وبعضة أشهر» ولازم هذا الكلام أن المتوكل أشخصه من المدينة في أواخر مدة خلافته بعد أن مضى من ملكه إحدى عشرة سنة ويأتي تاريخ كتاب المتوكل إليه في إشخاصه في سنة ثلاث وأربعين ومائتين بقلم إبراهيم بن عباس الصولي الكاتب المشهور. (ش).

أبي الحسن (عليه السلام) المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهدا به، عهدي به منذ عشرة أيام، قال: فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات، فلما أن قال لي: «الناس» علمت أنه هو، ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ قلت: تركته أسوء الناس حالا في السجن قال: فقال: أما إنه صاحب الأمر، ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره، قال: فقال: أما إنه شؤم عليه، قال: ثم سكت وقال لي: لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه، يا خيران مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات، فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيام.

* الشرح:

قوله (عن خيران الأسباطي) كأنه خيران الخادم الثقة من أصحاب أبي الحسن الثالث ومولى الرضا عليهما السلام.

قوله (فقال لي: ما خبر الواثق) (1) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد استخلف بعد أبيه المعتصم، والمعتصم بعد أخيه المأمون ومات الواثق سنة اثنتي وثلاثين ومائتين وله ستة وثلاثون سنة، وقيل: سبعة وثلاثون، ومدة ملكه خمس سنين وأربعة أشهر، وقيل: خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما.

قوله (فلما أن قال لي الناس علمت أنه هو) إن الظاهر أنه كلام خيران يعني لما قال لي أبو الحسن (عليه السلام) الناس يعني أهل المدينة يقولون أنه مات علمت بالحدس أنه (عليه السلام) هو الذي يقول بأنه مات. ويخبرني بذلك.

قوله (ثم قال لي: ما فعل جعفر) هو جعفر بن المعتصم أخو الواثق، والناس جعلوه خليفة بعد

ص:297


1- 1 - قوله «ما خبر الواثق» إن كان في هذا الخبر شيء ينكر فهو على عهدة معلى بن محمد أيضا كما قلنا في بعض ما سبق وفيه أمور تنبىء عن الضعف: الأول سيره من بغداد إلى المدينة الطيبة في عشرة أيام، الثاني كون جعفر المتوكل في السجن عند موت الواثق ولم يكن كذلك لكن الواثق أخاه غضب عليه قبل ذلك لأنه كان خليعا يصفف شعره ويتزين كالمخنثين فأمر الواثق بحلق رأسه وألزمه رجلا لا يفارقه حتى شفع فيه ابن أبي دؤاد ورضى عنه، والثالث قتل ابن الزيات بعد أربعة أيام من بيعة المتوكل وهو غير منقول ولا معقول قال اليعقوبي: وأقر يعني المتوكل الأمور على ما كانت عليه أربعين صباحا ثم سخط على محمد بن عبد الملك يعني ابن الزيات واستصفى أمواله وعذب حتى مات وقد سبق ذكره وقصة تنوره ومساميره. وقال المسعودي: وقد كان سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر وقبض أمواله وجميع ما كان له وقلد مكانه أبا الوزير - ا ه. وقال أيضا: وكان حبسه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوما. وفي الكامل قبض المتوكل على ابن الزيات وحبسه لتسع خلون من صفر سنة 233 وكانت البيعة للمتوكل لست بقين ذي الحجة 232. (ش).

الواثق، ولقبوه بالمتوكل على الله، وتركوا محمد بن الواثق لصغر سنه، وقالوا لا نجعل من لا يمكن الصلاة خلفه بعد خليفة.

قوله (ما فعل ابن الزيات) هو محمد بن عبد الملك الزيات كان وزير الواثق ووزير أبيه المعتصم، وصاحب تدبير في ملكهما.

قوله (أما أنه شؤم عليه) ضمير أنه راجع إلى جعفر، وضمير عليه إلى ابن الزيات، ووجه ذلك أنه قتله ولا شؤم أعظم من ذلك، ولقتله أسباب: منها أن ابن الزيات أراد أن يجعل محمد بن الواثق بعد أبيه خليفة ولم يوافقه سائر الأمراء، ورضوا بخلافة جعفر فانتقم منه جعفر بعد الاستقلال.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن محمد بن يحيى، عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك؟ فقال: ههنا أنت يا ابن سعيد؟ ثم أومأ بيده وقال: انظر، فنظرت، فإذا أنا بروضات آنقات وروضات باسرات، فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، لسنا في خان الصعاليك.

* الشرح:

قوله (قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام)) يعني في سر من رأى وذلك أن يحيى بن هرثمة (1) حين أنهض (عليه السلام) من المدينة إلى سر من رأى أنزله بأمر المتوكل في خان الصعاليك فدخل عليه صالح بن سعيد وقال ما قال تأسفا وتحسرا من فوات تعظيمه الواجب وتكريمه اللازم على جميع الخلائق.

ص:298


1- 1 - قوله «وذلك أن يحيى بن هرثمة» حديث الخرايج يدل على أن يحيى استبصر في الطريق وقال بالولاية وصار من شيعة أبي الحسن (عليه السلام) وخدمه إلى أن مضى (عليه السلام) وأورد المسعودي في مروج الذهب خلال ذكر أيام المعتز قصة يحيى معه (عليه السلام) وفي الروايتين اختلاف في الجملة مع اتفاقهما على اعتراف يحيى بشأنه ومنقبته وعلى ثناء الناس عليه حتى أصحاب الحكومة، قال يحيى على ما في مروج الذهب: لما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد فقال لي: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمتوكل من تعلم، وإن حرضته على قتله كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصمك فقلت: والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل فصرت إلى سامرا فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه فقال: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري فعجبت من قولهما وعرفت المتوكل ما وقفت عليه وما سمعته من الثناء عليه فأحسن جائزته وأظهر بره وتكرمته ولولا خوف الإطالة أوردت الروايتين جميعا. (ش).

قوله (حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع (1) خان الصعاليك) الخان الذي ينزله شذاذ القوم ليس بعربي محض، والشناعة القبح يقال: منظر شنيع وأشنع ومشنع أي قبيح. والصعاليك جمع الصعلوك بالضم، وهو الفقير وإضافة الخان إليها لامية.

قوله (فقال: ههنا أنت يا ابن سعيد) يعني أنت بعد في هذا المقام من معرفتنا أو المراد أدن مني والأول أظهر.

قوله (فإذا أنا بروضات آنقات) أي معجبات مفرحات، والروضة البستان. يقال: روضة أنقتنى أي أعجبتني وفرحتني، والأنق بالفتح الفرح والسرور والشيء الأنيق والانق المعجب.

قوله (وروضات باسرات) أي طريات أو ذوات أنهار جاريات، والبسر بالضم الماء البارد والغض من كل شيء أو ذوات أثمار جديدة وعتيقة من البسر بالفتح. وهو خلط البسر بالتمر كما ذكره في الفائق.

قوله (فيهن خيرات عطرات) أي معطرات مطيبات، والعطر الطيب، يقال هي عطرة ومتعطرة أي متطيبة، والخيرات جمع خيرة بتشديد الياء أو سكونها على التخفيف لأن الخير بمعنى التفضيل لا يجمع. وكونهن خيرات باعتبار الخلق والخلق، ورشاقة القد، وصباحة الخد، والخلو من الطمث، وغيره مما يوجب النقص، ولعل علمه بتعطرهن باعتبار إشمام رايحتهن.

قوله (كأنهن اللؤلؤ المكنون) (2) أي المستور في وعائه، المصون عما يغيره عن صفائه فإن

ص:299


1- 1 - قوله «هذا الخان الأشنع» راوي الخبر وان كان معلى بن محمد وفيه ما سبق لكن العقل يهدي إلى صحته وحال المتوكل يقتضيه لأن الوارد في بلد إذا لم يكن له منزل مهيأ لابد أن ينزل بعض الخانات وكان على المتوكل أن يهيىء له (عليه السلام) دارا قبل وروده ولكنه كان صاحب لهو لا يفارقه ومتشاغلا بلذاته وفيه تيه وكبر لم يكن يتجرى أحد أن يكلمه في أمر العلويين فتغافل حتى ورد الإمام ولم يطلع ثم اعلموه بوروده. (ش).
2- 2 - قوله «كأنهن اللؤلؤ المكنون» ضمير جماعة الإناث في (كأنهن) للخيرات العطرات، والولدان كلمة معترضة بين المشبه والمشبه به، وقال المجلسي رحمه الله ما معناه: لما قصر علم السائل وفهمه عن إدراك اللذات الروحانية أراه (عليه السلام) ذلك لأنه مبلغه من العلم وأما كيفية رؤيته لها فهي محجوبة عنا، ثم ذكر وجوها استجود رابعها وهو أن النشئات مختلفة والحواس في إدراكها متفاوتة كما أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يرى جبرئيل وسائر الملائكة عليهم السلام والصحابة لم يكونوا يرونهم وأمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يرى الأرواح في وادي السلام وحبة وغيره لا يرونهم فيمكن أن يكون جميع هذه الأمور في جميع الأوقات حاضرة عندهم (عليهم السلام) ويرونها ويتلذذون بها، لكن لما كانت أجساما لطيفة روحانية ملكوتية لم يكن ساير الخلق يرونها فقوى الله بصر السائل بإعجازه (عليه السلام) حتى رآها فعلى هذا لا يبعد أن يكون في وادى السلام جنات وأنهار ورياض وحياض يتمتع بها أرواح المؤمنين كما ورد في الأخبار بإجسادهم المثالية اللطيفة ونحن لا نراها، وبهذا الوجه ينحل كثير من الشبه عن المعجزات وأخبار البرزخ والمعاد. انتهى، وبعبارة المجلسي رحمه الله ينحل أيضا شبهة أخرى عن ذهن من ينسبه إلى الحشو والجمود المحض إذ لا فرق بين ما أشار به من أخبار البرزخ والمعاد وما ذكره أفاضل الحكماء كصدر المتألهين قدس سره فيهما كما لا يخفى على المتأمل. (ش).

اللؤلؤ بكثرة الاستعمال قد يذهب عنه ضياؤه، ويزول عنه صفاؤه، فالتشبيه التام يحصل باعتبار كونها مكنونا وملاحظة كونه مخزونا.

قوله (وحسرت عيني) أي أعيت عن رؤيتها وكلت عن مشاهدتها.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن محمد، عن إسحاق الجلاب قال: اشتريت لأبي الحسن (عليه السلام) غنما كثيرة، فدعاني فأدخلني من اصطبل داره إلى موضع واسع لا أعرفه، فجعلت افرق تلك الغنم فيمن أمرني به، فبعث إلى أبي جعفر وإلى والدته وغيرهما ممن أمرني، ثم استأذنته في الانصراف إلى بغداد إلى والدي وكان ذلك يوم التروية، فكتب إلي تقيم غدا عندنا ثم تنصرف قال: فأقمت فلما كان يوم عرفة أقمت عنده وبت ليلة الأضحى في رواق له، فلما كان السحر أتاني فقال: يا إسحاق قم قال: فقمت ففتحت عيني فإذا أنا على بابي ببغداد قال: فدخلت على والدي وأنا في أصحابي، فقلت لهم: عرفت بالعسكر وخرجت بغداد إلى العيد.

* الشرح:

قوله (فبعث إلى أبي جعفر وإلى والدته) كان المراد به محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهو المكنى بأبي جعفر كما صرح به بعض أصحاب الرجال في باب الكنى وهو الذي يأتي حكايته في الحديث الرابع (1) من مولد أبي محمد (عليه السلام) والله أعلم.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خراج خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت امه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالا جليلا من مالها وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه، فلما رجع الرسول وأخبرهم أقبلوا

ص:300


1- 1 - قوله «يأتي حكايته في الحديث الرابع» لم نر في الحديث الرابع شيئا يتعلق بذلك والظاهر أن أبا جعفر هنا هو ابنه (عليه السلام) الذي قبض قبله واسمه محمد. (ش).

يهزؤون من قوله فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت امه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها، ثم استقل من علته، فسعى إليه البطحاوي العلوي بأن أموالا تحمل إليه وسلاحا، فقال لسعيد الحاجب: اهجم عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إلي، قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة، فنزلت فوجدته عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت، فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئا ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم ام المتوكل وكيسا مختوما وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفا في جفن غير ملبس، فأخذت ذلك وصرت إليه: فلما نظر إلى خاتم امه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له:

كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينارا فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار فضم إلى البدرة بدرة اخرى وأمرني بحمل ذلك [إليه] فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له: يا سيدي عز علي، فقال لي: (سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

* الشرح:

قوله (من خراج (1) خرج) الخراج بالضم البثر الواحد خراجة وبثرة، وقيل هو كل ما يخرج على الجسد من القروح والدمل ونحوهما.

قوله (بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد) الكسب بالضم عصارة الدهن والدوف الخلط.

يقال دفت الدواء وغيره أي بللته بماء أو بغيره.

قوله (ثم استقل من علته) (2) الاستقلال من القلة. يقال: استقل الشيء إذا رآه قليلا، وهذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء كما صرح به في النهاية.

ص:301


1- 1 - قوله «من خراج» وصف المجلسي رحمه الله الخبر بأنه مجهول وكأنه لمكان إبراهيم بن محمد الطاهري وهو من رجال الحكومة قطعا كساير آل طاهر. ونقلوا عنه لأن قوله حجة فيما يتعلق بدخلة أمر السلطان وإن كان متأخرا عن زمان المتوكل قطعا. وسبق ذكر إسحاق ابن إبراهيم الطاهري كان على بغداد لما قدم الإمام العراق سنة 243 وفي سنة 247 توفيت شجاع أم المتوكل وصلى عليها المنتصر وذلك في شهر ربيع الآخر فلا يحتمل أن يكون إبراهيم هذا أبا إسحاق المذكور. (ش).
2- 1 - قوله «استقل من علته» الاستقلال الارتفاع وهو كناية عن البرء لامن القلة كما قاله الشارح. (ش).

قوله (فسعى إليه البطحاوي) (1) قال في النهاية في حديث ابن عباس: «الساعي لغير رشدة» أي الذي يسعى بصاحبه إلى السلطان ليؤذيه ليس بثابت النسب ولا ولد حلال، ومنه حديث كعب:

«الساعي مثلث» يريد أنه مهلك بسعايته ثلاثة نفر: السلطان والمسعى به ونفسه.

قوله (اهجم عليه بالليل) الهجوم الإتيان بغتة والدخول من غير استيذان من باب طلب، يقال هجم عليه.

قوله (فوجدت سيفا في جفن غير ملبس) أي غير ملبس بالجلد أو غير مزين بالذهب والفضة كما هو المعروف في جفن السيوف وقبضتها. والجفن غمد السيف.

قوله (عز علي) قال في المغرب: عز علي أن يفعل كذا أي اشتد يعني اشتد على ما أمرني به المتوكل أو ما صدر مني من الدخول في بيتك جوف الليل من السطح بغير إذنك ولكني كنت مأمورا بذلك.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن محمد النوفلي، قال: قال لي محمد بن الفرج: إن أبا الحسن (عليه السلام) كتب إليه: يا محمد، أجمع أمرك وخذ حذرك، قال: فأنا في جمع أمري [و] ليس أدري ما كتب إلي حتى ورد علي رسول حملني من مصر مقيدا وضرب على كل ما أملك وكنت في السجن ثمان سنين، ثم ورد علي منه في السجن كتاب فيه: يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي، فقرأت الكتاب فقلت: يكتب إلي بهذا وأنا في السجن إن هذا لعجب، فما مكثت أن خلي عني والحمد لله. قال: وكتب إليه محمد بن الفرج يسأله عن ضياعه، فكتب إليه: سوف ترد عليك وما يضرك أن لا ترد عليك، فلما شخص محمد بن الفرج إلى العسكر كتب إليه برد ضياعه ومات قبل ذلك، قال: وكتب أحمد بن الخضيب إلى محمد بن الفرج يسأله الخروج إلى العسكر، فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يشاوره، فكتب إليه: اخرج فإن فيه فرجك إن شاء الله تعالى، فخرج فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات.

* الشرح:

قوله (قال: قال لي محمد بن الفرج) محمد بن الفرج الرخجى ثقة من أصحاب موسى بن

ص:302


1- 2 - قوله «البطحاوي العلوي» محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن (عليه السلام) وفي عمدة الطالب منسوبا إلى البطحاء أو إلى البطحان واد بالمدينة قال وكان فقيها وامه نفيسة. وقال: كان الحسن بن زيد أمير المدينة من قبل المنصور الدوانيقي. أقول: وقد سبق اسمه في مولد الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام). (ش).

جعفر (1) والرضا والجواد والهادي عليهم السلام، والحذر بالكسر الاحتراز.

قوله (وضرب على كل ما أملك) كناية عن نهب أمواله ومنعه من التصرف فيها.

قوله (لا تنزل في ناحية الجانب الغربي) (2) نهاه عن النزول في جانب غربي البلد بعد الخروج من السجن.

قوله (فكتب إليه سوف ترد عليك وما يضرك أن لا ترد عليك) فيه إخبار بالغيب من وجهين الإخبار بردها أو الإخبار بعدم وصولها إليه لموته قبل ذلك.

قوله (ومات قبل ذلك) (3) في إرشاد المفيد «فلم يصل إليه الكتاب حتى مات».

قوله (فإن فيه فرجك) فيه إخبار بالغيب، فإن الفرج هنا كناية عن الموت وفيه دلالة على أن الدنيا سجن المؤمن وفرجه في موته.

قوله (يعني محمدا) يعني محمد بن الفرج.

قوله (فنظر إليه) أي نظر إليه أبو الحسن (عليه السلام) (4) أو بالعكس.

ص:303


1- 1 - قوله «من أصحاب موسى بن جعفر» أقول: هكذا ذكره النجاشي وروايته عن موسى بن جعفر عليهما السلام وفي نفسي منه شيء وأراه من سهو الكتاب في نسخة فهرست النجاشي حيث ذكر أبا الحسن فحمله الناسخ على موسى بن جعفر عليهما السلام، والأظهر أن المراد الهادي (عليه السلام) ويبعد كل البعد أن يكون محمد بن الفرج تحمل العقوبات الشديدة والحبس ثمان سنين وغضب المتوكل عليه ثلاث مرات وحمله من مصر إلى العراق مكبولا مقيدا وهو ابن ثمانين على فرض روايته عن موسى بن جعفر (عليه السلام) ولم يكن لآل فرج ذكر قبل دولة الواثق، وبالجملة كان محمد بن الفرج هذا أخا عمر بن الفرج من رجال دولة بني العباس وكان أخوه مخالفا كسائر أعيان الدولة ولكن محمدا كان من الشيعة المخلصين وذكر المسعودي أنه كان واليا على مصر فاستحضره المتوكل وقبض على أمواله ثم صولح على أحد وعشرين ألف ألف درهم على أن يرد عليه ضياعه ثم غضب عليه ثانية وثالثة ورضي عنه، وأحدر إلى بغداد وقد سبق ذلك. (ش).
2- 2 - قوله «لا تنزل في ناحية الجانب الغربي» لئلا يتهم بالرفض فإن أكثر أهل الكرخ كانوا من الشيعة وهذا يشير إلى ما بعد الغضبة الثالثة. (ش).
3- 3 - «ومات قبل ذلك» يدل على أن موته بالعسكر وسكت عنه المسعودي واكتفى بقوله وأحدر إلى بغداد وأقام بها حتى مات، والحق أنه أقام ببغداد إلى آخر عمره وإنما خرح إلى العسكر ولم يقم به مدة يعتد به وتقرير الإمام ملكه على تلك الثروة العظيمة يدل على حلها له وإن حصلها من الولاية للخلفاء لاحتمال وجود وجه محلل ويأتي ذكر ابن الخصيب في الحديث التالي إن شاء الله. (ش).
4- 1 - قوله «نظر إليه أبو الحسن» يدل على أن موت محمد بن الفرج كان بعد أن نزل الإمام سامراء أعنى بعد سنة ثلاث وأربعين ولو فرضنا أنه رأى موسى بن جعفر (عليه السلام) قبل أن يقبض عليه هارون وهو ابن عشرين سنة زادت سنه على ثمانين وهو بعيد، واعتقاد مثل هذا الرجل بالإمامة مع منصبه وثروته وانحراف أمثاله حتى أخيه عن أهل البيت عليهم السلام وكون اتهامه بالتشيع غير مفيد بل مضرا بحاله ظاهرا يدل على أنه رأى من دلائل الإمامة فيهم ما لم ير بدا من متابعتهم، وأمثال هذه القرائن في الأئمة المتأخرين عن الرضا عليهم السلام أكثر لأنهم كانوا من أعيان الحضرة والأسرة الحاكمة منحلة عنهم أواصر كانت تقيد من قبلهم وأنظار المؤرخين وأصحاب السير مجلوبة إليهم، وذكر غير رواة الشيعة من أخبارهم ما يؤيد به روايتنا ويبين اعتقاد الشيعة فيهم وإن ما نعتقد فيهم في زماننا من الكرامات الإخبار بالغيب والعلم بالإلهام كان مستمرا من زمانهم وكان يعتقد أهل عصرهم فيهم نظير ما نعتقد والقرائن في كلام الموافق والمخالف فوق حد التواتر المتصل من زماننا إلى زمانهم، فلم يكن محمد بن الفرج يكتب إليه يسأله عن أمر ضياعه إلا وكان يعتقد علمه بما يصير إليه أمره. (ش).

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن رجل، عن أحمد بن محمد قال: أخبرني أبو يعقوب قال، رأيته - يعني محمدا - قبل موته بالعسكر في عشية وقد استقبل أبا الحسن (عليه السلام) فنظر إليه واعتل من غد، فدخلت إليه عائدا بعد أيام من علته وقد ثقل، فأخبرني أنه بعث إليه بثوب فأخذه وأدرجه ووضعه تحت رأسه، قال: فكفن فيه. قال أحمد: قال أبو يعقوب: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) مع ابن الخضيب فقال له ابن الخضيب: سر جعلت فداك، فقال له: أنت المقدم فما لبث إلا أربعة أيام حتى وضع الدهق على ساق ابن الخضيب ثم نعي. قال: وروي عنه حين ألح عليه ابن الخضيب في الدار التي يطلبها منه، بعث إليه: لأقعدن بك من الله عز وجل مقعدا لا يبقي لك باقية، فأخذه الله عز وجل في تلك الأيام.

* الشرح:

قوله (فأخبرني أنه بعث) أي أخبرني محمد بن الفرج أن أبا الحسن (عليه السلام) بعث إليه بثوب، وفيه أيضا دلالة على أنه (عليه السلام) كان عالما بأنه يموت.

قوله (رأيت أبا الحسن (عليه السلام) مع ابن الخضيب) (1) في إرشاد المفيد: رأيت أبا الحسن (عليه السلام) مع

ص:304


1- 2 - قوله «مع ابن الخضيب» كذا والصحيح الخصيب بالصاد المهملة كان أمير مصر في عهد الرشيد ومدحه أبو نواس بقصيدة منها قوله: إذا ما تزر أرض الخصيب ركابنا * فأي فتى بعد الخصيب نزور والخصب ضد الجدب وكان ابنه أحمد كاتبا للمنتصر في عهد أبيه المتوكل ووزر له بعد قتل أبيه وبعده للمستعين ونفاه المستعين سنة 248 إلى جزيرة أقريطش وهي في بحر الروم تسمى في أيامنا كرت خرج منه جماعة من العلماء إلى أن استولى عليها الفرنج سنة 350. وكانت وفاته على ما ذكره ابن خلكان سنة 265 بعد رحلة الإمام (عليه السلام) بإحدى عشرة سنة، قالوا: وكان ابن الخصيب متهورا وقف له متظلم فأخرج رجله من الركاب وزج المتكلم في فؤاده فقتله وقال بعض الشعراء: قل للخليفة يا ابن عم محمد * أشكل وزيرك أنه ركال أشكله عن ركل الرجال وأن ترد * مالا فعند وزيرك الأموال وقال اليعقوبي: تحامل الأتراك على أحمد بن الخصيب فسخط المستعين عليه ونفاه إلى المغرب بعد أربعة أشهر من ولايته فحمل في البحر إلى إقريطش ثم إلى القيروان. انتهى. فما يستفاد من هذا الخبر من موت ابن الخصيب قبل الإمام (عليه السلام) غير صحيح والرواية ضعيفة والراوي مجهول. (ش).

أحمد بن الخضيب يتسايران، وقد قصر عنه أبو الحسن (عليه السلام) فقال له ابن الخضيب - إلى آخره، وقوله (عليه السلام): أنت المقدم ابهام وتورية لأنه أراد به أنت المقدم في الموت والدهق محركة خشيبتان يغمر بهما الساق، وهو بالفارسية شكنجه وكند، والنعي الإخبار بالموت واشتهاره.

قوله (قال: وروي عنه) ضمير قال يعود إلى أحمد بن محمد، وضمير عنه إلى أبي يعقوب وضمير أنه وعليه إلى أبي الحسن (عليه السلام)، والإلحاح اللزوم والإصرار يقال: ألح على الشيء إذا لزمه وأصر عليه وبالغ فيه، وقد أراد ابن الخضيب أن يخرجه (عليه السلام) عن الدار التي كان يسكنها (1) وأصرو أبرم فاوعده (عليه السلام) بالدعاء عليه دعاء لا يرد سائله وقد فعل فاخذه الله تعالى في تلك الأيام.

ولعل معنى قوله «لا يبقى لك باقية» انه لا يبقى لك ساعة باقية، فيكون كناية عن سرعة الاخذ أو لا يبقى لك طائفة باقية فيكون كناية عن سرايته إلى الاعقاب وهذه الجملة صفة لقوله «مقعدا» وهو زمان قعود للدعاء أو مكان قعود له أو كيفية مخصوصة له بحيث يقتضى سرعة الاستجابة وعدم الرد. والله أعلم.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابنا قال: أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أمير المؤمنين عارف بقدرك، راع لقرابتك، موجب لحقك، يقدر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزك وعزهم وأدخل اليمن والأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضاء ربه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم وقد رأى أمير المؤمنين صرف

ص:305


1- 1 - قوله «عن الدار التي كان يسكنها» كان ذلك في عهد المستعين أيضا وكانت الدار التي يسكنها من دور الخلافة والرواية وإن كانت ضعيفة لكن ما تضمنته من إصرار ابن الخصيب ودعاء الإمام عليه قريب معهود من أمراء تلك الأزمان وإن أخطأ الراوي في نقل حبس ابن الخصيب وموته فرب واقعة يخطئ الناقل في بعض تفاصيلها لبعد العهد، والاعتماد على نقل الكليني مثل تلك الخوارق والكرامات عن الأئمة عليهم السلام وعدم إنكار الشيعة في ذلك العصر لها وعدم استعجابهم عند سماعها وهذا يكفينا في إثبات المعجزة لأنه يدل على معهودية صدور الخوارق منهم عليهم السلام لعدم إمكان تواطؤ هذا الجمع العظيم على الكذب. (ش).

عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك وعند ما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك في ترك محاولته وأنك لم تؤهل نفسك له وقد ولي أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت شخصت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت تسير كيف شئت وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك، يرحلون برحيلك ويسيرون بسرك والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة ولا أحمد له أثرة، ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبر وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته; وكتب إبراهيم بن العباس وصلى الله على محمد وآله وسلم.

* الشرح:

قوله (من يحيى بن هرثمة) متعلق بأخذت قال الفاضل الإسترآبادي في كتاب الرجال: يحيى بن هرثمة روي أنه كان من الحشوية ثم تشيع (1) لما رأى من على بن محمد الرضا عليهم السلام.

قوله (أما بعد) هي كلمة يستعملها الخطيب والكاتب بين ما كان فيه من الحمد والثناء (2) والانتقال إلى ما يريد أن يتكلم فيه، وقيل في قوله تعالى: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) هو كلمة «أما بعد» وقيل فيه غير ذلك والحق أنه الفصل بين الحق والباطل والقرآن أو أعم منهما ومنه

ص:306


1- 1 - قوله «ثم تشيع» روي أن الإمام (عليه السلام) لما تهيأ للخروج أمر الخياطين أن يهيئوا له ولخدمه ومن معه لبابيد وألبسة شتوية وكان زمان الصيف فتعجب يحيى من عمله وأن الشيعة كيف يعتقدون فيه ما يعتقدون مع أن هذا عمله حتى إذا خرجوا اتفق في بعض المنازل هبوب رياح ونزول أمطار واحتاجوا إلى تلك اللبابيد فهلك من أصحاب يحيى جماعة من البرد فدفنوا في تلك البقعة وقيل: إن بعض أصحابه كان خارجيا وكاتبه شيعيا وكانا قبل ذلك ينازعان في صحة ما رووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إن كل بلد لابد أن يدفن فيه أحد وأن تلك البقعة بعيدة عن العمران وعن المارة فكيف يمكن أن يدفن فيها أحد حتى وصلوا إلى المدينة ورجعوا فلما وافوا تلك البقعة اتفق الطوفان وهلك من هلك ودفن فيها. تشيع يحيى بن هرثمة لما رأى ذلك. (ش).
2- 2 - قوله «بين ما كان فيه من الحمد» والمراد هنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم قال اليعقوبي: كان يعنى المأمون أول من أثبتها على عنوانات كتب الخلفاء وكبر بعد كل صلاة فبقي ذلك سنة، وجول العلم عند مواقيت الصلاة، ونزع المقاصير من المساجد الجامعة وقال هذه سنة أحدثها معاوية. انتهى. (ش).

قوله تعالى: (إنه لقول فصل) قال المازري: يستحب الإتيان بها حتى في خطب التصانيف وعند البخاري باب في استحبابها واختلف في أول من تكلم بها فقيل: داود (عليه السلام)، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: قس ابن ساعدة.

قوله (صرف عبد الله بن محمد) (1) أي عزله وهو كان والي المدينة وصاحب العسكر والحرب والصلاة فيها وكان شديد العداوة لأبي الحسن (عليه السلام) فأرسل مكتوبا متضمنا للسعاية له والشكاية عنه (عليه السلام) إلى المتوكل فبعث المتوكل لعنة الله عليه يحيى بن هرثمة بن أعين مع جنود يشخصه إلى سر من رأى فأشخصه.

قوله (إذ كان على ما ذكرت) الظاهر أنه (عليه السلام) كتب إليه اعتذارا مما نسبه إليه وجفا عليه.

قوله (وعندما قرفك به) أي عابك واتهمك به يقال: قرف فلان فلانا إذا عابه واتهمه وهو

ص:307


1- 1 - قوله «صرف عبد الله بن محمد» ينبغي أن يتعجب من مساهلة المتوكل مع الإمام (عليه السلام) على ما كان فيه من عداوة أمير المؤمنين (عليه السلام) وما فعل بقبر الحسين (عليه السلام) ومنع من زيارته حتى إن علماء أهل السنة أيضا وصفوه بالنصب. وقال في فوات الوفيات: تنفر المسلمون جميعا من عمله ثم إنه استقدم الهادي (عليه السلام) ولم يتعرض له بحبس وقتل بل كان في عز ظاهر وحشمة نازلا في بعض دور الخلافة مع خدمه وذويه مدة أربع سنين في حياة المتوكل وست سنين أو أكثر بعده ولم يتفق لأحد من الأئمة عليهم السلام ذلك المقام الطويل في الحضرة معظما مكرما وذلك لأن مذهب الشيعة قد رسخت أركانه وثبتت أصوله وتمكن في القلوب قواعده وانتشر في أقطار الأرض دعوته وكثر في النواحي اتباعه في زمان الهادي (عليه السلام) وأن الخلفاء علموا بطول المعاشرة أن الأئمة عليهم السلام لن يخرجوا عليهم طلبا للملك ولن يتوثبوا على سلطانهم ولن يستعجلوا للحصول على الإمارة كدعاة الزيدية من شرفاء بني الحسن وغيرهم وأول من تنبه لذلك المأمون وتبعه المعتصم والواثق بعد أن كان هارون ومن قبله يخافون من خروجهم كالزيدية ويزعمون أنه يمكن معارضة الحق بالسيف واطفاء نور الله بالقهر فلما سافر الرضا (عليه السلام) إلى خراسان وظهر أمره وتبين طريقته وعاشره أصحاب الحكومة وعمال الخلافة تبين لهم خطؤهم في ظنونهم وأباح المأمون بعد قتل الرضا (عليه السلام) البحث والنظر في الإمامة وفروعها إذ علم أن ظهور الشيعة الإمامية لا يوهن سلطانه. شرح أصول الكافي - 19 -.

مقروف.

قوله (من الأمور التي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه) كتب عبد الله بن محمد أمورا من جملتها أنه يدعي الإمامة ويجلب إليه الأموال.

قوله (أثرة) الأثرة (1) بفتح الهمزة والثاء الاسم من أثر يؤثر إيثارا إذا أعطى، أراد أنه يؤثرك ويتفضل عليك على ما لا يؤثر ولا يتفضل على غيرك من إخوته وأولاده وأهل بيته وأصحابه وصاحب سره.

* الأصل:

8 - الحسين بن الحسن الحسني قال: حدثني أبو الطيب المثنى يعقوب بن ياسر (2) قال: كان

ص:308


1- 1 - قوله «أثرة» كانت الخلفاء من بني العباس يحفظون في دار الخلافة عشيرتهم الأقربين ويمنحونهم بغيتهم ويسهلون لهم مصالحهم في أنعم ما يكون بشرط أن لا يخرجوا منها وكلما تقدمت الدولة اشتد الأمر في التضييق حتى كانت دار الخلافة في أواخر دولتهم تشمل ربع بغداد مساحة مع سعة البلد جدا. وكان المتصدي لحفظ دار الخلافة من أعلى أرباب المناصب ويسمى الرجل المنصوب لذلك قهرمانا والامرأة المنصوبة للحرم وحماية النساء والجواري قهرمانة، وكان الإمام (عليه السلام) مدة إقامته في العسكر مع الأسرة الحاكمة في دار الخلافة وهذه الرسالة من أفصح ما يكون وأحسن وكاتبه إبراهيم بن العباس المعروف بالصولى من مشاهير الكتاب. وقال ابن خلكان: كان أحد الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كله نخب، قال: وله نثر بديع ثم ذكر آباءه وأول من أسلم منهم - إلى أن قال -: اتصل إبراهيم وأخوه عبد الله بذي الرياستين الفضل بن سهل ثم تنقل في أعمال السلطان ودواوينه إلى أن توفي وهو يتقلد ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى للنصف من شعبان سنة 243. انتهى، وكتابه الموسوم بأدب الكتاب مشهور مطبوع. (ش).
2- 2 - قوله «يعقوب بن ياسر» كأنه من عمال الحكومة نقل عنه الكليني قدس سره لأن قوله حجة في أمثال هذه الوقايع بالنسبة إلى تنزيه الإمام (عليه السلام) وإن لم تكن حجة بالنسبة إلى تنقيص موسى المبرقع وأما المتوكل فكان خليعا سكيرا، أكثر المؤخورن من ذكر لهوه وخلاعته وفساده وذكر بعضهم أنه قتل وهو سكران لا يستطيع أن يقوم من سكره فوضعوا فيه السيف فقطعوه والخمر تدب في عروته، ويثني عليه النواصب بأنه محى البدع وأقام السنة وقال بعضهم: إنه تالي عمر بن عبد العزيز في إقامة الدين، قال المسعودي في مروج الذهب: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل والترك لما عليه الناس في أيام المعتصم والواثق والمأمون، وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر شيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة. انتهى. وقال اليعقوبي: ونهى المتوكل عن الكلام في القرآن وأطلق من كان في السجون من أهل البلدان ومن أخذ في خلافة الواثق فخلاهم جميعا وكساهم جميعا وكتب إلى الآفاق كتبا ينهى عن المناظرة والجدل وأمسك الناس انتهى، أقول: وأكثر المجددين من علماء مصر وغيرها من البلاد اعترفوا بأن أعظم جناية وقعت على الإسلام منع الناس عن النظر والاجتهاد والجمود على ما أثر من السلف، وكان أعظم مسألة في تلك الأزمان مسألة القرآن، وأنه حادث أو قديم، وبعده التكلم في الصفات، وكان رأي العوام ورؤسائهم فيها خرافيا صرفا يلتزمون بأمور غير معقولة مثل أن هذا المصحف المكتوب بأيدي الكتاب المدون بين الدفتين الذي صنعه الوراقون قديم بقدم الله تعالى وأن القول بحدوثه تنقيص له، وبعض من تدبر منهم ورآه دليلا على سفاهة قائله ذهب إلى أن كلامه تعالى الذي صدر منه قديم لا هذا المكتوب المدون وهو أيضا غير معقول لأن الكلام حروف مرتبة يتبع بعضها بعضا ولا يتعقل كونها قديمة لأنه يوجب عدم الترتب في الحروف ولذلك التزم العقلاء بكون القرآن مخلوقا بأي معنى فرض وهو غير العلم وأن هذا لا يوجب توهينا له وتنقيصا كما أن النبي (عليه السلام) وهو أفضل من القرآن مخلوق ولا يوجب نسبة ذلك إليه توهينا وكان المأمون وبعده المعتصم والواثق قائلين بخلق القرآن دفعوا الحجر عن القول به وربما امتحنوا المشاغبين والغوغاء من العامة ونهو القضاة عن قبول الشهادة إلا من أهل التوحيد والعدل. قال المسعودي: في سنة 219 ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطا ليقول بخلق القرآن، وزاد اليعقوبي احتجاج إسحق بن إبراهيم عليه إلى أن قال أحمد: فإني أقول بقول أمير المؤمنين، قال في خلق القرآن؟ قال في خلق القرآن، قال فاشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله انتهى. أقول: فاستعمل أحمد التقية أو قال بخلق القرآن خلافا لما عليه الجماعة. وقال اليقعوبي أيضا: صار المأمون إلى دمشق سنة 218 وامتحن الناس في العدل والتوحيد على ما سبق وقال: وامتحن الواثق الناس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلا شهادة من قال بالتوحيد فحبس بهذا السبب عالما كثيرا انتهى. فتبين من ذلك أن مرادهم وصف المتوكل بمحو البدعة وإقامة السنة ليس ما يتبادر إلى الذهن من ظاهره بل منعه من البحث والنظر وإبقاء خطأ من أخطأ من السلف على هو عليه وإن خالف السنة والكتاب أيضا فاختاروا لفظا حسنا لمعنى قبيح وقال يحيى بن أكثم على ما في تاريخ بغداد: القرآن كلام الله فمن قال مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه انتهى. وهذا منتهى عقلهم وعلمهم ولم نر بعد البحث الشديد حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر بقتل من قال بخلق القرآن فكيف يكون القائل به سنيا ولكنهم بنوا السنية على أربع أصول: الأول إنكار الحسن والقبح، والثاني الجبر، الثالث عدم خلق القرآن، الرابع رؤية الله تعالى مع عدم كونه جسما ومتحيزا. والسني عندنا من التزم باتباع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأما الأصول الأربعة فيخالف السنة والكتاب والعقل ولا ينبغي إلا لمثل المتوكل أن يكون مؤسسا لها ويتنزه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكل نبي بل كل عاقل أن تكون تلك الخرافات سنة له يجبر الناس على قبولها فإن أبى ضربت عنقه ولم يكن بناء أبي بكر وعمر أيضا على ذلك على ما يستفاد من سيرتهما والله العالم. (ش).

المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا، أبى أن يشرب معي أو يناد مني أو أجد منه فرصة في هذا، فقالوا له: فإن لم تجد منه فهذا أخوه موسى قصاف عزاف يأكل ويشرب ويتعشق، قال:

ابعثوا إليه فجيئوا به حتى نموه به على الناس ونقول: ابن الرضا، فكتب إليه واشخص مكرما وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة وبنى له فيها وحول الخمارين والقيان إليه ووصله وبره وجعل له منزلا سريا حتى يزوره هو فيه، فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن في قنطرة وصيف وهو موضع تتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك فلا تقر له أنك شربت نبيذا قط، فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟

ص:309

قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل فإنما أراد هتكك، فأبى عليه فكرر عليه، فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهو عليه أبدا، فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فرح، فيروح فيقال: قد سكر فبكره، فيبكر فيقال: شرب دواء، فمازال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه.

* الشرح:

قوله (قصاف عزاف) القصف اللهو واللعب وهو أعم من العزف، وهو اللهو بالمعازف وهي الدفوف والعود والطنبور وغيرهما مما يضرب، وقيل: إن كل لعب عزف وعلى هذا لا يبقى الفرق بينهما إلا أن يراد بالقصف الكسر للعرض ونحوه.

قوله (حتى نموه على الناس ونقول ابن الرضا) التموية التدليس وإخفاء الحق يريد أن ندلس على الناس سيما على الأقاصي، ونقول: ابن الرضا فعل كذا وكذا من المنكرات فإنهم ينتقلون منه إلى أبي الحسن علي بن محمد فيتنفرون منه لأن اشتراك الاسم والنسب قد يضر وربما أراد بذلك كسر شأن الرضا (عليه السلام) أيضا وبالجملة قصده صرف قلوب الخلق عنهم.

قوله (على أنه إذا وافى) متعلق بكتب أي كتب إليه على هذه الشروط والمواعيد بالإحسان الموافق لطبعه، وقوله «وأشخص مكرما - إلى آخره» جملة معترضة لبيان كيفية وروده من استقبال الخلق أجمعين بأمر ذلك اللعين. والقطيعة الطائقة من أرض الخراج يقطعها السلطان من يريد، والقيان جمع القينة وهي الأمة المغنية أو الأعم منها، والمنزل السري، المنزل النفيس المختار الموافق للطبع بحسب الكم والكيف وحسن المنظر.

قوله (فأبى عليه) أي فأبى موسى على أبي الحسن محمد بن علي ولم يقبل قوله، وذلك لميل طبعه إلى لذات الدنيا فكرر عليه تلك النصيحة لعله يتذكر أو يخشى أو يحفظ عرضه فلما رأى (عليه السلام) أنه لا يجيب قوله ولا يسمع نصيحته قال له: إن هذا مجلس لا يجتمع أنت والمتوكل عليه أبدا فأقام موسى ثلاث سنين يبكر كل يوم ويأذن الدخول فيعلل البوابين ويقولون: هو اليوم مشغول بكذا، واليوم سكران، واليوم شرب دواء، ونحو ذلك فمازال على هذا في ثلاث سنين حتى مات المتوكل لعنه الله ولم يجتمع موسى معه على هذا المجلس كما أخبر الإمام (عليه السلام).

* الأصل:

9 - بعض أصحابنا، عن محمد بن علي قال: أخبرني زيد بن علي بن الحسن بن زيد قال: مرضت فدخل الطبيب علي ليلا فوصف لي دواء بليل آخذه كذا وكذا يوما فلم يمكني، فلم يخرج الطبيب

ص:310

من الباب حتى ورد علي نصر بقارورة فيها ذلك الدواء بعينه فقال لي: أبو الحسن يقرئك السلام ويقول لك: خذ هذا الدواء كذا وكذا يوما فأخذته فشربته فبرئت، قال محمد بن علي: قال لي زيد ابن علي: يأبى الطاعن أين الغلاة عن هذا الحديث.

* الشرح:

قوله (دواء بليل) البليل والبليلة ريح تحدث (1) من بلة ورطوبة توجب استرخاء الأعضاء وتحركها، وهو الذي يسمونه بالفالج وهو داء معروف يرخى بعض البدن.

قوله (يأبى الطاعن أين الغلاة عن هذا الحديث) أي ينكر الطاعن فضله وكماله واستحقاقه للإمامة والخلافة أو ينكر هذا الحديث أين الغلاة عن هذا الحديث فإنهم لو علموه (2) لتمسكوا به على معتقدهم، ومقصوده التعجب في الطعن عليه وإنكاره.

ص:311


1- 1 - قوله «ريح تحدث» جعل الشارح الباء في بليل جزءا من الكلمة واشتقاقه من بلل والصحيح أن الباء جارة والليل بمعناه المعروف والدواء الذي يشرب ليلا وينام عليه يمسى في عرف الأطباء بالشبيار وهو المقصود. (ش).
2- 2 - قوله «فإنهم لو علموه» الظاهر أن مقصود الراوي تأييد صحة الحديث ورفع ما يمكن أن يناقش به في كونه خرق العادة من كل جهة فذكر أن الطبيب دخل عليه ليلا وخرج ثم دخل خادم الإمام عليه السلام واسمه نصر بعد خروج الطبيب بلا مهلة وأحضر قارورة الدواء، ومقصوده دفع احتمال أن يكون الطبيب لما خرج من الدار لقيه أحد معارف الراوي وعلم من خروج الطبيب مرضه فسأل الطبيب عن المريض والدواء الذي وصفه وعلم أن تحصيل هذا الدواء ليلا غير ممكن وكان الرجل من أصحاب الإمام عليه السلام وخدمه بحيث كان يسهل عليه ذكر حال المريض والدواء له عليه السلام فذهب إليه وذكر له وأرسل الإمام ذلك الشبيار إليه فورا، فدفع الراوي هذا الاحتمال بأن ذلك كان ليلا لا يحتمل أن يكون الطبيب لقي أحدا من أصحاب الإمام في الطريق وكانت المدة بين خروج الطبيب ورود الدواء قليلة لا تحتمل هذه الأمور، وأما احتمال جعل الغلاة فمدفوعة بأنه لا واسطة في الإسناد. (ش).

باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام

* الأصل:

ولد (عليه السلام) في شهر [رمضان وفي نسخة أخرى في شهر] ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.

وقبض (عليه السلام) يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين وهو ابن ثمان وعشرين سنة ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه بسر من رأي وامه أم ولد يقال لها:

حديث، [قيل: سوسن].

* الشرح:

قوله (وقبض (عليه السلام) يوم الجمعة) قال الصدوق قتله المعتمد لعنه الله بالسم، وقال الطبرسي: ذهب كثير من علمائنا إلى أنه (عليه السلام) مضى مسموما وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة عليهم السلام. روى الصدوق بإسناده عن أبي حاتم قال سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليهما السلام: في سنة مائتين وستين تفترق شيعتي. ففيها قبض أبو محمد (عليه السلام) وتفرقت شيعته وأنصاره فمنهم من انتمى إلى جعفر ومنهم من تاه وشك، ومنهم من وقف على تحيره، ومنهم من ثبت على دينه بتوفيق الله عز وجل.

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى وغيرهما قالوا: كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوما ذكر العلوية ومذاهبهم وكان شديد النصب فقال: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس، فإني كنت يوما قائما على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.

فقال بصوت عال: إئذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلا على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي

ص:312

إليه خطا ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلا عليه بوجهه وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل [عليه] الحاجب فقال: الموفق وقد جاء - وكان الموفق إذا دخل على أبي تقدم حجابه وخاصة قواده فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج - فلم يزل أبي مقبلا على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذ إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذو به خلف السماطين حتى لا يراه هذا - يعني الموفق -، فقام وقام أبي وعانقه ومضى. فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل، فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي يعرف بابن الرضا فازددت تعجبا ولم أزل يومي ذلك قلقا متفكرا في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه حتى كان الليل وكانت عادته أن يصلى العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه لو رأيت أباه رأيت رجلا جزلا نبيلا فاضلا، فازددت قلقا وتفكرا وغيظا على أبي وما سمعت منه واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال.

فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره فما سألت أحدا من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه فعظم قدره عندي إذ لم أرله وليا ولا عدوا إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه، فقال له بعض من حضر مجلسه من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر فتسأل عن خبره؟ أو يقرن بالحسن جعفر معلن الفسق فاجر ما جن شريب للخمور أقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه، خفيف، قليل في نفسه، ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفات الحسن بن علي ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل فركب من ساعته فبادر إلى

ص:313

دار الخلافة ثم رجع مستعجلا ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحا ومساء، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة اخبر أنه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم، فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلا ونهارا فلم يزالوا هناك حتى توفي (عليه السلام) فصارت سر من رأى ضجة واحدة وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيها بالقيامة فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى ابن المتوكل فأمره بالصلاة عليه: فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان من المتطبيبين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا عن قسمة ميراثه ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين امه وأخيه جعفر وادعت امه وصيته وثبت ذلك عند القاضي، والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده.

فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال: اجعل لي مرتبة أخي واوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه وقال له: يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم، فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماما فلا حاجة بك إلى السلطان [أن] يرتبك مراتبهما ولاغير السلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، واستقله عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي، وخرجنا وهو على تلك الحال والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قالوا كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان) قال بعض أصحاب الرجال أحمد بن

ص:314

عبيد الله بن يحيى بن خاقان له مجلس يصف فيه أبا محمد الحسن بن علي العسكري، وقال بعضهم: إن له كتابا (1) يصف فيه سيدنا أبا محمد (عليه السلام)، وقال المفيد في إرشاده: إنه كان على الخراج بقم فكان شديد النصف والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام.

قوله (في هديه) الهدى بفتح الهاء وسكون الدال الطريقة والسيرة السوية وبضم الهاء الرشاد وهو خلاف الضلالة، والسكون الوقار في الحركة والسير والتأني في الضراء والسراء والخضوع في الباطن والظاهر، والعفاف حصول حالة للنفس يمتنع بها عن غلبة الشهوة، والنبل العظمة والجلالة والنجابة والفضل والكرم والجود والسخاء والخير كله، والكريم الجامع لأنواع الخير (2)، والخطر الشرف والمنزلة والمزية.

قوله (ويفديه بنفسه) فداه بنفسه وفداه إذا قال له جعلت فداك، والمراد بالفداء التعظيم والإكبار لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه له.

قوله (فقال: الموفق قد جاء) هو موفق بن المتوكل أخو المعتمد بن المتوكل وكان أمير عساكره (3) وانتقلت الخلافة بعد المعتمد إلى ابن الموفق أحمد الملقب بالمعتضد.

ص:315


1- 1 - قوله «له مجلس يصف فيه أبا محمد وقال بعضهم: إن له كتابا» احتمال كون هذا الكتاب والمجلس بقلم أحمد بن عبيد الله بعيد جدا وإن كان ظاهر عبارة النجاشي ذلك ولا يخفى أن الظاهر ليس بحجة في هذه الأمور وإنما يقطع به العذر في تكاليف المولى بالنسبة إلى عبيده إذا تعلق بالعمل وإذا كان مراد المولى غير ما يفهم من ظاهر عبارته ولم يقم قرينه فعهدة المخالفة عليه لا على العبد إذا خالف في العمل وما لا يتعلق بالعمل فلا يجري فيه هذا الكلام إذ لا يترتب على خطأ المخاطب في فهم المراد محذور إذا لم يجب عليه عمل على طبقة، وسواء كان هذا الحديث بقلم أحمد أو أحد الرواة السامعين فهو حجة في هذا المورد لكونه ناصبيا مدح الإمام عليه السلام ولأن القرائن تشهد بصحته إذ يصف رجلا معروفا بحضرة من يطلع على كذبه إن كذب فإن المستمعين معاصرون للإمام أو قريبوا العهد منه بل الكليني الراوي عنهم لا يبعد زمانه عن زمانه عليه السلام فإن تاريخ هذا المجلس على ما في إكمال الدين سنة ثمان وسبعين ومائتين ولعل الكليني - رحمه الله - كان قد ولد قبل هذه السنة بل كان شابا حينئذ، وبالجملة فما يتضمن الخبر من هيبة الإمام وحشمته وإقبال القواد والكتاب والأمراء عليه حق لا ريب فيه، وكذا ما يدل عليه من اعترافهم بالعجز عن معارضة الشيعة بالسيف وأنه لا يؤثر دخالة الأمراء فيهم نقصا ومنعا أصلا.
2- 2 - قوله «والكريم الجامع لأنواع الخير» وعبارة الخبر تدل على انتشار هذا المذهب وكثرة أهله في ذلك العصر حتى إن الوزراء وبيدهم سياسة الأمة وبني هاشم وهم الأسرة الحاكمة والقواد وهم رؤساء الجنود كانوا خاضعين لديه وكان الإمام كريما عليهم ولو لم يكن رسخت أركان التشيع وثبتت أصوله في قلوب الناس لم يكن للإمام عليه السلام في نظرهم هذه الهيبة الظاهرة وما حصلت الغيبة إلا بعد أن علم الله ثبات الدين وشيوعه ورسوخه كما قال الله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وآله (إذا جاء نصر الله والفتح) آه، فقال: نعيت إلي نفسي. (ش).
3- 3 - قوله «كان أمير عساكره» بل كان الأمر بيده ولم يكن للمعتمد أخيه وهو الخليفة أمر أصلا وكان المعتمد مشغولا باللهو واللذات وقيل: احتاج يوما إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها لتضييق الموفق عليه ومات للإفراط في الشرب. (ش).

قوله (خلف السماطين) السماط الصف من الناس.

قوله (فازددت تعجبا لعل ازدياد التعجب بسبب أنه لم يسمع في الجواب من فضله ما يوجب استحقاقه لهذا التكريم والتعظيم مع أنه لم يقع مثل هذا لأحد من العلويين أبدا.

قوله (جزلا) أي أصيلا تاما عاقلا أو قويا في الكلام متينا شديدا فصيحا.

قوله (فازددت قلقا - إلى قوله - ما قال ما سمعت) عطف على أبي والعائد إلى الموصول محذوف، وضمير منه راجع إلى الأب أي ما سمعته من أبي واستزدته عطف على سمعت والضمير للموصول، وضمير فعله وقوله راجع إلى الأب وضمير فيه راجع إلى أبي محمد (عليه السلام) وما قال مقول القول، ولعل سبب التفكر في حاله (عليه السلام) والقلق وهو اضطراب القلب وانزعاجه والغيظ على أبيه هو أنه سمع شيئا من أوصافه (عليه السلام) ولم يتحقق عنده بعد وظن أن قول أبيه فيه من باب التظني، ولذلك قال بعد السؤال عن خبره من سائر الناس وبعد تحقق ذلك عنده: فعظم قدره عندي.

قوله (فما خبر أخيه جعفر) وكيف كان منه في المحل كذا في إرشاد المفيد وهو الضال المضل المشهور بالكذاب، روى الصدوق بإسناده عن فاطمة بنت محمد بن الهيثم قالت: كنت في دار أبي الحسن على ابن محمد العسكري عليهما السلام في الوقت الذي ولد منه جعفر فرأيت أهل الدار قد سروا به فصرت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فلم أره مسرورا بذلك فقلت: يا سيدي مالي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال (عليه السلام): يهون عليك أمره فإنه سيضل خلقا كثيرا.

قوله (ما جن شريب للمخمور) الماجن من لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه من مجن مجونا إذا صلب وغلظ والشريب بكسر الشين وشد الراء المولع بالشراب.

قوله (ما تعجبت منه) فاعل ورد وهو إما ما فعله السلطان وأمره به من التجسس والتفتيش وغيرهما أو ما فعله جعفر من طلب مقام أخيه بالرشوة والأخير أظهر وكل واحد منهما محل التعجب، وظن العاقل أنه لا ينبغي أن يكون شيء منهما.

قوله (قال: وطلبوا أثر ولده) قال الصدوق حدثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: سمعت أبا الحسن بن وجنا يقول: حدثنا أبي عن جده أنه كان في دار الحسن بن علي (عليه السلام) قال: فكبستنا الخيل وفيهم جعفر بن علي الكذاب واشتغلوا بالنهب والغارة وكانت همتي في مولاي القائم (عليه السلام) ابن ست سنين

ص:316

فلم يره أحد حتى غاب.

قوله (فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل) وهي صيقل الجارية كما يفهم من كمال الدين فوجه المعتمد خدمه فحملت إلى دار المعتمد فجعلن نساء المعتمد وخدمه ونساء الموفق وخدمه والقاضي ابن أبي شوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعونها إلى أن ظهر بطلان الحمل.

قوله (مات حتف انفه) الحتف الهلاك والموت أي مات على فراشه من غير قتل ولا ضرب ولا سم ولا غرق ولا حرق. وخص الأنف لأن الروح يخرج منه بتتابع النفس، أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض يخرج روحه من أنفه والجريح من جراحته.

قوله (فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه) روى الصدوق بإسناده عن الحسين بن علي عليهما السلام قال: «قائم هذه الأمة هو التاسع من ولدي وهو صاحب الغيبة، وهو الذي يقسم ميراثه وهو حي» وبإسناده عن محمد بن صالح بن علي بن محمد بن قنبر الكبير مولى الرضا (عليه السلام) قال خرج صاحب الزمان (عليه السلام) على جعفر الكذاب من موضع لم يعلم به عندما نازع في الميراث عند مضى أبي محمد (عليه السلام) فقال له: «يا جعفر مالك تعرض في حقوقي» فتحير جعفر وبهت ثم غاب فطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره فلما ماتت الجدة أم الحسن (عليه السلام) أمرت أن تدفن في الدار فنازعهم جعفر وقال: هي داري لا تدفن فيها فخرج (عليه السلام) فقال له: «يا جعفر دارك هي» ثم غاب فلم ير بعد ذلك.

قوله (والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده) أي السلطان بعد ذلك التفتيش والتجسس وعدم ظهور الولد وبطلان الحمل يطلب أثر ولده خوفا من أن يكون له ولد مخفى يقوم مقام أبيه وقتا ما أو بالفعل.

قوله (فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال اجعل لي مرتبة أخي) واعلم أن كلام الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة صريح في أن جعفرا عرض ذلك على الخليفة حيث قال وقد كان جعفر حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لما توفي الحسن بن علي (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي ومنزلته فقال الخليفة: اعلم أن منزلة أخيك لم يكن بنا إنما كانت بالله عز وجل، ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه، وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة (1) بما كان

ص:317


1- 1 - قوله «ألا أن يزيده كل يوم» يدل على ما ذكرنا من أن الخلفاء تركوا ما كان عليه هارون ومن قبله من التضيق على الشيعة الإمامية لما علموا أن مذهبهم ليس مما يعارض بالسيف فبنوا على المساهلة معهم وعرفوا أيضا أن أئمتنا عليهم السلام لا يريدون التوثب على السلطان ولا الاستعجال على الملك وكان بناؤهم على ترويج الدين وتحكيم أساسه ولذلك كانوا يأمرون شيعتهم بالصبر وانتظار الفرج ويمنعونهم من الاستعجال في طلب أمر له أجل معلوم، ثم إن الزيدية لم يكونوا في الأصول الفروع مخالفين للعامة كثيرا والإمامية يخالفونهم فيهما ومع ذلك لم يكن الخلفاء يخافون الإمامية مع كثرتهم ويخافون الزيدية مع قلتهم ويحاربونهم في كل صقع. وبالجملة فخبر ابن خاقان فيه فوائد كثيرة يعلم منه وضع الشيعة وحالهم في ذلك العصر. (ش).

فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا وإن لم يكن فيك ما في أخيك (1) لم تغن عنك في ذلك شيئا. ولا يبعد ذلك أن يكون جعفر لحماقته عرض ذلك مرتين مرة على ابن الخاقان ومرة على الخليفة والله أعلم.

قوله (واستقله) أي رآه قليلا لا وزن له، والمعنى رآه في غاية القلة في العقل والنقص في الرأي.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر قال: كتب أبو محمد (عليه السلام) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوما: الزم بيتك حتى يحدث الحادث، فلما قتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب: ليس هذا الحادث [هو] الحادث الآخر. فكان من أمر المعتز ما كان.

وعنه قال: كتب (عليه السلام) إلى رجل آخر: يقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر قتل.

ص:318


1- 1 - قوله «وإن لم يكن فيك ما في أخيك» هذا الكلام يدل على صحة الخبر وهو جار في علماء الشيعة إلى زماننا بخلاف علماء أهل السنة فإن القضاة والمفتين في دولة الخلفاء كانوا منصوبين من قبلهم واعتاد الناس متابعة المنصوبين وترك المعزولين وكلما تقرب علماؤهم إلى السلاطين كان أنبه لشأنهم وأنفذ لكلمتهم وأما علماء الشيعة فكلما كانوا أبعد من الولاة وأقل معاشرة لهم كان أرفع لقدرهم وأوجب لإقبال الناس عليهم ولم يؤثر فيهم العزل والنصب واعتاد الشيعة أن ينقادوا لعالم عرفوا منه الفقاهة والورع وإن لم ينصبه أحد عليهم والعامة أن ينقادوا لمن نصبه الخلفاء وإن لم يعرفوا منه علما وورعا فصار دينهم ملعبة للولاة ومخالفتهم قليل التأثير في صرف الولاة عن مقاصدهم وتنفرهم غير ناجح في كسر سورتهم كما هو عند الشيعة فإن للدين وأهله وعلمائه أصالة واستقلالا يوجب صيانته عن تأثير الولاة ويطمئن بأن ما عليه أهل الدين في هذا الزمان هو الذي كان عليه قدماؤهم في عصر الأئمة اللهم إلا أن يكون بعضهم أخطأ في فهم حكم بسبب من الأسباب العلمية لا لتأثير الولاة من الخارج، وإنا نعلم أن أكثر أهل السنة والجماعة في زماننا متأثرون بالتشيع بحيث لو كانوا يبدون عقائدهم الحالية في عهد معاوية ومروان وهشام بن عبد الملك والحجاج والمتوكل وأمثالهم لعدوا من الشيعة وعوقبوا كما لو كان بناء أهل دمشق على أن يقولوا: علي كرم الله وجهه أو يزوروا مسجد رأس الحسين (عليه السلام) أو كان بناء أهل سامرا على أن يزوروا العسكريين (عليه السلام) كل ليلة جمعة وأن يكتبوا أسامي الأئمة الاثني عشر على كتيبة المساجد أو يكرموا أولاد علي وفاطمة عليهما السلام ويسموهم الشرفاء وأمثال ذلك كان جرما قطعا. (ش).

* الشرح:

قوله (قبل موت المعتز) اسمه محمد بن المتوكل وسبب قتله أنه لما قتل بعض امرائه وأخاه المؤيد خالفه سائر الأمراء وأخذوا برجله وسحبوه من دار الخلافة إلى الشمس وأقاموه فيها وأمروه بخلع نفسه عن الخلافة فخلع فحبسوه في السجن ومنعوه من الماء حتى مات. وكان ذلك في سنة خمس وخمسين ومائتين عاش أربعا وعشرين سنة وملك الخلافة ثلاث سنين وستة أشهر، وملكها بعده ابن أخيه المهتدي محمد بن الواثق بن المتوكل.

قوله (وكتب (عليه السلام) إلى رجل آخر يقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله بعشرة أيام) يقتل على صيغة المجهول وعبد الله بدل من ابن محمد. وقيل قتله بعشرة أيام متعلق بكتب. يعني كتب قبل قتل عبد الله بن محمد بن داود بعشرة أيام أنه يقتل فلما كان في اليوم العاشر قتل.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، [عن محمد] بن إبراهيم المعروف بابن الكردي، عن محمد بن علي بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير إلى هذا الرجل - يعني أبا محمد - فإنه قد وصف عنه سماحة، فقلت: تعرفه؟ فقال: ما أعرفه ولا رأيته قط قال:

فقصدناه فقال لي [أبي] وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتا درهم للكسوة ومائتا درهم للدين ومائة للنفقة، فقلت في نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم مائة أشتري بها حمارا، ومائة للنفقة، ومائة للكسوة وأخرج إلى الجبل، قال: فلما وافينا الباب خرج إلينا غلامه فقال: يدخل علي ابن إبراهيم ومحمد ابنه، فلما دخلنا عليه وسلمنا قال لأبي: يا علي ما خلفك عنا إلى هذا الوقت؟ فقال: يا سيدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة فقال: هذه خمسمائة درهم مائتان للكسوة، ومائتان للدين، ومائة للنفقة، وأعطاني صره فقال: هذه ثلاثمائة درهم اجعل مائة في ثمن حمار ومائة للكسوة ومائة للنفقة ولا تخرج إلى الجبل وصر إلى سوارء فصار إلى سوراء وتزوج بامرأة، فدخله اليوم ألف دينار ومع هذا يقول بالوقف، فقال محمد بن إبراهيم، فقلت له: ويحك أتريد أمرا أبين من هذا؟ قال: فقال: هذا أمر قد جرينا عليه.

* الشرح:

قوله (ومائة للنفقة) أي لسائر الاخراجات.

ص:319

قوله (وأخرج إلى الجبل) بلاد جبل مدن بين آذربايجان وعراق العرب وخوزستان وفارس وبلاد الديلم.

قوله (يا علي ما خلفك عنا) يعني أي شيء منعك أن تأتينا إلى الآن.

قوله (فصار إلى سوراء) كلام محمد بن إبراهيم وسوراء قيل: هي قرية من قرى بغداد يلي شط الفرات وقيل: هي حلة.

قوله (فدخله اليوم ألف دينار) في بعض النسخ وألفا دينار، بالتثنية، وقيل في إرشاد المفيد:

أربعة آلاف دينار.

قوله (هذا أمر قد جرينا عليه) أي هذا دين آبائنا وإنا على آثارهم لمقتدون.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن أبي علي محمد بن علي بن إبراهيم قال: حدثني أحمد بن الحارث القزويني قال: كنت مع أبي بسر من رأى وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد (عليه السلام) قال:

وكان عند المستعين بغل لم ير مثله حسنا وكبرا وكان يمنع ظهره واللجام والسرج، وقد كان جمع عليه الراضة، فلم يمكن لهم حيلة في ركوبه، قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتى يجييء فإما أن يركبه وإما أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمد ومضى معه أبي فقال أبي: لما دخل أبو محمد الدار كنت معه فنظر أبو محمد إلى البغل واقفا في صحن الدار فعدل إليه فوضع بيده على كفله، قال: فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه، ثم صار إلى المستعين فسلم عليه فرحب به وقرب، فقال: يا أبا محمد ألجم هذا البغل فقال أبو محمد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع طيلسانه ثم قام فألجمه ثم رجع إلى مجلسه وقعد، فقال له: يا أبا محمد أسرجه.

فقال لأبي: يا غلام أسرجه فقال: أسرجه أنت فقام ثانية فأسرجه ورجع فقال له: ترى أن تركبه؟ فقال: نعم، فركبه من غير أن يمتنع عليه ثم ركضه في الدار، ثم حمله على الهملجة فمشى أحسن مشي يكون، ثم رجع ونزل فقال له المستعين: يا أبا محمد كيف رأيته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسنا وفراهة وما يصلح أن يكون مثله إلا لأمير المؤمنين قال: فقال: يا أبا محمد فإن أمير المؤمنين قد حملك عليه.

فقال أبو محمد لأبي: يا غلام خذه فأخذه أبي فقاده.

* الشرح:

قوله (وكان عند المستعين بغل) المستعين بالله اسمه أحمد بن المعتصم بن هارون خرج عليه

ص:320

ابن أخيه المعتز بن المتوكل بن المعتصم، وقتله سنة اثنتين وخمسين ومائة عاش خمسا وثلاثين سنة وزمان حكومته تسع سنين وتسعة أشهر.

قوله (وقد كان جمع عليه الراضة) في بعض النسخ الرواض، راض المهر رياضا ورياضة ذلله فهو رايض والجمع رواض وراضة وأصلها روضة مثل طلبة قلبت الواو ألفا.

قوله (ثم حمله على الهملجة) الهملجة مشي الهملاج، من البرادين، وهو مشي سهل كالرهوجة فارسي معرب.

قوله (وفراهة) دابة فارهة أي نشيطة حادة حاذقة قوية. وقد فرهت فراهة وفراهية.

* الأصل:

5 - علي، عن أبي أحمد بن راشد، عن أبي هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) فحك بسوطه الأرض، قال: وأحسبه غطاه بمنديل وأخرج خمسمائة دينار، فقال: يا أبا هاشم خذ واعذرنا.

* الشرح:

قوله (واعذرنا) على صيغة الماضي عطفا على قال من الأعذار يقال: أعذر الرجل إذا بالغ في العذر وبلغ أقصى الغاية منه، ويحتمل أن يكون أمرا من العذر أي أجعلني موضع العذر، يقال عذره إذا جعله موضع العذر.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن أبي عبد الله بن صالح، عن أبيه، عن أبي علي المطهر أنه كتب إليه سنة القادسية يعلمه انصراف الناس وأنه يخاف العطش، فكتب (عليه السلام): امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله فمضوا سالمين، والحمد لله رب العالمين.

* الشرح:

قوله (سنة القادسية) القادسية بكسر الدال موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا والمراد بسنتها السنة التي رجع فيها الحاج لما سمعوا من قلة الماء والكلأ في الطريق.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن علي بن الحسن بن الفضل اليماني قال: نزل بالجعفري من آل جعفر خلق لاقبل له بهم فكتب إلى أبي محمد يشكو ذلك، فكتب إليه: تكفون ذلك إن شاء الله تعالى، فخرج إليهم في نفر يسير والقوم يزيدون على عشرين ألفا وهو في أقل من ألف فاستباحهم.

ص:321

* الشرح:

قوله (قال نزل بالجعفري من آل جعفر (1) خلق لا قبل له بهم) يقال: مالي به قبل أي طاقة ومقاومة والظاهر أن من آل جعفر بيان للجعفري لا لخلق وضمير بهم راجع إلى خلق باعتبار الكثرة بحسب المعنى.

قوله (فاستباحهم) أي استأصلهم ونهبهم كأنه جعل ذلك له مباحا لاتبعة عليه فيه.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل العلوي قال: حبس أبو محمد عند علي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدهم على آل أبي طالب وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوما حتى وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالا وإعظاما، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم فيه قولا.

* الشرح:

قوله (حتى وضع خديه له) وضع الخد كناية عن الخضوع والطاعة والانقياد، وفي بعض النسخ بدل خديه حدته: بالحاء المهملة والتاء المثناة الفوقانية

* الأصل:

9 - علي بن محمد ومحمد بن أبي عبد الله، عن إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني سفيان

ص:322


1- 1 - قوله «بالجعفري من آل جعفر» قال المجلسي - رحمه الله -: والمراد بجعفر: الطيار وقيل لعل المراد بجعفر المتوكل لأنه أراد المستعين قتل من يحتمل أن يدعى الخلافة وقتل جمعا من الأمراء وبعث جيشا لقتل الجعفري وهو رجل من أولاد جعفر المتوكل إلى آخره. ثم قال المجلسي - رحمه الله - لا أدري أنه رحمه الله قال هذا تخمينا أو رآه في كتاب لم أظفر عليه انتهى. أقول صريح كلامه أنه لم يره في كتاب بل ذركه احتمالا فإنه أتى بلفظة لعل، وغرضه رحمه الله أن يبين وجها يمكن حمل الرواية عليه إذ لم يتفق في زمانه إمامة أبي محمد (عليه السلام) خروج رجل من آل جعفر الطيار بحيث يحتاج في دفعه إلى عشرين ألف لكن الفتنة وقعت في قواد بني العباس وقتل منهم المستعين جماعة فقال هذا القائل لعل الجعفري كان منهم، وهو أيضا لا يفيد شيئا لأن المستعين كان في زمان أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وخلع قبل وفاته (عليه السلام) بسنتين ولم يقع في زمان المستعين ولا المعتز ولا المهتدي ولا المعتمد واقعة يمكن أن يحمل الرواية عليها لا حرب مع أولاد جعفر الطيار ولا مع أولاد المتوكل والحق إنا لا نحتاج إلى تصحيح الخبر بوجه وكان إمامة أبي محمد (عليه السلام) في زمان المعتز والمهتدي والمعتمد وإنما غر هذا القائل الحديث الرابع حيث ذكر فيه المستعين مع الحسن بن الرضا عليهما السلام وليس فيه حجة أيضا لأنه ضعيف إسنادا ومخالف للمعلوم لأن الخبر صريح في أن المستعين كان إذ ذاك خليفة يخاطب بأمير المؤمنين والحسن (عليه السلام) إماما لقوله: وأما ان تقتله فتستريح منه، ولا يقال له ذلك وأبوه الإمام الهادي حي وهو غير موافق للواقع لأن المستعين لم يكن خليفة في عهد إمامة أبي محمد (عليه السلام). (ش).

ابن محمد الضبعي قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله عن الوليجة وهو قول الله تعالى: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) قلت في نفسي لا في الكتاب: من ترى المؤمنين ههنا؟ فرجع الجواب: الوليجة الذي يقام دون ولي الأمر وحدثتك نفسك عن المؤمنين من هم في هذا الموضع؟ فهم الأئمة الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم.

* الشرح:

قوله (قلت في نفسي لا في الكتاب من ترى المؤمنين ههنا؟) من ترى مقول قلت والخطاب لأبي محمد (عليه السلام) يعني قلت في نفسي: من ترى المؤمنين في الآية؟ وسألته في نفسي عن تفسير المؤمنين ولم اكتب ذلك وإضماره ذلك لأجل الاختبار وتحقيق ما سمع من أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور.

قوله (الوليجة الذي قام دون ولي الأمر) يعني الوليجة كل من يقام مقام النبي (صلى الله عليه وآله) وهو ليس صاحب أمر الخلافة من قبله.

قوله (فهم الأئمة الدين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم) فيه إشارة إلى أن (يؤمنون) من الأمان.

والأمن ضد الخوف أي هم الذين يؤمنون من تبعهم أمانا لازما على الله فيجيز الله سبحانه أمانهم، ولا يرد وهم أوصياء النبي (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

10 - إسحاق قال: حدثني أبو هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد ضيق الحبس وكتل القيد (1) فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك فاخرجت في وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال (عليه السلام)، وكنت مضيقا فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجه إلي بمائة دينار وكتب إلي: إذا كانت لك حاجة فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها فإنك ترى ما تحب إن شاء الله.

* الشرح:

قوله (إسحاق قال حدثني أبو هاشم الجعفري) إسحاق مشترك بين ثلاثة: (2) الأول إسحاق ابن

ص:323


1- 1 - في أكثر النسخ «كلب الصيد».
2- 2 - قوله «إسحاق مشترك بين ثلاثة» والمراد هنا كما قال المجلسي - رحمه الله - هو إسحاق بن محمد النخعي المذكور في الخبر التاسع من هذا الباب وكذلك كل إسناد بعده مبدوء بإسحاق نقله الكليني عنه بواسطة علي بن محمد ومحمد بن أبي عبد الله. وقال النجاشي بعد ذكر نسبه وهو معدن التخليط له كتب في التخليط وله كتاب أخبار السيد وكتاب مجالس هاشم وضعف هذه الروايات لا يضر بأصل المقصود لأن الاعتماد على نقل الكليني وقبول الناس وأنه يدل على اعتقاد الشيعة فيهم أمثال هذه الأمور في عصرهم وهو متواتر عنهم ولا يقدح في المتواتر ضعف الراوي وقد علم الموافق والمخالف أن الأئمة عند الشيعة أصحاب كرامات ومعجزات حتى نسبوا إليهم ادعاء علم الغيب فيهم مطلقا واحتاج علماؤنا إلى نفي ذلك عن أنفسهم أو أن الغيب لا يعلمه إلا الله وإنما يخبر الأئمة عليهم السلام عما ألهموا به من جانب الله تعالى كما قد يتفق لغير الأنبياء والأوصياء أيضا في الرؤيا أو يقظة، وقد ذكر ابن قبة على ما حكاه الصدوق في إكمال الدين أن علم الغيب خاص بالله تعالى ولا يدعيه أحد في غيره إلا كافر مشرك وأراد بذلك رد من نسب إلى الشيعة إثبات علم الغيب مطلقا في الأئمة مع أن ابن قبة ذكر في معجزات أمير المؤمنين (عليه السلام) إخباره بالغيب معجزة، وبالجملة لو لم يكن أمثال ما في هذه الروايات من الأخبار بالغيب معجزة صادرة عن الأئمة عليهم السلام ولم يكن الشيعة معتقدة به لم يكن علة لنسبة علم الغيب إليهم ولم يتصد ابن قبة وغيره لدفعه، والإخبار بالغيب معجزة غير دعوى العلم بالغيب مطلقا في جميع الأمور. (ش).

إسماعيل النيشابوري الثقة من أصحاب أبي محمد العسكري (عليه السلام) وهو من ثقات كانت ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل، والثاني إسحاق بن نوبخت من أصحاب الهادي (عليه السلام) والثالث إسحاق بن إسماعيل بن محمد البصري من أصحاب الجواد والهادي عليهم السلام، وقيل: إنه كان غالبا، والظاهر على أي احتمال أن المصنف - ره - نقل عن كتابه، وأبو هاشم الجعفري هو داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) من أهل بغداد جليل القدر، عظيم المنزلة عند الأئمة عليهم السلام قد شاهد الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر عليهم السلام، وروى عنهم كلهم وكان مقدما عند السلطان، وفي ربيع الشيعة أنه من السفراء والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الشيعة القائلون بإمامة الحسن بن علي فيهم.

قوله (وكلب الصيد) الكلب بالتحريك الشدة والتعب.

قوله (وكنت مضيقا) أي فقيرا سئ الحال لذهاب المال بالنهب والغارة.

* الأصل:

11 - إسحاق عن أحمد بن محمد الأقرع قال: حدثني أبو حمزة نصير الخادم قال: سمعت أبا محمد غير مرة يكلم غلمانه بلغاتهم، ترك وروم وصقالبة، فتعجبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن (عليه السلام) ولا رآه أحد فكيف هذا؟ احدث نفسي بذلك، فأقبل علي فقال: إن الله تبارك وتعالى بين حجته من سائر خلقه بكل شيء ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث ولو لا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق.

* الشرح:

قوله (وصقالبة) الصقالبة جبل تتاخم بلادهم بلاد الخزر بين بلغر وقسطنطينية.

ص:324

قوله (بكل شيء) أي بالعلوم والأعمال والأقوال والأخلاق والحجة في كل واحد من هذه الأمور أتم وأكمل من غيره ولو لا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق فيكون هذا حجة وذاك محجوجا ليس بأولى من العكس، ومما يؤيد أن الإمام وجب أن يكون عالما بجميع اللغات أنه لو حضر عنده خصمان على غير لسانه ولم يوجد هناك مترجم لزم تعطيل الأحكام وهو مع استلزامه تبدد النظام يوجب فوات الغرض من نصب الإمام، ولذلك أيضا يجب أن يكون الإمام عالما بجميع الأحكام.

* الأصل:

12 - إسحاق، عن الأقرع قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله عن الإمام هل يحتلم؟ وقلت في نفسي بعد ما فصل الكتاب: الاحتلام شيطنة وقد أعاذ الله تبارك وتعالى أولياءه من ذلك، فورد الجواب: حال الأئمة في المنام حالهم في اليقظة لا يغير النوم منهم شيئا وقد أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان كما حدثتك نفسك.

* الشرح:

قوله (إسحاق عن الأقرع) الأقرع من أصحاب الجواد (عليه السلام) وإسحاق هو الذي روى عن ابنه سابقا فالرواية هنا أما بحذف الواسطة أو بدونه ويؤيد الأول أن في كشف الغمة في آخر حديث أحمد بن محمد بن الأقرع قال كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) إلى آخره.

قوله (هل يحتلم) الاحتلام أن يرى الرجل في المنام صورة المواقعة بتخييل الشيطان لقصد إيذائه ورجسه.

قوله (بعد ما فصل الكتاب) أي بعد ما خرج من يدي وسرح إليه (عليه السلام).

قوله (من لمة الشيطان) اللمة المس والهمة والخطرة تقع في نفس الرجل من قرب الملك أو الشيطان منه فما كان من خطرات الخير فهو من الملك وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان ووسوسته.

* الأصل:

13 - إسحاق قال: حدثني الحسين بن ظريف قال: اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب فيهما إلى أبي محمد (عليه السلام) فكتبت أسأله عن القائم (عليه السلام) إذا قام بما يقضي وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحمى الربع فأغفلت خبر الحمى فجاء الجواب: سألت عن القائم فإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود (عليه السلام) لا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل

ص:325

لحمى الربع فانسيت، فاكتب في ورقة وعلقه على المحموم فإنه يبرأ بإذن الله إن شاء الله (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) فعلقنا عليه ما ذكر أبو محمد (عليه السلام) فأفاق.

* الشرح:

قوله (بما يقضي وأين مجلسه؟) سأله عن كيفية القضاء هل هو بظاهر الشريعة أم بباطنها وعن مجلس القضاء هل هو بلد معين مثل مكة أو المدينة أو غيرهما فأجاب (عليه السلام) عن الأول بأنه يقضي بعلمه المطابق للواقع لا بالبينة والشهود فإن أقصى ما يفيده البينة هو الظن، وهو (عليه السلام) لا يحكم بالظن ولم يجب عن الثاني إذ لا مهم للسائل عن معرفته، وللتنبيه على أن محل الحكم غير متعين لأنه (عليه السلام) يدرو في البلاد كما دل عليه ظاهر بعض الروايات، وحمل قوله: أين مجلسه؟ على كيفية جلوسه للقضاء ليرجع إلى الأول بعيد جدا. وحمى الربع هي أن تأخذ يوما وتترك يومين فتكون الدورة الثانية في اليوم الرابع.

* الأصل:

14 - إسحاق قال: حدثني إسماعيل بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عبد المطلب قال: قعدت لأبي محمد (عليه السلام) على ظهر الطريق فلما مر بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أنه ليس عندي درهم فما فوقها ولا غداء ولا عشاء قال: فقال: تحلف بالله كاذبا وقد دفنت مائتي دينار، وليس قولي هذا دفعا لك عن العطية، أعطه يا غلام ما معك، فأعطاني غلامه مائة دينار، ثم أقبل علي فقال لي: إنك تحرمها أحوج ما تكون إليها، يعني الدنانير التي دفنت وصدق (عليه السلام) وكان كما قال دفنت مائتي دينار وقلت: يكون ظهرا وكهفا لنا فاضطررت ضرورة شديدة إلى شيء أنفقه وانغلقت علي أبواب الرزق فنبشت عنها فإذا ابن لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب فما قدرت منها على شيء.

* الشرح:

قوله (فقال لي: إنك تحرمها أحوج ما تكون إليها) تحرم على صيغة المجهول من حرمه الشيء يحرمه حرمانا أو من أحرمه إذا منعه إياه، وأحوج حال عن الفاعل، وإليها متعلق به، وما مصدرية، وتكون تامة أو ناقصة، وإليها خبره يعني إنك تصير محروما ممنوعا من الدنانير التي دفنتها حال شدة احتياجك إليها في وقت من أوقات وجودك أو في وقت تكون محتاجا إليها.

* الأصل:

15 - إسحاق قال: حدثني علي بن زيد بن علي بن الحسين بن علي قال: كان لي فرس وكنت به

ص:326

معجبا اكثر ذكره في المحال فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) يوما فقال لي: ما فعل فرسك؟ فقلت:

هو عندي وهو ذا هو على بابك وعنه نزلت فقال لي: استبدل به قبل المساء إن قدرت على مشتري ولا تؤخر ذلك، ودخل علينا داخل وانقطع الكلام فقمت متفكرا ومضيت إلى منزلي فأخبرت أخي الخبر، فقال: ما أدري ما أقول في هذا. وشححت به ونفست على الناس ببيعه وأمسينا فأتانا السائس وقد صلينا العتمة فقال: يا مولاي نفق فرسك فاغتممت وعلمت أنه عنى هذا بذلك القول، قال: ثم دخلت على أبي محمد بعد أيام وأنا أقول في نفسي: ليته أخلف علي دابة إذ كنت اغتممت بقوله، فلما جلست قال: نعم نخلف دابة عليك، يا غلام أعطه برذوني الكميت هذا خير من فرسك وأوطأ وأطول عمرا.

* الشرح:

قوله (حدثني علي بن زيد بن علي بن الحسين) هكذا في أكثر النسخ والأصوب علي بن زيد بن علي بلفظة ابن بدل عن كما في إرشاد المفيد وفي بعض النسخ الكتاب. وهو من أصحاب العسكري (عليه السلام).

قوله (استبدل به قبل المساء إن قدرت على المشتري) في هذا الحديث علامتان من علامات الإمامة، ولعل الأمر بالاستبدال لمجرد إظهار الكرامة مع علمه بأنه لا يستبدل، أو لعلمه بأنه لا ينفق عند المشتري أو لعلمه بأن المشتري على تقدير تحقق الاشتراء ممن لا حرمة لماله.

قوله (إذ كنت اغتممت بقوله) أراد بهذا التعليل أن يصدر منه ما يوجب سروره كما صدر منه ما يوجب اغتمامه قبل تحقق القضية، فلا يرد أن اغتمامه كان واقعا لا محالة وإن لم يقل ذلك.

قوله (اعطه برذوني الكميت) البرذون التركي من الخيل، والجمع البراذين وخلافها العراب، والانثى برذونة، والكميت من الخيل بين السواد والحمرة عن سيبويه، وعن أبي عبيدة الفرق بين الأشقر والكميت بالعرف والذنب فإن كانا أحمرين فهو أشقر وإن كانا أسودين فهو كميت.

* الأصل:

16 - إسحاق قال: حدثني محمد بن الحسن بن شمون قال: حدثني أحمد بن محمد قال:

كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) حين أخذ المهتدي في قتل الموالي يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهددك ويقول: والله لاجلينهم عن جديد الأرض فوقع أبو محمد (عليه السلام) بخطه: ذاك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به. فكان كما قال (عليه السلام).

ص:327

* الشرح:

قوله (حين أخذ المهتدي) هو محمد بن الواثق بن المعتصم ملك الخلافة بعد المعتز بن المتوكل بن المعتصم وقد وقع بين المهتدي ومواليه يعني عساكره الأتراك محاربة عظيمة لرجوعهم عنه حتى غلب وخلع الخلافة عن نفسه في رجب سنة ست وخمسين ومائتين فقتلوه يوم الخلع ذلا وصغارا وكان عمره تسعا وثلاثين سنة، وزمان خلافته أحد عشر شهرا وسبعة عشر يوما ثم ملك الخلافة بعده المعتمد أحمد بن المتوكل.

قوله (لاجلينهم عن جديد الأرض) الجلاء والإجلاء الإخراج من البلد يقال: جلوته وأجليته إذا أخرجته من البلد، وجديد الأرض وجهها، ولعل هذا كناية عن القتل والحمل على الحقيقة أيضا محتمل.

* الأصل:

17 - إسحاق، قال: حدثني محمد بن الحسن بن شمون قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله أن يدعو الله لي من وجع عيني وكانت إحدى عيني ذاهبة والاخرى على شرف ذهاب، فكتب إلي:

حبس الله عليك عينك. فأفاقت الصحيحة، ووقع في آخر الكتاب: آجرك الله وأحسن ثوابك، فاغتممت لذلك ولم أعرف في أهلي أحدا مات، فلما كان بعد أيام جاءتني وفاة ابني طيب فعلمت أن التعزية له.

* الأصل:

18 - إسحاق قال: حدثني عمر بن أبي مسلم قال: قدم علينا بسر من رأى رجل من أهل مصر يقال له: سيف بن الليث، يتظلم إلى المهتدي في ضيعة له قد غصبها إياه شفيع الخادم وأخرجه منها فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأله تسهيل أمرها فكتب إليه أبو محمد (عليه السلام): لا بأس عليك ضيعتك ترد عليك فلا تتقدم إلى السلطان والق الوكيل الذي في يده الضيعة وخوفه بالسلطان الأعظم الله رب العالمين، فلقيه فقال له الوكيل الذي في يده الضيعة قد كتب إلي عند خروجك من مصر، أن أطلبك وأرد الضيعة عليك فردها عليه بحكم القاضي ابن أبي الشوارب وشهادة الشهود ولم يحتج إلى أن يتقدم إلى المهتدي فصارت الضيعة له وفي يده، ولم يكن لها خبر بعد ذلك قال: وحدثني سيف بن الليث هذا قال: خلفت ابنا لي عليلا بمصر عند خروجي عنها وابنا لي آخر أسن منه كان وصيي وقيمي على عيالي وفي ضياعي فكتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله الدعاء لابني العليل، فكتب إلي: قد عوفي ابنك المعتل ومات الكبير وصيك وقيمك فاحمد الله ولا تجزع فيحبط أجرك، فورد علي الخبر أن ابني قد عوفي من علته ومات الكبير يوم ورد علي

ص:328

جواب أبي محمد (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (والق الوكيل) أي وكيل شفيع الخادم وفاعل كتب في قوله قد كتب إلى شفيع الخادم.

* الأصل:

19 - إسحاق قال: حدثني يحيى بن القنبري من قرية تسمى قير، قال: كان لأبي محمد (عليه السلام) وكيل قد اتخذ معه في الدار حجرة يكون فيها معه خادم أبيض فأراد الوكيل الخادم على نفسه فأبى إلا أن يأتيه بنبيذ فاحتال له بنبيذ، ثم أدخله عليه وبينه وبين أبي محمد (عليه السلام) ثلاثة أبواب مغلقة. قال:

فحدثني الوكيل قال: إني لمنتبه إذ أنا بالأبواب تفتح حتى جاء بنفسه فوقف على باب الحجرة ثم قال: يا هؤلاء اتقوا الله خافوا الله. فلما أصبحنا أمر ببيع الخادم وإخراجي من الدار.

* الشرح:

قوله (حدثني يحيى بن القنبري من قرية سماقين) في النسخ اختلاف كثير، ففي بعضها هكذا، وفي بعضها القسري بالسين، وفي بعضها القشيري بالشين والياء، وفي بعضها سماقين بالنون، وفي بعضها من قرية تسمى قنبر ولم أر يحيى بشيء من هذه النسب فيما رأينا من كتب الرجال.

* الأصل:

20 - إسحاق قال: أخبرني محمد بن الربيع السائي قال: ناظرت رجلا من الثنوية بالأهواز، ثم قدمت سر من رأى وقد علق بقلبي شيء من مقالته فإني لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامة يوم الموكب فنظر إلي وأشار بسباحته أحد أحد فرد فسقطت مغشيا علي.

* الشرح:

قوله (محمد بن الربيع النسائي) في كثير من النسخ هكذا بالنون والسين المهملة، وفي بعضها النشائي بالنون والشين المعجمة، وفي بعضها الناشي، وفي بعضها الشامي، وفي بعضها الشيباني.

والظاهر أن الكل تصحيف أو تحريف، وأنه محمد بن ربيع بن سويد السائي وهو من أصحاب أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام).

قوله (ناظرت رجلا من الثنوية) هم الذين يقولون بأن للعالم إلهين أحدهما النور والخيرات كلها منسوبة إليه، والثاني الظلمة ضده، والشرور جميعها منسوبة إليها، وقد مر ما دل على فساد مذهبهم في كتاب التوحيد.

ص:329

قوله (إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامة يوم الموكب) لعل المراد بدار العامة دار السلطان والإضافة لرجوع عامة الناس إليها، وبيوم الموكب اليوم الذي يجتمع فيه الفرسان كيوم الزينة ونحوها. وفي بعض النسخ يؤم بالهمزة وشد الميم بمعنى يقصد، والموكب بفتح الميم وكسر الكاف جماعة فرسان يسيرون برفق وأيضا القوم الركوب للزينة.

قوله (وأشار بسباحته أحد أحد فرد) السباحة والمسبحة الإصبع التي تلي الإبهام، وفي بعض النسخ بسبابته ولعل المراد أنه قال هذه الأسماء الثلاثة الدالة على ما ينافي مذهب الثنوية مع الإشارة بالسباحة، والاكتفاء بالإشارة رمزا إليها بعيد، ثم تلك الأسماء في بعض النسخ مرفوعة على الخبرية بتقدير الله أو هو أو نحوهما وفي بعضها منصوبة على المفعولية بتقدير أعنى ونحوه. ولعل وجه الغشية هو هيبته (عليه السلام) وتأثير كلامه في قلبه أو عدم الطاقة على تحمل ما شاهده من المعجزة والكرامة أو تأثير جذبة الحق وتجلي عظمته ونوره عند الإشارة والخطاب، وعلى التقادير يظهر منه زوال ما علق بقلبة.

* الأصل:

21 - إسحاق، عن أبي هاشم الجعفري قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) يوما وأنا اريد أن أسأله ما أصوغ به خاتما أتبرك به. فجلست وانسيت ما جئت له، فلما ودعت ونهضت رمى إلي بالخاتم فقال: أردت فضة فأعطيناك خاتما ربحت الفص والكرا، هناك الله يا أبا هاشم فقلت: يا سيدي أشهد أنك ولي الله وإمامي الذي أدين الله بطاعته، فقال: غفر الله لك يا أبا هاشم.

* الشرح:

قوله (ربحت الفص والكرا) أي اجرة صنعته، وفيه ربح آخر وأعظم مما ذكر وهو التبرك بخاتمه (عليه السلام).

* الأصل:

22 - إسحاق قال: حدثني محمد بن القاسم أبو العيناء الهاشمي مولى عبد الصمد بن علي عتاقة قال: كنت أدخل على أبي محمد (عليه السلام) فأعطش وأنا عنده فاجله أن أدعو بالماء فيقول: يا غلام اسقه. وربما حدثت نفسي بالنهوض فافكر في ذلك فيقول: يا غلام دابته.

* الشرح:

قوله (محمد بن القاسم أبو العيناء) لم أعرف هذا الاسم بهذه الكنية (1)، ولا عبد الصمد ابن

ص:330


1- 1 - قوله «لم أعرف هذا الاسم بهذه الكنية» أبو العيناء مشهور بلطائف كلامه وظرائفه ذكره ابن خلكان مفصلا كان مولده سنة 191 ومات 283 وعمر طويلا، ومن لطائفه أنه جرى ذكر البرامكة وجودهم في مجلس بعض الوزراء فقال الوزير: إنه من أكاذيب الوراقين، فقال أبو العيناء: لم لا يكذبون عليك أيها الوزير؟ والعجب أن الشارح لم يسمع باسمه. (ش).

علي من الرجال، وقيل عتاقة بالنصب على أنه تميز على المولى للدلالة على أن المراد به المعتق.

قال الجوهري: العتاق بالفتح والعتاقة: الحرية، والله أعلم.

قوله (يا غلام دابته) دابته بالنصب على المفعولية بتقدير أحضر وشبهه.

* الأصل:

23 - علي بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام) عن علي بن عبد الغفار قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمد (عليه السلام)، فقال لهم صالح:

وما أصنع؟ قد وكلت به رجلين من أشر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا مالا نملكه من أنفسنا، فلما سمعوا ذلك انصرفوا خائبين.

* الشرح:

قوله (علي صالح بن وصيف) كان وصيف التركي من أمراء المستعين، وبعده من أمراء المعتز قتله في عهده بعض الأمراء ثم قام صالح مقام أبيه، وكان بعد المعتز من أمراء المهتدي وقتل في عهده.

قوله (فقال لهم صالح) في إرشاد المفيد قبله: «فقالوا له: ضيق عليه ولا توسع، فقال لهم صالح - إلى آخره».

قوله (إلى أمر عظيم فقلت لهما ما فيه فقالا) في الإرشاد: إلى أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل فقالا له: ما نقول - إلى آخره.

قوله (ارتعدت قرايصنا) أي رجفت من الخوف اللحمة التي بين الجنب والكتف أو أوداج الرقبة وعروقها.

* الأصل:

24 - علي بن محمد، عن الحسن بن الحسين قال: حدثني محمد بن الحسن المكفوف قال:

حدثني بعض أصحابنا، عن بعض فصادي العسكر من النصاري أن أبا محمد (عليه السلام) بعث إلي يوما في

ص:331

وقت صلاة الظهر، فقال لي: افصد هذا العرق، قال: وناولني عرقا لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي: ما رأيت أمرا أعجب من هذا، يأمرني أن أفصد في وقت الظهر وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي: انتظر وكن في الدار، فلما أمسى دعاني وقال لي: سرح الدم، فسرحت ثم قال لي: أمسك، فأمسكت، ثم قال لي: كن في الدار، فلما كان نصف الليل أرسل إلي وقال لي: سرح الدم قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول وكرهت أن أسأله قال: فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح. قال: ثم قال لي: احبس قال: فحبست قال: ثم قال: كن في الدار، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني فقصصت عليه القصة قال: فقال لي: والله ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شيء من الطب ولا قرأته في كتاب ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي فأخرج إليه قال فاكتريت زورقا إلى البصرة وأتيت الأهواز ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي فأخبرته الخبر قال: وقال لي: أنظرني أياما فأنظرته ثم أتيته متقاضيا قال: فقال لي: إن هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح في دهره مرة.

* الشرح:

قوله (فلما أصبحت أمر قهرمانه) (1) في النهاية: القهرمان كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت

ص:332


1- 1 - قوله «أمر قهرمانه» وروى القصة في الخرائج بوجه أبسط ولعل غرض الإمام (عليه السلام) من فعله ذلك أن الطب والعلوم الطبيعية كانت رائجة في ذلك العصر وأكثر الناس مقبلون عليها وهي للعوام مزلة فإنهم يجعلون القوى الطبيعية مضادة للتأثيرات الروحانية وربما يتوهمون الاستغناء عن التوسل والدعاء بالأسباب المادية كما نرى في عصرنا من كثير فأراد (عليه السلام) خرق العادة بخلع الأسباب عن التأثير وتوجيه النفوس إلى الله تعالى ومبدأ للأمور غير الطبايع وهذا معلوم في الجملة للفلاسفة. والشيخ أبو علي بن سينا أورد في الإشارات ثلاثة أدلة لإثبات أن النفس ليست هي المزاج أو تابعا للمزاج بل هي تعارض مزاج البدن وتنافيه، الدليل الأول الحركة الإرادية إلى جهات مختلفة فإنها ليست للطبايع فإن الطبيعة تقتصى شيئا واحدا غير مختلف فالحركة إلى فوق والطبيعة تميل إلى السفل تدل على أن النفس ليست من الطبيعة، الثاني الحسن والإدراك فإنهما ليسا للطبيعة والمزاج وهو واضح، الثالث أن الطبايع المختلفة في المزاج تقتضي الانفاك في أسرع ما يكون من الزمان ولذا يتلاشى البدن بعد الموت بلا مهلة وأن النفس تقهر المزاج على الثبات والبقاء وجمع الأضداد مدة طويلة فليست النفس مزاجا أو متفرعة على المزاج بل لها مبدء آخر ولذلك تقدر على قهر المزاج على خلاف مقتضى طبعه وهذه أمور يغفل عنها الطبيعيون والأطباء إذ فنهم حفظ المزاج فتبين بعمل الإمام (عليه السلام) وفصده أن النفس القوية قادرة على قهر الطبيعة على خلاف مقتضاها كما أن نفوسنا أيضا تقدر على ذلك والاختلاف بين النفوس بالشدة والضعف إلا أن قهر نفوسنا لأبداننا معتاد معهود يغفل عنه وقهر نفس الإمام (عليه السلام) لمقتضى طبيعته كان خرقا للعادة موجبا للإعجاب وسببا لالتفات الناس إلى مبدء آخر في العالم قاهر للطبائع. وروى في المناقب عن الإمام (عليه السلام) كلاما يحل العقدة عن عويصة أخرى نظير ذلك وهو أن العقل إذا دل على شيء صريحا ودل ظاهر الشرع على خلافه لا يجوز رد الشرع أو الشك فيه بل يجب تأويل ظاهر الشرع إذ ربما يصدر عن القائل الحكيم كلام لا يراد به ظاهره بل مقصود القائل غيره. قال في المناقب عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل أن إسحاق الكندي يعني يعقوب بن إسحاق كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله وأن بعض تلامذته دخل يوما على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقال له أبو محمد: أما فيكم رجل رشيد يردع استادكم الكندي عما أخذ فيه - إلى أن قال -: قال أبو محمد: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك قال: نعم قال:... فقل له إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي قد ظننتها انك ذهبت إليها فإنه سيقول: أنه من الجائز. اه. (ش).

يده والقائم بامور الرجل بلغة الفرس.

* الأصل:

25 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا قال: كتب محمد بن حجر إلى أبي محمد (عليه السلام) يشكو عبد العزيز بن دلف ويزيد بن عبد الله، فكتب إليه: أما عبد العزيز فقد كفيته، وأما يزيد فإن لك وله مقاما بين يدي الله، فمات عبد العزيز وقتل يزيد محمد بن حجر.

* الشرح:

قوله (فإن لك وله مقاما بين يدي الله) يعني ينتقم الله لك منه، وفيه إخبار بالقتل كما وقع.

* الأصل:

26 - علي بن محمد، عن بعض أصحابنا قال: سلم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير فكان يضيق عليه يؤذيه قال: فقالت له امرأته: ويلك اتق الله، لا تدري من في منزلك؟ وعرفته صلاحه وقالت: إني أخاف عليك منه، فقال لأرمينه بين السباع، ثم فعل ذلك به فرئي (عليه السلام) قائما يصلي وهي حوله.

* الأصل:

27 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) فسألته أن يكتب لأنظر إلى خطه فأعرفه إذا ورد، فقال: نعم، ثم قال: يا أحمد إن الخط سيختلف عليك من بين القلم الغليظ إلى القلم الدقيق فلا تشكن، ثم دعا بالدواة فكتب وجعل يستمد إلى مجرى الدواة فقلت في نفسي وهو يكتب: أستوهبه القلم الذي كتب به. فلما فرغ من الكتابة أقبل يحدثني وهو يمسح القلم بمنديل الدواة ساعة، ثم قال: هاك يا أحمد فناولنيه، فقلت: جعلت فداك إني مغتم لشيء يصيبني في نفسي وقد أردت أن أسأل أباك فلم يقض لي ذلك، فقال: وما هو يا أحمد؟ فقلت: يا سيدي روي لنا عن آبائك أن نوم الأنبياء على أقفيتهم ونوم المؤمنين على إيمانهم ونوم المنافقين على شمائلهم ونوم الشياطين على وجوههم، فقال (عليه السلام): كذلك هو، فقلت: يا سيدي فاني أجهد أن أنام على يميني فما يمكنني ولا يأخذني النوم عليها، فسكت ساعة ثم قال: يا أحمد ادن

ص:333

مني، فدنوت منه فقال: أدخل يدك تحت ثيابك، فأدخلتها فأخرج يده من تحت ثيابه وأدخلها تحت ثيابي، فمسح بيده اليمنى على جانبي الأيسر وبيده اليسرى على جانبي الأيمن ثلاث مرات، فقال أحمد: فما أقدر أن أنام على يساري منذ فعل ذلك بي (عليه السلام) وما يأخذني نوم عليها أصلا.

* الشرح:

قوله (يا أحمد إن الخط سيختلف عليك من بين القلم الغليظ إلى القلم الدقيق فلا تشكن) يعني أن الخط على مراتب متفاوتة من الجلي والخفي والغلظة والدقة فلا تشكن فيه لأجل ذلك، ولا فيما تضمنه من الحق الصريح، والحاصل أن هذا الخط قد لا يوافق الخطوط الباقية الواردة منا عليك، فلا تجعله ميزانا للرد والقبول; بل ارجع إلى ما هو المعروف من طريقتنا مع العلم به وإلا فتوقف حتى يظهر لك صحته، وفي بعض النسخ «من» بدل «ما».

قوله (وجعل يستمد إلى مجرى الدواة) أي يطلب المدد لقلة المداد من قعر الدوات إلى مجريها، والمدة بالضم اسم ما استمددت به من المداد على القلم والمداد النقس بالكسر فيهما وهو ما يكتب به.

قوله (ثم قال هاك يا أحمد) «ها» بالقصر والمد وهاك من أسماء الأفعال بمعنى الأمر أي خذه.

قوله (نوم المؤمنين على إيمانهم، ونوم المنافقين على شمايلهم) يحتمل الابتداء والاستمرار، وقال الأطباء: نوم اليسار أعون على الهضم، وما يفهم من بعض الروايات أنه نوم أبناء الدنيا مؤيد له.

قوله (فأخرج يده من تحت ثيابه) لعل المراد أنه أخرجها من الكم، وكان السر فيه أن يمسح بجميع يده بجميع جنبيه ويديه لا بالكف فقط.

ص:334

باب مولد الصاحب (عليه السلام)

* الأصل:

ولد (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين.

1 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد قال: خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري: هذا جزاء من افترى على الله في أوليائه، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب فكيف رأى قدرة الله. وولد له ولد سماه «م ح م د» سنة ست وخمسين ومائتين.

* الشرح:

قوله (ولد (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين) هذا هو الأشهر بين العلماء وله عند موت أبيه (عليهما السلام) خمس سنين قال الصدوق في كتاب كمال الدين حدثنا محمد بن محمد بن عصام (رحمه الله) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنا علي بن محمد قال: ولد الصاحب (عليه السلام) للنصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. وروى الصدوق بإسناده عن حكيمة بنت محمد ابن علي بن موسى (عليهم السلام) قالت: بعث إلي أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال: يا عمة اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجته في أرضه» الحديث، وقيل: ولد (عليه السلام) يوم الجمعة سنة ست وخمسين ومائتين وقد نقله الصدوق (رحمه الله) في الكتاب المذكور أيضا، والخبر الآتي يدل عليه وقد يوجه بأن الخمس سنة شمسية والست أي أوائلها سنة قمرية فلا منافاة (1).

* أصل:

2 - علي بن محمد قال: حدثني محمد والحسن ابنا علي بن إبراهيم في سنة تسع وسبعين

ص:335


1- 1 - قوله «سنة قمرية فلا منافاة» لا أدري ما مقصود القائل فكل معنى يفرض ليحمل الكلام عليه غير صحيح، مع أن تحديد السنين من الهجرة بالشمسية غير معهود بين المسلمين إلى زماننا هذا. بل هو عمل غير عقلاني يشوش به ضبط التواريخ والوقائع، ولا يمكن أن يقدم عليه عاقل ولو بنى بعض الناس على ضبط الحوادث بالسنين الشمسية وأكثرهم على القمرية كان مبدء خلافة بني العباس بالقمرية سنة 132 وبالشمسية 127 وولادة الصاحب (عليه السلام) بالقمرية 266 وبالشمسية 247. وإذا اختلط أحدهما بالآخر على الناظرين في التاريخ ورأوا وفاة الإمام الهادي (عليه السلام) سنة 254 مثلا ذهب ذهن بعضهم إلى أن الحجة (عليه السلام) ولد في حياة الإمام الهادي (عليه السلام) في سنة قتل المتوكل أعنى 247 قمرية وتحير أكثر الناس ولم يهتدوا إلى ضبط الوقائع. (ش)

ومائتين قالا: حدثنا محمد بن علي بن عبد الرحمن العبدي - من عبد قيس - عن ضوء بن علي العجلي، عن رجل من أهل فارس سماه، قال: أتيت سر من رأى ولزمت باب أبي محمد (عليه السلام) فدعاني من غير أن أستأذن، فلما دخلت وسلمت قال لي: يا أبا فلان كيف حالك؟ ثم قال لي: اقعد يا فلان، ثم سألني عن جماعة من رجال ونساء من أهلي، ثم قال لي: ما الذي أقدمك؟ قلت: رغبة في خدمتك، قال: فقال: فالزم الدار، قال: فكنت في الدار مع الخدم ثم صرت أشترى لهم الحوائج من السوق وكنت أدخل عليه من غير إذن إذا كان في دار الرجال، فدخلت عليه يوما وهو في دار الرجال، فسمعت حركة في البيت فناداني: مكانك لا تبرح، فلم أجسر أن أخرج ولا أدخل، فخرجت علي جارية معها شيء مغطى ثم ناداني: ادخل، فدخلت ونادى الجارية فرجعت فقال لها: اكشفي عما معك، فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه وكشفت عن بطنه فإذا شعر نابت من لبته إلى سرته أخضر ليس بأسود، فقال: هذا صاحبكم، ثم أمرها فحملته فما رأيته بعد ذلك حتى مضى أبو محمد (عليه السلام) فقال ضوء بن علي: فقلت للفارسي: كم كنت تقدر له من السنين؟ قال: سنتين قال العبدي: فقلت لضوء: كم تقدر له أنت؟ قال: أربع عشرة قال أبو علي وأبو عبد الله: ونحن نقدر له إحدى وعشرين سنة.

* الشرح:

قوله (عن رجل من أهل فارس سماه قال: أتيت سر من رأى) لعل اخباره (1) كان في حياة أبي محمد (عليه السلام) كما سنشير إليه.

قوله (كم كنت تقدر له من السنين) أي من حين الولادة إلى الأن وهو آن الإخبار فقوله: سنتين دل على أن الإخبار كان في حال حياة أبيه (عليهما السلام) يظهر ذلك لمن نظر في تاريخ تولده وتاريخ وفاة أبيه، وجعل مبدء السنتين ومنتهاهما الوفاة، وزمان الإخبار أو جعل مبدئهما التولد، ومنتهاهما زمان الرؤية بعيد جدا.

قوله (كم تقدر له أنت قال: أربع عشرة) أي أربع عشرة سنة، وذلك بأن مضى من زمان الفارسي اثنتا عشرة سنة، وفي كتاب كمال الدين «كم تقدر له لنا الان».

قوله (قال أبو علي وأبو عبد الله) هما محمد والحسن ابنا علي بن إبراهيم، (2) وتقديرهما

ص:336


1- 1 - قوله «لعل إخباره» لا وجه لكلمة لعل الدالة على الترديد إذا لا يحتمل غير ذلك. (ش)
2- 2 - قوله «ابنا علي بن إبراهيم» قال المجلسي - رحمه الله -: محمد بن علي بن إبراهيم كان هو وأبوه وجده من وكلاء الناحية بهمدان وأخوه الحسن غير مذكور في الرجال. (ش)

لسنه (عليه السلام) عند الإخبار بإحدى وعشرين سنة لا يوافق ما مر من سنة تسع وسبعين إلا على قول من قال إن مولده في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين كما نقله بعض أرباب السير (1) فليتأمل.

3 - علي بن محمد وعن غير واحد من أصحابنا القميين، عن محمد بن محمد العامري عن أبي سعيد غانم الهندي قال: كنت بمدينة الهند المعروفة بقشمير الداخلة وأصحاب لي يقعدون على كراسي عن يمين الملك، أربعون رجلا كلهم يقرأ الكتب الأربعة: التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، نقضي بين الناس ونفقههم في دينهم ونفتيهم في حلالهم وحرامهم، يفزع الناس إلينا، الملك فمن دونه (2)، فتجارينا ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلنا: هذا النبي المذكور في الكتب قد خفي علينا أمره ويجب علينا الفحص عنه وطلب أثره واتفق رأينا، وتوافقنا على أن أخرج فأرتاد لهم.

فخرجت ومعي مال جليل، فسرت اثني عشر شهرا حتى قربت من كابل، فعرض لي قوم من الترك فقطعوا علي وأخذوا مالي وجرحت جراحات شديدة ودفعت إلى مدينة كابل، فأنفذني ملكها لما وقف على خبري إلى مدينة بلخ وعليها إذ ذاك داود بن العباس بن أبي [أ] سود، فبلغ خبري وأني خرجت مرتادا من الهند وتعلمت الفارسية وناظرت الفقهاء وأصحاب الكلام، فأرسل إلي داود بن العباس فأحضرني مجلسه وجمع علي الفقهاء فناظروني فأعلمتهم أني خرجت من بلدي أطلب هذا النبي الذي وجدته في الكتب.

فقال لي: من هو وما اسمه؟ فقلت محمد، فقال: هو نبينا الذي تطلب، فسألتهم عن شرائعه، فأعلموني، فقلت لهم: أنا أعلم أن محمدا نبي ولا أعلمه هذا الذي تصفون أم لا؟ فأعلموني موضعه لأقصده فاسائله عن علامات عندي ودلالات، فإن كان صاحبي الذي طلبت آمنت به، فقالوا: قد مضى (صلى الله عليه وآله) فقلت: فمن وصيه وخليفته فقالوا: أبو بكر، قلت: فسموه لي فإن هذه كنيته؟ قالوا: عبد الله بن عثمان ونسبوه إلى قريش: قلت، فإنسبوا لي محمدا نبيكم فنسبوه لي، فقلت: ليس هذا صاحبي الذي طلبت، صاحبي الذي أطلبه خليفته، أخوه في الدين وابن عمه في النسب وزوج ابنته وأبو ولده، ليس لهذا النبي ذرية على الأرض غير ولد هذا الرجل الذي هو خليفته، قال:

ص:337


1- 1 - قوله «كما نقله بعض أصحاب السير» وهو محمد بن طلحة الشافعي وقال المجلسي - رحمه الله -: لعل بعضهم أخطأ في الحساب وأقول أو سامح، واعلم أن علي بن محمد في صدر الاسناد في هذا الباب والباب السابق هو خال الكليني المعروف بعلان جمع أخبار الصاحب (عليه السلام). (ش)
2- 2 - قوله «الملك فمن دونه» يدل على أن أهل قشمير وملكهم كانوا مسيحيين في ذلك العهد وهو غير صحيح، والخبر ضعيف مجهول الراوي ومحمد بن محمد العامري وكذا أبو سعيد غانم الهندي لا يعرفها أصحاب الرجال ولا نحتاج مع الأدلة الكثيرة على اصول مذهبنا إلى أمثال هذه الأخبار المجهولة. (ش)

فوثبوا بي وقالوا: أيها الأمير إن هذا قد خرج من الشرك إلى الكفر هذا حلال الدم، فقلت لهم: يا قوم أنا رجل معي دين متمسك به لا افارقه حتى أرى ما هو أقوى منه، إني وجدت صفة هذا الرجل في الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه، وإنما خرجت من بلاد الهند ومن العز الذي كنت فيه طلبا له، فلما فحصت عن أمر صاحبكم الذي ذكرتم لم يكن النبي الموصوف في الكتب فكفوا عني.

وبعث العامل إلى رجل يقال له: الحسين بن اشكيب فدعاه، فقال له: ناظر هذا الرجل الهندي، فقال له الحسين: أصلحك الله عندك الفقهاء والعلماء وهم أعلم وأبصر بمناظرته، فقال له: ناظره كما أقول لك واخل به والطف له، فقال لي الحسين بن اشكيب بعد ما فاوضته: إن صاحبك الذي تطلبه هو النبي الذي وصفه هؤلاء وليس الأمر في خليفته كما قالوا، هذا النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ووصيه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب وهو زوج فاطمة بنت محمد وأبو الحسن والحسين سبطي محمد (صلى الله عليه وآله)، قال غانم أبو سعيد: فقلت: الله أكبر هذا الذي طلبت فانصرفت إلى داود بن العباس فقلت له: أيها الأمير وجدت ما طلبت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فبرني ووصلني وقال للحسين: تفقده، قال: فمضيت إليه حتى آنست به وفقهني فيما احتجت إليه من الصلاة والصيام والفرائض.

قال: فقلت له: إنا نقرأ في كتبنا أن محمدا (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين لا نبي بعده وأن الأمر من بعده إلى وصيه ووارثه وخليفته من بعده، ثم إلى الوصي بعد الوصي، لا يزال أمر الله جاريا في أعقابهم حتى تنقضي الدنيا، فمن وصي وصي محمد؟ قال: الحسن ثم الحسين ابنا محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم ساق الأمر في الوصية حتى انتهى إلى صاحب الزمان (عليه السلام) ثم أعلمني ما حدث، فلم يكن لي همة إلا طلب الناحية فوافى قم وقعد مع أصحابنا في سنة أربع وستين ومائتين وخرج معهم حتى وافى بغداد ومعه رفيق له من أهل السند كان صحبه على المذهب، قال: فحدثني غانم قال: وأنكرت من رفيقي بعض أخلاقه فهجرته، وخرجت حتى سرت إلى العباسية أتهيأ للصلاة واصلي وإني لواقف متفكر فيما قصدت لطلبه إذا أنا بآت قد أتاني فقال: أنت فلان؟ - اسمه بالهند - فقلت: نعم فقال: أجب مولاك، فمضيت معه فلم يزل يتخلل بي الطريق حتى أتى دارا وبستانا فإذا أنا به (عليه السلام) جالس، فقال: مرحبا يا فلان - بكلام الهند - كيف حالك؟ وكيف خلفت فلانا وفلانا؟ حتى عد الأربعين كلهم فسألني عنهم واحدا واحدا، ثم أخبرني بما تجارينا كل ذلك بكلام الهند، ثم قال: أردت أن تحج مع أهل قم؟ قلت: نعم يا سيدي، فقال: لا تحج معهم وانصرف سنتك هذه وحج [في] قابل، ثم ألقى إلي صرة كانت بين يديه، فقال لي: اجعلها نفقتك ولا تدخل إلى بغداد إلى فلان سماه، ولا تطلعه على شيء، وانصرف إلينا إلى البلد، ثم وافانا بعض الفيوج فأعلمونا أن أصحابنا انصرفوا من العقبة

ص:338

ومضى نحو خراسان فلما كان في قابل حج وأرسل إلينا بهدية من طرف خراسان فأقام بها مدة، ثم مات رحمه الله.

* الشرح:

قوله (ونسبوه إلى قريش قلت: فانسبوا لي محمدا نبيكم) نسب النبي (صلى الله عليه وآله): محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة إلى آخر ما ذكرنا في أبوب التاريخ وذكرنا أن قريشا تقرشت من فهر ومن النضر وأن المشهور هو الثاني، ويعلم منه وجه التسمية بقريش. ونسب علي (عليه السلام): علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ففي عبد المطلب يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وآله). ونسب أبي بكر: عبد الله ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وفي مرة بن كعب يجتمع مع النبي (صلى الله عليه وآله).

قوله (قد خرج من الشرك إلى الكفر) أراد بالكفر الرفض وإنكار الخلفاء الثلاثة.

قوله (يقال له: الحسين بن اشكيب) قال الشهيد في حاشيته على الخلاصة (1) قد اختلف كلام الجماعة في الحسين بن اشكيب، فالعلامة جعله بالشين المعجمة، ومن أصحاب العسكري (عليه السلام) وجعله مروزيا، ونقل عن الكشي أنه خادم القبر قمي، وقريب من كلامه كلام النجاشي فيه فإنه جعله خراسانيا، ونقل عن الكشي أنه من أصحاب العسكري (عليه السلام) أيضا وأما الشيخ أبو جعفر فذكر نحو العلامة في باب من لم يرو عنهم (عليهم السلام)، وفي باب من يروى عن العسكري أيضا وذكر في باب من روى عن الهادي (عليه السلام) الحسين بن اسكيب القمي خادم القبر، وابن داود ذكر أن القمي خادم القبر الحسين بن اسكيب بالسين المهملة وأن اشكيب بالشين المعجمة هو الفاضل المذكور للخراساني، ونقل فيه عن الكشي كما نقله العلامة أنه القمي خادم القبر ونقل عن فهرست الشيخ أنه ممن لم يرو عن الأئمة (عليهم السلام) وقال فيه أنه عالم فاضل مصنف متكلم ونحن لم نجده في نسختين بالفهرست أصلا.

قوله (ثم أعلمني ما حدث) أي ما حدث بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من غصب الخلافة أو ما حدث من

ص:339


1- 1 - قوله «قال الشهيد في حاشيته على الخلاصة» الحسين بن اشكيب من علمائنا الخراسانيين كان ساكنا في سمرقند وكش وكان متكلما صاحب كتب وتصانيف على ما ذكره النجاشي ومنها الرد على الزيدية، ووصفوه تارة بأنه خادم القبر ولم يتحقق لي أن المراد أي قبر هو ولم يكن في سمرقند وكش قبر يحتمل أن يكون هو خادمه وقيل: إنه قمي. وقيل: مروزي أيضا عدوه فيمن لم يرو عنهم، وفيمن روى عن العسكريين (عليهما السلام)، وظاهره متناقض واحتمال التعدد ليس ببعيد ولابد من التأمل في ذلك وداود بن العباس كان والي بلخ وما والاها على ما ذكره في طبقات ملوك الإسلام من آل بايتجور من سنة 232 قالوا: واستولى على ملكه يعقوب بن الليث سنة 258. (ش)

موت أبيه العسكري (عليه السلام) وغيبة الصاحب (عليه السلام) في الناحية.

قوله (فوافى قم) هذا كلام محمد بن محمد العامري.

قوله (في سنة أربع وستين) أي من الغيبة أو بعد مائتين وعلى الأخير كان ذلك بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام) بأربع سنين.

قوله (قال: فحدثني غانم) أي قال محمد بن محمد العامري وهو كان في بغداد، قال الصدوق (ره) كتاب كمال الدين: «قال محمد بن محمد ووافى معنا بغداد فذكر لنا أنه كان معنا رفيق قد صحبه على هذا الأمر فكره بعض أخلاقه ففارقه».

قوله (أن تحج مع أهل قم) يعنى في هذه السنة.

قوله (وحج قابل) أي من قابل كما في كمال الدين أو في قابل كما في بعض نسخ هذا الكتاب.

قوله (ولا تدخل إلى بغداد) في كمال الدين «ولا تدخل في بغداد دار أحد ولا تخبر بشئ مما رأيت» أقول نهاه عن ذلك لئلا يذيع الخبر ولا يطلب من الشيعة مقامه.

قوله (وانصرف إلينا إلى البلد) هذا كلام العامري وإلى البلد بدل من إلينا والمراد بالفتوح ملاقاته للإمام (عليه السلام) وتشرفه برؤيته وتكرمه بالعطية وأمر الفاء في قوله «فاعلمونا» غير ظاهر نعم هو ظاهر لو كان الفيوج بالياء المثناة التحتانية والجيم على أن يكون فاعل وافانا ولكن النسخ التي رأيناها (1) بالتاء الفوقانية والحاء.

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن سعد بن عبد الله قال: إن الحسن بن النضر وأبا صدام وجماعة تكلموا بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) فيما في أيدي الوكلاء وأرادوا الفحص فجاء الحسن بن النضر إلى أبي الصدام فقال: إني اريد الحج فقال له: أبو صدام أخره هذه السنة، فقال له الحسن [بن النضر]: إني أفزع في المنام ولابد من الخروج وأوصى إلى أحمد بن يعلى بن حماد وأوصى للناحية بمال وأمره أن لا يخرج شيئا إلا من يده إلى يده بعد ظهوره قال: فقال الحسن: لما وافيت بغداد اكتريت دارا فنزلتها فجاءني بعض الوكلاء بثياب ودنانير وخلفها عندي فقلت له: ما هذا؟ قال: هوما ترى، ثم جاءني آخر بمثلها وآخر حتى كبسوا الدار، ثم جاءني أحمد بن إسحاق بجميع ما كان معه فتعجبت وبقيت متفكرا فوردت علي رقعة الرجل (عليه السلام): إذا مضى من النهار كذا وكذا فاحمل ما معك، فرحلت وحملت ما معي وفي الطريق صعلوك يقطع الطريق في ستين رجلا فاجتزت عليه

ص:340


1- 1 - قوله «لكن النسخ التي رأيناها» ولا ريب أنها مصحفة من الناسخين بدلوا كلمة فيوج لعدم المأنوسية بالفتوح والفيوج جمع فيج وهو معرب پيك. (ش)

وسلمني الله منه فوافيت العسكر ونزلت، فوردت علي رقعة: أن احمل ما معك، فعبيته في صنان الحمالين، فلما بلغت الدهليز إذا فيه أسود قائم فقال: أنت الحسن بن النضر؟ قلت: نعم، قال:

ادخل، فدخلت الدار ودخلت بيتا وفرغت صنان الحمالين وإذا في زاوية البيت خبز كثير فأعطى كل واحد من الحمالين رغيفين واخرجوا وإذا بيت عليه ستر فنوديت منه: يا حسن بن النضر احمد الله على ما من به عليك ولا تشكن، فود الشيطان أنك شككت، وأخرج إلي ثوبين وقيل:

خذها فستحتاج إليهما، فأخذتهما وخرجت، قال سعد: فانصرف الحسن بن النضر ومات في شهر رمضان وكفن في الثوبين.

* الشرح:

قوله (هو ما ترى) أي تنظر فيه وتحفظه أو هو ما ترى من مال الناحية.

قوله (حتى كبسوا الدار) أي ملؤوها أو هجموا عليها وأحاطوا بها.

قوله (ثم جاءني أحمد بن إسحاق) ثقة روى عن الجواد والهادي وكان من خاصة أبي محمد، ورأى صاحب الزمان (عليه السلام). وفي ربيع الشيعة أنه من الوكلاء والسفراء، وكذا في كمال الدين.

قوله (فعبيته في صنان الحمالين) أي وضعته فيه والتعبية هي التهيئة والوضع، والصن بالكسر شبه السلة المطبقة يجعل فيه الخبر ونحوه والصنان مثله.

* الأصل:

5 - علي بن محمد عن محمد بن حمويه السويداوي، عن محمد بن إبراهيم بن مهزيار قال:

شككت عند مضي أبي محمد (عليه السلام) واجتمع عند أبي مال جليل، فحمله وركب السفينة وخرجت معه مشيعا، فوعك وعكا شديدا، فقال: يا بني ردني، فهو الموت وقال لي: اتق الله في هذا المال وأوصى إلي، فمات: فقلت في نفسي: لم يكن أبي ليوصي بشيء غير صحيح، أحمل هذا المال إلى العراق وأكتري دارا على الشط ولا اخبر أحدا بشئ وإن وضح لي شيء كوضوحه [في] أيام أبي محمد (عليه السلام) أنفذته وإلا قصفت به، فقدمت العراق واكتريت دارا على الشط وبقيت أياما، فإذا أنا برقعة مع رسول فيها: يا محمد معك كذا وكذا في جوف كذا وكذا، حتى قص علي جميع ما معي مما لم احط به علما فسلمته إلى الرسول وبقيت أياما لا يرفع لي رأس واغتممت، فخرج إلي: قد أقمناك مكان أبيك فاحمد الله.

* الشرح:

قوله (فوعك وعكا شديد) الوعك بالتسكين مغث الحمى والمها وقد وعكته الحمى فهو

ص:341

موعوك، ووعك كل شيء معظمه وحدته، وقيل: والوعك الحمى نفسه والوصف بالشدة للتأكيد والمبالغة أو للاحتراز عن الوعك الضعيف لأنه قد يطلق عليه.

قوله (وإلا قصفت به) أي صرفته في الضروريات أو في اللهو واللعب.

قوله (لا يرفع لي رأس) كناية عن عدم ظهور خبر من الناحية.

قوله (قد أقمناك مقام أبيك) إبراهيم بن مهزيار كان وكيله (عليه السلام) لجميع أمواله في الأهواز، وكذا ابنه محمد كما ذكره الصدوق في كتاب كمال الدين ودل عليه هذا الحديث إلا إنه رواية.

* الأصل:

6 - محمد بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله النسائي قال: أوصلت أشياء للمرزباني الحارثي فيها سوار ذهب، فقبلت ورد علي السوار، فامرت بكسره، فكسرته فإذا في وسطه مثاقيل حديد ونحاس أو صفر فأخرجته وأنفذت الذهب فقبل.

* الشرح:

قوله (أوصلت أشياء للمرزباني الحارثي) أي وصلت أشياء إلى الناحية، وفي بعض النسخ للمرزباني بياء النسبة، والسوار من الحلي معروف - تكسر السين وتضم -.

* الأصل:

7 - علي بن محمد، عن الفضل الخزاز المدائني مولى خديجة بنت محمد أبي جعفر (عليه السلام) قال:

إن قوما من أهل المدينة من الطالبيين كانوا يقولون بالحق وكانت الوظائف ترد عليهم في وقت معلوم، فلما مضى أبو محمد (عليه السلام) رجع قوم منهم عن القول بالولد فوردت الوظائف على من ثبت منهم على القول بالولد وقطع عن الباقين، فلا يذكرون في الذاكرين والحمد لله رب العالمين.

* الأصل:

8 - علي بن محمد قال: أوصل رجل من أهل السواد مالا فرد عليه وقيل له: أخرج حق ولد عمك منه وهو أربعمائة درهم، وكان الرجل في يده ضيعة لولد عمه فيها شركة قد حبسها عليهم، فنظر فإذا الذي لولد عمه من ذلك المال أربعمائة درهم فأخرجها وأنفذ الباقي فقبل.

* الأصل:

9 - القاسم بن العلاء قال: ولد لي عدة بنين فكنت أكتب وأسأل الدعاء فلا يكتب إلي لهم بشئ، فماتوا كلهم، فلما ولد لي الحسن ابني كتبت أسأل الدعاء فاجبت: يبقى والحمد لله.

* الأصل:

10 - علي بن محمد، عن أبي عبد الله بن صالح قال: [كنت] خرجت سنة من السنين ببغداد

ص:342

فاستأذنت في الخروج، فلم يؤذن لي، فأقمت اثنين وعشرين يوما وقد خرجت القافلة إلى النهروان، فاذن في الخروج لي يوم الأربعاء وقيل لي: اخرج فيه، فخرجت وأنا آيس من القافلة أن ألحقها، فوافيت النهروان والقافلة مقيمة، فما كان إلا أن أعلفت جمالي شيئا حتى رحلت القافلة، فرحلت وقد دعا لي بالسلامة فلم ألق سوءا والحمد لله.

* الأصل:

11 - علي بن النضر بن صباح البجلي، عن محمد بن يوسف الشاشي قال: خرج بي ناصور على مقعدتي فأريته الأطباء وأنفقت عليه مالا فقالوا: لا نعرف له دواء، فكتبت رقعة أسأل الدعاء فوقع (عليه السلام) إلي: ألبسك الله العافية وجعلك معنا في الدنيا والآخرة، قال: فما أتت علي جمعة حتى عوفيت وصار مثل راحتي، فدعوت طبيبا من أصحابنا وأريته إياه، فقال: ما عرفنا لهذا دواء.

* الشرح:

قوله (فوافيت النهروان) قال في المغرب: هي من أرض العراق على أربعة فراسخ من بغداد.

قوله (عن محمد بن يوسف الشاشي قال: خرج بن ناصور) شاش قرية في بلاد تركستان قريبة من فارياب، وقيل أيضا قرية من ماء نهروان. والناصور قرحة غايرة قلما تندمل، وقيل: قد يحدث فيها دود فيقتل صاحبها.

قوله (فقال ما عرفنا لهذا دواء) (1) قيل بعده في إرشاد المفيد: «وما جاءتك إلا من قبل الله

ص:343


1- 1 - قوله «ما عرفنا لهذا دواء» الناصور قرحة لا يندمل وسر ذلك أنه ينبت غشاء على جدار القرحة من داخلها كجلد البدن وهو مانع عن الالتحام إلا أن يخرق الغشاء حتى يماس لحوم أطراف القرحة بعضها ببعض أو يوضع عليه الدواء حتى يفنى الغشاء واللحم الفاسد الردئ وينبت اللحم الصحيح ويندمل، قال في شرح الأسباب: وفي كلا العلاجين خطر وينبغي أن يترك ويحتمل أذاه مدة العمر وليس له أذى أكثر من الرشح والسيلان، ونظير هذه المعجزة المنقولة عن الإمام (عليه السلام) وقعت في العصور الأخيرة في النصارى واشتهرت بينهم وحكوا في كتبهم أن عالمهم المشهور في العالم بتحقيقاته الرياضية والطبيعية المسمى بپاسكال كان شديد التمسك بدينهم، قوى الاعتقاد فيه لأن امرأة من أقاربه ابتليت بناصور في جفن عينها وكانت آيسة من علاجها إلا أنها التجات إلى الكنيسة وتوسل بالمسيح (عليه السلام) وتبركت بشوك محفوظ هناك يقال: إنه من بقايا شوك جعله اليهود كالتاج على رأس المسيح استهزاء به لما أرادوا قتله والمسيح ملك اليهود عندهم فعوفيت المرأة من علتها بغتة، ولما رأى العالم المذكور ذلك قوى إيمانه بالله وبالآخرة وانحاز إلى العبادة. وأقبل على الدين بكليته، وبالجملة فالناصور لا علاج له إلا بالعمل باليد والشفاء منه معجزة. وهذه الواقعة التي نقلتها النصارى مما لا يمكن القدح فيها والوجه أن المرأة المذكورة كانت مستضعفة معذورة في دينها توجهت إلى الله وتوسلت بنبي من أنبيائه واقتضى اللطف الإلهي إجابتها برحمته العامة. ولا ينافي ذلك كون دينها منسوخا واعتقادها باطلا واقعا. (ش)

تعالى بغير احتساب».

* الأصل:

12 - علي، عن علي بن الحسين اليماني، قال: كنت ببغداد فتهيأت قافلة لليمانين فأردت الخرج معها، فكتبت ألتمس الإذن في ذلك، فخرج: لا تخرج معهم فليس لك في الخروج معهم خيرة وأقم بالكوفة، قال: وأقمت وخرجت القافلة فخرجت عليهم حنظلة فاجتاحتهم وكتبت أستأذن ركوب الماء، فلم يؤذن لي، فسألت عن المراكب التي خرجت في تلك السنة في البحر فما سلم منها مركب، خرج عليها القوم من الهند يقال لهم: البوارح، فقطعوا عليها، وزرت العسكر فأتيت الدرب مع المغيب ولم اكلم أحدا ولم أتعرف إلى أحد وأنا اصلي في المسجد بعد فراغي من الزيارة إذا بخادم قد جاءني فقال لي: قم فقلت له: إذن إلى أين؟ فقال لي: إلى المنزل، قلت:

ومن أنا لعلك ارسلت إلى غيري، فقال: لاما ارسلت إلا إليك أنت علي بن الحسين رسول جعفر بن إبراهيم، فمر بي حتى أنزلني في بيت الحسين بن أحمد ثم ساره، فلم أدر ما قال له، حتى آتاني جميع ما أحتاج إليه وجلست عنده ثلاثة أيام واستأذنته في الزيارة من داخل فأذن لي فزرت ليلا.

* الشرح:

قوله (فخرجت عليهم حنظلة فاجتاحتهم) الجوح الاستيصال، جحت الشئ أجوحه ومنه الجائحة، وهي الشدة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة يقال: جاحتهم الجائحة واجتاحتهم، وجاح الله ماله وأجاحه بمعنى أي أهلكه بالجائحة، وحنظلة أكرم قبيلة في تميم يقال لهم: حنظلة الأكرمون وأبوهم حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم.

قوله (يقال لهم: البوارح) في كثير من النسخ بالحاء المهملة سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون الجبال والبراري، وفي بعض النسخ بالجيم سموا بذلك لبياض عيونهم وسواد ألوانهم.

قوله (رسول جعفر بن إبراهيم) في كتاب كمال الدين رسول جعفر بن إبراهيم اليماني.

قوله (واستأذنته في الزيارة من داخل) أي من داخل البيت لأن الإمامين (عليهما السلام) دفنا فيه، وكانوا لا يدخلون فيه إلا بالإذن واليوم لا يخلو من إشكال.

* الأصل:

13 - الحسن بن الفضل بن يزيد اليماني قال: كتب أبي بخطه كتابا فورد جوابه ثم كتبت بخطي فورد جوابه، ثم كتب بخطه رجل من فقهاء أصحابنا، فلم يرد جوابه فنظرنا فكانت العلة أن الرجل تحول قرمطيا، قال الحسن بن الفضل: فزرت العراق ووردت طوس وعزمت أن لا أخرج إلا عن بينة من أمري ونجاح من حوائجي ولو احتجت أن اقيم بها حتى أتصدق قال: وفي خلال ذلك يضيق

ص:344

صدري بالمقام وأخاف أن يفوتني الحج قال: فجئت يوما إلى محمد بن أحمد أتقاضاه فقال لي:

صر إلى مسجد كذا وكذا وإنه يلقاك رجل، قال: فصرت إليه فدخل علي رجل فلما نظر إلي ضحك وقال: لا تغتم فإنك ستحج في هذه السنة وتنصرف إلى أهلك وولدك سالما، قال: فاطمأننت وسكن قلبي، وأقول: ذا مصداق ذلك والحمد لله، قال: ثم وردت العسكر فخرجت إلي صرة فيها دنانير وثوب فاغتممت وقلت في نفسي: جزائي عند القوم هذا واستعملت الجهل فرددتها وكتبت رقعة ولم يشر الذي قبضها مني علي بشيء ولم يتكلم فيها بحرف ثم ندمت بعد ذلك ندامة شديدة وقلت في نفسي: كفرت بردي على مولاي وكتبت رقعة أعتذر من فعلي وأبوء بالإثم وأستغفر من ذلك وأنفذتها وقمت أتمسح فأنا في ذلك افكر في نفسي وأقول إن ردت علي الدنانير لم أحلل صرارها ولم أحدث فيها حتى أحملها إلى أبي فانه أعلم مني ليعمل فيها بما شاء، فخرج إلى الرسول الذي حمل إلي الصرة: أسأت إذ لم تعلم الرجل أنا ربما فعلنا ذلك بموالينا وربما سألونا ذلك يتبركون به، وخرج إلي: أخطأت في ردك برنا فإذا استغفرت الله، فالله يغفر لك، فأما إذا كانت عزيمتك وعقد نيتك ألا تحدث فيها حدثا ولا تنفقها في طريقك، فقد صرفناها عنك فأما الثوب فلابد منه لتحرم فيه، قال: وكتبت في معنيين وأردت أن أكتب في الثالث وامتنعت منه مخافة أن يكره ذلك: فورد جواب المعنيين والثالث الذي طويت مفسرا والحمد لله، قال: وكنت وافقت جعفر بن إبراهيم النيسابوري بنيسابور على أن أركب معه وازامله فلما وافيت بغداد بدا لي فاستقلته وذهبت أطلب عديلا، فلقيني ابن الوجنا، بعد أن كنت صرت إليه وسألته أن يكتري لي فوجدته كارها، فقال لي: أنا في طلبك وقد قيل لي: إنه يصحبك فأحسن معاشرته واطلب له عديلا وأكتر له.

* الشرح:

قوله (فنظرنا فكانت العلة أن الرجل تحول قرمطيا) قيل: القرامطة طائفة يقولون بإمامة محمد ابن إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام) ظاهرا وبالإلحاد وإبطال الشريعة باطنا لأنهم يحللون أكثر المحرمات ويعدون الصلاة عبارة عن طاعة الإمام والزكاة عبارة عن أداء الخمس إلى الإمام، والصوم عبارة عن إخفاء الأسرار والزنا عبارة عن إفشائها، وسبب تسميتهم بهذا الاسم أنه كتب في بداية الحال واحد من رؤسائهم بخط مقرمط فنسبوه إلى القرمطي، والقرامطة جمعه.

قوله (فزرت العراق وزرت طوس وعز من أن لا أخرج) ليس المراد أن زيارة طوس بعد زيارة العراق وأنه عزم أن لا يخرج من طوس بل المراد زار طوس وزار العراق، وعزم أن لا يخرج من

ص:345

العراق وهو بغداد إلا عن بينة من أمره ونجاح من حوائجه وهي علمه بوجود صاحب الأمر، والذي يدل على ذلك ما ذكره الصدوق في كتاب كمال الدين في هذا الحديث قال (يعني الحسن بن الفضل): وضاق صدري ببغداد في مقامي فقلت: أخاف أن لا أحج في هذه السنة ولا أنصرف إلى منزلي، وقصدت أبا جعفر اقتضيها جواب رقعة كتبتها فقال: صر إلى المسجد الذي في مكان كذا وكذا فإنه يجيئك رجل يخبرك بما تحتاج إليه، فقصدت المسجد وأنا فيه إذ دخل علي رجل فلما نظر إلي سلم وضحك وقال لي: ابشر فإنك ستحج في هذه السنة وتنصرف إلى أهلك سالما إن شاء الله.

قوله (حتى أتصدق) على صيغة المجهول أي حتى أخذ الصدقة لشدة الفقر والحاجة، وفيه مبالغة لقصد الإقامة.

قوله (بالمقام) في بغداد.

قوله (فجئت يوما إلى محمد بن أحمد أتقاضاه) أي أتقاضاه جواب رقعة كتبتها إلى الصاحب (عليه السلام) قيل: وفي إرشاد المفيد كان محمد بن أحمد السفير يومئذ.

قوله (وأقول: ذا مصداق ذلك) أي هذا الذي قال: أو رأيته مصداق ذلك الذي قصدته من التوفيق للحج في هذه السنة والرجوع إلى الأهل أو رؤية صاحب الأمر والعلم بوجوده.

قوله (وقلت في نفسي: جزائي عند القوم هذا) أي يعطوني شيئا لأجل الفاقة وفي كتاب كمال الدين: «وقلت في نفسي: أنا عندهم بهذه المنزلة فأخذتني العزة ثم ندمت بعد ذلك وكتبت رقعة اعتذر ودخلت الخلاء وأنا أحدث نفسي وأقول: والله لئن ردت إلي الصرة لم أحلها ولم أنفقها حتى أحملها إلى والدي... إلى آخره».

قوله (فقمت أتمسح) أي قمت أسير في الأرض وأقطعها وأمشي فيها يقال: مسح الأرض إذا قطعها، ويمسحها إذا ذرعها، ومسح يومه إذا سار، أو قمت أتوضأ، يقال: تمسح إذا توضأ أو قمت أمر اليد على اللحية أو غيرها يقال: مسح إذا أمر اليد على الشيء.

قوله (لم أحلل صرارها) إصرار بالكسر خيط يشد به رأس الصرة ونحوها تقول: صرت الصرة إذا شددتها بالصرار.

قوله (فخرج إلى الرسول الذي حمل إلى الصرة: أسأت) الظاهر أن أسأت فاعل خرج باعتبار هذا اللفظ، وقد أدب (عليه السلام) كل واحد من الرسول والمرسل إليه بما يليق به، وفيه دلالة على قبح رد بر الصلحاء، وأنه معصية يفتقر إلى الاستغفار.

قوله (وذهبت أطلب عديلا فلقيني ابن الوجنا بعد أن كنت صرت إليه) أبو محمد بن الوجنا من

ص:346

نصيبين وهو ممن وقف على معجزات صاحب الزمان صلوات الله عليه كما صرح به الصدوق في كتاب كمال الدين. والمقصود أنه بعد الاستقالة صار إلى ابن الوجنا أولا وطلب أن يكتري له ويطلب له عديلا فوجده كارها لذلك وأبى أن يقبل منه ذلك، ثم ذهب ليطلب عديلا فلقيه ابن الوجنا في الطريق فقال له: أنا في طلبك، وقد قيل لي - والقايل صاحب الزمان (عليه السلام) -: إنه - يعني الحسن - يصحبك، والخطاب لابن الوجنا، وكذا الخطاب في قوله: فأحسن واطلب، والضمير في معاشرته وله للحسن، وفي كتاب كمال الدين «قال الحسن بن الفضل: قصدت ابن وجنا أسأله أن يكتري لي ويرتاد لي عديلا فرأيته كارها ثم لقيته بعد أيام فقال لي: أنا في طلبك منذ أيام قد كتب إلي أن أكتري لك وأرتاد لك عديلا، ابتداء.

* الأصل:

14 - علي بن محمد، عن الحسن بن عبد الحميد قال: شككت في أمر حاجز، فجمعت شيئا ثم صرت إلى العسكر، فخرج إلي: ليس فينا شك ولا فيمن يقوم مقامنا بأمرنا، رد ما معك إلى حاجز بن يزيد.

* الشرح:

قوله (قال شككت في أمر حاجز) هل هو من وكلاء صاحب الزمان أم لا؟ وهذه الرواية دلت على أنه من وكلائه كما دل عليه ما ذكره الصدوق في كتاب كمال الدين قال: حدثنا محمد بن محمد الخزاعي رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو علي الأسدي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي أنه ذكر عدد من انتهى إليه ممن وقف على معجزات (1) صاحب الزمان صلوات الله عليه ورآه من الوكلاء ببغداد العمري وابنه وحاجز إلى آخر ما ذكره.

ص:347


1- 1 - قوله «ممن وقف على معجزات» المنقول من معجزات صاحب الزمان (عليه السلام) كثير بحيث يمتنع عادة تواطؤ ناقليها على الكذب وهذا هو الذي يعتمد عليه في باب المعجزات فإنه من اصول الدين لا يكتفى فيه بالظن، والخبر الواحد وإن كان صحيحا في اصطلاح أهل الحديث لا يفيد غير الظن ولذلك كان مبنى علمائنا على تكثير النقل ليحصل التواتر ولم ينظروا في الأسناد كثيرا، ولا يضر كون أسناد بعضها ضعيفا أو مجهولا فإن ذلك غير قادح في التواتر، ولا نشك في أن الشيعة في عصر الكافي وقبله كانوا يعتقدون في الإمام معجزات ولا يعترفون بإمامة أحد إلا إذا ثبت لديهم دلائل إمامته ونعلم أنهم مع كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها مجمعون على أنهم رأوا من دلائل إمامته عجل الله فرجه ما أقنعهم فما نقل في الكتب مؤيد بالعلم بعادة الشيعة واعتقادهم وإجماعهم، ولولا ذلك لم يكن يودع صاحب الكافي وهو في عصره (عليه السلام) هذه المعجزات ولم يكن يقبل منه الشيعة ولنسبوه إلى الغلو والتخليط وأمثالهما فقبولهم للكافي دليل على أنه يوافق ما رأوا واعتقدوا. وأيضا روى في الكافي معجزات يطلع عليها الشيعة جميعهم إن كانت واقعة كما يأتي إن شاء الله (ش).

* الأصل:

15 - علي بن محمد، عن محمد بن صالح قال: لما مات أبي وصار الأمر لي، كان لأبي على الناس سفاتج من مال الغريم، فكتبت إليه اعلمه فكتب: طالبهم واستقض عليهم فقضاني الناس إلا رجل واحد كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار فجئت إليه اطالبه فماطلني واستخف بي ابنه وسفه علي، فشكوت إلى أبيه فقال: وكان ماذا؟ فقبضت على لحيته وأخذت برجله وسحبته إلى وسط الدار وركلته ركلا كثيرا، فخرج ابنه يستغيث بأهل بغداد ويقول: قمي رافضي قد قتل والدي، فاجتمع علي منهم الخلق فركبت دابتي وقلت: أحسنتم يا أهل بغداد تميلون مع الظالم على الغريب المظلوم، أنا رجل من أهل همدان من أهل السنة وهذا ينسبني إلى أهل قم والرفض ليذهب بحقي ومالي، قال: فمالوا عليه وأرادوا أن يدخلوا على حانوته حتى سكنتهم وطلب إلي صاحب السفتجة وحلف بالطلاق أن يوفيني مالي حتى أخرجتهم عنه.

* الشرح:

قوله (عن محمد بن صالح) عد الصدوق بإسناده السابق محمد بن صالح الهمداني ممن وقف على معجزاته ورآه (عليه السلام) وكان من وكلائه ببغداد.

قوله (وصار الأمر لي كان لأبي على الناس سفاتج من مال الغريم) المراد بالأمر الوكالة.

والسفاتج جمع السفتجة بضم السين وفتح التاء وهي كما صرح به في كنز اللغة دستك ودفتر (1) والغريم من له الدين، والمراد به صاحب الزمان (عليه السلام).

ص:348


1- 1 - قوله «دستك ودفتر» قال في منتهى الإرب (سفتجه بالفتح دادن مال خودرا بشخصى درجائى وگرفتن آن مال را از آن در شهر خود) ويقرب منه كلام (برهان قاطع) في لغة سفته بالفارسية وهو الصحيح المراد هنا فإن هذا الرجل الذي قبض محمد بن صالح على لحيته وأخذ برجله وسحبه وسط الدار وركله لم يكن من الشيعة الإمامية الذين يعطون سهم الإمام باختيارهم بل كان من تجار المخالفين ساكنا في بغداد وقد أحال عليه بعض الشيعة من بلاد خراسان أو غيرها مالا ليؤدي إلى وكيل الناحية فماطل، ويمكن أن يسأل هنا عن حجية المكتوب وجواز المطالبة به. والجواب انه لا حجة في القرطاس من حيث هو قرطاس مكتوب ولا يثبت به الدين في المحاكم الشرعية ولا في غير المحاكم إذا شك في صحته وإنما الدليل الشهود العدول إذا شهدوا لفظا وفائدة الكتابة شيئان: الأول ذكر الحق كما يسمونها به فإن اقترن بقرائن ذكر الحق يقينا وجب على المديون أداؤه كما هو الغالب، والثاني أن التجار غالبا يلتزمون بالاقرار إذا كان لأحد عليهم دين ليزيد اعتبارهم في الناس ويستودعوهم الأموال ويرسلوا إليهم الأمتعة ولولا الأمانة لضاعت التجارة وركدت وضاعت الأسواق وعادة الناس أن يثقوا بكتابات التجار وأوراق السفاتج والبروات اعتمادا على أمانتهم لا أنهم إذا أنكروا الحق ورضوا بأن يقام عليهم الدعوى في المحاكم ويشتهروا بالخيانة ولم يبالوا بسقوط اعتبارهم بين الناس كان للقاضي أن يلزمهم بالسفاتج من غير إقرار وإقامة شهود. (ش)

قوله (واستقض عليهم) بالضاد المعجمة أو بالصاد المهملة على احتمال.

قوله (واستخف بي ابنه وسفه على) يقال استخف به أي أهانه وسفه عليه إذا اضطرب وطاش واسمع مالا ينبغي من الكلام.

قوله (وكان ماذا) ماذا بمعنى أي شيء أي أي شيء كان، أوما بمعنى أي شيء وذا بمعنى الذي أي شيء الذي كان وعلى التقديرين ليس المقصود استعلام ما وقع بل استحقاره مع الرمز بأنك تستحق أكثر من ذلك.

قوله (وسحبته إلى وسط الدار وركلته) يقال: سحبته فإنسحب أي جررته فانجر وركلته أركله من باب نصر أي ضربته بالرجل الواحدة.

قوله (حتى أخرجتهم عنه) أي عن ذلك الرجل أو عن حانوته لئلا يؤذوه والحانوت يذكر ويؤنث.

* الأصل:

16 - علي، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن الحسن والعلاء بن رزق الله، عن بدر غلام أحمد ابن الحسن قال: وردت الجبل وأنا لا أقول بالإمامة احبهم جملة إلى أن مات يزيد بن عبد الله فأوصى في علته أن يدفع الشهري السمند وسيفه ومنطقته إلى مولاه، فخفت إن أنا لم أدفع الشهري إلى إذ كوتكين نالني منه استخفاف، فقومت الدابة والسيف والمنطقة بسبعمائة دينار في نفسي ولم اطلع عليه أحدا فإذا الكتاب قد ورد علي من العراق: وجه السبعمائة دينار التي لنا قبلك من ثمن الشهري والسيف والمنطقة.

* الشرح:

قوله (أن يدفع الشهري السمند) الشهرية بالكسر ضرب من البراذين، والسمند من الخيل معروف.

* الأصل:

17 - علي، عمن حدثه قال: ولد لي ولد فكتبت أستأذن في طهره يوم السابع فورد: لا تفعل، فمات يوم السابع أو الثامن، ثم كتبت بموته فورد: ستخلف غيره وغيره تسميه أحمد ومن بعد أحمد جعفرا، فجاء كما قال، قال: وتهيأت للحج وودعت الناس وكنت على الخروج فورد: نحن لذلك كارهون والأمر إليك، قال: فضاق صدري واغتممت وكتبت أنا مقيم على السمع والطاعة غير أني مغتم بتخلفي عن الحج فوقع: لا يضيقن صدرك فإنك ستحج من قابل إن شاء الله، قال:

ص:249

ولما كان من قابل كتبت أستأذن، فورد الإذن فكتبت: إني عادلت محمد بن العباس وأنا واثق بديانته وصيانته، فورد: الأسدي نعم العديل. فإن قدم فلا تختر عليه، فقدم الأسدي وعادلته.

* الشرح:

قوله (فورد: الأسدي نعم العديل) عده الصدوق في كمال الدين من الوكلاء الذين وقفوا على معجزات صاحب الزمان ورواه، وهو محمد بن جعفر بن عون الأسدي الكوفي ساكن الري (1).

* الأصل:

18 - الحسن بن علي العلوي قال: أودع المجروح مرداس بن علي مالا للناحية وكان عند مرداس مال لتميم بن حنظلة فورد على مرداس: أنفذ مال تميم مع ما أودعك الشيرازي.

* الشرح:

قوله (أودع المجروح مرداس بن علي مالا) عد الصدوق - ره - في كتاب كمال الدين المجروح الشيرازي، ومرداس بن على القزويني ممن وقف على معجزات صاحب الزمان صلوات الله عليه ورآه من غير الوكلاء.

* الأصل:

19 - علي بن محمد، عن الحسن بن عيسى العريضي أبي محمد قال: لما مضى أبو محمد (عليه السلام) ورد رجل من أهل مصر بمال إلى مكة للناحية فاختلف عليه فقال بعض الناس: إن أبا محمد (عليه السلام) مضى من غير خلف والخلف جعفر وقال بعضهم: مضى أبو محمد عن خلف، فبعث رجلا يكنى بأبي طالب فورد العسكر ومعه كتاب، فصار إلى جعفر وسأله عن برهان، فقال: لايتهيأ في هذا الوقت، فصار إلى الباب وأنفذ الكتاب إلى أصحابنا فخرج إليه: آجرك الله في صاحبك، فقد مات، وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة ليعمل فيه بما يحب وأجيب عن كتابه.

* الشرح:

قوله (ورد رجل من أهل مصر) قال الصدوق - ره - ممن وقف على معجزات صاحب الزمان صلوات الله عليه ورآه من أهل مصر من غير الوكلاء صاحب المال بمكة ولعله هذا الرجل.

قوله (والخلف جعفر) وهو جعفر الكذاب أخو أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام).

قوله (فصار إلى جعفر وساله عن برهان - إلى آخر الحديث) لعل المراد بالباب باب القايم (عليه السلام) وبالأصحاب الوكلاء ويحتمل أن يراد بالباب الوكيل، وبالأصحاب خلص الشيعة والمراد بصاحبك صاحب المال بمكة، أقول: أمثال ذلك كثيرة منها ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن على بن

ص:350


1- 1 - قوله «ساكن الري» ومات سنة 312 على ما في النجاشي.

سنان الموصلي، عن أبيه قال: لما قبض أبو محمد (عليه السلام) وفد من قم والجبال وفود بالأموال فلما وصلوا إلى سر من رأى وعلموا أنه (عليه السلام) مات سألوا عن وارثه فقالوا: أخوه جعفر بن علي فسألوا عنه فقيل لهم: إنه خرج متنزها وركب زورقا في الدجلة يشرب، ومعه المغنون.

قال: فتشور القوم وقالوا: ليست هذه صفات الإمام، وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا لنرد هذه الأموال على أصحابها فقال أبو العباس أحمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره على الصحة فلما انصرف دخلوا عليه فسلموا عليه وقالوا: يا سيدي نحن قوم من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها وكنا نحمل إلى سيدنا أبى محمد (عليه السلام) الأموال فقال:

وأين هي؟ قالوا: معنا، قال: احملوا إلي، قالوا: لا إن لهذه الأموال خبرا وطريقا فقال: وما هو؟ قالوا:

إن هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامة الشيعة الدينار، والديناران. ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليها، وكنا إذا وردنا بالمال قال: سيدنا أبو محمد (عليه السلام): جملة المال كذا وكذا دينارا من فلان كذا ومن فلان كذا حتى يأتي على أسماء الناس كلهم، ويقول ما على الخواتيم من نقش.

فقال جعفر: كذبتم تقولون على أخي ما لم يفعله هذا علم الغيب قال: فلما سمع القوم كلام جعفر جعل ينظر بعضهم إلى بعض فقال لهم: احملوا هذا المال إلي فقالوا: إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا أبي محمد (عليه السلام)، فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلا رددناها إلى أصحابها يرون فيها رأيهم قال: فدخل جعفر على الخليفة وكان بسر من رأى فاستعدى عليهم فلما حضروا قال الخليفة: احملوا هذا المال إلى جعفر قالوا: أصلح الله أمير المؤمنين إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال وهي لجماعة أمرونا أن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة قد جرت بهذه العادة مع أبى محمد (عليه السلام) فقال الخليفة: وما الدلالة التي لأبي محمد؟ قال القوم: كان يصف الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي فإذا فعل ذلك سلمناها إليه، وقد وفدنا مرارا فكانت هذه علامتنا ودلالتنا وقد مات فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيم لنا أخوه وإلا رددناها إلى أصحابها فقال: جعفر: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب فقال الخليفة: القوم رسل وما على الرسول إلا البلاغ المبين قال: فبهت جعفر ولم يحر جوابا فقال القوم: يتطول أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى من يبدر معنا حتى نخرج من هذه البلدة قال: فأمرهم بنقيب فأخرجهم منها.

فلما أن خرجوا منها خرج عليهم غلام أحسن الناس وجها كأنه خادم فنادى يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم، فقال له: أنت مولانا قال: معاذ الله أنا عبد مولاكم فسيروا إليه قالوا:

فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عليه السلام) فإذا ولده (عليه السلام) قاعد على سرير كأنه فلقة القمر

ص:351

عليه ثياب خضر فسلمنا عليه فرد علينا السلام ثم قال: جملة المال كذا وكذا دينارا حمل فلان كذا، وفلان كذا; لم يزل يصف حتى وصف الجميع ثم وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدواب فخررنا سجدا لله عز وجل شكرا لما عرفنا وقبلنا الأرض بين يديه ثم سألناه عما أردنا وأجاب فحملنا إليه الأموال، وأمرنا القايم (عليه السلام) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئا فإنه ينصب لنا ببغداد رجلا تحمل إليه الأموال، وتخرج من عنده التوقيعات فانصرفنا من عنده ودفع إلى أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئا من الحنوط والكفن وقال له: أعظم الله أجرك في نفسك.

قال: فما بلغ أبو العباس عقبة همدان حتى توفي - رحمه الله - وكان بعد ذلك تحمل الأموال إلى بغداد إلى النواب المنصوبين بها وتخرج من عندهم التوقيعات، ثم قال الصدوق: هذا الخبر يدل على أن الخليفة كان يعرف هذا الأمر (1) كم هو وأين موضعه، ولهذا كف عن القوم وعما معهم من الأموال ودفع جعفر الكذاب عنهم، ولم يأمرهم بتسليمها إليه إلا إنه كان يجب أن يخفى هذا الأمر ولا يظهر لئلا يهتدى إليه الناس فيعرفوه. أقول إنما لم يؤاخذ الخليفة هؤلاء القوم، ولم يؤذهم ولم يفتش حال من بعث الأموال مع شدة عداوته لمظهري هذا الأمر لأن الله تعالى قد يجعل عدوه شفيقا على أوليائه كما جعل فرعون شفيقا على كليمه موسى (عليه السلام).

* الأصل:

20 - علي بن محمد قال: حمل رجل من أهل آبة شيئا يوصله ونسي سيفا بآبة. فأنفذ ما كان معه فكتب إليه: ما خبر السيف الذي نسيته؟

* الشرح:

قوله (من أهل آبة) هي قرية قرب ساوة، وبلد بإفريقية، وفي الحديث ثلاث آيات: الإخبار بأنه كان في المال سيف، وبأنه لم يجئ به، وبأن سببه هو النسيان.

* الأصل:

21 - الحسن بن خفيف، عن أبيه قال: بعث بخدم إلى مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومعهم خادمان وكتب إلى خفيف أن يخرج معهم فخرج معهم فلما وصلوا إلى الكوفة شرب أحد الخادمين مسكرا فما

ص:352


1- 1 - قوله «كان يعرف هذا الأمر» ذكرنا سابقا أن بناء الخلفاء كان على المساهلة مع الشيعة الإمامية بعد الرضا (عليه السلام) فإنهم علموا أن مذهب الإمامية ليس مما يعارض بالسيف وأن أئمتهم لن يتوثبوا على ملكهم ولن يعارضوا معهم في دنياهم قبل ظهور الفرج وكان الخليفة في مبدء الغيبة بعد رحلة العسكري (عليه السلام) المعتمد على الله والغالب على الأمر أخوه الموفق ومع ذلك كانوا يفحصون عن الإمام الثاني عشر (عليه السلام) وموضعه كما يأتي إن شاء الله. (ش)

خرجوا من الكوفة حتى ورد كتاب من العسكر برد الخادم الذي شرب المسكر وعزل عن الخدمة.

* الأصل:

22 - علي بن محمد، عن [أحمد بن] أبي علي بن غياث، عن أحمد بن الحسن قال: أوصى يزيد بن عبد الله بدابة وسيف ومال وأنفذ ثمن الدابة وغير ذلك ولم يبعث السيف فورد: كان مع ما بعثتهم سيف فلم يصل - أو كما قال -.

* الشرح:

قوله (أو كما قال) ردد الراوي لعدم علمه قطعا بأن المكتوب هو العبارة المذكورة وجوز أن يكون عبارة اخرى تؤدي مؤداها.

* الأصل:

23 - علي بن محمد، عن محمد بن علي بن شاذان النيسابوري قال: اجتمع عندي خمسمائة درهم تنقص عشرين درهما فأنفت أن أبعث بخمسمائة تنقص عشرين درهما فوزنت من عندي عشرين درهما وبعثتها إلى الأسدي ولم أكتب مالي فيها، فورد: وصلت خمسمائة درهم، لك منها عشرون درهما.

* الأصل:

24 - الحسين بن محمد الأشعري قال: كان يرد كتاب أبي محمد (عليه السلام) في الاجراء على الجنيد قاتل فارس وأبي الحسن وآخر، فلما مضى أبو محمد (عليه السلام) ورد: استيناف من الصاحب لاجراء أبي الحسن وصاحبه ولم يرد في أمر الجنيد بشئ قال: فاغتممت لذلك فورد نعى الجنيد بعد ذلك.

* الشرح:

قوله (قاتل فارس) بدل من الجنيد (1) وهو فارس بن حاتم بن القزويني وكان غاليا ملعونا لعنه على بن محمد العسكري (عليه السلام).

* الأصل:

25 - علي بن محمد، عن محمد بن صالح قال: كانت لي جارية كنت معجبا بها فكتبت أستأمر في استيلادها. فورد: استولدها ويفعل الله ما يشاء، فوطئتها فحبلت ثم أسقطت فماتت.

ص:353


1- 1 - قوله «بدل عن الجنيد» والمقصود من الاجراء مال قرره الإمام (عليه السلام) للرجال الثلاثة المذكورين يوصل إليهم كل شهر أو كل سنة فلما قبض الإمام أبو محمد (عليه السلام) أمر الحجة بإجراء المقرر على رجلين منهم دون الجنيد لأنه مات. (ش)

* الأصل:

26 - علي بن محمد قال: كان ابن العجمي جعل ثلثه للناحية وكتب ذلك وقد كان قبل إخراجه الثلث دفع مالا لابنه أبي المقدام، لم يطلع عليه أحد. فكتب إليه: فأين المال الذي عزلته لأبي المقدام.

* الشرح:

قوله (فأين المال الذي عزلته لأبي المقدام؟) يعنى أين ثلثه فإن اللازم عليه كان ثلث جميع المال، ولم يخرج ثلث ما دفعه إلى ابنه.

* الأصل:

27 - علي بن محمد، عن أبي عقيل عيسى بن نصر قال: كتب علي بن زياد الصيمري يسأل كفنا، فكتب إليه: إنك تحتاج إليه في سنة ثمانين، فمات في سنة ثمانين وبعث إليه بالكفن قبل موته بأيام.

* الأصل:

28 - علي بن محمد، عن محمد بن هارون بن عمران الهمداني قال: كان للناحية علي خمسمائة دينار فضقت بها ذرعا، ثم قلت في نفسي: لي حوانيت اشتريتها بخمسمائة وثلاثين دينارا قد جعلتها للناحية بخمسمائة دينار، ولم أنطق بها، فكتب إلى محمد بن جعفر: اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمائة دينار التي لنا عليه.

* الشرح:

قوله (فضقت بها ذرعا) أي ضاق ذرعي به وضعفت طاقتي وقوتي عنه، ولم أجد منه مخلصا، وأصل الذرع إنما هو بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، والحوانيت جمع الحانوت، وهو الدكان.

* الأصل:

29 - علي بن محمد قال: باع جعفر فيمن باع صبية جعفرية كانت في الدار يربونها، فبعث بعض العلويين وأعلم المشتري خبرها فقال المشترى: قد طابت نفسي بردها وأن لا أرزأ من ثمنها شيئا، فخذها، فذهب العلوي فأعلم أهل الناحية الخبر فبعثوا إلى المشترى بأحد وأربعين دينارا وأمروه بدفعها إلى صاحبها.

* الشرح:

ص:354

قوله (قال: باع جعفر) ليس في هذا الخبر شيء من العلامات ولعل الغرض من ذكره بيان حال جعفر الكذاب، ومخالفته لأمر الله تعالى وغصبه لحق المعصوم اللهم إلا أن يقال فاعل بعث هو الصاحب (عليه السلام).

قوله (وأن لا أرزأ من ثمنها شيئا) الواو إما بمعنى مع أو للحال أو للعطف على ردها ولا أرزأ على صيغة المجهول من الرزء وهو النقص يقال ما رزأته ماله وما رزأته ماله أي ما نقصته، وارتزأ الشيء انتقص.

قوله (وأمروه بدفعها إلى صاحبها) أراد بصاحبها من يكفلها وينظر في أمرها.

* الأصل:

30 - الحسين بن الحسن العلوي قال: كان رجل من ندماء روز حسني وآخر معه فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء وسموا جميع الوكلاء في النواحي وأنهى ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير (1)، فهم الوزير بالقبض عليهم فقال السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل فإن هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا ولكن دسوا لهم قوما لا يعرفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئا قبض عليه، قال: فخرج بأن يتقدم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئا وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر، فاندس لمحمد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به فقال: معي مال اريد أن اوصله، فقال له محمد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئا، فلم يزل يتلطفه ومحمد يتجاهل عليه، وبثوا الجواسيس وامتنع الوكلاء كلهم لما كان تقدم إليهم.

* الشرح:

قوله (دسوا لهم قوما) الدس الإخفاء تقول: دسست الشئ في التراب إذا أخفيته فيه والدسيس إخفاء المكر.

* الأصل:

31 - علي بن محمد قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير [ة] فلما كان بعد أشهر دعا

ص:355


1- 1 - قوله: «عبيد الله بن سليمان الوزير» كان وزير المعتضد واستوزر بعده ابنه القاسم بن عبيد الله وقتل سنة 291 وهو الذي قيل فيه: لابد للنفس من سجود * في زمن القرد للقرود هبت لك الريح يا ابن وهب * فخذ لها أهبة الركود و وهب اسم جده. وهذا الذي نقله الكافي واقعة لو كانت كما نقل اطلع عليها جميع الشيعة والوكلا وولا تجرأ أحد على نقل مثله كذبا كما لو نقل أحد ما يطلع عليه الناس جميعا كقحط وخصب وزلزلة وطوفان وحكم سلطاني عام وكذلك الخبر الآتي من نهى الناس عن زيارة مقابر قريش والحير. (ش)

الوزير الباقطائي (1) فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش فقد أمر الخليفة أن يتفقد كل من زار فيقبض [عليه].

* الشرح:

قوله (والحير) الحير كربلا كالحاير.

قوله (الق بني الفرات والبرسيين) قال الفيروزآبادي البرس قرية بين الكوفة والحلة، وقال ابن الأثير: برس أجمة معروفة بالعراق وهي الآن قرية، وأما بنو الفرات فقيل هم كانوا رهط الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات من وزراء بني العباس، وهو الذي صحح طريق الخطبة الشقشقية (2) إلى أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) قبل الرضي رحمه الله.

ص:356


1- 1 - قوله «الباقطائي» منسوب إلى باقطايا قرية من قرى بغداد كان كاتبا من كتاب الوزير، وقال الياقوت في معجم البلدان بعد ذكر باقطايا منها الحسين بن علي الأديب الكاتب أو نحوه وبنو الفرات قوم معروفون تصدوا للوزارة وذكرهم وارد في أكثر الكتب لا حاجة إلى نقله ولا ريب أن الوزير كان نفسه من بني الفرات أراد بذلك حفظ عشيرته الشيعيين. (ش)
2- 2 - قوله «وهو الذي صحح طريق الخطبة الشقشقية» قال الحكيم الفاضل ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة: قد وجدتها - يعني الحطبة الشقشقية - في موضعين تاريخهما قبل مولد الرضي بمدة: أحدهما أنها مضمنة كتاب الإنصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة وكانت وفاته قبل مولد الرضي، الثاني أني وجدتها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وكان وزير المقتدر بالله وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة، والذي يغلب على ظني أن تلك النسخة كانت كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة إنتهى. وأقول: إنما ذكر ذلك لاستبعاد جماعة من أهل السنة أن يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) شكى ممن قبله ونسبوا تلك الخطبة إلى جعل الرضي رحمه الله وهي من الدعاوى التي دليل بطلانها الكلام وهذا الاسلوب فقد رأينا كلامه في نظمه ونثره لا يقرب من هذا الكلام ولا ينتظم في سلكه على أني قد رأيت هذه الخطبة بخطوط العلماء الموثوق بنقلهم من قبل أن يخلق أبو الرضي فضلا عنه. انتهى كلام ابن الخشاب. وأقول: قد مر في الصفحة 212 و 213 من هذا المجلد رواية عن صحيح مسلم صريحة في شكاية أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أبي بكر وقوله له: إنك استبددت علينا بالأمر فإذا جاز شكايته عن الأول وادعائه الأحقية بالخلافة منه جاز عن الثاني والثالث بالطريق الأولى وليس مسلم ممن يتهم في هذا الخبر وكأني رأيت نظيره في البخاري أيضا والله العالم، وأما الوزير أبو الفتح الفضل بن جعفر بن فرات الذي ذكره الشارح فكأنه اشتباه بأبي الحسن على بن محمد الذي ذكره ابن ميثم وابن ميثم هو الأصل في نقله وكان وزارة أبي الحسن علي في دولة المقتدر ثلاث مرات في زمان حياة الكليني رحمه الله، وأما أبو الفتح فضل بن جعفر فوزارته سنة وفاته وليس هو المراد من الوزير الذي يشير إليه قطعا. (ش)

باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (عليهم السلام)

*اصل:

(1) 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: أقبل أمير المؤمنين ومعه الحسن بن علي (عليهما السلام) وهو متكئ على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس، إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين، فرد عليه السلام فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهن علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما قضى عليهم وأن ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم وإن تكن الاخرى علمت أنك وهم شرع سواء، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): سلني عما بدا لك، قال:

أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟ فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن فقال: يا أبا محمد أجبه، قال:

فأجابه الحسن (عليه السلام) فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أشهد بها، وأشهد أن محمدا رسول الله ولم أزل أشهد بذلك، وأشهد أنك وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقائم بحجته - وأشار إلى أمير المؤمنين - ولم أزل أشهد بها وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته - وأشار إلى الحسن (عليه السلام) - وأشهد أن الحسين بن علي وصي أخيه والقائم بحجته بعده، وأشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده، وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن الحسين، وأشهد على جعفر بن محمد بأنه القائم بأمر محمد، وأشهد على موسى أنه القائم بأمر جعفر بن محمد، وأشهد على علي

ص:357


1- 1 - قوله «ما جاء في الاثني عشر» أما الاثنا عشر بغير تعيين الاسم فوارد في الروايات المتفق عليها بين الشيعة وأهل السنة فلا يضر ضعف إسناد ما روي في هذا الباب، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود في صحاحهم وأحمد بن حنبل في المسند عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بألفاظ مختلفة ومعنى واحد أن الأئمة بعده اثنا عشر ولا يزال الإسلام عزيزا ما داموا خليفة، وهذا من أقوى حجج الإمامية القائلين بإثني عشر إماما، والبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل رووا هذه الروايات وأدرجوها في كتبهم قبل أن يشتهر الإمامية بالاثني عشرية فإنهم كانوا في عهد الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) وكان تأليفهم قبل ولادة صاحب الأمر عجل الله فرجه فلا يحتمل أن يكون مجعولة مع أن ذكر الاثني عشر وارد في كتاب سليم ابن قيس الهلالي كما يأتي وإن كان نسبة الكتاب إلى سليم غير ثابتة بل ثابت العدم لكن لا ريب في وجود هذا الكتاب في عهد الصادق (عليه السلام) والمتهم بوضعه أبان بن أبي عياش كان قبل عصره (عليه السلام) فلا ريب في شهرة كون الأئمة اثنى عشر بين الرواة. (ش)

بن موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر، وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى، وأشهد على علي بن محمد بأنه القائم بأمر محمد بن علي وأشهد على الحسن بن علي بأنه القائم بأمر علي بن محمد وأشهد على رجل من ولد الحسن لا يكنى ولا يسمى حتى يظهر أمره فيملأها عدلا كما ملئت جورا، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم قام فمضى، فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد؟ فخرج الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال: ما كان إلا أن وضع رجله خارجا من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله؟ فرجعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلمته. فقال: يا أبا محمد أتعرفه؟ قلت: الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم، قال:

هو الخضر (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال: فأجابه الحسن (عليه السلام)) فقال: أما ما سألت عن أن الإنسان إذا نام أين تذهب روحه فإن روحه متعلقة بالريح وريحه متعلقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها للتيقظ فإن أذن الله عز وجل برد تلك الروح إلى صاحبها جذبت تلك الروح الريح، وجذبت تلك الريح الهواء، فرجعت الروح في بدنه وإن لم يأذن برد تلك الروح إلى صاحبها جذب الهواء الريح، وجذبت الريح الروح فلم ترد إلى صاحبها إلى يوم يبعث.

أقول: لعل المراد بالروح النفس الناطقة المجردة، فإن الروح الحيواني تبقى في البدن في حالة النوم، وبالريح القوة القدسية التي من شأنها إمالة النفس إلى عالم القدس أو القوة الشريرة التي من شأنها إمالتها إلى الهاوية وتعلق النفس بها كتعلق الموصوف بالصفة، وإطلاق الريح على القوة شائع لغة وعرفا. والهواء إن كان مقصورا وإن لم يوافقه رسم الخط فالمراد به الحب والميل إلى الجهة العالية أو الهاوية، وتعلق الريح به كتعلق السبب بالمسبب والمعنى أن الإنسان إذا نام وفارق النفس البدن فإن أذن الله تعالى برد تلك الروح إلى البدن جذبت تلك الروح من حيث هي أو من جهة القوة الشهوية أو العاملة الريح يعنى القوة المذكورة، وغلبت عليها في التجاذب، وجذبت تلك الريح الهواء فلا يتحقق أمره فرجعت الروح إلى البدن وسكنت فيه، وإن لم يأذن به صار الأمر بالعكس فيلحق إما بأهل الجنة أو بأهل النار، وإن كان ممدودا فالمراد الفضاء بين الأرض والسماء.

والمراد بتعلق الريح به كونها فيه وبجذبها إياه، مفارقتها عنه إلى البدن، وبجذبه إياها كونها فيه كما كان. هذا الذي ذكرناه على سبيل الاحتمال، والله أعلم بحقيقة الحال.

وقال (عليه السلام): وأما ما ذكرت من أمر الذكر والنسيان فإن قلب الرجل في حق وعلى الحق طبق فإن صلى عند ذلك على محمد وآل محمد صلاة تامة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق فأضاء

ص:358

القلب فذكر الرجل ما كان نسيه، وإن لم يصل على محمد وآل محمد ونقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق فأظلم الحق ونسي الرجل ما كان ذكره.

أقول: الحق - بالضم - جمع الحقة وهي معروفة، وفتح الحاء أيضا محتمل والطبق الغطاء، وفيه دلالة على أن الصلوات على النبي وآله صلوات الله عليهم والتوسل بهم سبب لإدراك الحق وانكشافه على القلب وتركها سبب لعدم إدراكه ونسيانه، وفي الأخبار تصريح بأن العلوم الحقة كلها من جهة حضرته المقدسة.

وقال (عليه السلام): وأما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله فإن الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن، وعروق هادئة وبدن غير مضطرب فأسكنت تلك النطف في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه وأمه، وإن هو أتاه بقلب غير ساكن، وعروق غير هادئة، وبدن مضطرب اضطربت تلك النطفة ووقعت في وقت اضطرابها على بعض العروق. فإن وقعت في عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه وإن وقع على عرق من عروق الأخوال أشبه الرجل أخواله.

أقول: الظاهر أن عروق الأعمام في الأب وعروق الأخوال في الام وأن السكون والاضطراب يوجدان في الام أيضا كما يوجدان في الأب وإنما الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون كلا العرقين في الام، ومن طريق العامة: إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه. ومن طريقهم الآخر: إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه. ومن طريق آخر: سأل النبي (صلى الله عليه وآله) حبر من أحبار اليهود عن الولد فقال (عليه السلام): ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر فإذا اجتمع فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل انث بإذن الله تعالى. قال بعضهم: معنى العلو الغلبة على الآخر ومعنى السبق الخروج أولا، وزعم بعضهم أن العلو علة شبه الأعمام والأخوال، والسبق علة للإذكار والإيناث ورد ذلك التفصيل بأنه جعل في حديث الحبر العلو علة الإذكار والإيناث وأجاب عنه الآبي بأن العلو في حديث الحبر بمعنى السبق إلى الرحم لأن ما علا سبق، ويتعين تفسيره بذلك فإنه في حديث المرأة جعل العلو علة شبه الأعمام والأخوال وجعله في حديث الحبر علة الإذكار والإيناث فلو أبقينا العلو في حديث الحبر على بابه لزم مقتضى الحديث أن يكون العلو علة في شبه الأعمام والأخوال وفي الإذكار والإيناث، ولا يصح لأن الحس يكذبه لأنا نشاهد الولد ذكرا ويشبه الأخوال، ووجه الجمع بين أحاديث الباب أن يكون الشبه المذكور في هذا الحديث يعنى به الشبه الأعم من كونه في التذكير والتأنيث وشبه الأعمام والأخوال والسبق إلى الرحم علة التذكير والتأنيث، ويخرج من مجموع ذلك أن الأقسام أربعة: إن سبق ماء الرجل وعلا اذكر وأشبه الولد

ص:359

أعمامه، وإن سبق ماء المرأة وعلا انث وأشبه الولد أخواله، وإن سبق ماء الرجل وعلا ماءها اذكر وأشبه الولد أخواله، وإن سبق ماء المرأة وعلا ماءه انث وأشبه الولد أعمامه.

قوله (قال: هو الخضر (عليه السلام)) هو حي موجود، ومن امة نبينا (عليه السلام)، وكان نبيا وله شغل في هذا العالم، قال العياض: قد اضطرب العلماء في الخضر (عليه السلام) هل هو نبي أو ولي؟ واحتج من قال بنبوته بكونه أعلم من موسى (عليه السلام) إذ يبعد أن يكون الولي أعلم من النبي، وبقوله تعالى: (ما فعلته عن أمري) لأنه إذا لم يفعله بأمره فقد فعله بالوحي، وهذه هي النبوة، واجيب بأن ليس في الآية تعيين من بلغه ذلك عن الله تعالى فيحتمل أن يكون نبي غيره أمره بذلك، وقال المازري: القائل بأنه ولي القشيري وكثير.

وقال الشعبي: هو نبي معمر محجوب عن أكثر الناس، وحكى الماوردي فيه قولا ثالثا أنه ملك، قيل: والقائلون بأنه نبي اختلفوا في كونه مرسلا، فإن قلت: يضعف القول بنبوته بحديث «لا نبي بعدي» قلت: المعنى لا نبوة منشؤها بعدى والا لزم في عيسى (عليه السلام) حين ينزل فإنه بعده أيضا هذا كلامه.

وقال الثعلبي: قد اختلف فقيل كان في زمن إبراهيم (عليه السلام)، وقيل: بعده بقليل، وقيل: بعده بكثير، وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن، وقال بعضهم: جمهور العلماء الصالحين على أنه حي وحكايات اجتماعهم به في مواضع الخير وأخذهم منه وسؤالهم عنه وجوابه لهم لا تحصى كثرة، وشذ بعض المحدثين فأنكر حياته. انتهى كلامه.

وقال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: هو حي وحياته الطويلة جائزة، وفيه حكايات لا تحصى كثرة فمنها ما رواه مسلم أنه دخل على أم سلمة فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): ذلك الخضر، ورووا أن زوجتيه إحداهما السوداء والاخرى البيضاء وأنهما الليل والنهار، ونقل عن بعض من رآه أنه سأله هل لك زوجة؟ فقال لي: زوجتان سوداء وبيضاء، ولم يذكر الليل والنهار، ونقل غير ذلك من الحكايات.

* الأصل:

2 - وحدثني محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبي هاشم مثله سواء.

قال محمد بن يحيى: فقلت لمحمد بن الحسن: يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله قال: فقال: لقد حدثني قبل الحيرة بعشرة سنين.

ص:360

* الشرح:

قوله (من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله) (1) كأنه أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي أخرجه أحمد بن محمد بن عيسى من قم لما قذف به وطعن عليه القميون، وذكره الشيخ في أصحاب الجواد والهادي (عليهما السلام)، وعاش بعد أبى محمد الحسن العسكري أربع عشر سنة، وقيل عشرين سنة، وتوفى سنة أربع وسبعين ومائتين على الأول وسنة ثمانين ومائتين على القول الآخر، ولعل المراد بالحيرة (2) تحيره بعد موت العسكري (عليه السلام) في وجود الصاحب (عليه السلام) أو تحيره بانحرافه لكبر سنه. أو زمان الحيرة، وهو وقت وفاة العسكري (عليه السلام).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله، عن عبد الله بن جعفر، عن الحسن بن ظريف وعلي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن بكر بن صالح (3) عن عبد الرحمن بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر: أي الأوقات أحببته، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد امي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أخبرتك به أمي أنه ذلك اللوح مكتوب؟ فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على امك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهنيتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه

ص:361


1- 1 - قوله «من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله» ترديد من السامع في صحة الحديث لمكان راويه وعدم الثقة به وقيل: كان يعمل بالمراسيل وهو صاحب كتاب المحاسن. وقدح في الحديث وفي أمثاله مما ذكر فيه أسماء الأئمة تفصيلا بعض الزيدية بأن الطائفة الإمامية كانوا يتفحصون بعد كل إمام عن القائم بعده حتى إن كبار محديثهم كزرارة بعد قبض الإمام الصادق (عليه السلام) لم يتبين له إمامة موسى بن جعفر (عليهما السلام) بعد فإن الذين ذهبوا إلى المدينة لتفحص أمر الإمام بعد الصادق لما يرجعوا وقد حضر زرارة الموت فجعل المصحف على صدره وقال: إمامي من يتعين بهذا المصحف. وهكذا رجع بعضهم إلى عبد الله الأفطح، واختلفوا بعد الكاظم (عليه السلام) في الرضا (عليه السلام) وقال بعضهم بالوقف على الكاظم (عليه السلام) ولو كان الأئمة متعينين موسومين بأسمائهم لم يعهد منهم التفحص. والجواب أن هذا الحديث بناء على صحته لم يكن متداولا من زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) بأيدي الرواة ولو كان كذلك لكثر نقله في الكتب واستفاض مع أنا لم نره إلا بهذا الإسناد وعن أبى هاشم الجعفري عن الجواد (عليه السلام) فهو كان مكنونا عند الأئمة (عليهم السلام) حتى إذا رأى الجواد (عليه السلام) المصلحة في إظهاره ولا منافاة بين صحته وخفائه، نعم إن اريد الاحتجاج على إمامتهم بالخبر الواحد توجه الإيراد لكن بناء الإمامية على عدم الاعتماد على خبر الواحد في اصول الدين وإن كان صحيحا بل كانوا يطلبون اليقين ويفحصون عن المتواتر ولذلك تفحصوا بعد مضي كل إمام عن القائم بعده. (ش)
2- 2 - قوله «ولعل المراد بالحيرة» الأظهر أن المراد بها الغيبة ومقصود الراوي دفع القدح فيه بأن أحمد بن أبي عبد الله وإن كان ضعيفا لكن الخبر متضمن للخبر عن الغيب إذ أخبر بالغيبة قبل عشر سنين من وقوعها. (ش)
3- 1 - قوله «عن بكر بن صالح» يعنى روى الحسن بن ظريف وصالح بن أبي حماد كلاهما عنه. (ش)

كتابا أبيض، شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما هذا اللوح؟ فقالت:

هذا لوح أهداه الله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه امك فاطمة (عليها السلام) فقرأته واستنسخته، فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق، فقال: يا جابر انظر في كتابك (1) لأقرأ [أنا] عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما خالف حرف حرفا، فقال جابر: فأشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا:

اشاره:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديان الدين إني أنا الله لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي، عذبته عذابا لا اعذب به أحدا من العالمين فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، إني لم أبعث نبيا فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا وإني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة. فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته اثيب واعاقب، أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الماضين وابنه شبه جده المحمود محمد الباقر علمي والمعدن لحكمتي سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لاكرمن مثوى جعفر ولاسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، اتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في علي وليي وناصري ومن أضع عليه أعباء النبوة وامتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر،

ص:362


1- 2 - قوله «يا جابر انظر في كتابك» قالوا: إنه قد كف بصره في آخر عمره ومات سنة 74 وروي أنه كان في زيارة الأربعين مكفوفا وكان ملاقاة الباقر (عليه السلام) له بعد ذلك قطعا حين انتقل جابر من الكوفة إلى المدينة آخر عمره وتوفي بالمدينة ولا ريب أن هذا الخبر ضعيف إسنادا ولكن لا ينحصر رواية جابر في هذا الإسناد كما يأتي إن شاء الله في الحديث التاسع وليس فيه شيء ينكر. (ش)

يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي، حق القول مني لاسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه، فهو معدن علمي وموضع سري وحجتي على خلقي، لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن واكمل ذلك بابنه «م ح م د» رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب فيذل أوليائي في زمانه وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين، مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم ويفشوا الويل والرنة في نسائهم اولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون.

قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك، إلا هذا الحديث لكفاك، فصنه إلا عن أهله.

* الشرح:

قوله (لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله) وهو (صلى الله عليه وآله) من حيث أنه يخبر عن الله أو يكون درجته فوق الدرجات يسمى نبيا ومن حيث أنه يهتدى به الخلائق أو يكون من نور الحق يسمى نورا ومن حيث أنه مصلح بين الخلق يسمى سفيرا وهو يسمى المصلح بين القوم، يقال: سفرت بين القوم أسفر سفارة إذا سعيت بينهم في الإصلاح، ومن حيث أن المتوسل به متوسل بالله تعالى، وأن له وجهين وجها إلى الله ووجها إلى الخلق يسمى حجابا، ومن حيث أنه يرشد الخلق إلى طريق الحق يسمى دليلا.

قوله (عظم يا محمد أسمائي) المراد بالأسماء أسماء ذاته المقدسة التي وضعها ليدعوه بها ولا يجهلوه أو الأئمة (عليهم السلام) وقد مر في كتاب التوحيد أنهم الأسماء الحسنى، وبالنعماء نعمة النبوة واصولها وفروعها، وبالآلاء ساير النعماء الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، ويحتمل أن يراد بالاولى النعمة الباطنة، وبالثانية النعمة الظاهرة أو بالعكس أو يراد بالاولى نعمة الوجود ومكملاته، وبالثانية غيره.

قوله (قاصم الجبارين) بالإذلال والموت والمصيبة والعقوبة والتأديب والتعذيب. والقصم الكسر الشديد.

قوله (ومديل المظلومين) أي ناصرهم، والمنتقم لهم، وجاعلهم غالبين عليهم يوم لا ينفع مال

ص:363

ولا بنون، بل في هذه الدار أيضا لأن الظلم يؤثر في الظالم ولو بعد حين كما هو المجرب، وفي كتاب كمال الدين: «ومذل الظالمين» بدله.

قوله (وديان الدين) أي المجازى كل أحد بفعله وعمله والديان المجازي القاهر الغالب على جميع من سواه.

قوله (فمن رجا غير فضلى أو خاف غير عدلي) يفهم منه وجوب صرف وجه الرجاء إلى فضله وعدم الخوف من ظلمه أو وجوب الخوف من عدله فإن من اتصف بخلاف ذلك كان مشركا بالله العظيم، ومستحقا للعذاب الأليم.

قوله (بشبليك وسبطيك) الشبل بالكسر ولد الأسد إذا أدرك الصيد وقد تطلق على الولد مطلقا، وفي بعض النسخ بسليلك، والسليل الولد والاثنى سليلة، والسبط قيل: هو الولد، وقيل: ولد الولد، وقيل: ولد البنت.

قوله (خازن وحيي) أي حافظه من الحزن، وهو حفظ الشئ في الخزانة ثم يعبر به عن كل حفظ ويجمع الخازن على الخزان، ومنه قيل: الأئمة (عليهم السلام) خزان علم الله ووحيه.

قوله (جعلت كلمتي التامة وحجتى البالغة عنده) لعل المراد بالكلمة التامة القرآن، وبالحجة البالغة الشريعة أو الإيمان أو البرهان الداعي إليه.

قوله (محمد الباقر علمي) علمي اما بكسر العين على أنه مفعول «الباقر» أي الفاتح المظهر له، والكاشف إياه ويؤيده أن في بعض نسخ الكتاب وفي كمال الدين «لعلمي» باللام أو بفتح العين واللام على أنه خبر لقوله وابنه، وعلى الأول خبره شبه جده أو محمد، أو ابنه خبر تقديره وثانيهم ابنه.

قوله (ولاسرنه) هو بفتح الهمزة من السرور، وهو خلاف الحزن تقول سرني فلان مسرة وسر هو على مالا يسم فاعله، وأما ضمها على أن يكون من الإسرار بمعنى الإظهار والإعلان فالظاهر أنه بعيد، والأولياء أخص من الأنصار، والأنصار أخص من الاشياع.

قوله (أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس) تاح له الشئ بالتاء المثناة الفوقانية وأتيح له الشئ على صيغة المفعول قدر له، وأتاح الله له الشيء أي قدره له، والتياح من الفرس ما يعترض في مشيته نشاطا على قطريه، والفتنة في الأصل الامتحان والاختبار. وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم كثر حتى استعمل بمعنى الاسم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف من الشيء ومن ذلك الوقت فإن كثيرا من شيعة أبيه رجعوا عنه، ووقفوا فيه وإنما وصف الفتنة بالعمياء، والحندس وهو بالكسر الظلمة للمبالغة والتأكيد في ضلالة القوم، وإضلالهم

ص:364

وإعراضهم عن طريق الحق وخروجهم عن منهج الصواب واتصافهم بالظلم والجور والطغيان حتى كأنهم عموا لا يهتدون إلى الحق سبيلا، ووقعوا في ظلمة شديدة لا يجدون إلى الخير دليلا وفي بعض النسخ انبحت بالنون من النباح، وهو صياح الكلب يقول انبحت الكلب فنبح نباحا إذا صاح، والنبوح ضجة الحي وأصوات كلابهم ونسبة النبوح إلى الفتنة على سبيل الاتساع والتجوز أو المراد نبوح أهلها. وفي بعض النسخ أبيحت بمعنى أظهرت تقول: باح بسره وأباحه إذا أظهره، وفي ربيع الشيعة انتجبت بعده موسى وأتيحت بعده فتنة، وهو الأظهر.

قوله (لأن خيط فرضي) في كتاب كمال الدين لأن خيط وصيتي، وهو دليل لما فهم ضمنا اتصال إمامة موسى بإمامه أبيه (عليهما السلام).

قوله (وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى) المراد بأوليائه من آمن بحججه جميعهم، وهم يسقون في الآخرة من غير نقص شرابا طهورا ورحيقا مختوما، وفيه وعد بحسب المنطوق ووعيد بحسب المفهوم، وفي كتاب كمال الدين: وإن أوليائي لايسبقون أبدا ألا ومن جحد - إلى آخره.

قوله (فقد جحد نعمتي) لأن كل واحد منهم أعظم نعمة من نعمائه على العباد فمن جحد واحدا منهم فقد جحد نعمته أو المراد بالنعمة نعمة الخلافة على الإطلاق، فمن جحد واحدا منهم فقد جحد الجميع.

قوله (ومن غير آية من كتابي) الظاهر أن المراد بالآية الآية القرآنية، ويحتمل أن يراد بها الإمام، وقد مر أن المراد بالآيات في القرآن الأئمة (عليهم السلام).

قوله (وامتحنه بالاضطلاع بها) يقال فلان مضطلع هذا الأمر أي شديد قوي، وهو مفتعل من الضلالة، وهي الشدة والقوة على احتمال الثقيل، وقد جرت حكمة الله تعالى على أن يختبر عباده، ويضع أثقال النبوة وأعباء الخلافة على تام الخلق والخلق والقوى في العلم والعمل.

قوله (يقتله عفريت) العفريت الرجل الخبيث الداهي، الشرير الظلوم، الشيطان.

قوله (التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي) المراد بالعبد الصالح ذو القرنين وبشر الخلق هارون الرشيد، والى متعلق ب (يدفن).

قوله (وتتهادى رؤوسهم) (1) أي يهديها بعضهم إلى بعض.

ص:365


1- 1 - قوله «تتهادى رؤوسهم» تشبث بهذه الكلمة بعض من لا يعتد بالحقايق ولا يبالي بما يقول وقال: إن أصحاب القائم (عليه السلام) بعد ظهوره يذلون في زمانه ويقتلهم الأعداء ويهدي الظلمة بعضهم إلى بعضهم رؤوسهم وهذا شيء بخلاف المتواتر المقطوع به من أحاديث العامة والخاصة في ظهور المهدي (عليه السلام) وأن الحق يظهر في زمانه وأهل الحق يظفرون بأهل الباطل وبه يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ولا يزال يدعو الشيعة في مقام الاستنصار: أين معز الأولياء ومذل الأعداء، وغرض القائل أن يثبت إمامة من أدعى المهدوية فقتل لثبوت ردته وكفره ودعوى نسخه للشريعة الإسلامية وقتل أتباعه وأنصاره ولم يدر أنا معاشر الإمامية لا نتمسك بخبر الواحد في اصول الدين إن سلم عن المعارض وسلم إسناده فكيف بهذا الحديث الضعيف المخالف للضروري من المذهب إن سلم كون المراد ذلة أوليائه بعد ظهوره وإلا فقد يحتمل كون القتل والتضيق حال الغيبة وأما الذلة فلم تلحقهم في الغيبة إلى الآن - الحمد لله - ولا نحتاج في إثبات الأئمة الاثني عشر إلى هذا الإسناد بل روي هذا الخبر بإسناد آخر ومضمونه في أحاديث متواترة من طرق العامة والخاصة. (ش)

قوله (والرنة) الرنة بفتح الراء وشد النون الصوت يقال: رنت المرأة ترن رنينا: صاحت.

قوله (اولئك أوليائي حقا) هؤلاء هم المقصودون مما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) قال: لا يزال طائفة من امتي على الحق لا يضر من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله، وهم كذلك، وقال: لا يزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة، وهم الفرقة الناجية الذين تشبثوا بذيل عصمة العترة (عليهم السلام) وخذلهم المعاندون من لدن موت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى خروج القائم، ولا يضرهم من خذلهم ولا ينصرهم من الخلق، قال الآبي: واختلف من هذه الطائفة في الحديث فقال ابن المديني: هم العرب، وقال أحمد: هم أهل الحديث وإن لم يكونوا من أهل الحديث فلا أدري من هم، وأراد به أهل السنة.

وقال البخاري: هم العلماء، وقال المازري: يحتمل أن يكون هذه الطائفة مؤلفة من أنواع المؤمنين منهم شجعان، ومنهم فقهاء، ومنهم المحدثون وغير ذلك من أنواع الحرف ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في قطر واحد، بل يصح أن يكونوا مفترقين في أقطار الأرض.

قوله (اولئك عليهم صلوات من ربهم) أشار إلى أنهم مصداق قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون) إذ لا مصيبة أعظم من فقد الإمام وغيبته، وتعدي الأعداء بالقتل والحرق وغير ذلك من المصائب المذكورة، وغير المذكورة.

قوله (فصنه إلا عن أهله) صنه أمر من الصون وهو الحفظ، وفي بعض النسخ فضنه بالضاد المعجمة وتشديد النون أمر من الضن وهو البخل من إفشاء الشيء لمكانه منك وموقعه عندك.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس (1)، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة. وعلي بن محمد، عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة عن [أبان] بن

ص:366


1- 1 - قوله «عن سليم بن قيس» مضى الكلام في كتاب سليم بن قيس في الصفحة 373 من المجلد الثاني (ش).

أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت عبد الله بن جعفر الطيار يقول: كنا عند معاوية: أنا والحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن ام سلمة واسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام فقلت لمعاوية: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم أخي علي ابن أبي طالب أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد علي فالحسن بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا علي، ثم ابنه محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين، ثم تكمله اثني عشر إماما تسعة من ولد الحسين، قال عبد الله بن جعفر: واستشهدت الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعمر بن ام سلمة واسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية، قال سليم: وقد سمعت ذلك من سلمان وأبي ذر والمقداد وذكروا أنهم سمعوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) مر شرحه في باب ما يجب من حق الإمام على الرعية.

قوله (وستدركه يا على) كانت له عند وفاة علي (عليه السلام) سنتان.

قوله (وستدركه يا حسين) كانت له عند قتل الحسين (عليه السلام) ست سنين.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن حنان بن السراج، عن داود بن سليمان الكسائي، عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات وشهدت عمر حين بويع وعلي (عليه السلام) جالس ناحية فأقبل غلام يهودي جميل [الوجه] بهي، عليه ثياب حسان وهو من ولد هارون حتى قام على رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الامة بكتابهم وأمر نبيهم؟ قال: فطأطأ عمر رأسه، فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول، فقال له عمر:

لم ذاك؟ قال: إني جئتك مرتادا لنفسي، شاكا في ديني، فقال: دونك هذا الشاب قال: ومن هذا الشاب؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبل اليهودي على علي (عليه السلام) فقال: أكذاك أنت؟ قال:

نعم، قال: إني اريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير تبسم وقال: يا هاروني ما منعك أن تقول سبعا؟ قال: أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم: قال علي (عليه السلام): فإني أسألك بالإله الذي تعبده

ص:367

لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت إلا لذاك، قال: فسل، قال: أخبرني عن أول قطرة دم قطرت على وجه الأرض أي قطرة هي؟ وأول عين فاضت على وجه الأرض أي عين هي؟ وأول شيء اهتز على وجه الأرض أي شيء هو؟ فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: أخبرني عن الثلاث الاخر، أخبرني عن محمد كم له من إمام عدل؟ وفي أي جنة يكون؟ ومن ساكنه معه في جنة؟ فقال: يا هاروني إن لمحمد اثني عشر إمام عدل، لا يضرهم خذلان من خذلهم ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم وإنهم في الدين أرسب من الجبال الرواسي في الأرض، ومسكن محمد في جنته معه اولئك الاثنا عشر الإمام العدل، فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون، كتبه بيده وأملاه موسى عمي (عليه السلام)، قال: فأخبرني عن الواحدة، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده؟ وهل يموت أو يقتل؟ قال: يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة، لا يزيد يوما ولا ينقص يوما، ثم يضرب ضربة ههنا - يعني على قرنه - فتخضب هذه من هذا، قال: فصاح الهاروني وقطع كستيجه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأنك وصيه، ينبغي أن تفوق ولا تفاق وأن تعظم ولا تستضعف. قال ثم مضى به علي (عليه السلام) إلى منزله فعلمه معالم الدين.

* الشرح:

قوله (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه) روى الصدوق هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام).

قوله (عن أبي الطفيل) اسمه عامر بن واثلة أدرك من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمان سنين وكان من أصحاب على والحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) وعده البرقي من خواص علي (عليه السلام)، وفي مختصر الذهبي أنه من محبيه وبه ختم الصحابة في الدنيا مات ستة عشر ومائة على الصحيح.

قوله (بهي) البهاء الحسن تقول منه بهى الرجل بالكسر وبهو أيضا فهو بهي أي جميل حسن الوجه. قوله من ولد هارون في رواية الصدوق - رحمه الله - عن الصادق (عليه السلام) أنه من ولد هارون ابن عمران أخي موسى (عليهما السلام) ومن علماء اليهود وأحبارها.

قوله (مرتادا لنفسي) أي طالب الدين لنفسي.

قوله (فتبسم أمير المؤمنين (عليه السلام)) التبسم دون الضحك وله مراتب فقوله: من غير تبسم عظيم أو واضح للتحضيض.

ص:368

قوله (وأول شيء أهين) من الإهانة، وفي بعض النسخ أهتز من الاهتزاز وهو التحرك.

قوله (فأجابه (عليه السلام)) في بعض الروايات أن أول دم وقع على وجه الأرض هو حيض حوا (عليها السلام) وأن أول عين فاضت عل وجهها هي عين الحياة وأما أول شيء أهين على وجهها فقيل: يمكن أن يكون عناق بنت آدم (عليه السلام) التي أكلتها السباع لعتوها.

قوله (ومسكن محمد في جنته) لم يفسر الجنة وسيجئ أنها جنة عدن.

قوله (وقطع كستيجه) الكستيج بالضم خيط غليظ بقدر الإصبع يشده الذمي فوق ثيابه (1) دون ما يتزينون به من الزنانير المتخذة من الإبريسم معرب كستى: ميان بر.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن أبي سعيد العصفوري عن عمر [و] ابن ثابت، عن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إن الله خلق محمدا وعليا وأحد عشر من ولده من نور عظمته، فأقامهم أشباحا في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق، يسبحون الله ويقدسونه وهم الأئمة (عليهم السلام) من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (من نور عظمته) هناك ثلاثة أشياء بحسب لحاظ العقل: الذات وعظمته ونور عظمته، وعظمته عبارة عن تجاوز قدره عن حد العقول حتى لا يكون لها سبيل إلى معرفة كنهه وحقيقته، والعظيم في صفة الأجسام كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل قدره عن ذلك، والنور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره ولعل المراد بنور عظمته الحجاب (2).

ص:369


1- 1 - قوله «يشده الذمي فوق ثيابه» شعار خاص بالمجوس لايتركونه بحال البتة والظاهر أن الراوي اشتبه عليه الأمر وكان من بلاد العجم معاشرا للمجوس زعم أن كل كافر يعقد الكستيج حتى اليهودي وليس كذلك، والرواية ضعيفة وحنان بن سراج في إسنادها مصحف حيان السراج بالتوصيف وقوله يعيش بعده ثلاثين سنة لا يزيد يوما ولا ينقص يوما غير موافق للواقع مع هذا التدقيق الذي ينافي حمله على التقريب والمسامحة. (ش)
2- 1 - قوله «ولعل المراد بنور عظمته الحجاب» لعله تعريف بالأخفى فإن الحجاب أيضا في الله تعالى غير معقول إذ لا حاجب بينه وبين خلقه إلا أن تحجبهم الآمال ولابد من تأويل الحجاب كتأويل النور وقد يأول الحجب بمراتب وجود الممكنات والمهيات فإن الوجود إذا تقيد بماهية من المهيات امتنع من أن يتصف بصفات مهاية اخرى وتغيب عنه والواجب غير مقيد بماهية فلا يمتنع من جميع الصفات الكمالية، ثم إن الماهيات المقيدة بالتغير والزمان والمكان يتضاعف عليها الحجب فيغيب المختص بزمان عن الموجود المختص بزمان آخر والمكان كذلك وكلما بعد مرتبة الممكن عن الواجب زاد حجابه، فالحجاب بين الممكن والواجب إنما يحجب الممكن عنه تعالى ولا يحجبه تعالى عن الممكن وما يتوهم أن الحجاب لا يتعقل بالنسبة إلى الطرفين فإذا حجب أحد الطرفين عن الآخر حجب الآخر عن الأول فهو مسلم في الموجودات المتساوية في الرتبة دون المختلفة ألا ترى أن الحيوان محجوب عن إدراك رتبة الإنسان في عقلياته والإنسان غير محجوب عن إدراك رتبة الحيوان في حسياته، ولا يبعد أن يكون المراد من الحجاب النور المحجوب عن إدراك عقل الممكنات، والمعنى رتبة أرواح الأئمة (عليهم السلام) فوق رتبة النفوس الناطقة البشرية فهي محجوبة عن البشر كما أن رتبة الإنسان محجوبة عن الحيوان وإذا كان كذلك استحق أن يكون وجودهم قبل الأجسام لأن العقول والروحانيين لا يتوقف وجودهم على استعداد المادة كالنفوس المنطبعة. واعلم أن هذا الخبر وإن كان ضعيفا من جهة الإسناد إلا أن معناه يدل على صدوره عن أهل بيت العصمة وقد مضى معناه فيما سبق وتكرر مثله في كتب الإمامة وإلا فأهل الظاهر القاصرين على النظر إلى هذه الحياة الدنيا الذين هم عن الآخرة غافلون يتوهمون أن خلق الأشباح قبل الأبدان وأمثال ذلك من الخرافات ولا يتعقلون خلق المجرد قبل المادة والروحاني قبل الجسماني ولا تقدم الأشباح والأظلال قبل العناصر ولا يخطر ببالهم إمكان وجود العقول القدسية والأرواح الطاهرة قبل خلق الأبدان من أب وأم حتى يخترعوا مثل هذه الأحاديث. (ش)

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد الخشاب، عن ابن سماعة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن ابن اذينة، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الاثنا عشر الإمام من آل محمد (عليهم السلام) كلهم محدث من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن ولد علي، ورسول الله وعلي (عليهما السلام) هما الوالدان، فقال عبد الله بن راشد وكان أخا علي بن الحسين لامه وأنكر ذلك فصرر أبو جعفر (عليه السلام) وقال: أما إن ابن امك كان أحدهم.

* الشرح:

قوله (كلهم محدث) مبتدأ وخبر وإفراد الخبر باعتبار لفظ الكل، وقوله: من ولد رسول الله ومن ولد على خبر بعد خبر على الظاهر، وهذا الحكم باعتبار الأكثر والقرينة علم المخاطب به وقوله:

ورسول الله وعلي هما الوالدان وكما أنهما والدان للأئمة صورة ومعنى كذلك هما والدان للامة معنى. حيث إنهما ولدا العلم وورثا الحكمة كما مر في باب فيه نكت من التنزيل.

قوله (فقال عبد الله بن راشد) الناقل زرارة أي تكلم عبد الله بن راشد، وقال قولا ثم فسره بقوله وأنكر ذلك والصرة أشد الصياح. وإنما كان أخا علي بن الحسين (عليهما السلام) لأنه تولد من جارية الحسين (عليه السلام) وسريته بعد قتله، وكانت تربي علي بن الحسين (عليه السلام) وكان (عليه السلام) يسميها اما. وقيل: كان أخاه من الرضاعة والله أعلم.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن مسعدة بن زياد، عن أبي عبد الله ومحمد بن الحسين، عن إبراهيم، عن ابن أبي يحيى المدايني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد

ص:370

الخدري قال: كنت حاضرا لما هلك أبو بكر واستخلف عمر أقبل يهودي من عظماء يهود يثرب وتزعم يهود المدينة أنه أعلم أهل زمانه حتى رفع إلى عمر فقال له: يا عمر إني جتئك اريد الإسلام، فإن أخبرتني عما أسألك عنه فأنت أعلم أصحاب محمد بالكتاب والسنة وجميع ما اريد أن أسأل عنه، قال: فقال له عمر: إني لست هناك لكني ارشدك إلى من هو أعلم امتنا بالكتاب والسنة وجميع ما قد تسأل عنه وهو ذاك - فأومأ إلى علي (عليه السلام) - فقال له اليهودي: يا عمر إن كان هذا كما تقول فمالك ولبيعة الناس وإنما ذاك أعلمكم، فزبره عمر.

ثم إن اليهودي قام إلى علي (عليه السلام) فقال له: أنت كما ذكر عمر؟ فقال: وما قال عمر؟ فأخبره، قال:

فإن كنت كما قال سألتك عن أشياء اريد أن أعلم هل يعلمه أحد منكم فأعلم انكم في دعواكم خير الامم وأعلمها صادقين ومع ذلك أدخل في دينكم الإسلام، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): نعم أنا كما ذكر لك عمر، سل عما بدا لك اخبرك به إن شاء الله، قال: أخبرني عن ثلاث وثلاث وواحدة، فقال له علي (عليه السلام): يا يهودي ولم لم تقل: أخبرني عن سبع؟ فقال له اليهودي: إنك إن أخبرتني بالثلاث، سألتك عن البقية وإلا كففت، فإن أنت أجبتني في هذه السبع فأنت أعلم أهل الأرض وأفضلهم وأولى الناس بالناس، فقال له: سل عما بدا لك يا يهودي قال: أخبرني عن أول حجر وضع على وجه الأرض، وأول شجرة غرست على وجه الأرض، وأول عين نبعت على وجه الأرض؟ فأخبره أمير المؤمنين (عليه السلام).

ثم قال له اليهودي أخبرني عن هذه الامة كم لها من إمام هدى؟ وأخبرني عن نبيكم محمد أين منزله في الجنة؟ وأخبرني من معه في الجنة؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إن لهذه الامة اثني عشر إمام هدى من ذرية نبيها وهم مني، وأما منزل نبينا في الجنة ففي أفضلها وأشرفها جنة عدن، وأما من معه في منزله فيها فهؤلاء الاثنا عشر من ذريته وامهم وجدتهم وام امهم وذراريهم، لا يشركهم فيها أحد.

* الشرح:

قوله (قال: لما هلك أبو بكر) لا حاجة إلى قال فكأنه للتأكيد أو عطف على قال بحذف العاطف، ونظير ذلك كثير.

قوله (يهود يثرب) يثرب اسم للمدينة، قال الآبي: روي أن لها في التورية أحد عشر اسما:

المدينة، وطابة، وطيبة، والسكينة، وجابرة، والمحفة، والمحبوبة، والقاصدة، والمجبورة، والعذراء والمرحومة، وقال السهيلي: إنما سميت يثرب باسم رجل من العمالقة وهو أول من نزلها منهم وهو

ص:371

يثرب بن قابد بن عقيل بن هلايل بن عوض بن عملاق بن ولاد بن ارم بن سام بن نوح (عليه السلام) ولما دخلها النبي (صلى الله عليه وآله) كره لها هذا الاسم لما فيه من لفظ التثريب، وسماها طيبة، وطابة، والمدينة، فإن قيل قد سماها الله تعالى به في القرآن فالجواب إنما سماها به حاكيا ذلك عن المنافقين في قوله: (وإذ قالت طائفة منهم) الآية، فنبه بما حكى عنهم أنهم رغبوا عما سماها الله تعالى ورسوله وأبوا إلا ما كانوا عليه في الجاهلية، والله سبحانه وتعالى قد سماها المدينة في قوله تعالى: (لأهل المدينة) وقال القرطبي: كره (صلى الله عليه وآله) اسمها يثرب لما فيه من الثراب، وكانت الجاهلية تسميها بذلك باسم موضع منها كان اسمها يثرب.

قوله (لست هناك) أي لست في هذه المرتبة التي ذكرتها.

قوله (اريد أن أعلم هل يعلمه أحد منكم) أشار بذلك إلى أنه كان عالما بهذه الأشياء وإنما يسألها للامتحان والاختبار ليعلم ثبوت هذه الشريعة وحقيقتها.

قوله (فأخبره أمير المؤمنين (عليه السلام)) في كتاب كمال الدين فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أما سؤالك عن أول شجرة نبتت على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنها الزيتونة وكذبوا وإنما هي النخلة من العجوة هبط بها آدم (عليه السلام) معه من الجنة فغرسها وأصل النخلة كله منها، وأما قولك وأول عين نبعت على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر وكذبوا وهي عين الحيوان التي ما انتهى إليه أحد إلا حيى، وكان الخضر (عليه السلام) على مقدمة ذي القرنين فطلب عين الحياة فوجدها الخضر (عليه السلام) وشرب منها (1) ولم يجدها ذو القرنين، وأما قولك عن أول حجر وضع على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنه الحجر الذي ببيت المقدس وكذبوا وإنما هو الحجر الأسود هبط به آدم (عليه السلام) معه من الجنة فوضعه في الركن، والناس يستلمونه، وكان أشد بياضا من الثلج فاسود من خطايا بني آدم.

ص:372


1- 1 - قوله «فوجدها الخضر (عليه السلام) وشر منها» ليست المسائل التي نقلها الشارح عن الصدوق عن المسائل التي ذكرها صاحب الكافي وليس العلم بهذه الأمور مما يعتبر شرعا وعقلا في الإمام ولا مما يتباهى به ساير الناس أو يكون فخرا لهم أو يكون له دخل في نظم البلاد وترفيه العباد وإقامة شعائر الدين كما هو وظيفة الأئمة وإنما شرط الإمام كونه أفضل من رعيته في الأمور التي يعد فضلا ويقبح إطاعة الأفضل لغير الأفضل فيه أو يكون نقصانه مما ينفر الناس عنه فلا يشترط كونه أعظم جثة وأجمل وجها وأجود خطا وأمثال ذلك ومع ذلك فليست هذه الرواية مما يثبت به الحجة في هذه الأمور ولا يثبت وجود عين الحياة وشرب الخضر منها خصوصا على ما يقتضيه ظاهره من أن من شرب منها لا يموت وقد قال الله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) ولا حاجة إلى ما يلتزم به الفقهاء من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فإن جيمع قواعدهم لا تتجاوز عن تحصيل الظن ولا فائدة في التكليف بتحصيل الظن بهذه الأمور. (ش)

قوله (من ذرية نبيها) هذا باعتبار الأكثرية في التغليب، وكذا في قوله: (من ذريته).

قوله (وامهم وجدتهم) لعل المراد بامهم فاطمة (عليهما السلام)، وبجدتهم خديجة (عليهما السلام) دون جميع الامهات والجدات وان احتمل.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثنى عشر آخرهم القائم (عليه السلام)، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي.

* الشرح:

قوله (فعددت اثنى عشر) أي فعددت الأوصياء أو أسماءهم جميعا اثنى عشر فلا ينافي هذا قوله من ولدها. لأن الأول باعتبار البعض، والثاني باعتبار الجميع.

قوله (ثلاثة منهم علي) أي ثلاثة من ولدها فلا ينافي هذا أن عليا أربعة.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الجن والإنس وجعل من بعده اثني عشر وصيا، منهم من سبق ومنهم من بقي وكل وصي جرت به سنة والأوصياء الذين من بعد محمد (صلى الله عليه وآله) على سنة أوصياء عيسى وكانوا اثني عشر وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) على سنة المسيح.

* الشرح:

قوله (وجعل من بعده اثني عشر وصيا) في طرق العامة روايات متكثرة دالة على ذلك، ونحن نذكر بعضها فإن ذكر جميعها يوجب الإطناب. منها ما رواه مسلم بإسناده عن جابر بن صمرة قال:

دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه وآله) فسمعته يقول: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيه اثنا عشر خليفة قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: قلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: كلهم من قريش» وبإسناد آخر عنه قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا» ثم تكلم إلى آخر ما ذكر. وبإسناد آخر منه يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة، ثم تكلم إلى آخر ما ذكر. ولبعض أفاضلهم: هذا كلام لا يزداد النظر فيه إلا

ص:373

تعجبا (1) وهو أنه قال: ويرد أن يقال: ولي من قريش أكثر من اثني عشر. ثم أجاب بأنه لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر (2) وإنما قال: يلي اثنا عشر، وقد ولى هذا العدد ما علم به النبي (صلى الله عليه وآله) قبل قيام الساعة، ثم قال: وقيل: المراد أن يكون (3) الاثنا عشر في زمان واحد يفترق الناس على كل واحد منهم، ولا يبعد أن يكون هذا قد وقع فقد كان بالأندلس وحدها بعد أربعمائة وثلاثين سنة في عصر واحد كلهم يدعيها ويلقب بها وكان في ذلك الزمان صاحب مصر، وخليفة الجماعة العباسي ببغداد إلى

ص:374


1- 1 - قوله «لا يزداد النظر فيه الا تعجبا» قلنا: إن رواية كون الأئمة اثني عشر مما اتفقت عليه أحاديث العامة والخاصة وليس مما يحتمل فيه الجعل ولا داعي إلى جعله لا في العامة وهو ظاهر ولا في الخاصة إذ البخاري ومسلم وغيرهما رووها عن غير رجال الشيعة في زمان الرضا (عليه السلام) إلى أن قبض العسكري (عليه السلام) وكان تأليف الصحاح قبل رحلته قطعا وأما معنى الحديث فعند الإمامية واضح لا تكلف فيه وأما عند أهل السنة فقد تحير الشراح ولم يأتوا بشيء فمما ذكروه أن المراد الخلفاء الراشدون الأربع، ثم الحسن بن علي (عليهما السلام)، والسادس معاوية، والسابع يزيد بن معاوية، والثامن عبد الله ابن زبير، والتاسع عبد الملك بن مروان، والعاشر ابنه الوليد، والحادي عشر سليمان بن عبد الملك، والثاني عشر عمر بن عبد العزيز، وبه ختم الاثنا عشر ولم يعتبر هذا القائل معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم في الأئمة لأنهما كانا معاصرين لعبد الله بن زبير وهو أحق بالخلافة منهما مع قصر مدتهما فكان الإسلام عزيزا إلى خلافة عمر بن عبد العزيز وصار - نعوذ بالله - ذليلا بعد. ولا ريب في سقوط هذا المعنى والتفسير على أن ما ورد في صحاحهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن هلكة امتي على يدي غلمة من قريش» منطبق عند كبار المحدثين على بني امية فكيف يكون عز الإسلام في خلافتهم؟! قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري عن شرح الحديث عن أبي هريرة رفعه: أعوذ بالله من إمارة الصبيان قال: إن أطعتموهم هلكتم أي في دينكم وإن عصيتموهم أهلكوكم أي في دنياكم بإزهاق النفس أو بإذهاب المال أو بهما. وعند ابن أبى شيبة أن ابا هريرة كان يمشي في السوق يقول اللهم لاتدركني سنة ستين ولا إمارة الصبيان وقد استجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال في الفتح وفى هذا إشارة إلى أن أولى الأغيلمة كان في سنة ستين وهو كذلك فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها انتهى كلام القسطلاني. وأما متن صحيح البخاري فبعد أن نقل فيه الحديث عن عمرو بن يحيى وهو من بني امية عن جده سعد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبي هريرة ومروان حاضر قال: «فقال مروان لعنة الله عليهم غلمة» فقال أبو هريرة لو شئت أن أقول: بني فلان وبني فلان لفعلت (قال عمرو بن يحيى): فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا: عسى هؤلاء أن يكون منهم قلنا: أنت أعلم» انتهى نص عبارة صحيح البخاري. (ش)
2- 2 - قوله «لا يلي إلا اثنا عشر» هذا التوجيه أسقط من الأول وأضعف إذ لا ريب أن في مقام التعديد والتحديد لايراد بالعدد إلا نفي الزائد مثل (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) يعني لا أزيد من اثنى عشر وإذا قيل: إن اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة والساعة ستون دقيقة ومات فلان عن أربع بنين والأنبياء أولي العزم خمسة وهكذا لا يراد منها إلا نفي الزائد وما ذكروه في مفهوم العدد أو نفيه أجنبي عن أمثال هذه العبارات وإنما يتكلم في المفهوم حيث لا يعلم المقصود بهذا الوضوح. (ش)
3- 1 - قوله «وقيل: المراد أن يكون» وهذا أضعف من سابقه إذ يلزم منه أن يكون عزة الإسلام في المائة الخامسة لا في زمان الخلفاء الراشدين ولا من بعدهم. (ش)

من كان مدعي ذلك بأقطار الأرض من بلاد البربر وخراسان من العلوية وغيرهم، ويحتمل أن يكون المراد بالاثني عشر الذي يكون معها اعزاز الخلافة وسياسة أمور الإسلام، واجتماع الناس كلهم على كل واحد منهم (1) وهذا العدد قد وجد في صدر الإسلام إلا أنه اضطرب أمر بني امية وخرج عليهم بنو عباس فاستأصلوا أمرهم وقد يحتمل وجوها آخر والله سبحانه أعلم بمراد نبيه انتهى كلامه. فانظر رحمك الله إلى كلام هذا المتعصب واشكر لربك واحمده على ما منحك والحمد لله رب العالمين.

قوله (وكل وصى جرت به سنة) منهم من جرت به العبادة، ومنهم من جرت به الشهادة، ومنهم من جرت به نشر العلوم، ومنهم من جرت المجاهدة والقتال واظهار الدين كل ذلك لمصلحة ظاهرة وخفية لا يعلمها إلا هو.

قوله (وكان أمير المؤمنين على سنة المسيح) هي إما ترك الدنيا بالكلية أو افتراق الناس فيه ثلاث فرق الناصبي والغالي والشيعي.

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى; ومحمد بن أبي عبد الله; ومحمد بن

ص:375


1- 2 - قوله «واجتماع الناس على كل واحد منهم» يشير إلى الوجه الأول الذي نقلناه مفصلا من كون عمر بن عبد العزيز خاتم الاثني عشر ونقل القسطلاني عن فتح الباري في شرح صحيح البخاري وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الاثني عشر منتظمة وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك فهو بالنسبة إلى الاستقامة نادر والله أعلم انتهى، أقول: إنا كلما تتبعنا في تواريخ الخلفاء حتى نجد فرقا بين مدة خلافة بني امية أوائلهم وأواخرهم بعد عمر بن عبد العزيز وبين بني العباس لم يظهر لنا شيء يعول عليه نعم كان الإسلام في عصر الخلفاء الراشدين قبل أن يلي معاوية عزيزا أو أحكامه ظاهرة نافذة ثم لما ولى معاوية انقلبت الأمور وتغيرت الأحكام وذلت أنصار رسول الله وغلبت الظلمة وسواء كانت الخلافة لبنى امية أو لبني العباس كان ملكا عضوضا، نعم كان سب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر من شعائر الإسلام قبل عمر بن عبد العزيز ومنع عمر من سبه (عليه السلام) ولكن لا يخطر البتة ببال مسلم أن يكون هذا عزا للإسلام، وأما انتظام الأمور بالظلم والقتل والتشريد كما فعل زياد بن أبيه ويزيد بن معاوية وحجاج بن يوسف وسائر الظلمة منهم فغير دخيل في عز الإسلام بل هو ذل نعوذ بالله، ولكن لا يزال الظلمة يتبجحون بإيجاد النظم بالظلم ويفتخرون بتحصيل الأمن بالرعب، نقل عن عبد الملك بن مروان أنه قال: من قال لي: اتق الله ضربت عنقه، ولا ريب أن الناس لو كانوا موتى لا يطلبون شيئا ولا يتكلمون ولا يتحركون كان الأمن فيه أكثر وليس هذا مقصود الإسلام بل الأمن لداعي الحق أن يدعو إلى الحق ولطالب الحق أن يطلب ويعطي وقد كان عبيد الله يعد من محاسن معاوية ويزيد إيجاد الأمن فإن كان هذا مراد شارح البخاري من الانتظام فقد جرى بقلمه من غير تأمل ما هو منه بريء البتة فإنه كان مسلما لا يحتمل رضاه بالظلم. (ش)

الحسن عن سهل بن زياد، جميعا، عن الحسن بن العباس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون.

* الشرح:

قوله (عن الحسن بن العباس بن الحريش) ضبطه العلامة بالحاء غير المعجمة والراء والياء المنقطة تحتها نقطتين والشين المعجمة (1).

* الأصل:

12 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: آمنوا بليلة القدر إنها تكون لعلي بن أبي طالب ولولده الأحد عشر من بعدي.

13 - وبهذا الإسناد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر يوما: (لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) وأشهد [أن] محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله مات شهيدا، والله ليأتينك، فأيقن إذا جاءك، فان الشيطان غير متخيل به.

فأخذ علي بيد أبي بكر فأراه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا أبا بكر آمن بعلي وبأحد عشر من ولده، إنهم مثلي إلا النبوة وتب إلى الله مما في يدك، فانه لاحق لك فيه.

قال: ثم ذهب فلم ير.

* الشرح:

قوله (لا تحسبن الذين قتلوا - إلى قوله - مات شهيدا) ذكر الآية الكريمة مقدمة وتمهيد لما بعدها من أن النبي (ص) يمكن مجيئه ورؤيته، والحاصل أنه شهيد وكل شهيد حي فهو حي فيمكن أن يجيء ويرى وقد أشار إلى أنه يجيء على وجه المبالغة بقوله: والله ليأتينك إكمالا للحجة عليك كما أكملها قبل الموت فأيقن إذا جاءك أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تظن أنه الشيطان فإن الشيطان غير متخيل ولا متمثل بصورته. يدل عليه أيضا ما رواه في كشف الغمة عن أبى الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لقد حدثني أبى عن جدى عن أبيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة. ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «من

ص:376


1- 1 - قوله «والشين المعجمة» مضى باب في هذا المعنى فيما سبق من كتاب الحجة. (ش)

رآني في المنام فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل بي»، ومن ثم قالوا: من رأى صورته في النوم أو اليقظة وقال له: أنا رسول الله أو قال شخص آخر هو رسول الله أو الهم في قلبه (1) أنه رسول الله فقد رآه وليس المرئى من تخييلات الشيطان. قال محي الدين البغوي اختلف فقال الباقلاني: معنى فقد رآني رؤياه حق ليس بأضغاث أحلام ولا تمثيل الشيطان وإن رآه على غير الصفة التي كان عليها في الحياة وانما تلك الأمثلة من فعل الله تعالى (2) جعلها علما على ما تأول به من تبشير أو إنذار فينبغي أن يبحث عن تأويلها كما رآه أبيض اللحية أو على غير لونه، وحمل آخرون الحديث على ظاهره وأن المراد من رآه فقد أدركه وقالوا لا مانع من ذلك ولا عقل يحيله حتى يصرف الكلام عن ظاهره ولا دليل على فناء جسده وغاية ما يلقى أنه (3) قد يرى على غير الصفة التي كان عليها فيكون ذلك غلطا (4) في صفاته وتخيلا لها على غير ما هي عليه. فيكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية فيكون فائدة تلك الصفات المتخيلة على ما جعله الله علما عليه فبحث عن تأويلها فقد قال الكرماني جاء في الحديث أنه إذا رأى شيخا فهو عام سلم وإن رأى شابا فهو عام حرب واختلف لو رآه يقتل من لا يحل قتله، فمنهم من منع وقوع ذلك، ومنهم من جعله من صفاته المتخيلة فيتأول، وقال عياض: ويحتمل عندي أن معنى رآني فقد رآني: الشيطان لا يتمثل بي، أن ذلك فيمن رآه

ص:377


1- 1 - قوله: «أو ألهم في قلبه» هذا هو المقصود وإلا فليس أحد ممن جاء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعرفه بصورته حتى يعلم أن المتمثل بصورته هو أو بغير صورته فإن قيل: قد يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويلهم الرائي أنه هو (صلى الله عليه وآله) وهو شبيه بزيد مثلا ويراه الآخر في صورة رجل آخر وشبيها بعمرو ويلهم أيضا أنه هو فلابد أن يكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) صور مختلفة أو لا يكون لهذه الروايات مصداق في الخارج، قلنا: تمثل أرواح الأنبياء في صور مختلفة غير مستبعد لكن لابد أن يكون صورة مناسبة بحيث إذا الهم الرائي أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي تمثل روحه في هذه الصورة لا يستبشعه، وبالجملة الالهام من عالم الغيب يلقى إلى قلب الرائي ويعرف هو صحته بعلم ضروري لا يشك فيه وهذه الصورة بهذا الكيفية لا تكون من الشيطان على ما أخبر به الإمام (عليه السلام). (ش)
2- 2 - قوله «وانما تلك الأمثلة من فعل الله» يشير إلى ما ذكرنا من أن ذلك المتمثل الذي يراه في المنام لا يحب أن يكون على الصفة التي كان عليها وكذلك فهمه جماعة يأتي ذكرهم ونقله الشارح وقوله: «من رآه فقد أدركه» يعنى أدركه بعينه ورآه بشخصه وهو بعيد إذ يلزم منه أن لا يكون لهذه الرواية مصداق إذ لا يمكن أن يرى بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد صورته في المنام ويعرف أنه هو بعينه ولم يكن رآه في حياته وقوله: «ولا عقل يحيله» صحيح ولكن يحيل العقل أن لا يكون لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصداق. (ش)
3- 1 - قوله «وغاية ما يلقى انه» وفيه أنه إذا رآه على غير الصفة التي كان عليها فذلك علامة أن رؤياه ليست بحق لأن الشيطان يمكن أن يتمثل في غير صورته. (ش)
4- 2 - قوله «فيكون ذلك غلطا» والغلط من الشيطان وبتأثيره والحق أن هذا القائل من المستهترين بظاهر اللفظ من غير تعقل المعنى وقول الكرماني وعياض والقرطبي يدل على خلاف مقصوده وأن روحه (صلى الله عليه وآله) يتمثل في صور مختلفة. (ش)

على صفاته التي كان عليها لا على صفة مضادة لذلك فإذا رآه على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة فإن رؤياه منها ما يخرج على وجه ومنها ما يحتاج إلى تأويل وتفسير.

وقال بعضهم قد خص الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بعموم صدق رؤياه كلها ومنع الشيطان أن يتمثل به حتى لو كانت مضادة لحاله في الحياة لئلا يندرج الكذب على لسانه في نومه كما منعه من ذلك في اليقظة أو لو أمكن من ذلك لوقع اللبس بين الحق والباطل ولم يوثق بما جاء من أمر النبوة فحمى الله نبيه ورؤياه ورؤيا غيره له من كيد الشيطان، وتمثيله ليصح رؤياه في الوجهين ويكون طريقا إلى علم صحيح، وقال القرطبي: الصحيح ما ذهب إليه الباقلاني من أن قوله (عليه السلام): فقد رآني، كناية عن كون الرؤيا حقا ليست بأضغاث أحلام وإن رئي على غير الصفة التي كانت عليها في الحياة وأن تلك الصفات من فعل الله تعالى لا من تخييل الشيطان وتمثيله لشهادته بعصمته في المنام أن يتمثل الشيطان به كما عصمه منه في اليقظة. وقال الآبي: إن الله تعالى على ما علم من الحديث عصم مثاله أن يتمثل به الشيطان في النوم كما عصم ذاته الكريمة منه في اليقظة.

وذكر القرافي من الكلام ما يشكل على هذا الأصل قال: قال العلماء إنما تصح رؤيته لأحد رجلين لصحابي رآه فإنطبع مثاله في نفسه فإذا رآه علم أنه مثاله المعصوم من الشيطان، والثاني رجل تكرر عليه سماع صفاته (1) المنقولة في الكتب حتى انطبع في نفسه المثال المعصوم فإذا رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان كما يجزم الصحابي بذلك، وأما غير هذين فلا يجزم أنه رآى مثاله بل يجوز أن يكون رأى مثاله ويحتمل أن يكون من تخييل الشيطان ولا يفيده قول المثال:

أنا رسول الله، ولا قول من حضر معه: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن الشيطان يكذب لنفسه ويكذب لغيره.

وموضع الإشكال قصره الرؤيا على الرجلين (2) وتجويزه في رؤية غير الرجلين أن يكون ما رآه من تخيل الشيطان مع شهادته (عليه السلام) أن الشيطان لا يتمثل به. فإن قلت: إذا لم تقصر رؤياه على الرجلين فبم يعلم غيره أنه رأى مثاله؟ قلت: يجوز أن يكون باعتقاد خلقه الله تعالى للرائي أن الذي رآه هو مثاله وقد تقرر أن محل الإدراك من النائم لا يأتي عليه النوم، ثم قال القرافي: وإذا تقرر أنه لابد من تحقيق رؤية مثاله

ص:378


1- 3 - قوله «رجل تكرر عليه سماع صفاته» يعرف كل عاقل أنه لا يمكن تشخيص الصورة بذكر أوصافها كلما دق وكثر ولا يمكن بغير الرؤية. (ش)
2- 1 - قوله «وموضع الإشكال قصره الرؤيا على الرجلين» من التزم أن المراد رؤياه بعينه (صلى الله عليه وآله) لا محيص له عن الالتزام بهذا الإشكال ومن أراد التخلص منه لابد له من اختيار قول الباقلاني والقرطبي وغيرهما وأن المراد من رؤيته (صلى الله عليه وآله) رؤياه في مثال مطابق لصفته في الواقع أو غير مطابق أو مشكوك لمطابقة مع العلم الضروري بأنه هو بروحه بإلهام رب العالمين. (ش)

المخصوصة فيشكل ذلك بما تقرر في كتب التعبير أنه يرى شيخا وشابا وأسود وذاهب العينين والقدمين وعلى أنواع شتى من المثل التي ليست مثالا له. قال: والجواب أن الأحوال صفات الرائي وأحوالهم تظهر فيهم وهو كالمرآة فإذا صح للرائي المثال والضبط فرؤيته أسود تدل على ظلم الرائي، ورؤيته ذاهب العينيين تدل على عدم إيمان الرائي إدراكه ذهب، ورؤيته ذاهب القدمين تدل على أن الرائي منع من ظهور الشريعة ونفوذ أمرها لأن القدم يعبر بها عن القدرة. ورؤيته شابا تدل على أن الرائي يستهزء به لأن الشاب محتقر. ورؤيته شيخا تدل على أن الرائي يعظم النبوة لأن الشيخ يعظم وغير ذلك من الصفات الدالة على الأحكام المختلفة ثم قال القرافي: قلت لبعض أشياخي إذا صح أن يراه على هذه الكيفيات فكيف ينفي المثال وهو لم ينف ولم يكن كذلك في الحياة؟ فقال لي: لو كان لك أب شاب تغيب عنه ثم جئت فوجدنه شيخا أو أصابه يرقان أصفر أو يرقان أسود أو بطلت أعضاؤه كنت تشك أنه أبوك قلت: لا قال: فما ذلك إلا لما انطبع في نفسك من مثاله المتصور عندك الذي لا تجهل مع عروض هذه الأحوال وغير الرجلين لا يثق بأنه رآه (1).

* الأصل:

14 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن عبيد الله، عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن سماعة، عن علي بن الحسن بن رباط، عن بن اذينة، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

الاثنا عشر الإمام من آل محمد كلم محدث من ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) هما الولدان.

* الشرح:

قوله (يقول الاثنا عشر الإمام من آل محمد) قد مر بإسناد آخر.

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن سعيد بن غزوان. عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي (عليهم السلام)، تاسعهم قائمهم.

* الأصل:

16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن زرارة قال: سمعت أبا

ص:379


1- 2 - قوله «وغير الرجلين لا يثق بأنه رآه» وعلى ذلك فيكون كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا مصداق إذ ينحصر فيمن رآه من الصحابة ثم رآه بعده في منامه وأما تعيين الصورة بالصفات المذكورة في الكتب فقد مر أنه غير ممكن وقد ذكر الشارح حديث كشف الغمة وأن رجلا في عهد الرضا (عليه السلام) رآه (صلى الله عليه وآله) في منامه فتمسك (عليه السلام) بهذا الحديث على أنه رؤيا صادقة وبالجملة فكلام القرافي متجاهل. (ش)

جعفر (عليه السلام) يقول: نحن اثنا عشر إماما منهم حسن وحسين ثم الأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (منهم حسن وحسين) خصهما بالذكر للتنبيه على أن تحقق الإمامة في الأخوين منحصر فيهما.

* الأصل:

17 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن أبي سعيد العصفوري عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني واثنى عشر من ولدى وأنت يا علي رز الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرص أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرص بأهلها ولم ينظروا.

* الشرح:

قوله (واثنا عشر من ولدي) هم اثنا عشر مع فاطمة (عليهما السلام).

قوله (رز الأرض) (1) بالزر بالراء المهملة والزاي المعجمة يقال رززت الشئ في الأرض رزا أي أثبته فيها، والرزة الحديدة التي يدخل فيها القفل فيستحكم بها الباب.

18 - وبهذا الإسناد، عن أبي سعيد رفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ولدي اثنا عشر نقيبا، نجباء، محدثون، مفهمون، آخرهم القائم بالحق يملأها عدلا كما ملئت جورا.

* الشرح:

قوله (من ولدى اثنا عشر نقيبا) من باب التغليب أو أطلق الولد على علي (عليه السلام) مجازا.

قوله (عن كرام) لعله كرام بن عمر بن عبد الكريم الواقفي.

* الأصل:

19 - علي بن محمد، ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم عن كرام قال: حلفت فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاما بنهار أبدا حتى يقوم قائم آل محمد، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فقلت له: رجل من شيعتكم جعل لله عليه أن لا يأكل طعاما بنهار أبدا حتى يقوم قائم آل محمد؟ قال: فصم إذا يا كرام ولا تصم العيدين ولا ثلاثة التشريق ولا إذا كنت مسافرا ولا مريضا فان الحسين (عليه السلام) لما قتل عجت السماوات والأرض ومن عليهما والملائكة فقالوا: يا ربنا ائذن لنا في هلاك الخلق حتى نجد هم عن جديد الأرض بما استحلوا حرمتك، وقتلوا صفوتك، فأوحى الله إليهم يا ملائكتي ويا

ص:380


1- 1 - في بعض المصادر: زر الأرض.

سماواتي ويا أرضي اسكنوا، ثم كشف حجابا من الحجة فإذا خلفه محمد (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر وصيا له (عليهم السلام) وأخذ بيد فلان القائم من بينهم، فقال: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي بهذا أنتصر [لهذا] - قالها ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله (أن لا أكل طعاما بنهار أبدا) كناية عن حلف صوم الدهر، والمراد بالحلف فيما بينه وبين نفسه عدم إظهاره لأحد ولو حمل على الحلف النفسي لم يكن الوفاء به واجبا بل مستحب.

قوله (حتى نجليهم عن جديد الأرض) جلوا عن أوطانهم وجلوتهم إذا أخرجتهم يتعدى ولا يتعدى وجديد الأرض وجهها، وفي بعض النسخ حتى نجدهم أي نقطعهم من جددت الشئ أجده بالضم قطعته.

قوله (وأخذ بيد فلان) أي أخذ جبرئيل أو ملك من الملائكة أو رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمره تعالى ونسبة الأخذ إليه تعالى مجاز من باب نسبة الفعل إلى الأمر به أو أخذ يده كناية عن وضع علامة عرفوه بها.

قوله (قالها ثلاث مرات) أي قال الله تعالى هذه الكلمة ثلاث مرات أو قالها الصادق (عليه السلام) والغرض من قوله (عليه السلام) فإن الحسين (عليه السلام) لما قتل - إلى آخر الحديث - هو التصريح بما هو المقصود من هذا الباب من أن الأوصياء اثني عشر مع الإتيان بما هو حجة على كرام لعلمه (عليه السلام) بأنه سيصير واقفيا.

* الأصل:

20 - محمد بن يحيى وأحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن أبي طالب، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال: كنت أنا وأبو بصير ومحمد بن عمران مولى أبي جعفر (عليه السلام) في منزله بمكة فقال محمد بن عمران: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن اثنا عشر محدثا، فقال له أبو بصير: سمعت من أبي عبد الله (عليه السلام) فحلفه مرة أو مرتين أنه سمعه فقال أبو بصير: لكني سمعته من أبي جعفر (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (في منزله بمكة) الضمير راجع إلى محمد بن عمران ورجوعه إلى أبى جعفر (عليهم السلام) بعيد.

ص:381

باب في أنه إذا قيل في الرجل شيء فلم يكن فيه وكان في ولده أو ولد ولده فإنه هو الذي قيل فيه

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبى بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أوحى إلى عمران أنى واهب لك ذكرا، سويا، مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام فلما وضعتها قالت: (رب إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى)، أي لا يكون البنت رسولا يقول الله عزوجل: (والله أعلم بما وضعت) فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

* الشرح:

قوله (فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك) يعنى لا تكذبونا ولا تنسبوا الخطأ إلينا، وذكر الآية أولا والتفريع بعده للإشعار بأنه إذا جاز ذلك في كلام الخالق جاز ذلك في كلام الخلق بطريق أولى ولعل السر فيه أن صفات الولد في الخير والشر كصفات الوالد عنده بل خير الولد عند الوالد أحب من خيره والشر أبغض من شره فيكون ذلك الاسلوب من الكلام أدخل في إكرامه وإهانته وأيضا كما أن مبدأ الولد موجود في الوالد كذلك صفات الولد موجودة فيه بالقوة وكما يصح إكرام الرجل وإهانته بصفاته الفعلية يصح إكرامه وإهانته بصفاته بالقوة.

* الأصل:

2 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قلنا في رجل قولا فلم يكن فيه، وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء.

* الأصل:

ص:382

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد يقوم الرجل بعدل أو بجور وينسب إليه ولم يكن قام به، فيكون ذلك ابنه أو ابن ابنه من بعده، فهو هو.

ص:383

باب أن الأئمة كلهم قائمون بأمر الله تعالى هادون إليه (عليهم السلام)

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن زيد أبي الحسن، عن الحكم بن أبي نعيم قال: أتيت أبا جعفر (عليه السلام) وهو بالمدينة، فقلت له: علي نذر بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فلم يجبني بشئ فأقمت ثلاثين يوما، ثم استقبلني في طريق فقال: يا حكم وإنك لهنا بعد، فقلت نعم: إني أخبرتك بما جعلت لله علي، فلم تأمرني ولم تنهني عن شيء ولم تجبني بشيء؟ فقال: بكر علي غدوة المنزل، فغدوت عليه فقال (عليه السلام): سل عن حاجتك، فقلت: إني جعلت لله علي نذرا وصياما وصدقة بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا، فإن كنت أنت رابطتك وإن لم تكن أنت سرت في الأرض فطلبت المعاش، فقال: يا حكم كلنا قائم بأمر الله، قلت: فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي إلى الله، قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف ووارث السيف، قلت: فأنت الذي تقتل أعداء الله ويعز بك أولياء الله ويظهر بك دين الله؟ فقال: يا حكم كيف أكون أنا وقد بلغت خمسا وأربعين [سنة]، وإن صاحب هذا الأمر أقرب عهدا باللبن مني وأخف على ظهر الدابة.

* الشرح:

قوله (على نذر بين الركن والمقام) يحتمل أن يكون المنذور هو الحج وأن يكون صيغة النذر واقعة في ذلك المقام وإن كان المنذور غيره.

قوله (حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا) أراد به القائم الذي يظهر به الدين ويغلب الأعداء طوعا وكرها.

قوله (وإن صاحب هذا الامر أقرب عهدا باللبن منى وأخف على ظهر الدابة) يعنى أقرب عهدا بلبن امه مني يريد أن سنه أقل من سني وأخف مني على ظهر الدابة والركوب عليها. روى الصدوق في كمال الدين بإسناده عن الحسن (عليه السلام) في آخر حديث له «يطيل الله عمر القائم (عليه السلام) في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون أربعين سنة ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير». وروى

ص:384

أيضا بإسناده عن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا (عليه السلام) أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر ولكني لست بالذي أملاها عدلا كما ملئت جورا وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني وأن القايم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشباب، قويا في بدنه حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها يكون معه عصا موسى وخاتم سليمان يغيبه الله في سره ما شاء الله ثم يظهره فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن القائم فقال: كلنا قائم بأمر الله. واحد بعد واحد حتى يجيء صاحب السيف، فإذا جاء صاحب السيف جاء بأمر غير الذي كان.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن القاسم البطل، عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (يوم ندعوا كل اناس بإمامهم) قال: إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه.

* الشرح:

قوله (وهو قائم أهل زمانه) أي قائم بأمر الله في أهل زمانه وفيه دلالة على ما هو المطلوب في هذا الباب.

ص:385

باب صلة الإمام (عليه السلام)

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد بن عامر بإسناده رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من زعم أن الإمام يحتاج إلى ما في أيدي الناس فهو كافر إنما الناس يحتاجون أن يقبل منهم الإمام، قال الله عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).

* الشرح:

قوله (من زعم أن الإمام يحتاج إلى ما في أيدي الناس فهو كافر) لأن ذلك يوجب تعظيمهم وتحقيره والمؤمن مأمور بتعظيمه وتوقيره ظاهرا وباطنا والتحرز عن اذلاله سرا وجهارا.

قوله (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) أي تطهر مالهم وتنميه بإخراج حق الغير عنه أو تطهر مالهم وتزكي نفوسه، وتطهرها من الأخلاق الرذيلة أو بالعكس، وقوله «خذ» دل على وجوب الأخذ مع الدفع لا على وجوب الدفع أو استحبابه بل هما من خارج والآية دلت على أن فائدة الأخذ راجعة إليهم لا إليه فهي حجة لقوله: إنما الناس يحتاجون أن يقبل منهم.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن عيسى بن سليمان النخاس، عن المفضل بن عمر، عن الخيبري ويونس بن ظبيان قالا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من شيء أحب إلى الله من إخراج الدراهم إلى الإمام وإن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل احد، ثم قال: إن الله تعالى يقول في كتابه: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) قال:

هو والله في صلة الإمام خاصة.

* الشرح:

قوله (ما من شيء أحب إلى الله من اخراج الدراهم إلى الإمام) يدل على استحباب إخراجها إليه ابتداء مطلقا سواء كانت واجبة أو مندوبة لا على وجوبه كما هو مذهب المفيد وأبى الصلاح، وإنما كان ذلك أحب لأنه توصل به (عليه السلام) وتقرب منه ومن الله تعالى ولأنه (عليه السلام) أعرف بمواضع الحاجات ومواسم الخيرات وأحوال الرجال وكيفية الانفاق وقدره ووجوه البر وطرق المصارف،

ص:386

ولأنه يميل إليه طباع الخلق ويقوى به أمره ويكمل به نظامه في الرئاسة والخلافة.

قوله (مثل جبل احد) يعني أن له وزنا في ميزان العمل الصالح كوزن جبل احد ولعله كناية عن كثرة ثوابه وعظمة جزائه بحيث لا يعلم قدره إلا الله جل شأنه ويؤيده في الخبر: درهم يوصل به الإمام أعظم وزنا من أحد، ويمكن أن يكون التفاوت في الوزن باعتبار التفاوت في أحوال المعطي والآخذ من خلوص النية والتقرب وكمال الاحتياج والفاقة والورع وغير ذلك من المرجحات.

قوله (ثم قال إن الله تعالى يقول في كتابه) استشهاد لما سبق من أن الله تعالى يزيد في إحسان المحسن. و «من» فيمن ذا الذي مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا أو بدله وقرضا مفعول مطلق بمعنى إقراضا ويحتمل أن يراد به ما يعطى من المال ليقضاه وحسنا صفته أو حال عن فاعل يقرض بمعنى مقرضا محسنا والمراد بحسنه خلوصه عن غير وجه الله ووقوعه مع طيب النفس من غير من ولا أذى وغير ذلك من موجبات النقص. وأضعافا بمعنى أمثالا لا يقدرها إلا الله سبحانه حتى يكون لواحد عشرة وسبعمائة ويزيد الله لمن يشاء.

وقد رغب الله سبحانه في إقراضه أولا بأنه يقضيه بأمثال كثيرة والكريم إذا وعد بالكثرة وفى بأعظم أفرادها ولا تجارة أنفع من ذلك، وثانيا بأنه تعالى شأنه هو الذي يقبض القرض ويبسط في العوض ويوسع فيه تحصل زيادة ترغيب ألا ترى أنه لو قيل لك: السلطان منا يشتري منك سلعتك بنفسه ويزيد في ثمنها ما أراد وكان كريما حصلت لك رغبة كاملة في تلك المعاملة فكيف السلطان الأعظم الذي لا ينقص في ملكه إعطاء الدنيا وما فيها لواحد، ويحتمل أن يكون يقبض ويبسط دافعا لما يخطر في بال المقرض من أن الإقراض ينقص ماله ويقتر عليه ويكون معناه والله يقبض ويقتر على من يشاء ويبسط ويوسع على من يشاء بحسب المصالح فلا تبخلوا عليه خوفا من النقص والتقتير، وثالثا بأن الله تعالى شأنه الذي طلب القرض منكم وعدكم الزيادة عليه ترجعون إليه فيجازيكم على حسب أعمالكم وتجدون ما فعلتم له ووعدكم عليه.

قوله (قال: هو والله في صلة الإمام خاصة) أي القرض الذي ذكره الله تعالى ونسبه إلى ذاته المقدسة الذي لا يحتاج إلى قرض ولا غيره هو صلة الإمام خاصة على سبيل التشبيه إذ هي لاقتضائها العوض الجيمل والثواب الجزيل شبهت بالقرض الذي هو قطع طائفة من المال ودفعه إلى الغير ليعوض به ويحتمل أن يكون من أفراد القرض حقيقة ولعل المقصود أن الآية نزلت قصدا وبالذات في صلة الإمام خاصة لا ينافي ذلك تعميمها بإدخال جميع الخيرات والأعمال الحسنة وإقراض الناس فيها أيضا والله أعلم.

* الأصل:

ص:387

3 - وبهذا الإسناد عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن حماد بن أبي طلحة، عن معاذ صاحب الأكسية قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله لم يسأل خلقه ما في أيديهم قرضا من حاجة به إلى ذلك، وما كان لله من حق فإنما هو لوليه.

* الأصل:

4 - أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا، عن إسحاق بن عمار، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) قال نزلت في صلة الإمام.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن الحسن بن مياح، عن أبيه قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مياح درهم يوصل به الإمام أعظم وزنا من احد.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: درهم يوصل به الإمام أفضل من ألفي ألف درهم فيما سواه من وجوه البر.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إني لآخذ من أحدكم الدرهم، وإني لمن أكثر أهل المدينة مالا ما اريد بذلك الا أن تطهروا.

ص:388

باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه

* الأصل:

إن الله تبارك وتعالى جعل الدنيا كلها بأسرها لخليفته حيث يقول للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة) فكانت الدنيا بأسرها لآدم وصارت بعده لأبرار ولده وخلفائه، فما غلب عليه أعداؤهم ثم رجع إليهم بحرب أو غلبة سمي فيئا (1) هو أن يفىء إليهم بغلبة وحرب وكان حكمه فيه ما قال الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فهو لله وللرسول ولقرابة الرسول فهذا هو الفيء الراجع وإنما يكون الراجع ما كان في يد غيرهم فاخذ منهم بالسيف، وأما ما رجع إليهم من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو الأنفال هو لله وللرسول خاصة، ليس لأحد فيه الشركة وإنما جعل الشركة في شيء قوتل عليه، فجعل لمن قاتل من الغنائم أربعة أسهم وللرسول سهم والذي للرسول (صلى الله عليه وآله) يقسمه ستة أسهم ثلاثة له وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما الأنفال فليس هذه سبيلها كانت للرسول (صلى الله عليه وآله) خاصة وكان فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة، لأنه فتحها وأمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يكن معهما أحد فزال عنها اسم الفىء ولزمها اسم الأنفال وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز هي للإمام خاصة. فان عمل فيها قوم بإذن الإمام فلهم أربعة أخماس وللإمام خمس والذي للإمام يجري مجرى الخمس ومن عمل فيها بغير إذن الإمام فالإمام يأخذه كله، ليس لأحد فيه شيء وكذلك من عمر شيئا أو أجرى قناة أو عمل في أرض خراب بغير إذن صاحب الأرض فليس له ذلك فإن شاء أخذها منه كلها وإن شاء تركها في يده.

* الشرح:

قوله (إن الله تعالى جعل الدنيا - إلى قوله -: لآدم) يعني كانت الدنيا بأسرها لخليفته وآدم خليفته فكانت الدنيا بأسرها لآدم وقوله: حيث تعليل إما للكبرى المطوية وهو ظاهر أو للصغرى المذكورة. ووجه الدلالة أن قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة) مع ملاحظة الظرف وملاحظة

ص:389


1- 1 - قوله «أو غلبة سمي فيئا» واصطلاح الشرع المشهور غير ما ذكره الكليني - رحمه الله - فإن الفيء ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب قال الله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) ولكن لا مشاحة في الاصطلاح. (ش)

العرف واستعمال الحدس تفيد أن الأرض كلها للخليفة وهو متصرف فيها كما في قولنا فلان نايب زيد في أهله حيث يفيد وضعا وعرفا وحدسا أن الأهل أهله وهو مالك لامورهم ومتصرف فيها، وخليفة الرجل من يقوم مقامه ويسد مسده والهاء فيه للمبالغة وجمعه الخلفاء على معنى التذكير مثل ظريف وظرفاء ويجمع على اللفظ خلائف كطريفة وطرائف.

قوله (وصارت بعده لأبرار ولده وخلفائه) هم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).

قوله (وهو أن يفيء إليهم بغلبة وحرب) الفيء في اللغة الغنيمة ويطلق على الرجوع المطلق أيضا وهو بالمعنى الأول مقابل للأنفال لأنه عبارة عن الرجوع بغلبة وحرب أما بالمعنى الثاني فهو يشمل الغنيمة والأنفال جميعا وهذا المعنى أيضا شايع قال الجوهري: الفيء الرجوع بل يمكن أن يقال: إنه مختص بالأنفال نظرا إلى ظاهر ما ذكره ابن الأثير في النهاية حيث قال: الفيء ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، أصل الفيء الرجوع كأنه كان في الأصل لهم ثم رجع إليهم، ويدل عليه أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب باسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة قال: يخرج منها الخمس ويقسم ما بقي بين من قاتل عليه وولي ذلك، وأما الفيء والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعنه أيضا في حديث طويل قال «وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كله من الفيء والأنفال لله وللرسول يضعه حيث يحب» وعنه أيضا في حديث طويل قال:

«الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها من هراقة دم والأنفال مثل ذلك بمنزلته».

قوله (وكان حكمه فيه) أي فيما رجع إليهم بحرب وغلبة ولابد من استثناء الأرض وصوافي الملوك فإن الأولى للمسلمين كافة والثانية للإمام (عليه السلام).

قوله (من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب) الركاب بالكسر الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها، والجمع الركب مثل الكتب والوجف والوجيف العدو والاضطراب يقال وجف الفرس والبعير وجفا ووجيفا أي عدوا وأوجفه صاحبه إيجافا وقوله تعالى: (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) معناه ما أعملتم خيلكم وركابكم في تحصيله.

قوله (فهو الأنفال) هي جمع النفل بسكون الفاء وفتحها وهو في اللغة الزيادة. ومنه النافلة والمراد به ما يزيد عما يشارك فيه الغانمون ويختص بالإمام (عليه السلام).

قوله (والذي للرسول (ص) يقسمه ستة أسهم) هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد أن يكون إجماعا والآية الشريفة والروايات المتكاثرة الصحيحة والمعتبرة دالة علية وأما ما نقله العلامة في المختلف من أن الخمس يقسم خمسة أقسام فيجاب أولا بأن قائل هذا القول مع شذوذه غير معلوم كما صرح به بعض الأصحاب فلا عبرة به أصلا ويجاب ثانيا بأن مستنده رواية

ص:390

ربعي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقسم الخمس خمسة أقسام يأخذ خمس الله عز وجل لنفسه ويقسم الباقي بين ذوى القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل» ولا دلالة فيها على أن ذلك حتم ولازم فلعله كان يأخذ دون حقه أو كان يعطي مع الأعوان فيبقى الآية والروايات الدالة على قسمته ستة أقسام بغير معارض.

قوله (ثلاثة له) هي سهمه وسهم الله وسهم ذي القربى نصف الخمس، وما كان له كان بعده للإمام (عليه السلام) سهم له أصالة وسهمان له وراثة.

قوله (وثلاثة لليتامى والمساكين وابن السبيل) المراد بالمساكين هنا ما يشمل الفقراء كما في كل موضع يذكرون منفردين والظاهر أنه لا خلاف في اعتبار فقر ابن السبيل في بلد التسليم، وأما اعتبار الفقر في اليتيم فهو المشهور بين الأصحاب وفي دليله ضعف وظاهر الآية دل على عدم اعتباره والله أعلم.

قوله (وكان فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله)) فدك بفتحتين قرية بناحية الحجاز أفاء الله تعالى على نبيه (عليه السلام) وهي قرية بخيبر.

قوله (وكذلك الآجام - الخ) الآجام بكسر الهمزة وفتحها مع المد جمع أجمة بالتحريك وهي ما فيه قصب ونحوه من غير الأرض المملوكة لمالكها. والمعادن جمع المعدن بكسر الدال وهو ما استخرج من الأرض واشتمل على نوع خصوصية ينتفع بها مثل العقيق والياقوت والفيروزج والملح والنفط وغيرها وهو للإمام بشرط أن لا يكون في أرض مملوكة لغيره فإنه لمالكها، والمفاوز جمع المفازة بفتح الميم فيهما وهي البرية القفر سميت بذلك لأنها مهلكة من فوز إذا مات، وقيل:

سميت تفاؤلا من الفوز بمعنى النجاة.

قوله (وللإمام خمس) هذا إذا قاطع على الخمس وإلا فله ما قاطع عليه قل أو كثر والباقي للعامل.

قوله (والذي للامام يجرى مجرى الخمس) لم يرد أنه مثل الخمس يقسم ستة أسهم لأنه مختص به (عليه السلام) بل أراد أنه مثله في أنه حقه المنتقل إليه بالوراثة بأمره تعالى.

قوله (ومن عمل فيها بغير إذن الإمام) دل على أنه لا يجوز لأحد التصرف فيها بغير إذنه مطلقا وهو مذهب بعض الأصحاب والمشهور بينهم أنه يجوز التصرف فيها في غيبته للشيعة وليس عليهم شيء سوى الزكاة في حاصلها وبعد ظهوره يبقيها في أيديهم ويأخذ منهم الخراج أيضا، وأما غيرهم من المسلمين فيجوز لهم التصرف في حال حضوره بإذنه وعليهم طسقها لا في حال غيبته فإن حاصلها حرام عليهم وهو يأخذها منهم ويخرجهم صاغرين وأما الكفار فلا يجوز لهم

ص:391

التصرف فيها في غيبته وحضوره ولو أذن لهم عند أكثر الأصحاب خلافا للمحقق الشيخ علي في الأخير مع الإذن والشهيد في الأول على ما نقل عنه وقد مر في باب أن الأرض كلها للإمام ما يناسب هذا المقام.

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه (صلى الله عليه وآله)، فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين) منا خاصة ولم يجعل لنا سهما في الصدقة، أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا من أوساخ ما في أيدي الناس.

* الشرح:

قوله (نحن والله الذي عنى الله بذي القربى) ذي القربى هو الإمام (عليه السلام) لا جميع بني هاشم كما ذهب إليه جماعة من متأخري العامة ولا جميع قريش كما ذهب إليه سلفهم والآية محكمة عندنا وعند أكثر العامة وذهب أبو حنيفة إلى أنه يسقط بعده (صلى الله عليه وآله) سهمه وسهم الله تعالى وسهم ذي القربى ويقسم على الثلاثة الأصناف الباقية.

قوله (فقال ما أفاء الله) الفيء هنا عبارة عن الغنيمة المأخوذة بحرب وقتال (1) كما ذكره أولا.

قوله (ولم يجعل لنا سهما في الصدقة) أراد بالصدقة الزكاة وتشمل بعمومها أو إطلاقها المندوبة أيضا وفي المندوبة خلاف وبقوله: لنا، جميع بني هاشم.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) قال: هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والخمس لله وللرسول ولنا.

* الشرح:

قوله (قال هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أن ضمير «هم» راجع إلى ذي القربى والجمع باعتبار

ص:392


1- 1 - قوله «المأخوذة بحرب وقتال» بل بغير حرب وقتال ويختص بالإمام كما هو نص الآية وإن خالف ما ذكره لمصنف أولا. (ش)

المعنى وحينئذ قوله فالخمس لله وللرسول ولنا، تفسير لنصف الخمس ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى ذي القربى وما عطف عليه في الآية لفهمه من سياقها ولم يذكره للاقتصار وحينئذ قوله فالخمس جميعه بدراج الأصناف الباقية في قوله لنا.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء.

* الشرح:

قوله (أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم) أي صالحوا على ترك القتال بالانجلاء عنها أو أعطوها بأيديهم وسلموها طوعا، أما لو صالحوا على أنها لهم فهي لهم ويتصرفون فيها كما يتصرف المالك في أملاكه ولو صالحوا على أنها للمسلمين ولهم السكنى وعليهم الجزية فالعامر للمسلمين قاطبة والموات للإمام (عليه السلام).

قوله (كل أرض خربة) سواء ترك أهلها أو هلكوا وسواء كانوا مسلمين أو كفار أو كذا مطلق الموات التي لم يكن لها مالك.

قوله (وبطون الأودية) المرجع فيها وفي الأرض الخربة إلى العرف كما صرح به الأصحاب ويتبعهما كل ما فيهما من شجر ومعدن وغيرهما.

قوله (وهو للإمام من بعده) اتفقت الشيعة على أن الأنفال من بعده للإمام وأنها غير الغنيمة والخمس وذهب بعض العامة إلى أنها هي الغنيمة وأن قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) (1) معناه أن الغنيمة مختصة بالرسول ثم نسخ بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية، بأن جعله أربعة الأخماس للغانمين ونصف الخمس للأصناف الثلاثة.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى; عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الخمس من خمسة أشياء من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن

ص:393


1- 1 - قوله (قل الأنفال لله والرسول) ظاهر الآية أن الأنفال هي الغنيمة ولكن اصطلاح الفقهاء على أن يريدوا به ما يختص بالإمام ولا مشاحة في الاصطلاح وقد يكون اصطلاح القرآن غير اصطلاح الناس، مثلا المكروه في القرآن حرام، وفى اصطلاح الفقهاء غير محرم. (ش)

والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس; فيجعل لمن جعله الله تعالى له ويقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه وولي ذلك ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله وسهم لرسول الله وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل. فسهم الله وسهم رسول الله لاولي الأمر من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة وسهم مقسوم له من الله وله نصف الخمس كملا ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به وإنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم. وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضا لهم من صدقات الناس تنزيها من الله لهم لقرابتهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس، فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة ولا بأس بصدقات بعضهم على بعض.

وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلى الله عليه وآله) الذين ذكرهم الله فقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم، الذكر منهم والانثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم وقد تحل صدقات الناس لمواليهم وهم والناس سواء ومن كانت امه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له وليس له من الخمس شيء لأن الله تعالى يقول: (ادعوهم لآبائهم) وللإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها: الجارية الفارهة والدابة الفارهة والثوب والمتاع بما يحب أو يشتهي فذلك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله وقسم الباقي على من ولي ذلك وإن لم يبق بعد سد النوائب شيء، فلا شيء لهم.

وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر وليس للأعراب من القسمة شيء وإن قاتلوا مع الوالي لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صالح الأعراب أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا، على أنه إن دهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم وليس لهم في الغنيمة نصيب، وسنته جارية فيهم وفي غيرهم، والأرضون التي اخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم

ص:394

الوالي على قدر طاقتهم من الحق: النصف [أ] والثلث [أ] والثلثين وعلى قدر ما يكون لهم صلاحا ولا يضرهم، فإذا أخرج منها ما أخرج، بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح فأخذه الوالي، فوجهه في الجهة التي وجهها الله على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ثمانية أسهم يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق ولا تقتير.

فإن فضل من ذلك شيء رد إلى الوالي وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا، ويؤخذ بعد ما بقي من العشر، فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها فيدفع إليهم انصباؤهم على ما صالحهم عليه ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير وله بعد الخمس الأنفال والأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود وهو وارث من لا وارث له يعول من لا حيلة له.

وقال: إن الله لم يترك شيئا من صنوف الأموال إلا وقد قسمه وأعطى كل ذي حق حقه الخاصة والعامة والفقراء والمساكين وكل صنف من صنوف الناس، فقال: لو عدل في الناس لاستغنوا، ثم قال: إن العدل أحلى من العسل ولا يعدل إلا من يحسن العدل.

قال: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم صدقات البوادي في البوادي وصدقات أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطي أهل كل سهم ثمنا ولكن يقسمها على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم كل صنف منهم يقدر لسنته، ليس في ذلك شيء موقوت ولا مسمى ولا مؤلف، إنما يضع ذلك على قدر ما يرى وما يحضره حتى يسد فاقة كل قوم منهم، وإن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلى غيرهم والأنفال إلى الوالي وكل أرض فتحت في أيام النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آخر الأبد وما كان افتتاحا بدعوة أهل الجور وأهل العدل لأن ذمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأولين والآخرين ذمة واحدة، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «المسلمون أخوة تتكافى دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» وليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس على ثمانية أسهم. فلم يبق منهم أحد، وجعل للفقراء قرابة الرسول (صلى الله عليه وآله)

ص:395

نصف الخمس فأغناهم به عن صدقات الناس وصدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وولي الأمر، فلم يبق فقير من فقراء الناس ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا وقد استغنى فلا فقير، ولذلك لم يكن على مال النبي (صلى الله عليه وآله) والوالي زكاة لأنه لم يبق فقير محتاج ولكن عليهم أشياء تنوبهم من وجوه، ولهم من تلك الوجوه كما عليهم.

* الشرح:

قوله (من الغنايم) يمكن إدراج أرباح المكاسب مطلقا في الغنايم لأنها أيضا غنيمة بالمعنى الأعم ولو خصت الغنيمة بما أخذ من مال أهل الحرب بحرب وقتال لا يقدح في ثبوت الخمس في غير ما ذكر لأن الكلام لا يفيد الحصر.

قوله (والغوص) الغوص الدخول في البحر بلغ قعره أو لم يبلغ فما أخرج به من اللؤلؤ والمرجان والذهب والفضة وليس عليهما أثر الإسلام يملكه المخرج عليه الخمس، وما عليه أثر الإسلام لقطة، وما أخذ عن وجه الماء والساحل داخل في المكاسب يخرج منه الخمس بعد مؤونة السنة.

قوله (ومن الكنوز) الكنز المال المذخور تحت الأرض وهو في دار الحرب مطلقا، وفي دار الإسلام إذا لم يكن عليه أثره ولم يكن في ملك الغير ولواجده، وعليه الخمس. وأما إذا كان عليه أثره فهو لقطة وإذا كان في ملك الغير وجب التعريف فإن لم يعرفه فهو لواجده إن لم يكن عليه أثر الإسلام والا فلقطة.

قوله (والملاحة) الملاحة بشد اللام منبت الملح كالنفاطة والقيارة لمنبت النفط والقير وذكرها بعد المعادن من باب ذكر الخاص بعد العام. روى الشيخ في التهذيب عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب. عن أبي أيوب، عن محمد مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الملاحة فقال:

وما الملاحة؟ فقلت: أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير ملحا فقال: هذا المعدن فيه الخمس، فقلت فالكبريت والنفط يخرج من الأرض؟ قال: فقال: هذا وأشباهه فيه الخمس.

قوله (فيجعل لمن جعله الله تعالى له) يعنى يقسم ستة أقسام لمن ذكر الله تعالى في الآية الشريفة وفيه دلالة على البسط وحمل على الاستحباب.

قوله (ويقسم الأربعة الأخماس - الخ) يعنى في الغنايم، وأما في غيرها من الصنوف المذكورة فهي للواجد والعامل.

قوله (ويقسم بينهم الخمس) ضمير بينهم راجع إلى «من» في قوله فيجعل لمن جعله الله تعالى له وهو في الحقيقة تفصيل وتوضيح له وجمع الضمير باعتبار المعنى.

ص:396

قوله (بين أهل بيته) المراد بهم من انتسب بأبيه لا بامه خاصة إلى هاشم دون المطلب أخيه أيضا على أشهر القولين فيهما خلافا للمرتضى وابن إدريس في الأول، وللمفيد وابن الجنيد - رحمهم الله - في الثاني.

قوله (ما يستغنون في سنتهم) دل على أن الخمس يعطى بقدر قوت السنة من غير إسراف ولا تقتير وهو المشهور بين الأصحاب، وذهب بعضهم إلى جواز إعطاء الزائد كالزكاة.

قوله (فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي) صريح في أن الفاضل من مؤونة سنتهم له، والناقص عليه، والخبر مرسل إلا أنه منجبر بالشهرة وذهب ابن إدريس إلى تخصيص كل صنف بحصته.

قوله (إنما صار عليه أن يمونهم - الخ) مانه يمونه مونا إذا احتمل مؤونته وقام بكفايته ولعل بناء التعليل على أن الفاضل له بالأصالة حتى صار أصلا لصيرورة تكميل مؤونتهم عليه وإلا لأمكن العكس أيضا.

قوله (وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس) لعل الفرق أن الزكاة يخرج من المال لتطهيره فهي أوساخ بخلاف الخمس فإنه مال لأهله ولا يبعد أن يقال: إنه مال للإمام بالأصالة لا لفقره ولذلك يملكه وإن كان غنيا ثم إنه يصرف نصفه إلى فقراء الهاشميين ويؤيده أنه لو كان الهاشميون كلهم أغنياء كان النصف الآخر أيضا له.

قوله (هم بنو عبد المطلب) وهم أولاد أبى طالب والعباس والحارث وأبى لهب والمعروف الآن أولاد الأول وفيه دلالة على أن المنتسب إلى المطلب أخي هاشم لا يستحق الخمس.

قوله (وقد تحل صدقات الناس لمواليهم) أي موالي بني عبد المطلب، وهم المعتقون من عبيدهم لانتفاء النسب الذي به حرمت الصدقة على بني هاشم خلافا للشافعي ولا يمنع من ذلك استحقاق الولاء وعود ما أخذوه من الصدقات إليهم بالإرث.

قوله (ومن كانت امه من بني هاشم وأبوه من ساير قريش) بل ممن لا ينتسب بأبيه إلى هاشم سواء كان أبوه قرشيا أم لا وهو صريح في أن المتقرب بالام فقط إلى هاشم لا نصيب له في الخمس وأنه يستحق الزكاة فهو حجة على من ذهب إلى خلافه، وضعف الرواية بالإرسال منجبر بالشهرة.

قوله (لأن الله تعالى يقول: (ادعوهم لآبائهم)) دل ظاهره على أن الانتساب بالأب دون الام ويعضده استعمال أهل اللغة وقول الفصحاء: قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا (1) وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ص:397


1- 1 - قوله «قال الشاعر بنونا بنو أبنائنا» الذي أراه أن الشعر أجنبي عن المقام فإن كون الرجل ابنا وولدا شيء وكونه منسوبا إلى القبيلة شيء آخر ولا يختلط أحدهما بالآخر ولذلك ترى فقهاءنا رضوان الله عليهم لم يرتابوا في كون ابن البنت وارثا كابن الابن مستدلين بقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وكذلك في أن بنات الأخ وأبناءه وبنات الاخت وأبناءها تشمل ولد الولد من الابن والبنت وأن في قوله تعالى (حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم) تشمل البنات وبنات البنات أيضا ولكن لا يرتاب أحد من العرب والعجم في أن الرجل إذا كان أبوه قرشيا وامه مخزوميا فإنه قرشي، وكان جعدة بن هبيرة ابن اخت أمير المؤمنين (عليه السلام) مخزوميا مع أن امه هاشمية وكذلك في عشاير العجم ينسب الرجل إلى قبيلة أبيه وإن كان ابنا لقبيلة امه وكان هذا دأب العرب في الانتساب إلى القبايل قبل النبي (صلى الله عليه وآله) وفي زمانه وبعده في عصر الأئمة ولم ينكره أحد، فمن امه سيدة هو من أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وليس هاشميا. (ش)

وما يخالفه يحمل على المجاز لأنه خير من الاشتراك، والمرتضى - ره - استدل بقوله (صلى الله عليه وآله) للحسنين (عليهما السلام): «هاذان ابناي إمامان» والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجاب عنه الشهيد الثاني (ره) بأنه ممنوع بل هو أعم منهما ومن المجاز خصوصا مع وجود المعارض وأراد بالمعارض هذا الخبر أو غيره وفي بعض الأخبار دلالة أظهر مما ذكره السيد (ره) كما لا يخفى على المتصفح.

قوله (وللإمام صفو المال) أي خالصه وجيده وقوله: أن يأخذ، بدل من صفو المال والدابة الفارهة الحاذقة النشيطة الحادة القوية، وقد فره - بالضم - يفره فهو فاره وهو نادر مثل حامض وقياسه فريه وحميض مثل صغر فهو صغير وملح فهو مليح، ويقال للبرذون والبغل والحمار: فاره بين الفروهة والفراهة والفراهية ولعل الترديد بين يحب ويشتهي من الراوي أو المراد بالمحبة الميل الكائن حال الرؤية وقبلها وبالاشتهاء الميل الحادث في حال الرؤية وقيل: بعض الأصحاب اختاره بشرط عدم الإجحاف وأطلقه أبو الصلاح.

قوله (فذلك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس) أي له أخذ صفو المال قبل قسمة الخمس وقبل قسمة الأربعة الأخماس وقبل إخراج الخمس، وبالجملة له ذلك من أصل الخمس ومن أصل الأخماس الأربعة ومن أصل الغنيمة ومثل إخراج جميع ما ينوبه من الجعايل للدليل أو لقاتل فلان أو لمن يتولى السرية أو لمن يحمل الراية أو لمن يكمن على العدو أو للجواسيس أو إعطاء المؤلفة كما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) في غزوة حنين أو نحو ذلك والتقدير منوط برأيه بحسب المصالح ولا يجب التساوي.

قوله (فإن بقي بعد ذلك شيء) دل على أنه لا يشترط فيه عدم الإجحاف كما هو مذهب أبى الصلاح.

قوله (فقسمه في أهله) وهم المذكورون في الآية الكريمة فيقسمه ستة أسهم ثلاثة له وثلاثة للأصناف الثلاثة.

ص:398

قوله (ولا ما غلبوا عليه إلا ما احتوى عليه العسكر) اسم الغنيمة يطلق على ما أخذ بالقهر والغلبة مما احتوى على عسكر الكفار قليلا كان أو كثيرا وهي التي تقسم في المقاتلين بعد إخراج الخمس إن وقع القتال باذن الإمام وإلا فهو له، وأما الأرض المفتوحة عنوة وغيرها مما كان في بلادهم فهي للمسلمين كافة.

قوله (وليس للأعراب من القسمة شيء) نعم قد يرضخ لهم قبل القسمة، والأعراب من أهل البادية، وقال بعض العلماء هم من أظهر الإسلام ولم يصفه يعني لم يعرف معناه بحيث يعبر عنه بنعوته المعنوية وإنما أظهر الشهادتين فقط وليس لهم علم بمقاصد الإسلام ثم هذا وهو أنه لا قسمة لهم في الغنيمة هو المشهور بين الأصحاب وعليه وفتوى الأكثر (1) وقال ابن إدريس يسهم لهم كغيرهم للآية ولم يثبت التخصيص وأجاب صاحب الإيضاح بأنه إن ثبت فعله (صلى الله عليه وآله) فهو مخصص لعموم الكتاب.

قوله (على أنه إن دهم رسول الله عن عدوه دهم) الدهم بالفتح العدد الكثير والكثرة والأمر العظيم والغائلة يقال: دهمه من عدوه بكسر الهاء وفتحها دهم أي فجأه وورد عليه عدد كثير أو أمر عظيم أو غائلة.

قوله (والأرضون التي أخذت عنوة - الخ) العنوة بفتح العين ما أخذت قهرا بالسيف من الأرضين والموات منها في حال القتال للامام (عليه السلام) والمحياة منها فيىء للمسلمين قاطبة والنظر فيها الإمام ولا يجوز فيها البيع والوقف والهبة ولا يملكها المتصرف على الخصوص في حال حضوره، وأما في حال غيبته فينفذ جميع ذلك (2) كما صرح به الشهيد في الدروس وصرح به عيره

ص:399


1- 1 - قوله «وعليه فتوى الأكثر» هذا غير محقق عندي وأشرنا إليه في حاشية الوافي الجزء السادس في الصفحة 40 والظاهر أن مراد من أفتى به أفتى بثبوت هذا الحكم في الجملة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) لا أن هذا حكم البدويين مطلقا وإن كانوا مؤمنين حضروا الواقعة واشتركوا في الجهاد بل لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذن لهم الحضور والجهاد في عصره كان لهم مثل ما لغيرهم. (ش)
2- 2 - قوله «فينفذ جميع ذلك» ههنا شبهة لغير المحصلين من نقلة الفتاوى صارت سببا لضلال طائفة من عوام الناس ومتمسكا لقوم آخرين ومنشؤها ما سمعوه من حكم الأراضي المفتوحة عنوة لزمنا التعرض لها ودفعها قضاء لواجب التكليف كما روى: «إذا ظهر في العالم البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» فحذرا من لعنهم نشير إلى ما هو الحق في هذه المسألة إجمالا وبيناه تفصيلا في حواشي الوافي في الجزء الحادي عشر من الصفحة 36 إلى 52 وأما هؤلاء الجهلة فمبناهم على إنكار الملك الخاص لأفراد الناس وقالوا: لا ملك إلا لعامتهم ولا يحل للآحاد التصرف في الأموال إذ لاحق لهم فيها وإنما ذلك حق الوالي نيابة عن العامة ولما سمعوا أن أراضي المسلمين مفتوحة عنوة غير أرض المدينة والبحرين قالوا: هي لعامة المسلمين وليس لأحد مالكية أي قطعة من الأرض بأي اسم وعنوان والمراد بالبحرين سواحل بحر عمان الشمالية من جزيرة العرب فنقول دفعا لجهلهم: إن الملك الخاص ثابت للناس في الأراضي المفتوحة عنوة بجميع أحكام الملك بحيث يجوز لهم البيع والهبة والوقف وسائر المعاملات ويحرم غصبها وانتزاعها، ويرثها الورثة من مورثهم إلى غير ذلك ولم يرد أحكام الفقه لأرض البحرين والمدينة فقط وليس معنى ملك عامة المسلمين للمفتوحة عنوة ما فهموه من نفى الملك الخاص للأفراد وإنما المعنى كون ملك العامة في طول ملك الأفراد نظير ما يقال: إن أراضي الشام كانت للروم، وأراضي الحيرة للعجم، وأرض الهند لفلان وأراضي مصر لفلان مع أن كل قطعة من القطعات كان ملكا لرجل خاص وهذا اصطلاح معهود بين الناس من أقدم الأزمنة إلى عصرنا هذا، بل قد يكون في قرية واحدة هي ملك لرجل معين دور وأراضي وبساتين لساكني القرية ملكهم في طول ملكه فيكون لصاحب القرية أن يطلب اجرة من أصحاب الدور والبساتين وكذلك لسلطان البلاد أن يطلب خراجا أو مقاسمة بعنوان المالكية العامة، من كل واحد من الملاك الخاصة والملك أنواع تختلف بدليل اختلاف أحكامها فملك الإمام للأنفال يرثه الإمام بعده لا جميع أولاده وملك العامة للطرق النافذة نوع وملك أصحاب الدروب للطرق المنسدة نوع وملك المسلمين للمفتوحة عنوة نوع لا يحل لهم البيع ولا الإرث ويشترك معهم من أسلم بعد الفتح وأما الأفراد المتصرفون في الأراضي فإن لهم حقا خاصا بتصرفهم المجاز يبيعون به الأرض ويهبون ويرثون ويقفون أملاكهم الزراعية على المساجد والفقراء وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويبنون المساجد ولا يبطل مسجديته بخراب المسجد أو القرية، وقال ابن إدريس: إنا نبيع ونقف تصرفنا فيها وتحجيرنا، فانظر إلى قوله: نقف تصرفنا ولا يصح الوقف إلا دائما فالتصرف حق دائم ولا يسلب حقهم في تلك الأراضي بانتزاعها قهرا غصبا ولا بزوال الآثار كالبناء والأشجار بل حق التصرف لهم ملك باق لا يزول عنهم إلا بالبيع وأمثاله، وبالجملة هذا الذي عليه المسلمون من صدر الإسلام إلى زماننا من المعاملة مع تلك الأراضي معاملة الأملاك الخاصة واستحقاق الحكومة خراجا بحسب المواضعات أو بالصلح هو الذي كان يراد من ملك العامة الأراضي المفتوحة عنوة بخلاف غير المفتوحة إذ لا يجوز للإمام طلب الخراج منها، نعم لبعض علمائنا قول بأن من زالت آثار مالكيته لأرض وتركها عشر سنين كان للإمام أن ينزعها منه ويفوضها إلى غيره يعمرها وهذا حكم خاص نظير حكم المحتكر لا ينافي ما ذكرنا بل يؤيده إذ يثبث به حق اختصاص للمالك بعد زوال آثاره إلى عشر سنين ولو كان الأمر كما توهمه الملاحدة وأتباعهم الجهلة لزال الملك بمجرد زوال الآثار بل كان للولاة أن يخرجوا البناء ويقلعوا الأشجار فينقطع حق أصحابها قهرا وان عصى مزيل الآثار بفعله وضمن لهم وكذلك كان لهم انتزاع الأراضي المزروعة بعد الحصاد من ملاكها، ولم يكن معنى لوقفها وإرثها فتأمل فيما ذكرنا واستعذ بالله من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ولا حول ولا قوة إلا بالله. (ش)

ثم الإمام يقبلها لمن يراه بما يراه ويأخذ الزكاة وهي العشر أو نصف العشر من حاصلها ويقسمها على ثمانية أسهم كما ذكره ثم يأخذ ما قرره على العامل ويصرفه في مصالح المسلمين من أرزاق أعوانه في الدين وما ينوبه من تقوية الإسلام، وتجهيز المجاهدين وسد الثغور وبناء القناطير وأمثال ذلك وليس للإمام منه شيء.

قوله (على ما يصالحهم الوالي) متعلق بقوله: متروكة في أيدي من يعمرها وقوله: «على قدر

ص:400

طاقتهم» إشارة إلى أنه ليس لمال المصالحة قدر معين شرعا بل تقديره منوط برأي الإمام.

قوله (مما سقت السماء أو سقي سيحا) أراد بالسماء المطر وبالسيح الماء الجاري على وجه الأرض سواء كان قبل الزرع كالنيل أم بعده، وكذا إن سقي بعلا وهو شربه بعروقه القريبة من الماء.

قوله (ونصف العشر مما سقى بالدوالي والنواضح) الدوالى جمع الدالية وهي التي يديرها البقر، والنواضح جمع الناضح وهو البعير يستقى عليه وكذا إن سقي بالدلو والناعورة وهي التي يديرها الماء.

قوله (للفقراء والمساكين) بيان هذه الأصناف وتفسيرها في كتب الفروع.

قوله (يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم) لعل هذا على سبيل الجواز وإلا فيجوز إعطاء ما يغنيهم دفعة.

قوله (فإن فضل من ذلك شيء رد إلى الوالي) لا لأن الوالي يملكه لنفسه إذ لا يجوز له أخذ الزكاة بل لأن يحفظه لمن يوجد من المستحقين.

قوله (ويؤخذ بعدما بقي من العشر فيقسم بين الوالي وبين شركائه - الخ) أي يؤخذ بعد إخراج العشر أو نصفه ما بقي فيقسم بين الوالي وبين شركائه الذين هم العاملون على الأرض المفتوحة عنوة والزارعون لها فيدفع إليهم أنصباءهم على ما صالحهم عليه ويصرف الباقي في مصالح الدين ومصارف المسلمين من مؤونة الغزاة وأرزاق القضاة وبناء القناطير وسد الثغور وأمثال ذلك ليس للوالي من ذلك قليل ولا كثير فقوله: يقسم بين الوالي وشركائه، ليس المراد أن الوالي يملكه لنفسه بل المراد أنه يصرفه في مصارفه.

قوله (وأكرتها) الأكرة بفتح الهمزة والكاف جمع أكار وهو الحراث والزراع من الأكرة وهو حفر الأرض، والمواكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض.

قوله (وله صوافى لملوك) أي صوافي ملوك أهل الحرب، وهي ما اصطفاه ملوك الكفار لنفسه من الأموال المنقولة وغيرها غير المغصوبة من مسلم أو معاهد فإن المغصوب وجب رده إلى مالكه.

قوله (وهو وارث من لا وارث له) سواء كان الميت مسلما أو كافرا ولا يجوز لأحد التصرف فيه في حال حضوره إلا باذنه وأما في حال غيبته فقال الشهيد الثاني (ره): المشهور أنه يجوز التصرف فيه ويصرف في فقراء بلد الميت وجيرانه للرواية. وقيل: في الفقراء مطلقا لضعف المخصص وهو قوي، وقيل في الفقراء وغيرهم كغيره من الأنفال.

قوله (يعول من لا حيلة - الخ) أي يقوم بما يحتاج إليه من قوت وكسوة وغيرهما من لا حيلة له

ص:401

في تحصيل ذلك بالمال والكسب.

قوله (وقال: إن الله لم يترك شيئا - الخ) أي قال العبد الصالح الكاظم (عليه السلام): «ان الله لم يترك شيئا من صنوف الأموال التي فيها الحقوق إلا وقد قسمه بالعدل في آية الزكاة والخمس والأنفال فأعطى كل ذي حق حقه من الفرق الخاصة كبني هاشم والفرق العامة كسائر الناس، فقوله: الخاصة والعامة بيان أو بدل من كل ذي حق، وقوله: والفقراء والمساكين وكل صنف من صنوف الناس عطف تفسير للعامة والخاصة للمبالغة في التعميم.

قوله (فقال: لو عدل في الناس - الخ) أي لو وقع العدل في الناس بإعطاء حقوقهم المالية لاستغنوا ولم يبق فقير فيهم كما قال الصادق (عليه السلام) في حديث طويل «إن الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم الله أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله، ولكن اوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم فلو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير».

قوله (ثم قال: إن العدل أحلى من العسل) شبه العدل بالعسل مع إثبات الزيادة في النفع والرغبة وميل الطبع وقوله: «ولا يعدل إلا من يحسن العدل» إشارة إلى أن نظام الخلق في المعاش والمعاد لا يتم إلا بالامام العادل إذ بدونه يقع الظلم والجور في أداء الحقوق المالية والدينية كما هو الواقع وهو سبب لفساد النظام وتفرق أحوال الأنام.

قوله (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم صدقات البوادي في البوادي) دل على وجوب القسمة كذلك وعدم جواز النقل، هذا إذا وجد المستحق في كل موضع وأمكن القسمة وإلا فقد صرحوا بجواز النقل بل بوجوبه.

قوله (ولا يقسم بينهم بالتسوية) دل على جواز عدم التسوية، نعم هو أفضل مع وجود المرجح وهي أفضل مع عدمه.

قوله (ليس في ذلك شيء موقوت ولا مسمى ولا مؤلف) أي ليس في قدر ما يقيم كل صنف شيء موقوت له وقت معين يختص به وحد معلوم لا يتجاوز عنه ولا مسمى له قدر معين ولا مؤلف مكتوب في السنة أولا مؤلف منهما إنما يضع ذلك على قدر ما يرى بحسب المصالح وتفاوت أحوال الرجال في المؤونة فيعطى من أراد ما أراد ويمنع من أراد كما قال تعالى جل شأنه:

(فامنن أو أمسك بغير حساب) ولا ظلم فيه لأن الإمام العادل إنما يفعل ما تقتضيه العدالة. والظلم في خلاف العدالة، نعم يستحب مع السعة أن لا يعطى أقل مما يجب في النصاب الأول من الذهب والفضة أو أقل مما يجب في النصاب الثاني على اختلاف القولين لدلالة الروايات على ذلك

ص:402

والقول بوجوبه بعيد جدا.

قوله (وإن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة إلى غيرهم) من الأشخاص والمصارف وفيه دلالة على أنه ليس للإمام منه شيء وفي التهذيب «فإن فضل من ذلك فضل عن فقراء أهل المال حمله إلى غيرهم» وهو أظهر والمال واحد.

قوله (والأنفال إلى الوالي) وذلك لأن الأنفال حق للوالي والنظر فيها إليه يتصرف فيها كيف يشاء وكذا النظر في كل أرض فتحت عنوة في زمان النبي إلى آخر الأبد إليه لأن ما فتحت بدعوة أهل الجور فهو حق له وداخل في الأنفال وما فتحت بدعوة أهل العدل فهو حق للمسلمين والنظر فيه أيضا إليه كما مر.

قوله (لأن ذمة رسول الله) تعليل لما سبق من أن النظر في الأنفال وما فتحت مره الأرضين المفتوحة عنوة إلى الوالي بعده (صلى الله عليه وآله) وذلك لأن عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحكمه في الأولين والآخرين واحد من غير تبدل وتغير وقد كان النظر في الأمور المذكورة في الأولين إلى الولي وهو النبي (صلى الله عليه وآله) فالنظر فيها في الآخرين أيضا إلى الوالي وهو الإمام (عليه السلام).

قوله (لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المسلمون اخوة تتكافى دماؤهم ويسعى بذمتهم آخرهم) في بعض النسخ أدناهم والأول أظهر في هذا المقام، يعني أن المسلمين اخوة تتساوى دماؤهم في القصاص والديات لا فضل لشريف على وضيع وإذا أعطى أدنى رجل أو آخرهم مرتبة أمانا للعدو فليس للباقين نقضه وجاز ذلك على جميع المسلمين وإن كانوا أعلى منه منزلة وليس لهم أن يخفروه ولا أن ينقضوا عليه عهده وقد سئل أبو عبد الله (عليه السلام) ما معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله) «يسعى بذمتهم أدناهم» قال: لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: اعطوني الأمان حتى ألقى صباحكم واناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به» وعنه (عليه السلام): إن عليا (عليه السلام) أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، وقال: هو من المؤمنين.

وظاهر هذا الكلام يدل على أن ذمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأولين والآخرين واحدة إلا ما أخرجه الدليل وليس هنا دليل على التفاوت بينهم.

قوله (وليس في مال الخمس زكاة) أي ليس في مال النبي والولي زكاة لأن الله تعالى جعل لفقراء الناس في أموال الناس ما يكفيهم فلم يبق منهم فقير، وجعل لقرابة الرسول نصف الخمس لعلمه بأنه يكفيهم فأغناهم به عن صدقات الناس وعن صدقات النبي وصدقات ولي الأمر بعده، فلم يبق في الناس ولا في قرابة النبي إلا وقد استغنى بما جعله الله تعالى له. ولذلك لم يكن على

ص:403

مال النبي (صلى الله عليه وآله) والولي زكاة لانتفاء الفقر المحوج إلى أخذ الزكاة من مالهما ولذلك أيضا لم تجب الزكاة في جميع أموال الناس، وقد مر في باب أن الأرض كلها للإمام وجه آخر لعدم وجوب الزكاة في مال الإمام وهو أن الإمام لا يبيت بليلة أبدا أو لله في عنقه حق يسأله عنه، ومر شرحه أيضا، ويحتمل أن يكون هذا القول ردا على بعض العامة حيث ذهب إلى أن للنبي خمس الخمس وأن أربعة أخماسه حق للأربعة الأصناف المذكورة في قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية، لكل صنف ربع، وهو قول جماعة منهم الشافعية وأما مالك فخمس الغنيمة عنده الفيء والفيء عنده لا يخمس والنظر فيه لإمام المسلمين يصرفه في مصالحهم باجتهاده.

قوله (وجعل للفقراء قرابة الرسول) المراد بهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذين لا يحل لهم الزكاة فعوضهم الله تعالى بالخمس ولهم نصف ثلاثة أسهم والنصف الآخر للإمام (عليه السلام) وفيه دلالة على اعتبار الفقر في اليتامى وأبناء السبيل كما في المساكين والظاهر أنه لا خلاف في اعتبار فقر ابن السبيل في بلد التسليم، وأما في اليتامى ففي فقرهم خلاف وتحقيقه في كتب الفروع.

قوله (ولكن عليهم أشياء تنوبهم) استدراك مما سبق ودفع لتوهم ما نشأ منه من أنه لا يجب شيء عليهم وإشارة إلى أنه تعالى جعل لهم أموالا وأنفالا وخمسا، ولهم الفضل من مؤونة سنة الناس وعليهم الإتمام مع الإعواز لا على وجه الزكاة بل على وجه العيلولة، ولا ينافي ذلك ما مر من أن ما جعله الله تعالى للناس يكفيهم لأن هذا أيضا مما جعله الله لهم.

* الأصل:

5 - علي بن محمد بن عبد الله، عن بعض أصحابنا - أظنه السياري - عن علي بن أسباط قال: لما ورد أبو الحسن موسى (عليه السلام) على المعدى رآه يرد المظالم فقال: يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه (صلى الله عليه وآله) فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله): (وآت ذا القربى حقه) فلم يدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هم؟ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل (عليه السلام) ربه فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة (عليها السلام)، فدعاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لها: يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك، فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها، فقال لها: ايتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين (عليه السلام) وام أيمن فشهدا لها. فكتب لها بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة،

ص:404

قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثم تفل فيه ومحاه وخرقه. فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب فضعي الحبال في رقابنا، فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي، فقال: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل، فقال له: كل هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين هذا كله إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب، فقال: كثير، وأنظر فيه.

* الشرح:

قوله (فاتته فسألته أن يردها عليها) روى مسلم بإسناده عن عائشة أن فاطمة بنت محمد أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله قال: لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال وأني والله لا اغير شيئا من رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ولأعملن فيها ما عمل به رسول الله فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي (عليه السلام).

قوله (ايتيني بأسود أو أحمر) أراد بالأسود العرب وبالأحمر العجم.

قوله (وام أيمن) هي أم اسامة بن زيد.

قوله (وخرقه) خرقه كتابها كخرق كسرى كتاب أبيها فشق بطنه كما شق بطنه.

قوله (هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب) الظاهر أنه إنكار لا إخبار إذ الإخبار يوجب الاعتراف بأنه لها، ووضع الحبال في الرقاب كناية عن التسلط والإذلال.

قوله (عريش مصر) العريش كل ما يستظل له والمراد به بيوتاتها.

قوله (سيف البحر - السيف بالكسر - ساحل البحر والجمع أسياف).

قوله (دومة الجندل) قال في المغرب: دومة الجندل بالضم والمحدثون على الفتح وهو خطأ عن ابن دريد: وهي حصن على خمسة عشرة ليلة من المدينة ومن الكوفة على عشر مراحل، وفي الصحاح: الجندل الحجارة والجندل - بفتح النون وكسر الدال - الموضع فيه حجارة.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الأنفال هو النفل وفي سورة الأنفال جذع الأنف.

ص:405

* الشرح:

قوله (الأنفال هو النفل) وقد مر تفسير النفل، ولعل الضمير راجع إلى مفرد الأنفال لا إليها والإفراد باعتبار الخبر إذ لا يصح الحمل والمقصود أن النفل المختص بالنبي (صلى الله عليه وآله) والولي بعده، فلا يرد أن الحمل في الأول أيضا بلا فائدة.

قوله (وفي سورة الأنفال جذع الأنف) أي قطع أنف المخالفين وهو كناية عن الإهانة والإذلال، ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر في تلك السورة الأنفال ومصرفها حيث قال عز شأنه: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) وما كان للرسول كان بعده للوالي فحكمها باق إلى يوم القيامة عندنا، وأما العامة فقد اختلفوا فيها فقال بعضهم: إن آية الأنفال منسوخة لأن المراد بالأنفال الغنيمة والغنيمة كانت للنبي خاصة بحكم هذه الآية فنسخ بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية، يجعل أربعة أخماسها للغانمين، وقال بعضهم أنها محكمة وأن قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم) مفسر لها وهذان القولان اشتركا في أن المراد بالأنفال الغنيمة وافترقا في الاختصاص والنسخ وعدمهما وقال بعضهم: إنها محكمة مخصوصة، والمراد بالأنفال أنفال السرايا بمعنى أن السرية الخارجة من الجيش تختص بالنفل من خمس ما غنمت وتشارك الجيش في أربعة الأخماس الباقية وقال بعضهم: إنها محكمة وأن الأنفال للإمام بمعنى أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة ما شاء لمن شاء وهذا القول حق عندنا إلا أن الإمام عندنا هو المعصوم الوالي من قبل الله تعالى وعند هذا القائل سلطان العصر وان كان جايرا وأن الأنفال غير مختصة بما ذكر، روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال فقال: ما كان من الأرضين باد أهلها وفي غير ذلك الأنفال، وقال: سورة الأنفال فيها يجذع الأنف».

* الأصل:

7 - أحمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرصا (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز وجل: (واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال: للرسول (صلى الله عليه وآله) وما كان لرسول الله فهو للامام، فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به؟ قال: ذاك إلى الإمام أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف يصنع؟ أليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام.

* الشرح:

قوله (وما كان لرسول الله فهو للإمام) فللإمام نصف الخمس: السدس بالأصالة والسدسان

ص:406

بالوراثة.

قوله (ما يصنع به) كان السائل توهم أنه يجب التسوية في القسمة فأشار (عليه السلام) بقوله إلى ذلك الإمام أنه يعطي كل أحد ما يستغني به في مؤونة سنته ولو فضل شيء فهو له كما أن الناقص عليه.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن معادن الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر، فقال:

عليها الخمس.

* الأصل:

9 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة قال: الإمام يجري وينقل ويعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام وقد قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوم لم يجعل لهم في الفيء نصيبا وإن شاء قسم ذلك بينهم.

* الشرح:

قوله (قال الإمام يجري وينقل ويعطي ما يشاء) أي يجري ما شرطه من الجعايل وينفل لنفسه ما أحب من الثياب النفيسة والدابة الفارهة والجارية الحسنة ونحوها ويعطي من لا نصيب له مثل الأعراب واجرة الراعي للغنيمة وحافظها وكاتبها وغير ذلك مما يحتاج إليه الغنيمة في مدة بقائها.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الصمد بن بشير عن حكيم مؤذن ابن عيسى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بمرفقيه على ركبتيه ثم أشار بيده، ثم قال: هي والله الإفادة يوما بيوم إلا أن أبي جعل شيعته في حل ليزكوا.

* الشرح:

قوله (عن حكيم مؤذن ابن عيسى) كذا في النسخ التي رأيناها وفي الاستبصار عن حكيم مؤذن بني عبس وهو الموافق لكتب الرجال.

قوله (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بمرفقيه على ركبتيه) حال من مرفقيه والمعنى رفع مرفقيه وهما كاينتان على ركبتيه وقد مر أن العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام فتقول قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى، وقالت له العينان سمعا وطاعة أي أومأت وقال

ص:407

بالماء على يده أي قلبه وقال بثوبه أي دفعه وكل ذلك على المجاز والاتساع.

قوله (هي والله الإفادة) دل على أن الغنيمة يطلق على ما يستفاد بالاكتساب وهي بهذا المعنى أعم منها بالمعنى المصطلح وهو ما حازه المسلمون من أموال أهل الحرب إذا حواها العسكر والمقصود أن ما استفيد بالاكتساب عل أنواعه من التجارة والزراعة والصناعة وغيرها داخل الغنيمة ويجب فيه الخمس، وقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن كل ما اكتسب فيه الخمس حتى الخياط ليخيط قميصا بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلا ما أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة أنه ليس شيء من عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من الزنا أنه يقوم صاحب الخمس فيقول يا رب سل هؤلاء بما نكحوا» وفيه وفي قوله (عليه السلام): إلا أن أبي جعل شيعته في حل ليزكيهم دلالة واضحة على أنه يجوز للشيعة أن يجعل منافع الاكتساب مهرا للزوجة وثمنا للجارية قبل إخراج الخمس مطلقا كما هو المشهور بين الأصحاب والمخالف نادر.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن سماعة قال:

سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير.

* الشرح:

قوله (قال سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير) لا ينافي هذا الخبر ونظيره مما يفيد وجوب الخمس في جميع أنواع الاكتساب ما رواه الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول «ليس الخمس إلا في الغنايم خاصة» لأمرين ذكرهما الشيخ في الاستبصار أحدهما أن يكون المعنى فيه أنه ليس الخمس إلا في الغنايم خاصة بظاهر القرآن لأن ما عدا الغنايم انما علم وجوب الخمس فيه بالسنة ولم يعن أنه ليس في ذلك خمس أصلا، والثاني أن يكون هذه المكاسب والفوايد التي تحصل للإنسان هي من جملة الغنايم التي ذكرها الله تعالى في القرآن والذي يدل على ذلك ما مر قبيل هذا من رواية حكيم مؤذن ابن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام).

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد قال: كتبت جعلت لك الفداء تعلمني ما الفائدة وما حدها رأيك - أبقاك الله تعالى - أن تمن على ببيان ذلك لكيلا أكون مقيما على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام

ص:408

أو جائزة.

* الشرح:

قوله (فكتب الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة) ذكر التجارة والحرث على سبيل التمثيل ولأنهما أقوى أنواع الاكتساب والا فالاكتساب غير منحصر فيهما، وقوله: بعد الغرام، إشارة إلى أن وجوب الخمس في فوايد الاكتساب بعد إخراج المؤونة كلها وفي قوله: أو جايزة، دلالة على وجوبه في الصدقة والهبة ونحوهما كما ذهب إليه أبو الصلاح محتجا بأنه نوع اكتساب وإليه ميل الشهيد الأول في اللمعة والشهيد الثاني في شرحه لأن قبولهما اكتساب، ولصحيحه علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) وأنكر وجوب الخمس فيهما جماعة من الأصحاب منهم ابن إدريس والعلامة للشك في كونهما من الاكتساب والأصل عدم الوجوب ولا يخفى ما فيه.

* الأصل:

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر قال: كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) الخمس اخرجه قبل المؤونة وبعد المؤونة، فكتب: بعد المؤونة.

* الشرح:

قوله (فكتب بعد المؤونة) يعتبر وجوب الخمس فيهما في جميع ما يجب فيه بعد إخراج المؤونة فيعتبر في الغنيمة بعد إخراج اجرة الحافظ والحامل والراعي وغير ذلك وفي المعدن والغوص بعد إخراج اجرة الحافر والغايص والآلة وغيرها وفي أرباح التجارات والزراعات والصناعات إخراج مؤونة السنة له ولعياله مطلقا وقس على ذلك.

* الأصل:

14 - أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كل شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن لنا خمسه ولا يحل لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتى يصل إلينا حقنا.

* الشرح:

قوله (قال كل شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن لنا خمسه)، دل بظاهره على أن لهم الخمس منه سواء وقع القتال بإذنهم أم لا ولكن المشهور بين الأصحاب أن لهم غنيمة كل من قاتل بغير إذنهم في حال الغيبة والحضور وبه رواية مرسلة إلا أنه لا

ص:409

قائل بخلافها كما صرح به الشهيد في شرح اللمعة.

قوله (ولا يحل لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتى يصل إليه حقنا) المشهور بين الأصحاب أنه يجوز للشيعة وطء الأمة المسبية حال الغيبة وشراؤها وشراء الغنايم المأخوذة من أهل الحرب حال الغيبة وإن كانت بأجمعها للإمام على قول مشهور أو يبعضها على قول ضعيف وكذا يجوز الشراء ممن لا يعتقد الخمس كالمخالف وممن لا يخمس فإنه لا يجب على المشتري منا إخراج الخمس منه نعم إذا تجدد له نماء وجب عليه الخمس في نمائه.

* الأصل:

15 - أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن يونس بن يعقوب، عن عبد العزيز بن نافع قال:

طلبنا الإذن على أبي عبد الله (عليه السلام) وأرسلنا إليه. فأرسل إلينا: ادخلوا اثنين اثنين. فدخلت أنا ورجل معي، فقلت للرجل: احب أن تستأذن بالمسألة فقال: نعم، فقال له: جعلت فداك إن أبى كان ممن سباه بنوا امية وقد علمت أن بني امية لم يكن لهم أن يحرموا ولا يحللوا ولم يكن لهم مما في أيديهم قليل ولا كثير وإنما ذلك لكم، فإذا ذكرت [رد] الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد علي عقلي ما أنا فيه، فقال له: أنت في حل مما كان من ذلك وكل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل من ذلك.

قال: فقمنا وخرجنا فسبقنا معتب إلى النفر القعود الذي ينتظرون إذن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لهم:

قد ظفر عبد العزيز بن نافع بشئ ما ظفر بمثله أحد قط قد قيل له: وما ذاك ففسره لهم، فقام اثنان فدخلا على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال أحدهما: جعلت فداك إن أبي كان من سبايا بني امية وقد علمت أن بني أمية لم يكن لهم من ذلك قليل ولا كثير وأنا احب أن تجعلني من ذلك في حل. فقال: وذاك إلينا؟ ما ذاك إلينا، مالنا أن نحل ولا أن نحرم، فخرج الرجلان وغضب أبو عبد الله (عليه السلام) فلم يدخل عليه أحد في تلك الليلة إلا بدأه أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: ألا تعجبون من فلان؟ يجيئني فيستحلني مما صنعت بنو امية، كأنه يرى أن ذلك لنا؟! ولم ينتفع أحد في تلك الليلة بقليل ولا كثير إلا الأولين فإنهما غنيا بحاجتهما.

* الشرح:

قوله (فقال له: إن أبي كان ممن سباه بنو امية) أخبره عن أبيه وعن نفسه وعما في يده من الأموال وعن الحزن بالتصرف فيها لعلمه بأن جميع ذلك حق له (عليه السلام) لكونه غنيمة مأخوذة بحكم أهل الجور فأجاب (عليه السلام) بأنه وإن من كان مثله في حل من ذلك، وفيه دلالة على أن غنيمة أهل الجور للإمام وأنه أباح لشيعته التصرف فيها حال الحضور والغيبة.

ص:410

قوله (فإذا ذكرت رد الذي كنت فيه) أي خلاف السنة الذي كنت فيه وهو تصرف العبد في مال المولى بدون إذنه قال في النهاية: يقال أمر رد إذا كان مخالفا لما عليه أهل السنة، ولفظ «رد» ليست بعض النسخ. وفي بعضها «ما» بدله وهو موصولة بمعنى شيئا ومآل الكل واحد.

قوله (ما أنا فيه) بدل عن الرد أو عن قوله ما أو عن فاعل يكاد أو فاعل ليفسد وهو بعيد لبقاء خبر يكاد بلا عايد إلى اسمه أو استفهام للتعجب عن حاله أو التوبيخ لنفسه.

قوله (فسبقنا معتب إلى النفر) معتب بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر التاء المشددة مولى أبي عبد الله (عليه السلام) مدني ثقة والنفر بفتحتين من الثلاثة إلى العشرة من الرجال وهو اسم لا واحد له من لفظه.

قوله (قد ظفر عبد العزيز بن نافع بشيء ما ظفر بمثله أحد) وفيه أن الذي ظفر به هو ذلك السائل: ويمكن أن يقال عبد العزيز أيضا ظفر به حيث علم ما لم يكن يعلم من أنه يجوز له التصرف فيما غنمه أهل الجور.

قوله (ما ذاك إلينا) لعله قال ذلك للتقية خوفا من إفشاء هذا الخبر ولم يكن له خوف من السائل الأول أو لأن هذا السائل لم يكن من أهل المودة والولاية في الواقع.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ضريس الكناسي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

من أين دخل على الناس الزناء؟ قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: من قبل خمسنا أهل البيت، إلا شيعتنا الأطيبين، فانه محلل لهم لميلادهم.

* الشرح:

قوله (قال من قبل خمسنا) لا يجوز لغير الشيعة أن يطأ الأمة التي سباها المقاتل بغير إذن الإمام ولا أن يشتريها ولا أن يجعل مهور النساء من منافع أنواع الاكتساب لدخول حق الإمام في جميع ذلك بل بعضها بالتمام حقه فلو فعل كان غاصبا وزانيا وجرى في الولد حكم ولد الزنا عند الله تعالى وجاز جميع ذلك للشيعة قبل إخراج حقه وحق مشاركيه من الهاشميين بإذنه ليطيب فعلهم وتزكو ولادتهم.

* الأصل:

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن شعيب، عن أبي الصباح قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال.

ص:411

* الأصل:

18 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن رفاعة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يموت، لا وارث له ولا مولى، قال: هو من أهل هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال).

* الشرح:

قوله (ولا مولى) أراد به المعتق وفي حكمه ضامن الجريرة فولاء العتق وولاء ضامن الجريرة مقدمان على ولاء الإمام (عليه السلام) وبالجملة يقدم الوارث وإن بعد ثم ولاء العتق ثم ولاء الضمان فإن لم يجد فالتركة من الأنفال التي جعلها الله تعالى للإمام (عليه السلام) ويجوز التصرف فيها حال غيبته على نحو ما ذكرناه سابقا.

* الأصل:

19 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الكنز، كم فيه؟ قال: الخمس، وعن المعادن كم فيها؟ قال: الخمس وكذلك الرصاص والصفر والحديد، وكلما كان من المعادن يؤخذ منها ما يؤخذ من الذهب والفضة.

* الشرح:

قوله (عن الكنز كم فيه قال الخمس) دل على أن الكنز يجب فيه الخمس قليلا كان أو كثيرا إلا أن ما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال سألته عما يجب فيه الخمس من الكنز فقال الزكاة في مثله ففيه الخمس دل ظاهرا على اعتبار النصاب وهو عشرون دينارا أو مائتا درهم في الكنز إذا كان من النقدين وفي غيرهما ما بلغ قيمته أحدهما وإنما قلنا ظاهرا لاحتمال أن يراد الكنز إذا كان ذهبا أو فضة ففيه الخمس فلو كان من غيرهما لا خمس فيه لكنه بعيد جدا والظاهر أنه لم يذهب إليه أحد.

قوله (وعن المعادن كم فيها قال الخمس) دل على أنه لا نصاب في المعادن وهو أحد قول الشيخ - ره - ومذهب ابن إدريس وقيل: ابن إدريس ادعى الإجماع على عدم النصاب فيها ولا دلالة على اعتباره فيما بعده وهو قوله «وكلما كان من المعادن يؤخذ منها ما يؤخذ من الذهب والفضة» لأن المراد منه أنه لا فرق في المعادن بين أن يكون ذهبا أو فضة أو غيرهما من المذكورات وغيرهما وجوب الخمس وليس المراد بيان اعتبار النصاب فيها وسيجئ في خبر محمد بن على عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ما يدل على اعتبار النصاب فيها وأنه دينار.

ص:412

* الأصل:

20 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن سنان، عن صباح الأزرق، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا ولادتهم.

* الشرح:

قوله (فيقول يا رب خمسي) أي اطلب خمسي أوضاع خمسي أو أين خمسي والمقصود طلب المكافاة ممن منعه وضيعه.

* الأصل:

21 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن علي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عما يخرج من البحر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد وعن معادن الذهب والفضة ما فيه؟ قال: إذا بلغ ثمنه دينارا ففيه الخمس.

* الشرح:

قوله (عن محمد بن علي) محمد بن علي بن أبي عبد الله مجهول وقد يقال: إن الإجماع على تصحيح ما يصح عن أحمد بن محمد بن أبى نصر يدفع الضعف بالجهالة.

قوله (قال إذا بلغ ثمنه دينارا ففيه الخمس) دل على أن النصاب معتبر في الغوص والمعدن وأنه دينار فهو حجة لأبي الصلاح وابن بابويه نظرا إلى ظاهر كلامه لكن روى الشيخ عن محمد بن الحسن الصفار عن يعقوب بن يزيد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عما أخرج من المعدن من قليل أو كثير هل فيه شيء؟ قال: ليس فيه شيء حتى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين دينارا.

وهذا الحديث محكوم بالصحة وبمضمونه عمل كثير من الأصحاب منهم العلامة وحمل بعضهم حديث الدينار على الاستحباب في المعدن وعلى الوجوب في الغوص وأورد عليه الشيخ محمد - رحمة الله عليه - بأن الحمل على الاستحباب لا يخلو من إشكال لاتحاد الرواية إلا أن يقال:

لا مانع من حمل بعض الرواية على الاستحباب للمعارض وبعضها على الوجوب لعدمه، وقال الشيخ في التهذيب: ليس بين الخبرين تضاد لأن خبر ابن أبي نصر تناول حكم المعادن وخبر محمد بن على حكم ما يخرج من البحر وليس أحدهما هو الآخر بل لكل واحد منهما حكم على

ص:413

الانفراد ووجه كلام الشيخ محمد - رحمة الله عليه - بأن مراده أن خبر محمد بن علي وارد المعدن الذي هو خرج من البحر وحكمه حكم الغوص وخبر ابن أبي نصر في غيره من المعادن وهو الذي نصابه عشرون دينارا وله وجه إلا أنه بعيد. ثم قال: وربما يقال: إن خبر ابن أبي نصر مع معارضته للإجماع الذي ادعاه ابن إدريس يحتمل أن يراد فيه السؤال عن الزكاة إذ ليس صريحا الخمس فيما ادعاه بعض الأصحاب من أنه صريح في الخمس محل كلام، وأما ما قيل في رد خبر ابن أبي نصر من أن في طريق الشيخ إلى محمد بن الحسن الصفار أحمد بن محمد بن الوليد على أحد الطريقين وأبو الحسين بن أبي جيد على الآخر وهما غير موثقين ففيه أن هذا لو قدح لأشكل تصحيح غالب الأحاديث لا سيما في ابن الوليد. ومما ذكرناه ظهر أن الأقوال في المعدن ثلاثة: الأول أنه لا نصاب فيه وأنه يجب الخمس في قليله وكثيره، والثاني أن النصاب في دينار كالغوص، والثالث النصاب فيه عشرون دينارا كالكنز، والاحتياط يقتضى الإخراج في قليله وكثيره. والله أعلم.

* الأصل:

22 - محمد بن الحسين وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد، عن علي بن مهزيار قال: كتبت إليه يا سيدي رجل دفع إليه مال يحج به، هل عليه في ذلك المال حين يصير إليه الخمس أو على ما فضل في يده بعد الحج؟ فكتب (عليه السلام) لي: ليس عليه الخمس.

* الشرح:

قوله (فكتب (عليه السلام) ليس عليه الخمس) دل على أنه لا خمس في مال رفع إلى رجل يحج به مطلقا لا حين الأخذ ولا بعد الحج إن بقي شيء بعد مؤونة السنة له ولعياله، وقيل: المشهور وجوب الخمس في جميع المكاسب من تجارة وصناعة وزراعة وغرس ومن ذلك استيجار الإنسان نفسه لعمل كالحج وما شابهه لكن بعد إخراج مؤونة السنة له ولعياله الواجبي النفقة وغيرهم، هذا كلامه وهو لا يخلو من قوة والرواية ضعيفة والله أعلم.

* الأصل:

23 - سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن علي بن الحسين بن عبد ربه قال: سرح الرضا (عليه السلام) بصلة إلى أبي، فكتب إليه أبي: هل علي فيما سرحت إلي خمس؟ فكتب إليه: لا خمس عليك فيما سرح به صاحب الخمس.

* الشرح:

ص:414

قوله (لا خمس عليك فيما سرح به صاحب الخمس) دل على أنه لا خمس على رجل فيما أعطاه الإمام من هبة وصدقة وهدية، ولا يدل على أنه لا خمس عليه في هذه الأمور إذا وصلت إليه من غير الإمام بل يدل بحسب المفهوم على الوجوب وقد ذهب إليه أبو الصلاح محتجا بأنه نوع من الاكتساب وفائدة فيدخل بحسب عموم الأخبار أو إطلاقها ولا يخلو من قوة.

* الأصل:

24 - سهل، عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): أقرأني علي بن مهزيار كتاب أبيك (عليه السلام) فيما أوجبه على أصحاب الضياع نصف السدس بعد المؤونة وأنه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرحل وعياله فكتب (عليه السلام): بعد مؤونته ومؤونة عياله و [بعد] خراج السلطان.

* الشرح:

قوله (فيما أوجبه على أصحاب الضياع نصف السدس) ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك وكأنه (عليه السلام) أوجب عليهم بعض الحق وأسقط عنهم بعضه لمصلحة وإلا فالحق أكثر من نصف السدس وإذا جاز له إسقاط الكل كما دل عليه بعض الروايات جاز له إسقاط البعض بطريق أولى وإرادة نصف كل سدس أو إرادة الستة من السدس التزاما ليرجع إلى نصف الخمس ويكون المراد به حصته (عليه السلام) بعيدة جدا.

قوله (وأنه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك) أراد نفي الخمس ونفي الزكاة جميعا عند عدم وفاء الحاصل بالمؤونة.

* الأصل:

25 - سهل، عن أحمد بن المثنى قال: حدثني محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم إن الله واسع كريم ضمن على العمل الثواب وعلى الضيق الهم، لا يحل مال إلا من وجه أحله الله وإن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا وما نبدله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم والمسلم من يفي لله بما عهد إليه وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب: والسلام.

ص:415

* الشرح:

قوله (يسأله الإذن في الخمس) أي في التصرف فيه وعدم إخراجه من الأرباح.

قوله (وعلى الضيق الهم) لعل المراد أنه ضمن على ضيق النفس في الإطاعة والانقياد العقاب وفي التهذيب في موقعه «وعلى الخلاف العقاب».

* الأصل:

26 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن زيد قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فسألوه أن يجعلهم في حل من الخمس، فقال: ما أمحل هذا تمحضونا بالمودة بألسنتكم وتزوون عنا حقا جعله الله لنا وجعلنا له وهو الخمس، لانجعل، لانجعل، لانجعل لأحد منكم في حل.

* الشرح:

قوله (وجعلنا له) أي جعلنا واليا له متصرفا فيه.

قوله (لانجعل) قال الشيخ في الاستبصار: الوجه في الجمع بين هذه الرواية والروايات الدالة عل الحل ما كان يذهب إليه شيخنا رحمة الله عليه وهو أن ما ورد من الرخصة في تناول الخمس والتصرف فيه إنما ورد في المناكح خاصة لتطيب ولادة شيعتهم ولم يرد في الأموال ما ورد من التشدد في الخمس والاستبداد به فهو يختص الأموال.

* الأصل:

27 - علي بن إبراهيم، عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) إذ دخل عليه صالح بن محمد ابن سهل وكان يتولى له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل فإني أنفقتها، فقال له: أنت في حل، فلما خرج صالح، قال أبو جعفر (عليه السلام): أحدهم يثب على أموال حق آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وفقرائهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حل، أتراه ظن أني أقول: لا أفعل، والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا.

* الشرح:

قوله (أتراه ظن أني أقول: لا أفعل) دل ذلك ظاهرا على أن الخمس كله حق الإمام إلا أنه يصرف بعضه في الوجوه المذكورة ويحتمل أن يكون بعضه حقا للأصناف المذكورين إلا أن الإمام أولى بهم من أنفسهم فلذلك كان له أن يحل المتصرف في حقوقهم أيضا ثم قوله: «ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا» دل ظاهرا على أن من أحل له الإمام أيضا مسؤول وهو بعيد جدا ولا يبعد تخصيص السؤال بمن عداه والله أعلم.

ص:416

* الأصل:

28 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العنبر وغوص اللؤلؤ؟ فقال (عليه السلام): عليه الخمس.

كمل الجزء الثاني من كتاب الحجة [من كتاب الكافي] ويتلوه كتاب الإيمان والكفر.

والحمد لله رب العالمين والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص:417

فهرس الآيات

(ائت بقرآن غير هذا أو بدله يونس: 15... 72

(ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين الأحقاف: 4... 96

(ادعوهم لآبائهم الأحزاب: 5... 394

(إذا جاءك المنافقون) المنافقون: 1... 119

(اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا الاسراء: 63... 97

(اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون التوبة: 94... 91

(إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم هود: 119... 105

(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الأعراف: 43... 69

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) البقرة: 146... 182

(الذين آمنوا واتبعوا النور الذي أنزل معه الأعراف: 157... 107 - 105

(الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فصلت: 30... 74

(الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون * وبينهما حجاب وعلى

الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا الأعراف: 5 - 6... 95

(الذين يمشون على الأرض هونا الفرقان: 63... 100

(الله لطيف بعباده يرزق.... من كان يريد حرث الآخرة الشورى: 19... 126

(الله نور السماوات والأرض مثل نوره النور: 36... 174

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت المائدة: 3... 175

(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر: 10... 109

(إنا أنزلناه في ليلة القدر القدر: 1... 211

(إن إبراهيم كان امة قانتا لله النحل: 120... 178

(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون يس: 8... 113

(إن الحكم إلا لله الانعام: 57... 197

(إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا النساء: 137... 75

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات - إلى قوله - وحسنت مرتفقا). الكهف: 30 - 31... 92

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) مريم: 96... 113 - 115

ص:418

(إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى محمد: 25... 77

(إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم آل عمران: 90... 76

(إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم النساء: 137... 89

(إن الذين يؤذون الله ورسوله الأحزاب: 57... 220

(إن الله لا يهدي القوم الفاسقين المنافقون: 6... 120

(إنا لله وإنا إليه راجعون البقرة: 156... 215

(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا

تسليما). الأحزاب: 56... 191

(إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا المرسلات: 41 - 42... 125

(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحزاب: 35... 86

(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا الانسان: 23... 117

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا) آل عمران: 68... 62

(إن في ذلك لآيات للمتوسمين) الحجر: 75... 137

(ان كتاب الفجار لفي سجينا لمطففين: 7... 126

(ان لدينا أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما). المزمل: 13... 123

(إنما النسيء زيادة في الكفر التوبة: 37... 141

(إن ما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه

من أفك الذاريات: 6 - 9... 82

(انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا المائدة: 55... 71 - 125 - 99

(إنما يخشى الله من عباده العلماء فاطر: 28... 202 - 152

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب: 33... 85 - 86 -

174 - 269

(إن هذا لفي الصحف الاولى صحف إبراهيم وموسى). الاعلى: 18... 68

(إنه لتذكرة للمتقين) الحاقة: 48... 121

(إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) الحاقة 40 - 41... 116

(إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان النجم: 23... 266

(إني جاعل في الأرض خليفة البقرة: 30... 389

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فانما على رسولنا البلاغ المبين التغابن: 12... 97 - 98

(أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * هم درجات عند

ص:419

الله ال عمران: 62... 109

(أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم الملك: 22... 116

(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا يونس: 62... 108

(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان يونس: 60... 107

(ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا إبراهيم: 28... 100

(أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم الزخرف: 79... 77

(أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا التوبة: 16... 59

(أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير لقمان: 14... 101

(أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين الأعراف: 128... 34

(أن تقول نفس يا حسرتا على ما فطرت في جنب الله الزمر: 56... 108

(أو إطعام في يوم ذي مسغبة البلد: 14... 83

(أوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة: 40... 112

(أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر فاطر: 37... 114

(بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يونس: 2... 83

(بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين هود: 86... 48 - 243

(بل الله فاعبد وكن من الشاكرين الزمر: 66... 99

(بل تؤثرون الحياة الدنيا الاعلى: 16... 68

(بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون المطففين: 14... 120

بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين * ويوم القيامة ترى الذين

كذبوا على الله الزمر: 59 - 60... 108

(بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته البقرة: 81... 104

(إنما تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب يس: 11... 115

(هذا الذي كنتم به تكذبون) المطففين: 17... 118

(حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف

جندا مريم: 75... 112 - 122

(حم * والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل

أمر الدخان: 3... 256

(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). التوبة: 103... 386

ص:420

(ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا المنافقون: 3... 116

(ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر محمد: 26... 77

(رب اغفر لي ولوالدي ولمن نوح: 28... 85

(سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع المعارج: 1... 81

(سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الأحزاب: 62... 97

(سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم

الفاسقين المنافقون: 6... 116 - 120

(صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة البقرة: 138... 84

(ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من

عبادنا التحريم: 10... 222

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من الجن: 26... 122

(عم يتساءلون * عن النبأ النبأ: 1... 70

(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) مريم: 97... 113 - 115

(فأتوا بسورة من مثله البقرة: 23... 62

(فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من

المسلمين الذاريات: 36... 93

(فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الضالمين الأعراف: 44... 95

(فأقم وجهك للدين حنيفا الروم: 30... 71

(فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). البقرة: 39... 104

(فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الفرقان: 70... 158

(فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا البقرة: 59... 89

(فبذلك فليفرحوا يونس: 58... 87

(فستعلمون من هو في ضلال مبين الملك: 30... 79

(فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فكالبلد: 12... 82 - 111

(فلا يخاف بخسا ولا رهقا الجن: 13... 121

(فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون البلد: 27... 93

(فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب الحشر: 6... 390

(فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل يونس: 74... 129

ص:421

(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى طه: 123... 56

(فمن زحزح عن النار آل عمران: 185... 174

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر * إنا اعتدنا الكهف: 29... 91

(فمنكم كافر ومنكم مؤمن التغابن: 2... 97 - 53

قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم

قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته

ادخلوا الجنة لا الأعراف: 48... 95

(قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) الجن: 25... 122

(قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله سبأ: 46... 75

(قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين). يونس: 53... 110

(قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات

ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن الأحقاف: 4... 97

(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون يونس: 58... 87

(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى الشورى: 23... 55 - 175

(قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت عذاب

يوم عظيم). يونس: 15... 72

(قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف: 108... 93

(قل هي للذين آمنوا) الأعراف: 32... 40

(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله الزمر: 53... 153

(قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا البقرة: 136... 61

(كلا إن كتاب الفجار لفي سجين المطففين: 7... 118

(كلا إنها تذكرة) عبس: 11... 117

(كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن

المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك المدثر... 124

(كل نفس ذائقة الموت آل عمران: 185... 173 - 215 - 172

(لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين الزمر: 6... 99

(لا اقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد البلد: 1 - 3... 57

(لا أملك لكم ضرا ولا رشدا الجن: 16... 121

ص:422

(لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون آل عمران: 169... 376

(لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم: 87... 113 - 114

(لتركبن طبقا عن طبق الانشقاق: 19... 60

(لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون يس: 6... 113

(لستن كأحد من النساء). الأحزاب: 32... 86

(لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية الحاقة: 12... 88

(ليستيقن الذين أوتوا الكتاب المدثر: 31... 123

(ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون التوبة: 33... 116

(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى

والمساكين الحشر: 7... 392

(ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين المدثر: 42... 72

(مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء إبراهيم: 24... 102

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة البقرة: 245... 386 - 388

(من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا مريم: 75... 112 - 114

(نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي

مبين الشعراء: 193 - 195... 51

(وآت ذا القربى حقه الاسراء: 26... 404

(وآتيناه الحكم صبيا مريم: 12... 287

(واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم لقمان: 15... 101

(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن

نديا مريم: 73... 112 - 113

(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا يونس: 15... 72

(وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم لووا المنافقون: 5... 116

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست

بربكم الأعراف: 172... 49

(وإذ قالت طائفة منهم الأحزاب: 13... 372

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى البقرة: 34... 97

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى الأنفال: 41... 57 - 392 -

389 - 406

ص:423

(والأرض وضعها للأنام * فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام يخرج منهما اللؤلؤ

والمرجان الرحمن: 11... 44

(والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الانعام: 72... 53

(والسابقون السابقون اولئك المقربون الواقعة: 10... 73

(كلا والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى المدثر: 32 - 34... 124

(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). البقرة: 213... 98

(وإنا لنعلم أن منكم مكذبين الحاقة: 49... 121

(وإن جاهداك على أن تشرك بي لقمان: 15... 101

(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) الأنفال: 61... 60

(وإن كانت لكبيرة). البقرة: 143... 199

(وإنما توفون أجوركم يوم القيامة آل عمران: 185... 173

(وإنه لتنزيل رب الشعراء 192... 51

(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها

الإنسان إنه كان ظلوما جهولا الأحزاب: 72... 52

(واوحي إلي هذا القرآن لانذركم به الانعام: 19... 62 - 90

(واهجرهم هجرا جميلا المزمل: 10... 123

(وأذان من الله ورسوله التوبة: 3... 95

(وأسروا الندامة لما رأوا العذاب يونس: 54... 87 - 111

(وأما بنعمة ربك فحدث الضحى: 11... 45

(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا الجن: 18... 92

(وأنذر عشيرتك الأقربين الشعراء: 214... 394

(وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا الجن: 16... 73

(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم الزمر: 54... 108

(وبئر معطلة وقصر مشيد الحج: 45... 98

(وبشر اللذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون البقرة: 156... 215

(وتعيها أذن واعية الحاقة: 12... 88

(وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون يس: 9... 113 - 115

(وحسن اولئك رفيقا النساء: 69... 190

ص:424

(ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون الأعراف: 156... 105 - 153

(وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون البقرة: 6... 113

(وشاهد ومشهود البروج: 3... 94

(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الفرقان: 63... 100

(وقولوا حطة البقرة: 58... 89

(ولئن أشركت ليحبطن عملك الزمر: 65... 7

(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الزخرف: 87... 129

(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى الأحزاب: 33... 86

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما

محسورا). الاسراء: 29... 163

(ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 118... 105

(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الزمر: 65... 99

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما طه: 115... 63

(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الأنبياء: 105... 232

(ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون القصص: 51... 61

(ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة

فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا هود: 84... 244

(ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة التوبة: 16... 323

(ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم المائة: 66... 55

(ولو تقول علينا.. لأخذنا منه باليمين الحاقة: 44... 121

(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور آل عمران: 185... 174 - 172

(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك الاسراء: 60... 97

(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون... 71 - 118 - 125

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). البقرة: 57... 12

(وما هي إلا ذكرى للبشر المدثر: 31... 117

(وما يكذب بها إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه المطففين: 12... 126

(ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت إبراهيم: 26... 102

(وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف: 181... 58

ص:425

(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات

للعالمين الروم: 22... 138

(ومن أعرض عن ذكري.. فإن له ونحشره يوم القيامة أعمى)، طه: 124... 126

(ومن قدر عليه رزقه الطلاق: 7... 40

(ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون الأعراف: 159... 106

(ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب الشورى: 20... 126

(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الحج: 25... 79

(ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين النساء: 69... 189

(ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا الشورى: 23... 104

(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا القصص: 5... 232

(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة الأنبياء: 47... 71

(ونمير أهلنا يوسف: 65... 49

(ووصينا الإنسان بوالديه احسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله

وفصاله الأحقاف: 15... 232

(ووصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين). لقمان: 14... 101

(وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد الحج: 24... 95

(ويزداد الذين آمنوا إيمانا)؟ المدثر: 31... 117

(ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) مريم: 76... 112

(ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم محمد: 38... 270

(ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل

بالمجرمين المرسلات: 16 - 17... 118

(هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ص: 39... 138 - 137

(هذان خصمان اختصموا في ربهم الحج: 19... 84

(هنالك الولاية لله الحق الكهف: 44... 84 - 70

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق التوبة: 33... 116

(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات.. واخر متشابهات آل عمران: 7... 58

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به

الحديد: 28... 110

(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم البقرة: 208... 67

ص:426

(يا أيها الذين أتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا النساء: 47... 66

(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم - إلى قوله - وأنتم تعلمون البقرة: 21... 110

(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة

للمؤمنين يونس: 57... 87

(يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) العنكبوت: 56... 187

(يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الأحزاب: 30... 85

(يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الأعراف: 157... 105

(يدخل من يشاء في رحمته) الانسان: 31... 117

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره الصف: 8... 116

(يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول الأنفال: 1... 406 - 393

(يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها النحل: 83... 100

(لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله

يسيرا النساء: 137... 89

(يوفون بالنذر الانسان: 7... 54 - 117 - 124

(يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا الدخان: 41... 87

(يوم ندعوا كل اناس بإمامهم الاسراء: 71... 385

يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الانعام: 158... 103

(يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من النبأ: 38... 125 - 118

ص:427

فهرس المطالب

باب فیما جاء أن حديثهم صعب مستصعب...3

باب ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟...14

باب ما يجب من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام...22

باب أن الأرض كلها للامام (عليه السلام)...34

باب سيرة الإمام في نفسه وفي المطعم والملبس إذا ولي الأمر...43

باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية...51

باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية...128

باب في معرفتهم أولياءهم والتفويض إليهم...137

باب النهي عن الإشراف على قبر النبي ...194

باب مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه...196

باب مولد الزهراء فاطمة (عليها السلام)...213

باب مولد الحسن بن علي صلوات الله عليهما...226

باب مولد الحسين بن علي (عليهم السلام)...231

باب مولد علي بن الحسين (عليهما السلام)...236

باب مولد أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام...240

باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام...245

باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام...252

باب مولد أبي الحسن الرضا عليه السلام...273

باب مولد أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام...284

باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام...296

باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام...312

باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم (عليهم السلام) ...335

باب في أنه إذا قيل في الرجل شيء فلم يكن فيه وكان في ولده أو ولد ولده فإنه هو الذي قيل فيه...383

باب أن الأئمة كلهم قائمون بأمر الله تعالى هادون إليه (عليهم السلام)...384

باب صلة الإمام (عليه السلام)...386

باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه...389

ص:428

المجلد 8

اشاره

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب طينة المؤمن والكافر

* الأصل

كتاب الايمان والكفر [أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثني] 1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن رجل، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «إن الله عز وجل خلق النبيين من طينة عليين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة و [جعل] خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك، وخلق الكفار من طينة سجين، قلوبهم وأبدانهم فخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن ومن ههنا يصيب المؤمن السيئة ومن ههنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحن إلى ما خلقوا منه وقلوب الكافرين تحن إلى ما خلقوا منه».

* الشرح

قوله: (كتاب الايمان والكفر) قدم الايمان لأنه الأصل والاهم والمقصود أو لأنه وجودي والكفر عدمي كما قيل، ولم يذكر واسطة ذكرها فيما بعد اما لأنه لا يقول بثبوتها لما مر من الوجه الأخير أو لأنه أراد بهما أصل الإقرار والإنكار، ولا واسطة بينهما، وإنما الواسطة باعتبار أمر آخر وهو أن يراد بالايمان الايمان الكامل المقارن بالاعمال كما هو الشايع عند أهل البيت عليهم السلام أو لأنه أراد بهما المطلق والواسطة لا تخلو من أحدهما، والغرض من هذا الكتاب بيان أصل الانسان وكيفية خلقه والغرض منه وما يوجب كفره وايمانه وبيان مهلكاته ومنجياته، والترهيب من الأولى، والترغيب في الثانية ليعرف كيفية السلوك وطريق الوصول إلى سعادته التي هي قرب الحق والوصول إليه والتخلص من أهواء النفس واغواء الشيطان ولا يمكن ذلك إلا بمجاهدات نفسانية ورياضات بدنية وروحانية ونيات صادقة قلبية، وهمم رفيعة عالية والله ولي التوفيق وإليه سداد الطريق.

ص:3

قوله: (باب طينة المؤمن والكافر) في النهاية طينة الرجل خلقه واصله طانه الله على طينته أي خلقه على جبلته. وفي المصباح الطين معروف والطينة أخص منه والطينة الخلقة يقال طانه الله على الخير جبله عليه، وانما قدم باب الطينة لأنه يذكر فيه أحوالا مشتركة مع أن الطينة وأحوالها بمنزلة المادة وسائر الأحوال بمنزلة الصورة.

قوله: (أخبرنا محمد بن يعقوب قال حدثني) لم يوجد في أكثر النسخ والوجه على، تقدير وجوده ما ذكرناه في أول الكتاب.

قوله: (ان الله عز وجل خلق النبيين) أي أوجدهم أو قدر وجودهم من طينة الجنة على تفاوت درجاتها، ونبينا (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه عليهم السلام خلقوا من طينة أعلاها كما سيجيء وإضافة الطينة اما بتقدير اللام أوفى أومن.

قوله: (قلوبهم وأبدانهم) بيان أو بدل للنبيين لعل المراد بالقلب هنا الجسم المعروف (1) يعتلق به الروح أو لا فلا ينافي ما مر في باب خلق أبدان الأئمة من أن أجسادهم مخلوقة من طينة عليين وأرواحهم مخلوقة من فوق ذلك وهو نور العظمة كما في حديث آخر على أنه لو أريد به الروح لامكن الجمع بجعل الطينة مبدءا لها مجازا باعتبار القرب والتعلق أو بتخصيص النبيين بغيره (صلى الله عليه وآله)، ويؤيده خبر محمد بن مروان المذكور في ذلك الباب.

قوله: (وخلق قلوب المؤمنين) أي خلق قلوب المؤمنين من طينة عليين وهي جنة عدن وخلق أبدانهم من دون ذلك بدرجة ولذلك صارت قلوبهم ألطف وألين من أبدانهم، ووقع الاقتراب بالاقتفاء والافتراق في النبوة بينهم وبين النبيين.

قوله: (وخلق الكفار) أي خلق الكفار قلوبهم وأبدانهم من طينة جهنم على تفاوت دركاتها باعتبار تفاوت حالاتهم في العتو والطغيان، ولذلك صارت قلوبهم وقواهم في الغلظة والكثافة مثل أبدانهم ولم يذكر هنا اتباعهم لأن نوع: الكفر يشملهم بخلاف النبوة فإنها لا تشمل جميع المؤمنين.

ص:4


1- 1 - قوله «ولعل المراد بالقلب هنا الجسم المعروف» أقول وهو بعيد لأنه جعل مقابلا للأبدان، فالمراد منه الأرواح ويدفع المنافاة بين الخبرين بتعميم العليين في الخبر الثاني بأن يكون المراد من العليين أعنى ما خلق منه أرواح الأئمة في هذا الخبر أعم من العليين الذي ذكر في الخبر السابق لأن عالم العليين عالم طاهر مقدس من أدناس المادة مع أنه ذو مراتب فجسمهم وروحهم كلاهما من عليين إلا أن أرواحهم من مرتبة أعلى منه فتارة أطلق عليون على المرتبة الدنيا خاصة وقيل أرواحهم من فوق ذلك وتارة أطلق على جميع المراتب فقيل أرواحهم وأبدانهم من عليين والله العالم. (ش)

قوله: (فخلط بين الطينتين) الظاهر أنه خلق منها آدم (عليه السلام) فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن فيخرج من المؤمن ما كان فيه من طينة سجين ويظهر منه ويخرج من الكاف رما كان فيه من طينة عليين، وهذا معنى قول أبي عبد الله (عليه السلام): ثم نزع هذه من هذه وهذه من هذه ولو لم يلد المؤمن الذي فيه شيء من طينة سجين كافرا ولا الكافر الذي فيه شيء من طينة عليين مؤمنا وقع النزاع يوم القيامة لأن طينة النار لا تدخل الجنة وطينة الجنة لا تدخل النار. يدل على هذا ما ذكره الصدوق في آخر العلل في حديث طويل، ولولا التخليط لما صدر من المؤمن ذنب قطعا ولا من الكافر حسنة أصلا وفيه مصالح جمة:

منها اظهار قدرته باخراج الكافر من الكافر من المؤمن وبالعكس دفعا لتوهم استنادهم إلى الطبايع كما قال جل شأنه (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي».

ومنها ظهور رحمته في دولة الكافرين إذ لو لم يكن رابطة الاختلاط ولم يكن لهم رأفة وأخلاق حسنة كانوا كلهم بمنزلة الشياطين فلم يتخلص مؤمن من بطشهم.

ومنها وقع المؤمن بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أن الغالب فيه الخير أو الشر.

ومنها رفع العجب عنه بفعل المعصية.

ومنها الرجوع إليه عز وجل في حفظ نفسه عنها.

قوله: (فقلوب المؤمنين تحن) أي تميل قلوب المؤمنين إلى عليين وقلوب الكافرين إلى سجين لميل كل إلى أصله.

لا يقال هذا الحديث ومثله ويرفع الاختيار ويوجب الجبر (1) لأنا نقول: - والله

ص:5


1- 1 - ومثله يرفع الاختيار ويوجب الجبر» ليس في باب الأول من هذه الكتاب حديث يعتمد على اسناده بل جميع أخباره ضعيفة بوجه ولكن في بابين بعده أخبارا توصف بالحسن أو التوثيق ولكن مضامينها مخالفة لأصول المذهب وللروايات الآتية في الباب الرابع أعنى باب فطرة الخلق على التوحيد وذلك لأن من أصول مذهبنا العدل واللطف وإن لم يخلق بعض الناس أقرب إلى قبول الطاعة وبعضهم أبعد والتبعيض في خلق المكلفين مخالف لمقتضى العدل لأنه تعالى سوى التوفيق بين الوضيع والشريف مكن أداء المأمور وسهل سبيل اجتناب المحظور، وخلق بعض الناس من طينة خبيثة اما ان يكون ملزما باختيار المعصية جبرا وهو باطل واما ان يكون أقرب إلى قبول المعصية ممن خلق من طينة طيبة وهو تبعيض وظلم وقلنا انه مخالف للروايات الآتية في الباب الرابع لأنها صريحة في أن الله تعالى خلق جميع الناس على فطرة التوحيد وليس في أصل خلقهم تشويه وعيب وإنما العيب عارض وهكذا ما نرى من خلق الله تعالى فإنه خلق الماء صافيا وإنما يكدره الأرض التربة وكذلك الانسان خلق سالما من الخبائث وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وأيضا القرآن يدل على ان جميع الناس قالوا بلى في جواب ألست بربكم فالأصل الذي عليه اعتقادنا أن جميع أفراد الناس متساوية في الخلقة بالنسبة إلى قبول الخير والشر وإنما اختلافهم في غير ذلك فإن دلت رواية على غير هذا الأصل فهو مطروح أو مأول بوجه سواء علمنا وجهه أو لم نعلم ومن التأويلات التي هي في معنى طرح الروايات تأويل الشارح فإن الروايات صريحة في أن الطينة مؤثرة في صيرورة العبد سعيدا أو شقيا وأولها الشارح بأنها غير مؤثرة. (ش)

أعلم - ان الله جل شأنه لما خلق الأرواح كلها قابلة للخير والشر وعلم أن بعضها يعود إلى الخير المحض وهو الإيمان، وبعضها يعود إلى الشر المحض وهو الكفر باختيارهما وأمرها حين كونها مجردات صرفة بأمر كما سيجيء ووقع معلومه مطابقا لمعلمه خلق للأول مسكنا وهو البدن من طينة عليين وخلق للآخر مسكنا من طينة سجين كما خلق للمؤمن جنة وللكافر نارا وذلك ليستقر كل واحد فيما يناسبه ويعود كل جزء إلى كله وكل فرع إلى أصله، ومن ههنا ظهر أن الخلق من الطينتين تابع للإيمان والكفر ومسبب عن العمل دون العكس فلا يستلزم الجبر ولا ينافي الاختيار ألا ترى أنه تعالى لما علم أن بين النبيين والمؤمنين اتصالا من وجه وانفصالا من وجه آخر لأن المؤمنين من طينة النبيين وخلق أبدانهم من دون ذلك لانحطاط درجتهم وشرفهم، فوضع كلا في درجته وانك إذا قررت لعبدك المطيع بيتا شريفا ولعبدك العاصي بيتا وضيعا صح ذلك عقلا وشرعا ولا يصفك عاقل بالظلم والجور إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو إنما يلزم لو انعكس الامر أو وقع التساوي، وبما قررنا تبين فساد توهم أن الايمان والفضل والكمال وأضدادها تابعة لطهارة الطينة وصفاتها، وخباثة الطينة وظلمتها، وهذا التوهم يوجب الجبر وبطلان الشرائع والتأديب والسياسة والوعد والوعيد نعود بالله منه.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن النضر بن شعيب، عن عبد الغفار الجازي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله جل وعز خلق المؤمن من طينة الجنة وخلق الكافر من طينة النار»; وقال: «إذا أراد الله عز وجل بعيد خيرا طيب روحه وجسده فلا يسمع شيئا من الخير إلا عرفه ولا يسمع شيئا المنكر إلا أنكره قال: وسمعته يقول: الطينات ثلاث: طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطينة إلا أن لا الأنبياء هم من صفوتها، هم الأصل ولهم فضلهم والمؤمنين الفرع من طين لازب، كذلك لا يفرق الله عزوجل بينهم وبين شيعتهم، وقال: طينة الناصب من حماء مسنون; وأما المستضعفون فمن تراب، لا يتحول مؤمن عن إيمانه ولا نصب عن نصبه ولله المشيئة فيهم.

* الشرح

قوله: (خلق المؤمن من طينة الجنة) قد أشرنا إلى أن المراد بالطينة ظاهرها وأن الله تعالى لما علم في الأزل من روح المؤمن طاعته ومن روح الكافر عصيانه خلق بدن كل واحد في هذه النشأة مما يعود إليه في النشأة الآخرة، وقال بعض شراح نهج البلاغة: الطينة إشارة إلى أصولهم وهي الممتزجات المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة وما قبلها من موادها مثل النبات والغذاء وما بعدها من

ص:6

العلقة والمضغة والعظم والمزاج القابل للنفس المدبرة، وسيجئ توضيح ذلك في حديث المزن.

قوله: (وقال إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا) أن أريد بالخير توفيقه تعالى وهداياته الخاصة لحسن استعداد العبد فالإرادة على حقيقتها وان أريد به الايمان وتوابعه من الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة يرد أنه تعالى أراد خير جميع العباد بهذا المعنى ويمكن دفعه بأن الإرادة حينئذ تعود إلى اعتبار كونه عالما بما في العبد من الميل إلى الخيرات والعزم على امتثال أو امره والاجتناب عن نواهيه، فإذا علم منه ذلك توجه إليه لطفه فيطيب روحه ونفسه عن الفضايح ويطهر جسده وقواه عن القبائح فلا يسمع شيئا من الخير الا عرفه وصدق به وعمل به وان كان من العمليات ولا يسمع شيئا من المنكر إلا أنكره وعرف قبحه وتركه، وهكذا يفعل الله بعباده إذا علم صدق نياتهم وحسن استعدادهم.

قوله: (الطينات ثلاث) الأولى طينة الأنبياء والمؤمنين المقرين بهم، والثانية طينة الكفرة والنواصب المنكرين المعاندين لهم، والثالثة طينة المستضعفين الذين لا يقرون بهم ولا يعاندونهم ، وهذا التقسيم باعتبار المخلوق منها، فلا ينافي ما مر في باب خلق أبدان الأئمة من أن الطينات عشرة لأن ذلك باعتبار مبدء الخلق، تأمل تعرف.

قوله: (والمؤمن من تلك الطينة) أي قلبه أم الأعم منه ومن البدن لأن المراد بتلك الطينة طينة الجنة وهي تشملها إلا ان الانبياء خلقت قلوبهم وأبدانهم من صفوتها، أو خالصها، وأما أرواحهم فمن فوق ذلك كما مر، وهم الأصل في الايجاد والمقصودون أصالة في خلق هذا النوع ولهم فضلهم في العلم والعمل والتقدم والتقرب التام بالحق وارشاد، والمؤمنون فرع الأنبياء وتلوهم في القصد والايجاد أبدانهم خلقت من طين لازب وهوم ثفل عين الأنبياء سمى به لأنه الزق وأصلب من الصفو المذكور، وأما قلوبهم فخلقت مما خلق من الأنبياء كما مر وكما لم يفرق الله تعالى بين الأنبياء وشيعتهم في الخلقة والطينة كذلك لا يفرق بينهما في الدنيا والآخرة لأن الفرع مع الأصل والتابع من المتبوع.

قوله: (وقال طينة الناصب من حماء مسنون) الحماء الطين الأسود والمسنون المتغير المنتن وهو طين سجين، وقد روى أن الله عز وجل خلق أرضا خبيثة سبخة منتنة، ثم فجر منها ماء أجاجا مالحا فأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام حتى طبقها وعمها، ثم نضب ذلك الماء عنها ثم أخذ من ذلك الطين فخلق منه الطغاة الكفرة وأئمتهم.

قوله: (وأما المستضعفون فمن تراب) أن خلقوا من تراب غير ممزوج بماء عذب زلال كما مزجت به طينة الأنبياء والمؤمنين، ولا بماء آسن أجاج كما مزجت به طينة الكافرين، فلا يكونون من هؤلاء ولا

ص:7

من هؤلاء ولله المشية فيهم إن شاء الله أدخلهم في رحمته وإن شاء أخرجهم منها.

قوله: (لا يتحول مؤمن عن ايمانه) بيان لحال كل واحد من الاقسام الثلاثة، ولا ينافيه ما قد يقع من التحول لأن المتحول من الايمان لم يكن مؤمنا في الحقيقة، وإنما اكتسب الايمان بما فيه من رائحة طينة المكتسبة بالمخالطة، فلما زالت عاد إلى ما كان عليه من الكفر في العهد القديم والمتحول من الكفر لم يكن كافرا في الحقيقة، وإنما اكتسب الكفر بما فيه من رائحة النار، فلما زالت عاد إلى ما كان عليه من الايمان وبالجملة الايمان في الأول حسنة نشأت من التخليط المذكور، والكفر في الثاني سيئة نشأت منه والتخليط قد يفضى إلى اتصاف كل واحد من الفريقين بصفات الآخر لكنه غير مستقر غالبا.

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

جعلت فداك من أي شيء خلق الله عزوجل المؤمن؟ فقال: من طينة الأنبياء فلم تنجس أبدا.

* الشرح

قوله: (من أي شىء خلق الله عز وجل طينة المؤمن) أريد بالمؤمن من علم الله تعالى أزلا ايمانه في عالم الأرواح ومن كان كذلك فهو مؤمن في عالم الأشباح أيضا ولذلك خلق الله قلبه وبدنه من طينة طينة طاهرة هي طينة الأنبياء، أما قلبه فمن صفوها، من تلك الطينة تابع لايمانه وسبب لكماله وهو لطف من الله تعالى مبسوط على من من يشاء من عباده.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد وغيره، عن محمد بن خلف، عن أبي - نهشل قال:

حدثني محمد بن إسماعيل، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام): إن الله جل وعز خلقنا من أعلى عليين وخلق قلون شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك وقلوبهم تهوي إلينا، لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم تلا هذه، الآية (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدرك ما عليون * كتاب مرقوم يشهده المقربون) وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم، لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين).

* الشرح

قوله: (خلقنا من أعلى عليين) أي خلق قلوبنا وأبداننا من أعلى أمكنة الجنة وأرفع

ص:8

درجاتها أو من أعلى المراتب وأشرفها وأقربها من الله عز وجل على احتمال، وخلق قلوب شيعتنا وتابعينا في العلم والعمل مما خلقنا منه فلذلك يقبل الحق ويستقر فيه، وخلق أبدانهم من دون ذلك لقصور ما في قوتهم العملية وقواهم الجسمانية بالنسبة إلى قوتنا وقوانا فوضع كلا في المقام اللائق به.

لا يقال خلق قلوب شيعتهم مما خلق قلوبهم منه يقتضى المماثلة في القوة النظرية وليس كذلك.

لأنا نقول استكمال القوة النظرية كما يكون من جهة التأثر من المفيض كذلك يكون من جهة التأثير في القوى الجسمانية والادراكات والصفات الحاصلة للنفس المدبرة من هذه الجهة، وفي نفس الشيعة وان استكملت نقص ما في التأثير بالنسبة إلى نفوسهم القدسية الكاملة من كل وجه والنقص فيه يوجب النقص في التأثر أيضا وذلك يوجب عدم المساواة بينهما في القوة المذكورة.

قوله: (لأنها خلقت مما خلقنا) ضرورة ان تولدها منه وفرعيتها له وربطها به مقتضية لميلها إليهم وحبها لهم كما يجب الولد والده ويميل إليه.

قوله: (ثم تلا هذه الآية (كلا ان كتاب الأبرار لفى عليين») لعل المرادان المكتوب للأبرار وهم المؤمنون مطلقا من الافعال الخيرية والاعمال الصالحة لفي عليين وهو ديوان اعمال الصالحين وصحائف أفعال المتقين، ثم قال تفخيما لشأنه (وما أدريك ما عليون كتاب مرقوم» أي مكتوب أو معلم بعلامة يعلم من رآه أن فيه خيرا يشهده المقربون من الملائكة أي يحضرونه ويحفظونه أو يشهدون لهم ما فيه يوم القيامة، والغرض من تلاوة الآية هو الإشارة بتعظيم كتابهم إلى تعظيم شأنهم، ويحتمل أن يراد بعليين الحنة أو أشرف المراتب وأقربها من الله تعالى أو السماء السابعة وحينئذ لا بد من اعتبار الحذف في قولهم له (وما أدراك ما عليون» أي ما كتاب عليين. كما يحتمل أن يراد بكتاب الأبرار ما كتب وفرض لهم من الطينة وبعليين الجنة مع رعاية الحذف لكن كلا الاحتمالين بعيد والثاني أبعد.

قوله: (وخلق عدونا من سجين) عدوهم من أنكر ولايتهم أو ولاية أحدهم أو دفعهم عن مرتبتهم: والمراد بالسجين هنا جهنم أو واد فيها أو حجر في الأرض السابعة أو أبعد المراتب من الله تعالى، ولما كان عدوهم على صنفين صنف هم المقتدون في العداوة والشرور وصنف هم التابعون لهم فيها وكانت أو زار الأولين أكثر وأفخم، وعقوبتهم أشد وأعظم خلق أبدانهم وقلوبهم من أقبح الدركات، وخلق قلوب تابعيهم مما خلقوا منه وأبدانهم دون ذلك لوضع كل واحد في مرتبته.

قوله: (كلا ان كتاب الفجار لفي سجين) يظهر معناه بالنظر إلى ما سبق يخالفه فيجري فيه خلاف ما ذكر.

ص:9

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وغير واحد، عن الحسين بن الحسن جميعا، عن محمد بن أورمة، عن محمد بن علي، عن إسماعيل بن يسار، عن عثمان بن يوسف قال: أخبرني عبد الله بن كيسان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان، قال: أما النسب فأعرفه وأما أنت، فلست أعرفك قال: قلت له: إني ولدت بالجبل ونشأت في أرض فارس إنني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك، فأخالط الرجل فأرى له حسن السمت وحسن الخلق و [كثرة] أمانة ثم أفتشه فأتبينه عن عداوتكم وأخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة ثم أفتشه فأتبينه عن ولايتكم، فكيف يكون ذلك؟ فقال لي: أما علمت يا ابن كيسان أن الله عز وجل أخذ طينة من الجنة وطينة من النار، فخلطهما جميعا، ثم نزع هذه من هذه وهذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السمت فمما مستهم من طينة الجنة وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة وسوء الخلق والزعارة فمما مستهم من طينة النار، وهم يعودون إلى ما خلقوا منه.

* الشرح

قوله: (اما النسب فأعرفه) كان المراد بالنسب كيسان، ولعله كيسان بن كليب من أصحاب علي والحسن والحسين وعلي بن حسين ومحمد بن علي (عليهم السلام) وهو أيضا لقب مختار بن أبي عبيد المنسوب إليه الكيسانية. والمراد بمعرفته بالرؤية وبعدم معرفة ابنه عبد الله عدم معرفته بها، ويؤيده قوله «اي ولدت - الخ» على الظاهر، ويمكن أن يكون كناية عن عدم ايمانه إذ لو كان مؤمنا لعرفه لأنهم (عليهم السلام) كانوا يعرفون شيعتهم وأسماءهم وأسماء آبائهم كما دلت عليه الروايات المعتبرة.

قوله: (اني ولدت بالجبل) قيل المراد بالجبل كردستان بين تبريز وبغداد همدان وغير ذلك.

قوله: (فأرى له حسن السمت) هو السكينة والوقار وهيئة أهل الخير والصلاح يقال: سمت الرجل سمتا من باب قتل إذا كان ذاسكينة ووقار وهيئة حسنه.

قوله: (وكثرة أمانة) في أموال الناس وعهودهم وأسرارهم.

قوله: (ثم أفتشه فاتبينه عن عداوتكم) أي متجاوزا عن بدايتها إلى نهايتها أو على عداوتكم أو من عداوتكم لأن حرف الجر يجئ بعضها بمعنى آخر كما صرح به أئمة اللغة وعلى التقادير فيه مبالغة في عداوته أما الأول فظاهر وكذا الثاني على الاستعلاء، وأما الثالث فلانه يفيدان التفتيش مقارن لوجدان عداوته، وانما يكون ذلك لكمالها فيه.

ص:10

قوله: (وزعارة) عطف على قلة أو سوء الخلق، وهي الفساد والفسق وسوء الخلق والخبث والفزع من كل كريهة والاضطراب منها.

قوله: (فكيف يكون ذلك) ظن أن وليه طيب وعدوه خبيث، فينبغي أن يكون الأمر على عكس ما وجدناه فلما وجد خلافه سأل عن سببه.

قوله: (فخلطهما جميعا) وبذلك يختلف أحوالهم وصفاتهم في الدنيا كما أشار إليه بقوله «فما رأيت في أولئك» وحاصله أن ما في كل واحد من المؤمن والكافر من صفات الاخر أمر عرضى حصل له باعتبار مماسة الطينتين ومجاورتهما ورائحتهما لاكتساب طينة الجنة رائحة من طينة النار وبالعكس، وإن الاخلاق الذميمة لا تنافي الإيمان ولا تدفعه، والأخلاق الحسنة لا تنفع مع الكفر وان كان ذلك موجبا لنقصهما فكل يعود إلى ما خلق منه.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن صالح بن سهل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المؤمنون من طينة الأنبياء؟ قال: نعم.

* الشرح

قوله: (المؤمنون من طينة الأنبياء) قد عرفت أن طينة الأنبياء من الجنة أنهم مخلوقون من صفوها وخالصها، وأن قلوب المؤمنين مخلوقة منه وأبدانهم من ثقلها وهو دون ذلك ولا يلزم منه الجبر والاضطرار لما مر.

* الأصل

7 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسين بن يزيد، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عزو جل لما أراد أن يخلق آدم (عليه السلام) بعث جبرائيل (عليه السلام) في أول ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة، بلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى، فأمر الله عز وجل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه ولا قبضة الأخرى بشماله، ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذروا ومن السماوات ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون والمؤمنون والسعداء ومن اريد كرامته، فوجب لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله: منك الجبارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن اريد هوانه وشقوته، فوجب لهم ما قال. ثم إن الطينتين خلطتا

ص:11

جميعا، وذلك قول الله عز وجل: (إن الله فالق الحب والنوى) فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير وإنما سمى النوى من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد عنه وقال الله عز وجل (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) فالحي، المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن ، والميت الكافر وذلك قوله عز وجل: (أو من كان ميتا فأحييناه) فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر، وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعدد دخوله إلى النور وذلك قوله عز وجل: (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين).

* الشرح

قوله: (في أول ساعة من يوم الجمعة) يدل على شرافتها ورجحان الشروع في الأمر العظيم فيه ، وعلى حدوث آدم بإرادته تعالى والآيات المتكاثرة والروايات المتواترة من طرق العامة والخاصة صريحة فيه، وهو مذهب أصحاب الشرايع كلهم ومذهب جم غفير من منكريها، خلافا للدهرية القائلين بقدم نوع الإنسان وأنه ليس ثم انسان أول وانما هو انسان من نطفة ونطفة من انسان لا إلى أول ولأصحاب الطبيعة القائلين بأن آدم حدث من تأثير النجوم أو العناصر أو غير ذلك من المزخرفات.

قوله: (وأخذ من كل سماء تربة) يمكن أن يراد بالسماء الجنة مجازا لكونها من جهة السماء أو حقية لأن السماء كل عال مظل، ولذلك يقال للسقف والسحاب سماء، وكل درجة من درجات الجنة سماء لعلوها وارتفاعها بالنسبة إلى ما تحتها حينئذ يراد بالأرض السجين ودركاتها فيوافق سائر الروايات وأن يراد بها هذا المحسوس لتبادره ولا يبعد أن يكون فيها تراب من جنس تراب الأرض أو غيره أو لنقله إليها للتشريف والتكريم.

قوله: (فامسك القبضة الأولى) بيمينه هي طينة المؤمن وامساكها بيمينه للتشريف لأن اليمين أشرف وللاشعار بكمال القوة الروحانية للمخلوق منها.

قوله: (ففلق الطين) فلقته فلقا من باب ضرب شققته فانفلق، وفلقته بالتشديد مبالغة. وذرأ الشيء تحرك وتفرق سريعا. والمراد بالطين الجنس الشامل للقبضتين، ولما فلقه بفتح القبضة تحرك ما في شماله في الأرض وما في يمينه في السماوات فقال الله تعالى أو جبرئيل (عليه السلام) للذي بيمينه منك الرسل الذي يأتون بالدين أو الكتاب ويشاهدون جبرئيل (عليه السلام) ويسمعون منه والأنبياء المخبرين عن الله

ص:12

تعالى وأن لم يكونوا رسلا والأوصياء لهم والصديقون المعصومون أو المصدقون لأنبياء والرسل كثيرا أو المطابق أعمالهم لأقوالهم والمؤمنون المتصفون بالإيمان الكامل والمقرون بالله واليوم الاخر والسعداء الواصلون إلى الله بمجاهدات نفسانية وقوة روحانية. ومن أريد كرامته في الدنيا بالهدايات وفي الآخرة برفع الدرجات فوجب لهم ما قال كما قال للذي بشماله منك الجبارون الذين يكسرون قلوب الخلايق وظهورهم واعناقهم بالجور والغلبة، والمشركون بالله والكافرون الجاحدون له أو لشيء من أحكامه وأموره الضرورية والطواغيت المجاوزون عن الحد والمقدار في العصيان، السابقون في طرق الشيطنة والضلالة والطغيان ومن أريد هو انه وشقوته في الدنيا بسلب التوفيق وإلا ذلال، وفي الآخرة بالاخذ والنكال فوجب لهم ما قال كما قال من الامر المذكور أو من قوله عز شأنه (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق).

قوله: (ثم ان الطينتين خلطتا جميعا وذلك) دل على أن الفلق والذر وقعا أولا والتخليط وقع بعدهما وذلك إشارة إليهما بالاعتبار المذكور: والآية الأولى استشهاد للأول. والثانية للثاني.

قوله: (فالحب طينة المؤمنين) كأنه بطن الآية فظهرها حب الزرع ونواة التمر وكلاهما على كمال قدرة الصانع.

قوله: (من أجل أنه نأى عن كل خير وتباعد عنه) العطف للتفسير وكان عين نأى كانت واوا ويؤيده أن صاحب مصباح اللغة ذكره في باب النون والواو.

قوله: (فالحي المؤمن) كما أن الحي والميت يطلقان على من اتصف بالروح - الحيواني، وعلى من زالت عنه، كذلك يطلقان على من اتصف نفسه النطاقة بكمالاتها من الإيمان والأخلاق وغيرها ، وعلى من لم يتصف نفسه بها بل هذا الإطلاق أولى عند أرباب العرفان وأصحاب الايقان لأن هذه حياة باقية وتلك حياة فانية.

قوله: (بكلمته) وهي أمره أو جبرئيل (عليه السلام) سمى بها لأنه يكلم الناس عن الله عز وجل ويبلغ أمره إليهم.

قوله: (كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد) أي كما أخرج الله المؤمن والكافر وميز بينهما حين كونهما طينا، كذلك يخرج المؤمن في الميلاد الظلمة بعدد خوله إلى النور. ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله في النور، والميلاد أخص من المولد لأن المولد الموضع للولادة والوقت، والميلاد الوقت لاغير، والمراد بالظلمة ظلمة الكفر أو ظلمة طينة سجين، وبالنور الإيمان أو نور طينة الجنة،

ص:13

وبدخول المؤمن في ظلمة الكفر كونه في أصلاب الاباء الكفرة وأرحام الأمهات الكافرات إلى أن أخرج الله تعالى عنها في وقت ولادته فتخلص من ظلمة الكفر ودخل في نور الإيمان، وقس عليه دخول الكافر في نور الإيمان واخراجه منه ويظهر من هذا الحديث أن أخرج المؤمن من الكافر وبالعكس في وقتين وقت تفريق الطين ووقت الولادة لما في طينة أحدهما من شايبة طينة الاخر.

قوله: (وذلك قوله عز وجل) إشارة إلى كون المؤمن مؤمنا وكون الكافر كافرا قبل إخراجهما واستشهاد له أي يدل على ذلك قوله تعالى (لينذر» أي القرآن أو الرسول (من كان حيا» بروح الإيمان (ويحق القول» أي كلمة العذاب (على الكافرين» فإن في لفظ الكافرين أشعار بثبوت الكفر واستمراره كذلك قبله.

ص:14

* الأصل

باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأول

* الشرح

قوله: (باب آخر وفيه زيادة وقوع التكليف الأول) يفهم من الروايات أن التكليف الأول وهو ما وقع قبل التكليف في دار الدنيا بارسال الرسل وإنزال الكتب متعدد الأول كان في عالم الأرواح الصرفة، الثاني كان وقت تخمير الطينة قبل خلق آدم منها، الثالث كان بعد خلق آدم منها حين أخرجهم من صلبه وهم ذر يدبون يمينا وشمالا وكل من أطاع في هذه التكليف الثلاثة فهو يطيع في تكليف الدنيا كل من عصى فيها فهو يعصى فيه وهنا تكليف خامس يقع في القيامة وهو مختص بالأطفال والمجانين والشيوخ الذين أدركوا النبي وهم لا يعقلون وغيرهم ممن ذكر في محله.

* الأصل

1 - أبو علي الأشعري ومحمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو علم الناس كيف ابتداء الخلق ما اختلف اثنان، إن الله عز وجل قبل أن يخلق قال: كن ماء عذبا أخلق جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي ثم أمرهما فامتزجا، فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن ، ثم أخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فإذا هم كالذر يدبون، فقال لأصحاب اليمين:

إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم أمر نارا فأسعرت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، فقال لأصحاب اليمين: ادخلوا فدخلوها، فقال: كوني بردا وسلاما فكانت بردا وسلاما، فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، فقال: قد أقلتكم فادخلوها، فذهبوا فهابوها، فثم ثبت الطاعة والمعصية فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء.

* الشرح

قوله: (لو علم الناس كيف ابتداء الخلق) خلق الله تعالى الأرواح بعد توا فقها في فطرة الإيمان على مراتب متفاوتة في الإيمان والكمال والإدراك، وخلق الأسجاد من مواد مختلفة بحسب

ص:15

اختلاف الأرواح فيما ذكر، ووضع كل واحد منها فيما يليق به، ولو علم الناس كيفية تلك المراتب وكميتها وتفاوتها في قبول الكمال ما اختلف اثنان ولا يعير صاحب الكمال صاحب النقص (1) وهذا لا ينا في تعيير من بدل فطرته الأصلية وغير استعداده الذاتية بقبح أعماله وسوء أفعاله وترك السعي فيما خلق له وطلب منه ويليق به، ومذام الشرع كلها من هذا القبيل.

قوله: (قال كن ماء عذبا) كلمة كن إشارة إلى ارادته وجود ما فيه حكمة مصلحة وقدرته عليه من غير لفظ ولا صوت ولا نداء ويفهم منه ان الماء العذاب أصل المؤمن ومنه شرافته ولينته وأن الماء الأجاج وهو بالضم الماء الملح الشديد الملوحة أصل الكافر ومنه خساسته وغلظته وامتزاج المائين سبب لتحقق القدرة على الخير والشر والقوي القابلة للضدين، وتولد المؤمن من الكافر بالعكس لما في أحدهما من أجزاء الاخر وصفاته ورايحته، وقد مر شئ من سر الامتزاج آنفا ولعل خلق الجنة والنار من المائين إشارة إلى أنهار الجنة وطراوة أشجارها من الماء الأول ومياه النار ونمو أشجارها كالزقوم من الماء الثاني قال الله تعالى أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤس الشياطين.

قوله: (ثم أخذ طينا من أديم الأرض) المراد بالطين ما امتزج بالمائين وخمر بهما كما سيجئ، وبأديم الأرض ما ظهر منها، وبالأرض ما يشمل أرض النار وأرض الجنة الغرض من عركه ودلكه إخراج مادة كل من المؤمن والكافر عن الأخرى تميزها عنها وإخراج كل واحد منهما من مادته كما أشار إليه بقوله: «فإذا هم كالذر يدبون» وجه التشبيه الصغر والحركة فقال لأصحاب اليمين إلى الجنة، أي سيروا إلى الجنة متلبسين بسلام مني وبركات أو سالمين من الموت والآفات. وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي

ص:16


1- 1 - ولا يعير صاحب الكمال صاحب النقص» ان كان المراد بصاحب النقص أهل المعاصي فأول من غيرهم الله تعالى نفسه ولعنهم وبعده الملائكة والأنبياء والأولياء في آيات كثيرة وأحاديث متواترة، ولو كان مضمون هذه الرواية حقا لبطل كتاب الله تعالى والأحاديث النبوية وإجماع أهل الحق، وإن كان مخالفة فرعون لموسى (عليه السلام) لعيب في طينته ولم يجز تعييره كيف يذمه ويلعنه الله والملائكة ويتبرء منه أتباع الأنبياء واليهود والنصارى والمسلمون، قال العلامة المجلسي (رحمهم الله) أنها من متشابهات الأخبار ومعضلات الآثار ومما يوهم الجبر ونفى الاختيار، ولأصحابنا (رضي الله عنه) عنهم فيها مسالك الأول ما ذهب إليه الأخباريون هو أنا نؤمن بها مجملا ونعترف بالجهل عن حقيقة معناها، الثاني أنها محمولة على التقية، الثالث أنها كناية عن عمله تعالى بما هم إليه صائرون، الرابع أنها كناية عن اختلاف استعداداتهم وقابلياتهم وهذا أمر بين لا يمكن انكاره وهذا لا يستلزم سقوط التكليف فإن الله تعالى كلف والنبي (صلى الله عليه وآله) بقدر ما أعطاه من الاستعداد وكلف أبا جهل ما في وسعه وطاقته، الخامس أنه لما كلف الله تعالى الأرواح أو لا في الذر واخذ ميثاقهم فاختاروا الخير والشر باختيارهم تفرع اختلاف الطينة على ما اختاروه. انتهى ملخصا وهو حسن جدا. (ش)

لعدم الإعتناء بهم، ثم أمر نارا فاسعرت أي أتقدت واشتعلت فقال لأصحاب الشمال ادخلوها إلى آخره.

والغرض من هذا التكليف ابراز المعلوم واظهار انطباق عمله به والممتثل بالتكليف في هذه الدار هو الممتثل بهذا التكليف، والراد هو الراد. والتطابق بين الامتثالين وعدمها لازم كما أشار إليه بقوله «فقم ثبتت الطاعة والمعصية فلا يستطع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، وليس عدم استطاعتهم نظرا إلى ذواتهم بل بالغير فلا ينا في تكليفهم في العالم الشهودي لتكميل الحجة عليهم.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة أن رجلا أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي - إلى آخر الآية) فقال وأبوه يسمع (عليه السلام): حدثني أبي أن الله عز وجل قبض من تراب التربة التي خلق منها آدم (عليه السلام) فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ثم صب عليها الماء الأجاج فتركها أربعين صباحا، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار، فدخلوا أصحاب اليمين، فصارت عليهم بردا وسلاما وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها.

* الشرح

قوله: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) من ظهورهم بدل من «نبي آدم» بدل البعض من الكل، والمراد بأخذ الذرية من ظهورهم أخرجهم من أصلابهم نسلا بعد نسل و أشهادهم على أنفسهم فأن مواد الكل كانت موجودة في صلب آدم على ترتيب وجودهم في هذه النشأة فأخرجهم من ظهور بني آدم اخراج من ظهر آدم وصلبه فلا نيافي ما دل على أن الإخراج من ظهر آدم وصلبه، ويؤيده ما نقل عن ابن عباس من «أنه تعالى لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقا إلى يوم القيامة فقال: «ألست بربكم قالوا بلي» فنودي يومئذ: جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وروي أن الذرية كانت في صورة إنسان على مقدار الذر. وقال محمد بن جرير الطبري: ان آدم لما فرغ من حجه ونام في وادي النعمان وهو واد خلف جبل عرفات أخرج الله تعالى ما كان في صلبه من ذريته إلى يوم القيامة فرآهم آدم (عليه السلام) فمن كان في يمينه كان من أهل الجنة ومن كان في يساره كان من أهل النار، وقال جماعة منهم صاحب الكشاف: أن قوله:

«ألست بربكم وقالوا بلي شهدنا» من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصايرهم التي

ص:17

ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم ألست بربكم وكأنهم قالوا بلي أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب ، وقال بعضهم: إن أخذ الذرية يعود إلى إحاطة اللوح المحفوظ بما يكون من وجود هذا النوع بأشخاصه وانتقاشه بذلك عن قلم القضاء الإلهي ونزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل والاستعداد فيهم وتمكنهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الإشهاد والاعتراف تمثيلا و تخييلا لا إخراج ولا شهادة ولاقول ولا إقرار ثمة حقيقة والفرق بين هذين القولين أن الإخراج على سبيل الحقيقة والإشهاد والجواب من باب التمثيل في الأول وكليهما من باب التمثيل في الثاني، والحق أن الإخراج والإشهاد والإقرار واخذ الميثاق بالمعاني المذكورة كلها واقعة لأنه تعالى أخرجهم وخاطبهم بقوله (ألست بربكم» وأجابوا ببلي حقيقة ولا بعد فيه نظرا إلى قدرته القاهرة وأنه تعالى جعل فيهم قوة يقدرون بها على معرفة وتوحيد نظرا في آياته وعلى الخروج مما فيهم من قوة الكمال والتكميل إلى الفعل فكان خلقهم على هذا الوجه مشابها بالإخراج والعهد والميثاق فحسن اطلاق الإخراج والميثاق على هذا الوجه على سبيل التمثيل. وهذا هو العهد القديم والعهد الأول بل لا يبعد إطلاق العهد القديم على عمله تعالى بما فيهم من تلك القوة، ثم ان بعضهم بعد الوجود العيني نقضوا الميثاق وأبطلوا تلك القوة والفطرة، وأنكروا ما أقروا به بلسان تلك القوة بحاضر لذاتهم النفسانية والوساوس الشيطانية هذا، وتفسيره (عليه السلام) يدل ظاهرا على أن إخراج الذرية من الطينة التي هي مبدأ خلق آدم (عليه السلام) وفي انطباقه على ظاهر الآية خفاء، ويمكن أن يقال: ان بني آدم كانوا كامنين في طينة آدم فكان أخراجهم منها إخراجا من ظهور بني آدم وإخراجا من ظهر آدم أيضا، أو يقال للآية ظهر وبطن وما ذكره (عليه السلام) تفسير لبطنها والله يعلم.

قوله: (إن الله عز وجل قبض قبضة من تراب التربة) القابض جبرئيل (عليه السلام)، ونسبته إلى الله تعالى مجاز باعتبار أنه الآمر والتراب مضاف إلى التربة أو التربة بدل من قبضه، ولعل المراد بها التربة السماوية والأرضية بدليل ما سبق.

قوله: (فعركها عركا شديدا) عرك ماليدن.

قوله: (فخرجوا كالذر من يمينه وشماله) تعلقت بأصحاب اليمين الأرواح المطيعة على تفاوت درجاتهم في العزم والطاعة والانقياد وبأصحاب الشمال الأرواح العاصية كذلك فوضع كل روح في موضع يناسبه ولو لم يضع كذلك لوقع الجور وهو منزه عنه.

ص:18

قوله: (أمرهم جميعا ان يقعوا في النار) من امتثل بأمره في ذلك الوقت فهو مؤمن حين كونه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وحين تولده وحين كونه في هذه النشأة وحين موته وبعده أبدا.

بجز راه و فا وعشق نسپرد * برآن زاد و بر آن بود و بر آن مرد

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان عن محمد ابن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم (عليه السلام) أرسل الماء على الطين، ثم قبض قبضة فعركها ثم فرقها فرقتين بيده ثم ذرأهم فإذاهم يدبون، ثم رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها فذهبوا فدخلوها فأمر الله عز وجل النار فكانت عليهم بردا وسلاما، فلما رأى ذلك فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها. ثم أمر أهل اليمين أن يدخلوها أهل الشمال قالوا: ربنا أقلنا، فأقلهم، ثم قال لهم: ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها فأعادهم طينا وخلق منها آدم (عليه السلام). وقال أبو عبد الله (عليه السلام) فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء. قال: فيرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أول من دخلت تلك النار فلذلك قوله عز وجل:

(قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين).

* الشرح

قوله: (أرسل الماء على الطين) لعل المراد بالماء الماء العذاب والماء الاجاح، وبالطين طين عليين وطين سجين كما مر. قيل تخصيص هذين العنصرين دون ذكر الباقين لأنهما الأصل في تكون الأعضاء المشاهدة التي تدور عليها صورة الإنسان المحسوسة.

قوله: (ثم فرقها فرقتين بيده) ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى ليس بجسم وأنه ليست به يد بمعناها الحقيقي وأنه يجب صرف اليد عن ظاهرها المحال عليه، ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من حمل اليد على صفة لا نعلمها وقالوا يجب الإيمان بها وصرف علم حقيقها إلى الله تعالى ومنهم من أولها بالقدرة فالمعنى أنه تعالى فرقها فرقتين بقدرته وكنى عن ذلك باليد لأن بها نحن نفعل فخوطب الخلق بما يفهمونه، وأخرج المعقول إلى المحسوس ليتمكن المعنى في النفس وهذا الاختلاف يجري بينهم في كل ما نسب إليه سبحانه مع استحالة إرادة الظاهر منه.

قوله: (فأمر أهل الشمال يدخلوها) يحتمل أن يراد بالشمال واليمين شمال جبرئيل (عليه السلام) ويمينه، والمراد بأهلهما من خلق من الطينة التي كانت في شماله ويمينه يعني طينة النار وطينة الجنة وأن يراد بهما جهة العلو والسفل على سبيل التمثيل لأن العلو أشرف من السفل، كما أن اليمين أشرف من الشمال،

ص:19

فأهل الشمال من دب إلى جهة السفل وأهل اليمين من دب إلى جهة العلو وأن يراد بها أهل الإهانة وأهل الكرامة على سبيل التشبيه فان من كان في شمال الملك كان من أهل الإهانة ومن كان في يمينه كان من أهل الكرامة والمآل واحد، فإن من كان في شمال جبرئيل كانت حركته إلى جهة السفل وكان من أهل الإهانة ومن كان في يمينه كان بالعكس.

قوله: (فهابوها ولم يدخلوها) فعاصوا بعد التعليق بالأبدان الصغيرة، أو المثالية كما عاصوا قبلة في عالم الأرواح الصرفة وكما يعصون بعد التعلق بهذه الأبدان الكثيفة الجسمية.

قوله: (وخلق منها آدم (عليه السلام)) فاسكن الفريقين في صلبة فلذا يخرج منه المؤمن والكافر وقد يكون للمؤمن الأخلاق الذميمة والأعمال الباطلة وللكافر الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة لملابسة طينة كل منهما بالأخرى واكتساب رائحتها.

قوله: (فلن يستطع هؤلاء - الخ) لأنه وجب في علم الله تعالى انطباق حالهم في هذه العالم على حالهم في ذلك الوقت والعلم تابع للمعلوم بمعنى أنه لما كان هذا كان ذلك دون العكس وهذا معنى استطاعتهم على التبدل والتغير ولا يلزم منه الجبر.

قوله: (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لكونه أول من امتثل بأمره بالدخول في النار وبالإقرار بالربوبية وبكل حق وصدق فوجب أن يكون أول من يعتقد له ولدا لو كان له ولد فلما لم يعتقده بل نفاه علم أنه ليس ولد، ويفهم منه أن جزاء الشرط محذوف وأن المذكور تعليل له قائم مقامه، أي لو كان للرحمن ولد فأنا أول من يقربه لأني أول العابدين.

ص:20

* الأصل

باب آخر منه

* الشرح

قوله: (باب آخر منه) هذا الباب مثل السابق إلا أنه يذكر فيه شيئا من تفاصيل التكليف الأول واختلاف الخلق وحكمة ذلك الاختلاف وغير ذلك مما يظهر بالتأمل.

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن داود العجلي، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا، فامتزج الماءان، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة بسلام وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلي شهدنا أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم وأن هذا محمد رسولي، وأن هذا علي أمير - المؤمنين؟ قالوا: بلي، فثبتت لهم النبوة وأخذ الميثاق على أولى العزم أنني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخز أن علمي (عليهم السلام) وأن المهدي أنتصر به لديني واظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي واعبد به طوعا وكرها، قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ولم يكن لادم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل:

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد به عزم) قال: إنما هو فترك ثم أمر نارا فأججت فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها، وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما فقال أصحاب الشمال: يا رب أقلنا، فقال قد أقلتكم إذهبوا فادخلوها، فهابوها، فثم ثبت الطاعة والولاية والمعصية.

* الشرح

قوله: (فأخذ طينا من أديم الأرض) أي طينا مخمرا بالمائين وبذلك التخمير يتحقق القدرة على الخير والشر في الكل كما أشرنا إليه إذ لو وقع التخمير من العذب فقط لم تكن قدرة على الشر ولو وقع من الأجاج فقط لم تكن قدرة على الخير بالجملة في إيجاد هذا النوع وامتحانهم بالتكاليف يقتضى التخمير بالمائين.

ص:21

قوله: (فعركه عركا شديدا) فخرجوا كالذر يدبون يمينا وشمالا، وحذف لدلالة سوق الكلام عليه.

قوله: (إلى الجنة بسلام) متعلق بقال لا بيدبون وقد مر تفسيره.

قوله: (قالوا بلي شهدنا أن تقولوا) يلي تصديق بالربوبية وشهادة بالوحدانية وإن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من إخراجكم واشهادكم على أنفسكم وأخذ الميثاق عليكم بالربوبية كراهة أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين. ولم ينبهنا عليه أحد أو تقولوا إنما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم وتبعنا آثارهم، إذ لا عذر لهم في الإعراض من التوحيد والتمسك بالتعليل والاقتداء بالآباء بعد تبينهم عليه كما لا عذر لابائهم في الشرك.

قوله: (قالوا بلي) أي قال النبيون كلهم بلي وأما غيرهم فقالوا بعضهم بلي في الرسالة والولاية دون بعض كما دلت عليه الروايات في هذا الكتاب وغيره.

قوله: (فثبت لهم النبوة) دل على أن نبوتهم قبل أخذ الميثاق عليهم برسالة محمد (صلى الله عليه وآله) وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت في حيز البداء وصارت حتما بعده بالإقرار.

قوله: (وأخذ الميثاق على أولى العزم) هم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) عليه وعليهم لتأكد عزمهم في أمر الدين ولمجيء كل لاحق بعزيمة نسخ كتاب سابقه وشريعته، ولعل المراد بعم هنا الأربعة الأول بقرينة أخذ الميثاق عليهم لرسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله).

قوله: (واعبد به طوعا وكرها) كما قال جل شأنه (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون».

وقال محي الدين في الفتوحات: «إذا ظهر المهدي (عليه السلام) يرفع بالمذاهب عن الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص، وأعداؤه يدخلون في دينه وتحت حكمه كرها خوفا من سيفه ولو لا أن السيف بيده لا فتى الفقهاء بقتله ولكن الله يظهره بالسيف والكرم فيطيعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان ويضمرون خلافه ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ظلال. في ذلك كلامه طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

قوله: (ولم يجحد آدم ولم يقر) أي لم يجحد آدم عهد المهدي (عليهم السلام) قلبا ولم يقر به لسانا بل أقربه ولم قلبا ولم يقر به لسانا لتولهه وتأسفه بضلالة أكثر أولاده. وبما يرد عليهم من القتل والقهر لما بين الأب وأولاد من الروابط العظيمة المقتضية لتأسفه بما يريد عيلهم وإن كان راضيا بقضاء الله وحكمه، وعلى هذا كأنه لم يكن له عزم تام على الإقرار به إذ لو كان له ذلك العزم كما كان لأولى العزم من الرسل لأقر به كما أقروا،

ص:22

وأما قوله (فنسى» معناه فترك الإقرار به لسانا أو فترك العزم على الإقرار به وليس المراد به معناه الحقيقي فليتأمل.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم، عن أبيه عن الحسن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم (عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي فكان أول من أخذ له عليم الميثاق بنبوته محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال الله عز وجل لآدم: انظر ماذا ترى، قال: فنظر آدم إلى ذريته وهم ذر قد ملؤوا السماء، قال آدم (عليه السلام): يا رب ما أكثر ذريتي! ولأمر ما خلقتهم؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال الله عز وجل: يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويؤمنون برسلي ويتبعونهم، قال آدم (عليه السلام): يا رب فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل أو بعضهم ليس له نور؟ فقال الله عز وجل: كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم قال آدم (عليه السلام): يا رب فتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال الله عز وجل: تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك [من] خلاف كينونتي، قال آدم: يا رب فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء، قال الله عز وجل: يا آدم بروحي نطقت وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به وأنا الخالق العالم، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري. وإلى تدبيري وتقديري صائرون، لا تبديل لخلقي، إنما خلقت الجن والإنس ليعبدون وخلقت الجنة لمن أطاعني وعبدني منهم واتبع رسلي ولا أبالي خلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة بي إليك وإليهم إنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملا في دار الدنيا في حياتكم وقبل مماتكم فلذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري، وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجعلت منهم الشقي والسعيد البصير والأعمى والقصير الطويل، والجميل الدميم والعالم والجاهل والغني والفقير، والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني

ص:23

إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء وفيما ابتليهم وفيما أعطيهم وفيما أمنعهم وأنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت واقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر من ذلك ما قدمت وأنا الله الفعال لما اريد لا اسأل عما أفعل وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون.

* الشرح

قوله: (يا رب ما أكثر ذريتي ولامر ما) تعجب في كثرتهم مع خفاء سببها وما في «أمر ما» صفة أي لامر أي أمر خلقتهم.

قوله: (قال آدم يا رب فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض) أي أعظم مقدارا وأعظم قدرا ورتبة فقوله «وبعضهم له نور إلى آخره» على الأول كالتأسيس وعلى الثاني كالتأكيد ومجمل ما في هذا الخبر أن آدم (عليه السلام) لما رأى اختلاف ذريته في غاية الكمال بحيث لا يكاد يشترك اثنان منهم في حال من الأحوال ولم يعلم سبب ذلك الاختلاف سأل عن سببه فأجابه عز شأنه بأنه خلقهم كذلك لأجل الابتداء، ثم عاد (عليه السلام) بأن خلقهم كذلك بوجب بينهم التنافر والتباعد والتباغض والتحاسد، وأن اتحادهم في جميع الأحوال يوجب رفع هذه المفاسد وتحقق نظامهم، والسؤال الأول نشأ من روحه القدسية الإلهية الناظرة في حقائق الأشياء وصفاتها ومنافعها ومضارها، والسؤال الثاني تكلف نشأ من قواه الجسمانية ومواده الطبيعية بتوهمات داثرة وخيالات باطلة، إذ التساوي في الغنى والفقر أو اللون أو المقدار أو الشكل أو العمر مثلا لا يوجب رفع المفاسد المذكورة بل يوجب رفع الحكمة والتكليف والابتداء وذلك نقص في العلم والتقدير والتدبير في ايجاد هذا النوع وابتدائهم إذ الابتلاء في صورة الاختلاف أشد وأعظم والامتثال بالتكليف حينئذ أرفع وأفخم والثواب المترتب عليهما أجل وأتم ألا يرى أن صبر الفقير على الفقر مع مشاهدة الغنى في غيره أعظم من صبره مع مشاهدة الفقر في جميع بنى نوعه ولذلك قيل «إذا عمت البلية طابت» وان ابتلاء الغنى بالشكر مع تحقق الفقر في غيره أعظم من ابتلائه مع تحقق الغنى في جميع بنى نوعه أذله على الشكر في صورة الأولى بواعث شتى وقس عليه جميع الأحوال المتقابلة.

قوله: (كذلك خلقهم) أي كون بعض الذر أعظم من بعض إلى آخرة خلقتهم لأبلوهم وفي بعض النسخ «لذلك» أي لأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا أو لا جل الاختلاف خلقتهم كما قال جل شأنه «لا يز الون مختلفين ولذلك خلقهم».

ص:24

قوله: (تكلم فإن روحك من روحي) لعل المراد بالروح الأولى النفس الناطقة الناظرة إلى عالم الملك والملكوت، وبالروح الثانية جبرئيل (عليه السلام) لأنه روح الله الأمين ونسبته إليه تعالى ظاهرة و «من» حينئذ ابتدائية أو جود الله تعالى وفيضه على آدم وانما كان ذلك روحا لأنه مبدء كل حياة فهو الروح الكلية التي بها قوام كل حياة، وحياة كل موجود ونسبته إليه أيضا ظاهرة و «من» حينئذ للابتداء أو للتبعيض أو ذاته المقدسة والمقصود أنه تعلى خلق روحه من عند ذاته المجردة بمجرد المشية بلا توسط مادة كالتراب ونحوه من المواد الجسمانية، والمراد بالكينونة الوجود وبالطبية المواد الجسمانية مثل الحواس الظاهرة والباطنة التي جعلت في الإنسان ليستعملها على القوانين العدلية ويستعين بها في السير إلى حضرة المقدس وكونها على خلاف وجوده تعالى ظاهر لتنزهه عن العالم الجسماني، وفيه تنبيه على أن التكلم قد يكون صوابا إذا كان المقتضى له هوا الروح المجردة وقد لا تكون إذا كان المقتضى هو الطبايع الجسمانية فإنه قد تقع في الغلط والتوهم الفاسد وقد وقع في السؤال المذكور كلا الامرين.

قوله: (فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد) لعله (عليه السلام) علم تفاوت الاعمال والأرزاق بالالهام، وأما ما سواهما من الأمور المذكورة علمه بالمشاهدة.

قوله: (وجلة واحدة) الجبلة بكسر الجحيم وسكون الباء وكسرها وشد اللام الخلقة ومنه قوله تعالى (والجبلة الأولين».

قوله: (قال الله عز وجل يا آدم بروحي نطقت) إضافة الروح إليه سبحانه للاختصاص باعتبار أنه من عالم الأمر وعالم المجردات الصرفة، ومن شأنها التحرك إلى طلب المجهولات فلذلك نطقت في هذا المقام عند رؤية الاختلاف العظيم في الذرية مع عدم العلم بسببه، وأما التكلف في السؤال بأن خلقهم على مثال واحد إلى آخر ما ذكر أنسب بنظامهم وأقرب في رفع الفساد بينهم فمستند إلى ضعف طبيعة ومعارضة قواه الجسمانية للقوة الروحانية وغلبتها بتوهم أن الاتحاد وغلبتها بتوهم أن الاتحاد في الأمور المذكورة موجب للاتحاد والألفة بينهم وهذا أمر مطلوب والحكمة تقتضى رعايته، وهذا التوهم فاسد لأن التماثل في الطبيعة يوجب زوال نظامهم وانقطاع نسلهم لأن التماثل يوجب اشتغالهم بصنعة واحدة من الصنايع الجزئية التي لها مدخل في النظام وبقاء النوع بخلاف الاختلاف فإنه يوجب اشتغال كل واحد بما يناسبه; ويستعد له من الصناعات فيتحقق النظام المشاهد وبقاء النوع التماثل في الفقر والغني وغيرهما لا يوجب عدم البغى و التحاسد التباغض وغيرها من المفاسد، وعلى تقدير ايجابه فهي حكمة لاقدر لها في جنب حكمة الاختلاف وهي ابتلاؤهم في مقام التكليف الموجب لرفعة مقاماتهم في

ص:25

الدار الآخرة.

قوله: (وأنا الخالق العليم) [كذا] تعريف الخبر باللام يفيد الحصر وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي السؤال عنه في خلقه وايجاده للأشياء على ما هي عليه عند خفاء الحكمة بل يجب الاذعان بأن كل ما خلقه على أي وجه خلقه فهو أحكم وأتقن وأفضل وأحسن من غير ذلك الوجه لكونه خالقا عليما وصانعا حكيما لا يفعل الإ ما يقضيه الحكمة البالغة فالقول بأن في خلافة حكمة فاسد أما باعتبار أن هذه الحكمة حكمة وهمية لا تحقق لها في نفس الأمر أو باعتبار أنها حكمة ضعيفة لا قدر لها عند تلك الحكمة البالغة.

قوله: (بعلمي خالقت بين خلقهم) أي خالفت بين خلق أبدانهم وقلوبهم وطبايعهم وغيرها بسبب علمي بحالهم وبمصالح الاختلاف قبل خلقهم وبعده، والحاصل أنه سبحانه لما علم أزلا تفاوتهم في الطاعة والعصيان والكمال والنقصان خلق أبدانهم وصورهم أشكالهم وقت الميثاق على قدر تفاوتهم وتفاوت مراتبهم فوضع كلا في موضعه وهو العدل الحكيم ويمضي فيهم في هذا العالم وهو عالم الظهور أمره الذي هو الاختلاف المقدر في ذلك الوقت أو أمره التكويني على النحو المشاهد بمجر مشيته وارادته وهم صايرون إلى ما دبر من عاقبة أمورهم وإلى ما قدر لهم من الجنة والنار لا تبديل لخلق الله، فمن حسن أحواله في ذلك الوقت حسنت أحواله في الدنيا، ومن حسنت أحواله في الدنيا حسنت أحواله في الآخرة، ومن قبحت أحواله في ذلك الوقت، قبحت أحواله في الموطنين الآخرين لا يتبدل هؤلاء إلى هؤلاء ولا هؤلاء إلى هؤلاء.

قوله: (وبمشيتي يمضي فيهم أمري) أي أمر الاختلاف أو أمر التكوين بمضي فيهم بمجرد المشية التابعة للحكم والمصالح كما أشر نا إليه.

قوله: (وإلى تدبيري وتقديري صائرون) التدبير في الأمر أن تنظر إلى ما يؤول إليه عاقبته وبالفارسية صلاح انديشيدن در كار. والتقدير اندازه كردن واندازه چيزى نكاه داشتن وآفريدن وواجب كردن.

قوله: (إنما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) إشارة إلى غاية خلق السماوات والأرض والدنيا والآخرة والجنة والنار وهي خلق الثقلين فان غاية والمعصية وهما يتوقفان على التكليف والابتلاء وبين أن التكليف والابتلاء وكمالهما يتوقفان على الاختلاف المذكور فقد ثبت أن الحكمة تقتضى الاختلاف فليتأمل.

قوله: (من غير فاقة بي إليك واليهم) لأن الفاقة تابعة للعجز والنقص أو مقتضية لهما، وقد الحق منزه

ص:26

عنهما.

قوله: (لأبلوك وأبلوهم) أي لأعاملك وإياهم معاملة المختبر فهو من باب التمثيل لقصد الايضاح والتنوير.

وقوله: (أيكم أحسن عملا) مفعول ثان للبلوي باعتبار تضمينه معنى العلم، والنفع في الاختبار يعود أن إلى الغير لا إليه سبحانه.

قوله: (والطاعة والمعصية) اسناد خلقهم إليه جل شأنه اسناد إلى العلة البعيدة أو المراد به جعل المعصية معصية والطاعة طاعة، أو المراد بالخلق التقدير.

قوله: (والجنة والنار) دل على أنهما مخلوقتان الآن، ذهب إليه المحقق في التجريد وهو مذهب الأكثر والآيات والروايات شواهد صدق عليه، وذهب كثير من المعتزلة أنهما غير مخلوقين وأنما تخلقان يوم القيامة.

قوله: (وكذلك أردت) أي كون الغرض من خلقهم هو الابلاء والاختبار أردت في تقديري لهم على النحو المختلف أو للممكنات وحقائقها وصفاتها يعني أن الغرض في تقديرى الممكنات وتدبيرى فيها هو اختبار الثقلين.

قوله: (فجعلت منهم الشقي والسعيد والبصير والأعمى) السعيد من عرف ربه وسلك سبيله حتى وصل إليه، والوصول هو الغاية العظمى للسعادة بل هو عينها ولا يحصل له ذلك إلا بمجاهدته على القوة الشهوية والغضبية وغلبته على لوازمها من الاخلاق الرذيلة، الشقي من لم يعرفه ولم ينكره أو أنكره أو عرفه ولم يسلك سبيله سواء وقف فيه أو رجع عنه وجعلها وراء ظهره أو مال عنه يمنة ويسرة فالسعيد صنف واحد والشقي أصناف لاتحاد طريق الحق وكثرة طرق الباطل والظاهر أن المراد بالبصير والأعمى واجد نور الباصرة، وفاقده ويمكن أن يراد بهما واجد نور البصيرة وفاقده.

قوله: (والجميل والدهم) الجميل الحسن الوجه، والهيئة، وجمل الرجل - بالضم والكسر - فهو جميل، وامرأة جميلة. والدهم الأسود القبيح المنظر والهيئة من الدهمة، وهي السواد ومنه الفرس الأدهم إذا اشتد سواده حتى ذهب بياضه [وفي بعض النسخ «والجميل والدميم»].

قوله: (ومن به الزمانة ومن لا عاهة به) الزمانة الآفة والعاهة فعله بفتح العين وعينها ياء. وفي المصابح زمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن من باب تعب وهو مرض يدوم زمانا طويلا.

قوله: (فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة) اختبر الصحيح بذي العاهة وبالعكس ولو كانوا كلهم أهل

ص:27

الصحة فاتت الحكمة الأولى وهي الحمد والحث عليه ولو كانوا كلهم أهل العاهة فاتت الحكمة الثانية وهي الدعاء والصبر على البلية والترغيب فيهما بل فاتت الحكمتان في كلتا الصورتين، وليس المراد بالحمد الحمد القولي فقط بل المراد الحمد مطلقا قولا كان أو فعلا بأن يصرف لسانه في أنواع الثناء وقوته في أنحاء الطاعات وجوارحه في أقسام العبادات، وقبله في التفكر في الله وفي مظاهره وآثاره، وهو كذلك اختبر الغني بالفقير وبالعكس لينظر الغني إلى الفقير فيحمد الله تعالى على ما أعطاه وأنعمه مما منع عنه الفقير ويشكره بالظاهر والباطن وبأداء الحقوق المالية وينظر الفقير إلى الغني فيدعو ربه ويسأله أن يعطيه، والاختلاف في الغني والفقير فائدة أخرى هي انتظام أمورهم في التمدن والاجتماع، إذ لو كان كلهم غنيا لما خدم بعضهم بعضا، ولو كان كلهم فقيرا لما حصل نفع في مقابل الخدمة فيفضى ذلك إلى تركها وعلى التقديرين يلزم بطلان النظام وانقطاع النوع وفساد أسباب الحياة من الزارعة والخياطة والحياكة وغيرها من الصناعات الجزئية وكذلك اختبر المؤمن بالكفار وبالعكس لينظر المؤمن إلى الكافر فيحمده على ما هداه إليه ووفقه له، وينظر الكافر إلى المؤمن وحسن ظاهره وباطنه فيرجع عن الكفر ويتوب ولم يذكره لعدم الاغتناء بشأنه ولمال ذكر جملة من حكمة الابتلاء والاختبار على سبيل التفصيل أشار إلى البواقي على سبيل الاجمال بقوله «فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء إلى آخره» لأن جلها بل كلها مندرج فيه كما يظهر بالتأمل.

قوله: (وأنا الله الملك القادر) أشار بلفظ الله إلى أنه كامل من جهة الذات والصفات الذاتية والفعلية لدلالته على أن كل ماله من الصفات على وجه الكمال فلا يكون خلقه على وجه الاختلاف عبثا لأن البعث نقص والنقص على الكمال من جميع الجهات محال وبلفظ ملك على أنه مسلط على جميع الممكنات فلا يعتريه العجز عن ايجاد ما أراد، فلو كانت الحكمة في غير الاختلاف لأراده بلا مانع ولما لم يرد علم أنها في الاختلاف، وبلفظ القادر إلى أنه ليس بموجب لا يقدر على ايجاد الضدين كالفقر والغنى والصحة والسقم وغير ذلك وهذه حكمة أخرى لاختيار الاختلاف وإلى أن فعله مسبوق بالإرادة، والفعل الإرادى لا يكون إلا لحكمة ومصلحة هذا القدر كاف في الاذعان بان الاختلاف في خلقه لا يخلو عن حكمة وإن لم يعلم تفاصيلها.

قوله: (ولى أن أضى) إشارة إلى أنه يجوز البداء في بعض المقدرات والمدبرات وقد مر في آخر كتاب التوحيد تفسير البداء ومواقع جوازه وهي ما لم يبلغ الامضاء الحتم مثلا إذا قدر صحة زيد أو سقمه أو غناه أو فقره أو طول عمره أو قصره تقديرا غير حتمي مشروطا بالتصدق أو صلة الرحم أو بعدمها جاز

ص:28

البداء والتغيير.

قوله: (وإنا الله الفعال لما أريد) وهو فعال لأنه يفعل كل ما يريده على وجه يريد بلا منازع ولا مدافع على وجه أحسن بحيث لو اجتمع العقلاء على أن يزيدوا أو ينقصوا طلبا لزيادة الحسن لما قدروا. ومن توهم امكان إلا حسن في بعض أجزاء العالم فهو غافل عن المصالح الكلية والجزئية، وفيه تنبيه على أن له الامضاء والتغيير والتقديم والتأخير تحقيقا لمعنى المبالغة في الفعل.

قوله: (لا أسأل عما أفعل) لأنه لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة، والحكيم على الاطلاق لا يسأل عما يفعل بخلاف غيره فإنه يسأل عما يفعل هل هو موافق للحكمة أم لا.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة وخلق من أبغض مما أبغض وكان مما أبغض أن خلقه من طينة النار، ثم بعثهم في الظلال، فقلت: وأي شيء الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الاقرار بالله عز وجل وهو قوله عز وجل: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض، وهو قوله: (ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب ثم.

* الشرح

قوله: (إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب) لعل المراد بالخلق الخلق الجسماني بقرينة السياق ومحبته تعالى للعبد عبارة عن إحسانه وإكرامه وإفضاله ولطفه وهي تابعة لطاعة العبد إياه، ثم المحبة سبب لزيارة القرب حتى يصير العبد بحيث لا ينظر إلا إليه ولا يتكل إلا عليه فيصير فعله كفعله كما يدل عليه حديث التقرب بالنوافل، وسيجئ مشروحا إن شاء الله تعالى . ومن محبته أنه إذا علم طاعة الأرواح الانسانية خلق لها أبدانا من طينة الجنة ليكون ذلك معينا لها في الخيرات وهذا بداية التوفيق والإحسان ومن بغضه أنه إذا علم عصيانها خلق لها أبدانا من طينة النار وسلب عنها توفيقه فيبعثها ذلك إلى المبالغة في الشرور، وهذا بداية الاضلال والخذلان.

قوله: (ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء) شبه الظلال بظلك في الشمس وأشار إلى وجه

ص:29

التشبيه بأنه شيء باعتبار وليس بشيء باعتبار آخر، وقد ذكرنا سابقا أن التكليف الأول وقع مرتين: مرة في عالم المجردات (1) الذر المخرج من الطينة، ويمكن أن يكون المراد بالظل هنا هو الأول ولكن لما كان تصور عالم المجر الصرف صعبا في أكثر الأذهان (2) في عدم الكثافة إذ لا كثافة في المجرد الصرف كما لا كثافة في الظل، ويمكن به ان يراد به عالم الذر المبائن لعالم الأجسام الكثيفة، وهو يحكى عن هذا العالم ويشبهه وليس منه فهو ظل بالنسبة إليه وهذا أنسب بقوله (عليه السلام) «ثم بعثهم في الظلال» فإنه يفيد ظاهرا أن بعثهم فيه بعد خلقهم من طينة الجنة وطينة النار، وحمله على الأول يحتاج إلى تكلف بعيد فليتأمل.

وأعلم: أن الأرواح المحبوبة الكاملة الهادية أعنى أرواح خاتم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) خلقت قبل أرواح سائر البشر وطينتهم كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبة «ألا أن الذرية أفنان أنا شجرتها، ودوحة أنا ساقتها، وإني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء، كنا أظلالا تحت العرش قبل البشر وقبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية، لا أجساما نامية، وفيه إشارة إلى أن الكمالات التي حصلت لنفسه القدسية بواسطة كمالات نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشبه ذلك بصدور الضوء من الضوء كشعلة مصباح اقتبست من مصباح آخر ومن العادة في عرف المجردين تمثيل النفوس الشريفة بالأنوار والأضواء لمكان المشابهة بينهما في حصول الهداية عنها مع لطفها وصفائها وإلى كونهم أرواحا قدسية

ص:30


1- 1 - قوله «في عالم المجردات الصرفة ذكر العلامة المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول نحوا من عبارة الشارح وكأنه مقتبس منها وهو مبنى على مذهب صدر المتألهين في تقسيم العوالم بثلاثة أقسام: الأول عالم المجردات الصرفة وهو عالم العقول والنفوس الناطقة وموجودات ذلك العالم عارية عن المواد وعن المقادير أيضا، والثاني علم المثال وهو مشتمل على موجودات مجردة عن المادة دون المقدار، والثالث عالم الماديات وهو ظاهر. وأما غير صدر المتألهين فأكثرهم على نفي العالم الأوسط. قال الصدر (قدس سره) أعلم أن كثير من أهل العلوم والمنتسبين إلى الحكمة زعموا أن هذه الصور المرئية والمثل المسموعة أمور مرتسمة في الحس المشترك الذي هو قائم في الجزء المقدم من الدماغ كارتسام الاعراض في موضوعاتها وهذا كله لقصور المعرفة بعالم الملكوت وضعف الإيمان بالملائكة فان هذه الأمور موجودات عينية قائمة بذواتها لا في محل وهي أقوى في الموجودية من هذه الأكوان الخارجية إلا أن نشأة وجودها نشأه أخرى انتهى ملخصا. والعلامة المجلسي على أن الروح جسم لطيف والشارح على أنه موجود مجرد صرف وان أمكن ظهوره في عالم المثال يوجد فيصح توجه التكليف إليه وهو مجرد في الظلال وفي عالم المثال أيضا وهو مجرد عن المادة لاعن المقدار وهو عالم الذر. (ش)
2- 1 - صعبا في أكثر الأذهان» اعترف من الشارح بان الحجج (عليهم السلام) كانوا يعبرون عن معنى لا يفهمه العامة بلفظ قريب يفهمونه. (ش)

موجودة تحت رحمة الحق أو علمه قبل جميع الخلائق وعبر عن نفوسهم الطاهرة بالاظلال على سبيل الاستعارة للتنبيه على أنهم مرجعا لجميع الخلق بعد وجودهم كالاظلال.

قوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) أي ليقولن خلقنا الله أو الله خلقنا على اختلاف في تقديم المحذوف وتأخيره، والمشهور الأول يعني لو سألتهم عن ذلك لاضطروا إلى الجواب المذكور بمقتضى العهد والميثاق.

قوله: (ما كانوا ليؤمنوا بما كانوا به) أي ما كانوا ليؤمنوا في هذه النشأة بعد بعث الرسول إليهم بما كذبوا به من قبل هذه النشأة عند أخره الميثاق إذ التصديق والتكذيب فيه تابعان للتصديق والتكذيب ثم (1) فمن صدق ومن كذب يكذب لا تبديل لخلق الله.

ص:31


1- 1 - تابعان للتصديق والتكذيب ثم» ظاهر كلام الشارح يوهم الجبر وأنه لم يكن فائدة في بعث الأنبياء ودعوتهم في قبول الناس لكن الشارح برئ من هذه النسبة وقال صدر المتألهين (قدس سره) عند ذكر الشيخ الذي لقى أمير المؤمنين (عليه السلام) عند رجوعه من صفين أوائل المجلد الخامس: تزعم أنه كانت أفعالنا بقضاء الله وقدره يلزم سلب الاختيار عنا في فعلنا فيكون المقضى حتما علينا والمقدر لازما لذاتنا، ولم يبق فرق بين المختار والمضطر ثم بين فاسد هذا الظن: الأول أنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب إذ لا أجر ولا عقوبة على الفعل المجبور الثاني أنه بطل الأمر والنهى والزجر من الله تعالى لمن لا اختيار له، يكن لائمة للمذنب على ذنبه ولا محمدة لمحسن على إحسانه، الخامس أنه على ذلك التقدير كان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب إلى آخر ما ذكره وبينه أتم بيان، وقال فيما أفاد إن قلت أن الله عالم قبل أفعال العباد بها فلا يمكن أن يصدر عنهم خلافها، وذلك يستلزم الجبر؟ قلنا هذا منقوض بافعال الله الحادثة فإنه كان عالما بها الأول قبل فعلها فلا يمكن عنه صدور خلافها فيكون سبحانه مجبورا فكل ما كان جوابهم فهو جوابنا. (ش)

(باب) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجاب وأقر لله عز وجل بالربوبية

*اصل:

1- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن صالح بن - سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعث آخرهم وخاتمهم ؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي أول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فكنت أنا أول نبي قال: بلي، فسبقتهم بالاقرار بالله عز وجل.

* الشرح

قوله: (إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب) له سبق من حيث الوجود لأن روحه خلقت قبل الأرواح كلها، وله سبق من جهة الإقرار بالربوبية لأنه أقربها حين وجوده منفردا وأقربها قبل الجميع عند أخذ الميثاق، ويظهر مما ذكرنا أن العطف في قوله وأول من أجاب للتأسيس دون التفسير والتأكيد وأما تأخيره في هذه النشأة فلفوائد يعلمها الله تعالى وكان منها تعظيمه لأن سائر الأنبياء مقدمة له مخبرة لوجوده كالمقدمة للسلطان ومنها تكميله للأديان السابقة كما قال «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ومنها تعظيم دينه من جهة نسخه للشرائع السابقة، وبمنها تعظيم كتابه لذلك ومنها أن يكون شاهدا لتبليغ جميع الأنبياء (عليه السلام).

* الأصل

2 - أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إني لأرى بعض أصحابنا يعتريه النزق والحدة والطيش فأغتم لذلك غما شديدا وأرى من خالفنا فأراه حسن السمت، قال: لا تقفل حسن السمت فإن السمت سمت الطريق ولكن قل حسن السيماء، فإن الله عزوجل يقول: (سيما هم في وجوهم من أثر السجود) قال:

قلت: فأراه حسن السيما وله وقار فأغتم لذلك، قال: لا تغتم لم رأيت من نزق أصحابك ولما رأيت من حسن سيماء من خالفك، إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق آدم خلق تلك الطينتين، ثم فرقهما فرقتين، فقال لأصحاب اليمين: كونوا خلقا بإذني، فكانوا خلقا بمنزلة الذر يسعى، وقال لأهل الشمال: كونوا خلقا بإذني، فكانوا خلقا بمنزلة الذر. يدرج، ثم رفع لهم نارا: فقال: ادخلوها بإذني، فكان أول من دخلها (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتبعه أولو العزم من الرسل

ص:32

وأوصياؤهم وأتباعهم؟ ثم قال لأصحاب الشمال: ادخلوها بإذني، فقالوا: ربنا خلقتنا لتحرقنا؟ فعصوا، فقتل لأصحاب اليمين:

أخرجوا بإذني من النار، لم تكلم النار منهم كلما، ولم تؤثر فيهم أثرا؟ فلما رآهم أصحاب الشمال، قالوا: ربنا نرى أصحابنا قد سلموا فأقلنا ومرنا بالدخول، قال: قد أقلتكم فادخلوها، فلما دنوا وأصابهم الوهج، رجعوا فقالوا: يا ربنا لا صبر لنا على الاحتراق فعصوا، فأمرهم بالدخول ثلاثا، كل ذلك يعصون ويرجعون وأمر اولئك ثلاثا، كل ذلك يطيعون ويخرجون، فقال لهم: كونوا طينا بإذني فخلق منه آدم: قال فمن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء ومن كان من هؤلاء لا يكون من هؤلاء، وما رأيت من نزق أصحابك وخلقهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب الشمال وما رأيت من حسن سيماء من خالفكم ووقارهم فمما أصابهم من لطخ أصحاب اليمين.

* الشرح

قوله: (يعتريه النزق والحدة والطيش) الاعتراء رسيد وفرا گرفتن، النزق والنزوق بر جهيدن وجستى نمودن وشتاب كردن وپيشى گرفتن. والحدة بتشديد الدال تيز شدن وتندى نمودن والطيش تيز شدن وتندى نمودن ومنحرف شدن تير از شانه. وهذه المعاني متقاربة كلها من جهة الفساد في القوة الشهوية والغضبية.

قوله: (قال لا تقل حسن السمت فأن حسن السمت سمت الطريق) في الفائق: السمت أخذ النهج ولزوم المحجة، وسمت فلان طريق يسمت ويسمت يعنى من باب نصر وضرب ثم قالوا ما أحسن سمته أي طريقة التي ينتهجها في تحرى الحير والتزي بزى الطالحين، وفي المصباح السمت والطريق والقصد والسكنة والوقار والهيئة، ولما جاء السمت بمعنى الطريق (1) السائل يوهم أن من خالفنا حسن

ص:33


1- 1 - ولما جاء السمت بمعنى الطريق» الحديث مرسل وتوجيه الشارح تكلف ويشبه أن يكون المراد ببعض أصحابنا السياري أو أحد الأعاجم مثله قليل المعرفة بلسان العرب أو قليل الاهتمام به فزعم أن السمت منحصر في سمت الطريق وهو المعنى المشهور وكان المعنى الآخر غريبا لديه. وأما ما تضمن معناه من اختلاط الطينتين فالكلام فيه ما في أمثاله. وأعلم أن اختلاف النفوس في استعداداتها وصفاتها مما لا ينبغي أن ينكر بل هو محسوس ومروى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» قال صدر - المتألهين (قدس سره) يتفاوت العقول والإدراكات والأشواق والإرادات بحسب اختلاف الطبايع والقوى والغرائز والجبلات فينزع بعضهم بطبعه إلى ما ينفر عنه الآخر ويستحسن بعضهم بهواه ما يستقبحه الثاني والعناية الإلهية اقتضت نظام الوجود على أحسن ما يتصور وأجود ما يمكن من التمام ولو تساوت الاستعدادات لفات الحسن والفضل في ترتيب النظام إلى آخر ما قال. ولا يخفى أن اختلافهم في ذلك لا ينافي اتفاقهم في قدرة فهم التكاليف واختيارهم في فعل الخير فهم متفقون فيما هو مناط التكليف ومختلفون في استعداد العلوم والصنايع ولا يلزم الاختلاف في الاستعداد ظلما وإنما يلزم الظلم أن يكونوا متفقين في التكليف مع الاختلاف في استعداد ولو فرض أن أحدا بلغ في البلادة إلى حد لا يعقل التكليف أصلا التزمنا برفع التكليف عنه كالمجانين. وقال صدر المتألهين في بعض كلامه فمن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده فإنما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده وكان أهلا للشقاوة في معاده، وإنما قصر استعداده وأظلم جوهره لعدم كونه أحسن مما وجد كما لا يمكن أن يلد القرد انسانا مثلا في أحسن صورة وأكمل سيرة، أقول بعد ما سبق منه (قدس سره) في الحاشية السابقة وغيرها من نفي الجبر وإثبات الاختيار وأن علم الواجب بما سيقع لا يوجب الجبر في فعل الإنسان كما لا يوجبه في فعل نفسه تعال وجب حمل ما ذكره أخيرا من شقاوة قاصري الاستعداد على النقص اللازم لكل ممكن عن ما فوقه من المراتب كنقص الدواب عن كمال الانسان فإنها لا تتألم بهذا النقص إذ لا تدركه والتألم فرع الادراك وليس عذابا لها جزاء على تقصيرها في امتثال تكاليفها وقد صرح هو بذلك في مواضع من كتبه. وقال أيضا: وكما لا تعترض على أقبح الناس أنه لم لا يكون مثل يوسف في الحسن كأبي جهل فكذلك لا تعترض على شر الناس كأبى جهل مثلا لم لا يكون مثل خير الناس كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فان اختلاف الغرائز والشمائل كاختلاف الأشكال والطبايع إلى آخر ما قال، والتمثيل بأبي جهل الحاق في الموضعين والحق أنه لا يعترض على أبي جهل وأمثاله في نقصه العقلي وعدم وصوله في الكمال الذاتي إلى كمال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما يعترض عليه وعلى أمثاله بأنهم تنزلوا عما اعطوه من الفهم والعقل فصاروا كالانعام بل هأ أضل بعد أن كان فيهم ما به تفوقوا عليها. وأعلم أن الإعتقاد بالقدر وأن كل شيء في هذا العالم مطابق لما ثبت في عالم آمر قبله من لوازم الإيمان بعالم الغيب ولذلك ترى الماديين والمائلين إليهم ينفونه وقال بعض الملاحدة: القدر للانسان هو الطريقة التي يختارها وكتابه هو الذي يحويه وجوده ويتتبع بيده أوراقه، والحق أن لا يتفحص عن سابقة له في عالم غير مرئي بل ليس هناك الأسيرة في هذا العالم المحسوس وهذا الذي ذكره أشنع من اعتقاد أبي جهل. (ش)

مستقيم وذلك خطأ فلذلك نهاه عن ذلك القول وأمره بما هو أحسن منه لأن السيماء صفة لرجل يفرح بها من ينظر إليه سواء كان من أهل الحق أو الباطل.

قوله: (له وقار) أي سكينة نفسانية طمأنينة جسمانية.

قوله: (خلق تلك الطينتين) إشارة إلى الطينة المعلومة للمخاطب من سياق الكلام أو من قرينة المقام وأريد بتفريقهما بيمينه وشماله على سبيل التمثيل والتخييل أو تفريقهما بيمين جبرئيل وشماله كما في بعض الروايات.

قوله: (فكان أول من دخلها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) كما أنه أول من خلقت روحه وأول من خرج من طينة اليمنى وسعى إلى الجنة وبالجملة هو كان أول من المواطن كلها وفيض الحق إلى الجميع.

قوله: (لم تكلم النار منهم كلما) الكلم الجرح وفعله من باب ضرب.

قوله: (وأصابهم الوهج) بالتحريك حر النار.

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن إسماعيل، عن محمد بن - إسماعيل، عن سعدان

ص:34

بن مسلم، عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأي شيء سبقت ولد آدم، قال: إني أول من أقر بربي، إن الله أخذ ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلي، فكنت أول من أجاب.

باب كيف أجابوا وهم ذر

باب كيف أجابوا وهم ذر

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أجابوا وهم ذر؟ قال: جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه، يعني في الميثاق.

* الشرح

قوله: (جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه) «ما» موصولة والعائد محذوف أي أجابوه به والمراد به القوة الاستعدادية للنفس الناطقة القابلة (1) السؤال

ص:35


1- 1 - قوله «والمراد به القوة الاستعدادية للنفس الناطقة» قال العلامة المجلسي (قدس سره) أعلم أن آيات الميثاق والأخبار الواردة في ذلك يقصر عنه عقول أكثر الخلق وللناس فيها مسالك: الأول طريقة المحدثين والمتورعين، فأنهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل، والثاني حملها على الاستعارة والمجاز والتمثيل، والثالث حملها على أخذ الميثاق في عالم التكليف بعد إكمال العقل بالبرهان والدليل إنتهى. وهو مشتبه المراد لا أدرى مقصود (قدس سره) إلا أن المسلك الثالث يشير إلى ما أختاره المفيد والسيد المرتضى والطبرسي وجماعة من أعاظم الطائفة في تفسير آية «وإذ أخذ لك من بنى آدم من ظهورهم آه» وأما كلام الشارح فمعناه معلوم لنا ونشير إليه إن شاء الله ببيان أوضح. ثم أن الاستصعاب والاشكال في هذه الأخبار على ما أتعقله أنها تستلزم الجبر وليس غيرها من الشبه مما يعتد به وطريقة المحدثين والمتورعين ما ذكره المجلسي (قدس سره) إن كان بعد القطع ببطلان الجبر كما هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لزم عدم ايمانهم بظاهر هذه الأخبار، فإن ظاهرها الجبر والظلم فلا معنى لقوله (رضي الله عنه) نؤمن بظاهرها فلا محيض عن تأويلها وإن أراد والايمان بظاهرها وان لزم الجبر فهو انكار لسائر الأحاديث والأخبار، وأما الحمل على الاستعارة والمجاز فلم يبين (رضي الله عنه) أن أي لفظ استعارة عن أي معنى، يحتمل أن يراد به ما ذكره الشارح أو ما ذركه المفيد عليه الرحمة، وبالجملة ما يدل من الروايات على الجبر فالوجه طرحه أو تأويله ولكن ليس جميعها كذلك فمنها ما لا يستفاد منه إلا علمه تعالى بحال عباده ومع قطع النظر عن شبهة الجبر فلا أرى في المعنى المتفق عليه بين أخبار الميثاق والذر شبهة يصعب حلها مثل ما رووا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة» وما روى فيها معنى معقول لا استحالة له أصلا بل ليس من الغرائب أيضا فإن رؤية الأنبياء بعض ما سيأتي بعدهم في ما يرون من الغيوب أمر معتاد. وقد رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أمية في صورة القردة ينزون على منبره يرجعون بالناس القهقرى، فإن قيل هذا كان نوما قلنا يتفق للأنبياء أن يروا يقظة من الغيوب مثل ما يرى في المنام، قال المفيد (رضي الله عنه) في بعض كلامه فانبأه الله يعني أنبأ الله آدم بما يكون من ولده وشبههم بالذر الذي أخرجهم من ظهره وجعله علامة على كثرة ولده انتهى. وكذلك لا يبعد تمثيلهم بغير صورتهم في الرؤيا وكون بعضهم نورانيا وبعضهم ظلمانيا لأن الرواية دلت على أن آدم رأى على بعضهم نورا لا ظلمة فيه وعلى بعضهم ظلمة لا نور فيه ولا يوجب هذا جبرا كما لا يوجب رؤية نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أمية يرجعون بالناس القهقرى جبرا، وأما آية «وإذ أخذ وبك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى» فحمله على مفاد أحاديث الذر خلاف ظاهر الآية بل صريحها وإن كان حديث الذر معقولا صحيحا فإنه عالي قال «من بني آم من ظهورهم» ولم يقل من آدم من ظهره، ومعنى الآية أن الله تعالى يخلق تدريجا في كل زمان من ظهور الآباء أبناءهم ويعطيهم من العقل والإدراك ما يلتفت به إلى وجوده، فإن الجنين إذا بلغ مبلغا يدرك نفسه وخرج عن رتبة النباتية إلى الحيوانية وله عقل هيولاني في اصطلاح الحكماء جعله الله مستعدا لا ينظر في آثار صنعه ويعرف الصانع صدق عليه قوله تعالى «أشهدهم على أنفسهم» فالحق مع المفيد والسيد المرتضى ومن تبعهما في تفسير الآية. وههنا اشكالات أخرى ذكرها الفخر الرازي في تفسير وهي تشبه أحاديث المجانين يتعجب من صدورها من مثله لا نطيل الكلام بنقلها ولعلنا نشير إليه في موضع آخر أليق إن شاء الله تعالى. (ش)

أجابوا بلسان المقال، وهذا تفسير آخر غير ما ذكرناه سابقا من المعاني الثلاثة أن أريد به وقوع السؤال والجواب تقديرا وأما أن أريد به وقوعها تحقيقا كما يشير به لفظة إذا هو عين ما ذكرناه أو لا فليتأمل.

باب فطرة الخلق على التوحيد

* الأصل

* الشرح

قوله: (باب فطرة الخلق على التوحيد) فطرة آفريدن وآفرينش ودين والمراد هنا المعنى الأول وفي الأخبار المذكورة المعنى الأخير، وعبر عنه في بعضها بالتوحيد، وفي بعضها بالاسلام، وفي بعضها بالحنفاء وفي بعضها بمعرفة الرب والخالق والمال واحد.

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت:

فطرة الله التي فطر الناس عليها؟ قال: التوحيد.

* الشرح

قوله: (قلت فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال التوحيد، الفطرة بالكسر مصدر للنوع من

ص:36

الايجاد وهو ايجاد الانسان على نوع مخصوص من الكمال وهو التوحيد ومعرفة الربوبية مأخوذا عليهم ميثاق العبودية والاستقامة على سنن العدل وذهب إليه أيضا كثير من العامة، وقال بعضهم: الفطرة ما سبق من سعادة أو شقاوة، فمن علم الله تعالى سعادته ولد على فطرة الإسلام، ومن علم شقاوته ولد على فطرة الكفر، تعلق بقوله تعالى (لا تبديل لخلق الله» وبحديث الغلام الذي قتله الخضر (عليه السلام) «طيع يوم طبع كافرا» (1) عن الأول بأن معنى لا تبديل لا تغيير يعني لا يكون بعضهم على فطره الكفر وبعضهم على فطرة الإسلام بل كلهم على فطرة الإسلام. ويؤيده ما في رواياتهم عنه (صلى الله عليه وآله) «ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» فإن المراد بهذه الفطرة الإسلام، وعن الثاني بأن المراد بالطبع حالة ثانية طرأت وهي التهيؤ للكفر غير فطرة التي ولد عليها. وقال بعضهم: المراد بالفطرة كونه خلقا قابلا للهداية ومتهيئا لها لما أوجد فيه من القوة القابلة لا فطرة الإسلام وصوابها (2) العقول، وإنما يدفع العقول عن إدراكها تغيير الأبوين أو

ص:37


1- 1 - قوله «طبع يوم طبع كافر» أقول مفاد أخبار هذا الباب هو الأصل في الإعتقاد الذي يجب أن يعتمد عليه و يرجع ساير ما ينافيه إليه بالتأويل فإنه موافق للعقل والقرآن ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإن خالف أكثر ما ورد في الأخبار السابقة وقلنا أنه موافق للعقل فإنه يدل على تساوي الناس جميعا بالنسبة إلى قبول التوحيد والاستعداد للمعرفة والتكليف وهو مقتضى العدل واللطف بخلاف ما مضى مما دل على أن بعض الناس فطروا على الجهل والعناد من طينة خبيثة لن يؤمنوا أبدا، ومعذلك يعذبون، وقلنا موافق للقرآن لأن مضمون الآية أن جميع أولاد آدم قالوا بلي، ومفاد ما سبق من الأخبار أن بعضهم أقر وبعضهم أنكر، والقران أولى بالقبول ويرجع ما يخالفه ظاهرا إليه، وقلنا إنه موافق لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) لأن المتواتر الضروري المعلوم من مذهبهم القول بالمعلوم من مذهبهم القول بالعدل ونفي الجبر. وقد ذكر الشارح قريبا أن جميع ذرية آدم أعطوا قوة استعدادية للنفس الناطقة القابلة للكمالات والأعمال الخيرية، وعليهذا فلا فرق بين بني آدم من هذه الجهة وكلهم مستعدون بفطرتهم لفهم التوحيد ومعرفة التكاليف وإنما يختلفون فيما سوى ذلك ألا ترى أن كل من يتكلم يستعمل في كلامه ألفاظا تدل على معاني كلية غير مدركة بالحواس بحيث إذا عد كلماته كانت الأسماء الجزئية المحسوسة فيها نادرة وهذا علامة إن المتكلم أدرك الكليات إذ عبر عنها وبذلك الاعتبار سمى النفس المدركة للكليات ناطقة وادا كان جميع أفراد الإنسان مدركين ونحن نعلم أن إدراك الواجب تعالى ومعرفة وجوده لا بكنهه من أوائل المعقولات وإن ناقش أحد في كونه من الأوليات فلا محيص عن الاعتراف بكونها بديهية أو قريبة منها أمكر فسببه عدم التوجه والالتفات، وبينه الغزالي بوجه أبسط نقله عنه الوافي وعن الوافي المجلسي بعنوان بعض المنسوبين إلى العلم. (ش)
2- 2 - قوله «لا فطرة الإسلام وصوابها» وقد نقل العلامة المجلسي عبارة الشارح هنا من قوله الفطرة بالكسر مصدر للنوع إلى آخر الشرح وأورد الجملة هكذا فطرة الإسلام وصوابها موضوع في العقول. فبدل لا النافية بقوله لأن وكلتا العبارتين لا تخلوان عن سماجة، وغرض القائل أن الفطرة ليس فطرة الاسلام لأن الإسلام أيضا كدين اليهود والنصارى إنما يرسخ في قلوب الأطفال بتعليم الاباء ولو فرض أن أحدا نشأ في جزيرة منفردة لا يرى فيها من يعلمه الشهادتين فلن يهتدي لأن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فليس فطرة الناس على الإسلام بل فطرتهم على قابلية الهداية إن أقيم لهم أدلة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والجواب أن المراد بالإسلام هنا الإسلام الأعم الذي كان يدعوا إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء (عليهم السلام) وهو التسلم لأمر الله والاعتراف بألوهيته وأن السعادة في امتثال أوامره ونحن ندعى أن المنفرد في جزيرة إذا ترك وعقله هداه عقله إلى التوحيد والمعرفة كما في رسالة حي بن يقظان. وليس المراد الاسلام الفقهي أعنى اظهار الشهادتين لفظا. (ش)

غيرهما. وأجيب عنه بان حمل الفطرة على الإسلام لا يأباه العقل، وظاهر الروايات من طرق الأمة يدل عليه، وحملها على خلاف الظاهر لا وجه له من غير مستند قوى والله أعلم.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سألته عن قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: (ألست بربكم) وفيه المؤمن والكافر.

* الشرح

قوله: (فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد) «علي» متعلق بفطر كما يشعر به عنوان الباب وآخره فيدل على أن الفطرة ما أخذ عليهم من العهد بالربوبية والإقرار بها وهم ذر، ثم الولادة يقع على ذلك حتى يقع التغيير من الأبوين أو من طغيان النفس الإمارة ومزاولة الشهوات ومتابعة من الشيطان.

قوله: (وفيه المؤمن والكافر) كلام آخر لبيان ما وقع في الميثاق من الإيمان بعض وكفر آخرين لأن الميثاق كما وقع بالربوبية وأقروا بها كذلك وقع بالنبوة والولاية فمنهم من آمن بهما ومنهم من كفر، ثم الكفر بهما يستلزم الكفر بالربوبية أيضا (1) كثير من

ص:38


1- 1 - قوله «يستلزم الكفر بالربوبية» أقول الأولى حمل قوله (عليه السلام) «وفيه المؤمن والكافر» على أنه تعالى أخذ ميثاقهم على التوحيد وجعل فيهم قوة قبوله واستعداد فهمه على ما سبق من الشارح وكان فيهم من آمن بعد ذلك إذ جاء إلى الدنيا وفيهم من كفر. ولا ينافي أن يكون فطرة الجميع على التوحيد والمعرفة ولكن ظهر لادم (عليه السلام) حال ذريته في الدنيا وأن بعضهم سيخالفون الفطرة ويكفرون وبعضهم يوافقونها وظهور حالهم فيما بعد مخلتفا بالإيمان والكفر كما في كثير من الروايات لا يناقض كون فطرتهم على التوحيد. (ش)

الروايات.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، بن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم جميعا على التوحيد.

* الشرح

قوله: (فطرهم جميعا على التوحيد) أي على معرفة الرب والإقرار بالربوبية والوحدانية والكفر به وقع بعد ذلك باحتيال النفس واغتيال الشيطان.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

سألته عن قول الله عز وجل (حنفاء لله غير مشركين به)؟ قال: الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم على المعرفة به، قال زرارة: وسألته عن قول الله عز وجل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي - الآية)؟ قال: أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه وقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كل مولود يولد على والفطرة» يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، كذلك قوله: «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله».

* الشرح

قوله: (قال الحنيفية من الفطرة التي فطر الناس عليها) وهي دين الإسلام ومعرفة الرب والإقرار به، ويؤيد قوله تعالى «غير مشركين نبه» لوقوع الشرك به بعد الفطرة لامر يعتريهم، روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال الله تعالى «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» اجتالتهم أي ذهبت بهم وساقتهم إلى ما أردت من اجتال الشيء ذهب به وساقه، وقوله: «اجتالتهم عن دينهم» صريح في أن المراد بالحنيفية دين الإسلام والاقرار بالرب.

قوله: (لا تبديل لخلق الله) بأن يكون كلهم أو بعضهم حين الخلق مشركين به بل كلهم مسلمين مقرين به.

قوله: (قال أخرج من ظهر آدام) أواخر أولا آدم مثل أوائلهم وأواسطهم كانوا في ظهر آدم والله سبحانه أخرجهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ونسلا بعد نسل فخرجوا كالذر في الصغر والحجم فعرفهم نفسه

ص:39

وأراهم بالرؤية العقلية الشبيهة بالرؤية العينية في الظهور ليحصل لهم الربط به ويعرفوه في دار الغربة ولو لا تلك المعرفة الميثاقية لم يعرف أحد ربه في هذه الدار التي هي دار الفراق ولو لم يكن رابطة تلك المعرفة وسابقة تلك الرابطة لحصل الفراق الكامل ومع تحقيق تلك الرابطة تحقق الفراق الكلى في أكثر الناس فكيف مع عدمها.

قوله: (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كل مولود يولد على الفطرة» يعنى المعرفة بأن الله عز وجل خالقه) الظاهر بالنظر إلى سياق الكلام أن التفسير من كلام أبي جعفر (عليه السلام) وهذه المعرفة معنى الفطرة في الآية المذكورة أولا وجوابهم ببلى منوط بهذه الفطرة المجبولة التغيير إنما يعرض من خارج كإضلال الأبوين أو غيرهما، وقال بعض العامة وذلك كما أن البهيمة تلد بهيمة سالمة من النقص والتغيير ولا يلحقها قطع الاذن والذنب والكي وغيرها من المقابح إلا بعد الولادة. فكذلك الوالد يولد على الفطرة سالما عن الكفر حتى يدخل عليه التغيير من أمر خارج ويحمله على ما سبق عليه في الكتاب من شقاء، وقال صاحب النهاية: معنى الحديث أن الوالد يولد على نوع من الجبلة وهي فطرة الله وكونه متهيئا لقبول الحق طبعا وطوعا لو خلته شياطين الانس والجن ثم ذكر ولد البهيمة نظيرا له. وقال صاحب المصباح قوله (عليه السلام) «كل مولود على الفطرة» قيل: معناه الفطرة الاسلامية (1) مشكل أن حمل اللفظ على حقيقته فقط لأنه يلزم منه أن يتوارث المشركون مع أولادهم الصغار قبل أن يهودوهم وينصروهم، واللازم منتف بل الوجه حمله على حقيقته ومجازه معا

ص:40


1- 1 - قوله «قيل معناه الفطرة الإسلامية» أورد عبارة الشارح بعينها المجلسي (رضي الله عنه) في مرآة العقول إلى آخرها إلا بعض كلمات سقطت من قلمه أو قل النساخ. وكان قوله «هذا التفسير مشكل» اعتراض من الشارح على القائل المذكور، والظاهر أن المجلسي (رضي الله عنه) أيضا استحسن الإشكال، ولعله من خلط أحكام الفقه بقواعد العقائد والأصول بالفروع، والظاهر بالواقع والدينا بالآخرة لان أولا المشركين تابعوا لابائهم في الدنيا بالنسبة إلى فروع الاحكام الفقهية، ومحكومون بالكفر ظاهرا وليسوا تابعين في الآخرة بالنسبة إلى العقاب إذ ليسوا كافرين واقعا، وكلامنا هنا في الاحكام الواقعية الأخروية لا الظاهرية الدنيوية ولا مانع من كون أولاد الكفار على فطرة التوحيد ولا يكونوا يهوديين ولا مشركين ولا نصرانيين واقعا بالنسبة إلى أحكام الآخرة، ولكن يكونوا بحكم الكفار في الدنيا، والاستشكال من الشارح عجيب وليس الثواب والعقاب في الآخرة مترتبين على أحكام الفقه في الدنيا، فليس كل من يفتى الفقهاء بايمانهم ظاهرا من أهل النجاة في الآخرة، ربما كانوا منافقين ويعامل معهم معاملة المسلمين فيزوج فيهم ويتمكنون من المساجد ولا يجتنب أسئارهم وهم في الآخرة في أسفل درك من النار. والعكس وفي والوافي تحقيق في * الشرح هذا الباب وأورده المجلسي (قدس سره) في * الشرح الحديث الرابع ناقلا عنه بعنوان بعض المحققين لا نطيل الكلام بذكره فمن أراده راجع الوافي أو مرآة العقول. (ش)

أما حمله على مجازه فعلى ما قبل البلوغ وذلك أن إقامة الأبوين على دينهما سبب يجعل الولد تابعا لهما فلما كانت الإقامة سببا جعلت تهويدا وتنصيرا مجازا، ثم اسند إلى الأبوين توبيخا لهما وتقبيحا عليهما، فكأنه قال: وإنما أبواه باقامتهما على الشرك يجعلانه مشركا. ويفهم من هذا أنه لو أقام أحدهما على جعل رسول الله (عليه السلام) حكم الأولاد قبل أن يفصحوا بالكفر وقبل أن يختاروا لأنفسهم حكم الاباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا. وأما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجود الفكر من الأولاد.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال، عن ابن أبي جميلة، عن محد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل، (فطرة التي فطر الناس عليها) قال: فطرهم على التوحيد.

ص:41

(باب) كون المؤمن في صلب الكافر

* الأصل

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن علي الوشاء، عن علي بن مسيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان نطفة المؤمن لتكون في صلب المشرك، فلا يصيبه من الشر شيء، حتى إذا صار في رحم المشركة لم يصبها من الشر شيء، حتى تضعه فإذا وضعته لم يصبه من الشر شيء، حتى يجري عليه القلم.

* الشرح

قوله: (ان نطفة المؤمن لتكون في صلب المشرك - الخ) أي النطفة التي خلق منها المؤمن لا يصيبها شيء من شر الأبوين يعنى الكفر وغيره مما ينافي التوحيد. والحكم عليه بالكفر والنجاسة بالتبعية قبل البلوغ نظرا إلى الظاهر لا ينافي إيمانه.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : قلت له: إني قد أشفقت من عدوة أبي عبد الله (عليه السلام) على يقطين وما ولد، فقال: يا أبا الحسن ليس حيث تذهب، إنما المؤمن في صلب الكافر بمنزلة الحصاة في اللبنة، ويجيء المطر فيغسل اللبنة ولا يضر الحصاة شيئا.

* الشرح

قوله: (قد أشفقت من دعوة أبي عبد الله علي يقطين وما ولد) الاشفاق الخوف والواو للعطف على يقطين أو بمعنى مع وخوفه من سراية تلك الدعوة إلى نفسه فبشره (عليه السلام) بأنه ليس من أهلها لكونه مؤمنا صالحا غير راض بفعل أبيه (1) مخصوص بما

ص:42


1- 1 - قوله «غير رضا بفعل أبيه» قال الشيخ (رضي الله عنه) لم يزل يقطين في خدمة أبي - العباس وأبي جعفر المنصور ومع ذلك كان يتشيع ويقول بالأمانة وكذلك ولده ويحمل الأموال إلى جعفر بن محمد ونمى خبره إلى المنصور والمهدى فصرف الله عنه كيدهما انتهى. وعبارة الشارح تدل على ذم يقطين وكلام الشيخ (رضي الله عنه) أولى بالقبول من كلام الشارح لأنه أعرف وأعلم. وأما دلالة هذه الرواية وشهادة على بن يقطين على أبيه وتمثيل نفسه وأبيه بالمؤمن في صلب الكافر فليس فيها حجة ووصفوا إبراهيم بن هاشم بالحسن لا بالصحة ولكن المجلسي (رضي الله عنه) قال حسن كالصحيح وكان قوله حقا لو كان ابن أبي عمير راويا عن إبراهيم بن هاشم وليس كذلك بل إبراهيم روى عن ابن أبي عمير ومن يدعى تصحيح ما يصح عن ابن أبي عمير إنما يدعيه فيما بعده لا فيمن قبله. (ش )

إذا رض الولد بفعل أبيه فيؤخذ بظلمه وظلم أبيه جميعا.

قوله: (بمنزلة الحصاة في البنة) اللبنة مثل كلمة ما يبني به وقوله «يجيء المطر» إشارة إلى وجه التشبيه وهو أن ما يضر الكافر لا يضر المؤمن الذي فيه.

باب إذا أراد الله عز وجل أن يخلق المؤمن

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن إبراهيم بن مسلم الحلواني، عن أبي إسماعيل الصيق الرازي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في الجنة لشجرة تسمي المزن فإذا أراد الله أن يخلق مؤمنا أقطر منها قطرة، فلا تصيب بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلا أخرج الله عز وجل من صلبه مؤمنا.

* الشرح

قوله: (الحلواني) في المصباح الحلوان بلد مشهور من سواد العراق وهي آخر مدن العراق وبينها وبين بغداد خمس مراحل، وهي من طرق العراق من مشرق والقادسية من طرف من الغرب ، قيل سميت باسم بانيها وهو حلوان بن عمران بن - الحارث بن قضاعة.

قوله: (تسمى المزن) مزن ابرهاى سفيد وآن جمع مزنة است، وسميت الشجرة المذكورة بها لحملها ماء كثيرا كالسحاب وهذا الحديث كما يناسب (1) الممتزجات

ص:43


1- 1 - قوله «وهذا الحديث كما يناسب نقله المجلسي (رضي الله عنه) إلى آخر الشرح ثم نقل عبارة الوافي بعنوان بعض المحققين وفيها تحقيقات شريفة يليق بأن يتعمق فيها لا نطيل الكلام بإعادتها فمن أراد رجع إلى الوافي أو مرآة العقول وكلام الشارح لا يخرج عنه، والذي يستفاد من هذا الحديث وأمثاله أن الجنة كما هي معاد وعلة غائية لاعمال الصالحين وكذلك لها مبدئية ودخل في عليتها الفاعلية بنحو من الانحاء إذ لماء هذا المزن تأثير في تربية الصالحين وهذا لا يجوب الجبر كما مر وبهذا يعرف معنى وجود الأرواح قبل الأجساد لأن الروح قد يطلق على النفوس المنطبعة الحادثة بعد حصول المزاج الخاص واستعداد البدن بأن تصير النطفة العلقة مضغة إلى أن تصير قابلة لأن ينشأها الله خلقا آخر فيحدث هده النفس بعد حصول الاستعداد ولم تكن قبل ذلك ثم تتقلب النفس في مراتبها حتى إذا تجردت بالفعل وصارت عقلا وهو العقل الحاديث بعد النفس وبعد تركيب المزاج وليس هو بقيد الحدوث قبل البدن والموجود قبله هو علته المفيضة، ولما لم تكن العلة شيئا مباينا في عرض المعلول نظير المعدات كالأب بالنسبة إلى الابن بل هي أصل المعلول ومقومه والقائم عليه فإذا كانت العلة موجودة كان المعلول موجودا حقيقة وعرفا، ألا ترى أنه يسمى صاحب ملكة العلم القادر على تفصيل المسائل عالما بها لاندراجها في الملكة ولقدرة العالم على استخراجها كلما أراد كذلك المزن الذي يتقاطر منه الملكات على نفوس الصالحين وتربيها يندرج فيه جميع تلك النفوس بتفاصيلها اندراجا اجماليا، وإنما تفصيل منه بوجودها الدنيوي ليحصل لها بالفعل ما كان كامنا بالقوة، ولو كانت النفوس على كمالها منفصلة عن علتها موجودة بالفعل لم يكن حاجة إلى ارسالها إلى الدنيا وإنما الدنيا مزرعة الآخرة، وبالجملة كل ما في هذا العالم عكس من موجود مثالي أو عقلي قبله ينطبع على المواد مطابقا لمثاله أو ظله وشبحه وما شئت فسمه وأحسن التعبيرات عنه ما في القرآن حيث قال «ونفخنا فيه من روحنا» «وأنشأناه خلقا آخر» ولا يكون النفخ الامن نفس موجوده قبله وإن كان حصوله في الجسم واتصاف الجسم وبالحياة بسببه حادثا. (ش)

المنتقلة في أطوار الخلقة كالنطفة وما قبلها من موادها مثل النبات والغذاء وما بعدها من العلقة والمضغة والعظم والمزاج الانساني القابل للنفس الناطقة المدبرة، كذلك يناسب ما ذكر من أن المراد بالطينة طينة الجنة لأن طينة الجنة اختمارها وتربيتها بهذه الفرات أولا وتربيتها ماء المزن ثانيا لطف منه تعالى بالنسبة إلى المؤمن ليحصل الوصل إلى أعلى مراتب القرب.

باب صبغة الله وأنها الإسلام

(باب) في أن الصبغة هي الإسلام

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) قال : الإسلام، وقال في قوله عز وجل: (فقد استمسك بالعروة الوثقى)؟ قال: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له.

* الشرح

قوله: (صبغة الله) أي صبغنا الله صبغته وهي الإسلام دينه الحق وإنما سمى بها لأنه حلية الإنسان كما أن الصبغة الحلية المصبوغ أو للمشاكلة لوقوعه في مقابلة صبغة النصاري أولادهم في ماء لهم أصفر، وتفسير الصبغة بما ذكر مذكور في كلام الأكابر من المفسرين وغيرهم. فالحمل عليه أولى مما

ص:44

قيل من أن المراد بها ابداع الممكنات وأخرجها من العدم إلى الوجود واعطاء كل ما يليق به من الصفات والغايات وغيرها.

قوله: (ومن أحسن من الله صبغة) من باب الإنكار والمقصود أن صبغته تعالى أحسن من كل صبغة لأن أثر الفاعل القوى أكمل وأحسن من أثر غيره ولان كل صبغة غير صبغته تعالى داثرة زائلة بخلاف صبغته تعالى بالإيمان فإنها باقية أبدا، نافعة دائما.

قوله: (قال هي الإيمان بالله) أريد بالكفر بالطاغوت الكفر بفلان وبالإيمان بالله الإيمان بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) إلا أنه أضيف إلى الله ما يضاف إليه تعظيما له، فلا يرد أن تفسير العروة الوثقى بالايمان بالله يوجب التكرار بعد قوله «ويؤمن بالله».

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن عبد الله بن فرقد، عن حمران بن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) قال: الصبغة هي الإسلام.

3 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام) في قول الله عز وجل: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) قال: الصبغة هي الإسلام، وقال في قوله عز وجل: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) قال: هي الإيمان.

ص:45

باب في أن السكينة هي الايمان

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي - حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (أنزل السكية في قلوب المؤمنين) قال: هو الإيمان، قال:

وسألته عن قول الله عز وجل: (وأيدهم بروح منه) قال: هو الإيمان.

* الشرح

قوله: (سألته عن قول الله عز وجل أنزل السكينة في قلوب المؤمنين قال هو الإيمان) عبر عن الإيمان بالسكينة والروح لأن الإيمان يوجب سكون القلب ووقاره وحياته وقد روى «أن القلب ليرجج (أي يهتز) ويتحرك فيما بين الصدور الحنجرة حتى يعقد على الإيمان فإذا عقد على الإيمان قر». وفي رواية أخرى «اطمأن وقر» ولابد من بيان معنى الإيمان لأن فيه فوائد كثيرة فنقول الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع قيل هو كلمتا الشهادة، وقيل الطاعات مطلقا، وقيل الطاعات المفروضة، وقيل التصديق بالجنان والاقرار باللسان والعمل بالأركان، وقيل التصديق بالجنان مع الشهادتين، وقيل التصديق بالله وبرسوله وجميع ما جاء به - على الإجمال - والولاية، وهو الحق لدلالة الآيات والروايات عليه، أما الآيات فمنها (وقلبه مطمئن بالإيمان» ومنها (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان» ومنها (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» فإن اسناد الإيمان إلى القلوب في هذه الآيات يدل على أنه أمر قلبي ومنها (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» ومنها (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى» ومنها (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» فإن اقتران الإيمان بالمعاصي في هذه الآيات يدل على أن العمل غير معتبر في حقيقته، ومنها (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله» فإن الأمر بالإطاعة بعد ثبوت الإيمان يدل على ذلك أيضا. وأما الروايات فمنها تفسير السكينة التي في قلوب المؤمن والروح بالإيمان، وأما تفسير كلمة التقوى بالإيمان فلا يدل على أنه كلمتا

ص:46

الشهادة لأن إضافة الكلمة بيانية فيحمل التقوى على التصديق القبلي للتوافق بين الأحاديث، ومنها قول الصادق (عليه السلام) «المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله ووفي بشرط، و مؤمن كخامة الزرع يعوج أحيانا ويقوم أحيانا» ومنها قوله (عليه السلام) «يبتلى المؤمن على قدر إيمانه وحسن عمله ومن صح إيمانه اشتد بلاؤه، ومن سخفت إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه» ومنها قوله (عليه السلام) «ان القلب لتكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان» ومنها: عليه السلام: «لا يضر مع الايمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل». ومنها: قوله عليه السلام.

«الايمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح» ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين» ومها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرف الله نفسه فيقر له بالطاعة، ويعرفه نبيه ويقر له بالطاعة، ويعرفه أمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة، قيل يا أمير المؤمنين: وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم إذا امر أطاع وإذا نهى انتهى».

ولا ريب في أن هذه الإخبار تدل صريحا على أن الإيمان هو التصديق وحده من غير دخل لفعل اللسان والجوارح فيه، على أن كون الإيمان عبارة عن التصديق المخصوص المذكور لا يحتاج إلى نقله عن معناه اللغوي الذي هو التصديق مطلقا لأن التصديق المخصوص فرد منه بخلاف ما إذا كان المراد منه غيره من المعاني المذكورة.

إذا عرفت هذا فنقول الأخبار الدالة على أن الإيمان هو العمل بالأركان والإقرار باللسان والتصديق بالجنان مثل ما روى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وغيره محموله على أن إضافة الفعل إلى الإيمان لأجل الكمال لا لأنه جزء منه أو شرط له أو أو لأجل أنه دليل عليه وليس له دليل أعظم منه فكأنه صار نفس على سبيل المبالغة. يدل عليه ما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) «أن الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عز وجل، وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لامر الله». وما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ان لأهل الدين علامات يعرفون بها: صدقت الحديث وأداء الإمامة ووفاء بالعهد - إلى أن قال - وما يقرب إلى الله عز وجل زلفى». وما روي عن أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال «عشرون خصلة في المؤمن فان لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، ان من أخلاق المؤمن يا على الحاضرون الصلاة، والمسارعون إلى الزكاة والمطعون المسكين - الحديث».

وفي هذه الاخبار مع دلالتها على أن الايمان هو التصديق القلبي دلالة واضحة على أن العمل مصدق ومبين ومظهر له وموجب لكماله.

ص:47

* الأصل

2 - عنه، عن أحمد، عن صفوان، عن أبان، عن فضيل قال: قلت لأبي - عبد الله: (عليه السلام) «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان» هل لهم فيما كتب في قلوبهم صنع؟ قال: لا.

* الشرح

قوله: (هل لهم فيما كتب في قلبوهم صنع قال لا) لعل المراد بالإيمان هنا نكت الحق ومعرفة الرب وليس للعبد صنع فيه. وإنما صنعه في قبوله، والتكليف إنما وقع به وقد روى «أن كل قلب ينكت الحق فيه قبل أو لم يقبل».

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن العلاء عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السكينة الإيمان.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري وهشام بن سالم وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) قال: هو الإيمان.

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) قال: هو الإيمان. قال: قلت:

(وأيدهم بروح منه) قال: هو الإيمان. وعن قوله (وألزمهم كلمة التقوى) قال: هو الإيمان.

ص:47

باب الإخلاص

* الأصل

* الشرح

قوله: (باب الإخلاص) الإخلاص في العمل تطهيره عن ملاحظة غير وجه الله تعالى ورضاه حتى عن الرجاء بالثواب والخوف من العقاب فضلا عن الرياء والسمعة وحب الجاه وأمثال ذلك فان ذلك شرك خفى قل من نجا منه لخفاء طرقه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «دبيب الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» وهو أعظم ساد للسالك عن الوصول إلى الحق والقرب منه قال الله تعالى (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا» وإذا ارتفع ذلك سهل للسالك الوصول اليه، كما يرشد إليه ما روي «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه».

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (حنيفا مسلما) قال: خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان.

* الشرح

قوله: (حنيفا مسلما) الحنيف المسلم المنقاد وهو المايل إلى الدين الحق وهو الدين الخالص، ولذلك فسره (عليه السلام) بقوله «خالصا لله مخلصا» عبادته عن ملاحظة غيره مطلقا، ثم وصفه على سبيل التأكيد بقوله «ليس فيه شيء من عبادة الأوثان أي الأوثان المعروفة أو الأعم منها فيشمل عبادة الشياطين في إغوائها وعبادة النفس في أهوائها، وقد نهى جل شأنه عن عبادتهما فقال (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان» وقال (أفرأيت من أتخذ الهه هواه».

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه رفعه إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أيها الناس إنما هو الله والشيطان والحق والباطل والهدى والضلالة والرشد والغي والعاجلة والعاقبة والحسنات والسيئات، فما كان من حسنات فلله، وما كان من سيئات فللشيطان لعنه الله.

ص:49

* الشرح

قوله: (يا أيها الناس إنما هو الله والشيطان) كان هو راجع إلى المقصود بقرينة المقام والهدى الطريقة الإلهية والشريعة النبوية، والحسنات والسيئات شاملتان لجميع ما تقدم ولذلك اقتصر بذكرهما في قوله «فما كان من حسنات فلله وهو ما اراده الله تعالى ووقع له «وما كان من سيئات فللشيطان» وهو ما نهى الله عنه وأمر به ولم يقع له. وفيه ترغيب في مراقبة النفس في حركاتها وسكناتها ليمنعها عن السيئات ويحملها على الحسنات ويراعي الإخلاص والتقرب فيها بأن يفعلها لوجه الله لا لغيره لئلا تصير سيئات.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يقول: طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قبله بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره.

* الشرح

قوله: (طوبي) أي الجنة أو طيبها أو شجرتها أو العيش الطيب أو الخير لمن أخلص لله العبادة الدعاء وقصده بهما لا غيره. ولم يشغل قلبه عن الله وطاعته بما ترى عيناه من متاع الدنيا وزخارفها الشهية وصورها البهية ولم ينس ذكر الله بالقلب واللسان بما تسمع أذناه من الأصوات الداعية إلى الدنيا والكلمات المحركة عليها ولم يحزن صدره بما اعطى غيره من أسباب العيش وحرم هو، والاتصاف بهذه الصفات العلية انما يتصور لمن قطع عن نفسه العلائق الدنية، والله هو الموفق.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال: ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا وإنما الإصابة خشية الله والنية الصداقة والحسنة، ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل، ثم تلا قوله عز وجل: (قل كل يعمل على شاكلته) يعني على نيته.

* الشرح

قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال الله تعالى (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل

ص:50

شيء قدير الذي خلق الموت والحياة (ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وصف نفسه أولا بان التصرف في الممكنات منوط بيد قدرته الكاملة وليس لاحد أن يمنعه من ذلك; وثانيا بان قدرته نافذة في كل واحد منها، وليس لشيء منها اباء عن نفاذها، وثالثا بأنه خلق الموت والحياة أي قدرتهما أو أوجدهما، وفيه دلالة على أن الموت أمر وجودي، والمراد بالموت الموت الطاري على الحياة أو العدم الأصلي فإنه قد يسمى موتا أيضا، وتقديمه على الأول لابد منه بالاضطرار، وعلى الثاني ظاهر لتقدمه بحسب التقدير، ثم علل الوصف الأخير بقوله (ليبلوكم أيكم أحسن عملا» أي ليعاملكم معاملة المختبر مع صاحبه، فهو تمثيل لحاله بحال لمشاهد المعلوم منا لزيادة التنوير والإيضاح، وقوله «أيكم» مفعول ثان لفعل البلوى باعتبار تضمينه معنى العلم. ووجه التعليل أن الموت داع إلى حسن العمل لكمال الاحتياج إليه بعده والحياة نعمة تقتضيه وتوجب الاقتدار به، وان أريد به العدم الأصلي فالمعنى أنه نقلكم منه وألبسكم لباس الحياة لذلك الاختبار، ولما كان اتصافنا بحسن العمل يتحقق بكثرة العمل تارة وباصابته أخرى أشار نفي إرادة الأول بقوله:

(وليس يعني أكثر عملا) يعني لم يرد جل شأنه بقوله: «أحسن عملا» أكثر عملا لأن مجرد كثرة العمل من غير خلوصه وجودته ليس أمرا يعتد به بل هو تضييع للعمر فيما لا ينفع وإلى إدارة الثاني بقوله:

(ولكن أصوبكم عملا) لان صواب العمل وجودته وخلوصه من الشوائب الرذيلة يوجب القرب منه تعالى وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها كلما كان أصوب كان من الرد أبعد ومن القبول أقرب، ثم بين الإصابة وحصرها في أمرين بقوله:

(إنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة) تنبيها على أن قطع المسافة إلى حظائر القدس منه تعالى وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها كلما كان أصوب كان من الرد أبعد ومن القبول أقرب، ثم بين الإصابة وحصرها في أمرين بقوله:

(إنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة) تنبيها على أن قطع المسافة إلى حظائر القدس لا يتصور بدونهما، وذلك لان قطع المسافة العقلية يحتاج إلى آلة وأسباب ودفع موانع كقطع المسافة الحسية فلابد للسائر إلى الله تعالى من أمرين أحدهما العمل الصالح وهو بمنزلة المركوب يوصل راكبه إلى غاية مناه، والعمل الصالح لا يتحصل ولا يتقوم بدون نية صادقة حسنة، وهي أن يقصد بالعمل وجه الله تعالى والتقرب إلى لا غيره إذ لو قصد غيره قيد مركوبه بقيد وثيق يمنعه من الحركة من موضعه فيبقى متحيرا بل قد برجع قهقرى إلى أسفل السافلين بإعانة قوم آخرين، وثانيهما حفظ العمل الصالح عن الإحباط بارتكاب المحارم وذلك انما يحصل بملكة الخشية والخوف من الله سبحانه وهي حالة تحصل بملاحظة عظمة الحق وهيبته ومشاهدة جلال كبريائه ولذة قربه وقبح مخالفته وشناعة معصيته وسوء عاقبتهما ولذلك قال الله تعالى (انما يخشى الله من عباده العلماء». ثم أشار إلى أن إصابة العمل وخلوصه ليس بمجرد وقوعه كذلك بل باعتبار بقائه واستمراره ما دام العمر كذلك أيضا بقوله:

(الإبقاء على العمل حتى يخلص

ص:51

أشد من العمل) روى المنصف (رحمهم الله) في باب الرياء بإسناده عن علي بن أسباط عن بعض أصحابه عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرا، ثم يذكرها فتحمي فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء» وفي الصحاح يقال:

وفي الصحاح يقال: أبقيت على فلان إذا رعيت عليه ورحمة، ويحتمل أن يكون المقصود هنا أن رعاية العمل وحفظه عند الشروع فيه وبعده إلى الفراغ منه وبعد الفراغ إلى الخروج منه الدنيا حتى يخلص ويعفو عن الشوائب الموجبة لنقصانه أو فساده أشد من العمل نفسه، وذلك لأن خلوصه وصفاءه لا يتحقق بمجرد أن يقول أصوم مثلا قربة إلى الله وإخطار معناه بالبال واستعمال الجوارح وإلا كان المنافق باظهار كلمة الشهادة واخطار معناها مؤمنا بل لا بد مع ذلك من تأثر القلب عن العمل وانقياده إلى الطاعة واقباله إليه جل شأنه وانصرافه عن الدنيا وما فيها حتى يرى الناس كالأ باعر ولا يتحصل ذلك إلا بتحصيل الفضائل النفسانية والملكات الروحانية والاجتناب عن رذالتها، فان النفس ما دامت عارية عن تلك الملكات والفضايل ومتصفة بالملكات الخبيثة والرذائل تنبعث إلى الفعل وتقصده وتميل اليه وتظهره ولو بعد حين تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب فيها من تلك الصفات الرذيلة وتحصيل هذه الأمور مشكل جدا لا يتيسر الوصول إليها إلا لذوي الفطرة السلمية والفكرة المستقيمة، فقد ظهر مما قررنا أن حفظ العمل من موجبات النقص والفساد أشد وأصعب من نفس العمل. ومنه يظهر سر ما رواه العامة والخاصة عنه (عليه السلام) «نية المؤمن خير من عمله»، ثم أشار إلى تفسير العمل الخالص وخلاصة القول فيه بقوله:

(والعمل الخاص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد) حين العمل وبعده (إلا الله تعالى) تنبيها على أن الرياء وقصد المدحة والسمعة مناف للخلوص وحقيقة الرياء إرادة مدح الناس على العمل والسرور به والتقرب إليهم باظهار الطاعة وطلب المنزلة في قلوبهم والميل إلى اعظامهم له وتوقيرهم إياه واستجلاب تسخيرهم لقضاء حوائجه وقيامهم بمهماته وهو الشرك بالله العظيم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ثم قرأ «قل إنما أنا بشر مثلكم...» الآية.

وفي قوله «لا تريد» إشارة إلى أنه لو مدحه الناس على عمله من غير ارادته وسروره به لا يقدح ذلك في خلوص عمله بل هو من جميل صنع الله تعالى ولطفه به كما ورد في بعض وحيه «عملك الصالح عليك ستره وعلى اظهاره» وأمثال ذلك في الروايات كثيرة وإن دخله سرور باطلاع الناس ومدحهم فإن كان سروره باعتبار أنه استدل باظهار جميله وشرفه عليهم لا بحمدهم وحصول المنزلة في قلوبهم، أو باعتبار أنه استدل باظهار جميله في الدنيا على اظهار جميله في الآخرة على رؤس الاشهاد

ص:52

أو باعتبار أنهم يحبون طاعة الله تعالى وميل قلوبهم إليها فلا يقدح ذلك في الخلوص وإن كان باعتبار رفع منزلته عندهم وتعظيمهم إياه إلى غير ذلك من التسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية فهذا رياء وشرك محبط للعمل وناقل له من كفة الحسنات إلى كفة السيئات ومن ميزان الرجحان إلى ميزان الخسران، ولذلك ورد في كثير من الروايات الأمر باخفاء العمل واستاره حفظا له عن الرياء المنافي لإخلاصه المفسد له بالكلية، وظاهر هذا التفسير يدل على أن قصد الثواب أو الخلاص من العقاب لا ينافي الخلوص كما يدل عليه كثير من الرويات مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ترك معصية مخافة الله عز وجل أرضاه يوم القيامة» وقوله «قال الله تعالى «لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي - الحديث» وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ينافي الاخلاص ويفسد العمل ودليلهم ضعيف والاحتياط ظاهر.

قوله: (والنية أفضل من العمل) النية في اللغة عزم القلب على أمر من الأمور، في العرف إرادة ايجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا، وتلك الإرادة إذا تحققت فيه تسرى إلى الأعضاء وتحركها إلى افعالها، وهي أفضل الاعمال، وإذا ضم هذا مع قوله (عليه السلام): «أفضل الاعمال أحمزها» يفيد أن النية أحمزها، وهو كذلك لأن النية الخالصة يتوقف على قلع القلب عن حب الدنيا ونزعه عن الميل إلى ما سوى الله تعالى، وهذا أشق أشياء على النفس. ولهذا (صلى الله عليه وآله وسلم): «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» حيث عد الجهاد الذي هو أشق الاعمال البدنية أصغر من جهاد النفس وصرف وجهها عن غير الله لأنه أشق والأشق أفضل لما مر. على أن المراد نية المؤمن وهي أدوم وثمرتها أعظم من الاعمال لأن نيته أن لو بقي أبد الآبدين أن يكون مع الايمان بالله والطاعة له وهذه النية من لوازم الايمان ودائمة لا تنقطع بخلاف العمل فإنه ينقطع ولو بقي إلى مائة سنة أو أزيد وثمرتها الخلود في الجنة.

والذي يدل عليه ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وانما خلد أهل الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا (قل كل يعمل على شاكلته» قال:

«على نيته» فالعمل تابع النية في الرد والقبول والكمال والنقصان، وفرع لها وهذا وجه آخر لكونها أفضل من العمل لأن الأصل أفضل من الفرع ومن أراد أن يعلم وجوها آخر لأفضليتها فليرجع إلى ما ذكره الشيخ في الحديث السابع والثلاثين من الأربعين.

ص:53

قوله: (ألا وأن النية هي العمل) لما كان نظام العمل وكماله ونقصانه وقبوله ورده تابعة للنية ومسببة عنها بالغ في حمل العمل عليها بحرف التنبيه وحرف التأكيد واسمية الجملة وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر، وضمير الفضل المؤكد له، ويندفع به ما عسى أن يتوهم من أن التفضيل انما يتعارف إذا كان المفضل من جنس المفضل عليه، والنية ليس من جنس العمل.

* الأصل

5 - وبهذه الاسناد قال: سألته من قول الله عز وجل: (إلا من أتى الله بقلب سليم) قال: القلب السليم الذي يلقى ربه وليس في أحد سواه، قال: وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط وإنما أراد بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

* الشرح

قوله: (وليس فيه أو سواه) أي شغل بربه عن غيره من المال والوالد وغيرهما كمال قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون».

قوله: (وكل قلب فيه شرك) لعبادة النفس والشيطان أو شك لميله إلى الدنيا وحبه لها وان كان فارعا عنها فهو ساقط عن الاعتبار أو عن قرب الحق، وانما أرادوا بالزهد في الدنيا وتركها لتفرغ قلوبهم للآخرة وتتفكر في أمرها وما يوجب النجاة والترقي فيها من ذكر الله وطاعته في الظاهر والباطن فلا فائدة في تركها ظاهرا مع اشتغال القلب بها وحبه لها وميله إلى عبادة النفس والشيطان.

وقال بعض الحكماء: اثنان في العذاب سواء غني حصلت له الدنيا فهو بها مشغول مهموم، وفقير زويت عنها فنفسه تنقطع عليها حسرات فلا تجد إليها سبيلا. والحاصل أن ترك الدنيا لتطهير القلب عن حبها وعن طاعة النفس والشيطان وتصفيته عن غيره تعالى لينمو فيه بذر المحبة والذكر و يرتقى إلى المقام القرب ولا يتحقق ذلك بالقلب الملوث بشهواتها كالبذر في أرض السبخة.

* الأصل

6 - بهذا الإسناد، عن سفيان بن عيينة، عن السندي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوما - أو قال ما: أجمل عبد ذكر الله عزوجل أربعين يوما - إلا زهده الله عز وجل في الدنيا وبصره داءها ودواءها فأثبت الحكم في قلبه وأنطق بها لسانه، ثم تلا: (ان الذين اتخذوا العجل

ص:54

سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا ومفتريا عيل الله عز وجل وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل ليته صلوات الله عليه إلا ذليلا.

* الشرح

قوله: (ما أخلص العبد الايمان بالله) لعل المراد بالعبد العبد العالم الاخلاص مرتبة عالية للعلماء لا يمكن حصوله بدون العلم بالمطالب. وبالايمان الايمان الكامل وهو الاعتقاد بالجنان والاقرار باللسان والعمل بالأركان، وبالاخلاص تجريد جميع ذلك عن غير وجه الله تعالى وتطهير القلب عما سواه وان كان لازما للفعل فلو أعتق العبد لله مع قصد الفراغ من ايفاقه أيضا، أو صلى في الليل مع قصد حفظ متاعه، أو توضأ لله مع قصد تبرده أو أعطى السائل لله مع قصد تخلصه من ابرامه أو عمل طاعة أو ترك معصية لقصد الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، فالظاهر أن هذه القصود تنا في الاخلاص كما ذهب اليه جمع كثير من العلماء أو تنافي كما له كما ذهب اليه طائفة.

وبالأربعين هذا العدد إذ فيه يبلغ الانسان إلى كماله في القوة العقلية والقوى الادراكية فيستعد استعدادا تاما لأن يزهده الله في الدنيا ويوفقه لتركها.

قوله: (فزهده (1) عليه أو ميل القلب إليها وصرفه عنها أو الضار والنافع منها في الآخرة أعنى المعصية والطاعة.

قوله: (فأثبت الحكمة في قلبه) أي جعلها راسخة فيه بحيث يرى بها صور الحقائق الملكوتية وجمال الاسرار اللاهوتية، ويجوز أن يقرأ «أنبت» بالنون فيكون تمثيلا لزيادتها ونموها بالإخلاص بانبات الزرع ونموه بالماء لقصد الايضاح.

قوله: (وأنطق بها لسانه) فيتكلم ما ينفعه وينفع غيره في الدنيا والآخرة حتى يعد في الصديقين وهذه الخواص الخمس المرتبة على الاخلاص أمهات المنجيات.

قوله: (ثم تلا) لعل الغرض من تلاوتها هو التنبيه على أن غير المخلص مندرج فيها والوعيد متوجه اليه أيضا لأنك قد عرفت أن قلبه ساقط لكونه ذا شرك أو شك وهما بدعة وافتراء على الله ورسوله. والآية على تقدير نزولها في قوم مخصوصين لا يقتضى تخصيص الوعيد وهو الغضب والذلة بهم، لأن الامر إذا جرى على قوم لصفة وجدت في غيهم هي أو نظيرها جرى ذلك الامر في ذلك الغير أيضا، ومن ثم قيل «خصوص السبب لا يوجب تخصيص الحكم» وعلى هذه فالآية بيان لفحوى الحديث وحجة لمفهومه، فهي وان نزلت في أصحاب السامري لكن جرى حكمها في أصحاب سامري هذه الأمة ويلحق الغضب

ص:55


1- 1 - كذا.

والعقوبة والذلة بهم آجلا وعاجلا لقتلهم وأسرهم عند ظهور الدولة القاهرة، وكذا جرى حكمها في أصحاب الشرك والشك والبدعة والافتراء إلى يوم القيامة، والله أعلم.

قوله: (وكذلك) أي مثل جزاء من اتخذ العجل من الغصب والذلة.

قوله: (نجزي المفترين) لأنهم أيضا اتخذوا العجل إذا لعجل ما يعبد من دون الله وهم يعبدون أهواءهم ومفتريات نفوسهم.

قوله: (فلا ترى صاحب بدعة) أي فلا ترى صاحب كل بدعة، إلا ذليلا في الدنيا والآخرة لأن الذلة مترتبة على اتخاذ العجل واتخاذ العجل اتخاذ بدعة على الاطلاق وقوله «ومفتريا» عطف على صاحب بدعة أي فلا ترى مفتريا على الله آخره إلا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.

ص:56

باب الشرائع

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وعدة من أصحابنا، عن أحمد ابن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن محمد بن مروان جميعا، عن أبان بن عثمان، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليه السلام): التوحيد والاخلاص وخلع الأنداد والفطرة الحنيفية السمحة ولا رهبانية ولا سياحة، أحل فيها الطيبات وحرم فيها الخبائث ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ثم افترض عليه فيها الصلاة والزكاة والصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام والمواريث والحدود والفرائض والجهاد في سبيل الله. وزاده الوضوء وفضله بفاتحة الكتاب وبخواتيم سورة البقرة والمفصل وأحل له المغنم والفيء ونصره بالرعب وجعل له الأرض مسجدا وطهورا وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود والجن والانس وأطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم، ثم كلف ما لم يكلف أحد من الأنبياء وانزل عليه سيف من السماء، في غير غمد وقيل له: قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك.

* الشرح

قوله: (باب الشرايع) تذكر فيه الشرايع المعروفة وأصحابها وهم اولوالعزم من الرسل وما يشترك بينهم من غير تعيين وما لا يشترك أصلا أو بدونه.

قوله: (التوحيد والاخلاص وخلع الأنداد) الأنداد جمع «ند» بالكسر وهو مثل الشيء يضاده في أموره ويناده أي يخالفه يريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله وهذه الثلاثة بدل من الشرايع بدل البعض من الكل ليفيد أن الاشتراك بينهم في هذه الأصول الثابتة في جميع الشرايع ولم ينكرها أحد من الأنبياء، ويرشد اليه قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه» وانما خصها بالذكر مع تحقق الاشتراك في غيرها مثل الصوم والصلاة والوضوء والجهاد للاهتمام بها ولعدم تغيرها واختلافها بوجه بخلاف غيرها لاختلاف الكيفيات فيه، على أن عدم الحكم بالاشتراك لا يدل على الحكم بعدم الاشتراك ولم يتعلق غرض بذكر جميع المشتركات.

قوله: (والفطرة الحنيفية السمحة) عطف على شرايع واشتراك بعض ما يذكر لا ينافيه لعدم دلالته على

ص:57

الاختصاص على أن كيفية غير كيفية ما في الشرايع السابقة فكأنه بهذه المغايرة غير مشترك، والمراد بها الملة المالية من الباطل إلى الحق أو من الكفر إلى الاسلام التي ليس فيها ضيق ولا حرج.

قوله: (لا رهبانية ولا سياحة) الرهبانية التزام رياضات شديدة ومشقات عظيمة كالاختصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحوها، والسياحة: مفارقة الأوطان والأمصار والذهاب في الأرض وسكون الجبال والمغارات والبراري وقد كانتا في شريعة عيسى (عليه السلام) استحسانا.

قوله: (أحل فيها الطيبات) أي أحل في هذه الفطرة الطيبات كالشحوم وغيرها مما حرم عليهم أو الأعم منه ومما طاب في الحكم مثل «ما ذكر اسم الله عليه» من الذبائح وما خلا كسبه من السحت وغيرهما، وحرم فيها الخبائث مثل الخمور والأرواث والأبوال والدم والميتة ولحم الخنزير والكلب وغير ذلك مما يتنفر عنه الطبع وتستكرهه النفس وتستخبثه «ووضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم» الإصر الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرس ثقله، والمراد الاثم والوزر العظيم، وقال صاحب الكشاف هو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وكذلك الاغلال مثل لما كان في شرايعهم من الأشياء الشاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطاء من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب واحراق الغنائم وتحريم العروق في اللحم وتحريم السبت، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة انتهى. هذا ان صح وثبت أنه كان مطبوعا في شرعهم كان أولى بالإرادة لأنه أشبه بالاغلال.

قوله: (ثم افترض عليه فيها الصلاة) أي افترض على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفطرة التي هي ملته والظاهر أن ثم لمجرد التفاوت في الرتبة، والمراد بالحلال ما عدا الحرام فيشمل الاحكام الأربعة وبالفرايض ما عدا الفرائض المذكورة أو ماله تقدير شرعي من المواريث وهي أعم منها أو غيرها مما ليس له تقدير وبالوضوء الوضوء على وجه مخصوص وضوء السابقين على تقدير ثبوته كان على وجه آخر كصلاتهم وصيامهم.

قوله: (وفضله بفاتحة الكتاب الخ -) لعل المراد بخواتيم سورة (آمن الرسول إلى آخرها» والمفصل سورة محمد إلى آخر القرآن وانما خص هذه الثلاثة بالذكر للاهتمام بها وزيادة شرفها بالنسبة إلى غيرها والا فقد فضله بهذا القرآن الذي لم يؤته أحدا من الأنبياء.

قوله: (وأحل له المغنم والفىء) المغنم الغنيمة وهي ما أخذ من أموال الكفار بحرب وقتال وهي مختصة بالرسول ومن يقوم مقامه بل بعضها وهو ما حواه العسكر بعد اخراج الخمس للغانمين ومن حضر

ص:58

القتال وان لم يقاتل وبعضها كالأرض المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة وأحكام الكل مذكورة مفصلة في كتب الأصول والفروع والفيء يطلق تارة على ما أخذ بحرب وقتال وهو مرادف للغنيمة فحكمه وأخرى ما أخذ مطلقا وهو المعنى يصدق أيضا على الأنفال المختصة بالرسول ومن يقوم مقامة وسر ذلك أن الفيء بمعنى الرجوع فاما ان يراد به الرجوع مطلقا فهو الثاني أو يراد به الرجوع بغلبة أو قتال فهو الأول ولم يقل أحد بأنه الرجوع بغير قتال وأن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في باب الفيء والأنفال من هذا الكتاب وفي تقديم له عدم المفعول وهو المغنم يفيد اختصاصه (صلى الله عليه وآله وسلم) باحلالها وهو كذلك لأن الغنيمة كانت محرمة على الأهم السابقة فكانوا يجمعونها فتنزل النار من السماء فتأكلها وكان ذلك بلية عظيمة عليهم حتى كان قد يقع فيها السرقة فيقع الطاعون بينهم فمن الله تعالى على هذه الأمة باحلالها الحمد لله رب العالمين.

قوله: (ونصره بالرعب) مع قلة العدة وضعف العدة وكثرة الأعداء وشدة بأسهم والرعب الفزع والخوف وكان الله تعالى قد أوقع بقدرته القاهرة في قلوب أعدائه الفزع والخوف منه حتى إذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه قال الله تعالى «لأنتم أشد رهبة في صدورهم... الآية».

قوله: (وجعل الأرض له مسجدا وطهورا) أي جعل له الصلاة فيها كالصلاة في المسجد الأمم السابقة في الأجر أو جوز له الصلاة فيها دون الأمم السابقة لانحصار جواز صلاتهم في البيع والكنائس، أو جعل له الأرض مسجدا للجبهة لزيادة الخضوع والتقرب وكان لهم السجود على غيرها وكذلك جعل له الأرض طهورا تطهر أسفل القدم والنعل ومحل الاستنجاء وتقوم مقام الماء عند تعذره في التيمم، والمراد بكونه طهورا أنها بمنزلة الطهور في استباحة الصلاة بها مثلا كاستباحتها بالماء ولو حمل الطهور على ظاهره لدل على ما ذهب اليه السيد المرتضى (رحمهم الله) من أن التيمم يرفه الحدث إلى وجود الماء كما هو مقتضى ظاهر هذه الصيغة.

قوله: (وأرسله كافة) الظاهر أن «الكافة» حال عما بعدها ونظيره قوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة الناس» أي إلا للناس جميعا ومن لم يجوز تقديم الحال على ذي الحال المجرور قالوا هي حال عن ضمير المنصوب في أرسل والتاء للمبالغة أي مانعا لهم عما يضرهم أو صفة لمصدر محذوف أي ارسالة كافة أو مصدر كالكاذبة والعافية والكل تعسف ودليلهم على المنع مدخول كما بين في موضعه، وفيه دلالة أن على أحد من الأنبياء غيره لم يرسل إلى الجميع وحمله بالإضافة إلى البعض غير ثابت.

قوله: (وأعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم) الجزية عبارة عن المال الذي يقرره الحاكم على الكتابي إذا أقره على دينه وقدرها منوط بحكمه وهي فعلة من الجزاء كأنها جزت عن قتله وأسره.

والفداء بالكسر والمد والفتح وبا القصر فكاك الأسير بالمال الذي قرره الحاكم عليه يقال فداه يفديه

ص:59

فداء.

قوله: (ثم كلف ما لم يكلف أحد من الانبياء) «ثم» ها أيضا مثل ما مر لأن هذا التكليف أعظم التكليفات وأشقها على النفوس البشرية ولا يصبر عليها إلا من أيده الله تعالى بالنفس المقدسة وقد نقل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقدم في حرب حنين بعد انهزام أصحابه على أعدائهم الذين لم يعلم عددهم إلا الله وأظهر اسمه الشريف فقال أنا محمد بن عبد الله. وهذا دل على كمال شجاعته (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله: (وأنزل عليه سيف من السماء في غير غمد) لعل اسمه ذو الفقار وهو عند الصاحب (عليه السلام) وكونه في غير غمد تحريص له على القتال وإشارة إلى أن سيفه ينبغي أن لا يغمد.

قوله: (وقيل له قاتل - الخ) قال القاضي «قاتل في سبيل الله» إن تثبطوا وتركوك وحدك، لا يكلف الا فعل نفسك، لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد إن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز وجل: (فاصبر كما صبر أولوالعزم من الرسل) فقال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قلت: كيف صاروا اولي العزم؟ قال: لأن نوحا بعث بكتاب وشريعة وكل من جاء من نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به فكل نبي جاء بعد إبراهيم (عليه السلام) أخذ بشرية إبراهيم ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته، ومنهاجه، وبعزيمة ترك الصحف وكل نبي جاء بعد موسى (عليه السلام) أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح (عليه السلام) بالإنجيل; وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه، حتى جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء اولوالعزم من الرسل.

* الشرح

قوله: (فاصبر) أمره بالصبر من المصايب وأذى القوم ومشاق التبليغ والتكاليف كما صبر أولو العزم من الرسل، سموا بذلك لأن جدهم وصبرهم كان أعلى وأكمل ولعزيمة كل واحد نسخ شريعة من قله. وترك كتابه لا كفرا ولا انكارا لحقيقته، بل إيمانا به وبصلاحه في وقت دون آخر وللنسخ مصالح يعلمها الله تعالى والعبد مأمور بالتسليم وكان من جملته ابتلاء الخلق واختبارهم في ترك ما كانوا متمسكين به في الدنيا والدنيا دار الابتلاء وكل ما يجري على الخلق فيها من الصحة والسقم والغني والفقر والتكاليف وغيرها كان الغرض منه هو الابتلاء.

ص:60

(باب دعائم الإسلام)

* الأصل

1 - حدثني الحسين بن محمد الأشعري، عن معلي بن محمد الزيادي، عن الحسين بن علي الوشاء قال: حدثنا أبان بن عثمان، عن فضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية.

* الشرح

قوله: (بنى الإسلام على خمس) لعل المراد بالإسلام هنا جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدين الحق المشار إليه في قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقوله (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» وقوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» والامور الخمسة المذكورة أعظم أركانه وأكمل أجزائه المعتبرة في قوامه والولاية أعظم الخمسة، ولم يناد بشيء منها مثل ما نودي بالولاية لأن النداء بها وقع مكررا غير محصور وفي مجمع عظيم في غدير خم بخلاف غير الولاية فإنه لم يقع التكرار فيه مثل التكرار فيها ولم يقع في مجمع مثل مجمعها والمؤمن والمسلم بهذا الإسلام مترادفان وما اشتهر من أن بينهما عموما وخصوصا مطلقا فهو باعتبار معنى آخر سيجئ إن شاء الله تعالى.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عجلان أبي صالح قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أوقفني على حدود الإيمان، فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والاقرار بما جاء به من عند الله وصلاة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت وولاية ولينا وعداوة عدونا والدخول مع الصادقين.

* الشرح

قوله: (أوقفنى على حدود الإيمان) يدل مع عنوان الباب على أن الإيمان والإسلام فيه متحدان، ولعل المراد بالإيمان الفرد الكامل منه لما ذكرنا سابقا أن العمل غير داخل في حقيقته أصلا، على أن حدود الشيء خارجة عنه فلا دلالة فيه على أن العمل جزء منه.

قوله: (فقال شهادة أن لا إله إلا الله - الخ) أي بالقلب واللسان كما تقضيه الشهادة وأيضا الكتمان مع

ص:61

القدرة على الإظهار لا يجوز، والإظهار بدون الاعتقاد نفاق، وقال بعض العامة خصوص الشهادة غير معتبر فلو قال: الله واحد ومحمد رسول الله كفى. وأعلم أن أول الواجبات بعد البلوغ الشهادتان إذ قد لا يكون وقته وقتا لغيرهما ولتقدمهما في جميع الاخبار إلا ما شذ وليس ذلك الا لتأكده والاهتمام به.

قوله: (والاقرار بما جاء به من عند الله) اجمالا قبل العمل وتفصيلا بعده.

قوله: (وولاية ولينا) أي ولاية أهل البيت. قال في المصباح الولاية بالفتح والكسر النصرة، ويحتمل أن يراد بها الحكومة العامة والإضافة على الثاني لامية وعلى الأول من باب إضافة المصدر إلى المفعول وهو أنسب بما بعده، ولعل المراد بالدخول مع الصادقين الدخول فيما دخلوا من الأحكام وغيرها ومتابعتهم فيها وإن لم يعلم وجه الحكمة إذ صدقهم وعصمتهم يقتضى وجود الحكمة في نفس الأمر ووجوب التسليم بها.

* الأصل

3 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن أبان بن عثمان، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية).

* الشرح

قوله: (وتركوا هذه يعني الولاية) لم فيه من دواعي الترك مثل الحسد والبغض والعناد ما ليس في الأربع، والظاهر أن «يعني» من المصنف أو الفضيل مع احتمال أن يكون منه (صلى الله عليه وآله وسلم).

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سيعد، عن ابن العرزمي، عن أبيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال: أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة والزكاة والولاية، لا تحص واحدة منهن إلا بصاحبتيها.

* الشرح

قوله: (أثافي الإسلام ثلاثة - الخ) الأثافي جمع الأثية بالضم والكسر وهي الأحجار التي يوضع عليها القدر وتخصيص الثلاثة بالذكر لزيادة العناية والاهتمام دون الحصر فلا ينافي ما سبق من أنها خمسة تشبيها بالاثافي للتنبيه على أن الإسلام لا يستقيم ولا يثبت بدونها كالقدر بدون الأثافي، ثم إن أريد بالإسلام الدين كما مر وهو الظاهر من أحاديث الباب فالثلاثة أجزاء له أشرف وأفضل من سائر أجزائه وإن أريد به الإيمان. الكامل فكذلك على احتمال، وإن أريد به الإيمان بمعنى التصديق فهي

ص:62

خارجة عنه وسبب لثباته وبقائه إذا التصديق أدنى مراتب الإيمان وإذا لم يؤيد بها يفلت بسرعة والتشبيه يؤيد الأخير إذ الأثافي خارجة عن القدر وسبب لبقائه، والله أعلم.

قوله: (لا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتيها) يظهر ذلك بالنظر إلى الأثافي هو يدل على «أن واحدة أو اثنتين منها لا تنفع بدون الأخرى ويؤيد ذلك ما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «إن الله تبارك وتعالى قرن الزكاة بالصلاة فقال (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فكأنه لم يقم الصلاة» وما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإذا قبلت قبل ساير عمله وإذا ردت عليه رد عليه ساير عمله» والروايات الدالة على أن شيعة على أن شيعة علي (عليه السلام) من تبعه لا من يقول أنا أحبه ويخالفه كثيرة ويفهم من هذه الروايات وأمثالها أو قبول كل واحد من الثلاثة مشروط بالآخرين منها ولئن تنزلنا عن ذلك فلا ريب في أن كمالها مشروط بهما والله المستعان.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا، عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال: زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن، قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ الصلاة إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«الصلاة عمود دينكم» قال: قلت: ثم الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بصلاة قبلها وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزكاة تذهب الذنوب. قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال: الحج قال الله عز وجل: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لحجة مقبولة خير من عشرين صلاة نافلة ومن طاف بهذه البيت طوافا أحصى فيه أسبوعة وأحسن ركعتيه غفر الله له» وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال: قلت: فما ذا يتبعه؟ قال: الصوم، قلت: وما بلا الصوم صار آخر ذلك أجمع؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصوم جنة من النار» قال: ثم قال: إن أفضل الأشياء ما إذا أنت فاتك لم تكن منه توبة دون أن ترجع إليه فتؤديه بعينه، إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس يقع شيء مكانها دون أدائها وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياما غيرها وجزيت ذلك الذنب بصدقة ولا قضاء عليك وليس من تلك الأربعة شيء يجزيك مكانه غيره، قال: ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للامام بعد

ص:63

معرفته، إن الله عز وجل يقول: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولي فما أرسلناك عليهم حفيظا) أما لو أن رجلا قام ليله وصار نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله عز وجل حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان، ثم قال: اولئك. المحسن ومنهم يدخله الله الجنة بفضل رحمته.

* الشرح

قوله: (الولاية أفضل) يعين أن الولاية أفضل من المذكورات لأنها مفتاحين بها ينفتح أبواب معرفة تلك المذكورات وحقايقها وشرايطها وآدابها وموانعها ومصلحها ومفسدها، والوالي وهو الحاكم الأمين المنصوب من قبل الله تعالى هو الدليل عليهن لا غيره لظهور أنهن أمور متلقاة منه تعالى إلى صاب الوحي فلابد أن تسمع منه ويتمسك في معرفتها بذيله أو بمن يقوم مقامه بأمره لا بالآراء الفاسدة والعقول الناقصة الكاسدة التي من شأنها أن يزيد وينقص ويخترع ويبتدع، وليس حينئذ فضل فكيف أن نكون أفضل من الولاية التي بها قوامها وتحققها على الوجه المطلوب لله تعالى، وبالجملة المحتاج إليه من حيث هو أفضل من المحتاج ومنه يظهر أن والوالي أفضل من غيره وإلا لزم أن يكون الأمير مأمورا هذا خلف.

قوله: (فقال الصلاة) حكم (عليه السلام) بأن الصلاة أفضل من الزكاة والحج والصوم وقوله حجة إلا أنه تمسك بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «الصلاة عمود دينكم» استظهارا وتقوية وتقويما لقلب السايل وإشعارا بأن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «عمود دينكم» حيث شبه الدين بالفسطاط وأثبت العمود له على سبيل المكنية التخييلة وحمل العود على الصلاة من باب التشبيه البليغ دليل واضح على أن الصلاة أفضل ما سواها بفسادها يفسد الدين بالكلية ولا ينتفع به كما أن الفسطاط لا ينتفع به مع وجود الطنب والأوتاد بانتفاء العمود، وقول الصادق (عليه السلام) «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة» وقوله (عليه السلام) «أحب الاعمال إلى الله عز وجل الصلاة أيضا دليل واضح على ذلك، ولعل المراد بالصلاة المفروضة بدليل أن الصلاة أفضل من الزكاة التي هي أفضل من الحج والحج أفضل من عشرين صلاة نافلة ولما روى عن الصادق (عليه السلام) قال: «صلاة فريضة خير من عشرين حجة الحديث».

لا يقال هذا ينافي ما روى أن الحج أفضل من الصلاة والصيام لأن المصلى يشتغل عن أهل ساعة وأن الصايم يشتغل عن أهله بياض يوم وأن الحاج يشخص بدنه ويضحى نفسه وينفق ماله ويطلب الغيبة عن أهله لا في مال يرجوه ولا إلى تجارة، وما روى عن النبي (عليه السلام) قال: «أفضل الأعمال أحمزها» أي اشقها إذا لمشقة في الحج أكثر.

لأنا نقول يمكن الجواب

ص:64

عن الأول بأن المراد بالصلاة فيما نحن فيه الفريضة وفيما ذكر النافلة وتحقق العملة المذكورة في الفريضة أيضا غير مسلم لأن فعلها متوقف على معرفتها أربعة آلاف باب من المقدمات والمقارنات والواجبات والمندوبات والكيفيات والمحرمات والمكروهات والتروك القلبية واللسانية والأركانية وتحصيلها لا يمكن بدون صرف العمر والمشقة الشديدة والاشتغال عن الأهل في أزمنة طويلة بخلاف الحج فإن مسايله وإن كانت كثيرة لكن لا يبلغ كثرة مسايل الصلاة المفروضة، ومن هذا تبين أن الفريضة أشق من الحج وبهذا يندفع الثاني أيضا وقد يجاب عنه بان ذلك فيما إذا كان المفضل والمفضل عليه من نوع واحد كالوضوء على الصيف والشتاء ونحوه وبتخصيصه بالصلاة وعن الأول بأن الحج المشتمل على الصلاة أفضل من الصلاة والصلاة أفضل من الحج متجرا عن الصلاة ومع قط النظر عن ثوابها.

قوله: (قال الزكاة لأنه قرنها بها) حكم بأن الزكاة أفضل من الحج والصوم ونبه عليه بأن الصلاة أفضل منهما وذكر الصلاة بعد الصلاة فهذا يدل على أن الزكاة أيضا أفضل منهما مقارنتهما دالة على اشتراكهما في الأفضلية وتقاربها في الرتبة إلا أنه لما بدأ بالصلاة قبل الزكاة علم أن الصلاة أفضل من الزكاة لأن الأهم أولى بالتقديم لا لأن العطف تقتضيه.

قوله: (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة تذهب الذنوب) هذا دليل آخر على أن الزكاة فضل من الحج.

فإن قلت: الحج أيضا يذهب بالذنوب فلا دلالة فيه على ما ذكر فالأولى أن يجعل هذا مع السابق دليلا واحد لأن هذا المجموع لم يوجد في الحج.

قلت: يمكن أن يكون المقصود أن الزكاة علة لمحو الذنوب وذهابها ولم يثبت أن الحج علة مستقلة لمحوها لجواز أن يكون محوها بعد الحج على سبيل التفضل دون الوجوب وهذا القدر كاف في التفصيل.

قوله: (ولله على الناس حج البيت) دليل على أن الحج أفضل من الصوم والدلاة في قوله «ومن كفر» حيث عد ترك الحج كفرا دون الصوم وترك ذكر العقاب المترتب عليه تعظيما وتفخيما وكر في موضعه ما يدل على كمال غنائه من غيره عموما وهو يعشر بأن جزاء اعمالهم عايده إليه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ففيه أيضا تذكر للعقاب على تركه وفي قوله «غفر له» حيث لم يقل الحج يذهب الذنوب كما قال في الزكاة نوع اشعار بما ذكرنا سابقا وكان «وقوله وقال في يوم عرفة ويوم المزدلفة ما قال» إشارة إلى الأحاديث الواردة في محو الذنوب بعد الحج.

قوله: (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لحجة) هذا إنما يدل على أن الحج أفضل من الصوم لو كان عشرون نافلة أفضل من الصوم أو مساوية له ولا يبعد أن يجمل هذا دليلا على أفضليتها بالنسبة إليه.

ص:65

قوله: (أحصى فيه أسبوعه) لعل المراد باحصاء الأسبوع ضبطها وحفظها مجردة عن الزيادة والنقصان وباحسان ركعتيه فعلهما في وقتها ومكانهما مع الشرائط والكيفيات والترتيل.

قوله: (قلت فلما ذا يتبعه قال الصوم) لا يقال هذا السؤال ليس على ما ينبغي لأنه إذا علم أن جميع الاعمال المذكورة في الحديث أفضل من الصوم فقد علم أن الصوم في الفضيلة بعدها لأنا نقول المقصود من السؤال استعلام وجه تأخير الصوم في الفضيلة عن الأعمال المذكورة كما أشار إليه بقوله «قلت وما بلا الصوم إلى آخره» ثم قوله (عليه السلام) «الصوم جنة من النار» إشارة إلى فضيلة الصوم وسر ذلك أن أعظم أسباب النار هو الشهوات والصوم يكسرها وقله «ثم إن أفضل الأشياء إلى آخره» إشارة إلى أن الصوم دون الأعمال المذكورة في الفضيلة وذلك لأنه لما لم يكن لتلك الأعمال بدل كما كان للصوم علم أن الاهتمام بها أعظم وأكمل والثواب المترتب عليها أفخم وأجزل فلذلك وقوعها بعينها.

قوله: (ما إذا أنت فاتك) الظاهر أن لفظ أنت زايد والمراد بالتوبة هنا ما يقوم مقامه أو الأعم منه ومن سقوطه رأسا.

قوله: (وإن الصوم إذا فاتك) أشار إلى أقسام الفوت وأحكامه اجمالا لان الفوت أما للعذر مثل المريض وغيره أو للتقصير والتعمد في تركه أو للسفر واللازم أما القضاء في مكانه فقط، أو الكفارة فقط أو هما جميعا. أو لا هذا ولا ذلك. وتفصيله في كتب الفروع، فالصوم قد يكفى الصدقة مكانه ولا يجب قضاؤه بخلاف تلك الأربعة فإنها لا يجري مكانها إلا قضاؤها بعينها.

قوله: (ذروة الأمر) المراد بالأمر الدين وبطاعة الإمام انقياده في كل ما أمر ونهى وهي من حيث أنها أرفع الطاعات مرتبة واسناها منزلة «كالذروة، ومن حيث أنها توصل إلى المطلوب وهو قرب الحق كالسنام، ومن حيث أنها سبب للوصول إلى جميع الخيرات الدنيوية والأخروية كالمفتاح ومن حيث أن بها يتحقق الدخول في الدين ومعرفة قوانينه كالباب ومن حيث أنها توجب المغفرة والرحمة والدرحات العالية رضاء الرحمن. والضمير في قوله «بعد معرفته» راجع إلى الإمام أو إلى الله تعالى.

قوله: (إن الله عز وجل يقول كأنه استشهاد لما ذكر حيث أن طاعة الرسول وهو الإمام المقتدي به عين طاعة الله تعالى واتصاف طاعة الله تعالى بما ذكر بالأمور المذكورة أظهر من أن يخفى.

قوله: (أولئك المحسن منهم ألخ) كأنه إشارة إلى من يطيع الرسول وهو المؤمن العارف بحق الإمام والمقصود أن المحسن وهو من أطاعه بعد معرفته في أقواله وأعماله وأره ونهيه يدخله الله الجنة قبل الحساب بفضل رحمته، وأما المسيء فمنهم فقد يناقشه في الحساب وقد يدخله الجنة بالرحمة أو الشفاعة وقد يجري

ص:66

عليه الوعيد، ويحتمل أن يكون إشارة إلى من لم يعرف الولاية والمحسن منه وهو الذي لم ينكر الولاية كما لم يعرفها وعلم بالخيرات أعنى المستضعف يدخله الله الجنة بفضل رحمته وسيجئ أن المستضعف في المشية، والله أعلم.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان بن يحيى، عن عيسى بن السري أبي اليسع قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شيء منها، الذي من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ولم يقبل [الله] منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح له دينه وقبل منه وعمله ولم يضق به مما هو فيه لجهل شيء من الامور جهله؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان بأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقرار بما جاء من به عند الله وحق في الأموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها: ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فقلت له: هل في الولاية شيء دون شيء فضل يعرف لمن أخذ به؟ قال: نعم قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان عليا (عليه السلام) وقال الآخرون: كان معاوية، ثم كان الحسن (عليه السلام) ثم كان الحسين (عليه السلام) وقال الآخرون: يزيد بن معاوية وحسين بن علي ولا سواء ولا سواء قال: ثم سكت ثم قال: أزيدك ؟ فقال له حكم الأعور: نعم جعلت فداك قال: ثم كان علي بن الحسين ثم كان محمد بن علي أبا جعفر وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلاهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبين لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعده ما كانوا يحتاجون إلى الناس وهكذا يكون الأمر والأرض لا تكون إلا بامام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذا بلغت نفسك هذه - وأهوى بيده إلى الله حلقه - وانقطعت عنك الدنيا تقول: لقد كنت على أمر حسن.

أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عيسى بن السري أبي اليسع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح

قوله: (أخبرني بدعائم الإسلام... إلى آخره) أن أريد به الدين كانت دعائمه داخلة فيه جزءا منه وإن أريد به الإيمان الكامل فذلك على احتمال أقوى من احتمال خروجها وشرطيها لقبوله أو لكماله، ولما كان السائل عالما بأن للإسلام دعائم لا يجوز لاحد التقصير في معرفتها وفي العمل بها حتى من

ص:67

قصر لم يكن له دين ولم يقبل منه عمل ومن عرفها وعمل بها صح دينه وقبل منه عمله ولم يعلمها بخصوصها، سأل عن تعيينها وتفصيلها فأجاب (عليه السلام) بأنها أربعة: الشهادتان والاقرار بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالا أو تفصيلا، والزكاة في الأموال، والولاية لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والاخبار في ذكر الدعائم عددا وكما مختلفة كما يظهر للناظر فيها ولكن هذا الاختلال لا يضر إذا ليس فيها اشتمل علي الأقل تصريح في نفي ما عداه.

قوله: (ولم يضق به) وفي بعض النسخ لم يضر به يعني لم يضق أو لم يضر به من أجل ما هو فيه من معرفة دعائم الإسلام والعمل بها جهل شيء جهله من الامور التي هي ليست من الدعائم فقوله «ما هو فيه» تعليل لعدم الضيق أو الضرر وقوله لجهل شيء» تعليل للضيق أو الضرر. وقوله «جهله» صفة لشيء. وقوله من الامور» عبارة عن غير الدعائم من شعائر الإسلام فليتأمل.

قوله: (وحق في الأموال الزكاة) «حق» مرفوع عطف على الشهادة، أو مجرور عطفا على ما جاء به، والزكاة على التقديرين بدل عنه، ويحتمل أن يكون الزكاة مبتدأ و «حق» خبره. أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة عطف على الشهادة أي والزكاة حق في الأموال أو هي حق فيها.

قوله: (والولاية التي أمر الله عز وجل بها) في قوله (وإنما وليكم الله - الآية» وفي قوله «وأولى الأمر منكم».

قوله: (هل في الولاية شيء دون شيء فضل يعرف لمن آخذ به) لعل المراد هل في الولاية شيء يدل عليها من الكتاب أو السنة وهل فيها دون ذلك الشيء وغيره فضل ظاهر وكمال مخصوص تعرف الولاية لمن أخذ بذلك الفضل واتصف به؟ فأجاب (عليه السلام) بنعم وأشار أو لا إلى ما يدل عليها من الكتاب والسنة، وأومأ خيرا إلى ذلك الفضل الدال عليها البيان الشافي والعلم الوافي في بيان الشرائع والأحكام من مأخذها، وهذا من أعظم فضائل الولاية وصفاتها، والله أعلم.

قوله: (مات ميتة جاهلية) أي الميتة على صفة الكفر والبعد عن الحق ورحمته وقد مر توضيحه سابقا.

قوله: (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) ضمير كان في المواضع الخمسة راجع إلى الإمام ولما كان الحديث والآية يد لأن على أنه لابد في كل عصر من إمام مفترض الطاعة وكان هذا متفقا عليه بين الشيعة ومخالفيهم ذهبت الشيعة إلى أن الإمام في عصر النبي هو النبي وبعده على (عليه السلام)، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين وهكذا واحد بعد واحد إلى المهدي الموجود إلى قيام الساعة وذهبت الفرقة المخالفة إلى أن الإمام معاوية عليه اللعنة ثم يزيد بن معاوية، ثم سلاطين الجور إلى قيام الساعة فأشار (عليه السلام) إلى

ص:68

الفريقين وإلى عدم المساواة بينهما وبين اماميهما بقوله: ولا سولاء ولا سولاء أي لا مساواة بين الفريقين. ولا مساواة بين الإمامين لأن الفرقة الاولى هم الفرقة الناجية وإمامهم معصوم مفترض الطاعة من قبله تعالى والفرقة الثانية هم الهالكة وامامهم غاصب ضال مضل، ويحتمل أن يكون المراد بالأول أنه لا مساواة بين من قال بامامة على (عليه السلام) وبين من قال بامامة الحسن والحسين (عليهما السلام) وبين من أقل بامامة يزيد بن معاوية أو لا مساواة بين الحسن والحسين (عليهما السلام) وبين يزيد بن معاوية.

قوله: (وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر (عليه السلام) وهم لا يعرفون) الظاهر أن الواو للحال والظرف خبر كانت وجعلها زائدة لزيادة الربط وما بعدها خبرا، أو جعل كانت تامه بعيد، و «كان» في قوله «حتى كان أبو جعفر» تامة.

قوله: (وهكذا يكون الأمر) أي مثل ما ذكر من كون واحد بعد واحد إماما يكون أمر الإمامة والخلافة، والأرض لا تكون موجودة إلا بإمام مفترض الطاعة بأمره تعالى يعرف الحلال والحرام ويدعوا الناس إلى سبيل الله ولو بقيت بغير إمام لساخت باهلها.

قوله: (وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه) ما مصدرية أو عبارة عن الزمان يعني أشد احتياجك إلى وصف كنت عليه وهو القول بولاية ولى الله حين بلوغ روحك إلى حلقومك فإن هذا والوصف ينفعك في هذه الساعة نفعا بينا لحضوره لديك حتى تعرفه وعنايته بشأنك واستنقاذه لك من إبليس وجنوده وبشارته إياك بالدرجات العالية والمقامات الرفيعة فستبشر وتقول حينئذ اظهارا للفرح والسرور لقد كنت على أمر حسن، وهو الإقرار بالولاية ومتابعة ولى الأمر. وفيه بشارة عظيمة ودلالة واضحة على أن المؤمن في جميع أزمنة عمره محتاج إلى الإمام لأنه نور قلبه وسبب هدايته سيما وقت الاحتضار فإن احتجاجه إليه حينئذ أشد وأقوى.

* الأصل

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن مثنى الحناط، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: الولاية والصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج.

8 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن أبان، عن فضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشيء ما نودي بالولاية يوم الغدير.

ص:69

9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حماد بن عثمان، عن عيسى بن السري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زكي عملي ولمن يضرني جهل ما جهلت بعده، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقرار بما جاء به من عند الله وحق في الأموال من الزكاة، والولاية التي أمر الله عز وجل بها ولاية آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، قال الله عزو جل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) فكان علي (عليه السلام)، ثم صار من بعد حسن ثم من بعده حسين ثم من بعده علي بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الأمر. إن الأرض لا تصلح إلا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه ههنا - قال: وأهوى بيده إلى صدره - يقول حينئذ: لقد كنت على أمر حسن.

* الأصل

10 - عنه، عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يا ابن رسول الله هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي إليكم وموالاتي إياكم؟ قال: فقال: نعم، قال: فقلت: فإني أسألك مسألة تجيبني فيها فإني مكفوف البصر قليل المشي ولا أستطيع زيارتكم كل حين قال: هات حاجتك، قلت: أخبرني بدينك الذي تدين الله عز وجل به أنت وأهل بيتك لأدين الله عز وجل به قال: إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله عز وجل به، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإقرار بما جاء به من عند الله والولاية لولينا والبراءة من عدونا والتسليم لأمرنا وانتظار قائمنا والاجتهاد الورع.

* الشرح

قوله: (إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة) في المغرب «أقصرت الخطبة وأعرضت المسألة» أي جئت بهذه قصيرة موجزة وبهذه عزيمة واسعة.

* الأصل

11 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعته يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترض الله عز وجل على العباد، ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره، ما هو؟ فقال: أعد علي فأعاده عليه، فقال:

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وصوم شهر رمضان، ثم سكت قليلا، ثم قال: والولاية - مرتين - ثم قال: هذا الذي فرض الله على العباد ولا يسأل

ص:70

الرب العباد يوم القيامة فيقول: ألا زدتني على ما افترضت عليك؟ ولكن من زاد زاده الله، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسنة جميلة ينبغي للناس الأخذ بها.

* الشرح

قوله: (فقال أعد على) لعل أمره بالإعادة للاستلذاذ بذكره أو ليسمع الحاضرون ويتوجهون إلى استماع جوابه.

قوله: (وأقام الصلاة) حذفت التاء للاختصار، وقبل المراد بإقامتها ادامتها وقيل فعلها على ما ينبغي وقيل فعلها في أفضل أوقاتها، وقيل جاء على عرف القرآن في التعبير عن فعل الصلاة بلفظ الإقامة دون أخواتها وذلك لما اختصت به من كثرة ما يتوقف عليه من الشرائط، والفرائض والسنن ، والفضائل وإقامتها إدامة فعلها مستوفاة جميع ذلك وإنما لم يذكر الجهاد لأنه لا يجب إلا مع الإمام فهو تابع للولاية مندرج فيها.

قوله: (هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد لا يسأل) لعل المراد أن هذه فروض مؤكدة عينية وما عداها إما مندوب أو واجب كفائي والله يسأل عباده يوم القيامة عن تلك الفروض لاعن هذا لكن من زاد زاده الله تعالى في الأجر، إن رسول الله سن سننا حسنة جميلة من الآداب والاخلاق والاعمال والعقودات والايقاعات والمواعظ والنصايح وغيرها ينبغي للناس الاخذ بها بعد تلك الفرائض ليزداد بذلك أجرهم ومنزلتهم ولو لم يأخذوا بها وقع النقص في مرتبتهم ولم يقع الفساد في دينهم.

12 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن فاضلة بن - أيوب عن أبي زيد الحلال، عن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال: سمعت أبا - عبد الله يقول: إن الله عز وجل فرض خلقه خمسا فرخص في أربع ولم يرخص في واحدة.

* الأصل

13 - عنه، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن إسماعيل الجعفي قال: دخل رجل على أبي جعفر (عليه السلام) ومعه صحيفة فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هذه صحيفة مخاصم يسأل عن الدين الذي يقبل فيه العمل فقال: رحمك الله هذا الذي أريد، فقال أبو جعفر (عليه السلام): شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله وتقر بما جاء من عند الله والولاية لنا أهل البيت والبراءة من عدونا والتسليم لأمرنا والورع والتواضع وانتظار قائمنا، فان لنا دولة، إذا شاء الله جاء بها.

* الشرح

قوله: (والورع والتواضع) للورع عن محارم الله والتواضع لأولياء الله مدخل عظيم في

ص:71

قبول العمل وبلوغه إلى غاية الكمال ولذلك قال الله تعالى تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين» للتنبيه على أن العمل بدون التقوى كأنه ساقط عن درجة الاعتبار والقبول.

* الأصل

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار جميعا عن صفوان، عن عمرو بن حريث قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في منزل أخيه عبد الله بن محمد فقلت له:

جعلت فداك ما حولك إلى هذا المنزل؟ قال: طلب النزهة فقلت: جعلت فداك ألا أقص عليك ديني؟ فقال: بلي، قلت: أدين الله بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيه وأن الله يبعث من في القبو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت والولاية لعلي أمير المؤمنين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية للحسن والحسين والولاية لعلي بن الحسين والولاية لمحمد بن علي ولك من بعده صلوات الله عليهم أجمعين وأنكم أئمتي عليه أحيا وعليه أموت وأدين الله به، فقال: يا عمرو! هذا والله دين الله ودين آبائي الذي أدين الله به في السر والعلانية، فاتق الله وكف لسانك إلا من خير ولا تقل إني هديت نفسي بل الله هداك، فأد شكر ما أنعم الله عز وجل به عليك ولا تكن ممن إذا أقبل طعن في عينه، وإذا أدبر طعن في قفاه ولا تحمل الناس علي كاهلك فإنك أوشك إن حملك الناس على كاهلك أن يصدعوا شعب كاهلك.

* الشرح

قوله: (طلب النزهة) أي البعد عن الخلق وأصل النزهة البعد ومنه تنزيه الله تعالى أي تبعيده عن النقائص، أو المراد بها بعد الخاطر عن الهم والحزن لكون مكانه نزها فيه سعة وماء وكلاء وخضر.

قوله: (وأدين الله به) في المصباح دان بالإسلام دينا بالكسر تعبد به وتدين به كذلك فهو دين مثل ساد وسيد.

قوله: (في السر والعلانية) السر القلب، والعلانية اللسان والجوارح أو الأعم.

قوله: (فاتق الله) أمره بالتقوى وهي التجنب عن المعاصي أو التنزه عما يشغل القلب عن الحق أو بالتقية عمن ليس من أهل هذا الدين.

قوله: (وكف لسان إلا من خير) أمره بكف اللسان إلا من خير ورغبه في حفظه عن كل ما يضره أو لا ينفعه في تعويده بالخير من القرآن والحديث وغيرهما من الامور النافعة وخص اللسان من بين الأعضاء الظاهرة لأنه أشرفها وأعمها تناولا ومفاسده أكثر فيجب حفظه عما لا ينفع خصوصا عما يضر، ثم أشار إلى أن الهداية نعمة من الله تعالى فيجب معرفة قدرها وأداء شكرها بصرف كل عضو فيما خلق لأجله.

ص:72

قوله: (ولا تكن ممن إذا قبل) هذا في الحقيقة أمر بحن المعاشرة مع الخبق وبالتقية من موضعها أي كن بحسن صفاتك ممن يمدحه الناس في حضوره وغيبته ولا تكن بشرارة ذاتك وقبح صفاتك ممن يذمونه فيهما وفيه دلالة على وجوب التجنب عن المطاعن بقدر الإمكان.

قوله: (ولا تحمل الناس على كاهلك) الكاهل مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الاعلى وفيه ست فقر أو ما بين الكتفين أو موصل العنق في الصلب والشعب هنا محل الصدع والشق والتفريق وهو المنسج ومنه الشعبة وهي الطايفة من كل شيء والقطعة منه، وقد نهاه (عليه السلام) عن فعل ما يوجب حمل الناس على كاهله وقصدهم اضراره واهلاكه أو أشد، بل ربما يحصل من تعاونهم ما يجوب هلاكه ولذلك عبر عنه (عليه السلام) بالعبارة المذكورة المشعرة بالإهلاك أو الضرر العظيم.

* الأصل

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلي جعلت فذاك قال: أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير؟ قلت: نعم جعلت فداك قال: الصوم جنة من النار، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثم قرأ (عليه السلام): «تتجافي جنوبهم عن المضاجع».

* الشرح

قوله: (أما أصله فالصلاة) الامور الثلاثة من فروع الإسلام حقيقة لكن عد الصلاة أصله لأن قيامه يتحقق بها ولذلك شبهت بالعمود في الخبر السابق وعد الجهاد مع الأعداء الظاهرة أو الأعم منهم ومن النفس والشيطان، ذرورة سنامه لأن به غاية ارتفاعة كما أن ذروة الشيء غاية ارتفاع ذلك الشيء، وخص الزكاة بالذكر من بين فروعه المتكثرة لأنها العمدة كالصلاة ثم ذكر من جملة أبواب الخير ثلاثة لكثرة مناها أو لها الصوم الواجب أو الأعم وهو جنة يقي صاحبه عما يؤذيه أو يهلكه من الشهوات ومن الشروط لكماله حفظ جميع الجوارح عما يليق به، وثانيها الصدقة الواجبة أو الأعم وهي تذهب بالخطيئة تكفر عنها بل تحفظ عنها أيضا، وثالثها قيام الرجل جوف الليل بذكر الله ولم يذكر فائدته كما ذكر قبله للدلالة على الكثرة والتعميم مع احتمال أن يكون فائدته اذهاب الخطيئة أيضا بقرينة العطف.

قوله: (وذروة سنامه) الإضافة بيانية أو لامية إذ للسنام الذي هو ذروه البعير ذروة أيضا هي أرفع أجزائه.

قوله: (تتجافي جنوبهم عن المضاجع) كناية عن القيام إلى صلاة الليل والذكر.

ص:73

(باب) أن الإسلام يحقن به الدم (وتؤدي به الأمانة) وأن الثواب علي الإيمان

* الشرح

قوله: (الإسلام يحقن به الدم) ظاهر أخبار هذا الباب وتواليه أن الإسلام يصدق على مجرد الإقرار باللسان من غير تصديق مطلقا سواء كان معه الإقرار بالولاية أو لم يكن وعلى التصديق المجرد عن الولاية وإن لم يكن معه الإقرار باللسان وعلى كليهما مجردا عن الولاية أو معها وإن الإيمان يصدق على التصديق بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الداخل فيه الولاية سواء كان معه عمل بما يقتضيه ذلك التصديق أو لم يكن وإن كان المقرون بالعمل هو الفرد الكامل من الإيمان بل هو عند أهل العصمة (عليهم السلام) كما يشعر به كثير من أخبارهم ويظهر مما ذكرنا إن الإيمان أخص من الإسلام وأن ما هو أثر الإسلام ولوازمه فهو أثر الإيمان ولوازمه دون العكس وذكر من أثر الإسلام ثلاثة أمور:

الأول أنه يحقن به الدم ويحفظ به عن القتل.

والثاني أن تؤدي به الأمانة وكان المراد أن أداؤها إلى أهل الإسلام أوكد أو أنه مما يحكم به أهل الإسلام، وإلا فظاهر الآية والروايات الكثيرة أن أداء أمانة الكافر وإن كان حريبا واجب أيضا واحتمال إرادة أنه يحفظ به ماله كما يحقن به دمه أو يحفظ به أمانه للحربي أظهر، والله أعلم، والثالث أن تستحل به الفروج والتناكح، وهذا يدل على جواز التناكح بين أهل الإسلام مطلقا إلا أن في جواز تزويج المؤمنة بالمخالف قولين للأصحاب، ذهب المفيد والمحقق إلى جوازه والمشهور المنع لدلالة الأخبار عليه، وفي بعضها تعليل بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه لكن في بعضها إرسال وفي بعضها ضعف وفي بعضها جهالة، الاحتياط تركه تفصيا من الخلاف وحذرا من التهجم على استباحة الفروج وتطهيرا للتناسل وذكر من أثر الإيمان المختص به الثواب عليه وهذا يدل على أن غير المؤمن لا يثاب في الآخرة ولا يدخل الجنة كما يدل عليه الآيات والروايات المعتبرة واتفاق الفرقة الناجية.

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحكم بن أيمن، عن القاسم الصيرفي شريك المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الإسلام يحقن به الدم وتؤدي به الأمانة وتستحل به الفروج والثواب.

ص:74

على الإيمان.

2 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام) قال:

الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل.

* الشرح

قوله: (الإيمان إقرار وعمل والإسلام إقرار بلا عمل) لعل المراد بالإقرار الاقرار بالشهادتين وبالعمل عمل القلب وهو التصديق بجميع ما جاء به النبي ويطلق العمل عليه أيضا كما سيجيء في الباب الثالث بعد هذا الباب فيدل على أن الايمان مركب من الاقرار والتصديق كما ذهب إلى محقق الطوسي واستدل على أن الأول وحده وهو الاقرار باللسان ليس بايمان بقوله تعالى «قالت الاعراب آمنا لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا» فقد أثبت الاقرار اللساني ونفي الايمان فعلم أن الايمان ليس هو الاقرار اللساني، وعل أن الثاني وحده وهو التصديق ليس بايمان بقوله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» أثبت للكفار الاستيقان النفسي وهو التصديق لما كان مقرونا بالانكار كان غير معتبر لأن التصريح بالنقيض وفيه نظر أما أولا فلان التصديق لما كان مقرونا بالانكار كان غير معتبر لأن التصريح بالنقيض ربما كان مانعا من القبول والاعتبار.

وأما ثانيا فلان هذه الآية انما تدل على أن التصديق وحده ليس بايمان ولا تدل على أن الاقرار باللسان جزء من الايمان، لجواز أن يكون شرطا له وينتفي المشروط بانتفاء الشرط كما أن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، ومن ثم حمل المتكلمون القائلون بأن الايمان نفس التصديق الاخبار الدالة على جزئية أعمال الجوارح للايمان على أنها للكمال بمعنى أن العمل ليس جزءا للايمان بحيث يعدم الايمان بعدم العمل بل إضافة العمل اليه إضافة كما وكذا حملوا الاخبار الدالة على جزئية الاقرار باللسان على أن شرط في الأيمن لا جزء منه وعلى هذا حملوا الاخبار المختلفة الدال بعضها على أن الايمان نفس التصديق وبعضها على أن التصديق والعمل مثل الصلاة والزكاة وغيرهما وبعضها على أنه التصديق والاقرار ومعنى قوله (عليه السلام) «والاسلام اقرار بالشهادتين وغيرهما» بلاعتبار عمل قلبي وهو التصديق معه بناء على ما ذكرنا من أن المراد بالعمل العمل القلبي فحينئذ يناسب هذا الخبر الخبرين بعده مناسبة ظاهرة اما مناسبته للأول منهما فظاهرة وأما للثاني فلان ضم أفعال الجوارح إلى الاقرار من غير أن يكون معه تصديق قلبي يصدق عليه أنه اقرار بلال عمل أي بلا تصديق ولا يصدق عليه أنه اقرار وعمل فليتأمل.

ص:75

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) فقال لي: ألا ترى أن الإيمان غير الإسلام.

* الشرح

قوله (قالت الاعراب آمنا) لما أقرت الاعراب بالشهادتين قالوا آمنا بهذا الاقرار فقال الله تعالى لنبيه (قل لم تؤمنوا» بعد لأن هذا الإقرار ليس بايمان (ولكن قولوا أسلمنا» به إذا لستم بمؤمنين (ولم يدخل الايمان» أي التصديق الخاص (في قلوبكم» ففيه دلالة على أن الإسلام نفس الإقرار اللساني والايمان نفس التصديق وقال بعض العامة الاسلام الشهادتان والايمان العمل ثم قرأ هذه الآية وفيه دلالة واضحة على أن المراد بالعمل القلبي وهو التصديق كما ذكرناه.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سفيان بن السمط قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الاسلام والايمان، ما الفرق بينهما فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم قال التقينا في الطريق وقد أزف من الرجل الرحيل، فقال له أبو - عبد الله (عليه السلام): كأنه قد أزف منك رحيل؟ فقال: نعم فقال: فالقني في البيت، فلقيه فسأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فقال: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان، فهذا الإسلام، وقال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلما وكان ضالا.

* الشرح

قوله: (فلم يجبه) كأنه ترك الجواب للتقية ولئلا يذكره السائل لأهل المدينة ولذلك أجابه عند خروجه منها.

قوله: (الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس) أريد بالظاهر الاعمال الظاهرة وقوله شهادة أن لا اله إلا الله وما بعده بدل له للايضاح، وأريد بالشهادة الاقرار باللسان بالتوحيد والرسالة سواء كان معه تصديق أولا وقد عرفت سابقا أن الاسلام يصدق على كل واحدة منهما.

قوله: (الإيمان معرفة هذا الامر مع هذا) أي الايمان معرفة الولاية والتصديق بها مع هذا الظاهر

ص:76

المذكور، وقد يحتج به من يجعل الايمان مركبا من التصديق والاعمال الظاهرة وفيه أن المعية لا تدل على الجزئية لأنها أعم منها وعلى تقدير التسليم فلعله تفسير للايمان الكامل والمناقشة في كون الاعمال جزءا له أو شرطا سهل، والفرق بين الضال والكافر مع أن الضال كافر في الحقيقة أن الكافر لم يدخل في الدين والضال دخل فيه وترك أعظم أركانه وهو الولاية فضل عنه.

* الأصل

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد جميعا، عن الوشاء، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (قالت الأعراب آمنا قال تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب ومن زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب.

* الشرح

قوله: (فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب) أي فمن زعم أنهم آمنوا بجعل الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار بالشهادتين والإعمال الظاهرة فقد كذب، ومن زعم أنهم لهم يسلموا تمسكا بقوله تعالى (الاعراب أشد كفرا ونفاقا» فقد كذب لأن كل واحد منهما زعم خلاف ما أخبر به الكتاب وكل من كان كذلك فهو كاذب.

6 - أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حكم بن أمين، عن قاسم شريك المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الإسلام يحقن به الدم وتؤدى به الأمانة وتستحل به الفرج والثواب على الايمان.

ص:77

باب إن الإيمان يشرك الاسلام والاسلام لایشرک الإیمان

* الشرح

(1) والإسلام لا يشرك الإيمان قوله: (ان الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان) المشاركة وعدمها أما باعتبار المفهوم فإن مفهوم الإسلام داخل في مفهوم الإيمان دون العكس، أو باعتبار الصدق فإن كان

ص:78


1- 1 - قوله «إن الإيمان يشرك الإسلام» حاصل مفاد الباب أن بين الإيمان والإسلام عموما وخصوصا مطلقا ومرجعه إلى موجبة كلية «كل مؤمن مسلم» وسالبة جزئية «ليس كل مسلم مؤمنا» ومثله بالكعبة والمسجد الحرام فكان موضع من الكعبة مسجد وليس كل موضع من المسجد كعبة. وهو ثمثيل المعقول بالمحسوس على ما هو شأن الأنبياء والأوصياء، ومرجع ذلك إلى زيادة قيد في الايمان واختلف الروايات في ذلك القيد فبعضها على أنه ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وبعضها على أنه العمل وبعضها على أنه تصديق القلب لشهادة اللسان ولا يبعد اطلاقه في أخبار على معان متعددة بحسب الموارد ويتعين بالقرينة، وقد ذكرنا شيئا في ذلك في مقدمة الكتاب، والاهم في ذلك أمران الأول اعتبار الاعمال في صدق الايمان وقد اختلف فيه المسلمون من صدر الاسلام فالخوارج على أن كل عمل معتبر فيه فيكون مرتكب الكبيرة كافرا وقالت المرجئة لا يضر مع التصديق شيء من المنكرات والفاسق كالصالح والحق وأن العمل لا يعتبر في الايمان ومرتكب الكبيرة ليس كافرا وان وصف بالفسخ وعذب في الآخرة خلافا للمرجئة، وهذا هو مذهب الشيعة وأكثر أهل السنة وما روى في الاخبار موافقا للخوارج أو للمرجئة يجب تأويله. الثاني من التزم بشيء يستلزم الكفر استلزاما غير بين كالمجسمة ليس بكافر وبيان الاستلزام أن الجسم مركب وكل مركب ممكن وكل ممكن معلول لغيره ولو كان الواجب جسما كان معلولا لغيره وهو كفر وعلى ذلك بعض فقهائنا والحق أنه لا يكفر أحد إلا بالاستلزام البين ولذلك قالوا لواد على مدعي الباطل شبهة ممكنة في حقه قلبت منه ودرء عنه الحد وكذلك إذا اعتقد أحد أن الروح قوة حالة من تركيب مزاج البدن وليس مجردا عن البدن وهذا وأي الملاحدة الماديين الذين لا يعتقدون وجود غير القوى الجسمانية وينكرون تأثير شيء في شيء إلا أن يكون جسمانيا «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» ويترتب على اعتقادهم هذا انكار المعاد ونفي الثواب والعقاب واستحالة الحشر والنشر لكن رأينا جماعة من عوام المتزهدين لا يتنبهون لهذا الاستلزام، يشاركون الماديين في أصلهم ولا يلتزمون بلوازمه يعترضون على القائلين بتجرد النقس وينقضون أدلتهم على بقائنا بعد الموت وربما يصرحون بان النقس كنور السراج يطفي بفناء الدهن ومعذلك يزورون الأموات ويستغفرون لهم ويهدون إليهم ثواب العبادات ولا يعملون أن لازم أصلهم اليأس من أصحاب القبور وخرافية هذه الاعمال كما قال الله تعالى «كما يئس الكفار من أصحاب القبور » ولكن لما لم يكن الإستلزام بينا لا يحكم بكفر هؤلاء. (ش)

مؤمن مسلم دون العكس، أو باعتبار الدخول فإن الداخل في مفهوم الإيمان داخل في الإسلام دون العكس أو باعتبار الاحكام فإن أحكام الإسلام مثل حقن الدماء وأداء الأمانة واستحلال الفرج ثابتة للإيمان دون العكس فإن الحكم المترتب على الإيمان مثل الثواب والنذر للمؤمن واعتاقه لا تكون للإسلام.

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن - صالح، عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال: إن الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك، فقلت، فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس; والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام وما ظهر من العمل به والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة، إن الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة.

* الشرح

قوله: (فقلت فصفهما لي) أي فسرهما لي وبين لي حقيقتهما حتى يظهر لي حقيقة المشاركة وعدمها.

قوله: (الإسلام شهادة ان لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله)) اكتفى بذكر الشهادة على التوحيد عن التصديق به وبذكر التصديق بالرسالة عن الشهادة عليها للقرينة والتعارف لأن التوحيد والرسالة أمران مقرونان فما يعتبر في أحدهما يعتبر في الآخر وأيضا الشهادة قلما تنفك عن التصديق قلما ينفك عن الشهادة. وعلى هذا فمحصل الكلام أن الإسلام التصديق بالله ورسوله والشهادتان وهذا لا ينافي ما مر من أن الإسلام الإقرار بلا عمل أي بلا تصديق لأنا قد ذكرنا أن الاسلام يطلق على مجرد الاقرار أيضا.

قوله: (والإيمان الهدى) الهدى راه يافتن وراه نمودن ورسيدن بمقصود وراه راست والمراد به هنا الولاية وهي الصراط المستقيم وبما يثبت في القلوب من صفة الإسلام التصديق بالله وبرسوله وبما ظهر من العمل الشهادتان أو الأعم منهما ومن أقام الصلاة وايتاء الزكاة والصوم والحج واعتبار هذه الأعمال في الإيمان وقد مر وجهه مرارا.

قوله: (والإيمان ارفع من الإسلام بدرجة) لاعتبار التصديق بالولاية في حقيقة الإيمان دون الإسلام وبه يستحق العبد الثواب والكرامة في دار المقامة.

ص:79

قوله (ان الايمان يشارك الإسلام في الظاهر) لعل المراد أن الإيمان يشارك الإسلام في جميع الأعمال الظاهرة المعتبرة في الإسلام مثل الصلاة والزكاة وغيرهما والإسلام لا يشارك الإيمان في جميع الامور الباطنة المعتبرة في الإيمان لأنه لا يشاركه في التصديق بالولاية وإن اجتمعا في الشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة ومنه يتبين أن الإيمان كالنوع والإسلام كالجنس وقد يطلق الإسلام ويراد به هذا النوع مجازا من باب إطلاق العام على الخاص ولعل قوله تعالى (وأخرجنا من كان فيها - الآية» من هذا الباب فقول من زعم أنهما مترادفان وتمسك بهذه الآية مدفوع.

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن موسى ابن بكر، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الإيمان يشارك الإسلام والإسلام لا يشارك الإيمان».

3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن فضيل بن - يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إن الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء، والإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان».

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الصباح الكناني قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيهما أفضل الإيمان أو الإسلام؟ فان من قبلنا يقولون: إن الإسلام أفضل من الإيمان، فقال: الإيمان أرفع من الإسلام قلت: فأوجدني ذلك، قال: ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمدا؟ قال: قلت: يضرب ضربا شديدا قال: أصبت، قال: فما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمدا قلت: يقتل، قال: أصبت ألا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان.

* الشرح

قوله: (أيهما أفضل) مبتدأ وخبر، والإيمان والإسلام تفسير لمرجع الضمير أو هما مبتدأ وأيهما أفضل خبر.

قوله: (قلت فاوجدني) من أوجد فلانا مطلوبه أظفره به أي أظفرني بالمطلوب وبينه لي بمثال جزئي.

قوله: (قلت يقتل قال أصبت) قيل يدل على كفر من استخف بالكعبة فان وجوب تعظيمها من ضروريات الدين.

ص:80

قوله: (ألا ترى أن الكعبة أفضل من المسجد) فكما أن الكعبة أفضل من المسجد لخصوصية معتبرة في الكعبة غير معتبرة في المجسد حتى اختلف بها حكمهما، كذلك الإيمان أفضل من الإسلام لخصوصية معتبرة في الإيمان غير معتبرة في الإسلام فلذلك اختلف حكمهما.

قوله: (وإن الكعبة تشرك المسجد والمسجد لا يشرك الكعبة) فإن مفهوم المسجد متحقق في الكعبة ومفهوم الكعبة غير متحقق في المسجد فالكعبة مسجد والمسجد ليس بداخل في الكعبة والداخل في الكعبة داخل في المسجد والداخل في المسجد ليس بداخل في الكعبة وهكذا حال ما نحن فيه أعنى الإسلام والإيمان. وبالجملة التناسب بين الممثل والممثل له ظاهر لا سترة فيه فلذلك جاء (عليه السلام) بهذا التمثيل من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح والتقرير.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «الإيمان ما استقر في القلب وأفضى به إلى الله عز وجل وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قوله أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك من الكفر واضيفوا إلى الإيمان، والإسلام لا يشرك الإيمان والإيمان يشرك الإسلام وهما في القول والفعل يجتمعان، كما صارت الكعبة في المسجد والمسجد في الكعبة وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان وقد قال الله عز وجل: (قالت الأعراب آمنا قل تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) فقول الله عز وجل أصدق القول، قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجري واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله عز وجل، قلت:

أليس الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن؟ قال: أليس قد قال الله عزوجل: (يضاعفه له أضعافا كثيرة) فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل لهم حسناتهم لكل حسنة سبعون ضعفا، فهذا فضل المؤمن ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير، قلت: أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلا في الإيمان؟

ص:81

فقال: لا ولكنه قدا ضيف إلى الإيمان وخرج من الكفر وسأصبر لك مثلا تعقل به فضل الإيمان على الإسلام، أرأيت لو بصر رجلا في المسجد أكنت تشهد أنك رأيته الكعبة؟ قلت: لا تجوز لي ذلك، قال: فلو بصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: وكيف ذلك؟ قال: إنه لا يصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد، فقال: قد أصبت وأحسنت، ثم: كذلك الإيمان والاسلام.

* الشرح

قوله: (وأفضى به إلى الله عز وجل) أشار به إلى أن المراد بما استقر في القلب مجموع التصديق بالتوحيد والرسالة والولاية لأن هذا المجموع هو المفضى إلى الله عز وجل لاكل واحد ولا كل اثنين منها، وقوله «وصدقه العمل» مشعر بأن العمل خارج عن الإيمان ودليل عليه لأن الإيمان وهو التصديق أمر قلبي يعلم بدليل خارجي مع ما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان بلا عمل ليس بالإيمان.

قوله: (والإسلام ما ظهر من قول أو فعل) أي قول بشهادتين أو فعل بالطاعات مثل قول بالشهادتين أو فلع بالطاعات مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها فيدل على أن الإسلام يطلق على مجرد الطاعات من الاقرار بالشهادتين والتصديق بهما.

قوله: (فخرجوا بذلك من الكفر واضيفوا إلى الإيمان) ولم يكونوا من أخل الإيمان فما هم من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا يجري عليهم شيء من أحكامهما إن كان يجري أحكامها على أهل الإيمان.

قوله: (وهما في القول والفعل يجتمعان) أي الإسلام والإيمان يجتمعان في القول بالشهادتين والفعل بالطاعات إلا أنهما داخلان في حقيقة الإسلام خارجان عن حقيقة الإيمان على ما هو الحق عند جماعة من المتكلمين ولعل المقصود التنبيه على تساويهما في طلب الفضائل والأحكام والحدود كما سيصرح به.

قوله: (فقول الله عز وجل أصدق القول) فهو يبطل قول كل من قال بأن الإسلام يرادف الإيمان، ومن زعم أن الاعراب لم يسلموا ومن زعم أنهم آمنوا.

قوله: (قلت فهل للمؤمن فضل على المسلم) كان قصده هل للمؤمن اختصاص بشيء من الفضائل النفسية والأحكام الشرعية وحدودها لا يكون المسلم مكلفا به فأجاب «ع» بأنهما متساويان في ذلك ولا يكون للمؤمن على المسلم فضل في شيء منه وإنما الفضل للمؤمن في العمل والثواب وما يتقرب به إلى الله تعالى من الطاعة والانقياد لأن الفضل مشروط بالإيمان وهو مفقود في المسلم.

ص:82

قوله: (قلت: أليس الله عز وجل يقول: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها؟» لما حكم (عليه السلام) بأن للمؤمن فضلا على المسلم في الأعمال سأله حمران على سبيل التقرير أو الاستفهام بأنك زعمت أن المؤمن والمسلم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الطاعات ومكلفون جميعا بها وقال الله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) والموصول للعموم فهذه الآية مع ما زعمت تقتضى أن يكون المؤمن والمسلم متساويين في الفضل فكيف يكون للمؤمن فضل على المسلم في الأعمال، فأجاب «ع» بأنه أليس قد قال الله تعالى (من ذا الذي يقرض الله فرضا حسنا فيضاعفه أضعافا كثيرة؟!» وهذا الجواب على فهمنا الفاتر يحتمل وجهين:

الأول أن القرض الحسن هو العبادة الواقعة على كما لها وشرائطها وشرائط قبولها ومن جملة شرائطها هو الإيمان فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عز وجل لهم حسناتهم لا غيرهم فيعطيهم لكل حسنة عشرة وربما يعطيهم لكل حسنة سبعين ضعفا فهذا فضل المؤمن على المسلم ويزيده الله في حسناته على قدر صحة إيمانه وحسب كماله أضعافا كثيرة حتى أنه يعطيهم بواحدة سبعمائة أو أزيد ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير الذي لا يعمله إلا هو كما قال: (ولدينا مزيد».

والثاني أن تساويهم في فضل واحدة بعشرة على تقدير عموم الموصول لا يقتضي أن لا يكون للمؤمنين فضل على المسلم في الأعمال لأنه تعالى يضاعف له أعماله أضعافا كثيرة فيعطيه لكل حسنة سبعين ضعفا فهذا فضل المؤمن على المسلم إلى آخر ما ذكر ولعل الأول بالمعنى أقرب والثاني بالعبارة أنسب.

لا يقال ما دل من الآيات والروايات على أن أعمال غير المؤمن يكون هباء منثورا ينافي الاحتمال الثاني فكيف التوفيق بينهما؟ لأنا نقول لعل عمل غير المؤمن ينفعه في تخفيف العقوبة ورفع شدتها لا في دخول الجنة إذ دخولها مشروط بالإيمان فهو هباء منثور باعتبار أنه لا يوجب دخول الجنة ونافع له في الجملة باعتبار أنه يوجب تخفيف العقوبة والله يعلم حقيقة كلام وليه.

قوله: (قلت أرأيت من دخل في الإسلام أليس هو داخلا في الإيمان) الإسلام عبارة عن التصديق بالتوحيد والرسالة أو عن الإقرار بالشهادتين أو عن الاتيان بالأعمال الظاهرة أو عن المجموع أو عن الاثنين منها، وجوز السائل أن يكون ذلك نفس الإيمان أو ظن ذلك ولذلك قال على سبيل الاستفهام أو التقرير أليس هو أي الداخل في الإسلام داخلا في الإيمان بأن يكون الإسلام عين الإيمان؟ فقال «ع» لا لأن الإيمان أما التصديق المذكور مع التصديق بالولاية أو هذا مع الإقرار والعمل فالإسلام أما جزء

ص:83

الايمان أو حد من حدوده، ومن البين أن جزء الشيء أو حده غير ذلك الشيء فالداخل في الإسلام غير داخل في الإيمان وليس بمؤمن ولكنه أضيف إلى الإيمان بالدخول في جزئه أو في حد من حدوده وخرج بذلك من منزل الكفر، وبالجملة للناس ثلاثة منازل الأول الكفر، والثاني الإسلام، والثالث الإيمان وهذا قد خرج من منزل الكفر ودخل في منزل الإسلام ولم يدخل في منزل الإيمان بعد، وأنت خبير بأن هذا السؤال لا يتوجه بعد العلم بما سبق اللهم إلا أن يقال أن السائل لم يعلمه كما هو حقه لكونه أمرا معقولا دقيقا والمعاني الدقيقة قد لا يعرفها المخاطب حق المعرفة إلا بالتكرار والتنبيه بمثال محسوس فلذلك أورد «ع» في الجواب مثالا محسوسا لقصد التفهيم والايضاح فليتأمل.

قوله: (قلت لا يجوز لي ذلك) لأن المسجد ليس بكعبة لا يقال هذا لا يمائل ما نحن فيه لأن المسجد ليس كعبة ولا جزءا منها فلا يكون الداخل فيه داخلا فيها بخلاف ما نحن فيه فإن الإسلام جزء من الإيمان والداخل في الجزء داخل في الكل لأنا نقول قصد السائل أن الداخل في الإسلام هل هو مؤمن أم لا كما أشرنا إليه فليتأمل.

قوله: (فلو بصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد الحرام قلت نعم) هذا لا يدل على أن الكعبة جزء المسجد بل يشعر بخلافه حيث قال: أكنت شاهدا أنه قد دخل المسجد ولم يقل أكنت شاهدا أنه في المسجد.

قوله: (لا يصل إلى دخول الكعبة) افحم لفظ الدخول لأن الوصول إلى الكعبة لا يستلزم الدخول فيها وهو المقصود هنا.

باب أن الإسلام قبل الإيمان

ص:84

باب آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن حماد بن عثمان، عن عبد الرحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الإيمان ما هو، فكتب إلي مع عبد الملك به أعين سألت رحمك الله عن الإيمان والإيمان هو الاقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان والإيمان بعضه من بعض وهو دار وكذلك الإسلام دار والكفر دار فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان فإذا أتى العبد كثيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عز وجل عنها كان خارجا من الإيمان، ساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال أن يقول للحلال: هذا حرام وللحرام: هذا حلال ودان بذلك فعندها يكون خارجا من الإسلام والإيمان، داخلا في الكفر وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار.

* الشرح

قوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان) هذا تفسير الإيمان الكامل الذي يكون المؤمنين المتقين المتورعين المخلصين وهو مركب من هذه الامور أعنى الاقرار بالشهادتين والتصديق بالتوحيد والرسالة والولاية والإمامة، والعمل بالأركان الظاهرة مثل السمع والبصر واللسان واليد والرجل باستعمال كل واحد منها فيما خلق لأجله وقد شاع اطلاق الإيمان عليه عند أرباب العصمة (عليهم السلام) فكان غيره أعنى العقد في القلب وإن كان أيمانا في نفس الأمر لضعفه وقلة أثره ليس بإيمان كما يرشد إليه الحصر في قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون» وعلى هذا لا منافاة بينه وبين ما دل من الأخبار على أن الإيمان عقد القلب.

قوله: (والإيمان بعضه من بعض) إذ منازل الكمال متفاوتة والأدنى منها معد لحصول الأعلى وبذلك يبلغ الانسان غاية الكمال ويملك الحقيقة الانسانية، وعلى هذا فالمراد أن ببعض أفراد هذا الإيمان من

ص:85

بعض، فإن الأدنى منه بعد لحصول الأعلى وهكذا إلى أن يحصل فرد هو أعلى مراتب الإيمان المطلوب من الإنسان. أو المراد بعض أجزائه من بعض فإن أصل التصديق يقتضى العمل والعمل يقتضي حصول تصديق آخر هو أكمل وأفضل وهذا التصديق يقتضي حصول عمل هو أكمل من الأول وهكذا يتبادلان إلى أن يبلغ كل من الظاهر والباطن إلى غاية كمال الإنسان وتحصل نهاية مراتب الإيمان.

قوله: (وهو دار وكذلك الإسلام دار والكفر دار) الداخل في الأولى من اتصف بالإيمان ولوازمه، وفي الثانية من اتصف بالاسلام وآثاره، وفي الثانية من اتصف بالكفر وخواصه ولا يكون أحدهم داخلا في دار الآخرة إلا المؤمن فإنه داخل في دار الإسلام أيضا لأن له أيضا صفة الإسلام وآثاره كما أشار إليه بقوله ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، وأما المسلم فقد لا يكون مؤمنا وسر ذلك أن الإقرار بالتوحيد والرسالة مقدم على الإقرار بالولاية والعمل والمؤمن والمسلم بسبب الأول يخرجان من دار الكفر ويدخلان في دار الإسلام ثم المسلم بسبب الاكتفاء به يستقر في هذه الدار، والمؤمن بسبب الثاني يترقى وينزل في دار الإيمان، ومنه لاح أن الإسلام قبل الإيمان وأنه يشارك الإيمان فيما هو سبب للخروج من دار الفكر لا فيما هو سبب للدخول في دار الإيمان.

وبهذا التقرير يندفع المنافاة بين قوله «ع» ههنا «وهو يشارك الإيمان» وقوله سابقا «والإسلام لا يشارك الإيمان» فليتأمل.

قوله: (فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي - ألخ) لما كان العمل معتبرا في حقيقة الإيمان الكامل كان الإتيان بالمعصية مطلقا موجبا لسقوط اسم هذا الإيمان عنه وهبوطه من دار إلى دار الإسلام وثبوت اسم الإسلام عليه ويستمر هذا إلى أن يتوب ويستغفر فإن تاب استغفر عاد إلى دار الإيمان لزوال المانع وهو المعصية بالتوبة والاستغفار ولا يخرجه من دار الإيمان إلى دار الكفر إلا الجحود للصانع والرسول وتحليل ما هو حرام وتحريم ما هو حلال من ضروريات الدين أو بعد العلم بحله وحرمته أو مطلقا وجمله دينا ولم تبعه فعند ذلك يكون خارجا من دار الإيمان والإسلام داخلا في دار الكفر وكان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة وأحدث معاندا فيها حدثا فأخرج عن الكعبة وعن الحرم فضرب عنقه وصار إلى النار، وهذا التمثيل يدل على أن المرتد يقتل وأن القتل لا يدفع عنه العقوبة الاخروية واستثنى منه الملي والمرأة لقبول توبتهما فيرجعان بعدها إلى الإيمان.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران قال: سألته عن الإيمان والإسلام قلت له: أفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال فاضرب لك مثله، قال: قلت: أورد ذلك، قال: مثل الإيمان والإسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون

ص:86

في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم، وقد يكون مسلما ولا يكون مؤمنا ولا يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، قال: قلت: فيخرج من الإيمان شيء؟ قال: نعم: قلت فيصيره إلى ماذا؟ قال إلى الإسلام أو الكفر. وقال: لو أن رجلا دخل الكعبة فأفلت منه بوله اخرج من الكعبة ولم يخرج من الحرم فغسل ثوبه وتطهر ثم لم يمنع أن يدخل الكعبة ولو أن رجلا دخل الكعبة فبال فيها معائدا اخرج من الكعبة ومن الحرم وضربت عنقه.

* الشرح

قوله: (لو أن رجلا دخل الكعبة فافلت منه يوله - ألخ) يفهم من هذا التمثيل أن المؤمن إذا صدر منه ذنب لا يوجب كفره خرج من الإيمان ودخل في الإسلام ثم إذا تاب دخل في الإيمان، وإذا صدر منه ذنب يوجب كفره خرج من الإيمان والإسلام ودخل في الكفر واستحق القتل إلا من استثنى.

(باب)

* الأصل

1 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرزاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمد بن سالم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن ناسا تكلموا في هذا القرآن بغير علم وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله... الآية) فالمنسوخات من المتشابهات، والمحكمات من الناسخات، إن الله عز وجل بعث نوحا إلى قومه (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) ثم دعاهم إلى الله وحده وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم بعث الأنبياء (عليهم السلام) على ذلك إلى أن بلغوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاهم إلى أن يبعدوا الله ولا يشركوا به شيئا وقال: (شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه.

الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء [به] من عند الله فمن آمن مخلصا ومات علي ذلك أدخله الجنة بذلك وذلك أن الله بظلام للعبيد وذلك أن الله لم يكن يعذب عبدا حتى يغلظ عليه في القتل والمعاصي التي أوجب الله عليه بها النار لمن عمل بها، فلما استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكل نبي منهم شرعة ومنهاجا

ص:87

والشيعة والمنهاج سبيل والسنة وقال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده).

وأمر كل نبي بالأخذ بالسبيل والسنة والسبيل التي أمر الله عز وجل بها موسى (عليه السلام) أن جعل الله عليهم السب وكان من أعظم السبت ولم يستحل أن يفعل ذلك من خشية الله، أدخله الله الجنة، ومن استخف بحقه واستحل ما حرم الله عليه من عمل الذي نهاه الله عنه فيه، أدخله الله عز وجل النار، وذلك حيث استحلوا الحيتان واحتبسوها وأكلوها يوم السبت، غضب الله عليهم من غير أن يكونوا أشركوا بالرحمن ولا شكوا في شيء مما جاء به موسى (عليه السلام)، قال الله عز وجل: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاشئين) ثم بعث الله عيسى (عليه السلام) بشهادة أو لا إله إلا الله والإقرار بما جاء به من عند الله وجعل لهم شرعة ومنهاجا فهدمت السب الذي أمروا به أن يعظموه قبل ذلك وعامة ما كانوا عليه من السبيل والسنة التي جاء بها موسى فمن لم يتبع سبيل عيسى أدخله الله النار وإن كان الذي جاء به النبيون جميعا أن لا يشركوا بالله شيئا، ثم بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله إلا أدخله الله الجنة باقراره وهو إيمان التصديق ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك إلا من أشرك بالرحمن.

وتصديق ذلك أن الله عزوجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا - إلى قوله: تعالى - إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) أدب وعظة وتعليم ونهي خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء ما نهي عنه، وأنزل نهيا عن أشياء حذر عليها ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها وقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا. ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا. وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا. ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا. ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. كل ذلك كان سيئة عن ربك مكروها. ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها

ص:88

آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) وأنزل في (والليل إذا يغشى): (فأنذرتكم نارا تلظي. لا يصليها إلا الأشقى الذي كذب وتولي) فهذا مشرك وأنزل في (إذا السماء انشقت): (وأما من اوتى كتابه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يجوز بلي» فهذا مشرك. وأنزل في [ سورة] تبارك: «كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير. قالوا بلي قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) فهؤلاء مشركون. وأنزل في الواقعة: (وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم. وتصلية جحيم) فهؤلاء مشركون. وأنزل في الحاقة. (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه - إلى قوله: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) فهذا مشرك. وأنزل في طسم: (وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم: أينما كنتم تعبدون. من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون. فكبكبوا فيها هم والغاون. وجنوا إبليس أجمعون) جنوا إبليس ذريته من الشياطين.

وقوله: (ومات أضلنا إلا المجرمون) يعني المشركين الذين اقتدوا بهم هؤلاء فاتبعوهم على شركهم وهم قوم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس فيهم اليهود والنصارى أحد وتصديق ذلك قول الله عز وجل:

(كذبت قبلهم قوم نوح) (كذب أصحاب الأيكة) (كذبت قوم لوط) ليس فيهم اليهود الذين قالوا: عزيز ابن الله ولا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، سيدخل الله اليهود والنصاري النار ويدخل كل قوم بأعمالهم، وقولهم: (وما أضلنا إلا المجرمون) إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عز وجل فيهم حين جمعهم إلى النار (قالت أوليهم لأخريهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار) وقوله: (كلما دخلت امة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا) بريء بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضا، يريد بعضهم أن يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة والآيات وأشباههن مما نزل به بمكة ولا يدخل النار إلا مشركا، فلما أذن الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس:

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها وأنزل في بيان القاتل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) ولا يلعن الله مؤمنا قال الله عز وجل: (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا. خالدين فيها أبدا لا يجدون وليتأول نصيرا) وكيف يكون في المشيئة وقد ألحق به - حين جزاه جهنم - الغضب واللعنة وقد بين

ص:89

ذلك من الملعونون في كتابه وأنزل في مال اليتيم من أكله ظلما: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) وذلك أن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل ما اليتيم، وأنزل في الكيل: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) وأنزل في العهد (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) والخلاق: النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة، وأنزل بالمدينة (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال: لا يزني الزاني حين يزني هو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فانه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص، ونزل بالمدينة (الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) فبرأه الله ما كان مقيما على القرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز وجل: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) وجعله الله منافقا، قال الله عزوجل: (إن المنافقين هم الفاسقون) وجعله عز وجل من أولياء إبليس، قال:

(إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) وجعله ملعونا فقال: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلان المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيدهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون) وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب، فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل: (فأما من أوتي كتابه بيمينه.

فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا) وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا علين أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) والسبيل الذي قال الله عز وجل (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون. الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).

* الشرح

قوله: (باب - علي بن محمد عن بعض أصحابه - ألخ) في السند مع الإرسال جهالة،

ص:90

والغرض من هذا الباب أن الإيمان قبل الهجرة لضعف الدين وقلة ناصره كان مجرد التصديق بالتوحيد والرسالة ثم صار بعدها لقوته وكثرة ناصره وشيوع الأحكام فيه وصدور الوعيد عليها هذا مع التصديق بالولاية والعمل وأن الكفر يتحقق بانتفاء واحد منها وأن المؤمن لا يعذب أصلا وأن الإيمان في الشرائع السابقة كان أيضا كذلك وأن كثيرا من هذه الأمة لزيغ قلوبهم وعدم رجوعهم إلى المرشد بالحق اتبعوا المتشابهات والمنسوخات، ورفضوا المحكمات والناسخات، وزعموا أن الإيمان إنما هو بالمعني الأول وحده ولم يعلموا أنه نسخ وحدة ذلك وضم معه شيء آخر.

قوله: (أن ناسا تكلموا... إلى آخره) التنكير أو للتكثير أولهما وذلك إشارة إلى تكلمهم وما بعده بيان لوقوعه لأن الله تعالى أخبر به وأعلم أنه لا يجوز تأويل متشابهات القرآن والأحاديث عندنا بالرأي بل يجب صرفه إلى الراسخين في العلم وهم أهل الذكر (عليهم السلام) ومن يتعرض له من أصحابنا فإنما يتعرض لوجوهه على سبيل الاحتمال من غير جزم بأحدها إلا أن يدل عليه دليل آخر.

قوله: (هن أم الكتاب - الخ) قيل أم الكتاب أصله الذي يرجع إليه عند الإشكال أي هن أصول ما أشكل من الكتاب فيرد ما أشكل منه إلى ما اتضح منه، وقيل غير ذلك، والزيغ الميل عن الحق إلى غيره والفتنة الضلال أو الشك والتأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى خلافه والمتبعون للمتشابه لابتغاء الفتنة منهم من يتبعه للقدح في القرآن والتشكيك فيه واضلال العوام كالزنادقة والقرامطة وغيرهم منهم من بتبعه ويعتقد بظاهره كالمجسمة والمصورة ومنهم من يتبعه ويحمله على خلاف ظاهره برأيه كأهل السنة، وأما الفرقة الناجية فيرجعون في تأويله إلى الله وإلى الراسخين في العلم، وقد جرت الحكمة البالغة على أن يمتحن الله عز وجل عباده في هذه النشأة بأنحاء شتى ومما امتحنهم به انزال المتشابهات والله ولى التوفيق.

قوله: (فالمنسوخات من المتشابهات والمحكمات من الناسخات) النسخ في اللغة الإزالة والإبطال وفي العرف إزالة حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، والمتقدم منسوخ والمتأخر ناسخ، والمحكم في اللغة المتقن وفي العرف يطلق على ماله معنى لا يحتمل غيره وعلى ما اتضحت دلالته، وعلى ما كان محفوظا من النسخ أو التخصيص أو منهما جميعا، وعلى ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه يقابله بكل واحد من هذه المعاني إذا عرف هذا فنقول الظاهر أن الفاء للتفسير لزيادة تفظيع حالهم بأنهم يتبعون المنسوخات والمتشابهات دون المحكمات والناسخات لأن المنسوخات من باب المتشابهات في التشابه إذ يشتبه عليهم ثباتها وبقاؤها، والمحكمات من قبيل الناسخات في الثبات والبقاء فإذا اتبعوا المتشابهات اتبعوا المنسوخات لأنهما من باب واحد وإذا اتبعوا المنسوخات لم يتبعوا

ص:91

الناسخات وإذا لم يتبعوا الناسخات لم يتبعوا المحكمات لأنهما أيضا من باب واحد ولذلك قالوا الإيمان هو مجرد التصديق بالله ورسوله ولم يعلموا أنه كان كذلك قبل الهجرة ثم نسخ بعدها وأضيف إليه الولاية والعمل، ويحتمل أن يكون للتفريع لأنه يفهم من الآية اتباعهم المنسوخات لكونها من باب المتشابهات وعدم اتباعهم المحكمات لكونها من باب الناسخات التي يتبعوها وعلى هذا لا قلب في قوله (عليه السلام): والمحكمات من الناسخات كما زعمه بعض نظرا إليه، وقال كون المنسوخات من أفراد المتشابهات وأخص منها وله وجه، وأما كون المحكمات من أفراد الناسخات وأخص منها فلا وجه له بل الأمر بالعكس ففيه قلب فليتأمل.

قوله: (إن الله عز وجل بعث نوحا) كان المراد هنا أمر أن الأول يعلم ضمنا وهو أن الله عز وجل بعث الأنبياء وقرر الإيمان والشرائع وأوجب على عباده الرجوع إليهم وعدم التقول في الدين بآرائهم، والثاني أن الإيمان في بداية بعثة كل رسول الله كان مجرد التصديق بالتوحيد والرسالة ومن مات عليه كان مؤمنا وجبت له الجنة ثم صار بعد وضع الأحكام والوعيد على مخالفتها وتكثر الأمم واستجابتهم هذا مع العمل حتى من ترك تلك الأحكام خرج من الإيمان واستحق الدخول في النار. وفيه رد على من زعم أن الإيمان إنما هو التصديق المذكور والله أعلم.

قوله: (فمن آمن مخلصا) أي من آمن بالله ونفي الشريك عنه وآمن برسوله وبما جاء به الرسول مخلصا معتقدا غير مشوب بالشك ومات عليه أدخله الله الجنة بذلك ولا يعاقبه بترك الأعمال ولا ينافي ذلك وجوبها لأن الواجب مما يستحق تاركه ذما لا ما يعاقب تاركه واستحقاق الذم لا يوجب العقوبة بل لا يوجب الذم أيضا.

قوله: (وذلك أن الله ليس بظلام للعبيد) الظاهر أن ذلك إشارة إلى إدخاله في الجنة بمجرد تلك الشهادة والإقرار وإن لم يعمل، بيان ذلك أنه مؤمن وعدم إدخال المؤمن فيها ظلم لاستحقاقه إياها والله ليس بظلام للعبيد بمنعهم عن حقوقهم، وفيه مبالغة في نفي الظلم لا نفي مبالغة في الظلم على أنه لو أريد هذا لا مكن أن يقال فيه نفي للظلم بالكلية لأن كان صفة له تعالى على وجه الكمال فلو كان له ظلم كان ظلمه على وجه الكمال فإذا نفي عنه الظلم على هذا الوجه فقد نفي عنه ظلم رأسا.

قوله: (وذلك أن الله لم يكن يعذب) لعله إشارة إلى عدم تعذيبه بترك العمل حينئذ لكونه مذكورا التزاما لأن ادخاله الجنة بمجرد ذلك التصديق يستلزم عدم التعذيب بترك العمل. بيان ذلك أن الله تعالى لم يكن يعذب العبد بالمعاصي حتى يغلظ عليه فيها ويوجب لمن عمل بها النار ولما لم يغلظ عليه فيها ولم يوعده بالنار بها في ذلك الزمان لا يعذبه بها.

ص:92

قوله: (فلما استجاب لكل نبي من استجاب) لعل المراد أن الإيمان بعد استجابة الأمة وكثرتهم ووضع الشرائع من الأوامر والنواهي والحدود والتغليظ علهيم بالمعاصي وعيدهم بالنار بفعلها صار عبارة عن ذلك التصديق والعمل حتى من ترك واحدا منهما كان كافرا يعذب بالنار. والشرعة والمنهاج متقاربان لأن الشرعة طريق الدين والمنهاج الطريق المستقيم والمراد بهما الأحكام والفرائض والحدود وغيرها من التكاليف التي وقع التغليظ بها والوعيد فيها.

قوله: (ومن استخف بحقه واستحل ما حرم الله عليه) دل على أن مخالفة الأحكام كفر يوجب الدخول في النار مع الاستحلال والظاهر أنه لا خلاف فيه بين الأمة وما ذلك إلا لأن الإقرار بها والعمل بها داخلان في الإيمان، وإذا كان كذلك كان تاركها وإن لم يستحل كافرا يعذب بالنار أيضا كما يدل عليه سياق العبارات الآتية.

قوله: (حيث استحلوا الحيتان) أي استحلوا صيدها أو أكلها ويوم السب ظرف لاحتبسوها لا لاكلوها، أي احتبسوها يوم السبت في مضيق بسد الطريق عليها ثم اصطادوها يوم الأحد وأكلوها، فعلوا ذلك حيلة وتحرزا من اصطيادها في يوم السبت ولم تنفعهم تلك الحيلة لأن احتباسها فيه هتك لحركته فخرجوا بذلك من الإيمان إلى الكفر ولذلك غضب الله عليهم من غير أن يشركوا بالرحمن وأن يشكوا في رسالة موسى وما جاء به، وكذلك يصطادوا يوم السب الغضب عليهم ودخولهم في النار ليس إلا تركهم حرمة السبت واحتباس الحيتان فيه فعلم إن الإيمان ليس مجرد التصديق بل هو مع العمل لأن المؤمن لا يغضب ولا يدخل النار وفيهن شيء لأن استحلالهم الحيتان ينافي ظاهرا عدم شكهم بما جاء به موسى، ويمكن دفعه بأن ما جاء به موسى تحريم الحيتان يوم السبت وهم استحلوها يوم الأحد ولحق بهم ما لحق بسبب احتباسهم يوم السب والله أعلم.

قوله: (وقال الله ولقد علمتهم) استشهاد لقوله غضب الله عليهم أو له ولما قبله.

قوله: (وإن كان الذي جاء به النبيون) جميعا أن لا يشرك بالله شيئا الموصول اسم كان وأن لا يشرك خبره أو المجموع اسمه وخبره محذوف أي وإن كان معه ما جاء به النبيون وهو عدم الشرك فعلى الأول يفيد عدم ورود النسخ عليه وعلى الثاني يفيد أن من لم يتبع يدخل النار وإن كان معه عدم الشرك بالله.

قوله: (يشهد أن لا إله إلا الله) لعل المراد به التصديق بالتوحيد والرسالة أو مع الإقرار باللسان لا مجرد الإقرار به بقرينة قوله «وهو إيمان التصديق» والمراد بالإسلام حينئذ هو الإقرار ويؤيده ما مر من أن الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل لما ذكرنا أن العمل عبارة من التصديق.

قوله: (وهو إيمان التصديق) الإيمان على نوعين أحدهما هذا والآخر إيمان التصديق والعمل،

ص:93

والثاني درجاته متفاوتة جدا وكذا الأول لأن له تفاوتا معنويا بالقوة والضعف أما بالذات أو باعتبار الإعمال الخارجة عنه ثم التعذيب قبل الهجرة بترك الأول فقط وبعدها بترك الأول والثاني.

قوله: (إلا من أشرك بالرحمن) أي من نفي التوحيد أو الرسالة بقرية السياق.

قوله: (ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل) ذلك إشارة إلى مفهوم الحصر ومنطوقة أعنى عدم التعذيب بغير الشرك والتعذيب به في مكة قبل الهجرة، وقوله (وقضى ربك - إلى قوله - ولا تجعل مع الله إلها آخر» بيان للأول وتصديق له حديث أنه عز وجل أنزل آيات فيها وذكر أحكاما ولم يغلط فيها ولم يوعد عليها فلا يعاقب بها لأنه لا يعاقب قبل التغليظ والتشديد والوعيد، وقوله (ولا تجعل - إلى قوله - حتى إذا اداركوا فيها جميعا» بيان للثاني وتصديق له لأنه صريح في أنه يعذب بالشرك وأوعد عليه.

قوله: (ولا تقف - الخ) دل على تحريم القول والعمل والافتاء ونحوها بما لم يعلم، قول ابن عباس لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم، وقال بعض العلماء المراد بسؤال الجوارح اما سؤال نفسها أو سؤال أصحابها كما يظهر من أولئك أو جعلت بمنزلة ذوي العقول أوهم ذو والعقول مع الله تعالى وهو أظهر كما في كثير من الآيات والروايات.

قوله: (ولا تمش في الأرض مرحا) أي لا تمش في الأرض أشرا وبطرا واختيالا إنك لا لن تخرق الأرض بتثاقلك وكبرك في المشي أو بضرب قدميك عليها لتعرف قدرتك وقوتك ولن تبلغ الجبال طولا بتطاولك ومد عنقك فما وجه تفاخرك وعدم تواضعك كل ذلك المذكور من النواهي كان سيئه ومعصيته عند ربك مكروها يريد تركه ولا يرضاه وبين سبحانه أن العبد ضعيف وعمله التواضع والتودد والوقار.

قوله: (ولا تجمل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) أي مطرودا عن طريق جنته مبعدا عن نيل رحمته مدفوعا عن إحسانه ورأفته وهذا شروع في ذكر آيات نزلت في مكة دالة على الوعيد بالشرك والتعذيب به.

قوله: (فهذا مشرك) أي هذا المذكور وهو الأشقي والملقي في جهنم مشرك لا غيره ممن صدق بالتوحيد والرسالة وترك العمل في مكة لأنه مؤمن بإيمان التصديق الذي كان هو الإيمان في مكة والمؤمن لا يلقي في جهنم ولا يصلي نارا.

قوله: (جنود إبليس ذريته من الشياطين) دون من اتبعه من الغاوين لأن التأسيس خير من التأكيد.

قوله: (وقوله «وما أضلنا إلا المجرمون» يعني المشركين) حكاية عن أهل جهنم قالوا وهم فيما يختصمون: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون» وقوله: مبتدء

ص:94

ويعني خبره والجملة عطف على جملة جنود إبليس وذريته وأريد بالمجرمين المشركون الذين اقتدى بهم هؤلاء القائلون، وقوله «وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» إشارة إلى أن التابع والمتبوع كليهما من أمته لدفع ما عسى أن يقال من أن الآية في بيان اليهود والنصاري ووصف مشركيهم القائلين بأن عزير ابن الله والمسيح ابن الله ووصف تابعيهم لا في بيان حال المشركين من قوم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة.

قوله: (وتصديق ذلك قول الله عز وجل (كذبت قبلهم قوم نوح» (كذب أصحاب الأيكة» ( كذبت قوم لوط») ذلك إشارة إلى «قوله هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأيكة غيضة بقرب مدين سكنتها طائفة فبعث الله إليهم شعيبا كما بعثه إلى مدين، ووجه التصديق أن الآية تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن قومه إن كذبوه فهو غير منفرد في التكذيب، فإن هؤلاء الرسل قد كذبهم قومهم قبل قومه. وفيه دلالة واضحة على أن المجرمين هم المشركون المكذبون من قومه دون اليهود والنصارى.

قوله: (ليس فيهم اليهود) تأكيد لقوله ليس فيهم من اليهود والنصارى أحد أو الأول نفي للتشريك وهذا نفي للاختصاص.

قوله: (سيدخل الله اليهود) أشار به إلى أنه لا يلزم من اختصاص الآية المذكورة بمشركي قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يدخل اليهود والنصارى النار إذ عدم فهم دخولهم فيها من هذه الآية لا يوجب عدم دخولهم فيها لأنهم أيضا يدخلون فيها بأدلة اخرى كما يدخل فيها كل قوم بأعمالهم.

قوله: (وقولهم (وما أضلنا إلا المجرمون» إذ دعونا إلى سبيلهم» أشاروا بذلك إلى سبب الاضلال وهو أن المجرمين دعونا إلى سبيلهم وهو الشرك فاستجبنا لهم واتبعناهم ولما كان قولهم هذا يدل صريحا وضمنا على نسبة الاضلال إليهم والمخاصمة بينهم وبراءة بعضهم من بعض والاعتذار من ضلالتهم أشار إلى أنه أخبر بجميع ذلك قول الله عز وجل فيهم إلى آخر ما ذكر.

واداركوا أصله تداركوا فادغم، ومعناه تلاحقوا أي لحق آخرهم أو لهم.

قوله: (فلما أذن الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج) لما فرغ مما دل على أن الله تعالى لا يعذب قبل الهجرة إلا بالشرك وهو إنكار التوحيد والرسالة شرع فيما دل على أنه يعذب بعدها بالشرك وبترك الطاعات وفعل المنهيات وهو مع انضمام أن المؤمن لا يعذب دل على أن العمل معتبر في تحقق الإيمان بعدها.

وبالجملة المفهوم من أحاديث هذا الباب أن المؤمن لا يعذب وأن الإيمان قبل الهجرة مجرد التصديق وبعدها التصديق مع العمل وبناء الإسلام بعدها على خمس دل على أن من ترك منها شيئا خرج من الإسلام ودخل في الكفر وإنما قال بني الإسلام ولم يقل بني الإيمان لئلا يتوهم أن التارك داخل في الإسلام ثم إن سمى كل واحد من هذه الخمسة ايمانا أيضا كما سمى المجموع على ما يظهر من الباب

ص:95

الآتي كان مصداق الإيمان قبل الهجرة أقل من مصداقه بعدها وإلا فهو أكثر.

قوله: (ولا يعلن الله مؤمنا) وكذا يغضب عليه ولعل المراد أن قاتل المؤمن معتمدا كافر خارج من الإيمان والظاهر أن قوله «قال الله عز وجل» استشهاد لعدم لعن المؤمن، وفي دلالته عليه خفاء لأن تعلق اللعن بالكافرين لا يدل على عدم تعلقه بغيرهم إلا أن يقال تخصيصهم بالذكر يدل على ذلك أو يقال المقصود من الآية بيان الملعونين وتعيينهم وتمييزهم عن غيرهم ويرشد إليه قوله (عليه السلام) قد بين ذلك من الملعونين في كتابه فإذا لم يذكر غير الكافرين علم أن اللعن لا يتعلق بالمؤمنين.

قوله: (وكيف يكون في المشية) كيف للإنكار ردا على من زعم أن القاتل في مشية الله تعالى إن شاء عذبه وأخزاه، وإن شاء رحمه ونجاه! أي كيف يكون هو في المشيئة وقد ألحقه بالكافر في دخوله في النار أبدا وصرح بالغضب واللعن عليه.

قوله: (قد بين ذلك من الملعونون في كتابه) ذلك إشارة إلى قوله تعالى، وفاعل لبين و «من» مفعوله إذا كان ذلك بيانا للملعونين علم أنهم هم الكافرون فلا يكون المؤمن ملعونا.

قوله: (وذلك أن آكل مال اليتيم معروف وقد يطلق على آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على شيعتهم أيضا كما دل عليه بعض الروايات ولا يبعد التعميم هنا.

قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) نهى الزاني عن نكاح المؤمنة نهى تحريم أو تنزيه لعدم التناسب بينهما في الإيمان ورخص له نكاح الزانية والمشركة لتحقق التناسب بينهما في الكفر، ولعل الغرض من النهى والترخيص هو الاشعار بخسة الزناء، وإهانة أهله والزجر عنه لأنه الذي بعده عن الإيمان وقربه إلى الكفر ولاستنكاف طبع المسلم أن تكون زوجته زانية أو مشركة ويحثه ذلك على ترك الزناء وقس على هذا نظيره.

قوله: (فلم يسلم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة) وجه التفريع أنه قارون الزاني بالمشرك وأخرجه عن حكم المؤمن وقارن الزانية بالمشركة وأخرجها عن حكم المؤمنة أو أنه لما منع بمفهوم الحصر الأول أن ينكح الزاني مؤمنة لانتفاء الكفؤ وهو الإيمان وجوز بمنطوق الثاني أن ينحكم الزاني والمشرك لتحقق الكفؤ وهو الكفر علم أن الزاني والزانية ليسا بمؤمنين أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى «وحرم ذلك» أي النكاح المذكور على المؤمنين والتحريم يحتمل الوجهين.

قوله: (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس يمترى) أي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن لا يشك أهل العلم من هذه الأمة أن هذا قوله وفي هذا الحديث وأمثاله دلالة على أن الزاني حين الزناء والسارق حين السرقة ليسا مؤمنين قطعا حتى لو ماتا في تلك الحالة كانا مخلدين في النار كسائر الكفار وهو يشكل بظاهره لما في الرويات الكثيرة من أن تارك العمل وفعل المعصية فاسق تلحقه الشافعة فلابد من تأويله وأقرب التأويلات أنه ليس بكامل الإيمان وأنه يخلع عنه الإيمان الكامل كخلع القميص فيكون من باب نفي الشيء بنفي صفته نحو لاعلم إلا ما نفع، وقيل أنه ليس بمؤمن إذا كان

ص:96

مستحلا وهذا ليس مختصا بما ذكر وكأنه للتمثيل، قيل ليس بمؤمن من العقاب وهذا أيضا ليس بمختص، وقيل المقصود نفي المدح أي لا يقال له مؤمن بل يقال: زان أو سارق، وقيل أنه لنفي البصيرة أي ليس ذا بصيرة ونقل عن ابن عباس أنه لنفي النور أي ليس ذا نور، وقيل أنه نهى لاخبر وهو بعيد لأنه لا يساعده اللفظ ولا الرواية وقيل المقصود نفي الاستحضار أي ليس بمستحضر الإيمان، وقيل المقصود نفي العقل أي ليس بعاقل لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة والحكم بالمرجوح بخلاف المعقول، وقيل المقصود نفي الحياء والحياء شعبة من الإيمان أي ليس بمستحى من الله سبحانه، وقيل محصول على التشديد كقوله تعالى (وكفر فإن الله غني من العالمين».

وقيل أنه من المتشابهات هذا جملة القول من العامة والخاصة فليتأمل.

قوله: (الذين يرمون المحصنات - ألخ) رتب على قذف المحصنات ثلاثة امور:

الأول ثمانون جلدة.

الثاني عدم قبول الشهادة مطلقا كما يقتضيه وقوع النكرة في سياق النفي، قال القاضي وقيل في القذف ولا يتوقف على استيفاء الجد خلافا لأبي حنيفة لأن الواو لا يدل على الترتيب ولأن حال القاذف قبل الجلد أسوء مما بعده.

الثالث أنه فاسق خارج عن طاعة الله تعالى ثم الظاهر أن الاستثناء متعلق بالآخيرين، وأما الجلد فهو حق الناس لا يسقط إلا بالاستحلال عن المقذوف والإصلاح المذكور بعد التوبة. قيل:

هو تأكيد وتقرير لها، وقيل هو البقاء عليها، وقيل هو تسليم النفس للحد أو طلب العفو عن المقذوف.

قوله: (فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان) أي فبرأ الله تصديقه بأن يكون الضمير راجعا إليه بقرينة المقام أو أريد بالإيمان المؤمن مجازا أو أهل الإيمان بحذف المضاف وفيه دلالة على أنه إذا تاب عن الفرية وأكذب نفسه عنها عاد إلى الإيمان ويسمى مؤمنا.

قوله: (قال الله عز وجل) بيان لدم تسمية الرامي مؤمنا وحاصله إن الله تعالى سماه في الآية المذكورة فاسقا وجعل الفاسق في قوله: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا» مقابلا للمؤمن فهو غير مؤمن وله وجه آخر وهو أنه تعالى سماه فاسقا وسمى الفاسق كافرا فهو كافر والكافر ليس مؤمنا. أما الأول فلما مر، وأما الثاني فلقوله تعالى: (ومن يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» «ومن يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».

قوله: (قال الله عز وجل إن المنافقين هم الفاسقون) دليل على جعلة منافقا إذ حصر الفاسق في المنافق يدل على أن كل فاسق منافق.

ص:97

قوله: (وليست تشهد الجوارح على مؤمن - ألخ) هذا صريح في أن شهادة الجوارح مختصة بالكافرين كما ذهب إليه بعض المفسرين وماله إليه الشيخ بهاء الملة والدين في الحديث الخامس من الأربعين والظاهر أن شهادتها بطريق النطق والقادر الذي أقدر اللسان على النطق قادر على انطاقها واقدارها عليه ويحتمل أن يكون بلسان الحال فإن كان عضو لما كان مباشرا لفعل من الأفعال كان حضور ذلك العضو وما صدر عنه في علم الله بمنزلة الشهادة القولية بين يديه وهذا الاحتمال بعيد جدا بل يأباه ظاهر الآية.

قوله: (ولا يظلمون فتيلا) الفتيل ما يكون في شق النواة من الخيط وقيل ما يفتل بين الإصبعين من الوصخ وهو كناية عن نفي الظلم مطلقا.

قوله: (وسورة النور أنزلت بعد سورة النساء) الظاهر أنه لم يذكره لبيان السابق إذ لا تعلق له به بل ذكره لبيان الواقع والأشعار بأن سبيلا في آية النساء هو الجلد الذي في آية النور لأن القران بعضه يفسر بعضا والراسخون في العلم يعرفونه بالهام إلهي وتعريف نبوي.

قوله: (واللاتي يأتين الفاحشة - الخ) قيل المراد بالفاحشة الزناء وقيل المساحقة وبالإمساك منعهن عنها أو حبسهن في البيوت فجعلها سجنا عليهن ولعل المضاف إلى الموت محذوف أي ملك الموت والسبيل هو الجلد ولم يذكره استغناء بقوله (الزانية والزاني فاجلدوا».

قوله: (ولا تأخذكم بهما رأفة» قال الفاضل الأردبيلي هي تدل على تحريم ترك الحد أو البعض منه كما أو كيفا رحمة لهما بل مطلق الرحمة بأن يقال مسكين عذبوه، أو حصل له عذاب كثير ونحو ذلك بالجملة الرحمة في دين الله أي طاعته وحكمته بخلاف مقتضاه حرام بل يفهم أنها تسلب الإيمان بالله واليوم الآخر يعني أن المؤمن بهما لا يفعل ذلك، وفي حضور طائفة عند إقامة الحد زيادة في التنكيل فإن التفضيح ينكل أكثر ما ينكل التعذيب، والطائفة قيل: أقلها ثلاثة وقيل: اثنان وقيل أربعة وقيل واحد وقيل جميع يحصل به التشهير. (1)

ص:98


1- 1 - قوله «يحصل به التشهير» هذا الحديث بطوله رد على المرجئة وهم كانوا جماعة في صدر الإسلام يرون أنه لا يضر مع الإيمان شيء من عمل الجوارح كما مر مرارا فهم نظير جماعة من عوام الشيعة يزعمون السعادة الاخروية تنحصر في ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ولا يضر مع ولايتهم ترك العبادات وارتكاب المناهي والقبائح ومثلهم جماعة من الزنادقة المتظاهرين بالإسلام يطمعون أن يعدهم المسلمون من جماعتهم ويصافوهم المودة ويعاونوهم في مقاصدهم يقولون بأفواههم نحن مسلمون وإن تركوا الصلاة والصوم وسائر ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويستهزؤون بأكثر أحكامه ويجدون في نقضها ونسخها وبيان الحجة التي أقامها الإمام (عليه السلام) أنه لو كان الإيمان بلا عمل سببا للنجاة في الآخرة لم يكن فائدة في تتابع الأنبياء واحدا بعد واحد ونسخ شريعة بأخرى وتعذيب من يبقي على الدين المنسوخ ولا يؤمن بالدين الناسخ فقد نسخ المسيح (عليه السلام) سبت اليهود وبعض أحكامهم وعذب اليهود لعدم إيمانهم به مع أن جميعهم كانوا على نفي الشرك ولم يكن الإيمان بالنبي إلا مقدمة للعمل بشريعته، وأيضا ورد في آيات كثيرة في السور المكية الاكتفاء بالإيمان ونفي الشرك في النجاة ولكن في السور المدنية آيات في مؤاخذة الناس في الآخرة بعمل الجوارح وإن لم يكونوا مشركين هي ناسخة للآيات المكية وصارت المنسوخة لأصحاب الارجاء من المتشابهات التي يتمسك بها الذين في قلوبهم زيغ. (ش)

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أو لا إله إلا وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مؤمنا؟ قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام. قال: وقلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مؤمن قال: فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم؟! وما خلق الله عز وجل خلقا أكرم على الله عز وجل من المؤمن، لأن الملائكة خدام المؤمنين وأن جوار الله للمؤمنين وأن للمؤمنين وأن الحور العين للمؤمنين، ثم قال: فما بلا من جحد الفرائض كان كافرا؟

* الشرح

قوله: (قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) من شهد أن لا إله إلا - ألخ) هذا القول يحتمل أن يكون استفهاما وإخبارا. وقوله (عليه السلام) فأين فرائض الله يدل على أنها معتبرة في الإيمان ولكن بعد الهجرة وأما قبلها فلا، كما مر.

قوله: (لو كان الإيمان كلاما لم ينزل) أي لو كان الإيمان كلاما لسانيا وهو الإقرار بالشهادتين أو قلبيا أيضا وهو التصديق فإن كان يطلق على المعقول أيضا لم ينزل هذه الاحكام التي وقع الوعيد والتغليظ فيها وتوجه الشرطية ظاهر فإن مناط الكرامة والثواب والملامة والعقاب هو الإيمان وعدمه هو فلو كان الإيمان مجرد كلام لم ينزل هذه الأحكام فإن قلت لعل الإيمان وعد منه مناط لأصل الثواب والعقاب وتفاوت الدرجات والدركات لأجل تلك الأحكام فيتوجه المنع إلى الشرطية قلنا المقصود أن الدرجات أيضا للأيمان فيتم الشرطية إذ محصلها أن الإيمان موجب الاستحقاق الثواب والدرجات العالية فلو كان كلاما فقط لم ينزل احكام والحاصل أن كلامنا في الإيمان الكامل، وظاهر أنه ليس مجرد كلام بل الأعمام والاحكام معتبرة فيها.

قوله: (فلم يضربون الحدود ولم تقطع أيديهم) التعذيب بالضرب والقطع والإهانة بهما يدل على أن الزاني والسارق مثلا ليسا بمؤمنين لأن المؤمن عزيز لا يعذب ولا يهان.

ص:99

قوله: (ثم قال فما بلا من جحد الفرايض كان كافرا) لعل المراد أن جاحد الفرائض مثل الصلاة والزكاة والصوم وغيرها كافر عندهم أيضا وما ذلك إلا لأنها معتبرة في الإيمان وإذا كان كذلك كان تاركها أيضا كافرا كما يدل عليه ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن الكفر كما يطلق على كفر الجحود كذلك يطلق على ترك ما أمر الله عز وجل به» وما روي عنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» قال اما «آخذ فهو شاكر واما تارك فهو كافر» والكفر بهذا المعنى ينافي الإيمان الكامل دون إيمان التصديق وما روى من أن المؤمن لا يدخل النار يراد به المؤمن الكامل ثم المفهوم من هذا القول أن الفرائض معتبرة في الإيمان الكامل، وأما أنها من اجزائه أو شرايطه أو هي أيضا إيمان فلا دلالة فيه على شيء من ذلك ولكن المشهور الأول وعليه روايات منها الروايات الأولى من هذا الباب والثاني محتمل والثالث مدلول بعض الأخبار كما سيجيء في الباب الآتي من تسمية الصلاة ايمانا.

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن سلام الجعفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى.

قوله: (فقال الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى) قد ذكرنا أن الإيمان في عرف الأئمة (عليهم السلام) هو الإيمان الكامل الذي لا يستحق صاحبه الخزي والخذلان وليس ذلك إلا التصديق والطاعة لله تعالى في أوامره ونواهيه فكان ما عداه ليس بإيمان حقيقة، وليس المقصود نفي الإيمان عن غيره (1)

ص:100


1- 1 - «ليس المقصود نفي الايمان عن غيره» أحاديث هذا الباب أيضا رد على المرجئة يرون الفساق والمؤمن الصالح سواء في الفضل عند الله ليصير موجبا لعدم تنفر الناس عن بني أمية والاجتناب عن لعنهم والتبري منهم ولكن الإيمان الظاهر من الفساق في مذهبنا لا يؤثر إلا في بعض أحكام الدنيا وأما الفضل عند الله ومصاقاة المودة معهم وأعانتهم كسائر الصلحاء فلا ولما كان هذا المذهب من الآراء غير المحمودة التي تتفرع عليها مفاسد كثيرة في الأمة بالغ الأئمة (عليهم السلام) في نقضه وردهن فإنه يوجب جرأة الولاة على الشر والظلم واطمينانهم من مخالفة العامة وثورتهم ويوهن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم حرمة للصلحاء في الجامعة الانسانية وعدم رغبة الناس في التشبه بهم وأيضا إن كان الصالح والطالح سواء في الحرمة والفضل بطل مكارم الاخلاق وارجت الهمجية. (ش)

(باب) في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها

* الشرح

قوله: (باب في أن الإيمان مبثوت لجوارح البدن) كلها اللام صلة لمبثوث أو بمعنى في ظرف له ويؤيده وجود في بدلا لها في بعض النسخ وهو الأظهر.

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريدة قال: حدثنا أبو عمر والزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أيها العام أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئا إلا به، قلت: وما هو؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة أشرفها منزلة وأسناها حظا. قال: قلت: ألا تخبرني عن الإيمان أقول هو وعمل؟ أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بين في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه، قال: قلت: صفه لي جعلت فداك حتي أفهمه، قال: الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهى تمامه ومنه النقص البين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه، قلت: إن الايمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم قلت: كيف ذلك؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به ورأسه الذي فيه وجهه، فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغيرما وكلت به أختها، بفرض من الله تبارك اسمه، ينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها ففرض على القلب غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج غير ما فرض على الوجه، فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده

ص:101

ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو قول الله عز وجل (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا) قال:

(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وقال: (الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) وقال: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) فلذلك ما فرض الله عز وجل على القلب والتعبير عن القلب من الإقرار والمعرفة وهو رأس الإيمان، وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه، وأقربه، قال الله تبارك وتعالى (وقولوا وما للناس حسنا) وقال: (قولوا آمنا بالله وما انزل إلينا وما انزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله، وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه والاصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل فقال في ذلك: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يفكر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان فقال: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين). فقال: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله وأولئك هم أولوا الأباب) وقال عز وجل: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هو للزكاة فاعلون) وقال: (إذا سمعوا اللغو، أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) وقال: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغى إلى ما لا يحل له وهو عمله وهو من الايمان، وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه وأن يعرض عما نهى الله عنه، مما لا يحل له وهو عمله وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أنه ينظر إليه وقال: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) من أن تنظر إحديهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها. وقال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى إلا هذه الآية فإنها من النظر، ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية اخرى فقال: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) يعني بالجلود:

الفروج والأفخاذ. وقال: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا) فهذا ما فرض الله على العينين من

ص:102

غض البصر عما حرم الله عز وجل وهو عملهما وهو من الإيمان. وفرض الله على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والطهور للصلاة، فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وقال: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءا حتى تضع الحرب أو زارها) فهذا ما فرض الله على على اليدين لأن الضرب من علاجهما. وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال: (ولا تمس في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) وقال: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن النكر الأصوات لصوت الحمير) وقال: فيما شهدت الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) فهذا أيضا مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الإيمان.

وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين، وقال: في موضوع آخر: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما صرف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم) فسمى الصلاة إيمانا فمن لقى الله عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقى الله عز وجل مستكملا لإيمانه وهو من أهل الجنة ومن خان في شيء منها أمر تعدي ما أمر الله عز وجل فيها لقى الله عز وجل ناقص الإيمان، قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز وجل: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم رض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) وقال: (ونحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ولو كان كله واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ولا ستوت النعم فيه ولا ستوى الناس وبطل التفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون

ص:103

بالدرجات عند الله وبالنقصان دخل المفرطون النار.

* الشرح

قوله: (الإيمان بالله) أراد به الإيمان بالله وبالرسالة والولاية لأن كل واحد منها بدون الآخر ليس بإيمان ولا فضل له فضلا عن أن يكون أفضل وأشار بقوله الذي لا إله إلا هو إلى أن الإيمان به مع الشرك ليس بإيمان وبقوله أعلى الأعمال درجة إلى أنه عمل وسيصرح به وكون درجته أعلى باعتبار أنه أعظم الأعمال وعلو درجة كل بقدر عظمته لكون منزلته أشرف لتوقف قبول سائر الأعمال وصحتها عليه وكون حظه ونصيبه أسنى وأرفع باعتبار أن ثوابه وجزاءه أكمل وأجزل.

قوله: (قلت ألا تخبرني عن الإيمان) لما كان الجواب المذكور مجملا لم يعرف منه حقيقة الإيمان سأل السائل عنها وكأنه أراد بالقول المركب المعقول والملفوظ أعنى الإقرار باطنا بالتصديق وظاهرا باللسان وبالعمل عمل سائر الجوارح إذ القول بأن الإيمان محض الإقرار باللسان بعيد لا يحمل كلام السائل عليه فأجاب (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الإيمان عمل كله أي كل أفراده على ما هو ظاهر من التفصيل الآتي مثل قوله تعالى (وقال الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم» أو كل أجزائه على أن يكون الإيمان مركبا من الجميع والحق أن الإيمان الكامل مركب من الجميع وأن كل واحد أيضا يسمى إيمانا لأن انقياد كل عضو واطاعته فيما أمر به إيمان كما سيجيء فعلى كل عضو إيمان ، ومجموع الأعمال المختلفة من حيث المجموع أيضا إيمان ويعبر عنه بالايمان الكامل وهو الذي ينجي صاحبه من الخزي والعقاب فقوله (عليه السلام) «والقول بعض ذلك العمل» معناه على الأول أنه بعض أفراد ذلك العمل الذي هو الإيمان وعلى الأخير أنه بعض أجزائه فليتأمل.

قوله: (بفرض من الله الظرف متعلق بقوله «الإيمان عمل كله» أو بقوله «والقول بعض ذلك المعل» أو بهما و «بين» بالتنوين و «واضح» وصفان لغرض والضمير وفي نوره وحجته راجع إليه، والمراد بالنور العلم، واضافته باعتبار تعلقه به أو المراد به الدليل سمى به لأنه يوصل إلى المطلوب كالنور والأول أولى لأن هذا المعنى يفهم من قوله: «ثابتة حجته» والتأسيس خير من التأكيد والظاهر أن يشهد ويدعوه حال عن فرض وأن ضمير «له» و «إليه» راجع إلى الله تعالى وضمير «به» والبارز في يدعوه للفرض [ودعوة الفرض] إليه سبحانه نسبته إليه وبيانه أنه منه، ويحتمل أن يكون حالا عن الإيمان وأن يكون ضمير له ويدعوه راجعا إليه وضمير به وإليه للعمل أي يشهد الكتاب للإيمان بأنه عمل، هذا الذي ذكرناه من باب الاحتمال وألله

ص:104

أعلم بحقيقة كلام وليه.

قوله: (الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل) إشارة إلى أن للإيمان مراتب متكثرة وهي حالات للإنسان باعتبار قيامها به ودرجات باعتبار ترقيه من بعضها إلى بعض ومنه يظهر سر ما روي من «أن الإيمان بعضه من بعض» وطبقات باعتبار تفاوت مراتبها في نفسها وكون بعضها فوق بعض ومنازل باعتبار أن الإنسان ينزل فيها ويأوي إليها فمنه التام المنتهى تمامه كايمان الأنبياء والأوصياء ومنه الناقص البين نقصانه وهو أدني المراتب الذي دونه الكفر ومنه الراحج الزائد رجحانه وهو على مراتب غير محصورة باعتبار التفاوت في الكمية والكيفية وإلى هذه الأقسام أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم» قسم الإيمان إلى قسمين لأن الإيمان إن بلغ حد الكمال فهو القسم الأول وإلا فهو القسم الثاني، استعار له لفظ العواري باعتبار كونه في معرض الزوال كالعواري وكنى بكونه بين القلوب والصدور عن كونه مترددا غير مستقر ولا متمكن في جوهر النفس.

والقسمان الأخيران هنا أعنى الناقص والراجح داخلان في العواري. والله هو الموفق الهداية ومنه البداية والنهاية.

قوله: (قلت إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد) لا وجه لسؤاله بعد ما عرف أن للإيمان درجات وأنه عمل إذ لا ريب في أن العمل يقبل الزيادة والنقصان وكأنه طلب زيادة التقرير والتوضيح ليعرف حقيقة الحال أو ظن أن المراد بالعمل عمل مخصوص أن نقص انتقى الإيمان وإن زاد لم يكن للزيادة مدخل فيه، فأجاب (عليه السلام) بقول نعم تصديقا لذلك وتصريحا بأن جنس الأعمال أنواعه متكثرة يزداد الإيمان باعتبارها وينقص، قال المحقق الطوي: الإيمان في اللغة التصديق وفي العرف التصديق المخصوص وهو التصديق بالله وبرسوله وبما ثبت أنه جاء به الرسول هذا القدر من الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان إذ إلا نقص منه ليس بإيمان والزائد لا مدخل له فيه بل في كماله، ومن علاماته الإتيان بالصالحات وترك المنهيات وبهذا الاعتبار بتحقيق فيه الزيادة والنقصان.

قوله: (وقسمه عليها وفرقة فيها) هذه القسمة أما قسمة الكلى على جزئياته أو قسمة الكل على أجزائه والأول قريب من الشكر بالمعنى اللغوي، الثاني من الشكر بالمعني العرفي.

قوله: (فمنهما قلبه الذي به يعقل ألخ) المراد بالقلب الروح والعقل والنفس الناطقة بالاعتبارات وقد

ص:105

يطلق على القوة المميزة (1) جوارحه وحواسه فإذا رجعت الجوارح إلى أمره ورأيته وتدبيره في أفعالها حصلت السياسة البدنية تحققت ملكة العدالة وانتظمت الأمور وإن خالفته فسد النظام وذاع الشرور واستولى المرض عليها حيت يزول عنها استعداد الخير بالمرة.

قوله (وفرجه الذي الباه من قبله) بكسر القاف أي من عنده. والباه: جماع كردن.

قوله: (ينطق به الكتاب لها ويشهد عليها) الضمير في به في الموضعين للإيمان أو للفرض وفي لها وعليها للجارحة.

شرح الكافي: 8 / كتاب الإيمان والكفر قوله: (فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله) لعل المراد بالإقرار الإقرار بما جاء به الرسول باطنا بالقلب لا ظاهرا باللسان لأن المفروض أنه من فعل القلب، وبالمعرفة التصديق بالتوحيد والرسالة، بالعقد رسول ذلك التصديق وثبوته أو العطف للتفسير، وبالرضا بقضاء الله وهو من ثمرة المحبة فإن من أحب الله لا ينكر ما صدر منه ويكون راضيا به وإن كان بشعا مرا مخالفا لطبعه، ويكون الموت والحياة والفناء والبقاء والفقر والغنى وإقبال الدنيا وادبارها عنده سواء لا يرجح أحدهما على الآخر لصدوره من المحبوب وكل ما صدر من المحبوب فهو محبوب، والتسليم فوق الرضا لأن العبد في مقام الرضا يرى نفسه ويعد كل فعله عز شأنه موافقا لطبعه، في مرتبة التسليم يسلم نفسه وطبعه وما يوافقه ويخالفه إليه. ومن هاهنا يظهر أن الإيمان القلبي يتفاوت قوة وضعفا (2) المعرفة لأن زواله يوجب الدخول في الكفر وبخلاف

ص:106


1- 1 - قوله: «على القوة المميزة» ويقال فيها في اصطلاح الحكماء العقل العملي وليس إلا خاصة من خواص النفس الناطقة كالعقل النظري، وبالجملة للنفس قوتان نظرية بها يدرك حقائق الكليات على ما هي عليه غير آلة والجزئيات بتوسط الآلة وقوة عملية يدرك بها حسن بعض الأفعال وقبح بعضها وقالوا تسرع الصبي إلى إدراك قباحة بعض الامور ككشف العورة دليل على قوة النفس النطقية بخلاف الذي لا يدرك إلا متأخرا والحيوان غير الناطق لا يدرك قبح شيء أو حسنه، والدليل على أن العقل النظري غير المعلى عدم اختلاف الأمم في الأوليات النظرية كالكل أعظم من الجزء والاثنان نصف الأربعة واختلافهم في أوليات القوة العملية كقبح ذبح الحيوانات عند أهل الهند وحسن شرب الخمر عند النصاري. (ش)
2- 2 - قوله: «يتفاوت قوة وضعفا» يوصف الإيمان بالقوة والضعف والقلة والكثرة باعتبار ما يؤمن به لا باعتبار نفس معناه المصدري كما أن العلم يوصف بالقلة والكثرة باعتبار المعلوم ولكن الظن يوصف بالشدة والضعف باعتبار نفس معناه المصدري والفرق أن الظن يجتمع مع تجويز النقيض وهو قريب وبعيد بخلاف العلم والإيمان فإنهما الاعتقاد بالشيء مع عدم تجويز الخلاف أصلا، ولا يتصور فيه تفاوت أصلا والغرض من هذه الأحاديث كما قلنا الرد على المرجئة حيث كان مذهبهم التقريب والمصافاة بين فساق بني امية والمتدينين من رعاياهم عكس مذهب الخوارج حيث كانوا على تشديد العداوة وإثارة البغضاء ليسهل عليهم الخروج على الولاة وتوهين ملك بني امية بتكفيرهم وكان ضرر المرجئة أشد ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا تقالوا بعدي الخوارج فإنه ليس من طلب الحق فأخطأ (يشير إلى الخوارج) كمن طلب الباطل فأصاب (إشارة إلى بني امية). (ش)

البواقي فإن زوالها يوجب زوال الكمال وربما يشعر به ما نقلناه عن المحقق سابقا والظاهر أن قوله «بأن لا إله إلا الله - إلى آخره» متعلق بالإقرار والمعرفة والعقد وأن قوله «والإقرار بما جاء من عند الله معطوف على أن لا إله إلا الله فيكون الأولان بيانا للآخرين الأخير بيانا للأول.

قوله: (وقلبه مطمئن بالإيمان حال مؤكدة لأن الإكراه لا ينفك عنه غالبا ودليل على أن الإيمان من الفروض القلبية وعلى أن لا يزول بالإكراه واظهار نقيضه باللسان عند التقية وعلى أن الإقرار باللسان وغيره من الأعمال بدونه ليس بإيمان.

قوله: (وقال إن تبدوا) أي أن تبدوا ما في أنفسكم من الإيمان والكفر والكبر والعجب وغيرها من المعاصي القلبية أو تخفوها يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء بالفضل إذا كان من أهله ويعذب من يشاء بالعدل إذا كان من أهل وهذه الآية دلت بعمومها على المؤاخذة والتعذيب بنية المعاصي والمخاطرات النفسية ويمكن تخصيصها بالعقايد القلبية والخبائث النفسية مثل الإيمان والكفر والكبر والعجب وأمثالها لما يظهر من ظاهر استشهاد المعصوم هنا ولدلالة والاخبار الكثيرة الآتية في أبوابها على عدم المؤاخذة بالنية والمخاطرات ولقوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فإن ذكر الاكتساب في طرف المعصية دليل على أنه لا يعذب بها إلا بعد المبالغة في الكسب، والمبالغة لا يتحقق الا بعد ايجاد المنوى والآيتان بها بخلاف الطاعة فإنه يثاب بها لأصل الكسب وهو يتحقق بالنية فيثاب بها كما يثاب بفعل المنوى، وقيل أن نية المعصية معصية يقتضى العقوبة ولكنه تعالى يعفو عن المؤمنين ويكون المراد بقوله فيغفر لمن يشاء المؤمنون والله أعلم.

قوله: (وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب) دل على وجوب الاقرار باللسان بالاعتقادات مثل الإيمان وغيره، ولا يدل على اشتراط قبول الإيمان القلبي به كما ظن نعم يشترط عدم الإنكار باللسان لقوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» وينبغي أن يراد بالقول القول الواجب

ص:107

مطلقا مثل أداء الشهادات والإقرار بحقوق الناس واظهار العقايد القلبية والقول الحسن للناس مثل تعليم العلوم والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثال ذلك حينئذ ذكر التعبير بعده من باب ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام، ومن ههنا ظهر أن عطف العبير على القول ليس للتفسير، وحمله على التفسير مع أنه خلاف الظاهر مخل لوجهين: الأول أن الفروض اللسانية غير منحصرة في التعبير بل هي أكثر من أن تحصى، والثاني لا يناسب قوله (عليه السلام) استشهادا له قال الله تبارك اسمه (وقولوا للناس حسنا» إذ لا يدخل له في التعبير عن القلب بخلاف ما قلنا فان هذا شاهد للقول وما بعده شاهد للتعبير، وينبغي أيضا أن يراد بالاقرار في قوله «وأقربه» الاقرار القلبي لإسناده إلى القلب وهو ظاهر.

قوله: (وفرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله) يندرج فيه جميع المحرمات السمعية مثل الغناء والغيبة وصوت الأجنبية والمزامير ونحوها وكلام الكذب وذم الأئمة (عليهم السلام)، وإنكار حقوقهم واستهزاء المؤمنين وغيرها.

ص:108

قوله: (فقال في ذلك وقد نزل عليكم في الكتاب) ذلك إشارة إلى النهى عن استماع ما حرم الله والاصغاء إلى ما أسخط الله، والمراد بالآيات الأئمة (عليهم السلام) أو الأعم يعنى إذا سمعتم الرجل يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة ويستهزىء بهم فقوموا من عنده ولا تقاعدوه ولا تجالسوه حتى يخوص ويشرع في حديث غيره فحينئذ يجوز مجالسته لإرشاده وغيره مما يجوز الجلوس معه ثم استثنى موضع النسيان إذ لا يكلف معه فقال (أما ينسينك الشيطان» حرمة المجالسة (فلا تقعد بعد الذكرى» للحرمة (مع القوم الظالمين» وهم المذكورون، والاظهار في مقام الاضمار للتنصيص على ظلمهم وللتصريح بعلة الحرمة.

قوله: (فبشر عباد الذين) الإضافة للتشريف والاشعار بأنهم هم المستحقون بأن يسموا عبادا وأحسن القول ما فيه رضاء الله تعالى أو رضاه أكثر، وما هو أشد على النفس وأشق، هذه كلمة جامعة يندرج فيها القول في أصول الدين وفروعه والاصلاح بين الناس، وروى أنه المراد به نقل الحديث باللفظ من غير زيادة ونقصان والتعميم أحسن.

قوله: (والذين هم عن اللغو معرضون) اللغو الفحش وما لا خير فيه من الكلام ويكفى في الاستشهاد كون بعض أفراده حراما والا عرض عنه واجب مثل الغناء والذف والصنج والبطل والطنبور والأكاذيب وغيرها.

قوله: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي مكرمين أنفسهم عن استماع اللغو الكريم من الناس الشريف الذي يتبرأ من أمثال الأمور المذكورة.

قوله: (فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغى إلى ما لا يحل) هذا إشارة إلى المذكور من الواجبات والمحرمات، والضاهر أن «من الإيمان» مبتدأ و «أن لا يصغى» خبره، واكتفى بذكر عدم الاصغاء إلى ما لا يحل عن ذكر الاصغاء إلى ما يجب ولو جعل «من» بيانا لما بقي أن لا يصغى منفصلا ولا محل له من الاعراب إلا أن يجعل بدلا لما وهو بعيد.

قوله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) قال في مجمع البيان «يعضوا» مجزوم لأنه جواب شرط مقدر تقديره قل للمؤمنين غضوا فإنك ان تقل لهم يغضوا ثم قال ويجوز أن يكون مجزوما على تقدير ليغضوا. وقيل خبر بمعنى الامر والأوسط أوسط عند الفاضل الأردبيلي حيث قال ولعل اللام مقدر والتقدير ليغضوا ثم ذكر الأول ورده من غير وجه وجيه ولم يذكر الثالث، وقال صاحب الكاشف «من» للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم. والاقتصار على ما يحل وهو مذهب سيبويه، وجوز الأخفش أن يكون زايدة وبعض أصحابنا رد الأخير لضعف زيادة من في الاثبات الا شاذا ورجح الأول لأنه لا يجب الغض عن جميع المحرمات لجواز النظر إلى شعور المحرمات وأبدانها عدا العورة والى وجوه الأجنبيات وكفيها وقدميها قي أحدى الروايتين أو في حال الضرورة كالنظر للعلاج أو تحمل الشهادة أو اقامتها والى المخطوبة مع امكان النكاح وبدونه إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع، والفاضل الأردبيلي رجح الثاني ورد الأول بأن التبعيض يفيد غض بعض البصر دون البعض لا بعض المبصر وهو المطلوب والمعقول كما يفهم من قوله «والمراد - إلى آخره».

أقول يمكن أن يراد بالتبعيض غض بعض البصر بارخائه في الجملة بحيث لا يرى المحرم لا تطبيقه رأسا ويراد به على أي تقدير ترك النظر إلى ما لا يحل.

قوله: (فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم) دل على أن الامر بالشيء نهى عن ضده أي نهاهم أن ينظر كل واحد إلى عورة غيره، ذكرا كان أم أنثى، قبلا كأم أم دبرا، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه وكذا فرج أخته والعطف للتفسير ويمكن أن يراد بغض البصر ترك النظر إلى كل ما لا يحل والمذكور أكمل أفراده وهذا ناظر إلى قوله (يغضوا من أبصارهم» وتفسير له وقوله «ويحفظ فرجه» ناظر إلى قوله تعالى (ويحفظوا فروجهم» وتفسير له والظاهر ان عطف يحفظ على ينظر غير صحيح لعدم صحيح لعدم

ص:109

اندراجه تحت النهى، وكأنه عطف على نهاهم باضمار فعل أي وأمره أن يحفظ فرجه فليتأمل.

قوله: (من أن تنظر إحديهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها) «من» متعلق بيغضضن ويحفظن أو بفعل مقدر بقرينة السابق أي نهاهن من أن تنظر وهذا ناظر إلى يغضضن وتفسير له، وقوله «وتحفظ فرجها» ناظر إلى يحفظن وتفسير له ولا يبعد تعميم الغض ليشمل كل ما لا يحل لهن النظر إليه والمذكور بعض أفراده وتخصيص الحفظ بما ذكر إلا أن التوافق بين القرينتين، وهذه الرواية وغيرها يدل على المذكور.

قوله: (فإنها من النظر) لما كان النظر إلى العورة مع قبحه مثيرا للشهوة والفساد غالبا حرم النظر إليها وأوجب حفظها عنه ودفعا للفساد.

قوله: (ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى) فيه أن الفروض القلبية واللسانية غير مندرجة في الآية الأولى والفروض اللسانية في الآية الثانية ويمكن ان يقال يفهم ذلك من قوله «يستترون أن يشهد عليكم» ومن قوله (ولا تقف ما ليس لك به علم» فان استتار الشيء عبارة عن اضماره في القلب وعدم اظهاره باللسان وعدم متابعة غير المعلوم عبارة عن عدم التصديق به وعدم اظهار العلم به باللسان والله أعلم.

قوله: (وما كنتم تستترون) قيل كنتم تستترون القبايح عند فعلكم إياها وما كنتم عالمين ولا ظانين بشهادة الجوارج على أنفسها فيدل على أنهم مكلفون بالفروع ولولاه لم يشهد على أنفسها.

وقيل لعل المراد بها أنكم ما كنتم لتستتروا وتدفعوا شهادتها على أنفسها بعدم فعل القبائح أو في القيامة بأن لا تشهد على أنفسها.

قوله: (يعني بالجلود: الفروج والافخاذ) قيل: هذا التفسير يدل على أن الافخاذ عورة يحرم النظر إليها كما هو مذهب بعض، وأن الفروج والافخاذ تشهد على فعلها وهو الزنا واللواط واللمس.

قوله: (إن السمع والبصر والفؤاد) قد فرض الله تعالى على هذه الأعضاء فرائض يحتج بها عليك ويسألك عن كل واحد يوم القيامة فيما صرفته أصرفته فيما خلق لأجله أو في غيره، فوجب أن لا تستعمله في محرم لأنه يشهد عليك وعلى نفسه بما فعل من خير أو شر.

قوله: (إلى ما حرم الله) مثل القتل والضرب والنهب والسرقة وكتابة والكذب والظلم ونحوها.

قوله: (وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم) إذ إيصال الصدقة إلى الفقراء وإيصال الخير إلى الأقرباء والضرب والبطش والشد في الجهاد والطهور للصلاة بغسل اليدين ومسح الرأس والرجلين من فروض اليد واستشهد للطهور والجهاد بالآيتين ويفهم منه وجوب استعمال اليد في غسل الوجه وهو أما لأنه الفرد الغالب أو لأن فرد الواجب التخييري أيضا واجب وإن كان التخصص

ص:110

ببعض الأفراد مستحبا.

قوله: (فضرب الرقال) ضرب الرقاب عبارة عن القتل بضرب العنق وأصله فاضربوا الرقاب ضربا حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وأضيف إلى المفعول، والاثخان اكثار القتل أو الجراح بحيث لا يقدر على النهوض، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به وشده كناية عن الأسر، ومنا وفداء مفعول مطلق لفعل محذوف أي فأما تمنون منا وأما تفدون فداء وأوزار الحرب آلاتها مثل السيف والسنان وغيرهما والمروى ومذهب الأصحاب أن الأسير ان أخذ والحرب قائمة تعين فتله أما بضرب عنقه أو بقطع يده ورجله من خلاف، وتركه حتى ينزف ويموت وان أخذ بعد انقضاء الحرب تخير الإمام بين المن والفداء الاسترقاق ولا يجور القتل، والاسترقاق علم من السنة.

قوله: (وفرض عليهما المشي إلى ما يرضى الله عز وجل) مثل الحج والجهاد والزيارات وقضاء حوائج المؤمنين والذهاب إلى الصلاة والقيام فيها ونحوها.

قوله: (اليوم نختم على أفواهم) قيل هذا ينافي ما روى أن الناس في ذلك اليوم يحتجون لأنفسهم ويسعى كل منهم من فكاك رقبته كما قال سبحانه (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسهما والله سبحانه يلقن من يشاء وحجته ويرشد إليه أيضا ما روي في دعاء الوضوء «اللهم لقني حجتي يوم ألقاك». وأجيب بأن الختم مخصوص بالكفار كما قاله بعض المفسرين أو أن الختم يكون بعد الاحتجاج والمجادلة كما في بعض الروايات، وبالجملة المعلوم أن الختم يقع في ذلك اليوم فيجوز أن يقع الختم في مقام ويقع المجادلة في مقام آخر.

قوله: (فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين أي الركوع والسجود والعبادة وفعل الخير فريضة على الأعضاء المذكورة غير مختصة بأحدهما أما الركوع فلان للوجه فيه نصيبا من الفرض وهو الانحناء وللرجلين كذلك وهو القيام، ولليدين كذلك وهو وصولهما إلى الركبتين هذا في الفرائض، وأما أفعالها المندوبة فكثيرة تعرف بالنظر في كتب الفروع، وأما السجود ففرض الرجل وضع الركبتين والابهامين على الأرض. وأما العبادة وفعل الخير فظاهر إذ لكل عضو من الأعضاء فيهما نصيب من الفرض ولعل الترجى للتحقيق لأن حقيقته عليه عز شأنه محال، وإنما جيء به لئلا يغتر العابد بفعله.

قوله: (وقال في موضوع آخر وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) أي المساجد السبعة وهي الأعضاء المشهورة أعنى الجبهة والكفين والركبتين والابهامين لله أي خلقت لأن يعبد بها الله فلا تشركوا

ص:111

معه غيره في سجودكم عليها وهذا التفسير هو المشهور بين المفسرين والمذكور في حديث حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) والمروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) حين سأله المعتصم عن هذه الآية، وبه قال سعيد بن جبير والزجاج والفراء ويؤيده قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «أمرت أن أسجد على سبعة اراب» أي أعضاء وعلى هذا لا عبرة بقول من قول المراد بها المساجد المعرفة . ولا بقول من قال هي بقاع الأرض كلها متمسكا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلت الأرض مسجدا» ولا يقول من قول: هي المسجد الحرام، والجمع باعتبار أنه قبلة لجميع المساجد ولا بقول من قال هي السجدات جمع مسجد بالفتح مصدرا أي السجودات لله فلا يفعل لغيره لأن المعصومين أولي بمعرفة منازل القرآن ومراده من غيرهم نعم حمل الآية على الأعم وجعل المذكور هنا أظهر أفراده وأكملها ممكن.

قوله: (وقال فيما فرض - ألخ) كان المراد وقال هذه الآية يعني أن المساجد لله فيما فرض الله على الجوارح السبعة من الطهور والصلاة بها فهذه أيضا فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين كالسابقة، ولعل ذلك في قوله «وذلك أن الله عز وجل الخ» إشارة إلى كون القرآن دليلا على بث الإيمان على الجوارح، وتفصيل القول فيه أن الآيات المذكورة إنما دلت على أنه تعالى فرض على كل جارحة شيئا غير ما فرضه على الأخرى، ولم يثبت بهذا القدر من جهة القرآن ما ذكره أو لا من أنه تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقة فيها فأشار هنا إلى إثبات ذلك بالقرآن وحاصله أن الآية هي قوله عز وجل (وما كان الله ليضيع إيمانكم» دلت على أن الصلاة إيمان ولا ريب في أن الصلاة مركبة من أفعال جميع الجوارح فقد ثبت أن الإيمان مركب منها هذا ما خطر بالبال على سبيل الاحتمال والله أعلم.

قوله: (وهو من أهل الجنة) كامل الإيمان من أهل الجنة قطعا وناقص الإيمان قد يدخل النار وهذا أحد وجوه الجمع بين ما دل على أن المؤمن لا يدخل النار وما دل على أنه يدخلها.

قوله: (ومن خان في شيء منها أو تعدي ما أمر الله) الظاهر أن الخيانة فعل المنهيات، والتعدي ترك المأمورات.

قوله: (قلت قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته) لما ذكر (عليه السلام) أو لا أن الإيمان مفروض على الجوارح وأنه يزيد وينقص، وعلم السائل الأول صريحا من الآيات المذكورة والثاني

ص:112

ضمنا أو التزاما منها للعلم الضروري بأن العمل يزيد وينقص سأل عن الآيات الدالة على الثاني صريحا أو قصده من السؤال إني قد فهمت مما ذكر نقصان الإيمان العملي وتمامه باعتبار أن العمل يزيد وينقص فمن أن جاءت زيادة الإيمان التصديقي وأية آية تدل عليها، وفيه حينئذ استخدام إذ أراد بلفظ الإيمان الإيمان العملي وبضميره الإيمان التصديقي والاستخدام شائع عند البغاء، وعلى التقديرين لا يرد أنه إذا علم نقصان الإيمان وتممه فقد علم زيادته لأن في التام زيادة ليست في الناقص.

قوله: (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) دل على أن الإيمان سبب للإيمان يعني أن الدرجة التحتانية منه سبب لحصول الدرجة الفوقانية، وكذلك الكفر ومن ثم قيل الخير والشر يسريان.

قوله: (وزدناهم هدى) المراد به الهداية الخاصة المختصة بالأولياء وهي بصيرة قلبية زايدة على أصل التصديق (1) قوله: (ولو كان كله واحدا) أي لو كان كل الإيمان واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد من المؤمنين فضل على الآخر لأن الفضل إنما هو بالايمان فلا فضل مع مساواتهم فيه، ولاستوت النعم في الايمان مثل الهدايات الخاصة والالطاف والتوفيقات وغيرها، ولاستوى الناس في الدخول في الجنة لاستوائهم في الايمان الموجب لدخولها، وبطل تفضيل بعضهم على بعض الدرجات واللوازم كلها باطلة بالنسبة والآيات ولكن بتمام الإيمان باعتبار أصل التصديق والعمل بالدرجات وترك المنهيات دخل المؤمنون المتصفون به الجنة وبالزيادة في الإيمان لذلك مع العمل بالأعمال المندوبة والآداب المرغوبة والاخلاق والمطلوبة تفاضل المؤمنون المتصفون بها بالدرجات العالية والمقامات أو في التقصير في الاعمال الواجبة بترك الواجبات وفعل بالمنهيات دخل المفرطون في النار وقد ظهر من ذلك أن المدعين للإيمان ثلاثة أقسام تام وزايد وناقص وقد علم حكم كل واحد منها والله هو الموفق.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد

ص:113


1- 1 - قوله «زائدة على أصل التصديق» وأصل التصديق غير قابل للزيادة والنقصان كما قلنا وإنما التشكيك في إخضاع سائر المدارك فإن الذي يبصر شيئا ويسمع صوته ويلمس سطحه ويذوق طعمه غير من يسمع صوته فقط والذي يعتقد بوجود شيء لرؤية آثاره غير من يراه نفسه والمؤمن بالله متيقن بوجوده قطعا لا ظنا فقد يكون له دليل واحد وقد يكون له أدلة كثيرة بمنزلة من يشاهده ويتأثر بالإيمان جميع قواه وبذلك يتفاوت درجاتهم. (ش)

بن عيسى، جميعا، عن البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبيد الله بن الحسن بن هارون قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا) قال: يسأل السمع عما سمع والبصر عما نظر إليه والفؤاد عما عقد عليه.

* الشرح

قوله: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن البرقي، عن النضر بن سويد) الظاهر أن لفظة عن أبيه أو جميعا زائدة بل لا محصل له لأن البرقي ليس إلا محمد بن خالد ولا معنى لرواية البرقي عن البرقي وقد يقال المراد بالبرقي خالد لأن البرقي لقب لهذه القبيلة أو نسبة إلى مسكنهم.

* الأصل

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان أو غيره، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الإيمان فقال: شهادة أن لا إله إلا والإقرار بما جاء من عند الله وما استقر في القلوب من التصديق بذلك، قال: قلت: الشهادة أليست عملا؟ قال: بلي قلت:

العمل في الإيمان؟ قال: نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلا بعمل.

* الشرح

قوله: (فقال شهادة أن لا إله إلا الله) كأنها كناية عن الشهادتين والمراد بها الإقرار اللساني وبما بعدها الإقرار القلبي وفيه دلالة على أن الإيمان مركب من الشهادة والتصديق، وهذا نوع من الإيمان الكامل وسماه بعض المحققين بإيمان الصديقين إن كان مع الشهادة خلو النفس عن غيره تعالى وتنزههما عن هواها فإن لا إله إلا الله دل على التوحيد وهوا نما يتحقق في نفس الأمر بالتنزه عن الشرك الجلي والخفي، وإنما قلنا هذا نوع من الإيمان والكامل لأن له أنواعا آخر منها مركب من التصديق وتخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ومنها مركب من التصديق أو أعمال الجوارح، ومنها مركب من الجميع وهذا أفضل الأنواع.

قوله: (قال نعم الإيمان لا يكون إلا بعمل) لعل المراد أن الإيمان لا يوجد أو لا يكن إيمانا إلا بعمل، والعمل بعض منه ولا يثبت الإيمان في نفس الأمر إلا بعمل كما أن الكل لا يجود إلا بجزء ولا يكون كلا إلا بجزء والجزء بعض منه ولا يثبت الكل في نفس الأمر إلا بجزء فيفيد أن الإيمان مركب والعمل بعض أجزائه وهو الإيمان الكامل أو المراد أن الإيمان وهو التصديق لا يكون إلا مقرونا بالعمل والعمل من

ص:115

شيم أهل الإيمان ومحاسنه التي تقتضي الإيمان الاتيان بها ولا يثبت الإيمان عندنا أو لا يستقر في نفس الأمر إلا بعمل لأن التصديق أمر قلبي لا يثبت إلا بدليل وهو العمل أو لا يستقر إلا به، فل يفيد أنه مركب، والأول أنسب بظاهر صدر الحديث وعلى التقديرين لا يريد أن أول هذا الكلام يدل على أن العمل جزء من الإيمان وظاهر آخره على أنه خارج منه دليل عليه على أنه لو حمل على هذا لامكن أن يقال أن المراد بالإيمان الأول الإيمان الكامل، بالثاني التصديق فيكون المقصود أن الإيمان مطلقا لا يتحقق ولا يعلم إلا والله أعلم.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الإسلام؟ فقال: دين الله اسمه الإسلام وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم وبعد أن تكونوا، فمن أقر بدين الله فهو مسلم ومن عمل بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن.

* الشرح

قوله: (قال قلت له ما الإسلام؟ قال دين الله اسمه الإسلام) كما قال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام» وقال (ومن يبتغ غير الإسلام دينا» وهو دين الله قبل أن تكونوا وتوجدوا على هذا المكان المخصوص حيث كنتم في الأظلة أو في العلم وبعد أو تكونوا فمن أقر بدين الله فهو مسلم ومن عمل مع ذلك بما أمر الله عز وجل به فهو مؤمن، لا يقال الظاهر أن ما هنا سؤال عن الحقيقة لا عن الحكم. فقوله فمن أقر بدين الله فهو مسلم حيث وقع جوابا عن السؤال المذكور وجب أن يكون حدا لأن المقول في جوابه هو الحد فيلزم أن يكون الإسلام مجرد الاقرار بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يكن معه تصديق وليس الأمر كذلك لقوله تعالى (ورضيت لكم الإسلام دينا» والله سبحانه لا يرضى إقرارا بدون تصديق بقلب والا لكان راضيا عن المنافقين وأنه محال قطعا.

لأنا نقول لا يلزم من كونه تعالى لا يرضى الإسلام بدون التصديق أن يكون التصديق جزءا من الإسلام، لاحتمال أن يكون شرطا فيه والله تعالى لا يرضى شرطا بدون شرطه، والشرط خارج عن لماهية (1)

ص:115


1- 1 - قوله «والشرط خارج عن المهية» وعلى ذلك عمل الفقهاء وهم المهرة في أمثال هذه الأمور مثلا إذا قيل يجب السجدة لتلاوة بعض الآيات قالوا يجب في سجدة التلاوة ما عرف بالشرح دخله في ماهية السجدة ومعناها في الصلاة لا ما هو شرط فيها فوضع الجبهة على ما يصح السجود عليه وعدم كون محل السجدة مرتفعا عن مكان الرجلين ووضع المساجد السبعة على الأرض واجب ولا يجب الاستقبال والطهارة والذكر وغيرها مما يعتبر في سجدة الصلاة شرطا فإنها داخلة في المطلوب منها في الصلاة لا في صحة اطلاق اسم السجدة ولم يعلم ما يؤخذ في ماهية السجدة الامن احكام سجدة الصلاة. (ش)

الذاتي سواء كان تمام الذاتيات أو بعضها، وقد جوز هذا بعض المحققين إلا أن الأول مشهور بين أرباب المعقول، ومما يؤيد ذلك أن للفصل والخاصة آلة يسئل بها عنهما فلو اختص ما بتمام الحقيقة بقي بعض الذاتيات بلا آلة بها عنه، ولو سلم فنقول ما اسقط التصديق في تفسير الإسلام لأن الاقرار غير مختص باللسان بل يشمل فعل القلب أعنى التصديق لأن التصديق نوع من الاقرار، ولو سلم فنقول المراد بالاقرار هو الفرد الكامل المقارن للتصديق إذ ما ليس بمقارن له كأنه ليس باقرار، وأما عدم ذكر الإقرار في الايمان فلانه يعلم بالمقايسة مع احتمال أن يكون المقصود ذكر ما يمتاز به كل واحد عن الآخر.

* الأصل

5 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي عن أيوب بن الحر، عن أبي بصير قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له سلام: إن خيثمة بن أبي خيثمة يحدثنا عنك أنه سألك عن الإسلام فقلت له: إن الإسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا نسك نسكنا ووالى ولينا وعادى عدونا فهو مسلم، فقال: صدق خيثمة، قلت: وسألك عن الإيمان فقلت: الإيمان بالله والتصديق بكتاب الله وأو لا يعصى الله، فقال: صدق خيثمة.

* الشرح

قوله: (فقلت له إن الاسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا ونسك نسكنا) نسك لله ينسك من باب قتل تطوع بقربة والنسك بضمتين اسم منه والناسك الذي يؤدي المناسك وهي الطاعات، وسميت الذبيحة نسكة لأن قربانها طاعة.

ويحتمل أن يراد بالنسك الاتيان بالحج إذا عرفت هذا فنقول ظاهر هذا الكلام أن الإسلام الإقرار بالشهادتين، وفعل الطاعات ومحبة أولياء الأئمة (عليهم السلام)، ومعاداة أعدائهم سواء كان معه تصديق أم لا، وأن الناصب ليس بمسلم وأن الايمان التصديق بالتوحيد والرسالة والولاية فان كل ذلك مندرج في الايمان بالله والتصديق بكتاب الله، وعدم المعصية بفعل الطاعات وترك المنهيات فالايمان أخص من الإسلام.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: قلت:

أليس هذا عملا؟

ص:116

قال: بلي، قلت: فالعمل من الإيمان؟ قال: لا يثبت له الإيمان إلا والعمل منه.

* الشرح

قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) خص الشهادتين بالذكر لأنها أعظم أفراد الايمان على تقدير وأعظم أجزائه على تقدير آخر مع دلالتهما على التصديق الذي هو الإيمان في الأصل وليس المقصود حصر الايمان فيهما فلا ينافي سائر الاخبار.

قوله: (قال لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه) لعل المراد أن الإيمان عبارة عن التصديق والعمل، ويطلق على نفس العمل أيضا كالشهادتين والصلاة ونحوهما، وعلى هذا لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل كما لا يثبت الكل إلا بالجزء والعمل منه أي بعض أجزائه على تقدير وبعض أفراده على تقدير آخر. وقد مر توجيه آخر قبيل ذلك والله أعلم.

* الأصل

7 - بعض أصحابنا، عن علي بن العباس، عن علي بن ميسر، عن حماد بن عمر والنصيبي قال: سأل رجل العالم (عليه السلام) فقال: أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل عمل إلا به، فقال:

وما ذلك؟ قال: الإيمان بالله الذي هو أعلى الأعمال درجة وأسناها حظا وأشرفها منزلة، قلت:

أخبرني عن الإيمان أقول وعمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بينه في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد به الكتاب ويدعو إليه، قلت: صف لي ذلك حتى أفهمه، فقال: إن الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص المنتهى نقصانه ومنه الزائد الراحج زيادته، قلت: وإن الإيمان ليتم ويزيد وينقص؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها وفرقه عليها فليس من جوارحكم جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به أختها ، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو مير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، ومنها يداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما وفرجه الذي الباه من قبله ولسانه الذي ينطق به الكتاب ويشهد به عليها، وعيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج

ص:117

وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه، فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بأن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، أحدا، صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله.

* الشرح

قوله: (قال سال رجل العام (عليه السلام) فقال يا أيها العالم) هذا الخبر مذكور في صدر الباب متنا مع اختلاف في السند وتغيير يسير في المتن وحذف في الآخر.

قوله: (ولسانه الذي ينطق به الكتاب ويشهد به عليها) الظاهر أن المراد بالكتاب القرآن، والضمير في يشهدوا راجع إليه وفي به إلى النطق أو إلى اللسان بحذف مضاف، أي بأقواله وفي عليها إلى اللسان واللسان يذكر ويؤنث كما صرح به في المغرب ونطق القرآن بأقوال اللسان خيرا وشرا وشهادته عليها كثير، ويحتمل أن يراد بالكتاب كتاب الأعمال وصحيفتها وشهادته عليها يوم القيامة ظاهرة، وقراءة الكتاب بضم الكاف وشد التاء وإرادة الحفظة بعيدة.

قوله: (فأما ما فرض على القلب من الإيمان والإقرار والمعرفة) كذا في النسخ والظاهر فالإقرار بالفاء ليكون جوابا لاما وموافقا لما مر في صدر الباب ولعل الواو سهو من النساخ أو زائدة.

قوله: (أحدا صمدا) هما في أكثر النسخ منصوبان وفي بعضها مرفوعان.

* الأصل

8 - محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن الأشعث بن محمد، عن محمد بن حفص ابن خارجة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: - وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان وقال: إنهم يحتجون علينا ويقولون: كما أن الكافر عندنا هو الكافر عند الله فكذلك نجد المؤمن إذ أقر بايمانه أنه عند الله مؤمن، فقال: سبحان الله وكيف يستوي هذان والكفر إقرار من العبد فلا يكلف بعد إقراره ببينة والإيمان دعوى لا يجوز إلا بينته عمله ونيته فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن والكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نية أو قول أو عمل والأحكام تجري على القول أو العمل، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان ويجري عليه أحكام المؤمنين وهو عند الله كافر وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله.

ص:118

* الشرح

قوله: (وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان (1) من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة صادقين في المشبه به كاذبين في المشبه، ومجمل قولهم في حقيقتهما أن الإيمان محض إقرار اللسان بالشهادتين وما جاء به الرسول، والكفر مقابل له وهو إنكاره شيئا من ذلك وبذلك بنوا أن الكافر عندنا كافر عند الله تعالى وكذا المؤمن عندنا مؤمن عنده تعالى وهو ظاهر بناء على أصلهم، والسائل سأل عن صحة ذلك وبطلانه فأجاب (عليه السلام) بأنه باطل لبطلان أصلهم، وذلك لأن الإيمان عبارة عن التصديق والإقرار والعمل، والكفر إنكار شيء من ذلك وإذا كان كذلك كان الكافر عندا بترك واحد من الامور المذكورة كافرا عند الله تعالى، وأما المؤمن عندنا وهو المتصف بالامور الثلاثة أما بالأخيرين فقطعا وأما بالأول فظنا لدلالتهما عليه دلالة غير قطعية لأن العقل يجوز عدمه تجويزا مرجوعا فلا يلزم أن

ص:119


1- 1 - قوله «عن قول المرجئة في الكفر والإيمان» هم فرقة من فرق الإسلام وهم والخوارج على طرفي نقيض كان هؤلاء يعتقدون كفر الفساق وعم على غاية البغض والعداوة مع بني امية الولاة في عصرهم والمرجئة كانوا يعتقدون تساوي الصالح والطالح والعابد والفاسق في الفضل عند الله وكانوا متملقين ومائلين إلى ولاتهم وكان يؤيدهم سياسة بني امية أوجدتهم وروجت آرائهم بين المسلمين وذلك لأن ظلم بني امية وتجارهم بالفسق والفجور بل كفرهم الباطني نفرهم لأنهم كانوا من بقايا محاربي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحدوا الأحزاب وغيرها - لما ينحسم حب الجاهلية ولا حقدهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل أشياخهم من قلوبهم عبد وقد ظهر منهم الإنكار عليه وعلى أهل بيته والعادة بعد ظهور كل دين وملة حقة أن يبقي جماعة ممن لا يؤمن بها سنين بل قرونا يثيرون الفتن ولم يكن بنو أمية يصرحون بما في ضمائرهم خوفا من الناس ولا بناء دولتهم كان على دين عدوهم فاخفوا في قلوبهم ما أنبأ عنه أعمالهم فقتلوا الحسين (عليه السلام) وأسروا أهل بيت نبيهم وقتلوا أهل المدينة قتلا عاما لنصرتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يقبلوا أحدا ممن يتولاهم في ولايتهم بل قتلوهم وشردوهم وسلطوا على صلحاء الأمة فساقهم كزياد بن أبيه وعبيد الله والحجاج بن يوسف وأوجب ذلك تنفر الناس عنهم وثورتهم وقيام الناس من كل ناحية عليهم ولم ينجع فيه التشديد والتشريد والقتل والنفي وتجرأ عليهم الخوارج ورأوا جهادهم أفضل من جهاد الكفار الأصليين وخرج عليهم جماعة من الصلحاء في كل ناحية وأظهروا أو التبري منهم اللعن عليهم واجتهدوا في إزالة ظلمهم فرأت بنو امية أن التوسل بما توسلوا به أو لا أضر بمقصدهم وافنى لدولتهم فاخترعوا لهم مذهب المرجئة وغرضهم ان بني امية مسلمون مؤمنون وأن ظهر منهم الفجور والقتل والمناهي وهم الصلحاء سواء عند الله في الفضل فيجب مودتهم والمصافاة معهم وأعانتهم في التدبير الملكي ونصرهم في جهاد عدوهم وبالجملة دفع تنفر الناس وما يلزمه ولما كان هذا من أضر الآراء في فرق الإسلام بل منافيا لأصل تشريع هذا الدين وكل دين بل لو لا احتمل الشبهة الممكنة في حقهم لحكم بكفرهم لمخالفتهم ضروري الإسلام بل ضروري كل دين ولا نتفي فائدة إرسال الرسل وأنزل الكتب ولم يبق للطاعات واكتساب الفضائل ومكارم الاخلاق موقع، رد الأئمة (عليهم السلام) في هذه الأحاديث رأيهم ومذهبهم. (ش)

يكون مؤمنا عند الله تعالى لجوز أن يكون مقرا عامله غير مصدق والله سبحانه عالم بعدم تصديقه فهو مؤمن عندنا تجري عليه أحكام الإيمان وكافر عند الله تعالى.

قوله: (والكفر إقرار) أي الكفر من العبد على نفسه بعدم الإيمان، فلا يكلف بعد إقراره بينة على المقر به وهو عدم الإيمان كما في سائر أقارير العقلاء على أنفسهم بل الإقرار بعدم الإيمان أولى بعم التكليف لأن كل إقرار غيره يجوز العقل عدم تحقق المقر به في نفس الأمر بخلاف الإقرار بالكفر فإنه عبارة عن إنكار شيء من أجزاء الإيمان وتركه هو عين الكفر، فلا يحتاج إلى بينة قطعا بخلاف الإيمان فإنه دعوى لثبوته له، ولا يجوز ذلك ولا يثبت إلا ببينة كما في سائر الدعاوي وبينته عمله المتعلق باللسان والجوارح، ونيته المتعلقة بالقلب وهي التصديق فإذا اتفق العمل والنية شهد شاهدا عدل فالعبد عند الله مؤمن، وإن اختلفا بأن يشهد العمل دون النية فهو ليس بمؤمن عند الله تعالى ومؤمن عندنا لأنا نحكم بظاهره على باطنه فنحكم بأنه مؤمن مصدق حكما ظنيا غالبا فقولهم بأن كل مؤمن عندنا مؤمن عند الله باطل. وأما قولهم الكافر عندنا كافر عند الله فهو صحيح إذا الكفر موجود بانتفاء كل جهة من هذه الجهات الثلاثة المعتبرة في الإيمان وجودا من نية وتصديق أو قول باللسان أو عمل بالجوارح يعني يتحقق الكفر بانتفاء واحد من هذه الثلاثة فمن انتفى منه واحد منها وعلمنا ذلك فهو كافر عندنا كما هو كافر عند الله تعالى وأما إذا لم نعلم كما إذا انتفت منه النية لأن علمنا بالنية متعسر وقد ظهر مما ذكر أن المشهود له بالإيمان والمجرى عليه أحكام المؤمنين وهو كافر عند الله كثير وإن من أجرى عليه الاحكام مصيب لأنه مكلف بالحكم على ظاهر قوله وعمله الدالين على النية وليس مكلفا بالحكم على الباطن لعدم علمه ولكن لما كان تخل المدلول عن اللفظ وما يجري مجراه كثيرا كان وجود القول والعمل بدون النية كثيرا ولذلك كان وجود الكافر عند الله كثيرا.

ص:120

* الأصل

باب السبق إلى الإيمان

* الشرح

قوله: (باب السبق إلى الإيمان) (1)

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد قال: حدثنا أبو عمر الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن للإيمان درجات ومنازل، يتفاضل المؤمن ومن فيها عند الله؟ قال: نعم، قلت: صفه لي رحمك الله حتى أفهمه، قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه، فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه، لا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا. تفاضل بذلك أوائل هذه الامة وأواخرها ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الامة أولها. نعم ولتقدموهم إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالإبطاء عن الإيمان أخر الله المقصرين لأنا نجد من المؤمني من الآخر من هو أكثر عملا من الأولين وأكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكاة وجهادا وإنفاقا ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون بعضهم بعضا عند الله لكان الآخرون بكثرة العمل مقدمين على الأولين ولكن أبي الله عزوجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله. قلت: أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان، فقال: قول عز وجل: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) وقال:

(السابقون السابقون * اولئك المقربون) وقال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا

ص:121


1- 1 - قوله «باب السبق إلى الإيمان» قد مر كتاب العقل والجهل أن الثواب على العقل وما في هذا الباب يؤيده فإن السابق إلى الإيمان لابد أن يكون عقه أقوى ومعارضة الوهم له أضعف وإلا فلا يسبق إلى الإيمان والوهم يأمر بحفظ العادات ويخاف عن مخالفة الجمهور ولا يجوز ترك ما عليه أكثر الناس ولا يقدم على المخالفة إلا من اطمئن بعقله وتجرأ على تخطئة الجمهور ولم يتأثر برأي الأكثرين وضعيف العقل لا يطمئن بصحة رأيه إلا إذا رأي المشهور موافقين له هذا بناء على أن يكون المراد السبق بالزمان وأما الأنواع الآخر من السبق فظاهر. ( ش)

عنه) فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم، ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده، ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه بعضهم على بعض، فقال عز وجل:

(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات - إلى آخر الآية -) وقال: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) وقال: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخره أكبر درجات وأكبر تفضيلا) وقال: (هم درجات عند الله) وقال: (ويؤت كل ذي فضله) وقال: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) وقال: (فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة) وقال: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل اولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) وقال: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات) وقال: ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا: إلا كتب لهم به عمل صالح) وقال: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (قال إن الله سبق بين المؤمنين) أي قرر السبق وقدره بين المؤمنين في الإيمان نديهم إليه كما يسبق بين الخيل يوم الرهان فمنهم في المقام الأدنى وهو مقام بتحقيق فيه المسبوقية دون السابقة، ومنهم في المقام الأعلى وهو مقام يتحقق فيه السباقة دون المسبوقة وهو مقام خاتم الأنبياء، وبين المقامين مقامات غير محصورة يجتمع فيها السابقية والمسبوقية باعتبارين، والتشبيه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الايضاح.

قوله: (فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه) المراد بجعله عليها أعطاؤه المقرر له في تلك الدرجة من الاجر والثواب والتقرب من غير أن ينقص من حقوقه فيها، وفي الاقتصار بنفي النقص دون الزيادة ايماء إلى جوازها من باب التفضل وإن لم يستحق.

قوله: (ولا يتقدم مسبوق سابقا) كما أن المسبوق في المشبه به لا يتقدم سابقا لعدم وسعه ذلك ، وللزوم خلاف الفرض كذلك المسبوق في المشبه لا يتقدم سابقا في الكمال والمنزلة والاجر والتقرب لأنه تعالى حكيم عدل لا يجوز، بل يضع كلا في موضعه.

ص:122

قوله: (تفاضل بذلك أوائل هذه الأمة وأواخرها) ذلك إشارة إلى السبق والأوائل والأواخر أما بحسب الدرجات أو بحسب الوجود والأزمان كالصحابة والتابعين إلى يوم الدين فكما أن في عصرنا هذا يقع التفاضل بعلو الدرجة في الإيمان والعلم تخلية النفس عن الرذائل وتخليتها بالفضائل حتى أن من قدم المفضول على الفاضل ورجحه عليه، كان رأيه ضعيفا وعقله خفيفا كذلك في أوائل هذه الأمة، ومن هذا يظهر أن تقديم العجل على علي (عليه السلام) كان باطلا ولعل الغرض الأصلي من هذا الحديث هو التنبيه عليه وإن كان ظاهره أعم.

قوله: (ولو لم يكن للساق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الأمة أولها) أي للحق آخر هذه الأمة بحسب درجات الإيمان أولها بحسبها فيساويهم في الدرجة أو للحق آخر هذه الأمة بحسب الأزمان كالتابعين ومن بعدهم أول هذه الأمة بحسبها كالصحابة من المهاجرين والأنصار، وذلك لأنه إذا سقط اعتبار السبق لزم التساوي والاشتراك في الدرجة.

قوله: (نعم ولتقدموهم) «نعم» تصديق لمضمون الشرطية المذكورة وتمهيد لشرطية اخرى أفخم من الاولى، وتصديق لمضمونها أيضا أي إذا لم يكن لمن سبق إلى الإيمان الفضل على ما أبطأ عنه لتقدم آخر هذه الأمة بحسب ما ذكر أول هذه الأمة بحسبه فقوله «لتقدموهم» جزاء الشرط على تقدير جواز تقديمه، أو دليل على جزائه المحذوف على تقدير عم جوازه وبناء الشريطة الاولى على عدم تكثر العمل في آخر هذه الأمة وبناء هذه الشرطية على اعتباره فيهم، ووجه الشرطية أن السبق إلى الإيمان إذا لم يكن له مدخل في الترجيح لزم تقدم الآخر مع زيادة العمل وتكثره لاختصاصه بهذا المزية، وأعلم أن المراد بالإيمان أما نفس التصديق أو التصديق مع العمل ولكن واحد منهما درجات ومنازل بعضها فوق بعض وآخرها غاية الكمال للبشر كمرتبة عين اليقين أو أعلى منها وصرف جيمع الجوارح في جميع الأوقات في جميع ما خلقت له ثم المراد بالمسابقة إليه أما المسابقة إلى درجاته ومنازله وطلب الأعلى فالأعلى إلى غايتها وهي بزيادة العلم والعمل، أو المسابقة إلى أصله وهي السبق الزماني على سبيل منع الخلو، والأول في الموضعين أولى من الأخير نظرا إلى ظاهر الحديث فمن اجتمع فيه المسابقة بالمعنيين كأمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الكامل مطلقا والسابق على الإطلاق ومن انتفى عنه الأمران هو الناقص للاحق مطلقا ومن له سبق الزمان إلى الإيمان مع انتفاء الزيادة عنهما أو بالعكس فهو السابق وأعلى درجة وأما إذا تعارض الأمران بأن يكون لأحدهما سبق الزمان وللآخر زيادة العمل فظاهر هذا الحديث أن السابق زمانا أفضل وأعلى درجة من الآخر، وتخصيص ذلك بالصحابي محتمل لأن السابق أعون للنبي من اللاحق والتعميم أظهر والله أعلم.

ص:123

قوله: (ولكن بدرجات الإيمان) لما كان الشرط في القضيتين هو عدم الفضل للسابق على المسبوق يستلزم لحوق المسبوق به أو تقدمه عليه بالاعتبارين كما أشرنا إليه أشار هنا إلى نفي التالي فيهما باثبات نقيض الشرط بحكم الله تعالى إذ نقيضه وهو ثبوت الفضل للسابق يستلزم عدم اللحوق والتقدم وهو ظاهر.

قوله: (لأنا نجد من المؤمنين) كأنه بيان للشرطية الثانية وتوجيه لمضمونها وحاصله أنا نجد من آخر هذه الأمة من هو أكثر عملا وعبادة من أولها فلو لم يكن للسابق إلى الإيمان والتصديق وأعلا درجاتها المبتنية على اليقين والرضا والعلم والحكم وتخلية النفس عنم الرذائل وتحليتها بالفضائل فضل على المسبوق لكان المسبوق بسبب كثرة العمل واتصافه بها مقدما، ولكن هذا باطل، لأن الله عز وجل أبي أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويلحق صاحب الآخر بصاحب الأول وكذا أبي أن يقدم في درجات الإيمان من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله بل كل في درجته لا يقدم ولا يؤخر فقوله «ولكن أبي الله» إشارة إلى بطلان التالي تأكيدا لما مر، وفيه سر لا يخفى وهو أنه إذا كان اللاحق في الإيمان مع كثرة العمل غير لاحق بالسابق إليه ولا مقدم عليه مع قلة عمله كان تقديم الغاصب الأول المنتحل لأسم الخلافة مع تأخره في الإيمان على تقدير تسلم إيمانه، ومع قلة عمله على العالم الرباني والمؤمن الوحداني علي بن أبي طالب (عليه السلام) مع تقدمه إلى الإيمان وسبقه إلى أعلى مراتبه وكثرة عمله باتفاق الخاصة والعامة باطلا بالضرورة.

قوله: (قلت أخبرني عما ندب الله عز وجل) لما دل كلامه (عليه السلام) سابقا على أنه تعالى طلب منهم الاستباق إلى الإيمان ودعاهم إليه سأله الزبيري عن موضع من القرآن يدل عليه.

قوله: (سابقوا إلى مغفرة) أي سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إلى سبب مغفرة من ربكم من الأعمال الصالحة الموافقة لمقتضى النواميس الإلهية والكمالات النفسانية، وأعظم تلك الأعمال هو الإيمان الكامل البالغ إلى النهاية المتوقف على جميع الكمالات النفسانية.

قوله: (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) قال الفاضل الأردبيلي كنى بالعرض عن مطلق المقدار وهو متعارف ونقل على ذلك الأشعار في مجمع البيان وأنه لما علم أن عرضه الذي هو أقل من الطول عرفا في غير المتساوي علم أن طوله أيضا يكون أما أكثر أو مثله، وقال القاضي ذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريق التمثيل لأنه دون الطول وعن ابن عباس أنها كسبع سماوات وسبع أرضين ولو وصل بعضها وظاهر الآية وجب المسارعة أو رجحانها إلى الطاعة الموجبة للدخول في الجوة وأعظمها الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والترقي إلى مقاماته العالية.

قوله: (أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله) ظاهر هذا الآية وغيرها من الآيات والروايات أن الجنة

ص:124

مخلوقة الآن وكذا النار قال الفاضل المذكور: قول به الأصحاب وصرح به الشيخ المفيد في بعض رسائله وقال أن الجنة مخلوقة مسكونة سكنتها الملائكة وظاهر الآية أنها في السماء والظاهر أن المراد به أنه يكون بعضها في السماء ويكون البعض الآخر فوقها أو يكون أبوابها فيها أو فوق الكل وما ذكره الحكماء من «أن السماء لا تقبل الخرق والالتيام وأن فوقها لا خلاء ولا ملاء» غير مسموع شرعا (1) قالوه انتهى كلامه أعلى الله مقامه، وقال القاضي فيه دلالة على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم (2) جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقين وإنما تخلقا يوم القيامة.

قوله: (وقال «السابقون السابقون») السابقون مبتدأ وخبر أي السابقون إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والإيمان

ص:125


1- 1 - قوله «ما ذكره الحكماء غير مسموع شرعا» ما ذكر الحكماء يعني امتناع الخرق على الفلك مما لم يدل عليه عقلي ولم يبينوه ببرهان تعليمي كما هو دأبهم في الفلكيات اعترف بذلك المنصفون منهم وصرحوا بأن الدليل خاص بمحدد الجهات وعلى فرض صحته فلا يوجب عبور الملائكة والأجسام الأخروية خرقا كما لا يجوب دخول الملائكة في القبور نبشا وفي البيوت خراب الجدار والبحث الذي أورده الشارح بحث طويل جدا لا يمكن حق أدائه في هذا الموضع ولا يناسب فيه إلا إشارة مختصرة. فنقول أولا الحق أن الجنة والنار موجودتان فعلا وأن خالف فيه جماعة من المسلمين وربما ينسب إلى السيد الرضى (رضي الله عنه). وثانيا بناء على وجودهما فعلا فالحق أن مكان الجنة في السماوات أو فوقها ومكان النار تحت الأرض أو تحت البحر. ثالثا أن أحكام الأجسام الدنيوية المبنية على التجربيات والعادات غير جارية في الأجسام الاخروية ولا يجوز التشكيك في وجود الجنة والنار أو في مكانهما بعدم إمكان جريان أحكام الأجسام الدنيوية عليها، لأن التجربة خاصة بالدنيوية منها مثلا إذا قيل كيف يرتفع الصلحاء من الأرض وكيف يصعدون إلى السماء يوم القيامة ولم يرد في رواية أو آية ذكر صعودهم وآلة صعودهم وإن إلا بدان مائلة إلى الأرض لجاذبيتها وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكثيرا من خواص أصحابه وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) كيف رأوا أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار مع هذه المسافة البعيدة بين الأرض إلى السماوات وحيلولة الأرض بين الأبصار وبين جهنم وكيف يفتح من الجنة التي في السماء باب إلى قبور الصالحين وكيف يرى ذلك صاحب القبر مع كونه ميتا ولا يراه الناس مع كونهم أحياء وأمثال ذلك كثيرة مما دعا المعتزلة إلى إنكار أصل وجودهما فعلا وما يتفرع عليه. وجواب ذلك وأمثاله أن حكم الآخرة غير حكم الدنيا فإنه عالم آخر لا يقاس ما فيه بما في هذا العالم ولا يمتنع هناك الاتصال من بعيده والرؤية مع الفاصلة والعبور من الموانع والحواجب العنصرية كما يدخل الملائكة في القبور ويغير نبش وتجوز الأفلاك بغير خرق وفي بين لا خرق فيه لقبض روح المحصورين فيه ولتفصيل ذلك مجال واسع في موضعه إن شاء الله. (ش)
2- 2 - قوله «وأنما خارجة عن هذا العالم» لأن الجنة أوسع من عالم الأجسام بسماواتها وأرضها لأن عرضها السماوات والأرض فكيف يكون في موضع منه. (ش)

والإخلاص والطاعة هم السابقون إلى المقامات العلية والدرجات الرفيعة أو السابقون ذلك هم السابقون الذي عرفت حالهم وبلغك وصفهم، ويكون تعريف الخبر للمبالغة والإشارة إلى ما هو معلوم لك، وهذا بحسب الظاهر خبر، وبحسب المعنى حث على المسابقة إلى ما ذكر.

قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) قال المفسرون: السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين أو شهدوا بدورا أو أسلمو قبل الهجرة ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الاولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين، وقال الفاضل النيشابوري: الظاهر أن الآية عامة في كل من سبق بالهجرة والنصرة، وقال أكثر العلماء كلمة «من» للتبعيض وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين قلة وفيهم ضعف فقوى الإسلام بسببهم، وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم، وقيل للتبيين فيتناول المدح جميع الصحابة.

قوله: (والذين اتبعوهم باحسان) قال صاحب الكشاف والنيشابوري هم الذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن وقال القاضي: هم اللاحقون بالسابقين أو من اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة.

قوله: (ثم ذكر ما فضل الله عز وجل به أولياءه) بعد ما فرغ عن ذكر آيات دلت على الدعاء إلى الاستباق ذكر آيات دلت على ما يترتب عليه من التفضيل وأعلاء الدرجة.

قوله: (تلك الرسل) في الكشاف تلك إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكر قصصها في سورة أو التي ثبت علمها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله: (ورفع بعضهم فوق بعض درجات) في الكشاف أي منهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أرفع منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على ساير ما أوتى الأنبياء لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون ساير المعجزات، وفي هذه الابهام من تفخيم فضله وأعلاء قدره ما لا يخفى لما من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والتميز الذي لا يلتبس.

قوله: (هم درجات) أي ذوو درجات متفاوتة بعضها فوق بعض.

قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) فوجب بحسب وعده الصادق أن يضع كل ذي فضل في منزلته ودرجته فدرجة الفاضل أرفع من درجة غير ودرجة الأفضل أعلى من درجة المفضول، ودرجة السابق إلى الإيمان أشرف وأرفع من درجة المسبوق وقد رد الله عز شأنه بهذه الآية وأمثالها على من علم أنه

ص:126

سيزعم جواز تفضيل المفضول على الأفضل بل الجاهل على الفاضل، ومن زعم أن الأفضلية باعتبار الزيادة في الثواب واعلاء الدرجة في الآخرة لا باعتبار السبق والكمال في الإيمان والزيادة في العمل لله تعالى ولم يدر أن الزيادة في الثواب والدرجة إنما هي بالاعتبار المذكورة، والا لزم الكذب بالوعد والوعيد وبطلان الكتاب والشريعة نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

قوله: (وقال الذين آمنوا وهاجروا) أي قال الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر ايمانا لا يشوبه شك وهاجروا إلى الرسول وفارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران وطلبوا مرضات الله وجاهدوا في سبيل الله بصرف أموالهم ورفع أنفسهم إلى الله ودفع هواها أعظم درجة عند الله ممن لم يتصف بالصفات المذكورة لإزالة طمعهم عن الحياة الدنيوية، وبذل أرواحهم القدسية طلبا للحياة الأخروية، وصرف همتهم العالية لاعلاء كلمة الحق وتقوية الدين، فلذلك صاروا أعظم درجة عند رب العالمين، والله لا يضيع اجر المحسنين ومن هذا يظهر أن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أعظم درجة من جميع الصحابة لأنه آمن وهاجر وجاهد حين فشلوا وفروا كما يهر بالنظر في حاله وحالهم في حرب حنين وأحد وخيبر وغيرها من الحروب.

قوله: (وقال فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) أجرا مفعول ثان لفضل باعتبار تضمنه معنى الاعطاء كأنه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما، وكل واحدة من درجات منه ومغفرة ورحمة بدل من أجرا، ويجوز أن تكون منصوبا على المصدر لأن فضل بمعنى آجر كأنه قيل: وآجرهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما، والبدل بحاله، ويجوز أيضا أن ينتصب درجات بنزع الخافض أي بدرجات، أو على المصدر لأنها تدل على التفضيل فكأنه قيل: فضلهم تفضيلات كقولك ضربته أسواطا أي ضربات الأسواط تدل على الضربات وحينئذ ينتصب أجرا على أنه حال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة، ومغفرة ورحمة على المصدر باضمار فعلهما أي فنغر لهم مغفرة ورحمهم رحمة، كذا ذكره المفسرون. وههنا شيئان لا بأس أن نشير اليهما:

الأول أن النيشابوري قال في تفسيره: استدلت الشيعة ههنا بأن عليا (عليه السلام) أفضل من غيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهدوهم بالإضافة اليه قاعدون لما اشتهر من وقايعه واقدامه وشجاعته وحمايته، وأجاب أهل السنة بأن جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجاهد الأكبر حين كان الاسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا وانما جهاد على (عليه السلام) ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الاسلام في ذلك الوقت قويا ولاحق أنه الآية لا تدل الاعلى تفضيل المجاهدين على القاعدين أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا انتهى.

أقول هذا المجيب اعترف بأن عليا (عليه السلام) في الغزوات سابق علي أبي بكر وغيره وسبقة (عليه السلام)

ص:127

في العلم والعمل والزهد أشهر من أن ينكره أحد من المعاندين، وأما ما ذكره من جهاد أبي بكر في الدين حين كان ضعيفا فلا أثر له، وأي جهاد كان له لم يكون لعلي (عليه السلام) مع أن دعوته (عليه السلام) إلى الدين وارشاد الصحابة أجمعين وارجاع الثلاثة كثيرا عن الباطل إلى الحق المبين أشهر من أن يخفى وأكثر من أن يحصى.

والثاني أن فاضلا من الشيعة كان في مجلس حاكم من أهل السنة وكان فيه أيضا علم ذو ذنب (1) فذكر ذو ذنب أن عائشة كانت أفضل من فاطمة (عليها السلام)، فقال الحاكم لذلك الفاضل: ما تقول؟ فقال:

أيها الأمير أنا أقول في شأنها ما قال الله تعالى وقرأ هذه الآية رمزا إلى الحق وإشارة إلى ارتدادها بخروجها على علي (عليه السلام) فضحك الحاكم بمعرفة قصده وخاطب ذا الذنب فقال ما تقول؟ فبهت الذي كفر.

قوله: (وقال «لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح») إذا انفاق الأموال في سبيل الله والمقاتلة من قبل الفتح أعظم وأشرف وأسبق وأشق على النفس منهما من بعد الفتح لوقوعهما عند ضعف الاسلام وقوة الكفر وكثرة العدو وشدة شوكتهم فلذلك صارا سببا لرفع درجات السابقين وعظمتها.

قوله: (والذين أوتوا العلم درجات) قيل المراد الرفعة في مجلس النبي وهو المناسب للمقام والمشهور الرفعة في درجات ثواب الآخرة.

قوله: (وقال ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ) ذلك إشارة إلى وجوب الجهاد المفهوم من الآية السابقة والمنع من التخلف عنه وما بعده يحث عليه ويجرى مجرى المنع من التخلف والظمأ شدة العطش والنصب الاعياء والتعب والمخمصة المجاعة الشديدة والموطىء أما اسم مكان أو مصدر. والضمير في «يغيظ» عائذ إلى الوطي وفيه دلالة على أن من قصد طاعة الله كان قيامة وقعوده مشية وحركته وسكونه كلها حسنات تكتب في ديوان عمله.

قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير) فيه حث على الخير وترغيب فيه والمراد به الانفاق أو الأعم.

ص:128


1- 1 - قوله «عالم ذو ذنب» كأنه كان ناصبيا يشعر به اصراره على تفضيل عائشة وأكثرهم على تفضيل فاطمة قال السهيلي وهو من أعاظم علماء أهل السنة يذكر عن أبي بكر بن داود أنه سئل أعائشه أفضل أم خديجة؟ فقال: عائشة أقرئها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السلام من جبرئيل وخديجة أقرأها جبرئيل السلام من ربها على لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أفضل. قيل له: فمن أفضل أخديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ان فاطمة بضعة منى فلا أعدل ببضعة من رسول الله أحدا، قال السهيلي: وهذا استقرء حسن ويشهد لصحة هذا الاستقراء أن أبا لبابة حين أرتبط نفسه وحلف أن لا يحله الا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءت فاطمة لتحله فأبى من أجل قسمه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انما فاطمة مضغة مني فحلته قال: ويدل على تفضيل فاطمة قوله (عليه السلام) لها أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة الا مريم فدخل في هذا الحديث أمها وأخواتها وقد تكلم الناس في المعنى الذي به سادت به فاطمة غيرها إلى آخر ما قال. (ش)

قوله: (وقال فمن يعلم مثقال ذرة خيرا) يدل على أن عمل الخير سبب لعلوا الدرجة ورفع المنزلة، وعمل الشر خلاف ذلك ففيه ترغيب في الخير وتبعيد عن الشر.

ص:129

باب درجات الإيمان

*الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن الحسن بن محبوب، عن عمار بن أبي الأحوص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل، محتمل، وقسم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى [ال] سبعة ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ولاعلى صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم، ثم قال: كذلك حتى ينتهى إلى [ال] سبعة.

* الشرح

قوله: (إن الله عز وجل وضع الايمان على سبعة أسهم) هذه الأسهم كلها من أفعال القلب (1)

ص:130


1- 1 - قوله «هذه الأسهم كلها من أفعال القلب» ومن مراتب السلوك في إصلاح العرفاء وهو حركة نفسانية من النقص إلى الكمال الانساني وقد تكلم فيها العلماء بهذا الشأن ومن أحسن ما صنف فيه كتاب أوصاف الاشراف للمحقق الطوسي الذي أشار اليه الشارح، واعلم أن تلك المراتب غير متناهية من جهة التقسيم كسائر الحركات كما أن السير في المسافة ينقسم إلى الفراسخ والأميال والأذرع والأصابع وباعتبار كل تقسيم يختلف عدد الاقسام فان قسمنا مسافة بالفراسخ وحصل عشرة اقسام مثل كانت بالاميال ثلاثين قسما وبالاذرع مائة وعشرين ألف ذراع والمسافة واحدة كذلك السير إلى الكمال الإلهي ينضبط باقسام تختلف باعتبارات وقد يعبر عنها باللطائف السبع وأشار اليه الشاعر: هفت شهر عشق را عطار گشت ما * هنوز اندر خم يك كوچه أيم وضبطها المحقق الطوسي في ستة أقسام ثم قسم كل قسم إلى ستة، وقسم صاحب منازل السائرين إلى عشرة وكل قسم إلى عشرة، وقسم مولانا الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث إلى سبعة أقسام، وفي حديث إلى عشرة، وفي حديث آخر سيأتي ان شاء الله تعالى أيضا إلى سبعة، وكل قسم منها إلى سبعة فصارت تسعة وأربعين، ثم قسم كل منها إلى عشرة وللناس فيما يعشقون مذاهب وكلها صحيح والأولى بنا حفظ اصطلاح الامام (عليه السلام) ووجه الترتيب أن الانسان في مبدء السلوك لا يمكن أن يكون راغبا في الشر مصرا في الفسق معرضا عن الخير، لأن من هذه صفته لا يتصور في حقه التوجه إلى الكمال النفساني فأول المراتب البر ولما كان البر ذا درجات: أولها أن يكون معتقدا لحسن الحسن وقبح القبيح ومعذلك يرتكب القبائح مسامحة وغفلة وغرورا كما نرى من كثير من الفساق المعترفين بقبح فعالهم وهؤلاء لا يصدق فعلهم فثاني المراتب الصدق، ثم من صدق قوله فعله قد لا يكون ايمانه خاليا عن شوائب الوهم، ولم يكون له محض اليقين بحيث يبعثه على الحركة على ما يأتي شرحه ان شاء الله في درجات الايمان وثالث المراتب لمزيد الكمال اليقين، ولما لم يكن اليقين بنفسه محركا للانسان إلا بالرضا كما أن العلم بالنافع لا يوجد الحركة اليه إلا إذا اشتاق فرب علم بنفع التجارة لا يتجر لعدم شوقه ورب متيقن بالجنة لا يبعد الله لعدم شوقه لذلك كان الرضا رابعا والوفاء بعد الرضا بمنزلة تحريك العضلات بعد الشوق ثم عبر (عليه السلام) عما يسنح للسالك بعد الوفاء بالشروط، بالعلم والحلم وهو العلم المفيد في الآخرة وهو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله بما يسمى عندهم بالفناء أو له العلم وآخره الحلم وهذا وجه قريب الاحتمال في ضبط الأسهم السبعة والله العالم بحقيقة كلام وليه وكل كلام من هذا الجنس في أخبار الأئمة (عليهم السلام) ورد مجملا ولم يرد فيه الشرح يجوز للعقول التدبر فيها وأبداء أقرب الاحتمالات فيه وإلا كان ذكرهم عبثا تعالى أولياء الله عن البعث. (ش)

وصفاته إلا النادر منها، الأول: البر أي الاحسان إلى نفسه بفعل الواجبات وترك المنهيات، والى الوالدين والأقربين والاخوان المؤمنين، وقد روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال «ومن خالص الإيمان البر بالاخوان».

الثاني: الصدق وهد القول المطابق للواقع كما هو المشهور وينشأ من استقامة اللسان واعتداله في البيان ويطلق أيضا على فعل القلب والجوارح المطابقين للقوانين العدلية والموازين الشرعية منه والصديق وهو من حصل له ملكة الصدق في جميع هذه الامور ولا يصدر منه خلاف المطلوب عقلا أو نقلا، كما صرح به المحقق الطوي في أوصاف الأشراف.

الثالث: اليقين وهو الحالة التي تحصل للإنسان عند كمال قوته النظرية كما إن التقوى هي الحالة التي تحصل له عند كمال قوته العملية وبعبارة اخرى هو الإعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله وهو في الحقيقة مؤلف من علمين العلم بشيء والعلم بأنه لا يمكن خلاف ذلك العلم.

وله مراتب مذكورة في القرآن: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، قال الله تعالى (لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين» وقال: (وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين» وهذه المراتب مترتبة في الفضل والكمال مثلا العلم بالنار بتوسط النور أو الدخان هو علم اليقين والعلم بها بمعاينة جرمها المفيض للنور عين اليقين والعلم بها بالوقوع فيها ومعرفة كيفيتها التي لا تظهر بالتعبير حق اليقين، وبالجملة علم اليقين يحصل بالبرهان، وعين اليقين بالكشف، وحق اليقين بالاتصال المعنوي الذي لا يدرك بالتعبير.

الرابع الرضاء بقضاء الله في النفس والمال والوالد حلوا كان أم مرا.

الخامس الوفاء بعهد الله وهو ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته حين اشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى أو الأعم منه ومن الوفاء بالرسالة والولاية والتكاليف وعهود الناس وشروطهم الجايزة.

السادس العلم بالاحكام الدينية والشرايع النبوية

ص:131

والاخلاق النفسية، وبالجملة المراد به البصيرة القلبية في أمر الدين وهي التي توجب استيلاء الخوف والخشية على القلب كما قال جل شأنه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء».

السابع الحلم وهو هيئة حاصلة للنفس من الاعتدال في القوة الغصبية مانعة لها من الأنفال بسهولة عن الواردات المكروهة المؤذية التي من شأنها تحريك النفس إلى الانتقام والتسلط والترفع والغلبة وبالجملة هو صفة يوجب سكون النفس وتأنيها عند هيجان الغضب.

قوله (فهو كامل محتمل) لبلوغ ايمانه حد الكمال واحتماله جميع سهامه وأنحائه.

قوله: (ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين) كما أن القوة الجسمانية يتفاوت في أفراد الانسان حتى يقدر أحد على حمل من والآخر على حمل منين والثالث على حمل ثلاثة وهكذا، وكذلك القوة الروحانية فتكلف الأدنى حين كونه أدنى بما كلف به الاعلى تكليف بما لا يطلق، والثواب والعقاب ليسا بمتساويين كما روى «إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» نعم على الاعلى ان ينقل الأدنى إلى درجة بالتعليم والرفق والوعظ مما سيجيء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه مالا يطيق فتكسره»، وعلى الأدنى أن يتضرع إلى الله عز وجل في المسألة بان يكمله ويفقه للترقي إلى درجة أعلى من درجة كما مر في كتاب العقل، ومن ههنا ظهر أن القسمة المذكورة لا توجب الظلم لأن المطلوب من كل أحد ما يقتضيه قسمه ونصيبه وأن كل ذي قسم قابل للدرجة الفوقانيه اما في نفس الامر أو في ظنه وتجويزه وان بناء الكمال على التدريج والتعلم والطلب منه تعالى، وفيه دلالة على أن الرجل بعد تحصيل أصل الايمان لو قصر في كماله لقصور في القوة العقلية أو القوة العلمية لا يعد مقصرا ولا يؤاخذ عليه والله أعلم.

قوله: (فتبهضوهم) بهضه الحمل يبهضه بالضاد أي أثقله وأعجزه وبالظاء أكثر.

* الأصل

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا، عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم، عن أبي اليقظان، عن يعقوب ابن الضحاك عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادما لأبي عبد الله (عليه السلام) قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه قال: فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين قال: وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا، فجئت وأنا بحال فرميت بنفي فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) قد أقبل قال: فقال: قد أتيناك أو قال: جئناك، فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له فأخبرته، فحمد الله ثم جرى ذلك قوم فقلت: جعلت فداك إنا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول. قال: فقال: يتولونا ولا يقولون تبرؤون منهم؟ قال: قلت: نعم قال: فهو ذا عندنا ما

ص:132

ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت:

لا - جعلت فداك - قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا؟ قال: قلت لا والله جعلت فداك، ما نفعل؟ قال: فتولوهم ولا تبرؤوا منهم، إن من المسلمين من له سهم ومنهم من له سهمان، ومنهم له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة اسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة. ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة، وسأضرب لك مثلا إن رجلا كان له جار وكان نصرانيا فدعاه إلى الإسلام وزينه له فأجابه فأتاه سحيرا فقرع عليه الباب فقال له: من هذا؟ قال: أنا فلان قال: وما حاجتك؟ فقال: توضأ والبس ثوبيك ومر بنا إلى الصلاة قال: فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه، قال: فصليا ما شاء الله ثم صليا الفجر، ثم مكثا حتى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيا يريد منزله، فقال له الرجل أين تذهب. النهار قصير والذي بينك وبين الظهر قليل؟ قال: فجلس معه إلى أن صلى الظهر، ثم قال: وما بين الظهر والعصر قليل فاحتبسه حتى صلى العصر. قال: ثم قام وأراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إن هذا آخر النهار وأقل من أوله فاحتبسه حتى صلى المغرق ثم أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنما بقيت صلاة واحدة قال: فمكث حتى صلى العشاء الآخرة ثم تفرقا فلما كان سحيرا غذا عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ قال: توضأ والبس ثوبيك وأخرج بنا فصل، قال: اطلب لهذا الدين من هو أفرغ مني وأنا إنسان مسكين وعلى عيال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

أدخله في شيء أخرجه منه - أو قال: أدخله من مثل هذه وأخرجه من مثل هذا.

* الشرح

قوله: (وهو بالحيرة) الحيرة بالكسر مدينة كان يسكنها النعمان بن المنذر وهي على رأس ميل من الكوفة.

قوله: (مغتمين) بالغين المعجمة وفي بعض النسخ «مغتمين» بالعين لمهملة قيل أي داخلين وقت العتمة.

قوله: (وكان فراشي في الحائر) الحائر المكان المطمئن والبستان كالحير وكربلا.

قوله: (وأنا بحال) أي من الضعف والكلال.

قوله: (أنهم لا يقولون ما نقول) من الفضائل أو من المسائل أو من الاعمال الصالحة التي يقولها

ص:133

أصحاب العرفان ويعملها أرباب الايقان، لامن أصول العقائد.

قوله: (ما نفعل) لما رجع السائل بالمقدمات المذكورة عن الجهل المركب وهو القطع بالبراء منهم إلى الجهل البسيط، استفهم عما يلزمه من التوسط بين التولي والتبري أو التولي بقوله ما نفعل على صيغة المتكلم، والحاصل أن الاحتمالات ثلاثة التولي والتبري والسكوت، ولما بطل التبري استفهم عن أحد الآخرين فأجاب (عليه السلام) بأن اللازم عليكم هو التولي، وفي بعض النسخ «ما يفعل» بالياء وهو حينئذ من تتمة السابق، «وما» نافية والفاعل ضمير عائد إلى الله.

قوله: (فليس ينبغي ان يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين) كل من القوة العملية والقوة العقلية أما في مرتبة النقص أو في مرتبة الكمال أو الاولى في مرتبة النقص والثانية في مرتبة الكمال أو بالعكس، فالاحتمالات باعتبار القوتين أربعة ولا ينبغي أن يحمل الناقص على ما عليه الكامل بل ينبغي أن يراعي التوسط في كل مرتبة كما يظهر من المثل.

قوله: (ثم صليا الفجر ثم مكثا حتى أصبحا) يمكن أن يراد بالفجر الفريضة وبالاصباح الدخول في الصبح المضيء الكامل النور وأن يراد به النافلة مع الحذف أي حتى أصبحا وصليا الفريضة.

قوله: (أدخله في شيء أخرجه منه) لا يخفى أن هذه العبارة ذات وجهين لأن الشيء يحتمل الإسلام والنصرانية.

ص:134

(باب آخر منه)

* الأصل

1 - أحمد بن محمد، عن الحسن بن موسى، عن أحمد بن عمر، عن يحيى بن أبان عن شهاب قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الحلق لم يلم أخد أحدا.

فقلت: أصلحك الله فكيف ذاك؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءا.

ثم جعل الأجزاء أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار، ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشرى جزء حتى بلغ به جزءا تاما وفي آخر جزءا وعشر جزء وآخر جزءا وعشري جزء وآخر جزءا وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزئين تامين، ثم بحساب ذلك حتى بأرفعهم تسعة وأربعين جزءا، فمن لم يجعل فيه إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار وكذلك من تم له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزئين ولو علم الناس أن الله عز وجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا.

* الشرح

قوله: (لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعال هذا الخلق لم يلم أحد أحدا) عدم اللوم باعتبار قصور في القوة النظرية أو في القوة العملية ظاهر ولذلك لايلام شارب الخمر مثلا لو ادعى عدم العلم بحرمته وأكن في حقه ولا من أنكر شيئا مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يبلغه بل اللازم عليه حينئذ هو الإرشاد والتعليم برفق والحاق الناقص بالكامل، كما دل عليه الثاني من هذا الباب، وأما إذا كانت القوتان كاملتين بأن علم مثلا وجوب شيء وقدر على فعله وتركه فإنه يلام قطعا ومنه يظهر الجمع بين الروايات الدالة على اللوم وعدمه فليتأمل.

قوله: (إن الله تبارك وتعالى خلق اجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءا) (1) وما يتبعه من قوة الاعمال والاخلاق كالتوكل والزهد والورع واليقين والرضا وغيرها من الصفات النفسانية، فإنها تبلغ تسعة وأربعين، ثم جعل تلك الاجزاء أعشارا بأن جعل التوكل عشرة أجزاء، وقوة العمل عشرة أجزاء، وقوة والبصر كذلك وهكذا، والحاصل أنه قدر عمل البصر والسمع واللسان والرجل واليد

ص:135


1- 1 - قوله «بلغ بها تسعة وأربعين جزءا» حاصلة من ضرب سبعة في نفسها فكأنه قمس المراتب أو لا إلى سبعة ثم كان قسم إلى سبعة نظير ما مر من المحقق الطوي (قدس سره) حيث قسم أو لا إلى ستة أقسام وكل قسم إلى ستة. (ش)

وعمل القلب أعنى التصديق والاخلاق أعشارا، ويؤبده قوله (عليه السلام) في آخر الباب «وبعضهم أكثر صلاة من بعض وبعضهم أنفذ بصرا من بعض وهي الدرجات».

قوله: (فجعل الجزء عشرة أعشار ثم قسمه بين الخلق) أي جعل كل جزء عشرة أجزاء فبلغ المجموع أربعمائة وتسعين جزءا، والمالك للجميع هو الكامل مطلقا والفاقد للجميع هو الناقص مطلقا وما بينهما كامل وناقص بالإضافة والناس بعد تفاوتهم بهذه المراتب متشاركون في أصل القوة التكليفية والقدرة واللوم باعتبار هذه القوة والقدرة وابطال استعدادهما وصرفهما في غير الجهات المشروعة لا باعتبار ما هو فوق طاقتهما.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابه، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن محمد بن عثمان، عن محمد بن حماد الخزاز. عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشرة فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه مالا يطبق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره.

* الشرح

قوله: (أن الإيمان عشر درجات) (1)

ص:136


1- 1 - قوله «الإيمان عشر درجات» لا ينافي ذلك تسبيع الأقسام أو جعلها تسعة وأربعين على ما ذكرنا، وأما اختلاف الناس في درجاتهم والتكلم معهم على قدر عقولهم وعدم جواز جمل أحد على شيء لا يقدر فهو مما لا يخفى على المزاولين لهذه الامور كالتدريس والوعظ ووصي به الحكماء أيضا في علومهم التي لا يستلزم الخطأ فيها سوء العاقبة فكيف في علم الدين الذي لا نجاة للضال فيه أبدا. قال الشيخ أبو علي بن سينا في آخر الإشارات ألقمتك قفى الحكم في لطائف الكلم فصنه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والدربة والعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم انتهى. ومما أوصى به أفلاطون أن لا يتصدي أحد للفلسفة إذا لم يحكم العلوم التعليمية وكان مكتوبا على مدرسه: من لا يعلم الهندسة فلا يحضرون هنا والسر فيه أن العقل الإنساني قلما يخلص عن شائبة الوهم ومثاله المعروف الميت جماد والجماد لا يخاف عنه يحكم به العقل ولا يذعن به الوهم والإنسان بعد قيام الديلي على عدم الخوف يخاف من الميت متابعة لوهمه ونظير هذا ثابت في كل قضية عقلية قام على صحته البرهان والوهم حاضر يعارضه وقل إن يتفق رجل لا يتشوش خاطره به ويقدر على الجزم بالحق والقطع على الدليل وعدم الاعتناء بالوهم ومما جربنا في العلوم وجربنا عليه في تدريس العقليات منذ سنين الاحتراز من تعليم الفلسفة الإلهية لمن لم يرتض ذهنه بالرياضيات كالهندسة والهيئة ولا نتكم في العقليات مع من لا يعرفها فإن الخاطر يتبلبل ويتشوش عند سماع البرهان ويتردد بين قبول البرهان ومتابعة أوهامه المرتكزة الراسخة في قلبه منذ حداثته إلى أن كمل ومن أحسن ما يؤثر في إقامة الذهن البراهين الرياضية. (ش)

المركب منه ومن العمل والأجزاء الأصلية المذكورة التي جعل كل واحد عشرة أجزاء.

قوله: (وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليه برفق) ينبغي لأرباب الكمال وأهل الصحة والسلامة أو يرحموا أهل النقص وأرباب الذنوب بإنقاذهم واعانتهم على الخروج منهما بالرفق واللطف تدريجا لأن ذلك دأب الانبياء والعلماء العالمين بكيفية التعليم والتفهيم، وفي قوله «فارفعه إليك» دلالة واضحة على أن القيام على الدرجة الاولى ليس من باب الحتم والحصر بل هو قابل للترقي إلى الأعلى فالأعلى حتى يبلغ غاية ما يمكن له من الكمل. لا يقال الخبر السابق دل على أن صاحب عشر جزء لا يقدر أن يكون مثل صاحب العشرين فكيف يؤمر صاحب العشرين بأن يرفعه إلى درجته برفق؟ لأنا نقول لعل المقصود أنه صاحب عشر بالفعل وله استعداد اكتساب عشر آخر على أنه لو فرض اختصاصه بالعشر وعدم استعداده للزائد في نفس الأمر فلا ريب في أن صاحب العشرين لا يعلم ذلك، بل ربما يظن أنه قابل للترقى فهو مأمور بهذا الاعتبار رجاء لتحقق مظنونه والله أعلم.

قوله: (من كسر مؤمنا فعليه جبره) إن كان كسره بإخراجه عن الدين فعليه أن يدخله فيه بالإرشاد وإن كان يكسر قلبه فعليه أن يرضيه.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن سدير قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على سبع فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين ولم يقو وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو وعلى صاحب الثلاث أربعا لم يقو وعلى صاحب الأربع خمسا لم يقو وعلى صاحب الخمس ستا لم يقو على صاحب الست سبعا لم يقو وعلى هذه الدرجات.

* الأصل

4 - عنه، عن علي بن الحكم، عن محمد بن سنان، عن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) 2: قال : ما أنتم والبراءة، يبرء بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصرا من بعض وهي الدرجات.

* الشرح

قوله: (وبعضهم أنفذ بصرا) لعل المراد بالبصر البصر القلبي فهو إشارة إلى تفاوت الدرجات في القوة النظرية وما قبله إلى تفاوت الدرجات في القوة العملية، وكان قوله «وهي الدرجات» إشارة إلى الدرجات التي في قوله تعالى (هم درجات عند الله».

ص:137

باب نسبة الإسلام

* الشرح

قوله: (باب نسبة الإسلام) أي صفته التي يتضح بها أمره وحقيقته، يقال نسبته إلى الشيء نسبا من باب طلب أي عزوته إليه وانتسب هو إليه اعتزى والاسم النسبة بالكسر ولما كانت نسبة شيء إلى شيء توضيح امره وحاله وما يؤول هو إليه أراد بها هذا من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لأنسبن الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعي إلا بمثل ذلك: إن الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء، إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه، وإن المؤمن يرى يقينه في عمله والكافر يرى إنكار في عمله، فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمرهم، فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين بأعمالهم الخبيثة.

* الشرح

قوله: (إن الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء) (1) (عليه السلام) إلى أن الإسلام وهو دين الله الذي أشار إليه جل شأنه بقوله: (ان الدين عند الله الإسلام» يتوقف حصوله على ستة امور حتى أن ينتفى بانتفاء واحد منها الأول: التسليم وهو بذل العبد نفسه ورضاه بالأحكام الإلهية والنوائب وإن كان مرة في طبعه، الثاني: اليقين بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب وهو العلم به مع زوال الشك، الثالث:

التصديق الذي هو الإيمان الخالص، الرابع: الإقرار بما يجب الإقرار به، الخامس: العمل بالجوارح، السادس: أداء ما افترض الله به بل ما ندبه إليه إلا أنه حمل كل لاحق على سابقه وكل واحد على الإسلام على سبيل القياس المفصول النتايج وإن كانا متغايرين يتوقف السابق على اللاحق لشدة الاتصال بينهما، ثم هذه العبارة لا تخلو من لطف وهو أنه

ص:138


1- 1 - قوله «والعمل هو الأداء» وفي نهج البلاغة «والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل» وتكلم في هذا الحديث شراح نهج البلاغة واستدل به ابن أبي الحديد على صحة مذهبه وهو إن العمل من الإيمان. (ش)

جعل الذي هو الإيمان الخالص الحقيقي بين ثلاثة وثلاثة واشتراك الثلاثة التي قبله في أنها من مقتضياته وأسباب حصوله، واشتراك الثلاثة التي بعده في أنها من لوازمه وآثاره وثمراته، وبالجملة جعل التصديق الذي هو الإيمان وسطا عدلا، وجعل أول مراتبه من جهة الأسباب مراقبة الإسلام، وثانيها التسليم، ثالثها اليقين، وجعل أول مراتبه من جانب المسببات الإقرار، وثانيها العمل، وثالثها الأداء فليتأمل.

قوله: (إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه) هذا بمنزلة التأكيد لقوله «إن الإسلام هو التسليم» لأن دين الحق لا يجوز أخذه من الرأي بل يجب أخذه من الرب بلا واسطة أو بواسطة عالم رباني، ومن أخذه من الرب كان من أهل التسليم له.

قوله: (إن المؤمن يري يقينه في عمله والكافر يرى إنكاره في عمله يرى أما مجهول من الرؤية أو معلوم من الإراءة وما بعده على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب، وهذا بمنزلة الدليل والتأكيد لما لزم من قوله واليقين هو العمل وصريح في أن العمل معتبر في الإيمان وإن كل من كان عمله خبيثا غير واقع على القوانين الشرعية فهو كافر أو منافق وإن كان مدعيا للإيمان، وإن الإيمان هو التصديق القبلي والعمل دليل عليه فكال ما دل على ان كان مدعيا للإيمان، وإن العمل أو دل على أنه العمل فلابد من حمله على أن إضافة العمل إليه إضافة كما لا أنه جزء منه بحيث ينتفي الإيمان بانتفائه، لا يقال إذا كان الإيمان نفس التصديق وجب أن لا يتفاوت إذا لتصديق لا يزيد ولا ينقص لأنه علم والعلوم لا تتفاوت فوجب أن يكون إيمان أحدنا مثل إيمان أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه باطل قطعا.

لأنا نقول لا نسلم أن العلوم لا تتفاوت وقد زعم النووي من العامة أن التصديق الواحد يزيد باعتبار كثرة الأدلة وإن كان هذا لا يخلو من شيء لأن كثرة الأدلة إنما يفيد العلم بالشيء من جهات متعددة لا تفاوت العلم ولو نسلم أن تفاوت مراتب الإيمان وقع من جهة التصديق بل من جهة الأعمال المنضافة إليه لأجل الكمال، والحاصل أن العمل غير داخل في حقيقة الإيمان لا أنه غير داخل في حقيقة أفراده والتفاوت إنما هو بين الأفراد لا بين الحقيقة فليتأمل.

* الأصل

2 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن مدرك بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار ومروته العمل الصالح وعماده الورع ولكل شيء أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت.

* الشرح

قوله: (الإسلام عريان فلباسه الحياء) شبه الإسلام بالرجل العريان في النقض والضعف

ص:139

وأثبت اللباس له ترشيحا للتشبيه. وشبه الحياء به لأنه يمنع من المعاصي ويحجب عن القبايح ويحسن الصورة ويفع العار كاللباس الفاخر الساتر وزينته الوفاء بعهد الربوبية والرسالة والولاية، أو الأعم منه ومن عهود الناس ولا يبعد أن يراد به الإقرار والتسليم، ومروته العمل الصالح وهو من آثارها إذ من شأن المروة وهي كمال الرجولية الحث على فعل ما ينبغي فعله، وعماده الورع من المنهيات والمكروهات بلا عن المشتبهات أيضا لأن ذلك يوجب ثبات الإسلام وبقاءه كما أن فعل المنهيات يوجب زواله وفناءه.

قوله: (ولكل شيء أساس) الظاهر أنه كلام أبي عبد الله (عليه السلام) واستعار أساس الإسلام لحب أهل البيت عليهم السلام إذا حبهم مبدء للإسلام ودين الحق وأصل له لما يعتبر فيه وبه بناؤه وثباته.

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن مدرك ابن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مثله.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني. عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده صلوات الله عليهم قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة وجعل له نورا وجعل له حصنا وجعل له ناصرا. فأما عرصته فالقرآن، وأما نوره فالحكمة وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وأنصارهم فإنه لما أسرى بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل (عليه السلام) لأهل السماء، استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة. ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني لأهل الأرض فاستودع الله عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة، ألا فلو أن الرجل من امتي عبد الله عز وجل عمره أيام الدنيا ثم لقى الله عز وجل مبغضا لأهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلا عن النفاق.

* الشرح

قوله: (إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة) شبه الإسلام بالدر في الرجوع إليه والسكون فيه والانس به وجعل له عرصة وهي موضع واسع فيها لا بناء فيه وجعل له نورا يرى به ما خفى كما أن للبيت نورا، وجعل له حصنا يمنع من خروج المصلح عنه ودخول المفسد فيه كما أن للدار حصنا مانعا من ذلك، وجعل له ناصرا ينصره ويروجه ويتدبر في أمره واصلاحه كما أن للدار ناصرا كذلك فأما عرصته فالقرآن لأن أهله يستريح فيه ويسير إليه وأيضا لا يدخل في الدين إلا ما يدخل في القرآن كما أنه لا يدخل في الدار إلا ما يدخل في العرصة، وأما نوره

ص:140

فالحكمة (1) العلم يظهر أو أمر الدين ونواهيه، وآدابه وأسراره، وأما حصنه فالمعروف لأن المعروف وإقامته يوجب حفظه من خروج الحق عنه ودخول الباطل فيه وأيضا حفظه يوجب حياة الإسلام وتركه يوجب هلاكه فهو يشبه الحصن، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا ولعل المراد بالشيعة من كان تابعا لهم في العلم والعمل إذ لا يتصور النصرة بدونهما.

قوله: (ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني لأهل الأرض) فان قلت كيف ذكر نسبه لأهل الأرض والمؤمنون به إلى يوم القيامة لم يكونوا موجودين في ذلك الزمان، قلت لعله نادى بقوله «يا أيها الناس

ص:141


1- 1 - قوله «وأما نوره فالحكمة» القرآن والحكمة وبعبارة أخرى الشرع والعقل ولن يفيد العقل والحكمة ان ألم ينظر بهما إلى القرآن ولا يستفيد من القرآن إذا لم يتدبر فيه بعقله فالقرآن عرصة يرى ما فيها بنور العقل والحكمة وقد روى في آخر كتاب العقل (المجلد الأول صفحة 437) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «بالعقل استخرج غور لحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل إلى آخره» وفي حديث ورد في عرض نسخ الكافي آخر كتاب العقل والجهل عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: «أو أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلا به، العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبر لهم، وأنهم المدبرون، وأنه الباقي وهم الفانون، واستلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه، من سماءه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، بأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل، وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقول. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقول دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله لله قوامه وزينته وهدايته، علم أن الله هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدل على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله ان لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي الأقوام له به». قال الراغب الإصفهاني في كتابه المسمى بالذريعة: لله عز وجل رسولان إلى خلائقه أحدهما من الباطن وهو العقل، والثاني من الظاهر وهو الرسول ولا سبيل لاحد الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر ولولاه لما كان تلزم الحجة ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل وأمر أن يفزع اليه في معرفة صحتهما فالعقل قائد والدين مسدد ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرا واجتماعهما كما قال تعالى «نور على نور» ونقل الفيض (رحمهم الله) في كتاب عين اليقين عن بعض الفضلاء وهو الراغب في تفضيل النشأتين قال: أعلم أن العقل لن يهتدى إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل والعقل كالأس والشرع كالبناء ولن يثبت بناء ما لم يكن أس ولن يغنى أس ما لم يكون بناء، وأيضا العقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن ينفع الصبر ما لم يكون شعاع من خارج ولن يغنى الشعاع ما لم يكن بصر. قال: وأيضا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن الزيت لم يشعل السراج وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت انتهى. وقال الرضا (عليه السلام): «لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقله له ». وقال الصادق (عليه السلام) «ليس بين الإيمان والكفر الا قلة العقل» وكل ذلك مأخوذ من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام). (ش)

هذا محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم النبيين» فسمع صوته من في أصلاب الرجال وأرحام النساء يوم القيامة فأجاب من أجاب كما نادى خليل الرحمن للحج أو أراد بذكر نسبه لأهل الأرض ذكره في القرآن فإنهم يسمعونه بطنا بعد بطن وعصرا بعد عصر إلى يوم القيامة فيحبهم شيعتهم ويبغضهم عدوهم والله أعلم.

ص:142

باب خصال المؤمن

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن عبد الملك بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقورا عند الهزاهز، صبورا عند البلاء، شكورا عند الرخاء، قانعا بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل أمير جنوده والرفق أخوه والبر والده.

* الشرح

قوله: (وقورا عند الهزاهز) الوقور فعول من الوقار وهو الحلم والرزانة، والهز: التحريك، يقال هززته هزا فاهتز من باب قتل أي حركته، والهزاهز الفتن يهتز الناس فيها.

قوله: (صبوا عند البلاء) البلاء اسم لما يمتحن به من شر أو خير، ويقال بالفارسية «زحمت ونعمت» وكثر استعماله في الشر والصبر وهو حبس النفس على الأمور الشاقة عليها وترك الاعتراض على المقدور وعدم اظهار الشكاية والاضطراب من أعظم خصال الإيمان.

قوله: (شكورا عند الرخاء) الرخاء النعمة والخصب وسعة العيش، والشكر الاعتراف بالنعمة ظاهرا وباطنا ومعرفة حق المنعم والاتيان بطاعته وترك معصيته والشكور للمبالغة فيه.

قوله: (قانعا بما رزقه الله) لا يبعثه الحرص على الحرام وجمع ما لا يحتاج إليه وتضييع العم فيما لا يعنيه.

قوله: (لا ينظلم الأعداء) المقصود في الظلم على الناس خص الأعداء بالذكر لأنهم مورد الظلم إذ العداوة تبعث عليه غالبا.

قوله: (ولا يتحامل للأصدقاء) أي لا يتحامل على الناس يعني لا يجوز عليهم لأجل الأصدقاء وطلب مرضاتهم، وقيل لا يتحمل الوزر لأجلهم كما إذا كان عندك شهادة على صديقك لغيره فلا تشهد له رعاية للصداقة.

قوله: (بدنه منه في تعب والناس منه في راحة) لقيامة بالعبادات ليلا ونهارا واشتغاله بالطاعات سرا

ص:143

وجهارا حتى أسهرت لياليه وأظمأت هواجره وكان همه بعد ذلك رفع الأذي عن الناس وايصال الخير إليهم، فهم منه في راحة دنيوية وأخروية.

قوله: (ان العلم خليل المؤمن) إشارة إلى ما هو الأصل الجميع ما ذكر لتوقف الخصال المذكورة على هذه الأمور، والخلة - بالضم - الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه والخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل وقد يكون بمعنى مفعول، وانما كان العلم خليل المؤمن لأنه ينفعه غاية النفع كالخليل، والمراد بالمؤمن النفس الناطقة المطيعة المنزلة إلى هذا البدن لتحصيل معرفة الحق من جهة آثاره، ومشاهدة عجايب صنعه، والتقرب منه قبل العود وبعده على الوجه الأكمل كما قال عز شأنه (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» ولما كان ذلك التحصيل لا يتم إلا بالأعضاء والحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغصب والحلم والعقل وغيرها خلقت لها هذه الأمور وجعلت جنودها وهي سلطان على الجميع تأمر كل واحد بما خلق له تناه عن غيره فتأمر اللسان بالقول الصحيح وتأمر البصر بالنظر الصحيح وتأمر الشهوة بطلب ما ينفع البدن وتأمر الغضب بدفع ما يضره، وقس عليه وكما أن للسلطان الظاهر وزيرا يشاوره في نظام أمره ومملكته وأميرا لجنوده يقهر الأعداء بحسن تدبيره ويضبط أمور عساكره، كذلك لسلطان البدن وزير وأمير فوزيره الحلم وأمير العقل إذ العقل ينهى اليه أن مرسوم اليد مثلا الاخذ والاعطاء الصحيحين، ومرسوم اللسان القول اللين والأقوال الصحيحة الموافقة للقوانين الشرعية، ومرسوم الشهوة هو القدر الضروري من الطعام والشراب ونحوهما، ومرسوم الغضب هو دفع المانع منه ودفع العدون المفسد فيأمر الوزير وهو الحلم بأن يعطى كل واحد ما أنهاه الأمير اليه ويمنعه من التجاوز عنه، فأمير البدن إذا رجع إليها تم نظام مملكته وصارت جنوده مسخرة له فتحمل له السعادة الأبدية والتقرب بالحضرة الربوبية ولو انعكس الامر وعصت الرعايا وغلبت الشهوة والغضب على الأمير والوزير زالت سلطنته وخربت مملكته ونكست أحواله وبعد عن مولاه وهو من الخاسرين.

قوله: (والرفق اخوه والبر والده) أي الرفق وهو اللين والتلطف بالصديق والعدو والجليس والرفق، بمنزلة الأخ في دفعه الشر عنه. والبر هو الإحسان إلى الخلق بمنزلة الوالد في جلب النفع وطلب الخير له.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الإيمان له أركان أربعة التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضاء

ص:144

بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (الإيمان له أركان أربعة) المراد بالايمان اما التصديق الجازم الثابت المطابق للواقع أو هو مع العمل، ولكامله أو لثباته واستقراره أركان لو انتفى أحدها لبطل كماله وزال استقراره:

الأول التوكل على الله وهو الاعتماد عليه والوثوق به في الرزق وغيره من الضروريات، وقطع تعلق القلب بغيره من الأسباب والمسببات وهو يوجب قوة الإيمان وثابته إذ لو انتفى التوكل عليه وتعلق القلب بغيره من الأسباب والمسببات والوسائط تحركت الجوارح إلى تحصيلها وفرغ القلب عن ذكره وذهلت الجوارح عن طاعته، وهو يجب ضعف الإيمان، الثاني تفويض الامر في دفع شر الأعداء وكيد الخصماء ومكائد النفس ووسائس الشيطان أو مطلقا إلى الله كما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله (فوقاه الله سيئات ما مكروا» فإن من استكفاه كفاه الله وفرغ هو لذكره وطاعته وهو يوجب قوة الإيمان وثباته، الثالث الرضا بقضاء الله في حصول الشدة والرخاء ونزول المصيبة والبلاء، وهذه خصلة شريفة توجب كمال الإيمان وثباته، وانتفاؤها يوجب السخط بالله وبصنعه، وذلك يوجب نقص الايمان بل زواله غالبا، الرابع التسليم لأمر الله عز وجل والانقياد له في الشرايع والأحكام والحدود وكل ما أنزله على رسوله وهو في الحقيقة قبول قول الله وقول الرسول والأوصياء وأفعالهم ظاهرا وباطنا وتلقيها بالبشر والسرور وان كان ثقيلا على النفس وغير موافق للطبع، وهو أصل عظيم لرسوخ الإيمان وكماله إذ لو انتفعى استولى ضده وهو الشك عن القلب والشك ينافي أصل الإيمان فضلا عن كماله.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفون حتى تصدقو أو لا تصدقون حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا، إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يتقبل الله إلا بالوفاء بالشروط والعهود، ومن وفي الله بشروطه واستكمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده، إن الله عز وجل أخبر العباد بطريق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال: (إنما يتقبل الله من المتقين) فمن اتقى الله عز وجل فيما أمره لقى الله عز وجل مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث لا يعلمون، إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى و من أخذ في غيرها سلك طريق الردي، وصل الله

ص:145

طاعة ولي أمره بطاعة رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله وهو الإقرار بما نزل من عند الله، خذوا زينتكم عند كل مسجد والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه، فإنه قد خبركم أنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل وإقام الصلاة وإيتاء الزكوة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين لذلك في نذره فقال: (وإن من امة إلا خلا فيها نذير) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل، إن الله عز وجل: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم ينذر اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقروا بما نزل من عند الله و اتبعوا آثار الهدى، فإنهم علامات الأمانة والتقى، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى بن مريم (عليه السلام) وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن، اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار. تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم.

* الشرح

قوله: (عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه) قد مر هذا الحديث سندا ومتنا في أوائل كتاب الحجة في باب معرفة الإمام والرد إليه وذكرنا شرحه مفصلا.

قوله: (إنكم لا تكونوا صالحين حتى تعرفوا) ذكر أمورا أربعة كل سابق موقوف على اللاحق لظهور أن الصلاح وهو التحلي بالفضائل الظاهرة والباطنة والتخلي عن الرذائل متوقف على معرفتها والمعرفة متوقفة على التصديق إذ هي بدونه نفاق واستهزاء، والتصديق موقوف على تسليم أبواب أربعة. ولعل المراد بها الإقرار بالله، والإقرار بالرسول، والإقرار بما جاء به الرسول، والإقرار بالأئمة (عليهم السلام) بعده، أو المراد بها الرسول وعلى والحسن والحسين (عليهم السلام)، أو المراد بها الأربعة المذكورة في الآية الآتية وهي التوبة والإيمان والعمل الصالح والاهتداء وهو متابعة الإمام ولكن لا يخلو هذا من مناقشة.

قوله: (لا يصلح أولها إلا بآخرها) فلا يصلح الإقرار بالله والتسلم له إلا بالإقرار بالإمام والتسلم له .

قوله: (لا يقبل إلا العمل الصالح) وهو المشتمل على ما يعتبر في تحققه وصلاحه شرعا داخلا كان أم خارجا ومن جملة ذلك التسليم للأبواب الأربعة وهو شرط الله وعهده على عباده في صلاح العمل وقبوله واستحقاق الاجر به. ولا يتقبل الله من العاملين أعمالهم إلا بوفائهم بشروطه وعهوده ومن وفي الله بشروطه وحفظها وأتي بما وصف في عهده على وجه الكمال ورعاه وعبد بإرشاد الرسول والهداة من بعده نال ما عنده من الثواب الجزيل واستكمل وعده من الأجر الجميل كما قال عز وجل أوفوا بعهدي أوف بعهدكم أي أوفوا بما عاهدتكم عليه من الامور المذكورة أوف بعهدكم من الثواب والجزاء. وقيل إن

ص:146

للوفاء عرضا عريضا أو له الإقرار بالشهادتين وآخر الاستغراق في التوحيد.

قوله: (إن الله عز وجل اخبر العباد بطرق الهدي) بيان للشروط والعهود المذكورة أو تأكيد لها أو دليل عليها ولذا ترك العطف، والمراد بطرق الهدي طرق الشرع الموصلة إلى المطلوب الهادية إلى مقام القرب وبالمنار وهي جمع المنارة على غير قياس يعني موضع النور ومحله أعلام الهدي وهم الحجج (عليهم السلام) لأنهم محال أنوار الله تعالى وعلومه التي بمنزلة النور في الإيصال إلى المطلوب باخبارهم كيفية سلوكهم طرق الشرع والزامهم باقتفاء آثار الحجج واتباع أقوالهم وأعمالهم وعقائدهم فقال عز وجل: (وإني لغفار لمن تاب) عن الباطل ورجع إلى وإلى الحجج (وآمن) بي وبهم (وعمل صالحا) ببيانهم وإرشادهم، (ثم اهتدى) إلى وإلى مقام قربى أو إلى العلم بأنه لا يتحقق المغفرة والعمل الصالح بدون التوبة والإيمان المذكورين.

(وقال عز وجل إنما يتقبل الله من المتقين) الذين يتمسكون بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين لهم الحجج ولم يتجاوزوه ويقومون على ما أمرهم الله به وينتهوا عما نهاهم عنه.

(فمن اتقى الله عز وجل فيما أمره) من متابعة الحجج واقتفاء آثارهم. (لقى الله عز وجل) يوم القيامة مؤمنا (بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هيهات هيهات) أي بعد التقوى واللقاء بالإيمان. (فات قوم ) في الضلالة (وماتوا قبل أن يهتدوا) إلى الله والحجج (وظنوا أنهم آمنوا) بالله والحال أنهم ( أشركوا) به (من حيث لا يعلمون) أنه اتباع الهوى وترك متابعة الحجج شرك بالله العظيم، ثم أوضح ذلك على سبى الاقتباس من القرآن الكريم بقوله (أنه من أتى البيوت) بيوت الشرع (من أبوابها) وهي الحجج (اهتدى) إلى دين الله الموصل إليه (ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي ) أي الضلال والهلاك وسر ذلك أن الوصول إلى الله متوقف على سلوك سبيله المتوقف على العلم بالمبدأ والمعاد والقوانين الشرعية المقررة بالوحي وشئ من ذلك لا يتسير إلا بالإرشاد معلم رباني وهو النبي ومن يقوم مقامه من الأوصياء والعلماء التابعين لهم فمن أخذ منهم فقد اهتدى، ومن عدل عنهم فقد سلك سبيل الردى وضل عن سبيل الحق، ومثله كمثل من قصد جهة الشرق وهو سلك سبيل الغرب فكلما بالغ في السير بعد عن المقصد وضل عن سبيه وهو الضلال البعيد ( ثم أكد ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته) في قوله (أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم» وهو مفيد التلازم (فمن ترك طاعة الأمر ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله) لأن ترك اللازم يوجب ترك الملزوم والحال أن الإقرار بطاعة ولاة أمر (وهو الإقرار بما نزل من عند الله) وهي الآية الكريمة لأن كل من أقربه فقد أقر بالأولين أيضا دون العكس فإن كثيرا من الناس أقروا بالأولين دون الأخير فهم لم يقروا بما نزل من عند الله ثم بالغ في الإقرار بولاة الأمر وحث عليه بقوله (خذوا زينتكم عند كل مسجد) والزينة مطلق ما يتزين به شرعا، ومنه الإقرار والتصديق بولاية

ص:147

الأمر لأنه أعظم ما يتزين به الظاهر والباطن (والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيما أسمه) أي اطلبوها وهي بيوت النبوة والوصاية التي شرفها الله تعلى على بيوتات ساير الأنبياء والأوصياء، ويذكر فيما اسم الله وآياته، كما أشاره إليه بقوله (فإنه قد خبركم أنهم) أي الرسول وولاة الأمر (رجال لا تلهيهم تجارة) أي مطلق الإكتساب (ولا بيع عن ذكر الله) عز وجل (وأقام الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوما) أي عذابه أو شره (تتقلب فيه القلوب والأبصار) ظهر البطن ومن جانب إلى جانب كتقلب الحية على الرمضاء، وذلك لكثرة شدائده وعظمة مصايبه.

قوله: (إن الله قد استخلص الرسل لأمره) «الاستخلاص» رهانيدن خواستن ورهانيده خواستن وپاك شدن خواستن، وكان النذر بضمتين جمع النذير، وأن المراد به على بن أبي طالب وولاة الأمر بعده. أن جعل الرسول خالصين لأمره فارغين عما عداه بالمجاهدات النفسانية والتأييدات الربانية ثم جعلهم خالصين من باب التأكيد حال كونهم مصدقين لأجل خلوصهم في نذره أي في وصف الأولياء وتعيين الأوصياء (فقال «وإن من أمة إلا خلا فيها نذير») فكيف يجوز أن لا يكون في هذه الأمة نذير منصوب من قبل الله وقبل رسوله، وفيه رد على من جعل الكفرة صاحبين للخلافة قابلين للنيابة (تاه) أي تحير في الدين وضل الطريق من جهل النذير واهتدى من أبصره وعقله.

قوله: (إن الله عز وجل يقول: «فإنها لا تعمى الأبصار») فيه تسهيل لأول وتقبيح للثاني، وإشارة إلى أن السبب الجهل ذهاب البصيرة وابطال القوة القلبية التي بها تدرك الصور الحقة والأسرار الإلهية وابطالها يتحقق تارة بعدم التفكر والتدبر، وأخرى بمتابعة القوة الشهوية والغضبية حتى ينزل في الدرجة الحيوانية.

قوله: (كيف يهتدى من لم يبصر وكيف يبصر من لم ينذر) إشارة إلى أن الهداية إلى الدين بدون البصيرة والبصيرة بدون هداية الهادي وإرشاد المنذر محال ولذلك أمر باتباع الرسول الأئمة الهداة بعده فقال (اتبعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقروا بما نزل من عند الله) ومنه طاعة ولاة الامر (واتبعوا آثار أئمة (الهدى من العقائد والأقوال والأفعال والاخلاق (فإنهم علامات الأمانة والتقى) إذ بهم يعرف الأمانة أي الدين والتقوى، ويعلم أركانهما وشرائطهما وكيفية الوصول إليهما والتقوى ملكة تحدث من ملازمة المأمورات واجتناب المنهيات والمشتبهات وثمرتها حفظ النفس عن الدنيا.

قوله: (وأعلمو أنه لو أنكر رجل عيسى بن مريم) المقصود أن من أنكر واحدا من الأئمة أو أزاله عن موضعه لم يؤمن بالله، وذكر عيسى بن مريم على سبيل التمثيل وإلا فالحكم مشترك وهو أن منكر أحد من الرسل غير مؤمن بالله تعالى مما ذهب إليه حذاق المتكلمين ودليلهم على ذلك هو السمع دون العقل إذ لا يمتنع في العقل أن يعرف الله من كذب رسوله لأنهما معلومان لا ارتباط لأحدهما بالآخر عقلا، لا

ص:148

يقال العقل دل عليه لأن منكر الرسول مقر باله غير مرسول لهذا الرسول، ولا شيء من المقر باله غير مرسل لهذا الرسول مقر بالله سبحانه فلا شيء من منكر الرسول، ولا شيء من المقر باله غير مرسل لهذا الرسول مقر بالله سبحانه فلا شيء من منكر الرسول مقر بالله سبحانه فلا يكون مؤمنا به وهو المطلوب أما الصغرى فصادقة لأنها الواقع وأما الكبرى فلأن إلا له الذي لم يرسل هذا الرسول ليس هو الله سبحانه. لأنا نقول يصير النزاع لفظيا والكبرى فيها مصادرة . أما الأول فلان الخلاف يتوجه إلى أن العارف بالشيء المقر به من وجه وغير مقربه من وجه آخر هل يسمى عارفا لذلك الشيء أم لا، وأما الثاني فهو ظاهر فليتأمل.

قوله: (اقتصوا الطريق بالتماس المنار) قص الأثر واقتصه إذا تبعه، أي اتبعوا الطريق وأطلبوه بطلب أعلامه التي نصب لمعرفته كيلا تضلوا.

قوله: (والتمسوا من وراء الحجب الآثار أي اطلبوا آثار الأئمة وأخبارهم من وراء حجب شبهات الجاحدين، أو من ورائهم، ففيه أمر بالرجوع إليهم عد غيبتهم بخلاف السابق فإنه أمر به عند حضورهم، ويحتمل أن يراد بالحجب الأنبياء ففيه حث على اقتفاء آثار أقدامهم وسلوك طريقتهم، ولا يتحقق ذلك إلا بإرشاد الأوصياء.

* الأصل

4 - عنه، عن أبيه، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن الرضا، عن أبيه (عليهم السلام) قال: رفع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم في غزواته فقال من القوم؟ فقالوا مؤمنون يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وما بلغ من إيمانكم؟ قالوا: الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضاء بالقضاء، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

حلماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء، وإن كنتم كما تصفون، فلا تبنوا مالا تسكنون ولا تجمعوا مالا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون.

* الشرح

قوله: (فقال من القوم) سأل عما يوجب تعيينهم من الخصال والصفات (فقالوا مؤمنون) أي نحن أو القوم مؤمنون، ولما كان للإيمان آثار ولوازم شريفة يدل عليه سأل عما بلغهم منها من أجل إيمانهم فقالوا: الصبر على المشاق عند البلاء والشكر للمنعم عند الرخاء والرضاء بالقضاء، ولما كانت هذه الامور من آثار العلم والحكمة والحلم وكانت من أعظم صفات الأنبياء قال (صلى الله عليه وآله وسلم) حلماء علماء (1)

ص:149


1- 1 - قوله «علماء حلماء» لأنهم استنبطوا لوازم الإيمان يعقلهم فإنهم فهمو أن المؤمن يصبر عند البلاء إذ علموا من ما يصيب الإنسان إنما هو من الله تعالى وهو لا يريد السوء لعبادة والشكر عند الرضا لأن النعمة منه تعالى، والرضا بالقضاء يعم ذلك وغيره، وسماهم الفقهاء لاستنباطهم وعدم وقوفهم على حفظ ما سمعوا.

التشابه والتقارب، ثم لما كانت هذه الصفات تقتضى الزهد في الدنيا والتقوى أن الإتيان بالمأمورات وترك المنهيات حثهم على الأول بقوله: إن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لم تسكنون ولا تجمعوا مالا تأكلون وخصهما بالنهي لأنهما من أعظم مطالب الراغبين في الدنيا وعلى الثاني بقوله (واتقوا الله الذي إليه ترجعون) وفيه وعد ووعيد جميعا.

ص:150

(باب)

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) وبأسانيد مختلفة، عن الأصبغ ابن نباتة قال: خطبنا أمير المؤمنين (عليه السلام) في داره - أو قال: في القصر - ونحن مجتمعون، ثم أمر صلوات الله عليه فكتب في كتاب وقريء على الناس وروى غيره أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن صفة الإسلام والإيمان والكفر والنفاق، فقال: أما بعد فان الله تبارك وتعالى شرع الإسلام وسهل شرائعه لمن ورده وأعز أركانه لمن حاربه وجعله عزا لمن تولاه وسلما لمن دخله وهدى لمن ائتم به وزينة لمن تجلله وعذرا لمن انتحله وعروة لمن اعتصم به وحبا لمن استمسك به وبرهانا لمن تكلم به ونورا لمن استضاء به وعونا لمن استغاث به وشاهدا لمن خاصم به وفلجا لم حاج به وعلما لمن وعاه وحديثا لمن روى وحكما لمن قضا وحلما لمن جرب ولباسا لمن تدبر وفهما لمن ويقينا لمن عقل وبصيرة لمن عزم وآية لمن توسم وعبرة لمن اتعظ ونجاة لمن صدق وتؤدة لمن أصلح وزلفى لمن اقترب وثقة لمن توكل ورخاءا لمن فوض وسبقة لمن أحسن وخيرا لمن سارع وجنة وظهيرا لمن رشد وكهفا لمن آمن وأمنة لمن أسلم ولمن صبر ولباسا لمن اتقى رجاء لمن صدق وغني لمن قنع، فذلك الحق، سبيله لهدى ومأثرته المجد وصفته الحسنى فهو أبلج المنهاج مشرق المنار، ذاكي المصابح، رفيعه الغاية، يسير المضار، جامع الحلبة، سريع السبقة. أليم النقمة، كامل العدة، كريم الفرسان، فالإيمان منهاجه والصالحات مناره والفقه مصابيح والدنيا مضماره والموت غايته والقيامة حلبته والجنة سبقته والنار نقمته والتقوى والمحسنون فرسانه، فبالإيمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يعمر الفقه وبالفقه يرهب الموت وبالموت تختم الدنيا وبالدنيا تجوز القيامة وبالقيامة تزلق الجنة والجنة حسرة أهل النار والنار موعظة المتقين والتقوى سنخ الإيمان.

* الشرح

قوله: (وروى غيره أن ابن الكواء) الظاهر أن ضمير غير راجع إلى الأصبغ بن نباته، وعبد الله ابن الكواء من رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) خارجي ملعون.

ص:151

قوله: (شرع الإسلام) أي أظهره وأوضحه أو جعله شريعة للعقول وطريقا لها لتسلكه إليه.

قوله: (وسهل شرائعه لمن ورده) الشرائع جمع الشريعة وهي طريق الماء. والمراد بها قواعده وأركانه وخطاباته على سبيل الاستعارة، وبتسهيلها أظهارها وايضاحها وجعلها سهل المأخذ بحيث يفهمها الفصيح وإلا لكن ويدركها الغبي والفطن.

قوله: (وأعز أركانه لمن حاربه) لعل المراد با عزاز أركانه - أي قواعد وقوانينه وأحكامه وحدوده - حمايتها بنصره ورفعا بأهله على من قصد محاربته وهدمه وإطفاء نوره وإزالة بنيانه مغالبة من المشركين والجاحدين والجاهلين.

قوله: (وجعله عزا لمن تولاه) في الدنيا من القتل والأسر والنهب بالعدوان وفي الآخرة من العذاب والنكال والخزي والخذلان.

قوله: (وسلمان لمن دخله) استعمار له لفظ السلم بالكسير وهو الصلح باعتبار عدم أذاه لمن دخل فيه وانقاد لحكمه فهو كالمسالم المصالح له، وقد لاحظ شبهه بالغالب من الشجعان باعتبار مسالمته ومصالحته لمن تبعه وانقاد لأمره، وايذائه لمن خالفه وعانده وفي معنى مسالمته معه جعله محقون الدم مستقرا في يده ما يملكه ومحفوظا في الآخرة من عقوبة المخالفة.

(وهدي لمن ائتم به) فإنه يهديه إلى سعادة الدنيا والآخرة التي أعظمها قرب الحق وهو المطلوب من خلق الإنسان.

(وزينة لمن تجلله) ي جعله بردا ولباسا من قولهم جلل فرسا له فتجلل. ولا ريب في أن أحكام الإسلام بعضها يتعلق بالظاهر وبعضها يتعلق بالباطن، ومن تلبس بها يتزين ظاهره وباطنه فيصير إنسانا كاملا له صورة مزينة ظاهرا وباطنا (وعذرا لمن انتحله) العذر بالضم وضمتين والمعذورة اسم لما يرفع به اللوم. والانتحال أما بمعنى أخذ النحلة والدين أو بمعنى ادعائه وانتسابه إليه مع عدم كونه له، والإسلام على الأول عذر له في الدنيا والآخرة ويرفع به اللوم عنه مطلقا. على الثاني عذر له في الدنيا ويرفع عنه لومها مثل القتل والأسر والنهب والأذي وغيرها.

(وعروة لمن إعصتم به) عروة سته كوزه ودسته هر جيز، واعتصام دست در زدن. لا حظ شبه الإسلام بالعروة لأنه عروة الخيرات كلها فمن اعتصم به ملك جميعها ورفعها لنفسه.

(وحبلا لم استمسك به) لأن الإسلام حبل الله المتين بينه وبين خلقه فمن استمسك به خرج من حضيض النقص إلى أوج الكمال ومن جب الغربة والفراق إلى المنزل القرب والوصال، والحبل يطلق على الرسن وعلى العهد والأمان والكل محتمل.

(وبرهانا لمن تكلم به) لأن من علم حقيقته وعرف أسراره غلب به على من جحده وأنكره عند

ص:152

المناظرة ولذلك كان العالم بالشرع كما ينبغي فائقا على الباطل وأهله دائما.

(ونورا لمن استضاء به) شبهه بالنور واستعار له لفظه ورشحه بذكر الاستضاءة، ووجه المشابهة أنه يهدى أنفس الناطقة المستضيئة به في ظلمات البشرية والغواشي النفسانية إلى فناء القدس وطريق الجنة.

(وشاهدا لمن خاصم به) الشاهد أعم من البرهان لتناوله الجدل والخطابة مع احتمال إرادة أنه برهان لمن احتج به وشاهد لمن جعله مؤيدا.

(وفلجا لمن حاج به) الفلج بالفتح والسكون الظفر والفوز كالافلاج، والاسم منه الفلج بالضم والسكون وهو الغلبة وجعله فلجا من باب المبالغة لكونه تاما في الغلبة فكأنه نفسها. (وعلما لمن وعاه) اطلاق العلم على الإسلام من باب اطلاق المسبب على السبب لأن الإسلام سبب لحصول العلم لمن وعاه وحفظه وتوقف وعيه وحفظه على قدر من العلم به لا ينافي ذلك لأن العلم به يزداد ويتكامل بالتدريج حتى يبلغ غاية الكمال.

(وحديثا لمن روى) خبرا جديدا مشتملا على المواعظ والنصايح والقصص والاحكام والحدود وغيرها لمن روى، وأخبر، وفيه حث على روايته. وفي السابق على درايته.

(وحكما لمن قضى) أي وجعله حكما زاجرا عن القبائح باعثا على المحاسن لمن أريد القضاء والحكم وهو أصل له.

(وحلما لمن جرب) إطلاق الحكم على الإسلام مجاز من باب اطلاق المسبب على السبب لأن الإسلام سبب لحصول ملكة الحلم لمن جرب الأمور وتفكر في عواقبها وعرف قبح السفه الناشي من طغيان القوة الغضبية وتجاوزها عن الإعتدال. ومن خفة النفس وحركتها إلى ما لا يليق مثل والضرب والبطش والشتم والترفع والتسلط والغلبة وغيرها من المفاسد. (ولباسا لمن تدبر) فان من تفكر فيه وتدبر في أو امره وزواجره وربط نفسه بقوانينه ومعارفه حصلت له حالة متوسطة معتدلة محيطة بباطنه شبيهة باللباس في الإحاطة والشمول والزينة وهي لباس العلم والمعرفة، وأطلق تلك الحالة على الإسلام اطلاقا للمسبب على السبب لأن الإسلام ومعارفه سبب لها.

(وفهما لمن تفطن) الفهم جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يريد عليه ولما كان الإسلام والدخول فيه ورياضة النفس بقوانينه لاتصاف الذهن بذلك التهيؤ وقبوله للأنوار العقلية والاسرار الربوبية أطلق لفظ الفهم مجازا اطلاقا لاسم المسبب على السبب.

(ويقينا لمن عقل) لما كان اليقين هو العلم الاستدلالي مع زوال الشك، وكان الإسلام والدخول فيه والتمسك بقوانينه سببا لحصوله أطلق عليه لفظ اليقين مجازا على نحو ما مر. (وبصيرة لمن عزم) أي من

ص:153

عزم على أي أمر من الأمور الدنيوية والأخروية وقصد فعله فان في الإسلام بصيرة لكيفية فعله على الوجه الذي ينبغي وهذا الإطلاق أيضا مثل ما مر.

(وآية لمن توسم) أي من تفرس طرق الخير الموصلة إلى الحق ومقاصده التي ترشد إلى ساحة القدس فان الإسلام آية وعلامة لذلك المتفرس المتوسم فإذا اهتدى بها سلك طريق مهدي. ( وعبرة لمن اتعظ) عبرت اعتبار گرفتن پند گرفتن، ومتع پند گيرنده وذلك ظاهر لأن في الاسلام عبرة للمعتبر وعظة للمتعظ لما فيه من أخبار القرون الخيالية وأحوال الأيام الماضية وكيفية تصرف الزمان بهم وجريان القضاء فيهم مثل قوم فرعون وعاد وثمود وقوم نوح وصالح وهود وغيرهم ممن لا يحصى كثرة.

(ونجاة لمن صدق) فان الإسلام سبب لنجاة من صدق الرسول فيما جاء به ودخل فيه من القتل والأسر والنهب والأذى في الدنيا، ومن العذاب والعقوبة في الآخرة، والإطلاق فيه وفيما سبق مثل ما مر. (وتؤده لمن أصلح) التؤده - بضم التاء وسكون الهمزة وفتحها - الرزانة والتأنى وذلك ظاهر لأن من أصلح بقواعد الإسلام وتبع حكمه كان الإسلام سببا لتأنيه ورزانته. (وزلفى لمن اقترب) زلفى نزديك شدن يعني أن الإسلام سبب القرب من الله لكل من اقترب اليه، والحاصل أن كل من اقترب فسبب قربه هو الإسلام باعتبار التمسك بذيله، والعمل بقوانينه.

(وثقة لمن توكل) أي هو سبب ثقة واعتماد لمن توكل على الله لاشتماله على الوعد الصادق من يتوكل على الله فهو حسبه وغير ذلك وهو يوجب زيادة استعداد للتوكل. (ورخاء لمن فوض) أي هو رخاء سهل غير صعب لمن فوض فعله اليه ولم يتكلف فان الإسلام ملة سمحة سهلة. وقيل من ترك البحث والإستقصاء من الدليل فتمسك باحكام الإسلام ودلائل القرآن والسنة المتداولة بين أهله، وفوض أمره اليه استراح بذلك التفويض ولا يقع في تعصب، وقيل: المراد أن المسلم إذا كمل اسلامه وفوض أمره إلى الله كفاه في جميع الأمور وأراحه من الاهتمام بها. (وسبقة لمن أحسن) السبقة والسبق بفتحتين الخطر وهو ما يتراهن عليه المتسابقان أي الإسلام خطر لمن أحسن إلى أهله أو لمن أحسن صحبته، أو لمن أحسن العمل فيه، أو الأعم من الجميع وبالجملة هو نصيب للمحسن وكأن غير المحسن ليس له نصيب فيه.

(وخيرا لمن سراع) الخير ما ينفع في الدنيا والآخرة، والإسلام خير لمن سارع اليه لأنه ينفعه فيهما. (وجنة لمن صبر) استعار لفظ الجنة للاسلام لأنه يحفظ من صبر على العمل بقواعده وأركانه من العقوبة الدنيوية والأخروية كما أن الجنة تحفظ صاحبها من شر الأعادى وعقوبتهم. (ولباسا لمن اتقى) فان من التقى الله حق تقاته واجتنب عما يضر في الآخرة من محرماته ومكروهاته وترك واجباته حصلت له حالة معتدلة محيطة بظاهره، وسمى تلك الحالة الشبيهة باللباس في الإحاطة والشمول والزينة اسلاما

ص:154

مجازا تسمية للمسبب باسم السبب، لأن تلك الحالة حصلت بسبب الإسلام ومتابعته. فالمراد باللباس هنا لباس الظاهر وهو لباس التقوى وفي السابق لباس الباطن المحيط بالنفس الناطقة الحاصل بالتدبر والتفكر في معارف الإسلام وأسراره والله أعلم.

(وظهيرا لمن رشد) ظهير يارى كننده وهم پشت، ورشد راه راست يافتن، وانما كان الإسلام ظهيرا لمن رشد وسلك طريقا مستقيما وهو طريق الحق قواعده ترشد اليه، وقوانينه تدل عليه، فهو يعينه ويمده إلى أن يبلغ إلى الغاية ويصل النهاية.

(وكهفا لمن آمن) كهف غارى كه دركوه باشد، وپناهي كه دفع كند از شخص حوادث را. يعني من آمن بالله ورسوله واليوم الاخر فقد دخل في الإسلام الذي بمنزلة الكهف في دفع الضر عنه إذ كل ضرر يعود إلى أحد فإنما يعود اليه بمخالفة قانون من قوانين وخروجه منه. (وأمنة لمن أسلم) أمنة أيمن داشتن وبى ترس شدن. يعني من أسلم الله ودخل في الإسلام كان آمنا من غيره فالإسلام سبب لأمنه، فاطلاق الامنة على الإسلام للمبالغة في السببية. (ورجاء لمن صدق) يعني من صدق النبي والعترة النبوية دخل في الإسلام، والإسلام سبب لرجائه المثوبات الدنيوية والأخروية.

(وغني لمن قنع) غنى آسوده داشتن وفائده دادن وبس كردن وقناعت باندك جيزي اكتفا كردن. ولعل المراد أن من قنع بالقليل من المال واكتفى بالكفاف من الرزق فالإسلام غنى له أما لأن التمسك بقواعده والاعتماد بقوانينه يوجب وصول ذلك القدر إليه كما قال عز وجل (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» أو لأنه يحثه على القيام بها ويفيده الثبوت عليها لاشتماله على فوائد القناعة ومضار عدمها والله أعلم.

(فلذلك الحق سبيله الهدى) هدى راه نمودن وبيان كردن وراه راست. «والفاء» للتفريع، وذلك للتنبيه على علو المنزلة يعني ذلك الحق الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه وهو الإسلام، سبيله إراءة الطريق الموصولة إلى المطلوب، أو سبيله السبيل المستقيم الموصل إليه، أو سبيله بيان ما يحتاج إليه الإنسان.

(ومأثرته المجد) المأثره - بالسكون بعد الفتح قبل الضم - المكرمة واحدة المآثر وهي المكارم من الأثر وهو النقل والرواية لأنها تنقل وتروي والمجد الكرم والشرف، ورجل ماجد أي كريم شريف، ولعل المقصود إن مكارمه عن عين الشرف لأهله أو متقضية له.

(وصفته الحسنى) أي الخصلة الحسني مثل الدعوة إلى الخير ونحوها.

(فهو أبلج المنهاج) الأبلج الواضح من بلج الحق إذا وضح وظهر، ومنهاج الإسلام طريقة التي يصدق

ص:155

على من سلكها أنه مسلم وهي الإقرار بالله ورسوله والتصديق بما جاء به الرسول ووضوحها ظاهر. (مشرق المنار) الإشراق بالقاف الإضاءة، والمنار الأعمال الصالحة التي يتنور بها قلوب العارفين كالعبادات الخمس ونحوها، وكونه مشرقة ظاهر، وقد يقرئ بالفاء. وكونها مشرفة عالية على غيرها من العبادات أيضا ظاهر.

(ذاكى المصباح) الذاكى المتوقد المستنير يقال ذكت النار إذا اشتد لهبها واستنار، والمصباح چراغ، والجمع مصابيح استعاره للفقه والمعارف الإسلامية ورشحه بالذكاء ووصفه بالذكاء والاستعارة اما لأنه في نفسه نور إلهي مستنير وإطلاق النور على العلم شايع أو لظهوره من الأدلة الإسلامية وهي الكتاب والسنة بل يكون أن يراد به نفس هذه الأدلة: وقيل أريد به علماء الإسلام وكنى بالذكاء عن صفاء عقولهم، أو من ظهور العلم واقتداء الخاق بهم.

(رفيع الغاية) كما جعل للإسلام مصباحا وللمصباح ذكاء كذلك جعل له غاية وللغاية رفعة ولعل المراد بغايته الوصول إلى الجنة، رفعته ظاهرة إذ لا غاية أرفع منه منزلة وأعلى منه مرتبة، أو المراد الموت المعروف أو موت الشهوات وكون كل واحد رفيعا لكونه سببا للوصول المذكور والتقرب بالحق. (يسير المضمار) المضمار الميدان ومضمار الإسلام الدنيا وهي يسير قليل يسهل السبق فيها إلى الله تعالى، وفي بعض النسخ «بشير» وبالشين المعجمة فكأنها تبشر للسابق بما عند الله تعالى. (جامع الحلبة) الحلبة وزان سجدة وضربة خيل يجمع من كل أوب للسابق ولا يخرج من وجه واحد يقال جاءت الفرس في آخر الحلبة أي آخر الخيل وهي بمعنى الحليبة، ولهذا تجمع على حلايب، وقد شبه المسلمين بالحلبة واستعار لهم لفظها حيث اجتمعوا في الإسلام للسباق إلى طاعة الرب وقد شاع إطلاقها على محلها تجوزا، وهذا الإطلاق هو الاولى بالإرادة هنا بالنظر إلى ما سيأتي ومحلها هنا هو القيامة لأنها محل لاجماعهم فيها للسباق إلى حضرة الله التي هي بالجنة كاجتماع الخيل في الحلبة للسباق إلى السبق وهو الرهن.

(سريع السبقة) سبقتها الجنة وسرعتها ظاهرة لأن مضمارها وهي الدنيا التي هي مدة العمر في زمان التكليف يسير.

(أليم النقمة) أليم درد رساننده بمعنى المولم ونقمته النار وايلامها ظاهر.

(كامل العدة) العدة بالضم والشد ما اعداته وهيأته من مال أو سلاح أو غير ذلك مما ينفعك يوما ما، والمراد هنا التقوى والورع وكمالهما ظاهر.

(كريم الفرسان) المراد بالفرسان أهل الإحسان وعلماء الإسلام، وكونهم وكرماء وشرفاء ظاهر باعتبار اقتباس الأنوار منهم وهدايتهم للضعفاء.

ص:156

(فالإيمان منهاجه) لما جعل سابقا للإسلام منهاجا أي طريقا واضحا يوصل إلى الرحمن عينه هنا بأنه الإيمان، فهذا ناظر إلى قوله أبلج المنهاج. وقس عليه ما بعده.

(والصالحات مناره) أي الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة علامات الإسلام بها يعرف الإسلام والداخل فيه. (وفقه مصابيحه) في أنه طريق الحق ويرى به وجه المطلوب ولذلك استعار له لفظ المصباح). (والدنيا مضماره) إذ هي محل للتسابق إلى الطاعات، والسعي إلى القربات، وقد وصفها سابقا بأنها يسير للتحريك إلى التسابق فيها.

(والموت غايته) أي الموت المعروف غايته التي هي سبب الوصول إلى الله تعالى أو موت الشهوات فإنها أيضا غاية قريبة للإسلام موصلة اليه تعالى وهذه الفقرة متعلقة بقوله رفيع الغاية فكان الأنسب أن يقدم على قوله «والدنيا مضماره» ولعل التأخير هنا لأجل أن ذكر الغاية بعد ذكر المضمار أنسب بحسب الواقع والتقديم سابقا باعتبار الرفعة والشرف.

(والقيامة حلبته) قد ذكرنا أن الحلبة هي الخيول المجتمعة من كل أوب للسابق وأنها تطلق على محلها أيضا وباعتبار هذا الإطلاق استعار لفظ الحلبة للقيامة لأنها حلبة الإسلام ومحل اجتماع المسلمين للسابق إلى حضرة الله التي هي الجنة كاجتماع الخيل في الحلبة للسابق إلى الرهن.

(والجنة سبقة) السبقة ما يوضع بين أهل السابق وهي الثمرة المطلوبة منه واستعارها للجنة لكونها الثمرة المطلوبة من الإسلام والغاية المقصودة من الدين كما أن السبقة غاية سعي المراهنين.

(والنار نقمة) لما جعل سابقا للاسلام نقمة مؤلمة لمن خالفه فسر هنا بأن نقمته النار وهي أشد النقمات.

(والتقوى عدته) لأنها تنفع صاحبها في أرشد الأوقات وأعظمها وهو القيامة كما أن العدة من المال تنفع صاحبها في وقت الحاجة.

(والمحسنون فرسانه) استعار لفظ الفرسان لأرباب الإحسان، وعلماء الدين وهم فرسان الإحسان والعلوم لملاحظة تشبيه الإحسان والعلوم بالفرس الجواد.

(فبالايمان يستدل على الصالحات) لدلالة المجمل على المفصل إذ يدخل في الايمان التصديق بما جاء به النبي اجمالا ومنه الاخلاق الفاضلة والاعمال الصالحة كالعبادات والخمس ونحوها وأيضا الإيمان منهج الإسلام وطريقة الواضح ولابد للطريق من زاد يناسبه وزاد طريق الاسلام هو الاخلاق والاعمال الصالحة، وهو يقتضيها ويطلبها فيدل الإيمان عليها كدلالة السبب على المسبب، وما وقع في بعض الروايات من أن الاعمال تدل على الإيمان فهو باعتبار أن الأثر يدل على المؤثر، والمسبب على السبب.

(وبالصالحات يعمر الفقه) ولما شبه آنفا الفقه بالمصباح في الهداية إلى المطلوب وكان تعمير

ص:157

المصباح الحقيقي بالدهن كان تعمير الشبيه بالمصباح أيضا يشبه بالدهن وهو الاعمال الصالحة، ولذلك روى أن العلم مقرون بالعمل فان عمل بقي والا ارتحال، وبعبارة أخرى الفقه نور نفساني، والعمل نور جسماني وللظاهر تأثير في الباطن، فالعمل يوجب ثبات الفقه وزيادته وزيادته وهو المراد بتعميره.

(وبالفقه يرهب الموت) لأن الفقه بما بعد الموت والعلم اجمالا وتفصيلا بما يرد على الإنسان بعده من الخير والشر والحساب والميزان والصراط وغيرها من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها يوجب الخوف من الموت لامن حيث هو موت. بل من حيث أنه لا يدري ما يفعل به بعده، ويوجب ذلك كما الاستعداد لما بعده والله هو الموفق.

(وبالموت تختم الدنيا) لأن الدنيا مضمار، والموت غايته فإذا ورد ختمت الدنيا وانقطع السير فيها، ثم لا عود إليها.

(وبالدنيا يجوز القيامة) ومن ثم قيل من مات قامت قيامته. (وبالقيامة تزلف الجنة) أي تقرب ( والجنة حسرة أهل النار) لما رأوا من كمال نعيمها وحرمانهم عنها مع شدائد عقوبتهم بالنار (والنار موعظة المتقين) موعظة پند دادن، وذلك المتقين يتعظون من النار وشدائدها ويتركون كل ما يؤثم، ويجتنبون عن كل ما يوجب الدخول فيها.

(والتقوى سنخ الإيمان) السنخ من كل شيء أصله، الجمع أسناخ. مثل حمل وأحمال، وذلك لأن المراد بالإيمان الإيمان الكامل، وقد مر أن كماله بالاعمال فله سنخان: أحدهما اليقين وهو الكمال في القوة النظرية، والثاني التقوى وهي الكمال في القوة العملية فإذا تحققها تحقق كمال الإيمان فهما سنخاه.

ص:158

باب صفة الإيمان

* الأصل

1 - بالاسناد الأول، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، فالصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق والاشفاق والزهد والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقبت الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين. فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة ومن عرف السنة فكأنما كان مع الأولين واهتدى إلى التي هي أقوم ونظر إلى من نجى ما ومن هلك بما هلك وإنما أهلك الله من أهلك بمعصيته وأنجى من أنجى بطاعته، والعدل على أربع شعب: غامض الفهم، وغمر العلم، وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنأ الفاسقين غضب لله ومن غضب لله غضب الله له، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه.

* الشرح

(إن الله عز وجل جعل الإيمان على أربع دعائم) (1) لا حقيقته لأن حقيقته التصديق لما مر مرارا، والدعامة معروفة، وقد شبه الإيمان بالبيت من الشعر ونحوه مما يكون اعتماده على الدعائم، ولا حفظ في ذلك أن الإيمان هو المقصود الأصلي وأن الأمور الأربعة مقصودة لحفظه وبقائه.

ص:159


1- 1 - قوله «على أربع دعائم» قد مر أن هذه الأمور النفسانية التي تعدمن درجات الايمان أو مراتب السلوك ينقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام مختلفة لا منافاة بينهما وجميعها صحيحة باعتبار ويتداخل أقسامها (ش).

(على الصبر واليقين والعدل والجهاد) قدم الأهم ولكل واحد منها مدخل عظيم في تحقيق الإيمان وثباته وبقائه، والمراد بالصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة وخلع النفس عن الشهوات ومنعها عن الجزع عند المصيبات، وهو كنز من كنوز الجنة وطريق عظيم للدخول فيها.

وباعث قوى للبقاء على الإيمان، وباليقين العلم مع زوال الشك وعدم احتمال طريانه وحاصله مشاهدة الغيوب بأنوار القلوب وملاحظة الاسرار بمعاونة الافكار وبالعدل مكلة الاعتدال في القوة النظرية والعملية والتوسط في القوة الشهوية والغضبية وهو مثمر لقوة الإيمان وكماله، وبالجهاد المجاهدة النفسانية والبدنية والمراقبة الروحانية، والله سبحانه أظهر الدين وطلب الإيمان به وجعل عزهما وكمالهما في الجهاد فمن جاهد كما إيمانه وشارك المجاهدين، ومن فقد نقص إيمانه وشارك المتخلفين والمنافقين. (فالصبر من ذلك على أربع شعب) لما فرغ من دعائم الإسلام شرع في ليس منها وكذا العلم والجهاد وذكر منها ما هو من الإيمان وذكر لكل واحد منها أربع شعب والشعب وثمراتها. والشعب جمع الشعبة، والمراد بها هنا الأغصان فقد شبه الصبر مثلا بشجرة في في كونه أصلا والشعب بالأغصان في كونها فروعا، وما يترتب على الشعب بالأثمار في كونه حاصلا. (على الشوق) أي الشوق إلى الجنة ونعيمها ودرجاتها وهو ميل النفس إلى الشيء بعد تصوره وتصور نفعه، والبصر أصل له إذ هو لا يصحل بدون الصبر عن أحكام الله ومكاره النفس، وهو مع ذلك سبب لكمال الصبر وثباته.

(والاشفاق) وهو الخوف من نار جهنم أو من نار الفراق لأن الصابر بترقياته يصل إلى أعلى مراتب القرب فيحصل له الخوف مما ذكر وهو سبب لبقاء الصبر وثباته.

(والزهد) أي الزهد في الدنيا وزهراتها وهو لا يحصل بدون الصبر في الطاعات وزجر النفس عن المنهيات وهو مع ذلك سبب لثبات الصبر.

(والرقب) أي ترقب الموت وانتظاره وهو لا يحصل بدون الصبر لأن الصابر هو الذي يطلب الحياة الحقيقية التي تحصل بالموت والترقب سبب لبقاء الصبر وكماله ثم أشار إلى فوائد تلك الشعب وثمراتها بقوله.

(فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات) أي فارقها وطيب نفسه عن جميع مشتهياتها التي هي طرق النار لأن من اشتاق إلى شيء يجتنب عما يوصل إلى ضده.

(ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات) لأنها مؤدية إلى النار، وسبب لها ومن خاف من المسبب يفر عن السبب فمن ادعى الاشفاق وارتكب الحرام فهو كاذب.

(ومن زهد في الدنيا هانت عليها المصيبات) إذ منشأ صعوبتها هو الميل إلى الدنيا ومحبة قنياتها والشوق إلى لذاتها وراحتها النفسانية والبدنية، ومن ثم يكون الفقر والبلاء عند الزهاد أحسن من الفراق

ص:160

والغناء.

(ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات) حذرا من أن يموت قبل أن يدركها، ولعلمه بأنها سبب للحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية فيستعد لها بالتبادر إلى الأعمال الصالحة، ولما فرغ من شعب الصبر وبيان فوائدها أشار إلى شعب اليقين فوائدها بقوله:

(واليقين على أربع شعب تبصرة الفطنة) الفطنة جودة الذهن وتهيؤه لا دراك الأشياء وأحوالها كما هي، والإضافة من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، والمراد برؤيتها التوجه إليها. والتأمل فيها وفي مقتضاها من العلوم والمعارف، وجعلها فاعلا للمصدر وإرادة رؤيتها للأشياء وإن كان محتملا في نفسه لكن ينافي قوله فمن أبصر الفطنة.

(وتأول الحكمة) التأول بمعنى التأويل وهو تفسير ما يؤول إليه الشيء، والحكمة العلم الذي يمنع الإنسان من القبيح مطلقا، والمراد بتأولها الوصول إلى غورها ليعرف الأولين فإنهم عبرة لأولى الأبصار ومحل لاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها، والمباهاة بكثرة أسبابها وزهراتها ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت وبقاء الحسرة والندامة لهم حجبا حائلة بينهم وبين الوصول إلى حضرة جلال الله.

(وسنة الأولين) أي ومعرفة سنتهم وطريقتهم من خير يوجب النجاة وشر يوجب الهلاك، ثم أشار إلى فوائد هذه الشعب والترتيب بينهما بقوله:

(فمن أبصر الفطنة) ونظر إلى وجه مقتضاها (عرف الحكمة ومن تأول الحكمة) وبلغ غورها ( عرف العبرة) بأحواله وأحوال الماضين. (ومن عرف العبرة عرف السنة) أي سنة الأولين وطرزهم وطريقتهم.

(ومن عرف السنة فكأنما كان من الأولين) في حياتهم فيرى أعمالهم وما يتعقبها من العقوبات الدنيوية، أو بعد موتهم فيرى حسراتهم وعقوباتهم الاخروية (واهتدى بذلك إلى) الطريقة (التي هي أقوم) الطرايق وأفضلها.

(ونظر إلى من نجى بما نجى) من الأعمال الصالحة والاخلاق المرضية. (ومن هلك بما هلك) من الأعمال الباطلة والاخلاق الفاسدة. (وإنما أهلك الله من أهلك) من الأمم السابقة وغيرهم (بمعصية). (وأنجى من أنجى بطاعته) يظهر كل ذلك لمن نظر من الآيات والروايات، وفيه ترغيب في الطاعة وزجر عن المعصية. (والعدل على أربع شعب) أوليها (غامض الفهم وغمر العلم) الإضافية فيها إضافة الصفة إلى الموصوف أي الفهم الغامض الذي ينفذ في بواطن الأشياء والغامر أي الغائر الذي يطلع عليه أذهان الأذكياء. ولو كان الغايص من الغوص بدل الغامض كان له أيضا معنى صحيح والغايص الذي يدخل في الماء ليطلع على ما فيه من اللؤلؤ ونحوه ليأخذه واستعير للفهم الغائص الذي ينفذ في دقائق

ص:161

الأشياء ويطلع على أسرارها وحقائقها (و) أخريها: ( زهرة الحكم وروضة الحلم أي نضارتهما وغضارتهما وحسنهما وكمالهما، والتركيب من باب لجين الماء، وجعله من باب المكنية والتخييلية بعيد، والمراد بزهرة الحكم الحكم المعجب للأنام وبروضة الحلم الحلم المكمل للنظام، ثم أشا إلى ثمرات تلك الشعب وفوائدها المترتبة عليها بقوله.

(فمن فهم بالفهم الغامض أو الغايص. (فسر جميع العلم) الشرعي والقانون العقلي والنقلي لأن هذا التفسير من شأن الفهم المذكور وآثاره.

(ومن علم) كذلك. (عرف) جميع (شرائع الحكم) ومشاربه وموارده ذلك من آثار العلم الغامر. (ومن حلم لم يفرط في أمره) ولم يقصر فيه أصلا لأن شأن الحليم الكامل هو التحرز عن طرف الافراط والتفريط والاستقرار في الوسط.

(وعاش في الناس حميدا) أي محمودا لأنه يطفئ نائرة الغضب عند نزول التعب ومكاره النفس فيحمده الناس وينصرونه كما قيل: الحلم يكتسب المدح من الملوك والمحبة من المملوك. (والجهاد على أربع شعب) أوليها (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) أي الامر بالطاعة والنهي عن المعصية بالشرائط والمراتب المذكور في كتب الفروع (و) ثالثها (الصدق في المواطن) أي مواطن جهاد النفس والعدو والفاسق بالامر والنهى ومنه أن يكون قوله موافقا لفعله، وفعله موافقا لقلبه، وقلبه موافقا لرضا الله تعالى، (و) رابعها (شنآن الفاسقين) أي بغضهم وهو راجع إلى انكارهم بالقلب ومقتصى الإيمان، وليس بداخل في النهي عن المنكر عند جماعة. ومن الأصحاب من أدخله فيه مجازا. ولما فرغ من شعب الجهاد أشار إلى فوائدها بقوله:

(فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهي عن المنكر أرغم أنف المنافق وأمن كيده) والمراد بشد ظهر المؤمن تقويته وامداده، وبإرغام أنف المنافق اهانته واذلاله وذلك لأن الامر بالمعروف تحريص العبد على ما يقربه إلى الله تعالى باتباع شرائعه، والنهي عن المنكر زجره عما يبعده منه ومن الندم عاجلا وآجلا، ومن البين أن من اتصف بهذه الصفة يكون مقويا ومرغما وآمنا.

(ومن صدق في المواطن) كلها (قضى الذي) يجب (عليه) من القول الحق وغيره، ودخل في زمرة الصادقين الذين مدحهم الله في كتابه الكريم بقوله (يوم ينفع الصادقين صدقهم (ومن شنأ الفاسقين) وأبغضهم لفسقهم (غضب الله) طلبا لمرضاته. (ومن غضب لله غضب الله له) وأرضاه في الدنيا والآخرة. نعم من كان لله كان الله له; رضي الله عنه ورضي عنه. (فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه) وثمرات شعبه والله هو الموفق للصواب.

ص:162

باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الايمان

* الأصل

1 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال:

قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أخا جعفر إن الإيمان أفضل من الإسلام وإن اليقين أفضل من الإيمان وما من شيء أعز من اليقين.

* الشرح

قوله: (إن الإيمان أفضل من الإسلام) (1) وهي التصديق والإقرار بالولاية، وقد مر سابقا ما يوضحه فلا نعيده (وان اليقين أفضل من الإيمان) لأن الإيمان أما نفس التصديق، وهو مع العمل، سواء حصل ذلك بالبرهان أو بالتقليد كما في أكثر العلوم وسواء احتمل النقيض أولا واليقين غاية الكمال في القوة النظرية التي لا تحتمل النقيض سواء حصلت بالبرهان وهو علم اليقين أو بالمجاهدات والرياضيات النفسانية والهدايات الخاصة بالأولياء وهو عين اليقين وحق اليقين، وبالجملة هو أعلم مراتب العلم وأشرفها ولا ريب في أنه أفضل من الإيمان، (وما من شيء أعز من اليقين) أي أرفع درجة، أو أقل وجودا من علامة قتله في أكثر الخلق صدور المعصية منهم، إذا لا يصدر معصية من أهل اليقين وإنما يكون لهم ظن ضعيف يزول بأدنى وسوسة النفس والشيطان ألا ترى أن الطيب إذا أخبر أحدهم بأن الشيء الفلاني يضره، أو يوجب زيادة مرضه، أو بطؤ برئه يتبع قوله المفيد للظن ويترك ذلك الشيء حفظا لنفسه من الضرر الضعيف، ولا يتبع قول الله تعالى ولاقول رسوله بأن هذه معصية مهلكة وليس ذلك إلا لأن ظنه بقولهما دون الظن بقوله ذلك الطيب.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد والحسين بن محمد، عن معلى بن محمد جميعا، عن الوشاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شيء أقل من اليقين.

ص:163


1- 1 - «إن الإيمان أفضل من الإسلام» في صدر الحديث يا أخا جعف المشهور في اسم هذه الطائفة بصيغة النسبة والنسبة إليه جعفى أيضا ويا أخا جعف فالظاهر أنه تصحيف من بعض النساخ. (ش)

* الشرح

قوله: (الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة ) فاليقين أفضل من التقوى والتقوى أفضل من الإيمان. والإيمان أفضل من الإسلام فدل على أن كل مؤمن مسلم دون العكس لإعتبار خصوصية في الإيمان دون الإسلام، كما مر. وإن كان متق مؤمن دون العكس لأن المتقي يؤثر ذكر من لم يزل ولا يزال على ذكر من لم يكن فكان، وطاعة من لم يزل ولا يزال على خدمة من لم يكن فكان، ومحبة من لم يزل ولا يزال على محبة من لم يكون فكان، وكل مؤمن ليس كذلك. وأيضا التقوى من الوقاية، وهي في اللغة فرط الصيانة وفي العرف صيانة النفس عما يضرها في الآخرة وقصرها على ما ينفعه فيها ولها ثلاث مراتب: الأولى التقوى من العذاب الخلد باظهار الشهادتين وهي أدناها؟ والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغاير عند قوم وهو المتعارف في عرف الشرع باسم التقوى. والثالثة التوقي عن كل ما يشتغل القلب عن الحق والرجوع إليه بالكلية وهو لخاص الخاص، والمراد بالتقوى هنا أحد المعنيين الأخيرين وكونه فوق الإيمان ظاهر إذا كل مؤمن ليست له هذه المرتبة سواء أريد بالايمان التصديق فقط، أو هو مع العمل. أما التصديق فظاهر، وأما التصديق مع العمل فباعتبار أن التجنب عن الكل حتى عن المباحاب والمكروهات والمشتبهات معتبر في التقوى دون لأنه مقول بالإضافة أو باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لا فيه فليتأمل، وعلى أن كل من اتصف باليقين بالتقوى دون العكس أما الأول فظاهر بالتأمل فينا ذكرنا، وأما الثاني فلان التقوى قد توجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين (وما قسم الناس شيء أقل من اليقين) ثم حق اليقين أقل من عين اليقين وعين اليقين أقل من علم اليقين.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن حمران بن أعين قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله فضل الإيمان على الإسلام بدرجة كما فضل الكعبة على المسجد الحرام.

* الشرح

قوله: (كما فضل الكعبة على المسجد الحرام) فكما أن حرمة المسجد داخلة في حرمة الكعبة دون العكس. كذلك حرمة الإسلام داخلة في حرمة الإيمان دون العكس. فالإيمان أفضل من الإسلام.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، هارون بن الجهم أو غيره عن عمر بن أبان

ص:164

الكلبي، عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد الإسلام درجة قال: قلت: نعم قال: والإيمان على الإسلام درجة قال: قلت: نعم، قال: والتقوى على الإيمان درجة قال: قلت: نعم، قال: واليقين على التقوى درجة، قال: نعم، قال: فما أوتي الناس أقل من اليقين وإنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن يقلت من أيديكم.

* الشرح

قوله: (يا أبا محمد الإسلام درجة) لما كان الإسلام أول درجة الدرجات المطلوبة قال: الإسلام درجة. ولم يقل: الإسلام على الكفر درجة كما قال: (والإيمان على الإسلام درجة).

قوله: (فما أوتي الناس أقل من اليقين) قال بعض الأكابر: معناه ما أوتي الناس شيئا قليلا من اليقين، ويحتمل أن يكون معناه أن اليقين فيهم أقل من كل شيء، والأول يقيد نفي اليقين بالمرة.

والثاني يفيد ثبوت قليل منه والأول أنسب بقوله (وإنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم) التفلت والافلات والانفلات التخلص من الشيء فجأة. وفيه ترغيب في إمساك مالهم من أدنى الإسلام وحفظه، وتحذير من الغفلة عنه وتفلته فان تفلته يوجب الدخول في الكفر ولعل المراد بالإسلام هنا الإيمان مجازا من باب تسمية الشيء باسم جزئه بقرينة أن المخاطب كان مؤمنا مع أن هذه التسمية لا تخلو من نكتة وهي أن المؤمن خرج من الإيمان خرج من الإسلام ودخل في الكفر.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم. عن محمد بن عيسى، عن يونس قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الإيمان والإسلام فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هو الإسلام، والإيمان فوقه بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين، قال: قلت: فأي شيء اليقين؟ قال: التوكل على الله والتسليم لله والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله. قلت: فما تفسير ذلك؟ قال: هكذا قال أبو جعفر (عليه السلام).

* الشرح

قوله: (قال قلت فأي شيء اليقين؟ قال: التوكل على الله، والتسليم لله، والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله) تفسير اليقين بما ذكر من باب تفسير الشيء به آثاره إذا اليقين سبب للأمور المذكورة، وذلك لأنه إذا حصل لاحد بالبرهان أو الهداية الخاصة أو الكشف بتصفية النفس اليقين بالله وبوحدانيته وعلمه وقدرته وتقديره للأشياء، وتدبيره فيها، وحكمته التي لا يفوتها شيء من المصالح، ورأفته بالعباد، وإحسانه إليهم ظاهرا وباطنا، وتقديره كمالات الأعضاء الظاهرة والباطنة، وتدبير منافعها بلا استحقاق ولا مصلحة منهم ومن غيرهم وإيصال الأرزاق إليهم حيث لا شعور لهم بطرقها

ص:165

ولا قدرة لهم على تحصيلها مع عدم جوره بوجه من الوجوه حصلت له حالات قلبية شريفة بعضها أرفع من بعض أحدها العلم بأن من كان كذلك كان قادرا على مستقبل أموره ومهماته وإيصال أرزاقه وتحصيل مراداته، وذلك يبعثه على التوكل عليه في أموره، والاعتماد عليه من الوثوق به كما يثق الموكل على وكيله، وليس معنى التوكل قلع نفسه عن أموره بل لابد من التمسك بها والاعتماد على الله وثانيها العلم بعظمته وكبريائه واشتمال حكمه على مصالح وإن لم يعلم خصوصياتها وتفاصيلها، وذلك يبعثه على التسليم لله في أحكامه وغاية الانقياد والاخبات والخضوع والخشوع له. وثالثها العلم بأنه ينبغي المحبة له وتفريغ القلب عن غيره وجعله سريرا لحبه، وذلك يبعثه إلى الرضاء بقضاء الله من الصحة والسقم والغنا والفقير وغيرها من المصايب والنوائب الواردة على النفس والمال والود. بل يجده لذة ذلك في نفسه كما هو شأن المحب بالنظر إلى فعل حبيبه وإن كانت مرة في نفس الخلي عن حبه. ورابعها العلم بكمال قدرته وجريان حكمه مع ملاحظه العجز في نفسه وذلك يبعثه على تفويض امره ورده إليه وجعله الحاكم فيه وسلب القدرة عن نفسه ومشاهدة اضمحلال قدرته في قدرة الله وهذا قريب من مرتبة الفناء في الله لاهي لأنه في هذه المرتبة لا يرى لنفسه وجودا ولا لقدرته اسما.

قوله: (قلت فما تفسير ذلك) كان السائل استبعد تفسير اليقين بالتوكل وما بعده لعلمه بأنه غيره أو استعلم عن حاله ووجه صحته لعدم تفطنه به فأجاب (عليه السلام) بما أجاب لضيق المقام عن ذكره، أو لغير ذلك ومثل هذا الجواب شائع كما تقول: العلم هو العمل فيقال: كيف ذلك، أو ما وجهه فنقول هكذا قالوا.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السلام) قال: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسم بيد العباد شيء أقل من اليقين.

* الشرح

قوله: (الإيمان فوق الإسلام بدرجة) قد ذكرنا شرحه ولا بأس أن نعيده لزيادة التوضيح فنقول:

الإسلام هو الإقرار، والإيمان أما التصديق، أو التصديق مع الإقرار. وعلى التقديرين فهو فوق الإسلام بدرجة أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلان التصديق القلبي أفضل وأعلى من الإقرار اللساني، كما أن القلب أفضل من اللسان. (والتقوى فوق الإيمان بدرجة) لأن التقوى هو التجنب عما يضر في الآخرة وإن كان ضرره يسيرا وله ثلاث مراتب كما مر، وليست المراد هنا المرتبة الأولى لأنها مرتبة الإيمان بل المراد الأخيرتان لأنهما فوق الإيمان (واليقين فوق التقوى) إذ التقوى قد لا يكون في

ص:166

مرتبه اليقين. نعم من اتقى وثبت قدمه فيها ترقي في اليقين إلى أن يبلغ أعلى مراتبه وهي مرتبة حق اليقين (1) (عليه السلام) بقوله «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا».

ص:167


1- 1 - قوله «وهي مرتبة حق اليقين» كأنه أريد باليقين غير ما يتبادر إلى أذهاننا لأن اليقين وهو العلم بالواقع في مقابل الظن من شرائط الإيمان بل الإسلام إذ قد مر أن من ظن أن الله واحد، أو ظن أن محمدا رسول الله، وقال اني أظن ذلك وفي القلب منه شيء لا يحكم باسلامه كما صرح به أبو سفيان في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وردعه عباس وقال اشهد والا ضرب عنقك وبالجملة ليس المراد باليقين هنا المعني المقابل للظن بل معنى آخر وكأنه سلامة الإيمان عن معارضة الأوهام وغلبة الوساوس فإن الإنسان قد يعلم ثبوت أمر مثل أن الميت جماد والجماد لا يخاف منه ولا يعترف بأن الميت لا يخاف منه وإن كان متيقنا بأنه جماد كالحجر. وكذلك اليقين بالتوحيد والرسالة قد يكون مع معارضة أوهام كثيرة يمنع الإنسان عن الالتزام بلوازم يقينه وإنما يحصل بعد ارتكاز التوى في قلبه حالة يغلب يقينه على أوهامه ولا يمنعه شيء عن الجري على مقتضى إيمانه كما لا يخاف عمال الموتى عن الأموات ولا يخاف الممارس من المشي على جذع موضوع على جدار عال. (ش)

باب حقيقة الإيمان واليقين

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا. عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن محمد بن عذافر، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره إذ لقيه ركب. فقالوا:

السلام عليك يا رسول الله، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن مؤمنون يا رسول الله، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، [ف] - إن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون.

* الشرح

قوله: (بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره إذ لقيه ركب) قال بعض المحققين: بينا هي بين الظرفية أشبعت فتحتها ألفا، ويقع بعدها حينئذ إذ الفجائية غالبا وعاملها محذوف يفسره الفعل الواقع بعد إذ عند بعض، وبعضهم يجعلها خبرا عن مصدر مسبوك من الفعل أي بين أوقات سفرة لقى الركب، والركب جمع راكب الدابة مثل صاحب وصحب.

قوله: (فقال ما أنتم) «ما» كما تكون سؤالا عن حقيقة الشيء كذلك تكون سؤالا عن خواصه وآثاره المترتبة عليه وهو المراد هنا فلذلك أجابوا بها (فقالوا نحن مؤمنون) أي متصفون بالإيمان الكامل (يا رسول الله) ولما ادعوا أنهم من أهل الإيمان سألهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خواص الإيمان وآثاره اللازمة له ليعلم هل علموا الإيمان أم لا؟ (قال: فما حقيقة ايمانكم) أي ما الذي ينبئ عن كون ما تدعونه من الإيمان حقا ثابتا فأجابوا بأفضل خواص الإيمان وأكمل آثاره التي لا تنفك عنه حقيقة الإيمان الكامل. (قالوا الرضاء بقضاء الله) في جميع الأحوال (والتفويض إلى الله) في جميع الأمور (والتسليم لامر الله) والأخباث له في جميع الاحكام. (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) في مدحهم لكون هذه الخصال المرضية من آثار العلم والحكمة، وهما من أعظم صفات الأنبياء (علماء حكماء كادو أن يكونوا من الحكمة أنبياء) لأن وجود الأثر دليل على وجود المؤثر، وقد ذكرنا سابقا أن الحكيم أرفع من العليم، وشبههم بالأنبياء على وجه المبالغة لكمال التشابه والتقارب، ولما كانت هذه الصفات يقتضى الزهد في الدنيا والتقوى أي

ص:168

التحرز عما يؤثم وتفريغ القلب عن غيره تعالى حثهم على الأول بقوله (فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون) وإنما خصهما بالنهي لأنهما من أعظم مطالب الراغبين في الدنيا، وعلى الثاني بقوله (واتقوا الله الذي إليه ترجعون) وفيه وعد وعيد جميعا وقد مر تفسير التقوى وبيان مراتبها.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن أبي محمد الوابشي وإبراهيم بن مهزم، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال:

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخنق ويهوى برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هو أجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الان أسمع زفير النار، يدور في مسامعي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان، ثم قال له: إلزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

* الشرح

قوله: (فنظر إلى شاب في المسجد) يحتمل أن يكون حارثة بن مالك الأنصاري الآتي (وهو يخفق) أي يضرب أو ينام حتى يسقط ذقنه على صدره وهو قاعد. يقال: خفق برأسه إذا أخذته سنة من النعاس فمال رأسه دون سائره جسده وحينئذ قوله (ويهوى برأسه) كالتفسير له. ومنشأ هذا وما بعده من اصفر اللون ونحافة الجسم وغور العينين قلة الاكل وكثرة السهر والرياضة والعبادة والحزن من امر الآخرة. (فعجب رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله) لأنه أخبر بشيء نادر الوقوع موجب لحمده واستحسانه والرضاء عنه، والتعجب انفعال النفس لزيادة وصف مدح أوذم في المتعجب منه. ولما ادعى اليقين لنفسه تقاضاه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمصداقه أي ما يصدقه وطلب منه شواهد تشهد له بتحقيقة دعواه، وقال (ان لكل يقين حقيقة) أي لكل فرد من أفراده الشخصية كما يشعر به قوله (فما حقيقة يقينك) فان الإضافة تفيد الإختصاص والجزئية أو لكل نوع من أنواعه وهي علم اليقين. وعين اليقين، وحتى اليقين، ولعل المراد

ص:169

بحقيقة اليقين غايته التي ينتهي إليها ويستقر فيها ولها آثار شريفة وصفات لطيفة وأمارات منيفة دالة على حصولها وتحققها والسؤال وقع عن تلك الآثار فلذلك أجاب بها (فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي احزنني) في أمر الآخرة أو بالم الفراق وشوق اللقاء (وأسهر ليلي) بترك النوم مع التفكر والتضرع والعبادة (وأظمأ هو اجرى) بالصيام، وترك الشراب والطعام، وبنسبة الأسهار إلى الليل والاظماء إلى الهواجر مجاز عقلي، واظماء الهواجر كناية عن الصوم في حر النهار فان الصوم فيه أشق أو أفضل وثوابه أكمل وأجزل (فغزفت نفسي عن الدنيا وما فيها) ومن نعيمها وزهراتها وعزفت بسكون التاء أي عاقتها وكراهتها نفسي وانصرفت عنها وضم التاء محتمل أي منعت نفسي وصرفتها عنها (حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم) تمثيل لحال الغايب بحال الشاهد لزيادة الايضاح مع احتمال إرادة الظاهر والإضافة للاختصاص كبيت الله وكأنه قصد إفادة حصول الظن بثبوت خبر كان لاسمه من غير تشبيه أو قصد تشبيه النظر القلبي بالنظر العيني لقصد التوضيح.

(وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون) أي يعرفون بعضهم بعضا ويتكلمون (وعلى الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون) أي صايحون مستغيثون. (وكأني الان أسمع زفير النار يدور في مسامعي) جمع مسمع وهو آلة السمع أو جمع سمع على غير قياس كمشابه وملامح جمع شبه ولمحة، وينبغي أن يعلم أن السالك العارف الموقن الزاهد وإن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرة لأحوال الجنة ودرجاتها وسعاداتها وأهلها وأحوال النار ودركاتها وشقاوتها وأهلها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعم أهلها وكالذين شاهدوا النار وعذاب أهلها، وهي مرتبة عين اليقين أو حق اليقين أو مرتبة علم اليقين على احتمال بعيد. والحق أن الجواب بمرتبة عين اليقين أنسب (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) بعد ما سمع منه هذه الآثار والامارات التي شواهد صدق على وجود حقيقة اليقين وغاية كماله فيه:

(هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان) أريد بالإيمان الإيمان الكامل، وقد مر أنه لا يتحقق إلا بعد استقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، ولا ريب في أن الإيمان بهذا المعنى نور إلهي يتنور به الظاهر والباطن، وكل يهتدي به إلى ما هو له وقد مر أيضا ان بين الظاهر والباطن مناسبة توجب تأثر كل منهما عن الآخر فنور الظاهر سبب لنور الباطن وبالعكس على وجه لا يدور، وإنما اكتفى بذر نور الباطن وهو نور القلب لأنه المقصود الأعظم والمطلوب الأهم ولأنه المقتضى للصفات المذكورة بلا واسطة (ثم قال له الزم ما أنت عليه) دل أن الكمالات البشرية قد تزول بعد المحافظة، ولذلك قال العارفون الخائفون من زوالها: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب».

ص:170

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال: يا رسول الله! مؤمن حقا، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هو أجري وكأني أنظر إلى عرش ربي [و] قد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عبد نور الله قلبه، أبصرت فاثبت، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك، فقال: اللهم ارزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسرية فبعثه فيما؟ فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية، ثم قتل.

وفي رواية القاسم بن بريد، عن أبي بصير: قال: استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

* الشرح

قوله: (فقال يا رسول الله مؤمن حقا) أي كامل في خصال الإيمان وهو من سار في طريق الإيمان باكتساب مكارم الأعمال والاخلاق حتى يبلغ أعلاه وترقى بالمجاهدة والوفاء من حضيض نقصه إلى أن بلغ ذراه، ولم ادعى هذه المرتبة ونطق بدعوى حق الإيمان تقاضاه بمصداق ذلك واماراته وطلب منه بيان آثاره وعلاماته (فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل شيء حقيقة) أي لكل شيء من الأشياء الظاهرة والباطنة حقيقة بها تمامه وكماله وغاية إليها انتهائه ومآله (فما حقيقة قولك) الظاهر في دعوى ذلك الأمر الباطن الكامن؟ وما غايته المترتبة عليه وما علاماته الدالة عليه. ( فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت هو اجرى وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون) أي يزور بعضهم بعضا (في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار) أي صياحهم. والعوى صوت السباع، وكأنه بالدب والكلب أخص والسالك إذا اجتهد في زيادة العلم والعمل والاخلاق وقطع تعلقه عن المحسوسات ورسوم العادات ومات مع الحياة بلغ مرتبة عين اليقين وشاهد جمال الاسرار، وانكشف له أحوال الآخرة والجنة والنار، ثم إذا رجع إلى نفسه ونظر إلى عالم المحسوسات لا بعين التعلق خطر بباله بعض تلك الأحوال وانتقش في نفسه بعض هذه الآثار ولو شاهد الجنة يجد في نفسه السرور والنشاط، ولو شاهد النار يجد في نفسه الحزن والخوف.

وبالجملة تظهر له حالات مع الحياة كما تظهر بعد الموت إلا أن ظهورها بعد الموت لا ينفع بل يوجب الحسرة

ص:171

والندامة بخلاف ظهورها قبله فإنه يوجب السعادة التي هي قرب الحق والاعراض عن غيره بالكلية، وأعلم أن في هذه الرواية ورواية القاسم بن يزيد دلالة واضحة على أن حارثة استشهد في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال الفاضل الأسترآبادي في رجاله حارثة بن النعمان الأنصاري كنيته أبو عبد الله شهد بدرا واحدا وما بعدهما من المشاهد وذكر هو أنه رأى جبرئيل (عليه السلام) دفعتين على صورة دحية الكلبي أولهما حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني قريظة، والثاني حين رجع من حنين. وشهد مع أمير المؤمنين (عليه السلام) القتال وتوفي في زمن معاوية ولا يخفي المنافاة بينه وبين الرواية إلا أن تكون هذا غيره.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا.

* الشرح

قوله: (أن على كل حق حقيقة) الحق وهو ضد الباطل كل ما جاء به الرسول من الأحكام والاخلاق والشرائع وجميع ما أمر به ودعا إليه فأخبر (عليه السلام) أن على كل حق ظاهر حقيقة هو ينتهى إليها ويراد بها، وفيها كماله واليها مآله، وقول بعض المحققين في تقسيم ما جاء به الشارع إلى شريعة وحقيقة إشارة إليهما حيث أرادوا بالشريعة ظاهر ما ورد به النقل، وبالحقيقة باطن ما بين العبد وبين الله عز وجل فحكم الشريعة على الظاهر، وحكم الحقيقة على الباطن كما روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» فقد ظهر أن الحق كالشريعة أول الحقيقة وهي غايته وهو ظاهر وهي بطانته، فكل عبادة ظاهرة أن لم تصدر عن حقيقة باطنة كأعمال المنافقين فهي باطلة، وكل طاعة أن لم تنته إلى حقيقة ثابتة كأفعال المرائين فهي عاطلة، وكذلك الأخلاق لها حق وحقيقة كالتوكل فإن حقه مع العام بضرورة عقد الإيمان مع تعلقهم بالأسباب وحقيقته ينتهى إليها الخاص بقطع الأسباب وسكون السر إلى مسبب الأسباب، وكالحياء فإنه له حقا مع الكل وله حقيقة مع الخواص، وكالتقوى فإن أو له حق وهو تقوى الشرك يشمل عوام المؤمنين وله حقيقة وغاية يبلغها خواص الأولياء، وكذلك الإيمان فإن أو له حق وبه يخرج عن الكفر وهو يشمل عوام المؤمنين وتله حيقيقة وغاية وهي كماله يبغها خواص المؤمنين الذين قال الله تعالى في شأنهم « إنما المؤمن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلم ربهم يتوكلون» وكذلك اليقين أو له حق وآخره وباطنه حقيقة هي غايته وكماله.

وبالجملة الحق في كل شيء بمنزلة القشر والحقيقة بمنزلة اللب ولا ينفع القشر بدون اللب وإنما قال: على كل حق ولم يقل لكل حق لتنبيه بالاستعلاء على أن حقية كل شيء باعتبار حقيقته التي هو بها هو حتى لو لم

ص:172

يكن حقيقة كاملة وغاية مرادة منه لم يكن حقا أو باعتبار المجانسة مع قوله (وعلى كل صواب نورا) الصواب ضد الخطأ أي على كل صواب جلى أو خفى من قول أو فعل أو عقد، برهان يحققه ودليل يصدقه كالإيمان واليقين فإن لهما علامات دالة عليهما وبينات كاشفة عنهما حتى أن من ادعاهما ولم تكن له تلك العلامات والبينات كانت دعواه وإنما سمى البرهان نورا لأن البرهان آلة لظهور المعقولات كما أن النور آلة لظهور المحسوسات.

ص:173

باب التفكر

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك; واتق الله ربك.

* الشرح

قوله: (نبه بالتفكر قلبك) دل على أن القلب يغفل عن الحق والآخرة وما ينفع فيها وأنه لابد من تنبيهه عن الغفلة دائما بالتفكر واختلفت العبارة في تفسيره والمرجع واحد. قال الغزالي: حقيقة التفكر طلب علم غير بديهي من مقدمات موصلة إليه كما إذا تفكر أن الآخرة باقية وأن الدنيا فانية، فإنه يحصل له العلم بأن الآخرة خير من الدنيا وهو يبعثه على العلم للآخرة فالتفكر سبب لهذا العلم ، وهذا العم يقتضى حالة نفسانية وهو التوجه إلى الآخرة وهذا الحالة يقتضى العمل لها وقس على هذا فالتفكر موجب لتنور القلب وخروجه عن الغفلة، وأصل لجميع الخيرات، وقال المحقق الطوسي: التفكر سير الباطن من المبادي إلى المقاصد وهو قريب من النظر ولا يرتقى أحد من النقص إلى الكمال إلا بهذا السير ومباديه الآفاق والأنفس بأن يتفكر في أجزاء العالم وذراته، وفي الاجرام العلوية من الأفلاك والكواكب وحركاتها وأوضاعها ومقاديرها واختلافاتها ومقارناتها ومفارقاتها وتأثيراتها وتغييراتها، وفي الاجرام السفلية وتربيتها وتفاعلها وكيفيتها ومركباتها ومعدنياتها وحيواناتها، وفي أجزاء الإنسان وأعضائه من العظام والعضلات والعصبات والعروق وغيرها مما لا يحصى كثرة، ويستدل بها وبما فيها من المصالح والمنافع والحكم والتغيير على كمال الصانع وعظمته وعلمه وقدرته وعدم ثبات ما سواه، وبالجملة التفكر فيما ذكر ونحوه من حيث الخلق والحكمة والمصالح أثره العلم بوجود الصانع وقدرته ومن حيث تغييره وانقلابه وفنائه بعد وجود أثره الانقطاع عنه والتوجه بالكلية إلى الخالق الحق، ومن هذا القبيل التفكر في أحوال الماضين وانقطاع أيديهم عن الدنيا وما فيها ورجوعهم إلى دار الآخرة فإنه يوجب انقطاع المتفكر عن غير الله بالطاعة والتقوى، وكذلك أمر بهما بعد الامر بالتفكر، وقال (وجاف عن الليل جنك) وهو كناية عن الامر بالقيام للعبادة في ظلمات الليالي فإن العبادة فيها أفضل كما دلت عليه الآيات والروايات (وإتق الله ربك) بترك المحرمات بل المكروهات والمشتبهات.

ص:174

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبان، عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يروي الناس [أن] تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف تفكر؟ قال: يمر بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما [با] لك لا تتكلمين.

* الشرح

قوله: (أن تفكر ساعة خير من قيام ليلة) أي تفكر ساعة في عظمته وآلاته وتواتر أياديه ونعمائه أو في سكرات الموت وما بعده من العقوبات أو في محن الدنيا وعدم وفائها وما فيها من المصائب والبليات أو في فناء أهلها وانقطاع أيديهم من التصرفات (خير من قيام ليلة) للعبادة فإن كل ذلك يوجب تنور القلب وصفاء الذهن وترك الدنيا والميل إلى الآخرة وحلاوة الذكر والطاعة وكمال السعادة ومحبة الحق واعراضه عن غيره واستعمال الأعضاء الظاهرة والباطنة فيما خلقت له، وربما يخطر بالقلب بتفكر ساعة حالة مانعة من المعاصي في مدة العمر فهو أفضل من عبادة ليلة لكثرة فوائده وعظمتها.

(قلت كيف تفكر) أراد إيضاحه بمثال جزئي فلذلك أتى (عليه السلام) به.

(قال يمر بالخربة أو بالدار) التي هلك أهلها (فيقول) تحسرا أو تحزنا لحاله وحالهم (أين ساكنوك؟ أين بانوك؟ مالك لا تتكلمين؟) فإنه إذا تفكر في ذلك تجدهم انقطعوا عن الدنيا وثمراتها، وزالت أيديهم عما كان لهم من أسبابها وزهراتها وانقلوا عن دار الانس والأحبة وخلوا بيت الغربة والوحشة، مالهم من أحبائهم ظهير ولا نصير ولا له من أموالهم قطمير ولا نقير إذا أوجدهم كذلك خطر بباله أنه يصير مثلهم عنقريب ولا يكون له من ماله حق ولا نصيب فتبرد لذلك قنيات الدنيا في بصره وتحتقر زهراتها في نظره فيقدم إلى اصلاح أمره ومثواه ولا يبيع آخرته بدنياه.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته.

* الشرح

قوله: (أفضل العبادة ادمان التفكر في الله وفي قدرته) أفضلية العبادة باعتبار عظمة قدرها وكثرة منافعها وآثارها وشرافة لوازمها وأسرارها ولا ريب في ان ادمان التفكر في الله وفي قدرته أعظم العبادات قدرا وأشرفها أثرا وأفخمها رتبة وأرفعها منزلة، ولذلك وقع الأمر به في آيات متكاثرة وروايات متضافرة وله آثار شريفة ولوازم منيفة كلها عبادات عظيمة كمعرفة الرب وعظمته وعلمه وقدرته واحتقار الدنيا وزهراتها ومعرفة الجنة ودرجاتها ومعرفة النار وودركاتها والانقطاع عن غر الحق وتفريغ القلب له.

وبالجملة إدمان التفكر عبادة وأصل لجميع العبادات فهو أفضلها،

ص:175

وليس المراد التفكر في حقيقة ذاته وحقيقة قدرته وسائر صفاته إذا معرفتها خارجة عن قدرة البشر ولا يصل إليها العقل والتفكر، وكان التفكر فيها مؤديا إلى الضلال المبين والالحاد في الدين بل المراد به التفكر في وضع صنع الله وآثار قدرته فإن التفكر فيها وفي عظمتها يدل على عظمة الصانع والحق وكمال قدرته، ومما يدل على ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه» وما رواه حسين بن المياح عن أبيه قال:

سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «من نظر في الله كيف هو هلك».

بالجملة: التفكر على قسمين: تفكر في الحق، وتفكر في الحق، وتفكر في الخلق، والعبد ممنوع من الأول ومندوب إلى الثاني. قال الله تعالى: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض - الآية».

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم. إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (إنما العبادة التفكر في أمر الله عز وجل) الحصر إضافي بالنسبة إلى غير المتفكر أو حقيقي لأن العبادة كلها تابعة للتفكر فلا توجد عبادة بدونه فإن من تفكر أبصر الحق وطرقه الموصلة إليه وهانت الدنيا وما فيها عنده لما رأى من كثرة انقلابها على أهلها وعدم الوفاء لهم فيحصل له كما الميل إلى المولى الحق وغاية الخشوع والطاعة له والشوق إلى لقائه لعلمه بأن الوصول إلى الدرجة العليا، والبلوغ إلى السعادة العظمى، والتخلص عن أهوال العقبى، والتقرب إلى مقام الزلفى إنما يحصل بترك الدنيا والتزام العبادة والتقوى فيصرف نفسه عن ميدان الطغيان ويجريها في مضمار الطاعة ومرضات الرحمن، ويقدم لنفسه ما ينفعه في دار الجنان والتوفيق من الله الملك المنان.

* الأصل

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن إسماعيل بن سهل، عن حماد، عن ربعي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: [إن] التفكر يدعوا إلى البر والعمل به.

* الشرح

قوله: (التفكر يدعوا إلى البر والعمل به) لأن التفكر سراج القلب يرى به المتفكر خيره وشره ومنافعه ومضاره وكل قلب لا فكر فيه فهو مظلم لا يرى إلى البر دليلا ولا إلى العمل سبيلا، ومن التفكر أن يتفكر لأي شيء خلق ومن أين جاء وإلى أين يقصد ولأي شيء أنزل في هذا المنزل، وفيها سعادته وشقاوته فإن هذا التفكر أشد جاذب له إلى البر والعمل به، ومنه أن يتفكر في قوله تعالى: (أو لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم - الآية» إلى غيرها من الآيات الدالة

ص:176

على الترغيب في التفكر فإن التفكر فيها أقوى زاجر له عن الدنيا وأكمل داع إلى البر والعمل به للآخرة إذ من تفكر في أحوال الماضين من الرعايا والسلاطين وأعمالهم وأخبارهم وآثارهم وتفكر في أنهم بنوا ما لم يسكنوا وجمعوا ما لم يأكلوا وسعوا فيما لم ينتفعوا وفي أنهم كم تركوا في أنهم بنوا ما لم يسكنوا وجمعوا ما لم يأكلوا وسعوا فيما لم ينتفعوا وفي أنهم كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين تبرد الدنيا وما فيها عنده، وأشرق قلبه بنور ربه حتى رأى بعين البصيرة أحوال الآخرة ومقاماتها ورغبت نفسه عن قنيات الدنيا وزهراتها ومال إلى حضرة الحق والجلال واشتاق إلى كأس القرب والوصال، وعلم أن ذلك لا يحصل إلا بالبر والعلم فعلم أن التفكر يدعو إليهما، نعم ما قيل:

ولم أر كالأيام للمرء واعظا * ولا كصروف الدهر للمرء هاديا لعمرك يما يدري الفتى كيف يتقى * إذا هو لم يجعل له الله واقيا وأحسن فإن للمرء لابد ميت * وإنك قد تجزى بما كنت ساعيا ومنه أن يتفكر في معاني آيات القرآن عند تلاوته فإذا بلغ آيات الصفات مثل العزيز والحكيم والقدوس يتأمل في أسراره، وإذا بلغ آيات الأفعال مثل خلق السماوات والأرض يتأمل في عظمة الخالق، وكمال عمله وقدرته، وعلى هذا فإنه يحصل له بذلك الانقطاع عن الدنيا وملكة الميل إلى البر والعمل به.

ص:177

باب المكارم

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، به الهيثم بن أبي مسروق، عن يزيد بن إسحاق شعر، عن الحسين بن عطية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المكارم عشر فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده وتكون في الولد ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في الحر، قيل: وما هن؟ قال: صدق البأس وصدق اللسان وأداء الأمانة وصلة الرحم وإقراء الضيف وإطعام السائل والمكافاة على الضايع والتذمم للجار والتذمم للصاحب ورأسهن الحياء.

* الشرح

قوله: (قال المكارم عشر) المكرمة بزرگى وبزرگوارى والمكارم بزرگيها وبزرگواريها وينبغي أن يعلم أن النفس الناطقة إذا تركت سلطنتها في ملك البدن وصارت مأسورة في يد قواه حصلت له أخلاق مهلكة مثل الكذب والخيانة والحرص والحسد والفخر والغضب والبخل وقطع الرحم وأمثال ذلك مما يعد في الكتاب ثم تسرى تلك الأخلاق إلى الأعضاء الظاهرة منها الضرب والقتل والنهب والبهتان ونحوها، وبذلك تبعد عن رب العالمين وتستقر في أسفل السافلين وإن راعت سلطنتها فيه وأسرت قواه وأعطت كل واحدة ما فيه صلاحها عقلا وشرعا حصلت لها أخلاق صالحة منجية مثل حسن الخلق والرفق والحكمة والعدالة والشجاعة وأمثالها مما يعد في هذا الكتاب أيضا ويصدر بسببها من الأعضاء أفعال حسنة ومكارم فاضلة مثل الصدق وأداء الأمانة وغيرهما من الامور المذكورة وإن المكارم غير منحصرة فيما ذكرو ان اطلاقها عليه مجاز من باب تسمية السبب باسم المسبب لأن ما ذكر من الأفعال سبب لمكارم النفس (فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن) دل على أنها كسبية تحصل بمشقة الإكتساب والمجاهدة مع النفس الامارة ورياضتها ، وقد بالغ في ذلك بقوله:

(فإنها تكون في الرجل، ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه وتكون في العبد ولا تكون في الحر) للتنبيه على أنها نعمة عظيمة يمن الله على عباده ممن أخذت يده العناية الإلهية وتوجهت إليه التوفيقات الربانية بحسن سياسته وكمال عزيمته وتمام إرادته إلى معالى الامور.

(قيل: وما هن؟ قال: صدق البأس) أي الخوف أو الخضوع أو الشدة والفقر ومنه البائس الفقير أو القوة وصدق الخوف عن المعصية بأن يتركنها ومن

ص:178

التقصير في العلم بأن يسعى في كماله ومن عدم الوصول إلى درجة الأبرار بأن يسعى في اكتساب الخيرات فلوا دعى الخوف في شيء من ذلك وبقى عليه ولم يسع في إزالته فهو كاذب وصدق الخضوع بأن يخضع لله تعالى لا لغيره فمن ادعى الخضوع لله تعالى وهو يخضع لغيره فهو كاذب وصدق الفقر بأن يترك عن نفسه هواها ومتمنياتها وآمالها وإلا فهو ليس بفقير، وصدق القوة أن يصرفها في الطاعات فمن صرفها في المعاصي فهو ضعيف عاجز.

(وصدق اللسان) بأن لا يتكلم بما ليس فيه رضاه تعالى مثل الكذب واللغو والفحش والغيبة ونحوها بل يتكلم بما فيه رضاه من الأمور الدينية أو الدنيوية.

(وأداء الأمانة) أي أمانة الناس برا كان أو فاجرا أو أمانة الله تعالى أيضا مثل الإمامة وفعل الطاعات وترك المنهيات والعهود.

(وصلة الرحم) أي الإحسان إلى الأقربين من ذوى النسب والأصهار والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم في السر والعلانية وإن أساؤه فكأنه بالإحسان إليهم وصل ما بينهم وبينه من علاقة القرابة والصهر، ويدخل فيها صلة أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وأقراء الضيف) أي المؤمن أو المسلم مطلقا أو الأعم منه، ومن الكتابي على احتمال لدلالة.

ظاهر بعض الروايات عليه، وأما الحربي ففيه تأمل والظاهر أن الإقراء بمعنى القري المجرد يقال:

قريت الضيف أقريه من باب رمى قرى بالكسر والقصر والاسم القراء بالفتح والمد.

(وإطعام السائل) كذلك والإطعام كما يوجب الثواب الجزيل في الآخرة كذلك يدفع الفقر والبلاء وبوجب زيادة الرزق في الدنيا ثم يتفاوت ذلك بحسب تفاوت نية المطعم واحتياجه واستحقاق السائل وصلاحه.

(والمكافاة على الصنائع) جمع الصنيعة وهي ما اصطنعته من خير وكل شيء ساوى شيئا حتى صار مثله فهو مكافيء له والمكافاة بين الناس من هذا، ويقال بالفارسية پاداش دادن بمثل وقد يعم ويراد مطلق المجازاة الشامل للمساوي والأزيد والأنقص ثم المكافاة من باب الآداب والاستحباب لجواز الأخذ من غير عوض للروايات منها رواية إسحاق بن عمار قال قلت له: « الرجل الفقير يهدي إلى الهدية يتعرض لما عندي فآخذها ولا أعطيه شيئا؟ قال نعم هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه».

(والتذمم للجار، والتذمم للصاحب) التفعل يجيء للتجنب مثل تأثم وتحرج أي تجنب الاثم والحرج، ومنه التذمم وهو مجانبة الذم والتحرز منه والمقصود أن من مكارم الرجل أن يحفظ ذمام الجار ولصاحب ويطرح عن نفسه ذم الناس له ان لم يحفظه، والذمام بالكسر الحرمة، وما يذم به الرجل على اضاعته من العهد والإمام وغيرهما.

(ورأسهن الحياء هو خلق غريزي أو مكتسب يمنع من فعل القبيح وخلاف الآداب والتقصير في الحقوق خوفا من اللوم والذم به، ولا يوجد شيء من المكارم بدونه ولذلك هو رأسهن.

ص:179

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خص رسله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله واعلموا أن ذلك من خير وإن لا تكن فيكم فاسألوا الله وارغبوا إليه فيها، قال: فذكر [ها] عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروة قال: وروي بعضهم بعد هذه الخصال العشرة وزاد فيها الصدق وأداء الأمانة.

* الشرح

قوله: (إن الله عز وجل خص رسله بمكارم الأخلاق) الأخلاق جمع خلق وهو ملكة للنفس يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية وفكر خلاف الحال; وقد توهم أن الأخلاق كلها خلقية فيكون التكليف بها تكليفا بما لا يطاق وهذا التوهم فاسد لأن الاخلاق قد تتغير وتتبدل كما هو المشاهد في كثير من الناس فإنهم يزاولون ويمارسون خلقا من الأخلاق حتى يصير ملكة.

لا يقال مدخول الباء أما مقصور كما يقتضيه القاعدة، أو مقصور عليه. فعلى الأول لزم أن لا توجد المكارم في غير الرسل وهو ينافي ما بعده وعلى الثاني لزم أن لا يوجد في الرسل غير المكارم لأنا نقول يمكن دفع الأول بأن للمكارم عريضا والمقصور على الرسل هو الطرف الأعلى، ولا ينافيه وجود ما دونه على تفاوت المراتب في غيرهم، أو بأن خلقية المكارم مقصورة على الرسل جميعا ولا توجد في غيرهم جميعا ولا ينافيه وجودها في بعض الاغيار، ويمكن دفع الثاني بأن الحصر إضافي بالنسية إلى أضداد المكارم يعني أن الرسل مقصورون على المكارم ولا يتجاوزونها إلى أضدادها بخلاف غيرهم وهذا أظهر على أنه يمكن أن يكون المقصود أنه تعالى خص رسله بإنزال المكارم إليهم وتقريرهم لها وعلى هذا لا يتوجه شيء.

(فامتحنوا أنفسكم) وإختبروها (فإن كانت فيكم فاحمدوا الله) لأنها من أعظم نعمائه لديكم و (واعلموا أن ذلك من خير) عظيم أفاضه عليكم (وإن لا تكن فيكم فاسألو الله) عن تيسير ذلك الكمال (وارغبوا إليه بالتضرع والابتهال.

(قال فذكرها عشرة) غير العشرة المذكورة في الحديث السابق لكونها غير منحصرة فيها. ( اليقين) بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله، هو العلم مع زوال الشك وعلاماته العلم بمقتضاه (والقناعة ) وهي الرضا بالقليل وفيه راحة في الدارين، وفي الحديث «القناعة كنز لا ينفذ» لأن الانفاق معها لا ينقطع كلما تعذر عليه شيء من امور الدنيا قنع بما دونه ورضى وفيه «عز من قنع وذل من طمع» لأن القانع لا يذله الطلب

ص:180

فلا يزال عزيزا.

(والصبر على المصيبة وفعل الطاعة وترك المعصية.

(والشكر) لله في جميع الأحول باللسان والجنان والأركان.

(واللحم) بضبط النفس عن الانتقام عند صدور ما يؤذيه عن الغير وهو صفة لها بالاعتدال في القوة الغضبية.

(وحسن الخلق) مع الناس بالجميل والطلاقة والبشاشة والتودد والتلطف والاشفاق عليهم.

(والسخاء) أي بذل المال بسهولة على قدر لابد منه في موضعه وهو فضيلة نفسانية مندرجة تحت الإعتدال في القوة الشهوية وأفضله ما وقع بغير سؤال كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) « السخاء ما كان ابتداء فاما ما كان عن مسئلة فحياء وتذمم» أي استنكاف ومجانبة عن الذم.

(والغيرة) أي الحمية في الدين والاستنكاف عما يغايره وتغير الطبع عما يخالفه (والشجاعة) وهي ملكة للنفس حاصلة من الإعتدال في القوة الغضبية ويبتني عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وامضاء الأحكام والحدود والجهاد مع النفس والشيطان والعدو.

(والمروة) أي كمال الرجولية في الدين ورعاية حال فقراء المسلمات والمسلمين وتفقد أحوال اليتامى والأرامل والمساكين.

(وقال وروى بعضهم بعد هذه الخصال العشرة وزاد فيها الصدق) أي صدق البأس وصدق اللسان (وأداء الأمانة) إلى الناس، أو مطلقا وهو أي الصدق مفعول روى وزاد على سبيل التنازع وإن توهم زيادة لفظ بعد أو زاد.

* الأصل

3 - عنه، عن بكر بن صالح، عن جعفر بن محمد الهاشمي، عن إسماعيل به عباد قال بكر: وأظنني قد سمعته من إسماعيل; عن عبد الله به بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنحب من كان عاقلا، فهما، فقيها، حليما، مداريا، صبورا صدوقا، وفيا إن الله عز وجل خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك ومن لم تكن فيه فليتضرع إلى الله عز وجل وليسأله إياها. قال: قلت:

جعلت فداك وما هن؟ قال: هن الورع والقناعة والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة.

* الشرح

قوله: (إنا لنحب من كان عاقلا) له جوهر مجرد (1)

ص:181


1- 1 - قوله «له جوهر مجرد» جرى على اصطلاح الحكماء فإن العقل عندهم يطلق على العقل النظري والعقل العملي، وهما مما امتاز به الإنسان من سائر الحيوانات. فإنها تشترك مع الإنسان في الحس، ويمتاز الإنسان عنها بشيئين: الأول بأنه يدرك الحسن والقبح في الأفعال ويحكم بأن بعض الأعمال حسن وبعضها قبيح، ولا يدرك الحيوان شيئا من ذلك البتة، وكذلك كلف الإنسان بتكاليف وصار مسؤولا عن أفعاله «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا» وهذا يسمى العقل العملي وهو الذي أنكره الأشاعرة. والثاني أن يدرك الكليات والمعاني العامة. ولا يدركها الحيوانات والدليل عليه أنه يتكلم، وأكثر كلماته كليات يدرك معناها ويحكى عنها ولا يقدر على ذلك الحيوانات الآخر. فالحيوان يتوجع ويعرض له إلا لم ويحس ويخاف من عدوه، ويحصل له الباعث على الفرار، ويجب أولاده ويحفظها من الآفات حتى تكبر وتستغني عن الأم، ولكن لا يقدر على لفظ يحكى به عن معين إلا لم والخوف والحب لأنه لم يدرك معنى عاما يشمل أفراد كل منها، وإنما يحصل لها مصاديق هذه المعاني كما يحصل للطفل الصغير قبل أن يتكلم، ولذلك عبر عن إدراك الكلي بالنطق، وبالجملة أشار الشارح بقوله «يدرك به المعقولات» إلى العقل النظري، وبقوله «يميز بين الحق والباطل» إلى العقل العملي وكلاهما حاصل للإنسان بسبب تجرده عن المادة ذاتا وإن تعلق بها فعلا ولا ريب أن الاختيار من لوازم النفس المجردة والطبيعة مقهورة مجبورة في أفعالها لا سبيل لها إلى التخلف عما أودع فيها، والإنسان لكونه مختارا غير مجبورا لابد أن يكون له قوة يرجح بها ما ينبغي أن يفعله ويميز ما يجب أن يتركه وهو العقل العملي، ولكونه مستعدا لاستنباط المجهولات من المعلومات أن يكون له عقل نظري يدرك به الكليات إذ الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا. (ش)

ويميز بين الحق والباطل والهادي والمضل.

(فهما) الفهم من صفات العاقل وهو جودة تهيؤ الذهن لقبول ما يرد عليه من الحق وبه ينتقل من المبادى إلى المطالب بسرعة.

(فقيها) الفقه العلم بالأحكام من الحلال والحرام وبالأخلاق وآفات النفوس (1) من الحق أو بصيرة قلبية في أمر الدين تابعة للعلم والعمل مستلزمة للخوف والخشية (2) (مداريا) المدارة الملاطفة والملاينة مع الناس وترك مجادلتهم ومناقشتهم.

(صدوقا وفيا) أي دائم الصدق والوفاء، والصدق ملكة تحصل عن لزوم الأقوال المطابقة، والوفاء ملكة تنشأ عن لزوم العهد والأمانة والبقاء عليه وهما فضيلتان داخلتان تحت العفة متلازمتان، وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الوفاء توأم الصدق ولما كان التوأم هو الولد المقارن لولد آخر في بطن واحد شبه به الوفاء لمقارنته الصدق تحت العفة، وفي هذا الحديث تحريص على محبة الموصوف بالصفات المذكورة فيه

ص:182


1- 2 - قوله «وبالأخلاق وآفات النفوس» جرى على اصطلاح الأئمة (عليهم السلام) في تعريف الفقه. فإن الفقه عندهم (عليهم السلام) كان يشمل علم الأخلاق وغيره. ولكن المتأخرين (رضي الله عنه) عنهم خصصوا الفقه بالاحكام الظاهرية وميزوا بينه وبين علم الاخلاق ولا مشاحة في الاصطلاح. (ش)
2- 3 - قوله «مستلزمة للخوف والخشية» فرق بعض علماء الأخلاق بين الخوف والخشية وقال ابن الخوف من الضعفاء وأهل الأهواء لكثرة معاصيهم وتقصيرهم يخافون العذاب. والخشية حاصلة للعلماء بالله والأولياء لمعرفتهم بعظمة بهم والاستشعار بشدة قهره وكمال رحمته، وعظم قدرته وإحاطة علمه وسائر صفاته الكمالية لا للخوف من العذاب إذ لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وقال تعالى: «إنما يخشي الله من عباده العلماء». (ش)

واختيار مصاحبته. فإنه دليل إلى سبيل الخيرات ومرشد إلى طرق النجاة ولكن وجدانه متعسر فإن الجاهل قد يدلس فلابد للطالب من حزم وتجسس لئلا يتخذ الجاهل مصاحبا ولا يقع في ويل الخذلان بعد الإيمان. وأعلم أن المكارم المذكورة في هذا الحديث اثنى عشرة كما في السابق ألا أن اليقين وحسن الخلق والمروءة المذكورة في السابق غير مذكورة في هذا الحديث، والورع والحياء والبر المذكورة في هذا الحديث غير مذكورة في السابق. والورع هو الكف عن المحرمات والمشتبهات بل عن المباحات أيضا والبر هو الإحسان بالوالدين والأقربين بل بالناس أجمعين وقد يطلق على الأعمال الصالحة والخيرات كلها.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل ارتضى لكم الإسلام دينا فأحسنوا صحبة بالسخاء وحسن الخلق».

* الشرح

قوله: (فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) فإنهما يوجبان كما الدين وقراره كما أن البخل وسوء الخلق يوجبان نقصانه وفراره. فالدين كالمصاحب أن راعيته قر وإن آذيته فر.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله والتوكل على الله وتفويض الأمر إلى الله والتسليم لأمر الله.

* الشرح

قوله: (الإيمان أربعة أركان الرضاء بقضاء الله والتوكل على والتوكل على الله وتفويض الامر إلى الله والتسليم لأمر الله) الرضاء بقضاء الله سكون النفس تحت محاري القدر وسرورها بما يرد عليها وإن كان ثقيلا عليها لأنه من الحبيب وكل شيء من الحبيب فهو حبيب والتوكل جعل الغير وكيلا في أموره وهو على قسمين أحدهما أن يقصد رجوع التوكيل إليه في إمضائها والاخر أن يقصد استقلاله فيه وهذا القسم وهو التفوض فالتفويض قسم من التوكل وأفضل أفراده، ثم التفويض على قسمين: أحدهما أن يرى المفوض كل ما يفعله المفوض إليه موافقا لطبعه والاخر أن يجرد نفسه عن ملاحظة الموافقة والمخالفة حتى كأنه فوض نفسه وطبعه أيضا إليه، وهذا هو التسليم فالتسليم نوع من التفويض وأكمل أفراده، وإنما كانت هذه الأربعة أركان الإيمان إذ بانتفاء الرضا بقضاء الله يتحقق السخط عليه وهو يوجب هدم بناء الإيمان به، وبانتفاء التوكل يتحقق الحرص في الطلب وفوات كثير من الاعمال الصالحة

ص:183

المعتبرة في الإيمان وهو يوجب هدمه وكذا انتفاء التفويض والتسليم يوجب تحقق تعلقات كثيرة منافية للإيمان الكامل، وبالجملة هذه الأمور من لوازم اليقين فانتفاؤها موجب لانتفائه المنافي للإيمان.

* الأصل

6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن سنان عن رجل من بني هاشم قال: أربع من كن فيه كمل إسلامه ولو كان من قرنه إلى قدمه خطايا لم تنقصه: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر.

* الشرح

قوله: (أربع من كن فيه كمل إسلامه ولو كان من قرنه إلى قدمه خطايا لم تنقصه) أي خصال، والضمير المفعول في لم تنقصه راجع إلى الإسلام، أو إلى من.

(الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر) قد مر تفسيرها، ولا يخفى أن ثبوتها يستلزم انتفاء العصيان (1)

* الأصل

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي حمزة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا اخبركم بخير رجالكم؟ قلنا:

بلي يا رسول الله! قال: إن من خير رجالكم التقي النقي، المسح الكفين، النقي الطرفين البر بوالديه ولا يلجيء عياله إلى غيره.

* الشرح

قوله: (ألا أخبركم بخير رجالكم؟ قلنا بلي يا رسول الله قال ان من خير رجالكم) لا يقال أول هذا الكلام ينافي آخره في الجملة لأن قوله خير رجالكم يفيد أنه الخير مطلقا، وقوله من خير رجالكم يفيد أنه من جملة خير الرجال وبعضهم لأنا نقول لعل المراد بالأول الصنف وبالاخر كل فرد من هذا النصف أو نقول الأخير قرينة على أن المراد بالأول الخير الإضافي بالنسبة إلى من لم توجد فيه الصفات المذكورة دون الخير الحقيقي وعلى الإطلاق.

(التقي النفي السمح الكفين) «التقي» المحترز عن كل ما يؤثم خوفا من الله تعالى وتبعيدا لنفسه مخالفته و «النقي» النظيف الظاهر والباطن من الوسخ النفساني والدنس الجسماني «والسمح» الجواد المعطي وإسناد الجود والاعطاء إلى الكفين لظهورهما منهما وفي ذكر الكفين مبالغة في كمالهما.

ص:184


1- 1 - قوله «يستلزم انتفاء العصيان» أو لأنه ينتهى أمره إلى التوبة يقينا ويموت تائبا البتة. (ش)

(النقي الطرفين) أي الفرجين أو الفرج واللسان، أو الفرج والبطن وقيل الوالدين (والبر بوالديه) أي المحسن إليهما والمطيع لهما والرفيق بهما والمتحري لمحابهما والمتوقي عن مكارمهما.

(ولا يلجيء عياله إلى غيره) مع القدرة على إنفاق ما يكفيهم يقال: أجأته إليه ولجأته بالهمزة والتضعيف أي إضطررته وأكرهته.

ص:185

باب فضل اليقين

* الأصل

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن مثنى ابن الوليد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس شيء الا وله حد، قال: قلت: جعلت فداك فما حد التوكل؟ قال:

اليقين، قلت: فما حد اليقين؟ قال: ألا تخاف مع الله شيئا.

* الشرح

قوله: (فما حد التوكل؟ قال اليقين) في المصباح اليقين: العلم الحاصل عن نظر واستدلال، ولهذا لا يسمى علم الله يقينا. وفي أوصاف الاشراف اليقين اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يمكن زواله وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: العلم بالمعلوم، والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال وله مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين والقرآن ناطق بذلك والحد في اللغة منتهى كل شيء ونهايته وفي العرف التعريف ويمكن إرادة كلا المعنيين: أما الأول فلان التوكل ينتهى إلى اليقين وهو منتهاه وأثره إذ الإنسان قبل التوكل يظن أن له مدخلا في حصول مهماته فليس له يقين بالله صفاته الذاتية والفعلية كما هو حقه وبعده يرى أن مهماته تحصل على الوجود الأحسن والإكمال فيحصل له يقين كما هو حقه فاليقين حده ومنتهاه. وأما الثاني فلان اليقين أثر من آثار التوكل كما عرفت فتعريفه باليقين تعريف له بأثر من آثاره، وأما جعل الحد بمعنى التعريف وجعل اليقين سببا للتوكل فهو وان كان محتملا في نفسه لكن لا يناسب ما بعده إذ اليقين سبب لعدم الخوف من غير الله دون العكس.

(قلت فما حد اليقين؟ قال ألا تخاف مع الله شيئا) جعل عدم الخوف من غير الله نهاية لليقين وأثرا من آثاره أو تعريفا له مبالغة للسببية لأن الإنسان إذا كملت قوته النظرية باليقين بالله وصفاته العظام لا يخاف الامن الله كما قال عز شأنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء» ثم نقول حد الخوف استعمال الجوارح والأعضاء فيما خلقت له وصرفها عن غيره. ثم حد هذا تفريغ القلب عما عداه بحيث لا ينظر إلى شيء سواه، ولا يرى في الوجود إلا إياه فهو منتهى كل غاية وغاية الغاليات كما ورد في بعض الروايات.

ص:186

* الأصل

2 - عنه، عن معلى، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ومحمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد الحناط وعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فان الرزق لا يسوقه حرص وحريص ولا يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت، ثم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

* الشرح

(قال من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضى الناس بسخط الله) ليس كل من يدعى اليقين له يقين صحيح صادق مستمر بل لصحته وثبوته وكونه ملكة علامات، ومن علامات صحته أن لا يرضى الناس أبدا بما يوجب سخط الله تعالى وغضبه عليه كما هو فعل غير موقن فإنه يقول ما يوافق طبع الناس ويعمل ما فيه رضاهم وإن كان فيه سخط الرب لئلا يفوت مقاصده المأمولة منهم، أو لغير ذلك من الاغراض الفاسدة فيترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجالس الفاسقين والظالمين، ويساهل معهم ويميل إلى ما هو مستحسن في طباعهم المعوجة ولا يعلم أن أقل ما يفعل الله تعالى بمن جعل رجاه فداء لرضا غيره وسخطه فداء لسخط خلقه بعد مقته هو أن يضرب على قلبه ذل الحجاب وأن يقلب قلب من طلب رضاه ببغضه إياه كما روى من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس بخلاف الموقن فإنه لما كانت ثقته بالحق وإعتماده على لطفه وإحسانه مع يقينه بأن الخلق مقهورون مضطرون وأن قلوبهم بيده يتصرف فيها ما يشاء كان صليبا في الدين قايما على اليقين يقول الحق ويأمر به وينهى عن الباطل ويزجر عنه ويفر مما فيه رضى الله وسخط الرب ولا يبالي أن ذلك بوجب سخطهم ومنعهم لعلمه بأن حصول المقاصد ووصول الارزاق من عند الله تعالى.

(ولا يلومهم على ما لم يؤته الله) أي ولا يذمهم على ما لم يؤته الله تعالى من الرزق وهو ما يحتاج إليه وينتفع به في التعيش والبقاء وفي اختصاصه بالحلال أو شموله للحرام أيضا خلاف مذكور في موضعه والنهي عن الذم لوجوده:

الأول: أن ذمهم ظلم لهم لأنهم لم يمنعوه بل الله لم يؤته ما طلب منهم.

الثاني: أن ذمهم ينتهي إلى الله لأنه انما يذم المانع من الإعطاء ولا معطى ولا مانع إلا الله فيرجع الذم إليه.

الثالث: إن ذمه المانع من الخلق شرك لأنها اعتقد أنهم مانع له فذمه فأشرك في المنع مع الله غيره، ألا ترى كيف رده عن هذا الشرك إلى التوحيد وعن الجهل إلى العلم وعن الشك إلى اليقين وعن الاضطراب إلى

ص:187

الاطمينان بقوله:

(فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره) فإن أمر الرزق ليس بيد أحد حتى يسوقه إليه عند حرصه أو ترده عند كراهته بل هو بيده تعالى يوصله إلى عباده على حسب ما يقتضيه المصلحة من الزيادة والنقصان، ويحتمل أن يكون المراد أن الرزق لا يسوقه إلى أحد حرص حريص ولا يرده عنه كراهة كاره فينبغي أن لا يذم الخلق بالرد والمنع. ويؤيده ما روى من طرق العامة «أن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهة كاره».

(لو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لا دركه رزقه كما يدركه الموت) بالغ به في أن رزق كل أحد كموته بيده تعالى يوصله إليه قطعا أراده أو كرهه لأن الحكيم القادر إذا جعل الوجود موقوفا على الرزق يمتنع عليه أن يقطع الرزق مع تحقق الوجود بل وجب عليه إيصاله، وإن لم يكن المرزوق عالما بطرقه ومنه ينشأ الاضطراب والهم والحزن، ويحرك إلى السؤال والذم والدافع له هو اليقين والرضا عنه تعالى ولذلك حث على طلبهما للظفر بالروح في القلب والتخلص من الاضطراب وبالراحة في البدن والتنزه من ذل السؤال وخسائس الإكتساب بقوله:

(ثم قال إن الله بعدله وقسطه) العطف للتفسير (جعل الروح والراحة) أي راحة القلب وسكونه عن الاضطراب وراحة البدن وفراغه من الاعقاب.

(في اليقين والرضا) فإن الموقن بالله وبصفاته العظمى والراضي عنه بالمنع والإعطاء يطمئن قلبه عن التردد والتلون، ويفرغ عن الاعتماد والتحزن وينقلع عن علقة الأسباب ويقول توكله على رب الأرباب فيستريح عن تصادم الهموم والاضطراب ويتخلص عن تراكم الغموم والاكتساب لتيقنه بأن رزقه يصل إليه ضمنه عادل حكيم ثم عكس ذلك تأكيدا بقوله (وجعل الهم والحزن) الهم الغم المقلق للنفس أو الغم في تحصيل المطلوب عند صعوبته خوفا من فواته، والحزن غم يصيب الإنسان بعد فوات المحبوب.

(في الشك والسخط) لأن الشك يوجب تردد القلب وانزعاجه وتلونه واضطرابه من تجاذب الأسباب وغفلته عن تقدير رب الأرباب وكل ذلك يوقعه في الهم والحزن والعذاب وكذا سخط القلب بالمقسوم وعدم الرضا به يوقعه في الهم والحزن والغموم ولذلك قيل:

ما العيش إلا في الرضا والصبر في حكم * القضاء * ما بات من عدم الرضا إلا على جمر الغضاء

* الأصل

3 - ابن محبوب، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العمل الدائم القليل على اليقين

ص:188

أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين.

* الشرح

قوله: (أن العمل الدائم القليل على اليقين) بذلك أو مطلقا. (أفضل عند الله من العمل الكثير على غير غير يقين) «لابد من اعتبار الدوام في العمل الكثير ليكون نصا على أن الأفضلية باعتبار اليقين ولعل السر فيه أن اليقين يوجب التقوى وكما الإخلاص والفضل يزداد بهما ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يقال عمل مع التقوى وكيف يقل ما يتقبل» وفيه ايماء إلى قوله تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين» وإشارة إلى أن المقبول من الاعمال لا يعد قليلا وكيف يعد قليلا ما يضاعف وينمو عند الله تعالى، وإلى أن العمل على غير يقين قد لا يكون مقبولا وقد سمع (عليه السلام) رجلا من الحرورية يتهجد ويقرأ فقال: «نوم على يقين خير من صلاة في الشك» وذلك لان صلاة الشاك فيما يجب الإعتقاد فيه لا تنفعه عقلا ونقلا، ونوم الموقن ينفعه.

* الأصل

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) - على المنبر -: لا يجد أحد [كم] طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

* الشرح

(لا يجد أحد [كم] طعم الإيمان) فيه مكنية وتخييلية حيث شبه الإيمان بالطعام في أنه غذاء للروح به ينمو ويبلغ حد الكمال كما أن الطعام غذاء للبدن.

(حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) إشارة إلى أن الإيمان بداية ونهاية وغاية فبدايته حق ونهايته حقيقة كما أشار إليه اجمالا بقوله سابقا: أن على كل حق حقيقة وأن المؤمن ينبغي أن يسير في طرق الإيمان باكتساب مكارم الاخلاق حتى يبلغ أعلاه ويترقى بالمجاهدة والوفاء من حضيض النقصان إلى أن يبلغ ذراه فلا يزعجه الهوى ولا تحركه الشهوة والمنى ويقبل بكلية قلبه إلى المولى ويحقق ما قلنا قوله حتى يعلم لذكر الحقيقة بلفظ الغاية وهو حتى الموضوعة لها فجعلها حقيقة الإيمان المترقي إليها باستعمال وظائفه وليس المراد بهذا العلم العلم بسابق قدر الله ونفوذ حكمه فيما قدره وقضاء من عطاء ومنع وضر ونفع لأن هذا أو الإيمان وحقه الذي اشترك فيه المؤمنون كلهم (1)

ص:189


1- 1 - قوله «اشترك فيه المؤمنون كلهم» قد سبق منا مرارا خصوصا في مقدمة الكتاب أن اليقين بالمعني الذي ذكره الشارح أو لا وهو التصديق الثابت الجازم المطابق للواقع معنى واحد لا يقبل الشدة والضعف بنفسه وهو مناط الإيمان والإسلام إذ لم يحكم أحد من علماء المسلمين من صدر الإسلام إلى زماننا هذا باسلام من يظن صدق رسول الله تعالى، وإنما يحكم بما يدل على يقينه وعلمه المانع من احتمال النقيض فلا بد أن يلتزم بتأويل ما يوهم خلاف ذلك والأظهر أن يحمل الدرجات والمراتب على درجات تغليب العقل على الوهم. إذ قد يتفق أن يعلم الإنسان شيئا علما يقينا ولكن يعارضه وهمه كمن يعلم بعقله أن الميت جماد لا يخاف ولكن يخاف منه بوهمه ومن يعلم أن الباطلة توجب الحرمان والفقر ولا يبالي به لمعارضة وهمه والمؤمن يجب أن لا يعتني بوهمه بكل حال ويغلب عليه، ويلتزم بلوازم يقينه ومثال علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين يشير إلى هذا التأويل فإن الذي يعلم بوجود النار، والذي يراها بعينه كلاهما عالمان. لا يحتمل عندهما عدم وجود النار لكن العين بابصارها تغلب على الوهم غلبة لا تحصل من العلم. والذي ماس النار وأدرك ألم الحدق يجتنب عنها أكثر ممن لم يدركه وهذا حاصل بالتجربة في أفراد الناس، وفي أمثالنا ما معناه لسيع الحية يخاف من الحبل وذكرنا هناك تأويلا آخر ينطبق على كثير من الروايات. (ش)

اليقين حتى كأنه يعاينه كما أخير حارثة بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه مؤمن حقا وادعى حقيقة الإيمان فطالبه بامارات تلك الحقيقة التي ادعى بلوغها. فقالوا عزفت نفسي عن الدنيا إلى آخر ما ذكره، وما كان هذا الحديث إلا كما روى أن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، فلو كان المراد الإعتقاد بأن الله معهم أينما كانوا علمأ وإحاطة لم يكن للتفضيل معنى وفائدة لإشتراك الكل فيه فلابد من أن يراد بلوغ صاحب هذا الإيمان غاية يفضل بها على غيره فكذا المراد هنا أن أحدا لا يجد طعم الإيمان وحقيقته حتى ينتهى إلى غاية يعلم بها يقينا كالعين ان ما أصابه من خير وشر ونفع وضر لم يكن ليخطئه أي يجاوزه إلى غيره، وما أخطأه - أي جاوزه - إلى غيره لم يكن قط ليصيبه ولا يعرف بلوغ العبد إلى حقيقة هذا الإيمان والعلم إلا بظهور أماراته له ولغيره كما أبان حارثة أمارات ما ادعى من حقيقة إيمانه فيسلم له ويقف هو عند علمه ومن أمارات من بلغ حقيقة هذا اليقين والإيمان أنه يسكن عن طلب الدنيا وثمراتها، وعن التشرف إلى منافعها وزهراتها، وتعذيب القلب والخاطر بانتظارها وتمنيها ثقة بأن ما قسم له منها لا يجاوزه وما جاوزه إلى غيره لا يصيبه فيطمئن قلبه ويرضى بسابق قسمته له فلا يحرص في طلب المنافع ولا يتوجه قلبه إليها كأنه يخاف فيها منع مانع، ولا يتحرك في أسبابها إلا أن يتوجه إليه أمر المولى كقوله: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» فالظاهر منه متحرك والباطن ساكن مطمئن موقن بأنه لا بد من كون جميع ما قدر الله كونه وإمضاءه. ومن لم يبلغ هذه المرتبة فعليه الصبر على ما يكره فإن فيه خيرا لعله يوصله إلى غاية مقام اليقين والرضا. قال بعض الأكابر: لله عباد لا يرضون له منهم بالصبر على ما قدر وقضى بل يتلقون أمر أحكامه باليقين والمحبة والرضا.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين

ص:190

صلوان الله عليه جلس إلى حائط مائل، يقضي بين الناس فقال: بعضهم، لا تقعد تحت هذا الحائط، فإنه معور فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): حرس امرء أجله فلما قام سقط الحائط قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مما يفعل هذا وأشباهه وهذا اليقين.

* الشرح

قوله: (فإنه معور) بضم الميم وسكون العين وكسر الواو أي ذو عوار يفتح العين وضمها يعنى فيه عيب وخلل يخاف منه القطع والهدم.

(حرس أمرء أجله) امرء مرفوع على الفاعلين وأجله منصوب على المفعولية والعكس محتمل والمقصود الإنكار لأن أجل المرء ليس بيده حتى يحرسه.

(وهذا اليقين) بالقدر فإنه يسكن النفس في مثل هذه المواضع لعلمه يقينا بأن كل ما قد وقوعه فهو واقع فلا ينفع الفرار منه وكل ما قدر عدم وقوعه فهو غير واقع فلا يضر عدم الفرار.

لا يقال: لعل تقدير عدم وقوع الحائط عليه مثلا مشروط بالفرار طلبا فيجب الفرار طلبا للقدر وتحرزا عن الهلاك.

لأنا نقول الفرار وعدمه أيضا داخلان في التقدير، ومن جملة المقدر فإن كان المقدر هو الفرار.

وقع قطعا وإن كان عدمه لم يقع. فإن قلت: لا معنى حينئذ للتكليف بالفرار. قلت: التكليف به تكليف بالمقدور التكليف بالمقدر أيضا مقدر فهو واقع على أنه يمكن أن يقال مناط التكليف به إمكانه في ذاته، أو التكليف به مختص بغير الموقن لأن الموقن يتوكل على الله، ويفوض أمره إلى فيقيه عن كل مكروه كما قال عز وجل (أليس الله بكاف عبده» وكما قال مؤمن آل فرعون (وأفوض أميري إلى الله إن الله يصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا» وسر ذلك أن المؤمن الموقن المتوكل المفوض امره إلى الله إذا بلغ إيمانه وإيقانه وتوكله وتفويضه حد الكمال لا ينظر إلى الأسباب والوسائط في النفع والضر ولا يتعلق قلبه بها أصلا وإنما كان نظره إلى مسبب الأسباب وتعلق قلبه به وحده وأما من لم يبلغ حد الكمال ولم يغلب عليه مشاهدة اليقين كآحاد المؤمنين فإنه يخاطب بالفرار قضاء لحق الوسائط. هذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في مدينة وكان تحته كنز لهما) فقال: أما إنه ما كان ذهبا ولا فضة وإنما كان أربع كلمات: لا إله إلا أنا، من أيقن بالموت لم يضحك سنه، من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلا الله.

ص:191

* الشرح

قوله: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين) قال القرطبي كان اسمهما اصرم وأصيرم، وقال عياض كان أبوهما الصالح جدهما السابع وكان اسمع كاشحا. ففيه أنه تعالى يحفظ الصالح في نفسه وولده وإن بعدوا كما يشعر به قوله تعالى (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين» وورى أنه تعالى يحفظه في سبعة من ذريته.

(وإنما كان أربع كلمات) حث بالأولى على التوحيد المطلق والتنزيه عن جميع ما لا يليق به تعالى، وبالثاني على تذكر الموت والاستعداد لما بعده والتحزن لأحوال البرزخ، وبالثالثة على تذكر أحوال القيامة وأهوالها سيما الحساب الذي لا يعلم مآل أحواله وهو يوجب زوال الفرح والسرور عن القلب، وبالرابعة على اليقين بالقدر والخوف من الله وحده واقتصر بذكر هذه الخصال لأن الاتصاف بها يوجب البلوغ إلى غاية الكمال.

(لا إله إلا الله أنا من أيقن بالموت لم يضحك سنه) السن معروف ويحتمل أن يراد به العمر أي لم يضحك في مدة عمره لأن الضحك ينشأ من الفرح والسرور والموقن بالموت وشدائده وما بعده من القبر وسؤال منكر ونكير فيه وأهوال البرزخ والقيامة والجنة والنار قلبة محزون مغموم دايما لعدم بمآل حاله وما يفعل به في تلك المواطن فينقطع عنه أسباب السرور بالكلية.

(ومن أيقن بالحساب) عن القليل والكثير. (لم يفرح قلبه) لشدة الحزن والخوف من رجحان سيئاته على حسناته ويوجب ذلك اشتغاله بمحاسبة النفس قبل أن تحاسب.

(ومن أيقن بالقدر) قيل المراد به التقدير كما أن المراد بالقضاء الخلق على وفق التقدير، وقيل المراد به تعلق علم الله سبحانه وارادته بالكائنات قبل وجودها.

(لم يخشى إلا الله) ومن علامات تخليه الظاهر والباطن عن الرذائل وتحليتهما بالفضائل وعدم الرجوع في جلب النفع ودفع الضر إلا إلى الله. قال عياض قيل: الكنز كان لوحا من ذهب مكتوبا في جانب منه «بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب عجبت لمن أيقن بالنار ثم ضحك» وفي رواية «لا إله أنا محمد عبدي ورسولي» وفي الشق الاخر «أنا الله الذي لا إله أنا وحدي ولا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه» وقيل المكتوب «عجبت لمن آمن بالقدر كيف يحزن ولمن آمن بالرزق كيف يتعب ولمن أيقن بالموت كيف يفرح إله إلا الله محمد رسول الله». وقيل كان الكنز ما لا مدفونا إنتهى.

* الأصل

7 - عنه، عن علي بن الحكم، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن الضار

ص:192

النافع هو الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (لا يجد عبد طعم الإيمان) أي لذته وحقيقته (حتى يعلم) يقينا لا يعتريه شك.

(ان ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن من أخطأه لم يكن ليصيبه) لتيقنه بأن ما أصابه علم الله أزلا بأنه يصيبه فيستحيل أن لا يصيبه، وما أخطأه علم الله بأنه لا يصيبه فيستحيل أن يصيبه كل ذلك لاستحالة أن يصير علمه جهلا هذا فيما لا اختيار للعبد فيه مثل الصحة والسقم والحسن والقبح والطول والقصر إلى غير ذلك ظاهر، فأما في فعله الاختياري مثل الصلاة وتركها والشرب وتركه.

والقتل وعدمه إلى غير ذلك فكذلك لعلمه تعالى في الأزل بكل ما يق فلا بد من أن يقع لما ذكر ولكن علمه ليس علة لوقوعه بل تابع له، وقد مر توضيحه في كتاب التوحيد.

(وأن الضار النافع هو الله عز وجل) الضر والنفع منه تعالى بلا واسطة، والضر يعود إلى النفع العظيم كحمى يوم مثلا فإنها توجب ثوابا جزيلا، وأما الضر والنفع المستندان إلى الغير ظاهرا فهما مستندان إلى الله تعالى عز شأنه باطنا لأنه أقدره عليهما، فاذن ليس الضار النافع إلا هو، فاذن لا بد لكل أحد أن لا يطلب الخير إلا منه، ولا يلوذ في دفع الضر إلا إليه.

* الأصل

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة، عن سعيد بن قيس الهمداني قال: نظرت يوما في الحرب إلى رجل عليه ثوبان فحركت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضوع؟ فقال: نعم يا سعد ابن قيس إنه ليس من عبد إلا وله من الله حافظ وواقعية معه، ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خليا بينه وبين كل شيء.

* الشرح

قوله: (ملكان يحفظانه) بدل من حافظ وواقعية، والقضاء الامر أو الحكم بوقوع الشيء على النحو المقدر والحاصل أن مع وجود الحافظ لا يضر شيء ومع عدمه لا ينفع شيء فليس في تحمل آلات الحرب مثل الدرع وغير فائدة وهذا أمر يقتضيه اليقين بالله وبقدره. فإن المستغرق في بحر اليقين لا يرى غيره ولا يخاف أحدا سواه فضلا عن أن يتحرز منه ويحترز من شره، وأما غيره فلما لم يكن له هذه المرتبة كان عليه التمسك بالأسباب والجريان على ظاهر الشريعة.

* الأصل

9 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول:

ص:193

كان في الكنز الذي قال الله عز وجل: (وكان تحته كنز لهما) كان فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها وينبغي لمن عقل عن الله أن لا يتهم الله في قضائه ولا يستبطئه في رزقه، فقلت: جعلت فداك اريد أن أكتبه قال: فضرب والله يده إلى الدواة ليضعها بين يدي، فتناولت يده، فقبلتها وأخذت الدواة فكتبته.

* الشرح

قوله: (كان فيه بسم الله الرحمن الرحيم) كان فيه تأكيد لما سبق والقضاء مشترك بين الحكم والامر ويحمل على أحدهما بالقرينة، وهو هنا يحتمل كلا المعينين، ولا ينافي هذا الخبر ما مر ولا ما ذكرنا من طرق العامة وأقوالهم، لجواز أن يكون كل ذلك مكتوبا فيه.

* الأصل

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الرحمن العرزمي، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان قنبر غلام علي يحب عليا (عليه السلام) حبا شديدا فإذا خرج علي صلوات الله عليه خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر! مالك؟ فقال: جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين قال: ويحك أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الأرض؟! فقال: لا، بل من أهل الأرض، فقال: إن أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئا إلا باذن الله من السماء فارجع، فرجع.

* الشرح

قوله: (إن أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئا إلا باذن الله) فيه وفيما بعده إشارة إلى أن الايمان بالقدر والايقان به كما روى عنه «ولكل امرء عاقبة سوف يأتيك ما قدر لك» ومن كلامه (عليه السلام) لما خوف من الغيلة «وإن على من الله جنة حصينة فإذا جاء يومى انفرجت عني وأسلمني» أراد بيومي حضور الموت، وبالإنفراج زوال أسباب الحياة المستلزم لعدمها وباسلام الجنية اسلامها له إلى المنية تشبيها للجنة بمن يحفظه ثم يستلمه إلى القاتل، ومن كلامه المنظوم:

في أي يوم من الموت أفر * أيوم يقدر أم يوم قدر فيوم لم يقدر فلا أرهبه * ويوم قد قدر لا يغني الحذر وفي ذلك ملاحظ لقوله تعالى «وما كان لنفس أن تموت إلى تموت إلى باذن الله كتابا مؤجلا فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» وقد أشرنا سابقا إلى أن الموقن بالله وقدره لما كان توسله بالله تاما بالغا حد الغاية كان الله يكفيه، ويحصل له أسباب النفع ويدفع عنه أسباب الضر ومن يتوكل على الله فهو حسبه. وأما غيره فلما لم يكن له مثل هذا التوسل والتوكل فربما كان تمسكه بأسباب النفع سببا

ص:194

وشرطا لحصوله له، وفراره عن أسباب الضر باعثا لدفعه عنه.

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس عمن ذكره قال: قيل للرضا (عليه السلام): إنك تتكلم بهذا الكلام والسيف يقطر دما، فقال: إن لله واديا من ذهب، حماه بأضعف خلقه: النمل: فلو رامه البخاتي لم تصل إليه.

ص:195

باب الرضا بالقضاء

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن بعض أشياخ بني النجاشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أو كره ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره إلا كان خيرا له فيما أحب أو كره.

* الشرح

قوله: (قال: رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحب العبد أو كره) الرأس العضو المعروف والأصل ومنه رأس المال والاشراف قدرا، ومنه رئيس القوم. وكل واحد منهما محتمل والأول من باب المكنية والتخييلية، والصبر نوع من العفة الحاصلة من الاعتدال في القوة الشهوية، وهو قوة للسان يقتدر بها على حبس نفسه على الأمور الشاقة مثل البليات والمصيبات، وفعل الطاعات وترك المنهيات، والرضا عن الله بقضائه فيما أحبه العبد مثل الصحة في الجسم، والسعة في الرزق، ونحوهما، أو فيما كرهه مثل القسم والضيق وغيرهما عبارة عن الإقبال إلى الواردات عن الحق وتلقيها بالقبول، والسرور بها لكونها تحفة وهدية منه تعالى له منافع كثيرة والقضاء الامر والحكم والخلق على وفق التقدير الأزلي، ومن ثمة قيل: القضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الاخر إذ القدر بمنزلة الأساس والقضاء بمنزلة البناء ووجه كون الصبر والرضا رأس الطاعة ظاهر إذ بانتفاء الصبر في المصيبات والعبادات والمنهيات يتحقق الجزع والشكوى عن الله. وترك الطاعات وفعل المنهيات وكل ذلك يوجب انتفاء الطاعة، وبانتفاء الرضا يتحقق السخط وهو أيضا يوجب انتفاء الطاعة لأن بناء الطاعة على المحبة، وبناء السخط على البغض، وهما لا يجتمعان.

واعلم أن رضا العبد وسروره فيما أحب سهل. لأنه موافق لطبعه.

وأما رضاه فيما كرهه فصعب لأنه مخالف لطبعه وميله إلى شيء وإلى ضده مشكل، ومن ثمة ذهب جماعة من الناس إلى أن الرضا بما يستكرهه الطبع ويخالف هوى النفس كالبلايا والمصائب غير ممكن، وغاية ما يمكن هي الصبر عنه، والجواب عنه أن الرضا ثمرة المحبة الكاملة ومحبة العبد للرب إذا بلغت حد الكمال يمكن يرجح إرادته على إرادة نفسه، بل يمكن أن لا يرى لنفسه مرادا غير موارده تعالى لاستغراقه في

ص:196

بحر المحبة، أو لأن فعل المحبوب مثله محبوب أو لأنه لا يجد في نفسه الألم لاشتغال قلبه به. وغفلت عن نفسه فضلا عن الأمور الموافقة لها، كما أن المجاهد لتوغله في الجهاد قد لا يجد ألم الجراحة.

وبالجملة هو أمر ممكن إلا أنه صعب نادر ثم الرضاء بالشيء لا ينافي الدعا لرفعه خلافا لطائفة من المتصوفة المبتدعة حيث قالوا: إن شرط الرضاء ترك الدعاء لرفع البلاء وطلب النعماء. لأن طلب رفع امر وارد منه تعالى وحصول غير ينافي الرضا بما حكم به، وهم في طرف الافراط، ولا طائفة الأولى في طرف التفريط.

والجواب عنه أولا بالنقض وهو أن دعاء الأنبياء والأوصياء وحثهم عليه أمر مشهور، وفي الكتب السماوية وغيرها مذكور ولا ينكره أحد من أهل الإسلام، وثانيا بالمنع لا نا لا نسلم أن الطلب المذكور ينافي الرضاء وإنما المنافي له إستكراه النفس بالواردات من عند الله تعالى والطلب لا يستلزم الإستكراه، وثالثا بالحل وهو أن الدعاء عبادة أمر الله تعالى بها غير مرة لتضمنها انكسار القلب وعجزه وتضرعه وتواضعه وخشوعه ومخالفة امر الله تعالى تنافي الرضا وههنا بحث مشهور وهو أن المعصية والفكر بلية، والرضا بهما معصية وكفر فكيف يعد من الفضائل وكيف يطلبه الشارع؟ وأجيب عنه بأنه مستثنى لورود النهي عنه كما نقله الغزالي، وأجاب هو بأن المعصية من قضاء الله تعالى ولكن لها وجهان: أحدهما كونهما من فعل العبد باختياره وسببا لمقته، وثانيهما كونها بقضاء الله وتقديره عدم خلو العالم منها ولا بد من الرضا بها على هذا الوجه دون الأول الذي هو صدورها من العبد.

وأجيب عنه أيضا بأن الرضاء بالقضاء لا يستلزم الرضاء بالمقتضى. والمقتضى إن كان فعله تعالى أو فعل العبد وهو خير، فالرضاء به مطلوب من دليل خارج وقد مر لهذا زيادة توضيح في كتاب العقل في حديث جنوده.

(ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره إلا كان خيرا له فيما أحب أو كره) اسم كان راجع إلى ما قضاه الله بقرينة المقام أي كاف ما قضاه الله خيرا للعبد فيما أحبه وما كره لاشتماله على مصالح جليلة جلية أو خفية كما قال سبحانه «عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» أو إلى رضاء العبد وهو خير له لأنه يوجب أجرا عظيما وذلك كما أن الدواء مر في مذاق المريض مكروه له إلا أنه خير له في المواقع، فكما أن الحكيم منا يداوى المريض بما هو خير له، وإن كان مكروها لطبعه كذلك الحكيم يفعل بعباده ما هو خير لهم.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن مسكان، عن

ص:197

ليث المرادي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (ان أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل) دل على أن الرضاء بالقضاء تابع للعلم والمعرفة، وأنه قابل للشدة والضعف مثلهما، والوجه فيه أو بناء الرضاء على العلم بأنه عدل حكيم يفعل الأشياء على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة، فكلما كان العمل بالله أزيد وأتم كان الرضاء بقضائه أكثر وأعظم. وأيضا الرضاء به ثمرة المحبة والمحبة تابعة للعلم به فكلما زاد العلم زادت المحبة وكما زادت المحبة زاد الرضاء به ألا ترى أن المحبة إذا بلغت حد الكمال وجد المحب كلما صدر من الحبيب لذيذا موافقا لطبعه وإن كان كريها بالنسبة إلى الغير سيما إذ علم أن الحبيب يجعل ذلك وسيلة إلى البر والإحسان.

* الأصل

3 - عنه، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره لم يقض الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له.

* الشرح

قوله: (ومن صبر ورضى عن الله فيما قضى عليه) دل بحسب المفهوم على أن من لم يصبر ولم يرض قد يقضى الله عليه ما هو شر له فلابد من القول بأن المفهوم غير معتبر، أو القول بأن ما قضاه شر له لفقده أجر الصبر والرضاء، أو في نظره وبخلاف الصابر والراضي فإنه خير، في نظرهما، وفي الواقع.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن داود الراقي عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله عزوجل: إن من عبادي المؤمنين عبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالغنى والسعة والصحة في البدن فأبلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن، فيصلح عليهم أمر دينهم وإن من عبادي المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلا بالفاقة والمسكنة والسقم في أبدانهم، فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم، فيصلح عليهم أمر دينهم وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين وإن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده فيتهجد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وإبقاء عليه، فينام حتى يصح فيقوم وهو ماقت لنفسه زارئ عليها ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب

ص:198

من ذلك فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاه عن نفسه حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حد التقصير فيتباعد مني عند ذلك وهو يظن أنه يتقرب إلي، فلا يتكل العاملون على أعمالهم التي يعلمونها لثوابي فإنهم لو اجتهدوا وأتبعوا أنفسهم وأفنوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم وجناتي ورفيع درجات العلى في جواري ولكن فبرحمتي فليثقوا وبفضلي فليفرحوا وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تداركهم، مني يبلغهم رضواني ومغفرتي، تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسميت.

* الشرح

قوله: (قال الله عز وجل ان ما عبادي المؤمنين عبادا لا يصلح أمر دينهم إلا بالغنى والسعة والصحة في البدن فأبلوهم بالغنى والسعة وصحة البدن فيصلح عليهم أمر دينهم) الدنيا والامتحان. فيختبر الغنى بالغنى ليرى أنه يشكره أم يكفره، ولعله بأنه أصلح لدينه، ويختبر الفقير بالفقر ليختبره بأنه يصبر أم يشكو ولعلمه بأنه أصلح لدينه، ووجوه الابتلاء والاختبار متكثرة وطرق الامتحان متعددة، والله تعالى عالم يبلو كل أحد بما هو أصلح له فلو اختبر الغنى بالفقر أو العكس لفسد دينهما وقس عليها.

(وهو ماقت لنفسه زارئ عليها) أي مبغض لها معيب ومعاتب عليها لتقصيرها في العبادة، وتركها بالنوم وهذا مع كونه دافعا للعجب من أعظم العبادات.

(ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب) وهو ابتهاج الإنسان وسروره بتصور الكمال في نفسه واستعظامه إياه لا من حيث أنه من عطاياه تعالى ونعمائه عليه مع طلب زيادته، والخوف من نقصه أو زواله، بل من حيث أنه وصف له موجب لعلو قدره ورفع درجته وسمو مرتبته وخروجه عن حد النقص والتقصير مع الغفلة عن قياس نفسه إلى الغير بكونه أكمل وأفضل منه، وبهذا القيد ينفصل عن الكبر إذ لابد فيه أن يرى لنفسه مرتبة، وللغير مرتبة ثم يرى مرتبته فوق مرتبة غيره، والعجب من أعظم الذنوب المهلكة حتى روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» وفيه دلالة على أنه تعالى قد يبلوا العبد بالذنب ليدفع عنه العجب.

(فلا يتكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي) وإن كانت حسنة تامة الأركان والأفعال لأنهم، وإن بالغوا واجتهدوا كانوا مقصرين غير بالغين كنه العبادة وحقيقتها ولأنه لا قدر لعبادته في جنب ثوابها وهو الجنة ونعيهما درجاتها وقرب الحق ولأن مفسدات العبادة كثيرة لا يتحقق العلم بخلوصها

ص:199

منها إلا عند المعاينة وحضور الموت، وفيه دلالة على أنه يجوز العمل لقصد الثواب.

(وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا) كان يظن منه الغفران حين يستغفر وقبول العمل حين يعمل، والتوبة إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا استكفاه ونحو ذلك. وبالجملة ينبغي أن يعمل ولا يتكل بحسن عمله وكثرته بل يحسن ظنه بالله في قبول عمله ورفع درجته وإحسانه، وأما من يحسن ظنه بالله بدون العمل فهو أحمق ونظيره من لم يزرع في وقته ويتوقع الحصاد كما يتوقعه الزارعون.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا; عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقة ولا يتهمه في قضائه.

* الشرح

قوله: (ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه) المجرور في رزقة يعود إلى الله أو إلى «من» أي من عرفه ينبغي أن لا ينب إليه البطؤ والبخل في إيصال الرزق كاليهود قالوا يد الله مغلولة.

(ولا يتهمه في قضائه) بالظلم والجور أو بنفيه، أولا يشك فيه بل يستيقن من اتهمته في قوله بمعنى شككت في صدقه.

* الأصل

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن نهيك بياع الهروي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله عزوجل عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيرا له، فليرض بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه يا محمد من الصديقين عندي.

قوله: (عن عمرو بن نهيك بياع الهروي) قال في المغرب ثوب هروي بالتحريك ومروى بالسكون منسوب إلى هرات ومروا، وهما قريتان معروفتان بخراسان، وعن خواهر زاده هما على شط الفرات ولم يسمع ذلك لغيره وفي الإشكال سوى هراة خراسان هراة اخرى هي بنواحي إصطخر من بلاد فارس.

(أكتبه يا محمد في الصديقين عندي) الصدق راست گفتن وراست شدن وراست داشتن والمراد هنا تقويم العبد ظاهر وباطنه وتقويم الباطن يتحقق بتخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل وتقويم الظاهر يتحقق بفعل الطاعات وترك المنهيات وإليه يشير قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسله ثم لم يرتابوا - إلى قوله - أولئك هم الصادقون» ولا ريب في أن الصدق بهذا المعنى قابل للزيادة والنقصان،

ص:200

ومن بلغ حد الكمال هو الذي قطع منازل الناسوتية ورفع عوائق البشرية حتى شاهد جمال الأسرار وجلال الحق، واستغرق في توحيده بحيث لا يطلب إلا إياه ويغفل عن مشاهدة ما سواه.

* الأصل

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن فيما أوحى الله عز وجل إلى موسى بن عمران (عليه السلام): يا موسى بن عمران ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن فإني إنما ابتليته لما هو خير له وأعافيه لما هو خير له، وأزوي عنه ما هو شر له لها هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي وليشكر نعمائي وليرض بقضائي، أكتبه في الصديقين عندي، إذا عمل برضائي وأطاع أمري.

* الشرح

(إذا عمل برضائي وأطاع أمري) لعل المراد أن كتب من اتصف بالخصال المذكورة وهي الصبر على البلاء والشكر على النعماء والرضاء بالقضاء في زمرة الصديقين مشروط بالعمل بما فيه رضا الله تعالى وإطاعة أمره بالشرائع والأحكام ولا يتحقق ذلك إلا بأخذها من أهل العلم.

* الأصل

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فضيل ابن عثمان، عن ابن أبي يعفر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرا له وإن قرض بالمقاريض كان خيرا له وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له.

* الشرح

قوله: (عجب للمرة المسلم لا يقضى الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرا له) أي عظمت له ذلك وأعده أمرا عظيما لكونه تفضلا مشتملا على نفع عظيم وخير جزيل، والأصل أن الإنسان لا يتعجب من الشيء إلا إذا عظم موقعه عنده وخفى عليه سببه فأخبره (عليه السلام) بذلك ليعلم موقع القضاء ويرضى به لعلو منزلته، وإنما حملنا تعجبه (عليه السلام) على المجاز لأنه لا يخفي عليه أسباب القضاء والتعجب ما خفى سببه ولم يعلم وجهه، والمقاريض جمع المقراض بالكسر وهو آلة القرض، تقول: قرضت الشيء قرضا من باب ضرب أي قطعته.

* الأصل

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن سنان، عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عز وجل: من عرف الله عز وجل. ومن

ص:201

رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره.

* الشرح

قوله: (أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عز وجل من عرف الله عز وجل) أي من عرف الله حق معرفته وعرف حكمته وعدله ولطفه وإحسانه فهو أحق أن يسلم ما قضاه الله عليه من غيره لأن التسليم له، تابع للمعرفة فكلما كانت المعرفة أكمل وأكثر كان التسليم أولى وأجدر.

(ومن رضى بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره) تعظيم الأجر لجريان القضاء عليه والرضا به، فله أجر أن كاملان، وأما الاحباط فيحتمل أن يكون المراد به احباط أجر الرضا، أو احباط أجر جريان القضاء أيضا ويؤيد الأول ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «ثواب المؤمن من ولده إذا مات الجنة صبر أو لم يصبر».

* الأصل

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن علي ابن هاشم بن البريد، عن أبيه قال: قال [لي] علي بن الحسين صلوات الله عليهما: الزهد عشرة أجزاء، أعلا درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضاء.

* الشرح

قوله: (الزهد عشرة أجزاء، أعلا درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضاء) دل على أن الرضاء فوق اليقين، واليقين فوق الورع، والورع فوق الزهد وجه الترتيب أن الدنيا رأس كل خطيئة فلابد للسالك من الزهد فيما أو لا، ثم بعد الزهد يسهل له ترك المعصية لأن المعصية كلها عايدة إلى الدنيا فيحصل له مرتبة الورع. فإذا حصلت له هذه المرتبة قرب من الحق فيحصل له مرتبة عين اليقين أو حق اليقين، واليقين يوجب المحبة فيحصل له الرضاء لأن الرضاء لازم للمحبة وتابع له وعلى أن لكل واحد منها عشرة أجزاء كل جزء يصدق عليه اسم الكل، فكل جزء من الزهد مثلا زهد فله أفراد متفاوتة والظاهر أن كل جزء فوقاني مشتمل على جزء تحتاني مع زيادة فعلى هذا الجزء العاشر من الزهد مثلا عبارة عن الزهد على وجه الكمال، وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون العاشر جزء من الزهد الكال كالسوابق ، وإن شئت زيادة توضيح المقال فنقول على سبيل الإجمال أن كل خصلة من خصال الخير ليست لها مرتبة شخصية لا تقبل الزيادة والنقصان. بل لها عرض عريض يمكن أن يفرض فيها درجات بعضها فوق بعض، والعلم

ص:202

بتلك الدرجات تفصيلا وتعيينا ليس في وسعنا، وإنما هو عند أهله ففرضها عشرة وبين تفاوت مراتبها على سبيل الاجمال وتفاوت مراتب بعض الخصال على سبيل التفصيل وأشار بذلك إلى الرضاء فوق الجميع، ومن ثم كان مقام الرضاء فوق جميع مقامات السالكين لأن الرضاء ثمرة المحبة الكاملة إذا المحبة في الجملة تكون في كل مؤمن مع انتفاء فضيلة الرضاء عن أكثرهم والمحبة الكاملة ثمرة اليقين بالله وبالكمال ذاته وصفاته وصدق مقاله وحسن فعاله بحيث يرى كل سبب من أسباب المحبة مختصا به، واليقين ثمرة الورع، وهو والأعراض عن كل ما يوجب الإثم، والورع ثمرة الزهد وهو الأعراض عن الدنيا وزهراتها المانعة من السير إلى الحق، وبالجملة السالك إذا أخذ ما يعينه، وترك ما لا يعنيه وصل إلى مقام المشاهدة وإذا وصل إلى هذا المقام يستولى على قلبه المحبة التامة، وإذا حصلت له المحبة حصلت له فضيلة الرضاء فيرضى بكل ما صدر منه كما هو شأن المحب مع محبوبه.

* الأصل

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقى الحسن بن علي (عليهم السلام) عبد الله بن جعفر فقال: يا عبد الله! كيف يكون المؤمن مؤمنا وهو يسخط قسمه ويحقر منزلته والحاكم عليه الله، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضاء أن يدعو الله فيستجاب له.

* الشرح

قوله: (كيف يكون المؤمن مؤمنا) «كيف» للإنكار والمقصود نفي الكمال إن لم يقصد تحقير الحاكم. (وهو يسخط قسمه) الواو للحال والقسم - بالكسر - الحصة والنصيب المقدر له لصلاح حاله.

(ويحقر منزلته) عند الله تعالى لأنه تعالى جعل ذلك قسما له لرفع منزلته فتحقير القسم السبب لها تحقير لها.

(والحاكم عليه الله) عطف على منزلته، و «الله» بدل على الحاكم. أي ويحقر الحاكم عليه وهو الله لأن تحقير حكم الحاكم تحقير له، ويحتمل أن يكون الواو للحال والحاكم حينئذ مبتدأ والله خبره، والمقصود أن تحقير القسم والمنزلة مستلزمة لتحقير الله لأنه الحاكم عليه، أو أنه لا جور في تقسيمه فكيف يحقر ما قدره له من القسم.

(وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضاء) هجس الأمر في القلب أي وقع وخطر (أن يدعو الله

ص:203

فيستجاب له) الرضاء بالقسم شكر للنعمة والمنعم وهو يوجب الزيادة فيكف إذا طلبها من الله فإنه لا يرده.

* الأصل

12 - عنه، عن أبيه، عن ابن سنان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له بأي شيء يعلم المؤمن بأنه مؤمن؟ قال: بالتسليم لله والرضاء فيما ورد عليه من سرور أو سخط.

* الشرح

قوله: (بأي شيء يعلم المؤمن بأنه مؤمن) لعل المراد بالمؤمن المؤمن الكامل وله علامات أقواها التسليم لله في حكمه وتلقيه بالقبول ظاهرا وباطنا والرضاء بكل ما ورد عليه مما يوجب السرور أو السخط ويوافق الطبع أو يخالفه. قال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف نقل إن واحد من أهل الرضاء مضى له سبعون سنة ولم يقل ليت كان ذاك وليت لم يكن هذا وسئل أي أثر بلغك من الرضاء قال بلغني شائبة من الرضاء وريح منه ومع ذلك لو جعلني الله صراط جهنم ومر على الخلايق كلهم ودخلوا الجنة ثم أدخلني وحدي في النار لم يخطر ببالي لم كان حظى هذا وحظ غيرى ذاك.

* الأصل

13 - عنه، عن أبيه، عن ابن سنان، عن الحسين بن المختار، عن عبد الله ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لشيء قد مضى: لو كان غيره.

* الشرح

قوله: (لم يكن رسول الله (عليه السلام) يقول لشيء قد مضى: لو كان غيره) روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: وأن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كذا لم يصبني كذا فإن «لو» تفتح عمل الشيطان» (1) أقول ينبغي للمؤمن من أن يطلب من طريق أحله الله ما ينتفع به في أمر دنياه وآخرته الذي يصون به دينه وعياله ومروته وعرضه، ولا يعجز في تحصيل ذلك ويتكل على القدر فينسب إلى التفريط شرعا وعادة ومع الطلب فلابد من الاستعانة بالله واللجأ إليه، وبسلوك هاتين الطريقتين يحصل خير الدارين. ثم إن أصابة شيء بعد ذلك ينبغي له التسليم والرضاء بقضاء الله وترك أن يقول: لو أنني فعلت كذا لم يصبني كذا، فإنه يجر إلى وسوسة الشيطان، وأن التدبير يسبق القدر، وقال الابي في كتاب إكمال الاكمال وألحق الشاطبي ب «لو» «ليت» وهو كذلك إذا أريد بليت الندم والتأسف على عدم فعل ما لو فعله لم يصبه. أي تمنى لو فعل ذلك، وقال عياض النهي عن هذا القول مختص بالماضي لأن النهي إنما هو عن دعوى رد القدر بعد وقوعه. وأما مستقبل فيجوز فيه ذلك، ومنه قوله (عليه السلام) «لو لا أن أشق على

ص:204


1- 1 - صحيح مسلم ج 8 ص 56 بأدنى اختلاف في اللفظ.

أمتي لامرتهم بالسؤال عند كل صلاة» لأنه مستقبل لا اعتراض فيه على قدر مضى، وإنما أخبر فيه أنه كان يفعل ما هو في قدرته لو لا المانع، وأما ما مضى وذهب فليس في القدرة والإمكان فعله. وقال الابي: والذي عندي أن النهي على عمومه ولكنه نهي تنزيه، وقال المازري النهي عن هذا القول في الماضي ينافي ما جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى» وأجاب بأن الظاهر أن النهي أما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه فهو نهي تنزيه، وأما من يقول تأسفا على فعل طاعة فلا بأس به، وعليه يحمل أكثر ما جاء من استعمال ذلك في الأحاديث.

ص:205

باب التفويض إلى الله والتوكل عليه

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن سنان، عن مفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى داود (عليه السلام) ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد هلك.

* الشرح

قوله: (ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي) الاعتصام به دون غيره عبارة عن الانقطاع عن الغير بالكلية والرجوع إليه والركون إلى فضله وهو معنى التوكل والتفويض والوكيل كما يدفع الضرر عن موكله يجلب النفع إليه أيضا واقتصر على الأول لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع على أن جلب النفع لدفع الضرر أيضا.

(وأسخت الأرض من تحته) السخت بالفتح الصلب الشديد فارسي معرب يستعمله العرب والعجم على معنى واحد، وهو كناية عن تضييق الأمر عليه لأن صلابة الأرض يستلزم الضيق والضنك في العيش لعدم خروج الزرع والثبات منها.

(ولم أبال أي واد هلك) إشارة إلى سلب اللطف والتوفيق عنه وعدم المبالاة بسيره في وادي الضلالة أو وقوعه في وادى جهنم وهلاكه فيهما.

* الأصل

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن محبوب، عن أبي حفص الأعشي، عن عمر [و] بن خالد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان، ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين مالي أراك كئيبا حزينا؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر، قلت: ما على هذا أحزن وإنه لكما

ص:206

تقول، قال: فعل الأخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر - أو قال: قادر - قلت: ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول، فقال: مم حزنك؟ قلت: مما نتخوف من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال: فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين هل أريت أحدا دعا الله فلم يجبه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم يكفه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، ثم غاب عني.

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب مثله.

* الشرح

قوله: (ينظر في تجاه وجهي) تجاه الشيء بضم التاء وفتحها ما يواجهه، وأصله وجاه قلبت الواو تاء جوازا ويجوز استعمال الأصل فيقال وجاه لكنه قليل وقعدوا تجاه أي مستقبلين له (قال فعلى الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قاصر أو قال قادر) الترديد من الراوي حيث لم يحفظ أنه سمع هذا اللفظ أو ذلك لا يقال قوله «فوعد صادق» لا يدفع الحزن على الآخرة ولا ينفيه بل يؤكده لأنا نقول لعل المراد أن العامل للآخرة لا ينبغي أن يحزن عليها لأن الله تعالى وعدلهم الاجر الجميل ووعده صادق، وهو في إمضائه قادر قاهر لا يمنعه أحد، أو المراد أن وعده بالمغفرة: أو وعده أهل العصمة بالدرجات العالية صادق.

(قلت مما نتخوف من فتنة أبن الزبير وما فيه الناس) حيث خرج وادعى الخلافة وبايعه أهل مكة وغيرهم في دولة بني امية وسلطانهم وخوفه (عليه السلام) من ثوران نار الفتنة والحرب بينه وبينهم، وقتل السادة العلوية وغيرهم.

(قال فضحك) لعل وجه الضحك تنشيط نفس المخاطب وتفريج همه باظهاره أن ذلك سهل ودفع سبب الحزن في غاية السهولة وذلك بأن يدعو الله ويتضرع إليه في دفع الفتنة ورفع الغوائل ويسأله حصول الرفاهية وإلا من ويتوكل عليه في جلب المنافع ورفع المكاره حتى في هذا الدعاء والمسئلة (قال فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه) هذا تأكيد لما سبق للحث على الدعاء والسؤال ولذلك لم يقل شيئا بعد ذلك وغاب.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الغني والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل أو طنا.

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن علي بن حسان مثله.

ص:207

* الشرح

قوله: (قال إن الغني والعز يجولان) أي يقطعان النواحي ويمران في الأطراف كالطير طلبا للمسكن (فإذا ظفرا بموضع التوكل أو طنا) فالمتوكل في غنى وعز دائما أما الأول فلان الله يكفيه ويأتي بمهماته فهو أغنى الأغنياء. وأما الثاني فلإعتزاله عن الذل المطلق وهو الالتجاء إلى الخلق وتمسكه بالعز الأوفر وهو اللجأ إلى الله. ومعنى التوكل على الله هو الرجوع إليه والاعتماد عليه والثقة بكفايته، ويمكن أن يقال توكل العبد فيما ينبغي أو يفعله أو يتركه من أمر الدنيا والآخرة هو الاعتماد على الله والثقة بكفايته، والتمسك بحوله وقوته وترقب التوفيق والإعانة منه دون الاعتماد على نفسه وحوله وقوته وقدرته وعلمه وما يظنه من الأسباب الضرورية والعادية وغيرها لا ترك وظائفه وعمله وأسباب في جلب المناقع ودفع المضار، ومن ثم اشتهر أن التمسك بالأسباب لا ينافي التوكل وفيما يجري عليه من غيره سواء كان من قبل الله أو من قبل غيره هو تفويض نفسه وأمره إلى الله توقعا من أن يرد عليه ما هو خير له والمعلوم أنه لا يرد عليه بعد ذلك إلا ما هو خير له في الدنيا والآخرة فعليه حينئذ القيام بمقام الرضا بالقضاء وهذا أقصى مراتب الكمال، وقال المحقق الطوسي المراد بالتوكل أن يوكل العبد جميع ما يصدر عنه ويرى عليه إلى الله تعالى لعلمه بأنه أقوى وأقدر ويفعل ما قدر عليه على وجه أحسن وأكمل ثم يرضى بما فعل وهو مع ذلك يسعى ويجتهد فيما وكله إليه ويعد نفسه وعلمه وقدرته وإرادته من الأسباب والشروط المخصصة لتعلق قدرته تعالى وأرادته لما صنعه بالنسبة إليه، ومن ذلك يظهر سر لاجبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. وان أردت زيادة التوضيح فارجع إلى كلامه في أوصاف الاشراف.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما عبد أقبل قبل ما يحب عز وجل أقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقط السماء على الأرض أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بلية، كان في حزب الله بالتقوي من كل بلية، أليس الله عز وجل يقول: (إن المتقين في مقام أمين).

* الشرح

قوله: (أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله عز وجل أقبل الله قبل ما يجب) يقال أقبل قبلك أي قصد قصدك وتوجه إليك، وجعلك قبالة وجهه وتلقاءه، والمراد باقبال العبد نحو ما يحبه الله قصده والإتيان به طلبا لرضاه، وبإقبال الله نحو ما يحبه العبد إفاضة ما يسر به قلبه وتقربه عينه.

(ومن اعتصم بالله عصمه الله) من الضياع والحاجة كما اعتصم به مؤمن آل فرعون بقوله (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد» فلجأ من شر فرعون وجنوده إليه سبحانه واعتصم به فوقاه الله سيئات ما مكروا، واعتصم به يونس (عليه السلام) في

ص:208

الظلمات بقوله (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» فلجأ من غضبه إليه إليه واعتصم به فأقبل الله إليه بالقبول وعصمه بقوله:

(فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين» واعتصم به أيوب وأقيل إليه بقوله (رب اني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» فاقبل الله إليه بالقبول وعصمه ورفع عنه الكرب والضر.

وكذلك لجأ إليه كثير من الأنبياء والمرسلين والصلحاء والمتقين والفاسقين فأقبل الله إليهم بقضاء حوائجهم وإزاحة مكارههم.

(ومن أقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقط السماء) إن جعل لم يبال وحده جوابا للشرط السابق كان جواب الشرط اللاحق قوله (كان في حزب الله) وإن جعل جوابا للشرط اللاحق وجعل المجموع جوابا للشرط السابق كان قوله «كان حزب الله» إستينافا.

(بالتقوى من كل بدلية) أي يقيه من كل بلية في الدنيا والآخرة.

(ان المتقين في مقام أمين) أي المأمون من البلية والآفة فيهما.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن غير واحد، عن علي بن أسباط، عن أحمد بن عمر الحلال، عن علي بن سديد، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: سألته: عن قول الله عز وجل: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فقال: التوكل على الله درجات منها أن تتوكل على الله في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنه لا يألوك خيرا وفضلا وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه وثق به إليه وثق به فيها وفي غيرها.

* الشرح

قوله: (فقال التوكل على الله درجات منها أن تتوكل على الله في أمورك كلها قد عرفت ان شرط التوكل فيها ليس رفع اليد عن أسبابها بل شرطه عدم الاعتماد عليها والوثوق بها فلو طلب طالب الرزق مثلا رزقة من أسبابه المشروعة كالتاجر من التجارة، والزارع من الزراعة، وليس اعتمادهما على عملهما بل على الله سبحانه، وعلى أن الرزق عليه ان شاء رزقه منهما وإن شاء رزقة من غيرهما حتى لو فسد العلم لم يحزنا لم يكن ذلك منافيا للتوكل، وكذلك لو حمل الخائف من العدو سلاحا وقف الخارج من البيت بابا وشرب المريض دواء، ولم يكن اعتمادهم على السلاح والقف والدواء إذ كثيرا ما يغلب العدو مع السلاح ويسرق السارق بكسر القفل ولا ينفع الدواء بل اعتمادهم عليه عز وجل لم يكن هذا منافيا للتوكل، وبالجملة قلب المتوكل متوجه إلى الله وتوجهه إلى الوسائط والأسباب باعتبار أن العالم

ص:209

عالم الأسباب وأن الله تعالى أبي أن تجرى الامور إلا بأسبابها فهو أن ظن سببا وتعرض له ولم يعتمد عليه بل على خالقه فإن تر تيب عليه الأثر شكر وإن لم يترتب لم يسخط ورضى لعلمه بأنه تعالى عالم بمصالح أموره، وأن ما فعله كان محض الخير فهو متوكل مفوض أمره إلى الله (تعلم أنه لا يألوك خيرا) إلا لو التقصير وإذا عدى إلى مفعولين يضمن معنى المنع أي لا يمنعك خيرا وفضلا مقصرا في حقلك.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا. عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعنا عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطى الدعاء اعطي الإجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية ثم قال: أتلوت كتاب الله عز وجل: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)؟ وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقال: (ادعوني أستجب لكم)؟ قوله: (ومن أعطى التوكيل أعطى الكفاية) نقل أي خليل الرحمن حين وضع في المنجنيق قال حسبي الله ونعم الوكيل، فلما رمى لاقاه جبرئيل (عليه السلام) في الهواء وقال ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا.

قال ذلك إبقاء لتوكله الذي أظهره أو لا فكفاه الله عن النار.

(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) النشر على غير ترتيب اللف فالأول للآخر وهكذا إلى الأول.

والشكر الاعتراف بالاحسان والتحديث به والانقياد للمشكور، وهو بالفعل أظهر منه بالقول.

* الأصل

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي علي، عن محمد بن الحسن، عن الحسين بن راشد، عن الحسين بن علوان قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلانا فقال: إذا والله لا تسعف حاجتك ولا يبلغك أملك ولا تنجح طلبتك، قلت: وما ما علمك رحمك الله؟ قال: إن أبا عبد الله (عليه السلام) حدثني أنه قرأ في بعض الكتب أن الله تبارك وتعالى يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وإرتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل [من الناس] غيري باليأس ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولا نحينه من قربي ولأبعدنه من فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد؟! والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها؟! ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟! جلعت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبنى عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم [أن] من

ص:210

طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عني، وأعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعه عنه فلم يسألني رده سأل غيري، أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أو ليس الجود والكرم لي؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي؟! ليس أنا محل الآمال؟! فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشي المؤملون أن يؤملوا غيري، فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيمته، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني.

* الشرح

قوله: (وعزتي وجلالي ومجدي وإرتفاعي على عرشي) العزة الشدة والقوة والغلبة والسلطنة والملك والجلال والعظمة. والمجد لشرف والكرم الواسع، والإرتفاع كناية عن الاستيلاء على جميع الممكنات والاستعلاء على جميع المخلوقات والإحاطة علما وقدرة بها لكون العرش محيطا بجميعها.

(لا قطعن أمل كل مؤمن من الناس غيري باليأس ولا كسونه ثوب المذلة عند الناس ولا نحينه من قربي ولأبعدنه من فضلى) باليأس متعلق بقوله لا قطعن، وفيه وعيد على كل من مؤمل غيره تعالى في المقاصد بأمور أربعة:

الأول: الياس من حصول مأموله غالبا أو إلا بإذنه تعالى بقرينة ما سيجيء.

الثاني: إحاطة المذلة به وإضافة الثوب إليها من باب إضافة المشبه به إلى المشبه، والكسوة ترشيح للتشبيه.

والثالث: تبعيده أو ابعاده من قرب رحمته.

والرابع: تبعيده من إحسانه وإفضاله، وكل ذلك يوجب خسرانه في الدنيا والآخرة.

(أيؤمل غيري في الشدائد؟! والشدائد بيدي) ذكر اليد مجاز في بيان أن الشدائد تحت قدرته لا قدرة غيره وقد جرت الحكمة على أن يختبر الله تعالى عبده في الدنيا بالشدائد ليرجع إليه ويتضرع بين يديه في دفعها فإذا رجع إلى غيره مع كون الشدائد بيد ذلك الغير كان ذلك موجبا للتوبيخ والإنكار.

(ويقرع بالفكر باب غيري) تشبيه الفكر باليد مكنية واثبات القرع لها تخييلية، وذكر الباب ترشيح، والمقصود ذمته بصرف قلبه وفكره عند الحاجة إلى غيره تعالى.

(وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة) أي أبواب الحاجات مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى وهو استعارة على سبيل التمثيل للتنبيه على أن قضاء الحاجة المرفوعة إلى الخلق لا يتحقق إلا بإذنه أن شاء أن به وإن شاء لم يأذن.

ص:211

(وبابي مفتوح لمن دعاني) وهو أيضا استعارة لتشبيه الغائب بالحاضر، وترغيب السائل بالرجوع إليه، وتنبيه الغافل على سهولة عرض المطلب عليه.

(فمن ذا الذي أملنى لنوائبه فقطعته دونها) أي قطعته عند النوائب وهجرته أو منعته عن أمله ورجائه ولم أرفع نوائبه. تقول قطعت الصديق قطيعة إذا هجرته، وقطعته عن حقه إذا منعته.

(رجائي لعظيمة) أي لمطالب عظيمة.

(جعلت آمال عبادي عندي محفوظة) لأردها إليهم عند طلبهم كالوديعة. (فلم يرضوا بحفظى) حتى جعلوها عند غيري وطلبوها منه (وملا سماواتي ممن لا يمل بتسبيحي) وهم الملائكة (عليهم السلام) الذين لا يفترون من تسبيحه، ولا يسأمون من تقديسه، ولا يخالفونه في أمره ( وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي) كناية عن عدم منعهم لمن أراد الوصول إليه والسؤال منه، وعرض المقاصد عليه كما يمنع حجاب الملوك، أو عين إيصال حوائج السائلين ومطالبتهم إليهم فإنه تعالى قد يأمرهم بذلك ما دل عليه بعض الروايات.

(فلم يثقوا بقولي) والدليل على عدم الوثوق رجوعهم إلى الغير وجعلهم له موضعا للحاجات ومنشأ ذلك معارضة الوهم والخيال، لو رجعوا إلى صرافة العقل وحكمه لوجدوا أن ذلك من أقبح الفعال (ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي) أي أتته مطلقا ولا وجه لتخصيص اتيانها بالليل ( أنه لا يملك كشفها) أي دفعها.

(أحد غيري إلا بعدي اذني) دل ظاهرا على أن العبد لو رجع إلى غيره تعالى في كشف نوائبه فقد تكشف بإذن الله تعالى فهذا مخصص لهما دل على اليأس وعدم القضاء على الإطلاق لا يقال العالم عالم الأسباب فكيف يذم من رجع إلى الغير لظنه أنه سبب لأنا نقول الذم باعتبار أن قلبه تعلق به واعتمد عليه، وأما من لم يركن إليه ولم يثق به ولم يعتمد عليه فالظاهر أنه ليس بمذموم والأولى مع ذلك من يرجع إلى الله فإن شاء الله أن يكون قضاء حاجته على يد أحد جعله وسيلة له شاء أو لم يشأ.

(أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثم أسأل فلم أجيب) الاستفهام للإنكار والتعجب فإن من تأمل مثلا في وجوده وذاته وحالاته السابقة يجد أنه تعالى شأنه أكرمه ونعمه وأحسن إليه بلا سابقة مسئلة واستحقاق ما لا يقرره اللسان ولا يحيط به البيان وأن أخرجه من حد النقص إلى حد الكمال بلا التماس أحد ولا معاونة مدد ولا شفاعة شفيع، ثم لا يحصل له العلم بأنه يعطيه في مستقبل الأحوال جميع ما يحتاج إليه، ويصلح جميع ما يرد عليه عند السؤال والتفويض والتوكل والرجوع إليه بالتضرع والابتهال، ولم يتيقن أنه تعالى يقوم بكفايته ورعايته واضطر إلى أن يقرع باب غيره ويلجأ إليه ويظهر

ص:212

الفقر والعجز بين يديه. كان ذلك محل التعجب والإنكار وأن هذا الشيء عجاب.

(أفلا يخشي المؤملون أن يؤملوا غيري) الخشية أما من العقوبة أو من قطع الآمال واليأس عنها، أو من الابعاد عن مقام القرب، أو من إزالة النعماء عنه، أو من رفع الوجود والفيض والجود عنه.

(وكيف ينقص ملك أنا قيمه) أي قايم بسياسة أموره (فيا بؤسا للقانطين من رحمتي البؤس والبأس والبأساء والفقر والحزن وكأنه كان غير متعين وقد ندائه لعظمته فناداه وأحضر ليروه ويتعجبوا منه، ويحتمل أن يكون منصوبا على المفعول لفعل مقد تقديره يا عبادي أبصروا بؤسا للقانطين ونحوه، أو على المصدر تقديره يا عبادي بؤسا لهم. وفيه وعيد عظيم لأهل القنوط من رحمته (ولم يراقبني) أي لم يخف عذابي أو لم يحفظ حقوقي.

* الأصل

8 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن عباد بن يعقوب الرواجني، عن سعيد بن عبد الرحمن قال: كنت مع موسى بن عبد الله بينبع وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بضع ولد الحسين: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: موسى به عبد الله، فقال: إذا لا تقضى حاجتك، ثم لا تنجح طلبتك، قلت: ولم ذاك؟ قال: لأني قد وجدت في بعض كتب آبائي إن الله عز وجل يقول - ثم ذكر مثله - فقلت: يا ابن رسول الله أمل علي، فأملأه علي، فقلت: لا والله ما أسأله حاجة بعدها.

ص:213

(باب الخوف والرجاء)

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن منصور بن يونس، عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ قال: كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيه أن لابنه خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم لم يزد على هذا.

* الشرح

قوله: (قال كان فيها الأعاجيب) جمع الجمع، كالاناعيم والعجب ما يوجب انفعال النفس لزيادة وصف في المتعجب منه والعجيب چيزى كه ازو بغايت شگفت گيرند.

(خف الله عز وجل خفية لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثلثين لرحمك) الخوف حالة نفسانية موجبة لتألمها بسبب توقع مكروه سببه ممكن الوقوع أو توقع فوات أمر مرغوب فيه ولو كان وقوع سببه معلوما أو مظنونا ظنا غالبا يسمى ذلك انتظار المكروه أيضا كما يسمى خوفا والتألم فيه أزيد، وأما الخوف والتألم بسبب توقع مكروه علم قطعا عدم وقع شيء من أسبابه فذلك وسواس وماليخولياء والرجاء - بالمد - حالة نفسانية موجبة لفرحها بسبب توقع حصول أمر مطلوب سببه متوقع أو مظنون أو معلوم ويسمى الأخير انتظار المطلوب أيضا والفرح فيه أشد، وأما الرجاء والفرح بسبب توقع مطلوب علم عدم وقوع سببه فذلك غرور وحماقة، وسبب الخوف من الله معرفته ومعرفة جلاله وعظمته وكبريائه وغنائه عن الخلق وغضبه وقهره وكماله قدرته على الخلق، وعدم مبالاته بتعذبهم واهلاكهم ومعرفة عيوب نفسه وتقصيره في الطاعات والأخلاق والآداب مع التفكر في أمر الآخرة وشدائدها، وكلما زادت تلك المعارف زاد الخوف وثمرته في القلب ووالبدن والجوارح. إذ بالخوف يميل القلب إلى ترك الشهوات والندامة على الزلات، والعزم على الخيرات ويخضع ويراقب ويحاسب وينظر إلى عاقبة الأمور ويحترز من الرذائل كالكبر والحسد والبخل ويذبل الدين ويصفر اللون من الغم والسهر وتشتغل الجوارح بوظائفها ويحصل له بترك الشهوات العفة والزهد وتبرك

ص:214

المحرمات التقوى، وبترك ما يعنى الورع والصدق والإخلاص ودوام الذكر والفكر، ويترقي منها إلى مقام المحبة، ثم منه إلى مقام الرضا وسبب الرجاء معرفته ومعرفة سعة رحمته وفيضه ولطفه ورأفته وإحسانه على العباد، واجراء نعمه عليهم ظاهره وباطنة، جلية وخفية، ضرورية وغير ضرورية حين كونهم أجنة في بطون أمهاتهم بلا سبق استحقاق ولا تقدم إستيهال والتفكر في غنائه عن عبادتهم وتعذيبهم مع عجزهم ومسكنتهم وفقرهم وحاجتهم إليه وذلهم بين يديه، ومن استقرت في قلبه هذه المعارف حصل له الرجاء بنيل الثواب والمغفرة والرحمة، وثمرته الإتيان بما يوجب الوصول إليها كما أن ثمرة الخوف من العقوبة ترك ما يوجب الورود عليها.

(ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء) لأن المؤمن لا يخلو من تصور أسباب الخوف والرجاء وتجويز وقوع مقتضى كل واحد منهما بدلا من الاخر وانتهاء سيره إلى القرب كأهل الايقان، أو إلى العبد كأهل الحرمان بحيث لا يرجع أحدهما على الاخر إذا لو رجح الرجاء لزم الامن لا في موضعه (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) ولو راجح الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك (أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» ومنه ظهر أن الخوف غير القنوط وأنه والرجاء ينبغي أن يكونا متساويين مطلقا وقد ذهب إليه أيضا بعض العامة.

وقال عياض عبادة الله بين أصلين الرجاء والخوف، ويستحب أن يغلب في حال الصحة الخوف فإذا زاد في الاجل أو انقطع الاجل يستحب أن يغلب الرجاء ليلقى الله على حالة هي أحب إليه إذ هو الله سبحانه الرحمن الرحيم ويحب الرضا ولا يغلب الخوف حينئذ خشية أن يقنط فيهلك وفيه أن الدليل لو تم لدل على رجحان الرجاء قبل الاجل أيضا ولم يقل به، والتعليل لعدم غلبة الخوف عند الاجل دل على عدم غلبته أيضا قبله، وقد قال بخلافه وقيل ينبغي أن يغلب الخوف ليكف عن المخالفات ويكثر من الطاعات، فإذا دنت أمارات الموت ينبغي أن يغلب الرجاء لأن ثمرة الخوف وهي الإنكفاف والاكثار في الطاعة تعذرت حينئذ وهو قريب مما ذكر. وقال الابي في كتاب الكمال الإكمال مقامات الصالحين عند الاحتضار تختلف، فعن بعضهم أن قال لابنه يا بني حدثني عن الرخص لعلى ألقى الله وأنا أحسن الظن به، وعن بعضهم أنه رجى حين إحتضر، وقيل له تقدم على غفور رحيم فقال أفلا تقولون لي تقدم على شديد العقاب يعاقب على الكبيرة ويؤاخذ بالصغيرة، وهذا بحسب مقامات الخوف بقي شيء وهو أنه قال بعض الأفضل الخوف ليس من الفضائل والكمالات العقلية في النشأة الآخرة، وإنما هو من الامر النافعة للنفس في الهرب عن المعاصي، وفعل الطاعات ما دامت في دار العمل، وأما عند انقضاء الاجل والخروج من الدنيا ألتي هي دار العمل فائدة فيه، وأما الرجاء فإنه باق أبدا إلى يوم القيامة لا ينقطع لأنه كلما نال العبد من رحمة الله أكثر كان ازدياد طعمه فيما عند الله أعظم وأشد لأن خزائن جوده وخيره ورحمته غير متناهية لا تبيد ولا تنقص فثبت أن الخوف

ص:215

منقطع والرجاء أبدا لا ينقطع، وفيه نظر لأن الظاهر أن الخوف عن العقوبة أو عن فوات الثواب أو عن فوات التفضل أو عن فوات رفع المنزلة أو عن ظهور إساءة على رؤس الاشهاد أو عن زلة الدقم على الصراط باق بعد الخروج من الدنيا ثم بقاء الرجاء والطمع فيما عند الله كما حكم به يستلزم الخوف من عدم تحقق المطوع والله أعلم.

* الأصل

2 - محمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق خف الله كأنك تراه وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك، ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك.

* الشرح

قوله: (يا إسحاق خف الله كأنك تراه وأن كنت لا تراه فإنه يراك) وشبه الرؤية القلبية بالرؤية العينية قصدا للظهور والإيضاح والأول إشارة إلى مقام المشاهدة وهي مرتبة عين اليقين أو حق اليقين وهو أعلى مراتب السالكين، وفي تلك المرتبة يتصل الطالب بالمطلوب اتصالا معنويا بحيث لا يشاهد إلا جماله وكماله. الثاني إشارة إلى مقام المراقبة وهي ثمرة الإيمان ومرتبة عظيمة من مراتب السالكين روى عن روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقال جل شأنه (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت إن الله كان عليكم رقيبا» والمرتبة مراعاة القلب للرقيب وإشتغاله به والمثمر لها هو العلم بأن الله تعالى مطلع على كل نفس بما كسبت وأنه تعال عالم بسرائر القلوب وخطراتها كما هو عالم بظواهر الأشياء وجلياتها وهذا العلم إذا استقر في القلب ولم يبق فيه شبهة يجذبه إلى مراعاة الرقيب والمتصفون بها على صنفين منهم الصديقون ومراقبتهم استغراق القلب بملاحظة العظمة والجلال وإنكساره وتحت الهيبة واستعمال الجوارح بوظائف الطاعات بحيث لا يلتفت القلب إلى الغير أصلا والجوارح إلى المباحات فضلا عن المحظورات، ومنهم الورعون وهم قوم لم تدهشهم ملاحظة العظمة والجلال بل بقيت قلوبهم على الإعتدال يتسعها التلفت إلى الأقوال والاعمال ومراقبتهم أن ينظروا إلى جميع حركاتهم وسكناتهم ولحظاتهم واختيارهم ويرصدوا كل خاطر يسنح لهم فإن كانت الهية عملوا بمقتضاها، وإن كانت شيطانية رفضوها إستحياء من القريب، وإن كانت مبهمة توقفوا حتى يظهر لهم أمرها.

(فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت) رؤيته تعالى نوع من العلم وهو العلم بالمبصرات ظاهرها

ص:216

وباطنها كما هي والمنكر له كافر بالله العظيم.

(وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت به بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك) حيث تترك المعصية عند مشاهدة غيره خوفا من اللوم وحياء ولا تترك عند مشاهدة مع عملك بأنه شاهد حاضر وليس ذلك إلا لأنه أهون عندك من ذلك الغير وهو لازم عليك، وإن لم تقصده وأنا أستغفر الله وأقول يا رب فعلنا كذلك لا لذلك بل لأجل أنا نأمن منك ونرجو رحمتك، ولا نأمن غيرك.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم بن واقد قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول؟ من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.

* الشرح

قوله: (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء) ظاهره أن الله تعالى يلقى الخوف منه على الأشياء مع احتمال أن يكون سر ذلك أن الخائف من الله نفسه قوية قدسية مقربة للحضرة الإلهية قادرة على التأثير في الممكنات فلذلك يخاف منه كل شيء حتى الوحوش والسباع والحيات كما نقل ذلك عن كثير من المقربين ومن لم يخف الله نفسه ضعيفة متصفة بالنقصان بعيدة عن التأثر في عالم الإمكان فلذلك يخاف من كل شيء ويتأثر منه ولما كانت القوة والضعف والتأثير والتأثر بسبب القرب من الله وعدمه نسبت الإخافة إليه.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حمزة بن عبد الله الجعفري، عن جميل بن دراج، عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من عرف الله خاف الله ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا.

* الشرح

قوله: (من عرف الله خاف الله) دل على أن الخوف من الله لازم لمعرفته فكلما زادت زاد ولذلك قال عز شأنه (إنما يخشى الله من عباده العلماء» وذلك من عرف عظمته وغلبته على جميع الكاينات وقدرته على جميع الممكنات بالاعدام والافناء من غير أن يسأله أو يمنعه مانع أن يعود إليه ضرر تهيب وخاف منه، وأيضا من عرفه علم احتياجه إليه في وجوده وبقائه وكمالاته في جميع حالاته ومن البين أن الاحتياج إليه في مثل تلك الأمور العظام يستلزم الخوف منه في سلب الفيض والإكرام.

(ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا) أي تركها تقول سخي عن الشيء يسخى من باب تعب أي

ص:217

ترك فمن ادعى الخوف ومال إلى الدنيا غير تارك لها وناهض للعبادة فهو كاذب لأن الخوف يستلزم الاعراض عن الدنيا والتوجه إلى العبادة.

* الأصل

5 - عنه، عن ابن أبي نجران، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قوم يعلمون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت فقال: هؤلاء قوم يترجحون في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، إن من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه.

* الشرح

قوله: (ويقولون نرجو) أي نرجو رحمة الله أو مغفرته لدلالة الآيات والروايات على سعة عفوه وجزيل رحمته ووفور مغفرته.

(فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت) بلا توبة ولا تدارك بالندامة والعبادة.

(فقال هؤلاء قوم يترجحون في الأماني) الترجح ميل كردن از طرف بطرف ديگر والأماني آرزوها ودروغها وبي ترسيها جمع الأمنية. وفي للسببية. أو للظرفية أو بمعنى على أي يميلون عن الحق سبب الأماني أوفيها أو عليها باعتبار أنها يميل بهم كما تميل الأرجوحة بمن فيها أو عليها وهي بضم الهمزة مثال يلعب عليه الصبيان وهو أن يوضع خشبة على تل ويقعد غلامان على طرفيها.

(كذبوا) في دعوى الرجاء (ليسوا براجين) بل هم انتحلوا اسم الرجاء وليس لهم معناه أصلا وعلل ذلك بقوله:

(إن من رجا شيئا طلبه) بالضرورة وأما تمسكهم بسعة الرحمة فلا يوجب صدقهم في الرجاء فإن سعة الرحمة حق ولكن لا بد لمن يرجوها من العمل الخالص المعد لحصولها وترك الوغول في المعاصي المفوت لهذا الاستعداد وهذا هو الرجاء الصادق الممدوح كرجاء من ألقى البذر في الأرض وأتى بآداب الزراعة رحمته في الحاصل، وما من توغل في المعاصي فرجاؤء الرحمة غير ممدوح ولا معقول كرجاء من لم يزرع أن ينبت الله له زرعا فإن هذا حمق يدم به العقلاء ولا تتبع هؤلاء وانظر إلى الأنبياء (عليهم السلام) فإنهم مع كونهم أعلم بسعة الرحمة صرفوا أعمارهم في الطاعة لعلمهم بأن توقع الاجر بدون الطاعة محض الغرور والقول بأنا نرجو بدون العمل قول الزور، وانظر أيضا إلى من رجاء أمرا من السلطان فإنه لا يعصيه بل يطلب منه ذلك الامر ويخدمه خدمة بالغة طلبا للرضا ويكون خدمته بقدر قوه التوقيع والرجاء ولما كان رجاء شيء مستلزما للخوف من فواته وبالعكس ولذلك قيل الخوف والرجاء متلازمان كان

ص:218

رجاؤهم رحمته مستلزما لخوفهم من فواتها ولذلك أشار إلى أن دعواهم الخوف باطل أيضا على وجه العموم بقوله.

(ومن خاف من شيء هرب منه) بالضرورة فليس لهم خوف من فوات الرحمة وإلا لهربوا منه بترك المعاصي الموجبة لفواتها.

* الأصل

6 - ورواه علي بن محمد، رفعه قال: قلت لأبي عبد الله (عليهم السلام) إن قوما من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون نرجو؟ فقال: كذبوا ليسوا لنا بموال، اولئك قوم ترجحت بهم الأماني. من رجا شيئا عمل له ومن خاف من شيء هرب منه.

* الشرح

قوله: (إن قوما من مواليك) أي ناصريك وتابعيك القائلين بولايتك المحبين لك، (يلمون بالمعاصي) أي ينزلون بالمعاصي ويفعلونها.

(ويقولون نرجو) الرحمة والمغفرة لأنه تعالى واسع الرحمة والمغفرة (فقال كذبوا) في دعوى الولاية والرجاء (ليسوا لنا بموال) لأن الموالاة ليست بمجرد القول بل هي محبة في الباطن ومتابعة في الظاهر لا انفكاك بينهما والحصر المفهوم من تقديم الظرف يفيد أنهم موال لغيرهم هو الشيطان (أولئك قوم ترجحت بهم الأماني) الباء للتعدية أي أمالتهم الأماني عن طريق الرشاد إلى سبيل الفساد حيث رجوا الرحمة مع انتفاء سببها وهو التمني المستعمل في المحال دون الرجاء.

* الأصل

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن صالح بن حمزة، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من العبادة شدة الخوف من الله عز وجل يقول الله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقال جل ثناؤه: (فلا تخشوا الناس واخشون) وقال تبارك وتعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا)، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب.

* الشرح

قوله: (إن من العبادة شدة الخوف من الله عز وجل) الخوف مبدؤه تصور عظمة الخالق ووعيده وأهوال الآخرة والتصديق بها وبحسب قوة ذلك التصور والتصديق يكون قوة الخوف وشدته، وهي مطلوبة ما لم يلغ حد القنوط، وربما يشعر ذلك باعتبار زيادة الخوف على الرجاء، ويمكن أي يقال

ص:219

شدة الخوف تستلزم شدة الرجاء أو يقال ذكر شدة الخوف على سبيل التمثيل كما يشعر به قوله « من العبادة» فإن منها شدة الرجاء.

(يقول عز وجل: «إنما يحشى الله من عباده العلماء») لابد أن نشير إلى هؤلاء العلماء وإلى العلم الذي يورث الخوف والخشية فإنا نرى كثيرا من أهل العلوم الدينية وغيرها لا يخشون من الله ويفتنون بحب الدنيا والاستكثار منها وصحبة الامراء وسلاطين الجور للجاه والمال ويميلون معهم حيث مالوا وينالون الدنيا على أي وجه اتفق ويتبعون اهداء النفس والشيطان فنقول المراد بهذا العالم العالم الرباني وهو الذي علم عظمة الله وجلاله وعزه وقهره لاعلى وجه الإعتقاد فقط بل على وجه يحيط نور العلم ظاهر القلب وباطنه بحيث يمنعه من التوجه إلى الدنيا وما فيها فضلا عن الوسائط إليها ويزجره عن متابعة النفس الامارة في هواها ورداها فإن هذا العلم هو الذي يورث الخشية وثمرته التقوى والورع وسائر الاخلاق النفسانية والعمل بعلم كتاب الله وسنة رسول الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها ويرشد إلى ما ذكر ما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية» فإنه كالمفسر للعلم والعالم الخاشي لله والمخصص لهما (1) وقال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف أن الخوف والخشية وان كانا بمعنى واحد في اللغة إلا أن بينهما فرقا بين أرباب القلوب وهو أن الخوف تألم النفس من المكروه المنتظر والعقاب المتوقع بسبب احتمال فعل المنهيات وترك الطاعات. والخشية حالة نفسانية تنشأ من الشعور بعظمة الرب وهيبته وخوف الحجب عنه بسبب الوقوف على نقصانه وتقصيره في أداه حق العبودية ورعاية الأدب فهي خوف خاص وإليه يرشد قوله تعالى (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب» والرهبة قريب من الخشية.

أقول: ولعل المقصود من الخشية هنا المعنى اللغوي بدليل الاستشهاد بالآية (فلا تخشوا الناس واخشون» دل على أن الخشية وهي شدة الخوف عبادة لأن الله تعالى أمر بها كالآية السابقة إلا أن الامر فيها وقع ضمنا، ثم من خشي الله يخشاه الناس فكنا الله من خشيتهم لما مر (ومن يتق الله يجعل له مخرجا» التقوى على مراتب الأولى التبري عن الكفر والشك وهي تحصل بالشهادتين، وثانيها التجنب عما يوثم، وثالثها التنزه عما يشغل القلب عن الحق وبناء الكل على الخوف من العقوبة والبعد من الحق، ولعل المراد هنا أحدى الأخريين مع احتمال الأولى بعيدا أي ومن يتق الله خوفا منه يجعل له

ص:220


1- 1 - قوله «والمخصص لهما» عطف على المفسر أي هذا الحديث مفسر للعلم والعالم ومخصص لهما بالعلم الموجب للخشية والعالم الخاشي. (ش)

مخرجا من شدائد الدنيا والآخرة كما نقل عن ابن عباس، أو من ضيق المعاش كما يشعر به قوله تعالى (ويرزقه من حيث لا يحتسب» وكان السر في الأول أن شدائد الدارين من الحرص على الدنيا واقتراف الذنوب والغفلة عن الحق والمتقي منزه عن جميع ذلك وفي الثاني أن فيضه تعالى وجوده عام لا بخل فيه وإنما المانع من قبول فيضه هو بعد العبد عنه وعدم إستعداده له بالذنوب. فإذا اتقى منها قرب منه تعالى واستحق قبول فيضه بلا تعب ولا كلفة. فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة.

* الأصل

8 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد المكاري، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين صلوات - الله عليهما قال: إن رجلا ركب البحر بأهله فكسر بهم، فلم بهم، فلم ينج ممن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنها نجت على لوح من ألواح السفينة حتى ألجأت على جزيرة من جزائر البحر وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه، فرق رأسه إليها فقال: إنسية أم جنية؟ فقالت: إنسية، فلم يكلمها كلمة حتى جلس منها مجلس الرجل من أهله، فلما هم بها اضطربت، فقال لها: مالك تضطر بين؟ فقالت: أفرق من هذا - وأومأت بيدها إلى السماء - قال: فضعت من هذا شيئا؟ قالت: لا وعزته، قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصغي من هذا شيئا وإنما إستكرهتك إستكراها فأنا والله أولي بهذا الفرق والخوف وأحق منك.

قال: فقام ولم يحدث شيئا ورجع إلى أهله وليست له همة إلا التوبة والمراجعة، فبينا هو يمشي إذ صادفه ارهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس فقال الراهب للشاب: ادع الله يظلنا بغامة، فقد حميت علينا الشمس، فقال الشاب: ما أعلم أن لي عند ربي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئا، قال: فأدعو أنا وتؤمن أنت، قال: نعم فأقبل الراهب يدعو الشاب يؤمن، فما كان بأسرع من أن أظلتهما غمامة، فمشيا تحتها مليا من النهار ثم تفرقت الجادة جادتين فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة فإذا السحابة مع الشاب فقال: الراهب أنت خير مني، لك استجيب ولم يستجب لي، فأخبرني ما قصتك؟ فأخبر بخبر المرأة فقال: غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل.

* الشرح

(وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ان حب الشرف والذكر) أي حب الجاه والرياسة والعزة بين الناس وحب الذكر والمدح والثناء منهم والشهرة فيهم.

ص:221

(لا يكونان في قلب الخائف الراهب) لأن حب ذلك من آثار الميل إلى الدنيا وأهلها وهما منزهان عنه، وأيضا حبها من الأمراض النفسانية المهلكة والخوف والرهبة يهذبان النفس منها. ومن ثم قالوا: الخوف نار الخوف نار تحرق الوساوس والهواجس. وذكر الراهب بعد الخائف من باب ذكر الخاص بعد العام لزادة الاهتمام إذا الرهبة بمعنى الخشية وهي أخص من الخوف كما مر، وأيضا الراهب هو الخائف التارك لإشغال الدنيا وملاذها حتى حلالها والمعتزل عن أهلها والمتحمل لمشاقها ومشاق التكاليف وغيرها.

* الشرح

قوله: (إن رجلا ركب البحر) أراد بالبحر السفينة مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل بقرينة رجوع الضمير المستتر في قوله فكسر إليه والباء في بأهله بمعنى مع.

(إلا انتهكها) انتهاك الحرمة تناولها لما لا يحل والحرمة بالضم اسم من الاحترام مثل الفرقة من الافتراق والجمع حرمات «فقال أفرق من هذا» الفرق محركة الخوف يقال فرق فرقا من باب تعب أي خاف ويتعدي بالهمزة فيقال افرقته وإنما خافت من الله مع كونها مستكرهة لأجل التمكين فلذلك اضطربت لئلا تمكنه بقدر الإمكان ويفهم منه أن المستكره على الحرام وجب عليه الدفع قدر القدرة ليتخلص من العقوبة.

(فبينا هو يمشي إذ صادفه راهب) بين ظرفية والألف للإشباع ومعمولة لفعل يفسره الفعل الواقع بعد إذ الفجائية أو خبر عن مصدره أي صادفه راهب بين أوقات مشيه، أو بين أوقات مشيه مصادفة الراهب: والمصادفة يكديگر را يافتن، والراهب عابد النصاري وهو المنقطع للعبادة.

وفي بعض النسخ «إذ ضامه» بالضاد المعجمة، وفي بعضها «إذ جاءه» والمضامة نزديك كسي رفتن.

(وتؤمن أنت) أي تقول آمين وهو بالقصر في الحجاز (1) العربية كلمة على فاعيل ومعناه «اللهم استجب» وقبل «كذلك يكون» وقيل «كذا فليكن» وعن الحسن البصري أنه اسم من أسماء الله تعالى والموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أن الشديد خطاء وقال بعضهم التشديد لغة وهو وهم قديم ووجه الوهم مذكور في المصباح.

ص:222


1- 1 - قوله «وهو بالقصب في الحجاز» أي أمين على وزن شريف، قال الشاعر: تباعد منى فطحل إذ رأيته * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وهي كلمة غير موضوعة في الأصل للدعاء، بل معناه كذلك فليكن، فتستعمل بعد كل كلام يليق بأن يظهر المخاطب بعده الشوق إلى وقوعه، ولذلك يبطل به الصلاة عندنا. لأنه بمنزلة كلام الآدميين نظير أهلا وسهلا ومرحبا وسقيا ورعيا، والتعبير بالدعاء نظير «اللهم استجب» لتقريب المعنى. (ش)

(فمشيا تحتها مليا من النهار) أي زمانا كثيرا وساعة طويلة.

(فقال غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف) دل على أن ترك كبيرة واحدة مع الاقتدار عليها خوفا من الله وخالصا لوجهه موجب لغفران الذنوب كلها ولو كن حق الناس على احتمال لأن الرجل كان يقطع الطرق مع احتمال أن يكون المغفرة للخوف مع التوبة إلى الله والمراجعة إلى الناس في حقوقهم كما فيهم من قوله «وليس له همة إلا التوبة والمراجعة».

* الأصل

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما حفظ من خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يا أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لاخرته وفي الشبيبة قبل الكبر وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار.

* الشرح

قوله: (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم) لعل المراد بها مواضع العلوم والحقايق وهي القوانين الشرعية، أو الحجج العالمون بها.

(وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم) كان المراد بها الغاية المطلوبة للإنسان وهي الكمالات الموجبة للقرب وحملها على الأجل الموعود بعيد.

(ألا إن المؤمن يعلم بين مخالفين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما لله قاض فيه) دل على أن الخوف كما يكون بالنسبة إلى ما يأتي بكون بالنسبة إلى ما مضى أيضا وتخصيصه بما يأتي وإطلاق الحزن على ما مضى اصطلاح عند قوم وهذان الخوفان يوجبان تحقق كمال الإنسان، لأن الخوف ما مضى يوجب تصميم العزم بالتوبة والاستغفار والتدارك والاعتراف بالتقصير واشتغال القلب بذكر الرب والخوف مما يأتي من احتمال المعصية والاغترار ونقصان الدرجة عن درجة الأبرار وإنقلاب القلب والغفلة وترك الطاعات يوجب الإجتهاد في اكتساب الخيرات والمبادرة إلى تحصيل الكمالات والمحافظة لأوقات العبادات، والخالي عن الخوف قاسي القلب فاسد العقل (فويل للقاسية قلوبهم أولئك في ضلال مبين» (فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه) بأن يأخذ في الدنيا من نفسه

ص:223

فعل الطاعات والقربات وترك المنهيات والمهويات ورفض الدنيا وأهلها ورسوم العادات، لنفسه في الآخرة (ومن دنياه لاخرته) بأن ينفع متاعها على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات من المسلمين ولا ينسى نصيبه من الدنيا وهي مزرعة الآخرة.

(وفي التشبيبة قبل الكبر) لأنه قد لا يصل الكبر فالتأخير مفوت للمقصود أو لان القدرة على العمل وتحمل المشاق في أيام الشباب أقوى أو لأن القوي في أيامه قوية وكما العمل تابع لقوتها.

أو لأن العمل إذ صار ملكة في أيامه سهل عليه في أيام الكبر أو لأنه ينبغي أن يكون ميول القلب في أيام إلى الطاعة والانقياد للأوامر والنواهي ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات النافعة في الآخرة (1) تسود مرآة نفسه بالملكات الردية فلم يكد يقبل بعد ذلك الإستضاءة بنور الحق فكان من الأخسرين أعمالا.

(وفي الحياة قبل الممات) لأن العمل بعد الموت منقطع كما أشار إليه بقوله:

(فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب) مستعتب مصدر على زنة المفعول طلب الرضا أو اسم فاعل على احتمال بمعنى طالبه والعتب والعتاب التوبيخ والسخط للذنب والتقصير، يقال عتب عليه عتبا من بابي صرف وقتل، وعاتبه معاتبة وعتابا أي وبخه ولامه وسخط عليه لذنبه وتقصيره والإعتاب الإزالة لكون الهمزة للسلب فهو بمعنى الرضا، يقال أعتبه إعتابا أي أزال عنه العتاب وعاد إلى مسرته ورضاه، والإستعتاب طلب الاعتاب والرضا بإزالة ما عوتب عليه والمعنى ليس بعد الدنيا من استرضاء وإقالة ذنب وقبول عذر كما قال تعالى «وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين» فالمعتب بفتح التاء المرضى أي أن يطلبوا الرضا والمسرة عنه تعالى ويستقيلوه فلا يرضى عنهم ولا يسرهم ولا يقيلهم لأن محل الإستعتاب والإعتاب والإستقاله والإقالة إنما هو الدنيا قبل حضور الموت وأما بعده فهو دار جزاء.

(وما بعدها من دار إلا الجنة أو النار) فمن أطاع ربه في الدنيا فالجنة داره ومثواه ومن عصاه فالنار منزله ومأواه. والمقصود من هذا الحديث حث المكلف على اغتنام الفرصة في زمن المهلة للإستعتاب والاعتذار والتوبة والاستغفار والإستيقاظ عن سنة الغفلة والاجتهاد ورائي الأعمال والاستعداد لما بعد

ص:224


1- 1 - قوله «على لوح نفسه من الكمالات النافعة في الآخرة» هذا ما جرى عليه علماء الاخلاق ويدل على قوله تعالى «يوم لا ينفع مال ولا بنون الامن أتى الله بقلب سليم» لأن بنائهم على أن المؤثر بالذات في السعادة الأخروية هو الكمالات الحاصلة للنفس الإنسانية بسبب الملكات الكريمة، وأما عمل الجوارح كالصلاة والصيام والحج فإنما يؤثر بالتسبيب وبالعرض لأنه يوجب رسوخ الملكات، ورسوخ الملكات يوجب السعادة في الآخرة. فعمل الجوارح سبب سبب السعادة ولا يفيد إن لم يكسب للنفس ملكه راسخة، أو صفة ثابتة. (ش)

الموت لئلا يقع بعده في الحسرة والندامة فيعذر فلا - يقبل معذرته (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر» بل قد يمنع من الاعتذار فيقول (إخسؤا فيها ولا تكلمون».

* الأصل

10 - عنه. عن أحمد، عن ابن محبوب، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

(ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال: من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القليح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى.

* الشرح

قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال الشيخ بهاء الملة والدين والمراد بمقام ربه والله أعلم موقفة الذي يوقف فيه العباد، للحساب، أو هو مصدر بمعنى قيامة على أحوالهم ومراقبته لهم، أو المراد مقام الخائف عند ربه وفسر الجنتان بجنة يستحقها العبد بعقائده الحقة وأخرى بأعماله الصالحة. أو إحديهما لفعل الحسنات والأخرى لترك السيئات أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو جنة روحانية وأخرى جسمانية، وقال صاحب الكاشف الخطاب للثقلين فكأنه قيل للخائفين منكما جنتان جنة للخائف الانسي وجنة للخائف الجني وجوز أيضا إرادة الثاني والثالث المذكورين.

أقول يجوز أن يراد جنة للخوف لأنه عبادة كما مر وجنة للازمه وهو فعل الطاعات وترك المنهيات ويشعر به ما بعده، وما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «من عرضت له فاحشة أو شهوة فإجتنبها من مخافة الله عز وجل حرم الله عليه النار وآمنه من الفرغ الأكبر وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان» فإن ترتب استحقاق الجنتين على الخوف والاجتناب يشعر بما ذكرنا.

قوله: (فذلك الذي خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى) أشار به إلى أن الموصول في قوله تعالى (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى» من علم أن الله يراه إلى آخره، وأنه الذي في مقام المراقبة، وأنه الذي له جنتان وأن نهي النفس عن الهوى تابع للخوف، وأن الخوف تابع للعلم المذكور، فلا خوف بدونه كما قال عز وجل (إنما يخشى الله من عباده العلماء».

* الأصل

11 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن الحسن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما

ص:225

يخاف ويرجو.

* الشرح

قوله: (لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا) قد شاع إطلاق الإيمان على ما يمنع من الدخول في النار وهذا الإيمان لا يكون إلا مع الصفات المذكورة التي أولها الخوف من الله وأسبابه على كثرتها أما أمور مكروهة لذاتها كشدائد الدنيا والآخرة كشدة الموت وعذاب القبر وهول المطلع والموقف بين يديه عز وجل وكشف السر والمناقشة في الحساب والعبور على الصراط والدخول في النار وحرمان الجنة، والحجاب منه تعالى وخوف الحجاب أعلى رتبة وهو خوف العارفين وما قبله خوف العابدين والصالحين والزاهدين أو أمور مكروهة لأنها تؤدى إلى ما هو مكروه لذاته كنقض التوبة والموت قبلها والتقصير في الطاعة والإفراط في القوة الشهوية والغضبية وسوء الخاتمة والشقاوة في العلم الأزلي، والأغلب على المتقين خوف الخاتمة والأعظم خوف السابقة لكون الخاتمة تبعا لها.

* الأصل

12 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفا ولا يصلحه إلا الخوف.

* الشرح

قوله: (فهو لا يصبح إلا خائفا) أصبح دخل في الصباح وهذا التأكيد لما سبق من قوله «المؤمن بين مخافتين» أو الغرض منه إفادة استمرار الخوف دائما.

قوله: (ولا يصلحه إلا الخوف) إذ به يتلافي ما فات ويتدارك ما هو آت كما مر.

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا [و] في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا.

ص:226

(باب) (حسن الظن بالله عز وجل)

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن داود بن كثير، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): قال الله تبارك وتعالى: لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي فإنهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم - أعمارهم - في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناتي، ورفيع - الدرجات العلي في جواري ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا، فإن رحمتي عند ذلك تدركهم، ومني يبلغهم رضواني ومغفرتي، تلبسهم عفوي فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسميت.

* الشرح

قوله: (لا يتكل العاملون لي على أعمالهم) أي لا يعتمدوا في دخول الجنة ونيل ودرجاتها على محض تلك الأعمال وإن كان صحيحة تامة الأركان في نفسها وواقعة مع المبالغة في الإجتهاد لأنها بالنسبة إلى عظمة الحق وما يستحقه من العبادة ناقصة وقد نطقت ألسنة الأولياء بأنهم ما عبدوه حق عبادته فكيف غيرهم وبالنظر إلى النعيم الجنات ورفع الدرجات وكرامة الرب وجوار القرق قاصرة غير قالبة لإقتضائها مع أن مفاسد الأعمال كثيرة لا تخلص منها إلى آخر العمر إلا نادرا والاتكال عليها موجب للعجب المهلك غالبا، وعلى هذا لا ينبغي للعاملين أن يتكلوا على محض أعمالهم ولا يثقوا بمجرد أفعالهم، بل ينبغي لهم مع الإجتهاد فيها والإتيان بها تمامة الأركان وتخليصها عن طريان المفاسد وشوائب النقصان أن يثقوا برحمة ربهم في دخول الجنان ويرجوا فضله في الكرامة والإحسان ويطمئنوا إلى حسن الظن به في قبول العمل وجبر النقصان، فإن رحمته عند ذلك تدركهم ورضوانه يبلغهم في دار السلامة، ومغفرته تلبسهم لباس العفو والكرامة وبهذا التقرير ظهر أن طمع من ترك العمل لحسن الظن به مقطوع، وأن قول هذا في هذا الخبر دلالة على أن العمل ليس سببا لدخول الجنة ممنوع كيف وقد قال جل شأنه (ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون» وملخص القول أن الإحسان بالعمل مع عمل آخر وهو الثقة بفضل الله ورحمته في قبوله سبب لدخول ونيل درجاتها كما قال (إن رحمة الله قريب من المحسنين»

ص:227

هذا وقد ذهب جماعة من العامة إن العمل ليس سببا لدخول الجنة أصلا واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة» وهذا بناء على أصلهم من أن الله تعالى يجوز أن يعذب المؤمن المطيع ويثيب الكافر، وأوردوا على أنفسهم أن ذلك منقوض بالآية المذكورة وأن العمل إذا لم يكن سببا أصلا فما الفائدة فيه؟ فأجابوا عن الأول بأن معنى الآية:

إدخلوا بأعمالكم رحمة من الله لا إستحقاقا عليه، وقال المازري معناها أن دخول الجنة بالعمل لكن بهدايته له وفضله فصح أنه يدخل الجنة بمجرد العمل. وأجاب أبو عبد الله إلا بي عن الثاني بأن القائلين بأن دخول الجنة إنما هو بنعمة الله لا يلغون أثر الأعمال بل يقولون إنما هو في رفع الدرجات.

أقول: يرد على الجواب الأول أن استفادة من الآية ممنوعة وعلى تقدير التسليم لا يخلو من تناقض لأن قولهم ادخلوها بأعمالكم يفيد أن الأعمال سبب للدخول في الجملة وقولهم لا إستحقاقا عليه يفيد أنها ليست له وعلى جواب المازري أنه لا ينافي كون الأعمال سببا في الجملة وعلى جواب الأبي أنه إذا جاز أن تكون الأعمال سببا لعلو الدرجات لم لا يجوز (1) لدخول الجنة.

* الأصل

2 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن يزيد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال - وهو على منبره - والذي لا إله إلا هو ما اعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ورجائه له وحسن خلقه والكف عن اغتياب المؤمنين، والذين إله إلا هو لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله وتقصيره من رجائه وسوء خلقه وإغتيابه للمؤمنين. والذي لا إله إلا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه.

قوله: (والذي لا إله إلا هو ما أعطى مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلا بحسن ظنه بالله) قال بعض الأفاضل معناه حسن ظنه بالغفران إذا ظنه حين يستغفر وبالقبول إذا ظنه حين يتوب وبالإجابة إذا ظنه حين يدعو وبالكفاية حين يستكفي لان هذه صفات لا تظهر إلا إذا حسن ظنه بالله تعالى وكذلك تحسين الظن بقبول العمل عند فعله إياه. فينبغي للمستغفر والتائب والداعي والعامل أن يأتوا بذلك موقنين بالإجابة بوعد الله الصادق فإن الله تعالى وعد بقبول التوبة الصادقة والأعمال الصالحة، وأما لو فعل هذه الأشياء وهو يظن أنها لا تقبل ولا تنفعه وفذلك قنوط من رحمة الله والقنوط كبيرة مهلكة وأما ظن المغفرة مع الإصرار وظن الثواب مع ترك الأعمال فذلك جهل وغرور يجر إلى مذهب المرجئة والظن هو ترجيح أحد الجانبين بسبب يقتضى الترجيح فإذا خلا عن سبب فإنما هو غرور وتمنى للمحال

* الشرح

(وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا) هذا هو المطلوب ولذا ذكره في هذا الباب وأما ذكره في باب الرضا بالقضاء فمن باب التبعية وينبغي أن يعلم أن الخوف يقتضى ترك المنهيات والرجاء يقتضي فعل الطاعات والمكلف بعد إتصاله بهما على السواء ينبغي أن لا يتكل على أعماله فإن العبد - كما مر -

ص:228


1- 1 - قوله «أن تكون الأعمال سببا لعلو الدرجات» ومبنى كلام الشارح أن عمل الجوارح سبب لدخول الجنة ولكن سببيته بالواسطة لأنه سبب لعلو الدرجة، وعلو الدرجة سبب لدخول الجنة، وعلى هذا فلا معنى لنفي سببية العمل لدخول الجنية أصلا. نعم أن أراد قائله نفي السببية بالمباشرة كان له وجه لكن يأبى عنه ظاهر كلام القائلين بالغاء أثر الأعمال. (ش)

وإن بالغ كان مقصرا بعد، بل ينبغي أن يحسن ظنه بالله في قبول عمله ورفع درجته ويعتمد على فضله وكرمه ولا يسوء ظنه به فإن حسن الظن ينبعث منه المحبة وهي أعلى مقامات السالكين وسوء الظن ينبعث منه النفرة وهي من أعظم خصال الشياطين، ومما ذكرنا يندفع وتوهم أن حسن الظن يوجب ترجيح الرجاء على الخوف وهذا ينافي ما ممر من اعتبار التساوي بينهما.

* الأصل

3 - محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أحسنوا الظن بالله. فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

* الشرح

قوله: (قال أحسنوا الظن بالله فإن الله عز وجل يقول أنا عند ظن عبدي المؤمن بي أن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا) أقول قد عرفت معناه ومثله من كتب العامة روى مسلم عن النبي (عليه السلام) قال:

يقول الله عز وجل «أنا عند ظن عبدي» قال القابسي يحتمل أنه تحذير للعبد مما يقع في نفسه مثل قوله تعالى «فأحزروه» وقال الخطابي معناه أنا عبد ظن عبدي بي في حسن عمله وسوء علمه لأن من حسن عمله حسن ظنه ومن ساء عمله ساء ظنه.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان ابن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا ذنبك.

ص:229

* الشرح

قوله: (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا ذنبك) يعني حسن الظن أن ترجو الفوز بالسعادة الدنيوية من حول الله وقوته وتترقب النعماء الأخروية من فضله ورحمته لامن محض عملك ومجرد سعيك فإن العمل وإن كان في حد الكمال قال في جانب عزته، ناقص في جنب عظمته، لا يوجب الوصول إلى كمال قربه ونعمته، وأن تخاف من ذنبك فإنه يؤديك إلى مقام الوعيد لامن الله تعالى فإنه ليس بظلام للعبيد وفيه إشارة إلى أن حسن الظن مركب من الرجاء والخوف وبه يشعر لفظه أيضا فلو تخلف أحدهما عن الاخر كان ذلك خروجا عن التوسط بالإفراط والتفريط المذمومين عقلا ونقلا ويشير إليه أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه وإن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا» ومراده (عليه السلام) في قوله على قدر خوفه من ربه على قدر خوف من عذاب ربه لأجل ذنبه فلا ينافي هذا الخبر، وبالجملة المستفاد من هذين الخبرين إن حسن الظن والخوف متلازمان لأنهما معلولا علة واحدة وهي معرفة الله سبحانه إلا أن كل واحد منهما يستند إلى صنف من المعرفة ونوع من الاعتبار يكون هو مبدؤه، أما حسن الظن يعني الرجاء فإن العبد إذا عرف ربه ولا حظ غناه عن العالمين وعن طاعتهم بحيث لا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة وإعتبر جميع أسباب نعمه عليهم ظاهرة وباطنة جلية وخفية مما هو ضروري لهم كآلات التغذية والتنمية ونحوهما مما لا يحصى وما لهم حاجة ما كالأظفار ونحوها وما هو غير ضروري ولكن زينة لهم كتقوس الحاجبين واختلاف ألوان العينين وغيرهما وتفكر في صفحات رحمته ولطفه وإحسانه وإنعامه وفي أن العناية الإلهية إذا لم ترض إن يفوتهم تلك النعماء والمزايا في الحاجة والزينة كيف ترضى بسياقهم إلى الهلاك إلا بدى بعد معرفته وتوحيده والإخلاص في عبادته؟ يحصل له بعد تلك الاعتبارات والملاحظات حسن الظن به والرجاء إلى رحمته وعوه وأما الخوف فإنه إذا عرف الله تعالى ولاحظ صفات جلاله وعظمته وتعاليه وسطوته وإستغناءه عن الخلق أجمعين وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع ولم يسأله سائل وتفكر في سخطه وغضبه وعظم رزية مخالفته ومعصية في إخراجه آدم من الجنة بسبب المخالة السهلة مع كمال عزته ونشوه بين الملائكة وسجوده له وإخراج الشيطان من رحمته بسبب مخالفة أمر واحد من أوامره وتكبره على آدم وتفكره في الأمم الماضية وكيفية أخذهم واهلاكهم بسبب المعصية فمنهم من أهلكم بالصيحة ومنهم عن أغرقهم ومنهم من خسف بهم الأرض ومنهم من مسخهم إلى غير ذلك من أنواع العذاب، يحصل له بتلك الاعتبارات والملاحظات خوف وخشية وإحتراق وذبول وذلة وانكسار. ثم إن الخوف لا يسمى خوفا إلا بعد أن يفيض أثره على الأعضاء الباطنة فيمنعها عن الرذائل كالكبر والحسد والحقد والبخل وسوء الخلق وغيرها، وعلى الأعضاء الظاهرة

ص:230

فيكفها عن المعاصي كما أن الرجاء لا يسمى رجاء حتى يوجب ميل الباطن إلى الأخلاق الفاضلة وميل الظاهر إلى الأعمال الصالحة فالجمع بينهما يوجب استقامة الظاهر والباطن والصبر عند المعصية والطاعة.

ص:231

(باب الاعتراف بالتقصير)

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن سعد ابن أبي خلف، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال لبعض ولده: يا بني عليك بالجد لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله عز وجلب وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته.

* الشرح

قوله: (فإن الله لا يعبد حق عبادته) أي لا يعبد حق عبادته كما وكيفا، كيف وقد اعترف خاتم الأنبياء وسيد الأوصياء بالتقصير، وفيه تنبيه على حقارة عبادة الخلق في جنب عظمته وإحسانه واستحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم وجدهم في عباداتهم ولا يستكبروا شيئا من طاعاتهم.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض العراقيين، عن محمد بن المثنى الحضرمي ، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) يا جابر لا أخرجك الله من النقص و [لا] التقصير.

* الشرح

قوله: (يا جابر لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير) أي وفقك لأن تعد عبادتك ناقصة ونفسك مقصرة أو لأن تعد نفسك ناقصة مقصرة، فبالنقص تخرج من الكبر وبالتقصير من العجب وللكسل في العبادة مع ما فيها من الاعتراف بالحاجة والذل والعبودية لأن من عرف تقصير نفسه ونقصها كان في مقام الحاجة والذل والانكسار ولا عبودية أشرف منها.

* الأصل

3 - عنه، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن رجلا في بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة ثم قرب قربانا فلم يقبل منه فقال لنفسه: ما أتيت إلا منك وما الذنب إلا لك، قال: فأوحى الله تبارك وتعالى إليه إليه ذمك لنفسك أفض من عبادتك أربعين سنة.

* الشرح

قوله: (ثم قرب قربانا فم يقبل منه) القربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة

ص:232

وغيرها.

قيل قبوله عندهم كانت عبارة عن خروج النار وإحراقه.

(فقال لنفسه ما أتيت إلا منك وما الذنب إلا لك) هذا الاعتراف من توابع العلم والحكمة لأن العالم الحكيم يعلم أن فيضه تعالى (1) غير معقول علم أن ذلك لتقصير في عمله ونقص نفسه ثم عدم تأثير عبادته مدة أربعين سنة في صفاء قلبه مع ما روى أن من عبد الله أربعين يوما خالصا لوجه الله ينفجر في قلبه ينابيع الحكمة إنما هو لفساد في عمله مثل الرياء والحسد أو الفجر والعجب أو غيرها، ومنه يعلم أن العمل بدون تصفية القلب غير مقبول (2) بلوغه حد الكمال من أن يطهر نفسه من الفساد وينزه ظاهره وباطنه عن العلائق ويوجه قلبه إلى الله ويتفكر في معاني الكلمات التي يناجيه بها وأسرار الآيات التي يتلوها ويعترف بالعجز والتقصير.

فإنه إذا كان كذلك في جميع الأوقات أو في

ص:233


1- 1 - قوله «قوله لأن العالم الحكيم يعلم أن فيضه» مذهب الحكماء أن وجود الممكن عن مبدئه أما أن يتوقف على استعداد مادة لقبوله كوجود أشخاص الحيوان والنبات وحينئذ لا يوجد إلا بعد حصول ذلك الاستعداد، ولا يتأخر عن الاستعداد البتة. فإذا صار البذر مستعدا لأن يوجد في الصورة النباتية وجد من غير بطؤ وريث لأن فيضه تعالى عام لا يتأخر عن قابلية المستفيض البتة، وإن لم يكون وجود الممكن متوقفا على الاستعداد. بل كان وجوده ممكنا دائما لم يتأخر وجوده الا عن مشية الله تعالى لأن فيضه عام لكل قابل كنور الشمس فإنه يضيء كل شيء يمر في مقابله، ولا يتوقف إضاءته الا على المقابلة، وعليهذا فإذا عمل المؤمن عملا مؤثرا في تهذيب نفسه وحصول ملكة صالحة في قلبه من غير مانع ومفسد كالعجب والرياء فلا معنى لعدم قبوله كما لا يحتمل عدم تأثير الماء في نمو النباتات وعدم تأثير الغذاء في شبع الحيوان. (ش)
2- 2 - قوله «بدون تصفيه القلب غير مقبول» ويدل عليه أيضا قوله تعالى «يوم لا ينفع ما ولا بنون الامن أتى الله بقلب سليم» ويؤيد هذا الكلام ما ذكرناه سابقا من أن العمل سبب بالواسطة للسعادة الأخروية لا بالمباشرة. وإن السبب المباشر القريب هو الملكة الصالحة الراسخة، وإنما أمر بهذه الأعمال الظاهرة لتحصيل تلك الملكة والغرض الأصلي فيها تحصيل السعادة في الآخرة ومن زعم أن حكمة أنزال الكتب وإرسال الرسل وتشريع الشرائع حفظ نظم هذا العالم وحسن سياسة العباد فهو بمعزل عن الحق قاصر النظر على الماديات «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهو عن الآخرة هم غافلون». وقال تعالى «ونفس وما سويها فألهمها فجورها وتقويها قد أفلح من زكيها وقد خاف من دسيها» فبين أن فلاح نفس الإنسان بالتزكية واستدل عليها بأن نفسه مجردة موجودة بأمر الله تعالى ويعرف الفجور والتقوى بإلهامه تعالى وكل شيء كان له صفة من الصفات أيا ما كانت فإنما جعلت فيه لغاية يتوخاها البتة بتلك الصفة وليس إدراك الحسن والقبح وإستبشاع المنكرات وتحسين المعروفات بالهام خالقه عبثا في وجود الإنسان، بل لا بد من أن يكون لغاية هي تزكية نفس كما أن وجود رغبة أو رهبة في كل موجود إنما هو لأن ما يرغب فيه غايته ومكمل لوجوده كرغبة الشجر إلى نور الشمس وجعل إدراك الفجور والتقوى في طبيعة النفس لأن فلاحها بتزكيتها وذكرنا شيئا يتعلق بذلك في المجلد الرابع ص 285. (ش)

أكثرها بلغ قبول الحق وأدرك وصاله حتى تصير إرادته كارادته لا يتخلف عنها المراد، والله ولى التوفيق. (فأوحى الله تبارك وتعالى إليه) ظاهره بلوغ الوحي إليه ويحتمل نزول إلى يني فبلغه.

* الأصل

4 - أبو علي الأشعري، عن عيسى بو أيوب، عن علي بن مهزيار، عن الفضل ابن يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: أكثر من أن تقول: اللهم لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير، قال:

قلت: أما المعارون فقد عرفت أن الرجل يعار الدين ثم يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ فقال: كل عمل تريد به الله عز وجل فكن فيه مقصرا عند نفسك، فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون إلا من عصمه الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (فقال كل عمل تريد به) وجه (الله عز وجل) وهو عمل الدين والآخرة وأما عمل الدنيا فلا ينبغي أن تعد نفسك في ترك الجد فيه مقصرة.

(فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون) إذ ليس أحد وأن اشتد في طلب رضا الله تعالى حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة مالله سبحانه أهله من الطاعة له وكمال الإخلاص ودوام الذكر وتوجه القلب إليه وأداء حق شكر نعمه. إذ هو بكل نعمة يستحق الطاعة والشكر ونعمه غير محصورة كما قال (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» فإذا قوبلت الطاعة بالنعمة بقي أكثر نعمه غير مشكورة لا مقابل لها من الطاعة.

(إلا من عصمه الله عز وجل) وهم الأنبياء والأوصياء لأن عصمتهم ونورانية ذواتهم وصفاء صفاتهم وخلوص عقائدهم وعزيمة قلوبهم وكما نفوسهم ودوام ذكرهم أخرجتهم عن حد التقصير، ومع ذلك اعترفوا به إظهارا للعجز والنقصان، وإن جاؤوا بما هو المطلب من الإنسان على نهاية ما يتصور من القدرة والإمكان، ويمكن أي يكون المراد بهم الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله وهم بأمره يعلمون لكن الاستثناء حينئذ منقطع إلا أن يراد بالناس العابد، والله أعلم.

ص:234

باب الطاعة والتقوى

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أخي عرام عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل.

* الشرح

قوله: (لا تذهب بكم المذاهب) أي لا تذهبكم المذاهب إلى سبيل الضلال وتمنى أحال فالباء للتعدية واسناد الأذهاب إليها مجاز عقلي لأن فاعله النفس الإمارة والشيطان، ولعل المراد به الأعمال القبيحة والعقائد الكاسدة والأماني الفاسدة التي من جملتها أن تفعلوا ما تريدون وتقولوا نحن متشيعون، ونحن نحب أهل البيت، ونرجو شفاعتهم، فإن ذلك لا ينفعكم كما أشار إليه بقوله:

(فو الله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل) بالقلب والجوارح مع محبتنا لظهور أن معنى التشيع هو المتابعة لهم قولا وفعلا ولا يتحقق هذا المفهوم إلا لمن أطاع الله كما أطاعوه.

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنه إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحتمل أحدكم إستبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته.

* الشرح

قوله: (ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به) المقرب من الجنة هو الآداب الكاملة والعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والمقرب من النار أضدادها (الأوان الروح الأمين) جبرئيل (عليه السلام) (نفث في روعي) النفث النفخ، ونفث الله الشيء في القلب من باب ضرب ألقاه، والروع بالضم الخاطر والقلب.

ص:235

(إنه لن تموت نفس) موتها مفارقتها للبدن ورفع يدها عن التصرف فيه بأمر الله تعالى (حتى تستكمل رزقها) أي تأخذ رزقها المقدر على وجه الكمال ضرورة أن بقاء تعلقها بالبدن متوقف على الرزق. فمن المحال أن يبقي التعلق وينقطع الرزق.

(فاتقوا الله) التقوى هي الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمتقي من يجعل بينه وبين ما يخاف منه وقاية تقية منه «ومنه اتقوا النار ولو بشق تمرة» فأصل التقوى الخوف من الله بملاحظة جلال الله وعظمته وقبح مخالفته وشدة عقوبته، ولما كانت التقوى هي الحاجزة عن تقحم الدنيا والوغول فيها، وطلبها من حيث لا يجوز أمر أو لا بها وعطف عليها ما هو من لوازمها فقال:

(وأجملوا في طلب) من الجميل أو الأجمل قال في المصباح: أجملت في الطلب رفقت أي أحسنوا في الطلب ولا يكن كدكم فيه كدا فاحشا ولا مذهب إكتسابكم مذهبا باطلا أو ارفقوا فيه واقتصوا، من الرفق في السير إذا قصد.

(ولا يحمل أحدكم إستبطاء شيء من الرزق أن يطلبه بغير حله) أي لا يبعث أحدكم ذلك على طلبه بطريق غير مشروع، فالمصدر المستفاد من أن يطلبه منصوب بنزع الخافض.

(فإنه لا يدرك ما عند الله) عن الثواب الجزيل والاجر الجميل والرزق الحلال.

(إلا بطاعته) في الأوامر والنواهي، فكما أن من سلك سبيل المصيبة ضل عن سبيل الجنة واستحق العقاب وحرم عن الثواب. فكذلك من طلب الرزق من غير حله حرم عما عنده تعالى من الرزق الحلال واستحق العقاب بكسب الحرام كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من «أن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبره أتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب الله عز وجل واخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة» وأعلم أن الرزق عند المعتزلة كل ما صح الانتفاع به بالتغذي وغيره وليس الحرام عندهم رزقا، وهذا الحديث يدل عليه، وعند الأشاعرة كل ما ينتفع به ذو حياة بالتغذي وغيره وإن كان حراما وخص بعضهم بالأغذية والأشربة وللطرفين دلائل ومؤيدات تركناها تحرزا من الاطناب.

* الأصل

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم; وأحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، جميعا عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: «يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من إتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة

ص:236

والغامرين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا امناء عشائرهم في جميع الأشياء»، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحب عليا وأتولاه ثم يكون مع ذلك فعالا، فلو قال: إني أحب رسول الله صلى الله عليه وآله فرسول الله خير من علي عليه السلام ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته يا جابر! والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معناه براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان الله مطيعا فهو لنا ولي ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع.

* الشرح

قوله: (فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه) لعل المراد بالتقوى الامتثال بالزواجز وبالطاعة الامتثال بالأوامر ويحتمل أن يراد بالتقوى تقوى القلوب وهي تخليته عما يفسده وتحليته بما يصلحه، وبالطاعة طاعة الظواهر بترك المنهيات وفعل المأمورات (وما كانوا يعرفون يا جابر) في عهد الأئمة الماضين عليهم السلام. (إلا بالتواضع والتخشع) المراد بالتواضع التذلل لله عند أوامره ونواهية وتقلد العبودية بمعرفة عجزه بين يديه، وكما افتقاره إليه، ولعباده المؤمنين تعظيمهم واجلالهم وتكريمهم وإظهار حبهم والميل إلى مجالستهم ومواكلتهم ولين القول عندهم وحسن المعاشرة معهم والابتداء بسلامهم والرفق بذوي حاجاتهم والأقوام إلى قضاء حوائجهم والمبادرة إلى خدمتهم وغير ذلك مما يدل على ضعته عندهم وعدم تكبره عليهم، والمراد بالخشوع التذلل لله مع الخوف منه كما صرح به المحققين، ثم قال وبذلك فسر في قوله تعالى (والذين هم في صلاتهم خاشعون» وقال صاحب المصباح: خضع لغريمه خضوعا ذل وإستكان والخضوع قريب من الخشوع إلا أن الخشوع أكثر ما يستعمل في الصوت والخضوع في الإعناق، أقول: ثم شارع وصف القلب والجوارح به كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «أنه رأى رجلا يعبث بلحيته قي صلاته فقال:

أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه» والمراد بخشوع القلب اشتغاله بذكر الله تعالى وتوجهه إليه، وإعراضه عما سواه، وإذا حصل له هذه الفضيلة حمل الجوارح على ما هو المطلوب مع انكسار وتذلل وخوف على مخالفتها لغفلة أو سهو أو لغرض من الأغراض النفسانية، واشتغال الجوارح بذلك عبارة عن خشوعها.

(والأمانة) وهي حالة نفسانية توجب سكون القلب وطمأنينته، وعدم ميله إلى المكر والحيلة، ومنه فلان مأمون الغائلة أي ليس له مكر يخشى. ولعل المراد بها حفظ الوديعة والعهد من الله تعالى أو مع الناس، ومن طرق العامة «الأمانة غني» أي من شهربها كثر معاملوه فاستغني. (وكثرة ذكر الله) باللسان

ص:237

والقلب خصوصا في مقام الأوامر والنواهي والنوائب (والصوم والصلاة والصوم والصلاة) على أركانهما وشرائطهما وفعلهما كذلك دليل على كمال القوة النظرية والعلمية، والواو للعطف على الكثرة أو على ذكر الله.

(والبر وبالوالدين) بتعظيمهما وإطاعتهما في كل ما جاز شرعا وعقلا والإحسان إليهما ودفع الأذى عنهما، وأداء ديونهما وطلب الخير لهما حيين وميتين.

(والتعاهد للجيران من الفقراء وأهله المسكنة) أي حفظ حالهم ورعاية أحوالهم وإيصال الخير إليهم وترك أذاهم وتحمل الأذى منهم وعيادة مريضهم وتشييع جنائزهم وعدم التطلع إلى عوراتهم، والفقير والمسكين من ليس له مال ولا كسب يفي بقوت السنة له ولعياله واختلفوا في أن أيهما أسوء حال فقال الأصمعي والشافعي وابن إدريس والشيخ الطوسي في المبسوط والخلاف:

أن الفقير أسوء حالا، وقال الفراء وإن السكيت وثعلب وأبو - حنيفة وابن الجنيد وسلار والشيخ الطوسي في النهاية: أن المسكين أسوء حالا وللطرفين دلائل مذكورة في محلها.

(والغارمين والأيتام) بأداء ديونهم وتفقد أحوالهم ورعاية حقوقهم والرفق بهم والعطف على الفقراء أو على الجريان والأخير أنسب لأنه أعم.

(وكانوا امناء عشائرهم في (جميع) الأشياء) العشائر جمع العشيرة وهو المعاشر، ولما كانت الأمانة عامة مطلوبة من جميع الجوارح والشيء عاما صادقا على جميع أفعالها صادر المقصود أنهم كانوا أمناءهم بجميع الأعضاء في جميع الأفعال.

(حسب الرجل أن يقول أحب عليا) التركيب مثل حسبك درهم أي كافيك، وهو خبر لفظا وإستفهام معنى للإنكار والتوبيخ أي لا يكفيه ذلك ولا ينجيه من العقوبة بدون أن يكون فعالا مبالغا في الفضل ظاهرا وباطنا وتابعا له عليه السلام قولا وعملا، والمحبة والشفاعة وإن كانتا نافعتين في دفع الخلود من النار، ولكنهما لا توجبان عدم الدخول فيها كما نق عن علي (عليه السلام) في حديثه أنه قال: « المؤمن المسرف على نفسه لا يدري (يعني عند الموت) ما يؤال إليه حاله يأتيه الخبر مبهما مخوفا لم يسويه الله بأعدائنا ويخرجه من النار بشفاعتنا فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا (يعني على شفاعتنا) ولا تستصغروا عقوبة الله فان من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب الله بثلاثمائة سنة.

(فاتقوا الله واعملوا لما عند الله) قد عرفت أن المؤمن لا يخلو من خوف ورجاء وأن الخوف يقتضى

ص:238

ترك المنهيات وهو التقوى وأن الرجاء يقتضى فعل الطاعات وإنما قدم التقوى لأن تخلية النفس عن الرذائل أقدم من تحليته بالفضائل.

(وأكرمهم عليه أتقاهم) كما قال عز وجل (إن أكرمكم عند الله أتقيكم» والمراد بالكرامة القرب منه تعالى والاستحقاق لقبول فيضه الدنيوي والأخروي مثل الجنة ودرجاتها وثمراتها وقطوفها الدانية وغير ذلك مما أعد الله لأوليائه الأبرار وظاهر أن الكرامة لا تحصل لأحد إلا بالتقوى وهي ضبط النفس عما يوجب البعد عنه تعالى من الرذائل النفسانية والجسمانية.

(من كان لله مطيعا فهو لنا ولي) أي من كان مطيعا لله لا لغيره من النفس والشيطان فهو لنا ولي ذاتا وفعلا لا لغيرنا، والولي فعيل بمعنى فاعل أي ناصر ومحب، أو بمعنى مفعول كما في قولهم « المؤمن ولي الله».

(ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو) أي من حيث أنه عاص فيرجع النقص والعداوة إلى فعله: «لا إلى ذاته، ولذلك تدركه الشفاعة وتنجيه من الخلود في النار مع أعدائهم ذاتا وفعلا يدل على ذلك ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا».

(وما تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع) أي الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات، قال بعض المحققين للورع أربع درجات:

الأولى: ورع التائبين وهو ما يخرج به الإنسان عن الفسق وهو المصحح لقبول الشهادة، الثانية: ورع الصالحين وهو الإجتناب عن الشبهات خوفا منها من الوقوع في المحرمات.

الثالثة: ورع المتقين وهو ترك الحلال خوفا من أن ينجر إلى الحرام مثل ترك التحدث بأحوال الناس لمخالفة أن ينجر إلى الغيبة.

الرابعة: ورع السالكين وهو الإعراض عما سواه تعالى خوفا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة القرب منه تعال وإن علم أنه لا ينجر إلى الحرام.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه; ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة طاعة الله ونصبر عن معاصي الله، فيقول الله عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة وهو قول الله عز

ص:239

وجل: (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب).

* الشرح

قوله: (إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس) العنق الرقبة، والنون مضمومة للاتباع في لغة حجاز وساكنة في لغة تميم، والمراد بها الجماعة من الناس.

(فيقولون كنا نصبر على طاعة الله ونصبر على معاصي الله) لا ريب في أن النفوس البشرية مائلة إلى اللذات، هاربة عن المشتقات، وأن المعاصي لذات حاضرة والطاعات مشقات ظاهرة فالنفس تريد المعاصي وتهرب عن الطاعة. ولذلك ورد في بعض الأدعية «اللهم لا تكلني إلى نفسه طرفة عين فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب إلى الشر وأبعد من اليخر» فمن حاولها بحسن تقديره وملك زمامها بلطف تدبيره حتى صرفا عن مرامها وإستخرجها عن مقامها وحبسها في مرابض العبادة ومرابط الطاعات وصبر على مجاهدتها ملك غنيمة عظيمة هي رأس مال الصابرين وأقوات قلوب السالكين والزاد في السير إلى رب العالمين وأسباب الدخول في الجنة التي أعدت للمتقين، وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة» وإنما جعل الطاعة غنيمة الأكياس وهم الذين لهم جودة القرائح لأنهم يأخذونها بالمحاربة مع النفس الإمارة كما يأخذ الغانمون الغنيمة بالجهاد مع الكفار بل جهادهم أعظم من الكفار كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد رجوعه من بعض الغزوات «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهي جهاد النفس» وإذا حصلت لهم تلك الغنيمة وتمكنت فيهم هذه العزيمة أمكن لهم الدخول في الجنة قبل فراغ الناس لهم تلك الغنيمة وتمكنت فيهم هذه العزيمة أمكن لهم الدخول في الجنة قبل فراغ الناس من الحساب لأن أولئك هم المتقون الذين صبروا في دار الدنيا وأدوا حسابهم فيها، وقد قال الله تعالى (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب» لأن الحساب إنما هو على من خلط عملا صالحا واخر سيئا، وأما المتقون فلا حساب عليهم كما لا حساب على المشركين فإنهم يدخلون النار بغير حساب.

* الأصل

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل.

* الشرح

قوله: (لا يقل عمل مع تقوى) كل عمل بنى على التقوى لا يقل لكونه عظيما في ذاته وكثيرا ينمو عند الله تعالى مع توقفه على كثير من الأعمال القلبية التي لا توجد إلا بالمجاهدات النفسانية،

ص:240

ولا يهدم ولا يلحق بالنية الخسران كما قال عز وجل: (فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم» ثم أكد ذلك وأشار إلى أنه لا ينبغي أن يعد قليلا بقوله:

(وكيف يقل ما يتقبل) لأن العمل مع التقوى مقبول قطعا لقوله تعالى: (إنما يتقبل الله ومن المتقين».

* الأصل

6 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن بعض أصحابه، عن أبان عن عمرو بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة - شيعة آل محمد - كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي، فقال له رجل من يقال له سعد: جعلت فداك ما الغالي؟ قال قوم يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم، قال: فما التالي؟ قال: المرتاد يريد الخير يبلغه الخير يوجر عليه. ثم أقبل علينا فقال: والله ما معنا من الله براءة ولا بيننا وبين الله قرابة ولا لنا على الله حجة ولا نتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعا لله تنفعه ولايتنا، ومن منكم عاصيا لله لم تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا.

* الشرح

قوله: (كونوا النمرقة الوسطى) النمرقة وساده وهي بضم النون والراء وبكسرهما وبغير هاء وجمعها نمارق، ولعل المراد كونوا بين الناس كالنمرقة الوسطى بين النمارق في الشرف والحسن لأن النمرقة الوسطى أشرف النمارق وأحسنها (1) والتفريط، أو كونوا أهل النمرقة الوسطى كما هو شأن أهل الشرف والمجد. أما على حذف المضاف وهو الأهل، أو على إرادتهم من النمرقة مجازا من باب تسمية الحال باسم المحل أو تسمية أحد المتجاورين باسم صاحبه ووجه التشبيه أو الغرض منه هو قوله يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي. وقيل كونوا ذوي النمرقة الوسطى بحذف المضاف، والنمرقة العليا للرسول وعترته المعصومين (عليهم السلام)، والنمرقة الدنيا لعبيد

ص:241


1- 1 - قوله «أشرف النمارق وأحسنها» لا يجب أن يكون الوسطى أشرف النمارق ولا حاجة إلى هذا أيضا بل المراد كون النمرقة الوسطى مستندة للطرفين إذ يعتمد عليها الجلاس من جانبيها بخلاف النمرقة الموضوعة في طرف فإنها يعتمد عليها الجالس في أحد جانبيها، وليس في جانبها الاخر مكان يجلس أحد فيه فيتكأ عليها وبالجملة النمرقة الوسطى وسادة موضوعة في مكان يمكن أن يتكئ عليها جالس من طرف وجالس آخر من طرف آخر بخلاف الوسادة الموضوعة في الطرف إذ لا يتكئ عليها إلا من جانب واحد، وكذلك اتباع الأئمة عليهم السلام يجب أن يرجع كل من الطرفين إليه ويعتمد في رأيه عليه. (ش)

الدنيا وأبنائها فأمر (عليه السلام) بالوسطى، لأن من استقر عليها وتمسك بها اطمأن على الحق واستقر دينه على الهدى وأمن من الضلال والردي كما أن من اتكأ على النمرقة الوسطى استقر عليها ووثق بالراحة مطمئنا آمنا من التعب.

(قال قوم يقولون فينا مالا نقوله في أنفسنا) فسر الغالي بأخص صفاته التي بها يمتاز عن غيره وهو أنه يقول بأن واحدا من الأئمة اله أو يجري عليه ما هو من أخص صفاته تعالى من غلا في الدين غلوا من باب قعد تصلب وتشدد حتى جاوز الحد.

(قال المرتاد يريد الخير) فسير التالي بأنه المرتاد أي الطالب، من ارتاد الرجل الشيء إذا طلبه والمطلوب أعم من الخير والشر فقوله يريد الخير تخصيص وبيان للمعنى المراد هنا (يبلغه الخير يوجر عليه) من الإبلاغ والتبليغ وهو الإيصال، وفاعله معلوم بقرية المقام أي من يوصله إلى الخير المطلوب له يوجر عليه لهدايته وإرشاده.

(ويحكم لا تغتروا ويحكم لا تغتروا) بالغين المعجمة في الموضعين من الاغترار بالولاية والشفاعة وقد ذكرنا سابقا أن الشفاعة قد لا تنال أحدا إلا بعد تلبثه في جنهم زمانا طويلا فلا ينبغي ترك العمل والاغترار بها أو بالفاء فيهما من الفتور في العمل والتكرير للتأكيد أو بأحدهما في الأول والآخرة في الآخر.

* الأصل

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن مفضل بن عمر قال:

كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فذكرنا الأعمال فقلت أنا: مما أضعف عملي، فقال: مه، استغفر الله، ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى، قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال:

نعم مثل الرجل يطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطيء رحله فإذا ارتفع له البال من الحرام دخل فيه ، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه.

* الشرح

قوله: (فقلت أنا ما أضعف على فقال مه استغفر الله) أمره بالاستغفار عن ذلك القول لأنه ظلم وجار حيث وضع الضعف في غير موضعه وفيه مدح للمفضل بأنه من أهل التقوى إلا أنه هو ناقله وجماعة من أصحاب الرجال جرحوه عدا الشيخ فإنه في إرشاده، عده من شيوخ أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وخاصته وبطانته وثاقة الفقهاء الصالحين فإن قلت تضعيف العلم وتقليله اعتراف بالتقصير

ص:242

وإنه مطلوب من كل أحد فكيف أمره بالسكوت ونهاه عن ذلك وأمره بالاستغفار المعشر بأنه خطيئة؟ قلت: الأقوال والأفعال يختلف حكمها باختلاف النيات والقصود وهو لم يقصد بذلك القول أن عمله ضعيف قليل بالنظر إلى عظمة الحق وما يستحقه من العبادة وإنما قصد به ضعفه وقلته لذاته وبينهما فرق ظاهر، والأول هو الاعتراف بالتقصير دون الثاني.

(ثم قال لي أن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى) دل على أن العمل القليل مع التقوى كثير، والعمل الكثير بلا تقوى قليل وبه تبين خطأ المفضل حيث عد الكثير قليلا.

(قلت كيف يكن كثير بلا تقوى) كأنه ظن أنه التقوى ما يقي من النار وهو يصدق على الاعمال الصالحة فحينئذ يستعبد تحقق كثير منها بلا تقوى، وحاصل الجواب أن التقوى فعل الطاعات وترك المحرمات وهو الذي يقي من النار وحينئذ يتحقق كثير من الطاعات بدون التقوى عند فعل المحرمات.

(ويوطئ رحله) كناية عن كثرة الضيافة قضاء حوائج المؤمن بكثرة الواردين على منزله فذكره بعد الإطعام من باب ذكر العام بعد الخاص أم الإطعام مختص بالسائل وهذا بأهل الدعوة.

* الأصل

8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق، عن محسن الميثمي عن يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما نقل الله عز وجل عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال وأعزه من غيره عشيرة وآنسه من غير بشر.

* الشرح

قوله: (وآنسه من غير بشر) أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «اللهم إنك آنس الآنسين بأوليائك » ولا ريب في أن المتقى يمن أوليائه إذ باطنه متوجه إليه وظاهره عاكف على الامتثال بين يديه، ولما كانت أولياؤه في الدنيا غبراء في أبنائها، منفردين عنهم في سلوك سبيله، ومبتهجين بمشاهدة أنوار كبريائه كان الله تعالى هو الانسي لهم وهم برحتهم يألفون وبمناجاته يبتهجون، وبفيض جوده يستفيضون وبالغفلة عنهم يضطربون ويستوحشون.

ص:243

(باب الورع)

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي المغرا، عن زيد الشحام عن عمرو ابن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشيء آخذ به، فقال: أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد وأعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه.

* الشرح

قوله: (فقال: أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد) الوقاية الحفظ يقال وقاه الله السوء يقيه وقاية أي حفظه، واتقيت الله اتقاء أي حفظت نفسي عن عذابه أو عن مخالفته والتقوى اسم منه والتاء مبدلة من الواو والأصل وقوى من وقيت لكنه أبدل ولزمت التاء في تصاريف الكلمة، والورع الكف عن المحارم يقال ورع عن المحارم يرع بكسرتين ورعا بفتحتين ورعة مثل عدة فهو ورع أي كثير الورع وورعته عن الأمر توريعا كففته فتورع، إذا عرفت هذا فنقول إذا نظر العبد في العظمة الإلهية وتفكر في الهيبة الربوبية حصل له خوف وخشية يوجب حفظ نفسه عن المخالفة وميلها إلى الطاعة وترك المعصية ويسمى ذلك الخوف أو الحفظ أو الميل أو الجميع بالتقوى وهي تقوى القلوب المذكورة في الآيات والروايات وقد يسمى أثر ذلك وهو فعل الطاعات وترك المنهيات بالتقوى أيضا. والفرق بينهما بالمعنى الأول والورع وهو ترك ما ينبغي تركه ظاهر.

أما الفرق بينها بالمعنى الثاني وبينه ففيه خفاء يمكن رفعه بتخصيص التقوى بفعل الطاعات أو بتعميم الترك في الورع بحيث يشمل ترك المباحات بل الأعم منها أو بأن ذكر الورع بعد التقوى من ذكر العام بعد الخاص أن كانت التقوى عبارة عن مجموع الفعل والترك أو بالعكس إن كانت عبارة عن كال واحد منهما ثم نقول للورع خمسة أقسام ذكرها أرباب القلوب ولا بأس أن نشير إليها وإن ذكرناها آنفا لأن ذكرها هنا لا يخلو من فائدة ما: الأول: ورع العادلين هو ترك الفسوق.

الثاني: ورع الصالحين وهو ترك ما يحتمل التحريم ولكن رخص في تناوله بناء على الظاهر كطعام الملوك وعمالهم وعطاياهم.

الثالث: ورع المتقين وهو ترك ما ليس في حليته شبهة خوفا من أن يؤدي إلى المحرم أو الشبهة.

الرابع: ورع الصديقين وهو ترك ما ليس في حليته شبهة ولا يخاف من أن يؤدي إلى حرام أو شبهة لعدم تعلقه بالدين

ص:244

كالمباحات أو لاتصاله بمن يكره إتصاله به كما نقل أن ذا النون المصري لحقه جوع وهو مسجون فأرسلت إليه امرأة صالحة بطعام على يدي السبحان فأبي أن يأكله واعتذر بأنه وصل إليه يدي ظالم، يعني أن القوة التي أوصلت إليه الطعام لم تكن طيبة، ومن ذلك ما نقل أن بعض العرفاء كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرتها الامراء فالماء وإن كان مباحا في نفسه لكنه رأى أن النهر حفر بأجرة دفعت من مال حرام.

الخامس: ورع المقربين وهو صرف القلب عن الاشتغال بما سواه تعالى، وينبغي أن يعلم أن الورع كما ذكره بعض أهل التحقيق قد يشبه بالوسواس كمن وجد ثوبين أحدهما لم تلحقه نجاسة والآخر لحقته وغسلت فيترك الصلاة بالمغسول لأنه مسته نجاسة وكمن قبل أحد يده فيغسلها ويقول أن الخروج من عهدة التكليف بيقين على غسلها لأن من الجايز أن يكون بيد من مسه أو بقي من قيل يده نجاسة لا سيما العوام ومن لا يتحفظ ولا يعرف أحكام الطهارة والنجاسة والظاهر أن أمثال هذه الأمور من الوسواس إلا إذا كان المس ممن لا يتحفظ ولا يعرف أحكام الطهارة والنجاسة فإن الظاهر أن الإجتناب منه من الورع.

وقال بعض العامة كان هذا من باب الورع وإنما الوسوسة مثل ما يتفق لبعض الناس من اكثار الماء للوضوء وإكثار التدلك ونحو ذلك والمراء بالاجتهاد المبالغة في طلب الدين وأحكامه والعمل بها من الجهد بالفتح وهو طلب الشيء الموجب لوصوله إلى نهايته، يقال جهد في الأمر جهدا من باب نفع إذا طلبه حتى بلغ نهايته.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن حديد بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع.

* الشرح

قوله: (اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع) أي اتقوا عذاب الله ومخالفته صونوا دينكم عن الضياع والفساد بالورع وترك ما ينبغي الإجتناب عنه من المشتبهات وإن بعد احتمال الحرمة فيها قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «الورع جنة» أي جنة من النار، إذ من ترك ملاذ الدنيا فاز بالعقبى ونجا من سهام النار، وقال بعض أهل المعرفة: رأيت في المنام كان القيامة قد قامت والخلق كلهم في الموقف فرأيت طيرا أبيض يأخذوا واحدا من الموقف ويدخله الجنة فقلت ما هذا الطير الذي من الله تعالى على عباده، فنادى مناد أن هذا الطير شيء يقال له الورع.

* الأصل

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن يزيد ابن خليفة، قال:

وعظنا أبو

ص:245

عبد الله (عليه السلام) فأمر وزهد، ثم قال: عليكم بالورع، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع.

* الشرح

قوله: (فامر وزهد، ثم قال عليكم بالورع فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع) أي لا ينال ما عند الله من الأسرار اللاهوتية والأنوار الملكوتية واللوامع الغيبية والصور العينية والمثوبات الأخروية واللذات الروحانية والدرجات العالية في الدار الباقية إلا بالورع فإن المتورع يحاسب نفسه دائما في حركاتها وسكناتها ويتهمها في كل ما تأمر به فإذا خلص، من مهلكاتها تنور قلبه (1) باب الملكوت وظهرت له لوامع لأنوار ولاحت له لوايح الاسرار مرة بعد خرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية (2) والجد في العبادة والمراقبة ولا عراض عن المشاغل الدنيوية الحسية بالكلية فيحصل له الوجد والشكر والشوق والمحبة فيمحوه تارة بعد اخرى ويجعله فانيا عن نفسه وهكذا حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكية ويصير ورود هذه الأحوال ملكة له وإذا بلغ هذه المرتبة دخل في عالم الجبروت ولا يرى إلا الحي الذي لا يموت ولم له نظامه ونال ماله عند الله كماله وتمامه.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن ابن أبي يعفور،

ص:246


1- 1 - قوله «فإذا خلص من مهلكاتها تنور قلبه» تكلم علماء هذا الشأن في الحالات التي يتبادل على الإنسان من أول سلوكه أن يبلغ ما يمكن بلوغه إليه وقد يقدم بعض المقامات على بعض أحدهم ويؤخره آخرون لاختلاف الحالات الطارية ونظيره رتبة الحكماء في تدرج الإنسان من العقل الهيولاني إلى العقل بالفعل والعقل المستفاد قدم بعضهم العقل المستفاد والآخرون العقل بالفعل باعتبار وقد يكون عقل الإنسان بالنسبة إلى امور عقلا بالملكة وبالنسبة إلى اخرى عقلا بالفعل أو مستفادا، ولا خلاف بين أهل السلوك في أن الورع والاجتناب عن المحارم بل عن الالتفات إلى حظوظ النفس يوجب توجهه إلى العوالم المعنوية وانفتاح باب عالم الملكوت على قلبه وقد علم بالتجربة أن توجه النفس إلى بعض شؤنها يصرفها عن غيرها واللذات والشهوات بعض شؤون النفس والاختلاس من العالم الملكوت أيضا بعض شؤونها يمنع إحديهما الأخرى. (ش)
2- 1 - قوله «في صور مثالية» أول ما يبدو للسالك في المنام فيرى رؤيا صادقة ويشاهد الغيب في صورة مثالية كالعلم في صورة اللبن والمال في صورة القاذورات ثم يراها في اليقظة إذا حصل له ملك النوم من الأعراض عن عالم الحسن ويقيل ويكثر للناس بحسب اختلاف حالاتهم فقد لا يرى المنغمر في الماديات المقطوع عن عالم المجردات رؤيا أصلا أو لا يرى رؤيا صادقة وبعد من يرى في النوم كثيرا ويشهد ما يتفق له بعد ذلك قبل وقوعه وهذا يدله على وجود عالم مجرد وموجودات كاملة في ذلك العالم يعلمون منا يأتي قبل وقوعه ويحصل له مرتبة من عين اليقين بعالم التجرد فإذن يتوجه إلى ذلك العالم ويرغب في العزلة والخلوة على ما ذكره الشارح إلى آخر ما ذكره. (ش)

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه.

* الشرح

قوله: (لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه) أي لا ينفع الإجتهاد في الأعمال المطلوبة والأفعال المرغوبة بلا ورع عن المحرمات والمشتبهات وغيرها فإن احداث الباعث للكرامة لا ينفع من الإتيان بالمانع منها.

* الأصل

5 - عنه، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن الحسن بن زياد الصيقل، عن فضيل ابن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن أشد العبادة الورع.

* الشرح

قوله: (إن أشد العبادة الورع) إذ في كل عبادة جهاد مع النفس الإمارة ولا ريب في أن تفاوت العبادات في الشدة والفضيلة باعتبار تفاوت الجهاد مع النفس في الشدة والضعف ولا في أن الجهاد معها في الورع عن المحرمات أشد فاذن الورع أشد العبادة.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير قال: قال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله (عليه السلام): ما نلقي من الناس فيك؟! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وما الذي تلقي من الناس في؟ فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام فيقول: جعفري خبيث، فقال: يعيركم الناس بي؟ فقال له أبو الصباح: نعم فقال: ما أقل والله من يتبع جعفرا منكم، إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي.

* الشرح

قوله: (إنما أصحابي من اشتد ورعه وعمل لخالقه ورجا ثوابه) في ذكر الرجاء بعد العمل والورع تنبيه على أنهما سبب لرجاء الثواب لا للثواب وعلى نه لا ينبغي لأحد أن يتكل على عمله، غاية ما في الباب له أن يجعله وسيلة للرجاء وقد مر أن الرجاء بدونهما وغرور وحمق وفيه دلالة على أن (عليه السلام) كره ما قاله أبو الصباح لما فيه من الخشونة وسوء الأدب.

* الأصل

7 - حنان بن سدير، عن أبي سارة الغزال، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك، تكن مع أورع الناس.

* الشرح

قوله: (ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس) الظاهر أن الموصول عام وحينئذ معنى التفضيل واضح.

ص:247

* الأصل

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان المنقري، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من الورع من الناس، فقال: الذي يتورع عن محارم الله عز وجل.

* الأصل

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن أبي اسامة قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعادة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا وعليك بطول الركوع والسجود، فان أحدكم إذا أطاع الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت.

* الشرح

قوله: (وحسن الجوار) من حسن الجوار إيصال الخير إلى الجار والتحمل لا ضرار ودفع الضرر عنه وعم الاضرار له وعدم التطلع إلى داره ونحو ذلك.

(وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم) يعني بأعمالكم وأخلاقكم وورعكم فإن الناظر إليها يطلب المتابعة لكم.

(فإن أحدكم إذا أطال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه فقال يا ويله) الهتف الصيحة والصراخ والويل الحزن والمشقة والهلاك من العذاب، وقد يراد به معنى التعجب وأضافه إلى ضمير الغايب دون ياء المتكلم كراهة أن يضيفه إلى نفسه ومعنى النداء فيه يا حزنه ويا هلاكه أحضر فهذا وقتك وأو أنك، فكأنه نادي الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع وهو الندم على ترك السجود لادم (عليه السلام) ولحقوق ما لحقه من اللعن والطرد ويفهم من قوله:

(أطاع وعصيت وسجد وأبيت) أن تأسفه أو لا على تركه طاعة الرب مطلبا واتيان ابن آدم بها وثانيا على تركه خصوص الأمر بأصل السجود وإتيان ابن آدم به وإن كانت السجدتان متغايرتين.

* الأصل

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن أبي زيد، عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عيسى بن عبد الله القمي فرحب به وقرب من مجلسه، ثم قال: يا عيسى بن عبد الله ليس منا - ولا كرامة - من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحد أورع منه.

* الشرح

قوله: (فرحب به) رحب بالتشديد أي قال مرحبا أي أو نزلت مكانا واسعا من الرحب بالضم السعة وبالفتح الواسع وهذا يقال للتعظيم والتكريم.

ص:248

(ليس منا ولا كرامة) أي ليس منا أهل البيت أو ليس من خلص شيعتنا ولعل المراد بالكرامة هي الكون في دار المقامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كما يظهر من الخبر الآتي أو دخول الجنة والفوز بنعيمها بغير حساب.

(وكان في ذلك المصر أحد أورع منه) قيل أراد بالأحد غير الشيعة من أهل الخلاف، والتعميم محتمل، فيه حث بليغ لكل أحد على تحصيل نهاية الورع والله ولي التوفيق.

* الأصل

11 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبي كهمس، عن عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أوصني، قال أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد وأعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه.

* الأصل

12 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع، فإنه، من لقى الله عز وجل منكم بالورع كان له عند الله فرجا، وإن الله عز وجل يقول: (من يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبييين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) فمنا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحون.

* الشرح

قوله: (أعينونا بالورع) الأئمة (عليهم السلام) يتكفلون نجاة الشيعة بالشفاعة وكلما كان ذنوبهم أقل وورعهم أشد وأكمل كانت التنجية والشفاعة عليهم أسهل فلذلك قال (عليه السلام) أعينونا بالورع.

(كان له عند الله فرجا) فرجا في النسخ التي رأيناها بالجيم والنصب والحاء محتمل وهو خبر كان واسمه ضمير يعود إلى اللقاء أو الورع (من يطع الله ورسوله) لا ريب في أن أطاعتهما لا تتحقق بدون الورع وبذلك ينم الاستشهاد.

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا الرجل مؤمنا حتى يكون بجميع أمرنا متبعا مريدا ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا [به] ينعشكم الله.

* الشرح

قوله: (إنا لا نعد الرجل مؤمنا حتى يكون لجميع أمرنا متبعا مريدا) قد ذكرنا آنفا أن المؤمن في عرف الأئمة (عليهم السلام) هو المؤمن الكامل وأن الكمال له مراتب متفاوتة والذي يظهر هنا أن المراد به الفرد الإكمال وهو نادر جدا كما دل عليه ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن

ص:249

أعز من الكبريت الأحمر فمن رأي منكم الكبريت الأحمر».

(كيدوا أعداءنا به ينعشكم الله) الكيد المكر والاحيتال والمراد هنا الحرب وسميت كيدا لاحتيال الناس فيها، والنعش الرفع والإقامة يقال نعشه الله وأنعشه أي رفعه وأقامه كذا في المصباح، وفيه رد على الجوهري حيث قال يقال نعشه الله ينعشه ولا يقال أنعشه الله، والمعنى حاربوا أعداءنا بالورع لتغلبوا عليهم يرفعكم الله كما يرفع درجات المجاهدين وتلك الغلبة أما بقطع ألسنة طعنهم بنسبة الخبث إلى هذه الفرقة الناجية أو ليرجعوا إليهم بمشاهدة حسن أفعالهم ويؤيد هذا ما مر من قوله (عليه السلام) «وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم» والله أعلم.

* الأصل

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن العلاء، عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية.

* الشرح

قوله: (فإن ذلك داعية) أي داعية للناس على الاقتداء بكم إذ مشاهدة الخير في الغير يدعو الطالب القابل المستعد إلى الاقتداء به وهو مجرب، والتاء للمبالغة كما في كافية لا للتأنيث باعتبار المذكورات لأن ذلك إشارة إلى المذكور.

15 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، بن سعيد، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن حمزة العلوي قال: أخبرني عبيد الله بن علي، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام): قال: كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول:

ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية، فيها عشرة آلاف رجل فيهم [من] خلق [ا] لله أورع منه.

* الشرح

قوله: (ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن) المراد بالشيعة خلصهم الذين هم من أهل الكرامة المذكورة سابقا، والخدر بالكسر الستر والجمع خدور، ويطلق الخدر على البيت أن كان فيه امرأة وإلا فلا، واخدرت الجارية لزمت الخدر، وأخدرها أهلها يتعدى ولا يتعدى وخدورها بالتثقيل أيضا وبالتخفيف أي ستروها وصانوها عن الامتهان والخروج لقضاء حوائجها وفيه أن شهرة الصلاح بل اظهاره ليشتهر أمر مطلوب ولكن بشرط أن لا يكون الأظهار لقصد الرياء والسمعة بل لغرض صحيح مثل الاقتداء به والتحفظ عن نسبة الفسق إليه ونحوهما.

ص:250

باب العفة

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج.

* الشرح

قوله: (ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج) لا يبعد أو يراد بالبطن ما يشمل الفم أيضا ويؤيده ما روى من طرق العامة «أكثر ما يدخل النار إلا جوفان الفم والفرج» والعفة في اللغة الامتناع يقال عف عن الشيء يعف من باب ضرب عفة بالكسر وعفافا بالفتح إذا امتنع عنه فهو عفيف، وفي العرف حالة نفسانية تمتنع بها عن غلبة الشهوة. وتلك الآلة من الأخلاق الشريفة الحاصلة من الإعتدال في القوة الشهوية التي هي مبدأ طلب الغذاء وشوق التذاذ بالمواكل والمشارب والمناكح وإعتدالها بأن تقصر في هذه الأمور على قانون الشرع والعقل ولا يتجاوز عن حكمهما وذلك بأن يعف البطن والفم عن الأكل والشرب من الحرام والغيبة والنميمة والقذف والكذب وشهادة الزور والبهتان واللغو الهذيان وغير ذلك من معاصي اللسان ويعف الفرج عن الزناء وما يشبهه ويحلق به الرفث والنظر واللمس وجميع ما حرم من مقدماته وعند ذلك يكون الشرع محفوظا والعقل غالبا وتلك القوة مغلوبة مقهورة لأمره ونهيه. وأما إذا أفرط تلك القوة في طلب اللذات البطنية والفرجية وخرجت عن حكمهما صار الشرع متروكآ مدروسا والعقل مغلوبا مقهورا وصار إلا مير مأمورا والسلطان رعية كما في الأكثر فإن عقولهم صارت خادمة لشهواتهم، مشغولة بفنون التدبيرات والحيل لتحصيل اللذات المذكورة ولو كان من الحرام، ومما ذكر يظهر أن عفة البطن والفرج عبادة أفضل العبادات لأن كل ما يتصف به العبد ويوجب قرب الحق فهو عبادة ولها مراتب متفاوتة في الفضل وأفضلها العفة بكسر القوة الشهوية كسرها مستلزم لكسر القوة الغضبية لأن القوة الغضبية معينة للقوة الشهوية في تحصيل مقتضاها برفع الموانع على وجه التسلط ومن البين أن العفة بكسر هاتين عبادة وأصل لسائر العبادات فهي أفضلها.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان عن أبيه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن أفضل العبادة عفة البطن والفرج.

ص:251

* الشرح

قوله: (أن أفضل العبادة عفة البطن والفرج) وهي الامتناع عن المحرمات والمشتبهات بل عن الإكثار أيضا فإن البطنه توجب خمود الفطنة ومتابعة الشهوة في الفساد تورث الفساد الأمن عصمه الله. والحاصل أن عفتهما كناية عن كسر القوة الشهوية بل الغضبية أيضا لما عرفت وهو أفضل العبادات إذ به يستقيم الظاهر والباطن وبدونه يقع الفساد فيهما وذلك لأن شهوة البطن والفرج والقيام بمقتضاها لا يحصل إلا بالشره بالمال والحرص في الدنيا وجمع زخارفها وهذا لا يحصل إلا بالجاه وحب الرئاسة وهما لا يحصلان إلا بالخصومة مع الخلق وهي تورث الحسد والتعصب والعداوة والحقد والكبر وترك الفضائل الظاهرة والباطنة وتوجب جميع المعاصي ومن ههنا علم أن عفة البطن والفرج أصل لجميع العبادات وأفضلها.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أفضل العبادة العفاف.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن النضر بن سويد عن يحيى عمر ان الحلبي، عن معلى أبي [بن. ح] عثمان، عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (عليه السلام): إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالا قال: فقال له: أي الإجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج.

5 - علي بن إبراهيم، عن النوافلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أكثر ما تلج به امتي النار الأجوفان البطن والفرج.

6 - وبإسناده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث أخافهن على امتي من بعدي الضلالة بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج.

* الشرح

قوله: (وبإسناده قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي بإسناد السكوني أو علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: وقد وقع كل ما خافه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده من الأمور الثلاثة لطغيان قوة الشهوية والغضبية ومتابعة الأهواء النفسانية في الأمور إلا من شذ. قيل: هذا الحديث ليس في كتاب الشهيد الثاني.

* الأصل

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابه، عن ميمون القداح قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما من عبادة أفضل من عفة بطن والفرج.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد محمد، عن علي بن الحكم; عن سيف بن عميرة عن منصور ابن حازم، عن

ص:252

أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبادة أفضل عند الله من عفة بطن وفرج.

باب اجتناب المحارم

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن داود ابن كثير الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال: من علم أن الله عز وجل يراه ويسمع ما يقوله ويفعله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

* الشرح

قوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قد مر تفسيره في باب الخرف.

(قال من علم إن الله عز وجل يراه ويسمع ما يقول) هذا مقام المراقبة وهو يقتضي تجويد العمل وتحسينه لأن من عمل عملا وعلم أن عليه في علمه رقيبا لا يدع شيئا من وجوه الإجادة الاياتي به كما هو مشاهد في أعمال الناس بعضهم لبعض، وينبغي أن يعلم أن للعبد في عبادته ثلاثة مقامات الأول أن يفعلها مستوفاة للأركان والشرائط وهذا هو الذي يسقط معه التكليف وهو مقام أكثر للعابدين، الثاني أن يفعلها كذلك وقد علم أن المعبود جل شأنه يراه ويشاهد وهو مستحضر القلب بذلك وهذا مقام المراقبة. الثالث أن يفعلها كذلك وقد إستفرق في بحر المكاشفة حتى كأنه يرى الله المعبود بالحق وهذا مقام المكاشفة ومقام خاص الخاص كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) «جعلت قرة عيني في الصلاة» والمقام الأول أدني المقامات بحيث لو لم يكن العباد من أهل هذا المقام لم يكن عابدا بل مستهزئا أعاذنا الله من ذلك، والثالث أشرف المقامات وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه (عليه السلام) عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كل عين باكية يوم القيامة غير ثلاث: عين سهرت في سبيل الله، وعين فاضت من حشية الله، وعين غضت عن محارم الله.

* الشرح

قوله: (عين سهرت في سبيل الله) سبيل الله شامل لجميع الخيرات ومنها طلب العلم وهو السبيل الأعظم.

(وعين فاضت من خشية الله) الخشية الخوف والفرق بينهما بأن الخوف تألم النفس من العقاب

ص:253

المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات والتقصير في الطاعات، والخشية خوف يحصل عند الشعور بعظمة الحق وهيبته والحجب عنه اصطلاح جديد حسن عند الاجتماع دون الانفراد.

(وعين غضت عن محارم الله) كناية عن ترك النظر فيما لا يجوز.

* الأصل

3 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام) يا موسى ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع عن محارمي، فإني أبيحهم جنات عدن لا أشرك معهم أحدا.

* الشرح

قوله: (ما تقرب إلى المتقربون بمثل الروع عن المحارمي) هذا أول الأقسام المذكورة وهو ورع العدول فليس التفضيل بالنسبة إلى الأقسام التي بعده بل بالنسبة إلى فعل الطاعات فدل على أن الإجتناب عن المنهيات من العقائد والأعمال أفضل من الإتيان بالطاعات مع إشتراكها في تعظيم الرب اما لأن التخلية أفضل من التحلية كما هو المشهور، أو لأن مخالفته أفخم من موافقته أو لأن المعصية أكثر من الطاعة.

(فأني أبيحهم جنات عدن) أي آذن لهم في دخولها وأنزلهم فيها وهي مقام عال من مقامات الجنة أعدها للورعين لا يدخلها غيرهم.

* الأصل

4 - علي [بن إبراهيم]، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا، ثم قال: لا أعني (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها.

* الشرح

قوله: (قال من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا) قال الله تعالى: (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)، وقال: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم)، وقال: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغد والآصال)، وأصل الذكر التذكر بالقلب ومنه اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم» أي تذكروا. ثم يطلق على الذكر اللساني حقيقة، أو من باب تسمية الدال باسم المدلول ثم كثر استعماله فيه لظهوره حتى صاره هو السابق إلى الفهم فنص (عليه السلام) على إدارة الأول دون الثاني فقط دفعا لتخصيصه بالثاني وإشارة إلى أكمل أفراده مع الايماء إلى أن الذكر اللساني بدون الذكر القلبي ذكر يثاب به. وقال بعض أرباب القلوب ذكر اللسان مع خلو القلب عنه لا يخلو من فائدة لأنه يمنعه من التكلم باللغو ويجعل لسانه معتادا بالخير، وقد يلقى الشيطان إليه أن حركة اللسان بدون

ص:254

توجه القلب عبث ينبغي تركه; فالائق بحال الذكر أن يحضره قلبه حينئذ رغما للشيطان ولو لم يحضره فالائق به أن لا يترك ذكر اللسان رغما لأنفه أيضا وأن يجيبه بأن اللسان آلة للذكر كالقلب ولا يترك أحدهما بترك الاخر فإن لكل عضو عبادة، وأعلم أن الذكر القلبي من أعظم علامات المحبة لأن من أحب أحدا ذكره دايما أو غالبا، وأن أصل الذكر عند الطاعة والمعصية سبب لفعل الطاعة وترك المعصية وهما سببان لزيادة الذكر ورسوخه، وهكذا يتبادلان إلى أن يستولى المذكور وهو الله سبحانه على القلب ويتجلى فيه.

فالذاكر حينئذ يحبه حبا شديدا ويغفل عن جميع ما سواه حتى عن نفسه إذ الحب المفرط يمنع من مشاهدة غير المحبوب وهذا المقام يسمونه مقام الفناء في الله، والواصل إلى هذا المقام لا يرى في الوجود إلا هو، وهذا معنى وحدة الوجود لا بمعنى أنه تعالى متحد مع الكل لأنه محال (1) وزندقة بل بمعنى أن الموجود في نظر الفاني هو لا غيره لأنه تجاوز عن عالم الكثرة وجعله وراء ظهره وغفل عنه فإنهم.

* الأصل

5 - ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) قال: أما والله إن كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه.

* الشرح

قوله: (وقد منا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) أي عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا

ص:255


1- 1 - قوله «لا بمعنى أنه تعالى متحد مع الكل لأنه محال» بل لم يقل به أحد ولا يمكن إن يتفوه به عاقل، وأعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قد يذكرون أحكاما لأمور لا تنفق في الواقع ولا يتحقق إلا نادرا لمزيد التوضيح والبيان كما يذكرون أحكام الخنثى المشكل والمنجم الذي يعتقد الهوية الكواكب وتأثيرها في الحوادث بألوهيتها، مع إنهم يعلمون إنه لا يوجد بعد ظهور الإسلام في هذه الأمة منجم قائل بها وهكذا القائلون بوحدة الوجود في الأمة وفي كل أمة لا يعتقدون اثبات الممكنات وحلول ذات الواجب فيها بل لا يثبتون معه تعالى غيره حتى يحل الواجب في غيره فمرجع وحدة الوجود إلى إنكار الممكنات ونفي الكثرة لا إلى إثبات الكثرات والممكنات وحلول الواجب فيها ومعلوم إن إنكار الممكنات ليس كفرا نعم أن لم يفرض له معنى صحيح كان خرافي نظير مذهب السوفسطائية وإن أول بمعنى صحيح فهو حق وليس كل رأي بالطل خرافي كفرا وهذا البيت مشهور من الحلاج: بين وبينك انييي ينارغنى * فارفع بلطفك انييي من البين وهذا صريح في إن اعتقادهم نفي شخصية الممكن عن نظره حتى لا يرى غيره تعالى لا نفي حقية الواجب مستهلكا في الممكنات وبعبارة أخرى الظاهر عند غريهم اثبات ممكن وواجب متغايرين متفاصلين مستقل أحدهما عن الاخر وأما الاتحاد وهو إرجاع الاثنين إلى الواحد فلا يتعقل إلا بنفي أحدهما لا محالة فإن نفي أحدهم استقلال الواجب وأثبت الممكن فهو كفر وإن نفي الممكن وأثبت الواجب فهو ليس بكفر وهذا مراد الشارح. (ش)

من عمل كقرى الضعيف وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وإعانة المظلوم وغيرها فجعلناه هباء منثورا فلم يبق له أثر، والهباء غبار يرى في شعاع الشمس الطالع من الكوة من الهبو وهو الغبار وفيه دلالة على حبط الأعمال بالفسق سواء كان كافرا أم غيره، وخصه بعض المفسرين بالكفر وهو على تقدير الكفر ظاهر إذ لا عبرة بالفرع بعد فقد الأصل وهو الإيمان وأما على تقدير غيره فلعل المراد به حبط ما يساويه مع بقاء الزائد، وفي هذا المقام كلام طويل (1) القبطية بالكسر وهي ثياب بيض رقاق تتخذ من كتان بمصر، وفي تشبيه أعمالهم بها تنبيه على أن رد أعمالهم ليس من أجل فسادها في نفسها بل لأجل إرتكابهم للحرام سواء كان حق الله تعالى أو حق الناس ولعل ذلك فيمن أخذه عادته. والله أعلم.

* الأصل

6 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ترك معصية لله مخافة الله تبارك وتعالى أرضاه الله يوم القيامة.

* الشرح

قوله: (من ترك معصية لله) المعصية تشتمل ترك الواجبات وفعل المنهيات ولم يذكر ما أرضاه الله به لأن عقل البشر لا يصل إلى كنه حقيقته ورضوان من الله أكبر.

ص:256


1- 1 - قوله «وفي هذا المقام كلام طويل» وهو الاختلاف المشهور في الإحباط بيننا وبين المعتزلة ومذهبنا عدم الإحباط ويأول كل ما يوهم منه خلاف على عدم كون العمل المحبط ثوابه صحيحا في الأصل لا أنه صحيح يستحق به الثواب ويرتفع بالفسق فإن عدم إيصال الثواب المستحق إلى صاحب العمل ظلم وكلام الشارح مشتبه والحق واضح. (ش)

باب أداء الفرائض

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام) من عمل بما إفترض الله عليه فهو خير الناس.

* الشرح

قوله: (من عمل بما إفترض الله عليه فهو من خر الناس) الظاهر أن لفظ «ما» شامل للأعمال القلبية والبدنية والمالية، والخيرية (1) المطلق من وصل إلى مرتبة العليا منها.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إصبروا وصابروا ورابطوا) قال: إصبروا على الفرائض.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن حماد بن عيسى، عن أبي السفاتج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إصبروا وصابروا ورابطوا) وقال: إصبروا على الفرائض وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام).

* الشرح

قوله: (قال إصبروا على الفرائض) لم يرد قصر الصبر عليها بل ذكرها لأن الصبر عليها أعظم والظاهر أن ترك الحرام داخل فيه لأنه أيضا فرض.

* الشرح

(ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام)) بالنفس والمال والخدمة والانقياد لهم والإنتظار لفرجهم.

ص:257


1- 1 - قوله «الخيرية تتفاوت» الخير يستعمل بمعنى التفضيل وهو المراد بقرينة المقام ولا تتفاوت مراتبه والأولى أن يقال التفضيل بالنسبة إلى من يعمل بالمستحبات ويترك الفرائض فمن عكس وعمل بالفرائض وترك النوافل خير منه وهو تفسير المجلسي رحمه الله تعالى. (ش)

* الأصل

وفي رواية ابن محبوب، عن أبي السفاتج [وزاد فيه] (فاتقوا الله ربكم فيما إفترض عليكم).

* الشرح

قوله: (وفي رواية ابن محبوب عن أبي السفاتج وزاد فيه واتقوا الله ربكم فيما إفترض عليكم) ليس في بعض النسخ قوله «وزاد فيه» ولعل التقوى فيما إفترض وهو الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المنهيات تفسير للصبر.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إعمال بفرائض الله تكن أتقي الناس.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله تبارك وتعالى: ما تحبب إلي عبدي بأحب مما إفترضت عليه.

* الشرح

قوله: (قال الله تعالى ما تحبب إلى عبدي بأحب مما إفترضت عليه) مثله ما روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه «يقول الله عز وجل ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضت عليه» ولعل السبب فيه أنه تعالى عالم بالأسباب التي تقرب إلى محبته وكرامته من بعد عنه ينفسه وهواه وعادته فجعل أكبرها فرائض لعظم حرماته وأوعد بالنار حن ضيعه وفرط فيه فيجب على العبد تعظيمه والمبادرة إليه والمبالغة في أحكامه وتفريغ القلب عما يشغله عنه وجعل أصغرها نوافل وجعل قبول النوافل موقوفا على أداء الفرائض ومتمما لها ولزيادة التقرب بها ومانعا من التعرض لزهرات الدنيا ومباحاتها بعد الفرائض فينبغي للعبد أن لا يتهاون بها بالاشتغال بالنوافل فيترك الأصل ويتمسك بالفروع فيفوته الفرع أيضا ولا يقبل منه، بل ينبغي أن يهتم بالفرائض ثم بالنوافل لتكمل فرائضه وتزداد محبته.

ص:258

باب استواء العمل والمداومة عليه

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة، ثم يتحول عنه إن شاء إلى غيره ودلك أن ليلة القدر يكون فيها في عامة ذلك، ما شاء الله أن يكون.

* الشرح

قوله: (إذا كان الرجل على عمل فليدم عليه سنة) لعل المراد بالعمل علم المندوب كالدعاء وسائر المرغبات بقرينة جواز التحول وأما الفرائض فيجيب دوامها على الوجه المقدر ولا يجوز تركها وفي الدوام منافع جليلة هي إرتياض النفس في العبادة وإعتيادها عليها وثبات القدم فيها وضبطها عن التقلب والإعتياد به ورجاء القبول وإن لم تكن ابتداء من أهله كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن العبد ليقول اللهم اغفر لي وهو معرض عنه، ثم يقول اللهم اغفر لي وهو معرض عنه، ثم يقول اللهم اغفر لي فيقول سبحانه للملائكة ألا ترون إلى عبدي سألني المغفرة وأنا معرض عنه ثم سألني المغفرة وأنا معرض عنه، ثم سألني المغفرة وعلم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا أشهدكم أني قد غفرت له» وتوقع مضاعفة الاجر بوقوعها في الأوقات الشريفة التي تكون في السنة مثل ليلة القدر وهي خير من ألف شهر والعبادة فيها كذلك. وفي قوله «ثم يتحول عنه إن شاء إلى غيره» إشارة إلى أن له تركه مع بدل اما لا معه فلا ينبغي لأنه تعطيل في العبودية ولا يليق ذلك بحال العابد العالم لله.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

أحب الأعمال إلى الله عز وجل ماذا [و] ما عليه العبد وإن قال.

* الشرح

قوله: (أحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم عليه العبد (1) بدوام القليل تدوم الطاعة والعبادة والعبودية وهو أحسن من العبادة في زمان وتركها بعده بالكلية ولأنه

ص:259


1- 1 - قوله «ما داوم عليه العبد» يدل على ما مر من أن تأثير العمل في الجزاء بتأثير في النفوس وتجسم ما أثر فيها. (ش)

يربو ثواب القليل مع المداومة على ثواب الكثير المنقطع كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «قليل يدوم عليه أرجا من كثير مملول» وقوله «قليل يدوم عليه خير من كثير مملول « أي الذي يمل فيه فإن البركة فيه أكثر والثواب فيه أزيد والعبودية فيه أدوم وتأثيره في تنوير القلب بتكراره أشد، واحتمال كون رضاه سبحانه فيه أعظم كما رواه الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال «إن الله أخفى في طاعة فلا تستصغروا شيئا من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لاتعلم».

3 - أبو علي الأشعري، عن عيسى بن أيوب، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، عن نجبة، أن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من شيء أحب إلى الله عز وجل من عمل يداوم عليه وإن قل.

* الأصل

4 - عنه، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: إني لأحب أن أقدم على ربي وعملي مستو.

* الشرح

قوله: (إني لأحب أن أقدم علي ربي وعملي مستو) استوى الأعمال اعتدلت وتساوت ولم يفضل بعضها على بعض ولعل المراد به تساوي أفراد كل نوع منه في الكم والكيف بحيث لا يكون بعضها أضعف من بعض وما روى من «أن من ساوي يوماه فهو مغبون» ولعل المراد به الحث على الاكثار في الخير نظرا إلى يوم السابق لأن الأعمال كالفسوق يجر بعضها إلى بعض، أو المراد به التساوي في القرب والنزلة لأن إضافة عمل إلى عمل قبله وإن تساويا لأبد أن تكون موجبة لزيادة القرب وإلا فتكون في العمل خلل وفي النية نقص وهو غبن فاحش فلا ينا في المساواة بالمعنى المذكور.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن جعفر بن بشير، عن عبد الكريم بن عمرو، عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك أن تفرض على نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالا.

ص:260

باب العبادة

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غني ولا أكلك إلى طلبك وعلي أن أسد فاقتك، واملأ قلبك خوفا مني وإن لا تفرغ لعبادتي أملأ قلبك شغلا بالدنيا، ثم لا أسد فاقتك، وأكلك إلى طلبك.

* الشرح

قوله: (يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غني) التفرغ للعبادة والجد فيها وعدم ثقلها على النفس لا يحصل إلا بنزع القلب عن شهوات الدينا، وقطع التعلق بعلائقها، والتحرز عن المعاصي وكسر القوة الشهوية والغضبية، فإذا حصل ذلك حصل الشوق إلى الله والمحبة له واللذة بعبادته ومشاهدة الأسرار اللاهوتية والأنوار الربوبية ورسوخ القلب في الصرف عن الدنيا بحيث لا يوازن بواحد منها الدنيا وما فيها وغني القلب عبارة عن حول هذه الأمور له ومن ثمة قيل سعادة المراء معرفة الرب ودوام ذكره وخلوص العبادة له فإن التمرن عليها يوصله إلى مقام القرب والمحبة والإعراض عن غيره.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا، فإنكم تتنعمون بها في الآخرة.

* الشرح

وله (يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا) الباء اما صلة أو سببية لان العبادة غذاء روحاني بها يربو الروح وتزداد قوته وسبب للرزق وسعته كما قال (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب».

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الناس من عشق العبادة، فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر.

* الشرح

قوله: (أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها) عشق يعشق عشقا من باب تعب والاسم

ص:261

العش بالكسر وهو الإفراط في المحبة أي أحبها حبا مفرطا من حيث أنها وسيلة إلى المحبوب الحقيقي وذريعة للوصول إليه والقرب منه فحبها تابع لحبه وفي قوله «أم على يسر» دلاله على أن السير لا ينافي حبها وتفريغ القلب من غيرها لأجلها وإنما المنافي له تعلق القلب به. قيل ذكرت الحكماء في كتبهم الطبية إن العشق ضرب من الماليخوليا الجنون والأمراض السوداوية وقرروا في كتبهم الإلهية أنه من أعظم الكلمات وأتم السعادات وربما يظن أن بين الكلامين تخالفا وهو من واهي الظنون فإن المذموم هو العشق الجسماني الحيواني الشهواني والممدوح هو الروحاني الإنساني النفساني والأول يزول ويفنى بمجرد الوصال والاتصال والثاني يبقي ويسمو أبد الآباد على كل حال.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن شاذان بن الخليل قال: - وكتبت من كتابه بإسناده له، يرفعه إلى عيسى بن عبد الله قال: - قال عيسى بن عبد الله لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما العبادة؟ قال: حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها، أما إنك يا عيسى لا تكون مؤمنا حتى تعرف الناسخ من المنسوخ، قال: قلت: جعلت فداك وما معرفة الناسخ من المنسوخ؟ قال: فقال:

أليس تكون مع الإمام موطنا نفسك على حسن النية في طاعته، فيمضي ذلك الإمام ويأتي إمام آخر فتوطن على حسن النية في طاعته: قال: قلت: نعم، قال: هذا معرفة الناسخ من المنسوخ.

* الشرح

قوله: (قال حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها) لعل المراد بهذه الوجوه الأئمة (عليهم السلام) واحد بعد واحد لأنهم الوجوه التي يطاع الله تعالى منها لإرشادهم وهدايتهم وبالطاعة الطاعة المعلومة بتعليمهم أو إطاعتهم والانقياد لهم وبحسن النية تعلق القلب بها من صميمة بلا منازعة ولا مخاطرة كم قال جل شأنه (فلا وربك لا يؤمنون - إلى قوله - ويسلموا تسليما» ويحتمل أن يراد بالوجوه وجوه العبادات وأنواعها وبحسن النية تخليصها عن شوائب النقص.

قوله: (أما أنك يا عيسى لا تكون مؤمنا حتى تعرف الناسخ من المنسوخ قال قلت جعلت فداك وما معرفة الناسخ من المنسوخ؟) دل على جواز الخطاب بالمجمل وهو ما لم يتضح دلالته أو بالعام المراد به بعض أفراده أو بالمحتمل وقد بينا جوازه في أصول الفقه وقالت المعتزلة: لا يجوز لأنه تجهيل للمخاطب وهو قبيح من الحكيم ولا نسلم أنه تجهيل بل هو تقرير للحكم وتثبيت له في ذهن السامع حيث يطلبه والمفهوم بعد الطلب أعز من المنساق بلا طلب وباعث للثواب له لقصده الامتثال بعد البيان غايته لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ص:252

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم (عليه السلام) عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [إن] العبادة ثلاثة. قوم عبدوا الله عز وجل خوفا، فتك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة.

* الشرح

قوله: (قال إن العابدة ثلاثة) أي العبادة المترتب عليها الثواب والكرامة في الجملة ثلاثة أقسام وغيرها مثل عبادة المرائي ونحوها ليس بعبادة فليس بداخل في القسم.

(قوم عبدوا الله) أي عبادة قوم عبدوا الله عز وجل خوفا من ناره حتى لو لم تكن النار لم يعبدوه فتلك عبادة العبيد إذ العباد فيها شبيه بالعبد في فعله خوفا من السيد وتحرزا من عقوبته وعبادة قوم عبدوه طلبا لثوابه ونعيم الجنة فتلك عبادة الاجزاء إذ حالهم في العبادة مثل حال الأجزاء في المعاملة لو لم يكن الأجر لم يعلموا وعبادة قوم عبدوه لحبهم له واستغراق قلوبهم في ذكره واعتقادهم بأنه أهل للعبادة وغاية الخشوع له فتلك عبادة الأحرار الذين لا ينظرون إلا إليه ولا يعكفون إلا عليه ويغفل قلوبهم بالكلية عن الاغيار فضلا عن الجنة والنار وهي أفضل العبادة لخلوصها من جميع الجهات. وفي صيغة التفضيل دلالة على ان العبادة على الوجهين السابقين أيضا عبادة صحيحة لها فضل في الجملة فيكون حجة على من قال ببطلان عبادة من قصد التحرز عن العقاب أو الفوز بالثواب.

* الأصل

6 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أقبح الفقر بعد الغني وأقبح الخطيئة بعد المسكنة وأقبح من ذلك العابد لله يدع عبادته.

* الشرح

قوله: (ما أقبح الفقر بعد الغني) أي وجود الفقر بعد الغني وتعيش العني بعيش الفقير. (وأقبح الخطيئة بعد المسكنة) لضعف آلتها وقلة أسبابها.

(وأقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته) وكان السر فيه إن كل واحد منهم انتقل من المقام الأعلى إلى المقام الأدنى. ومن البين إن مقام الطاعة ارفع من مقام الغني والمسكنة فترك الطاعة أقبح.

* الأصل

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عاصم بن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: من عمل بما إفترض الله عليه فهو من أعبد الناس.

ص:263

* الشرح

قوله: (من عمل بما إفترض الله عليه فهو أعبد الناس) كان الموصول عام وحينئذ وجه التفضيل ظاهر.

ص:264

باب النية

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي، حمزة، عن علي ابن الحسين (عليهم السلام) قال: لا عمل إلا بنية.

* الشرح

قوله: (لاعمل إلا بنية) قال المحقق الطوسي في بعض رسائله النية هي القصد إلى الفعل وهي واسطة بين العلم والعمل إذ ما لم يعلم الشيء لم يمكن قصده وما لم يقصده لم يصدر منه، ثم لما كان غرض السالك العالم هو الوصول إلى مقصد معين كامل على الإطلاق وهو الله تعالى لابد من اشتمالها على قصد التقرب به وعرفها العلامة في القواعد بأنها إرادة إيجاد الفعل على الوجد المأمور به شرعا. وأراد بالإرادة الفاعل فخرجت إرادة الله تعالى لأفعالنا وبالفعل ما يعم توطين النفس على الترك فدخلت الصوم والإحرام وأمثالهما، وبالمأمور به ما يرجح فعله شرعا فدخل المندوب وخرج المباح.

إذا عرفت هذا فنقول: إستدل الأصحاب بمثل هذا الخبر وبقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين الدين» على أنه لابد في العبادات من النية حتى قال بعضهم النية بمنزلة الروح والعبادة بمثابة البدن وقال بعضهم النية بذر والعبادة زرع والإخلاص ماء. ومثل هذا الخبر رواه مسلم بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال «إنما الأعمال بالنية وإنما لإمرىء ما نوى» قال القرطبي ذكر الأئمة أن هذا ثلث الإيمان وقيل ربعه وأن أصول الدين ثلاثة أحاديث أو أربعة هذا أحدهما، وقال المازري: قال الشافعي: هو ثلث الإسلام وفيه سبعون بابا من الفقه وأجمع المسلمون على صحته.

وقالت الأئمة ولكنه لم يتواتر، وقال الأبي تأمل فيه فإن ابن الصلاح قال لم يتواتر إلا حديثان حديث «إنما الأعمال بالنيات» وحديث «من كذب على متعمدا» وحكى الخطابي عن أئمتهم أنه ينبغي لمن صنف كتابا أن يبدأ بهذا الحديث ليبعث الطالبين على تصحيح النية.

ثم نقول النفي والاستثناء للحصر قد يكون مطلقا وقد يكون باعتبار أمر خاص مثل ما زيد إلا قائما فإن الحصر فيه بالنسبة إلى العقود مثلا دون ساير الصفات والضابط في ذلك إنه إن دلت قرينة على تخصيص الحصر باعتبار أمر معين فهو للحصر باعتبار ذلك الأمر وإلا فهو للحصر المطلق وانظر الحصر في الحديث من أي النوعين هو وتعرف ذلك بعد أن تعرف أنه لابد من تقدير محذوف يتم

ص:265

به المعنى ويحتمل أن يكون التقدير لاعمل على وجه الكمال إلا بالنية، ويحتمل أن يكون لاعمل على والأكثر أولى ولأن نفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة، وإذا تعذر حمل اللفظ على الحقيقة وجب حمله على أقرب المجازات كما بيناه في أصول الفقه، وعلى هذا يفهم منه إشتراط النية في الأعمال كما ذهب إليه الأصحاب.

ثم الظاهر أن لفظ العمل يشمل عمل الجوارح والقلب وتخصيصه بالأول لاوجه له ولابد من تخصيص عمل الجوارح باخراج مالا يحتاج إلى النية كغسل الثوب والبدن الظروف من النجاسات وتخصيص عمل القلب باخراج النية لألا تتسلسل وفيه دلالة على أن المعتبر في ألفاظ الإيمان والنكاح وغيرها من العقودات والإيقاعات النية دون الألفاظ وحدها إلا ما خرج بالدليل مثل ما ثبت من أن في الحلف تعتبر نية المدعي وفي الإقرار ويحكم على الظاهر ولا يسمع دعوى عدم القصد.

* الأصل

2 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني: عن أبيه عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله، وكل عامل يعمل على نية.

* الشرح

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله) الحديث متفق عليه بين العامة والخاصة وله وجوه:

الأول: أن نية المؤمن اعتقاد الحق وإطاعة الرب لو خلد في الدنيا وهي خير من عمله إذ ثمرتها الخلود في الجنة بخلاف عمله فإنه لا يوجب الخلود فيها ونية الكافر اعتقاد الباطل ومعصية الرب لو خلد فيها وهي شر من عمله إذ ثمرتها الخلود في النار بخلاف عمله يدل على هذا الوجه حديث آخر هذا الباب. وإضافة إلى المؤمن والكافر فإن الوصف مشعر بالعلية.

الثاني: أن المؤمن ينوي خيرات كثيرة خارجة عن قدرته وهو يثاب بها بدون عمل فنيته بهذا الاعتبار خير من عمله لأن ثوابها أكثر من ثوابه كما ديل عليه الخبر الآتي والكافر ينوي شرورا كثيرة لا يقدر على العمل بها فنيته شر من عمله ولا ينافي في ذلك ما روى من «أن العبد إذا همه بشر لم يكتب عليه شيء حتى يعمل» لأن كون النية شرا لا ينافيه عدم كتب المنوى وعدم العقوبة به على سبيل التفضيل على أن أكثر العامة والمتكلمين والمحدثين ومنهم القاضي البيضاوي ذهبوا إلى أنه يؤاخذهم سيئة إذا بلغ مرتبة العزم والتصميم وتوطين النفس على الفعل لكن بسيئة العزم والتوطين لأنها معصية لا بسيئة المعزوم عليه لأنه لم يفعله فإن فعله كتب سيئة ثانية.

الثالث: أن النية روح العمل والعمل بمثابة البدن لها فخيرية العمل وشريته تابعتان لخيرية النية وشريتها كما أن شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته فبهذا الاعتبار نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله.

الرابع: أن نية المؤمن وقصده أو لاهو الله

ص:266

وثانيا العمل لأنه يوصل إليه ونية الكافر وقصده غيره تعالى وعمله يوصله إليه وبهذا الاعتبار صح ما ذكر، وهذان الوجهان إستفدنا هما من كلام المحقق الطوسي في بعض رسائله وإن لم يكن صريحا فيهما.

الخامس: أن «خيرا» ليس للتفضيل و «من» تبعيضية صفة لم يعني أن نية المؤمن عمل خير من جملة أعماله ونية الكافر عمل شر من جملة أعماله وهو منقول عن السيد المرتضى وبه يندفع التنافي بين هذا الحديث وبين ما روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل الأعمال أحمزها»، وأما الوجوه السابقة فيرد على ظاهرها أن العمل أشق من النية فيكون خير أمنها بحكم هذا المروى فكيف تكون النية خيرا منه؟ والجواب: أن العمل ليس أشق من النية بل الأمر بالعكس لأن النية ليست مجرد التلفظ مخصوص وحصول معناه في القلب بل حصولها متوقف على تتزيه الظاهر والباطن عن الرذائل كلها وتوجه القلب إلى المولى بالكلية وإعراضه عن جميع ما سواه وتطهير العمل عن جميع ما يوجب نقصه وفساده ولا ريب في أن النية على هذا الوجه أشق من العمل كما يدل عليه ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أن تصفية العمل أشد من العمل وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد» الحديث طويل مذكور في كتاب الروضة أخذنا منه موضع الحاجة، ثم أشار إلى أن قبول العمل ورده وخيره وشره تابعة للنية بقوله «وكل عامل يعمل على نية أن خيرا فخير وإن شرا فشر» ومن طرق العامة «إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم» يعني إلى نياتكم من باب إطلاق المحل على الحال.

* الأصل

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد المؤمن الفقير ليقول: يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير، فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إن الله واسع كريم.

* الشرح

قوله: (كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله) يمكن ان يجعل تفسيرا لما مر من أن نية المؤمن خير من عمله لأن المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يساعده القدرة أو الزمان على فعلها فيثاب بها فيكون الثواب على النية أكثر من الثواب على العمل فتكون النية خيرا منه وهذا الوجه ينسب إلى ابن دريد اللغوي كما صرح به الشيخ في الأربعين، ولعل المراد أنه يكتب له أجراه مضاعفا كما يقتضيه لفظ المثل وأن أجر النية من حيث هي مثل أجر العمل من حيث هو، لا أنه مثل أجره مع النية فلا يلزم زيادة الشيء على نفسه أو الغاء العمل وإثابة المؤمن بنية أمر متفق بين الأمة روى مسلم بإسناده عن رسول

ص:267

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال «من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه» وبإسناد آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال «من سأله الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» قال المازري وفيهما دلالة على أن من نوى شيئا من أفعال البر ولم يفعله لغدر كان بمنزلة من عمله، وعلى استحباب طلب الشهادة ونية الخير وقد صرح بذلك جماعة من علمائهم حتى قال الأبي لو لم ينوه كان حاله حال المنافق لا يفعل الخير ولا ينويه، وقيل «مر رجل من بني إسرائيل سنة القحط على جبل من الرمل فقال: لو كان حنطة لأنفقته على الفقراء فأوحى الله رسول ذلك العصر أن يقول له إن الله قبل صدقتك وأعطاك أجر إنفاقه لو كان حنطة».

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن أسباط، عن محمد بن إسحاق بن الحسين، عن عمرو، عن حسن بن أبان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حد العبادة ألتي إذا فاعلها كان مؤديا؟ فقال: حسن النية بالطاعة.

* الشرح

قوله: (فقال حسن النية بالطاعة) لعل المراد به حسن النية بطاعة الإمام والإقبال عليها من صميم القلب أو المراد به تزكية نية العبادة عن جميع النقائص وتصفيتها عن غير وجه الله تعالى، وجعله حد العبادة لأن العبادة به عبادة فيفهم أنه شرط لقبولها.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن أحمد بن يونس، عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) قال: على نية.

* الشرح

قوله: (قل كل يعمل على شاكلته قال على نيته) كان المراد نظرا إلى ظاهر الاستشهاد أن كل أحد بمنزلة من يعمل على نيته فإن كانت الطاعة أبدا فهو مطيع أبدا فيستحق الخلود في الجنة وإن كانت نية المعصية أبدا فهو عاص أبدا فيستحق الخود في النار.

ص:268

باب

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن الأحول، عن سلام ابن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن لكل عبادة عبادة شرة تصير إلى فترة، فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد اهتدى ومن خالف سنتي فقد ضل وكان عمله في تباب أما إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي فمن رغب عن منهاجي وسنتي فليس مني.

وقال: كفي بالموت موعظة، وكفى باليقين غني، وكفى بالعبادة شغلا.

* الشرح

قوله: (ألا أن لكل عبادة شرة ثم تصير إلى فترة فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي فقد اهتدى) الشرة وزان الشدة: الحدة والرغبة والنشاط في العمل والفترة بفتح الفاء الضعف الكسل فيه وأصلها الإنكسار، يقال فتر عن العمل فترة وفتورا إذا إنكسر حدته، ولعل المراد أن للمبتدي في العبادة نشاطا تاما وإرادة حادة ورغبة كاملة تبعث النفس على الجد فيها وتحمل مشاقها فإذا دام ذلك يعتري النفس فتور وضعف عن العبادة إما لملال الطبع وسآمته أو لمنع من جهة الحق عز وجل يمتحن به العباد ليريه عجزه فلا يعجب بعمل نفسه بل يرى تمكنه من العمل بحسن توفيقه أو ليختبر ما عنده من الصدق فإن هو سكن ولم يتألم لذلك فلا يردها عليه فإنه لا يعرف قدرها وإن هو توجع وتضرع وجزع فردها إليه وزاده ثم بين حال الشرة بقوله «فمن صارت شرة عبادته إلى سنتي » أي طريقتي وهي طريقة العدل والاقتصاد ولم تتجاوز عنها فقد اهتدى لأن طريق الإقتصاد قلما يعتريه الفتور وأما المتجاوز عنه فإنه في معرض الفتور لسآمة النفس وملالها غالبا كما يظهر من الباب الآتي. هذا الذي ذكرنا على سبيل الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

قال (كفى بالموت موعظة) الموعظة هي الزاجرة عن الدنيا الركون إليها والداعية إلى الآخرة وقرب الحق وأعظمها هو الموت إذ العاقل إذا تفكر فيه وفي غمراته وما يعقبه من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها والحساب والعقاب وما فعله بأهل الدنيا من قطع أيديهم عنها وإخراجهم منها طوعا أو كرها هانت عنده الدنيا وما فيها واجتهد في الطاعة وتحرز عن المعصية (وكفي باليقين غني) الغني ما يغنى عن غير الله تعالى ويرفع الحاجة إليه واليقين بالله وباليوم الآخر وبحصول ما

ص:269

وعده الله من الجزاء والإرزاق أقوى ما يغني عن غير الله سبحانه لأنه نور موجب لوصول السالك إلى الحق واتصاله به اتصالا معنويا بحيث لا يشاهد غيره فضلا عن الاحتياج إليه (وكفى بالعبادة شغلا) لأن كل شغل غير العبادة فهو لو ولعب يوجب البعد عنه تعالى وتنقطع ثمرته بخلاف العبادة فإنها توجب قربه تعالى وتدوم ثمرته وفيه ترغيب في العبادة وهي مرتبة عظيمة لا يعطيها الله تعالى إلا من يحبه ألا ترى أن الله تعالى حين أراد أن يلبس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلة الشرف والكرامة نسب العبودية إليه فقال «أنزل على عبده الكتاب».

* الأصل

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحجال، عن ثعلبة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لكل أحد شرة ولكل شره فترة، فطوبى لمن كانت فترته إلى خير.

* الشرح

(لكل أحد شرة ولكل شرة فترة فطوبى لمن كانت فترته إلى خير) لعل المراد أن الشرة قد تقضي التجاوز عن حد الإقتصاد وتوجب الكلال والفتور في الأعمال فطوبى لمن كانت فترته إلى الخير وهو القصد لا إلى الإعراض فالإقتصاد أمر مطلوب قد وقع الحث على المتمسك به حيث مدح في الأول من انتهت شرته، إليه، وفي هذا الحديث من رجع عن شرته عند التجاوز وقام عليه.

وللحديث احتمالات آخر ذكرناها في آخر كتاب العلم.

ص:270

باب الإقتصاد في العبادة

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا الدين متين فأغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقي. محمد بن سنان، عن مقرن، عن محمد بن سوقة، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح

قوله: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) اسم الدين يقع على جميع ما تعبد الله به خلقه من توحيده وطاعته والانقياد لحكمه وهو جملة الإسلام كما قال تعالى «إن الذين عند الله الإسلام» ووصفه بأنه متين أي قوي شديد من متن الشيء من متن الشيء - بالضم - متانة اشتد وقوى فهو متين التنبيه على أنه لا يقدر على تحمله إلا المؤمنون ذلك كما قال الله تعالى في وصف الصلاة ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين» وهم المؤمنون العارفون، وإلا يغال السير الشديد، يقال أوغل القوم وتوغلوا إذا أمعنوا في سيرهم، والمنبت الرجل الذي انقطع به في سفره وعطبت راحلته وهو مطاوع بته بتا من باب ضرب وقتل أي قطعه يعني سيروا فيه سيرا سريعا وأبلغوا الغاية القصوى منه بالرفق ولا تحملوا على أنفسكم من العمل ما لا تطيق فينقطع كالذي لا يقطع طريقه ويهلك راحته. والمراد بالرفق الإقتصاد في العبادة وترك التعمق فيها لأن التعمق فيه يوجب غالبا كراهة النفس لها وبغضها إياها والإعراض عنها وهو مذموم قطعا ولقد أحسن في إيضاح المقصود بالإتيان بالتمثيل البديع لأنه شبه النفس الناطقة في السير إلى الله بالمسافر. وشبه البدن وقواه بالمركوب لأن النفس في سيرها تحتاج إليهما كما أن المسافر في سيره يحتاج إلى المكروب وكما أن المسافر إذ جد في السير جدا وحمل على مركوبه أثقالا كثيرة يهلك دابة قبل أن يقطع سبيله ويبلغ مقصده فيبقى متحيرا كذلك النفس إذا جدت في طرق الأعمال وحملت على مركوبها أعمالا كثيرة شاقة تمل البدن وتكل قواه وذلك يضعفهما ويهلكهما فتبقى متحيرة قبل الوصول إلى المطلوب فلا بد لها من ترك الإفراط والتفريط واختيار التوسط كما أنه لا بد من ذلك لذلك المسافر.

وبالجملة العبادة خلاف مقتضى الطبع فلا بد من أه يسلك فيه سبيل التدريج

ص:271

والمداراة ليكون له نشاط في الأعمال والأفعال وهذا في المرغبات وأما المفروضات فلا بد من أدائها وتعاهدها في محلها وإن كانت ثقيلة.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة.

* الشرح

قوله: (قال لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة) زجر بهذا الكلام المبالغين في الجد والإجتهاد وتحمل مشاق العبادات فربما كرهت النفس العبادة وذهب أجرها وندبهم إلى أخف العبادات على النفوس وأسهلها ليعملها بخفة ونشاط وطواعية لا بعسر وكراهية، فيكون ذلك أنشط لها في عبادة الله وأبلغ في حضور القلب مع الله واجتماع الهم بين يديه فيقبل الله عليه ويوصله إليه، وبالجملة أحاديث الباب ظاهرة في الأمر بالرفق في العبادة وترك طلب النهاية فيها إذ خير الأمور أوساطها، فلا يستحسن قيام جميع الليالي وصيام جميع الأيام فإن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا ولان العمل وإذا قال دام واجتمع فقليله لطول الزمان كثير وخف على النفس تعهده بخلاف إذا كثر ولم تضبطه عادة، فإنه قد يؤدي إلى الترك فيحرم عن العبادة وهو مع ذلك مكره لها وهذا مذموم جدا، ألم تسمع إن اشرف العابدين وسيد المرسلين كان ينام ويأكل ويشرب وينكح ويصاحب الناس ويصوم ويفطر ومع ذلك كان قادرا على أكثر من ذلك، كان ذلك تعليم للأمة وترحم لهم وتعطف عليهم ولذلك لم يكلفهم الله إلا ما دون الطاقة بكثير، نعم من استيقن أنه لا يفتر بكثرة العبادة ولا يبغضها بطول مداومتها لا يبعد أن يكون ذلك راجحا بالنظر إليه كما ورد الأمر بعبادات كثيرة المشاق مثل صيام الدهر وبعض الصلوات ونحوهما.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل إذا أحب عبدا فعمل [عملا] قليلا جزاه بالقليل الكثير ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم عن منصور، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مر بي أبي وأنا بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العباد، فرآني وأنا أتصاب عرقا، فقال لي: يا جعفر يا بني إن الله إذا أحب عبدا أدخله الجنة ورضي عنه باليسير.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:272

اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بني دون ما أراك تصنع، فإن الله عز وجل إذا أحب عبدا رضي عنه بالسير.

6 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): يا علي إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك [ف] - إن المنبت يعني المفرط لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما وأحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا.

* الشرح

قوله: (فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما وأحذر حذر من يتخوف أن يموت غدا) أي أعمل في الطاعات والخيرات برفق وتأن وأخذ حظ من جميع أنواعها كعمل من يرجو أن يكون أجله ممتدا إلى الهرم وأحذر عن المنهيات كحذر من يخاف أن يموت غذا ولعل السر فيه أن العبادات أعمل وفيه تعب الأركان وشغل عما سواها فأمر فيها بالرفق والاقتصاد كيلا تكل بها الجوارح ولا تبغضها النفس ولا تفوت بسببها حق من الحقوق فاما الحذر من المعاصي والمنهيات فهو ترك واطراح ليس فيه كثير كد ولا ملالة ولا شغل عن شيء فيترك ترك من يخاف أن يموت غدا على معصية الله تعالى ولهذا قال (عليه السلام) «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا» وقيل الفرق أن فعل الطاعات نفل وفضل وترك المخالفات حتم وفرض.

ص:273

باب من بلغه ثواب من الله على عمل

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه، كان له، وإن لم يكن على ما بلغه.

* الشرح

قوله: (من سمع شيئا من الثواب على شي ء فصنعه) الحديث حسن الطريق مضمونه مؤيد بالخبر الذي بعده (1) بابويه عن علي بن موسى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن هشام بن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «ومن بلغه. شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقله» كان المراد أن من سمع رواية صادقه بحسب ظنه دالة على الثواب المترتب على فعل شيء أو تكره فصنع ذلك الشيء وأتى به طلبا لذلك الثواب كان له أجر ذلك الشيء وان لم يكن المسموع على ما بلغه. وقال

ص:274


1- 1 - قوله «مضمونه مؤيد بالخبر الذي بعده» وهو من فروع حسن الظن بالله المرغوب إليه فيما سبق من الأحاديث ومن الصفات التي تبقى مع النفس بعد مفارقة البدن وتنفع الإنسان بنفسها مباشرة في الآخرة لامن الصفات المقدماتية التي إلا بالواسطة والعرض فإن الملكات الحسنة على قسمين قسم منها كالعفة والشجاعة والسخاء يختص بهذه الحياة والدنيا ما دامت النفس في البدن وممنوة بالشهوات والأوهام والصفات البدنية وفائدة هذه الملكات حفظ النفس عن غوائل الشهوات وأمثالها فلو لم يكن في الإنسان شهوة لم يكن عفة ولو لم يكن خوف لم تحسن الشجاعة السخاء وبعد فراق النفس عن البدن لم تكن فيه شهوة القبائح فلا معنى لوجوده العفة ولم يتحقق فيه خوف الموت فلا معنى لتحسين صفة الشجاعة له. وأما معرفة الله تعالى وصفاته الكمالية وحسن الظن به والاعتماد عليه والتلذذ بقربه فهي مما يعقل وجوده للنفس الإنسانية بعد الموت وقد تكون الملكة غير الباقية مستلزمة لصفة يمكن ان تبقى مع النفس كنية فعل الخير فإنها تستلزم حب الخير والصبر فإنه يتضمن الرضا بحكم الله تعالى، ولمثل تلك الصفات حكم في الآخرة ويثاب عليها وقد مر في سر خلود المؤمنين من النعيم وخلود الكفار في الجحيم بقاء نية الخير أو الشر في قلوبهم فهم يعذبون بسبب النية كشجرة تثمر ثمرا رديا لعيب طري على أصله وبالجملة فحسن الظن بالله ملكة فاضلة إذا رسخت في النفس كمل إيمانها بالله ورجاء الثواب من عمل لا يحتمل كونه مبغوضا تقرب إليه وذكر لآلائه ولطفه وهو حسن عقلا يستحق به الثواب والطريق الذي ذكرناه في التسامح في أدلة السنن أنسب وألصق بعلم الأخلاق والكلام مما ذكره الشارح فإنه أنسب بالفقه. (ش)

الشيخ في الأربعين يحتمل أن يراد بسماع الثواب مطلق بلوغه إليه سواء كان على سبيل الرواية أو الفتوى أو المذاكرة أو نحو ذلك كما رآه في شيء من كتب الحديث أو الفقه مثل ويؤيد هذا التعميم أنه ورد في آخر عن الصادق (عليه السلام) «من بلغه شيء من الثواب» ويمكن أن يراد السماع من لفظ الراوي أو المفتى خاصة فإنه هو الشائع الغالب في الزمن السالف، وأما الحمل على التحمل بأحد الوجوه الستة المشهورة فلا يخلو من بعد وظاهر الاطلاق أن صدق الناقل غير شرط في ترتب الثواب فلو تساوى صدقه وكذبه في نظر السامع وعمل بقوله فاز بالاجر نعم بشرط عم ظن كذبه بقيام بعض القرائن والظاهر أن تصريح الراوي بترتيب الثواب غير شرط بل قوله إن العمل الفلاني مستحب أو مكروه كاف في ترتيب الثواب على فعله أو تركه انتهى.

وأنت خبير بأن هذا الحديث على الاحتمال الأول يدل على أن يجوز العمل باخبار الآحاد المعتبر وعلى الاحتمال الذي ذكره الشيخ يدل عليه وعلى جواز العمل بالاخبار الضعيفة الدالة على استجاب فعل عمل أو تركه وهو الموافق لمذهب الأصحاب.

ويرد عليهم إشكال وهو: أن الاستحباب حكم شرعي، وقد اتفقوا بأن الحكم الشرعي لا يثبت بالحديث الضعيف؟ فيكف يصح قولهم باستحباب الاعمال التي ورد بها أخبار ضعيفة وحكمهم بترتيب الثواب عليها ولهم في التفصي عنه أقوال فقال الشيخ (رضي الله عنه) - حكمهم باستحباب تلك الأعمال وترتب الثواب عليها ليس مستندا في الحقيقة إلى الأحاديث الضعيفة بل إلى هذا الحديث الحسن المشتهر المعتضد بغيره من الأحاديث، ووجه عدم استنادهم إلى هذا الحديث في وجوب ما تضمن الخبر الضعيف وجوبه كاستنادهم إليه في استحباب ما تضمن استحبابه ظاهر فإن هذا الخبر لم يتضمن إلا ترتب الثواب على العمل وهو يقتضي الأمر بالعمل.

وقيل إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل ولم يكن هذا العمل ما يحتمل الحرمة والكراهة فإنه يجوز العمل به ويستحب لأنه مأمون الخطر ومرجو النفع إذ هو دائر بين الإباحة والاستحباب فالاحتياط العمل لرجاء الثواب وأما إذا دار بين الاستحباب والحرمة فلا وجه لاستحباب العمل به وكذا إذا دار بينه وبين الكراهة الشديدة إذ في العمل به دغدغة الوقوع فيها وأما إذا كانت الكراهة أضعف من الاستحباب فالاحتياط العمل وكذا إذا تساويا.

وقيل: معنى قولهم: يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضايل الأعمال دون المسائل الحلال والحرام أنه إذا ورد حديث صحيح أو حسن في استحباب عمل وورد حديث ضعيف في أن ثوابه كذا وكذا جاز العمل بهذا الحديث الضعيف والحكم بترتب الثواب على ذلك الفعل وليس هذا الحكم أحد الأحكام الخمسة التي لا تثبت بالأحاديث الضعيفة، وقيل: معنى قولهم الأحكام لا تثبت بالأحاديث الضعيفة أنها لا تستقل بإثباتها لا أنها لا تصير مقوية ومؤكدة لما تثبت تلك الأحكام به ومعنى تجويزهم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أنه إذا دل على استحباب عمل حديثان صحيح وضعيف مثلا جاز للمكلف حال العمل ملاحظة دلالة الضعيف أيضا عليه فيكون

ص:275

عاملا به في الجملة والشيخ (قدس سره) رد هذه الأقوال الثلاثة أما أولها فبان خطر الحرمة في هذا الفعل الذي تضمن الحديث استحبابه حاصل إذ لا يتعد شرعا بما فعله المكلف لرجاء الثواب ولا يصير منشأ لاستحقاق الثواب إلا إذا فعله بقصد القربة ولاحظ رجحان فعله شرعا، فإن الأعمال بالنيات وفعله على هذا الوجه مردد بين كونه سنة ورد الحديث بها في الجملة وبين كونه تشريعا وإدخالا لما ليس من الدين فيه ولا ريب أن ترك السنة أولى من الوقوع في البدعة فليس الفعل المذكورة دائرا في وقت من الأوقات بين الإباحة والاستحباب ولا بين الكراهة والاستحباب بل هو دايما دائر بين الحرمة والاستحباب فتاركه متيقن للسلامة وفاعله متعرض للندامة، وأما ثانيها فبأنه مخالف منطوق عبارات القوم فإنها صريحة في استحباب الإتيان بالفعل إذا ورد في استحبابه حديث ضعيف غير قابلة لهذه التأويل السخيف، وأما ثالثها فبأنه مع بعده وسماجته يقتضى عدم صحة التخصيص بفضائل الأعمال دون مسايل الحلال والحرام فإن العمل بالحديث الضعيف بهذا المعنى لا نزاع بين أهل الإسلام في جوازه في جميع الأحكام.

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمران الزعفراني عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل، التماس ذلك الثواب، أوتيه، وإن لم يكن كما بلغه.

ص:276

باب الصبر

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي ابن رئاب، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر رأس الإيمان.

* الشرح

قوله: (الصبر رأس الإيمان) في الخبر الآتي «الصبر من الإيمان منزلة الرأس من الجسد» وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس للإيضاح والوجه ما أشار إليه بقوله «فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان» وذلك لما ذكرنا سابقا من أن الإنسان ما دام في هذه النشأة كان موردا للمصائب والآفات ومحلا للنوائب والعاهات، ومتوجها إليه الأذى من بني نوعه في المعاملات ومكلفا بفعل الطاعات وترك المنهيات والمشتهيات وكل ذلك ثقيل على النفس بشع في مذاقها وهي تتنفر منه نفارا وتتباعد منه فرارا فلا بد من أن يكون فيه قوة ثابتة وملكة راسخة بها يقتدر على حبس النفس على هذه الأمور الشاقة والوقوف معها بحسن الأدب وعدم الاعتراض على المقدر بإظهار الشكوى وعدم مؤاخذة من أذاه والانتقام منه وتلك القوة أو ما يترتب عليها أعنى حبس النفس على تلك الأمور ومقاومتها لهواها هي المسماة بالصبر ومن البين أن الإيمان الكامل بل نفس التصديق أيضا يبقى ببقائه ويفنى بفنائه فلذلك هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وفي طرق العامة «الصبر نصف الإيمان» قال ابن الأثير أراد بالصبر الورع لأن العبادة قسمان نسك وورع فالنسك ما أمرت به الشريعة والورع ما نهت عنه وإنما ينتهي بالصبر فكان الصبر نصف الإيمان، أقول الإيمان الكامل نصفه متعلق بالباطن ونصفه متعلق بالظاهر وقوام الظاهر فالصبر نصف الإيمان.

* الأصل

2 - أبو علي الأشعري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا الرأس ذهب الجسد، كذلك إذ ذهب الصبر ذهب الإيمان.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جمعيا، عن القاسم ابن محمد الإصبهاني، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا حفص إن من صبر صبر قليلا وإن من جزع جزع قليلا، ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك، فإن الله عز وجل بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره

ص:277

بالصبر والرفق، فقال: (وإصبر على ما يقولون وإهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة) وقال تبارك وتعالى: (إدفع بالتي هي أحسن (السيئة) فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم)، فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها، فضاق صدره فأنزل الله عز وجل (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) ثم كذبوه ورموه، فحزن لذلك، فأنزل الله عز وجل (قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتيهم نصرنا) فألزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزوجل (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب، فاصبر على ما يقولون) فصبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أحواله ثم بشر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر، فقال: جل ثناؤه: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون) فعند ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عز وجل ذلك له، فأنزل الله عز وجل (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كان يعرشون) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه بشرى وانتقام، فأباح الله عز وجل له قتال المشركين فأنزل الله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) فقتلهم الله على يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحبائه وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر و احتسب لم يخرج من الدنيا حتى يقر [الله] له عينه في أعدائه، مع ما يدخر له في الآخرة.

* الشرح

قوله: (عن القاسم بن محمد الإصبهاني) قال عياض إصبهان سمعناه بفتح الهمزة وحكاه الكبرى بالكسر لاغير (إن من صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا) نصب قليلا إما على المصدرية أو على الظرفية أي صبر صبرا قليلا أو صبر زمانا قليلا وهو زمان العمر أو زمان البلية فيه وفيه حث على الصبر لأنه يوجب مع قلته راحة طويلة.

(ثم قال عليك بالصبر في جميع أمورك) الجمع المضاف يفيد العموم خصوصا مع لفظ الجميع فيدل على أن الإنسان في كل ما يصدر منه من الفعل والترك والعقد وكل ما يرد عليه من المصائب والنوائب من قبله تعالى أو من قبل غيره يحتاج إلى الصبر إذ لا يمكنه تحمل ذلك بدون جهاده مع النفس والشيطان وثباته في مقام المجاهدة بالصبر وحبس النفس عليه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الصبر والشجاعة.

ص:278

(وإصبر على ما يقولون وأهجرهم هجرا جميلا) أمره بالصبر على تكذيبهم وبالهجر عن ذواتهم أو عن مخاصمتهم، وفيه ترغيب في حمل النفس على الصبر والمجاهدة لتخلص من عداوة الخلق والغضب عليهم وشهوة الدنيا والاشتغال بغيره تعالى، والهجر الجميل هو إن يجانبهم ويداريهم ولا يكافيهم ويكل أمرهم إلى الله كما قال:

(وذرني والمكذبين أولى النعمة) أي دعني وإياهم فإني أجازيهم في الدنيا والآخرة وأولى النعمة صناديد قريش وغيرهم.

(وقال تبارك وتعالى إدفع بالتي هي أحسن) قال عز وجل (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن قال بعض المفسرين صبر الله تعالى بهذه الآية رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء إلى الدين بل في مطلق امور التمدن، و «لا» زائدة لتأكيد نفي الاستواء والمعنى لا مساواة بين الحسنة والسيئة أبدا يعني يكسان نيست نيكى و بدى هرگز كالايمان والكفر والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف والعفو والاخذ ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أنه كيف يصنع بالخبيث الموذي قال (ادفع بالتي هي أحسن السيئة» أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها وهي العفو واسم التفضيل مجرد عن عن معناه أو أصل الفعل معتبر في المفضل عليه على سبيل الفرض أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن من العفو والمكافاة وتلك الحسنة وهي الاحسان في مقابل الإساءة ومعنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كل واحد من العفو والمكافاة أيضا حسنة إلا أن الاحسان أحسن منهما وهذا قريب مما ذكره صاحب الكشاف من أن «لا» غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضك حسنتان فادفع بها السيئة، مثاله مثاله رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته.

(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك مثل الولي الشفيق، ثم مدح هذه الحضلة الكريمة وصاحب هذه السيرة الشريفة بقول:

(وما يلقيها إلا الذين صبروا) أي لا يعمل بهذه السجية العظيمة وهي العفو عن الإساءة أو مقابلتها بالاحسان الاكل صبار على تجرع المكاره.

(وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم) من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا تتأثر من الواردات الخارجة وقيل الحظ العظيم وقيل الثواب الجزيل.

(ولقد نعم أنك يضيق صدرك) كناية عن الغم (بما يقولون) من الشرك والطعن فيك وفي القرآن والاستهزاء بك وبه.

ص:279

(فسبح بحمد ربك) أي فنزه ربك عما يقولون مما لا يليق به متلبسا بحمده في توفيقك له أو فافزع إلى الله فيما نابك من الغم بالتسبيح والتحميد فإنهما يكشفان الغم عنك.

(وكن من الساجدين) للشكر في توفيقك أو رفع غمك أو كن من المصلين فإن في الصلاة قطع العلائق عن الغير.

(قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون) قد للتحقيق وضمير أنه للشأن (فإنهم لا يكذبونك) في الحقيقة. (ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) قيل يجحدون مكذبين بآيات الله في الحقيقة، فالباء لتضمين الجحود معنى التكذيب ووضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أن ظلمهم بسبب الجحود. (ولقد كذبت رسل) عظام أو كثير.

(من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) أي على تكذيبهم وايذائهم، فما مصدرية وفيه تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) وترغيب في الصبر كما قال (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل».

(حتى اتيهم نصرنا) بشارة بالنصر للصابرين كما قيل الصبر مفتاح الفرج (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) فيه أيضا ترغيب للخلق بالصبر في جميع الامور (وما مسنا من لغوب) أي تعب وأعياء.

(فاصبر على ما يقولون) أي على ما تقوله اليهود من الكفر والتشبيه أو على ما يقوله المشركون من إنكارهم البعث فإن من خلق العالم بلا أعياء يقدر على حشر الخلائق والانتقم منهم. (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) دل على أن الصبر للجعل المذكور وإليه أشار أرسطا طاليس بقوله بالصبر على مضض السياسة ينال شرف الرئاسة» (فشكر الله عز وجل ذلك له) شكر الله تعالى لعباده عبارة عن قبول العمل ومقابلته بالإحسان والانعام في الدنيا والآخرة. (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) أي مضت عليهم واتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصر والتمكين بسبب صبرهم على الشدائد وهي قوله (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى وفرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون».

(ودمرنا) أي أهلكنا، دمره تدميرا ودمر عليه بمعنى (ما كان يصنع فرعون وقومه) قيل:

هو القصور والعمارات ويحتمل الأعم (وما كانوا يعرشون) قيل هو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان أو ما كانوا يعشرون من الجنات ويحتمل الأعم، يقال عرش يعشر أي بنى بناء من خشب (واحصروهم) من الدخول في المسجد الحرام أو الأعم منه ومن السير في البلدان (واقعدوا لهم كل مرصد) أي كل ممر وطريق لئلا ينبسطوا في البلاد نصبه على الظرف من رصد رصدا ومرصدا أرقبه، والمرصاد الطريق

ص:280

والمكان يوجد فيه العدو.

(وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له في الآخرة) أي جعل له ثواب صبره في الدنيا بنصره وقتل عدوه وفي الآخرة بمزيد الزلفى والكرامة ورفع الدرجات، وهذا معنى شكره للصابرين، ومن ثم روى «النصرة مع الصبر» وقيل: للصبر عاقبة محمودة الأثر.

(فمن صبر واحتسب) أي احتسب صبره على أذي الأعداء واعتده فيما يدخر عند الله ويثاب عليه ونوى به وجه الله تعالى لا غيره، والاحتساب بالعمل الاعتداد به وارتقاب الأجر من الله تعالى (لم يخرج من الدنيا حتى يقر الله له عينه في أعدائه) أي يجعل الله عينه قارة باردة في قتل أعدائه وخذلانهم، وهذا كناية عن السرور لأن دمعة السرور باردة (مع ما يدخر له في الآخرة) من الأجر الجميل والثواب الجزيل كما فعل ذلك لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي محمد عبد الله السراج، رفعه إلى علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر واستبدل باليسر عسرا كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات الله عليه لم يضر حريته ان استعبد وقهر واسر ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته وناله إن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد إذ كان [له] مالكا، فأرسله ورحم به امة، وكذلك الصبر يعق خيرا، فاصبر ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا.

* الشرح

قوله: (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن الحر حر على جميع أحواله) الحر نقيض العبد والمراد به هنا من نجى عن رق الشهوات النفسانية واللذات الجسمانية وعن سلاسل الزهرات الدنياوية وتوجهت نفسه القدسية إلى مشاهدة الأنوار الإلهية والاسرار الربوبية وهم (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنونهم الآية. ويتحملون في نيران الصبر على فقدان المألوف المرغوب ويصبرون على

ص:281

أذي القوم وعدم وجدان المطلوب، وحالاتهم متفاوتة ويعود حال أعلاهم إلى أن لو صار الحبر مدادا والأشجار أقلاما وعاش الخلائق مخلدين يكتبون أشواقهم إلى يوم التناد لا يستطيعون احصاء ما بهم من الأشواق المبرحة في فؤادهم ومن ثم قيل: من صبر صبر الأحرار نال من فيض الجبار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقال الله سبحانه (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب».

(ان نابته نائبة نابه أمر ينوبه نوبة أصابه والنائبة النازلة والجمع نوائب (صبر لها) لتوجه قلبه اللطيف إلى جمال الله تعالى وجلاله ولا يخطر غير الحق بباله فضلا عن أن يكون مخالفا لطبعه ولو خطر وقتا ما وذاق مرارته تحمل طلبا لرضاه.

(وإن تداكت) الدك الدق وفي التفاعل مبالغة في الشدة والصولة (واستبدل بالعسر يسرا) الظاهر أنه عطف على قهر ولا يتم إلا بتكليف لأن ظاهره أن العسر مدفوع واليسر مأخوذ فلا يناسب الوصل ويمكن أن يكون عطفا على قوله: «وإن تداكت فيكون غاية للصبر وإشارة إلى ما يترتب عليه. وفي بعض النسخ «واستبدل باليسر عسرا» وهو اضح (لم يضرر حريته ان استعبد وقهر واسر) يعني هذه الصفات الشاقة الكريهة على النفوس البشرية لم تدفع حريته أي توجه قلبه إلى الله وصبره في الله على تحمل ثقلها.

(ولم تضرره ظلمة الجب وحشته وما ناله أن من الله عليه) الظاهر أن قوله «وما ناله» عطف على ظلمة الجب ولعل المراد به نوائب الزمان وجور الاخوان وأن قوله «ان من الله عليه» بتقدير اللام أي لأن من الله عليه فيكون تعليلا لقوله لم يضرر في الموضعين وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون مبتدءا وخبرا، والجملة عطف على لم يضر أو يكون قوله «وما ناله» عطفا عليه وما بعده بيانا لما بتقدير من أو يكون الواو بمعنى مع وفاعل نال حينئذ يوسف (عليه السلام). والعاتي من العتو وهو التجبر والكبر والتجاوز عن الحد والمراد بارساله إرساله إلى الخلق نبيا وبرحم الأمة به نجاتهم عن العقوبة الأبدية بايمانهم به أو من القحط والجوع لحفظه وما زرعوا السنة القحط وادخاره لهم والله أعلم.

(وكذلك الصبر يعقب خيرا) أي كما أن صبر يوسف (عليه السلام) اعقب خيرا عظيما له كذلك صبر كل أحد يعقب خيرا له ومن ثم قيل اصبر تظفر وقيل.

إني رأيت وللأيام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثر وقل من جد في امر يطالبه * فاستصحب الصبر الا فاز بالظفر (فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا) توطين النفس على الصبر كناية عن لزومه توجب

ص:282

الاجر لتام في الآخرة ودفع المكروهات واعقاب الخيرات في الدنيا.

* الأصل

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عبد الله ابن بكير، عن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجنهم محفوفة باللذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذتها وشهواتها دخل النار.

* الشرح

قوله: (قال الجنة محفوفة بالمكاره والصبر - الخ) الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة روى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وهذا من بديع الكلام وجوامعه ومن التمثيل الحسن وأحفاف الشيء جوانبه والمقصود أنه لا يواصل إلى الجنة إلا بتخطى المكاره والصبر عليها ولا يوصل إلى جنهم إلا بتخطى الشهوات والمرور عليها والاطمينان بها ويدخل في المكاره الجد في العبادة والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والصبر على الشهوات ويدخل في الشهوات جميع المحرمات كالزناء وشرب الخمر والغيبة وأمثالها، وأما المباحات فلا يدخل فيها ولكن يركه الاكثار منها لأنها قد تقسى القلب وتجر إلى الرغبة في الدنيا بل قد تجر إلى المحرمات.

* الأصل

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن مرحوم، عن أبي سيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا دخل المؤمن في قبره، كان الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مظل عليه ويتنحى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسائلته قال الصبر للصلات والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه.

* الشرح

قوله: (إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه - الخ) دل ظاهره على تجسم الأعمال والأخلاق والروايات الدالة عليه وعلى تجسم الاعتقادات أيضا كثيرة فلا ينبغي إنكاره وحمله على التمثيل (1)

ص:283


1- 1 - قوله «فلا ينبغي إنكاره وحمله على التمثيل» يعني إنكار أصل ورود الخبر لأن الروايات الدالة عليه فوق حد الاحصاء ولعله متواترة معنى. وأما حمله على التمثيل ولسان الحال فمجاز بعيد لا يذهب إليه بغير قرينة ولو بنينا على التأويل لهدم أكثر الاصول والعجب إن المجلسي الثاني (رضي الله عنه) انكر تجسم الاعمال مطلقا في بعض كتبه مثل حق اليقين ولكن ولده (رضي الله عنه) في * الشرح من لا يحضره الفقيه أثبته وحققه ولا استبعاد في أن يكون لكل مهية في كل عالم صورة كالعلم في صورة اللبن على ما ثبت في موضعه، فإن قيل ألا تحمل قوله تعالى «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» على التمثيل لأن الصلاة لا تتكلم إلا بلسان الحال وقوله «أن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وان منها لما يشقق فيخرج منها الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله» وقوله «يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله» كذلك تحملها على التمثيل لأن الحجارة لا تتأثر بالوعظ وظل الأشياء لا يسجد إلا أن حالتهما تشبه السجدة والتأثر قلنا بينهما فرق لأن الآيات بيان حال الأجسام في هذا العالم المحسوس وأما تجسم الأعمال ففي عالم آخر واختلاف الصور في العوالم المختلفة غير بعيد نعم يتوقف ذلك على اثبات تجرد الخيال وهي حافظة الحسن المشترك للنفس وبقائها بعد فساد البدن ولعلنا نبين ذلك إنشاء الله تعالى. (ش)

(فان عجزتم عنه فأنا دونه) فالصبر كصاحبه صابر وكل شيء من الحسن حسن.

* الأصل

9 - علي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«دخل أمير المؤمنين صلوات الله عليه المسجد، فإذا هو برجل على باب المسجد، كئيب حزين، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): مالك؟ قال: يا أمير المؤمنين أصبت بأبي [وامي] وأخي وأخشي أن أكون قد وجلت، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): عليك بتقوى الله والصبر تقدم عليه غدا، والصبر في الامور بمنزلة الرأس من الجسد فإذا فارق الرأس الجسد فسد الجسد وإذا فارق الصبر الامور فسد الامور».

* الشرح

قوله: (وأخشى أن أكون قد وجلت) قد وجلت الخشية الخوف والوجل الفزع وخلاف الصر ( عليك بتقوى الله والصبر) أمره بالصبر عند المصيبة والاجتناب عن الشكاية وغيرها مما يوجب نقص الإيمان أو زواله وهما من أعظم الخصال ولذلك جمعهما الله تعالى في قوله (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور».

(تقدم عليه غدا) بعد الموت والقيامة (والصبر في الامور بمنزلة الرأس من الجسد المراد بالأمور الأمور المطلوبة شرعا سواء كانت أفعالا أو تروكا أو عقايد أو أخلاقا ولو فارقها الصبر لفسدت بغلبة الشيطان على العقل إذ لو يكن للعقل صبر في محاربته لا نهزم في أول صولته وإذا انهزم فسدت تلك الامور كلها.

* الأصل

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سماعة ابن مهران، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال لي: ما حبسك عن الحج؟ قال قلت: جعلت فداك وقع علي دين كثير وذهب مالي، وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي، فلو لا أن رجلا من أصحابنا أخرجني ما قدرت أن أخرج، فقال لي: إن تصبر تغتبط وإلا تصبر ينفذ الله مقاديره، راضيا كنت أم كارها.

ص:284

* الشرح

قوله: (إن تصبر تغتبط وإن لا تصبر ينفذ الله مقاديره ورضا كنت أم كارها) الاغتباط مطاوع غبط تقول غبطته ما نال أغبطه غبطا وغبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع والغبطة أن تتمنى حال المغبوط لكونها في غاية الحسن والكمال من غير أن يريد زوالها عنه وليس بحد وحال الصابر في غاية الكمال كما نقل عن بعض الأكابر قال «يقول الله تعالى «لو أن ابن آدم قصدني في أو المصائب لرأي منى العجائب ولو انقطع إلى في أول النوائب لشاهد منى الغرائب ولكنه انصرف إلى أشكاله فرد في أشغاله» ثم الغبطة أما في الآخرة بجزيل الأجر أو في الدنيا بتبديل الضراء بالسراء وذلك لأن شدة المصائب وتداخل بعضها في بعض دليل من قرب الفرج كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أضيق ما يكون الحرج أقرب ما يكون الفرج» ثم إن الله تعالى ينفذ مقاديره على نحو ما أراد فإن كانت راضيا صابرا كان لك أجر الراضي الشاكر، وإن كنت كارها ازدادت مصيبتك فإن فوات الاجر مصيبة أخرى والكراهة الموجبة لحزن القلب وتألمه مصيبة عظيمة ومن ثم قيل المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان. أقول بل له مصيبات أربع الثلاثة المذكورة وشماتة الأعداء، ومن ثم قيل الصبر عند المصيبة مصبية على الشامت.

* الأصل

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الصبر صبران: صبر عند المصيبة، حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك، والذكر ذكران: ذكر الله عز وجل عند المصيبة وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرم عليك، فيكون حاجزا.

* الشرح

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن جميل أحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عز وجل عليك) سواء كان فعل القلب كالعجب والتكبر وغيرهما من الأخلاق الذميمة أو فعل الجوارح كالزناء والغيبة وأمثالها والصبر باعتبار المتعلق أقسام متكثرة متفاوتة، منها الصبر على الفقر بأن يربط نفسه على رضاه تعالى ويرضى ولا يقول ما يسخطه، ومنها الصبر على الغنى بأن يصير على أداء الحقوق المالية ويترك البطر والفرح على انفاق الأزواج والأولاد والخدم من غير اقتار ولا اسراف، ومنها الصبر على ما يأتي به باختياره من فعل الطاعات وترك المنهيات بأن يذكر الله تعالى عند كل أمر ونهى فيأتي بما فيه رضاه. ومنها لا صبر على ما يرد عليه من غير اختياره أصلا كالمصائب والنوائب النازلة عليه من قبله تعالى بان يحبس نفسه عليه من غير اضطراب ولا شكاية ومنها الصبر على ما يرد عليه من غير اختياره وله اختيار في الإتيان بمثله مثل ضرب الغير وظلمه عليه

ص:285

فإن الأولى أن يصبر أو يعفو عنه ولا يعامله بمثله كما قال تالي مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جملا».

* الأصل

12 - أبو علي الأشعري، عن الحسين بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن العزرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ولا الغني إلا بالغصب والبخل ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغني وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي.

* الشرح

قوله: (ولا الغني إلا بالغضب والبخل) كان ذكر الغصب على سبيل التمثيل أو أريد به الإكتساب من غير حل فيشمل الطرق الغير المشروعة كلها وفي ذكر البخل معه إشارة إلى أن أكثر الغنى محفوف بالرذيلتين الجلب بالغصب ونحوه والحفظ بالبخل.

(وصبر على الذل وهو يقدر على العز) بنيل الملك بسبب القتل والتجبر فهو ناظر إلى قوله «لا ينال الملك».

* الأصل

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن درست بن أبي منصور، عن عيسى بن بشير، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لما حضرت أبي علي بن الحسين (عليهم السلام) الوفاة ضمني إلى صدره وقال: يا يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به يا بني إصبر على الحق وإن كان مرا.

* الشرح

قوله: (اصبر على الحق وإن كان مرا) وقد اشتهر أن الحق مر لكونه مما يستكرهه الطبع ويثقل عليه كالشئ المر، وسر ذلك أن الحق وكل ما هو من أعمال الجنة شاقة على النفوس ومرة في مذاقها لما فيها من مخالفة أهوائها وكسر أغراضها ومنع لذاتها ومن ثم روي «أفضل الاعمال ما أكرهت عليه النفس» واشتهر تجرع مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة بخلاف أعمال النار فإنها سهلة على النفوس غير شاقة عليها لموافقة أهوائها وبلوغ مراداتها ولذاتها من التنعم بأسباب الدنيا واستعمال الدعة والرفاهية.

* الأصل

14 - عنه عن أبيه [عن يونس بن عبد الرحمن] رفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الصبر صبران على البلاء حسن جميل، وأفضل الصبرين الورع عن المحارم.

ص:286

* الشرح

قوله: (الصبر صبران صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبرين الورع عن المحارم) كان الصبر على الطاعة داخل في الصبر على البلاء لأن الطاعات ابتلاء ويمكن إدراجه في الورع عن المحارم لأن ترك الطاعة حرام في الجملة والمراد بالصبر على البلاء ترك الشكاية إلى الناس ورفض الجزع وضرب اليد على الفخذ وأمثال ذلك.

* الأصل

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى قال: أخبرني يحيى بن سليم الطائفي قال:

أخبرني عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

* الشرح

قوله: (كما بين السماء إلى الأرض) التشبيه لبيان المقدار في نفس الأمر أو لمجرد اظهار العلو والرفعة (كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش) التخوم جمع التخم كالفلوس جمع فلس وهو منتهى الأرض وفي المصباح، قال ابن الاعرابي: الواحد تخوم والجمع تخم مثل رسول ورسل، ولعل المراد بالعرش الفلك الأعظم.

* الأصل

16 - عنه، عن علي بن الحكم، عن يونس بن يعقوب قال: أمرني أبو عبد الله عليه السلام أن اتي المفضل وأعزيه بإسماعيل وقال: اقرأ المفضل السلام وقل له: إنا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا، فاصبر كما صبرنا، إنا أردنا أمرا وأراد الله عز وجل أمرا. فسلمنا لأمر الله عز وجل.

* الأصل:

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.

ص:287

* الشرح:

قوله (من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل اجر الف شهيد) البلاء مطلق وكأنه أريد به الفرد العظيم بقرينة عظمة الاجر مع احتمال حمله على الاطلاق.

* الأصل:

18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل أنعم على قوم، فلم يشكروا، فصارت عليهم وبالا، وابتلى قوما بالمصائب فصبروا، فصارت عليهم نعمة.

19 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جمعيا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبان بن أبي مسافر، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) قال: اصبروا على المصائب.

وفي رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: صابروا على المصائب.

* الشرح:

قوله (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) قد مر تفسيره في باب أداء الفرائض حيث قال «اصبروا على الفرائض وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة عليهم السلام» والكل صحيح.

* الأصل:

20 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى، عن علي بن محمد بن أبي جميلة، عن جده أبي جميلة، عن بعض، أصحابه قال: لولا أن الصبر خلق قبل البلاء لتفطر المؤمن كما تنفطر البيضة على الصفا.

* الشرح

قوله (لولا أن الصبر خلق قبل البلاء لتفطر المؤمن كما تتفطر البيضة على الصفا) التقطر التشقيق من الفطر وهو الشق ومن لطف الله على المؤمن نزول البلاء عليه حين اتصافه بالصبر ليثاب بالثواب الجزيل والاجر الجميل ولو نزل عليه وهو عار عن الصبر لانكسر وفسد. وفيه ايماء إلى أن المؤمن هو الصابر وغير الصابر ليس بمؤمن لان الصبر رأس الايمان، فإذا ذهب الصبر ذهب الايمان ويتحقق الصبر بمنع النفس عن الجزع عند ورود المكروه، ومنع الباطن من الاضطراب ومنع اللسان من الشكاية ومنع الجوارح عن الحركات الغير المعتادة ولو تحقق مع هذه الأمور الالتذاذ بالمكروه لكونه تحفة من الحبيب كان أفضل أفراده وأكملها في الجزاء، ويمكن حمل قوله تعالى (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) على هذه المرتبة الشريفة لأنه أقر بالاسترجاع انه ملك له تعالى ونشأ منه وانه يهلك ويعود إليه، فالظاهر أنه رضى بتصرفاته في نفسه أشد رضاء والتذ أكمل التذاذ، وجعل الرحمة خصلة ثانية، وعطفها على الصلوات

ص:288

يدلان على أنها غير الصلاة مع أن المشهور أن صلاته تعالى عبارة عن الرحمة ويمكن حملها على نوعين من جنس الرحمة، والله أعلم.

21 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار وعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله عز وجل: إني جعلت الدينا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحد عشرة إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا (فصبر) أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحد منهن ملائكتي لرضوا بها مني. قال: ثم تلا أبو عبد الله عليه السلام قول الله عز وجل: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم) فهذه واحدة من ثلاث خصال) ورحمة (اثنتان) وأولئك هم المهتدون» ثلاث ثم قال أبو عبد الله عليه السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.

* الأصل:

22 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: مروة الصبر في حال الحاجة والفاقة والتعفف والغنى أكثر من مروة الإعطاء.

* الشرح:

قوله (مروة الصبر في حال الحاجة، والفاقة والتعفف والغنى أكثر من مروة الاعطاء) المروة كمال الرجولية والفاقة الحاجة والتعفف ترك السؤال عن الناس، والمراد بالغنى عنهم، وفي بعض النسخ «مرارة» بدل «مروة» في الموضعين، ونقل عن بعض الأفاضل أنه حك نقطة الغنى وهو المضبوط في جميع النسخ وجعله العناء بالعين المهملة، وانما كانت مروة الصبر أو مرارته في الحالات المذكورة أكثر وأزيد من مروة الاعطاء أو مرارته لأنها على النفس أشق وأيضا فيها انتظار الفرج منه تعالى، وفيه وجوه من العبادات الأول عبودية الرب بالاعراض عن الدنيا وزهراتها، الثاني صدق التوحيد حيث يرى أنه لا يفرج ما به من ضر إلا هو، الثالث تعلق أمله، به لا بغيره فانزل كشف ضره إليه لا إلى غير الرابع عدم الشكاية منه إلى أحد، وبالجملة أشرف الطاعات أن يوجه القلب همومه إلى مولاه ولا يتعلق بأحد سواه لعلمه بأنه لا يقدر على العطاء والمنع والضر والنفع الا هو.

* الأصل:

23 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام يرحمك الله ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس.

* الشرح:

قوله (ذلك صبر ليس في شكوى إلى الناس) ظاهره عموم الناس وهو الأولى والأفضل،

ص:289

ويمكن أن يراد بهم أعداء الله تعالى لان الشكاية إلى المؤمن جائز كما دل عليه قول أمير المؤمنين «ع»:

«من شكى الحاجة إلى المؤمن فكأنما شكاها إلى الله ومن شكا إلى كافر فكأنما شكى الله» وذلك لان المؤمن حزب الله فالشكاية إليه شكاية إلى الله والكافر عدو الله فالشكاية إليه شكاية عن الله والأول محمود والثاني مذموم عقلا ونقلا.

* الأصل:

24 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن بعض أصحابه، عن أبان، عن عبد الرحمن بن سبابة، عن أبي النعمان، عن أبي عبد الله أو أبي جعفر عليه السلام قال: من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز:

* الشرح:

قوله (من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز) لان النائبة داء بدني ومرض روحاني دواؤها الصبر فمن لم يهيأ الصبر لها يعجز طبعه عن دفعها وعن حملها فيهلك بالجزع والهم ومن ثم قيل إذا وقع الانسان في البلية دواؤها الصبر فان لم يصبر وجزع هلك.

* الأصل:

25 - أبو علي الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنا صبر وشيعتنا أصبر منا، قلت: جعلت فداك كيف صار شيعتكم اصبر منكم؟ قال: لان نصبر على ما نعلم وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون.

* الشرح:

قوله (أبو علي الأشعري) الظاهر أنه أحمد بن إدريس القمي الثقة، وفي بعض النسخ أبو عبد الله الأشعري وهو حسين بن محمد بن محمد بن عمران بن أبي بكر الأشعري القمي الثقة.

قوله (انا صبر وشيعتنا أصبر منا) صبر بالضم والتشديد - جمع صابر كطلب جمع طلب وفيه دلالة على أن الصبر على شئ لا يعلم الصابر حقيقة ما يصل إليه من تحمله أعظم من الصبر عليه مع العلم بحقيقته ألا يرى أن صبر من القى إلى الجب على ما لقيه من ظلمته ووحشته وغيرهما مع عدم علمه بما يؤول إليه حالة أعظم من صبر من ألقى فيه مع علمه بسبب اخبار مخبر صادق كجبرئيل «ع» أو بغيره بأنه سيخرج ويملك سلطنة العباد كيوسف الصديق «ع» وهذا مما لا ينبغي انكاره ولكن كون الثواب المترتب على ذلك الصبر أعظم محل تأمل.

ص:290

باب الشكر

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب. والمعاني الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمعطي الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع.

* الشرح:

قوله (الطاعم الشاكر له من الاجر كاجر الصائم المحتسب) في المصباح طعمته أطعمه طعما بفتح الطاء ويقع على كل ما يساغ حتى الماء وذوق الشئ وفي التنزيل «ومن لم يطعمه فإنه مني».

وعلى هذا فالطاعم يصدق على الاكل والشارب، والاحتساب الاعتداد وفلان احتسب عمله إذا نوى به وجه الله لان له حينئذ أن يعتده، وفيه دلالة على أن الشكر على الاكل والشرب مثل الصوم في الاجر، وقال المحقق الطوسي الشكر أشرف الاعمال وأفضلها، واعلم أن الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية وله أركان ثلاثة الأول معرفة المنعم وصفاته اللايقة به ومعرفة النعمة من حيث أنها نعمة ولا تتم تلك المعرفة الا بان يعرف أن النعم كلها جليها وخفيها من الله تعالى وأنه المنعم الحقيقي وأن الأوساط كلها منقادون لحكمه مسخرون لامره. الثاني الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم لا من حيث أنها موافقة لغرض النفس فان في ذلك متابعة لهواها واقتصار همه في رضاها، بل من حيث أنها هدية دالة على عناية المنعم بك وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا الا بما يوجب القرب منه، الثالث العمل الذي هو ثمرة تلك الحال فإن تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه، وهذا العمل يتعلق بالقلب واللسان والجوارح أما علم القلب فالقصد إلى تعظيمه وتحميده وتمجيده والتفكر في صنائعه وأفعاله وآثار لطفه والعزم على ايصال الخير والاحسان إلى كافة خلقه، وأما عمل اللسان فاظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتهليل والامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، وأما عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته والتوقى من الاستعانة بها في معصيته ومخالفته كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته ومشاهدة كتابه وعلاماته واستعمال الاذن في سماع

ص:291

براهينه وآياته وقس عليهما سائر الجوارج ومن ههنا ظهر أن الشكر من أشرف معارج السالكين وأعلى مدارج العارفين ولا يبلغ إليها إلا من ترك الدنيا وراء ظهره وهم قليلون ولذلك قال الله سبحانه (وقليل من عبادي الشكور).

(والمعافى الشاكر له الخ) المعافى اسم المفعول من عافاه الله إذا سلمه من الأسقام والبلايا والعافية اسم منه وهي أيضا مصدر على فاعلة.

(والمعطى الشاكر له من الاجر كاجر المحروم القانع) المعطى أيضا اسم مفعول وضمير «له» راجع إلى الاعطاء سواء كان من الله تعالى أو من غيره والقانع من القناعة وهي الرضا بما آتاه الله تعالى لا من القنوع وهو السؤال قال في المصباح قنع يقنع قنوعات سأل وفي التنزيل (وأطعموا القانع والمعتر) والقانع السائل الذي يطيف ولا يسأل. وقنعت به قنعا من باب تعب وقناعة رضيت به.

* الأصل

2 - وبهذا الاسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما فتح الله على عبد باب شكر فخزن عنه باب الزيادة.

* الشرح:

قوله (ما فتح الله على عبد باب شكر فخزن عنه باب الزيادة) مثله في نهج البلاغة «ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عليه باب الزيادة» ودل عليه أيضا الآية الكريمة (ولئن شكرتم لأزيدنكم) وقال بعض الأكابر من شكر القليل استحق الجزيل.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن جعفر بن محمد البغدادي، عن عبد الله بن إسحاق الجعفري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مكتوب في التوراة اشكر من أنعم عيك وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعماء إذا شكرت ولا بقاء إذا كفرت، الشكر زيادة في النعم وأمان من الغير.

4 - عدة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي بن علي بن أسباط عن يعقوب بن سالم عن رجل عن (أبي جعفر) أبي عبد الله عليهما السلام قال: المعافى الشاكر له من الأجر ما للمبتلى الصابر، والمعطى الشاكر له من الأجر كالمحروم القانع.

* الشرح:

قوله (اشكر من أنعم عليك) اما المقابلة بالمثل أو الثناء باللسان أو غير ذلك من أنواع التعظيم قال بعض الأكابر أن قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر.

(فإنه لا زوال للنعماء إذا شكرت) بالاعطاء أو الاعتراف بها ومعرفة قدرها أو المدح والثناء للمنعم

ص:292

أو الآيتان بالافعال والامتناع من الاعمال الموافقة لأوامره ونواهيه ومن ثم قال صاحب بن عباد: اشكر قيد النعمة ومفتاح الزيادة.

(ولا بقاء لها إذا كفرت) بإنكارها أو استحقارها أو بترك الأمور المذكورة، يدل على ذلك قوله تعالى (ولئن كفرتم ان عذابي لشديد) وزوال النعمة منه.

(الشكر زيادة في النعم) لان الشكر مع كونه نعمة أخرى سبب لتواتر النعم على الشاكر، ومن ثم قال أمير المؤمنين «ع» إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر». (وأمان من الغير) أي من تبديل النعمة بالنقمة وتغيرها، وفي طرق العامة «من يكفر بالله يلقى الغير» وهو بكسر الغين المعجمة وفتح الياء السم من غير الشئ فتغير أي يلقي تغير الحال وانتقالها عن الصلاح إلى الفساد وغير الدهر أحداثه المغيرة وهذا لفظه خبر ومعناه نهى عن ارتكاب ما يزيل النعمة ويضادها من كفرانها ومقابلتها بسائر المعاصي الموجبة لتبدل النعمة وانكسار الحال.

* الأصل:

5 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر وعن داود بن الحصين، عن فضل بن البقباق قال:

سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل (وأما بنعمة ربك فحدث) قال: الذي أنعم عليك بما فضلك وأعطاك وأحسن إليك، ثم قال: فحدث بدينه وما أعطاه الله وما أنعم به عليه.

* الشرح:

قوله (تعالى الذي أنعم عليك بما فضلك) الظاهر أنه تفسير للنعمة للاشعار بأن المراد بها جميع ما أنعم الله على عبده من الدين والعلم والمال وغيرها والتحدث بها وإفشاءها شكر والمظهر لها شاكر كما أنه تعالى شاكر باعتبار أنه يظهر ما أودعه العبد من العبادة والاعمال الصالحة على الملائكة وخلص خلقه. والتحدث بها مع كونه عبادة مطلوبة قد ثورث اقتداء الغير به وإذاعة الشكر بين الخلق، وهذا انما هو مع الامن وأما مع الخوف فالاقتصار على الشكر القلبي متعين.

(ثم قال فحدث بدينه وما أعطاه الله وما أنعم به عليه) الظاهر أن فاعل حدث رسول الله «ص» يعنى أنه حدث الناس بآثار الرسالة من الاحكام الدينية والاخلاق النفسية وغير ذلك مما أعطاه الله من نعم الدنيا والآخرة.

* الأصل:

6 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي

ص:263

جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله عند عائشة ليلتها، فقالت يا رسول لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبدا شكورا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه وتعالى (طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).

* الشرح:

قوله (قال كان رسول الله «ص» عند عائشة ليلتها فقالت يا رسول الله لم تتعب نفسك) كان عائشة (توهمت أن ارتكاب الأشق انما يكون لدفع المولم وطلب المغفرة من الذنوب فأجابها «ص» بقوله يا عائشة الا أكون عبدا شكورا) يعني أن ارتكاب الاعمال الشاقة لا يتعين أن يكون لذلك بل قد يكون من باب الشكر في مقابلة النعمة الغير المحصورة والاعتراف بالاحسان واستحقاق التعظيم وابرام العتيد وطلب المزيد وجلب الخيرات ورفع الدرجات واستحلاء العبادات فان ما يجد قائم الليل من اللذة في العبادة لا يوازيه بالدنيا وما فيها، وقال بعض أهل العرفان انا في لذة لو علمها الملوك لجادلونا عليها بالسيوف، وكأنه وجه ما يحكى عن كثير من السلف من الجد والاكثار في العمل مع أن ظاهر كثير من الاخبار أن الراجع هو التوسط.

قوله (وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) إشارة إلى قوله تعالى (انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) توجيهه على ما استفدناه من كلام أبى الحسن الرضا «ع» وكلام الشيخ في الأربعين أنه «ص» كان أعظم ذنبا من كل أحد عند مشركي مكة باعتبار أنه كان يدعوهم إلى اله واحد وهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما وكانوا يقولون ان مكنه الله من بيته وحكمه من حرمه بينا انه نبي حق فلما فتح الله له مكة دخلوا في دين الله أفواجا أذعنوا بنبوته وتركوا عبادة الأصنام فنزلت الآية ومعناها انا فتحنا لك مكة ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك قبل الهجرة وما تأخر بعدها إلى أوان الفتح بزعم مشركي مكة، وهذا الجواب بالنظر إلى الآية أحسن مما قيل من أن المراد ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحوا وما تأخر من ذنب أمتك أو ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر أيضا لأنه لا يصح تعليل الفتح بغفران الذنب إلا بتكلف بعيد كان يقال لما كان الفتح متضمنا لجهاد صح بهذا الاعتبار جعله سببا لغفران الذنب المتقدم والمتأخر، ولا يخفى بعده، وأما الجواب المذكور فاستقامة التعليل مما لا ريب فيه (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) أي لتتعب. والشقاء شايع بمعنى التعب والشدة والعسر.

* الأصل:

ص:294

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن حسن بن جهم، عن أبي اليقظان، عن عبيد الله بن الوليد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ثلاث لا يضر معهن شيء: الدعاء عند الكرب والاستغفار عن الذنب والشكر عند النعمة.

* الشرح:

قوله (ثلاث لا يضر معهن شئ الدعاء عند الكرب) لان الدعاء يدفع الكرب ويوجب زواله والاستغفار يوجب محو الذنوب والسيئات وتبدلها بالحسنات والشكر على النعم يوجب عدم الاستدراج بها وعدم زوالها وتبدلها بالنقم بخلاف كفرانها ومقابلتها بالمعاصي فإنه يوجب زوالها والنعمة تقع علي ما يتمتع به في الدنيا وعلى العلم والعمل والاخلاص والمجاهدات النفسانية وكسر القوة الشهوية والغضبية وغيرها.

8 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول الله عز وجل: (لئن شكرتم لأزيدنكم).

* الأصل:

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، عن رجلين من أصحابنا، سمعاه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه فتم كلامه حتى يأمر له بالمزيد.

* الشرح:

قوله (فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه) أي تصورها وصدق بأنها من الله وفيه اشعار بان الزيادة وفوريتها تترتب على الشكر القلبي واللساني معا.

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن هشام، عن ميسر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شكر النعمة اجتناب المحارم وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين.

* الشرح:

قوله (قال شكر النعمة المحارم وتمام الشكر الخ) دل على أن اجتناب المحارم شكر لنعمائه تعالى وأن الحمد لله رب العالمين فرد كامل من الشكر لأنه شكر لله على جميع كمالاته الذاتية والفعلية مثل التربية والاحسان والانعام وغيرها.

* الأصل:

ص:295

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عيينة، عن عمر بن يزيد قال:

سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عز وجل عليها.

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال: نعم قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حق أداه، ومنه قوله جل وعز: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) ومنه قوله تعالى (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) وقوله: (رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا).

* الشرح:

قوله (يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال) يحتمل الاجمال والتفصيل وقوله «في ماله» بدل عن قوله «فيما أنعم الله عليه» وهو يدل على أن أداء الواجبات المالية شكر لنعمة المال (ومنه) أي من الشكر.

(قوله تعالى (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) أي مطيقين يقال أقرنت الشئ أقرانا أطقته وقويت عليه ويقال هذا عند الاستواء على الدابة (وقوله (رب أدخلني مدخل مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) أي أدخلني في القبر أو في مكان أو أمر أو الأعم ادخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث أو الأعم منه ومما ذكر اخراجا مقرونا بالكرامة.

(واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) أي حجة تنصرني على مخالفتي أو ملكا ينصر الاسلام على الكفر.

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن صلوات الله عليه يقول: من حمد الله على النعمة فقد شكره وكان الحمد أفضل (من) تلك النعمة.

* الشرح:

قوله (وكان الحمد أفضل من تلك النعمة) لعل المراد أن الحمد نعمة أفضل من تلك النعمة.

فقيه تنبيه على أن العبد لا يقدر على شكر النعمة حق الشكر، أو المراد أن الحمد باعتبار أنه يوجب القرب منه تعالى والوصول إلى محل كرامته أفضل من تلك النعمة لنقصان أثرها بالنسبة إلى أثر الحمد.

* الأصل:

ص:296

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت، فقال: الحمد لله إلا أدى شكرها.

15 - أبو علي الأشعري: عن عيسى بن أيوب، عن علي مهزيار، عن القاسم بن محمد، عن إسماعيل بن أبي الحسن، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدى شكرها.

* الشرح:

قوله (من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها) المراد بمعرفتها معرفتها مضافة إلى المنعم ومن عرفها كذلك وان كانت صغيرة وعرف قدرها فقد أدي شكرها، هذا شكر قلبي وهو فرد من الشكر، وقيل نظر العبد إلى من دونه لا إلى من فوقه شكر لما أنعم الله عليه وبالعكس كفران، وذلك لان الانسان إذا نظر إلى من دونه عرف قدر نعمة الله عليه وهذا شكر لها مع أنه يفضى إلى الشكر أيضا وإذا نظر إلى من فوقه طلب اللحاق به فازدرى ما أنعمه عليه واحتقرها وهو كفران.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء فيوجب الله له بها الجنة، ثم قال : إنه ليأخذ الإناء فيضعه علي فيه فيسمي ثم يشرب فينحيه وهو يشتهيه فيحمد الله، ثم يعود فيشرب، ثم ينحيه فيحمد الله، ثم يعود فيشرب، ثم ينحيه فيحمد الله، فيوجب الله عز وجل بها له الجنة.

* الشرح:

قوله (انه ليأخذ الاناء فيضعه على فيه فيسمى) دل على أن الشرب ينبغي أن يكون ثلاث مرات وأن يكون التسمية في أول مرة والحمد بعد كل مرة وبعض الروايات دل على أن التسمية في أول كل مرة.

* الأصل:

17 - ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني سألت الله عز وجل أن يرزقني مالا فرزقني وإني سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ولدا، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا. فقال: أما والله - مع الحمد فلا.

* الشرح:

قوله (وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا) في المصباح استدرجته أخذته قليلا قليلا وفي الصحاح استدرجه خدعه، واستدراج الله تعالى العبد أنه كلما جدد حطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار أو أن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته.

*اصل:

ص:297

18 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان قال خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد، وقد ضاعت دابته، فقال: لئن ردها الله على لأشكرن الله حق شكره، قال:

فما لبث أن أتي بها، فقال: الحمد لله، فقال له قائل: جعلت فداك أليس قلت: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام. ألم تسمعني قلت: الحمد لله؟.

19 - محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن ابن راشد، عن المثنى الحناط، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ورد عليه أمر يسره قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال.

* الشرح:

قوله (كان رسول الله «ص» إذا ورد عليه أمر يسره قال الحمد على هذه النعمة وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال الحمد لله على كل حال) أي حال الصحة والبلية والنعمة لان كل ذلك مصلحة ينبغي الحمد عليها وفيه مع ذلك إشارة إلى أنه لكونه كاملا في ذاته وصفاته مستحق للحمد أحسن أو لم يحسن، والى أن نظر الحامد ينبغي أن يكون إليه لا إلى منافع نفسه فينبغي الشكر على البلاء كما ينبغي الشكر على النعماء لان كل بلاء غير الكفر والمعصية خير للعبد. قال الغزالي في كل بلاء خمسة أنواع من الشكر الأول يمكن أن يكون دافعا أشد منه كما أن موت دابته دافع لموت نفسه، فينبغي الشكر على عدم ابتلائه بالأشد، الثاني البلاء اما كفارة للذنوب أو سبب لرفع الدرجة فينبغي الشكر على إزالة تلك الذنوب ورفع الدرجة، الثالث أن البلاء مصيبة دنيوية فينبغي الشكر على أنه ليس مصيبة دينية، وقد نقل أن عيسى «ع» مر على رجل أعمى مجذوم مبروص مفلوج فسمع منه يصبك. قال عافاني من بلاء هو أعظم البلايا وهو الكفر فمسه «ع» فشفاه الله من تلك الأمراض وحسن وجهه فصاحبه وهو يعبد معه. الرابع: أن البلاء كان مكتوبا في اللوح المحفوظ. وكان في طريقه لا محالة فينبغي الشكر على أنه مضى ووقع خلف ظهره. الخامس أن بلاء الدنيا سبب لثواب الآخرة وزوال حب الدنيا عن القلب فينبغي الشكر عليها.

* الأصل:

20 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: تقول ثلاث مرات إذا نظرت إلى المبتلى من غير أن تسمعه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل، قال: من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبدا.

ص:298

* الشرح:

قوله (إذا نظرت إلى المبتلى من غير أن تسمه) لئلا يكسر قلبه ولا يحزنه والظاهر من المبتلى المبتلي بالبلاء المعروف ويمكن حمله على الأعم منه فيشمل المبتلى بالمعصية لان المعصية بلاء عظيم الا أن قوله «من غير أن تسمعه» لا يلائمه.

* الأصل:

21 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان بن عثمان، عن حفص الكناسي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال، ما من عبد يرى مبتلى فيقول: «الحمد لله الذي عدل عني ما ابتلاك به وفضلني عليك بالعافية، اللهم عافني مما ابتليته به، إلا لم يبتل بذلك البلاء.

22 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن خالد بن نجيح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا رأيت الرجل وقد ابتلي وأنعم الله عليك فقل: اللهم إني لا أسخر ولا أفخر ولكن أحمدك على عظيم نعمائك علي.

* الشرح:

قوله (إذا رأيت الرجل وقد ابتلى) أي قد ابتلى بالفقر أو السقم أو غيرها اللهم اني لا أسخر أي لا استهزىء، سخر منه وبه كفرح هزىء.

*اصل:

23 - عنه، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن حفص بن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا الله ولا تسمعوهم فإن ذلك يحزنهم.

24 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في سفر يسير على ناقة له، إذ نزل فسجد خمس سجدات فلما أن ركب قالوا: يا رسول الله إنا رأيناك صنعت شيا لم تصنعه؟ فقال: نعم استقبلني جبرئيل عليه السلام فبشرني ببشارات من الله عز وجل، فسجدت لله شكرا لكل بشرى سجدة.

25 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن يونس بن عمار، عن أبي عبد الله قال: إذا ذكر أحدكم نعمة الله عز وجل فليضع خده على التراب، شكرا لله، فإن كان راكبا فلينزل فليضع خده على التراب وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة، فليضع خده على قربوسه وإن لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد الله على ما أنعم الله عليه.

26 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن هشام بن أحمر قال:

كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثني رجله عن دابته، فخر ساجدا، فأطال وأطال، ثم رفع

ص:299

رأسه وركب دابته، فقلت: جعلت فداك قد أطلت السجود؟ فقال: إنني ذكرت نعمة أنعم الله بها علي، فأحببت أن أشكر ربي.

27 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله صاحب السابري فيما أعلم أو غيره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: فيما أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام يا موسى اشكرني حق شكري، فقال: يا رب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال:

يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني.

* الشرح:

قوله (يا موسى اشكرني حق شكري فقال يا رب) تقول أديت حق فلان إذا قابلت احسانه باحسان مثله، والمراد هنا طلب أداء شكر نعمته على وجه التفصيل وهو لا يمكن من وجوه الأول أن نعمه غير متناهية لا يمكن احصائها تفصيلا فلا يمكن مقابلتها بالشكر، الثاني أن كل ما نتعاطاه مستندا إلى جوار حنا وقدرتنا من الافعال فهي في الحقيقة فيه نعمة وموهبة من الله تعالى وكذلك الطاعات وغيرهما نعمة منه فتقابل نعمته بنعمته، الثالث أن الشكر أيضا نعمة منه فمقابلة كل نعمته بالشكر يوجب العجز والتسلسل وهو غير مقدور للعبد وقول موسى «ع» يا رب كيف أشكرك حق شكرك _ إلى آخره» يحتمل الوجهين الأخيرين وروى ان هذا الخاطر خطر لداود «ع» أيضا فقال يا رب كيف أشكرك وانا لا يستطيع ان أشكرك الا بنعمة ثانية من نعمك، فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني. وأما ما يقال في العرف من ان فلانا مؤد فلانا مؤد لحق الله فمبنى على ان التكاليف تسمى حقوقا له وذلك الأداء في الحقيقة من أعظم نعم الله تعالى على عبده قال الله عز وجل (يمنون عليك ان أسملوا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هديكم للايمان ان كنتم صادقين).

* الأصل:

28 - ابن أبي عمير، عن ابن رئاب، عن إسماعيل بن الفضل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا أصبحت وأمسيت فقل عشر مرات: «اللهم ما أصبحت بي من نعمة أو عافية من دين أو دنيا فمنك وحدك، لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها علي يا رب حتى ترضى وبعد الرضا» فإنك إذا قلت ذلك كنت قد أديت شكر ما أنعم الله به عليك في ذلك اليوم وفي تلك الليلة.

* الشرح:

قوله (اللهم ما أصبحت بي من نعمة) الاصباح الدخول في الصبح وقد يراد به الدخول في

ص:300

الأوقات مطلقا وما الموصولة مبتدأ والعائد إليه مستتر في الظرف والظرف وهو «بي» مستقر حال عن الموصول أي متلبسا بي و «من نعمة» بيان له «منك» خبر له والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط بمعنى أن ما به من نعمة سبب للحكم بكونه منه تعالى. وفيه دلالة لي أن الشكر الاجمالي يقول مقام الشكر التفصيلي.

* الأصل:

29 - ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان نوح عليه السلام يقول ذلك إذا أصبح، فسمي بذلك عبدا شكورا، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من صدق الله نجا.

* الشرح:

قوله (من صدق الله نجا) تصديقه في تكاليفه عبارة عن الاقرار بها والاتيان بمقتضاها وفي نعمائه عبارة عن معرفتها بالقلب ومقابلتها بالشكر والثناء.

* الأصل:

30 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: إن الله يحب كل قلب حزين ويحب كل عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيدة يوم القيامة: أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا رب: فيقول: لم تشكني إذ لم تشكره، ثم قال: أشكر كم الله أشكركم للناس.

* الشرح:

قوله (أشكرت فلانا فيقول بل شكرتك يا رب فيقول لم تشكرني إذ لم تشكره) لعل معناه أن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على احسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر احسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الامرين بالاخر، والحاصل أن من لم يشكر الناس كان كمن لم يشكر الله وان شكره، وقيل معناه ان من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له ولا ينافي هذا الخبر ما روي عن أمير المؤمنين «ع» قال «ولا يحمد حامد الا ربه» حيث قصر الحمد والثناء على الله لان المراد أنه مبدء كل نعمة يستحق بها الحمد وان كل حمد يرجع إليه في الحقيقة كما صرح به جماعة من المحققين وقد يجاب بأن الغير يتحمل المشقة بحمل رزق الله إليك فالنهي عن الحمد لغير الله على أصل الرزق لان الرازق هو الله والترغيب في الحمد له على تكلف من حمل الرزق وكلفة ايصاله باذن الله ليعطيه أجر مشقة الحمل والايصال، وبالجملة هناك شكران شكر للرزق وهو لله وشكر للحمل وهو للغير ويؤيده ما روى في طرق العامة ولا تحمدن أحدا على رزق الله،

ص:301

وقيل النهى مختص بالخواص من أهل اليقين الذين شاهدوه رازقا ولا تحمدن أحدا على رزق الله، وقيل النهى مختص بالخواص من أهل اليقين الذين شاهده رازقا شغلوا عن رؤية الوسائط فنهاهم عن الاقبال عليها لأنه تعالى يتولى جزاء الوسائط عنهم بنفسه والامر بالشكر مختص بغيرهم ممن لاحظ الأسباب والوسائط كالأكثر لان فيه قضاء حق السبب أيضا والتعميم أولى لان الواسطة في الخبر أيضا عزيز كصاحبه ومستحق للشكر مثله وقد شكر الله عبده مع كمال غناه عنه فقال (نعم العبد أنه أواب) وقال (انه كان صديقا نبيا).

ص:302

باب حسن الخلق

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.

* الشرح:

قوله (ان أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا) فان الايمان الكامل لا يتحقق الا بتحقق شروق الباطن بالمعارف الإلهية والعلوم الربانية والفضائل النفسانية واشتغال الظواهر بالاعمال الحسنة المرضية، وذلك يتفاوت بحسب تفاوت الجذباب الربوبية (1) فمن كان ذلك الشروق والعلوم والاشتغال والفضائل فيه أتم كان ايمانه أكمل وظاهر أن جملة تلك الفضائل هي حسن الخلق وهو انما يحصل من الاعتدال بين الافراط والتفريط في القوة العقلية والشهوية والقوة الغضبية ويعرف ذلك بمخالطة الناس بالجميل والتودد والصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة والمراعاة والمواساة والرفق والحلم والصبر واللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة والمراعاة والمواساة والرفق والحلم والصبر والاحتمال لهم والاشفاق عليهم، وبالجملة حسن الخلق تابع لاستقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وحالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الاخلاق النفسانية واشتباك بعضها ببعض، ومن ثم قيل هو حسن الصورة الباطنة التي هي صورة الناطقة كما أن حسن الخلق حسن الصورة الظاهرة

ص:303


1- 1 - قوله «بحسب تفاوت الجذبات الربوبية» الانسان لا يجد بالأدلة العقلية والبراهين العلمية أكثر من علم اجمالي بوجود الواجب تعالى وعرفان غيبي تعارضه الأوهام الكثيرة بخلاف ما إذا وجده بالكشف والشهود نظير ما يجد في نفسه من عشقه وشوقه وخوفه ورغبته وتقواء وفجور ولذته وألمه إلى غير ذلك من ملكاته وحالاته بحيث لا يشك في هذه الحالات من نفسه ولا يعارضه معارض من أوهامه كذلك يمكن أن يجد في نفسه ارتباطه مع مبدء قادر قيوم حكم وتعلقه به ويعرف في هذا التعلق صفاته تعالى وأسمائه وسائر ما يمكن له معرفته من المبدء عز وجل وبه يتم ايمانه ويكمل ويصير بمنزلة من رآه بعينه ويكلمه في خلواته ويونسه في وحشته ولا يشك فيه كما لا يشك في جوعه وشبعه ولا يعارضه وهمه ولا يمكن الاتصال بالمبدء الا برفض الرغبة إلى الدنيا فيترتب عليه ترك الحسد والبخل والحرص والسرقة والكذب والخيانة فان ارتكاب هذه وأمثالها ليس الا للدنيا وتحصيل المال أو الجاه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه حتى يحب بأحدهما الدنيا وبالاخر الله تعالى، كما أن المستغرق في الدنيا يترك الله لا محالة والمستغرق في حبه تعالى يترك الدنيا إذا تعارضا. (ش).

وتناسب الاجزاء من الانف والعين والحاجب والفم وغيرها الا أن حسن هذه الصورة الظاهرة ليس بقدرتنا واختيارنا بخلاف حسن الصورة الباطنة فإنه من فيض الحق وقد يكون مكتسبا ولهذا تكررت الأحاديث على الحث به وبتحصيله في مواضع عديدة.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن رجل من أهل المدينة، عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.

* الشرح:

قوله (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق) دل على أن الثواب والعقاب يتعلقان به كما يتعلقان بالاعمال الظاهرة بل قيل تعلقهما به أكثر من تعلقهما بهما وعلى أن الاخلاق توزن يوم القيامة، ولعل المراد انها توزن بعد تجسيمها في تلك النشأة وهو المشهور بين أهل الاسلام وعليه الروايات المتكثرة وقيل وزنها كناية عن التسوية والعدل لان الاعراض لا يعقل وزنها، وقال الشيخ: العرض في هذه النشأة قد يتجسم في الآخرة وبسط الكلام في توجيهه في الأربعين.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد الحناط، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أربع من كن فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوبا لم ينقصه ذلك، (قال) وهو الصدق وأداء الأمانة والحياء وحسن الخلق.

* الشرح:

قوله (أربع من كن فيه) أي خصل أربع فأربع خلف من موصوف وهو المصحح للابتداء بها وجملة الشرط بعده خبره (وان كان من قرنه إلى قدمه ذنوبا) مبالغة في كثرة ذنوبه أو كناية عن تجسمه منها أو عن صدورها من كل جارحة من جوارحها وحملها على الصغائر محتمل كحملها مطلقا.

قوله (وهو الصدق وأداء الأمانة) هذه الأربعة أعنى صدق اللسان أو جميع الأعضاء وأداء أمانة الخالق والخلق والحياء المانع مما يذم وحسن الخلق مانعة من ارتكاب الذنوب وماحية لما سبق منها كبيرة أو صغيرة واحتمال تخصيصها بالصغيرة بعيد.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن عنبسة العابد قال:

قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع

ص:304

الناس بخلقه.

* الشرح:

قوله (من أن يسع الناس بخلقه) وان كان الناس يسيئونه، قيل لبعض الكرام قد اجترأ عليك خدمتك حتى أنهم ما يجيبون نداءك فقال: انى مثلث بين أن يفسدوا أو يفسد خلقي فوجدت فسادهم أهون على من فسادي؟

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ذريح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق.

* الشرح:

قوله (أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق) لان بالتقوى يستقيم الامر مع الله وبحسن الخلق يستقيم النظام مع الناس وهما من أعظم الأسباب للدخول في الجنة لان صاحبهما طيب والجنة للطيبين.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي وعبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشم الجليد.

* الشرح:

قوله (ان الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد) الميث والموت الإذابة.

مثت الشيء أميثه وأمواثه - من بابي باع وقال - فانماث إذا ذقته وخلطته بالماء وأذبته والجليد هو الماء الجامد من البرد، وذلك لأن الحسن الخلق لكونه مستلزما لكثير من الفضائل الظاهرة والباطنة يطهر الظاهر والباطن من الأعمال القبيحة، فإنه يمنع اليد من الضرب واللسان من الشتم والفحش والقلب من الحقد والحسد والكبر وقس على ذلك (1)

ص:305


1- 1 - قوله في ص 278 «بحسب تفاوت الجدبات الربوبية» الإنسان لا يجد بالأدلة العقلية والبراهين العلمية أكثر من علم اجمالي بوجود الواجب تعالى وعرفان غيبي تعارضه الأوهام الكثيرة بخلاف ما إذا وجده بالكشف والشهود نظير ما يجد في نفسه من عشقه وشوقه وخوفه ورغبته وتقواه وفجوره ولذته وألمه إلى غير ذلك من ملكاته وحالاته بحيث لا يشك في هذه الحالات من نفسه ولا يعارض معارض من أوهامه كذلك يمكن أن يجد في نفسه ارتباطه مع مبدء قادر قيوم الحكيم وتعلقه به ويعرف في هذا التعلق صفاته تعالى وأسمائه وسائر ما يمكن له معرفته من المبدة عز وجل وبه يتم إيمانه ويكمل ويصير بمنزلة من رآه بعينه ويكلمه في خلواته ويونسه في وحشته ولا يشك فيه كما لا يشك في جوعه وشبعه ولا يعارضه وهمه ولا يمكن الاتصال بالمبدء إلا برفض الرغبة إلى الدنيا فيترتب عليه ترك الحسد والبخل والحرص والسرقة والكذب والخيانة فإن ارتكاب هذه ومثالها ليس إلا للدنيا وتحصيل المال أو الجاه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه حتى يجب بأحدهما الدنيا وبالآخر الله تعالى، كما أن المستغرق في الدنيا يترك الله لا محالة والمستغرق في حبه تعالى يترك الدنيا إذا تعارضا. (ش) قوله أيضا في ص 287 «بل قيل تعليقها به أكثر» هو الظاهر من أحاديث هذا الباب والعجب أن الناس تركوا علم الأخلاق والعمل بما يقتضيه هذه العلم واقتصروا على الأعمال الظاهرة وظنوا انحصار السعادة الاخروية فيها ولا يهتمون بتزكية النفوس من مهلكاتها عشر ما يهتمون بإزالة النجاسات عن أثوابهم وهو من مضلات الفتن وقال الله تعالى «يوم لا ينفع ما ولا بنون إلا من اتى الله بقلت سليم» وقال «لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم» وقال تعالى «ونفس ما سويها فألهمها فجورها وتقويها قد أفلح من زكيتها وقد خاب من دسيها» ولكن اقبالهم على الفقه إنما هو لقرب مسائلة من المحسوسات وكونها أقرب إلى الفهم والعمل، ويظهر العدالة والفسق بالأعمال الظاهرة دون الملكات. والحقوق المالية يحفظ بالفقه ويطلب باحكامه ولذلك ظنوا احتياجهم إلى الفقه أشد من علم الأخلاق. (ش)

* الأصل

8 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.

* الشرح

قوله: (البر وحسن الخلق يعمران الديان ويزيدان في الأعمار) لأنهما من أعظم أسباب العشرة والخلطة والتعاون وذلك يوجب تعمير الديار والبلاد، وأما أنهما يزيدان الأعمار فبالخاصية أو باعتبار (1)

* الأصل

9 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد قال: حدثني يحيى بن عمرو، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أوحى الله تبارك وتعالى إلى بعض أنبيائه (عليهم السلام) الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشمس الجليد.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي الوشاء عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هلك رجل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتي الحفارين فإذا بهم لم يحفروا شيئا وشكوا

ص:306


1- 1 - قوله «فبالخاصية أو باعتبار» والظاهر أن طول العمر بسبب أن شراسة الطبع وسوء الخلق يوجبان الروح وقلق النفس واضطراب القلب وأمراض الأعصاب والدماغ وربما يوجب شدة الغضب فجأة أو سكتة. (ش)

ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله ما يعمل حديدنا في الأرض، فكأنما نضرب به في الصفا، فقال: ولم إن كان صاحبكم لحسن الخلق، إيتوني بقدح من ماء، فأتوه به، فأدخل يده فيه، ثم رشه على الأرض رشا ثم قال: احفروا، قال حفر الحفارين، فكأنما كان رملا يتهايل عليهم.

* الشرح

قوله: (إن كان صاحبكم لحسن الخلق) أن مخففة بدليل اللام في خبر كان وليس للشرط و «ايتوني» جزاء بل هو ابتداء كلام. فكأنما كان رملا يتهايل عليهم أي يصب عليهم من هلت الدقيق في الجراب هيلا من باب ضرب صببته. وقال أبو زيد هلت من التراب صببته بلا رفع اليدين. ويقرب منه قول الأزهري هلت التراب الرمل وغير ذلك إذا أرسلته فجرى، وبعضهم يقول هلت الرمل حركت أسفله فسال من أعلاه.

* الأصل

11 - عنه، عن محمد بن سنان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الخلق منيحة يمنحها الله عز وجل خلقه، فمنه سجية ومنه نية، فقلت: فأيتهما أفضل؟ فقال: صاحب السجية، هو مجبول لا يستطيع غيره وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبرا، فهو أفضلهما.

* الشرح

قوله: (ان الخلق منيحة يمنحها الله عز وجل خلقه) المنحية والمنحة العطية والمنح الاعطاء (فمنه سجية ومنه نية) السجية الخلق والطبيعة والنية والمكتسبة بقرينة المقابلة يقال نويته أنويه أي قصدته، والاسم النية مثقلة والتخفيف لغة. وهذا صريح في أن الخلق منه طبيعي عزيزي خلقه الله في بدء الفطرة ومنه مكتسب بأن يتمرن عليه حتى بصير كالغريزة فبطل قول من قال أنه غريزة لا مدخل للاكتساب فيه (1) أمير المؤمنين (عليه السلام) «وعود نفسك الصبر على المكروه فنعم الخلق التصبر» وفيه إشارة إلى الصبر المكتسب والترغيب فيه; والمراد بالتصبر مشقته بتكلف تحمل الصبر لكونه غير خلقي وهو محمود عند الخالق ومشكور لدي الخلائق وليس المراد به اظهار الصبر مع عدم اتصافه به إذ لا محصل له.

* الأصل

12 - وعنه، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن إبراهيم عن علي بن أبي علي اللهبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي

ص:307

المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويروح.

* الشرح

قوله: (قال إن الله تبارك وتعالى ليعطى العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في سبيل الله) لاشتراكهما في حفظ نظام الخلق ورعاية حقوق أهل الإيمان وأصل الجهاد مع النفس والعدو.

(يغدو عليه ويروح) حال عن المجاهد أي يغدو المجاهد على سبيل الله أي يذهب فيه أول النهار أو مطلقا ويروح ويرجع أو يذهب في آخره أو مطلقا، والمقصود أن ثواب العبد في حسن خلقه مثل ثواب هذا المجاهد الساعي في الجهاد المستمر فيه، وفيه، وفي المصباح غدا غدوا من باب قعد ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان وراح يروح رواحا أي رجع كما في قوله تعالى (غدوها شهر رواحها شهر» أي ذهابها شهر ورجوعها شهر وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار قاله الأزهري وغيره، وعليه قوله (عليه السلام) «من راح إلى الجنة الجمعة في أول النهار فله كذا» أي ذهب.

* الأصل

13 - عنه، عن عبد الله الحجال، عن أبي عثمان القابوسي، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا من أخلاق أوليائه ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم.

* الشرح

قوله: (إن الله تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا) أشار بالإعارة إلى أن أخلاقهم (1) تبقى بعد موتهم ولا تنفعهم فيما بعد. وإنما هي كالعارية فيهم لمصالح المؤمنين وحفظهم عن غايلتهم.

ص:308


1- 1 - قوله «أشار بالإعارة إلى أن أخلاقهم» إنما تبقى الملكات الحسنة مع النفوس بعد الموت إذا كانت راسخة فمن عمل حسنا أو أظهر فضيلة من الفضائل وقتا واعرض عنها في سائر أوقاته لم ينفعه شيء، وأعلم أن الله تعالى هدى عقولنا إلى أن سعادة الإنسان في تحصيل الملكات الفاضلة لأنه تعالى لم يجعل شوقا في قلوب الإنسان ولا رغبة في أوهام الحيوان ولا صفة من الصفات في شي إلا لمصلحة فيها فجعل المحبة في قلوب الأمهات لحفظ الأولاد، والنفرة من العفونات للتجنب من الأمراض واستحسان الماء والخضر لتعمير البلاد وازدياد الارزاق، والشهوة لبقاء النسل وكذلك الهم الانسان استحسان الفضائل وتقبيح الرذائل فكل أحد يميز بعقله العملي بين الحسن والقبح ويلوم الظالم والقاتل والسارق والزاني ويمدح المحسن السخي العفيف العادل وليس ذلك الخلق في الإنسان عبثا بل لابد أن يكون هذا يفيده فائدة كسائر غرائزه وملكاته قال تعالى « ونفس ما سويها فألهمها فجورها وتقويها» أي أعطاها معفرة الحسن والقبح بعقله ولذلك مصلحه البتة وهي ما ذكره تعالى بقوله «قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها». (ش)

وفي رواية اخرى: لولا ذلك لما تركوا وليا لله إلا قتلوه.

* الأصل

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن العلاء بن كامل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدا من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حسن خلق، فيبلغه الله ب [- حسن] خلقه درجة الصائم القائم.

* الشرح

قوله: (فإن استطعت أن لا تخالط أحدا من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل) كأنه أريد باليد العليا المنفقة أو المعطية فإن اليد العليا منفقة معطية واليد السفلى سائلة آخذه، أو أريد بها اليد اليمنى فإن اليمنى أعلى من اليسرى في القوة، وهي على التقديرين كناية عن حسن الخلق كما يشعر به التعليل.

* الأصل

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز ابن عبد الله، عن بحر السقا قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا بحر حسن الخلق يسير، ثم قال: ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة؟ قلت: بلى، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم تقل شيئا ولم يقل لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي في الرابعة وهي خلفه، فأخذت هدبة من ثوبه ثم رجعت فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل حبست رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث مرات، لا تقولين له شيئا ولا هو يقول لك شيئا، ما كانت حاجتك إليه؟ قالت: إن لنا مريضا فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه، [ل] - يستشفي بها، فلما أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني وأكره أن أستأمره في أخذها، فأخذتها.

* الشرح

قوله: (حسن الخلق يسر) أي سبب لليسر لأن الناس مجبولون بحب من يلاقيهم بحسن الخلق ورعايته. (ألا أخبرك بحديث ما هو في يدي أحد من أهل المدينة) الجملة صفة الحديث و «ما» نافية.

قوله: (فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) حسن الخلق من صفات الأنبياء والأولياء وأفضلهم وأكملهم في هذه

ص:309

الفضيلة هو نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذلك وصفه الله تعالى بقوله (إنك لعلى خلق عظيم» فإن تنكره مع وصفه بالعظيم يدل على أنه في علو قدره وبحيث لا تصل إليه عقول البشر ولا يحوم حوله طائر الفكر والنظر.

(فأخذت هدبة من ثوبه) هدبة الثوب مما يلي طرته والقطعة منه مثال غرقة وضم الدال للاتباع لغة.

* الأصل

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حبيب الخثعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وتوطا رحالهم.

* الشرح

قوله: (الموطؤون أكنافا) هذا مثل لمن لأن طبعه وحسن خلقه وحقيقته من التوطئة والتمهيد والتذليل، وفراش وطئ أي مذلل ناعم لا يؤذي جنب النائم. والأكناف جمع الكنف بالتحريك وهو الجانب والناحية، أراد الذين جوانبهم ونواحيهم وطئه يتمكن منها من يصاحبهم ولا يتأذي بخلاف سيئ الخلق والمتكبر.

(الذين يألفون ويؤلفون) أي يأنسون بالناس ويحبونهم ويجتمعون معهم، في المصباح ألفته ألفا من باب علم آنست به وأحببته والاسم الألفة بالضم والألفة أيضا اسم من الايلاف وهو الالتيام والاجتماع واسم الفاعل آلف مثل عالم والجمع آلاف مثل كفار، وتوطأ رحالهم للزيارة أو الضيافة أو لقضاء الحاجة، ورحل الرجل منزله ومأواه وأثاث بيته وفيه ترغيب في حسن الخلق لأنه موجب لذلك كما في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) و «أكرم الحسب حسن الخلق» وإنما كان أكرم لأنه أكثر فائدة وأفر عائدة.

* الأصل

17 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله ابن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

* الشرح

قوله: (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) لأن عدم الألفة في أهل الدين يوجب أذاهم وتبددهم وتقاطعهم وتفرقهم فيه وتدابرهم وعداوتهم وكل ذلك يوجب زوال الخير عنهم كما هو المعلوم بين المتقاطعين.

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم.

ص:310

باب حسن المعاشرة

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن الحسين قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

ورواه عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) إلا أنه قال: يا بني هاشم.

* الشرح

قوله: (يا بني عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم) الوسع والسعة والجدة الطاقة أي لا يتسع أموالكم لعطائهم ورفع احتياجهم. فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم كما أشار إليه بقوله (فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر) أي فالقوهم باستبشار الوجه وبشاشته وانبساطه وهو من لوازم التواضع وحسن الخلق.

* الأصل

2 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من أتى الله بواحدة منهن أوجب الله له الجنة: الإنفاق من اقتار والبشر لجميع العالم والانصاف من نفسه.

* الشرح

قوله: (الإنفاق من اقتار) الاقتار والتقتير التضييق في الرزق يقال اقتر الله رزقه وقتره ضيقه وقلله وذلك بأن ينقص من كفافه شيئا ويعطيه من هو أحوج منه أو من لا شيء له أو بأن ينفق مع ضيقه فيكون ترغيبا في الإيثار كالآية، (والبشر لجميع العالم) البشر بالكسر طلاقه الوجه وبشاشته وهو مطلوب أما للمؤمنين كما قيل ودارهم مادت في دارهم، (والانصاف من نفسه) أنصفت الرجل انصافا عاملته بالعدل والقسط والاسم النصفة بفتحتين لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك فالمراد به التسوية بين نفسه وبين غيره وعدم رجحان نفسه على في شيء مأخوذ من النصف.

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام به سالم، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله أوصني فكان فيما أوصاه أن قال: ألق أخاك بوجه

ص:311

منبسط.

4 - عنه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما حد حسن الخلق ؟ قال: تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن.

* الشرح

قوله: (تلين جناحك) أي تواضع لخلق الله وقد أمر الله به سيد المرسلين فقال (واخفض جناحك للمؤمنين) وفيه استعارة تمثيلية (وتطيب كلامك) ومنه أن تسمى أخاك بأحسن أسمائه ولا تغلظ في نصحه.

* الأصل

5 - عنه، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن فضيل قال: صنايع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبة ويدخلان الجنة والبخل وعبوس الوجه يبعدان من الله ويدخلان النار.

* الشرح

قوله: (يكسبان المحبة) أي محبته تعالى بمعنى إفاضة الرحمة والاحسان أو محبة الخلق له ويؤيد الأول قوله «ويبعد أن من الله» لأن الظاهر أن يترتب على أحد الضدين نقيض ما يترتب على الضد الآخر.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسن البشر يذهب بالسخيمة.

* الشرح

قوله: (حسن الشبر يذهب بالسخيمة) أي بالضغينة والموجودة والحقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «البشاشة حبالة المودة» أراد أن طلاقة الوجه وحسن البشر تصطاد القلوب بها ولاحظ مشابهة الطلاقة بالحبالة ومشابهة القلوب بالصيد.

ص:312

باب الصدق وأداء الأمانة

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين ابن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عز وجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفجار.

* الشرح

قوله: (إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث) صدق الحديث دائما تابع لملكة استقامة اللسان التابعة لإستقامة القلب ومن ثم قيل: إذا استقام القلب استقام اللسان. واستقامة القلب تابعة لإستقامة الحقيقة الإنسانية وتمام صورته المعنوية وهذا مستلزم لفيضان النفس القدسية على تفاوت مراتبها وأعلى مراتبها للأنبياء والمرسلين وما دونه لخواص المؤمنين ومن هذا يتحقق التناسب بينهما.

(وأداء الأمانة إلى البر والفجار) كما قال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا أمانات إلى أهلها» وقد إبتلى به جم غفير من السالكين وليس لإختبار الناس أعظم منه.

* الأصل

2 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه إستوحش ولكن إختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة.

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن مثنى الحناط عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من صدق لسانه زكي عمله.

* الشرح

قوله: (من صدق لسانه زكي عمله) لأن صدق اللسان تابع لطهارة القلب وهي مستلزمة لزكاة عمله وطهارته ونموه وبركته والمدح عليه وأيضا اللسان مورد لجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة ومتناول لمدركات جميعا فصحته وهي صدقه في الحديث توجب صحة جميع الأعضاء وصدور أعمال الأصحاء منها فلذلك يزكو عمله على الإطلاق كما أن مرضه وهو الكذب يوجب مرض جميع الأعضاء

ص:313

وصدور أفعال المرضى منها، فلذلك لا يزكو شيء من أعماله. وأيضا علة صدقه وهي الخوف من الله والفرار من اللوم في وقت ما وهو وقت أن يسأل عن أعماله الصالحة وإضطراره إلى الجواب عنها يبعثه على تزكية الأعمال.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن عمرو بن أبي المقدام قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه: تعلموا الصدق قبل الحديث.

* الشرح

قوله: (قال قال لي أبو جعفر (عليه السلام) في أول دخلة دخلت عليه تعلموا الصدق قبل الحديث) الظاهر أن القبل متعلق بتعلموا وفيه ترغيب في التفكر في الكلام لتعرف الصدق، ثم التكلم به ومثله قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لسانه العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» يعني أن العاقل يعلم الصدق والكذب أولا ويتفكر فيما يقول ما هو الحق والصدق والأحمق يتكلم ويقول من غير تأمل وتفكر فيتكلم بالكذب والباطل كثيرا وإنما قلنا الظاهر لاحتمال أن يكون بدلا عن قوله «في أول دخلة» أو متعلقا بقال، يعني قال (عليه السلام) ابتداء قبل التكلم بكلام آخر تعملوا الصدق ولكنه بعيد لفظا ومعنى.

* الأصل

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي كهمس قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرئك السلام، قال عليك وعليه السلام إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فألزمه، فإن عليا (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي إسماعيل البصري، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا فضيل إن الصادق أول من يصدقه الله عز وجل، يعلم أنه صادق وتصدقه نفسه تعلم أنه صادق.

* الشرح

قوله: (إن الصادق أول من يصدقه الله) فالكاذب أول من يكذبه الله ثم نفسه وفيه ترغيب في الصدق وتنفير عن الكذب لأن العاقل يتنفر عن تكذيب المخاطب ويستنكف منه كما قال موسى (عليه السلام) (رب إني أخاف أن يكذبون» فكيف إذا كان المخاطب هو الله عز وجل.

* الأصل

ص:314

7 - ابن أبي عمير، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما سمي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم [قال] إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك.

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر الخزاز، عن جده الربيع بن سعد قال:

قال لي أبو جعفر (عليه السلام) يا ربيع إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقا.

* الشرح

قوله: (إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقا) الصديق فعيل للمبالغة في الصدق وهو يطلق على فعل اللسان إذا طابق الواقع فلو قال ضرب زيد وهو لم يضرب أو قال (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض» وكان وجه قلبه إلى غيره تعالى مثل الدنيا وغيرها فهو كاذب وعلى فعل القلب مثل النية وصدقها تجريدها عن غير وجه الله تعالى وهو الإخلاص والعزم على الخيرات مع عقد القلب عليها إن وجد مالا فلو كان بدون العقد كان كاذبا وعلى التوافق بين الظاهر والباطن فلو كان لظاهره وقار فصدقه بأن يكون لباطنه أيضا وقار وعلى كل مقام من مقامات الدين إذا حصلت حقيقة مثل الصوم والصلاة والحج والزهد والمحبة والتوكل والخوف والرجاء والرضا والشوق وغيرها فإن هذه الأمور صادقة إذا حصلت حقيقتها للمتصف بها وكاذبة إذا لم تحصل. وعلى الوعد إذا وفي بها كما قال سبحانه (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» ومن بلغ في هذه الأمور وغيرها حد الكمال أو قريبا منه فهو صديق.

* الأصل

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العبد ليصدق حتى يكتب عند الله من الصادقين ويكذب حتى يكتب عند الله من الكاذبين، فإذا صدق قال الله عز وجل صدق وبر; وإذا كذب قال الله عز وجل: كذب وفجر.

10 - عنه، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الإجتهاد والصدق والورع.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم قال: قال أبو الوليد حسن بن زياد الصيقل: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من صدق لسانه زكى عمله ومن حسنت نية زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته مد له في عمره.

12 - عنه، عن أبي طالب، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن

ص:315

ذلك شيء إعتاده، فلو تركه إستوحش لذلك ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته.

* الشرح

قوله: (لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده) أريد بطولهما الحقيقة أو كثرة الصلاة وتخصيصهما بالذكر من بين الأعمال البدنية على سبيل التمثيل أو للتنبيه على أنهما مع زيادة الفضيلة إذا لم يعتدا فغيرهما بعدم الاعتداد.

ص:316

باب الحياء

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن على بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة.

* الشرح

قوله: (الحياء من الإيمان) الحياء وصف للنفس يوجب إنقباضها عن القبيح وإنزجارها عن خلاف الآداب خوفا من اللوم وإنما جعل كالبعض من الإيمان لمناسبة له في أنه يمنع من المعاصي كالإيمان أو لأن المراد بالإيمان الإيمان والكمال المعتبر فيه الأعمال والحياء لكونه داعيا إلى فعل المأمورات وترك المنهيات جزء منه، وبعبارة أخرى الإيمان تصديق وإقرار وإيتمار بالمأمور به وانتهاء عن المنهي عنه فإذا حصل الإيتمار وانتهاء بالحياء كان الحياء بعض الإيمان وجزءا منه أو المراد أن الحياء من شيم أهل الإيمان ومكارم أخلاقه ومحاسنه التي ينبغي التخلق بها.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن الحسن الصيقل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الحياء والعفاف والعي - أعني عي اللسان لا عي القلب - من الإيمان.

* الشرح

قوله: (أعنى عى اللسان لاعي القلب) العي - بالكسر - يطلق على معنيين أحدهما داء في اللسان وهو لكنة وفهاهة توجب العجز عن البيان والافصاح بمراد الإنسان، وثانيهما داء في القلب يوجب العجز عن إدارك الحق وإبصار المعقولات فأشار (عليه السلام) إلى أنه ليس المراد به المعنى الثاني الذي ينقص الإيمان به نقصانا فاحشا بل المراد به المعنى الأول الذي يوجب نقصان الدنيا وزيادة الآخرة والإيمان والمعنى أن الحياء الذي يوجب مراقبته تعالى ومراعاة أو أمره ونواهيه وآدابه والعفاف عن كثير الدنيا أو عن المعاصي أو عن السؤال وعي اللسان وهو قصوره عن البيان أو حفظه عن التكثير فيه والتناول للأقوال الباطلة والمباحة، من الإيمان أي من قبله في المنع عن القبايح أن من أفراده أو من أجزائه أو من شيم أهله ومحاسنه التي ينبغي التخلق بها.

* الأصل

3 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن مصعب بن يزيد، عن العوام ابن الزبير، عن أبي

ص:317

عبد الله (عليه السلام) قال: من رق وجهه رق علمه.

* الشرح

قوله: (من رق وجهه رق عمله) لعل المراد أن من ضعف حياؤه ضعف علمه لتوغله في القبايح وهو يوجب نقصان العلم أو المراد أن من ضعف وجهه من السؤال في العلم لحيا الحمق المانع منه ضعف علمه وفي هذا المعنى ما نقل من أنه قيل لبعض الحكماء: بم بلغت ما بلغت؟ قال بعدم الإستحياء من السؤال في استكشاف الأمور وحل الإشكال.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن يحيى أخي دارم، عن معاذ بن كثير، عن أحدهما (عليهم السلام) قال: الحياء والإيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه.

* الشرح

قوله: (الحياء والإيمان مقرونان في قرن) القرن بالتحريك الحبل الذي يشد الأسيران به والمعنى أن الحياء والإيمان مجموعان في حبل واحد فإذا ذهب أحدهما ذهب الآخر وتبعه وفيه إشارة إلى أن بينهما تلازما وإلى إن الحياء ليس جزء من الإيمان ولا فردا منه فلا بد من القول به أو بحمل الإيمان هنا على التصديق والقول بأنه لا يستقر في القلب بدون الحياء.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن الفضل بن كثير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا إيمان لمن لإحياء له.

* الشرح

قوله: (لا إيمان لمن لإحياء له) لما عرفت من إنهما مقرونان في حبل واحد إذا ذهب أحدهما تبعه الاخر، وإن أريد بالإيمان الكامل وجعل الحيا جزءا منه فالوجه ظاهر.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابنا، رفعه قال: قال رسول الله (عليه السلام):

الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل.

* الشرح

قوله: (الحياء حياء أن - الخ) قد ذكرنا في أول الكتاب أن إنقباض النفس عن فعل الخير حياء مجازا كإستحياء المرأة عن تعلم مسائل الحيض وأحكام غسل الجنابة مثلا وإن تقسيم الحيا إليه وهو حياء الحمق وإلى حياء العقل الموجب للإنقباض عن القبيح لا يدل على أنه حقيقة في كلا القسمين.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله ابن إبراهيم،

ص:318

عن علي بن أبي علي اللهبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربع من كن فيه وكان من قرنه إلى مقدمه ذنوبا بدلها الله حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر.

باب العفو

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته: ألا اخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟: العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك.

* الشرح

قوله: (العفو عمن ظلمك) من صفات الكرام العفو عن الظالم والتجاوز عن المسئ ومن صفات اللئام الانتقام وطلب التشفي والمعاقبة لدفع الغيظ وهو آفة نفسانية تغير الجهال والناقصين من أجل تأثر نفوسهم عن كل ما يخالف هواها.

قوله: (وتصل من قطعك) باليد واللسان ومراقبة أحواله في كل زمان والإحسان إلى من أساء إليك وهو الحسن ومن الإحسان إلى من أحسن إليك.

(وإعطاء من حرمك) فإذا أحسنت إلى أحد ولم يقابل إحسانك بإحسان أو لم يشكرك أو أساء إليك لا ترغب عن الإحسان إليه وإلى غيره بسبب الكفران فإنه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره ولو لم يشكرك أحد فإن الله يحب المحسنين كما نطق به القرآن المبين وكفي به شرفا وفضلا.

2 - عدة من أصابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس إن يعقوب، عن غرة بن دينار الرقي، عن أبي إسحاق السبيعي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي عبد الله نشيب اللفائفي; عن حمران بن أعين قال: أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جهل عليك.

4 - علي، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي مناد: أين أهل الفضل؟ قال:

فيقوم عنق من

ص:319

الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا و نعطي من حرمنا ونعفو عمن ظلمنا، قال: فقال لهم: صدقتهم ادخلوا الجنة.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن جهم بن الحكم المدائني، عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا، فتعافوا يعزكم الله.

* الشرح

قوله: (فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا في الدنيا) لأن من عرف بالعفو ساد وعظم في القلوب فيزيده عزة، أو في الآخرة لأنه يوجب زيادة إلا جر ورفع الدرجة.

* الأصل

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القماط عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة.

* الشرح

قوله: (الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة) أما إنها أيسر فلان الفعل الواقع إذا ندم عليه لا يمكن عدم إيقاعه قطعا بخلاف غير الواقع إذا ندم على عدم إيقاعه فإنه يمكن إيقاعه غالبا فالتدارك في الأول متعذر وفي الثاني ممكن، وقد تنبه بهذا بعض الملوك فقال ينبغي أن يكون عفو الملك أكثر من عقوبته لأنه أن عفى في مقام يقتضي العقوبة وأخطأ فندم عليه أمكنه أن يتدارك ويعاقب وإن عاقب في مقام يقتضي العفو وأخطأ فندم عليها لا يمكنه التدارك. وأما إنها مع أفضل مع أن النفس في الندامة على العفو راجعة إلى هواها ومقتضاها في القوة الشهوية والغضبية وفي الندامة على العقوبة راجعة إلى الله وإلى خلاف مقتضاها المطلوب شرعا وعقلا، فأما لأنها تابعة للعفو الذي هو أفضل وتابع الأفضل أفضل ولا ينافيه أفضلية الندامة على العقوبة نظرا إلى ذاتها ففيه ترغيب في العفو وتنفير عن العقوبة أو لأن العفو إذا ندم دل ذلك على كما استحقاق العقوبة بخلاف المعاقب إذا ندم لا يدل ذلك على كمال استحقاق العفو فللندامة على العفو زيادة فضل ورجحان وهذا الوجه في غاية البعد، أو لأنها أيسر وهذا أقرب الوجوه.

* الأصل

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن سعدان، عن معتب قال: كان أبو الحسن موسى (عليه السلام) في حائط له يصرم فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمى بها وراء الحائط، فأتيته وأخذته وذهبت به إليه،

ص:320

فقلت: جعلت فذلك إني وجدت هذا وهذه الكارة، فقال للغلام: فلان! فلأي شيء أخذت هذه؟ قال: إشتهيت ذلك، قال: إذهب فهي لك، وقال: خلوا عنه.

* الشرح

قوله: (قد اخذ كارة) هي مقدار معلوم من الطعام وقدر ما يحمل على الظهر.

قوله: (إذهب فهي لك) دل على ان العفو عن السارق وإعطاء المسروق إياه أفضل وهذا من صفات الكرام.

8 - عنه، عن إن فضال قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ما التقت فئتان قط إلا نصر أعظمهما عفوا.

* الأصل

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبيا لم يضره وإن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها.

* الشرح

قوله: (أتي باليهودية التي سمت الشاة) العفو عنها في هذه الصنيعة العظيمة الشديدة على النفوس دل على عظمة قدر العفو وعلو منزلته، ومثله رواه مسلم عن أنس «ان المرأة يهودية أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشاه مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألها عن ذلك فقالت أردت أن أقتلك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال على، قالوا إلا تقتلها قال لا» وروى غير مسلم «إنها لما اعترفت قالت إنما فعلت ذلك لأنك إن كنت نبيا لم يضرك وإن كنت كاذبا أرحت الناس منك» قيل أنه تعالى شفاه في ذلك الوقت ولكن بقي فيه أثر ما فقتله بعد حين. ولذلك قال العلماء إن الله سبحانه قد جمع له بذلك بين كرم النبوة وفضل الشهادة ولا نيافي ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما كان الله ليسلطك على ذلك» لأن المعني ما كان الله ليسلطك قتلى الان وقال: وفي كفاية الله له (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر السم المهلك لغيره معجزة، وقال محي الدين اختلف الرواية هل قلتها ففي هذه أنه لم يقتلها، وفي رواية سلمة أنه قتلها وفي رواية ابن عباس أنه دفعها إلى أولياء بشر وقد كان أكل من الشاة فمات فقتلوها، وقال ابن سحنون: أجمع المحدثون على أنه قتلها، وقال عياض: وجه الجمع أنه لم يقتلها أولا حين أطلع على ما فعلت من السم فلما مات بشر دفعها إلى أوليائه فلم يقتلها في حين وقتلها في آخر، وقال أبو عبد الله الابي هذا الجمع يشكل بأن يقال كيف لم يقتلها أولا وقد نقضت العهد وآذت، وقال الداودي: إنما لم يقتلها لئلا ينقص من عذابها وليبقى أجره موفرا.

* الأصل

ص:321

10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث لا يزيد الله بهن المرء المسلم إلا عزا: الصفح عمن ظلمه وإعطاء من حرمه والصلة لمن قطعه.

* الشرح

قوله: (الصفح عمن ظلمه) أي العفو عن ذنوبه والإعراض عن عقوبته، وأصله الإعراض بصفحة وجهه.

ص:322

باب كظم الغيظ

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هاشم بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهم السلام) يقول: ما أحب أن لي بذل نفسي حمر النعم، وما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها.

* الشرح

قوله: (ما أحب إن لي بذل نفسي حمر النعم) ذل النفس بالكسر سهولتها وإنقيادها وهي ذلول، وبالضم مذلتها وضعفها وهي ذليل، والنعم المال الراعي وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل قال أبو عبيد: النعم الجمال فقط ويؤنث ويذكر وجمعه نعمان مثل حمل وحملان وإنعام أيضا، وقيل النعم الإبل خاصة، والأنعام ذوات الخف والظلف هي الإبل والبقر والغنم، وقيل تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت إلا بل فهي نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما، والمعنى إن ذل نفسي وإنقيادها أو مذلتها بكظم الغيظ أو مطلقا أحب إلى من حمر النعم أملكها أو أتصدق بها وإلا خير أظهر لأن شأنه (عليه السلام) أرفع من أن يحب الدنيا وما فيها، وفيه حض بليغ على كظم الغيظ، وحمر النعم خيارها.

قوله: (وما تجرعت جرعة أحب إلى من جزعة غيظ لا أكافي بها صاحبها) الجرعة من الماء كاللقمة من الطعام وهو ما يجرع مرة واحدة والجمع جرع مثل غرفة وغرف، وتجرع الغصص مستعار منه وأصله الشرب من عجلة، وقيل الشرب قليلا قليلا وإضافة الجرعة إلى الغيظ من باب لجين الماء، والغيظ صفة للنفس عند إحتدادها موجبة لتحركها نحو الانتقام والكلام تمثيل. لا يقال الغيظ أمر جبلي لا إختيار للعبد في حصوله فكيف يكلف برفعه لأنا نقول هو مكلف بتصفية النفس على وجه لا يحركها أسباب الغيظ بسهولة وإن اثرت تلك الأسباب فيها وحصل الغيظ له فهو مكلف بتأديب الغيظ بحيث لا يغلب على العقل والشرع وكلا الأمرين مقدور له.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، وعلي بن النعمان، عن عمار بن

ص:323

مروان، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها، فإن عظيم الأجر لمن عظيم البلاء وما أحب الله قوما إلا ابتلاهم.

* الشرح

قوله: (ما أحب الله قوما إلا ابتلاهم) من ذلك إبتلاؤهم بأذى الناس لهم وأمرهم بكظم الغيظ والصبر عليه ليزيد بذلك أجرهم.

* الأصل

3 - عنه، عن علي بن النعمان، ومحمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال:

إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه.

* الشرح

قوله: (اصبر على أعداء النعم) وهم الظلمة الذين يفترسون الناس لأنهم أعداء نعم الله تعالى ألتي أفضلها وأشرفها الإيمان ومقتضاه من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة فإنك (لن تكافي من عصا الله فيك) بالأذى والإضرار والطغيان.

(بأفضل من أن تطيع الله فيه) بكظم الغيظ والعفو عنه كما قال عز وجل (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» وفي صيغة أفضل دلالة على جواز المكافاة بشرط أن لا يتعدى كما دلت عليه الآية الكريمة ولكن العفو أفضل.

* الأصل

4 - عنه، عن محمد بن سنان، عن ثابت مولى آل حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كظم الغيظ عن العدو في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ به وتحرز من التعرض للبلاء في الدنيا ومعاندة الأعداء في دولاتهم ومماظتهم في غير تقية ترك أمر الله، فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم ولا تعادهم فتحملوهم على رقابكم فتذلوا.

* الشرح

قوله: (كظم الغيظ عن ا لعدو في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ به) الحزم ضبط الأمر وإتقانه والحذر من فواته وإحتلاله وذلك برعاية شرائط نظامه ورفع موانع دوامه، ومن جملة ذلك كظم الغيظ من العدو وعدم إرادة الانتقام منهم في حال ظهور دولتهم لأن مكافأتهم يوجب التعرض للبلاء وإيقاع النفس في الهلكة والعناء.

(ومماظتهم في غير تقية ترك أمر الله) أي مشاردتهم ومنازعتهم تقول ماظظت الرجل مماظة ومظاظا إذا شاردته ونازعته.

(فجاملوا الناس يسمن ذلك لكم عندهم) المجاملة بكظم الغيظ وإظهار الوداد والبشاشة ونحو ذلك.

ص:324

والسمن كثرة اللحم والشحم سمن فلان يسمن من باب تعب وفي لغة من باب قرب إذا كثر لحمه وشحمه، ولعل المراد به هنا الشرافة والعظمة وفي بعض النسخ «يسمن الله ذلك إلى آخره» ويسمن حينئذ من باب الأفعال أو التفعيل أي يجعل الله ذلك عندهم شريفا عظيما تورث المحبة لكم (ولا تعادوهم فتحملوهم على رقابكم فتذلوا) لأن إظهار المعاداة وإجراء أحكام الغيظ والغضب مع العجز عن المقاومة والانتقام يورث ضررا عظيما ومذلة فاحشة وأما مع القدرة على الانتقام فالعفو أحسن لأنه من صفات الكرام.

5 - علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابه، عن مالك بن حصين السكوني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من عبد كظم غيظا إلا زاده الله عز وجل عزا في الدنيا والآخرة وقد قال الله عز وجل: ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وأثابه الله مكان غيظه ذلك.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه، أملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه.

* الشرح

قوله: (أملا الله قلبه يوم القيامة رضاه) كناية عن كثرة إفضاله وإحسانه إليه في ذلك اليوم فلا يرهقه قتر ولا ذلة (1)

ص:325


1- 1 - قوله «فلا يرهقه قتر ولا ذلة» أرى أن ما ذكره الإمام (عليه السلام) يفيد معنى أدق وأعلى مما فسره به الشارح وبيان ذلك إن ملكات النفس وعقايدها وقواها تنقسم إلى ما يبقى بعد الموت لعدم تعلقها بالبدن بوجه، وإلى ما لا يبقى لتوقفها على الأعضاء الظاهرة فالأول كالإيمان بالله العظيم وأصول الدين والمعارف إذ ليس حاملها الحواس والجوارح وكملكة التقوى أو الفجور وأمثال ذلك، وأما الثاني فكالعلوم الجزئية من حيث هي جزئية والمعاني المدركة بالواهمة وأمثالها فلا يبقى للنفس ما تدركه بهذا البصر من حيث هو مدرك بهذا الصبر ولا المحبة والعداوة والخوف الحاصلة بعد رؤية الولد والعدو كالأنثى إذا شاهدت أولادها عرضت لها حالة تبعثها على العطف والتربية والارضاع ولا يعرف الحيوان لها إسما ولا يتعقل مفهوما وإنما يحصل له مصداق المحبة فقط. وكذلك الغنم إذ شاهدت ذئبا عرضت لها حالة تقتضي الفرار والنفرة ونسميها نحن معاشر البشر خوفا ولا يتصور الحيوان له مفهوما بل له المصداق وهو حالة بدنية متعلقة بالأعصاب والدماغ يفقدها كل موجود ليس له عصب ودماغ وكذلك يعرض للإنسان نظير هذه الحالات بقوته الموسومة بالواهمة هي مصاديق مفاهيم كالحسد والغيظ والغضب وهي أي مصاديقها متعلقة بالبدن وأعضائه وعصبه ودماغه ولكن للإنسان عقلا يستطيع أن يعارض به هذه الحالة ويمنعها عن التأثير والحيوان مقهور بالجري على مقتضاها ولا مبدء منع فيه عن ذلك ولذلك كلف الإنسان ولم يكلف سائر الحيوانات والعقل مبدء غير جسماني قاهر على مقتضيات القوة الواهمة ولما كان مجردا غير متعلق بالبدن بقي في البرزخ وعاد في الآخرة والغيظ مقتضى الواهمة وكظمه مقتضى العقل ويبعث يوم القيامة مع العقل ولوازمه من الرضا والأمن والإيمان دون الغيظ. وإذا لم يكظم غيظه وجرى على مقتضاه كالحيوان أوجب ذلك له معاصي كثيرة عقبت في قلبه نفاقا وقسوة وملكات يتأذي بها في الآخرة ويتألم بها العقل المقهور في الدنيا بلوازم الجهل والهوى. (ش)

* الأصل

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن غالب عن عثمان، عن عبد الله بن منذر، عن الوصافي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة.

* الشرح

قوله: (حشا الله قلبه أمنا وإيمانا يوم القيامة) أي إيمانا بالله وأمنا من سخطه ويمكن أن يراد بالإيمان النور الفائض بالتجليات الربانية الذي لا يحتمله إلا قلوب المقربين.

* الأصل

8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الكريم به عمرو، عن أبي اسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا زيد إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه، يا زيد إن اصطفى الإسلام واختاره، فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق.

* الشرح

(فأحسنوا صحبته بالسخاء وحسن الخلق) السخاء هو بذل المقتنيات وصرفها في أهل الحاجة وحسن الخلق مع خلق الله من أعظم أسباب كظم الغيظ فهما مجازان أو كنايتان عنه ولا يبعد أن يكون السخاء شاملا لكظم الغيظ أيضا لأنه من جملة أفراده بوجه.

* الأصل

9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حفص بياع السابري عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أحب السبيل إلى الله عز وجل جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم وجرعة مصيبة تردها بصبر.

* الشرح

قوله: (من أحب السبيل إلى الله جرعتان) أشار جل شأنه إلى الجرعة الأولى بقوله ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» وإلى الجرعة الثانية بقوله (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله إليه راجعون».

* الأصل

ص:326

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عمن حدثة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لي أبي: يا بني مامن شيء أقر لعين أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر، وما من شيء يسرني أن لي بذل نفسي حمر النعم.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبي، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن وهب، عن معاذ بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إصبروا على أعداء النعم فإنك لن تكافي من عصا الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه.

12 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن خلاد، عن الثمالي، عن على بن الحسين (عليه السلام) قال: ما أحب أن لي بذل نفسي حمر النعم وما تجرعت من جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافىء بها صاحبها.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى الحناط، عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى الله عز وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه، إما بصبر وإما بحلم.

* الشرح

قوله: (ما من جرعة يتجرعها العبد أحب إلى عز وجل من جرعة غيظ يتجرعها عند ترددها في قلبه أما بصبر وأما بحلم) المراد بترددها في قلبه إقدام القلب تارة إلى تجرعها لما فيه من الاجر الجزيل والثواب الجميل وإصلاح النفس وتارة إلى ترك تجرعها وإمضائه لما فيه من البشاعة والمرارة. والباء في بصبر للسببية وهو والحلم متقاربان إلا أن الصابر يصبر مع المشقة والحليم لا يرى في نفسه مشقة ومن ثم قيل العادي لا يأمن من الصابر كما يأمن من الحليم.

ص:327

باب الحلم

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن عن محمد بن عبيد الله قال: لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما، وإن الرجل كان إذا تعبد في بني إسرائيل لم يعد عابدا حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين.

* الشرح

قوله: (لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما) الحلم الأناة والتثبت في الأمور وهو يحصل من الإعتدال في القوة الغضبية ويمنع النفس من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية، ومن آثاره عدم جزع النفس عند الأمور الهايلة وعدم طيشا في المؤاخذة وعدم صدور حركات غير منتظمة منها وعدم إشهار المزية على الغير وعدم التهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعا وعقلا وهو من علوا الهمة، والعبادة النفسانية كانت أو بدنية لا عبرة بها ولا تكمل ولا يترتب عليها الاجر الكامل بدونه وقوله «وإن الرجل كان إذا تعبد في بني إسرائيل لم يعد عابدا حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين» السكوت عما لا يعني باب من أبواب الحكمة وله مدخل عظيم في اكتساب الحلم ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «تحملوا تسروا وإذا غضب أحدكم: فيسكت ثلاث مرات».

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة قال:

المؤمن خلط عمله بالحلم، يجلس ليعلم، وينطق ليفهم، لا يحدث أمانته الأصدقاء ولا يكتم شهادته الأعداء ولا يفعل شيئا من الحق رياء ولا يتركه حياء، إن زكي خاف مما يقولون واستغفر الله مما يعلمون، لا يغره (1) قول من جهله ويخشى إحصاء ما قد عمله.

* الشرح

قوله: (لا يحدث أمانته الأصدقاء) كتمان السر والأمانة ووضعهما في صندوق الجنان وعدم فتحه بمفتاح اللسان وعدم إفضائهما لأوثق الاخوان من صفات المؤمن العاقل الكامل في الإيمان فإنه يعلم بنور البصيرة أنه إذا لم يحفظ الأمانة لم يأمن غيره الخيانة وإن كان صديقا له لأن للصديق صديقا ومن ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «حفظ ما في الوعاء بسد الوكاء» ومعناه أن حفظ ما في الجنان إذا

ص:328


1- 1 - كذا في جميع النسخ.

أريد أن لا يطلق غيره إنما هو بحفظ اللسان فإنه آلة تلف الإنسان. ومفاسد الإفشاء بعيدة عن الخفاء.

قوله: (ولا يتركه حياء) قد عرفت أن إنقباض أنفس عن الحق وتركه لرقة الوجه يسمى حياء مجازا (إن زكي خاف مما يقولون) إما لعدم وجوده فيه أو لعدم عمله بكونه مقبولا له تعالى أو لا مكان حصول العجل أو لأن الإنسان وإن بالغ فهو في حد النقص أو لأن التزكية تزكيته تعالى لا تزكية البشر (لا تزكوا أنفسكم ولكن الله يزكي من يشاء».

قوله: (وإستغفر الله مما لا يعلمون) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال فيه فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم مني بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، وإجعلني أفضل مما يظنون، وإغفر لي ما لا يعلمون».

(لا يغيره قول من جهله) فلا يزعجه قول الزور والافتراء والبهتان والغيبة والنميمة ولا يضطر به ولا يحركه إلى الانتقام والمكافاة بالمثل بل يتمسك بالصبر والحلم كما هو شأن أرباب الإيمان وأصحاب الإيقان.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: أنه ليعجبني الرجل أن يدركه حمله عند غضبه.

* الشرح

قوله: (أنه ليعجبني الرجل أن يدركه حمله عند غضبه) فيمنع نفسه من التشفي والانتقام والإقدام على العقوبة ويحملها على العفو مع القدرة على ذلك والعفو من صفات الله وصفات أوليائه ومن شق عليه فليتفكر في أمر الخالق جل شأنه فإنه يشرك به ويجعل له ولد ويعتقد له صفات لا تليق به وهو منزه عنها ثم هو يعافيهم ويرزقهم ويعطيهم ويقضى حوائجهم.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يحب الحيي الحليم.

5 - عنه، عن علي بن حفص العوسي الكوفي، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أعز الله بجهل قط ولا أذل بحلم قط.

* الشرح

قوله: (ما أعز الله بجهل قط ولا أذل بحلم قط) لأن الجهل صفة توجب الذل في الدنيا والآخرة ومنه السفه والأذى والمعاجلة في العقوبة والحلم صفة توجب العزة فيهما أما في الآخرة فظاهر

ص:329

لأنه من جلايل الصفات الموجبة لرفع الدرجات، وأما في الدنيا فظاهر أيضا لأن الحليم عزيز عند الخلايق كلهم ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «الحلم عشيرة» (1) بالعشيرة يتمتع بالحلم ويتوقر لأجله.

* الأصل

6 - عنه، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كفى بالحلم ناصرا، وقال: إذا لم تكن حليما فتحلم.

* الشرح

قوله: (كفى بالحلم ناصرا) المراد أن الحلم ناصر كاف للحليم لأن الناس يحبونه ويميلون إليه ويعينونه في المكاره وقال (إذا لم تكن حليما فتحلم) (2) فاكتسب الحلم لأن الحلم كساير الاخلاق قد يكون خلقيا وقد يكون كسبيا أو المراد فتكلف الحلم

ص:330


1- 1 - قوله «الحلم عشيرة» يرى الجهلاء أن الحلم من الضعف والرجل القوى الغيور لا يتحمل إيذاء الناس وقبول الظلم أفحش من الظلم وربما يتمسك بقول الله تعالى «من إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما إعتدى عليكم» وقال تعالى «ولكم في القصاص حيوة يا أولى الألباب» وقال تعالى «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا» وأيضا السكوت على الظلم والرضا به يوجب تجرى الظالم فإذا علم إن الناس مأمورون بالسكوت زادوا في الظلم والجواب إن للحلم مقاما ولطلب الحقوق مقاما آخر والقدر المسلم إن الإنسان لا يجوز أن ينقاد لعواطفه المترتبة على شهوته وغضبه بحيث يسلب عنه الاختيار ويجري على ما يقتضيه قوته الواهمة با يجب أن يكون مالكا لنفسه ولا يكون قصاصه وإنتقامه وقيامه على من إعتدى عليه إلا بمقتضى عقلية لارضاء عواطفه ومتابعة هواه وشهواته فإنه بهذا يمتاز عن الحيوان وتربية الحلم هي من وظائف الإنسان لا تربية الهوى فإن الحلم هو الذي يبقى له في الآخرة وهو مقتضى العقل والعقل يبقى بجميع ما يقضيه. (ش)
2- 2 - قوله «إذا لم يكن حليما فتحلم» إستدل جماعة من الفلاسفة بوجود الاختيار للإنسان على تجرده ذاتا وبقائه بعد الموت قالوا كل حالة جسمانية لابد أن تحصل جبرا قسرا ولا يستطيع أحد أن يمتنع عنها ويدفعها عن نفسه بل هي أثر حاصل بتأثير مؤثر خارجي أو داخلي في بعض الأعضاء ونحن مجبورون مقهورون في قبوله كالرؤية بالعين فإنها بتأثير النور في الجليدية ولا نستطيع أن لا نرى مع هذا التأثير أيضا ونعض الأبصار ونطبق إلا جفان قهرا عند تحريك أحد إصبعه إليها ويحصل المحبة والخوف عند حصول أسبابها لدنيا قهرا ويضطرب القلب عند الحزن ويجري الدمع ويعرضنا العطاس عند البرد مطلقا وكان جميع حالاتها وعوارضها ناشئة من مزاجات في البدن وتأثيرات خاصة لخصوص مواد وتراكيب في خلاياها وذراتها لزم كون جميعها قهرية ولا يكون للنفس إختيار في أي أمر من أمورها ولكن ليس كذلك فإن معارضة الحلم مثلا للغضب واختيار الإنسان أن يكظم غيظه وقدرته على ذلك تدل على وجود مبدء مستقل له غير متوقف على آلية البدن ولا يجوز أن يغتر بما يتوقف على الآلة كالسمع والبصر وغيرهما من القوى الجسمانية فإن لنا حالات غير متوقفة على الآلات كادراك الكلي والاختيار. (ش)

وأظهره فإن ذلك قد يجر إلى اكتساب الحلم والاتصاف به ويؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن لم تكن حليما فتحلم فإنه قال من تشبه بقوم إلا أو شك أن يكون منهم» أراد (عليه السلام) إن الحلم أحسن وإن يكن فالتشبه بالحليم حسن.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الله الحجال، عن ابن أبي عايشة قال:

بعث أبو عبد الله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) على أثره لما أبطأ، فوجده نائما، فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه، فلما تنبه قال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان! والله ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار.

* الأصل

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف.

* الشرح

قوله: (إن الله يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف) يعني أن الله يحب من كان فيه حياء يمنعه عن القبايح وخلاف الآداب وحلم يمنعه من الاضطراب عن توارد المكروهات وإيذاء الخلق والإقدام على الانتقام وعفة في دينه ونفسه تبعثه على تحصيل الكفاف من المآكل والمشارب والمناكح والمساكن والملابس وغيرها على الوجه المشروع وتعفف يبعثه على الاكتفاء بحرفته وصنعته وحفظ فقره وعدم السؤال من غيره من بني نوعه كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «من طلب الدنيا إستعفافا عن المسئلة وسعيا على عياله وتعففا على جاره لقى الله تعالى يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر».

يحتمل أن يراد بالتعفف التأكيد والمبالغة في العفة وتحمل النفس على ذلك بنوع كلفة، وثمرة محبته تعالى آجلا هي الكرامة الأبدية وعاجلا هي إعانته على تلك الفضائل وإمداده وتوفيقه على زيادتها ودوامها كما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «من يستعفف يعفه الله الحديث».

* الأصل

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن على بن محبوب، عن أيوب بن نوح، عن عباس بن عامر، عن ربيع بن محمد المسلي، عن أبي محمد، عن عمران، عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت، ستجزي بما قلت: ويقولان للحليم منهما: صبرت وحملت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك، قال:

فإن رد الحليم عليه إرتفع الملكان».

* الشرح

قوله: (قلت وقلت) بالقاف فيهما وبعض النسخ بالفاء في الثاني يقال فلا الرجل في رأيه

ص:331

وفيل إذا لم يصب فيه ورجل فايل الرأي. (إن رد الحليم عليه إرتفع الملكان) الحليم قد لا يخلو عن عشرة وخفة في وقت ما يسوم الطبع لعدم عصمته إلا أنه بهذا النادر لا يزول عنه اسم الحليم ولا يسلب عنه مدحة الحلم.

ص:332

باب الصمت وحفظ اللسان

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، إن الصمت يكسب المحبة أنه دليل على كل خير.

* الشرح

قوله: (من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت) الفقه العلم بالمنافع والمضار أو البصيرة في أمور الدين، وكون الصمت أي السكوت عما لا يعنى من علاماته ظاهر لأنه دال عليه كدلالة الأثر على المؤثر، وكذلك الحلم أي التثبت في الأمور. وأما العلم فلعل المراد به آثاره أعنى إثبات الحق وإبطال الباطل وترويج الدين وحل المشكلات، وهو بهذا الاعتبار من آثار الفقه وعلاماته الدالة عليه. فلا يرد أن العلم هو الفقه ولا يصح أن يكون الشيء علامة لنفسه.

قوله: (إن الصمت باب من أبواب الحكمة) لأن الحكمة وهي معرفة الأحكام وأحوال الموجودات والانقياد لله وفعل الخيرات لا تحصل إلا بالتفكر والتفكر لا يحصل أو لا يتم إلا بالصمت عن اللغو.

قوله: (إن الصمت يكسب المحبة) أي محبة الله تعال أو محبة الخلق وذلك لأن أكثر أسباب الكلام وأعظم مقامات المجاورة هو المجادلة والمنازعة والمخاصمة والجرح والغيبة والتهمة والفضول والتكذيب والمضحكة والكذب والمزاح الكثير وما لا يعنى وكل ذلك يوجب البغض والعداوة ويبعد عن الخير فالصمت عن ذلك يورث المحبة ويقرب من الخير (أنه دليل على كل خير) لأن السكوت عن الشر لكونه شرا دليل على الخير الذي هو ضده وأيضا السكوت عنه لاعن سهو ولا غفلة بل عن صفاه فكرة في عظمه الحق وآلائه وتواتر أياديه ونعمائه يوجب الارتقاء إلى مقام العبودية وتحقيق ولائه حتى يصير الغيب به كالعيان ويبلغ العبد لأجله إلى ذروة الإحسان ويتصف بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وإليه أشار أمير المؤمنين بقوله: «إذا كان في الرجل خلة رايعة فانتظر أخواتها» الخلة الخصلة

ص:333

والرابعة المعجبة من راعني الشيء أعجبني حسنه، يعني إذا كان في الرجل خصلة معجبة حسنة فانتظر أمثالها من الخصال الحسنة فإن بعضها يجذب بعضا ولا يبعد أن يكون الصمت من هذا القبيل.

* الأصل

2 - عنه، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

إنما شيعتنا الخرس.

* الشرح

قوله: (إنما شيعتنا الخرس) لعلمهم بمفاسد اللسان فيجتنبون عنها وأيضا لا يتكلمون في أمور الدين إلا ما سمعوه من أهله بخلاف العامة فإنهم يتكلمون فيها بالقياس والاستحسان والوجوه العقلية فلهم طرق واسعة.

* الأصل

3 - عنه، عن الحسن بن محبوب عن أبي علي الجواني، قال: شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول لمولى له [يقال له] سالم - ووضع يده على شفتيه - وقال: يا سالم إحفظ لسانك تسلم، ولا تحمل الناس على رقابنا.

* الشرح

قوله: (يا سالم إحفظ لسانك تسلم) أي تسلم من آفات الدنيا والآخرة ومعاصي اللسان وذل النفس فإن من أرخى عنان اللسان جرى في ميدان الطغيان ويتكلم كثيرا بما لا يعنيه وما يضره ويضر غيره ويذله ويدل على سفهه.

* الأصل

4 - عنه، عن عثمان بن عيسى قال: حضرت أبا الحسن (عليه السلام) قال له رجل: أوصني، فقال له: إحفظ لسالك تعز، ولا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك.

* الشرح

قوله: (وقال له رجل أوصني) الإيصاء طلب شيء من غيره ليفعله على غيب منه فقال (إحفظ لسانك تعز) إذ بالصمت تكون الهيبة والعزة لأن من رآه بخيل إليه أن له شأنا فيهيب منه ويعزه بخلاف ارخاء اللسان فإنه يشين القائل ويبدىء مساوي الجاهل ويصغره في أعين الناس ويذهب بعزه وبهائه. والقياد ككتاب حبل تقاد به الدابة وهو كناية عن التسلط والإضرار والإذلال.

* الأصل

5 - عنه، عن الهيثم بن أبي مسروق، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل

ص:334

أتاه: ألا أدلك على أمر يدخلك الله به الجنة؟ قال: بلي يا رسول الله، قال: أنل مما أنا لك الله، قال: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟ قال: فانصر المظلوم، قال: وإن كنت أضعف ممن أنصره؟ قال:

«فاصنع للأخرق يعني أشر عليه، قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟ قال: فاصمت لسانك إلا من خير، أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة».

* الشرح

قوله: (أنل مما أنالك الله) أي أعط المحتاجين ما أعطاك الله (فاصنع للأخرق) الأخرق الجاهل من الخرق بالضم وهو الجهل يعني أشر عليه بما ينفعه وفيه حث على إرشاد كل من لم يعلم أمرا من مصالح الدين والدنيا (فاصمت لسانك الامن خير) الظاهر أن المراد بأخير ما يورث ثوابا في الآخرة، أو نفعا في الدنيا بلا مضرة أحد فيكون المباح مما ينبغي السكوت عنه ويكون الأمر لمطلق الطلب الشامل للوجوب والرجحان، وبالجملة ينظر من يريد الكلام فإن لم ير ضررا تكلم وإن رآه أو شك فيه سكت وإحتلف في المباح هل يكتب أم لا نقل عن ابن عباس أنه لا يكتب إذ لا يجازي عليه والحق يكتب لقوله تعالى: (ما يلفظ من قول...» الآية «وكل صغير وكبير مستطر» ولدلالة بعض الروايات عليه أيضا وعدم المجازات لا يدل على عدم الكتابة إذ لعل الكتابة لغرض آخر مثل التحسر والتأسف في تضييع العمر فيما لا ينفع ولا يضر مع القدرة على فعل ما يوجب الثواب بدلالة (أما يسرك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرك إلى الجنة) دل على أن الخصلة الواحدة تجر إلى أسباب الدخول في الجنة وهي الخصال الاخر فإن الخير بعضه يفضى إلى بعض كما مر.

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إن كنت زعمت أن الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب.

* الشرح

قوله: (يا بني إن كنت زعمت أن الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب) دل على أن السكوت أفضل من النطق وهو كذلك لأن مفاسد النطق كثيرة لا يمكن التحرز عنها إلا بالسكوت وفيه ترغيب في السكوت وإن زعم أن كلامه حسن، ومن ثم قال بعض الأكابر من نطق فأحسن قادر على إن يصمت فيحسن وليس من صمت فأحسن قادر على أن ينطق فيحسن وهو أيضا يدل على أن السكوت أفضل من النطق.

ص:335

* الأصل

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحلبي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«أمسك لسانك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك، ثم قال: ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه».

* الشرح

قوله: (أمسك لسانك فإنها صدقة) الضمير راجع إلى الإمساك والتأنيث باعتبار الخير وتشبيه الإمساك بالصدقة باعتبار أنه ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه البلايا ويوجب قربه من الحق كالصدق (ثم قال ولا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه) أشار بذلك إلى إن الإيمان لا يتم إلا بإستقامة اللسان على الحق وخزنه عن الباطل مثل الغيبة والنميمة والقذف والشتم والكذب والزور ونحوها من الأمور المضرة وذلك لأن الإيمان عبارة عن التصديق بالله ورسوله والاعتقاد بحقية ما وردت بالشريعة من المأمورات والمنهيات وغيرها وهو يستلزم استقامة اللسان وهي إقراره بالشهادتين ولوازمها وإمساكه عما لا ينبغي. ومن البين إن الملزوم لا يستقيم بدون استقامة اللازم، وقد أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» وأيضا كل ما يتناوله اللسان من الأباطيل والأكاذيب تدخل مفهوماتها في القلوب وهو ينافي دخول حقيقة الإيمان فيه فلا يعرف حقيقته.

* الأصل

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن عبيد الله بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

(ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) قال يعني كفوا ألسنتكم.

* الشرح

قوله: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم قال يعني كفوا ألسنتكم) ظاهره أن المراد بالأيدي الألسنة للتشابه بينهما في القوة أو في كونهما آلة مجادلة ويحتمل أن يكون كف الأيدي مجازا مرسلا في كف الألسنة لأن كف الألسنة سبب لكف الأيدي من الضرب والقتل ونحوهما.

* الأصل

9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحلبي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

نجاة

ص:336

المؤمن [في] حفظ لسانه.

* الشرح

قوله: (نجاة المؤمن حفظ لسانه) أي نجاته في الدنيا والآخرة لأن في كثرة الكلام وإفشاء ما ينبغي اخفاؤه وبال الدنيا ونكال الآخرة.

* الأصل

10 - يونس، عن مثني، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان أبو ذر رحمه الله يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك.

* الشرح

قوله: (يا مبتغى العلم ان هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر) فيه ترغيب في التكلم بالخير وتنفير عن التكلم بالشر ولا يتحقق ذلك إلا بالتأمل والتفكر أولا فيما يقول كما هو شأن المؤمن العارف فإنه يتأمل ويتفكر فيما يريد النطق به فإن رآه خيرا أبداه وإن رآه شرا وأراه بخلاف الجاهل فإنه يتكلم بما جرى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه ثم حث على كتمان ما ينبغي كتمانه بقوله (فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك وورقك) الورق بكسر الراء والإسكان للتخفيف النقرة المضروبة ومنهم من يقوله النقرة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وقال الفارابي الورق المال من الدراهم ويجمع على أوراق، وروى مثل ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال «الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك فرب كلمة سلبت نعمة» وقال بعض الأكابر لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك.

* الأصل

11 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان المسيح (عليه السلام) يقول: لا تكثر والكلام في غير ذكر الله، فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون.

* الشرح

قوله: (فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون) قساوة القلب شدته وصلابته بحيث يتأبى عن قبول الحق كالحجر الصلب يمر عليه الماء ولا يقف فيه، وفيه دلالة على أن كثرة الكلام في الامور المباحة يوجب قساوة القلب، واما الكلام في الامور الباطلة فقليله كالكثير في النهي عنه وايجاب القساوة.

ص:337

* الأصل

12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من يوم إلا وكل عضو من أعضاء الجسد يكفر اللسان يقول: نشدتك الله أن نعذب فيك.

* الشرح

قوله: (ما من يوم إلا وكل عضو من أعضاء الجسد يكفر اللسان) أي يذل ويخضع له والتكفير هو أن ينحني الإنسان وطأطأ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه، ثم قال من باب الاستيناف يقول (نشدتك الله أن نعذب فيك) نشد من باب نصر أي سألتك بالله وأحلفك به كان هذا القول بلسان المقال ويحتمل أن يكون بلسان الحال.

* الأصل

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن إبراهيم بن مهزم الأسدي، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إن لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا ويناشدونه ويقولون: إنما: نثاب ونعاقب بك.

* الشرح

قوله: (ان لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه) أشرفت عليه أطلعت عليه (فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير إن تركتنا) زبان گفت باسر كه چونى خوشى * بگفتا خوشم گرتو دم در كشى (ويقولون الله الله فينا) أي أحذر الله أو أثق الله أو خف الله في حقنا وأمرنا، ويناشدونه أي يخلفونه بالله، والمناشدة قسم دادن ويقولون (إنما نثاب ونعاقب بك) الحصر اما حقيقي ادعائي أو إضافي بالنسبة إلى بواقي الجوارح فكان كل جارحة تخص هذا باللسان بالنسبة إلى جوارح آخر فلا يردان كل جارحة تثاب وتعاقب بعملها أيضا.

* الأصل

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن أبن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن قيس أبي إسماعيل - وذكر أنه لا بأس به من أصحابنا - رفعه قال:

جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: إحفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني قال: إحفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال إحفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد

ص:338

ألسنتهم.

* الشرح

قوله: (قال جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) كان الرجل كان معاذ بن جبل لتصريح العامة به في روايتهم مثل هذا الحديث (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم) الحصاد بالفتح والكسر قطع الزرع والحصائد جمع الحصيد وهي ما يحصد من الزرع شبه اللسان وما يقطع به من الأقوال الباطلة بحد المنجل وما يقطع به من النبات.

* الأصل

15 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه.

* الشرح

قوله: (من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه) لعل ذلك لأن اللسان له تصرف في كل موجود وموهوم ومعدوم وله يد في العقليات والخياليات والمسموعات والمشمومات والمبصرات والمذوقات والملموسات، فمن حسب أن الكلام ليس من عمله المترتب عليه الثواب والعقاب لم يبال بالكلام في أباطيل هذه الامور وأكاذيبها، فيجتمع عليه من كل وجه خطيئة فتكثر خطاياه. وأما غير اللسان فخطاياه قليلة فإذن خطيئة السمع ليست إلا المسموعات، وخطيئة البصر ليس إلا المبصرات وقس عليهما سائر الجوارح ويقرب منه قول أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله وسلم) «من كثر كلامه كثر خطاؤه، ومن كثر خطاؤ قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار» وهذا من با القياس المفصول النتايج ينتج من كثر كلامه دخل النار، وروى في هذا المعنى من طريق العامة أيضا «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به» ولعل المراد بحضور العذاب حضور أسبابه أو حضور نفسه لأن حضور أسباب الشيء دليل على حضور ذلك الشيء، وقد صرح بعض أصحابنا بأن عذاب المستحق له واقع بالفعل وإن جهنم لمحيطة به وأنه داخل فيها ولكن الحجاب مانع من رؤيتها الحكمة تقتضيه.

* الأصل

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول: أي رب عذبني بعذاب لم تعذب به شيئا، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال

ص:339

الحرام وانتهك بها الفرح الحرام، وعزتي [وجلالي] لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك.

* الشرح

قوله: (فيقول أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا) من الجوارح أي فيقول اللسان ذلك ولعل الإضافة في قوله (من جوارحك) للمجاورة والملابسة أو للإشارة إلى أن سائر الجوارح تابعة له وهو رئيسها (فيقال له خرجت منك كلمة) سواء كانت تلك الكلمة من باب الفتيا أو غيرها.

* الأصل

17 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن كان في شيء شؤم ففي اللسان.

* الشرح

قوله: (إن كان ففي شيء شؤم في اللسان) الشوم الشر وشئ مشوم أي غير مبارك، وفيه تنبيه على كثرة شومه لأن له تعلقا بكل خير وشر فميدان شره أوسع من ميدان شر جميع الجوارح، فمن أطلق عنانه في ميدانه أورده في مهاوي الهلاك، ولا شوم أعظم من ذلك.

* الأصل

18 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، والحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، جميعا، عن الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «كان الرجل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين».

* الشرح

قوله: (صمت قبل ذلك عشر سنين) أي صمت عما لا ينبغي في تلك المدة ليصير الصمت ملكة له ثم كان يشتغل بالعبادة والاجتهاد فيها لتقع العبادة صافية خالية عن المفاسد وفيه تنبيه على ان الصمت أصل عظيم في العبادة وخلوصها وبقائها ومعرفة أحكامه وصيرورتها مرقاة للعباد في الترقيات إلى المقامات العالية.

* الأصل

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من رأي موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.

* الشرح

قوله: (من رأي موضع كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه) أي يهمه أو يقصده من عنيت به أي إهتممت واشتغلت به أو من عنيت فلانا أي قصدته، وفيه تنبيه على أن المتكلم ينبغي أن يعد كلامه من عمله ويتدبر في صحته وفساده وضره ونفعه، فان رآه صحيحا لا يترتب عليه شيء من المفاسد آجلا وعاجلا تكلم به وإن رآه خلاف ذلك أمسك عنه.

* الأصل

ص:340

20 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد بن يسار، عن منصور بن يونس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في حكمة آل داود على العاقل أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه.

* الشرح

قوله: (على العاقل أن يكون عارفا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه) على العاقل أن يعرف حال أهل زمانه من الخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل ويميز بينهم ليصفو له معنى الصحبة، والعشرة ويبدوا له محل الفرقة والعزلة ويتمكن من اجراء السياسة المدنية على القوانين النبوية، ويحب لله ويبغض في الله ويراعى الحزم والتقية في موضعها وإن يقبل على شأنه فيصلح حاله ظاهرا وباطنا بالسياسة البدنية ليتمكن من العروج في المعارج الروحانية وان يحفظ لسانه عن اللغو والمزخرفات الشيطانية قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «إذا تم العقل نقص الكلام» (1) تفكره في الله

ص:341


1- 1 - قوله (عليه السلام) «إذا تم العقل نقص الكلام» إن للانسان قوة تسمى بالمتخيلة أو المتصرفة أو المتفكرة أو المتذكرة باعتبارات مختلفة وهي عند الحكماء قوة جسمانية يعنون ان النفس يحتاج في استخدامها إلى آلة جسمانية هي الروح المصبوب في التجويف الأوسط من تجاويف الدماغ وعملها التركيب والتفصيل في مخزونات الذهن أي في القوة الحافظة وممن يستعمل القوة المتخيلة كثيرا الشعراء إذ يتفحصون عن كل شيء وما يناسبه ويشابهه ويتتبعون صفاته ومحاسنه ومقابحه وعما يؤثر في نفوس السامعين من الشوق والنفرة وأمثال ذلك وهذا البحث البالغ عن مكنونات الخواطر لقوت من قوى الانسان يختلف فيها أفراد البشر ضعفا وشدة. ويستعملها أيضا المخترعون والمهندسون بجمع الاشكال وتفريقها ويستعملها العلماء والحكماء عند الاستدلال والتفكر في تهيئة المقدمات وتركيبها واستنباط المجهولات من المعلومات بتفحص ما في حافظتهم ليجدوا ما ينفع في مقصودهم ويستعملها الناس جميعا لتذكر ما غاب عن ذهنهم بتتبع ما ارتكز في خاطرهم حتى يتذكروا ما لم ينسوه وقد يتسلسل بسببها مكنوناتهم باختيارهم أو بغير اختيارهم خدمة لقوتهم المسماة بالواهمة وقد أشرنا إلى الواهمة. وعلى كل حال المتخيلة قوة جسمانية إذ يعرض بكثرة أعمالها الكلال والاعياء بل العجز وهذه من صفات الأجسام بخلاف العقل فإن لا يكل بتكثر المعقولات ولا يعجز عن حملها والعقل إذا تم وكمل منع بقاهريته جميع القوى عن الاسترسال فيما لا يفيده وأجبرها على خدمته فلا مجال لمتخيلة العقل إلا في التفكر الصحيح ولذلك قد تسمى متفكرة ولا يبقى لها فرصة لتركيب المفاهيم والمعاني واحضار مكنونات الخواطر مما لا يفيد فائدة أو يفيد ولو صرف النظر عن هذه النقيصة والعيب فالكلام بنفسه دليل على العقل وأن صاحبه مدرك للكليات الالفاظ غالبا كليات ولذلك سمى ادراك الكليات نطقا ولا يتكلم الحيوان إذ لا يدرك الكلى بل إنما يتأثر حاسته من الموجودات الخارجية فقط ومن الله تعالى على الإنسان بتعليم البيان فمقصود الإمام (عليه السلام) نقص الكلام وفي الفضول وما يعني ولا ينفع أو يضر، وخلق الكلام ليكون معينا للعقل لا ليمنعه عن وظائفه. (ش)

يمنعه من الاشتغال بما لا يعنيه.

* الأصل

21 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن الحسن بن رباط، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا، فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا.

* الشرح

قوله: (لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا) لا سكوت المؤمن عما لا يعنى إحسان عظيم على نفسه بل على غيره.

ص:342

باب المداراة

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله وخلق يداري به الناس وحلم يرده به جهل الجاهل.

* الشرح

قوله: (ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل) العمل التام هو العمل الخالص الغير المشوب بشيء يوجب فساده أو نقصانه وهذه الثلاث أو لها ورع يحجزه عن معاصي الله إذ من لم يكن له ورع يصدر منه المعاصي كثيرا فلا يكون عمله تاما بل مختلطا وثانيها خلق يداري به الناس أي يلاطفهم ويلاينهم ويحسن صحبتهم ويحتمل منهم كيلا يتنفروا عنه، ومن لم يكن له هذا الخلق لم يتم له عمل إذا كثيرا ما يصدر منها المكاشفة والخشونة والمناقشة والمجادلة والمقاومة وهذه الامور توجب فساد عمله أو نقصانه، وثالثها حلم يرد به جهل الجاهل أي ملكة لا تنفعل بها النفس عما صدر من الجاهل من السفاهة والايذاء والاستخفاف والاضرار بل ترد بها جميع ذلك بالعفو عنه قال بعض الحكماء: موضعان لا اعتذر من العي فيهما إذا خاطبت جاهلا وإذا سألت حاجة ومن لم يكن له حلم يصدر منه مثل ما صدر من الجاهل فلا يكون عمله تاما أيضا.

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين ابن الحسن قال: سمعت جعفرا (عليه السلام) يقول: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك دار خلقي.

* الشرح

قوله: (دار خلقي) وإن كانوا كفارا كما دل على قوله تعالى (وقولا له قولا لينا» ومن جملة المداراة والملاطفة واستجلاب طبايعهم إلى الحق وتأنيسهم به بالحكمة والموعظة الحسنة قليلا قليلا على سبيل التلطف لا دفعة لئلا تشمئز عنه قلوبهم ولا يتنفر عنه طباعهم ولو لم يمكن تأنيسهم به أما لغموضه بالنسبة إلى أفعالهم أو لقوة اعتقادهم الباطل ينبغي أن يحملهم عليه بالحيل والتدبير

ص:343

والمقدمات الخطابية حتى يرجعوا من الجهل المركب إلى الجهل البسيط ثم يداويه.

* الأصل

3 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في التوراة مكتوب - فيما ناجى الله عز وجل به موسى بن عمران (عليه السلام) -: يا موسى اكتم مكتوم سري في سريرتك وأظهر في علانيتك المداراة عني لعدوي وعدوك من خلقي ولا تستسب لي عندهم بإظهار مكتوم سري، فتشرك عدوك وعدوي في سبي.

* الشرح

قوله: (اكتم مكتوم سرى في سريرتك) لعل المراد بالسريرة القلب والسر واحد الاسرار وهو ما يكتم، واسرار الحديث اخفاءه والإضافة من باب جرد قطيفة للمبالغة ثم أشار إلى بعض فوائد الكتمان وضرر نقيضه للترغيب فيه بقوله:

(ولا تستسب لي عندهم باظهار مكتوم سرى فتشرك عدوك وعدوي في سبى) قال الله تعالى ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم» وفيه ترغيب في المداراة مع الأعداء والملاطفة والملاينة معهم سواء كانت العداوة في الدين أو الدنيا مثل الحقد والحسد وغيرهما لأن المداراة من جملة التدابير في دفع العداوة، ومن ثم قيل قمع الشر بالخير خير وبالشر شر ونهى عن المكاشفة بالسب والمخاصمة والمجادلة معهم فإن ذلك كثيرا ما يفضى إلى المعاملة بالمثل وسبهم لله تعالى أي لأوليائه كما دل عليه بعض الروايات وضياع الأموال وهلاك النفوس إلى غير ذلك من المفاسد الكلية والجزئية فيتبدد به نظام العالم فينبغي أن يتفكر فيما يدفع به عداوته وكيده بقدر الامكان على ما تقتضيه الحكمة بحيث لا يكون مهيجا للشر والعداوة، وفيه دلالة على أن السبب للفعل كالفاعل له.

* الأصل

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حمزة بن بزيع ، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض.

5 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام):

خالطوا الأبرار سرا وخالطوا الفجار جهارا ولا تميلوا عليهم فيظلموكم، فإنه سيأتي عليكم زمان لا ينجو فيه من ذوي الدين إلا من ظنوا أنه أبله وصبر نفسه على أن يقال [له]: أنه أبله لا عقل له.

ص:344

* الشرح

قوله: (مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش) لعل الوجه أن الإيمان عبارة عن توجه القلب إلى الله تعالى وترك التعرض لم عداه فإذا تحقق الأول تحقق نصف الإيمان وإذا تحقق الثاني بالمداراة تحقق نصفه الآخر إذ لولا المداراة لاشتغل القلب بوجوه مجادلتهم ومناقشتهم وأيضا الإيمان هو العقد والعمل، والعمل يتم بالمدارة والعيش يتحقق بوجود أسبابه ورفع موانعه ورفع الموانع يتحقق بالرفق ولين الجانب ورفض العنف إذ لو لا الرفق لتحقق موانع العيش من وجوه متكثرة وفسد نظامه فالرفق نصفه.

قوله: (لا ينجو من ذوي الدين إلا من ظنوا أنة أبله) لكون رسومه وعاداته خلاف رسومهم وعاداتهم من العنف والخشونة والمكر والغدر لزجر نفسه بالآداب الشرعية والأخلاق العقلية فظنوا أ نه أبله لا عقل له ولا يفهم شيئا ومن عقله دينه أيضا أنه صبر نفسه إن يقال له أبله لا عقل له ولا يزعجه هذا القول عن شيمته ولا يخرجه عن سجيته، وصبر أما مجرد أو مزيد بالتثقيل، قال في المصباح صبر صبرا من باب ضرب حبست النفس عن الجزع وصبرت زيدا يستعمل لازما ومتعديا وصبرته بالتثقيل حملته على الصبر بوعد الأجر أو قلت له اصبر به.

* الأصل

6 - علي بن إبراهيم، عن بعض أصحابه، ذكره، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن قوما من الناس قلت مداراتهم للناس فأنفوا من قريش وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس وإن قوما من غير قريش حسنت مداراتهم فالحقوا بالبيت الرفيع، قال: ثم قال: من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة.

* الشرح

قوله: (إن قوما من الناس قلت مداراتهم للناس فالقوا (1) ولعل المراد بالناس قريش ويحتمل الأعم ثم أشار مؤكدا بالقسم إلى أن ذلك الالقاء باعتبار فوات حسب أنفسهم ومآثرها إلا باعتبار فوات حسب آبائهم ومآثر أسلافهم بقوله (وأيم الله ما كان بأحسابهم بأس) الحسب بفتحتين ما يعده من مآثره ومآثر آبائه والمراد به هنا مآثر الأباء وفيه تنبيه على أن المعتبر في شرف كل رجل إنما هو مآثر نفسه، ومن ثم قال الحكماء من فاته مآثر نفسه لم ينتفع بمآثر أبيه، وأيمن اسم استعمل في القسم والتزم رفعه كما التزم رفع لعمر والله وهمزته عند البصريين وصل واشتقاقه من اليمين وهو البركة وعند الكوفيين قطع لأنه جمع يمين عندهم وقد يختصر منه فيقال وأيم الله بحذف النون وفيها لغات كثيرة وتفتح همزتها وتكسر ثم اختصر ثانيا فقيل م الله بضم الميم وكسرها وقيل أيم

ص:345


1- 1 - كذا ولعل الصحيح فنفوا.

الله اسم برأسه موضوع للقسم. ولما ذكر حال هؤلاء أشار إلى حال من اتصف بالمداراة بقوله (وإن قوما من قريش حسنت مداراتهم فالحقوا بالبيت الرفيع) وهو بيت الشرف والمجد والطاعة والتقوى ومنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «سلمان منا أهل البيت» ومحال إن يريد به بيت النسب لأنه منزه عن الكذب، وقوله اتبعوني تكونوا بيوتا أي تشرفوا وذلك لأن البيت في عرف اللغة يعبر به عن الشرف والمجد كما يقال البيت في بنى فلان أي الشرف والمجد فيهم، وإلى جميع ما ذكر أشرا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «رب بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد» ثم قال (من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يد واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة) هذا مثل ما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيدي كثيرة ومن تلن حاشيته (يعني جانبه) يستدم من قومه المودة» قال السيد رضي الدين رضى الله عنه وما أحسن هذا المعنى الذي اراده (عليه السلام) بقوله: «يقبض يده عن عشيرته - إلى تمام الكلام - فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم ومعاونتهم قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن صوته واستغاثته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الاقدام الجمة. وقال بعض الأفاضل تقريره ان الإنسان لما كان انتفاعه بالأيدي الكثيرة أتم وأولى بصلاح حاله من النفع الحاصل له بقبض يده عن النفع بها وجب عليه أن يستجلب بمد يده بالنفع مد الأيدي الكثيرة إلى نفعه وإلا لكان بسبب طلبه لنفع ما من امساك يدا والواحدة عنهم المستلزم لا مساك أيديهم الكثيرة عنه مضيعا على نفسه منافع عظيمة فيكون بحسب قصده لنفع ما مضيعا لما هو أعظم فيكون مناقضا لغرضه، وذلك جهل وسفه، وقوله «ومن تلن» من تمام تأديب الأغنياء لما يعود إليهم نفعه من التواضع ولين الجانب للخلق فاستدرجهم إلى التواضع بذكر ثمراته اللازمة عنه التي هي مطلوبة لكل عاقل وهي استدامة مودة الناس المستلزمة لنفعهم ولعدم مضرتهم المستلزمين لصلاح المتواضع فيما يقصده وبمثل ذلك أدب الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» وظاهر أن غايته المذكورة وثمرته المطلوبة لا تحصل عند جفاوة الخلق والتكبر كما أشار إليه تعالى بقوله (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك».

ص:346

باب الرفق

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لكل شيء قفلا وقفل الإيمان الرفق.

* الشرح

قوله: (إن لكل شيء قفلا) أي حافظا له مانعا من ورود أمر فاسد عليه وخروج أمر صالح عنه من باب الاستعارة وتشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح.

(قفل الإيمان الرفق) وهو لين الجانب والرأفة وترك العنف والجفاوة في الأفعال والأقوال على الخلق في جميع الأحوال سواء صدر منهم بالنسبة إليه خلاف الآداب أو لم يصدر وفيه تشبيه الإيمان بالجوهر والقلب بخزانته والرفق بالقفل لأنه يحفظه عن زواله منه وخروجه عنه وطريان مفاسده عليه.

* الأصل

2 - وبإسناده قال، قال أبو جعفر (عليه السلام): من قسم له الرفق قسم له الإيمان.

3 - علي بن إبراهيم، عنه أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن يحيى الأزرق، عن حماد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقا بهم لكيلا يلقي عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فإذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخا.

* الشرح

قوله: (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق) (1) ثبت اطلاق الرفیق علی الله تعالی من الطریق

ص:347


1- 1 - قوله: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق» يدل على أن ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات وجود مثلها أو ما يناسبها في صفات الله تعالى مثلا الله كريم يحب الكرم فالكرم من الملكات الفاضلة وحليم يجب الحلم، والجود حسن لأن الله جواد والسخاء حسنة وإن لم يوصف الله تعالى بالسخاء لكن وصفت بما يناسبها والشجاعة حسنة ولا يقال له تعالى شجاع لكن يتصف بعدم الخوف وهذا معنى ما قيل تخلقوا بالأخلاق الله تعالى: وبالجملة: هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزه من جميع النقائص، وتحصيل كل كمال تشبه بالخالق تعالى وما يسلب عنه كالجسمية والمحسوسية والمكان والزمان والتركيب وأمثال ذلك من صفات النقص ويجب الترفع عنها على الإنسان بقدر استطاعته وهو معنى التقرب إلى الله وجعله غاية للعبادات. (ش)

العامةأيضا روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف» قال القرطبي: الرفيق هو الكثير الرفق والرفق يجئ بمعنى التسهيل وهو ضد العنف والتشديد والتعصيب وبمعنى الارفاق وهو اعطاء ما يرتفق به وبمعنى التأني وعدم العجلة وصحت نسبة هذه المعاني إلى الله سبحانه لأنه المسهل والمعطى وغيره المعجل في عقوبة العصاة.

أقول للرفق معنى آخر يصح له تعالى أيضا وهو أحكام العمل، قال في المصباح رفقت العمل من باب قتل أحكمته ومعنى يحب الرفق أنه يأمر به ويحض عليه ويريد وصدوره منهم ويثيبهم له ولما أشار إجمالا إلى أنه تعالى رفيق أشار إلى بعض جزئيات رفقه.

(فقال فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم) السل والتسليل اخراج الشيء برفق تقول سللت السيف إذا أخرجته من غمده، والضغن الحقد والعداوة والبغضاء، تقول ضغن صدره ضغنا من باب تعب أي حقد، والاسم الضغن والجمع الأضغان مثل حمل وأحمال، ولعل المراد بتسليلها إخراجها بالرفق والتدريج عن قلوبهم وتوفيقهم على دفعها باستعمال أسبابه وعدم تكليفهم به دفعة فإن دفعها دفعة صعب عليهم.

(ومضادتهم لهواهم وقلوبهم) (1) والأسف على فوات الدنيا والغضب والغيظ والغرة وغيرها وبين القلوب العاقلة المقتضية للأخلاق الفاضلة مضادة ترديد كل واحدة الغلبة على الأخرى والله سبحانه لرفقه بهم أمرهم برفعها وإخراجها على سبيل التدريج لا دفعة لئلا يضعف ذلك عليهم.

(ومن رفقه بهم أنه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقا بهم لكيلا يلقى عليهم عرى الإيمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فإذا أراد ذلك نسخ أمر بالآخر فصار منسوخا) عروة الكوز إذنه والجمع عرى مثل مدية ومدى وعروة الإيمان أحكامه وآثاره وخواصه على التشبيه بالعروة التي يتمسك بها ويستوثق فإن العبد باحكام الإيمان يحمله كما أن شارب الماء يحمل الكوز بعروته.

ولعل المراد تعالى

ص:348


1- 1 - قوله «ومضادتهم لهواهم وقلوبهم» الهوى هو القوة الواهمة وما يتفرع عليها كالشهوة والغضب والطيش، والقلب القوة العاقلة وما ينشعب منها كالحلم والرفق والتثبت والتؤدة وتلم يجعل الواهمة في الإنسان إلا لمصلحته ولو لم يكن الشهوة وحب المنافع لم يطلب الانسان الطعام والنكاح ولم يتحمل مشقة المكاسب وفسد العالم وخربت البلاد وزال العمران ولو لم يكن الغضب والتنفر عن المضار لم يدفع أحد عن عرضه وماله ونفسه وفسد العالم أيضا، ولو لم يكن العقل واسترسل الناس في طلب شهواتهم واتبعوا عواطفهم مطلقا لم يترتب الغرض المقصود من خلقة الإنسان بل كانوا كسائر الحيوانات ونوعا من أنواعها فرفق الله بهم وجعل فيهم الهوى والقلب وسلط القلب أي العقل والقوة الناطقة على الهوى أي الوهم ليصلحه بالرفق والمداراة ولم ينزع العقل ولا الواهم عنهم حتى يقهرهم على الخير والشر رفقا بهم. (ش)

يعلم أن صلا العبادة في أمرين وأنه لو كلفهم بهما دفعة وفي زمان واحد ثقل ذلك عليهم وضعفوا عن تحملهما فمن رفقه بهم أن يأمرهم بأحدهما ويدعهم عليه حينا، ثم إذا أراد أزالتهم عنه نسخ الأمر الأول بالأمر الآخر ليفوزوا بالمصلحتين وهذا وجه آخر للنسخ غير ما هو المعروف من اختصاص كل أمر بوقت دون آخر والله أعلم.

* الأصل

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن معاوية بن وهب عن معاذ بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): الرفق يمن والخرق شوم.

* الشرح

قوله: (الرفق يمن والخرق شوم (1) بالبناء للمفعول فهو ميمون ويمنه الله بيمنه يمنا من باب قتل إذا جعله مباركا، والخرق بالضم والسكون، اسم ضد الرفق يقال خرق خرقا إذا عمل شيئا فلم يرفق فيه فهو أخرق والأنثى خرقاء مثل أحمر وحمراء وقد يفسر الخرق بالجهل لأنه ينشأ منه والشوم ضد اليمن ورجل مشوم أي شرير غير مبارك، وإنما كان الرفق يمنا لأ نه منشأ لصحة النظام وسبب للخيرات وكل ذلك مبارك والخرق عكس ذل، فهو غير مبارك.

* الأصل

5 - عنه، عن ابن محبوب عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف.

* الشرح

قوله: (ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف) أي يعطي على الرفق في الدنيا من الثناء الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل (2) أن يوصل إليه بالرفق والعنف فسلوك طريق الرفق أولى لما يحصل من الثناء على صاحبه وغير ذلك من

ص:349


1- 1 - «والخرق شوم» الخرق أيضا طيش وغضب وتسرع إلى الشر وهي من ولوازم القوة والواهمة وادارك مصاديق المعاني الجزئية وهي جسمانية بدليل أن غير العاقل يسترسل فيما يقتضيه هذه الحالات قهرا جبرا وقلنا أن الجسمانيات تترتب على أسبابها قهرا ولو لو كان العقل أيضا جسمانيا كان ترتب مقتضاه أيضا قهريا. (ش)
2- 1 - قوه «وفي الآخرة من الثواب الجزيل» أصل الرفق ملكة تبقى مع بقاء النفس وهكذا كل ملكة لا يتوقف على آلة جسمانية مثلا ملكة الكتابة والنطق باليد واللسان لا تبقى عند زوال اليد واللسان وأما ملكة الإيمان والتقوى من صفات النفس لا باعتبار تعلقها فتبقى معها لعدم توقفها على الآلات البدنية وسيجئ إن شاء الله اثبات بقاء النفس المجردة بملكاتها في موضع أليق. (ش)

منافعه التي لا تحصى.

* الأصل

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه.

* الشرح

قوله: (أن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شأنه) زانه من باب سار وزينه بمنى والاسم الزينة والزين نقيص الشين وشانه من باب باع شيئا عابه، وهذا الحديث رواه مسلم بعينه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو متفق عليه بين الامة.

* الأصل

7 - علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عمرو بن أبي المقدام، رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن في الرفق الزيادة والبركة ومن يحرم الرفق يحرم الخير.

* الشرح

قوله: (أن في الرفق الزيادة والبركة) أي زيادة الرزق والبركة فيه أو زيادة الخير لكونه ذريعة إلى منافع الدنيا والآخرة ومستلزما للخصال المرضية والكمالات السنية بخلاف الخرق فإنه مع كونه نقصا في ذاته وتابعا للجهالات جالب للشرور ومانع من الخيرات.

* الأصل

8 - عنه، عن عبد الله بن المغيرة، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير.

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن علي بن المعلي، عن إسماعيل بن يسار، عن أحمد بن زيادة بن أرقم الكوفي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع الله عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، وفي الرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا يبقى معه شيء، إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق.

* الشرح

قوله: (أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق) أي رفق بعضهم ببعض أو رفقهم بخلق الله (فقد وسع الله عليهم في الرزق) لأن الرفق أشد جاذب له وسبب لرفقه تعالى بهم في إيصاله وتسهيل طرقه. وفيه ترغيب في اكتساب الرفق كما أن قوله (والرفق في تقدير المعيشة) أي التوسط بين التقتير والتبذير (خير من السعة في المال) بلا تقدير المعيشة، ترغيب في اختيار التوسط في المعيشة وهي

ص:350

مكسب الإنسان الذي يعيش به وأشار إلى وجه ذلك بقوله (والرفق لا يعجز عنه شيء) أي الرفق في تقدير المعيشة لا يضعف ولا يقصر عنه شيء من المال لأن القليل من المال يكفي مع التقدير واقدر الضروري قد ضمنه العدل الحكيم ولابد من حصوله (والتبذير لا يبقى معه شيء) من المال كما هو المشاهد المجرب، ثم حث على الرفق مطلقا أو على الرفق في تقدير المعيشة بقوله (إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق) لأنه أقوى سبب لبقاء نظام الكل والجزء المطلوب عقلا وشرعا.

* الأصل

10 - علي بن إبراهيم رفعه، عن صالح بن عقبة، عن هشام بن أحمر، عن أبي - الحسين (عليه السلام): قال لي - وجرى بيني وبين رجل من القوم كلام فقال لي -: ارفق بهم فإن كفر أحدهم في غضبه ولا خير فيمن كان كفره في غضبه.

* الشرح

قوله: (فإن كفر أحدهم في غضبه) الغضب كثيرا ما يفضى إلى الكفر بمعنى الإرتداد والجحود وأما الكفر بمعنى ترك المأمور به فهو لازم له قطعا.

* الأصل

11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: الرفق نصف العيش.

* الشرح

قوله: (الرفق نصف العيش) العيش الطيب يحصل بالكافر والرفق الموجب للتودد والتآلف فالرفق نصف العيش خصوصا مع الخدمة والعبيد والأهل، ومن الرفق بهم أن يصفح عن زلاتهم وأن يكلفهم دون طاقتهم وإن يطعمهم ويلبسهم ما يطعمه ويلبسه.

* الأصل

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يحب الرفق ويعين عليه، فإذا ركبتهم الدواب العجب فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض مجدبة فانجوا عنها وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها.

* الشرح

قوله: (فإذا ركبتم الدواب العجب) الفرس الأعجف الضعيف المهزول والأنثى العجفاء وتجمع على جعف كصماء على صم وعلى عجاف بالكسر على غير قياس لأن أفعل فعلاء لا يجمع على فعال، وإنما خص العجف بالذكر لأن رعاية حالها أهم وإلا فالحكم - وهو قوله (فانزلوها منازلها) أي

ص:351

منازلها اللائقة بحالها من حيث الماء والكلاء - غير مختص بها لجريانه في غير المهزولة أيضا (فإن كانت الأرض مجدبة فأنجوا عنها) أجدب الأرض وجدها مجدبة لا عشب فيها ولا كلاء من الجدب وهو القحط، ونجا ينجو بالجيم إذا أسرع في السير ونجا من الأمر إذا خلص وأنجاه غيره. وفي طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) «إذا سافرتم في الجدب فإستنجوا أي أسرعوا في السير لتخلصوا منه». وفي رواية أخرى لهم «فانجوا» كما نحن فيه (وإن كانت مخصبة فانزلوها منازلها) الخصب بالكسر النماء والبركة خلاف الجدب وهو اسم من أخصب المكان بالألف فهو مخصب وأخصب الله الموضع إذا انبت فيه الشعب والكلاء.

* الأصل

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان الرفق خلقا يرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه.

14 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، من ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن حدثه، عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن الله رفيق يحب الرفق ومن رفقه بكم تسليل أضغانكم ومضادة قلوبكم وإنه ليريد تحويل العبد عن الأمر فيتركه عليه حتى يحوله بالناسخ كراهية تثاقل الحق عليه.

* الشرح

قوله: (ومن رفقه تسليل أضغانكم ومضادة قلوبكم) لعل المراد بمضادة القلوب ما يضاد الحكمة والأخلاق الفاضلة. وبالرفق في تسليلها الأمر بإزالتها تدريجا بالحكمة العملية والآداب الشرعية لا دفعة فإن أزالتها دفعة صعب والله سبحانه لرفقه بعباده لم يكلف بها.

قوله: (وإنه ليريد تحويل العبد عن الأمر فيتركه عليه حتى يحوله بالناسخ كراهية تثاقل الحق عليه) لعل الكراهية علة لتحويله بالناسخ والحق الأمر المنسوخ ووجه التثاقل إن النفس يثقل عليها الأمر المكرر وتنشط بالأمر الجديد، أو علة لتحويله بالناسخ دون جمعه معه مع أن في كلا الأمرين صلاح العبد إلا أن الرفق يقتضى النسخ لئلا يتثاقل الحق عليه والله أعلم.

* الأصل

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه.

16 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان عن الحسن بن الحسين، عن الفضيل ابن عثمان قال:

سمعت

ص:352

أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس.

* الشرح

قوله: (من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس) لأن رفقه بهم يوجب ميل القلوب إليه والتألف والتودد بينهم وله مدخل عظيم لنيل المقصود منهم.

ص:353

باب التواضع

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب وعليه خلقان الثياب قال (عليه السلام): فقال جعفر فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما بنا وتغير وجوهنا قال: الحمد لله الذي نصر محمدا وأقر عينه، ألا أبشركم؟ فقلت: بلى أيها الملك، فقال: أنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهلك عدوه واسر فلان وفلان التقوا بواد يقال له: بدر كثير الأراك لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة فقال له جعفر أيها الملك فمالي أراك جالسا على التراب وعليك هذه الخلقان؟ فقال له: يا جعفر إنما نجد فيما أنزل الله على عيسى (عليه السلام) أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله عز وجل لي نعمة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدثت لله هذا التواضع فلما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة فتصدقوا يرحمكم الله، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن العفو يزيد صاحبه عزا، فاعفوا يعزكم الله.

* الشرح

قوله: (قل أرسل النجاشي) النجاشي ملك الحبشة مخفف عند الأكثر (وعليه الخلقان الثوب) خلق الثوب بالضم إذا بلى وهو خلق بفتحتين والجمع خلقان وفي بعض النسخ «الثياب» والإضافة من باب جرد قطيفة (فأشفقنا منه) أي خفنا يقال أشفق منه إذا خاف وأشفق عليه إذا عطف عليه (عين من عيوني) العين الديبان والجاسوس (إلتقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك) بدر موضع بين مكة والمدينة وهي إلى المدينة أقرب، ويقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا، وعن الشعبي إنه اسم بئر هناك قال وسميت بدرا لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر. والأراك شجر يستاك بقضبانه، الواحدة الأراكة ويقال هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان خوارة العود ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير يملأ العنقود الكف (لكأني انظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك) أي لكأني حاضر هناك

ص:354

انظر إليه وحيث تعليل لكأني أنظر إليه (أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعا عن ما يحدث لهم من نعمة) كما ينبغي التواضع لله وهو إظهار الخشوع والخضوع والذل والافتقار عند ملاحظة عظمته وجلاله كذلك ينبغي التواضع له عند التشرف بنعمة من نعمه الدنيوية والأخروية جسمانية كانت أو روحانية والأول أفضل من الثاني لأنه تعالى استحق الأول بالذات والثاني بالغير. (إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة) أي كثرة أموال وأعوان في الدنيا وكثرة الاجر في الآخرة، ومن ثم قيل الصدقة ثمن نعيم الجنان وأجر خدم الخلد من الولدان (وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة) أي التواضع لله وللمؤمنين يوجب رفع قدر صاحبه في الدنيا لميل القلوب إلى محبته وتعظيمه وتوقيره وشغل الألسنة بحسن ذكره وثنائه وتشهيره في الآخرة بعلو المرتبة والاجر الجميل وسمو المنزلة والثواب الجزيل (وأن العفو يزيد صاحبه عزا) لأن من عرف بالعفو ساد وعظم وعز في الدنيا والآخرة. وقد روى نظيره من طرق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه.

* الشرح

قوله: (فمن تواضع لله ورفعاه من تكبر وضعاه) دخل في التواضع لله الامتثال بأوامره ونواهية آدابه وأخلاقه والخشوع له عند ملاحظة عظمته وإظهار ذل النفس والعجز عند مشاهدة نعمته، ولعل المراد برفعهما ووضعهما الدعاء بالرفع والوضع أو اعلام سائر الملائكة بأن فلانا رفيع القدر وفلانا وضيع القدر. أو رفع روح المتواضع ووضع روح المتكبر عند الموت.

* الأصل

3 - ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أفطر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشية خميس في مسجد قبا، فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعس فلما وضعه على فيه نحاه، ثم قال: شرابان يكتفى بأحدهما من صاحبه، لا أشربه ولا أحرمه ولكن أتواضع لله، فإن من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله ومن إقتصد في معيشته رزقه الله ومن بذر حرمه الله ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله.

ص:355

* الشرح

قوله: (بعس مخيض بعسل) أي ممزوج والعسل - بالضم - القدح الكبير والجمع عساس ككتاب، والمخيض فعيل بمعنى مفعول من مخضت اللبن مخضا من باب قتل وفي لغة من بابي ضرب ونفع إذا إستخرجت زبده بوضع الماء فيه وتحريكه (لا أشرابه ولا أحرمه) دل على أن الاكتفاء بطعام واحد أولى من تناول الأطعمة الكثيرة الممزوجة وغيرها (ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله) لأن ذكر الموت يوجب ترك الدنيا والميل إلى الآخرة والقيام بوظائف الطاعات وتطهير الظاهر والباطن عن الأعمال والأخلاق الرذيلة وكل ذلك يثمر محبته تعالى.

* الأصل

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن داود الحمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، مثله. وقال: من أكثر ذكر الله أظله الله في جنته.

* الشرح

قوله: (من أكثر ذكر الله أظله الله في جنته) أي من أكثر ذكر الله باللسان والجنان عند الطاعة والمعصية والبلية أدخله في جنته وأظله بأشجارها أو أوقع عليه ظل رحمته في جنته أو أدخله في كنفه وحمايته فإن الظل قد يكنى به عن الكنف والحماية كما يقال فلان في ظل فلان أو أقبل الله عليه حتى كأنه ألقى ظله عليه على سبيل التمثيل والظل يطلق على الإقبال كما يقال أظلك شهر رمضان.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن العلاء بن زرين، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يذكر أنه أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملك فقال: إن الله عز وجل يخيرك أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا، قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع. فقال:

عبدا متواضعا، رسولا فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئا، قال ومعه مفاتيح خزائن الأرض.

* الشرح

قوله: (قال ومعه مفاتيح خزائن الأرض) ضمير قال راجع إلى أبي جعفر (عليه السلام) وضمير معه إلى الملك الرسول، والمفتاح الذي يفتح به المغلاق والمفتح مثله وجمع الأول مفاتيح، وجمع الثاني مفاتح بغير ياء، ويمكن حمل مفاتيح خزائن الأرض على الحقيقة وعلى استعارة لطيفة وذلك أن العجز وعدم التمكن والقدرة على استيلاء أهل الأرض بخزائنها لما كان مانعا من ذلك شبهه بغلق المانع من الدخول في الدار بتناول ما فيها والقدرة والتمكن لما كان رافعا لذلك المانع شبه بالمفتاح.

* الأصل

ص:356

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس وأن تسلم على من تلقى وأن تترك المراء وإن كنت محقا أن لا تحب أن تحمد على التقوى.

* الشرح

قوله: (من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس) وأن اقتضى شرفك صدره كما روى ذلك في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وإن تسلم على من تلقى) أي على كل من تلقى وإن لم يكن من معارفك إلا ما استثنى مثل الكتابي والشابة إلا أن تأمن من نفسك أن يدخل فيها شيء ومع ذلك فترك السلام عليها راجح لما يأتي في باب التسليم على النساء (وإن تترك المراء وإن كنت محقا) أي وإن تترك المجادلة والمنازعة مع الخلق والطعن في قولهم ولو كانت في الدرس والمسائل العلمية وإن كنت محقا إلا أن تريد الهداية والإرشاد مع لين القول فإنه أقوى في التأثير، وفي المصباح ماريته أماريه مماراة ومراء جادلته ويقال ما ريته أيضا إذا طعنت في قوله تزييفا للقول وتصغيرا للقايل ولا يكون المراء إلا إعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء وإعتراضا (وأن لا تحب أن تحمده على التقوى) لأن حب ذلك من آثار العجب والإدلال والاعتقاد بخروج النفس عن حد التقصير، وكل ذلك مذموم مهلك وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف المتقين المتواضعين أنهم «لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكى أحد منهم خاف مما يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم مني بنفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون وإجعلني أفضل مما يظنون اغفر لي ما لا يعلمون».

* الأصل

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن يقطين، عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى تدري لم إصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال:

يا رب ولم ذلك؟ قال، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه يا موسى إني قلبت عبادي ظهرا لبطن، فلم وجد فيهم أحدا أذل لي نفسا منك، يا موسى إنك إذا صليت وضعت خدك على التراب - أو قال:

على الأرض -.

* الشرح

قوله: (إني قلبت عبادي ظهرا لبطن) في المصباح قلبته قلبا من باب ضرب حولته عن وجهه وقلبت الرداء حولته وجعلت أعلاه أسفله وقلبت الشيء للإبتياع قلبا أيضا تصفحته فرأيت داخله وباطنه وقلبت الأمر ظهر البطن إختبرته».

ص:357

* الأصل

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: مر علي بن الحسين (عليه السلام) على المجذمين وهو راكب حماره وهم يتغدون فدعوه إلى الغداء، فقال: أما إني لولا أني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع، وأمر أن يتنوقوا فيه، ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغدي معهم.

* الشرح

قوله (مر علي بن الحسين (عليهما السلام) على المجذمين) وفي بعض النسخ «المجذومين» يقال رجل أجذم ومجذوم ومجذم إذا تهافتت أطرافه بالجذام وهو داء يحدث من غلبة السوداء فيفسد مزاح الأعضاء وربما إنتهى إلى أن يأكلها ويأكل ما يوضع فيها والغرض من هذا الحديث هو إظهار تواضعه (عليه السلام) لله تعالى كما يفهم من قوله (وهو راكب حماره) أو للخلق المجذومين فكيف غيرهم كما يفهم من قوله في الاخر (وتغدى معهم) والتنوق نيك در نگريستن در كارى ونيكو ساختن، أو يقال شيء أنيق أي حسن معجب والظاهر أنه (عليه السلام) أكل معهم في إناء واحد وفيه دلالة على جوازه مصاحبة المجذوم ومعاشرته ومواكلته ويؤيده ما رواه المصنف في كتاب الروضة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إن أعرابيا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله أني أصيب الشاة والبقرة والناقة بالثمن اليسير وبها جرب فأكره شراءها مخافة أن يعدى ذلك الجرب أبلى وغنمي، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أعرابي فمن أعدى الأول؟ ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عدوى ولا طيرة - الحديث» يعني لا تجاوز العلة صاحبها إلى غيره ومثل هذه الرواية بعينها موجود من طرق العامة أيضا وهو ينافي الرواية المشهورة عندنا وعندهم وهي «فر من المجذوم فرارك من الأسد» فقيل للجمع بينهما أن حديث الفرار ليس للوجوب بل للجواز أو الندب إحتياطا خوف ما يقع في النفس من أمر العدوي والسراية وحديث الأكل والمجالسة للدلالة على الجواز سيما إذا لم يوجس في النفس خوف العدوي. ومما يؤيد ذلك ما روى من طرق العامة عن جابر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أكل مع المجذوم فقال «آكل ثقة بالله وتوكلا عليه» ومن طرقهم أيضا أن امرأة سألت بعض أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الفرار من المجذوم فقال كلا والله وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عدوى، وقد كان لنا مولى أصابه ذلك فكان يأكل في صحافي ويشرب من قداحي وينام على فراشي. وقال بعض العامة حديث الأكل ناسخ لحديث الفرار، ورده بعضهم بأن الأصل عدم النسخ على أن الحكم بالنسخ يتوقف على العلم بتأخر حديث الأكل وهو غير معلوم وقال بعضهم للجمع أن حديث الفرار على تقدير وجوبه إنما كان لخوف أن يقع في العلة

ص:358

بمشية الله فيعتقد إن العدوي حق. أقول بقي احتمال آخر لم يذكره أحد وهو تخصيص حديث لا عدوى بحديث الفرار مع حمل الفرار على الوجوب وأكل المعصوم معه لا يدل على جواز ذلك لغيره لعلمه بأن الله تعالى يحفظه عند تعدي العلة إليه، ثم لو قيل بوجوب الفرار فمنعه من المسجد والاختلاط بالناس والدخول على الحمامات غير بعيد، وقال عياض: إذا كثر المجذومون فقال الأكثر يؤمرون أن ينفردوا في موضع (1) يلزمهم الانفراد ولم يختلف في القليل أنهم لا يمنعون ولا يمنعون من صلاة الجمة مع الناس ويمنعون من غيرها، ولو تضرر أهل قرية من جذماء يشاركونهم في الماء فإن قدروا على أن يستنبطوا ماء لأنفسهم فعلوا وإلا استنبط لهم الآخرون أو يقيمون من يسقى لهم والأفهم أحق بنصيبهم.

* الأصل

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن من التواضع أن يجلس الرجل دون شرفه.

10 - عنه، عن ابن فضال ومحسن بن أحمد، عن يونس بن يعقوب قال: نظر أبو عبد الله (عليه السلام) إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئا وهو يحمله، فلما رآه الرجل إستحيى منه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

اشتريته لعيالك وحملته إليهم أما والله ولو لا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشيء ثم أحمله إليهم.

* الشرح

قوله: (أما والله لو لا أهل المدينة لأحببت) وأنه إذ الامه أهل المدينة بذلك كان الأولى تركه والحوالة على غيره مع الإمكان.

* الأصل

11 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم: عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أوحى

ص:359


1- 1 - قوله «يؤمرون إن ينفردوا في موضع» هذا طريقة يسلكها أهل هذا الزمان والجذام مرض لم يهتد الأطباء بعد إلى علاجه وينسبه أطباء عصرنا إلى جرثومة يسمونها «دهانسن» ولها قرابة مع جرثومة السل أعادنا الله منها ومن غيرها ولما أثبتت التجربة سراية كثير من الأمراض ووردت أحاديث تدل على السراية تكلفوا التأويل ما ورد في نفيها مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا عدوى» بأن ليس المراد من العدوي السراية مطلقا با نحو منها كان يعقده الناس في الجاهلية، أو أنها العلة التامة لإيجاد المرض بحيث لو تجنب المرضى كان مصونا ولو لاقاهم إبتلى حتما وكان هذا سببا لاهمال المرضى وترك تمريضهم ورعايتم وعيادتهم وأما أن إعتقد السراية بمشية الله وتأثيرها في الجملة أن أراد الله فلا محذور فيه ولا يوجب ترك المرضى وإهمالهم، لأن احتمال التضرر بنجاة الواقع في المهلكة لا يحمل النفوس الخيرة على أن يدعوا المرضى بل يحظرون بنفسهم لنجاتهم وإعانتهم. (ش)

الله عز وجل إلى داود (عليه السلام) يا داود كما أن أقرب الناس من لله المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون.

* الشرح

قوله: (كما أن أقرب الناس من الله المتواضعون) أي المتواضعون لله ولرسوله ولأولى الأمر وللمؤمنين الصالحين ولمن لا يعلم فسقه الموجب لإهانة الدين مع قصد وجه الله تعالى فلو تواضع أحد لغرض اشتهاره بهذه الفضيلة أو لامر دنيوي كان يتواضع أبناء الدنيا لدنياهم وإن لم يكونوا ظالمين فهو من المرائين، ومن ثم قال بعض الأكابر من التواضع أن يرى الرجل نفسه أدنى ممن دنياه أقل ليظهر أن الدنيا لاقدر لها عنده وأرفع ممن دنياه أكثر ليظهر أن لاقدر له عنده بسبب كثرة الدنيا والمراد بقوله إرفع ترك التواضع دون التكبر لأن التكبر مذموم مطلقا ثم الفرق بين المتواضع والمتكبر ظاهر لأن المتواضع في مقام الذل والخشوع والعبودية والمتكبر في مقام العلو والعتو والمضادة ومن البين أن قرب أحد المتقابلين بشيء يستلزم بعد الآخر عنه.

* الأصل

12 - عنه، عن أبيه، عن علي بن الحكم رفعه إلى أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن موسى (عليه السلام) في السنة التي قبض فيها أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك مالك ذبحت كبشا ونحر فلان بدنة؟ فقال: يا أبا محمد إن نوحا (عليه السلام) كان في السفينة وكان فيها ما شاء الله وكانت السفينة مأمورة فطافت بالبيت وهو طواف النساء وخلى سبيلها نوح (عليه السلام)، فأوحى الله عز وجل إلى الجبال أني واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكن، فتطاولت وشمخت وتواضع الجودي وهو جبل عندكم فضربت السفينة بجؤ جؤها الجبل، قال: فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك: يا ماري اتقن، وهو بالسريانية [يا] رب أصلح، قال: فظننت أن أبا الحسن (عليه السلام) عرض بنفسه.

* الشرح

قوله: (فطافت بالبيت وهو طواف النساء) ذكر أولا طواف البيت وذكر آخرا الجزء الأخير منه للدلالة على أنها أتت بجميع الأفعال حتى الجزء الأخير. (فتطاولت وشمخت) التطاول غلبه كردن بر يكديگر بدرازى، والشموخ بلند كردن وتكبر كردن وفعله من باب منع والجبل الشامخ المرتفع، ومنه قيل شمخ بأنفه إذا تكبر وتعظم وذلك لظن كل واحد من تلك الجبال نظرا إلى عظمة حجمه وزيادة عرضه وطول مقداره أنه ذلك الجبل الموعود.

(وتواضع الجودي) نظرا إلى صغر حجمه وقلة عرضه وقصر مقداره وقطع الطمع من أن يكون هو

ص:360

ذلك الجبل الموعود مع وجود الجبال الشامخات. قيل هو جبل صغير كان في نجف أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال صاحب القاموس هو جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح (عليه السلام) وفيه دلالة على أن للجبال نفوسا (1) نفوسا مدركة حين الخطاب بعيد على أن الثاني لا ينافي القول بوجود النفوس لها والله أعلم.

(فضربت السفينة بجؤ جؤئها الجبل) في الجبل للعهد إشارة إلى الجبل الذي هو الجودي.

والجؤجؤ كهدهد الصدر (قال: فظننت أن أبا الحسن (عليه السلام) عرض بنفسه) التعريض توجيه كلام إلى جانب وإرادة جانب آخر لم تذكره فالتعريض خلاف التصريح وهو (عليه السلام) أشار إلى تواضع الجودى، وما بلغه من تواضعه وأراد به تواضع نفسه المقدسة بإحتقارها في ذبح الشاة فإن في ذبحها من إظهار العجز والافتقار ما ليس في ذبح البدنة.

* الأصل

13 - عنه، عن عدة من أصحابه، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

ص:361


1- 1 - قوله «على أن للجبال نفوسا» الذي هدى الناس إلى وجود النفوس ودعاهم إلى القول به في النبات والحيوان مشاهده أمور فيها لا يمكن أن ينسب إلى الطبيعة أي الصورة النوعية التي وجدوا مثلها في الجمادات لعدم كونها على نهج واحد فالشجر ينمو ويتفرع من أصله الأغصان والأوراق وفي كل واحد عروق كثيرة دقيقة وغليظة وله خشب وجلد وأزهار وثمار. وبالجملة: له آلات مختلفة متشتتة لاعلى نهج واحد لأفعال ووظائف مختلفة متجهة إلى مقصد واحد هو مصلحة الجملة والجمادات يترتب عليها آثار على نهج واحد ولو ضم جماد إلى جماد لم يتوجها إلى مقصد واحد في آثارهما ولم يعمل كل لمصلحة الاخر كما نرى في أعضاء النبات وآلاتها، بل يعمل كل المصلحة أفراد أخر كآلات التناسل في الزهر والبذر لحفظ النوع قالوا فيوجد في النبات شيء هو مبدء لأمور لا يوجد مثلها في الجماد وسموه نفسا وكذلك الحيوان والإنسان، وأما الأفلاك فرأوا فيها حركة مستديرة وإن لم يروا فيها ما في النبات الحيوان من الآلات المختلفة فأثبتوا لها أيضا نفوسا إذ لا يمكن نسبة حركة مستديرة إلى طبيعة جمادية مثل من يرى رحى يدور بنفسه من غير أن يرى له مديرا من ماء وهواء وغيرهما ينسب دورانه قهرا إلى جن أو ملك أي إلى موجود حي غائب له إرادة، وأما الجبال فلم يروا فيها ما يستدل به على وجود النفس إذا رأوها كساير الجمادات. ولكن عدم الآثار والشواهد لا يدل على عدم النفس. وإنما الدلالة في الوجود فقط، مثلا وجود الدخان دليل وجود النار أما عدم الدخان فلا يدل على عدم النار، وعدم مشاهدة آثار النفس في الجبال لا يدل على عدم وجود موجود حي مدبر للجبال نظير تدبير نفس الشجر للشجر. نعم يمكن أن يضايق في إطلاق اسم النفس عليه ولكنه أمر إصطلاحي أو لغوي يمكن أن يتخلص عنه بأن يسمى شيئا آخر حتى لا يكون غلطا لغويا والعمدة إثبات وجود مدبر قاهر حي مريد لتدبير كل شيء، وإصطلاح الحكماء على أن يسموا مثله عقلا ولعل الملائكة الموكلين بالجبال والرياح والأمطار والرعد والبرق وغيرهما على ما أشير إليه في قوله تعالى: «والمدبرات أمرا» هذه الموجودات الحية العاقلة المدبرة المسماة بالعقول والله أعلم بالحقيقة والغرض رفع الاستبعاد عن كلام الشارح وإثباته النفس للجبال. (ش)

قال: التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه.

* الشرح

قوله: (قال التواضع أن تعطى الناس ما تحب أن تعطاه) أي تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وتجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك فتريد لغيرك كل ما تريده لنفسك ما الخيرات الدنيوية والأخروية ولا تريد لغيرك كل ما لا تريد لنفسك من القبائح والشرور وذلك من أعظم أفراد التواضع وذل النفس وصرفها عن هواها.

* الأصل

وفي حديث آخر قال: قلت: ما حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعا؟ فقال: التواضع درجات منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم. لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتي إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، والله يحب المحسنين.

* الشرح

قوله: (فقال التواضع درجات) التواضع لله وللخلق درجات باعتبار كمال النفس ونقصهما وتوسطها فمنها أن يعرف المرء قدر نفسه بالنسبة إلى ربه وخالقه ورازقه ومدبره فيقيمها في مقام طاعته ويبعدها عن مقام معصيته ويذكره في جميع الحالات بقلب سليم ذليل نقى منقاد، راضيا بجميع ما فعله فيه من البلاء والآلاء وبالنسبة إلى الخلق يجعلها ميزانا بينه وبينهم فلا يجب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتي إليه فإن روي سيئة منهم بالنسبة إليه دفعها بالحسنة وهي العفو أو الاحسان وبالنسبة إلى الرب بالموعظة البالغة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المقرر.

ص:362

باب الحب في الله والبغض في الله

* الأصل

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأحمد بن محمد بن خالد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، وسهل بن زياد جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب لله وأبغض لله أعطى لله فهو ممن كمل إيمانه.

* الشرح

قوله: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله فهو ممن كمل إيمانه) حث على محبة الأخيار وبغض الأشرار واعطاء المستحق من المال المكتسب من طريق الحلال، والأخيار منهم من تقدست أنفهسم بالطهارة الأصلية والنزاهة الخلقية عن الملكات الردية وهم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ومنهم من يطهر نفوسهم عنها بالعلم بقبحها والوعيدات الإلهية وهم التابعون لهم بالعلم والعمل ومحبة هؤلاء من توابع العلم والمعرفة ومحبته تعالى وكمال الإيمان والمحب من أولياء الله ومن ادعى المحبة بدون علم ومعرفة فهو جاهل مغرور يكذبه ما روي «ما اتخذ الله وليا جاهلا» وينبغي لمن أبغض في الله أن يجتنب عن الغيبة كما صرح به الشهيد الثاني رحمه الله حيث قال ان البغض في الله قد يؤدي إلى الغيبة وهو حرام وذلك بأن يبغض على منكر قارفه انسان فيظهر بغضه ويذكر اسمه على غير وجه النهي وكان الواجب أن يظهر يغضه عليه على ذلك الوجه وهذا مما يقع فيه الخواص أيضا فإنهم يظنون أن البغض إذا كان لله كان حسنا كيف كان، وليس كذلك.

* الأصل

2 - ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن سعيد الأعرج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله.

* الشرح

قوله: (قال من أوثق عرى الإيمان) العروة الكوز ونحوه والمراد بها هنا الأحكام والأخلاق والآداب اللازمة للإيمان على سبيل المكنية والتخييلية أي كل عروة يتمسك بها متمسك رجاء نجاة من

ص:363

مهلكة أو ظفر بغنيمة ونعمة ومنزلة فأوثقها الحب في الله والبغض في الله والإعطاء في الله والمنع في الله لأن من تمسك بها تكامل إيمانه واستقام لسانه واستقر جنانه وبه يتحقق التودد والتآلف بين المؤمنين ويتم ويكمل نظام الدنيا والدين، وأما الحب لأجل المنفعة والاحسان فهو وإن كان في غاية النقصان لتعلقه بالأخيار والأشرار ولكونه سريع الزوال وسقوط رتبته عن الحب في الله بهذا الاعتبار لكنه مستحسن عقلا ومطلوب شرعا لأن له مدخلا أيضا في تحقق التآلف والتمدن.

* الأصل

3 - ابن محبوب، عن أبي جعفر محمد بن النعمان الأحوال صاحب الطاق، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطي في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله.

* الشرح

قوله: (ود المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان) وددته أوده من باب تعب ودا بفتح الواو وضمها أحببته والاسم المودة. فسرت الشعبة بالخصلة وأصلها الطائفة والقطعة من الشيء وفي المصباح انشعبت أغصان الشجرة تفرعت عن أصلها وتفرقت ويقال هذه المسئلة كثيرة الشعب أي التفاريع، والشعبة من الشجرة الغصن المتفرع منها والجمع الشعب مثل غرف والشعب من الشيء الطائفة منه والشعب بالكسر الطريق وقيل الطريق في الجبل. وفي الفائق الشعبة من الشيء ما تشعب منه أي تفرع كغصن الشجرة وشعب الجبل ما تفرق من رؤسها وعندي شعبة من كذا أي طائفة منه. إذا عرفت هذا فنقول للإيمان شعب كثيرة كالصلاة والزكاة والصوم والعقائد العقلية إلى غير ذلك من الأعمال والأخلاق والآداب الشرعية ومن أعظم ذلك ود المؤمن للمؤمن لحسن صورته الظاهرة بالأعمال الشرعية وصورته الباطنة بالأخلاق المرضية وكلما كانت الصور أحسن وأتم وجب أن يكون المودة أكمل وأعظم ولذلك وجب أن يكون المحبة للرسول وأئمة الدين والأوصياء الراشدين صلوات الله عليهم أجمعين في غاية الكمال ومن لوازم محبتهم متابعة أقوالهم وأعمالهم وعقائدههم وقوانينهم بقد الإمكان ثم بعد ذلك المحبة لاخوان الدين وخلص المؤمنين والعلماء والمتعلمين ومن آثارهم رعاية حالهم وتفقد أحوالهم واصلاح بالهم وقضاء حوائجهم والاهتمام بأمورهم ومن داعى المحبة وليست له هذه الآثار فهو معدود من المنافقين والأشرار.

ص:364

* الأصل

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعه يقول: «إن المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم ونور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء حتى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابون في الله».

* الشرح

قوله: (على منابر من نور) النور الضوء وهو خلاف الظلمة والظاهر أن المراد بالمنبر معناها المعروف (1) المراد بالنور الحقيقية إذ التحابب من الأعمال الصالحة وهي على تفاوت مراتبها نور يم القيامة، وقوله (حتى يعرفوا) غاية لكونهم على منابر وإضاءة نور وجوههم.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحب والبغض، أمن الإيمان هو؟ فقال: وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ثم تلا هذه الآية ( حبب إليكم الإيمان وزينه في وقلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان واولئك هم الراشدون).

* الشرح

قوله: (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحب والبغض أمن الإيمان هو) أي عن حب علي (عليه السلام) وبغض عدوه، أو عن حب المؤمنين وبغض عدوهم، أو عن حب الخير والطاعة وبغض الشر والمعصية. والحصر في قوله (وهل الإيمان إلا الحب والبغض) للمبالغة لأن الإيمان بالشيء لا يتحقق بدون حب ذلك الشيء وبغض ضده ولعل المراد بالإيمان في الآية على الاحتمال الأول على (عليه السلام) أو الإيمان به. وبالكفر والفسوق والعصيان الثالثة الغاصبون للخلافة، أو المراد بالكفر الإنكار والجحود ظاهرا وباطنا وبالفسوق الإنكار باطنا فقط وبالعصيان ترك متابعة السنة وعدم الامتثال بالأوامر والنواهي مع احتمال

ص:365


1- 1 - قوله «المنابر معناها المعروف» ان قيل كيف يتعلق تشكيل النور في شكل مدرج وكيف يمكن أن يحبس جسم على نور ولا يسقط؟ قلنا هذا سؤال راجع إلى عالم آخر وهو عالم القيامة ولا يقاس أحكام ذلك العالم على عالمنا هذا ولا يجب أن يثبت جميع أحكام الدنيا على الآخرة فلعل النور في ذلك العالم يتشكل كما أن العلم يتجسم والنية يتصور ويحشر الناس على صور نياتهم ولعل أجسام الآخرة لا يسقط ويتمكن على النور لأنها ليست ثقيلة، وإنما يضل الناس بقياس عالم على عالم وإثبات أحكام الدنيا على جميع العوالم ولو بنينا على ذلك لزم والعياذ بالله إنكار أكثر الروايات والأخبار الواردة في تفاصيل المعاد فإنها لا تنطبق على أجسام عالمنا هذا ولا يقدم عليه مسلم وأما تأويل المنبر بالدرجات المعنوية فلا ينافي ذلك. (ش)

أن يراد بالإيمان الإيمان بالله وبرسوله وحججه (عليهم السلام).

* الأصل

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن علي بن يحيى - فيما أعلم - عن عمرو بن مدرك الطائي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة وقال بعضهم: الصيام. وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله».

* الشرح

قوله: (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل ما قلتم فضل وليس به ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله) الأعمال الظاهرة بمنزلة الصورة والأعمال القلبية بمنزلة الروح ونظر الصحابة تعلق بحسن الصورة وكمالها ونظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعلق بحسن الروح وكماله ولا شك في أن الحب في الله والبغض في الله والتولي لأولياء الله والتبري من أعداء الله من صفات القلب (1) جميع الخيرات والكمالات وبه يتحقق العروج (2) من الخير غالبا لئلا يقع فيما يفر منه ويبغضه، وبالجملة: الأعمال القلبية هي المصححة للأعمال الظاهرة (3)

ص:366


1- 1 - قوله «من صفات القلب» القلب من اصطلاح كثير من علماء الأخلاق هو النفس الناطقة وصفات الإنسان وملكاته بما هو إنسان تنقسم إلى ما هي له باعتبار أعضائه وجوارحه الجسمانية وليست هي الكمالات للنفس الناطقة التي توجب سعادتها في الآخرة وبعبارة اخرى ليست من صفات القلب، وإلى ما هي لها مع قطع النظر عن هذه الآلات وهي التي تبقى وتوجب سعادتها ويهم علماء الأخلاق أن ينظروا في ذلك ويميزوا بينهما العلامات حتى لا يصرفوا عمرهم في تربية صفات وتكميل ملكات لا تفيد في الآخرة شيئا وهذه العلامات أما شرعية وهي ما ورد من أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في المنجيات والمهلكات وأما عقلية اهتدى الناس إليها بعقلهم العملي على ما هو مذهبنا من أثبات الحسن والقبح والعقليين ويتطابق الشرع والعقل في ذلك. (ش)
2- 2 - قوله «به يتحقق العروج» الإيمان أصله اعتقاد وتصديق ولكن لا يمكن انفكاك التصديق بالحقائق والاعتقاد بها عن بهجة للنفس واستحسان لها ولعل معنى الحب والبغض على ما يتبادر إلى ذهن العامة حالة جسمانية مادية توجب ضربان القلب وشحوب اللون واختلاط الذهن وأمثال ذلك ولذلك التزموا بكون إطلاقهما على الله مجازا كقوله تعالى «وإن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله» ولكن المراد هنا مطلق البهجة الذي لا يتوقف على هذه التغييرات الجسمية فإنها نواقص لا تناسب أجسام الآخرة ولا يطرأ عليها شيء منها، وأما أصل البهجة وهي الحب الحقيقي فتبقى للمؤمن مع اعتقاده الحق. (ش)
3- 3 - قوله «هي المصححة للأعمال الظاهرة» ولكن من الأسف أن كثيرا من الناس تكروا الأهم واشتغلوا بالمهم واعتمدوا على الأمارات الظنية وتركوا الحقائق اليقينية مثل من يعتني في طلب العلم بتحصيل ورقة تدل على مقامه في العلم لأعلى العلم نفسه فربما تكون في يد من ليس له من العلم نصيب وربما لا يكون في يد العالم ورقة تصدق عمله، كذلك الأعمال الظاهرة أمارات ظنية على كمال نفساني ربما تتخلف. والعلم المتعلق بالأخلاق أشرف العلوم العملية. (ش)

أمارات ظنية على كمال فاعلها و من ثم ورد فی الروایات أن الثواب والعقاب على قدر العقول لأعلى الأعمال الظاهرة فلا ينبغي الغلو في تعظيم من حسنت أعماله الظاهرة إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال ولا في تحقير من ضعف فيه بعض تلك الأعمال إذ لعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه.

* الأصل

7 - عنه، عن محمد بن علي، عن عمر بن جبلة الأحمسي، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المتحابون في الله يوم القيامة على أرض زبر جدة خضراء، في ظل عرشه عن يمينه - وكلتا يديه يمين - وجوههم أشد بياضا وأضوء من الشمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل، يقول الناس: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله.

* الشرح

قوله: (في ظل عرشه عن يمينه وكلتا يديه يمين) ظاهره أن له عرشا جسمانيا وإن أشرف طرفيه يمين والآخر يسار يستقر في الأول أفضل الخلايق وفي الآخر أدونهم فضلا وكلا الطرفين يمين مبارك يأمن من استقر فيها ولا بعد فيه كما أن له بيتا والإضافة للتشريف والتعظيم ويتحمل أن يراد بالرحمة ولها أفراد متفاوتة فأقواها يمين وأدونها يسار وكلاهما مبارك ينجو من أهوال القيامة ومثل هذا الحديث رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال عياض ظاهره أنه سبحانه يظلهم حقيقة من حر الشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلائق وهو تأويل أكثرهم قال بعضهم: هو كناية عن كنههم وجعلهم في كنفه وستره، ومنه قولهم السلطان ظل الله وقولهم فلان في ظل فلان أي في كنفه وعزته، ويمكن أن يكون الظل هنا كناية عن التنعم والراحة من قولهم عيش ظليل (يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل) الغبطة حسن الحال وهي اسم من غبطته غبطا من باب ضرب إذا تمنيت مثل ما ناله من غير أن تريد زواله عنه لما أعجبك منه وعظم عندك وهذا جائز فإنه ليس بحسد فإذا تمنيت زواله فهو الحسد وغبط الرسول ذلك لا يوجب أن يكون منزله دون منزلهم فإن ذا المنزل الشريق قد يعجبه منزل آخر دون منزله في الشرافة.

ص:367

* الأصل

8 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي ابن الحسين (عليه السلام) قال: إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول: أين المتحابون في الله، قال: فيقوم عنق من الناس فيقال لهم: إذهبوا إلى الجنة بغير حساب، قال:

فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب، قال: فيقولون: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله، قال: فيقولون: وأي شيء كانت أعمالكم؟ قالون: كنا نحب في الله ونبغض في الله قال: فيقولون: نعم أجر العاملين.

* الشرح

قوله: (قام مناد فنادى يسمع الناس فيقول اين المتحابون في الله قال فيقوم عنق من الناس) العنق الجماعة والظاهر أن المنادي غيره تعالى ويفهم من طريق العامة ان المنادي هو الله سبحانه روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن الله جل وعلا يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» وقوله بحلالي أي بسبب تعظيم حقي وطاعتي وطلب رضاي لا لغرض آخر دنيوي هذا النداء نداء تنويه وأكرم.

* الأصل

9 - عنه، عن علي بن حسان، عمن ذكره، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من علامات المؤمن: علمه بالله ومن يحب ومن يبغض.

* الشرح

قوله: (ثلاث من علامات المؤمن علمه بالله ومن يجب ومن يبغض) أي عمله بمن ينبغي أن يحبه ومن ينبغي أن يبغضه فإن المؤمن يكمل إيمانه بهذه العلوم ويهتدي إلى خير وشره ونفعه وضره.

* الأصل

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله الجنة بحبكم وإن الرجل ليبغضكم وما عرف ما أنتم عليه فيدخله الله ببغضكم النار.

* الشرح

قوله: (إن الرجل ليحبكم وما يعرف ما أنتم عليه فيدخله الله الجنة بحبكم) دل على أن الشيعة يدخل الجنة وكذا من أحبه وإن لم تكن أن أهل المعرفة لكن بشرط أن لا يكون من أهل الإنكار (1)

ص:368


1- 1 - قوله «لكن بشرط إن لا يكون من أهل الإنكار» قال المحقق الطوسي (قدس سره) في التجريد محاربوا على كفرة ومخالفوه فسقه، وقال العلامة (رضي الله عنه) في شرحه المحارب لعلى كافر لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «يا علي حربك حربي» ولا شك في كفر من حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما مخالفوه في الأمانة فقد اختلف قول علمائنا فمنهم من حكم بكفرهم.... وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو الأقوى ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة أحدها أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة. الثاني قال بعضهم أنهم يخرجون من النار إلى الجنة، الثالث، ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضى لإستحقاق الثواب انتهى. وهنا سؤالان: الأول: أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «يا علي حربك حربي» رواية ربما يكون محاربه (عليه السلام) غير عالم بصحتها فيكف يحكم بكفر من أنكر رواية لا يعلم صحتها، والجواب أن محارب علي (عليه السلام) كانوا معاصرين له (عليه السلام) وكانوا ممن أدركو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأوا عنايته به ومحبته له واعتماده عليه ولم يكن عداوتهم لعلي (عليه السلام) إلا لعدم إيمانهم بنبوته باطنا ولا يحتمل في حقهم الجهل بمقام علي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). الثاني: إن المستضعف الجاهل الذي لم يكن مقصرا كيف يحكم بفسقه، والجواب أن مقصود المحقق (رضي الله عنه) بيان الاعتقاد الذي يوجب الفسق من حيث هو اعتقاد ومعذورية القاصر الجاهل أمر آخر كما أن قول الله تعالى: «الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة» لبيان اقتضاء هذا العمل ولا ينافي معذورية الزاني جهلا بالموضوع والمستضعف أن فرض وجوده بحيث يعذر العقلاء في مثله مجرميهم إذا جهلوا فالله تعالى أولى بأن يعذره. (ش)

على الظاهر، وأما دخول غير العارف والمبغض في النار قطعا بسبب البغض فلا ينافي دخوله فيما بسبب عدم المعرفة أيضا لأنه قد يكون للدخول فيها أسباب متعددة على أن عدم المعرفة المقرون بعد الإنكار لا يوجب الدخول فيها كما في المستضعف لأنه في المشية.

* الأصل

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن العرزمي، عن أبيه عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب.

* الشرح

قوله: (والله يحبك) قيل أصل المحبة الميل وهو على الله سبحانه محال فمحبته للعبد رحمته وهداته إلى بساط قربه ورضاه عنه، وإرادته إيصال الخير إليه، وفعله له فعل المحب وبغضه سلب رحمته عنه وطرده عن مقام قربه ووكوله إلى نفسه ونظير قوله «والمرء مع من أحب» موجود من طرق العامة أيضا روي مسلم «أن أعرابيا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متى الساعة؟ فقال ما أعددت لها؟ قال حب الله ورسوله قال أنت مع من أحببت» وفيه أيضا فضل حب الله وحب رسوله وحب الصالحين وأن محبهم معهم ولا يلزم كونه معهم أن يكون مثلهم في الدرجات واستحقاق الكرامات يظهر ذلك من قولنا

ص:369

لعبد زيد ادخل أنت مع سيدك في هذا المجلس فإن لزيد كانا فيه ولعبده مكانا آخر والظاهر أن مجرد المحبة يقتضى ذلك وإن لم يقرن مع العمل، يدل على ذلك حديث شاب كان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير; فلما فقده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما سأل عنه فقال بعض الحاضرين أنه مات وطعنه بأنه كان مراهقا يتبع ادبار النساء فرحمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال «والله لقد كان يحبني حبا لو كان نخاسا غفر الله له (1)

* الأصل

12 - عنه، عن أبي علي الواسطي، عن الحسين بن أبان، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو أن رجلا أحب رجلا لله لأثابه الله على حبه إياه وإن كان المحبوب في علم الله من أهل النار، ولو أن رجلا أبغض رجلا لله لأثابه الله على بغضه إياه وإن كان المبغض في علم الله من أهل الجنة.

* الشرح

قوله: (لو أن رجلا أحب رجلا لله لأثابه الله) وذلك لأن حبه وبغضه إياه لله راجعان إلى حب طاعة الله وبغض معصيته وهما من جملة الأعمال القلبية الصالحة المقتضية للثواب الجزيل.

* الأصل

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر ابن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بشير الكناسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا فما كان في الله ورسوله فثوابه على الله في الدنيا فليس بشيء.

* الشرح

قوله: (قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا الخ) والأول كحب الأخيار والعلماء العباد والزهاد والصلحاء لأجل إرشادهم وهدايتهم وعبادتهم وصلاحهم وزهادتهم فإنه لمحض التقرب من الله وطلب رضاه، والثاني كحب رجل لنيل الإحسان والجاه والمال منه فإنه لأغراض دنيوية داثرة مثل الدنيا فليس بشيء يعتد به.

* الأصل

14 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المسلمين يلتقيان، فأفضلهما أشدهما حبا لصاحبه.

* الشرح

قوله: (إن المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشد هما حبا لصاحبه) أي أفضلهما ثوابا وقربة

ص:370


1- 1 - قوله «لو كان نخاسا غفر الله له» النخاس بايع العبيد والإماء ليس نفس عمله حراما ولا التمتع بالجواري ان كن ملكا له ولكن كثيرا منهم كانوا دلالين يبيعون امام غيرهم ويتمتعون بها من غير وجه محلل. (ش)

ومنزلة عند الله تعالى أشدهما حبا لصاحبه في الله لا في الدنيا فإنه ليس بشيء يعتد به كما مر.

* الأصل

15 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، وابن فضال، عن صفوان الجمال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ما التقى مؤمنان قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لأخيه.

16 - الحسين بن محمد، عن محمد بن عمران السبعي، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له.

* الشرح

قوله: (فلا دين له) أي على وجه الكمال، أو على نفي الحقيقة إن كان مستخفا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المحبة على الدين.

ص:371

باب ذم الدنيا والزهد فيها

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصرة عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار الإسلام.

* الشرح

قوله: (من زهد في الدنيا) زهد في الشيء وعن الشيء زهدا وزهادة إذا رغب عنه ولم يرده ومن فرق بين زهد فيه وعنه فقد أخطأ كذا في المغرب، وقال صاحب العدة إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل جبرئيل (عليه السلام) عن تفسير الزهد فقال جبرئيل (عليه السلام) الزاهد يحب من يحب خالقه ويبغض من يبغض خالقه ويتحرج من حلال الدنيا ويلتفت إلى حرامها فإن حلالها حساب وحرامها عقاب ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه ويتحرج من الكلام فيما لا يعينه كما يتحرج من الحرام ويتحرج من كثرة الأكل كما يتحرج من الميتة التي قد اشتد نتنها ويتحرج من حطام الدنيا وزينتها كما يتجنب النار أن يغشاها وأن يقصر أمله وكما بين عينيه أجله. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الزهد قصر الأمل وتنقية القلب وأن لا يفرح بالثناء ولا يغتم بالذم ولا يأكل طعاما ولا يشرب شرابا ولا يلبس ثوبا حتى يعلم أن أصله طيب وأن لا يلتزم الكلام فيما لا يعنيه وأن لا يحسد على الدنيا وأن يحب العلم والعلماء وأن لا يطلب الرفعة والشرف، وقال بعض العلماء أصل الزهد أربعة أشياء الحلم في الغضب، والجود في القلة، والورع في الخلوة، وصدق القول عند من يخاف منه أو يرجو. وقال بعض الأكابر إن الزهد ثلاثة أحرف زاي وهاء ودال فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهواء، والدال ترك الدنيا وينبغي أن يعلم أن الزهد في الدنيا والصبر والشكر والتوبة والخوف والرجاء والمحبة والتوكل والرضا وغيرها من الفضائل النفسانية والخصائل الروحانية صفات للنفس وحالات لها حصولها تابع لحصول الحكمة أعنى العلم بالدين ثم أن حصول هذه الأمور ورسوخها سبب لبقاء الحكمة وإستقرارها وثباتها وزيادتها كما قال (عليه السلام) «من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه» من الأثبات بالثاء المثلثة أو بالنون فمن أعظم مكارم الصالحين وأجل صفات العارفين الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله كما أن من أشنع صفات المنافقين وأقبح سمات

ص:372

الغافلين الرغبة في الدنيا والإعراض عما عند الله وعن أحوال الآخرة. والأصل في الأول العلم بأن الدنيا ولذاتها أمتعة باطلة زائلة. والأصل في الثاني الجهل بذهابها وفنائها وبثبات الآخرة وبقائها، قال الله تعالى في وصف الفريقين: «فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون أنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون» فانظر كيف نسب الرغبة في الدنيا إلى الجهال والزهد إلى العلماء وذم الأولين غاية الذم وأثنى على الآخرين نهاية الثناء، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) وقال في وصف الكفار:

(والذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة) ويفهم منه وصف المؤمنين وهو أنهم يستحبون الحياة الآخرة على الحياة الدنيا وقال في وصف المؤمنين (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام» وقد سئله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى هذا الشرح فقال «أن النور إذا دخل القلب إنشرح له الصدر وإنفتح، فقيل يا رسول الله هل لذلك علامة؟ قال نعم (1) دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» فانظر كيف جعل الزهد وهو (التجافي عن دار الغرور شرط الإسلام وعلامة نور القلب وإنشراح الصدر.

ثم الكلام هنا في نفس الزهد وفيما يرغب عنه وفيما يرغب فيه أما الأول فدرجاته ثلاثة:

الدرجة السفلى أن يزهد في الدنيا ويتركها وهو له مشقة ونفسه إليها مائلة ولكن يجاهدها ويمنعها عن التوجه

ص:373


1- 1 - قوله «هل لذلك علامة قال نعم» أهل الدنيا لا يهتمون إلا بها وهم غافلون عن الآخرة وجميع أفعالهم وحركاتهم وعلومهم وهممهم وكل شيء منهم مصروفة إلى الدنيا فيعتنون بسلامة بدنهم ولذات أجسامهم أكثر من الاعتناء بأخلاقهم وملكاتهم ويختارون من العلوم ما يستفاد منها في الحياة الدنيا كما يتعلق بالطب والزراعة والتجارة والصنائع الدنيوية لا الفقه والأخلاق والاعتقادات في المبدء والمعاد والسعيد عندهم من تهيأ له وسائل العيش لامن تخلق بالأخلاق الفاضلة ومن حصل على جاه عريض وشهرة فائقة أشرف عندهم من الخامل المستريح من الناس المأمونين من أذاه والرجل الخير من سهل للناس وسائل عيشهم الدنيوي كمخترعي الصنائع وعلامة أهل الآخرة كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «التجافي عن الدار الغرور» والتباعد عما يهتم أهل الدنيا به ولما كان الحس من النعم التي أعطاها الله الإنسان لمصلحة دنياه وهو متعلق بجوارحه البدنية كان أهم عند هؤلاء من العقل مع أن الحواس كلها وما يتعلق بها من دار الغرور، أما الحواس الظاهرة فمعلوم أنها قوي في جسم تتفرق وتتلاشي وأما الحواس الباطنة فمنها الحس المشترك وهو تابع للحواس الظاهرة، وأما الواهمة فهي قوة تحصل بها للحيوان مصاديق معادن غير محسوسة بالحواس الظاهرة فيحب أولاده ويتنفر من عدوه، ومثل ذلك من حالات تعرض في بدن الحيوان الذي له عصب ودماغ، وأما الحافظة فإعتياد حاصل للأعصاب بكثرة الممارسة كاعتياد اللسان قراءة قصيدة. أو آية حفظها إذا شرع فيها جرى على لسانه إلى آخرها وكإعتياد الكتابة فإنها ملكة في أعصاب اليد تحصل بالتمرين فيكتب الخط الحسن بأنواعه وكذلك تحصل مثل هذا الاعتياد في الدماغ فيجدد صورة سبقت له مرة أو مرات وهو معنى التذكر. والمتخلية كذلك جسمانية إذا يعرض لها بكثرة استعمالها لها الكلال وليس عروض الكلال إلا للجسم وإنما يبقى العق لعدم تعلقه بجسم وهو متجاف عن دار الغرور مع كل ما يتفرع عليه. (ش)

إليها وهذا شبيه بالمتزهد بل سماه بعض أهل التحقيق به، والدرجة الوسطى أن يتركها طوعا بلا مشقة لإستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كمن يترك درهما لدارهم كثيرة فإنه لا يشق عليه ذلك وإن احتاج إلى انتظار ما ولكن يرى هذا زهده ويظن أنه ترك شيئا له قدر لأجل ما هو أعظم منه والدرجة العليا أن يتركها طوعا ويزهد في زهده ولا يظن أنه ترك شيئا لعلمه بأن الدنيا لا شئ كمن ترك قذرة لأجل جوهر ثمين فإنه لا يرى أن ذلك معاوضة ولا يرى أنه ترك شيئا، فإن الدنيا بالقياس إلى الآخرة أخس من قذرة بالقياس إلى جوهر ثمين وهذا هو الزهد الحقيقي وسببه كما المعرفة بخسة الدنيا وكما الآخرة، وأما الثاني فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يترك المحرمات الشرعية والأعمال القبيحة، والدرجة الوسطى أن يترك مع ذلك الرذائل النفسانية مثل الشهوة والغضب والكبر وحب الرئاسة وأمثالها، والدرجة العليا أن يترك جميع ما سوى الله جل شأنه وهو في هذه الدرجة يزهد في نفسه أيضا ولا ترى في الوجود إلا هو وهو معنى الوحدة.

وأما الثالث فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يكون الغرض من زهده هو النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطرات الصراط وبواقي الأهوال المتعلقة بالقيامة، والدرجة الوسطى أن يكون الغرض مع ذلك الرغبة في ثواب الله ونعيم الجنة وللذات الموعودة مثل الحور والقصور وغيرها، والدرجة العليا أن لا تكون له رغبة إلا وجه الله ولقاء ولا يلتفت إلى سواه وهذا زهد المحبين ورغبة العاشقين (1) إذا ضربت الثلاثة الوسطى ثم

ص:374


1- 1 - قوله «ولا يلتفت إلى سواه زهد المحبي» ربما يختلج في أذهان سفلة الناس أن المحروم من لذة الأكل والنكاح محروم من السعادة ويلزم من ذلك أن تكون الملائكة المقربون والأرواح المقدسة القدسية أنقض من الحيوان في اللذات والسعادات بل ربما يتوهم بعض المتفلسفين أن علم هؤلاء المقربين أنقض من علوم الحيوانات العجم في الكيفية لأن المحسوسات إنما ترك بآلات مادية مركبة من هذه العناصر الأربعة وليس لهم حواس بهذه الصفة فلا يدركون النور والألوان وجمال الطبيعة وزينتها والأصوات وغير ذلك وفاق عليهم الحيوان والإنسان بهذه المزية ولو كان صحيحا لكان الواجب تعالى أيضا مثلهم في ذلك وكيف يتوهم عاقل أن من خلق طبقات العين وشكل الجليدية ولون العنبية وركب عليها الأشفار والحواجب لا يكون عالما بالنور وخواصه وهكذا ساير الأعضاء. والصحيح أن إدراك الأشياء لا يتوقف على وجود جسم ومادة تتأثر بل هي مانعة عن الإدراك ذاتا ولكن الله تعالى لما قدر ترقى الوجود من أسفل مراتبه وهو المادة إلى أعلى درجاته وهو العقل فلم يكن بد من أن يمر في طريقه على مادة يأخذ طرفا من الإدراك فصار حيوانا وإنسانا وهو منزل بين عدم الإدراك المادي والإدراك الكامل العقلي فيترقي تدريجا في الإدراك ويضعف في المادية فيصير إدراكا صرفا يجتمع فيه جميع السعادات إذ ما من كمال ولذة وبهجة إلا وسببها الإدراك ولا يعقل أن يكون الزاهد المعرض عن الدنيا السافلة المقبل بكليته إلى أشرف الموجودات وأعزها وأكلهما وإدراك عين الكمال أدون في السعادة والبهجة من المنهمك في الشهوات خصوصا مع مشاهدة أمارات الخلود والبقاء والأمن من الموت الذي هو أشد المخاوف على الإحياء والإنسان إذا إرتقى إلى مقام التحقق بالعقل ليس كمن كان في بيت له شبابيك من الحواس يطلع منها على الأشياء ثم حبس وسد عليه تلك الشبابيك ومنع من إدراك الموجودات بل بمنزلة من يخرق حواجب المكان والزمان ويحضر عند كل شيء وفق لإدراكه والاتصال به وبالجملة يوجد للنفوس الناطقة بد لا عن الحواس المادية ما يدرك بها الأشياء أكمل مما كانت تدركه كما ينفتح للنائم عين ينظر بها بعد سلب العين الظاهرة وليس هذا ممتنعا في قدرته تعالى وليس إدراك الإنسان بعد الموت منحصرا في المطالعة خيالاته المحفوظة في ذهنه. (ش)

الحاصل في الثلاثة الأخيرة حصل سبعة وعشرون نوعا متفاوت المراتب والدرجات ويندرج تحت كل نوع أشخاص وجزئيات غير محصورة والله ولى التوفيق، وقد أشار (عليه السلام) إلى بعض آثار الزهد ولوازمه بقوله (أثبت الله الحكمة في قلبه) حتى يصير قلبه نورا إلهيا وضوءا ربانيا ينقطع عن التعلقات الناسوتية لمشاهدة جمال إسرار الغيبية اللاهوتية.

(وانطق بها لسانه) حتى يقول الحق ويشرد إليه ويصمت عن الباطل ويخوف عليه.

(وبصرة عيوب الدنيا داءها ودواءها) أما عيوبها فهي إنها دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة وبالفناء موصوفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم من الآفات نزالها أحوالها مختلفة وأوضاعها متبدلة ونعمها منصرمة، العيش فيها مذموم والأمان فيها معدوم والطالب لها مغموم وأهلها إعراض مستهدفة ترميم بسهامها وتفنيهم بحمامها، وأما داؤها فهو الغفلة عن الحضرة الربوبية والاستحقاق للعقوبة الدنيوية والأخروية، وأما دواؤها فهو تنزيه النفس عن الميل إلى زهراتها والرغبة في قنياتها والعبرة بأحوال الماضين والإتعاظ بأوضاع السابقين حيث كانوا أطول أعمارا وأعمر ديارا وأبعد آثارا وأشد قوة وأكثر أعوانا فقد صارت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وأجسادهم بالية وديارهم خالية وآثارهم عافيه فإستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق الممهدة الصخور والأحجار المسندة والقبور اللاصقة اللاطئة والعجب إن المؤمن يعلم أن الأمراض الروحانية ليست بأهون من الأمراض الجسدانية وهو يسعى في دفع هذه الأمراض بقدر الإمكان ويغفل عن دفع الأولى ويضعها في زاوية النسيان، ومن الله التوفيق والتكلان. (وأخرجه من الدنيا سالما) (1) من الآفات في الدين والنواقص في اليقين (إلى دار السلام) وهي الجنة التي

ص:375


1- 1 - قوله «وأخرجه من الدنيا سالما» يدل الحديث بسياقة على أن السلامة عند الخروج من الدنيا إنما هي بسبب بصيرة الرجل على عيوب الدنيا وثبات الحكمة في عقله وأن العقل لا يكمل إلا بالزهد والحكمة لا تثبت إلا بالعقل وليس خلق العقل لعمران الدنيا وإلا لم يكن يكمل بالزهد، بل كان يكمل بالحرص كما يكمل الجزبزة والمكربة. ويهمنا هنا بيان شيئين الأول أن العقل أو القلب أو النفس الناطقة - وكل ما شئت فسمه - موجود جوهري مستقل عند البدن بنفسه وليس من أجزاء هذا الدنيا وإعراضها بل هو من عالم آخر ومن سنخ الملائكة المدبرة والعقول القدسية العالمة بجميع الأشياء والمطلعة على الغيوب التي ترتبط نفوس الإنسان معها في الرؤيا الصادقة على ما سبق. والثاني أن الموجود الجوهري باق ببقاء علته ولا ينفي أبدا إلا أن ينفي علته وليس كالإعراض والتركيبات التي تنفي مع بقاء علتها الفاعلة بتلاشي أجزائها وتفكك عناصرها - قال المحقق الطوسي في التجريد: والسمع دل عليه يعني على العدم. وقال العلامة - (رحمهم الله). في شرحه يدل على وقوع العدم السمع وهو قوله تعالى «هو الأول والآخر» وقوله تعالى «كل شيء هالك إلا وجهه» وقال تعالى «كل من عليها فان» وقد وقع الإجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما سيأتي، وقال المحقق الطوسي (رحمهم الله) ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم (عليه السلام)، وقال العلامة المحققون على امتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد وههنا قد بين أن الله تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة ثم قال عليه الرحمة: تأول المصنف معنى الإعدام بتفريق أجزائه والامتناع في ذلك فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به أو يقال أنه هالك بالنظر إلى ذاته إذ هو ممكن وكل ممكن بالنظر إلى ذاته لا يجب له الوجود إذ لا وجود إلا للواجب بذاته أو بغيره فهو هالك إنتهى، ونقل هو عن الكرامية وهم طائفة من المسلمين والجاحظ وهو من رؤساء المعتزلة القول بإستحالة عدم العالم بعد وجوده فلا تنفى بذاتها ولا بالفاعل لأن وهو شأنه الإيجاد لا الإعدام وهذا لا يثبت مطلوبهم لأنهم اعترفوا بإمكان الوجود للعالم ذاتا والإمكان لا يجتمع مع استحالة العدم وبالجملة فالإعدام عند العلامة وغيره من المحققين إنما هو بمعنى التفريق في المركبات ولا يتحقق في البسائط الجوهرية والنفس الناطقة تبقى بعد ثبوت تجردها وعدم توقف وجودها على تركيب العناصر في البدن. (ش)

أعدت للمتقين.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص به غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا.

* الشرح

قوله: (جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا) وبحكم المقابلة جعل الشر كله بيت وجعل مفتاحه الرغبة في الدنيا وهذا التمثيل لقصد الإيضاح والتحقيق دون المبالغة لأن كل ما ينبغي أن يتصف به الإنسان من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال التي بينها الصادقون ورغبوا فيها فهو الخير والمندرج في ترك الدنيا ورفض الميل إليها والتعلق بها وكل ما ينبغي أن يتنزه عنها فهو أشر والمندرج في ترك الدنيا والرغبة فيها يحكم بذلك صريح العقل بعد التأمل فيما يصدر عن الإنسان فان كل ما يصدر عته فالغرض منه أما حب الدنيا كالبخل والحرص والحسد والكبر وترك الزكاة لجمع المال

ص:376

وترك الصلاة لحب الراحة وأمثال ذلك أو حب الله وحب الآخرة ورفض الدنيا كأضداد الأمور المذكورة ومن ثم قيل القلب بقدر تعلقه بالدنيا ينقطع تعلقه بالله وباليوم الاخر ويبعد تعلقه بالخير.

(ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا) شبه الإيمان بحلو في ميل الطبع وأثبت له الحلاوة من باب المكنية والتخييلية أو شبه أثرا من آثار الإيمان وهو محبة الرب وقربه بالحلاوة في اللذة واستعار له لفظ الحلاوة والمراد أن الرجل لا يجد محبة الرب وقربه حتى لا يبالي من أكل الدنيا أي لا يهتم به ولا يكثر له ولا يعبأ ولا يرى له قدرا وهذه الخصلة لا تحصل إلا بتنزيه النفس عن محبة الدنيا والزهد فيها وقطع التعلق عنها بالكلية.

* الأصل

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمير المؤمنين (عليه السلام): إن من أعوان الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا.

* الشرح

قوله: (ان من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا) لظهور أن الاشتغال بالدنيا وصرف الفكر في طرق تحصيلها ووجه ضبطها ورفع موانعها مانع عظيم من تفرغ القلب للأمور الدينية وتفكره فيها وطلب أمر الآخرة ولذلك روى أن الدنيا والآخرة ضرتان إذ الميل بأحديهما يضر بالاخر فترك الدنيا معين تام على طلب الدين.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن على بن هاشم بن البريد، عن أبيه أن رجلا سأل علي بن الحسين (عليه السلام)، عن الزهد فقال: عشرة أشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين; وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم).

* الشرح

قوله: (إن رجلا سأل علي بن الحسين (عليه السلام) عن الزهد فقال: عشرة أشياء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع) قال (عليه السلام) في باب الرضاء بالقضاء أعلى درجة الزهد أدني درجة الورع كما في اللواحق وقد مر شرحه بقدر الواسع (1) ما ذكر الله تعالى

ص:377


1- 1 - قوله «وقد مر شرحه بقدر الواسع» في الصفحة 195 من هذا المجلد وهو من نفائس هذا الكتاب. قوله «أو شرك فهو ساقط» والمراد بالشرك الرياء، وسفيان بن عيينة من أئمة أهل السنة والجماعة وكان فيهم من يتظاهر بالزهد للتقرب إلى الخلفاء والوجاهة عند العامة، ونبه الإمام (عليه السلام) سفيان على ما عند ذويه ليعلمهم ويبصرهم عيوبهم، ومراد الشارع من الأمر بالزهد فراغ القلب عن الدنيا، وطلب الوجاهة والتقرب إلى السلاطين لا يدع في القلب فراغا حتى يفكر في أمور الآخرة. وأما الشك في الآخرة فأمره أعظم من ذلك. (ش)

بقوله: إلا وأن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم» فيه تنفير عن تمنى الدنيا والرضا بحصولها وعن الهم بفواتها ودلالة على أن الزهد ليس فقد هابل عدم تعلق القلب بها بحيث لا يفرح بحصولها، ولا يحزن بفواتها، وبعبارة أخرى يتركها ويغتم بوجودها لعلمه بأنها من أعظم أسباب الغفلة، ونقل السيد رضى الدين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «الزهد بين كلمتين قال الله تعالى «لكيلا تأسوا (أي تحزنوا) على ما فاتكم (من عروض الدنيا) ولا تفرحوا بما آتيكم» ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بما أتي فقد أخذ الزهد بطرفيه، وقيل الزهد تحويل القلب من الأسباب إلى رب الأسباب ومن إتصف بهذين الوصفين فقد حول قلبه إذ الميلان فرع الفرح والمحبة. ومن كلامه (عليه السلام) لئن ساءني دهر غرمت بصيرة * فكل بلاء لا يدوم يسير وإن سرني لم أبتهج بسروره * فكل سرور لا يدوم حقير ومن رأى بعين اليقين هذا المعنى فقد جذب إليه أهدا به وقد عرفت أن للزهد شعبا كثيرة فمراده (عليه السلام) أن هذين الوصفين يصيران المتصف بها متصفا بأوصاف آخر.

* الأصل

5 - وبهذا الإسناد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول: كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرق قلوبهم للآخرة.

* الشرح

قوله: (كل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط) كان المراد أن كل قلب متعلق بالدنيا وإن فاتته فيه شك في أمر الآخرة إذا ليقين يقتضى رفض الدنيا، أو شرك بالله لمتابعة الهوى، والترديد على سبيل منع الخلو فهو ساقط عن درجة المحبة والسعادة والزهد وبين ذلك بقوله (وإنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة) يعني أن الغرض من الزهد في الدنيا ورفضها تخليص القلب وتطهيره عن حب الدنيا وعن ميله إليها وجعله متوجها إلى أمر الآخرة وما ينفع فيها خالصا له بدوام الذكر والطاعة فمن لم يتحقق فيه هذا الغرض فاتته الدنيا فهو ليس بزاهد فيها وتارك لها بل هو من أهلها فيه شك في أمر الآخرة أو شرك. وأعلم أن تفرغ القلب لأمر الآخرة يبذر السعادة والذكر فيه والطاعة في جميع الجوارح وهي تزيد وتنمو حتى يصير القلب نورا إلهيا يشاهد جلال الله وعظمته وأسراره الغيبية التي قلما يقدر على تحملها ثم يتشرف بمقام الانس ثم بمقام المحبة ثم بمقام الرضا ثم بمقام الفناء في الله وهو هذا المقام لا يرى في الوجود إلا هو وإلى هذه المراتب أشار جل شأنه بقوله (ومن يرد ثواب الآخرة نزد له في

ص:378

حرثه» بخلاف القلب الملوث بشهوات الدنيا فإن الذكر والطاعة لو تحققا لا يؤثر أن فيه بل يفسدان كالبذر في أرض السبخة والطعام في المعدة الممتلئة بالأخلاط الفاسدة ولذلك ترى كثيرا من الذاكرين والعابدين لا يجدون من السعادة إلا إسما ولا يعلمون من المعرفة إلا رسما وهم عن قرب الحق محرومون وعن ساحة أسراره مطرودون.

* الأصل

6 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا، أما إن الزاهد في الدنيا لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد، وإن حرص الحريص على عاجل زهرة [الحياة] الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من حرم حظه من الآخرة.

* الشرح

قوله: (علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا) لكل حق علامة دالة عليه وعلامة من رغب في ثواب الآخرة الذي أعظمه قرب الحق زهده في زهرة الدنيا لأنها ينافيه ومن رغب في شيء يترك ما ينافيه بالضرورة ويطلب ما يحقق حصوله فمن ادعى الرغبة في ثواب الآخرة وهو راغب في الدنيا فهو كاذب وإنما أقحم لفظ العاجل لأن زهرة الدنيا المتعلقة بالأجل والآخرة كقدر ما يحتاج إليه الإنسان في تحصيل ما ينفع الآخرة لا ينافي الرغبة في ثوابها بل معين لحصوله والمراد بزهرة الدنيا متاعها تشبيها له بزهرة النبات لحسنها في أعين الناس، ثم حث على الزهد وترك الحرص والاجتهاد والرغبة في الدنيا على وجه المبالغة للتنبيه والتأكيد بالتكرير وغيره بقوله: (أما إن زهد الزاهد في هذه الدنيا) الإشارة للتحقير (لا ينقصه مما قسم الله عز وجل له فيها وإن زهد) كيف وقد قال الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه» فالزهد باعث لوصول القسم والرزق لا مانع له (وإن حرص الحريص على عاجل زهرة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص) لأن قسمه من الدنيا ما يحتاج إليه في بقائه والزائد عليه على تقدير حصوله بالحرص ليس قسما له بل لغيره والحاصل القسم وعدم وصوله منوط بالتقدير والمشية فما قدر قمسا له يأتيه وإن زهد وما لم يقدر قسما له لا يأتيه وإن حرص، ولا ينافي هذا قوله تعالى (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب» إذ لا دلالة فيه على أن جميع ما أتاه قسم ورزق (فالمغبون من حرم حظه من الآخرة) هذا كالنتيجة للسابق وتعريف المبتدأ باللام دل على انحصار الغبن فيه لما عرفت من أن قسم كل أحد يأتيه زهد أو حرص فلا غبن فيه، وإنما الغبن في فقد النصيب في الآخرة بترك العمل له.

ص:379

* الأصل

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها جائعا خائفا.

* الشرح

قوله: (ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء من الدنيا إلا أن يكون جايعا خائفا) خوفه كان فوق خوف الخائفين وجوعه مشهور وفي كتب الأحاديث مذكور وقد روى أنه لم يشبع من خبر الحنطة ثلاثة أيام متوالية ولا من اللحم قط وأنه أهضم أهل الدنيا كشحا وأخمصهم بطنا وأنه إذا اشتد جوعه كان يربط حجرا على بطنه ويسميه المشبع وأنه كان يأكل على الأرض ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ويركب الحمار العاري ويردف خلفه وأنه رأى سترا نصبته بعض أزواجه على باب داره فقال لها غيبيه عنى فإنه يذكرني الدنيا وزخارفها فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحب أن تغيب زينتها من عينه وما ذلك إلا لخسة الدنيا ومتاعها في نظره فليكن لك أسوة حسنة به (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعلم أن في الجوع فوائد منها صفاء القلب (1) الأكل تظلمه وتميته، ومنها رقة القلب

ص:380


1- 1 - قوله «إن في الجوع فوائد منها صفاء القلب» أعلم أن النفس الإنسانية مع تعلقها بالبدن وإتحادها مع القوى لها مقام شامخ بنفسه غير متعلق وكلما ازداد جهة تعلقها شدة ازداد جهة تجردها ضعفا وكلما نقص جهة تعلقها قوى جهة تجردها، وهذا أمارة كونها شيئا مستقلا بنفسه مجردا عن البدن ولا يمكن أن يعترف أحد بأن في الجوع صفاء القلب إلا إذ اعترف بأن القلب أي النفس الناطقة غير البدن وإلا كان كمال البدن بالشبع وكما النفس كذلك وقد مر في الصفحة 311 استدلال بعضهم على تجرد النفس بوجود الاختيار لها وأنها لو كانت مادية كان جميع أفعالها قهرية إجبارية كضربان القلب والنبض، وقال بعض العلماء أن الإدراك من خواص الموجود المجرد لأن المادة والجسم ليس من شأنهما الإدراك وليس إنطباع صورة في جسم مقتضيا لأن يحس به وإلا لكان جسم مدركا للعوارض الحالة فيه فالإدراك من عالم آخر غير عالم الماديات إلا أن بعض الإدراكات يحتاج فيها إلى آلة كالسمع والبصر وبعضها لا يحتاج كالعقل والآلة ليست بمدركة قطعا وإنما المدرك من استعمل تلك الآلة ولا ينعدم مستعمل الآلة وان عجز عما كان يفعله بوساطة الآلة، كما أن الأعمل لا يقال وجوده بفقد البصر ولا الأصم بفقد السمع ولا المغمى عليه بفقد الحواس كلها فقد يعرض الأغماء فيفيق ويدرك أنه هو الذي كان قال الأغماء مع علومه وملكاته وليس موجودا جديدا وما يدرك بالآلات كل مرة محسوس جديد غير ما أدرك أولا، وأيضا يتبدل الجسم وأجزائه ولا يبقى بعد نحو سبع سنين مما كان شيء مع أن علمه بذاته وبغير ذاته هو الذي كان ولو كان النفس عين البدن أو معلولا له لم يبق له بعد سنين شيء من معلوماته السابقة فثبت أن الأعضاء آلات ولا يتغير مستعمل الآلة بتبدل الآلة. وقالوا لو كانت العلوم الكثيرة الحاصلة للإنسان خصوصا للعلماء والحكماء في الفنون المختلفة حالات وعوارض طارية على دماغهم لتشوشت الصور وتداخلت وإمتزجت وارتفع الامتياز بينها كما أن الأصوات المختلفة لو تواردت على السمع لم يتمايز وإذا تحركت الأشياء المختلفة سريعا مقابل الصبر لم يميز الصبر بينها مع أن الصور العقلية متمايزة جديدا مع اجتماعها دفعة وجميع علوم ابن سينا المكتوبة في تصانيفه لو كانت حالات عارضة على دماغه وهى مجتمعة لم يكن عالما بشيء فثبت أن العلوم كلها عند النفس والدماغ آلة تنطبع فيها الصور الجزئية شيئا بعد شيء تمحو صورة وتتجدد صورة، وقالوا أن النفس لا دراك الصور الكلية لا يحتاج إلى آلة أيضا لأنها زمان الشيخوخة لا يضعف إدراكه لها كما يضعف حواسه الآلية وأيضا لا يكل بإدراك الكليات ولا يعجز عن إدراك ضعيف بعد قوى كما يعجز البصر عن إدراك النور الضعيف أثر القوي لكلاله، وأيضا العقل يدرك ذاته والحس لا يحس ذاته لأن الآلة لا تؤثر في نفسها والعقل ليس بآلة ويجيء إن شاء الله لهذا تتمة. (ش)

والالتذاذ بذكر الرب ومناجاته والبطنة تغلظه وتمنع استقرار الذكر فيه، ومنها العجز والانكسار والشبع يوجب الغرة والافتخار، ومنها قرب الحق والشبع يوجب البعد عنه قال الصادق (عليه السلام) «أن البطن ليطغى من أكله أقرب ما يكون العبد من ربه عر وجل إذ أخف بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا إمتلاء بطنه»، ومنها تذكر الجائعين وتذكر جوع يوم القيامة فيزداد سعيه له وكثرة الأكل توجب الغفلة، عنهما، ومنها التسلط على كسر النفس وكثرة الأكل توجب تسلط النفس، ومنها قلة النوم والإقتدار على العبادة والأكول في غفلة النوم وتضييع العمر، ومنها كثرة الحفظ وقلة النسيان والأكول على عكس ذلك، ومنها صحة البدن والأكل الكثير يوجب أمراضا شديدة، ومنها قلة الاحتياج إلى الأموال وأسباب الدنيا وصرف العمر في جمعها وحفظها، ومنها الاقتدار على الصدقة والإيثار لعدم الحاجة إلى الزائد.

* الأصل

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون فأتاه ملك ومعه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمد هذه مفاتيح خزائن الأرض يقول لك ربك: إفتح وخذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لاعقل له، فقال الملك: والذي بعثك بالحق نبيا لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السماء الرابعة، حين اعطيت المفاتيح.

* الشرح

قوله: (خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو محزون) لعل حزنه كان لضعف المسلمين وقوة المشركين والاهتمام بتجهيز أسباب الجهاد.

قوله: (الدنيا دار من لا دار له) أي في الآخرة لأن من له دار في الآخرة وهي الجنة لا يسكن قلبه إلى الدنيا ولا يتخذها دارا وموضع إقامة لنفسه ويحتمل أن يكون المراد أن الدنيا دار من ليست له حقيقة الدار أصلا لا في الآخرة وهو ظاهر لظهور أن بناها على العمل لها وترك الدنيا، ولا في الدنيا لظهور أن 381

الدنيا ليست دار إقامة فهي ليست بدار حقيقة، ثم قبح الدنيا والجمع لها بقوله (ولها يجمع من لا عقل له) لأن العاقل يعلم بنور بصيرته إن الدنيا وما فيها منصرمة مؤذية بأهلها مضرة بأمر الآخرة فلا يسكن إليها ولا يشغل بالجمع لها بل يفر منها إلى الله وأما الجاهل فلخمود عقله يغفل عن أمره الآخرة ولا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وليس له هم إلا الجمع لها، فأنظر أيها الأخ في الله إلى علو همة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف ترك الدنيا ورفضها وهي في يده من غير تعب ولا ضرر في شيء من أمر آخرته وماله عند الله من المقامات العالية لظهور عيوبها وكثرة مقابحها ومساويها وليكن لك أسوة حسنة بنبيك الأطهر بل أنت أولى بتركها وأجدر لأنك لا تخلو من التعب في تحصيلها ومن الحرمان في عدم حصولها ومن الضرر في أمر الآخرة والدنيا.

* الأصل

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجدي أسك ملقى على مزبلة ميتا، فقال لأصحابه: كم يساوي هذا؟ فقالوا: لعله لو كان حيا لم يساو درهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله.

* الشرح

قوله: (مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بجدي أسك ملقى على مزبلة ميتا) الأسك مقطوع الاذنين أو صغيرهما مطلقا أو مع لصوقهما بالرأس وقلة أشرافهما والمزبلة بفتح الباء والضم لغة موضع يلقى فيه الزبل بالكسر وهو السرقين ثم استفهم عن قيمته (فقال لأصحابه: كم يساوي هذا؟) والغرض من هذا السؤال تقريرهم على أنه خبيث لا قيمة له فهم أقروا بذلك (فقالوا لعلله لو كان حيا لم يساو درهما) فهو على هذه الحالة الكريهة غير مرغوب لأحد فلا تيمه له، والغرض من هذا التقرير تنفيرهم عن الدنيا بشبيهها به وتفضيلها عليه في الهون والخبث لأنه لا ينفع ولا يضر بخلاف الدنيا فإنها تضر كثيرا (فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله) نظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» العراق بعضم العين وتخفيف الراء العظم وأيضا نظيره ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر بالسوق فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: تحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان غيبا فيه لأنه أسك فيك وهو ميت رب فقال فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» وروى «أن الدنيا يوم القيامة تقول: (1) یا رب إجعلی لادنی أولیائک نصیبا

ص:382


1- 1 - قوله: «إن الدنيا يوم القيامة تقول» لا يخفى أن هذا الخبر لا يوافق ما في أذهان بعض الناس من أن الفرق بين الدنيا والآخرة بتقدم الأولى زمانا وتأخر الأخرى كذلك والآخرة عندهم هي الدنيا بعينها لكن في زمان متأخر نظير تأخر أمة إبراهيم عن أمة نوح (عليه السلام) وكما لا يمكن أن يطلب رجل من عهد إبراهيم (عليه السلام) ان يجعله الله تعالى في زمان نوح (عليه السلام) كذلك لا يمكن أن يطلب رجل من عهد مضى الدنيا وإنقضائها أن يجعله من أهل الدنيا والحق أن الفرق بين العالمين ليس بتأخر والتقدم الزمانيين فقط بل بينهما فرق في أمور كثيرة كما يظهر لمن تتبع الآيات الكريمة والروايات الكثيرة وليس هنا موضع ذكرها ولذلك لم يجب الله تعالى السائلين عن وفت الساعة وزمانها ولم يقررهم على جهلهم والمعنى أن الدنيا طلبت من الله تعالى أن يجعل الصالحين من أهل الدنيا لا الدنيا المتقدمة زمانا بل الدنيا الجامعة لهذه الصفات المختصة بها من التغير والكون والفساد وأمثالها ولو في زمان تأخر بالنسبة إلى الدنيا السابقة لا بالنسبة إلى الآخرة إذ ليس بعد الآخرة شيء وقد سبق في الصفحة 318 من هذا الجزء قول الشارح قد صرح بعض أصحابنا بأن عذاب المستحق له واقع بالفعل وان جهنم لمحيطة به وإنه داخل فيها ولكن الحجاب مانع من رؤيتها لحكمة تقتضيه. إنتهى، وهذا يدل على عدم تأخر العذاب عن الدنيا تأخرا زمانيا. (ش)

الیوم فیقول الله جل جلاله أسكتي يا لا شيء أني لم أرضك لهم في الدنيا كيف أرضاك لهم اليوم؟».

* الأصل

10 - علي بن إبراهيم، عن علي بن محمد القاساني، عمن ذكره، عن عبد الله ابن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا وفقهه في الدين وبصره عيوبها ومن أوتيهن فقد أوتي خير الدنيا والآخرة، وقال: لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا وهو ضد لما طلب أعداء الحق، قلت: جعلت فداك مماذا؟ قال: من الرغبة فيها، وقال: إلا من صبار

ص:383

كريم، فإنما هي أيام قلائل، ألا إنه حرام عليكم أن تجدوا طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا، قال:

وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حب الله، فلم يشتغلو بغيره. قال: وسمعته يقول: إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو.

* الشرح

قوله: (لم يطلب أحد الحق بباب أفضل من الزهد في الدنيا للحق أبواب لا يمكن الوصول إليه إلا بالدخول فيها منها الطاعات وترك المنهيات على أنواعهما ومنها الأخلاق الفاضلة ومنها ترك الأخلاق الباطلة والزهد في الدنيا أعظم هذه الأبواب لأنه مفتحا لجميعها ثم أشار إلى ضده على وجه يفيد أن الزهد يوجب محبة الحق وأنه عبارة عن تطهير القلب من الرغبة في الدنيا وميله إليها لا عن ترك الدنيا مع تعلق القلب بها فقال (وهو ضد لما طلب أعداء الحق) وقول السائل (مماذا) سؤال عما طلب أعداء الحق وقوله (عليه السلام) (من الرغبة فيها) بيان للموصول يعني أن ما طلبه أعداء الحق هو الرغبة في الدنيا والميل إليها وهي من أعظم البعد عن الحق والبغض له والمعاندة معه، والظاهر أن قوله (إلا من صبار كريم) أي خير شريف النفس استثناء من الرغبة فيها أي إلا أن يكون الرغبة فيها من صبار كريم يطلبها من طرق الحلال ويصبر عن الحرام، وإخراج الحقوق المالية وإعانة الفقراء وذوي الحاجات فإن الرغبة في هذه الدنيا من الصالحات ثم حث على الزهد والصبر عليه ونفر من الدنيا بقوله: (فإنما هي) أي الدنيا (أيام قلائل) وهي أيام العمر والعمر ينقضي حثيثا وينتهى سريعا إلى الآخرة والصبر على المشاق المنقضية سهل على النفوس العاقلة سيما إذا كان مستلزما للراحة الدايمة ثم أشار إلى بعض آثار الزهد وأشرف مقاماته بقوله (إذا تخلى المؤمن من الدنيا سيما - الخ) أي إذا تخلى المؤمن من الدنيا بأن قطع تعلقه بها وأخرج حبها عن قلبه ارتفع من حضيض النقص أي أوج الكمال ومن مقام الكثرة إلى ساحة القدس والجلال (ووجد) في قبله (حلاة وحب الله وكان عند أهل الدنيا) الراغبين فيها (كأنه قد خولط) واختل عقله، (وإنما خالط القوم) ودخل في قلوبهم (حلاوة حب الله فلم يشتغلو بغيره).

وفيه إشارة إلى أعلى درجات الزهد وهو أن يفرغ قلبه عن غير الله تعالى حتى الخوف من النار والطمع في الجنة لسكره بحلاوة المحبة والقرب منه فلا يرى لغيره وجودا فضلا عن أن يشتغل به وهو مقام الفناء في الله وإنما قلنا هذا أعلى درجات الزاهد لأن أدنى درجاته أن يترك الدنيا ويصبر على الترك مع الميل إليها. وأوسطها أن يترك الميل إيها أيضا وهو بعد في مقام الكثرة وإذا داوم عليه وصار ذلك ملكة له وطهر ظاهره وباطنه عن جميع المقابح لأن كلها ناشية من حب الدنيا يرتقى من هذا المقام إلى مقام التوحيد المطلق وعالم القدس فيتجلى فيه أنوار الحق وأسراره ويشاهد بنور البصيرة جماله وكماله وعظمته وقدرته فيستغرق في بحر محبته ويغفل عن نفسه فضلا عن غيره بذوق حلاوة حبه ويصير حينئذ أطواره وأوضاعه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته غير أطوار أهل الدنيا وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم فيظنون أنه خولط واختل عقله حيث لم يجدوا عقله كعقلهم وفعله كفعلهم ولذلك نسب كفرة قريش الجنون إلى الجنون إلى النبي المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرب منه قوله (أن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حيت يسمو ) القلب من عالم القدس النوراني (1) واستقراره في عالم البدن الإنساني إنما هو بقدر تعلقه به وغفوله عن ذلك العالم الأصلي فإذا صفا عن الخبائث النفسانية والرذائل الشيطانية والقيودات الدنيوية والتعلقات البشرية والطبيعية واتصف بالكمالات الروحانية والصفات الشريفة الربانية تذكر مكانه الأصلي وقطع يده عن الأسباب وتعلق برب الأرباب فينكشف عنه الحجاب فضاقت به الأرض فيضطرب ويستوحش منها ولا

ص:384


1- 1 - في ذلك كلام يأتي إنشاء الله تعالى.

يستقر حتى يسمو ويرتفع من هذا العالم إلى العالم الأعلى ويتشرف بقرب المولى، وإن شئت زيادة توضيح فنقول لما كانت الأرض أعظم أجزاء الإنسان وكانت قواه الظاهرة والباطنة مائلة إليها بالطبع لكمال النسبة بينهما كانت الدواعي إلى زهراتها حاضرة والبواعث إلى لذاتها ظاهرة فربما يشتغل بها ويكتسب الأخلاق والأعمال الفاسدة لتحصيل المقاصد حتى تصير النفس تابعة لها راضية بأثرها مشعوفة بعملها منكدرة بالشهوات منغمسة في اللذات فتحب الاستقرار في الأرض وتركن إليها، وأما إذا منعت تلك القوى عن مقتضاها وصرفتها عن هواها وروضتها بمقامع الشريعة وأدبتها بآداب الطريقة حتى غلبت عليها وصفت عن كدوراتها وظهرت عن خبائث لذاته وتخلصت من قيوداتها وتحلت بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب الرفيعة والأطوار المرضية ضاقت بها الأرض حتى تسمو إلى عالم النور والروحانية فتشاهد عالم الأعلى بالعيان وتنظر إلى الحق بعين العرفان ويزداد لها نور الإيمان والإيقان فتعاف جملة الدنيا والاستقرار في الأرض فبدنها في هذه الدنيا وهي في عالم الأعلى. وفيه ترغيب للعقلاء في ترك الدنيا وتحريك لهم إلى ترك الطباع ورسوم العادات وزجر لنفوسهم عن الفضول والمنهيات لتصفو بذلك عن الرذائل الناسوتية وتتصل بالحق وتشاهد الأسرار اللاهوتية وهو غاية مقصد الإنسان ونهاية مطلب أهل العرفان.

* الأصل

11 - علي [عن أبيه]، عن علي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، عن الزهري، عن محمد بن مسلم بن شهاب قال:

سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ فقال: ما من عمل بعد معرفة الله جل وعز ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من بغض الدنيا وإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا، فأول ما عصي الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبي واستكبر وكان من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: (كلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فأخذا مالا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم مالا حاجة به إليه، ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا ديناءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة.

ص:385

* الشرح

قوله: (وإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعبا) شعب الزهد أضداد شعب المصعية اعني التواضع وهو ضد الكبر والقنوع وهو ضد الحرص والرضا بما آتاه الله وهو ضد الحسد والمذكورات من باب التمثيل وإلا فجنود العقل كلها شعب الزهد وجنود الجلل كلها شعب المعصية (والحرص وهي معصية آدم) قال الله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى» قال من نزه الأنبياء عن الذنوب: أن النهي عن تناول الشجرة نهي تنزيه لا تحريم فيكون التناول ترك أولى وأفضل. وأورد عليهم بأن اطلاق اسم العاصي على آدم بهذا الاعتبار يوجب أن يوصف الأنبياء (عليهم السلام) بأنهم عصاة إذ لا يكاد انفكاكهم عن ارتكاب مثل هذا المعنى. وأجيب بأن اسم العاصي على آدم بهذا المعنى مجاز والمجاز لا يقاس عليه ولا يتعدى عن موضعه وعلى تقدير جواز القياس عليه بطلان الثاني ممنوع إذ لا محذور في أطلاق اسم العاصي عليهم بهذا الاعتبار (فدخل ذلك) أي الحرص وأخذ مالا حاجة به (وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم) إنما قال أكثر لأن قدر الكفاف لابد منه وتحصيله عبادة لإحتياج قوام البدن وفعل الطاعات عليه (فتشعب من ذلك) أي من ذلك المذكور وهو الكبر والحرص والحسد وتخصيص الإشارة بالحسد بعيد بحسب المعنى وإن كان قريبا بحسب اللفظ (فصرن سبع خصال) أي فصارت شعب المعاصي المذكورة وهي الكبر والحصر الحسد (كلهن في حب الدنيا) والظرفية باعتبار الأكثر وإلا فحب الدنيا ليس في حب الدنيا (فقال الأنبياء والعلماء) المراد بهم الأوصياء أو الأعم (بعد معرفة ذلك) وهو أن المعاصي والخصال الذميمة كلها في حب الدنيا.

و (حب الدنيا رأس كل خطيئة) هذا الكلام على سبيل الحقيقة دون المجاز والمبالغة لأن كل خطيئة تابعة لحب الدنيا منبعثة منها لأن الدنيا طريق الهوى وسبيل المنى إلى الشهوات الحاضرة الخيالية واللذات العاجلة الاعتبارية التي منها الكبر والحرص والحسد وحب النساء وغيرها من الخصال المذكورة وغير المذكورة من متعلقات الهوى والمعنى رسما وعادة، وهذه الامور لا تتحصل إلا باستعمال القوة الشهوية الجالبة والقوة الغضبية الدافعة للموانع منها ويتولد منهما مفاسد كثيرة غيرة محصورة ومن ههنا علم أن كل خطيئة تنبعث من حب الدنيا وتتفاوت باعتبار التفاوت في حبها فمن ترك حبها صار خالصا لمولاه ومن أحبها صار عبدا لدنيا ثم أشار إلى أن الدنيا مطلقا ليس بمذمومة بقوله (والدنيا دنياءان دنيا بلاغ) وهو قدر الكفاف من طريق الحلال وهذا القدر لا بد لكل أحد حتى الأنبياء والأوصياء الذين غاية هممهم ترك الدنيا والتوجه إلى المولى وهو المعين للبقاء والعبادة (ودنيا ملعونة) وهي الزائدة عن قدر الحاجة أو الحاصلة من طريق الحرام أو الداعية للنفس إلى الطغيان والقلب إلى العصيان وأهلها إلى الخذلان وتعلق اللعن بها باعتبار بأهلها أو باعتبار أنها بعيدة عن الخير.

ص:386

* الأصل

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن في طلب الدنيا إضرارا بالأخرة وفي طلب الآخرة إضرارا بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار.

* الشرح

قوله: (إن في طلب الدنيا أضرارا بالآخرة) لأن توجه الظاهر والباطن إليها وصرف الفكر فيها وفي كيفية تحصيلها وحفظها وإرسال القوة الشهوية والغضبية إلى الجلب والدفع ينافي طلب الآخرة والتوجه إليها ويفهم منه أن المذموم من الدنيا ما يضر بأمر الأخرة، وأما ما لا يضر به كقدر الحاجة في البقاء والتعيش فليس بمذموم بل ممدوح.

* الأصل

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): حدثني بما أنتفع به فقال: يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا.

* الشرح

قوله: (أكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا) لأن أكثار ذكر الموت وما يلحق الإنسان بعده مع قلب حاضر من أشد الجواذب عن الدنيا إلى الله، وفيه تنفير عن محبة الدنيا للاشتغال بالعمل للآخرة وإنما قلنا مع قلب حاضر لأن أكثر أهل الدنيا يذكرون الموت ويمشون خلق الجنائز ويشاهدون مسكن الموتى ولا تتأثر قلوبهم لاشتغالها بأمر الدنيا وتكدرها بفكر زهراتها حتى صارت مظلمة لا يستقر فيها الحق وحقيقة الموت وما بعده وهكذا حال جميع العبادات فإنها ما لم تقترن بحضور القلب لا يحصل منها الأثر المقصود وهو قرب الحق ومشاهدة جلاله والوصول إلى حقيقة كمال الإنسان.

* الأصل

14 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (صلى الله عليه وآله وسلم): ملك ينادي كل يوم: ابن آدم! لد للموت، واجمع للفناء، وابن للخراب.

* الشرح

قوله: (قال أبو جعفر (عليه السلام) ملك ينادي كل يوم ابن آدم لد للموت واجمع للفناء وابن للخراب) في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أن لله ملكا ينادى في كل يوم لدوا للموت واجمعوا للفنا وابنوا للخراب» قال شارحه ليس اللام فيها للغرض وإنما هي للعاقبة نحو قوله تعالى (فالتقطه آل فرعون

ص:387

ليكون لهم عدوا وحزنا».

* الأصل

15 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين صلوات الله عليهما: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد إرتحلت مقبلة ولك واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا [ألا] وكونوا من الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، ألا إن الزاهدين في الدنيا إتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا، ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ألا إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، حوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربهم، يسمعون في فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء، علماء، بررة، أتقياء، كأنهم القداح قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى - وما بالقوم من مرض - أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم، من ذكر النار وما فيها.

* الشرح

قوله: (قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة) رحل عن البلد وارتحل شخص وسار والمراد بادبار الدنيا تقضيها وانصرامها ففيه إشارة إلى تقضى الأحول الدنيوية الحاضرة بالنسبة إلى كل أحد من صحة وشباب وجاه ومال وكل ما هو سبب لصلاح حاله في الدنيا لدنوها من الإنسان ولما كانت هذه الامور دائما في التغير والتقضي المقتضى لمفارقة الإنسان لها بعدها عنه حسن اطلاق اسم الادبار على تقضيها وبعدها، وتشبيهها بالحيوان في الادبار مكنية واثبات الارتحال لها تخييلية، ونسبة الادبار إليها ترشيح، وأشار إلى أن الأخرة على عكس ذلك بقوله:

(وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة) الآخرة عبارة عن دار جامعة لأحوال يعود إليها الناس بعد الموت من طاعة ومعصية وسعادة وشقاوة وغيرها ولما كان تقضى العمر شيئا فشيئا باعثا للوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خير أو شر كان كل أحد متوجها إليها وإعتبر توجهها إليه أيضا فشبهها بحيوان حامل لأثاث تلك الأحوال مقبلا إليه فعن قريب يتلا قياق (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره» وإلى مضمون الفقرتين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «كل ماض فكان لم وكل آت فكان قد» أي كان لم يكن وكان قد أتى حذف الفعلان لظهورهما (ولكل واحدة منهما بنون) استعار لفظ البنين للخلق بالنسبة

ص:388

إلى الدنيا والآخرة ولفظ الأدب لهما ووجه الاستعارة أن الابن لما كان من شأنه الميل إلى الأب بحسب الطبع أو بحسب توقع النفع ومن شأن أبيه إيصال المتوقع وكان الخلق منهم من يميل إلى الدنيا لتوقع النفع وهي يوصله إليه ومنهم من يميل إلى الآخرة لذلك شبه الخلق بالابن والدنيا والآخرة بالأب واستعار لفظ الابن لهم ولفظ الأب لهما لتلك المشابهة المذكورة ولما كان غرضه حث الخلق على الآخرة والميل إليها والإعراض عن الدنيا قال (فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لأن منافع الدنيا خيالية باطلة وسموم قاتلة ومنافع الآخرة حقائق دائمة وفوائد باقية أبدا فينبغي أن تكونوا والهين إليها وراغبين فيها وعاملين لها وأشار إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا وترك العمل لها بل هو مع إزالة حبها عن القلب بقوله:

(وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة) لأن الزهد هو رفض الدنيا ظاهرا وباطنا ولا يتحقق الرغبة في الآخرة إلا به فأشار إلى بعض آثار الزهد وعلاماته بقوله: (ألا أن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا) البساط فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب والفراش بمعنى المفروش والطيب اللذيذ أو العطر والتقريض بمعنى التقطيع وإزالة الاتصال من قرضت الثواب إذا قطعته بالمقراض، أو بمعنى التجاوز من قرضت الوادي إذا جزته أو بمعنى العدول من قرضت المكان إذا عدلت عنه، وبعض أطوار الزاهد ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف عيسى على نبينا «وعليه الصلاة والسلام بقوله:

«فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه» قوله «وكان إدامه الجوع» وجهه قيام بدنه بالجوع كقيامة بالإدام. وقوله «ظلاله - إلى آخره» وجهه إستتاره عن البرد بها كاستتاره بالضلال (ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات) أي نسيها ومنع نفسه منها (ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات) جميع الحرمة كالغرفات جمع الغرفة، وذلك لأن الإشتياق إلى الشيء يستلزم التوسل بسببه والإشفاق من الشيء يستلزم التحرز من سببه (ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب) لأن المصائب الدنيوية كلها راجعة إلى فوات الدنيا ومن زهد فيها سهل فواتها عنده ولا يحزن به.

(ألا أن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في البدن مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين) أشار به إلى أن العارف وأن كان في الدنيا بجسده فهو في مشاهدة بعين بصيرته لأحوال الجنة وسعادتها وأحوال النار وشقاوتها كالذين شاهدوا الجنة بعين حسهم وتنعموا فيها وكالذين شاهدوا النار وعذبوا

ص:389

فيها كما مر في حديث حارثة وهي مرتبة عين اليقين وبحسب هذه المرتبة كانت شدة شوقهم إلى الجنة وشدة خوفهم من النار.

وأشار إلى بعض أحوال هؤلاء بقوله (شرورهم مأمونة) لأن علمهم بقبح عاقبة الشر يمنعهم عن القصد له والتوجه إليه ولأن مبدأ الشر محبة الدنيا وهم بمعزل عنها.

(وقلوبهم محزونة) من احتمال تقصيرهم فيما مضى أو فيها يأتي وعدم علمهم بعاقبة أمورهم وبما يفعل بهم في الدنيا والآخرة، وخوفهم من ألم الفراق والعقبات المستقبلة ولا يسكن حزنهم ولا تطمئن قلوبهم حتى يخرجوا من الدنيا.

(أنسهم عفيفة) لإعتدال قوتهم الشهوية ووقوعها على الوسط بين رذيلتي الخمود والفجور فلا يعجزون عن الحق ولا يميلون إلى الفجور (حوائجهم خفيفة) لإقتصارهم في الدنيا على القدر الضروري منها (صبروا أياما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة) أريد بأيام قليلة مدة عمرهم وهم صبروا فيها على المكاره والشدائد والشدائد وترك الدنيا واحتمال أذي الخلق والقيام بالتكاليف، وفي ذكره قلة مدة الصبر وإستعقابه للراحة الطويلة ترغيب في الصبر تحمل مشقة كثيرة في مدة قليلة لمنفعة جزيلة راحة طويلة أبدية سهل وتلك الراحة هي السعادة في الجنة كما قال جال وعز (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا».

(أما الليل فصافون أقدامهم تجرى دموعهم على خدودهم وهم يجأرون إلى ربهم يسعون في فكاك رقابهم) جأر كمنع رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، وفيه إشارة إلى كماله في القوة العملية بارتكاب العبادات والتضرع والاستغاثة إلى الله والخوف منه والترقب بما عنده من الكرامة والعفو من التصير، وذكر الليل لأن العبادة فيه أشق وأقرب إلى القربة والقلب فيه أفرع. (وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح، قد براهم الخوف من العبادة) أما النهار عطف على أما الليل وكلاهما يجوز فيه الرفع على الابتداء والنصف على الظرفية. والحلم فضيلة تحت ملكة الشجاعة وهي الوسط بين رذيلتي المهابة والافراط في الغضب. والعلم إشارة إلى كمالهم في القوة النظرية بالعلم النظري والشرعي وهو معرفة الصانع وصفاته وأحكامه الشرعية. والبر بالفتح والبار الصادق أو التقى وهو خلاف الفاجر وجمع الأول أبرار وجمع الثاني بررة مثل كافر وكفرة وفاسق وفسقة والمعنى أنهم خائفون من الله تعالى وتاركون جميع القبايح البدنية والنفسانية، وأشار إلى ثمرة خوفهم بقوله: «كأنهم القداح» وهي بالكسر جمع القدح بالكسر والتسكين وهو السهم قبل أن يراش ويركب عليه نصله وأشار إلى وجه الشبه بقوله

ص:390

«قد براهم الخوف من العبادة» وبراهم بفتح الباء وتخفيف الراء مثل هداهم من البري «وهو تراشيدن تير» يعني قد براهم الخوف كبر القداح في النحافة والدقة وإنما يفعل الخوف ذلك لإشتغال النفس المدبرة للبدن بسبب الخوف عن النظر في صلاح البدن ووقوف القوة الشهوية والغاذية عن أداء بدل ما يتحلل.

(ينظر إليهم الناظر) من أهل الدنيا الذي طوره غير طورهم (فيقول مرضى) أي هم مرضى نظرا إلى نحاقة أجسادهم (وما بالقوم من مرض أم خولطوا) أي اختلت عقولهم نظرا إلى تكلمهم بكلام خارج عن دركه (فقد خالط القوم أمر عظيم) وهما الخوف من ذكر النار وما فيها وفيه إشارة إلى ما يعرض لبعض العارفين عند ذكر النار وما فيها وإتصال نفسه بالملأ الأعلى، واشتغاله عن تدبير البدن وضبط حركاته وسكناته على نحو حركات أهل الدنيا وسكناتهم من نحول جسمه وتغير هيئته وتكلمه بكلام خارج عن طور كلامهم مستبشع عندهم فينبسه الناظر منهم تارة إلى المرض الجسماني وتارة إلى المرض الروحاني وهو اختلاط العقل واختلاله بالجنون فقال (عليه السلام) أما المرض فمنتف، وأما المخالطة فمتحققة لكن لا بالجنون ونقصان العقل كما توهموا، بل الخوف والذكر والاتصال. وهي داء للنفس يشفيها من جميع الأمراض المهلكة.

* الأصل

16 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبي عبد الله المؤمن، عن جابر قال: دخلت علي أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا جابر والله إني لمحزون وإني لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك وما شغلك؟ وما حزن قلبك؟ فقال «: يا جابر أنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغل قلبه عما سواه، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟! يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا ببقائهم فيها، ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازا بذلك العلم، واعلم يا جابر أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوالون بأمر الله قوامون على أمر الله، قطعوا محبتهم بمحبة ربهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظرا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم وعملوا أن ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه. فأنزل الدنيا كمنزل نزلته ثم إرتحلت عنه، أو كمال وجدته في منا منك فأستيقظت وليس معك منه شيء، إني [إنما] ضربت لك هذا مثلا، لأنها عند أهل اللب والعلم بالله كفيء الظلال، يا جابر! فأحفظ ما

ص:391

إسترعاك الله عز وجل من دينه وحكمته ولا تسألن عما لك عنده إلا ما له عند نفسك، فإن تكن الدنيا على غير ما وصفت لك فتحول إلى دار المستعتب، فلمعري لرب حريص على أمر قد شقى به حين أتاه ولرب كاره لأمر قد سعد به حين أتاه، وذلك قول الله عز وجل: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)».

* الشرح

قوله: (أنه من دخل قبله صافي خالص دين الله شعل قلبه عما سواه) لعل المراد بالخالص الإيمان الحقيقي واليقين بالله وإضافة والصافي إليه أما بيانية أو لامية بأن يراد بالصافي التقرب منه تعالى وحب لقائه ولقاء الآخرة، هذا وجه لشغل قلبه الشريف عما سواه، وأما وجه حزنه فلعله أن الإنسان وان طي مقامات السير ووصل إلى الحق وقرب منه لكنه ما دام في هذه الدار لا يخلو من بعد في الجملة، وإنما يحصل القرب التام والوصول الكامل بعد المفارقة منها فالعارف في هذا الدار دائما في شغل عما ذكر وحزن لفقد هذا الكمال الذي لا يتأتي إلا بالموت ولذلك قال علي (عليه السلام) حين ضرب: «فزت برب الكعبة» ثم أشار إلى ذم الدنيا وترك محبتها على وجه يشعر بتحقيرها بقوله:

(يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هي إلا طعام اكلته، أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها) للتنبيه على أن جل منافع الدنيا هذه الامور هي منصرمة منقضية لا بقاء لها.

والعاقل لا يجب ولا يركن إلى ما هو في معرض الفناء والزوال سريعا، ثم أشار إلى أن المؤمنين السابقين لم يركنوا إلى الدنيا ولم يطمئنوا ببقائهم فيها خوفا من أمر الآخرة وقدومهم إليها بقوله (يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة) بل تركوا الدنيا وخافوا قدومهم الآخرة. والمراد بالمؤمنين المؤمنون الكاملون وهم الكرماء والمتورعون في مكاسبهم والملازمون فيها للأعمال الجميلة الصالحة والأخلاق الفضيلة الكاملة وأداء الحقوق النفسية والبدنية البالغون بذلك إلى أعلى مراتب المحبة وأقصى معارج اليقين، ثم بالغ في الحث على الزهد في الدنيا بقوله:

(يا جابر الآخرة دار قرار والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة) للتنبيه على أنه لا ينبغي ايثار الفاني على الباقي ولكن أهل الدنيا لما كانوا جاهلين بقبائح الدنيا غافلين عن أمر الآخرة واختاروا الزائل ترجيحا للشاهد على الغائب وهو محل التعجب ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) « عجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء» ثم أشار إلى أن كمال الإيمان والزهد في الدنيا يتحققان بالفقه والفكرة والعبرة بقوله:

(وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم) من

ص:392

أخبار بسطة أيدي السابقين والقاصين وكثرة أموالهم وشدة تمكنهم من الدنيا (ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا) في أهل الدنيا - (ومن الزينة بأعينهم ففازوا) لترك الدنيا (بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم) إذ بتفقههم يعرفون الخير والشر ويميزون بين الحق والباطل وبين الباقي والزائل وبفكرتهم يتفكرون في أحوال ما بعد الموت إلى أن يدخل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وفي أهوال ما يرد عليه الإنسان بعده من المقامات وصعود بالتخلص منها وبالعبرة يعتبرون بأنفسهم في كيفية وصول الرزق إليهم حين كونهم أجنة في بطون أمهاتهم من غير إختيار ولا عمل لهم، وبأحوال الماضين وما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهات بكثرة الأموال والأعوان، ثم المفارقة لذلك كله بالموت أو الاخذ، وبقاء الحسرة والندامة والأعمال وعلائق الدنيا حجبا حائلة بينهم وبين الرحمة وحضرة جلال الله وذلك يبعثهم على الزهد في الدنيا والإقبال ظاهرا وباطنا إلى الله تعالى والسعي للآخرة رحم الله من تفقه وتفكر وإعتبر فأصبر، ثم أشار إلى جملة من حالات الزاهدين وصفات المتقين بقوله: يا جابر ان أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة) أي ثقلا لأنهم لا يتحملون من الدنيا إلا القدر الضروري في التعيش والبقاء (وأكثرهم لك معونة) لأنهم مستعدون لإعانة المحتاجين في أمور الدنيا والدين سألوا أم لا كما أشار إليه بقوله (تذكر) أي حاجتك، (فيعينونك) فيها (وإن نسبت ذكروك) وأرشدوك إليها وإلى طريق قضائها، ثم يعينونك مع الحاجة إلى الإعانة (قوالون بأمر الله) لأن شأنهم إرشادهم وهدايتهم للخلق إلى ما فيه صلاحهم وزجرهم عما فيه فسادهم (قوامون على أمر الله) يحفظونه من الزيادة والنقصان ويمنعون عنه تصرف أهل الجهل والطغيان فهو بعنايتهم ينتظم ويقوم وبحمايتهم يستقيم ويدوم (قطعوا محبتهم بمحبة ربهم) أي قطعوا محبتهم عن جميع الأشياء واختاروا محبة ربهم، أو تركوا ما يحبونه وعملوا بما يحبه ربهم.

(ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم) أي إنقطعوا عن الدنيا وفروا منها ولم يستأنسوا بها لأن يطيعوا مالكهم فيما أراد منهم من ترك الدنيا أو الأعم منه ومن ترك جميع الشرور وفعل جميع الخيرات بقلب فارغ عن غيره (ونظروا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم) بقلوبهم متعلق بنظروا وإنما أخرها مع أن النظر مسند إليها في الحقيقة أما للاهتمام بالمقدم أو لقصد الحصر أي نظروا ببصيرة قلوبهم إلى الله وإلى محبته لا إلى غيرهما والأخير أنسب بقوله (وعلموا أن ذلك) أي ذلك المذكور وهو الله ومحبته والإشارة للتعظيم.

(هو المنظور إليه لعظيم شأنه) أي هو الذي ينبغي أن ينظر إليه لا إلى غيره لعظمته شأنه وحقارة

ص:393

ما سواه، ثم خاطب جابرا وكل من يصلح للخطاب وزهده في الدنيا بتمثيل بليغ بقبح حال الدنيا وصاحبها فقال (فأنزل الدنيا كمنزل نزلته) في سفرك (ثم إرتحلت عنه، أو كما وجدته في منامك) مثل مال وجاه وامرأة جميلة.

(فأستيقظت وليس معك منه شيء) شبه الدنيا بذلك المنزل في قلة زمان الكون فيه وشبه متاعها بذلك الكمال (1) بالموت الشبيه بالإستيقاظ فلا يكون معك منه شيء كما لا يكون مع المستيقظ من ذلك الكمال شيء. ويظهر منه سر قوله أمير المؤمنين (عليه السلام) (الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا) والعاقل اللبيب إذا نظر إلى الدنيا بعين البصيرة ووجدها متصفة بالصفات المذكورة زال عنه حبها. قال الشاعر موافقا لهذا التمثيل:

نزلنا ههنا ثم إرتحلنا * كذا الدنيا نزول وارتحال أردنا أن نقيم بها ولكن * مقام المرء في الدنيا محال وقال بعض أكابر الشيعة: «والله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا» ثم أشار إلى التمثيل آخر أبلغ وأظهر بقوله ( إني إنما ضربت لك هذا مثلا لأنها عن أهل اللب والعلم بالله كفىء الظلال) في سرعة الزوال، أو في أ نه ليس بشيء حقيقة، أو في الإستظلال به قليلا ثم الارتحال عنه، أو في أنه يرى ساكنا وهو يزول بالتدريج آنا فآنا والدنيا كذلك «والظلال» جمع الظل وهو والفىء بمعنى واحد عند كثير من الناس، وقال ابن قتيبة: وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية والفىء لا يكون إلا بعد الزوال فلا يقال لما قبل الزوال فىء وإنما سمى بعد الزوال فيئا لأنه ظل فاء عن جانب المغرب إلى جانب المشرق، والفىء الرجوع، وقال ابن السكيت: الظل من الطلوع إلى الزوال والفىء من الزوال إلى المغرب، وقال ثعلب الظل للشجرة وغيرها للغداة والفىء بالعشاء، وقال رؤبة بن العجاج كلما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو ظل وفيء وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل ومن هنا قيل الشمس تنسخ الظل والفىء ينسخ الشمس.

(يا جابر فأحفظ ما إسترعاك الله عز وجل من دينه وحكمته) وهي العلم بالشرائع والمراد بحفظه حفظه عن الضياع والعمل وبه وتعليمه لمن هو أهل له.

(ولا تسألن عما لك عنده) من الحقوق مثل الرزق وغيره لأنه لا يترك ما للعبد عليه وما ورد من الحث على الدعاء لطلب لرزق فهو لكن الدعاء عبادة، أو للتوسعة، أو لغير ذلك مما يجيء تفصيله في

ص:394


1- 1 - كما حرف الجر دخلت على كلمة مال لأمن كمل كما توهمه (ش).

كتاب الدعاء إن شاء الله تعالى.

(إلا ما له عند نفسك) من الطاعة والتسليم والزهد في الدنيا فإنك تحتاج إلى السؤال عنه وطلب المدد الإعانة والتوفيق منه تعالى والاستثناء من الموصول وظاهره الانقطاع لأن الحقين متغايران لا يصدق أحدهما على الآخر ويمكن إرجاعه إلى الاتصال لأن ماله عند نفسك فهو لك في الحقيقة وثمرته راجعة إليك لأنه أجل من أن يحتاج إلى شيء ويعود إليه فوائد من العباد والله أعلم.

(فإن تكن الدنيا على غير ما وصفت لك فتحول إلى دار المستعتب) هذا من الغريب وحقيقته غير معلومة لنا، ولكن نقول على سبيل الاحتمال: لا ريب في اتصاف الدنيا بالأوصاف المذكورة والناس فيه ثلاثة أقسام لأن من إعتقد بإتصافها بها وجب عليه الزهد فيها عملا بمقتضى علمه ومن إعتقد بعدم اتصاف أو لم يعتقد بالاتصاف ولا بعدمه فليتحول إليها ليعلم شدائدها وإنقلابها على أهلها وإتصافها بما ذكر بالتجربة والامتحان والشرط المذكور شامل للأخيرين والمستعتب بالكسر من يطلب الرضا بإزالة ما عوتب عليه وخوطب بالسخط، وإنما قال «فتحول إلى دار المستعتب» ولم يقال فتحول إليها للإشعار بأن كل أهل الدنيا والمائل إليها مستعتب يوم القيمة ونادم على ما كان عليه وطالب للعفو والرضا ولكن لا ينفعه ذلك كما ورد «ما بعد الموت بعد مستعتب».

(فلعمري لرب حريص على أمر قد شقى به حين أتاه ولرب كاره لأمر قد سعد به حين أتاه) كما قال جل شأنه: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم» إذ ما من شيء إلا وله جهات متعددة فربما أحد حسن جهة فيطلبه وهو غافل عن قبح جهات آخر، أو عن قبح عاقبة تلك الجهة وربما يدرك قبح جهة فيكرهه وهو غافل عن حسن جهات آخر، أو عن حسن عاقبة تلك الجهة.

(وذلك قول الله عز وجل: «وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين») أي كون مكروه الدنيا سعادة ومرغوبها شقاوة أو حصول السعادة بالمكروهات وحصول الشقاوة بالمرغوبات مضمون هذا القول الكريم، فإن تمحيص المؤمن إنما بكون بورود مكاره النفوس وما يثقل عليها ليخرج من بوتقة الامتحان خالصا صافيا سعيدا وترك التمحيص في الحريص يوجب محقه وفساده وإمتداده في الغي والطغيان فالتمحيص في المؤمن لطف وإحسان وتركه في الحريص محق وخذلان.

* الأصل

17 - عنه، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: قال أبوذر رحمه الله جزى الله الدنيا عني مذمة بعد رغيفين من الشعير أتغذي بأحدهما وأتعشي بالاخر وبعد شملتي الصوف أتزر

ص:395

بإحديهما وأتردى بالأخرى.

* الشرح

قوله: (قال أبو ذر (رضي الله عنه) جزى الله الدنيا عنى مذمة بعد رغيفين من الشعير) أشار إلى أن غير ما ذكره من الدنيا عنده مذموم وأحال ذمه إلى الله تعالى نيابة عند للدلالة على كمال ذمه لأن كل فعل من الفاعل القوى قوي بالغ حد الكمال، وأما ما ذكره فغير مذموم لأن كل شخص يحتاج في بقائه الغذاء واللباس ليكون بدلا عما يتحلل ويحفظه عن الحر والبرد وما بذكره وارتضاه لنفسه هو أقل المراتب منها وبالجملة حث به على ترك الدنيا إلا الضرورة منها.

* الأصل

18 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن المثني، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبوذر (رضي الله عنه) يقول في خطبته: يا مبتغي العلم كأن شيئا من الدنيا لم يكن شيئا ما ينفع خيره ويضر شره إلا من رحم الله، يا مبتغي العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم، والدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه إلى غيره وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم إستيقظت منها، يا مبتغي العلم، قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل، فإنك مثاب بعملك كما تدين تدان يا مبتغي العلم.

* الشرح

قوله: (يا مبتغي العلم كان شيئا من الدنيا لم يكن شيئا) خاطب طالب العلم وعمه ما هو خير له وهو الزهد في الدنيا ورغبه فيه بقوله (إلا ما ينفع خيره ويضر شره إلا من رحم الله) الظاهر أن «إلا» حرف تنبيه وما نافية والضمير البارز راجع إلى شيئا والجملة بيان لما قبلها يعنى أن شيئا من الدنيا ليس شيئا يعتد به ويركن إليه العاقل لأنه أما خير أو شر وخيره لا ينفع لأنه في معرض الفناء والزوال وشره يضر إلا من رحم الله وهو الذي عصمه من الشر وفيه زجر عن التعرض لشيء منها وإنما قال من الدنيا ولم يقل في الدنيا لأن في الدنيا شيء يعتد به إذا كان متعلقا بالآخرة فخيره يطلب وشره يترك ولما كان سبب الغفلة في الأكثر هو الاشتغال بالأهل والمال وصرف العمر في رعايتهما وحفظهما نهى عن ذلك بقوله (يا مبتغى العلم لا يشغلك أهل ولا مال عن نفسك) أي عن تحصيل ما ينفعك في يوم لا ينفع مال ولا بنون كما قال جل شأنه (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون».

ثم رغب في تركها وحكم بأنه سهل لقة زمانها بقوله (أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ثم غدوت عنهم إلى غيرهم) التشبيه بالضيف في قلة الإقامة وقرب الرحيل وفيه مع ما يليه تنبيه على سرعة الإنتقال والنزول في الآخرة ومشاهدة أهوالها وكراماتها وتحريص على تحمل

ص:396

المشاق فيها وتحصيل زاد الآخرة.

(يا مبتغى العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل) أي قدم العمل والعمل متوقف على العلم ولذلك خاطب مبتغيه بذلك، وفي قوله «كما تدين تدان» تنبيه على وجوب حسن المعاملة مع الرب إذا كان حسن جزائه بقدر حسن المعاملة معه وقبحه بقدر قبحها. ويؤيده ما روى «وكما تزرع تحصد» لفظ الزرع مستعار لما يفعله الإنسان من خير أو شر، ولفظ الحصد لما يثمر ذلك الفعل من ثواب أو عقاب، ووجه الإستعارتين ظاهر.

* الأصل

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مالي وللدنيا وما أنا والدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها.

* الشرح

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا؟) ومن طريق العامة روى عن إن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نام على حصير فقام وقد أثر في جسده فقالوا لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال «مالي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكب إستظل تحت شجرة ثم راح وتركها» وهذا من التشبيه التمثيلي ووجه التشبيه سرعة الرحيل وقلة المكث وعدم الرضا به فقد أشار (عليه السلام) إلى أنه على بصيرة من نفسه ويقين من سرعة النزول في الآخرة ومشتاق إلى لقاء الله وحسن ثوابه والكرامة الأبدية المعدة للزاهدين لا إلى الدنيا وزهراتها. والصائف الحار. والقيلولة النوم قبل الزوال.

* الأصل

20 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن عقبة الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان فيما وغط به لقمان ابنه: يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فاوف عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها ولكن أجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر، أخربها ولا تعمرها. فإنك لم تؤمر بعمارتها، وأعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك مما إكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب

ص:397

لذلك وأعد له جوابا، ولا تأس على ما فاتك من الدنيا، فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه، فخذ حذرك، وجد في أرك واكشف الغطاء عن وجهك وتعرض لمعروف ربك وجدد التوبة في قلبك وإكمش فيه فراغك قبل أن يقصد قصدك ويقضى قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد.

* الشرح

قوله: (مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز) تشبيه تمثيلي في غاية الحسن واللطف ووجه التشبيه هو أن الدودة تفعل فعلا فيه هلاكها ونفع غيرها وهي لا تعلم وكذلك الحريص على الدنيا.

قوله: (كان فيما وعظ به لقمان ابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له) فيه تزهيد في صرف العمر في الفاني كما أن في قوله (وإنما أنت عبد مستأجر - إلى آخره) ترغيب في صرفه في الباقي للباقي والتشبيه بالمستأجر تمثيل للمعقول بالمحسوس فكما أن الأجير لا يستحق الأجرة بدون العلم كذلك أنت لا تستحق الثواب بدون العمل له، ويقرب منه ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «الناس في الدنيا عاملان عامل للدنيا في الدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته. يخشى على من يخاف الفقر يأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره، وعامل عمل في الدنيا لما بعدها فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل فأحرز الحظين معا وملك الدارين جميعا، فأصبح وجيها عند الله لا يسأل الله حاجة شيئا ثم أشار إلى أن الحرص في الدنيا مهلك بقوله:

(ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة) هذا أيضا تشبيه تمثيلي وفيه تزهيد في تناول زهرات الدنيا ومطعوماتها الشهية وكثرة الأكل منها فإن ذلك موجب لقوة النفس الإمارة وطغيانها وسبب لهلاكها ثم أمر بعتم الركون إلى الدنيا والاستقرار فيها للجمع والإدخار بقوله:

(ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر) هذا أيضا تمثيل ووجه ظاهر إذ كل عاقل يعلم أن الدنيا محل العبور لا محل النزول كالقنطرة فأنظر هل ترى فيها من السابقين أحدا، ثم أمر برفض كل ما لا يحتاج إليه بقوله:

(أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها) لعل المراد بإخرابها ترك ما لا يحتاج إليه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والاقتصار على القدر الضروري في كل منها. إذ لا بد للسالك من زاد للدنيا وزاد للآخرة فزاد الدنيا القدر الضروري مما ذكر وكلما كان أقل فهو أحسن وأفضل وزاد الآخرة العلم والعمل وتهذيب الظاهر والباطن وهو كلما كان أتم وأكثر كان أحسن وأجدر. وفي قوله:

(وأعلم أنك ستسأل غدا) ترغيب في صرف قوة الشباب والعمر في طلب الدين والعمل به واكتساب المال من طرق الحلال وإنفاقه في الوجوه المشروعة وإرشاد إلى التأهب والاستعداد للجواب

ص:398

ومراقبة النفس ومحاسبتها في كل آن لئلا يقع في هاوية النقصان والخذلان.

(ولا تأس على ما فاتك من الدنيا - إلى آخره) وفيه ترغيب في تطهير القلب عن حب الدنيا أي لا تحزن على ما فاتك من قليل الدنيا وكثيرها.

(فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه) والعاقل لا يتأسف بقوات قليل لا بقاء له (وكثيرها لا يؤمن بلاؤه) والعاقل لا يتأسف بفوات ما يوقعه في الضرر والبلية (فخذ حذرك) الحذر «تهيئه كار» ولعل المراد به تجهيز أمر الآخرة بتطهير الظاهر والباطن (وجد في أمرك) لعل المراد به تحلية الظاهر والباطن بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.

(وإكشف الغطاء عن وجهك) أي عن وجه قلبك. وغطاؤه ما يحجبه عن مشاهدة المعبود وملاحظة المقصود ويمنعه من الوصول إليه والتقرب منه من مفاسد العقائد ومقابح الأعمال والأخلاق، وكشفه رفعه الموجب لمشاهدة جلاله وكماله والاتصال به اتصالا روحانيا.

(وتعرض لمعروف ربك) وهو ما أراد منك، أو أجره في الآخرة، أو ما يفضيه على أهل العرفان (وجدد التوبة في قلبك) إشارة إلى أن التوبة أمر قلبي وهي الندامة عما مضى والعزم على عدم الإتيان بمثله، وإلى رجحان تجديد التوبة بعد التوبة لأن السالك لا بد أن يكون في ندامة بعد ندامة دائما (وأكمش في فراغك) أي عجل وأسرع، أو تشمر وجد في فراغك عما يوجب الغر والخذلان لما يوجب العز والإحسان.

(قبل أن يقصد قصدك) أي نحوك يقال قصدت قصده أي نحوه (ويقضى قضاؤك) أي موتك، أو سوء خاتمتك.

(ويحال بينك وبين ما تريد) من التوبة والطاعات الأخلاق النافعة بعد الموت أو الرجعة إلى الدنيا وتمنيها بعده لتحصيل ما ينفع في الآخرة عند مشاهدة كرامة الأولياء وشقاوة الأشقياء، أو تأخير الأجل عند الاحتضار فنقول (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب وفاصدق وأكن من الصالحين» والعاقل ينبغي أن يتصور أنه طلب الرجعة فرجع ويسعى في طلب الخيرات في كل زمان بقدر الإمكان ويحفظ نفسه عن الغفلة والنسيان والله هو المستعان.

* الأصل

21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: فيما ناجي الله عز وجل به موسى (عليه السلام) يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين وركون

ص:399

من إتخذها أبا وأما موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا وزهرتها، يا موسى نافس في الخير أهله وإستبقهم إليه، فإن الخير كاسمه واترك من الدنيا ما بك الغني عنه ولا تنظر عينك إلى كل مفتون بها وموكل إلى نفسه، وأعلم أن كل فتنة بدؤها حب الدنيا ولا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه، حتى تعلم أن الله راض عنه ولا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له، فإن طاعة الناس له، وأتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن إتبعه.

* الشرح

قوله: (يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين) أريد بالظالمين أهل الدنيا مثل سلاطين الجور وأتباعهم ومن يحذو حذوهم في الركون إليها.

(وركون من إتخذها أبا وأما) شبه الدنيا بالأب والام وأهلها بالأطفال في الركون إليها والانس بها.

(يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها) أراد بالنظر لها نظر ميل وإرادة وأما النظر إليها نظر تفكر وعبرة فهو يوجب الإعراض عنها.

(يا موسى نافس في الخير أهله) نافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المبارات والمغالبة (واترك من الدنيا ما بك الغني عنه) أما ما لا غني عنه من الضروريات اللائقة شرعا وعقلا فلا ينبغي تركه (ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أن الله راضي عنه) دل على عدم جواز الغبطة في أمر الدنيا الغير الضروري وعلى جوازها في أمر الدين والغبطة أن تتمنى حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه.

* الأصل

22 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن في كتاب علي صلوات الله عليه: إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع، يحذرها الرجل العاقل ويهوى إليها الصبي الجاهل.

* الشرح

قوله: (إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع) أي القاتل وهو من صيغ التعجب وفيه إشارة إلى وجه التشبيه وهو أما متعدد أو مركب من متعدد وعلى التقديرين في المشبه به حسى وفي المشبه عقلي والغرض من هذا التشبيه أما بيان حال المشبه وصفته أو تقبيحه في نظر السامع ليتنفر طبعه عنها وهما إنما يقتضيان أن يكون المشبه به أعرف وأشهر في وجه التشبيه من المشبه ولا ينافي ذلك أن يكون الأمر بالعكس في الأتمية فعلى هذا يمكن أن يكون تأثير سم الدنيا

ص:400

أقوى وأتم لأنه يؤثر في النفس الناطقة ويوجب الهلاك الأبدي، ومس الدنيا كناية عن جمع زهراتها الفانية والإلتذاذ بها، وسمها عبارة عما يترتب عليه في المآل (يحذرها الرجل العاقل) لعلمه بأن القرب منها وتناولها يوجب هلاكه فيكون انسه وسروره بالحذر عنها والفرار منها والاتصال بالمولى.

(يهوى إليها الصبي الجاهل) أطلق على طالب الدنيا لفظ الصبي على سبيل الاستعارة لعدم عمله بما يضره وينفعه إذ ليس له بصيرة باطنية ليدرك بها بواطن الأمور، ولذلك نظره مقصور على ظواهرها وهمه مصروف إلى التمسك بها والركون إليها حتى لو منعه مانع لعارضه أشد المعارضة وقاتله أقبح المقاتلة فربما يحسبه الحرص في سجن المهالك وهو مشعوف بذلك فيأتيه الموت ويفسد عليه وهو في الآخرة من الخاسرين.

* الأصل

23 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه يعظه أوصيك ونفسي بتقوى من لا تحل معصيته ولا يرجى غيره ولا الغنى إلا به، فإن من إتقى الله عز وجل وقوي وشبع وروى ورفع عقله عن أهل الدنيا فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الآخرة، فأطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه من حب الدنيا فقذر حرامها وجانب شبهاتها وأضر والله بالحلال الصافي إلا ما لا بد له [منه] من كسرة يشد بها صلبه يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء، فوقعت ثقته، ورجاؤه على خالق الأشياء، فجد واجتهد وأتعب بدنه حتى بدت الأضلاع وغارت العينان فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه وشدة في عقله وما ذخر له في الآخرة أكثر، فأرفض الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غدا [أ] وبعد غد، فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون، فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة وقد أسلمهم الأولاد والأهلون، فإنقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا وعزم ليس فيه انكسار ولا إنخزال، أعاننا الله وإياك على طاعته ووفقنا الله وإياك لمرضاته.

* الشرح

قوله: (كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه يعظه أوصيك ونفسي بتقوى [الله]) الوعظ الأمر بالطاعة وعليه قوله تعالى (قل إنما أعظكم بواحدة) أي آمركم وقيل الوعظ تذكير مشتمل على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب والاسم الموعظة والوصية بالشيء الأمر به وعليه قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم» أي يأمركم وقوله «من لا تحل معصيته» بدل أو وصف

ص:401

للجلالة (فإن من إتقى) الظاهر أنه علة لقوله «أوصيك» يعني أمرتك بالتقوى فإن من إتقى الله وإجتنب عن معصية وتنزه عما يشغل عنه (عز) بعزة ربانية لأذل معها. (وقوى) بقوة روحانية لأضعف فيها (وشبع) بحكمة إلهية لأجل معها.

(وروى) بزلال أسرار غيبية وألطاف لاهوتية لا يحتاج معها إلى غيرها (و) لذلك (رفع عقله عن أهل الدنيا) حيث أن عقولهم عكفت كالذباب على ميتة الدنيا وعقله سائر في الملاء الأعلى ( فبدنه مع أهل الدنيا) لكون من جنس أبدانهم في الصورة الجسدانية.

(وقلبه وعقله معاين الآخرة) لتجرده عن العلائق الجسمانية. (فأطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه) من حب الدنيا، الاطفاء اخماد النار حتى لا يبقى منها شيء وضوء القلب عبارة عن صورة العلمية المايزة بين الحق والباطل والحسن والقبح، وفي عد حب الدنيا مبصرا مسامحة، وتشبيهه بالنار في الإحراق والاهلاك استعارة مكنية ونسبة الاطفاء إليه تخييلية.

(فقذر حرامها) القذر الوسخ وهو مصدر قذر الشيء فهو قذر من باب تعب إذا لم يكن نظيفا، وقذرته من باب تعب أيضا وإسقذرته وتقذرته كرهته لوسخ فأقذرته بالألف وجدته كذلك وكثيرا ما يطلق على النجس وهو المراد هنا.

(وجانب شبهاتها) وهي المشتبهات بالحرام مع عدم العلم بأنها حرام كأموال الظلمة الآخذين لأموال الناس ظلما (وأضرو الله بالحلال الصافي) وهو الحلال الخالص من الحرام قطعا (إلا ما لا بد له) وهو أقل المعيشة الذي لا يمكن الوجود والبقاء والطاعة بدونه (من كسرة يشد بها) صلبه الكسرة بالكسرة القطعة من الشيء المكسور ومنه الكسر من الخبز المتخذ من دقيق الحنطة والشعير أو غيرهما والجمع كسر مثل سدرة وسدر.

(وثوب يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه) حض العورة بالذكر لأنها أهم بالمواراة وإلا فلا بد من ثوب يواري به سائر البدن عند الاحتياج إليه لحفظه من الحر والبرد (ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء) نفي الثقة والاعتماد فيما لا بد منه عند كونه حاصلا ونفي الرجاء عند عدم كونه حاصلا.

(فوقعت ثقته) عند الحصول (ورجاؤه) عند عدمه (على خالق الأشياء) هذا غاية الزهد والتوكل حيث قطع تعلقه بالوسائط والأسباب وخص تعلقه برب الأرباب.

(فجد واجتهد) أي فجد في السير إليه والعمل له واجتهد في تهذيب الظاهر والباطن مما يمنع القرب منه (وأتعب بدنه) بأنحاء العبادات والرياضيات.

ص:402

(حتى بدت الأضلاع) لشدة هزاله بكثرة التعب وقلة الغذاء (وغارت العينان) لكثرة السهر وقلة النوم (فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه) يتحمل بها الأعمال الشاقة مع ضعف البنية (وشدة في عقله) يدرك بها الأسرار اللاهوتية ويتحمل الأنوار الملكوتية (وما ذخر له في الآخرة) من الاجر الجميل والثواب الجزيل والمقامات العالية والدرجات الرفيعة (أكثر) مما آتاه في الدنيا (فأرفض الدنيا فإن حب الدنيا) وهو ميل النفس إليها بحيث يفرح بحصولها ويحزن بفواتها.

(يعمى ويصم ويبكم ويذل الرقاب) المراد بالعمي عمى البصيرة فإن حب الدنيا حاجز بينها وبين الحق وأسراره، مانع من إدراكها. ويحتمل عمى الصبر فان حبها مانع من إدراك البصر تقلبها على أهلها وإدراك نوائبها الدالة على هوانها كما أنه مانع من سماع نداه الداعي إلى فراقها وآيات الحق على زوالها وفنائها ومن التكلم بالأوامر والنواهي وتقبيح المنكرات لأن كل ذلك مناف لما إرتكبه من الميل إلى الدنيا وحب الشهوات وهو مع ذلك موجب لذل الرقاب إذ في حبها وتحصيلها وضبطها وحفظها من أهل الجور مذلة ظاهرة لأولي الألباب (فتدارك ما بقي من عمرك) واصرفه في عبادة ربك وتدارك ما فات وانصرف عن حب الدنيا إلى المقتضيات (ولا تقل غدا وبعد غد فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف) هذا قول أهل الأماني والآمال ومناطه حب الدنيا فإن حبها يبعثه على صرف العمر في تحصيلها وجمعها وصرف الفكر في كيفية تحصيل ما يأمل ويرجو منها وتدبير إزالة المانع منه وهو بذلك يغفل عن أمر الآخرة وما ينفعه فيها، ولو خطر بباله يسوفه ويقول أفعله غدا وبعد غد وبعد تعمير هذه العمارة انقضاء هذه التجاوز وحصاد هذه الزراعة، وهكذا بعد اشتغاله المتولدة بعضها عقب بعض إلى أن يأتيه الموت بغتة وهو في خسران مبين وفيه ردع عن تسويف التوبة والعبادات والقيام على الأماني وحب الشهوات فإن كل ذلك مع قطع النظر عن كونه مانعا بالفعل قد لا يتحصل له بإتيان الموت بغتة وخروج الأمر من يده ووصوله إلى الغد ليس باختياره على أن الرجوع من الذنوب في الغد ليس بأسهل من اليوم بل هو أصعب لأن المعصية بإستمرارها تشتد وتقوى حتى تصير ملكة فإزالتها حينئذ أشد وأصعب، فإذا عجز عن إزالة الأضعف فهو عن إزالة الأصعب أعجز.

(فإنقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا) الظاهر أن فانقطع أمر معطوف على فأرفض الدنيا. والإنابة الرجوع إلى الله تعالى و «من» تعليل لها وعزم عطف على قلب وهو عقد الضمير والإنخزال الانقطاع.

ص:403

* الأصل

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة وغيره، عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله.

* الشرح

قوله: (مثل الدنيا كمثل ماء البحر) هذا التمثيل في غاية الحسن والوجه هو ازدياد الحرص في الجمع والشرب المفضى إلى الهلاك بالآخرة، ومن البين أن طالب الدنيا إذا توجه إلى أمر واحد منها يتولد منه أمور كثيرة وتشتبك فيه إشغال غير محصورة بعضها عقب بعض وصرف العمر فيها والحرص في تحصيلها يوجب هلاكه.

25 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: قال: عيسى بن مريم صلوات الله عليه للحواريين: يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا كما لا يأسي أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا أصابوا دنياهم.

ص:404

باب

* الأصل

1 - الحسين بن محمد الأشعري عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عاصم ابن حميد، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

* الشرح

قوله: (وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني) العزة القوة والشدة والغلبة قيل وعزته عبارة عن كونه منزها عن سمات الامكان وذل النقصان ورجوع كل شيء إليه وخضوعه بين يديه والعظمة في صفة الأجسام كبر الطول والعرض والعمق وفي وصفه تعالى عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول والأوهام حتى لا يتصور الإحاطة بكنه حقيقته وصفاته عنه ذوى الافهام وعلو علو عقلي على الاطلاق بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته وذلك لأن أعلى مرات الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كانت ذاته المقدسة مبدأ كل موجود حسى وعقلي لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية مطلقا وله العلو المطلق في العاري عن الإضافة إلى شيء، وعن امكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه، وهذا معنى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «سبق في العلو فلا أعلى منه» وارتفاع مكانه كناية عن عدم امكان الإشارة إليه بالعقول والحواس.

(لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه) المراد بهوى النفس ميلها إلى ما هو مقتضى طباعها من اللذات الحاضرة الدنيوية والخروع عن الحدود الشرعية وبهواه تعالى اعراضها عن هذا الميل وروعها إلى ما يوجب القرب إلى الحضرة الأحدية.

(إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السماوات والأرض رزقه) يجوز في ضمنت تشديد الميم وتخفيفها، والسماوات منصوبة على الأول ومرفوعة على الثاني وضيعة الرجل ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، ولعل المراد بها المعيشة، ويؤيده ما روى من طريق العامة « المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته» قال ابن الأثير أي يجمع عليه معيشته ويضمها إليه.

ص:405

* الأصل

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن ابن سنان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وعلو ارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه وهمته في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

*الشرح:

(وكنت له من وراء تجارة كل تاجر) الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبى علي الفارسي وياء عند العامة وهو من ظروف المكان بمعنى قدام وخلف، والتجارة مصدر بمعنى البيع والشراء للنفع وقد يراد بها ما يتاجر فيه من الأمتعة ونحوها على تسمية المفعول باسم المصدر، ولعل المراد أن كل تاجر في الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الجنة ونعيمها وحورها وقصورها، والله سبحانه بذاته المقدسة والتجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد الذي آثر هواه على هوى نفسه.

وفيه دلالة على أن للزاهدين في الجنة نعمة روحانية أيضا، ويحتمل احتمالا بعيدا أن يكون كنت له كلاما تاما دالا على أنه تعالى هو الغاية لعمله ويكون ما بعده حالا لفاعل كنت دالا على أنه تعالى هو الرقيب على عمل كل عامل، والمراد بجعل غناه في نفسه وهمته في آخرته كما في الخبر الآخر جعله غنيا في نفسه بإيصال رزقة إليه عن غيره تعالى وجهل همته وهي الإرادة والعزم القوى في أمر آخرته وهما أعظم المراتب الإنسانية إذ الإنسان بذلك الغنى لا يشاهد إلا ربه وبتلك الهمة يبلغ من حضيض النقص إلى أوج الكمال ويخرج من مذلة البعد إلى مقام الوصال.

ص:406

باب القناعة

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن زيد الشحام، عن عمرو بن هلال قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) وقال: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا) فإن دخلت من ذلك شيء فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأنما كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجده.

* الشرح

قوله: (إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك) طمح بصره إليه كمن ارتفع لينظر إليه، وأطمح بصره ورفعه وهو تحذير من النظر إلى الفوق فإنه يوجب ميل النفس إلى الدنيا وترك القناعة والصبر والشكر وعدم الرضا بقضاء الله وتقديره بخلاف النظر إلى إلا دون وهذا بالنظر إلى أهل الدنيا، وأما بالنظر إلى أهل الآخرة فالامر بالعكس ثم رغب في القناعة وعدم النظر إلى أهل الدنيا وما في أيديهم من زهراتها بقوله:

(فإن دخلت من ذلك شيء فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنما كان قوته الشعير) أي غالبا (وحلواه التمر وقوده السعف إذا وجده) الوقود بالفتح الحطب والسعف بالتحريك أغصان النخل ما دامت بالخوص وهو ورقة فإن زال الخوص عنها قيل جريدة، والضمير في وجده راجع إلى كل واحد من الامور المذكورة يعني إن دخلك من ذلك شيء ينفخ الشيطان بأنك لم تقنع وتحمل على نفسك المشقة وأبناء نوعك في نعمة جزيلة وراحة طوية وطلب سعة المعيشة من أي طريق يمكن فادفعه بذكر ضيق عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن الدنيا وما فيها خلقت له وما كان ذلك إلا لحقارة الدنيا وعنده وطلب رضا الله تعالى وتأس به بخرج الموجود والصبر على المفقود واستيقن أن الرزق مع الحياة ومحال على الحكيم القادر العدل أن يقطع الرزق مع بقاء الحياة.

* الأصل

2 - الحسين بن محمد بن عامر، عن معلى بن محمد، وعلي بن محمد، عن صالح ابن أبي حما جميعا،

ص:407

عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله.

* الشرح

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله) أي من استغنى عن السؤال أغناه الله عنه باعطاه ما يحتاج إليه ويفهم منه أن من سأل الناس وكله الله إليهم حيث صرف وجهه عنه واعتمد بهم ويدل على ذلك قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه».

والتفصيل أن ما تعلق به قلب أحد من مهمات الدنيا أما أن يكون قد قسم له أو لم يقسم فإن قسم فالله تعالى يكفيه مؤونته ويوصله إليه قطعا أما بغير كلفة ومشقة، أو بتهيئة أسبابه، أو بتوفيقه إليها وإن لم يقسم وكفاه عن مؤونة الاهتمام به، وأغنى قلبه عن التعلق به فهو الكافي لمن استكفاه أما بغنى يده، أو بغنى قلبه ومنه يظهر سر الكلية في قوله «ومن استغنى أغناه الله» ونقل عن بعض المتوكلين أنه قال كنت في بعض البوادي وحدى فجعت ولا زاد معي فرفعت حاجتي إلى مولا فهتف بي هاتف أتريد غذاء أم غنا فقلت بل غنا فزال جوعى ووجدت قوة وغنا عن الطعام نحوا من عشرين يوما.

* الأصل

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن الهيثم ابن واقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل.

* الشرح

قوله: (من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل) لأن من رضي عما على الله باليسير رضي الله عما عليه باليسير كما يقتضيه حسن المعاملة وأيضا النعمة توجب شكرا والعمل منه فكلمات كانت النعمة أقل كان العمل أيضا أقل، وفيه ترغيب في الرضا بالتقليل من الرزق لأنه يستلزم خفة المؤونة وزوال المشقة من العمل وأيضا من رضي بالقليل من المعاش فقد زهد في الدنيا وطهر ظاهره وباطنه من الأعمال والأخلاق القبيحة التي يقتضيها الدنيا وفرغ من المجاهدات التي يحتال إليها السالك المبتدي وجعلها وراء ظهره فلم يبق عليه إلا فعل ما ينبغي فعله وهذا يسير بالنسبة إلى تلك المجاهدات وهذا الاحتمال ذكره بعض علماء العامة في الشرح ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «أخلص قلبك يكفيك القليل من العمل».

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم عن عمرو بن أبي المقدام،

ص:408

عن أبي عبد الله قال: مكتوب في التوراة: ابن آدم! كن كيف شئت كما تدين تدان، من رضي من الله بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته وزكت مكسبته وخرج من حد الفجور.

* الشرح

قوله: (كن كيف شئت هذا مثل قوله تعالى «اعملوا ما شئتم» وفيه وعد بالخير ووعيد على الشر كما أن في قوله:

(كما تدين تدان) إشارة إلى أن جزاء خير جزاء الشر شر، وترغيب في حسن المعاملة معه تعالى. ثم ذكر للرضا باليسير ثلاثة أوجه للترغيب فيه فقال:

(ومن رضى باليسير من الحلال خفت مؤونته وزكت مكسبته وخرج من حد الفجور) الوجه الأول خفة المؤونة أعنى الثقل والمشقة فإن المشقة في طلب اليسير وحفظه يسير خفيف، والثاني زكاء مكسبه فإن المكسب المشروع لليسير كثير والمكسب المشروع زكى. والثالث الخروف من حد الفجور لما عرفت من زكاء مكسبه مع تنزعه عن الحقوق المالية والميل إلى الدنيا المستلزمة للفجور بخلاف طالب الكثير فإن المكسب الغير المشروع الكثير قليل جدا مع ما يلزمه من الحقوق المالية التي فلما يقوم بها طالبه والركون إلى الدنيا المستلزمة لجميع الفجور والمفاسد.

* الأصل

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن عرفة، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من لم يقنعه من الرزق إلا الكثير لم يكفه من العمل إلا الكثير ومن كفاه من الرزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات لله عليه يقول: ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك.

* الشرح

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك) أي أن كنت تريد من الدنيا ما يغنيك عن غيره فإن أيسر ما فيها يغنيك وهو القدر الضروري الذي يتوقف عليه حياتك وقوتك على الطاعة وهذا القدر يأتيك قطعا وتحصيله هيه، وإن كنت تريد ما لا يغنيك فإن كل ما فيها لا يغنيك فإنك حريص في جمع الدنيا ما لا يحتاج إليه. مراتب الحرص غير محصورة فلو فرض أنه جمع لك الدنيا وما فيها تطلب الزائد عليها. ومثل هذا الحديث قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «كل مقصر عليه كاف» يعني كاف في مطلوب المقتصر من بقائه وقوته على الطاعة كقليل القوت وغير ذلك.

ص:409

* الأصل

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن محمد الأسدي، عن سالم ابن مكرم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فقالت له: امرأته لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألته فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من سألنا أعطيناه ومن استغني أغناه الله، فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر فأعلمه فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا، ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل، فصعده فقطع حطبا، ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فرجع به فأكله، ثم ذهب من الغد، فجاء بأكثر من ذلك فباعه ، فلم يزل يعمل ويجتمع حتى اشترى معولا، ثم جمع حتى اشتري بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر فجاء التي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله.

* الأصل

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن الفرات، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره.

* الشرح

قوله: (من أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره) لأن من اتصف بهذه الفضيلة يصرف الله تعالى وجه قلبه عن جميع ما سواه إليه ويفيض بركاته وزلال فيضه عليه ويسد باب حاجاته إلى غيره ولا غنى أعظم منه ومن المحرك إلى تلك الفضيلة هو التفكر في أن الله تعالى كريم لا يضره الاعطاء وخزائنه واسعة لا تنفد وقد رغب في السؤال عند ووعد في الإجابة فلا يخلف وعده بخلاف غير فإنه مثل السائل في الاحتياج وتخيل الفقر في وقت ما وحصول الضرر وكل يبعثه على رد السائل وان أعطاه أعطاه قليلا وذمه طويلا، وعده ذليلا ومنه كثيرا والموت خير منه، ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: «المنية ولا الدنية» روي بضمهما ورفعهما فالنصب بتقدير الفعل أي احتمل المنية وهي الموت ولا تحتمل الدنية وهي السؤال والرفع بتقدير الخبر أي المنية ملتزمة والدنية غير ملتزمة.

* الأصل

9 - عنه، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزه، عن أبي جعفر [أ] وأبي عبد الله (عليهم السلام) قال: من قنع بما رزقة الله فهو عن أغنى الناس.

ص:410

* الشرح

قوله: (من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس) لأن الغني من لا يحتاج إلى غيره والقانع أولى بذلك من غيره لأن غيره كثيرا ما تضطره الحاجة إلى التوسل بالغير بخلاف القانع فإن قناعته بأدنى ما يكفيه رافعة للأضرار، ومما يبعث على تلك الفضيلة هو العلم بأن غير القانع يطلب الدنيا لثلاثة أشياء الغني والعز والراحة والعلم بأن كل ذلك في تركها لأن من تركها عز ومن قنع بما لا بد أستغني ومن قل سعيه استراح.

* الأصل

10 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة بن حمران قال: شكا رجل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أنه يطلب فيصيب ولا يقنع وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه وقال: علمني شيئا أنتفع به، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك.

* الشرح

قوله: (إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك) مفهوم الشرطيتين ظاهر أما الأولى فلان أدنى ما في الدنيا يكفيه في قوام أمره والمفروض أن ما يكفيه يغنيه فأدنى ما فيها يغنيه، وأما الثانية فلانه إذا كان ما يكفيه لا يغنيه كان ذلك لكمال الحرص ومراتب الحرص غير محصورة فكل ما في الدنيا لو حصل له لا يغنيه لو حصلت بل له الدنيا مرة طلبها مرتين وهكذا.

11 - عنه، عن عدة من أصحابنا، عن حنان بن سدير، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من رضى من الدنيا بما يجزيه كان أيسر ما فيها يكفيه ومن لم يرض من الدنيا ما يجزيه لم يكن فيها شيء يكفيه.

ص:411

باب الكفاف

* الأصل

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن غير واحد. عن عاصم بن حميد، عن أبي عبيدة الحذاء قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: إن من أغبط أوليائي عندي رجلا خفيف الحال، ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب وكان غامضا في الناس جعل رزقة كفافا، فصبر عليه، عجلت منيته فقل تراثه وقلت بواكيه.

* الشرح

قوله: (قال الله عز وجل أن من اغبط أوليائي عندي) وجه التفضيل أنه جمع بين الدين والدنيا وأخرج حبها عن قلبه فأكرمه الله بقربه وفضله وخيره. وهذه الامور من أعظم أسباب الغبطة.

(رجلا حفيف الحال بالحاء المهملة أي ضيق الحال وقليل المعيشة من حفت الأرض إذا يبس نباتها، أو بالخاء المعجمة أي قليل والحظ من الدنيا ولله در من قال:

أخص الناس بالإيمان عبد * حفيف الحال مسكنه القفار له في الليل حظ من صلاة * ومن صوم إذا طلع النهار وقوت النفس يأتي من كفاف * وكان له على ذاك اصطبار وفيه عفة وبه خمول * إليه بالأصابع لا يشار وقل الباكيات عليه لما * قضى نحبا وليس له يسار فذاك قد نجا من كل شر * ولم تمسسه يوم البعث نار (ذا حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه بالغيب) أي بالغيب عن الرب، أو عن الخلق والمراد باحسان العبادة اتيانها في أوقاتها بشرائطها وأركانها مع نية خالصة وقلب حاضر عالم بأن الرب يشاهد بل هو يشاهد الرب.

(وكان غامضا في الناس أي مغمورا غير مشهور (جعل رزقة كفافا فصبر عليه) الكفاف بالفتح ما لا يحتاج معه ولا يفضل عن الحاجة فهو متوسط بين الفقر والغني وخير الامور أوسطها وإنما سمى بذلك لأنه يكف عن الناس ويغنى عنهم.

* الأصل

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص:412

طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافا.

* الأصل

3 - النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أللهم ارزق محمدا وآل محمد ومن أحب محمدا وآل محمد العفاف والكفاف، وارزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد.

* الشرح

قوله: (قال رسول الله اللهم ارزق محمدا وآل محمد.... العفاف والكفاف) العفاف بالفتح عفة البطن والفرج عن الطغيان، أو العفة من السؤال عن الإنسان، أو الجميع (وأرزق من أبغض محمدا وآل محمد المال والولد) لما كان شيء من المال ضروريا في البقاء والعبادة وهو الكفاف الواقع بين الطرفين طرف الفقر الذي فيه رائحة الكفر والعصيان، وطرف الغني الذي فيه شائبة التكبر والطغيان طلبه لنفسه ولمحبيه وطلب لمن أبغضهم طرف الغني والكثرة لأن مفاسده أكثر وأعظم وفتنته أشد وأفخم من مفاسد الفقر وفتنته كما قال عز وجل (إنما أموالكم وأولادكم فتنة» وقال:

(إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «المال مادة الشهوات» وبالجملة لما كان حصول الكفاف مانعا من دواعي طرفي التفريط والإفراط وكان العبد معه مستقيم الأحوال على سواء الصراط طلبه لنفسه ولمحبيه ومضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة. ففي مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال «اللهم اجعل رزق محمد قوتا» والمراد بالقوت الكفاف وعنه أيضا «اللهم اجعل رزق محمد كفافا» وعنه أيضا «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» قال عياض لا خلاف في فضلة ذلك لقلة الحساب عليه فإنما اختلف أيهما أفضل: الفقر أو الغنى، واحتج كل لمذهبه، واحتج من فضل الفقر بدخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء، وقال القرطبي القوت ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة هذا الحديث متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الامور أوسطها، أيضا فإنه حالة يسلم معها من آفات الفقر وآفات الغنى.

قال الابي في كتاب إكمال الإكمال: في المسألة خلاف والمتحصل فيها أربعة أقوال قيل الغنى أفضل، وقيل الفقر والفقر أفضل من الكفاف وأطال الإحتجاج عليه في جامع المقدمات والمراد بالرزق المذكور ما ينتفع به (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه وفي أهل بيته وليس المراد به الكسب لأنه كسب من خيبر ومن غيرها فوق القوت انتهى كلامه. وأعلم أن الأحاديث مختلفة ففي بعضها طلب الغنى واليسار، وفي بعضها طلب الكفاف، وفي بعضها طلب الفقر، وفي بعضها الإستعاذة من الفقر ويمكن أن يقال المراد بطلب الغنى طلب الكفاف لأن الكفاف هو الغنى المطلوب عند أهل العصمة (عليهم السلام) وليس المراد به ما هو المتعارف عند أبناء الدنيا من جمع المال وادخاره والاتساع فيه فوق الحاجة، وبالاستعاذة من الفقر الإستعاذة مما دون الكفاف وهو الفقر عندهم (عليهم السلام)

ص:413

وأقوى أفراده عند أهل الدنيا، وعلى هذا لا تنافي بين الأخبار والله وأعلم.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن إبراهيم بن محمد النوفلي، رفعه إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) براعي إبل فبعث يستسقيه، فقال: أما ما في ضروعها فصبوح الحي، وأما في آنيتنا فغبوقهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : أللهم أكثر ماله وولده، ثم مر براعي غنم فبعث إليه بشاة وقال: هذا ما عندنا وإن أحببت أن نزديك زدناك قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارزقه الكفاف، فقال له بعض أصحابه يا رسول الله دعوت للذي ردك بدعاء عامتنا نحبه ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكره؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: أللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف.

* الشرح

قوله: (فقال أما ما في ضروعها فصبوح الحي وأما في آنيتنا فغبوقهم) الصبوح بالفتح شرب الغداة والغبوق بالفتح شرب العشاء فأصلهما الشرب ثم استعمل في المأكل والحي القبيلة من العرب. قوله (وذلك أقرب له مني) أي تقتير رزقه وتضييقه أقرب له منى لأن قبله يفرغ عن غيره تعالى من علاقة المال ويتوجه إليه بالتضرع والابتهال ويطلب ما عنده من الفضل ولقد سمعت من بعض صلحاء أهل الدنيا قال ما صليت بفراغ البال مذ اشتغلت بالدنيا وتحصيل المال. بخلاف توسيع الرزق فإنه يبعد من الله لأنه يشغل القلب عنه إلى الدنيا. وجمع زهراتها وحفظها وترك الحقوق.

* الأصل

5 - عنه، عن أبيه، عن أبي البختري، عن بي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: يحزن عبدي المؤمن إن قترت عليه وذلك أقرب له مني ويفرح عبدي المؤمن إن وسعت عليه وذلك أبعد له مني.

* الشرح

وقوله: (ان وسعت بالتخفيف أو التشديد يقال وسع الله رزقه يوسع وسعا من باب نفع ووسعه توسيعا أي بسطه كثرة وأوسع بالألف مثلهما.

6 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد الأزدي، عن أبي - عبد الله (عليه السلام) قال:

[قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)] قال الله عز وجل: إن من أغبط أوليائي عندي عبدا مؤمنا ذا حظ من صلاح ، أحسن عبادة ربه وعبد الله في السريرة وكان غامضا في الناس فلم يشر إليه بالأصابع. فكان رزقه كفافا، فصبر عليه فعجلت به المنية، فقل تراثه وقلت بواكيه.

ص:414

باب تعجيل فعل الخير

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان قال: حدثني حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا هم أحدكم بخيرة فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: إعمل ما شئت بعدها فقد غفر [لله] لك.

* الشرح

قوله: (إذا هم أحدكم بخيرة فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: إعمل ما شئت بعدها فقد غفر [لله] لك) من الله للعبد نفحات في بعض الأوقات، وللعبد مع الله مقام في بعض الساعات، وللعبادة كمال في بعض الآنات موجب لرفع الدرجات فلعل زمان قصد الخير والعبادة أحد هذه الأوقات التي يحصل للعابد فيها مزيد قرب واختصاص لا يضر معهما شيء من موجبات العبد ولا يدفع شرف القرب ومثل هذا الحديث رواه العامة قال القرطبي الأمر في قوله «اعمل ما شئت» أمر اكرام كما في قوله تعالى «أدخلوها بسلام آمنين» واخبار عن الرجل بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه ومحفوظ في الآتي، وقال الابي يريد بالأمر الاكرام ليس أنه إباحة لأن يفعل ما يشاء.

* الأصل

2 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبي جميلة قال: قال أو عبد الله (عليه السلام): افتتحوا نهاركم بخير وأملوا على حفظتكم في أوله خيرا وفي آخره خيرا، يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله.

* الشرح

قوله: (افتتحوا نهاركم بخير وأملوا على حفظتكم في أوله خيرا وفي آخره خيرا يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله) إذا كان عمل أول كل يوم وآخره خيرا يندر أن لا يكون وسطه خيرا لأن المداومة على الخير تورث ملكة مانعة من الشر ومن ثم قيل الخير يسرى بعضه إلى بعض كالشر. ولو فرض وقوع الشر في وسطه فهو مغفور له كما قال عز وجل «إن الحسنات يذهبن السيئات» لأن الله تعالى يستحى من العبد أن يقبل أول عمله وآخره ويرد وسطه أو يعذبه به، وأيضا يبعد من كرمه أن يرضى بالعبد أو لا وآخرا ويعذبه ببادرة في الوسط، وأيضا أعمال العبد أوله حسنا وآخر حسنا لأن أوله أو ما يقرع السمع وآخره آخر ما يقرع السمع فيستحسنه السمع ويعده حسنا وكذلك الأعمال.

* الأصل

ص:415

3 - عنه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم به الحكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي يقول: إذا هممت بخير فبادر، فإنك لا تدري ما يحدث.

* الشرح

قوله: (إذا هممت بخير فبادر فإنك لا تدرى ما يحدث) هذا الكلام جامع لوجوه المبادرة إلى الخيرات منها الرجوع إلى الحالة المنافية للتكليف كالهرم المستلزم لضعف العقل والبنية ونقصانهما، ومنها المرض المانع من الإتيان بها، ومنها فجأة الموت، ومها وسوسة الشيطان إزالة القصد بها، ومنها طريان السهو والنسيان، ومنها تزلزل النفس بخوف الفقر، ومنها فوات المال.

ونظير هذا الحديث ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

إذا هبت رياحك فاغتنمها * فان لكل حادثة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها * فلا تدرى السكون متى تكون وفيه ترغيب بليغ في المبادرة إلى الخيرات.

* الأصل

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يحب من الخير ما يعجل.

* الشرح

قوله: (إن الله يحب من الخير ما يجعل) دل على طلب التعجيل أيضا قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم» أي على سبب مغفرة وهو الخيرات ومدحهم به في قوله: (اولئك يسارعون في الخيرات» ورغب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «لا خير في الدنيا إلا لرجلين رجل أذنب ذنبا فهو يتداركه ورجل يسارع في الخيرات.

* الأصل

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن بشير بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أردت شيئا من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يريد ما عند الله فيعتقه الله به من النار ولا تستقل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ولو شق تمرة.

* الشرح

قوله: (ولا تستقل ما يتقرب به إلى الله عز وجل ولو شق تمرة) أي نصفها فإن نصفها قد يحفظ النفس من الجوع المهلك ولان الإنصاف الحاصلة من المتعدد قد يبلغ قوت الأخذ. وفيه حث على التصديق وعدم تركه لقلته ويحتمل أن يراد به ولو كان يسيرا من أي نوع كان ومثله قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا تحقرن شيئا من المعروف» وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «افعلوا الخير ولا تحقروا شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير» فسر الخير في كلامه (عليه السلام) بالإحسان إلى الضعفاء والانعام عليهم ويمكن حمله على كل ما

ص:416

يتقرب به إلى الله تعالى.

* الأصل

6 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير. عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من هم بخير فليعجله ولا يؤخره، فإن العبد ربما عمل العمل فيقول الله تبارك وتعالى: قد غفرت لك والا أكتب عليك شيئا أبدا، ومن هم بسيئة فلا يعملها، فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الله سبحانه فيقول: لا وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا.

* الشرح

قوله: (فيقول الله تعالى قد غفرت لك ولا أكتب عليك شيئا أبدا) غفران ذنوبه أما من باب التفضل، أو مستند إلى ذلك العمل لقوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات» فدل على التكفير والمحو بعد الإثبات وأما قوه «ولا أكتب» فيحتمل أن يكون المراد أنه لا يكتب الذنوب التي يفعلها بعد في مدة عمره أما تفضلا وأما لذلك العمل بأن يكون لذلك مدخل في محو ما بعده من الذنوب كما أن له مدخلا في محو ما قبله، ويحتمل أن يكون المراد أنه محفوظ في الآتي من فعل الذنوب ففيه اخبار بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه ومحفوظ فيما يأتي وبسعة رحمته وشدة سخطه ، وبعث على الخوف والرجاء والأعمال الصالحة كلها فإن كان عمل يصلح أن يكون كذلك، ثم قوله (لا وعزتي وجلالي لا اغفر لك بعدها أبدا) لعل المراد به أنه إذا وقع القسم وكله إلى نفسه فيسلط عليه شيطانه ويفتح له باب المعاصي فيخوض في الشرور كلها حتى يخرج من الدنيا بلا إيمان فيستحق بذلك الشقاوة الأبدية أو المراد أنه لا يغفر ذنوبه أبدا بل يؤاخذ بها وهذا لا يدل على عقوبته أبدا فلا يرد أنه إذا خرج مع إيمان يكف يستحق العقوبة أبدا.

* الأصل

7 - علي عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخره، فإن الله عز وجل ربما أطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول:

وعزتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما أطلع الله على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا.

* الأصل

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد عبد الجبار، عن ابن فضال، عن أبي جميلة عن محمد بن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا هم أحدكم بخير أو صلة فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفاه عن ذلك.

* الشرح

قوله: (إذا هم أحدكم بخير أو صلة فإن عن يمينه وشماله شيطانين فليبادر لا يكفاه

ص:417

عن ذلك) النفوس البشرية ناقرة عن العبادات لما فيها من المشقة الثقيلة عليها، وعن صلة الأرحام والمبرات لما فيها من صرف المال المحبوب لها فإذا هم أحدكم بشيء من ذلك مما يوجب وصوله إلى مقام الزلفى وتشرفه بالسعادة العظمى فليبادر إلى امضائه وليعجل إلى اقتنائه فإن الشيطان أبدا في ممكن ينتهض الفرصة لنفثه في نفسه الأمارة بالسوء ويتحرى الحيلة مرة بعد اخرى في منعها عن الإرادات الصحيحة الموجبة لسعادتها وأمرها بالقبايح المورثة لشقاوتها ويجلب عليها خيله من جميع الجهات ليسد عليها طرق الوصول إلى الخيرات وهي مع ذلك قابلة لتلك الوساوس ومائلة بالطبع إلى هذه الخسائس فربما يتمكن منها الشيطان غاية التمكن حتى يصرفها عن تلك الإرادة ويكفها عن هذه السعادة وهذه الحالة مجربة مشاهدة في أكثر الناس.

* الأصل

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من هم بشيء من الخير فليعجله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة.

* الشرح

قوله: (فإن للشيطان فيه نظرة) في المصباح نظرت في الأمر تدبرت وأنظرت الدين بالألف اخرته والنظرة مثل كلمة بالكسر اسم منه وفي التنزيل «فنظرة إلى ميسرة» أي فتأخير.

* الأصل

10 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله ثقل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة، وإن الله عز وجل خفف الشر على أهل الدنيا كخفة في موازينهم يوم القيامة.

* الشرح

قوله: (إن الله ثقل الخير على أهل الدنيا كثقله في موازينهم يوم القيامة وإن الله عز وجل خفف الشر على أهل الدنيا كخفته في موازينهم يوم القيامة) المراد بأهل الدنيا كل من هو منها لامن هو طالب لها ومالك لزهراتها فقط ولكون الخير ثقيلا والشر خفيفا عليهم قل صدور الخير وكثر صدور الشر منهم وكان المراد بثقل الخير في الميزان إن له قدرا واعتبارا وعظمة بالذات والمضاعفة يوجب عظمة صاحبه وعلو قدره بخلاف الشر إذ له خفة وحقارة يوجب خفة صاحبه وتحقيره.

ص:418

باب الإنصاف والعدل

* الأصل

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسن ابن حمزة، عن جده [عن] أبي حمزة الثمالي، عن علي الحسين صلوات الله عليهما قال: كان رسول الله يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه وطهرت سجيته وصلحت سريرته وحسنت علانيته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله وأنصف الناس من نفسه.

* الشرح

قوله: (طوبى لمن طاب خلقه) أي الجنة أو طيب العيش في الدنيا والآخرة لمن طاب وحسن خلقه باتصافه بالأخلاق الحسنة (وطهرت سجيته) أي طبيعته عن الأخلاق القبيحة (وصلحت سريرته) أي قلبه بالعقايد الصالحة والنية الخالصة والمعارف الإلهية (وحسنت علانية) بالأعمال الصحيحة والأفعال الحسنة (وانفق الفضل من ماله) باخراج الحقوق الواجبة والمندوبة أو الأعم منهما أو مما فضل من الكفاف.

(وامسك الفضل من قوله) بحفظ لسانه عما لا يعنيه من فضول الكلام (وانصف الناس من نفسه) أي كان حكما على نفسه فيما كان بينه وبين الناس ورضي لهم ما رضى لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه. وفي المصباح نصفت المال بين الرجلين انصفه من باب قتل قسمته نصفين وأنصفت الرجل انصافا عاملته بالعدل والقسط والاسم النصفة بفتحين لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك.

* الأصل

2 - عنه، عن محمد بن سنان، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة؟ أنفق ولا تخف فقرا وأفش السلام في العالم واترك المراء وإن كنت محقا وأنصف الناس من نفسك.

* الشرح

قوله: (من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة) الأبيات جمع البيت وهو المسكن كالبيوت والضمان الالتزام يقال: ضمنت المال وبه ضمانا فانا ضامن وضمين التزمته ويتعدى بالتضعيف يقال ضمنته المال تضمينا أي ألزمته إياه والمعنى من يلتزم لي أربعة من الأعمال بسبب أربعة أبيات

ص:419

التزمتها له في الجنة، ثم أشار إلى الأعمال الأربعة على سبيل الاستيناف بقوله:

(انفق ولا تخف فقرا) فإنه لما رغب في الأربعة بذكر ثمرتها وهي أنها سبب لبناء بيت لصاحبها في الجنة صار محلا للسؤال فكان السايل قال ما هي حتى أفعلها فقال أنفق يعني انفق فضل مالك في ذوي الحاجات ولا تخف فقرا فإن الانفاق سبب للخلف والزادة وأيضا الفضل لا دخل له في الغني فلا يوجب فواته فقرا.

(وافش السلام في العالم) افشاء السلام، وهو الابتداء به على جميع الأنام إلا ما أخر به الدليل، سبب للألفة والالتيام وموجب لحسن المعاشرة وتكميل النظام، مع أنه عبادة في نفسه مطلوب في دين الإسلام (واترك المراء) أي الجدال والمنازعة.

(وان كنت محقا) وإن كان في المسائل العلمية بل هي أحق بترك المجادلة إلا بالتي هي أحسن كما قال تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن» وللنفس فيها مكائد عظيمة فالأولى تركها بالكلية إلا من شرفه الله تعالى بالنفس القدسية والكمالات العلمية والعملية فيمكن له التخلص من الأخلاق الرذيلة التي تحصل من المجادلة مثل التكبر والرياء والغضب والحسد والبغض والعجب وغيرها مما لا يخفى على المزاول لها ولهذا وردت الأخبار بالنهي عنها مطلقا رعاية للأكثر. (وانصف الناس من نفسك) وهو التزام العدل في المخالطة والمعاملة حتى يحكم بنفسه على نفسه وهو من أخص الصفات العدلية والفضائل البشرية، وبه يتم نظام العالم ويرتفع الجور في بني آدم.

* الأصل

3 - عنه، عن الحسن بن علي بن فضال، عن علي بن عقبة، عن جارود أبي المنذر قالت: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء إلا رضيت لهم مثله ومؤاساتك الأخ في المال وذكر الله على كل حال، وليس «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فقط ولكن إذا ورد عليك شي، أمر الله عز وجل به أخذت به، أو إذا ورد عليك شيء نهي الله عز وجل عنه تركته.

* الشرح

قوله: (انصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء لنفسك لهم مثله) من اتصف به لا يريد للناس إلا خيرا ويطلبه لهم بقدر الإمكان ويدفع عنهم شرا ويحكم لهم على نفسه لو كان الحق لهم ولا يأخذ منهم من المنافع إلا مثل ما يعطيهم ولا ينيلهم من المضار إلا مثل ما يناله منهم ( ومواساتك الأخ في المال) أي تشريكه وتسويته فيه يقال آسيته بمالي أي جعلته أسوة أقتدي أنا به ويقتدى هوبى

ص:420

وهو ينشأ من ملكة السخاء.

(وذكر الله على كل حال) وفي كل مكان سواء كانت الأحوال والأمكنة شريفة أم لا (ليس) أي ذكر الله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط) وإن كان مجموع ذلك من حيث المجموع وكل واحد من أجزائه ذكرا أيضا.

(ولكن إذا ورد عليك شيء أمر الله عز وجل به أخذت به أو إذا ورد عليك شيء نهى الله عز وجل عنه تركته) الذكر ثلاثة أنواع ذكر باللسان وذكر بالقلب والثاني نوعان أحدهما التفكر في عظمة الله وآياته والثاني وذكره عند أمره ونهيه والثالث أفضل من الأول والثاني أفضل منهما، ومن العامة من فضل الأول على الثالث مستندا بأن في الأول زيادة عمل الجوارح وزيادة، العمل يقتضى زيادة الاجر، وفيه أن الزيادة ممنوعة وعلى تقدير التسليم فليست الضابطة كلية لظهور أن الذكر القلبي أشرف الأذكار وأعرق فيها، ومن ثم روى «نية المؤمن خير من علمه» واختلفوا في أن الذكر القلبي هل تعرفه الملائكة وتكتبه أم لا فقيل بالأول لأن الله تعالى يجعل له علامة يعرفه الملائكة بها وقيل بالثاني لأنهم لا يطلعون عليها.

* الأصل

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن علي بن المعلى ، عن يحيى بن أحمد، عن أبي محمد الميثمي، عن روي بن زرارة عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ألا إنه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله إلا عزا.

* الأصل

5 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قالت : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الأخير بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه.

* الشرح

قوله: (ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب ليس «حتى» هنا لانقطاع قربه يعد الحساب بل للمبالغة في دوام قربه لأنه إذا كان عند حساب الخلائق في ظل قربه واحسانه وضيافته إكرامه وانعامه كان بعده في ذلك بطريق أولى.

(رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده) ظاهره عدم الجور والتعدي في التأديب ويمكن أن يراد به العفو في حقه والعفو أنسب.

ص:421

(ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة) أي مشى بينهما في أداء رسالة أو قصد أصلاح أو مصاحبة، وقوله «بشعيرة» مبالغة في ترك الميل بالكلية وأقل الميل أن يقول ما يوافق طبع أحدهما ويخالف طبع الآخر.

(ورجل قال بالحق فيما له وعليه) هذا هو المراد في هذا الباب لأنه الإنصاف والعدل في القول وهو أن يرضى لغيره ما يرضى لنفسه يكره له ما يكره لنفسه.

* الأصل

6 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن زرارة، عن الحسن البزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في حديث له: ألا اخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه، فذكر ثلاثة أشياء أولها إنصاف الناس من نفسك.

* الشرح

قوله: (فذكر ثلاثة أشياء أولها انصاف الناس من نفسك) هذا أشد لأنه أشق على النفس ولعل الآخرين المواساة وذكر الله في كل حال كما يظهر من الأخبار الآتية أو عدم الميل وعدم الحيف بقرينة السابق.

* الأصل

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، ومؤاساة الأخ في الله، وذكر الله عز وجل على كل حال.

* الأصل

8 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن زرارة، عن الحسن البزاز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ألا أخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه قلت: بلي قال: إنصاف الناس من نفسك، ومؤاساتك أخاك، وذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله أكبر. وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر الله جل وعزفي كل موطن، إذا هجمت علي طاعة أو على معصية.

* الشرح

قوله: (إذا هجمت على طاعة أو على معصية) أي دخلت فيهما ووردت عليهما مع القدرة على امضاء هو النفس كما يشعر لفظ الهجوم.

* الأصل

9 - ابن محبوب، عن أبي اسامة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها، قيل: وما هن؟ قال: المؤاساة في ذات يده، والإنصاف من نفسه، وذكر الله كثيرا، أما إني

ص:422

لا أقول: سبحان الله والحمد لله [ولا إله إلا] ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه.

* الشرح

قوله: (ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من خصال ثلاث يحرمها) أي يمتنع منها ويتركها ولا يتصف بشيء منها، تقول: حرمته حراما من باب شرف وعلم إذا امتنعت فعله وفيه ترغيب للمؤمن في الاتصاف بها وفي قوله (ولكن ذكر الله عند ما أحل له وذكر الله عند ما حرم عليه) حث على ذكره تعالى في جميع الأحوال لأن القلب يميل مرة إلى الخلق ومرة إلى الباطل تارة إلى الخير وتارة إلى الشر والجوارح تابعة له في جميع ذلك فلا بد للمؤمن من أن يكون ذاكرا لله تعالى في جميع حركاته وسكناته وتقلب قلبه ونظراته وناظرا إلى جميع أعماله القلبية والبدنية فإن كان خيرا أمسكه بحبل التذكر والإيقان ومال إليه بنور القوة والإيمان، وإن كان شرا يدعه من خوف العقوبة والخذلان كما روي «إذا عرض لك أمر فتدبر عاقبته فإن كان خيرا فامضه وإن كان شرا فانته».

* الأصل

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن جده أبي البلاد رفعه قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يرد بعض غزواته، فأخذ بغرز راحلته فقال: يا رسول الله علمني عملا أدخل به الجنة، فقال ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم، خل سبيل الراحلة.

* الشرح

قوله: (فأخذ بغرز راحلته) الغرز بالفتح والسكون ركاب الراحلة من جلد وإذا كان من خشب أو حديد فركاب.

* الأصل

11 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن عبد الكريم، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع إذا عدل فيه وإن قل».

* الشرح

قوله: (العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن) العدل ملكة للنفس تمنعها من الباطل وتحفظها في جميع حركاتها وسكناتها الظاهرة والباطنة من الميل إلى الجور وهو في مذاق العادل بل الناس كلهم أحلى من الماء البارد في مذاق العطشان ويتضمن هذا تشبيه بالماء في ميل الطبع والالتذاذ والوجه في الماء أجلى وأظهر وفي العدل أتم وأكمل كما يشعر به اسم التفضيل (ما أوسع العدل) كأنه تعجب في سعته باعتبار تعلقه بكل أمر من الأمور الظاهرة والباطنة غير مختص ببعض دون بعض كالعقائد أو الأقوال مثلا أو في شرفه وسعة نفعه لأنه إذا وقع العدل في الناس تنزل السماء رزقها وتخرج

ص:423

الأرض بركتها ويتم نظام العالم، وذلك (إذا عدل فيه) أي في العدل إذ لو جار فيه بتعلقه بأفعال بعض الجوارح والأعضاء دون بعض لم تتحقق سعته بأحد المعنيين المذكورين (وإن قال) أي العدل ووجه قلته أنه يتوفق على الكمال النفس الناطقة بالعلم والحكمة وكمال القوة الغضبية بالشجاعة وكمال القوة الشهوية بالعفة.

وبالجملة على استقامة القوى الظاهرة والباطنة حتى يكون جميع الأفعال والأعمال على وفق العقل والشرع، ومن البين أن الاتصاف بهذه الخصال على وجه الكمال لكونه في غاية الصعوبة والإشكال ليس إلا لواحد بعد وأحد هذا الذي ذكرنا في * الشرح هذا الحديث من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

* الأصل

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره.

* الشرح

قوله: (من أنصف الناس من نفسه رضى به حكما لغيره) الظاهر أن رضى على صيغة المجهول أي رضى الله تعالى أو كل عاقل أن يكون هو حاكما لغيره يحكم بين الخلق لأن بناء الحكم على الإنصاف والعدل، وفيه حث على الاتصاف به لأن السياسة البدنية والرئاسة المدنية متوقفة عليه ومفهومه أن غير المتصف به لا يصلح للحكومة.

* الأصل

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن يوسف بن عمران بن ميثم، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى آدم (عليه السلام) إني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات، قال: يا رب وما هن؟ قال: واحدة لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين الناس قال: يا رب بينهن لي حتى أعلمهن، قال: أما التي لي فتعبدني، لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فأجزيك بعملك أحوج ما تكون إليه وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره ما تكره لنفسك.

* الشرح

قوله: (إني سأجمع لك الكلام في أربع كلمات) دل على أن هذه الكلمات جامعة لكل دال على الخيرات وهو كذلك لأن العارف بالله والسائر إلى الله قصده أمور أربعة الأول هو الله تعالى وحده لا شريك له والكلمة الأولى إشارة إليه، والثاني: تحصيل المثوبات الأخروية عند كمال الحاجة إليها، والكلمة الثانية إيماء إليه، والثالث إصلاح حاله في الدنيا وتقويم شأنه وقت السير بتحصيل ما ينبغي

ص:424

وترك ما لا ينبغي بعون الله وتوفيقه، والكلمة الثالثة رمز إليه، والرابع العدل بين رفقائه والإنصاف فيما بينهم ليتمكن لهم السير إلى الله وتكمل نظامهم، وله مدخل عظيم في بقاء النوع والوصول إلى المقصود، والكلمة الرابعة إشارة إليه، وإذا تأملت في هذه الكلمات وجدت الحكمة العملية والنظرية مندرجة فيها وقد قسم أرسطاطاليس العدل على ثلاثة أقسام الأول رعاية العبودية، والثاني رعاية حقوق المشاركة، والثالث رعاية حقوق الاسلاف، والكلمة الأولى في هذا الحديث إشارة إلى الأول، والكلمة الأخيرة إلى الأخيرين.

* الأصل

14 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن غالب بن عثمان، عن روح إن أخت المعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إتقوا الله وإعدلوا فإنكم تعيبون على قوم لا يعدلون.

* الشرح

قوله: (اتقوا الله واعدلوا) أي أطيعوا الله في أوامره ونواهية واعدلوا فيما بينكم ولا تجوروا (فإنكم تعيبون على قدم لا يعدلون) بين الناس فينبغي أن تعدلوا حتى لا يعيب عليكم غيركم ولئلا يتوجه عليكم اللوم والإنكار في قوله تعالى (لم تقولون مالا تفعلون».

* الأصل

15 - عنه، عن ابن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وأطيب ريحا من المسك.

* الشرح

قوله: (العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وطيب ريحا من المسك) رغب في العدل التابع للإعتدال في القوى الإنسانية لتشبيهه أو لا بالشهد وهو العسل في الحلاوة وميل الطبع وثانيا بالزبد في اللينة والزبد مثال قفل ما يستخرج بالمخض من لبن البقر والغنم وثالثا بالمسك في الريح المرغوب فيه وهذه المعاني وإن كانت في المشبه عقلية خفية عند الجاهلين لكنها كحسية جلية عند العارفين.

ص:425

* الأصل

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن عثمان بن جبلة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش الله يوم لا ظل ظله: رجل أعطى الناس من نفسه، ما هو سائلهم، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله رضى ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه، فإنه لا ينفي منها عيبا إلا بداله عيب، وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس.

* الشرح

قوله: (في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله) ضمير إلا ظله يحتمل أن يعود إلى الله وأن يعود إلى العرش فعلى الأول يحتمل أن يكون لله سبحانه يوم القيامة ظلال غير ظل العرش ولكن ظل العرش أعظمها وأشرفها يخص الله سبحانه من يشاء من عباده ومن جملتهم صاحب هذه الخصال الثلاث وعلى الأخير لا ظل هناك إلا ظل العرش وهو ينافي ظاهرا ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرض القيمة نار ما خلا ظل المؤمنين فإن صدقته تظله» ومن طريق العامة «المرء في صدقته حتى يقتضى الله بين الخلايق» فإنه يدل على أن في القيامة ظلا غير ظل العرش، ومن ثم قيل إن في القيامة ظلالا بحسب الأعمال تقى أصحابها عن حر الشمس والنار وأنفاس الخلايق ولكن ظل العرش أحسنها وأعظمها، ويمكن الجواب بأنه ليس هناك إلا ظل العرش يستظل بها من يشاء من عباده المؤمنين ولكن لما كان ظل العرش لا ينال إلا بالأعمال وكانت الأعمال باعتبار أن الأعمال سبب لإستقرار العامل فيه ثم الكون في ظل العرش كما ذكرناه آنفا يحتمل حمله على الحقيقة بأن يظلهم الله تعالى من حر الشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلائق، ويحتمل أن يكون كناية عن حفظهم من المكاره وجعلهم في كنف حمايته ورعايته، ويحتمل أن يكون الظل كناية عن الراحة والتنعم ومنه قولهم عيش ظليل (ورجل لم يقدر رجلا ولم يؤخر رجلا حتى يعلم أن ذلك لله رضى) يعني أنه يراقب نفسه في جميع الحركات الظاهرة والباطنة ويجعلها موافقة للقوانين الشرعية (فإنه لا ينفى منها عيبا إلا بداله عيب) فيكون دائما مشغولا بعيب نفسه وتطهيرها عنه فيكون فارغا عن عيب الناس كما أشار إليه بقوله (وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس) لأن النفس ما دامت الدنيا محتاجة إلى المعالجة والمداواة آنا فآنا.

* الأصل

17 - عنه، عن عبد الرحمن بن حماد الكوفي، عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن جعفر بن إبراهيم الجعفري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من واسى الفقير من ماله وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا.

* الشرح

قوله: (فذلك المؤمن حقا) أريد أنه المؤمن الكامل الذي تكاملت أخلاقه الفاضلة وتمت أوصافه الكاملة فمن وجد فيه الأمران علم أنه في غاية الكمال من الإيمان.

* الأصل

18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن خالد بن نافع بياع السابري، عن

ص:426

يوسف البزاز قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما تدارأ اثنان في أمر قط، فأعطى أحدهما النصف صاحبه فلم يقبل منه إلا أديل منه.

* الشرح

قوله: (ما تدرأ اثنان - الخ) تدارأوا تدافعوا في الخصومة والخدعة، وأديل منه أي جعلت الغلبة والنصرة له عليه يقال أدالنا الله على عدونا أي نصرنا عليه وجعل الغلبة لنا وفي الفائق أدال الله زيدا من عمرو نزع الله الدولة من عمرو وآتاها زيدا.

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله جنة لا يدخلها إلا أحدهم من حكم في نفسه بالحق.

20 - على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

العدل أحلي من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل.

تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله باب الاستغناء عن الناس.

ص:427

إستدراك

قد تكرر في ما مضى ذكر القلب مرادا به النفس الناطقة إقتباسا من القرآن الكريم (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» أي من نفسين حتى يكون بأحدهما ابنا لواحد وبالآخر ابنا لآخر، أو بأحدهما زوجة وبالاخر أما كما في الظهار وتكرار أيضا في كلام الشارح الإشارة إلى تجرد النفس وهو أهم مبادئ عليم الأخلاق مثل قوله «القلب من عالم القدس» في الصفحة 361 والقلب في اصطلاح علماء الأخلاق هو القوة العاقلة والنفس الناطقة والمراد بكونه من عالم القدر تجرده، فرأينا من أوجب ما علينا بيان هذا المقصد المهم ولا يخفي أن كثيرا مما نرى في خواص النفوس وآثارها تدل على وجود جوهري مستقل عن البدن وأن الأعضاء آلات يحتاج إليها في العمل ويفقد العمل بفقد الآلات وكذلك الحواس الظاهرة آلات لا ينعدم صاحب الآلات بفقد إنها والعاقلة لا تحتاج في إدراكها إلى آلة حتى ينعدم التعقل بانعدامها ولو كانت العاقلة أيضا بآلة مع فقد سائر المشاعر.

وقال بعض حكمائنا أن الحافظة للصور المثالية التي سموها الخيال أيضا غير آلية لا تفنى بفناء الدماغ، واحتجوا على عدم احتياج العاقلة إلى الدماغ وعدم حلول الصور المعقولة فيه بوجوه:

الأول: أن الصورة العقلية غير منقسمة ولو كانت منقسمة لإنتهى إلى أجزاء غير منقسمة وغير المنقسم لا يحل في جسم منقسم.

الثاني أن القوة الحالة في الآلة لا تشعر بنفسها كالباصرة لا تبصر العين والعقل يشعر بذاته.

الثالث: أن العقل يدرك المعقولات ولا يثقل عليه حملها وأن كثرت ولا يكل ويتعقل جميعها متساوية في الوضوح والقوى الحاسة الجسمانية كالبصر يكل ولا يبصر الضعيف بعد إدراك النور القوى إلا بعد إستراحة ما ولا يشم الأنف الرائحة الضعيفة أثر القوية لشده تأثره بالقوية وكلاله. ولا يكل العالم إلا عند التفكر لتحصيل المعلومات في المرة الأولى لأن الفكر من المتخلية الثابتة في الدماغ وأما بعد تعقل المعقولات فلا يكل باستمرار التعقل كالبصر.

الرابع: أن العقل لا يضمحل بالشيخوخة وضعف الأعضاء وإنما يضعف الفكر والقدرة على تحصيل ما لم يحصله والعمل بما عليم الضعف الآلة وأما نفس التعقل فهو ثابت باق ويدرك حكما بعد حكم من غير أن يعجز، ومن زعم أن الشيخ يضعف عقله بتقدم السن اشتبه عليه الفكر بالتعقل أو ما يتوقف من العلوم على معونة الحواس بما لا يتوقف عليها والطبيب إذ شاخ وضعف يستشار ولا

ص:428

يعالج باليد لضعف يده، ولا يميز المرض لضعف عينه وإذنه ولا يزيد علمه لضعف فكره وحافظته، وهذه كلها غير التعقل ومعنى قوله (لكيلا يعلم بعد علم شيئا يؤول على هذا.

الخامس: أن عدم كون الإدراك من صفات الجسم بديهي والتشكيك فيه يساوق التشكيك في سائر الأمور البديهية وكيف يمكن أن يدرك جسم الصور الحالة فيه ولو كان حلول صورة ما في الدماغ إدراكا للدماغ فلم لا يدرك الجدار النقش الحاصل فيه، فإن قيل هذا المزاج خاص للدماغ ولتركيبه من عناصر خاصة ليست موجودة في الجدار، قلنا فلم لا يدرك الدماغ الملاسة والخشونة والشكل والحفر وسائر ما حل في أجزائه من الإعراض والصفات وما الفرق بين الصورة المعقولة والعلوم الحاصلة في الدماغ وبين سائر صفات نفسه كالشكل والملاسة وكلاهما حالة جسمانية عارضة لجسم الدماغ والإدراك عندكم عبارة عن حلول الصورة في جسم له هذا المزاج والتركيب ولا مناص عن ذلك إلا بأن يلتزم بأن الإدراك ليس حلول حالة جسمانية في جسم بل شيء آخر من غير سنخ حلول عوارض الأجسام.

وقال الشيخ: لو كان العقل في دماغ لكان العقل أما دائم التعقل للدماغ وأما أن لا يتعقله أصلا، ونعم ما قال وهذا الوجه الخامس هو الحجة القاطعة. وقد مر في الصفحة 356 و 311 وغيرهما ما يؤكد المقصود وقد علمنا من تتبع ما يسمى في علم الأخلاق رذائل ومهلكات أنها جميعا تنسب إلى الغرائز الطبيعية المعلومة للقوة الواهمة كالشهوة والغضب والبعض والحسد فالسعادة كل السعادة في إخضاع الوهم وقهره حتى لا يسترسل في الشهوات ويتبع العقل ولا يمنعه من كسب الفضائل وقد ظهر من ذلك أن الوهم وما يتفرغ عليه ليس العالم الروحاني والتجرد في شيء ولاحظ له من القدس أصلا، والعجب أن الغزالي مع تبحره في هذا العلم نقض قول الحكماء في تجرد العاقلة بان الوهم أيضا لا ينقسم مدركاته فإن معنى الحسد والغضب والشهوة وأمثالها لا اجزاء مقدارية لها فلا ينقسم كمعنى الإنسان والحيوان فليست جسمانية وهذا عجيب من مثله لأن معنى الحسد والغضب وأمثالها كلى لا يدركه الحيوان البتة وهو مجرد من جهة كونه معقولا حاصلا للقوة والعاقلة وإنما الحاصل للحيوان مصاديق هذه المعاني فإذا رأت الشاة ذئبا عرضت في بدنها حالة تبعثها على الفرار وضربان القلب ونسمي نحن معاشر البشر تلك الحالة خوفا ولا تتعقل الشاة معنى الحالة ولا يعرف لها مفهوما ولا لفظا كاحسان الرضيع بوجع رأسه من غير أن يكون له تصور مفهوم إلا لم وجميع ما ذركه في التهافت في نقض تجرد النفس الناطقة من هذه القبيل ناش عن قلة الاعتبار.

ص:429

والخيال في اصطلاح الحكماء هو القوة الحافظة للصور المدركة بالحسن المشترك واختلف الحكماء في تجرد الخيال المصطلح عندهم فالشيخ الرئيس وأتباعه وأنكروا تجرده وجعلوه من عوارض الدماغ بمعنى إنه آلة لا مدرك وشيخ الاشراق ومن تبعه ومنهم صدر المتألهين - قدس سره - اعتقدوا تجرده ولذلك أمكنهم الالتزام بأن روح الحيوانات التي الخيال مجردة تبقى بعد موتها وهو متوقف على إثبات أن الحيوان درك وحدة ذاته طول عمره مع تبدل أجزاء بدنه وأنه يبقى مع جميع ما أدركه سابقا واختزن في خياله وبالجملة يتوقف على إحاطتنا بخصوصيات إدراكه الخيالي وأما الإنسان فيذكر غالبا ما أحسه بعد أربع سنين من ولادته والتزموا بتجرد الخيال إذ لا يتعقل حلول صور كثيرة متراكبة بعضها على بعض وبعضها عظمية وبعضها صغيرة متضادة بعضها مع بعض في سنين متطاولة على جسم صغير من غير أن يشوش الصور ويبطل بعضها بعضا.

والحيوان حاله غير معلومة لنا فلعله لا يذكر ما مر عليه سنة أو أقل لكن الحدس القوي يؤكد وجود صفات التجرد في خياله وليس هنا موضع التفصيل في ذلك وأما اعتراض الغزالي على الحكماء في استدلالهم على تجرد النفس ببقاء وحدتها طول العمر مع تبدل البدن بأن الحيوان أيضا كذلك يتبدل أجزائه مع أنه واحد من أول نموه إلى أن يموت ولا يقولون بتجرده.

فالجواب أنهم لم يعلموا وحدته بالمعنى الذي نراه في الإنسان من حفظ شخصيته ومدركاته وعلومه ولا تكفى الوحدة العرفية وعلى فرض ثبوت وحدته حقيقة يقولون بتجرده.

فإن قيل حكمت فيما سبق (في الصفحة 349) بأن الحافظة كسائر الحواس الباطنة جسمانية وهي اعتياد الأعصاب أو الدماغ، قلنا غرضنا هناك الذاكرة فان الحافظة قد نطلق على قوة تحل فيها لصور وقد تطلق على قوة تسترجع المخزون نحضرها عند الحس المشترك والجسماني هو الثاني دون الأولى. راجع الصفحات (27 و 41 و 176 و 292 و 307 و 311 و 320 و 348 و 350 و 356).

(ش)

ص:430

فهرس الآيات

كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدرك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون) ...8

إن الله فالق الحب والنوى) ...12

يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) ...12

أو من كان ميتا فأحييناه)...12

الينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) ...12

( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ) ...13

وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى)... 17

(قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدین ...19

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد به عزما) ....21

(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)...29

ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل)..29

سیما هم في وجوهم من أثر السجود)...32

(فطرة الله التي فطر الناس عليها )...38

ألست بربکم) ...38

فطرة الله التي فطر الناس عليها) ..39

(حنفاء لله غير مشرکین به)...39

(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي)... 39

فطرة التي فطر الناس عليها) ...41

صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة)...44 فقد استمسك بالعروة الوثقی) ...44

صبغة الله و من أحسن من الله صبغة)...45

ص:431

صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) ...45

أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) ...46

وأيدهم بروح منه)...46

هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنین) ...48

(وألزمهم كلمة التقوى) ...48

(حنيفا مسلمة) ...49

اليبلوكم أيكم أحسن عملا) ... 50

(قل كل يعمل على شاكلته) ... 50

إلا من أتى الله بقلب سليم) ...54

ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذله في الحيوة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) ...55

فاصبر كما صبر أولوالعزم من الرسل) ...60

(والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ...63

من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظة ) ...64

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم) ...67

أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم) ...70

قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) ... 76

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ...81

يضاعفه له أضعاف كثيرة) ...81

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آیات محکمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وإيتاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ... 87

أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) ...87

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من بنیب) ...87

إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والبتين من بعده)...88

ص:432

(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) ... 88

وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إنه كان بعباده خبيرة بصيرة) ... 88

ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان ...88

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوم قد جعلنا لوليه سلطان قلايشرت في الممثل إنه كان منصورا ) ...88

(فأنذرتكم نارا تلظى . لا ... 89

وأما من اوتی کتابه وراء ظهره ، فسوف يدعو ثبورة ، ويصلي سعيرة . إنه كان في أهله مسرورة . إنه ظن أن لن يجور بلی) ...89

وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم. وتصلية جحيم) ...89

وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه - إلى قوله - إنه كان لا يؤمن بالله العظيم) ...89

وبرزت الجحيم للغاوين . وقيل لهم: أينما كنتم تعبدون . من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون...89

كذبت قبلهم قوم نوح) ...89

(كذبت قوم لوط) ...89

(وما أضلنا إلا المجرمون) ...89

كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اڈارکوا فيها جميعا) ... 89

ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)... 89

إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعير خالدين فيها أبدأ لا يجدون ولي ولا نصيرة ) ... 89

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمة إنما يأكلون في بطونهم نار وسيصلون سعيرة) ...90

إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا یزکیهم ولهم عذاب أليهم) ...90

الراني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنین)...90

الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانین جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة

ص:433

أبدأ وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)... 90

(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقأ لا يستوون) ...90

إلا ابليس كان من الجن ...90

إن الذين يرمون المحصنات الغافلان المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنهم وأيدهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون) ...90

فأما من أوتي كتابه بيمينه . فأولئك يقرؤن کتابهم ولا يظلمون فتية) ... 90

(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا علي أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوه في ... 90

(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آیات بینات لعلكم تذكرون . الانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن کنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)...90

( وما أضلنا إلا المجرمون )...95

إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر ...102

الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) ...102

(إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) ... 102

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)... 102

وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يفكر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم ... 102

وإما ينسيك الشيطان فلا ... 102

(فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ...102

(قد أفلح المؤمنون الذينهم في ...102

وإذا مژوا باللغو مژواکرام )...102

(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) ...102

وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)...102

(وما كنتم تستترون أن يشهد ...102

ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ... 102

( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ...103

ص:434

فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخمنتموهم فشدوا الوثاق فاما من بعد وإما فداء | حتى تضع الحرب أوزارها) ...103

(واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات الصوت الحمير)... 103

اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)... 103

(يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) ... 103

وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد) .. وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم) ...103

وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا...103

نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدی)...103

( وقال الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) ...104

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ...107

(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )...107

( وقولوا للناس حسنا )...108

( فلا تقعد بعد الذكري)...108

( مع القوم الظالمين )...108

( يغضوا من أبصارهم)...109

(ويحفظوا فروجهم) ...109

إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) ...114

(سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ...121

تلك السل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلام الله ورفع بعضهم فوق ...122

(هم درجات عندالله ) ...122

الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم...122

(فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما و درجات منه ومغفرة ...122

لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا ... 122

ص:435

ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصه في سبيل الله ولا يطون موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو ...122

فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)...122

لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين )... 131

و تصلية جحيم أن هذا لهو حق الیقین) ... 131

(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا...145

إنما يقتبل الله من المتقين) ...145

وإن من أمة إلا خلافيها نذير)...146

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) ...155

( وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا )...191

وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في مدينة وكان تحته کنژ لهما) ...191

وكان تحته کنژ لهما) ...194

إن المتقين في مقام أمين)... 208

(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ...209

(لئن شكرتم لأزيدنكم)...210

(أدعوني أستجب لكم) ...210

إنما يخشى الله من عباده...219

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا)...219

( فلا تخشوا الناس ...220

(ولمن خاف مقام ربه جتتان)...225

إنما يوقي الصابرون أجرهم بغير حساب) ...240

من يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ...249

(ولمن خاف مقام ربه جنتان) ...253

وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجلعناه هباء منثورا)...255

ص:436

(إصبروا وصابروا ورابطوا)...257

(إصبروا وصابروا ورابطوا)...257

(فاتقوا الله ربكم فيما افترض عليكم) ...258

يا عبادي الصديقين تنعموا بعبادتي في الدنيا ) ... 261

(قل كل يعمل على شاكلته)...268

واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرأ جميلا وذرني والمكتبين أولي السيئة ... 278

ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدین) ... 278

قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد ذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتيهم نصرنا)...278

ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ، فاصبر على ما يقولون)

عترته بالأئمة...278

(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون)... 278

وتمت كلمة ربك الحسني على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كان يعرشون)...278

(اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ... 278

(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) ...278

(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس الثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ...288

الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم) ... 289

(وأولئك هم المهتدون)...289

وقليل من عبادي الشكور)...292

وأطعموا القانع والمعتر)...292

(ولئن شكرتم لأزيدنكم)...292

(ولئن كفرتم إن عذابي لشدید) ...293

437

وأما بنعمة ربك فحدث) ...293

(طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) ...294

(إنا فتحنا لك فتحا مبينة ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ...294

(رب أنزلني منزلا مباركا و...296

(رب أدخلني مدخل صدقي و أخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) ... 296

(يمنون عليك أن أسلموا قل لا تموا على إسلامكم بل الله من علم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) ...300

( غدوها شهر رواحها شهر )...308

(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسین )...325

( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله إليه راجعون ) ...326

الا تزكوا أنفسكم ولكن الله يزكي من يشاء ) ...329

( وكل صغير وكبير مستطر)...335

ألم تر إلى الذين قيل لهم كقوا أيديكم)...336

(وقولا له قولا لينا) ...343

( حبب إليكم الإيمان وزينه في وقلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان وأولئك هم الراشدون)...365

الكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم) ...377

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ... 379

(ومن یرد ثواب الدنيا نؤته منها ...379

كلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) ...385

(وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)...392

( يوصيكم الله في أولادكم )...401

(ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا) ...407

( وجادلهم بالتي هي أحسن)...420

ص:438

فهرس المحتویات

کتاب الإیمان والکفر...3

باب طينة المؤمن والكافر...3

باب آخر منه »...15

باب آخر منه...21

(باب) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجاب وأقر لله عز وجل بالربوبية...32

باب كيف أجابوا وهم ذر...35

باب فطرة الخلق على التوحيد...36

(باب) كون المؤمن في صلب الكافر...42

باب إذا أراد الله عز وجل أن يخلق المؤمن...43

(باب) في أن الصبغة هي الإسلام...44

باب في أن السكينة هي الايمان...46

باب الإخلاص...49

باب الشرائع...57

(باب دعائم الإسلام)...61

(باب) أن الإسلام يحقن به الدم (وتؤدي به الأمانة) وأن الثواب علي الإيمان...74

باب إن الإيمان يشرك الاسلام والاسلام لایشرک الإیمان...78

باب آخر منه وفيه أن الإسلام قبل الإيمان...85

باب...87

(باب) في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها...101

باب السبق إلى الإيمان...121

باب درجات الإيمان...130

ص:439

(باب آخر منه)...135

باب نسبة الإسلام...138

باب خصال المؤمن...143

(باب)...151

باب صفة الإيمان...159

باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الايمان...163

باب حقيقة الإيمان واليقين...168

باب التفكر...174

باب المكارم...178

باب الرضا بالقضاء...196

باب التفويض إلى الله والتوكل عليه...206

(باب) (حسن الظن بالله عز وجل)...227

(باب الاعتراف بالتقصير)...232

باب الطاعة والتقوى...235

(باب الورع)...244

باب العفة...251

باب اجتناب المحارم...253

باب أداء الفرائض...257

باب استواء العمل والمداومة عليه...259

باب العبادة...261

باب النية...265

باب الإقتصاد في العبادة

باب...269

باب الإقتصاد فی العبادة...271

ص:240

باب من بلغه ثواب من الله على عمل...274

باب الصبر...277

باب الشکر...291

باب حسن الخلق...303

باب حسن البشر...311

باب الصدق و أداء الأمانة...313

باب الحیاء...317

باب العفو...319

باب کظم الغیظ...323

باب الحلم...328

باب الصمت . حفظ اللسان...333

باب المداراة...343

باب الرفق...347

باب التواضع...354

الحب فی الله والبغض فی الله...363

باب ذم الدنیا والزهد فیها...372

باب ...405

باب القناعة...407

باب الکفاف...412

باب تعجیل فعل الخیر...415

باب الإنصاف و العدل...419

إستدراک...428

ص :441

المجلد 9

اشاره:

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب الاستغناء عن الناس

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس.

* الشرح:

قوله (شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس) الشرف علو القدر ورفعته والعز والعزة بالكسر بمعنى وهو القوة في الدين أو الغلبة على الأمثال في اليقين، والعزيز من لا يعادله شيء ولا له نظير، والحمل للمبالغة. وقيام الليل سبب للشرف والرفعة، والاستغناء عن الناس سبب للعزة والمنعة لأن من استغنى عن الناس ظاهرا بترك السؤال، وباطنا بقطع الطمع عنهم صار عزيزا عند الخالق والخلق، ومن سألهم وطمع ما في أيديهم ورفع حاجته إليهم فقد ذل; ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ورضي بالذل من كشف ضره» وذلك لأن من كشف القناع عن وجه ضره وسوء حاله علم أنه يرى بعين الحقارة فقد رضي بالذل وإلا لم يكشفه اختيارا.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه.

* الشرح:

قوله (إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا عند الله) الظاهر أن قوله «ولا يكون» عطف إخبار على إنشاء، ويمكن أن يكون الواو للحال، واليأس القنوط، وقد يئس من الشيء ييأس من باب علم، وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما، فهو شاذ، ورجل يؤوس. قال المبرد: ومنهم من يبدل في المستقبل من الياء الثانية ألفا ويقول يائس.

وأشار إلى بيان الشرطية والتنبيه عليه بقوله: (فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه) إذ العبد انقطع عن الخلق إلى الله واتصل به اتصالا روحانيا وقرب منه قربا معنويا، إذا ناداه لباه وإذا سأله أعطاه، بل صارت إرادته كإرادته وقدرته كقدرته، كما دل عليه بعض الروايات.

3 - وبهذا الإسناد، عن المنقري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس ومن لم

ص:3

يرج الناس في شيء ورد أمره إلى الله عز وجل في جميع اموره استجاب الله عز وجل له في كل شيء.

* الشرح:

قوله (رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس) قطع الطمع خير كثير متضمن لغيره من الخيرات كلها لأن الاتصاف به يوجب الانقطاع عن الخلق والاتصال بالحق، وهو في نفسه خير، وكل خير غيره إما موقوف عليه أو لازم له غير منفك عنه.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء، عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: طلب الحوائج إلى الناس استلاب للعز ومذهبة للحياء، واليأس مما في أيدي الناس عز المؤمن في دينه والطمع هو الفقر الحاضر.

* الشرح:

قوله (طلب الحوائج إلى الناس استلاب للعز ومذهبة للحياء) إما أنه سبب لسلب العز فلأنه يجلب الذل والاحتقار كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أزرى بنفسه من استشعر الطمع» أي احتقر بنفسه من جعل الطمع شعارا له، وإما أنه آلة لذهاب الحياء فلأنه فتح باب لوم وهتك حجاب الحياء المانع من ارتكاب ما يلام به (واليأس مما في أيدي الناس) أي تفريغ القلب عنه وقطع الطمع والرجاء منه (عز للمؤمن في دينه) وسبب لرفعته وعلو منزلته عند الله وعند المؤمنين والملائكة المقربين.

(والطمع هو الفقر الحاضر) لأن الله تعالى يكله إلى نفسه ويحيله إلى غيره وهو فقر حاضر، ومن العجب أن الطامع يطلب اليسر بالعسر ويغفل أن الشيء ليس بمحصل لضده.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): جعلت فداك اكتب لي إلى إسماعيل بن داود الكاتب لعلي أصيب منه، قال: أنا أضن بك أن تطلب مثل هذا وشبهه ولكن عول على مالي.

* الشرح:

قوله (أنا أضن بك أن تطلب مثل هذا) ضن بالشيء يضن ضنا من باب علم: بخل، ومن باب ضرب لغة (ولكن عول على مالي) عولت به وعليه: استعنت، أي: استعن بمالي.

6 - عنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن معاوية بن عمار، عن نجم بن حطيم الغنوي. عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (اليأس مما في أيدي الناس عز المؤمن في دينه أوما سمعت قول حاتم:

إذا ما عزمت اليأس ألفيته الغنى * إذا عرفته النفس والطمع الفقر

* الشرح:

قوله (أو ما سمعت قول حاتم) لم يذكره للاستشهاد بل للشهرة والدلالة على أن ذلك

ص:4

مما يذعن به العاقل وإن لم يكن من أهل الدين.

(إذا ما عزمت اليأس) العزم: العقد المؤكد المعرى من التردد، وألفيته بمعنى وجدته، والضمير راجع إلى الياس، وحمل الغنى عليه للمبالغة، و «إذا» ظرف ل «ألفيته» واللام في الفقر يفيد الحصر كالسابق.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك.

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد قال: حدثني علي بن عمر، عن يحيى بن عمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول، ثم ذكر مثله.

* الشرح:

قوله (ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم) أي ليجتمع في قلبك أمران بالنسبة إلى الناس: الأول اعتقادك بأنك مفتقر إليهم لأن الإنسان مدني بالطبع يعاون بعضهم بعضا في تحصيل المقاصد، والثاني: اعتقادك بأنك مستغن عنهم غير محتاج إلى السؤال عنهم لأنه تعالى تكفل أرزاق العباد وأمرهم بالسؤال عنه وهو مسبب الأسباب إن شاء هيأ أسباب مقاصدهم، وفائدة الأول حسن المصاحبة والمخالطة معهم بلين الكلام وحسن البشر والطلاقة ونحوها لأن ذلك له مدخل عظيم في تحصيل المقاصد وتكميل النظام، وفائدة الثاني حفظ العرض وصونه عن النقص وحفظ العز بترك السؤال والطمع فيما في أيديهم.

ص:5

باب صلة الرحم

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله جل ذكره: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) قال: فقال:

هي أرحام الناس، إن الله عز وجل أمر بصلتها وعظمها، ألا ترى أنه جعلها منه.

* الشرح:

قوله (وشتيمة اه) الشتيمة دشنام وهي اسم من شتمه شتما من باب ضرب، ورفض الله كناية عن سلب الرحمة والنصرة وإنزال العقوبة عاجلا وآجلا، وتصل وما عطف عليه خبر بمعنى الأمر والظهير الناصر والمعين وهو رب العالمين وصالح المؤمنين وجميع المقربين، فأي وزن لقطع أهل البيت وإهانتهم لك إن وصلتهم بعد نصرة هؤلاء.

ص:7

3 - وعنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن عبيد الله قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء

* الشرح:

قوله (يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره الله ثلاثين سنة) هذا صريح في أن العمر يزيد وينقص وأن صلة الرحم توجب زيادته، وينبغي أن يراعى الأقرب فالأقرب مع التزاحم وعدم القدرة على بر الجميع وأما مع عدم القدرة فالأولى أن يبر الجميع ولو بالتفاوت. وقوله «يفعل الله ما يشاء» إشارة إلى المحو والإثبات.

4 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن خطاب الأعور، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل.

* الشرح:

قوله (صلة الأرحام تزكي الأعمال) تزكي مضارع من باب الإفعال أو التفعيل أي تجعلها نامية أو طاهرة من النقص أو من الرد وإن كان فيها نقص ما (وتنمي الأموال) مثله قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «صلة الرحم مثراة في المال» قال بعض الشارحين له: وذلك من وجهين أحدهما أن العناية الإلهية قسمت لكل حي قسطا من الرزق يناله مدة الحياة، وإذا أعدت شخصا من الناس للقيام بأمر جماعة وكفلته بإمدادهم ومعونتهم وجب في العناية إفاضة أرزاقهم على يده وما يقوم بإمدادهم على حسب استعداده ذلك، سواء كانوا ذوي الأرحام أو مرحومين في نظره حتى لو نوى قطع أحد منهم فربما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع وذلك معنى كونها مثراة للمال، الثاني أنها من الأخلاق الحميدة التي يستمال بها طباع الخلق فواصل رحمه مرحوم في نظر الكل فيكون ذلك سببا لامداده ومعونته من ذوي الإمداد والمعونات كالملوك.

(وتدفع البلوى) البلاء والبلية والبلوى بمعنى وهو ما يبتلى به الإنسان ويمتحن به من النوائب والمصائب والمكاره الثقيلة على النفس.

(وتيسر الحساب) أي حساب الأموال أو الأعمال أيضا (وتنسئ في الأجل) مثله في نهج البلاغة عن علي (عليه السلام) وفي كتب العامة أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من أحب أن ينسأ في أجله فليصل رحمه» وفي طريق آخر: «من سره أن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (1) قال شارح النهج: «النساء التأخير وذلك من وجهين أحدهما أنها توجب تعاطف ذوي الأرحام وتوازرهم وتعاضدهم لواصلهم فيكون عن أذى الأعداء أبعد وفي ذلك مظنة تأخيره وطول عمره، الثاني أن مواصلة ذوي الأرحام توجب همهم ببقاء واصلهم وإمداده بالدعاء، وقد يكون دعاؤهم له وتعلق همهم

ص:8


1- 1 - صحيح مسلم ج 8 ص 8.

ببقائه من شرائط بقائه وإنساء أجله».

أقول: يمكن أن يكون للصلة بالخاصية تأثير في تأخير الأجل وأن يكون تأخير الأجل عناية من الله تعالى للواصل ليصل فيضه وبره إلى عباد الله فيستريحوا بظل حمايته، وقال عياض: الأثر:

الأجل، سمي بذلك لأنه تابع للحياة. والمراد بنساء الأجل يعني تأخيره هو بقاء الذكر الجميل بعده فكأنه لم يمت وإلا فالاجل لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم: يمكن حمله على ظاهره لأن الأجل يزيد وينقص، إذ قد يكون في أم الكتاب أنه إن وصل رحمه فأجله كذا وإن لم يصل فأجله كذا، وقال المازري: وقيل معنى الزيادة في عمره أنه بالبركة فيه بتوفيقه إلى أعمال الطاعة وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة والتوجيه ببقاء ذكره بعد الموت ضعيف، وقال الطيبي: بل التوجيه به أظهر فإن أثر الشيء هو حصول ما يدل على وجوده، فمعنى يؤخر في أثره يؤخر ذكره الجميل بعد موته، قال الله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) ومنه قول الخليل (عليه السلام): (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).

5 - وعنه، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اوصي الشاهد من امتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدين.

قوله (وإن كان منه على مسيرة سنة) فينبغي الارتحال لزيارتهم أو إرسال الكتاب والهدايا إليهم وفي بعض النسخ «ولو كانت منه» بالتأنيث وكلاهما جائز لأن الرحم يذكر ويؤنث.

6 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن حفص، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صلة الأرحام تحسن الخلق وتسمح الكف وتطيب النفس وتزيد في الرزق وتنسئ في الأجل.

قوله (صلة الأرحام تحسن الخلق) ذكر للصلة خمسة أوصاف الأول أنها (تحسن الخلق) وهو ملكة تصدر منها الأفعال بسهولة مثل الصدق واللطف والألفة وحسن الصحبة والعشرة والطلاقة والبشاشة ونحوها، وذلك لأن الصلة من حسن الخلق وسبب لزيادته ورسوخه وكماله والثاني أنها:

(تسمح الكف) أي توجب جوده وبذله بالنسبة إلى عموم الخلق لأن الجود يصير عادة ويتكامل بالتدريج حتى يزيل مادة البخل، والثالث أنها (تطيب النفس) أي تبسطها وتشرحها حتى تطهرها من خوف الفقر للبر والإنفاق ومن سائر الخبائث مثل الغلظة والحقد ونحوهما، والرابع أنه (تزيد في الرزق) أو توجب بسطه وسعته والبركة فيه، والخامس أنها (تنسئ في الأجل) وتؤخره كما مر.

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي بن أبي حمزة،

ص:9

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني. وهي رحم آل محمد وهو قول الله عز وجل: (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) (1) ورحم كل ذي رحم.

* الشرح:

قوله (إن الرحم معلقة بالعرش تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني) فيه إخبار عن تأكد صلة الرحم وأنه سبحانه نزلها منزلة من استجار به فأجاره وجار الله غير مخذول، والقول محمول على الظاهر إذ لا يبعد من قدرة الله أن يجعلها ناطقة كما ورد أمثال ذلك في بعض الأعمال أنه يقول أنا عملك، والمراد بصلة الله تعالى من وصلها رحمته لهم وعطفه بنعمته عليهم أو صلته لهم بأهل ملكوته والرفيق الأعلى، أو قربه منهم وشرح صدورهم لمعرفته، أو جميع أنواع الإكرام والإفضال فإن صلة الرحم تجلب خير الدنيا والآخرة، وقيل: المشهور من تفاسير الرحم أنها قرابة الرجل من جهة طرفيه وهي أمر معنوي والمعاني لا تتكلم ولا تقوم فكلام الرحم وقيامها وقطعها ووصلها استعارة لتعظيم حقها وصلة واصلها وإثم قاطعها ولذلك سمى قطعها عقوقا، وأصل العق الشق فكأنه قطع ذلك السبب الذي يصلهم، وقيل يحتمل أن الذي تعلق بالعرش ملك من ملائكة الله وتكلم بذلك عنها من أمر الله سبحانه فأقام الله ذلك الملك يناضل عنها ويكتب ثواب واصلها واثم قاطعها وكل الحفظة يكتب الأعمال، وفيه: أن جميع ذلك خلاف الظاهر، والحمل على الظاهر غير بعيد بالنظر إلى القدرة القاهرة وأراد بقوله (وهي رحم آل محمد) أن رحمهم (عليهم السلام) متصلة بجميع الأمة لا بالاتصال النسبي بل بالاتصال المعنوي وقرابة أولي النعمة والإيمان، وبالجملة كونهم (عليهم السلام) أصلا للايمان صار ذلك باعثا لقرابة المؤمنين معهم كما أن أصل الدين سبب لأخوة المؤمنين، فالمراد برحمهم (عليهم السلام) رحم الايمان، فالرحم رحمان: خاصة وهي رحم قرابة وعامة وهي رحم الايمان، والظاهر أن قوله تعالى: (أن يوصل) بدل من ضمير «به» وأن قوله (عليه السلام) (ورحم كل ذي رحم) عطف على رحم آل محمد للدلالة على التعميم.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أول ناطق من الجوارح يوم القيامة تقول: يا رب من وصلني في الدنيا فصل اليوم ما بينك وبينه ومن قطعني في الدنيا فاقطع اليوم ما بينك وبينه.

9 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

صل رحمك ولو بشربة من ماء، وأفضل ما توصل به الرحم كف الأذى عنها، وصلة الرحم منسأة

ص:10


1- 1 - الرعد: 21.

في الأجل، محببة في الأهل.

* الشرح:

قوله (وصلة الرحم منسأة في الأجل ومحببة في الأهل) أي آلة لتأخير أجل الواصل وسبب لزيادة عمره ومحبة أهله لأن الإنسان مجبول بحب من أحسن إليه، ومن ثم قيل: الإنسان عبيد الإحسان.

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن فضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الرحم معلقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أبو ذر رضي الله عنه; سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: حافتا الصراط يوم القيامة الرحم والأمانة، فإذا مر الوصول للرحم، المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنة وإذا مر الخائن للأمانة، القطوع للرحم لم ينفعه معهما عمل وتكفأ به الصراط في النار.

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص ابن قرط، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: صلة الأرحام تحسن الخلق وتسمح الكف وتطيب النفس وتزيد في الرزق وتنسئ في الأجل.

13 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن خطاب الأعور، عن أبي حمزة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) صلة الأرحام تزكي الأعمال وتدفع البلوى وتنمي الأموال وتنسئ له في عمره وتوسع في رزقه وتحبب في أهل بيته، فليتق الله وليصل رحمه.

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الحكم الحناط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.

* الشرح:

قوله (صلة الرحم وحسن الجوار) قيل: حسن الجوار فضيلة تنشعب إلى فضيلتين لأن حفظه يكون بالكف عن أذاه، وذلك فضيلة تحت العدل ويكون الإحسان إليه ومصادقته ومسامحته ومواساته وتلك الأمور تحت العفة.

15 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعجل الخير ثوابا صلة الرحم.

ص:11

* الشرح:

قوله (إن أعجل الخير ثوابا صلة الرحم) لأن كثيرا من ثوابها يصل إلى الواصل في الدنيا مثل زيادة العمر والرزق ومحبة الأهل ونحوها.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سره النساء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه.

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولا للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثا وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثا وثلاثين سنة، فيكون قاطعا للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين.

الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، مثله.

* الشرح:

قوله (ما نعلم شيئا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) دل على أن غيرها ليس سببا لزيادة العمر وإلا كان هو (عليه السلام) عالما به، ولعل المراد أنها أكمل أفراد ما يوجب زيادة العمر مثل الصدقة وحسن الجوار وغيرهما، ويمكن إدراج غيرها فيها بوجه. وفيه وفي ما مر من حديث أبي الحسن الرضا (عليه السلام) دلالة واضحة على أن المراد بالنساء في الأجل زيادة العمر لا ما ذهب إليه بعض العامة من بقاء الذكر الجميل بعد موته ولا ما ذهب إليه بعضهم أيضا من البركة في العمر بمعنى توفيقه للطاعة والعبادة كما ذكرناه سابقا، وما ذهبوا إليه وإن كان صحيحا يوجبه الصلة لكنه غير مراد من النساء في الأجل.

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) يريد البصرة، نزل بالربذة فأتاه رجل من محارب، فقال: يا أمير المؤمنين إني تحملت في قومي حمالة وإني سألت في طوائف منهم المؤاساة والمعونة فسبقت إلي ألسنتهم بالنكد فمرهم يا أمير المؤمنين بمعونتي وحثهم على مؤاساتي، فقال: أين هم؟ فقال: هؤلاء فريق منهم حيث ترى، قال: فنص راحلته فأدلفت كأنها ظليم فأدلف بعض أصحابه في طلبها فلأيا بلأي ما لحقت، فانتهى إلى القوم فسلم عليهم وسألهم ما يمنعهم من مؤاساة صاحبهم فشكوه وشكاهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): وصل امرؤ عشيرته، فإنهم أولى ببره وذات يده ووصلت العشيرة أخاها إن عثر به دهر وأدبرت عنه دنيا فإن المتواصلين المتباذلين مأجورون، وإن المتقاطعين المتدابرين موزورون، [قال] ثم بعث راحلته وقال: حل.

ص:12

* الشرح:

قوله (نزل بالربذة) الربذة بالتحريك قرية معروفة قرب المدينة بها قبر أبي ذر الغفاري (فأتاه رجل من محارب) هي قبيلة (إني تحملت في قومي حمالة) هي بالفتح: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن يقع حرب بين الفريقين سفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل فيتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين.

(وإني سألت في طوائف منهم المواساة والمعونة) في أداء الحمالة ويحتمل الأعم (فسبقت إلي ألسنتهم بالنكد) أي بالشدة والغلظة والعسر (قال فنص راحلته) أي استحثها واستخرج أقصى ما عندها من السير، وأصل النص بالصاد المهملة أقصى الشيء وغايته ثم سمى به ضرب من السير سريع (فأدلفت كأنها ظليم) الظليم: ذكر النعام، وأدلفت من باب الافتعال أو التفعل، والأخير أشهر من الدليف وهو المشي مع تقارب الخطو والإسراع وكأنه الوخدان، قال الثعالبي في سر الأدب:

الوخدان: نوع من سير الإبل وهو أن ترمي بقوائمها كمشي النعام.

(فدلف بعض أصحابه في طلبها) أي في طلب راحلته وأثرها، وفي بعض النسخ: فأدلف (فلأيا بلأي ما لحقت) اللأي كالسعى: الجهد والمشقة، أي فجهد جهدا بعد جهد ومشقة بعد مشقة ما لحقت الراحلة (وصل امرؤ عشيرته فإنهم أولى ببره وذات يده) الأظهر أنه خبر بمعنى الأمر وكذا ما عطف عليه أي: وليصل امرؤ عشيرته وقومه فإنهم أولى ببره أي بإفاضة خيره عليهم وإحسانه إليهم وإعطاء ما في يده إياهم، وكذا العكس إن احتاج إلى إحسانهم.

(ثم بعث راحلته وقال حل) حل بفتح الحاء المهملة وسكون اللام زجر للناقة إذا حثها للسير، قال ابن عباس: إن حل لتوطئ الناس وتؤذى وتشغل عن ذكر الله تعالى يعني أن كلمة حل وزجرك بها ناقتك عند الإفاضة من عرفات توطئ الناس وتؤذيهم وتشغل قلبك عن ذكر الله فسر على هينك.

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى، عن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لن يرغب المرء عن عشيرته وإن كان ذا مال وولد وعن مودتهم وكرامتهم ودفاعهم بأيديهم وألسنتهم، هم أشد الناس حيطة من ورائه وأعطفهم عليه وألمهم لشعثه، إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الامور، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة ويقبض عنه منهم أيدي كثيرة، ومن يلن حاشيته يعرف صديقه منه المودة، ومن بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته، ولسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خيرا من المال يأكله ويورثه، لا يزدادن أحدكم كبرا وعظما في نفسه ونأيا عن عشيرته، إن كان موسرا في المال، ولا يزدادن أحدكم في أخيه زهدا ولا منه بعدا، إذا لم ير منه مروة وكان معوزا في المال ولا يغفل أحدكم عن القرابة بها الخصاصة

ص:13

أن يسدها بما لا ينفعه إن أمسكه ولا يضره إن استهلكه.

* الشرح:

قوله (لن يرغب المرء عن عشيرته وإن كان ذا مال وولد) المراد به النهي المؤبد والمنع المؤكد يعني لا يعرض المرء عن عشيرته وعونهم باليد واللسان وإن كان ذا مال وولد، فإنه محتاج إلى العشيرة من جهات شتى، وماله وولده لا يغنيانه عنهم فكيف إذا لم يكن له مال وولد فإن احتياجه إليهم حينئذ أشد وأكمل، وفيه ترغيب في صلة العشيرة على كل حال. (وعن مودتهم وكرامتهم) الإضافة إلى الفاعل أو المفعول والأول أنسب بقوله: (ودفاعهم بأيديهم وألسنتهم) لأن الإضافة فيها إلى الفاعل (هم أشد الناس حيطة) أي حفظا ورعاية له (من ورائه) أي في غيبته (وأعطفهم عليه) في الغيبة والحضور (وألمهم لشعثه) الشعث محركة: انتشار الأمور وتفرقها واللم الإصلاح، تقول: لممت شعثه لما من باب قتل إذا أصلحت من حاله ما تشعث وتفرق (إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور) قيده بهذه الشرط لأن الاحتياج إليهم حينئذ أظهر، ويناسب هذا ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «وأكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ويدك التي بها تصول» أمر باكرامهم ورغبه فيه بذكر المنافع الدنيوية وهي أنه يتقوى بهم حيث إنهم يصيرون أعوانا له وبهم يتحقق كماله وقوته (ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة ويقبض عنه منهم أيدي كثيرة) لأنهم يهجرونه ولا يعاونونه فيما ينزل به من مصائب الدنيا ونوايب الدهر وغلبة الأعادي وقد مر شرحه مفصلا في آخر باب المداراة.

(ومن يلن حاشيته يعرف صديقه منه المودة) يعني لين الجانب وحسن الصحبة مع العشيرة وغيرهم موجب لمعرفتهم المودة منه ومن البين أن ذلك موجب لمودتهم له فلين الجانب مظهر للمودة من الجانبين وبها يتم النظام في الدارين.

(ومن بسط يده بالمعروف) تخصيصه بالمندوب محتمل وتعميمه أولى (إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه) سواء أنفق على ذوي الأرحام أو على غيرهم (ويضاعف له في آخرته) حتى أن الرجل ليتصدق بالتمرة أو بشق التمرة فيربيها الله تعالى فيلقاها يوم القيامة وهو مثل أحد أو أعظم منه، هذا إذا اكتسب المال من حله وأنفقه في حله لوجه الله تعالى كما دلت عليه الرواية وتشهد عليه التجربة.

(ولسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خيرا من المال يأكله ويورثه) يعني مدح الناس له بالجميل وذكرهم بالخبر ودعاؤهم له بالمغفرة خير من المال يأكله ويورثه إذ ليس في المأكل مدح وكمال مع انقطاع نفعه، والتوريث إنما هو بغير اختيار مع أن الوارث إن صرفه في وجوه البر كان

ص:14

الثواب له لا للمورث (لا يزدادن أحدكم كبرا وعظما في نفسه ونأيا عن عشيرته إن كان موسرا في المال) لما كان أعظم أسباب كبر الرجل وعظمته وبعده عن العشيرة هو يسره وكونه ذا مال، قيد النهي عن تلك الأمور به، وليس المراد جواز هذه الأمور مع العسر بل تعلق النهي بها مع العسر أولى.

(ولا يزدادن أحدكم في أخيه زهدا ولا منه بعدا إذا لم ير منه مروة وكان معوزا في المال) المروة كمال الرجولية بالإحسان ونحوه. والمعوز بكسر الواو: المفتقر الذي لا شيء له، من أعوز الرجل إعوازا افتقر، وبفتحها: الفقير، من أعوزه الدهر أفقره وأحوجه. وفيه مبالغة في النهي عن الإعراض من الأخ والبعد منه فإنه إذا قبح ذلك مع عدم مروة الأخ فقد قبح مع مروته بطريق أولى (لا يغفل أحدكم عن القرابة بها الخصاصة أن يسدها بمالا ينفعه إن أمسكه ولا يضره إن استهلكه) الظاهر أن بها الخصاصة مبتدأ وخبر والجملة حال عن القرابة، وأن يسدها بدل عنها أو متعلق ب «لا يغفل» بتقدير من، أي لا يغفل أحدكم من أن يسد خصاصة القرابة واحتياجها بمال لا ينفعه إن أمسكه بالمنع ولا يضره إن استهلكه بالإعطاء وغيره، وفيه ترغيب للمرء في صرف فضل ماله في الأقرباء لأن الفضل لا ينفعه حفظه ولا يضره دفعه.

20 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن سليمان بن هلال قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن آل فلان يبر بعضهم بعضا ويتواصلون، فقال: إذا تنمى أموالهم وينمون، فلا يزالون في ذلك حتى يتقاطعوا، فإذا فعلوا ذلك انقشع عنهم.

* الشرح:

قوله (فلا يزالون في ذلك) أي نمو أموالهم وزيادتها ونموهم بزيادة أعمارهم وتكثر أعدادهم.

21 - عنه، عن غير واحد، عن زياد القندي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبرارا بررة.

* الشرح:

قوله (إن القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة) إشارة إلى أن الفوائد الدنيوية للصلة تصل إلى المؤمن والفاسق والكافر، وإن المؤمن الصالح أولى بذلك.

22 - وعنه، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): صلوا أرحامكم ولو بالتسليم، يقول الله تبارك وتعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا).

ص:15

* الشرح:

قوله (صلوا أرحامكم ولو بالتسليم) دل على أنه ينبغي المبادرة بالسلام على ذوي الأرحام وإن ظن أنهم لا يردون عليه، والقول بأنه لا يسلم عليهم حينئذ، لأنه يدخلهم في حرام، كما ذهب إليه بعض العامة، ليس بشيء، لإمكان توبتهم وردهم فلا يترك تلك الخصلة العظيمة والفضيلة الشريفة لمجرد الظن.

23 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن صفوان الجمال قال: وقع بين أبي عبد الله (عليه السلام) وبين عبد الله بن الحسن كلام حتى وقعت الضوضاء بينهم واجتمع الناس فافترقا عشيتهما بذلك وغدوت في حاجة، فإذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) على باب عبد الله بن الحسن وهو يقول: يا جارية قولي لأبي محمد [يخرج] قال: فخرج فقال: يا أبا عبد الله ما بكر بك؟ قال: إني تلوت آية من كتاب الله عز وجل البارحة فأقلقتني، قال: وما هي؟ قال: قول الله جل وعز ذكره: (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) فقال:

صدقت لكأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله قط فاعتنقا وبكيا.

* الشرح:

قوله (حتى وقعت الضوضاء بينهم) الضوضاء أصوات الناس ضوضؤوا أي ضجوا.

قوله (ما بكر بك) بكر إلى الشيء بكورا من باب قعد: أسرع أي وقت كان، وبكرت: عجلت، وبكر تبكيرا مثله، وفي بعض النسخ ما يكربك من الإكراب وهو الإسراع.

24 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي ابن عم أصله فيقطعني وأصله فيقطعني حتى لقد هممت لقطيعته إياي أن أقطعه، أتأذن لي قطعه؟ قال:

إنك إذا وصلته وقطعك وصلكما الله جميعا وإن قطعته وقطعك قطعكما الله.

* الشرح:

قوله (إنك إذا وصلته وقطعك وصلكما الله) لأن وصلتك إياه قد يرقق قلبه ويجعله محبا لك ومايلا إليك فيترك القطيعة بتوفيق الله كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين» يريد أن الظفر على العدو إما بالسنان وإما بالإفضال.

25 - عنه، عن علي بن الحكم، عن داود بن فرقد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إني احب أن يعلم الله أني قد أذللت رقبتي في رحمي وإني لابادر أهل بيتي، أصلهم قبل أن يستغنوا عني.

* الشرح:

قوله (إني أحب أن يعلم الله أني قد أذللت رقبتي في رحمي) أي أحب أن يطابق علمه بالمعلوم أو أحب أن يعلم الإذلال بعد الكون كما علمه قبله أو أحب أن يجزيني بالإذلال، فأطلق العلم وأراد الجزاء كناية لأن الجزاء تابع للعلم.

26 - عنه، عن الوشاء، عن محمد بن الفضيل الصيرفي، عن الرضا (عليه السلام) قال: إن رحم آل محمد -

ص:16

الأئمة (عليهم السلام) - لمعلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ثم هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين، ثم تلا هذه الآية: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام).

27 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذي يصلون ما أمر الله به أن يوصل) فقال: قرابتك.

* الشرح:

قوله (فقال قرابتك) أراد أن الآية شاملة لقرابة المؤمنين، لا أنها مختصة بها لدلالة الخبر السابق والخبر الآتي على أنها شاملة لقرابة محمد (صلى الله عليه وآله) أيضا.

28 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان وهشام بن الحكم ودرست بن أبي منصور، عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل)؟ قال: نزلت في رحم آل محمد عليه وآله السلام وقد تكون في قرابتك، ثم قال: فلا تكونن ممن يقول للشيء: إنه في شيء واحد.

* الشرح:

قوله (فلا تكونن ممن يقول للشيء إنه في شيء واحد) يعني أن الآية شاملة لأرحام المؤمنين وإن نزلت في رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله) فلا تقولن باختصاصها بها.

29 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن أبي جميلة عن الوصافي، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سره أن يمد الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول: يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني، فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى أسفل قعر في النار.

* الشرح:

قوله (فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق) أي فصيح بليغ، وذلق بضم الذال واللام أو فتحها أو سكونها مع فتح الذال، وفيه دلالة واضحة على أن قول الرحم محمول على الحقيقة وقد مر الخلاف فيه.

* الشرح:

قوله (فتهوى به إلى أسفل قعر في النار) الإضافة في «أسفل قعر» بيانية وهو يدل على أن قاطع الرحم وإن فعل جملة من الأعمال الصالحة يدخل النار، ونحن لا نكفر بالذنوب فلا بد من التأويل، ولعل المراد بالدخول: الدخول مع عدم الدوام. أو المراد بالقاطع: القاطع المستحل.

30 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحسن بن علي، عن صفوان، عن الجهم بن حميد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون لي القرابة على غير أمري، ألهم علي حق؟ قال: نعم حق

ص:17

الرحم لا يقطعه شيء وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان: حق الرحم، وحق الإسلام.

31 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبروا بإخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب.

32 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الصمد بن بشير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة وهي منساة في العمر وتقي مصارع السوء وصدقة الليل تطفئ غضب الرب.

* الشرح:

قوله (وتقي مصارع السوء وصدقة الليل تطفئ غضب الرب) أي الصلة تقي صاحبها من الوقوع في المكاره والذنوب وسوء الحساب كما علم ذلك من صريح الروايات السابقة، وإنما خص صدقة الليل مع أن سائر العبادات كذلك لكونها أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص فكان أولى بالتقرب منه تعالى وإطفاء غضبه.

33 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن عثمان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن صلة الرحم تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتيسر الحساب وتدفع البلوى وتزيد في الرزق.

ص:18

* الشرح:

قوله (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) أي حفيظا مطلعا، قال القاضي: أي يسأل بعضكم بعضا فيقول: أسألك بالله، وأصله «تتساءلون» فأدغمت التاء الثانية في السين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها. انتهى، والظاهر أن ضمير «به» راجع إلى الله، وعوده إلى التقوى بعيد، وإن الأرحام بالجر عطفا على الضمير المجرور، وقد قرأ به حمزة واستدل به الكوفيون على جواز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، ومنعه البصريون لأنه من قبيل العطف على بعض الكلمة، وأجابوا عن الآية بأن الأرحام مرفوعة كما في بعض القراءة على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: «والأرحام كذلك» أي مما يتقى أو يتساءل به. أو منصوبة على محل الجار والمجرور كما في قولك: مررت بزيد وعمرا. أو على الله أي اتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها على أن الواو يحتمل أن يكون للقسم أو بمعنى مع.

والجواب أن الكل خلاف الظاهر. أما الأول فلأن الأصل عدم الحذف. وأما الثاني فلأن العطف على المحل نادر في كلام الفصحاء، والمثال المذكور مصنوع، ومع ندرته لا يجوز إلا مع تعذر العطف على اللفظ، ودليل التعذر غير تام لأن امتناع العطف على بعض الكلمة إذا كان ذلك البعض أيضا كلمة ممنوع وقد اتفقوا على جواز العطف على الظاهر المجرور بدون إعادة الجار مع قيام الدليل المذكور عليه أيضا، وتأثير الفرق بشدة الاتصال في الضمير دون الظاهر في جواز العطف وعدمه ممنوع، وإثباته مشكل جدا، وأما الثالث فلبعد المسافة ولعدم فهم المسائلة في الأرحام حينئذ. وأما الأخيران فلأن الأصل في الواو هو العطف، ولا يعدل عنه إلا لدليل على أن الأرحام حينئذ غير مندرجة تحت الأمر بالتقوى ظاهرا وهو خلاف ما نطق به قوله (عليه السلام): «إن الله عز وجل أمر بصلتها» ومعنى المعية في تعلق السؤال غير ظاهر كما لا يخفى.

إن قلت: السؤال يتعدى بنفسه وب «عن» كما يقال: سألته الشيء وسألته عن الشيء فما الوجه في تعلقه هنا بالباء؟ قلت: الباء هنا بمعنى «عن» كما في قوله تعالى (سأل سائل بعذاب) أي عن

ص:6

عذاب، كما صرح به الجوهري. على أن الظاهر من كلام الأخفش حيث قال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان جواز الاستعمال بالباء أيضا حقيقة. وفيه دلالة على تأكد صلة الأرحام لأنه سبحانه خصها بالذكر وقرنها باسمه ونسب حفظها وضبطها إليه جل شأنه دون الملكين وهو دل على عظمة شأنها ورفعة مكانها، وإليه يشير قوله (عليه السلام): «ألا ترى أنه جعلها منه».

بقي شيء ينبغي الإشارة إليه وهو تحقيق معنى الرحم فنقول: قيل: الرحم والقرابة نسبة واتصال بين المنتسبين يجمعها رحم واحدة، وهذا يشبه أن يكون دوريا، وقيل: الرحم عبارة عن قرابة الرجل من جهة طرفيه آبائه وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات والإخوة والأخوات وأولادهم، وقيل الرحم التي تجب صلتها كل رحم بين اثنين لو كان ذكرا لم يتناكحا. فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام وأولاد الأخوال، وقيل: هي عام في كل رحم من ذوي الأرحام المعروفين بالنسب محرمات أو غير محرمات وإن بعدوا، وهذا أقرب إلى الصواب ويدل عليه ما رواه علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) أنها نزلت في بني أمية وما صدر منهم بالنسبة إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويؤيده روايات أخر. والظاهر أنه لا خلاف في أن صلة الرحم واجبة في الجملة وأن لها درجات متفاوتة بعضها فوق بعض وأدناها الكلام والسلام وترك المهاجرة، وتختلف ذلك أيضا باختلاف القدرة عليها والحاجة إليها، فمن الصلة ما يجب ومنها ما يستحب ومن وصل بعض الصلة ولم يبلغ أقصاها، ومن قصر عما ينبغي أو قصر عما يقدر عليه هل هو واصل أو قاطع فيه تأمل، والأقرب عدم القطع لصدق الصلة في الجملة.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسحاق بن عمار قال: قال: بلغني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أهل بيتي أبوا إلا توثبا علي وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم؟ قال: إذا يرفضكم الله جميعا، قال: فكيف أصنع؟ قال:

تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهير.

باب البر بالوالدين

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل:

(وبالوالدين إحسانا) ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عز وجل: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وأما قول الله عز وجل: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما) قال: إن أضجراك فلا تقل لهما: أف، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: (وقل لهما قولا كريما) قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدم قدامهما.

* الشرح:

قوله (فقال الإحسان أن تحسن صحبتهما) بالتلطف وحسن العشرة والطلاقة والبشاشة والتواضع والترحم وغيرها مما يوجب سرورهما وانبساطهما، وإلحاق الأجداد والجدات بهما محتمل، وصرح به عياض من العامة، وقال بعضهم: إنهم أخفض منهما لأنهم ليسوا بآباء وأمهات حقيقة (وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه) بل تبادر إلى قضاء حوائجهما قبل المسألة لأنه تمام البر.

(وإن كانا مستغنيين) قادرين على القيام بحاجاتهما (أليس يقول الله عز وجل: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)) البر شامل لبر الوالدين وبهذا الاعتبار وقع الاستشهاد به (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) الأف في الأصل: وسخ الأظفار، ثم استعمل فيما يستقذر، ثم في الضجر وهو نكرة إن نون ومعرفة إن لم ينون، ومعنى النكرة: لا تقل لهما قولا قبيحا، ومعنى المعرفة: لا تقل لهما القول القبيح. وقيل: معناه الاحتقار أخذ من الأفف وهو القليل، كذا قال محي الدين، والنهي الزجر وفعله من باب نفع. إذا عرفت هذا فنقول: لا ريب في أن هذا القول منهي عنه وإنما الكلام في أنه عقوق أم لا. قال الصدوق في باب الجماعة وفضلها: سأل عمر بن يزيد أبا عبد الله (عليه السلام) عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ خلفه؟ قال: لا تقرأ ما لم يكن عاقا قاطعا» ويفهم منه أن مثل ذلك القول ليس عقوقا وأن العقوق الذي عدوه من

ص:19

الكبائر هو الذي يورث القطع منهما أو من أحدهما وإن ما يوجب غيظهما نادرا لا يبلغ حد العقوق ولا يوجب الفسق الرافع للعدالة.

(ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما) للتواضع والتعظيم هكذا ينبغي بالنسبة إلى كل ذي نعمة أو معزز من عند الله تعالى كما قال تعالى شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول...).

(ولا يدك فوق أيديهما) عند الإعطاء لما فيه من الدلالة على التحقير والإهانة، وقيل: المراد باليد القدرة كما في قوله تعالى (يد الله فوق أيديهم).

(ولا تقدم قدامهما) في المشي والمجالس لأنه مناف للتعظيم وخلاف الآداب إلا أن يريدا ذلك على احتمال. والتفصيل أن رفع الصوت واليد والتقدم إن أوجب أذاهما وضجرهما فهو حرام وإلا فلا يبعد القول بأن تركه من الآداب المستحبة، والاحتياط واضح.

2 - ابن محبوب، عن خالد بن نافع البجلي، عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يا رسول الله أوصني فقال: لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل فإن ذلك من الإيمان.

* الشرح:

قوله (إلا وقلبك مطمئن بالإيمان) دل على أن التلفظ بما يوجب الشرك والكفر عند التقية مع استقرار القلب على الايمان لا يضر بل يوجب ثوابا لأن التقية واجبة وأن الإيمان أمر قلبي كما هو الحق والمشهور (ووالديك فأطعمها) الظاهر أن والديك منصوب بفعل مقدر يفسره الفعل المذكور، والكلام يفيد الحصر والتأكيد إن قدر المحذوف بعده، والتأكيد فقط إن قدر قبله (وبرهما حيين كانا أو ميتين) برهما حيين عبارة عن الإحسان إليهما والطاعة لهما والرفق بهما والتحري لمحابهما والتوقي عن مكارههما، وبرهما ميتين عبارة عن طلب المغفرة لهما وقضاء الصوم والصلاة والديون عنهما وفعل الخيرات لهما وغيرهما مما يوجب وصول النفع والثواب اليهما.

ويفهم منه أن العقوق كما يكون في حال حياتهما كذلك يكون بعد موتهما أيضا وسيصرح به.

(وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل فإن ذلك من الايمان) أي من كمال الايمان، والظاهر أن طاعتهما فيما أمرا به لازمة إذا لم يكن معصية سواء كان مباحا أو مندوبا أو واجبا إذا علم أن تركه يوجب أذاهما وضجرهما; لظواهر الآيات والروايات، وإليه ميل أكثر العامة، وقال بعضهم: إذا أمر بالمباح صار مندوبا وإذا أمر بالمندوب صار مؤكدا، ويفهم منه أن أحدهما لو كره

ص:20

زوجته وأمره بطلاقها كان عليه أن يطلقها كما طلق إسماعيل امرأته بأمر أبيه (عليهما السلام)، ويؤيده ما في الترمذي عن ابن عمر قال: «كانت لي زوجة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني بطلاقها فأبيت فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا عبد الله طلقها» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سيف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يأتي يوم القيامة شيء مثل الكبة فيدفع في ظهر المؤمن فيدخله الجنة، فيقال: هذا البر.

* الشرح:

قوله (مثل الكبة) الكبة بالفتح الجماعة من الناس والبر قد يراد به كمال الايمان قال الله تعالى:

(ولكن البر من اتقى) وقد يراد به العفة، ويقابله الفجور، وقد يراد به الإحسان والطاعة للوالدين والرفق بهما وطلب ما يوجب سرورهما وترك ما يوجب حزنهما وهو داخل تحت العفة ومراد هنا.

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله.

* الشرح:

قوله (أي الأعمال أفضل قال الصلاة) أريد بالأعمال الأعمال البدنية، فلا يرد أن معرفة الله ومعرفة شرائعه أفضل كما دل عليه بعض الروايات وصرح به الأصحاب ثم الأعمال المذكورة المتقدم منها أفضل من المتأخر بدليل خارج.

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن درست ابن أبي منصور، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله ولا يستسب له.

* الشرح:

قوله (لا يسميه باسمه) لما فيه من التحقير وترك التعظيم والتوقير عرفا بل يسميه بالأب فيقول يا أبه أو أخبرني أبي أو باللقب والكنية وغير ذلك من الألفاظ الدالة على التوقير.

قوله (ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله) في المجالس أو عند إرادتهما الجلوس لما فيهما من التحقير وخلاف الآداب (ولا يستسب) أي لا يعرضه للسب ولا يجر السب إليه وذلك بأن يسب أبا زيد فيسب زيد أباه مجازاة، وحكم الأم في جميع ذلك حكم الأب، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). ولا ريب في أن ذلك فسق من وجوه أحدها أنه سب أبا زيد، وثانيها أنه صار سببا لسب أبيه، وثالثها أنه صار سببا لفعل زيد والبادي أظلم. وهل صدر منه كبيرة باعتبار سب أبيه أم لا قيل يحتمل الأول لأن سب الأجنبي

ص:21

كبيرة وسب الأب أقبح منه فيكون كبيرة بالطريق الأولى وفيه نظر لأنا لا نسلم أن سب الأجنبي مطلقا كبيرة، ولا دلالة على ذلك في الأخبار، ولو سلم فلا نسلم أنه سب الأب لأنه لم يقصد من ذلك سبه وليس فعل السبب كفعل المسبب، وقوله «لا يستسب» لا يدل عليه، نعم يدل على تحريم إيجاد السبب ولا يمكن أن يستدل به على تحريم بيع العنب لمن يعصرها خمرا وبيع الحرير لمن لا يحل له لبسه كما زعم لأنه قياس ونحن لا نعمل به.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بحر عن عبد الله ابن مسكان، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال وأنا عنده لعبد الواحد الأنصاري في بر الوالدين في قول الله عز وجل: (وبالوالدين إحسانا) فظننا أنها الآية التي في بني إسرائيل (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) [وبالوالدين إحسانا]» فلما كان بعد سألته فقال: هي التي في لقمان (ووصينا الإنسان بوالديه (حسنا) (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) فقال: إن ذلك أعظم أن يأمر بصلتهما وحقهما على كل حال (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم)؟ فقال: لا بل يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما.

* الشرح:

قوله (في قول الله عز وجل وبالوالدين إحسانا) أي في تفسيره للترغيب في بر الوالدين وصلتهما وتعظيمهما وانجر كلامه إلى والدي العلم والحكمة. وقال الراوي:

(فظننا أنها) أي الآية التي فسرها (عليه السلام) للترغيب في بر الوالدين (الآية التي في بني إسرائيل (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه [وبالوالدين إحسانا]) إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) (فلما كان بعد سألته) وقلت: هل الآية التي ذكرتها في بر الوالدين هي التي في بني إسرائيل (فقال) صلوات الله عليه: (هي التي في لقمان ووصينا الإنسان بوالديه) حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك، إلى المصير. (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) وإنما قال (عليه السلام): هي التي في لقمان، لأن مراده بالوالدين والدي العلم والحكمة، ولا يمكن تأويل الوالدين في آية بني إسرائيل بهما كما لا يخفى بخلاف آية لقمان فإنه يمكن تأويل آخرها بهما.

وفيه مناقشة: أما أولا فلأن قوله (عليه السلام) أولا (وبالوالدين إحسانا) غير مذكور في آية لقمان، وأما

ص:22

ثانيا فلأن آية لقمان ليست على الوجه المذكور وليس فيها أيضا لفظ (حسنا). ويمكن دفع الكل بأن المقصود هو الإشارة إليها بالنقل بالمعنى أو بأن ذلك من تغيير الراوي وتصرفه، ودفع الأول بأن قوله (وبالوالدين إحسانا) متعلق ب «قال وأنا عنده»، لا بقول الله. فيكون كلامه (عليه السلام). ودفع الأخير بأنه يمكن أن يكون لفظ حسنا في أصل النزول (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) (فقال: إن ذلك أعظم أن يأمر بصلتهما وحقهما على كل حال) الظاهر أن ضمير قال راجع إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وذلك إشارة إلى قوله تعالى: (وإن جاهداك) وأعظم: فعل ماض، تقول: أعظمته وعظمته بالتشديد، إذا جعلته عظيما، وأن يأمر مفعوله بتأويل المصدر، والمراد بالأمر بالصلة هو الأمر السابق على هذا القول اللاحق له أعني قوله: (اشكر لي ولوالديك) وقوله:

(وصاحبهما) واتبع فأفاد (عليه السلام) بعد قراءة قوله تعالى: (وإن جاهداك) أن هذا القول أعظم الأمر بصلة الوالدين وحقهما على كل حال حيث يفيد أنه تجب صلتهما وطاعتهما مع الزجر والمنع منها فكيف بدونه.

(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) فلا تطعهما (فقال: لا بل يأمر بصلتهما وإن جاهداه على الشرك ما زاد حقهما إلا عظما) ثم قرأ هذا القول وهو قوله تعالى: (وإن جاهداك) وأفاد بقوله «لا» أنه ليس المراد منه ظاهره وهو مجاهدة الوالدين على الشرك ونهى الولد عن إطاعتهما عليه بل يأمر الولد بصلة الوالدين وإن منعه المانعان عنها وما زاد هذا القول حقهما إلا عظما وفخامة وهذا الحديث بعد مبهم، وهم (عليهم السلام) قد يتكلمون بكلام مبهم للتقية أو لغرض آخر، وتوضيحه: أن صدر الآية في الحث على صلة الأبوين حقيقة، وآخرها وهو قوله تعالى:

(أن اشكر لي ولوالديك...) في الحث على صلة الوالدين مجازا، وهو العالم الرباني المعلم للعلم والحكمة، وضمير التثنية في جاهداك ولا تطعهما راجع إلى أبي بكر وعمر، والمراد بالشرك بالرب ترك أمره بمتابعة ذلك العالم الرباني، يدل على ذلك ما رواه المصنف في باب نكت التنزيل، عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن بسطام بن مرة عن إسحاق بن حسان، عن الهيثم بن واقد عن علي ابن الحسين العبدي، عن سعد الإسكاف عن الأصبغ بن نباتة أنه سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) فقال: الوالدان اللذان أوجب الله تعالى الشكر لهما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما، ثم قال الله تعالى: (إلي المصير) فمصير العباد إلى الله تعالى، والدليل على ذلك الوالدان، ثم عطف القول على ابن حنتمة وصاحبه .

ص:23

أقول حنتمة بالحاء المهملة اسم أم عمر بن الخطاب وهي بنت هشام أخت أبي جهل فقال في الخاص والعام: (وإن جاهداك على أن تشرك بي) يقول في الوصية وتعدل عمن أمرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما. ثم عطف القول على الوالدين فقال: (وصاحبهما في الدنيا معروفا) يقول: عرف الناس فضلهما وادع إلى سبيلهما وذلك قوله: (واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم) فقال: إلى الله ثم إلينا فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين فإن رضاهما رضا الله وسخطهما سخط الله. ويمكن جعل آخر الآية أيضا لبر الوالدين المعروفين وإرجاع الضمير في (لا تطعهما) و (جاهداك) إليهما وقال (عليه السلام): إن ذلك أعظم الأمر بصلتهما وحقهما على كل حال أي على حال الشرك وعدمه فقال الراوي: «وإن جاهداك - إلى قوله - فلا تطعهما، دل على عدم إطاعتهما في حال الشرك فكيف يدل على الأمر بصلتهما وحقهما على كل حال؟» فقال (عليه السلام): «لا» أي ليس الأمر كما زعمت من النهي عن إطاعتهما في حال الشرك بل يأمر بصلتهما وإحسانهما ومصاحبتهما وإن جاهداه على الشرك. نعم المنهي عنه إطاعتهما في الشرك.

7 - عنه، عن محمد بن علي عن الحكم بن مسكين، عن محمد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين وميتين، يصلي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك فيزيده الله عز وجل ببره وصلته خيرا كثيرا.

* الشرح:

قوله (يصلى عنهما ويتصدق عنهما ويحج عنهما ويصوم عنهما) دل على أن ثواب هذه الأعمال وغيرها يصل إلى الميت وهو مذهب علمائنا، وأما العامة فقد اتفقوا على أن ثواب الصدقة يصل إليه، واختلفوا في عمل الأبدان فقيل: يصل قياسا على الصدقة، وقيل: لا يصل; لقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) إلا الحج لأن فيه شائبة عمل البدن وإنفاق المال فغلب المال.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحق؟ قال: ادع لهما وتصدق عنهما، وإن كانا حيين لا يعرفان الحق فدارهما، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله): فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال امك، قال: ثم من؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: أباك.

ص:24

* الشرح:

قوله (فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال:

ثم من؟ قال: أباك) ذكر الأب في المرتبة الرابعة يشعر بأن للام ثلاثة أرباع البر هذا إذا لم يخرج تكرار البر بالام مخرج التأكيد والمبالغة وإلا فالمقصود تفضيل الأم بالبر ولعل وجه ذلك كثرة ما تلقى من ألم الحمل ومشقة الوضع ومقاساة الرضاعة والتربية وشدة المحبة، واختلفت العامة في ذلك فمشهور مالك أن الأم والأب سواء في ذلك، وقال بعضهم: تفضيل الأم مجمع عليه، وقال بعضهم:

للأم ثلثا البر مستندا بما رواه مسلم قال: «قال رجل: يا رسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أبوك» وقال بعضهم: لها ثلاثة أرباع البر; مستند بما رواه مسلم أيضا قال:

«قال رجل: يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة؟ قال أمك، قال: ثم من قال امك، قال: ثم من؟ قال:

امك قال ثم من؟ قال أبوك».

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني راغب في الجهاد نشيط.

قال: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فجاهد في سبيل الله، فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق وإن تمت فقد وقع أجرك على الله وإن رجعت رجعت من الذنوب كما ولدت، قال: يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي، فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقر مع والديك فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوما وليلة خير من جهاد سنة.

* الشرح:

قوله (فإنك إن تقتل تكن حيا عند الله ترزق وإن تمت فقد وقع أجرك على الله) كما قال عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله...) وقال: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).

قوله (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقر مع والديك فوالذي) دل على أن أجر القيام على الوالدين طلبا لرضاهما يزيد على أجر الجهاد، وإطلاق الوالدين مع عدم الاستفسار والتفصيل يشمل الكافرين، ثم إن توقف الجهاد على إذنهما مشروط بعدم تعينه عليه، ويفهم منه أنه لا يجوز له السفر بدون إذنهما مطلقا إلا أن يكون واجبا عليه عينا وهل يلحق الأجداد والجدات بالوالدين في هذا الحكم أم لا، لم يحضرني الآن نص صحيح، ولا قول صريح من أصحابنا وذهب مالك إلى لحوقهم حيث قال: الجدان كالأبوين لا يخرج إلى الجهاد بدون إذنهما.

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب،

ص:25

عن زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانيا فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت. فقال: وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول الله عز وجل: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء) فقال:

لقد هداك الله، ثم قال: اللهم اهده - ثلاثا - سل عما شئت يا بني! فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا ولا يمسونه، فقال: لا بأس فانظر امك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها ولا تخبرن أحدا أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله. قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لامي وكنت أطعمها وافلي ثوبها ورأسها وأخدمها فقالت لي: يا بني ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني إن هذا نبي إن هذا نبي إن هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا امه إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه، فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه علي فعرضته عليها فدخلت في الإسلام وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني أعد علي ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها.

* الشرح:

قوله (وأي شيء رأيت في الاسلام) فصار سببا لهدايتك فتلا الآية المذكورة الدالة على أن الهداية موهبية كما دل عليه أيضا كثير من الروايات للإشعار بأنها أثرت في نفسه حتى صارت سببا لهدايته فلذلك قال (عليه السلام): «لقد هداك الله» ثم قال: «اللهم اهده - ثلاثا -» أي زد هدايته أو ثبته عليها.

وتجويزه (عليه السلام) له الأكل في آنية أهل الكتاب معهم لا يدل عل طهارتهم وطهارة طعامهم مع مباشرتهم له بالرطوبة ولا عدم سراية النجاسة لإمكان أن يأكل في آنيتهم طعاما طاهرا مع عدم مباشرتهم لما يأكله برطوبة وإن كان خلاف الظاهر فلا ينافي ما هو المشهور فتوى ورواية من نجاستهم ونجاسة ما باشروه برطوبة. والفلي «شپش جستن از سر وجامه» وعلة من باب رمى.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، جميعا، عن سيف بن عميرة، عن عبد الله بن مسكان، عن عمار بن حيان قال: خبرت أبا عبد الله (عليه السلام) ببر إسماعيل ابني بي، فقال: لقد كنت احبه

ص:26

وقد ازددت له حبا، إن رسول الله أتته اخت له من الرضاعة فلما نظر إليها سر بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله صنعت باخته ما لم تصنع به وهو رجل؟! فقال: لأنها كانت أبر بوالديها منه.

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عبد الله بن مسكان، عن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن أبي قد كبر جدا وضعف فنحن نحمله إذا أراد الحاجة؟ فقال: إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل ولقمه بيدك فإنه جنة لك غدا.

14 - عنه، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي الصباح، عن جابر قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي أبوين مخالفين؟ فقال: برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا.

* الشرح:

قوله (فقال برهما كما تبر المسلمين ممن يتولانا) دل على أن بر الوالدين الكافرين واجب وأن المقام معهما أفضل من الجهاد كالمقام مع المسلمين وأن الجهاد إذا لم يتعين عليه يتوقف على إذنهما وهو أيضا مذهب جماعة من العامة، وقال الشافعي: له الغزو دون إذنهما.

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، جميعا، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين.

* الشرح:

قوله (والوفاء بالعهد) الوفاء ملكة تنشأ من لزوم العهد والميثاق كما ينبغي والبقاء عليه وهو فضيلة مقابلة للعذر وداخلة تحت العفة وقد شبهه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجنة في أنه وقاية في الآخرة من النار وفي الدنيا من العار.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من السنة والبر أن يكنى الرجل باسم أبيه.

17 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعلي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد جميعا، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل وسأل النبي (صلى الله عليه وآله) عن بر الوالدين فقال: أبرر امك أبرر امك أبرر امك،

ص:27

أبرر أباك أبرر أباك أبرر أباك وبدأ بالام قبل الأب.

18 - الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إني قد ولدت بنتا وربيتها حتى إذا بلغت فألبستها وحليتها ثم جئت بها إلى قليب فدفعتها في جوفه وكان آخر ما سمعت منها وهي تقول: يا أبتاه. فما كفارة ذلك؟ قال: ألك أم حية؟ قال: لا، قال: فلك خالة حية؟ قال: نعم، قال: فابررها فإنها بمنزلة الأم يكفر عنك ما صنعت، قال أبو خديجة: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى كان هذا؟ فقال: كان في الجاهلية وكانوا يقتلون البنات مخافة أن يسبين فيلدن في قوم آخرين.

* الشرح:

قوله (فلك خالة حية) دل على أن المتقرب بالأم أولى بالبر من المتقرب بالأب.

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يجزي الولد والده؟ فقال: ليس جزاء إلا في خصلتين يكون الوالد مملوكا فيشتريه ابنه فيعتقه أو يكون عليه دين فيقضيه عنه.

20 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إني رجل شاب نشيط واحب الجهاد ولي والدة تكره ذلك؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ارجع فكن مع والدتك فوالذي بعثني بالحق [نبيا] لانسها بك ليلة خير من جهادك في سبيل الله سنة.

21 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن سنان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا، وإنه ليكون عاقا لهما في حياتهما غير بار بهما فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عز وجل بارا.

* الشرح:

قوله (إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما) البر بالوالدين غير مختص بحال الحياة وكذا العقوق بل البر والعقوق بعد الموت آكد لشدة احتياجهما، فعلى هذا يمكن أن يكون بارا في حال الحياة فيصير عاقا بعد الموت، وبالعكس، كما يمكن أن يكون بارا في حال الحياة في وقت فيصير عاقا في وقت آخر، وبالعكس، وكذا بعد الموت.

ص:28

باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصبح لا يهتم بامور المسلمين فليس بمسلم.

* الشرح:

قوله (قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين) أن لا يعزم على القيام بها ولا يقوم بها مع القدرة (فليس بمسلم) أي ليس بكامل في الإسلام ولا يعبأ بإسلامه، والمراد بأمورهم أعم من الأمور الدنيوية والأخروية، ولو لم يقدر عليها فالعزم حسنة يثاب به وكمال له.

2 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنسك الناس نسكا أنصحهم جيبا وأسلمهم قلبا لجميع المسلمين.

* الشرح:

قوله (قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنسك الناس نسكا أنصحهم جيبا) رجل ناصح الجيب أي ناصح الصدر والقلب أمين لا غش فيه، وأسلمهم قلبا من الحقد والحسد والعداوة لجيمع المسلمين، فكل من كان نصحه لهم أحسن وأقوم وكان قلبه لهم أصفى وأسلم كان أنسك الناس وأعبدهم وأكثرهم طاعة وأجهدهم، وفيه إشارة إلى نوع واحد من العدالة وهو رعاية رجل حقوق ما بينه وبين الخلق من النصح والمعاملات والمعاوضات والأمانات وحسن الخلق والشفقة والإرشاد وغيرها، والنوع الآخر رعايته حقوق ما بينه وبين الرب من معرفته وتعظيمه وغير ذلك. والأول أفضل لأنه أشق وأحسن من عند الله تعالى وإن كان الثاني أفضل باعتبار آخر.

3 - علي بن إبراهيم، عن علي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن محمد بن القاسم الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من لم يهتم بامور المسلمين فليس بمسلم.

5 - عنه، عن سلمة بن الخطاب، عن سليمان بن سماعة، عن عمه عاصم الكوزي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من أصبح لا يهتم بامور المسلمين فليس منهم ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم.

ص:29

* الشرح:

قوله (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) أي لا يعزم دفع الأذى والكرب عنهم ولا يقصد إعانتهم في أمر الدنيا والآخرة وقضاء حوائجهم وإيصال الخير إليهم وإرشادهم إلى مصالحهم (ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين) للاستغاثة لدفع المكاره والمصائب ورفع الشرور والنوائب والاستعانة في أمر من الأمور.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيته سرورا.

* الشرح:

قوله (الخلق عيال الله) عيال الرجل من تجب عليه مؤونته ونفقته وتدبير أموره ورعاية مصالحه، واستعار لفظ العيال للخلق بالنسبة إلى الخالق الرازق المقدر لأقواتهم والمدبر لأحوالهم في معاشهم ومعادهم (فأحب الخلق إلى الله) وأرفعهم منزلة وأشرفهم مرتبة وأعلاهم درجة (من نفع عيال الله) بنعمة يسد بها خلتهم ويرفع بها جوعتهم، أو بإعانة يدفع بها بليتهم، أو بإرشاد يزيد به هدايتهم. أو بغير ذلك من نافع الدين والدنيا، ومنافع الدين أشرف قدرا وأبقى وأدوم نفعا وأوفى سيما إذا أخلص في نفعهم وطلب به رضا المولى كما روي: «أن لله عبادا خلقهم لمنافع الناس أولئك الآمنون من عذاب الله».

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أحب الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس.

8 - عنه، عن علي بن الحكم، عن مثنى بن الوليد الحناط، عن فطر بن خليفة عن عمر بن علي ابن الحسين، عن أبيه صلوات الله عليهما قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله) من رد عن قوم من المسلمين عادية [ماء] أو نارا وجبت له الجنة.

* الشرح:

قوله (من رد عن قوم من المسلمين عادية [ماء] أو نار وجبت له الجنة) لفظة ماء ليست في كثير من النسخ، والعادية المتجاوز عن الحد، والتاء للمبالغة، وعدوانهما يشمل الغرق والحرق وتخريب البناء والأموال وغير ذلك من أنواع الضرر.

9 - عنه، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وقولوا للناس حسنا) قال: قولوا للناس حسنا ولا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو؟

* الشرح:

قوله (وقولوا للناس حسنا) يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم

ص:30

المسائل والإرشاد إلى منافع الدنيا والآخرة وكل ذلك يندرج في قوله (ولا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو) ولما كانت بادرة اللسان كثيرة نهى عن القول من غير تفكر وأمر بإحضار القلب وهو التفاته إلى معرفة حقيقة الشيء أولا ثم التكلم بما هو الحق الخالص.

10 - عنه، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة المفضل بن صالح، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قول الله عز وجل: (وقولوا للناس حسنا) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.

11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في قول الله عز وجل: (وجعلني مباركا أينما كنت) قال: نفاعا.

* الشرح:

قوله (قال نفاعا) المبالغة لكونه نافعا في الدين والدنيا على وجه الكمال.

ص:31

باب اجلال الكبير

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم.

* الشرح:

قوله (من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم) أي تعظيمه وتوقيره وتواضعه واحترامه ورعاية الأدب معه والإعراض عن مساوئ الأخلاق والآداب إن صدرت منه وعدم معارضته بمثلها; لكبر سنه وضعف قوته وقرب رجوعه إلى المولى الحق وشدة تأثره من الواردات. وكل هذا يقتضى إجلاله، خصوصا إذا كان أكثر تجربة وأفضل علما وأكيس حزما وأقدم إيمانا وأحسن عبادة وأنور قلبا.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا.

* الشرح:

قوله (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا) الكبير سنا أو شأنا مستحق للتوقير والتعظيم، والصغير لقرب عهده بالحق وضعف عقله وقلة تجربته لعواقب الأمور وشدة تأثره بأدنى ما يولم أهل للرحمة والعفو عنه والستر عليه والرفق به ولين القول معه وعدم النظر إليه بالهيبة ونحوها خصوصا إذا كان يتيما، فلتكن بالنسبة إلى الكبير ابنا، وبالنسبة إلى الصغير أبا، ويمكن أن يراد بهما كبير الشيعة وصغيرهم أيضا لأن الاختصاص والنسبة كافية في الإضافة.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن أبان، عن الوصافي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): عظموا كباركم وصلوا أرحامكم، وليس تصلونهم بشيء أفضل من كف الأذى عنهم.

ص:32

باب إخوة المؤمنين بعضهم لبعض

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون.

* الشرح:

قوله (إنما المؤمنون اخوة بنو أب وأم) أي مثل الأخوة النسبية في لزوم التعاطف والتوازر والتراحم أو المراد بالأب مادتهم وهي الطينة الجنانية وبالأم روحهم المربية لهم كما سيجيء، وإطلاق الأب والأم عليهما مجاز وحملهما على آدم وحواء بعيد لاشتراك جميع الناس في ذلك، ثم رغب في رعاية الأخوة بقوله:

(وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون) ضرب العرق ضربا وضربانا: تحرك بقوة.

وهذا كناية عن الألم المخصوص أو مطلقا، وفيه تنبيه على أن المؤمنين لما كانوا من أصل واحد بمنزلة شخص واحد لزم أن يتألم الجميع بتألم واحد منهم كما يتألم سائر أعضاء الجسد بتألم بعضها، و «سهر» إما خبر بحسب المعنى أيضا أو أمر، وعلى الأول دل على أن من لم يتصف بذلك ليس بمؤمن لفقده ما هو من أخص صفات المؤمن.

2 - عنه، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان، عن جابر الجعفي قال: تقبضت بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي، وصديقي، فقال: نعم يا جابر إن الله عز وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه. فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لأنها منها.

* الشرح:

قوله (قال تقبضت بين يدي أبي جعفر (عليه السلام)) التقبض الانضمام والانقباض وهو خلاف البسط، ويحصل كثيرا ما بحضور ما يستكرهه الطبع وقد يحصل لا عن سبب ظاهر وإن كان لا يخلو في الواقع عن سبب كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله:

(يا جابر إن الله عز وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه) الريح هي

ص:33

التي تهب، وقد يجيء بمنعنى النفخ والروح بالضم الذي يقوم به الجسد ويكون بها الحياة وهي النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب ولا تفنى بفناء الجسد، والجمع الأرواح. ولعل المراد بالأب تلك الطينة لأنها مادة وجودهم كالأب، وبالأم تلك الفائضة منه تعالى عليهم لأنها بمثابة الأم في التربية والتدبير.

لا يقال: السبب الذي ذكره (عليه السلام) لحزن سببه غير معلوم يقتضي أن يكون كل مؤمن محزونا دائما إذ لا يخلو مؤمن من إصابة حزن قطعا لأنا نقول: يجوز أن يتفاوت ذلك بسبب تفاوت القرب والاتصال في الشدة والضعف.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه.

* الشرح:

قوله (قال: المؤمن أخو المؤمن عينه) أي نفسه وذاته من باب المبالغة للمشاركة في الطينة، أو في الصفات، أو عينه الباصرة فيجب عليه حفظه كحفظها أو حافظه أو طليعته يتعرف الأمور النافعة له ويوصل خبرها إليه (ودليله) إلى المنافع والمضار والخيرات الدنيوية والأخروية (لا يخونه) في عهده وأمانته المالية والسرية (ولا يظلمه) في نفسه وماله وأهله وساير حقوقه (ولا يغشه) في النصيحة والمشورة والإرشاد إلى مصالحه.

(ولا يعده عدة فيخلفه) لأن خلف الوعد مذموم عقلا وشرعا، وفيه رذالة وخساسة وحقارة وخفة وإيذاء للمؤمن وتكدر لخاطره والنفي بمعناه، أو بمعنى النهى وفي الأول إشارة إلى أنه لو أتى بالمنفي لم يتصف بالأخوة والإيمان.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها.

* الشرح:

قوله (المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد ان اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في ساير جسده)

ص:34

هذا تمثيل وتقريب للفهم حيث شبههم بالواحد لاتحادهم في المادة والروح واتفاقهم في صفة الايمان وتناسبهم في التوحيد والعرفان فكان كل واحد منهم نفس صاحبه معنى وإن تفرقت بهم الصور والأعيان، فيقتضى هذا النوع من الاتحاد والنسب من الايمان أن يتألم كل بتألم الآخر ويفرح بفرحه. وفيه ترغيب في التناصر والتعاون والتراحم والتعاطف في الواجبات والمندوبات والمباحات والضروريات وقضاء الحاجات ودفع البليات، ثم رغب في رعاية المؤمن والفرح بفرحه والتألم بحزنه والتجنب عن أذاه بقوله:

(وإن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله) أي بذاته المقدسة. (من اتصال شعاع الشمس بها) المراد بالاتصال الاتصال المعنوي، وشبهه بالاتصال الحسي الجسماني لإيضاح المقصود وتقريبه إلى الفهم، ووجه الأشدية أن المؤمن مرآة الحق يرى فيه صفاته ولو ظهر ذلك الاتصال ليرى كأنه هو ولا يفرق بينهما إلا العارفون الذين يعلمون بنور البصيرة والعرفان أن هذا خلق اتصف بصفات الخالق، وأما الجاهلون فيزعمون أنه هو بخلاف اتصال الشعاع بالشمس فإنه يفرق بينهما العالم والجاهل.

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن مثنى الحناط، عن الحارث بن المغيرة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): المسلم أخو المسلم هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه.

* الشرح:

قوله (هو عينه ومرآته ودليله) أما أنه مرآته فلأن في كل واحد صفات الآخر مثل الإيمان وأركانه ولواحقه وآثاره والأخلاق والآداب فكان كل واحد مظهرا لصفات الآخر ومرآة له، وأما أنه دليله فلأنه يهديه إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة فيعلمه أمر الدين ويزجره عن المنهيات ويرغبه في الخيرات وينبهه عن الغفلات ويظهر عليه قبح اللذات والشهوات.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ودخل عليه رجل فقال لي: تحبه؟ فقلت: نعم فقال لي: ولم لا تحبه وهو أخوك وشريكك في دينك وعونك على عدوك ورزقه على غيرك.

* الشرح:

قوله (ولم لا تحبه وهو أخوك وشريكك في دينك وعونك على عدوك ورزقه على غيرك) رغب في المحبة بذكر الفوائد والبواعث ورفع المانع، أما الباعث فثلثه تعود إلى المحب، وأما المانع

ص:35

فإنما هو تكفل مؤونته ورزقه، وليس ذلك إلا على الله عز وجل، وقوله «في دينك» متعلق ب «أخوك وشريكك» على سبيل التنازع، والظاهر أن المراد بالعدو الإنسان المخالف له ويحتمل الأعم منه ومن الشيطان والنفس الأمارة.

7 - أبو علي الأشعري، عن الحسين بن الحسن، عن محمد بن اورمة، عن بعض أصحابه، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن فضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول:

المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه لأن الله عز وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى في صورهم من ريح الجنة، فلذلك هم إخوة لأب وأم.

* الشرح:

قوله (وأجرى في صورهم من ريح الجنة) الريح بمعنى الرائحة عرض يدرك بحاسة الشم ورائحة الجنة التي جرت في أبدانهم جامعة لهم وبها يعودون إليها ويتطيبون حتى يجد طيبهم مشام العارفين كما قال يعقوب (عليه السلام): (اني لأجد ريح يوسف).

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه.

9 - أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن رجل، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: المؤمنون خدم بعضهم لبعض، قلت: وكيف يكونون خدما بعضهم لبعض؟ قال: يفيد بعضهم بعضا الحديث.

* الشرح:

قوله (يفيد بعضهم بعضا الحديث) كما يفيد الخادم المخدوم، والظاهر أن الحديث مفعول «يفيد» ففيه إشارة إلى بعض أنواع الإكرام وهو تعليم الحديث ونشر علم الدين.

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل البصري، عن فضيل بن يسار قال. سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن نفرا من المسلمين خرجوا إلى سفر لهم فضلوا الطريق فأصابهم عطش شديد فتكفنوا ولزموا أصول الشجر فجاءهم شيخ وعليه ثياب بيض فقال: قوموا فلا بأس عليكم فهذا الماء، فقاموا وشربوا وارتووا، فقالوا: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا من الجن الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، فلا تكونوا تضيعوا بحضرتي.

ص:36

* الشرح:

قوله (فتكفنوا) أي اتخذوا الكفن البسوه وفي بعض النسخ «فتكنفوا» بتقديم النون أي اختاروا الكنف وهو الجانب.

قوله (بحضرتي) معناه عندي، وحضرة الرجل: قربه.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن حماد ابن عيسى، عن ربعي، عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله [ولا يغتابه ولا يخونه ولا يحرمه] قال ربعي: فسألني رجل من أصحابنا، بالمدينة فقال: سمعت فضيلا يقول ذلك؟ قال فقلت له: نعم، فقال: [ف] - إني سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يغشه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يخونه ولا يحرمه.

* الشرح:

قوله (ولا يخذله) أي لا يترك إعانته ونصرته في الحق أو لا يتكبر عليه ولا يستصغره.

ص:37

باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه 1 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه وأخوته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل؟ فقال: إن الايمان قد يتخذ على وجهين أما أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت، حقت ولايته واخوته إلا أن يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك، فإن جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك، خرج عندك مما وصف لك وأظهر، وكان لما أظهر لك ناقضا إلا أن يدعي أنه إنما عمل ذلك تقية ومع ذلك ينظر فيه فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأن للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له.

وتفسير ما يتقي مثل [أن يكون] قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز.

* الشرح:

قوله (أما أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك) لم يذكر الوجه الآخر هنا. وتوضيح الوجه المذكور أن الإيمان أمر قلبي كما مر، والأمر القلبي لا يعلم ثبوته وتحققه إلا بدليل وهو القول والعمل المخبران عنه، فإذا شهدا عليه حكمنا ظاهرا بثبوته وأجرينا عليه أحكام الايمان والولاية والأخوة، ونتوقع الأجر بذلك مع احتمال عدم ثبوته عند الله تعالى لأن دلالتهما ليست بقطعية غير محتملة للتخلف، وإن شهدا بعدمه بأن يكونا منافيين له حكمنا بعدمه ظاهرا إلا أن يدعي أن صدورهما من باب التقية مع إمكانها في شأنه فإنا نحكم بثبوته أيضا.

* الشرح:

قوله (فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله لم يقبل منه) إشارة إلى أنه لا تقبل منه دعوى التقية إذا لم يكن المقام مقتضية لها، وقوله (وتفسير ما يتقي) إشارة إلى موضع تقبل منه دعوى التقية فيه ويحكم له بالايمان والولاية والأخوة، وظاهر حكمهم بالإضافة أو التنوين وإفراده مع كونه صفة ل «قوم» باعتبار أنه مسند إلى الظاهر، وقوله:

(مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين) إشارة إلى أنه لا تقبل منه التقية فيما لا تقية فيه كقتل المؤمن وإنكار الحق قلبا إذ لا تقية في العقائد والقتل.

ص:38

باب في ان التواخي لم يقع على الدين وانما هو التعارف

اشاره:

1- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لم تتواخوا على هذا الأمر وإنما تعارفتم عليه.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان وسماعة، جميعا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لم تتواخوا على هذا الأمر [و] إنما تعارفتم عليه.

* الشرح:

قوله (لم تتواخوا على هذا الأمر وانما تعارفتم عليه) لعل المراد أن المواخاة على هذا الأمر والأخوة في الدين كانت ثابتة بينكم في عالم الأرواح ولم تقع في هذا اليوم وهذه الدار وإنما الواقع في هذه الدار هو التعارف على هذا الأمر الكاشف عن الأخوة في ذلك العالم. ويؤيده قوله (صلى الله عليه وآله) (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تخالف منها اختلف) قيل معناه أن الأرواح خلقت مجتمعة على قسمين مؤتلفة ومختلفة كالجنود التي يقابل بعضها بعضا، ثم فرقت في الأجساد فإذا كان الايتلاف والمؤاخاة أولا كان التعارف والتآلف بعد الاستقرار في البدن. وإذا كان التناكر والتخالف هناك كان التنافر والتناكر هنا.

ص:39

باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه

اشاره:

1- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرج عنه كربته ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده.

* الشرح:

قوله (من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته) أشبعته: أطعمته حتى شبع، وجاع الرجل جوعا: اشتهى الطعام واشتاق إليه، والجوع بالضم والجوعة بالفتح اسم منه، ونسبة الإشباع إلى الجوعة وتعليقه بها مجاز أو باعتبار تضمين معنى الدفع ونحوه.

(ويواري عورته) العورة: كل ما يستحيى منه إذا ظهر وهي من الرجل: القبل والدبر، ومن المرأة:

جميع الجسد إلا ما استثنى، والأمة كالحرة إلا الرأس، ويحتمل أن يراد بها العيوب والتعميم أظهر (ويفرج عنه كربته) الكربة اسم من «كربه الأمر فهو مكروب» أي أهمه وأحزنه فأقلقه وشق عليه.

(ويقضي دينه) في حياته وبعد موته، وقد نقل أنه كان بين رجلين صداقة وكان على كل واحد دين وقضى كل واحد دين الآخر من غير علم أحدهما بقضاء الآخر (فإذا مات خلفه في أهله وولده) خلفت فلانا على أهله: صرت خليفة، وخلفته: جئت بعده، والمقصود أنه ينبغي أن يقوم مقامه في مهمات أهله وولده فيأتيهم ويسألهم عن حوايجهم من اللباس والطعام والشراب وغيرها، ثم يعزم بقضائها وهكذا يفعل في كل صباح ومساء ولا يتضجر في رعايتهم بطول الزمان وكثرة الحاجات، واعلم أن الله تعالى خلق الإنسان وجعله مدنيا بالطبع يحتاج إلى التعاون والمعاشرة مع الغير فألزم عليه حقوقا بعضها من الواجبات العينية وبعضها من الكفائية وبعضها من السنن اللازمة وبعضها من الآداب، وتفصيلها يعلم من أحاديث هذا الباب وغيرها من الأحاديث المتفرقة.

2 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير الهجري، عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما حق المسلم على المسلم؟ قال له: سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب، إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب، قلت له: جعلت فداك وما هي؟ قال: يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قال: قلت له: لا قوة إلا بالله قال: أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره، والحق الثالث أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحق الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته، والحق

ص:40

الخامس [أن] لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحق السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه، والحق السابع أن تبر قسمه وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك.

* الشرح:

قوله (ما حق المسلم على المسلم؟ قال له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب) قال في المصباح:

الولاية بالفتح والكسر: النصرة، وينبغي أن يعلم أن المؤمن لا يخرج من أصل الايمان ولا يسلب عنه النصيب حقيقة إلا بالكفر وإن ترك الأخلاق المذكورة لا يوجب الكفر، بالإجماع والروايات، وأنها ليست بواجبة بل هي من الآداب المطلوبة المرغبة فيها، فينبغي ارتكاب التأويل وصرف الكلام عن ظاهره، فنقول: لعل المراد بالوجوب التأكد والمبالغة أو وجوب الإقرار بأن تلك الأمور من حقوق الأخوة، وبالولاية: الولاية الكاملة برعاية تلك الحقوق، وبالنصيب: النصيب الكامل الذي في خلص أولياء الله تعالى.

قوله (قلت له جعلت فداك وما هي) حتى أعلمها وأعملها (قال يا معلى إني عليك شفيق أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل) دل على أن الجاهل بها معذور في تركها إلا أن يقال ليس بمعذور ولكن عذر العالم أضعف من عذره ولومه أشد.

قوله (قال قلت له لا قوة إلا بالله) أي لا قوة لنا في أداء الحقوق أو مطلقا إلا بالله ونصرته، ولما استعان في أدائها بالله تعالى والمستعين به غير ذليل فصلها (عليه السلام) وقال:

(أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك) هذا النوع من الاتحاد يتوقف على أن يطلع عن أفق خاطرك أنوار الأسرار الإلهية وتغلق عليه أبواب الوساوس الشيطانية، فإنه إذا حصلت لك تلك المعارف وزالت عنك تلك الوساوس لاحظت قرب المؤمن من الحق ووجدت بينك وبينه اتحادا في الذات وتناسبا في الصفات حتى كأنه وأنت سواء في المعنى وكنفس واحدة، وهذا النوع من الاتحاد والتناسب والقرب يقتضى الحق المذكور (والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره) أي تجتنب ما يوجب سخطه وتتبع ما يوجب رضاه وتطيع أمره إن كان موافقا للشرع وإلا فانصحه برفق حتى يرجع (والحق الثالث أن تعينه بنفسك)

ص:41

بأن تفكر في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره أو بأن تقوم مقامه في قضاء حوائجه، ويندرج فيه إنقاذه من يد ظالم، وقد روي عن الرضا (عليه السلام) قال «أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله فيقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله فيحملونه على أجنحتهم ويقولون: طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار».

(ومالك) بأن تعينه بالمواساة والإيثار وقضاء الدين قبل السؤال وبعده والأول أفضل لما في الثاني من نقص الآخرة (ولسانك) بأن تعينه بطلب الحاجة والدعاء له ودفع الغيبة عنه وذكر محاسنه وتعليمه أمور الدين ونحو بذلك.

(ويدك ورجلك) بأن تستعملهما في طلب كل خير ودفع كل شر يتوقفان عليهما. (والحق الرابع أن يكون عينه ودليله ومرآته) فتنظر إلى مقاصده كما ينظر هو وتدله عليها إن غفل عنها، وتقبل عليه بصفاء الظاهر والباطن حتى يرى فيك صور حاجاته.

(والحق الخامس [أن] لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى) بل عليك تشريكه في الطعام والشراب واللباس (والحق السادس أن يكون لك خادم) الخادم يطلق على الذكر والأنثى والخادمة بالهاء في المؤنث قليل والجمع خدم وخدام.

(والحق السابع أن تبر قسمه) الظاهر أن قسمه بفتحتين وهو اسم من الأقسام وأن المراد ببر قسمه قبوله، وأصل البر الإحسان ثم استعمل في القبول، يقال: «بر الله عمله» إذا قبله كأنه أحسن إلى عمله بأن قبله ولم يرده كذا في الفائق، وقبول قسمه وإن لم يكن واجبا شرعا لكنه مؤكد لئلا يكسر قلبه ولا يضيع حقه، واحتمال إرادة إحسان القسم - بالكسر - وهو الحصة والنصيب بعيد والله اعلم، ثم أشار إلى ما يقتضيه كمال الأخوة بقوله:

(وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه إلى أن يسألكها) لأن الإلجاء إلى السؤال يوجب الإهانة والمذلة، ويدل على نقص في الأخوة والمحبة، وحق الأخوة أن تقضي حاجته المعلومة لك وأن تمشي إليه وتسأله عن حاجته وتسعى في قضاء جميع ما يحتاج إليه لنفسه ولعياله حتى الحطب والخبز والملح وقد كان سيد العابدين (عليه السلام) يحمل على ظهره في جوف الليل قوتا لفقراء الشيعة ويوصله إليهم.

3 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سيف، عن أبيه سيف، عن عبد الأعلى بن أعين قال: كتب [بعض] أصحابنا يسألون أبا عبد الله (عليه السلام) عن أشياء وأمروني أن أسأله عن حق المسلم على أخيه، فسألته فلم يجبني، فلما جئت لاودعه فقلت: سألتك فلم تجبني؟ فقال: إني أخاف أن تكفروا، إن من أشد ما افترض الله على خلقه ثلاثا: إنصاف المرء من نفسه حتى لا

ص:42

يرضى لأخيه من نفسه إلا بما يرضى لنفسه منه، ومؤاساة الأخ في المال، وذكر الله على كل حال، ليس سبحان الله والحمد لله ولكن عند ما حرم الله عليه فيدعه.

* الشرح:

قوله (وذكر الله على كل حال) أصل الذكر مبدأ لجميع الخيرات، ثم الخيرات مبدأ لرسوخه وثبوته في القلب حتى لا يغفل طرفة عين إلى أن يبلغ مقام المحبة ثم مقام الرضا ثم مقام الفناء في الله بحيث لا يرى في الوجود إلا إياه. وهذا غير متعلق بالسؤال لأن السؤال عن حق المسلم على أخيه ولعل الغرض من ذكره هو التنبيه بأن المهم للمؤمن في الدنيا أمران أحدهما استقامة حاله مع المؤمنين وهي تحصل برعاية الأولين، والثاني استقامة حاله مع رب العالمين وهي تحصل بالذكر.

4 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما عبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن.

* الشرح:

قوله (ما عبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن) يعنى أداء حق المؤمن أفضل من أداء جميع العبادات، والأئمة (عليهم السلام) أفضل المؤمنين ورؤساؤهم، فأداء حقوقهم رأس جميع العبادات.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فضل حرمة المسلم على الحرم كلها» يريد أن الله تعالى جعل حرمة المسلم فوق كل حرمة، وقال أيضا: «وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها» يعنى أن الله تعالى ربطها بهما فأوجب على المخلصين المعترفين بالوحدانية المحافظة على حقوق المسلمين ومراعاة موضعها وقرن بتوحيده حتى صار فضلها كفضل التوحيد.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حق المسلم على المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم وقال: أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك، وإذا احتجت فسله وإن سألك فأعطه، لا تمله خيرا ولا يمله لك، كن له ظهرا فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته وإذا شهد فزره وأجله وأكرمه فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته وإن أصابه خير فاحمد الله، وإن ابتلي فأعضده وإن تمحل له فأعنه وإذا قال الرجل لأخيه: أف انقطع ما بينهما من الولاية وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما، فإذا اتهمه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء، وقال: بلغني أنه قال إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض، وقال: إن المؤمن ولي

ص:43

الله يعينه، ويصنع له، ولا يقول عليه إلا الحق، ولا يخاف غيره.

* الشرح:

قوله (وإذا احتجت فسله) أي فسله عن حاله وعن ذات يده وعما أكله هو وعياله البارحة، إلى غير ذلك من ضرورياته فإن احتاج إلى شيء فبادر إلى قضائه.

(لا تمله خيرا ولا يمله لك) الظاهر أنه من أمليته بمعنى تركته وأخرته والإملاء: فرو گذاشتن ومهلت دادن ودراز كشيدن مدت، ولامه ياء، وأما الإملال بمعنى «ملول كردن» فبعيد والله أعلم (كن له ظهرا) أي معينا ناصرا في جميع الأمور فإنه لك ظهر وبذلك يتم نظام أموركم في الدنيا والآخرة.

(إذا غاب) بالسفر أو الأعم (فاحفظه في غيبته) في نفسه بالذكر الجميل والدعاء وترك الغيبة وزجر الغير عنها، وفي ماله وأهله برعايتهم وقضاء حاجتهم وتكفل أمورهم.

(فإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسأل سميحته) أي جوده بالعفو عن التقصير ومساهلته بالتجاوز لئلا يستقر في قلبه فيوجب التنافر والتباغض، وفي بعض النسخ «سخيمته» بالخاء المعجمة قبل الياء أي حتى تسأل عن سبب سخيمته وهي الحقد والبغض، فإذا ظهر لك فتداركه حتى تزول السخيمة عنه فيخلص لك المودة، فإن استمر فأعذر إليه حتى يقبل منك (وإن تمحل له فاعنه) أي وإن احتال لدفع البلاء عن نفسه بحيلة نافعة فأعنه في إمضائه (وإذا قال أنت عدوي كفر أحدهما) لأن المؤمن عدو للكافر دون المؤمن، فالمخاطب إن كان مؤمنا فالقائل كافر، وإن كان كافرا فالقائل مؤمن، وأيضا هذا القول إما صادق أو كاذب وعلى التقديرين يلزم كفر أحدهما، فليتأمل.

(فإذا اتهمه انماث الايمان في قلبه) اتهمه من باب الإفعال أو الافتعال أي من أدخل التهمة على المؤمن ذاب الايمان في قلبه، والتهمة «دروغ بستن بر كسى» ثم بالغ في مواخاة المؤمن وحبه ورعاية حقوقه ورغب فيها بقوله:

(إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء) أي ليزهر إيمانه أو أعماله الصالحة وأخلاقه الفاضلة أو نفسه الناطقة الكاملة أو نور إلهي يغشاه بسبب صفاء ذاته وحسن صفاته.

(وقال: إن المؤمن ولى الله يعينه ويصنع له) الولي فعيل بمعنى فاعل أي المؤمن محب الله وناصره وقائم بأمره، وفي المصباح الولي فعيل بمعنى مفعول في حق المطيع فيقال المؤمن ولي الله، والمراد بإعانته لله تعالى إعانة دينه ونصرة أوليائه والحماية لهم والذب عنهم، وبصنعه له

ص:44

العمل بأوامره ونواهيه وآدابه والتسليم والرضا بحكمه قاصدا بذلك وجهه تعالى.

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للمسلم على أخيه المسلم من الحق أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض، وينصح له إذا غاب، ويسمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات.

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة مثله.

* الشرح:

قوله (ويسمته إذا عطس) تسميت العاطس الدعاء له، والشين المعجمة مثله، وكلاهما مروي، وقال أبو عبيد: الشين المعجمة أعلى وأفشى، وقال ثعلب: المهملة هي الأصل، أخذ من السمت وهو القصد والهدى والاستقامة، وكل داع بخير فهو مسمت أي داع بعوده والبقاء إلى سمته، وقيل:

اشتقاق المهملة من السمت وهو الهيئة الحسنة أي جعلك الله على هيئة حسنة، لأن هيئته تنزعج للعطاس، واشتقاق المعجمة من الشوامت كأنه دعاء له بالثبات على طاعة الله أو ببعده عما يشمت به عليه.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي المأمون الحارثي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حق المؤمن على المؤمن؟ قال: إن من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره، والمواساة له في ماله، والخلف له في أهله، والنصرة له على من ظلمه، وإن كان نافلة في المسلمين وكان غائبا أخذ له بنصيبه وإذا مات الزيارة إلى قبره، وأن لا يظلمه وأن لا يغشه وأن لا يخونه وأن لا يخذله وأن لا يكذبه وأن لا يقول له أف، وإذا قال له: اف فليس بينهما ولاية وإذا قال له: أنت عدوي فقد كفر أحدهما، وإذا اتهمه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن أبي علي صاحب الكلل، عن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله (عليه السلام) فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة فأشار إلي فكرهت أن أدع أبا عبد الله (عليه السلام) وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إلي أيضا فرآه أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا أبان إياك يريد هذا؟ قلت: نعم، قال: فمن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا، قال: هو على مثل ما أنت عليه؟ قلت: نعم، قال: فاذهب إليه، قلت:

فأقطع الطواف؟ قال: نعم، قلت: وإن كان طواف الفريضة؟ قال: نعم، قال: فذهبت معه، ثم دخلت عليه بعد فسألته، فقلت: أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن فقال: يا أبان دعه لا ترده، قلت:

بلى جعلت فداك فلم أزل اردد عليه، فقال: يا أبان تقاسمه شطر مالك، ثم نظر إلي فرأى ما دخلني. فقال: يا أبان أما تعلم أن الله عز وجل قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟ قلت: بلى

ص:45

جعلت فداك، فقال: أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد، إنما أنت وهو سواء إنما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر.

* الشرح:

قوله (فقال يا أبان أما تعلم أن الله عز جل قد ذكر المؤثرين على أنفسهم) الإيثار الاختيار مصدر أثر على أفعل وهو أشد من السخاوة والاقتصاد لأن السخي يبذل ما زاد عن قدر حاجته والمؤثر يبذل ما يحتاج إليه وقد دل بعض الآيات والروايات على الإيثار وبعضها على الاقتصاد مثل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط...) ومثل ما روي «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» قيل: معناه ما كان يعد كفاية النفس والعيال وغنائمهما عنه، ولعل الوجه فيه أن البذل يتفاوت بتفاوت الأزمان والمقامات وأحوال الطرفين وطيب النفوس فقد يكون الاقتصاد أرجح من الإيثار كما في عامة المؤمنين وقد يكون الأمر بالعكس كما في الصديقين. وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) تعليم للمؤمنين.

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب عن عمر بن أبان، عن عيسى بن أبي منصور قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) أنا وابن أبي يعفور وعبد الله بن طلحة فقال ابتداء منه: يا ابن أبي يعفور قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ست خصال من كن فيه كان بين يدي الله عز وجل وعن يمين الله. فقال ابن أبي يعفور وما هن جعلت فداك؟ قال: يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب لأعز أهله. ويكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعز أهله، ويناصحه الولاية، فبكى ابن أبي يعفور، وقال: كيف يناصحه الولاية؟ قال: يا ابن أبي يعفور إذا كان منه بتلك المنزلة بثه همه ففرح لفرحه إن هو فرح وحزن لحزنه إن هو حزن، وإن كان عنده ما يفرج عنه فرج عنه وإلا دعا الله، قال:

ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاث لكم وثلاث لنا أن تعرفوا فضلنا وأن تطؤوا عقبنا، وأن تنظروا عاقبتنا، فمن كان هكذا كان بين يدي الله عز وجل فيستضيء بنورهم من هو أسفل منهم وأما الذين عن يمين الله فلو أنهم يراهم من دونهم لم يهنئهم العيش مما يرون من فضلهم، فقال ابن أبي يعفور: وما لهم لا يرون وهم عن يمين الله؟ فقال: يا ابن أبي يعفور إنهم محجوبون بنور الله، أما بلغك الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: إن لله خلقا عن يمين العرش بين يدي الله وعن يمين الله وجوههم أبيض من الثلج وأضوأ من الشمس الضاحية، يسأل السائل ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء

ص:46

الذين تحابوا في جلال الله.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ست خصال من كن فيه كان بين يدي الله عز جل وعن يمين الله) هذا تمثيل لقصد الإيضاح، أو اليد مجاز عن الرحمة من باب الإرسال أو المكنية والتخييلية، واليمين:

الجانب الأشرف والأقوى، ولعل كونه عن يمينه كناية عن كرامته وعظمته وعلو منزلته ورفعته باعتبار أن من عظمت منزلته تبوأ عن يمين الملك، وكل ما جاء في القرآن من إضافة اليد واليمين إلى الله تعالى فهو على سبيل التمثيل أو المجاز والاستعارة والكناية لأنه تعالى منزه عن ظاهرهما.

* الشرح:

قوله (بثه همه) كأن المراد بالبث: التهييج والإثارة، وبالهم: العزم والإرادة أو الحزن أي هيجه وأثاره عزمه وإرادته خير المؤمن أو حزنه في أمره. وأراد (عليه السلام) بقوله:

(ثلاث لكم) ما ذكره قبل، وبقوله (ثلاث لنا) ما يذكر بعد وهي معرفة فضلهم على غيرهم بالعلم والعمل وقرب النبي ووطأ عقبهم واقتفاء أثرهم في العلم والعمل والتمسك بدين الحق وانتظار عاقبتهم في الدنيا بظهور القائم (عليه السلام) وفي الآخرة بالكرامة والشفاعة، ثم أشار إلى بعض فضائلهم للترغيب في تحصيلها والحث على محبة أهلها وحفظ حقوقهم بقوله. (فمن كان هكذا) أي متصفا بالخصال المذكورة (كان بين يدي الله عز وجل) وهو سبحانه ناظر إليهم بنور رحمته وإحسانه.

(فيستضيء) بنورهم من هو أسفل منهم) من المؤمنين الذين لم يتصفوا بتلك الخصال وحرموا عن نيل هذا الكمال كما يستضيء بنور الشمس كل من هو أسفل منها، وهذا النور كما يكون لهم في الآخرة يكون لهم في الدنيا أيضا كما مر من أن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض، إلا أن هذه الأبصار قاصرة عن إدراكه.

(وأما الذين عن يمين الله) دل على أنهم غير من كانوا بين يدي الله عز وجل وكان المراد بهم الأئمة (عليهم السلام) (فلو أنهم يراهم من دونهم لم يهنئهم العيش مما يرون من فضلهم) لأنهم يبهتون من ملاحظة فضلهم وكمالهم ويتحيرون من مشاهدة حسنهم وجمالهم، وبين سبب عدم رؤيتهم (أنهم محجوبون بنور الله) والنور الساطع والضوء اللامع إذا بلغا حد الكمال يمنعان من المشاهدة كما يشهد له النظر إلى الشمس مع أن نورهم أشد من نورها بل لا نسبة بينهما.

10 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل

ص:47

رجل فسلم، فسأله كيف من خلفت من إخوانك؟ قال: فأحسن الثناء وزكى وأطرى، فقال له: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة؟ قال: وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم قال: قليلة، قال فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنك لتذكر أخلاقا قل ما هي فيمن عندنا، قال: فقال: فكيف تزعم هؤلاء أنهم شيعة.

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك إن الشيعة عندنا كثير فقال: [ف] - هل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسئ؟ ويتواسون؟ فقلت: لا، فقال ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن فضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو جعفر صلوات الله عليه يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم ولا يتجهم بعضكم بعضا ولا تضاروا ولا تحاسدوا وإياكم والبخل كونوا عباد الله المخلصين.

* الشرح:

قوله (ولا يتجهم بعضكم بعضا) تجهمه وتجهم له استقبله بوجه كريه عبوس.

13 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن الجبار، عن ابن فضال، عن عمر بن أبان، عن سعيد بن الحسن قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): فلا شيء إذا، قلت: فالهلاك إذا، فقال: إن القوم لم يعطوا أحلامهم بعد.

* الشرح:

قوله (فقال أبو جعفر (عليه السلام) فلا شيء اذا) أي لا اعتناء به وبدينه، ولعل المراد أن حق الأخوة كما هو غير متحقق فيهم لا أنه منتف عنهم بالمرة، وكان السائل حمله على الثاني لأنه الموجب للهلاك والعقوبة لا على الأول الموجب لرفع الكمال، وقوله (عليه السلام) «إن القوم لم يعطوا أحلامهم» أي عقولهم إشارة إلى عدم هلاكهم بذلك لعدم كمال عقولهم إذ التكليف متفاوت باعتبار تفاوت العقول وجعله رمزا إلى خطاء السائل في ذلك الحمل بعيد.

14 - علي بن إبراهيم، عن الحسين بن الحسن، عن محمد بن أورمة، رفعه، عن معلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حق المؤمن، فقال: سبعون حقا لا اخبرك إلا بسبعة، فإني عليك مشفق أخشى ألا تحتمل، فقلت: بلى إن شاء الله، فقال: لا تشبع ويجوع ولا تكتسي ويعرى،

ص:48

وتكون دليله وقميصه الذي يلبسه ولسانه الذي يتكلم به وتحب له ما تحب لنفسك وإن كانت لك جارية بعثتها لتمهد فراشه وتسعى في حوائجه بالليل والنهار، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايتنا وولايتنا بولاية الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (وتكون دليله وقميصه الذي يلبسه) أي يكون دليله إلى منافعه الدنيوية والأخروية التي أعظمها العلم بأمور الدين ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وتكون قميصه أي بطانته وصاحب سره وأهل معاشرته وخاصته ويمكن أن يعتبر تشبيهه بالقميص في دفع المكاره عنه كما أن القميص يدفع الحر والبرد. وضمير تسعى في قوله «وتسعى في حوايجه بالليل والنهار» راجع إلى الجارية فلا يلزم زيادة الحق على السبعة بواحد.

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل: «رحماء بينكم» متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (والتعاقد على التعاطف) التعاقد التعاهد. والتعاطف «باهمديگر مهربانى كردن» وفي بعض النسخ «التعاون» بدل التعاقد وهو الموافق لما في الباب الآتي من رواية أبي المغرا عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(والمواساة لأهل الحاجة) بتسويته بإعطاء النصف وقد يراد بها التشريك مطلقا في النصف أو أقل أو أكثر.

(وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل رحماء بينكم) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وايماء إلى أن الآية أمر في المعنى بتلك الخصال لكونها في مقام المدح المستلزم للأمر بها وإلى أن الأمر بها غير مختص بالصحابة وإن نزلت الآية في شأنهم بل يجري في الأمة إلى يوم القيامة، والظاهر أن «متراحمين» خبر ثان ل «تكونوا».

(ومغتمين...) خبر ثالث مع احتمال نصبها على الحال، والظاهر أن ضمير من أمرهم راجع إلى المسلمين وأن المراد بذلك الأمر الغايب أي الفايت هو التعاطف والمساواة والتراحم وغيرهما من

ص:49

حقوقهم، وقد كانت رعاية ذلك وصف الأنصار فإنهم كانوا لا يرى منهم مؤمن إلا سلمه وصافحه وعانقه وراعى حقوقه، وأن الاغتمام بفواتها توبة وندامة توجب التدارك والتلافي في مستقبل الأوقات، وذكر التعاطف لا يخلو من شائبة التكرار إلا أن يراد به هنا إيقاعه، وفي الأول العزم به، والتأكيد المشعر بالاهتمام به محتمل. والله أعلم.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حق على المسلم إذا أراد سفرا أن يعلم إخوانه وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه.

ص:50

باب التراحم والتعاطف

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن شعيب العقرقوفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأصحابه: اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين، متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه.

* الشرح:

قوله (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأصحابه اتقوا الله وكونوا إخوة بررة) شبه المؤمنين بالإخوة في الخصال المذكورة على الإطلاق من غير تفاوت بين الغني والفقير والقوي والضعيف والكبير والصغير والشريف والوضيع، ومراعاة هذه الخصال لا تمكن إلا ممن امتحن الله قلبه للإيمان والتقوى وأخلصه من الكبر والغين والحقد ونحوها من الأخلاق الذميمة فيؤثر عند ذلك مرضاة الله تعالى على متابعة الهوى، والتواصل من الوصل وهو ضد القطع والتدابر وكثيرا ما يجعل كناية عن الإحسان إلى الأخوة في الدين والإفضال على الأقربين والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم; والأمر بتذاكر أمرهم (عليهم السلام) بعد الأمر بملاقاة المؤمنين إشارة إلى أنه الغرض الأهم منها، والمراد بأمره تقدمهم وخلافتهم وفضلهم على جميع الأمة أو الأعم منه ومن نشر أحاديثهم وعلومهم.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن كليب الصيداوي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تواصلوا وتباروا وتراحموا وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عز وجل.

3 - عنه، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

تواصلوا وتباروا وتراحموا وتعاطفوا.

4 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمؤاساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل: (رحماء بينهم) متراحمين، مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص:51

باب زيارة الاخوان

اشاره

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن [علي] ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زار أخاه لله لا لغيره التماس موعد الله وتنجز ما عند الله وكل الله به سبعين ألف ملك ينادونه ألا طبت وطابت لك الجنة.

* الشرح:

قوله (من زار أخاه لله لا لغيره) كالألفة بسبب حسن الصورة أو الصوت أو الكلام أو بسبب قرب الجوار أو السعي في الحوائج أو نيل الجاه أو المال أو غير ذلك مما لا يتعلق بأمر ديني فإن هذه الأمور قد تتحقق في غير من أحبه الله بل في غير المؤمن فلا تكون سببا للوعد المذكور، وإنما السبب له أن يكون الزيارة لله وهي على وجهين الأول أن يزوره من أجل أنه عبد أحبه الله كزيارة المتعلم للمعلم لملاحظة حق التعليم والإرشاد. وبالعكس لملاحظة حق التعلم والاسترشاد وزيارة الصالح والعابد والزاهد مثلا للصلاح والعبادة والزهد فإن الزيارة لأجل هذه الأمور أيضا زيارة لله لا لغيره.

(وكل الله سبعين ألف ملك) الظاهر إرادة هذا العدد، والمبالغة في الكثرة محتملة.

(ينادونه إلا طبت وطابت لك الجنة) أي انشرح صدرك بإزالة الخبائث وصفت ذاتك من أدناس الذنوب وحلت لك الجنة ولذ لك نعيمها.

2 - عنه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن خيثمة قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) اودعه فقال: يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم وأن يعود غنيهم على فقيرهم وقويهم على ضعيفهم وأن يشهد حيهم جنازة ميتهم وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقيا بعضهم بعضا حياة لأمرنا، رحم الله عبدا أحيا أمرنا، يا خيثمة أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئا إلا بعمل وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع وأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره.

* الشرح:

قوله (وأوصهم بتقوى الله العظيم وأن يعود غنيهم على فقيرهم) الوصية بالشيء: الأمر بأن يفعله. والتقوى: التحرز من سخط الله والمتقي من يجعل بينه وبين الله تعالى وقاية تقيه منه وهو ينشأ من مشاهدة عظمته ولذلك وصفه بها. والعود: الفضل، والاسم منه العائدة وهي المعروف والصلة العطف والمنفعة (وهذا أعود) أي أنفع، واللقيا بكسر اللام أو ضمها وشد الياء، والأصل على فعول مصدر لقيه كرضيه إذا رآه، ووصف العدل ومخالفته مذموم. وقد ورد الآيات

ص:52

والرواية على ذمه وهو الاعتقاد بالحق والتكلم بالصواب والتعلم بالدين وترك العمل به والعمل بخلافه.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حدثني جبرئيل (عليه السلام) أن الله عز وجل أهبط إلى الأرض ملكا، فأقبل ذلك الملك يمشي حتى دفع إلى باب عليه رجل يستأذن على رب الدار: فقال له الملك: ما حاجتك إلى رب هذه الدار؟ قال: أخ لي مسلم زرته في الله تبارك وتعالى، قال: له الملك: ما جاء بك إلا ذاك؟ فقال ما جاء بي إلا ذاك. فقال: إني رسول الله إليك وهو يقرئك السلام ويقول: وجبت لك الجنة وقال الملك: إن الله عز وجل يقول: أيما مسلم زار مسلما فليس إياه زار.

إياي زار وثوابه علي الجنة.

* الشرح:

قوله (حتى دفع إلى باب عليه رجل) قال في النهاية: دفعت إلى كذا بالبناء للمفعول انتهيت إليه، وقول الملك له: «ما حاجتك إلى رب هذه الدار» دل ظاهرا على أن الثواب الموعود ليس لأهل الحاجة، وقال الغزالي: ليس أيضا للزائر من أجل القرابة ولا من أجل مكافاة الإحسان لما رووه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مثل هذه الرواية إلا أن الملك قال: ألك حاجة، قال لا، قال: ألك قرابة؟ قال لا، قال: لمكافأة إحسان إليك؟ قال: لا فبشره بالجنة كما نقل هنا.

(فليس إياه زار إياي زار) لما كانت زيارته إياه في الله وطلبا لقربه ورضاه كان هو المطلوب حقيقة بتلك الزيارة والمقصود بالذات من تلك الوصلة فلذلك نسب زيارته إلى زيارة ذاته المقدسة للتنبيه على أنه المقصود بالذات من كل وصل وفصل وأنه الغاية لكل طالب والمرجع لكل سالك، والمراد بزيارة العبد له عرض نفسه عليه والقيام بين يديه والإنابة والرجوع إليه بقلب خالص وعزم صادق 4 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي النهدي، عن الحصين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

من زار أخاه في الله قال الله عز وجل: إياي زرت وثوابك علي ولست أرضى لك ثوابا دون الجنة.

* الشرح:

قوله (ولست ارضى لك ثوابا دون الجنة) لعل المراد أن شيئا من خيرات الدنيا ونعمها لا يصلح أن يكون ثوابا لهذا العمل لانقطاعه وإنما ثوابه الجنة لدوامها ودوام نعيمها.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة عن يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من زار أخاه في جانب المصر ابتغاء وجه الله فهو

ص:53

زوره، وحق على الله أن يكرم زوره.

* الشرح:

قوله (من زار أخاه في جانب المصر ابتغاء وجه الله فهو زوره) ترغيب في الزيارة وإن كانت المسافة بعيدة، والزور بالفتح الزائر وهو في الأصل مصدر وضع موضع الاسم كصوم ونوم بمعنى صائم ونائم، وقد يكون الزور جمع الزائر كركب وراكب، وحمله هنا على المفرد يمنع حمله على الجمع (وحق على الله أن يكرم زوره) الكرم من صفاته وكل صفة له في غاية الكمال فكرمه في غاية الكمال وانما المانع من قبل العبد فإذا أزال العبد من نفسه ذلك المانع بتوفيقه رأى من آثار كرمه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولذلك حذف متعلق الكرم لقصور العبارة عن بيانه.

6 - عنه، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من زار أخاه في بيته قال الله عز وجل له: أنت ضيفي وزائري، علي قراك وقد أوجبت لك الجنة بحبك إياه.

7 - عنه، عن علي بن الحكم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي غرة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من زار أخاه في الله في مرض أو صحة، لا يأتيه خداعا ولا استبدالا، وكل الله به سبعين ألف ملك ينادون في قفاه: أن طبت وطابت لك الجنة فأنتم زوار الله وأنتم وفد الرحمن حتى يأتي منزله، فقال له يسير: جعلت فداك وإن كان المكان بعيدا؟ قال: نعم يا يسير وإن كان المكان مسيرة سنة، فإن الله جواد والملائكة كثيرة، يشيعونه حتى يرجع إلى منزله.

* الشرح:

قوله (لا يأتيه خداعا ولا استبدالا) أي لا يريد مخادعة المزور ولا يطلب بدل زيارته زيارة المزور له، أو الظاهر أن قوله «فإن كان المكان بعيدا» جزاؤه محذوف وهو يشيعه هذا العدد الكثير من الملائكة أو يطلب زيارته.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي [بن] النهدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

من زار أخاه في الله ولله جاء يوم القيامة يخطر [يخطو خ ل] بين قباطي من نور. ولا يمر بشيء إلا أضاء له حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله عز وجل له: مرحبا، وإذا قال: مرحبا أجزل الله عز وجل له العطية.

* الشرح:

قوله (من زار أخاه في الله ولله) الأخ في الله من تمسك بدين الحق وعمل به واتصف بالطاعة والصلاح، ولله إشارة إلى أن الكرامة المذكورة تترتب على زيارته إذا كانت طلبا لوجه الله ومرضاته لا لأمر آخر (يخطو بين قباطي من نور) في بعض النسخ: يخطر بالراء، أي يتبختر في مشيته ويتمايل كمشية المعجب المتكبر، والقباطي، جمع القبطية وهي ثوب من ثياب مصر بيضاء

ص:54

وكأنها منسوبة إلى قبط من أهل مصر شبه بها النور لقصد الإيضاح.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن بشير، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن العبد المسلم إذا خرج من بيته زائرا أخاه لله لا لغيره، التماس وجه الله، رغبة فيما عنده، وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك ينادونه من خلفه إلى أن يرجع إلى منزله: ألا طبت وطابت لك الجنة.

10 - الحسين بن محمد [عن أحمد بن محمد] عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زار مسلم أخاه المسلم في الله ولله إلا ناداه الله عز وجل أيها الزائر طبت وطابت لك الجنة.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل جنة لا يدخلها إلا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحق، ورجل زار أخاه المؤمن في الله، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله.

12 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليخرج إلى أخيه يزوره فيوكل الله عز وجل به ملكا فيضع جناحا في الأرض وجناحا في السماء يظله، فإذا دخل إلى منزله نادى الجبار تبارك وتعالى أيها العبد المعظم لحقي المتبع لآثار نبيي. حق علي إعظامك، سلني أعطك، ادعني أجبك، اسكت أبتدئك. فإذا انصرف شيعه الملك يظله بجناحه حتى يدخل [ه] إلى منزله، ثم يناديه تبارك وتعالى أيها العبد المعظم لحقي حق علي إكرامك قد أوجبت لك جنتي وشفعتك في عبادي.

* الشرح:

قوله (فيضع جناحا في الأرض وجناحا في السماء) ليحيطه بجناحيه وليكون وطاء له إذا مشى، وقيل هو كناية عن التعظيم والتواضع له.

13 - صالح بن عقبة، عن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لزيارة المؤمن في الله خير من عتق عشر رقاب مؤمنات، ومن أعتق رقبة مؤمنة وقى كل عضو عضوا من النار حتى أن الفرج يقي الفرج.

14 - صالح بن عقبة، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما ثلاثة مؤمنين اجتمعوا عند أخ لهم، يأمنون بوائقه ولا يخافون غوائله ويرجون ما عنده. إن دعوا الله أجابهم وإن سألوا

ص:55

أعطاهم وإن استزادوا زادهم وإن سكتوا ابتدأهم.

* الشرح:

قوله (أيما ثلاثة مؤمنين اجتمعوا عند أخ لهم يأمنون بوائقه ولا يخافون غوائله) البوائق جمع البايقة وهي النازلة أي الداهية والشر الشديد وباقتهم البايقة تبوقهم بوقا إذا أصابتهم ونزلت بهم.

والغوائل جمع الغائلة وهي الخديعة والفساد والشر والخصلة المهلكة والقيد يفيد أنه ينبغي ترك زيارة من لا يؤمن بوائقه وغوايله بالنسبة إلى الزائر وغيره من المؤمنين، ومن ثم قيل لا يجوز لأحد زيادة السلطان الجائر وأمراءه إلا لضرورة كدفع الضرر عن نفسه أو عن أحد من المسلمين وقد روي «أبغض الخلق إلى الله عالم زار سلطانا وإن العلماء أمناء ما لم يزوروا سلطانا جائرا فإذا زاروهم خانوا في الدين ولزم الفرار منهم» ومن طريق العامة «إن في جهنم واديا لا يدخل فيه إلا عالم زار سلطانا جائرا».

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب قال: سمعت أبا حمزة يقول:

سمعت العبد الصالح (عليه السلام) يقول: من زار أخاه المؤمن لله لا لغيره، يطلب به ثواب الله وتنجز ما وعد الله عز وجل وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك من حين يخرج من منزله حتى يعود إليه ينادونه: ألا طبت وطابت لك الجنة تبوأت من الجنة منزلا.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلوا.

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلوا) المغنم الغنيمة وهي الفائدة وفيه إشارة إلى أن الإخوان في الدين الذين يقومون بأمر الله ويعملون له وهم أخوان الثقة قليلون ولو وجدوا فلابد من لقائهم وزيارتهم وتعظيمهم ورعاية حقوقهم سرا وجهرا فإن فيه منافع جزيلة وفوائد جميلة لا يعلم قدرها إلا الله عز وجل.

ص:56

باب المصافحة

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن يحيى بن زكريا، عن أبي عبيدة قال: كنت زميل أبي جعفر (عليه السلام) وكنت أبدأ بالركوب، ثم يركب هو فإذا استوينا سلم وساءل مساءلة رجل لا عهد له بصاحبه وصافح، قال: وكان إذا نزل نزل قبلي فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وساءل مساءلة من لا عهد له بصاحبه، فقلت: يا ابن رسول الله إنك لتفعل شيئا ما يفعله أحد من قبلنا وإن فعل مرة فكثير، فقال: أما علمت ما في المصافحة، إن المؤمنين يلتقيان، فيصافح أحدهما صاحبه، فلا تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر، والله ينظر إليهما حتى يفترقا.

* الشرح:

قوله (قال كنت زميل أبي جعفر (عليه السلام) وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو) الزميل كأمير: العديل الذي حمله مع حملك على البعير وقد زاملك عادلك، والزميل أيضا: الرديف والرفيق في السفر الذي يعينك على أمورك. ولعل تأخره (عليه السلام) في الركوب تواضع منه لصاحبه وإراحة للمركوب بعدم المبادرة إلى الركوب، ومنه يفهم وجه تقدمه في النزول وقد رغب في المصافحة بعد فعلها بقوله:

أما علمت ما في المصافحة إلى آخره وهي أخذ اليد باليد، والأولى إلصاق صفح الكف بالكف والغمز يسيرا وإقبال الوجه بالوجه، والأولى بعد ذلك اشتباك الأصابع في الأصابع، وفضلها كثير وثوابها جزيل، من ذلك سقوط الذنوب عنهما ونظر الله اليهما بعين الرحمة والشفقة والإحسان حتى يفترقا، وقد يتركها المبتلى بالوسواس تحرزا عن نجاسة أخيه المؤمن التي توهمها ولم يعلم أن المؤمن طاهر مطهر وطيب مبارك، وأن ما توهمه خصلة شنيعة توجب ترك السنة وأذى المؤمن ومتابعة الشيطان وهذا الجاهل يسميه احتياطا ولا يعلم أن هذا الاحتياط بدعة مخالفة للشريعة.

2 - عنه، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبي خالد القماط، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن المؤمنين إذا التقيا وتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما، فصافح أشدهما حبا لصاحبه.

* الشرح:

قوله (أدخل الله يده بين أيديهما) أي يد وليه الغائب عن الأبصار أو اليد مجازا عن الرحمة أو النعمة والإحسان وتمثيل لقربها من المتصافحين حتى كأنهما يتناولانها والوجه في الخبر الآخر مستعار للجود.

ص:57

3 - ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب، عن السميدع، عن مالك بن أعين الجهني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله عز وجل يده بين أيديهما وأقبل بوجهه على أشدهما حبا لصاحبه، فإذا أقبل الله عز وجل بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أقبل الله عز وجل عليهما بوجهه وتساقطت عنهما الذنوب كما يتساقط الورق من الشجر.

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبيدة الحذاء قال: زاملت أبا جعفر (عليه السلام) في شق محمل من المدينة إلى مكة، فنزل في بعض الطريق، فلما قضى حاجته وعاد قال: هات يدك يا أبا عبيدة فناولته يدي فغمزها حتى وجدت الأذى في أصابعي، ثم قال: يا أبا عبيدة ما من مسلم لقى أخاه المسلم فصافحه وشبك أصابعه في أصابعه إلا تناثرت عنهما ذنوبهما كما يتناثر الورق من الشجر في اليوم الشاتي.

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يحيى الحلبي، عن مالك الجهني قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا مالك أنتم شيعتنا [أ] لا ترى أنك تفرط في أمرنا إنه لا يقدر على صفة الله فكما لا يقدر على صفة الله كذلك لا يقدر على صفتنا وكما لا يقدر على صفتنا كذلك لا يقدر على صفة المؤمن، إن المؤمن ليلقى المؤمن فيصافحه، فلا يزال الله ينظر إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما كما يتحات الورق من الشجر، حتى يفترقا، فكيف يقدر على صفة من هو كذلك.

* الشرح:

قوله (قال قال أبو جعفر (عليه السلام) يا مالك أنتم شيعتنا ألا ترى أنك تفرط في أمرنا إنه لا يقدر على صفة الله) لا ريب في أن أحدا لا يقدر على أن يصف الله تعالى كما هو أهله وإن بالغ وانتقل من وصف إلى ما هو أعلى منه في نظره حتى انتهى إلى غاية قدرته منه إذ لا يصل عقل البشر إلى كنه صفاته كما لا يصل إلى كنه ذاته وانما غاية كمال البشر أن يذعن بأنه موجد عالم قادر مثلا، وأما العلم بحقيقة وجوده وعلمه وقدرته، فمما لا سبيل له إليه ولا يمكن وقوفه عليه وكذلك لا يمكن إدراك ذات الرسول والأئمة والمؤمنين وصفاتهم وكمالاتهم وفضائلهم لكمال قربهم بالحق وعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم عن منتهى العقول، ألا ترى أنك لا تقدر على أن تصف نفسك فكيف تقدر على أن تصف ذات الله وصفاته ونفوس أولياء الله وكمالاتهم.

ص:58

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: زاملت أبا جعفر (عليه السلام) فحططنا الرحل، ثم مشى قليلا ثم جاء فأخذ بيدي فغمزها غمزة شديدة، فقلت: جعلت فداك أو ما كنت معك في المحمل؟! فقال: أما علمت أن المؤمن إذا جال جولة ثم أخذ بيد أخيه نظر الله إليهما بوجهه فلم يزل مقبلا عليهما بوجهه ويقول: للذنوب تحات عنهما، فتتحات يا أبا حمزة - كما يتحات الورق عن الشجر، فيفترقان وما عليهما من ذنب.

* الشرح:

قوله (فحططنا الرحل) الرحل كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع والمركب للبعير وحلس ورسن وجمعه أرحل ورحال مثل أفلس وسهام.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سألته عن حد المصافحة، فقال: دور نخلة.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمرو بن الأفرق، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ينبغي للمؤمنين إذا توارى أحدهما عن صاحبه بشجرة ثم التقيا أن يتصافحا.

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن محمد بن المثنى، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه وليصافحه، فإن الله عز وجل أكرم بذلك الملائكة فاصنعوا صنع الملائكة.

* الشرح:

قوله (إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه وليصافحه) دل على أنه ينبغي التسليم والتصافح لكل مؤمن عند كل لقاء وما اشتهر بين العوام من أنهم لا يسلمون إلا في أول مرة لمن هو معروف عندهم حتى أنه لو سلم أحد نادرا مرتين أو على غير المعروف ذموه فهو من سنن الجهلة.

11 - عنه، عن محمد بن علي، عن ابن بقاح، عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا التقيتم فتلاقوا بالتسليم والتصافح وإذا تفرقتم فتفرقوا بالاستغفار.

* الشرح:

قوله (وإذا تفرقتم فتفرقوا بالاستغفار) بأن تقول غفر الله لي ولك أو تقول غفر الله لك أو تقول

ص:59

اللهم اغفر للمؤمنين.

12 - عنه، عن موسى بن القاسم، عن جده معاوية بن وهب أو غيره، عن رزين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان المسلمون إذا غزوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومروا بمكان كثير الشجر ثم خرجوا إلى الفضاء نظر بعضهم إلى بعض فتصافحوا.

13 - عنه، عن أبيه، عمن حدثه، عن زيد بن جهم الهلالي، عن مالك بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا صافح الرجل صاحبه فالذي يلزم التصافح أعظم أجرا من الذي يدع، ألا وإن الذنوب لتتحات فيما بينهم حتى لا يبقى ذنب.

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فنظر إلي بوجه قاطب فقلت: ما الذي غيرك لي؟ قال: الذي غيرك لإخوانك، بلغني يا إسحاق أنك أقعدت ببابك بوابا، يرد عنك فقراء الشيعة، فقلت: جعلت فداك إني خفت الشهرة، فقال: أفلا خفت البلية، أو ما علمت أن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أنزل الله عز وجل الرحمة عليهما فكانت تسعة وتسعين لأشدهما حبا لصاحبه، فإذا توافقا غمرتهما الرحمة فإذا قعدا يتحدثان قال الحفظة بعضها لبعض: اعتزلوا بنا فلعل لهما سرا وقد ستر الله عليهما، فقلت: أليس الله عز وجل يقول: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)؟ فقال: يا إسحاق إن كانت الحفظة لا تسمع فإن عالم السر يسمع ويرى.

* الشرح:

قوله (فقال يا إسحاق ان كانت الحفظة لا تسمع فإن عالم السر يسمع ويرى) فعموم الآية بحاله لأن الله تعالى رقيب.

15 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن أيمن بن محرز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع [يده] منه.

* الشرح:

قوله (ما صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا قط فنزع يده حتى يكون هو الذي ينزع [يده] منه) فيه إخبار بفعل النبي (صلى الله عليه وآله) للحث على الاقتداء به، ولا خلاف من الخاصة والعامة في جواز الاقتداء بفعله وانما اختلفوا في حكمه هل واجب أو مندوب أو مباح فقال مالك وبعض أصحابه وأكثر الشافعية: واجب، وقال بعضهم: مندوب وقالت طائفة: مباح، والحق أن أفعاله إما جبلية كالقيام والقعود

ص:60

والأكل والشرب فهو مباح منا ومنه، وأما غيرها فإن دل دليل على اختصاصه كوجوب الوتر والتهجد فالاشتراك ينافي الاختصاص وإلا فإن علمت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فالاتباع فيه بحسب ما علم، وإن لم تعلم صفته فالظاهر ثبوت الرجحان المطلق.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله عز وجل لا يوصف وكيف يوصف وقال في كتابه: (وما قدروا الله حق قدره) فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك. وإن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يوصف وكيف يوصف عبد احتجب الله عز وجل بسبع وجعل طاعته في الأرض كطاعته فقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ومن أطاع هذا فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، وفوض إليه، وإنا لا نوصف وكيف يوصف قوم رفع الله عنهم الرجس وهو الشك، والمؤمن لا يوصف وإن المؤمن ليلقى أخاه فيصافحه فلا يزال الله ينظر إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما كما يتحات الورق عن الشجر.

* الشرح:

قوله (وكيف يوصف عبد احتجب الله عز وجل بسبع) لعل المراد أنه لا يمكن ان يوصف عبد اتخذه الله عز وجل حجابا في سبع سماوات وسبع أرضين وجهه إليه يستفيض منه ووجهه إلى الممكنات يفيض عليها، أو اتخذه حجابا بسبع صفات الذات لكونه مظهرها وانكشافها له وهي حجب نورانية لو انكشف وصف منها لأضاء بأنوار الهداية كل ملتبس فصار (صلى الله عليه وآله) بانكشافها له حجابا نورانيا مثلها أو أزال عنه الحجاب بسبع سماوات وسبع أرضين على أن تكون الهمزة للسلب فقد ترفع قدره عن المجردات الملكوتية والملائكة اللاهوتية وتنزه قلبه عن العوائق البشرية والعلايق الناسوتية، ويمكن أن يكون إشارة إلى ما وصل إليه من حجب المعراج وهذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال (وفوض إليه) لعل المراد فوض إليه كثيرا من الأحكام وبيان كيفيتها وحدودها كما دل عليه بعض الروايات وهذا التفويض غير التفويض الذي ذهب إليه الفرقة المفوضة الغالية وهو أن الله تعالى خلق محمدا وعليا وقيل سائر الأئمة أيضا وفوض إليهم خلق السماوات والأرض وما بينهما وتقدير الرزق والآجال والإحياء والإماتة، ويتمسكون بظاهر الأخبار وهو عند غيرهم مؤول بالسببية كما في الحديث القدسي «لولاك لما خلقت الأفلاك» لأن الله تعالى لما خلق الأشياء لأجلهم صحت نسبة الخلق إليهم تجوزا، والله أعلم.

ص:61

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إذا التقى المؤمنان فتصافحا أقبل الله بوجهه عليهما وتتحات الذنوب عن وجوههما حتى يفترقا.

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة.

* الشرح:

قوله (تصافحوا فإنها تذهب بالسخيمة) أي بسخيمة صاحبه المصافح له أو مطلقا والسخيمة:

الحقد والضغينة والموجدة في النفس.

19 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القدح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقي النبي (صلى الله عليه وآله) حذيفة، فمد النبي (صلى الله عليه وآله) يده فكف حذيفة يده، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

يا حذيفة بسطت يدي إليك فكففت يدك عني؟ فقال حذيفة: يا رسول الله بيدك الرغبة ولكني كنت جنبا فلم احب أن تمس يدي يدك وأنا جنب، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أما تعلم أن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر.

* الشرح:

قوله (أما تعلم أن المسلمين إذا التقيا) دل على أن الجنابة لا تمنع المصافحة وما فعله حذيفة كان في غاية التعظيم ورعاية الأدب ظاهرا.

20 - الحسين بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن إسحاق بن عمار قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام) إن الله عز وجل لا يقدر أحد قدره وكذلك لا يقدر قدر نبيه وكذلك لا يقر قدر المؤمن، إنه ليلقى أخاه فيصافحه فينظر الله إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما حتى يفترقا، كما تتحات الريح الشديدة الورق عن الشجر.

21 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن رفاعة، قال: سمعته يقول: مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة.

* الشرح:

قوله (مصافحة المؤمن أفضل من مصافحة الملائكة) أي مصافحة المؤمنين أفضل من مصافحة الملكين أو مصافحة المؤمن مع المؤمن أفضل من مصافحته مع الملائكة، ولعل السر فيه أن مصافحة المؤمن متوقفة على مجاهدات نفسانية والملائكة منزهة عنها.

ص:62

باب المعانقة

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفا بحقه كتب الله له بكل خطوة حسنة ومحيت عنه سيئة ورفعت له درجة وإذا طرق الباب فتحت له أبواب السماء فإذا التقيا وتصافحا وتعانقا أقبل الله عليهما بوجهه، ثم باهى بهما الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبدي تزاورا وتحابا في، حق علي ألا أعذبهما بالنار بعد هذا الموقف، فإذا انصرف شيعه الملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه، يحفظونه من بلاء الدنيا وبوائق الآخرة إلى مثل تلك الليلة من قابل فإن مات فيما بينهما اعفي من الحساب وإن كان المزور يعرف من حق الزائر ما عرفه الزائر من حق المزور كان له مثل أجره.

* الشرح:

قوله (أيما مؤمن خرج إلى أخيه يزوره عارفا بحقه كتب الله له بكل خطوة حسنة (ومحيت عنه سيئة) قد عرفت حق المؤمن آنفا والمراد بمعرفته معرفته مع أدائه وبالزيارة الزيارة خالصا لله لا لغرض آخر وبمحو السيئة محوها من باب الاحباط أو التفضل أو من أجل أن الخطوة كما هي سبب لحسنة كذلك سبب لمحو سيئة، والمعانقة جعل الرجل يديه على عنق صاحبه وضمه إلى نفسه وفضلها كثير عندنا وعند جماعة من العامة وأبو حنيفة كرهها ومالك رآها بدعة وأنكر سفيان قول مالك واحتج عليه بمعانقته (صلى الله عليه وآله) جعفرا حين قدم من الحبشة فقال مالك هو خاص بجعفر فقال سفيان ما يخص جعفرا يعمنا، فسكت مالك. قال الآبي: سكوته يدل على ظهور حجة سفيان حتى يقوم دليل على التخصيص، وقال القرطبي هذا الخلاف انما هو في معانقة الكبير وأما معانقة الصغير فلا أعلم خلافا في جوازها ويدل على ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) عانق الحسن (رضي الله عنه). ولعل المراد بقوله (صلى الله عليه وآله) «فإذا انصرف شيعه ملائكة عدد نفسه وخطاه وكلامه» عدد النفس والخطى، والكلام عند العود مع احتمال تعميمه بالذهاب والعود جميعا.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلا وجه الله ولا يريدان غرضا من أغراض الدنيا قيل لهما: مغفورا لكما فاستأنفا، فإذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة

ص:63

بعضها لبعض: تنحوا عنهما، فإن لهما سرا وقد ستر الله عليهما. قال إسحاق: فقلت: جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما وقد قال الله عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)؟ قال:

فتنفس أبو عبد الله (عليه السلام) الصعداء ثم بكى حتى اخضلت دموعه لحيته وقال: يا إسحاق إن الله تبارك وتعالى إنما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنين إذا التقيا إجلالا لهما وإنه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما فإنه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر وأخفى.

* الشرح:

قوله (فتنفس أبو عبد الله (عليه السلام) الصعداء ثم بكى حتى اخضلت دموعه لحيته) الصعداء «ناليدن ونفس كشيدن» والاخضال «تر كردن» كذا في كنز اللغة.

ص:64

باب التقبيل

اشاره:

1 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن الحسين بن أحمد المنقري، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لكم لنورا تعرفون به في الدنيا، حتى أن أحدكم إذا لقى أخاه قبله في موضع النور من جبهته.

* الشرح:

قوله (إن لكم لنورا تعرفون به في الدنيا) هو نور المعرفة واليقين والإيمان والأخلاق والأعمال والعارفون به الملائكة وأهل السماوات أهل الصلاح من بني نوعه يعرفونه بسيماه وفيه دلالة على أن القبلة على الجبهة، وفي خبر علي بن جعفر على أنها على الخدود كلاهما جايز والجمع أحسن.

وقال النيشابوري: في عصر الصحابة لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه وقبله. والمصافحة جائزة بالاتفاق، وأما المعانقة والتقبيل فكرهما أبو حنيفة وإن كان التقبيل من اليد.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن رفاعة بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

لا يقبل رأس أحد ولا يده إلا [يد] رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من اريد به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (أو من أريد به رسول الله (صلى الله عليه وآله)) أريد به الوصي وسيصرح به في الخبر التالي ويحتمل إرادة الأعم منه وممن يقرب منه.

3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن زيد النرسي، عن علي بن مزيد صاحب السابري قال:

دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فتناولت يده فقبلتها، فقال: أما إنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي.

* الشرح:

قوله (أما إنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي) ظاهره عدم جواز قبلة اليد لغيرهما.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن يونس بن يعقوب قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ناولني يدك أقبلها فأعطانيها، فقلت: جعلت فداك رأسك ففعل فقبلته، فقلت: جعلت فداك رجلاك، فقال: أقسمت، أقسمت، أقسمت - ثلاثا - وبقي شيء، وبقي شيء، وبقي شيء.

* الشرح:

قوله (فقلت جعلت فداك رجلاك: فقال: أقسمت أقسمت أقسمت - ثلاثا - وبقي

ص:65

شيء وبقي شيء وبقي شيء) لعل المعنى أقسمت أن لا أفعل وليبق شيء مما يجوز أن يقبل وانما منع منه وأتى بالأمر في صورة الخبر تقية من بعض الحاضرين وصرفا لوهمه إلى إرادة الإنكار، وذلك لأن تقبيل اليد والرأس كان شايعا عند العرب فلم يكن فيه تقية، وأما تقبيل الرجل فكان مختصا بالسلطان مع احتمال إرادة المنع والإنكار في نفس الأمر والإشارة إلى عدم جواز ذلك كاحتمال أن يكون أقسمت على صيغة الخطاب من القسم بالكسر وهو الحظ والنصيب أي أخذت حظك ونصيبك وما بعده على الاحتمالين المذكورين، ونقل عن خليل الفضلاء أن معناه أقسمت أنت أن تقبل الأعضاء الثلاثة وقبلت اثنين منها وبقي شيء وهو الرجل فقبلها لتبر بقسمك فقبلها.

5 - محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: من قبل للرحم ذا قرابة فليس عليه شيء. وقبلة الأخ على الخد وقبلة الإمام بين عينيه.

* الشرح:

قوله (من قبل للرحم ذا قرابة) أي لأجل الرحم أو لصلتها والتقبيل هنا وإن كان عاما لكن ينبغي أن يراد به تقبيل غير اليد والرجل لما مر.

6 - وعنه، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان، عن أبي الصباح مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس القبلة على الفم إلا للزوجة والولد الصغير.

ص:66

باب تذاكر الاخوان

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شيعتنا الرحماء بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله [إن ذكرنا من ذكر الله] إنا إذا ذكرنا ذكر الله وإذا ذكر عدونا ذكر الشيطان.

* الشرح:

قوله (شيعتنا الرحماء بينهم الذين إذا خلوا ذكروا الله) الرحماء جمع رحيم كالكرماء جمع كريم يعني إن شيعتنا هم الذين يتراحمون يرحم بعضهم بعضا، والحصر المستفاد من تعريف الخبر باللام للمبالغة والإشعار بأن من لم يتصف منهم بهذه الصفة كأنه ليس بشيعة وربما يدل عليه لفظ الشيعة أيضا لأنها من المشايعة وهي المتابعة فمتى لم يتحقق معنى المتابعة لهم في الأعمال والصفات لم يتحقق معنى التشيع حقيقة، والموصول خبر بعد خبر للإشارة إلى وصف آخر لهم وهو ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في حال خلوتهم ثم أشار بقوله «انا إذا ذكرنا ذكر الله» إلى أن ذكرهم (عليه السلام) ذكر الله عز وجل حقيقة لأن ذكرهم عبارة عن ذكر شرف ذواتهم وصفاتهم وكمالاتهم التي هي أفضل نعمائه تعالى عليهم ونقل أحاديثهم المرغبة في الرجوع إليه جل شأنه فهو عين ذكره تعالى، أو مجازا باعتبار أن ذكرهم مستلزم لذكره تعالى، أو باعتبار كمال الإيصال بينهم وبينه تعالى حتى كان ذكرهم ذكره ويعرف من هذه الوجوه بالمقايسة أن ذكر عدوهم ذكر الشيطان.

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن يزيد بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم.

* الشرح:

قوله (تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا) لأن زيارة المؤمنين بعضهم بعضا لوجه الله تعالى يوجب سرور القلب وقربه من الحق وكل ما يوجب ذلك فهو سبب لحياته وفيه ترغيب في ذكر أحاديثهم والتفاوض فيها عند التلاقي، والمراد بها أحاديثهم مطلقا سواء تعلقت بالأعمال أو الأخلاق وإن كان قوله (وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض) بأحاديث الأخلاق أنسب. والزعيم الكفيل.

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الوشاء، عن منصور بن يونس، عن عباد بن كثير قال:

ص:67

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني مررت بقاص يقص وهو يقول: هذا المجلس الذي لا يشقى به جليس، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هيهات هيهات، أخطأت أستاههم الحفرة: إن لله ملائكة سياحين سوى الكرام الكاتبين، فإذا مروا بقوم يذكرون محمدا وآل محمد قالوا: قفوا فقد أصبتم حاجتكم، فيجلسون فيتفقهون معهم، فإذا قاموا عادوا مرضاهم وشهدوا جنائزهم وتعاهدوا غائبهم، فذلك المجلس الذي لا يشقى به جليس.

* الشرح:

قوله (قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني مررت بقاص يقص وهو يقول هذا المجلس الذي لا يشقى به جليس) القص: البيان والإخبار، والقصص بالفتح: الاسم، وبالكسر: جمع قصة، والقاص: الذي يأتي بالقصة ويخبر بها وهي تطلق على الوعظ والخطبة وأحوال الأمم السابقة سواء كان لها حقيقة أم لا، ويحتمل إرادة كل واحد من هذه المعاني، أما الآخر فظاهر وأما الأولان فالمراد الوعظ المحرك إلى اتباع الفرق الضالة والأقوال والأعمال الباطلة، والخطبة المشتملة على أوصاف المنتحلين للخلافة، وقوله «هذا» مبتدأ وما بعده خبر ويحتمل أن يكون «هذا المجلس» مبتدأ والموصول مع صلته خبرا.

قوله (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) هيهات هيهات أخطأت استاههم الحفرة) الخطأ والخطاء والخطأ بفتح الخاء في الجميع وسكون الطاء أو فتحها مع القصر أو المد: ضد الصواب، والإخطاء عند أبي عبيد: الذهاب إلى خلاف الصواب مع قصد الصواب، يقال: أخطأ إذا أراد الصواب فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب وفعله قيل: قصده وتعمده، وعند غيره الذهاب إلى غير الصواب مطلقا عمدا وغير عمد، والأستاه بفتح الهمزة والهاء أخيرا جمع الأست بالكسر وهي حلقة الدبر والعجز أيضا وأصل الأست سته بالتحريك وقد يسكن التاء حذفت الهاء وعوضت منها الهمزة وهذا مثل يضرب لمن بعد عن الحق أو أخطأ في القول أو جلس مجلسا لا ينبغي له الجلوس فيه، ولا يبعد أن يشبه أفواههم بالأستاه والمواضع الباطلة من الأقوال بالحفرة تقبيحا لحالهم. وتكرير هيهات أي بعد هذا القول عن الصواب للمبالغة في البعد عن الحق.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن المستورد النخعي، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن من الملائكة الذين في السماء ليطلعون إلى الواحد والاثنين والثلاثة وهم يذكرون فضل آل محمد قال: فتقول: أما ترون إلى هؤلاء في قلتهم وكثرة عدوهم يصفون فضل آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قال: فتقول الطائفة الاخرى من الملائكة: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ص:68

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن مسكان، عن ميسر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: أتخلون وتتحدثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت إي والله إنا لنخلو ونتحدث ونقول ما شئنا، فقال: أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إني لاحب ريحكم وأرواحكم، وإنكم على دين الله وملائكته فأعينوا بورع واجتهاد.

* الشرح:

قوله (أما والله لوددت أني معكم في بعض تلك المواطن أما والله إني لأحب ريحكم وأرواحكم) للمؤمن ريح أطيب من المسك الأذفر يشمها المجردون ويدركها العارفون سيما إذا كان في بعض تلك المواطن التي أفضلها مدارس العلوم الشرعية ومواضع نشر فضايل الأئمة الطاهرة المرضية، فانظر أيها الطالب إلى كثرة فضلها ورفعة شرفها حتى أنه (عليه السلام) تمنى أن يكون جليسك فيها بل هو (عليه السلام) والملائكة المقربون جلساؤك فيها ولو كشف الغطاء لرأيت منزلا شريفا وأمرا غريبا، ولما كان مجرد التحدث والتقول بالحق غير نافع بل النافع هو مع العمل حث (عليه السلام) بعده على العمل بقوله «فأعينوا بورع واجتهاد» أي فأعينوا بعضكم بعضا أو فأعينوني لأنه (عليه السلام) زعيم بنجاتهم فطلب منهم الورع عن المنهيات، والاجتهاد في الطاعات ليكون له الخروج من عهدة الضمان أسهل، وأيضا طلب منهم ذلك لئلا يخجل عند الله لأنه (عليه السلام) أمير من الله عليهم وفساد الرعية بسوء الأعمال والطغيان يوجب خجالة الأمير عند السلطان.

6 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى، جميعا، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن مسلم، عن أحمد بن زكريا، عن محمد بن خالد بن ميمون، عن عبد الله بن سنان، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما اجتمع ثلاثة من المؤمنين فصاعدا إلا حضر من الملائكة مثلهم، فإن دعوا بخير أمنوا وإن استعاذوا من شر دعوا الله ليصرفه عنهم وإن سألوا حاجة تشفعوا إلى الله وسألوه قضاها وما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلا حضرهم عشرة أضعافهم من الشياطين، فإن تكلموا تكلم الشيطان بنحو كلامهم وإذا ضحكوا ضحكوا معهم وإذا نالوا من أولياء الله نالوا معهم، فمن ابتلي من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه، فإن غضب الله عز وجل لا يقوم له شيء ولعنته لا يردها شيء، ثم قال صلوات الله عليه: فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم، ولو حلب شاة أو فواق ناقة.

* الشرح:

قوله (فمن ابتلى من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك) أي دخلوا فيه (فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه) الشرك إما بفتح الشين وكسر الراء: مصدر «شركه في الأمر يشركه» من باب علم:

شركا وشركة وزان كلم وكلمة بفتح الأول وكسر الثاني إذا صار له شريكا أو بفتحتين

ص:69

وهو حبالة الصيد وما ينصب للطير. أو بكسر الأول وسكون الثاني وهو النصيب والشريك أيضا، وظاهر هذا الخبر ونحوه وظاهر قوله تعالى (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) دل على وجوب قيام المؤمن ومفارقته عن أعداء الدين وعلى لحوق الغضب واللعنة به مع القعود معهم، بل دل ظاهر الآية على أنه مثلهم في الفسق والنفاق والكفر ولا ريب فيه مع اعتقاد جواز ذلك وأما مع عدمه فظاهر بعض الروايات أن العذاب بالهلاك يحيط به أيضا إذا نزل ولكن قد ينجو في الآخرة بفضل الله تعالى، ثم أشار إلى حكمه عند عدم قدرته على المفارقة بالكلية للتقية أو غيرها بقوله:

(فإن لم يستطع فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة) أي ولو كان قيامه بقدر زمان حلب شاة أو بقدر زمان فواق ناقة والفواق بفتح الفاء وضمها الزمان الذي بين الحلبتين من الناقة لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب وكذلك يفعل بالبقرة أيضا.

7 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سليمان، عن محمد بن محفوظ، عن أبي المغرا قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده من زيارة الإخوان في الله بعضهم لبعض، قال: وإن المؤمنين يلتقيان فيذكران الله ثم يذكران فضلنا أهل البيت فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلا تخدد حتى أن روحه لتستغيث من شدة ما يجد من الألم فتحس ملائكة السماء وخزان الجنان فيلعنونه حتى لا يبقى ملك مقرب إلا لعنه، فيقع خاسئا حسيرا مدحورا.

* الشرح:

قوله (ليس شيء أنكى لإبليس وجنوده) نكى العدو فيهم من باب رمى، نكاية بالكسر: قتل وجرح حتى وهن، ونكأ القرحة ينكأ مهموزا من باب منع قشرها وهو كناية عن الإيلام الشديد (فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلا تخدد) المضغة القطعة. والتخدد الهزال والنقص والتشنج وذلك من شدة غمه وتألمه.

(فيقع خاسئا حسيرا مدحورا) الخاسئ البعيد من الناس أو من نيل المقصود من خسئ الكلب إذا بعد، وفي القاموس: الخاسئ من الكلاب والخنازير: المبعد لا يترك أن يدنو من الناس. والحسير إما من حسر البعير وهو حسير من باب ضرب إذا أعيى. أو من حسر على الشيء حسرة وهو حسير من باب علم إذا تلهف وتأسف، أو من حسر البصر حسرا وهو حسير من باب نصر إذ اكل وانقطع، والمدحور: المطرود من الدحر أو الدحور وهو الطرد والإبعاد والدفع، وفي كنز اللغة حسير: (كند شده ومانده شده، ومدحور دور كرده شده).

ص:70

باب ادخال السرور على المؤمنين

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سر مؤمنا فقد سرني ومن سرني فقد سر الله.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سر مؤمنا فقد سرني ومن سرني فقد سر الله) سرور المؤمن يتحقق بفعل موجباته مثل أداء دينه أو تكفل مؤونته أو ستر عورته أو رفع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء حاجته أو إجابة مسألته، والسرور من السر وهو الضم والجمع لما تشتت، والمؤمن إذا مسته فاقة أو عرضته حاجة أو لحقته شدة فإذا سددت فاقته وقضيت حاجته ودفعت شدته فقد جمعت عليه ما تشتت من أمره وضممت ما تفرق من سره ففرح بعد همه واستبشر بعد غمه ويسمى ذلك الفرح سرورا.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن رجل من أهل الكوفة يكنى أبا محمد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تبسم الرجل في وجه أخيه حسنة وصرف القذى عنه حسنة، وما عبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن فيما ناجى الله عز وجل به عبده موسى (عليه السلام) قال: إن لي عبادا ابيحهم جنتي واحكمهم فيها قال: يا رب ومن هؤلاء الذين تبيحهم جنتك وتحكمهم فيها؟ قال: من أدخل على مؤمن سرورا، ثم قال: إن مؤمنا كان في مملكة جبار فولع به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه فلما حضره الموت أوحى الله عز وجل إليه وعزتي وجلالي لو كان [لك] في جنتي مسكن لأسكنتك فيها ولكنها محرمة على من مات بي مشركا ولكن يا نار هيديه ولا تؤذيه ويؤتى برزقه طرفي النهار، قلت: من الجنة؟ قال: من حيث شاء الله.

* الشرح:

قوله (إن فيما ناجى الله عز وجل به عبده موسى (عليه السلام) قال: إن لي عبادا أبيحهم جنتي وأحكمهم فيها) الظاهر أن أبيحهم من الإباحة بالباء الموحدة أي جعلت الجنة مباحة لهم وأذنت لهم في التبوء حيث يشاؤون وقد أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا

ص:71

وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين)، ويحتمل أن يكون من الإتاحة بالتاء المثناة الفوقانية يقال أتاحه الله لفلان أي هيأه وقدره ويسره له والمتاح المقدر، والمراد بتحكيمهم فيها جعل الحكم إليهم فيشفعون ويدخلون فيها من شاؤوا حيث شاء (فولع به) ولع به كوجل ولعا محركة وولوعا بالفتح: استخف وبحقه ذهب.

(ولكن يا نار هيديه ولا تؤذيه) هيدي أمر من تهيدين تقول هاده الشيء يهيده هيدا وهادا إذا أزعجه وحركه وأفزعه وكربه وأصلحه، ولعل المراد تخويفه لكفره وعدم أذاه بالإحراق لإدخاله السرور على المؤمن ويفهم منه أن إدخال السرور يورث أجرا وإن لم يقع لوجه الله تعالى.

4 - عنه، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن إبراهيم، عن علي بن أبي علي، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمنين.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال:

قال: أوحى الله عز وجل إلى داود (عليه السلام) أن العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فابيحه جنتي، فقال داود: يا رب وما تلك الحسنة؟ قال: يدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة، قال داود: يا رب حق لمن عرفك أن لا يقطع رجاءه منك.

* الشرح:

قوله (ولو بتمرة) ترغيب في الإنفاق وإطعام الجايع وإن كان يسيرا فإن الله كريم يجعل الجزاء كثيرا ويعطي للقليل جزيلا.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف ابن حماد، عن مفضل ابن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سرورا أنه عليه أدخله فقط بل والله علينا، بل والله على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمن: شبعة مسلم أو قضاء دينه.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن سدير الصيرفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلما رأى المؤمن هولا من أهوال يوم القيامة قال له المثال لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل.

ص:72

حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه فيقول له المؤمن: يرحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك، فيقول من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلت على أخيك المؤمن في الدينا خلقني الله عز وجل منه لابشرك.

* الشرح:

قوله (إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه) قال الشيخ في الأربعين: المثال:

الصورة. ويقدم على وزن يكرم أي يقويه ويشجعه، من الإقدام في الحرب وهو الشجاعة وعدم الخوف، ويجوز أن يقرأ على وزن ينصر وماضيه قدم كنصر أي يتقدمه كما قال الله تعالى (ويقدم قومه يوم القيامة) ولفظ أمامه حينئذ تأكيد.

(نعم الخارج خرجت معي) أي نعم الخارج أنت و «خرجت» مفسر لنعم الخارج أو بدل عنه أو حال بتقدير قد (فيقول أنا السرور الذي كنت أدخلت على أخيك المؤمن في الدنيا) ظاهره أن السرور يصير مثالا فيدل كما صرح به الشيخ على تجسم الأعمال في النشأة الأخروية «قد ورد في بعض الأخبار تجسم الاعتقادات أيضا فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صورا نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صورا ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم، كما قاله جماعة المفسرين عند قوله تعالى (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) ويرشد إليه قوله تعالى (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ومن جعل التقدير ليروا جزاء أعمالهم ولم يرجع ضمير يره إلى العمل فقد أبعد، وإنما قلت ظاهره (1) ذلك لأنه يحتمل أن يخلق الله مثالا لأجل السرور، والحمل في قوله

ص:73


1- 1 - قوله «وإنما قلت ظاهره» لما كان تجسم الأعمال في دار الآخرة مبنيا على أصول حكمية لا يسهل تصورها على كثير من الظاهريين، استدرك ما قرره أولا من التحقيق بهذا الكلام للتقريب إلى أذهانهم، ولا يخفى أن تجسم العمل أيضا بصورة يخلق الله تعالى وليس وجود مادة يخلق فيه الصورة مناقضا لنسبة الخلق إليه تعالى ولا لإطلاق صيغة التحول والصيرورة، كما أن صيرورة الماء هواء لا يناقض الحكم بكون الهواء مخلوقا لله تعالى من الماء، ولكن في مسألة تجسم العمل لا يعترف أهل الظاهر بصيرورة العمل في صورة رجل من غير مادة مشتركة تتبدل عليها الصور كالماء والهواء، ونحن نوافقهم في عالم واحد لا في عوالم مختلفة فالعلم يصير في المنام في صورة اللبن لكون العلم من عالم واللبن من عالم آخر من غير أن يكون للعلم مادة بخلاف تبدل صورة جسمانية في عالم الأجسام إلى صورة جسمانية أخرى في عالم الأجسام أيضا. وقد سبق الكلام في تجسم الأعمال في المجلد الأول في الصفحة 91 و 155. (ش).

«أنا السرور» للمبالغة في السببية ويؤيده بعض روايات هذا الباب كرواية الحكم بن مسكين عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا وخلق له من ذلك لطفا فإذا نزل نائبة جرى إليه كالماء في انحداره حتى يطرده عنه» قال بعض المحققين: معناه خلق الله تعالى بدل ذلك السرور وعوضه ملكا ذا لطف ويبعث ذلك الملك اللطيف عند كل بلية على عجلة ليخلصه منها.

9 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن السياري، عن محمد بن جمهور قال: كان النجاشي وهو رجل من الدهاقين عاملا على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله (عليه السلام): إن في ديوان النجاشي علي خراجا وهو مؤمن يدين بطاعتك فإن رأيت أن تكتب لي إليه كتابا، قال: فكتب إليه أبو عبد الله «بسم الله الرحمن الرحيم سر أخاك يسرك الله» قال: فلما ورد الكتاب عليه دخل عليه وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد الله (عليه السلام) فقبله ووضعه على عينيه وقال له: ما حاجتك؟ قال: خراج علي في ديوانك، فقال له: وكم هو؟ قال:

عشرة آلاف درهم، فدعا كاتبه وأمره بأدائها عنه ثم أخرجه منها وأمر أن يثبتها له لقابل، ثم قال له: سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك ثم أمر له بمركب وجارية وغلام وأمر له بتخت ثياب في كل ذلك يقول له: هل سررتك؟ فيقول: نعم جعلت فداك، فكلما قال: نعم زاده حتى فرغ ثم قال له:

إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا فيه حين دفعت إلي كتاب مولاي الذي ناولتني فيه وارفع إلي حوائجك، قال: ففعل وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد الله (عليه السلام) بعد ذلك فحدثه الرجل بالحديث على جهته فجعل يسر بما فعل، فقال الرجل: يا ابن رسول الله كأنه قد سرك ما فعل بي؟ فقال: إي والله لقد سر الله ورسوله.

* الشرح:

قوله (كان النجاشي وهو رجل من الدهاقين) النجاشي بفتح النون وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها - وهو أفصح - الأب التاسع (1) لأحمد بن علي بن أحمد بن العباس صاحب كتاب الرجال، والدهقان معرب يطلق على رئيس القرية، وعلى التاجر، وعلى من له مال وعقار، وداله مكسورة. وفي لغة تضم. والجمع دهاقين، ودهقن الرجل وتدهقن كثر ماله. كذا في المصباح.

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي بن فضال عن منصور، عن عمار بن أبي اليقظان، عن أبان بن تغلب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حق المؤمن على المؤمن، قال: فقال: حق المؤمن على المؤمن أعظم من ذلك، لو حدثتكم لكفرتم، إن المؤمن إذا خرج من ص:74


1- 1 - قوله «وهو الأب التاسع» وهو صاحب الرسالة المذكورة في كتب الفقه عن أبي عبد الله (عليه السلام). ثم إن الشارح لم يشرح عدة أحاديث بعد هذه الرواية اكتفاء بما سبق في نظائرها ونحن نذكر جملة منه تذكارا وتأييدا. (ش).

قبره، خرج معه مثال من قبره (1). يقول له: أبشر بالكرامة من الله والسرور، فيقول له:

بشرك الله بخير، قال: ثم يمضي معه يبشره بمثل ما قال وإذا مر بهول قال: ليس هذا لك وإذا مر بخير قال: هذا لك فلا يزال معه يؤمنه مما يخاف ويبشره بما يحب حتى يقف معه بين يدي الله عز وجل فإذا أمر به إلى الجنة قال له المثال: أبشر فإن الله عز وجل قد أمر بك إلى الجنة، قال:

فيقول: من أنت رحمك الله تبشرني من حين خرجت من قبري وآنستني في طريقي وخبرتني عن ربي؟ قال: فيقول: أنا السرور الذي كنت تدخله على إخوانك في الدنيا خلقت منه (2) لابشرك وأونس وحشتك.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال مثله.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أحب الاعمال إلى الله السرور الذي تدخله على المؤمن تطرد عنه جوعته، أو تكشف عنه كربته.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحكم بن مسكين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أدخل على مؤمن سرورا خلق الله عز وجل من ذلك السرور خلقا (3) فيلقاه عند موته، فيقول له: أبشر يا ولي الله بكرامة من الله ورضوان ثم لا يزال معه حتى يدخله قبره [يلقاه] فيقول له مثل ذلك، فإذا بعث يلقاه فيقول له مثل ذلك، ثم لا يزال معه عند كل هول يبشره ويقول له مثل ذلك، فيقول له: من أنت رحمك الله؟ فيقول: أنا السرور الذي أدخلته على فلان.

ص:75


1- 1 - قوله «خرج معه مثال من قبره» المثال صورة أو شاخص يحكي شيئا، والحكاية مأخوذة في مفهومه ولما كان السرور في الدنيا أمرا معنويا غير محسوس ولا مقدر وفي الآخرة أمرا محسوسا يرى مقدرا أطلق عليه المثال إذ يحكي شيئا غيره، ومفاد الحديث أنه يراه بعد الخروج من القبر ويأتي في رواية أخرى أنه ييراه قبل إدخاله في القبر ويونسه أيضا ولا منافاة. (ش).
2- 2 - قوله «خلقت منه» قال أولا أنا السرور ثم قال خلقت منه ولا منافاة أيضا بينهما إذ يصدق على ما كانت له صورة تبدلت على صورة أخرى كالماء يصير هواء أنه هو باعتبار اشتراك المادة وأنه ليس هو بل خلق منه باعتبار تغير الصورة، فالمثال المرئي يصدق عليه أنه عين السرور بناء على تجسم الأعمال وأنه خلق منه يعني تغير عنه. (ش).
3- 3 - قوله «من ذلك السرور خلقا» الخلق عبارة أخرى عن المثال في الرواية السابقة. وقال المجلسي - رحمه الله - إن هذا دليل على أن الله يخلقه بسبب إدخال السرور لا أن العمل يتجسم. وهو بعيد جدا لأن آخر الكلام صريح في أنه نفس السرور لا خلق مناسب له مخلوق بسببه، والحق أن لا منافاة بين كونه نفس السرور وكونه مخلوقا منه كما قلنا إلا أن يتوهم متوهم أن تغير الصور ليس بفعل الله تعالى ولا ينسب إليه وإن فعله منحصر في إيجاد شيء لا من شيء ابتداء، وهو غلط فإن كل تغير وصيرورة بفعله تعالى كأصل الإيجاد والإبداع. (ش).

13 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن عبد الله بن سنان، قال: كان رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقرأ هذه الآية (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فما ثواب من أدخل عليه السرور؟ فقلت: جعلت فداك عشر حسنات، فقال: إي والله وألف ألف حسنة.

* الشرح:

قوله (فما ثواب من أدخل عليه السرور؟ فقلت جعلت فداك عشر حسنات) لعل الغرض من السؤال إعداد المخاطب للحق والإخبار بما لا يعلم أو استعلام مبلغه من العلم فأجاب بأن له عشر حسنات وكأنه استند بقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) فصدقه (عليه السلام) بقوله «إي والله» ثم قال: (والف ألف حسنة) لأن الله تعالى يزيد لمن يشاء ولديه مزيد.

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن اورمة، عن علي بن يحيى، عن الوليد ابن العلاء عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أدخل السرور على مؤمن فقد أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد وصل ذلك إلى الله وكذلك من أدخل عليه كربا.

15 - عنه، عن إسماعيل بن منصور، عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أيما مسلم لقى مسلما فسره سره الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (سره الله عز وجل) أي بالكرامة التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب الأعمال إلى الله عز وجل إدخال السرور على المؤمن إشباع جوعته أو تنفيس كربته أو قضاء دينه.

* الشرح:

قوله (أو تنفيس كربته) أي كشفها وإزالتها والكرب بالفتح والكربة بالضم الحزن يأخذ بالنفس وجمع الكربة كرب مثل غرفة وغرف.

ص:76

باب قضاء حاجة المؤمن

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي، عن بكار بن كردم، عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا مفضل إسمع ما أقول لك واعلم أنه الحق وافعله وأخبر به علية إخوانك، قلت: جعلت فداك وما علية إخواني؟ قال: الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم، قال: ثم قال: ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله عز وجل له يوم القيامة مائة ألف حاجة، من ذلك أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه وإخوانه الجنة بعد أن لا يكونوا نصابا وكان المفضل إذا سأل الحاجة أخا من إخوانه قال له: أما تشتهي أن تكون من علية الإخوان.

* الشرح:

قوله (وأخبر به علية إخوانك) علية الناس وعليهم: جلتهم.

2 - عنه، عن محمد بن زياد قال: حدثني خالد بن يزيد، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق خلقا من خلقه انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة، فإن استطعت أن تكون منهم فكن، ثم قال: لنا والله رب نعبده لا نشرك به شيئا.

* الشرح:

قوله (لنا والله رب) (1) مبتدأ وخبر وجملة «نعبده» صفة لرب والقسم تأكيد لمضمون الصفة قدم على رب لئلا يفصل بينه وبين صفته، و «لا نشرك» صفة ثانية أو حال عن فاعل «نعبده» ولعل نفي الشرك كناية عن قضائهم حوائج الفقراء وهو أيضا مراد بالعبادة بقرينة المقام ففيه دلالة على أن كل ما خالف إرادة الله تعالى فهو شرك به.

3 - عنه، عن محمد بن زياد، عن الحكم بن أيمن، عن صدقة الأحدب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله.

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن زياد، مثل الحديثين.

4 - علي، عن أبيه، عن محمد بن زياد، عن صندل، عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لقضاء حاجة امرئ مؤمن أحب إلي من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها

ص:77


1- 1 - (لنا والله رب) المفضل راوي الخبر متهم بالغلو عند كثير من أصحاب الرجال وهذا الكلام لحسم مادته عنه. (ش).

مائة ألف.

* الشرح:

قوله (لقضاء حاجة امرئ مؤمن أحب إلي (1) من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مائة ألف) أي مائة ألف دينار أو مائة ألف درهم، ولعل المراد إنفاقها في قضاء حوائج نفسه أو أحج بها لا في قضاء حوائج الرفقاء المؤمنين وغيرهم وإلا لزم تفضيل الشيء على نفسه.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن إسماعيل بن عمار الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك المؤمن رحمة على المؤمن؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذاك؟ قال: أيما مؤمن أتى أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسببها له، فإن قضى حاجته، كان قد قبل الرحمة بقبولها وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما رد عن نفسه رحمة من الله عز وجل ساقها إليه وسببها له وذخر الله عز وجل تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره، يا إسماعيل فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة من الله قد شرعت له فإلى من ترى يصرفها؟ قلت: لا أظن يصرفها عن نفسه، قال: لا تظن ولكن استيقن فإنه لن يردها عن نفسه. يا إسماعيل من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلط الله عليه شجاعا ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة، مغفورا له أو معذبا.

* الشرح:

قوله (وسببها له) أي جعلها سببا لغفران ذنوبه ورفع درجته والسبب ما يتوصل به إلى أمر من الأمور. قال بعض الأكابر: إن الحاجة إذا عرضت للرجل عندي أبادر إلى قضائها خوفا من أن يستغني عني.

قوله (سلط الله عليه شجاعا ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفورا له أو معذبا) شجاع كغراب وكتاب الحية: أو الذكر منها أو ضرب منها أو ضرب صغير، وقد يوصف بالأقرع وهو المتمعط شعر رأسه لكثرة سمه، والنهس بالسين المهملة والشين المعجمة أخذ اللحم بمقدم الأسنان ولسعه ونتفه، وفعل الأول من بابي منع وعلم وفعل الثاني من باب منع، وظاهر كثير من أرباب اللغة أن المهملة والمعجمة تكونان لكل ذي ناب مثل الكلب والذئب والحية وغيرها، وهو

ص:78


1- 1 - قوله «إلي» تشديد الياء للمتكلم فإذا كان أحب إليه (عليه السلام) كان أحب عند الله تعالى أيضا ولا ينبغي أن يصير هذا الكلام عذرا للملاحدة المتظاهرين بالاسلام لترك الحج أصلا كما نرى منهم كثيرا وعلى كل حال فلا يجوز ترك الواجب بعذر فعل المستحب. (ش).

منقول عن الأصمعي، وقال بعضهم: المعجمة للحية، والمهملة للكلب والذئب والسبع، وقال ثعلب: المهملة تكون بأطراف الأسنان، والمعجمة بالأسنان وبالأضراس، وهذا عكس الثاني بحسب الظاهر، والمراد بالإبهام إما إبهام الرجل أو إبهام اليد، وبالشجاع المعنى الحقيقي مع احتمال أن يراد به المعنى المجازي لأن كل صفة ذميمة كالشجاع في النهش بعد فراق الدنيا وصيرورة الإبهام ترابا لا يتأبى عن قبول النهش لأن تراب الإبهام كالإبهام في قبوله (1) ولعل الله تعالى يخلق فيه ما يجد به الألم، والله يعلم.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحكم بن أيمن، عن أبان بن تغلب قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من طاف بالبيت أسبوعا كتب الله عز وجل له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة، قال: وزاد فيه إسحاق بن عمار: وقضى له ستة آلاف حاجة. قال: ثم قال: وقضاء حاجة المؤمن أفضل من طواف وطواف حتى عد عشرا.

* الشرح:

قوله (ورفع له ستة آلاف درجة) يحتمل أن يراد بتلك الدرجات درجات القرب منه تعالى وأن يراد بها درجات الجنة (2) لأن في الجنة درجات بعضها فوق بعض كما قال الله تعالى (غرف فوقها غرف مبنية) قال القرطبي: أهل السفل من الجنة ينظرون إلى من فوقهم على تفاوت منازلهم كما ينظر من بالأرض درارى السماء وعظام نجومها فيقولون هذا فلان وهذا فلان كما يقال هذا المشتري وهذه الزهرة، ويدل على ما ذكره أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «إن أهل الجنة ليتراؤون الغرفة كما تراؤون الكواكب في السماء».

7 - الحسين بن محمد، عن أحمد [بن محمد] بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى، علي ثوابك ولا أرضى لك بدون

ص:79


1- 1 - «كالإبهام في قبوله» وقال المجلسي رحمه الله: يحتمل أن يكون النهش في الجسم المثالي وهو الظاهر. وما ذكره الشارح تكلف جدا، إذ جميع ما روي في عذاب القبر وثوابه والسؤال فيه والضغطة نظير النهش. ويجب أن يبين وجه دفع الشبهة عن جميع ذلك من جميع الوجوه ويندفع بكلام المجلسي رحمه الله جميع الشبه إن شاء الله. وقوله مغفورا له يدل على النهش ولو مع كونه منعما. (ش).
2- 2 - «وأن يراد بها درجات الجنة» لا فرق بين الاحتمالين في المعنى لأن درجات الجنة بحسب درجات القرب من الله تعالى، وأما سر هذا العدد فخفى عنا وهو من علم الآخرة ولا يمكن أن يعد من التخمين والمبالغة كما توهمه بعض لأن اختيار عدد خاص من بين الأعداد لبيان الكثرة لا يخلو من نكتة في كلام المعصوم (عليه السلام) وأما تضعيفه ثواب قضاء حاجة المؤمن عشر مرات فيحتمل أن يكون الوجه فيه أن العشرة أول مراتب التضعيف لأن العشرات بعد الآحاد، والمئات بعد العشرات، وإذا ذهب الذهن إلى التضعيف فأول ما يسنح له عشر مرات وأما زيادة الآحاد على الآحاد فلا يعد شيئا يعتد به غالبا. (ش).

الجنة.

8 - عنه، عن سعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: من طاف بهذا البيت طوافا واحدا كتب الله عز وجل له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله له سبعة أبواب من أبواب الجنة، قلت له: جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف؟ قال: نعم وأخبرك بأفضل من ذلك، قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتى بلغ عشرا.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن إبراهيم الخارقي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من مشي في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله حتى تقضى له كتب الله عز وجل له بذلك مثل أجر حجة وعمرة مبرورتين وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام، ومن مشي فيها بنية ولم تقض كتب الله له بذلك مثل حجة مبرورة. فارغبوا في الخير.

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن أورمة، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فان للجنة بابا يقال له: المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فان العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل الله عز وجل به ملكين: واحدا عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربه ويدعوان بقضاء حاجته، ثم قال: والله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أسر بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة.

* الشرح:

قوله (ثم قال والله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أسر بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة) لعل وجه التفضيل أن سرور صاحب الحاجة لقضاء حاجته وسروره (صلى الله عليه وآله) لسرور صاحبها ولقضاء حاجته (صلى الله عليه وآله) لأن صاحب الحاجة عياله ولتمسك القاضي بآدابه.

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: والله لأن أحج حجة أحب إلي من أن اعتق رقبة ورقبة [ورقبة] مثلها ومثلها حتى بلغ عشرا ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين ولأن أعول أهل بيت من المسلمين أسد جوعتهم وأكسو عورتهم فأكف وجوههم عن الناس أحب إلي من أن أحج حجة وحجة [وحجة] ومثلها ومثلها حتى بلغ عشر أو مثلها ومثلها حتى بلغ السبعين.

ص:80

* الشرح:

قوله (ولأن أعول أهل بيت من المسلمين) عالهم يعولهم أي قاتهم وأنفق عليهم وقام بحوائجهم.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي علي صاحب الشعير عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام) أن من عبادي من يتقرب إلي بالحسنة فاحكمه في الجنة، فقال موسى: يا رب وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته قضيت أو لم تقض.

13 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن جعفر قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فانما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفورا له أو معذبا، فإن عذره الطالب كان أسوأ حالا.

* الشرح:

قوله (فإن عذره الطالب كان أسوأ حالا) عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب: رفعت عنه اللوم فهو معذور أي غير ملوم، والاسم: العذر، وتضم الدال للاتباع وتسكن.

14 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده فيهتم بها قلبه، ويدخله الله تبارك وتعالى بهمه الجنة.

ص:81

باب السعي في حاجة المؤمن

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن محمد بن مروإن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: مشي الرجل في حاجة أخيه المؤمن يكتب له عشر حسنات ويمحى عنه عشر سيئات، ويرفع له عشر درجات، قال: ولا أعلمه إلا قال: ويعدل عشر رقاب وأفضل من اعتكاف شهر في المسجد الحرام.

* الشرح:

قوله (مشي الرجل في حاجة أخيه المؤمن يكتب له عشر حسنات) الأجر الموعود في الباب السابق لقضاء الحاجة وفي هذا الباب للسعي إليها سواء قضاها أم لا. والاعتكاف إما واجب بالالتزام أو يؤول إلى واجب. وقضاء حاجة المؤمن سنة مؤكدة، فقوله وأفضل من اعتكاف شهر دل على أن السنة أفضل من الفرض وهو غير عزيز.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة. ومن أدخل على مؤمن سرورا فرح الله قلبه يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (إن لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة) يمكن أن يكون هذا الأجر مترتبا على السعي كما هو الظاهر أو عليه وعلى قضاء الحاجة جميعا على احتمال، وإن كان للسعي وحده أجر، والحصر المستفاد من اللام مع تأكيده بضمير الفصل على سبيل المبالغة أو إضافي بالنسبة إلى من تركه أو إلى بعض الأعمال. وتفريج القلب: كشف الغم عنه وإدخال السرور فيه.

3 - عنه، عن أحمد، عن عثمان بن عيسى، عن رجل، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): من مشى في حاجة أخيه المسلم أظله الله بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدما إلا كتب الله له حسنة وحط عنه بها سيئة ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله عز وجل له بها أجر حاج ومعتمر.

* الشرح:

قوله (أظله الله بخمسة وسبعين ألف (1) ملك) أي يجعلهم طائرين فوق رأسه حتى

ص:82


1- 1 - قوله «بخمسة وسبعين ألف» لا نعلم سر هذا العدد فإنه من علوم الآخرة كما مر. (ش).

يظلوه لو كان لهم ظل (1) أو يجعله في ظلهم أي في كنفهم وحمايتهم لأن الظل يكنى به عن الكنف والناحية، ويدل ظاهر قوله (فإذا فرغ من حاجته كتب الله عز وجل له بها أجر حاج ومعتمر) على أن الأجر المذكور قبله للمشي في قضاء الحاجة وأجر الحاج والمعتمر لقضاء الحاجة ويحتمل أن يكون للمشي أيضا كما سيجيء.

4 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن هارون بن خارجة، عن صدقة عن رجل من أهل حلوان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن أمشي في حاجة أخ لي مسلم أحب إلي أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ما من مؤمن يمشي لأخيه المؤمن في حاجة إلا كتب الله عز وجل له بكل خطوة حسنة، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، وزيد بعد ذلك عشر حسنات وشفع في عشر حاجات.

* الشرح:

قوله (وزيد بعد ذلك عشر حسنات) أي لكل خطوة أو للجميع، ويؤيد الأول قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) والحاجات في قوله «وشفع في عشر حاجات» أعم من الحاجات الدنيوية والأخروية كالسؤال عن التجاوز من الذنوب والجرائم يقال: شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع والمشفع بالكسر من يقبل الشفاعة وبالفتح من تقبل شفاعته.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله عز وجل له ألف ألف حسنة، يغفر فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه ومن صنع إليه معروفا في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل له: ادخل النار فمن وجدته فيها صنع إليك معروفا في الدنيا فأخرجه بإذن الله عز وجل إلا أن يكون ناصبا.

* الشرح:

قوله (كتب الله عز وجل له ألف ألف حسنة) الروايات مختلفة في الأجر، ففي هذه الرواية هذا العدد وفي بعض ما تقدم عشر حسنات وفي بعضه لكل خطوة حسنة وفي بعض ما يأتي حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وفي بعضه خير من اعتكاف شهر، ولعل الاختلاف

ص:83


1- 2 - وقوله «لو كان لهم ظل» لا يبعد أن يكون لأجسام عالم الآخرة وما هو من سنخها كالملائكة ظل لا من جهة الظلمة والكثافة المانعة من النور إذ ليس هناك ظلمة وكثافة بل من جهة الراحة الحاصلة للمستجير بالظل من الهجير; قال الله تعالى: (أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين آمنوا). (ش).

باعتبار حال الساعي وفضله أو اهتمامه به أو باعتبار حال المحتاج وصلاحه أو شدة احتياجه أو باعتبار أن هذا الإحسان من باب التفضل، والله تعالى يزيد لمن يشاء.

7 - عنه، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن إسحاق بن عمار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم فاجتهد فيها فأجرى الله على يديه قضاءها كتب الله عز وجل له حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامهما وإن اجتهد فيها ولم يجر الله قضاءها على يديه كتب الله عز وجل له حجة وعمرة.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن جميل ابن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كفى بالمرء اعتمادا على أخيه أن ينزل به حاجته.

* الشرح:

قوله (كفى بالمرء اعتمادا على أخيه أن ينزل بها حاجته) لا ريب في أن المحتاج حريص في قضاء حاجته وأنه يحتال ويتفكر فيه وفي سببه، وإنه إذا رأى أن للخلق مدخلا فيه يقصد من له كمال اعتماد عليه فيما بينهم، وفيه ترغيب بليغ على قضاء حاجة الرافع لئلا يفسد ظنه ولا يرد عن نفسه تلك الفضيلة، وقال أفلاطون: إذا بلغ المستور إلى كشف حاله لك فاحذر رده فإنه قد أطلعك على سره مع باريه.

9 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن صفوان الجمال قال: كنت جالسا مع أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له: ميمون فشكا إليه تعذر الكراء عليه فقال لي:

قم فأعن أخاك، فقمت معه فيسر الله كراه، فرجعت إلى مجلسي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما صنعت في حاجة أخيك؟ فقلت: قضاها الله - بأبي أنت وامي - فقال: أما إنك إن تعين أخاك المسلم أحب إلي من طواف أسبوع بالبيت مبتديا ثم قال: إن رجلا أتى الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال: بأبي أنت وأمي أعني على قضاء حاجة، فانتعل وقام معه فمر على الحسين صلوات الله عليه وهو قائم يصلي فقال له: أين كنت عن أبي عبد الله (عليه السلام) تستعينه على حاجتك، قال: قد فعلت - بأبي أنت وامي - فذكر أنه معتكف، فقال له: أما إنه لو أعانك كان خيرا له من اعتكافه شهرا.

* الشرح:

قوله (فشكا إليه تعذر الكراء عليه) الكراء بالكسر والمد أجر المستأجر عليه وهو مصدر وفي الأصل من كاريته من باب قاتل، الكرى كالغنى المكاري وهو الذي يكري الدواب.

قوله (فقال أما إنك إن تعين أخاك المسلم أحب إلى من طواف أسبوع بالبيت مبتديا) «مبتديا» إما

ص:84

حال عن فاعل «قال» أي: قال (عليه السلام) ذلك مبتديا قبل أن أسأله عن أجر من قضى حاجة أخيه، أو قبل أن يتكلم بكلام آخر; وذلك لشدة الاهتمام به أو عن فاعل «تعين» أي تعين مبتديا قبل السؤال أو عن الطواف، فيدل على أن الطواف الأول أفضل وأن قضاء الحاجة أفضل منه أو تميز عن نسبة أحب إلى الإعانة أي الإعانة أحب من حيث الابتداء يعني قبل الشروع في الطواف لا بعده، واعلم أن ظاهر الأخبار المعتبرة دل على جواز القطع بل على رجحانه مطلقا والبناء من موضع القطع (1) فرضا كان أو نفلا، جاوز النصف أولا، والتفصيل حسن وهو رجحان القطع والبناء مطلقا في النفل ورجحان البقاء على الطواف، مع جواز القطع والبناء إن جاوز النصف في الفرض; لما رواه الشيخ عن أحدهما (عليهما السلام) أن الرجل يقطع الطواف لحاجته أو حاجة غيره فإن كان نافلة بنى على الشوط والشوطين، وإن كان طواف فريضة لم يبن الظاهر أنه لم يبن على ما ذكر وما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان، عن يحيى الأزرق، والظاهر أنه يحيى بن عبد الرحمن الأزرق الثقة قال:

«سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يسعى بين الصفا والمروة فيسعى ثلاثة أشواط أو أربعة أشواط فيلقاه الصديق فيدعوه إلى الحاجة أو الطعام؟ قال: إن أجابه فلا بأس ولكن يقضي حق الله أحب إلي من أن يقضى حاجة صاحبه» والتعليل يفيد تعدية الحكم إلى الطواف بل هو فيه أولى.

قوله (أما انه لو أعانك كان خيرا له من اعتكافه شهرا) هذا من المواضع التي جوز العلماء خروج المعتكف فيها عن معتكفه إلا أنه لا يجلس عند الخروج ولا يمشي تحت الظل اختيارا على المشهور ولا يجلس تحته على قول، ولا ريب في أن قضاء حاجة المؤمن من المرغبات الكفائية وقد ظهر للحسين أن أخاه الحسن (عليهما السلام) يسعى فيه فآثره لأخيه تكريما وتعظيما (2).

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن أبي جميلة، عن ابن سنان قال: قال أبو

ص:86


1- 1 - قوله «والبناء من موضع القطع» دلالة الروايات المعتبرة على البناء من موضع القطع في الفريضة ممنوعة نعم لا ريب في جواز القطع ورجحانه لقضاء حاجة المؤمن ولا ينافي ذلك وجوب الاستيناف كما صرح به في رواية أبان بن تغلب «عن الصادق (عليه السلام) في رجل طاف شوطا أو شوطين ثم خرج مع رجل في حاجة قال: إن كان طواف نافلة بنى عليه وإن كان طواف فريضة لم يبن» - انتهى - فالحكم في قطع الفريضة لحاجة المؤمن كالحكم فيه لغيرها، يبنى على ما فعل بعد كمال الأربعة ويستأنف قبلها، وإن لم يكن فيه رواية صريحة لكن لا خلاف فيه بين علمائنا ولو لم يكن فتاويهم لقلنا بوجوب الاستيناف مطلقا ولو مع رجحان القطع لقضاء حاجة المؤمن كقطع الصلاة لما يجوز له قطعها. (ش).
2- 2 - «تكريما وتعظيما له» لا يدفع كلام الشارح الاستبعاد عن مضمون الحديث لأن قوله (عليه السلام) «أما إنه لو أعانك كان خيرا له من اعتكافه شهرا» لو كان قوله حقيقة ولم يحرفه الراوي كان عتابا وتخطئة لا يناسب شأن الأئمة (عليهم السلام)، فالأولى حمله على وهم الراوي وتصرفه خصوصا مع جهالته. (ش).

عبد الله (عليه السلام): قال الله عز وجل: الخلق عيالي، فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم.

* الشرح:

قوله (قال الله عز وجل الخلق عيالي فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم) كما أن أحب الخلق إلى الرجل ألطفهم بعياله وأسعاهم في قضاء حوائجهم في حضوره وغيبته وهو يكافيه يوما ما خصوصا إذا كان كريما ذا ثروة.

واستعار لفظ العيال للخلق بالنسبة إليه عز وجل، ووجه المشابهة كما ذكرنا سابقا أن عيال الرجل من جمعهم ليقيتهم ويصلح حالهم كذلك الخلق انما خلقهم الله تعالى وجمعهم تحت عنايته ليصلح أحوالهم في معاشهم ومعادهم والتدبير في أقواتهم وأرزاقهم.

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن بعض أصحابه عن أبي عمارة قال: كان حماد بن أبي حنيفة إذا لقيني قال: كرر علي حديثك، فاحدثه، قلت: روينا أن عابد بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية في العبادة صار مشاء في حوائج الناس عانيا بما يصلحهم.

* الشرح:

قوله (أن عابد بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية في العبادة صار مشاء في حوائج الناس) وذلك لأنه لا يصل إلى هذا المطلب العظيم إلا من تنزهت نفسه بالعبادات والرياضات عن الصفات الرذيلة فإنه حينئذ يعرف قدر قضاء الحوائج وفضله وأنه أفضل العبادات ويتمكن من حمل نفسه عليه والاشتغال به.

وقوله «عانيا بما يصلحهم» من العناية أي الإرادة والاهتمام.

ص:87

باب تفريج كرب المؤمن

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن زيد الشحام قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده فنفس كربته وأعانه على نجاح حاجته كتب الله عز وجل له بذلك ثنتين وسبعين رحمة من الله، يعجل له منها واحدة يصلح بها أمر معيشته ويدخر له إحدى وسبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله.

* الشرح:

قوله (من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده) الإغاثة: النصرة والإعانة، واللهفان:

المكروب، يقال: لهف - من باب منع - لهفا فهو لهفان ولهف فهو ملهوف، واللهثان، والعطشان يقال:

لهث الكلب - من باب منع أيضا - لهثا فهو لهثان إذا أخرج لسانه من شدة العطش والحر. والجهد بالفتح والضم المشقة، وقيل بالضم الطاقة وبالفتح المشقة والكربة والشدة والمشقة للنفس عند طريان الحاجة ونحوها والتنفيس أعم من إزالة كلها أو بعضها، والثواب الموعود حاصل في كليهما.

وفي أحاديث هذا الباب والأبواب السابقة دلالة واضحة على أن من سعى في حاجة المؤمن حتى قضاها كان له من الأجر بتنفيس كربته ما ذكر في هذا الباب وللسعي في حاجته ما ذكر في باب قبله، ولقضاء حاجته وادخال السرور عليه ما ذكر في بابيهما.

2 - علي بن إبراهيم، عن [أبيه، عن] النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أعان مؤمنا نفس الله عز وجل عنه ثلاثا وسبعين كربة واحدة في الدنيا وثنتين وسبعين كربة عند كربته العظمى، قال: حيث يتشاغل الناس بأنفسهم.

* الشرح:

قوله (واحدة في الدنيا) يحتمل أن يراد بالوحدة الشخصية والنوعية فتشمل كرب الدنيا كلها.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن نعيم، عن مسمع أبي سيار، قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كرب الآخرة وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه شربة سقاه الله من الرحيق المختوم.

* الشرح:

قوله (وهو ثلج الفؤاد) ثلجت نفسي كنصر ثلوجا وثلجا: اطمأنت إليه وسكنت

ص:87

ووثقت به، والرحيق الخمر أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصافي والمراد به خمر الجنة والمختوم المصون الذي لم يتبدل لأجل ختامه.

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا (عليه السلام) قال: من فرج عن مؤمن فرج الله قلبه يوم القيامة.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن جميل بن صالح، عن ذريح المحاربي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) أيما مؤمن نفس عن مؤمن كربة وهو معسر يسر الله له حوائجه في الدنيا والآخرة، قال: ومن ستر على مؤمن عورة يخافها ستر الله عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة، قال: والله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه، فانتفعوا بالعظة وارغبوا في الخير.

* الشرح:

قوله (ومن ستر على مؤمن عورة) من طرق العامة: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» وليس من لوازم ذلك عدم التعيير بل يعير ويستر فمن وجد مؤمنا يشتغل بحرام يمنعه عنه ولا يذيع ذلك ويمكن تخصيص العورة بالعيوب والزلات التي لا توجب هتك الشريعة وإلا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وسيجئ في باب التعيير زيادة توضيح لمثل هذا إن شاء الله تعالى.

ص:88

باب اطعام المؤمن

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشبع مؤمنا وجبت له الجنة ومن أشبع كافرا كان حقا على الله أن يملأ جوفه من الزقوم، مؤمنا كان أو كافرا.

* الشرح:

قوله (من أشبع مؤمنا وجبت له الجنة) وهو مع كونه سببا لحياة المؤمن وسد مجاعته وموجبا للتودد والتآلف المطلوبين في نظام الإسلام والمسلمين من آداب الصالحين وخلق النبيين ولكن ينبغي أن لا يكون معه تكلف وتصنع ممن شقت عليه الزيادة على القدرة المعتادة كما دلت عليه الروايات، ولا فرق في ذلك بين البادي والحاضر خلافا لبعض العامة فإنه يخص ذلك بإطعام أهل البادي لأن في الحضر مرتفقا وسوقا ولا يخفى ضعفه. ولما أشار إلى منافع إطعام المؤمن أشار إلى مضار إطعام الكافر بقوله:

(ومن أشبع كافرا كان حقا على الله أن يملأ جوفه من الزقوم مؤمنا كان أو كافرا) الزقوم شجرة تخرج في أصل الجحيم، طلعها كأنه رؤس الشياطين، منبتها قعر جهنم وأغصانها ترتفع في دركاتها ولها ثمرة في غاية القبح، وظاهره عدم جواز إطعام الكافر مطلقا حربيا كان أو ذميا. قريبا كان أو بعيدا، غنيا كان أو فقيرا مشرفا بالموت أولا، لكن عموم بعض الأخبار مثل «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى» وصريح خبر مصادف عن أبي عبد الله (عليه السلام) في سقيه نصرانيا غلبه العطش (1) وإطعام الأسير الكافر، وأخبار بر الوالدين وصلة الأرحام مطلقا وإن كانوا كافرين، وجواز الوقف على الذمي يدل على جواز إطعام الكافر في الجملة سيما إذا كان ذميا خصوصا إذا كان ذا رحم. وما يتخيل من أن إطعامهم إعانة لهم على المعصية لأنه موجب لقوتهم المقتضية لطغيانهم فيها، يمكن دفعه بمثل ما ذكره الشهيد الثاني في الوقف من أن الغرض من إطعامهم ليس هو معصيتهم وطغيانهم فيها بل من حيث الحاجة وأنهم عباد الله ومن جملة بني آدم ومن جهة أنه يمكن أن يتولد منهم المسلمون، نعم إطعامهم بقصد الإعانة على المعصية أو لمحبتهم أو لكفرهم لا يجوز قطعا، ويمكن حمل هذا

ص:89


1- 1 - قوله «نصرانيا غلبه العطش» يكفي في ذلك قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) وكذلك سورة هل أتى وعمل أهل بيت رسول الله صلوات الله عليهم في إطعامهم لوجه الله مسكينا ويتيما وأسيرا لأن أسير المسلمين كان كافرا لا محالة. (ش).

الخبر عليه، والله يعلم.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن اطعم رجلا من المسلمين أحب إلي من أن اطعم افقا من الناس، قلت:

وما الافق؟ قال: مائة ألف أو يزيدون.

* الشرح:

قوله (لأن أطعم رجلا من المسلمين أحب إلى من أن أطعم أفقا من الناس) الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والأرز والتمر والزبيب واللبن ونحوها، ولعل المراد بالرجل من المسلمين: المؤمن، وبالأفق من الناس: المخالفون، وفيه دلالة على جواز إطعامهم، والأفق بضمتين: اسم جمع وليس منحصرا في عدد معين ولهذا فسره (عليه السلام) هنا بمائة ألف أو يزيدون وفسره أبوه (عليه السلام) في خبر عبيد الله الوصافي عنه بعشرة آلاف.

3 - عنه، عن أحمد، عن صفوان بن يحيى، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات والفردوس وجنة عدن وطوبى [و] شجرة تخرج في جنة عدن، غرسها ربنا بيده.

* الشرح:

قوله (من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات الفردوس وجنة عدن وطوبى وشجرة تخرج في جنة عدن غرسها ربنا بيده) في ملكوت السماوات صفة لجنان أو متعلق بأطعمه، والملكوت فعلوت من الملك بالكسر وخص بملك الله تعالى وقد يطلق على المجردات، والإضافة على الأول بيانية، وعلى الثاني بتقدير في. والفردوس: البستان الذي فيه الكرم والأشجار وضروب من النبت، قال الفراء: هو عربي واشتقاقه من الفردسة وهي السعة، وقيل منقول إلى العربية وأصله رومي.

وقيل سريانية، ثم سمي به جنة الفردوس، والعدن: الإقامة، يقال عدن بالمكان يعدن عدنا وعدونا من بابي ضرب وقعد إذا قام فيه ولزم ولم يبرح، ومنه جنة عدن أي جنة إقامة، وطوبى اسم للجنة مؤنث أطيب من الطيب وأصلها طيبي ضمت الطاء وأبدلت الياء بالواو، وقد تطلق على الخير وعلى شجرة في الجنة. وشجرة عطف على ثلاث جنان وإشارة إلى نعمة أخرى بعد ثلاثة، واليد بمعنى القدرة مجازا، والغرس ترشيح، والقول بأن كل شيء بقدرته فلا وجه لذكرها لا وجه له لأن التأكيد والبيان شايع وأيضا لذكرها وجه وجيه وهو التنبيه على أن غرسها ليس كغرس أشجار

ص:90

جنات الدنيا عن وسائط واستعمال آلات بل بمجرد إيجادها بقوله «كن» ويحتمل أن يكون الكلام من باب التمثيل تشبيها لفعل الغائب بالحاضر لقصد الإيضاح.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من رجل يدخل بيته مؤمنين فيطعمهما شبعهما إلا كان أفضل من عتق نسمة.

* الشرح:

قوله (إلا كان أفضل من عتق نسمة) كمية الزيادة غير معلومة لنا، والنسمة محركة نفس الريح، ثم سمي بها الإنسان والمملوك ذكرا أو أنثى. ولعل السر في كون إطعامهما أفضل أن إطعامهما إحياؤهما وليس عتق نسمة من باب الإحياء، فالفضل بينهما ظاهر.

5 - عنه، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم.

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ماله من الأجل في الآخرة، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين، ثم قال: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان ثم تلا قول الله عز وجل: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة).

* الشرح:

قوله (من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ماله من الأجر) لعل المراد بهذا المؤمن من بلغ جوعه حدا يوجب هلاكه فإن اطعامه حينئذ إحياء لنفسه وقد قال الله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا) وحينئذ فلا بعد في ترتب هذا الأجر العظيم عليه، والتعميم ممكن وعدم علم الملك والرسل بما له من الأجر إما لعظمة الأجر أو لأن تعيين قدره إنما هو في علم الله تعالى ولم يظهره عليهم، والأول أظهر لأن المقصود من الحديث إفادة عظمته.

قوله (إطعام المسلم السغبان) سغب سغبا وسغبانا بالتسكين والتحريك وسغابة بالفتح وسغوبا بالضم ومسغبة من بابي فرح ونصر: جاع فهو ساغب وسغبان أي جائع، وقيل: لا يكون السغب إلا أن يكون الجوع مع تعب، وأشار بالآية الشريفة إلى أن الإطعام من المنجيات التي رغب الله تعالى

ص:91

فيها، والمسغبة والمقربة والمتربة مصادر على وزن مفعلة من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر والتصق بالتراب. ووصف اليوم بذي مسغبة مجاز باعتبار صاحبه مثل نهاره صائم.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سقى مؤمنا شربة من ماء حيث يقدر على الماء أعطاه الله بكل شربة سبعين ألف حسنة وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل.

* الشرح:

قوله (أعطاه الله بكل شربة سبعين ألف حسنة) الظاهر أنه إذا شرب ثلاث مرات كما هو مندوب يستحق الساقي ذلك الأجر ثلاث مرات لصدق الشربة على كل واحدة منها.

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن حسين بن نعيم الصحاف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتحب إخوانك يا حسين؟ قلت: نعم، قال: تنفع فقراءهم؟ قلت: نعم، قال: أما إنه يحق عليك أن تحب من يحب الله، أما والله لا تنفع منهم أحدا حتى تحبه، أتدعوهم إلى منزلك؟ قلت: نعم ما آكل إلا ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقل والأكثر، فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): أما إن فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم، فقلت: جعلت فداك اطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي، ويكون فضلهم علي أعظم؟ قال: نعم إنهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك.

* الشرح:

قوله (أما والله لا تنفع منهم أحدا حتى تحبه) دل ظاهرا على أن النفع تابع للمحبة أو مستلزم لها ومنه يعلم وجه ما سبق من أن من أشبع كافرا كان حقا على الله أن يملأ جوفه من الزقوم.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي محمد الوابشي قال: ذكر أصحابنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: ما أتغدى ولا أتعشى إلا ومعي منهم الاثنان والثلاثة وأقل وأكثر، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم، فقلت: جعلت فداك كيف وأنا اطعمهم طعامي وانفق عليهم من مالي وأخدمهم عيالي؟! فقال: إنهم إذا دخلوا عليك دخلوا برزق من الله عز وجل كثير وإذا خرجوا خرجوا بالمغفرة لك.

* الشرح:

قوله (إذا دخلوا عليك دخلوا برزق من الله عز وجل كثير) وصف الرزق بالكثير لدفع توهم تخصيصه بقدر ما أكلوا فيدل على أن الإنفاق موجب لزيادة الرزق كما يدل عليه روايات كثيرة.

ص:92

10 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مقرن، عن عبيد الله الوصافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لأن اطعم رجلا مسلما أحب إلي من أن اعتق افقا من الناس، قلت: وكم الافق؟ فقال: عشرة آلاف.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أطعم أخاه في الله كان له من الأجر مثل من أطعم فئاما من الناس، قلت: وما الفئام [من الناس]؟ قال: مائة ألف من الناس.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن سدير الصيرفي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما منعك أن تعتق كل يوم نسمة؟ قلت: لا يحتمل مالي ذلك، قال: تطعم كل يوم مسلما، فقلت: موسرا أو معسرا؟ قال: فقال: إن الموسر قد يشتهي الطعام.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أكلة يأكلها أخي المسلم عندي أحب إلي من أن اعتق رقبة.

* الشرح:

قوله (قال أكلة يأكلها أخي المسلم عندي أحب إلي من أن أعتق رقبة) الأكلة بالفتح المرة وبالضم اللقمة والقرصة، وإرادة اللقمة أنسب بما مر من أن إطعام المسلم أحب إلي من أن أعتق أفقا من الناس، ولا اختلاف لما ذكرناه آنفا.

14 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن اشبع رجلا من إخواني أحب إلي من أن أدخل سوقكم هذا فأبتاع منها رأسا فاعتقه.

15 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن آخذ خمسة دراهم [و] أدخل إلى سوقكم هذا فأبتاع بها الطعام وأجمع نفرا من المسلمين أحب إلي من أن اعتق نسمة.

16 - عنه، عن الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل محمد بن علي صلوات الله عليهما ما يعدل عتق رقبة؟ قال: إطعام رجل مسلم.

17 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن أبي شبل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أرى شيئا يعدل زيارة المؤمن إلا إطعامه وحق على الله أن يطعم من أطعم مؤمنا من طعام الجنة.

ص:93

18 - محمد، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن اطعم مؤمنا محتاجا أحب إلي من أن أزوره ولأن أزوره أحب إلي من أن اعتق عشر رقاب.

19 - صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد ويزيد بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أطعم مؤمنا موسرا كان له يعدل رقبة من ولد إسماعيل ينقذه من الذبح، ومن أطعم مؤمنا محتاجا كان له يعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل ينقذها من الذبح.

20 - صالح بن عقبة، عن نصر بن قابوس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لإطعام مؤمن أحب إلي من عتق عشر رقاب وعشر حجج، قال: قلت: عشر رقاب وعشر حجج؟ قال: فقال: يا نصر إن لم تطعموه مات أو تدلونه فيجيء إلى ناصب فيسأله والموت خير له من مسألة ناصب، يا نصر من أحيا مؤمنا فكأنما أحيا الناس جميعا، فإن لم تطعموه فقد أمتموه وإن أطعمتموه فقد أحييتموه.

* الشرح:

قوله (أو تدلونه) دلوته أدلوه: أرسلته، وكذا أدليته أدليه فتدلونه يحتمل فتح التاء وضمها وأصله على تقدير الضم تدليونه.

ص:94

باب من كسا مؤمنا

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقا على الله أن يكسوه من ثياب الجنة وأن يهون عليه سكرات الموت وأن يوسع عليه في قبره وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى وهو قول الله عز وجل في كتابه: (وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون).

* الشرح:

قوله (وأن يهون عليه من سكرات الموت) أي من شدته وهمه وغشيته ثوبا من عرى العرى بالضم خلاف اللبس يعني «برهنه شدن» وفعله من باب رضى، والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعيش به وهي من عاش من باب سار صار ذا حياة فالميم زائدة ووزنها مفعلة. وقيل من معش فالميم أصلية ووزنها فعيلة.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر ابن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كسا أحدا من فقراء المسلمين ثوبا من عري أو أعانه بشيء مما يقوته من معيشته وكل الله عز وجل به سبعة آلاف ملك من الملائكة، يستغفرون لكل ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن صفوان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كسا أحدا من فقراء المسلمين ثوبا من عرى أو أعانه بشيء مما يقوته على معيشته وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك من الملائكة يستغفرون لكل ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) [قال:] من كسا مؤمنا كساه الله من الثياب الخضر. وقال في حديث آخر:

لا يزال في ضمان الله ما دام عليه سلك.

* الشرح:

قوله (ما دام عليه سلك) أي على ذلك الثوب وإن خرج عن حد اللبس والانتفاع.

ص:95

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان يقول: من كسا مؤمنا ثوبا من عري كساه الله من إستبرق الجنة ومن كسا مؤمنا ثوبا من غنى لم يزل في ستر من الله ما بقي من الثوب خرقة.

* الشرح:

قوله (من كسا مؤمنا ثوبا من غنى لم يزل في ستر من الله) يستره من الذنوب أو من العقوبة أو من النوائب أو من الجميع، ويفهم منه أن كساء المؤمن الغني يوجب هذه الكرامة فكيف الفقير.

ص:96

باب في إلطاف المؤمن وإكرامه

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن هشام، عن سعدان بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أخذ من وجه أخيه المؤمن قذاة كتب الله عز وجل له عشر حسنات، ومن تبسم في وجه أخيه كانت له حسنة.

* الشرح:

قوله (من أخذ من وجه أخيه المؤمن قذاة) القذى ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك، والمراد به كل ما يؤذي المؤمن أو يجرح قلبه أو يكسر قدره وإن قل شبهه بقذى العين.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال لأخيه المؤمن: مرحبا كتب الله تعالى له مرحبا إلى يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (من قال لأخيه المؤمن مرحبا كتب الله تعالى له مرحبا إلى يوم القيامة) فكأنه قال له: مرحبا إلى يوم القيامة فيكتب له ذلك ويعطي أجره أو يقال له مرحبا إلى يوم القيامة مقابلا لقوله، والرحب بالضم: السعة، وبالفتح: الواسع، ومرحبا منصوب بفعل لازم الحذف سماعا أي أتيت رحبا وسعة أو مكانا واسعا، وفيه تسلية له وإظهار للسرور بملاقاته ومجيئه.

3 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أتاه أخوه المسلم فأكرمه فإنما أكرم الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (من أتاه أخوه المسلم فأكرمه) بأن أكرمه بنوع من أنواع الإكرام وأحسن إليه بنحو من أنحاء الإحسان بأن بسط له رداءه أو تبسم في وجهه أو قال له مرحبا أو أظهر سرورا وبشاشة أو أحضر طعاما أو أعطاه شيئا يفرح به قلبه أو نحو ذلك.

4 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن نصر بن إسحاق، عن الحارث بن النعمان، عن الهيثم بن حماد، عن أبي داود، عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما في امتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء من لطف إلا أخدمه الله من خدم الجنة.

* الشرح:

قوله (ما في أمتي عبد ألطف أخاه في الله بشيء من لطف إلا أخدمه الله من خدم

ص:97

الجنة) المراد بالعبد: المؤمن، والظرف - أعنى في الله - متعلق ب «ألطف» أي بر، أو حال عن أخاه أو وصف له واللطف الرفق والإحسان وإيصال المنافع والبر، والإخدام: إعطاء الخادم.

5 - وعنه، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر ابن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك.

* الشرح:

قوله (لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة) أي لم يزل في رحمته أو جوده على سبيل التشبيه والاستعارة حيث إنه يستريح بهما من الأذى والعذاب والتألم الجسماني والروحاني كما يستريح الملتجئ بالظل من حر الشمس أو في جنبه وإطلاق الظل عليها إما من باب الإرسال أو الاستعارة على نحو ما ذكر ووصفه بالممدود للإشعار بثباته واتساعه.

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: إن مما خص الله عز وجل به المؤمن أن يعرفه بر إخوانه وإن قل، وليس البر بالكثرة وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ثم قال:] ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ومن عرفه الله عز وجل بذلك أحبه الله ومن أحبه الله تبارك وتعالى وفاه أجره يوم القيامة بغير حساب، ثم قال: يا جميل أرو هذا الحديث لإخوانك، فإنه ترغيب في البر.

* الشرح:

قوله (وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه ويؤثرون على أنفسهم - الآية) أي يختارون غيرهم من المحتاجين على أنفسهم ويقدمونه (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة وفقر عظيم (ومن يوق شح نفسه) بوقاية الله وتوفيقه ويحفظها عن البخل والحرص (فأولئك هم المفلحون) أي الفائزون، والتأكيدات ظاهرة للمتدبر، والمشهور أن الآية نزلت في الأنصار وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم في أموالهم، وقيل: روي من طريق العامة أنها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه مع بقية أهل بيته لم يطعموا شيئا منذ ثلاثة أيام فاقترض دينارا ثم رأى المقداد فتفرس في وجهه أنه جائع فأعطاه الدينار فنزلت الآية مع المائدة من السماء، والحكاية طويلة، وعلى التقديرين يجري الحكم في غير من نزلت فيه ممن يفعل مثل فعله أو ما يقرب منه ومما يناسب المقام ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنه بات به ضيف وكان عنده طعام قليل فأطفأ المصباح عند إحضاره وأراه أنه

ص:98

يأكل معه. وفيه غاية بر الضيف والإيثار وحسن السياسة في الأمور إذ لو لم يطفئه لرأى الضيف أنه لا يأكل وأنه آثره فربما امتنع من الأكل أو أكل قليلا.

7 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن المفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليتحف أخاه التحفة، قلت: وأي شيء التحفة؟ قال:

من مجلس ومتكأ وطعام وكسوة وسلام، فتطاول الجنة مكافاة له ويوحي الله عز وجل إليها. أني قد حرمت طعامك على أهل الدنيا إلا على نبي أو وصي نبي، فإذا كان يوم القيامة أوحى الله عز وجل إليها: أن كافئ أوليائي بتحفهم، فيخرج منها وصفاء ووصايف معهم أطباق مغطاة بمناديل من لؤلؤ، فإذا نظروا إلى جهنم وهولها وإلى الجنة وما فيها طارت عقولهم وامتنعوا أن يأكلوا فينادي مناد من تحت العرش إن الله عز وجل قد حرم جهنم على من أكل من طعام جنته، فيمد القوم أيديهم فيأكلون.

* الشرح:

قوله (فتطاول الجنة مكافأة له) أي امتدت وارتفعت لإرادة مكافأته وإطعامه في الدنيا عجالة.

قوله (فتخرج منها وصفاء ووصائف) قال صاحب المصباح: الوصيف: الغلام المراهق، والوصيفة: الجارية كذلك، والجمع وصفاء ووصائف مثل كريم وكرماء وكرائم. ولعل طيران العقول وتحيرها بسبب مشاهدة الجنة ونعيمها وما فيها من الحور والقصور والامتناع من الأكل لكثرة الهم والخوف بسبب مشاهدة جهنم وأهوالها وزفيرها، والهم المفرط قد يمنع من الأكل كما يقع في الدنيا أيضا.

شرح الكافي: 9 / كتاب الإيمان والكفر 8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة.

* الشرح:

قوله (يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة) هي أفعال قبيحة شرعا وقبحها عظيم، والمراد بسترها عدم إذاعتها وهذا لا ينافي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بالرجوع عنها لا يستلزم الإذاعة ولا يتوقف عليها، ويفهم منه جواز الإفشاء إذا تجاوز عن السبعين مع إمكان إرادة المبالغة في الستر، ويحتمل أن يراد بالكبيرة إساءة ذلك المؤمن وفعل ما يؤذيه من الأمور العظام وفيه حينئذ ترغيب في الصفح عن المؤذي، والله يعلم.

9 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى، جميعا، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن

ص:99

أسلم، عن محمد بن علي بن عدي قال: أملأ علي محمد بن سليمان، عن إسحاق بن عمار، قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): أحسن يا إسحاق إلى أوليائي ما استطعت، فما أحسن مؤمن إلى مؤمن ولا أعانه إلا خمش وجه إبليس وقرح قلبه.

* الشرح:

قوله (فما أحسن مؤمن إلى مؤمن ولا أعانه إلا خمش وجه إبليس وقرح قلبه) خمش وجهه من باب ضرب خدشه ولطمه وضربه وجرح ظاهر بشرته وقطع عضوا منه وقرح قلبه إذا غمه وأقرحه إذا أثقله وحقيقته أزال عنه الفرح كأشكيته، ويجوز أن يقرأ بالقاف يقال قرحه من باب منع أي جرحه.

ص:100

باب في خدمته

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن إسماعيل بن أبان، عن صالح بن أبي الأسود، رفعه، عن أبي المعتمر قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مسلم خدم قوما من المسلمين إلا أعطاه الله مثل عددهم خداما في الجنة.

* الشرح:

قوله (محمد بن يحيى عن سلمة بن الخطاب عن إبراهيم بن محمد الثقفي) الحديث ضعيف (1) من وجوه شتى إذ في السند رفع ورجاله كلهم غير محمد بن يحيى العطار مجهولون، وأبو المعتمر اسمه غير معلوم وليس هو حامد بن عمير أبو المعتمر الهمداني الكوفي لأنه من أصحاب الصادق (عليه السلام)، والظاهر أن «إلا» في قوله إلا أعطاه الله زائدة وقد صرح صاحب القاموس بجواز زيادتها في الكلام وحملها على الاستثناء بتقدير المستثنى منه بعيد جدا، ويدخل في خدمته المسلم خدمته بنفسه وبخدمه وإعانته للمسلمين في أمور الدنيا والدين.

باب نصيحة المؤمن

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان، عن عيسى ابن أبي منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه.

* الشرح:

قوله (يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه) نصحه وله كمنعه نصحا ونصاحة ونصاحية وهو ناصح ونصيح ونصاح، والاسم النصيحة وهي فعل أو كلام يراد بهما الخير للمنصوح، واشتقاقها من: نصحت العسل إذا صفيته، لأن الناصح يصفي فعله وقوله من الغش، أو من: نصحت الثوب إذا خطته لأن الناصح يلم خلل أخيه كما يلم الخياط خرق الثوب، والمراد بنصيحة المؤمن للمؤمن إرشاده إلى مصالح دينه ودنياه وعونه عليها، وتعليمه إذا كان جاهلا، وتنبيهه إذا كان غافلا، والذب عنه وعن أعراضه إذا كان ضعيفا وتوقيره في صغره وكبره وترك حسده وغشه ودفع الضرر عنه

ص:101


1- 1 - قوله «الحديث ضعيف» لم أعرف وجه إصرار الشارح وتأكيده في تضعيف الخبر مع أن هذه الأمور غير محتاجة إلى تصحيح الأسناد، والحديث الضعيف في هذه الأبواب كثير جدا، والاعتماد فيها على المعنى (ش).

وجلب النفع إليه وبالجملة كلما يريد لنفسه يريد لأخيه المؤمن ولو لم يسمع نصيحته سلك به طريق الرفق حتى يقبلها، ولو كانت متعلقة بأمر الدين سلك به طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المشروع، ويمكن إرادة النصيحة للرسول والأئمة (عليهم السلام) أيضا لأنهم أفضل المؤمنين. والمراد بالنصيحة لهم القول في شأنهم ما يليق بهم والانقياد لهم في أوامرهم ونواهيهم وآدابهم وأعمالهم والإطاعة لهم في جميع ذلك وحفظ شرائعهم وإجراء أحكامهم على الأمة، وفي الحقيقة النصيحة للأخ المؤمن نصيحة لهم.

2 - عنه، عن ابن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب.

* الشرح:

قوله (يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب) أي في وقت حضوره بنحو ما مر وفي غيبته بالإعلام بالكتابة أو الرسالة أو بحفظ عرضه والزجر عن غيبته ودفع العادي عنه وطلب المصالح له.

3 - ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة.

4 - ابن محبوب، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

لينصح الرجل منكم أخاه كنصيحته لنفسه.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن عيينة قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه.

* الشرح:

قوله (عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه) النصح يتعدى إلى المنصوح بنفسه فيقال نصحه، وباللام فيقال نصح له، والأول أفصح، ولا يتعدى إليه بفي، وعلى هذا فظاهر الكلام أنه تعالى منصوح أي يجب عليكم النصيحة لله فيما بين خلقه، ومعنى النصيحة لله هو الإيمان والإقرار بوحدانيته وبما يصح له ويمتنع عليه والتزام تكاليفه والعمل بها على الوجه المطلوب من إخلاص النية وغيره، ويحتمل أن يكون المراد عليكم بنصيحة خلق الله لوجه الله تعالى وتقربا إليه لا للرياء والسمعة ونحوهما وهذا بعنوان الباب أنسب.

ص:102

باب الإصلاح بين الناس

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن حماد بن أبي طلحة عن حبيب الأحول قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا.

* الشرح:

قوله (صدقة يحبها الله اصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا) فيه حث بليغ للمؤمن على شيء كثير من منافع الدنيا والآخرة، منها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بوعظ بليغ نافع، ومنها أن يصلح بين الناس إذا وقعت المنازعة بينهم بأن ينظر برأيه الصائب ويميز بين الظالم والمظلوم وينصح الظالم بنصايح بليغة زاجرة له عن الظلم، ومنها أن يصل الرحم وإن اختاروا فراقه وتباعده، ومنها أن يأمر بصلة الأرحام إذا وقع التفارق والتباغض بينهم بموعظة حسنة، ومنها أن يأمر المؤمنين بالتواصل والتعاون إذا وقع التدابر والتقاطع بينهم، ومنها الإصلاح بين القبيلتين إذ وقع التقابل بينهم، ومنها الإصلاح بين المرء وزوجه.

عنه، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

2 - عنه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لأن اصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين.

3 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن مفضل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي.

* الشرح:

قوله (إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي) الظاهر أن الإذن بالاقتداء للمفضل خاصة مع احتمال شموله لكل من عنده مال له (عليه السلام).

4 - ابن سنان، عن أبي حنيفة سابق الحاج قال: مر بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن اصلح وأفتديها من ماله، فهذا من

ص:103

مال أبي عبد الله (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (عن أبي حنيفة سابق الحاج (1) اسمه سعيد بن بيان الهمداني وثقه النجاشي وعده ممن روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) وورد ذمه في بعض الروايات، والسابق بالباء الموحدة، والختن بالتحريك زوج بنت الرجل وزوج أخته أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ ونحوه.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المصلح ليس بكاذب.

* الشرح:

قوله (المصلح ليس بكاذب) كما إذا بلغ زيدا من عمرو كلام يسوؤه ويوجب تهيج العداوة وأنت سمعته منه فتلقى زيدا وتقول قد سمعت من عمرو قال: فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعته منه، وهذا وإن كان كذبا في اللغة لأنه خلاف الواقع وليس فيه تورية إلا أنه لما كان القصد منه الإصلاح كان جائزا بل قد يكون واجبا فهو ليس بكذب شرعا، والحاصل أن هذا الكلام صلح لا صدق ولا كذب اصطلاحا وسيجئ أن الكلام ثلاثة صدق وكذب وإصلاح بين الناس، والقسم الأخير وإن كان كذبا لغة لكنه ليس بكذب اصطلاحا لأن المراد بالكذب في الشرع ما لا يطابق الواقع ويذم قائله وهذا لا يذم قائله شرعا فالأولى أن لا يسمى كذبا ولا يطلق الكاذب على المصلح لئلا يتوهم أنه مذموم.

6 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن إسماعيل، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) قال: إذا دعيت لصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين ألا أفعل.

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن معاوية بن وهب أو معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أبلغ عني كذا وكذا - في أشياء أمر بها - قلت:

فابلغهم عنك وأقول عني ما قلت لي وغير الذي قلت؟ قال: نعم إن المصلح ليس بكذاب [إنما هو الصلح ليس بكذب].

ص:104


1- 1 - «سابق الحاج» هو الذي يقطع المسافة بين بلده ومكة في أقل زمان ممكن ويسبق سائر الحجاج في الوصول إلى مكة وروي أن أبا حنيفة رأى هلال ذي الحجة في القادسية وأدرك عرفات يوم عرفة وقطع المسافة في تسعة أيام وهو أقل من نصف الزمان الذي قطع فيه سيدنا الحسين (عليه السلام) فإنه خرج يوم التروية ووصل إلى حوالي الكوفة أول المحرم وكان هو (عليه السلام) متسرعا مستعجلا، وأما ذم سابق الحاج فباعتبار أن جهده في السير يمنعه من النوم والغذاء والصلاة بطمأنينة وراحة المركوب وكان فائدته الشهرة. (ش).

باب في أحياء المؤمن

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عز وجل: (من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)؟ من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها.

* الشرح:

قوله (من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها) الحياة الحقيقية عند أهل العرفان هي حياة النفس الإنسانية وهي اتصافها بالهداية والعلم والإيمان والأخلاق المرضية وسائر الكمالات الانسانية، والمراد بإحيائها جعلها متصفة بهذه الصفات، والإحياء في الآية وإن لم يكن مختصا به لكنه من أفراده تأويلا بل هو من أعظم أفراده كما يرشد إليه الحديث الآتي.

2 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):

قول الله عز وجل في كتابه: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) قال: من حرق أو غرق، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم.

محمد بن يحيى، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان، مثله.

* الشرح:

قوله (من حرق أو غرق) ذكر من جملة الأسباب المزيلة للحياة هذين الأمرين على سبيل التمثيل، والضلال يشمل الكفر والجهل بالولاية وغيرها من القوانين الشرعية والاحكام النبوية.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى ابن عمران الحلبي، عن أبي خالد القماط، عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسألك - أصلحك الله -؟ فقال: نعم، فقلت: كنت على حال وأنا اليوم على حال اخرى كنت أدخل الأرض فأدعو الرجل والاثنين والمرأة فينقذ الله من شاء وأنا اليوم لا أدعو أحدا؟ فقال: وما عليك أن تخلي بين الناس وبين ربهم فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه، ثم قال: ولا عليك إن آنست من أحد خيرا أن تنبذ إليه الشئ نبذا، قلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: (ومن أحياها

ص:105

فكأنما أحيا الناس جميعا) قال: من حرق أو غرق، ثم سكت، ثم قال: تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجاب له.

* الشرح:

قوله (وما عليك أن تخلى بين الناس وبين ربهم فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه) المراد بالظلمة الكفر والضلالة وبنور الإيمان والهداية على سبيل التشبيه والاستعارة ولما كان الناس في ذلك العصر معاندين للحق وأهله حتى كانوا يقتلونهم لو عرفوا حالهم أشار (عليه السلام) أولا إلى ترك دعائهم إلى الحق لما فيه من صلاح الفرقة الناجية وصلاح أئمتهم وعلله بأن من أراد الله تعالى أن يخرجه باللطف والتوفيق والهداية من الباطل إلى الحق أخرجه سواء دعاه أهل الحق أم لا وأشار ثانيا إلى جواز دعاء من كان قابلا للخير ومستعدا لقبوله وظن منه ذلك لأن فيه أمرا بالمعروف مع انتفاء الظن بالضرر وإمكان قبوله.

ص:106

باب في الدعاء للأهل إلى الايمان

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي أهل بيت وهم يسمعون مني أفأدعوهم إلى هذا الأمر؟ فقال: نعم إن الله عز وجل يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة).

* الشرح:

قوله (فقال نعم إن الله عز وجل يقول في كتابه: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) دل على أنه يجب وقاية الأهل من موجبات النار كما يجب وقاية النفس منها.

والوقود بالفتح: الحطب وفيه إشارة إلى القسمين من الحكمة العملية: السياسة البدنية والسياسة المنزلية، وخص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به.

ص:107

باب في ترك دعاء الناس

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن كليب بن معاوية الصيداوي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياكم والناس، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة فتركه وهو يجول لذلك ويطلبه، ثم قال: لو أنكم إذا كلمتم الناس قلتم: ذهبنا حيث ذهب الله واخترنا من اختار الله، واختار الله محمدا واخترنا آل محمد صلى الله عليه وعليهم.

* الشرح:

قوله (إياكم والناس إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة) دل على ترك دعوة المخالف والكافر إلى الإيمان وأركانه ولوازمه والجهاد معهم لأن للجهاد شروطا منها قيام الإمام أو نائبه به وهي مفقودة في عصرهم وعصرنا هذا إلى قيام الصاحب (عليه السلام) وهذا بالنظر إلى الشديد المتصلب المنكر للحق أو مع قيام التقية ظاهر وأما المستعد لقبوله مع عدم التقية فالدعوة بإظهار الحق عليه راجحة كما دل عليه بعض الروايات وإرادته تعالى خير العبد إما من باب اللطف به والتفضل عليه فإنه عز وجل قد يتفضل عليه ويخرجه من الشقاوة إلى السعادة، أو لعلمه تعالى بميله إلى الحق واستعداده لقبول الخير، وعلى التقديرين نكت في قلبه نكتة نورانية تؤثر فيه فيضطرب من الباطل ويجول ويطلب الحق حتى يستقر عليه، ثم قال للإشارة إلى أقل مراتب الدعوة وإظهار الحق حيث يجوز لو أنكم إذا كلمتم الناس العادلين عن الأئمة الطاهرين أو الأعم قلتم: ذهبنا حيث ذهب الله أي اخترنا طريقا اختاره الله تعالى للوصول إليه والتقرب منه اختار الله محمدا فاخترناه وقلنا بنبوته واخترنا آل محمد صلى الله عليه وعليهم وفضلناهم على غيرهم، ثم إذا قالوا لم اخترتموهم ذكرتم البراهين من غير مجادلة وهذا القدر كاف في دعائهم لأن القلوب القابلة المشروحة تقبله إن شاء الله تعالى.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن أبي إسماعيل السراج، عن ابن مسكان، عن ثابت أبي سعيد قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا ثابت مالكم وللناس، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم، فوالله لو أن أهل السماء وأهل الأرض اجتمعوا على أن يضلوا عبدا يريد الله هداه ما استطاعوا، كفوا عن الناس ولا يقول أحدكم: أخي وابن عمي وجاري، فإن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه، فلا يسمع بمعروف إلا عرفه ولا بمنكر

ص:108

إلا أنكره، ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره.

* الشرح:

قوله (يا ثابت مالكم والناس كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم) نهى (عليه السلام) عن مخاصمة الناس في أمر الدين وأمر بكف النفس عن الوقوع فيهم ومناظرتهم وعن دعائهم إلى أمر الإمامة لكون ذلك أصلح للفرقة الناجية ثم أشار إلى أن المجادلة لا يترتب عليها أثر مؤكدا بالقسم وقال: لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا وتظاهروا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته أي عذابه وسلوكه في الآخرة طريق جهنم بسبب كفره وعصيانه أو يعلم ضلالته عن طريق الخير وأرادوا أن يوصلوه إلى طريق الحق طوعا أو كرها ما استطاعوا أن يهدوه لضرورة أن مراد الله تعالى ومعلومه واقعان لا مرد لهما، وكذا لو اجتمعوا على أن يضلوا عبدا عن طريق الحق يريد الله هداه أي إثابته بالجنة أو سلوكه في الآخرة طريقها بسبب الإيمان والطاعة أو يعلم هدايته وسلوكه طريق الحق ما استطاعوا أن يضلوه لما مر، ثم أمر بالكف عن الناس حتى عن الأقارب ودعائهم إلى الحق على سبيل التأكيد دفعا للحمية العصبية وعلل بأن الله إذا أراد بعبد خيرا لطفا وتفضلا أو بواسطة رجوعه إليه واستعداده لقبوله طيب روحه عن العقائد الخبيثة وطهره عن الجهل المركب فلا يسمع بعد ذلك معروفا إلا عرفه وأقربه ولا منكرا إلا أنكره وعدل عنه، ثم يقذف الله في قلبه لحسن استعداده كلمة يجمع بها أمره وهي أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين لأنهم كلمات الله العليا وآياته الكبرى، ويحتمل أن يراد بها ملك موكل بالقلب لتسديده وإن أردت زيادة التوضيح لهذا الحديث وغيره من أحاديث هذا الباب فارجع إلى ما ذكرنا في باب الهداية من آخر كتاب التوحيد.

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن مروإن، عن الفضيل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ندعو الناس إلى هذا الأمر؟ فقال: يا فضيل إن الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه حتى أدخله في هذا الأمر طائعا أو كارها.

* الشرح:

قوله (ندعو الناس إلى هذا الأمر فقال يا فضيل) كان الفضيل توهم بملاحظة كثرة شيعته (عليه السلام) أنه يجوز لهم دعوة الخلق علانية إلى خلافته (عليه السلام) وأنه يجوز له إظهار إمامته على رؤوس الأشهاد فمنعه (عليه السلام) لأنه لم يكن ذلك الزمان إبان ظهور دولة الحق وأخبره بأن الهداية موهبية يدخل في هذا الأمر بدون الدعوة الظاهرة المثيرة للفتن الموجبة لاستيصال الشيعة [إلا] من شاء الله كما هو 109

المشاهد في هذا العصر والمعلوم في غيره من الأعصار.

واعلم أن الإنسان مركب من أمرين أحدهما ما يرى وهو هذا البدن والثاني مالا يرى ويقال له الروح والنفس الناطقة والقلب وهو حقيقة الإنسان عند استكماله وليس من هذا العالم الجسماني بل نزل من العالم الروحاني (1) وتعلق بهذا البدن تعلق تصرف وتدبير، والبدن وقواه وآلاته وحواسه خدمة له يحصل له بسببها معرفة صنع الله تعالى وآثاره في عالم المحسوسات وقرب الحق وصفات الملائكة إذا طاب وقهر على خدمه واستعملها فيما هو مطلوب لربه، وأما إذا خبث بغلبة الخدمة عليه بعد عن ربه واتصف بصفات الشياطين وأنكر المعروف وأهله وأقر بالمنكر وأهله.

والله سبحانه رقيب شاهد عليه يلقى إليه المعروف ويوكل إليه ملكا ينفخ فيه الخير ويأمره به فإذا مال إليه ميلا ما وخطر فيه قبوله وعلم الله منه ذلك طيبه من الرذائل وأيده بالنصرة والتوفيق وأراد به ذلك الخير فيأخذ الملك بأمر الله يده وعنقه ويصرفه عن مسلك الباطل إلى منهج الخير وعن ولاية الكاذبين إلى ولاية الصادقين فيصير غالبا بعد ما كان مغلوبا ويتوجه إلى المعروف ويعرض عن المنكر ويثبت فيه كلمة الحق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أبيه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اجعلوا أمركم هذا لله ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى السماء ولا تخاصموا بدينكم الناس فإن المخاصمة ممرضة للقلب إن الله

ص:110


1- 1 - «بل نزل من العالم الروحاني» اختلف الحكماء في وجود النفس قبل البدن فقال بعضهم كانت النفس مجردة غير متعلقة بجسم ثم أهبطها الله لحكمة وأسكنها في البدن ثم يفارقه ويرجع إلى عالمه، وقال بعضهم: بل وجدت بعد حصول استعداد البدن ولم يكن قبل ذلك بوجودها الشخصي موجودا بل كان الموجود علتها وهي العقل الفعال المفيض للصور على المواد المستعدة وعلى هذا فالنزول تعبير عن الصدور عن العلة فإن العلة أشرف وأعلى من المعلول ويصح التعبير عن صدور المعلول عنها بالنزول مثل قوله تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) وقوله تعالى (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) والا فالحق أن الله تعالى جعل مخلوقه في السير إلى الكمال وأن يكون كل يوم أفضل وأكمل من اليوم السابق فكيف يرجع المجرد المحض إلى المادة بل المادة تتحرك بالحركة الجوهرية إلى التجرد فيصير الجماد نباتا وحيوانا وإنسانا مجردا روحانيا يزيد به موجودات العالم العقل، بالجملة فالنزول من العالم الروحاني عبارة عن صدوره عنه بعد استعداد المادة بالحركة الجوهرية لأن تصير حاملة لنفس قدسية، فإن قيل أليست العقول القدسية تباشر أفعالا في مواد الأجسام ومذهبهم أن ما تحت فلك القمر تحت تدبير العقل الفعال مع تجويزهم أن يكون عقول كثيرة لتدبير المواليد والعناصر فما المانع من أن يكون النفس قبل البدن عقلا لتدبيره كتدبير العقول لعالم الأجسام؟ قلنا كيفية تعلق النفس بالبدن غير تعلق العقول بأجسام العالم ويستحيل على العقل المجرد تعلقه بنحو تعلق النفس بل له تعلق آخر نظير تعلق نفوس الأولياء بأجسام غير أبدانهم. (ش).

عز وجل قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله وعلي (عليه السلام) ولا سواء، وإني سمعت أبي يقول: إذا كتب الله على عبد أن يدخله في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره.

* الشرح:

قوله (اجعلوا أمركم هذا لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى السماء) (1) أي اجعلوا أيتها الفرقة الناجية أمركم في القول والفعل والعقد خالصا لله ولا تجعلوه للناس طلبا للرياء والسمعة فإنه ما كان لله في الدنيا فهو لله في الآخرة ويصعد إليه، وما كان للناس فلا يصعد إلى السماء كما يصعد إليها ما كان لله، ولا تخاصموا بدينكم الناس فإن المخاصمة ممرضة للقلب فإن كل واحد من المتخاصمين يلقي شبهة على صاحبه والشبهة مرض القلب وهلاكه وإنكم لا تقدرون على هدايتهم إن أراد الله تعالى ضلالتهم، كيف إن الله عز وجل قال لنبيه: (إنك لا تهدي من أحببت) أي لا توصله إلى المطلوب أو لا تعينه باللطف والتوفيق (ولكن الله يهدي من يشاء) فإذا لم يكن النبي قادرا على هدايتهم فأنتم أولى بعدم القدرة عليها وقال أيضا لنبيه: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أنكر الله تعالى إكراه نبيه وإجباره إياهم على الإيمان تحقيقا لمعنى التكليف والثواب والجزاء وتنبيها على عدم قدرته عليه فأنتم أولى بذلك فلا

ص:111


1- 1 - «فلا يصعد إلى السماء» يعنى إلى الآخرة وقد يعبر بالسماء ويراد بها ملكوت السماء كما يطلق الإنسان ويراد روحه وعقله [قال تعالى:] (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين) وقال تعالى: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) وعلاقة الإطلاق اشتراكهما في العلو، فالآخرة أعلى من الدنيا، والسماء أعلى من الأرض، وأما السماء الدنيا وهي التي نراها بأبصارنا وزينت بالكواكب كما قال الله تعالى (زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) فليست أقرب إلى الله تعالى من الأرض أما مكانا فواضح وأما فضلا وشرفا فلأن الآخرة أقرب إليه تعالى مرتبة، لحياتها وتجردها عن كثافات الدنيا وكونها عالم العقل والإدراك وأما الأجسام الفلكية والكواكب الثابتة والسيارة فلا فرق من هذه الجهة بينها وبين الأرض، والشرف للموجد المجرد العاقل على المادة الجامدة المقهورة، وقد مر في باب إطعام المؤمن في الحديث الثالث «من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات فقيد بالملكوت، والملكوت أصرح في تجردها، وأما أصل كون الجنة في السماء فلعله متواتر في الروايات ويدل عليه قوله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) وفي حديث المعراج «فلما صرت إلى الحجب أخذ جبرئيل بيدي فأدخلني الجنة فإذا الشجرة من نور في أصلها ملكان يطويان الحلي والحلل إلى يوم القيامة، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذه الشجرة؟ فقال: هذه لأخيك علي بن أبي طالب» وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «ليلة أسرى بي إلى السماء أخذ جبرئيل بيدي فأدخلني الجنة» وبالجملة يصعد الأعمال إلى الجنة حتى تهيأ للعاملين ثواب على طبقه. (ش).

تتعرضوا لهم ذروا الناس واتركوهم بحالهم ولا تقصدوا مخالطتهم في دينهم فإن الناس أخذوا دينهم عن الناس بما يقتضيه آراؤهم الفاسدة وإنكم أخذتم دينكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) ولا سواء بينهما وبينهم ولا بينكم وبينهم لأنكم حزب الله وهم حزب الشيطان فليس في تركهم مضرة لكم ولا في مخالطتهم منفعة لكم، ثم أشار إلى أن من كتب إيمانه بقلم التقدير وكان مؤمنا في علم الله فهو يؤمن دعي أم لم يدع بقوله (إنني سمعت أبي يقول: إن الله إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره) وهو بفتح الواو وسكون الكاف عش الطائر وموضعه الذي يبنيه من دقاق العيدان ونحوها للتفريخ.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن ابن اذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق قوما للحق فإذا مر بهم الباب من الحق قبلته قلوبهم وإن كانوا لا يعرفونه وإذا مر بهم الباب من الباطل أنكرته قلوبهم وإن كانوا لا يعرفونه، وخلق قوما لغير ذلك فإذا مر بهم الباب من الحق أنكرته قلوبهم وإن كانوا لا يعرفونه وإذا مر بهم الباب من الباطل قبلته قلوبهم وإن كانوا لا يعرفونه.

* الشرح:

قوله (ان الله عز وجل خلق قوما للحق فإذ مر بهم الباب من الحق قبلته قلوبهم) قبول الحق والباطل وإنكارهما ليسا باعتبار أنه خلقهم على ذلك بل باعتبار أنهم كانوا كذلك فخلقهم لذلك كما أشرنا إليه سابقا فلا يلزم الجبر فتأمل.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الحميد بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور فأضاء لها سمعه وقلبه حتى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قبله نكتة سوداء، فأظلم لها سمعه وقلبه، ثم تلا هذه الآية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء).

* الشرح:

قوله (ان الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور) يعنى إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا لصفاء قلبه وميله إليه أو علم منه ذلك نكت في قلبه نكتة من نور العلم والإيمان أو اللطف والتوفيق والفيض وهي هدايته الخاصة (فأضاء لها) أي لأجل تلك النكتة النورانية (سمعه وقلبه) وسائر أعضائه فيهتدي كل عضو إلى ما هو مطلوب منه ويتوجه إليه ويعرض عن غيره حتى يكون حرصه على الإيمان والولاية أشد من حرصكم عليها كزيادة حرص الجوعان في الطعام على حرص الشبعان.

ص:112

(وإذا أراد بعبد سوءا) لميله إلى الباطل وإبطاله لاستعداده الفطري (نكت في قلبه نكتة سوداء) هي نكتة الجهل والكفر والخذلان الذي هو سلب اللطف والتوفيق فأظلم لها (سمعه وقلبه) فلا يسمع الحق ولا يعقل الخير وهو الختم المانع من إدراك الخير (ثم تلا (عليه السلام) هذه الآية) استشهادا لما ذكر (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) أي فمن يرد الله أن يهديه إلى طريق الجنة في الآخرة وإلى الخيرات في الدنيا لميله إليها يشرح صدره للاسلام ويوسعه لقبول أحكامه ومعارفه حتى يتأكد عزمه عليها ويقوى الداعي على التمسك بها وذلك لطف من الله تعالى عليه (ومن يرد أن يضله) عن طريق الجنة إلى طريق النار وعن سبيل الخيرات والشرور لإبطال استعداده الفطري بسلب لطفه عنه (يجعل صدره ضيقا حرجا) لانقباضه بقبض الكفر والعصيان وتقيده بقيد الظلمة والطغيان فهو في قبول الإيمان ولوازمه (كأنما يصعد في السماء) فيمتنع دخول الإيمان في قلبه كما يمتنع الصعود في السماء.

7 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله.

* الشرح:

قوله (إذا أراد الله بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه) إذا أراد الله بعبد خيرا وهو الإحسان إليه في الآخرة بدخول الجنة وفي الدنيا بالهدايات الخاصة مثل اللطف والتوفيق ونحوهما بسبب ميله إلى الخيرات واختيار سبيلها نكت في قلبه نكتة بيضاء نورانية من هداياته الخاصة وفتح مسامع قلبه وأبواب الحق فيدخل فيه الأنوار الربانية والمعارف الإيمانية ووكل به ملكا يسدده بإلهام الحق ونفخ الصواب فيستضيء جميع جوارحه ويهتدي كل إلى عمله وذلك التسديد يسمى لمة الملك وإذا أراد بعبد سوءا وهو تعذيبه بالنار وسلب اللطف والتوفيق عنه بسبب ميله إلى الشرور وسلوك سبيلها نكت في قلبه نكتة سوداء ظلمانية وسلب اللطف عنه وسد مسامع قلبه التي بها يسمع كلمات الحق وهو الختم وكل به شيطانا يضله عن سبيل الحق ويلهمه الباطل وتركه معه وخلي بينه وبين إضلاله وهذا الإضلال يسمى لمة الشيطان، وقد نقلنا سابقا من طريق العامة أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان الرجيم.

ص:113

باب أن الله إنما يعطي الدين من يحبه

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حمزة ابن حمران، عن عمر بن حنظلة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا الصخر إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي هذا الأمر إلا صفوته من خلقه، أنتم والله على ديني ودين آبائي إبراهيم وإسماعيل، لا أعني علي بن الحسين ولا محمد بن علي وإن كان هؤلاء على دين هؤلاء.

* الشرح:

قوله (إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي هذا الأمر إلا صفوته من خلقه) المحبوب يجعل الدنيا وسيلة للآخرة ويتزود منها لها والمبغوض قلبه متعلق بالدنيا معرض عن الآخرة وما له في الآخرة من خلاق. ومفعول يحب ويبغض محذوف عايد إلى الموصول وفاعلهما عايد إلى الله أو بالعكس، ومعنى محبة الله للعبد كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه على أن يطأ بساط قربه، وعلامة حبه له توفيقه للتجافي عن دار الغرور والترقي إلى عالم النور، والأنس بالله والوحشة عما سواه. قال بعض العارفين: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أمامك، ومعنى بغضه وعلامته ضد ذلك، ومعنى محبة العبد له راجع إلى دوام الذكر والطاعة والانقياد له، وبغضه له ضد ذلك كما صرح به بعض علمائنا وعلماء العامة، وصفو الشيء بالفتح لا غير: خالصه، والصفوة بالهاء مثله إلا أنه يجوز في الصاد الحركات الثلاث.

2 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عاصم بن حميد، عن مالك بن أعين الجهني قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: يا مالك إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض ولا يعطي دينه إلا من يحب.

* الشرح:

قوله (ولا يعطي دينه إلا من يحب) أريد بالدين الإيمان الذي لا يتحقق إلا بالولاية، وهذا الحديث ونظيره في اللفظ خبر وفي المعنى أمر بطلب الدين وحث على الغبطة بأهله لا بأهل الدنيا.

3 - عنه، عن معلى، عن الوشاء، عن عبد الكريم بن عمر والخثعمي، عن عمر بن حنظلة، وعن حمزة بن حمران، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن هذه الدنيا يعطيها الله البر والفاجر ولا

ص:114

يعطي الإيمان إلا صفوته من خلقه.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن أبي سليمان، عن ميسر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الدنيا يعطيها الله عز وجل من أحب ومن أبغض وإن الإيمان لا يعطيه إلا من أحبه.

باب سلامة الدين

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن أيوب بن الحر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فوقاه الله سيئات ما مكروا) فقال: أما لقد قسطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

* الشرح:

قوله في قول الله عز وجل (فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي شدائد مكرهم وخدعهم، والضمير في وقاه راجع إلى مؤمن آل فرعون، وفي تفسير النيشابوري: الأصح أنه كان قبطيا ابن عم لفرعون واسمه سمعان أو حبيب أو جبرئيل وقيل كان إسرائيليا، وقيل: الضمير راجع إلى موسى (عليه السلام); ويرده قوله (عليه السلام) (أما لقد قسطوا عليه وقتلوه) لأنهم لم يقتلوا موسى (عليه السلام) كما يرد قول من قال من المفسرين إنهم لم يقتلوا مؤمن آل فرعون وإنه هرب منهم إلى الجبل فلم يقدروا عليه.

والقسط بالفتح والسكون، والقسوط بالضم: الجور يقال: قسط قسطا وقسوطا من باب ضرب: جار وعدل عن الحق.

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى عن عبيد، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحابه: إعلموا أن القرآن هدى الليل والنهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة، فإذا حضرت بلية فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم، وإذا نزلت نازلة فاجعلوا أنفسكم دون دينكم، واعلموا أن الهالك من هلك دينه والحريب من حرب دينه، ألا وإنه لا فقر بعد الجنة، ألا وإنه لا غنى بعد النار، لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها.

* الشرح:

قوله (اعلموا أن القرآن هدى الليل والنهار) ترغيب في تلاوته فيهما واقتباس العلوم والأحكام والأخلاق منه لأنه يهدي إلى جميع المقاصد.

(ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة) يمكن أن يراد بالليل المظلم القلب الجاهل أو

ص:115

المنكدر بظلمة الجهد والفاقة لأن القرآن نوره والناظر إليه المتدبر بما فيه من الأسرار والأخلاق والنصائح والمواعظ يعلم كيفية التخلص منها.

(فإذا حضرت بلية) يمكن دفعها بالأموال (فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم) ووقاية لها لئلا يفوت عنكم النفس والمال جميعا.

(وإذا نزلت بكم نازلة) توجب فساد الدين لو اخترتم حياة النفس.

(فاجعلوا أنفسكم دون دينكم) وفداء له واختاروا البقاء على الدين والاعتقاد به وإن أوجب ذلك القتل. وفي جعل المال فداء للنفس وجعل النفس فداء للدين إيماء إلى ترجيح طلب الدين على طلب المال كيف لا، والمال ينفع في الدنيا، والدين ينفع في الآخرة، والفضل بينهما كالفضل بين الدنيا والآخرة ثم أشار إلى أن الهلاك منحصر في هلاك الدين ترغيبا في تحصيله والثبات عليه بقوله:

(واعلموا أن الهالك من هلك دينه) إما بفواته بالمرة، أو بعدم رعاية ما فيه من الأوامر والنواهي وغيرها.

(والحريب من حرب دينه) في المصباح حرب حربا من باب تعب: أخذ جميع ماله فهو حريب، وحرب للبناء للمفعول كذلك فهو محروب، وفي القاموس حربه حربا كطلبه طلبا: سلب ماله فهو محراب وحريب والجمع حربي وحرباء، وحريبته ماله الذي سلب أو ماله الذي يعيش به (ألا وإنه لا فقر بعد الجنة ألا وإنه لا غنى بعد النار) أي لا فقر بعد فعل ما يوجب الجنة فإن فاعله غني. ولا غنى بعد فعل ما يوجب النار فإن فاعله فقير، ونظيره ما روى عنه (عليه السلام) قال: «الفقر والغنى يظهران بعد العرض وأمثاله من الروايات كثيرة. ثم أشار إلى دوام عذاب النار تحذيرا بقوله:

(لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها) أسيرها أسير الشهوات كما روي «حفت النار بالشهوات» أو الداخل فيها المقيد بسلاسلها، وضريرها من عميت بصيرته وسلك سبيلها ولا يرى سبيل النجاة منها.

3 - علي، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سلامة الدين وصحة البدن خير من المال والمال زينة من زينة الدنيا حسنة.

- محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (سلامة الدين وصحة البدن خير من المال) أما سلامة الدين فظاهرة لأن زواله

ص:116

وفساده يوجب المشقة الأخروية الأبدية، وعدم المال يوجب المشقة الدنيوية الزائلة. وأما صحة البدن فلانها تنفع بدون المال، والمال لا ينفع بدونها، وأيضا: الغرض من المال حفظ البدن وتدبير صحته وغاية الشيء خير منه، ويمكن أن يراد بصحة البدن صحته عن أمراض الأعمال القبيحة وفيه ترغيب للمؤمن المسكين في الرضا عن الله بهاتين النعمتين والحمد لله عليها وأشار بقوله: (والمال زينة من زينة الدنيا حسنة) إلى وجه التفضيل وإلى أن المراد بالمال المال الصالح وهو وإن كان زينة كما قال الله عز وجل (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) لكنه يزول سريعا والزائل لا عبرة به.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن يونس بن يعقوب، عن بعض أصحابه قال: كان رجل يدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) من أصحابه فغبر زمانا لا يحج فدخل عليه بعض معارفه، فقال له: فلان ما فعل؟ قال: فجعل يضجع الكلام يظن أنه إنما يعني الميسرة والدنيا فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كيف دينه؟ فقال: كما تحب، فقال: هو والله الغني.

* الشرح:

(فغبر زمانا لا يحج) غبر غبورا مكث (فدخل عليه بعض معارفه) معارف الرجل «شناختهاى أو»، وأحدها كمقعد (فقال) أبو عبد الله (عليه السلام) (له) أي لبعض معارفه (فلان ما فعل) ولم تقاعد عن الحج (قال) بعض أصحاب يونس (فجعل) بعض المعارف (يضجع الكلام) أي يقصر فيه وفي أداء المقصود صريحا من ضجع في الأمر تضجيعا إذا وهن فيه وقصر.

(يظن إنما يعني الميسرة والدنيا) يعنى تقاعد عن الحج لفقدهما (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) كيف دينه؟ فقال كما تحب فقال هو والله الغني) تعريف الخبر باللام المفيد للحصر وتأكيده بالقسم للتنبيه على أن الغنى هو الغنى الأخروي الحاصل بسلامة الدين واستقامته، لا ما هو المعروف عند أبناء الدنيا فرب فقير عندهم غني عند الله وبالعكس، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «الفقر الموت الأحمر فقيل له الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال لا ولكن من الدين».

ص:117

باب التقية

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال: بما صبروا على التقية (ويدرؤن بالحسنة السيئة) قال: الحسنة التقية والسيئة الإذاعة.

* الشرح:

قوله (بما صبروا على التقية) لعل أحد الأجرين السلامة في الدنيا والآخر الثواب في الآخرة، أو أحدهما للعمل بالتقية ظاهرا والآخر للاعتقاد بالحق باطنا، وتفسير الحسنة هنا بالتقية، والسيئة بالإذاعة أي إذاعة الحديث وغيره من الحقوق إذا ظن لحوق الضرر بأهل الحق، لا ينافي تفسيرهما بالعفو والأخذ لأن آيات القرآن تتضمن معاني كثيرة لا تحصى ولا يعلمها إلا أهل العصمة (عليهم السلام).

2 - ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين.

* الشرح:

قوله (إن تسعة أعشار الدين في التقية) لقلة الحق وأهله وكثرة الباطل وأهله حتى أن الحق عشر والباطل تسعة أعشار ولابد لأهل الحق من المماشاة مع أهل الباطل فيها حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم، ولعل المراد بقوله:

(ولا دين لمن لا تقية له) نفى الكمال لدلالة بعض الروايات على أن المؤاخذ بترك التقية لا يخرج من الإيمان وأن ثوابه أنقص من ثواب العامل بها، ووجوب التقية والإثم بتركها لا ينافي أصل الإيمان وإنما ينافي كماله، وأشار بقوله:

(والتقية في كل شيء إلا النبيذ ومسح الخفين) إلى أن التقية غير مختص بالأحكام والأعمال الدينية، بل تكون في الأفعال العرفية أيضا مثل الخلطة بهم وعيادة مرضاهم ونحوها، وأما عدم التقية في شرب النبيذ ومسح الخفين فقال الشهيد في الذكرى لعدم وقوع الإنكار فيهما من العامة غالبا لأن أكثرهم يحرمون المسكر ولا ينكرون خلع الخف وغسل الرجلين بل الغسل أولى منه وإذا قدر خوف ضرر نادرا جازت التقية. وقال الشيخ: لا تقية فيهما لأجل مشقة يسيرة لا تبلغ إلى

ص:118

الخوف على النفس أو المال، وإن بلغت أحدهما جازت، ويقرب منه قول من قال لا ينبغي الاتقاء فيهما وإن حصل ضرر عظيم ما لم يؤد إلى الهلاك، وقيل: عدم الاتقاء مختص بالمعصوم (عليهم السلام) باعتبار أن الاتقاء لا ينفعه لكون الحكم فيها معروفا من مذهبه.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقية من دين الله. قلت: من دين الله؟ قال: إي والله من دين الله ولقد قال يوسف: (أيتها العير إنكم لسارقون) والله ما كانوا سرقوا شيئا ولقد قال إبراهيم: (إني سقيم) والله ما كان سقيما.

* الشرح:

قوله (التقية من دين الله قلت: من دين الله؟ قال: أي والله من دين الله) أي من دين الله الذي أمر عباده بالتمسك به لأن أكثر الخلق في كل عصر لما كانوا من أهل البدع قرر الله التقية في الأقوال والأفعال والسكوت عن الحق لخلص عباده حفظا لنفوسهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم وسبي ذراريهم وإبقاء لدينه الحق، ولولا التقية بطل دينه بالكلية وأنقرض أهله لاستيلاء أهل الجور، فللتقية فائدتان: توجب بقاء دين الحق وتحفظ أهله فهي مطلوبة بالعرض وأهلها يقولون ما لا يعتقدون فيسبون مثلا أمير المؤمنين (عليه السلام) ويعتقدون خلافته ويغسلون أرجلهم ويعتقدون أن حكمها هو المسح، ولا تقية في العقائد الحقة باعتقاد خلافها لأن العقائد من الأسرار التي لا يعلمها إلا علام الغيوب.

واستشهد لجواز وقوع التقية بالآية فقال: (ولقد قال يوسف (أيتها العير إنكم لسارقون) والله ما كانوا سرقوا شيئا) نسب القول إلى يوسف باعتبار أنه أمر به والفعل ينسب إلى الآمر كما ينسب إلى الفاعل، والعير بالكسر: القافلة مؤنثة، وهذا القول - مع أنهم لم يسرقوا السقاية - ليس بكذب لأنه صدر منه لمصلحة يعلمها هو. وقد قيل: إن المصلحة هي حبس أخيه عنده بأمر الله تعالى لغرض من الأغراض الصحيحة، ويحتمل أن يكون إطلاق السارق عليهم من باب التشبيه في مجرد إذهاب مال الغير، أو في مجرد أن صورتهم بعد ظهور السقاية عندهم كصورة السارق وحاله ولذا قالوا: (إن سرق فقد سرق أخ له من قبل) مع ما فيه من تنبيههم بعد علمهم بالقضية على أن ما زعموه من سرقة يوسف مثل هذه، فكما لم تكن هذه سرقة عندهم وفي الواقع فكذلك ما زعموه، أو من باب التورية والمعاريض والمقصود أنكم لسارقون يوسف من أبيه كما قيل، وإن كان بعيدا لفظا ومعنى، ولعل الاستشهاد بهذه الآية على التقية هو أن التقية وهي إظهار خلاف الواقع لغرض من الأغراض

ص:119

الصحيحة جايزة كما في هذا الآية.

(ولقد قال إبراهيم اني سقيم والله ما كان سقيما) هذا القول مع عدم سقمه ليس بكذب لأنه أراد من باب التورية بسقمه حزن القلب وهمه من عناد القوم وعبادتهم للأصنام، ومما علمه بالنظر إلى النجوم من قتل الحسين (عليه السلام) كما روى أو أراد أنه سيصير سقيما كما قيل ولعل الاستشهاد على التقية أنه كان مبغضا ومعاندا لهم وكارها للخروج معهم ولم يظهر ذلك عليهم خوفا وتقية وتمسك في مفارقتهم بما ذكر والله يعلم.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا: عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن حسين بن أبي العلاء، عن حبيب ابن بشر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية، يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله، يا حبيب إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا.

* الشرح:

قوله (لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية) لأن بالتقية يعبد الرحمن ويبقى على وجه الأرض أهل الإيمان.

(يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله) في الدنيا بعلمه وبقائه وبقاء أهله وعشيرته وإمامه ومجاهدته مع أعداء الحق وغلبته عليهم وعدم ذله بالضرب والقتل والنهب والسبي لأن التقية باب من أبواب المجاهدة وجنة في دفع شرهم، وفي الآخرة بالأجر الجميل والثواب الجزيل لإبقاء نفسه ودينه وغيرهما بتلك الحيلة.

(يا حبيب إن الناس إنما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا) لعل المراد بالناس الفرقة الناجية، والهدنة بالضم: الاسم من هدن إذا صلح، وبالفارسية «آشتى» والمقصود أن الفرقة الناجية في عصر بنبغي لهم الهدنة والمماشاة والتقية مع أهله فمتى كانت هدنة كانت لهم تقية، وإذا زالت الهدنة بخروج القايم (عليه السلام) في ظهور دولة الحق زالت التقية.

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن جابر المكفوف، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له، إنما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أن الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلا أكلته ولو أن الناس علموا ما في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم

ص:120

بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبدا منكم كان على ولايتنا.

* الشرح:

قوله (لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية) أي لآذوكم، فالأكل مستعار للإيذاء، وسابوكم وحسموكم. يقال نحل فلانا إذا سابه وحسمه.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال: الحسنة: التقية، والسيئة: الإذاعة وقوله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن (السيئة)) قال: التي هي أحسن التقية، (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه ولي حميم).

* الشرح:

قوله (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) في اللفظ إخبار بعدم المساواة بينهما، وفي المعنى أمر باختيار الحسنة على السيئة، وفسرهما بالتقية والإذاعة لأنهما من أعظم أفرادهما.

(قال التي هي أحسن التقية) والسيئة على هذا التفسير إما الإذاعة والضرر الحاصل على تقدير ترك التقية، وتفسيرها بالتقية بناء على أن التقية من أفرادها فلا ينافي تفسيرها سابقا بالعفو عن مؤاخذة المسيىء.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي عمرو الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا أما والله لئن فعلتم ذلك إنه [ل] - خير لي ولكم، [و] أبى الله عز وجل لنا ولكم في دينه إلا التقية.

* الشرح:

قوله (أو أفتيك بفتيا) أفتاه في الأمر أبانه له والفتيا والفتوى ويفتح ما أفتى به الفقيه (قلت باحدثهما وادع الاخر فقال قد أصبت) الاخذ بالأحدث متعين لان الأول إن كان تقية فالأحدث رافع لها وحكم بحسب الواقع وإن كان حكما في الواقع فالأحدث تقية والعمل بها عند الحاجة متعين وبالجملة الأحدث أصلح للمخاطب فالاخذ به متعين.

(يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا) أي أبى الله في دولة الباطل أن يعبد إلا أن يعبد سرا

ص:121

والعبادة في السر هي الاعتقاد بالحق قلبا، وأما الظاهر فهو يخالفه كثيرا بالتقية وهي وإن كانت عبادة لكنها عبادة بالعرض كما مر.

8 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي عن درست الواسطي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين.

* الشرح:

قوله (ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف) أي ما بلغت في الأمم السابقة أو في هذه الأمة أيضا لأن أعظم التقية في هذه الأمة مع أهل الإسلام المشاركين في كثير من الأحكام، ولا تبلغ التقية منهم إلى حد إظهار الشرك، والزنانير: جمع الزنار، وزان التفاح وهو ما على وسط النصارى والمجوس. وتزنروا شدوا الزنار على وسطهم.

9 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن حماد بن واقد اللحام قال:

استقبلت أبا عبد الله (عليه السلام) في طريق فأعرضت عنه بوجهي ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت:

جعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشق عليك فقال لي: رحمك الله ولكن رجلا لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل.

10 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تتبرؤوا مني فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام)، ثم قال: إنما قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد، ولم يقل: ولا تبرؤوا مني، فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل الله عز وجل فيه (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فقال له: النبي (صلى الله عليه وآله) عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا.

* الشرح:

قوله (إنما قال إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني) فيه علمه (عليه السلام) بالمغيبات فإنه أخبر بما سيقع وقد وقع لأن بني أمية لعنهم الله أمروا الناس بسبه (عليه السلام) وكتبوا إلى عمالهم في البلاد أن يأمروهم بذلك وقد شاع ذلك حتى أنهم سبوه في رؤوس المنابر. روى مسلم بإسناده عن أبي حازم عن

ص:122

سهل بن سعد قال استعمل على المدينة رجل من آل مروإن فدعا سهل بن سعد فامره أن يشتم عليا قال: فأبى سهل قال فقال له: اما إذا أبيت فقل: لعن الله أبا تراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب وإنه كان ليفرح إذا دعي به، وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقرأ عليه آية المباهلة وحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وحديث الراية.

(ثم ستدعون إلى البراءة مني وإني لعلى دين محمد ولم يقل ولا تبرؤوا (1) مني) أخبر (عليه السلام) بأن دينه دين محمد (صلى الله عليه وآله) فلا ينبغي البراءة منه باطنا ولم ينهاهم عن البراءة منه ظاهرا عند الحاجة لحفظ النفس فكما يجوز السب عند الضرورة كذلك يجوز البراءة عندها.

* الشرح:

قوله (وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان) نقلوا أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فلم يقبله أبوه فقتلوهما وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر فقال: كلا إن عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمارا وهو يبكي فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسح عينيه وقال ما لك إن عادوا فعدلهم بما قلت، والتقية عندنا واجبة والمخالفون قالوا تركها أفضل إعزازا للدين.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام الكندي قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إياكم أن تعملوا عملا يعيرونا به، فإن ولد السوء يعير والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا، صلوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء

ص:123


1- 1 - قوله «ولم يقل لا تبرؤوا» ولكن كلامه يدل عليه لتفصيله بين السب والبراءة، والأولى التوجيه الثاني لأن البراءة تطلق على فعل القلب، والسب على الكلام وفعل اللسان، فلا يقال لمن خطر بباله معنى السب أنه سب إذا لم يتلفظ كما يقال لمن نوى الإعراض عن طريقة علي (عليه السلام) بقلبه إنه تبرء منه، وهذا نظير الحلف والعزم فالحلف فعل اللسان، والعزم فعل القلب، ومثله التسبيح والتوحيد فالتسبيح قول «سبحان الله» وهو فعل اللسان، والتوحيد الاعتقاد بالوحدانية وهو فعل القلب، والتعظيم كذلك فعل القلب إذ لم يعهد ذكر «الله أعظم» بخلاف التكبير فإنه فعل اللسان وهو قول الله أكبر، فالسب فعل اللسان وهو مجوز، والبراءة فعل القلب وهو غير جائز لأن التبري من علي (عليه السلام) يساوق التبري من دين محمد (صلى الله عليه وآله) وأما التلفظ بالبراءة فجائز من غير اعتقاد القلب كما يأتي. (ش).

قلت: وما الخبء؟ قال: التقية.

* الشرح:

قوله (إياكم أن تعملوا عملا يعيرونا به فإن ولد السوء يعير والده بعمله) العمل يشمل الديني والعرفي وترك التقية في الأول يوجب القتل ونحوه غالبا، وفي الثاني يوجب التعيير واللوم وفيه دلالة على أن المعلم الرباني والد روحاني للمتعلم وأن السبب للفعل بمنزلة فاعله وأنه ينبغي رعاية حقوق المخالفين وحسن صحبتهم تقية إذا كان تركها موجبا لتعييرهم للمعلم الرباني بأنه معلم سوء وذلك نقص لهم بحسب العرف ولعل قوله:

(ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير) خبر بمعنى النهي أي لا يغلبوكم على فعل شيء من الخير فإنكم أولى بالخير منهم لأنكم أهل الخير وهو ينفعكم. والخبء: الإخفاء والستر تقول: خبأت الشيء خبأ من باب منع أخفيته وسترته، والمراد به هنا التقية فيها لأن إخفاء الحق إستاره.

12 - عنه، عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له.

* الشرح:

قوله (سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن القيام للولاة) أي القيام لولاة الجور تواضعا لهم، ويفهم جواز القيام للصلحاء وعدم جوازه للأشقياء إلا للتقية.

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به.

* الشرح:

قوله (التقية في كل ضرورة) وإن لم تكن من الأمور الدينية وإن كانت من أهل الإيمان.

14 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن محمد بن مروإن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [كان] أبي (عليه السلام) يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية إن التقية جنة المؤمن.

15 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن محمد بن مروإن قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما منع ميثم رحمه الله من التقية، فوالله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان).

16 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن شعيب الحداد عن محمد ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فليس تقية.

ص:124

* الشرح:

قوله (فإذا بلغ الدم فليس تقية) فلا يجوز لأحد قتل معصوم الدم تقية لحفظ نفسه من القتل.

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كلما تقارب هذا الأمر كان أشد للتقية.

* الشرح:

قوله (كلما تقارب هذا الأمر كان أشد للتقية) لعل المراد أن التقية في آخر الزمان قريبا من ظهور القائم (عليه السلام) أشد لكثرة الفسوق والظلم فيه وقلة أهل الصلاح وضعفهم عن إجراء الأحكام، وعلى ذلك روايات أخر.

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن إسماعيل الجعفي ومعمر ابن يحيى بن سام ومحمد بن مسلم وزرارة قالوا: سمعنا أبو جعفر (عليه السلام) يقول: التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له.

19 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: التقية ترس الله بينه وبين خلقه.

20 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن أحمد بن حمزة، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): خالطوهم بالبرانية وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية.

* الشرح:

قوله (خالطوهم بالبرانية وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانيه) البرانية: العلانية من البر وهو الصحراء، والألف والنون من زيادات النسب، والجوانية: السر من الجو وهو داخل البيت ونحوه، والإمرة بالكسر: الإمارة. ولعل المراد بكونها صبيانية ميل صاحبها إلى اللغو والباطل والفتنة كأمراء الجور، وفيه حث على التقية والأخذ بها إلى زمان ظهوره القائم (عليه السلام).

21 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن زكريا المؤمن، عن عبد الله بن أسد، عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجلان من أهل الكوفة اخذا فقيل لهما: ابرآ من أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما وأبى الآخر، فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر؟ فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة.

* الشرح:

قوله (أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة)

ص:125

في وصف العامل بالتقية بأنه فقيه في دينه دلالة واضحة على أنه أفضل وأجره أكمل لأن الفقهاء ورثة الأنبياء ففضله على غيره كفضل الأنبياء، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال: «يا زياد ما تقول لو أفتينا رجلا ممن يتولانا بشيء من التقية قال: قلت له أنت أعلم جعلت فداك قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجرا وأما التارك للتقية فهو يدخل الجنة وإن كان آثما» لهذا الخبر، ولما روي أنه إن أخذ بها أوجر، وإن تركها أثم ولا منافاة بين الإثم ودخول الجنة (1) على أنه يمكن أن يراد بالإثم قلة الأجر بالنسبة إلى الأخذ بها وفي الرواية التي نقلناها إشعار به، والله يعلم.

22 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

احذروا عواقب العثرات.

* الشرح:

قوله (احذروا عواقب العثرات) العثرات: الزلات، ومنها ترك التقية والأمر بالحذر من عاقبته التي هي المؤاخذة به، أمر بالأخذ بها لأن ترك سبب المؤاخذة سبب لعدم المؤاخذة وهو مطلوب شرعا وعقلا.

23 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: التقية ترس المؤمن والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيدين الله عز وجل به فيما بينه وبينه، فيكون له عزا في الدنيا ونورا في الآخرة، وإن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيذيعه فيكون له ذلا في الدنيا وينزع الله عز وجل ذلك النور منه.

* الشرح:

قوله (وإن العبد ليقع إليه الحديث من حديثنا فيذيعه فيكون له ذلا في الدنيا وينزع الله عز وجل ذلك النور منه) ذله بالقتل والضرب ونحوهما والمراد بذلك النور النور الذي نشأ من كتمان الحديث والعمل بالتقية ولا ينافي ذلك ثبوت نور الإيمان وغيره له وهو يدخل بذلك الجنة ويفهم منه أنه أقل أجرا من العامل بالتقية كما مر.

ص:126


1- 1 - قوله «ولا منافاة بين الإثم ودخول الجنة» هذا تحكم بين لأن الإثم معصية لا يرضى بها الله تعالى فكيف يكون سببا لدخول الجنة، والمراد هنا اقتضاء الفعل لا تفضل الله تعالى أو كثرة أعماله الحسنة بحيث يستحق العفو، والحق أن التقية تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة فإن كان تركها موجبا لقتل النفوس ونهب الأموال وضرر غيره أياما كان، حرم قطعا وصار موجبا لدخول النار، وإن كان سببا لضرر الفاعل فقط ورضي هو به وترك التقية جاز له، وإن كان موجبا لغلبة الكفار وهدم الدين وتسلط الظلمة وإخفاء حكم الله تعالى وجب ترك التقية، وهكذا يقال في المستحب والمكروه. (ش).

باب الكتمان

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النزق وقلة الكتمان.

* الشرح:

قوله (وددت والله أني افتديت خصلتين في الشيعة لنا ببعض لحم ساعدي النزق وقلة الكتمان) افتدى به: أعطاه شيئا فأنقذه، وذلك الشيء المعطى الفداء. ونزق كسمع وضرب: طاش وخف وكتم السر والحديث إذا أخفاهما. ولما كانت التقية شديدة في عصرهم (عليهم السلام) أمروا شيعتهم بكتمان أسرارهم وإمامتهم وأحاديثهم وأحكامهم المختصة بمذهبهم عن المعاندين وغيرهم ممن لا يعرفونه ليحفظوا من بطشهم وقد بالغ (عليه السلام) في ذلك ورغب فيه حتى أنه عد ضررهم أشد من قطع لحم الساعد مع أنه يقتل غالبا.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروإن، عن أبي اسامة زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أمر الناس بخصلتين فضيعوهما فصاروا منهما على غير شيء:

الصبر والكتمان.

* الشرح:

قوله (الصبر والكتمان) أي الصبر عن أذى الأعداء أو الأعم منه، وكتمان الدين عن غير أهله، وفيه ترغيب في الأخذ بهما لأنه سبب عظيم لحفظ الدين وأهله.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس بن عمار، عن سليمان بن خالد قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا سليمان إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله.

* الشرح:

قوله (يا سليمان إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله) تنكير دين للتعظيم لأنه عظيم في الواقع وعند أهله أو للتحقير باعتبار أنه حقير عند الناس. والمراد أن من كتمه وصانه من غير أهله ومن لا يعرف حاله أعزه الله تعالى في الدنيا والآخرة ومن أذاعه وأفشاه أذله الله تعالى فيهما بالأخذ والعقوبة.

ص:127

وهو إما دعاء أو خبر وأما من عرف حاله وأمانته وحفظه للسر فلا يجب الكتمان منه كما يدل عليه ما يجيء من خبر عبد الأعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) ويدل عليه أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار عجز» أراد (عليه السلام) النهي عن طمأنينة الشخص إلى آخر بالاعتماد عليه قبل الاختبار وإظهار السر عنده لأن الأخلاق الذميمة من الحسد والكفر واعتقاد خلاف الحق وغيرها غالبة في أكثر الناس ونقل عنه.

لا تودع السر إلا عند ذي كرم * والسر عند كرام الناس مكتوم السر عندي في بيت له غلق * قد ضاع مفتاحه والباب مختوم 4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخلنا عليه جماعة، فقلنا: يا ابن رسول الله إنا نريد العراق فأوصنا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): ليقو شديدكم ضعيفكم وليعد غنيكم على فقيركم ولا تبثوا سرنا ولا تذيعوا أمرنا وإذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلا فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم، واعلموا أن المنتظر لهذا الأمر له مثل أجر الصائم القائم، ومن أدرك قائمنا فخرج معه فقتل عدونا كان له مثل أجر عشرين شهيدا، ومن قتل مع قائمنا كان له مثل أجر خمسة وعشرين شهيدا.

* الشرح:

قوله (ليقو شديدكم ضعيفكم) بالإغاثة والإعانة ورفع الظلم (وليعد غنيكم على فقيركم) عاد بمعروفه من باب قال، أفضل، والاسم العائدة وهي المعروف والصلة والعطف والمنفعة (ولا تبثوا سرنا) وهو الأحكام المخالفة لمذهب العامة ونحوها (ولا تذيعوا أمرنا) وهو أمر الإمامة والخلافة وغيرها من صفات كمالهم وآثار جلالهم واذاعتها كانت موجبة لاذيهم وقتلهم وقتل شيعتهم إذ كانوا في زمان شديد وكان الناس يفتشون أحوالهم ويقتلون أشياعهم وأتباعهم ومن دان بسيرتهم بل كثيرا ما كانوا بصفة المنافقين يظهرون الانقياد والتسليم ويخفون خبائث قلوبهم ويمشون مع أهل الحق ظاهرا ليأخذوا منهم الاسرار وينقلوها إلى الأشرار كما سيظهر سر ذلك لمن نظر في كتب السير والاخبار فلذلك بالغوا (عليهم السلام) في كتمان السر والإيمان من أهل البغي والعدوان، وأما اظهاره عند الامناء وأهل التسليم فأمر مطلوب لئلا يندرس الدين بمرور الأزمنة والأيام ويبقى آثاره إلى ظهور الامام (عليه السلام).

قوله (وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا) أي لا تنكروه ولا تردوه لعله صدر منا ونزل من الله على نبيه

ص:128

فيخرجكم إنكاره إلى الكفر هذا إذا لم يعلم أصول مذهبهم (عليهم السلام) ولم يعلم وجه صحته ولا وجه فساده كما يرشد إليه قول أبي عبد الله (عليه السلام) «إنما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غية فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله (صلى الله عليه وآله) (ومن أدرك قائمنا فخرج معه فقتل عدونا كان له مثل أجر عشرين شهيدا) دل على أن ضرر المخالفين من هذه الأمة وإثمهم أعظم من ضرر المنكرين لمحمد (صلى الله عليه وآله) وإثمهم. ألا ترى أن ضرر العدو الداخلي أعظم من ضرر العدو الخارجي.

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنه ليس من احتمال أمرنا التصديق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله فأقرئهم السلام وقل لهم: رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلى نفسه، حدثوهم بما يعرفون واستروا عنهم ما ينكرون، ثم قال: والله ما الناصب لنا حربا بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره، فإذا عرفتم من عبد إذاعة فامشوا إليه وردوه عنها، فإن قبل منكم وإلا فتحملوا عليه بمن يثقل عليه ويسمع منه، فإن الرجل منكم يطلب الحاجة فيلطف فيها حتى تقضى له، فالطفوا في حاجتي كما تلطفون في حوائجكم فإن هو قبل منكم وإلا فادفنوا كلامه تحت أقدامكم ولا تقولوا: إنه يقول ويقول. فإن ذلك يحمل علي وعليكم، أما والله لو كنتم تقولون ما أقول لأقررت أنكم أصحابي، هذا أبو حنيفة له أصحاب، وهذا الحسن البصري له أصحاب، وأنا امرؤ من قريش، قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلمت كتاب الله وفيه تبيان كل شيء بدء الخلق وأمر السماء وأمر الأرض وأمر الأولين وأمر الآخرين وأمر ما كان وأمر ما يكون، كأني أنظر إلى ذلك نصب عيني.

* الشرح:

قوله (من احتمال أمرنا ستره وصيانته من غير أهله) وهو الذي علم إنكاره أو جهل حاله مع احتمال عدم قبوله لهذا الأمر. وبهذا الخبر يجمع بين الروايات المختلفة فما دل على الكتمان يحمل على الكتمان من غير أهله، وما دل على الإعلان يحمل على الإعلان بأهله، ثم أشار إلى أن الكتمان إنما هو مطلوب في الأمور المنكرة عند أهل الخلاف دون المعرفة بقوله:

(حدثوهم بما يعرفون واستروا عنهم ما ينكرون) وذلك أن الأمور الدينية والاحكام الشرعية بعضها مشترك بين الفريقين وبعضها مختص بالفرقة الناجية وهم يعرفونها دون غيرهم فأمر (عليه السلام) بتحديث الأول لينتشر علم الدين واستار الثاني تحفظا عن ضرر المعاندين، ثم أشار (عليه السلام) إلى شرفه 129

بحسب النسب والعلم للحث على اتباعه فيما يقول ويأمر بقوله:

(وأنا امرؤ من قريش قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلمت كتاب الله) قد ذكرنا في باب تاريخ مولد النبي (صلى الله عليه وآله) أن قريشا من أين تقرشت ووجه التسمية وأن سائر العرب ليسوا بكفو لقريش، وفيه دلالة على أن ابن بنت الرجل ابن له حقيقة كما في قوله (صلى الله عليه وآله) عن الحسنين (عليهما السلام) «هذان ابناي إمامان» لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة وهو مذهب بعض أصحابنا وقال بعض الأصحاب أنه ابن مجازا لاستعمال اللغة وللرواية عن الكاظم (عليه السلام) وهو (عليه السلام) علم جميع ما في كتاب الله تعالى بتأييد رباني وإلهام لدني وتعليم أبوي وإعلام نبوي.

(وفيه تبيان كل شيء) تبيان بالكسر والفتح شاذ مصدر الثلاثي المجرد بمعنى «واضح گردانيدن وآشكار كردن بر وجه كمال».

(بدء الخلق وأمر السماء وأمر الأرض وأمر الأولين وأمر الآخرين وأمر ما كان وأمر ما يكون) البدء بالفتح والسكون: الابتداء «يعنى آغاز كردن وأول آفريدن وأول كارى كردن» وهو وما عطف عليه بدل أو بيان لكل شيء أو مبتدأ آخر بترك العاطف أي فيه ابتداء كل خلق وكيفية إيجاده من الملائكة المقربين والمجردات الروحانيين والسماوات والأرضين والجن والناس أجمعين وكل ما كان وما يكون إلى يوم الدين من الحوادث اليومية والوقايع الجزئية والآثار العلوية والسفلية وكل ما يجري في هذا العالم.

(كأني أنظر إلى ذلك نصب عيني) تأكيد لقوله «وعلمت كتاب الله» وتقرير له بتشبيه الإدراك العقلي بالإدراك الحسي لزيادة الإيضاح، وفيه تنبيه على وجوب رجوع الخلق إليه في جميع الأمور وقد مر مثل ذلك في آخر باب الرد إلى الكتاب والسنة.

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الربيع بن محمد المسلمي، عن عبد الله ابن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: ما زال سرنا مكتوما حتى صار في يد [ي] ولد كيسان فتحدثوا به في الطريق وقرى السواد.

* الشرح:

قوله (ما زال سرنا مكتوما حتى صار في يد [ي] ولد كيسان فتحدثوا به في الطريق وقرى السواد) كناية عن تشهيره بين الخلائق، وكيسان لقب مختار بن أبي عبيد المنسوب إليه الكيسانية.

7 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: والله إن أحب أصحابي إلي أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإن

ص:130

أسوأهم عندي حالا وامقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله إشمأز منه وجحده وكفر من دان به وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا اسند، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا.

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن يحيى، عن حريز، عن معلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا معلى اكتم أمرنا ولا تذعه، فانه من كتم أمرنا ولم يذعه أعزه الله به في الدنيا وجعله نورا بين عينيه في الآخرة، يقوده إلى الجنة، يا معلى من أذاع أمرنا ولم يكتمه أذله الله به في الدنيا ونزع النور من بين عينيه في الآخرة وجعله ظلمة تقوده إلى النار، يا معلى إن التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له، يا معلى إن الله يحب أن يعبد في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، يا معلى إن المذيع لأمرنا كالجاحد له.

* الشرح:

قوله (وجعله ظلمة تقوده إلى النار) إذاعة أمرهم وعدم كتمانه من الخصال الذميمة، وكل خصلة ذميمة ظلمة تظلم بها مرآة القلب وتظهر هذه الظلمة في الآخرة لأن الآخرة محل بروز السرائر وتقود صاحبها إلى النار كما أن خصال الخير نور يقود صاحبه إلى الجنة.

قوله (يا معلى إن التقية من ديني ودين آبائي) التقية، وهي ما يقي صاحبه عن اللائمة والعقوبة، من دين الله إلى يوم القيامة ومن صفات أهل الايمان أن يعلم حقيتها وحقيقتها وموارد الحاجة إليها.

فيقول ويعمل عند الحاجة بخلاف ما يعتقده حفظا لنفسه وماله وغيره من المؤمنين عن الضرر.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن مروإن بن مسلم عن عمار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام)، أخبرت بما أخبرتك به أحدا؟ قلت: لا إلا سليمان بن خالد، قال:

أحسنت أما سمعت قول الشاعر:

فلا يعدون سري وسرك ثالثا * ألا كل سر جاوز اثنين شائع

* الشرح:

قوله (أحسنت أما سمعت قول الشاعر... إلى آخره) أحسنت للتوبيخ والتقريع كما دل عليه ما بعده.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن مسألة فأبى وأمسك، ثم قال: لو أعطيناكم كل ما تريدون كان شرا لكم وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر، قال أبو جعفر (عليه السلام): ولاية الله أسرها إلى جبرئيل (عليه السلام) وأسرها جبرئيل إلى

ص:131

محمد (صلى الله عليه وآله) وأسرها محمد إلي علي وأسرها علي إلى من شاء الله، ثم أنتم تذيعون ذلك، من الذي أمسك حرفا سمعه؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): في حكمة آل داود ينبغي للمسلم أن يكون مالكا لنفسه مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، فاتقوا الله ولا تذيعوا حديثنا، فلولا أن الله يدافع عن أوليائه وينتقم لأوليائه من أعدائه، أما رأيت ما صنع الله بآل برمك وما انتقم الله لأبي الحسن (عليه السلام) وقد كان بنو الأشعث على خطر عظيم فدفع الله عنهم بولايتهم لأبي الحسن وأنتم بالعراق ترون أعمال هؤلاء الفراعنة وما أمهل الله لهم فعليكم بتقوى الله، ولا تغرنكم [الحياة] الدنيا، ولا تغتروا بمن قد امهل له، فكأن الأمر وقد وصل إليكم.

* الشرح:

قوله (لو أعطيناكم كل ما تريدون كان شرا لكم وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر) الظاهر أن أخذ بصيغة المجهول عطفا على «كان» ويحتمل أن يقرأ آخذ على صيغة التفضيل عطفا على «شرا» أي أشد مؤاخذة.

* الشرح:

قوله (قال أبو جعفر (عليه السلام) ولاية الله أسرها إلى جبرئيل (عليه السلام)) الظاهر أنه من كلام أبي الحسن الرضا نقلا عن جده (عليهما السلام) ويحتمل أن يكون من المصنف نقلا لحديث آخر بحذف الإسناد والموصول في قوله. (وأسرها علي إلى من شاء الله) من أولاده الطاهرين وأهل السر من المؤمنين وقوله (ثم أنتم تذيعون ذلك) إخبار لفظا ومعنى، والغرض منه ذمهم للإذاعة، وحمله على الإنكار بعيد.

والاستفهام في قوله: (من الذي امسك حرفا سمعه) للإنكار أي لم يوجد أحد أمسك كلاما سمعه.

وفيه تنبيه على أن الناس كلهم من أهل الإذاعة وأنه لابد من إخفاء السر عنهم.

قوله (ينبغي للمسلم أن يكون مالكا لنفسه) فيبعثها إلى ما ينبغي ويمنعها عما لا ينبغي ومنه إظهار السر.

(مقبلا على شأنه) فيتفكر فيما ينفعه وما يضره ليمكن له طلب الأول وترك الثاني وفيهما إشارة إلى رعاية السياسة البدنية والحكمة المتعلقة بنفس كل أحد.

(عارفا بأهل زمانه) فيعرف حال كل شخص بحسن فراسته ويعلم وصف كل أحد بنور درايته ويميز بين أهل الديانة وأهل الخيانة ويفرق بين صاحب السر والكتمان والإيمان وبين أهل الإذاعة والغدر والعدوان (فاتقوا الله ولا تذيعوا حديثنا) أي لا تذيعوا حديثنا في الولاية والأمور المختصة بين من يتصور

ص:132

منهم الضرر. أما إذاعة الأمور المشتركة، أو المختصة بين من يقبلها ويكتمها من غير أهلها فقد مر أنه لا منع فيها.

(فلولا أن الله يدافع عن أوليائه وينتقم لأوليائه من أعدائه) كان جواب لولا محذوف بقرينة المقام أي لم يتخلص أحد من الأولياء من شرهم أو لتضرروا منهم وأشار إلى الانتقام والدفع على غير ترتيب اللف بقوله:

(أما رأيت ما صنع الله بآل برمك وما انتقم الله لأبي الحسن (عليه السلام)) دعا أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عليهم لكمال عداوتهم وشدة عتوهم فأجاب الله تعالى دعاءه وانتقم منهم كما هو المشهور (وقد كان بنو الأشعث) أشعث قيس بن الكندي ساكن الكوفة ارتد بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في ردة أهل ياسر وزوجه أبو بكر أخته أم فروه وكانت عوراء فولدت له محمدا وكان من أصحاب علي (عليه السلام) ثم صار خارجيا ملعونا شديد العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) (على خطر عظيم) من سلطان عصرهم (فدفع الله عنهم) شره (بولايتهم لأبي الحسن (عليه السلام)) كما هو المعروف في السير.

(وأنتم بالعراق ترون أعمال هؤلاء الفراعنة وما أمهل الله لهم) العراق بالكسر يذكر ويؤنث وهو إقليم معروف محدود من عبادان إلى الموصل طولا ومن القادسية إلى حلوان عرضا، ووجه التسمية مذكور في القاموس وغيره. والعراقان: البصرة والكوفة، والفراعنة: جمع الفرعون وهو كل متمرد عات. والفرعنة: الدهاء والنكر. وفي المصباح هو فعلون أعجمي. والمراد بأعمالهم قتلهم العلماء والصلحاء وأهل الدين والإيمان ونهبهم أموال الناس وغير ذلك من أعمالهم القبيحة وأفعالهم الشنيعة، و «ما» مصدرية، والإمهال: التأخير، ولما كان مقتضى ذلك التقية منهم وعدم الاغترار بالدنيا مثلهم أشار (عليه السلام) إليهما بقوله:

(فعليكم بتقوى الله ولا تغرنكم [الحياة] الدنيا) أي لا تغلبنكم الدنيا بزهراتها عن مقامكم على الورع والاقتصاد. ولا يزيلنكم بثمراتها من ثباتكم على التقوى والاجتهاد لأن الدنيا ظاهرها زينة معجبة وباطنها سموم مهلكة. ومن التقوى التقية من أهل العناد وإخفاء الحق من أهل الشراد ولما كان ضعفاء العقول قد يغترون بإمهال الله تعالى أهل المعصية وعدم مؤاخذتهم بها عجالة ويميلون إليها مثلهم نهى (عليه السلام) عن ذلك بقوله:

(ولا تغتروا بمن أمهل له فكان الأمر قد وصل إليكم) أي لا تصيروا مغرورين بمن أمهل الله له في البقاء على المعصية والركون إلى الدنيا ولم يؤاخذهم بها عجالة فكان أمر الآخرة وعقوبتهم فيها أو أمر اهلاكهم أو أمر الصاحب وظهوره واستيلاؤه على الظلمة أو الجميع وقد وصل إليكم وليس بينه وبينكم زمان يعتد به.

ص:133

11 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عمر بن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طوبى لعبد نومة، عرفه الله ولم يعرفه الناس، اولئك مصابيح الهدى وينابيع العلم ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة، ليسوا بالمذاييع البذر ولا بالجفاة المرائين.

* الشرح:

قوله (طوبى لعبد نومة عرفه الله ولم يعرفه الناس) نومة كهمزة: الخامل. أي: الجنة أو طيب العيش أو الحسنى أو الخير لعبد خامل الذكر عرفه الله في مقام طاعته وعبوديته ولم يعرفه الناس في مشهدهم، وفيه ترغيب في ذكر الله تعالى في جميع الأحوال والفرار من الناس ليتخلص من أذاهم، ولا يكتسب الشرور منهم.

(أولئك مصابيح الهدى) لشروق نور المعارف الإلهية على مرآة سرهم، وهو ثمره الاستعداد بالحزن والخوف والعزلة ومثمر الاهتداء به، واستعار لفظ المصباح لنور معرفتهم لاشتراكهما في كون كل منهما سببا للهدى، استعارة لفظ المحسوس للمعقول والهداية على درجات منها معرفة طريق الخير والشر وإليه يرشد قوله تعالى (وهديناه النجدين) ومنها هداية الخاص وهي تحصل بالمجاهدات الحسنة وإليها يرشد قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ومنها هداية خاص الخاص وهي من عند الله تعالى ولا مدخل للعبد فيها وهي للأنبياء والأوصياء والأولياء، وإليها يرشد قوله تعالى (ان هدى الله هو الهدى).

(وينابيع العلم) يخرج منهم العلم إلى أراضي القلوب القابلة لبذر المعرفة والحكمة وزرع الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، والينابيع جمع الينبوع وهو العين الذي يخرج منه الماء ففيه استعارة مكنية تخييلية بتشبيه العلم بالماء في الإحياء وإثبات الينابيع له.

(ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة) الفتنة بلاء وفساد و «آزمايش وجنك وآشوب وعذاب ومحنت».

ووصفها بالمظلمة لأنها تسود وجه القلب وتظلم طريق الحق وتمنع من مشاهدته كالظلمة والانجلاء والتجلي «واشدن غم وابر ومانند آن». والمراد: ذهاب الفتنة وبعدها عنهم.

(ليسوا بالمذاييع البذر) المذاييع جمع المذياع بالكسر وهو من لا يكتم سره، والبذر بضمتين جمع البذور كصبر جمع صبور، أو جمع بذير كالنذر جمع نذير، وهما النمام ومن لا يستطيع كتمان سره فيفشيه وينادي به بين الناس. يقال بذرت الكلام بين الناس كما تبذر الحبوب وتتفرق في الأرض.

ص:134

(ولا بالجفاة المرائين) الجفاة جمع الجافي وهو غليظ القلب والطبع والبعيد عن الصلة والبر والخير، والمرائين جمع المرائي وهو من يقصد بأعماله من الفعل والقول، والمناظرة إراءة الناس لإظهار كماله واشتهار حاله.

12 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن الأصبهاني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): طوبى لكل عبد نومة لا يوبه له، يعرف الناس ولا يعرفه الناس، يعرفه الله منه برضوان، اولئك مصابيح الهدى ينجلي عنهم كل فتنة مظلمة ويفتح لهم باب كل رحمة، ليسوا بالبذر المذاييع ولا الجفاة المرائين وقال: قولوا الخير تعرفوا به واعملوا الخير تكونوا من أهله ولا تكونوا عجلا مذاييع، فإن خياركم الذين إذا نظر إليهم ذكر الله وشراركم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبراء المعايب.

* الشرح:

قوله (طوبى لكل عبد نومة لا يوبه له) أي لا يبالي به يقال: ما وبهت له - من باب علم، وفي لغة من باب وعد - أي ما باليت وما احتفلت ولا اهتممت بشأنه.

(يعرف الناس ولا يعرفه الناس) أي يعرف أحوال الناس وقبح أعمالهم وسوء أفعالهم وفساد ضمائرهم وخبث عقائدهم بصفاء طبيعته ونور سريرته وضياء قريحته فيعتزل عنهم ولا يعرفه الناس لذلك (يعرفه الله منه برضوان) الظاهر أن «منه» متعلق برضوان، والضمير عائد إلى الله والتقديم للحصر، وقوله «برضوان» حال عن ضمير يعرفه أي يعرفه الله حال كونه متلبسا برضوان عظيم من الله والرضا والرضوان ضد السخط.

(ويفتح لهم باب كل رحمة) أي باب كل أسباب الرحمة والإحسان من الأعمال وغيرها.

(ولا تكونوا عجلا) العجل بضم العين وتشديد الجيم المفتوحة جمع عاجل كطلب جمع طالب وجهل جمع جاهل، من: عجل فلان إلى الأمر من باب علم سبق إليه وأسرع فهو عاجل وعجل بكسر الجيم وضمها وعجلان، وفيه ترغيب في التدبر في الأمور والعواقب (المبتغون للبراء المعائب) البراء والبراء جمع بريء كالكرماء والكرام جمع كريم.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عمن أخبره قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كفوا ألسنتكم وألزموا بيوتكم، فإنه لا يصيبكم أمر تخصون به أبدا ولا تزال الزيدية لكم وقاء أبدا.

* الشرح:

قوله (كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنه لا يصيبكم أمر تخصون به أبدا) أمر بكف اللسان عما لا ينبغي عن إظهار السر عند غير أهله وبلزوم البيت والاعتزال عن الناس وترك

ص:135

مخالطتهم وبين فائدتهما بأنه لا يصيبكم مكروه تخصون به أبدا لأجل دينكم لأن المكروه لأجل الدين انما يكون مع مخالطة المخالفين وإفشاء السر عندهم (ولا تزال الزيدية لكم وقاء أبدا) وذلك لأن الزيدية لا يجوزون التقية ويوجبون الخروج بالسيف ويدعون الخلافة لعلي (عليه السلام) فالمخالفون يتعرضون لهم لا لكم إذا اتقيتم، وبالجملة هم يظهرون ما تريدون إظهاره فلا حاجة لكم إلى إظهاره حتى تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.

14 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن أبي الحسن صلوات الله عليه قال: إن كان في يدك هذه شيء فإن استطعت أن لا تعلم هذه فافعل، قال: وكان عنده إنسان فتذاكروا الإذاعة، فقال: احفظ لسانك تعز ولا تمكن الناس من قياد رقبتك فتذل.

* الشرح:

قوله (إن كان في يدك هذه شيء فإن استطعت أن لا تعلم هذه فافعل) هذه غاية المبالغة في كتمان سرك من أقرب الناس إليك فإنه وإن كان من خواصك ليس بأحفظ لسرك منك.

(فقال احفظ لسانك تعز) فإن أكثر المذلة والخذلان ينشأ من إرسال اللسان وإظهار ما في الجنان. ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء» وهذا مثل، والمراد منه هنا أن ما في القلب إن أريد أن لا يطلع غيره مما سوى الله المطلع على خفيات الصدور وجب أن يحفظ اللسان، فإنه آلة تلف الإنسان ومظهر مكنون الجنان.

(ولا تمكن الناس من قياد رقبتك فتذل) هذا كناية عن الحبس والإذلال والأخذ الشديد ونحوها، وكل ذلك مترتب على إفشاء السر وترك التقية. والقياد حبل يشد على عنق البهيمة وتقاد به.

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن خالد بن نجيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق فمن هتك علينا أذله الله.

* الشرح:

قوله (إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق فمن هتك علينا أذله الله) أي أخذ الله عهدا على المقرين بأمرنا على استتاره وكتمانه على المنكرين له فمن هتك علينا بإظهاره ورفع الحجاب عنه أذله الله لنقض عهده المتضمن للإضرار علينا، والجملة إما دعائية أو إخبارية.

16 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى، جميعا، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن سعيد بن غزوان، عن علي بن الحكم، عن عمر بن أبان عن عيسى بن أبي منصور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نفس المهموم لنا المغتم لظلمنا تسبيح وهمه لأمرنا عبادة وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله، قال لي محمد بن سعيد: أكتب هذا بالذهب، فما كتبت شيئا أحسن منه.

ص:136

باب المؤمن وعلاماته وصفاته

اشاره:

1 - محمد بن جعفر، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن داهر، عن الحسن بن يحيى، عن قثم أبي قتادة الحراني، عن عبد الله بن يونس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قام رجل يقال له: همام - وكان عابدا، ناسكا، مجتهدا - إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه؟ فقال: يا همام المؤمن هو الكيس الفطن، بشره في وجهه وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدرا وأذل شيء نفسا، زاجر عن كل فان، حاض على كل حسن، لا حقود ولا حسود، ولا وثاب، ولا سباب، ولا عياب، ولا مغتاب، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل الغم، بعيد الهم، كثير الصمت، وقور، ذكور، صبور شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفاء، قليل الأذى، لا متأفك ولا متهتك، إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرحمة، لا يبخل، ولا يعجل، ولا يضجر، ولا يبطر، ولا يحيف في حكمه، ولا يجور في علمه.

نفسه أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع، ولا هلع، ولا عنف ولا صلف، ولا متكلف ولا متعمق، جميل المنازعة، كريم المراجعة عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر، خالص الود، وثيق العهد وفي العقد، شفيق، وصول، حليم، خمول، قليل الفضول، راض عن الله عز وجل مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ناصر للدين، محام عن المؤمنين، كهف للمسلمين، لا يخرق الثناء سمعه ولا ينكي الطمع قلبه، ولا يصرف اللعب حكمه، ولا يطلع الجاهل علمه، قوال، عمال، عالم، حازم، لا بفحاش ولا بطياش، وصول في غير عنف، بذول في غير سرف، لا بختال ولا بغدار ولا يقتفي أثرا، ولا يحيف بشرا، رفيق بالخلق، ساع في الأرض، عون للضعيف، غوث للملهوف، لا يهتك سترا، ولا يكشف سرا، كثير البلوى، قليل الشكوى، إن رأى خيرا ذكره، وإن عاين شرا ستره، يستر العيب، ويحفظ الغيب، ويقيل العثرة، ويغفر الزلة، لا يطلع على نصح فيذره، ولا يدع جنح حيف فيصلحه، أمين، رصين، تقي، نقي، زكي، رضي، يقبل العذر ويجمل الذكر، ويحسن بالناس الظن، ويتهم على الغيب نفسه، يحب في الله بفقه وعلم، ويقطع في الله بحزم وعزم، لا يخرق به فرح، ولا يطيش به مرح، مذكر للعالم، معلم للجاهل، لا يتوقع له بائقة، ولا يخاف له غائلة، كل سعي أخلص عنده من سعيه، وكل نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه، شاغل بغمه، لا يثق بغير ربه، غريب وحيد جريد [حزين]، يحب في الله ويجاهد في الله ليتبع رضاه ولا ينتقم لنفسه

ص:137

بنفسه، ولا يوالي في سخط ربه، مجالس لأهل الفقر، مصادق لأهل الصدق، موازر لأهل الحق، عون للغريب، أب لليتيم، بعل للأرملة، حفي بأهل المسكنة، مرجو لكل كريهة، مأمول لكل شدة، هشاش، بشاش، لا بعباس ولا بجساس، صليب، كظام، بسام، دقيق النظر، عظيم الحذر، [لا يجهل وإن جهل عليه يحلم] لا ينجل وإن نجل عليه صبر، عقل فاستحيى، وقنع فاستغنى، حياؤه يعلو شهوته ووده يعلو حسده، وعفوه يعلو حقده، لا ينطق بغير صواب، ولا يلبس إلا الاقتصاد، مشيه التواضع، خاضع لربه بطاعته، راض عنه في كل حالاته، نيته خالصة، أعماله ليس فيها غش ولا خديعة، نظره عبرة، سكوته فكرة، وكلامه حكمة، مناصحا متباذلا متواخيا، ناصح في السر والعلانية، لا يهجر أخاه، ولا يغتابه، ولا يمكر به، ولا يأسف على ما فاته، ولا يحزن على ما أصابه، ولا يرجو ما لا يجوز له الرجاء، ولا يفشل في الشدة، ولا يبطر في الرخاء، يمزج الحلم بالعلم، والعقل بالصبر، تراه بعيدا كسله، دائما نشاطه، قريبا أمله، قليلا زلله، متوقعا لأجله، خاشعا قلبه، ذاكرا ربه، قانعة نفسه، منفيا جهله، سهلا أمره، حزينا لذنبه، ميتة شهوته، كظوما غيظه، صافيا خلقه، آمنا منه جاره، ضعيفا كبره.

قانعا بالذي قدر له، متينا صبره، محكما أمره كثيرا ذكره، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم. ويسأل ليفهم ويتجر ليغنم، لا ينصت للخبر ليفجر به، ولا يتكلم ليتجبر به على من سواه، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، فأراح الناس من نفسه، إن بغي عليه صبر حتى يكون الله الذي ينتصر له، بعده ممن تباعد منه بغض ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده تكبرا ولا عظمة، ولا دنوه خديعة ولا خلابة، بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير، فهو إمام لمن بعده من أهل البر.

قال: فصاح همام صيحة، ثم وقع مغشيا عليه، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أما والله لقد كنت أخافها عليه وقال: هكذا تصنع الموعظة البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن لكل أجلا لا يعدوه وسببا لا يجاوزه، فمهلا لا تعد فإنما نفث على لسانك شيطان.

* الشرح:

قوله (قام رجل يقال له همام) همام ككشاف وهو همام بن سريح بن بريد بن مرة بن عمرو بن جابر بن عوف الأصهب. وكان من شيعة علي (عليه السلام) وأوليائه وكان عابدا ناسكا مجتهدا في الدين والأخلاق والأعمال. قال السيد رضى الدين (رضي الله عنه) روي أنه قال يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني انظر إليهم، فتثاقل عن جوابه ثم قال (عليه السلام) يا همام اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا

ص:138

والذين هم يحسنون. فلم يقنع همام بذلك القول حتى عزم عليه، وقال بعض الأعلام تثاقله (عليه السلام) عن جوابه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة وخوفه عليه أن يخرج به خوف الله إلى انزعاج نفسه وصعقها، وأمره بتقوى الله أي في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، وأمره بالإحسان إليها بترك تكليفها فوق طاقتها، ولذلك قال (عليه السلام) حين صعق همام «أما والله لقد كنت أخافها عليه».

(فقال: يا همام المؤمن هو الكيس الفطن) تعريف الخبر باللام وتوسيط الضمير لقصد الحصر والتأكيد، والكيس وزان فلس جودة القريحة. قال ابن الأنباري: العقل، ويقال أنه مخفف كيس مثل هين وهين والأول أصح لأنه مصدر من كأس كيسا من باب باع، وأما المثقل وهو المراد هنا فاسم فاعل والجمع أكياس مثل جيد وأجياد، والفطنة ذكاء النفس، ورجل فطن بأحواله وأمور الدين عالم بوجوههما حاذق وانما قدمهما لأنهما مبدآن للمحاربة مع النفس الأمارة وآلتان للغلبة عليها (بشره في وجهه وحزنه في قلبه) إذ لا يطمئن من اضطرابه لما فات ووقوع التقصير فيه ولا يسكن من روعته لما هو آت وتوقع التقصير فيه حتى يرفع الحجاب ويدخل الجنة لأن الإنسان وإن بلغ حد الكمال لا يأمن من النقص والوقوع في الخسران، وأما بشره وهو بالكسر: طلاقه الوجه والبشاشة وإظهار السرور فلأنه من حسن العشرة وكمال الرأفة بالإخوان المؤمنين بخلاف العبوس فإنه من علامات الغلظة والتجبر وأمارات أهل النار.

(أوسع شيء صدرا وأذل شيء نفسا) سعة الصدر وانفراجه عبارة عن انكشافه لقبول ما في السماوات والأرضين وعالم الملك والملكوت من الأسرار اللاهوتية والآثار الربوبية وتجليات أنوار الحق. وذل النفس إشارة إلى الأخذ بزمامها والمنع عن مرامها كيلا تتجاوز عن الحدود الشرعية والآداب العرفية الموافقة للقوانين النبوية أو إلى مذلتها وهونها عنده، فالأذل على الأول من الذل بالكسر بمعنى السهولة والانقياد. يقال ذلت الدابة ذلا بالكسر أي سهلت وانقادت فهي ذلول.

وعلى الثاني من الذل بالضم بمعنى الهون والضعف يقال: ذل ذلا بالضم ومذلة إذا ضعف وهان.

(زاجر عن كل فان حاض على كل حسن) أي زاجر نفسه أو غيره أو الأعم وكذا حاض، والحض: الحث والتحريض، وذلك لعلمه بأن نفع الأول زائل لا يبقى ونفع الثاني باق لا يفنى وفيه إعلام بصرف همته إلى مولاه وإعراضه بالكلية عما سواه طلبا لرضاه.

(لا حقود ولا حسود ولا وثاب ولا سباب ولا عياب ولا مغتاب) الحقد: إمساك العداوة، والبغض في القلب والتربص لفرصتها. والحقود الكثير الحقد و «لا» للمبالغة في النفي لا لنفي المبالغة كما قيل في قوله تعالى (وما أنا بظلام للعبيد) ونحوه وقد صرح به التفتازاني في شرح التلخيص فلا يلزم ثبوت أصل الفعل وكذا في البواقي. والحسد إكراه الرجل نعمة الغير وفضيلته وتمني زوالها منه مطلقا أو منه إليه، وهو من توابع الجهل بالحكمة الإلهية وعدم الرضا بالقسمة الربانية. والوثب

ص:139

والوثوب «بر جستن» والعامة تستعمله بمعنى المبادرة والمسارعة إلى الأمر والأخذ وهو من لوازم الحمق وخفة العقل، والسب: القطع والطعن والفحش والشتم وهو من توابع الانحراف عن الاعتدال في القوة الغضبية، والعيب: النقص والنسبة إليه أيضا فهو لازم ومتعد، يقال:

عاب المتاع عيبا فهو عايب وعابه صاحبه فهو معيب ومعيوب، والفاعل من هذا عائب وعياب للمبالغة، والاغتياب ذكر الغايب بما يكرهه وهو فيه، وإن لم يكن فيه فهو التهمة، وهما من توابع الطغيان في القوة الشهوية والقوة الغضبية وخفة العقل; إذ الشهوية إذا لم تنل من أحد ما أرادت منه تحركت القوة الغضبية إلى الانتقام منه وهما من أفراده والعقل لخفته لا يعلم أن الوبال عائد إليه حقيقة.

(يكره الرفعة ويشنأ السمعة) الشنأ «دشمن داشتن» شنأه كمنعه وسمعه شنئا ويثلث أبغضه، والسمعة بالضم أو الفتح أو التحريك «كارى كه براي شنيدن مردم كنند وآن مانند ريا است» أي يكره رفعة القدر وهي بالكسر مصدر رفع ككرم أي شرف وعلا قدره فهو رفيع ويشنأ أن يعمل ليرى ويسمع فينوه بذكره، وأما إذا عمل فسمعه الناس وأحبوه وأثنوه من غير أن يقصد بعلمه ذلك فقد أعطاه الله أجره مرتين.

(طويل الغم بعيد الهم كثير الصمت) طول غمه بسبب تذكر أهوال القيامة وعدم علمه بمآل حاله وبعد همه أي حزنه الذي يذيبه ويقلقله بسبب تصور التقصير في العبودية، ويمكن أن يراد بالهم القصد والعزم وطول قصده بسبب تعلقه بالآخرة لا بالدنيا، وكثرة صمته بسبب علمه أن الأقوال أكثرها فاسدة متعلقة بما لا يعني وأن الكلام يشغل السر عن التجرد لذكر الله ويمنع استكماله بالمعارف والحكمة وأن الصمت يلحقه بها.

(وقور ذكور صبور شكور) أي وقور في الأمور العظام الموجبة لاضطراب القلوب، وذكور لله تعالى وما يقربه إليه وما ينفعه في الآخرة، وصبور في مكاره الدنيا لثبات قلبه وعلو همته عن أحوالها، وشكور في الضراء والسراء.

(مغموم بفكره مسرور بفقره) لأن فكره في المبدأ والمعاد وما يرد على الإنسان بعد الموت وعدم علمه بما يفعل به يورث الغم، وعلمه بمنافع الفقر ومضار الغنى وصعوبة نجاة الأغنياء إلا من رحم الله يوجب السرور.

(سهل الخليقة لين العريكة رصين الوفاء قليل الأذى) سهل كضرب وكتف «هموار وخوش ونرم». والخليقة الطبيعة كالعريكة. يقال لانت عريكته إذا انكسرت نخوته وتكبره عند معاملات الناس وهو من أجزاء التواضع. والرصين بالصاد المهملة: المحكم الثابت، والحفي بحاجة صاحبه وفعله مثل كرم، يقال: رصنه وأرصنه أي أكمله وأحكمه، وفي الأول إشارة إلى سهولة طبيعته في قبول الحق والإقبال إليه، وفي الثاني إلى لين عريكته وعدم نخوته مع الخلق، وفي الثالث إلى

ص:140

الثابت على العهد والوفاء به، وفي الرابع إلى عدم وصول أذاه وضرره إلى الخلق.

(لا متأفك ولا متهتك) التأفك والتهتك للمطاوعة تقول أفكه - من باب ضرب وعلم - فائتفك وتأفك أي لا يبالي ما نسب إليه من الإفك وهو الكذب وهتك الستر وغيره من باب ضرب خرقه أو جذبه حتى نزعه من مكانه أو شقه حتى يظهر ما وراه فانتهك وتهتك. ورجل منهتك ومتهتك لا يبالي أن يهتك ستره. وذلك من خفة العقل وسفاهة الرأي كما هو شأن الأجلاف والسقاط الذين لا يبالون بنسبة القبائح إليهم ولا بفعلهم لها.

(إن ضحك لم يخرق وإن غضب لم ينزق) الخرق بالفتح والسكون: الشق. وفعله من باب نصر وضرب، وبالضم والسكون وبالتحريك: الحمق، وفعله من باب علم وكرم، والنزق الخفة والطيش عند الغضب، وفعله من باب علم وضرب، يعني: إن ضحك لم يشق فاه ولم يفتحه كثيرا حتى يبلغ القهقهة كما هو شأن الكرماء، أو لم يحمق ولم يضحك كضحك الأحمق الأخرق، وإن غضب على أحد لم يخرجه الغضب إلى حد الخفة والطيش كما هو حال الجهلاء.

(ضحكه تبسم واستفهامه تعلم ومراجعته تفهم) يعني ضحكه تبسم غير مشتمل على الصوت لشرف ذاته وغلبة ذكر الموت وما بعده على قلبه، كما نقل من صفاته (صلى الله عليه وآله) أنه كان أكثر ضحكه التبسم، وقد يفتر أحيانا ولم يكن من أهل القهقهة، واستفهامه عن الشيء تعلم له لا تعنت، ومراجعته إلى الشيء ومذاكرته فيه تفهم له ولآثاره ولوازمه، والفهم ملكة سرعة الانتقال من الملزومات إلى اللوازم من غير مكث.

(كثير علمه عظيم حلمه كثير الرحمة) الأول إشارة إلى صرف همته بالكلية في تحصيل كمالاته العقلية والنقلية من المعارف اليقينية والشرائع النبوية وإحياء العقل النظري بها، والثاني إشارة إلى كمال مبالغته في تعديل قوته الغضبية التي من شأنها الأخذ والبطش والطغيان والترفع والتسلط والغلبة على الأقران حتى حصلت له بذلك ملكة الحلم المقتضية للصفح والستر والعفو والأناة والحنان والاستكانة، والثالث إشارة إلى بعض لوازم الأول وملزوم الثاني فإن العلم بقباحة الطغيان وشناعة العدوان وسوء عاقبتهما يستلزم الرحمة بعباد الله أي الشفقة والرأفة بهم، ورقة القلب والتعطف عليهم وهو يستلزم الحلم والصفح عن زلاتهم.

(لا يبخل ولا يعجل ولا يضجر ولا يبطر) لعلمه بأن البخل وهو منع الواجبات المالية ومنع المستحق والسائل مما يفضل عنده من أخس الأخلاق المهلكة، وفعله من باب علم وكرم، وإن العجل وهو السرعة إلى الأمر من غير تفكر فيه وتدبر في عاقبته يوجب الندامة والحيرة، وفعله من باب علم، وأن الضجر من الحق وهو التبرم والقلق والاغتمام منه يوجب البعد عنه والانحراف إلى ضده، وفعله من باب علم. وأن البطر وهو بالتحريك النشاط والأشر والدهش عن الحق والحيرة فيه

ص:141

والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة والتكبر عند الحق وعدم قبوله يوجب كفران النعمة وسخط الرب والبعد منه، وفعله من باب علم.

(ولا يحيف في حكمه ولا يجور في علمه) لأن الحيف في الحكم بالميل إلى الباطل في فتواه والجور في العلم بترك العمل بمقتضاه من توابع النقص في القوة النظرية والعملية وقوته النظرية في أقصى مراتب الاعتدال وقوته العملية في أعلى مراتب الكمال.

(نفسه أصلب من الصلد ومكادحته أحلى من الشهد) الصلد ويكسر الحجر الصلب الأملس، والكدح العمل والسعي فيه، والشهد بالفتح ويضم العسل وصف نفسه بأنها أصلب من الصلد لأنه لا يد للشيطان عليها ولا تنفذ سهام وسوسته فيها، ووصف عمله ومبالغته في الخيرات بأنه أحلى من العسل في مذاقه وميل طبعه اللطيف إليه.

(لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف ولا متكلف ولا متعمق) الجشع بفتح الجيم وكسر الشين الحريص الشديد في حرصه وهو الذي يأخذ نصيبه ويطمع في نصيب غيره، وفعله من باب علم، والهلع بفتح الهاء وكسر اللام، والهلوع: من يجزع في المصائب ويفزع من الشر والنوايب جزعا شديدا وفزعا عظيما ويطلق على الحريص والشحيح أيضا، وفعله من باب علم. والعنف ككتف والعنيف: من لا رفق له في القول والفعل، وفعله من باب كرم ويتعدى بالباء وعلى. والصلف ككتف من يتكلم بما يكرهه صاحبه ويمدح نفسه ولا خير عنده ويجاوز قدره ويدعي فوق ذلك تكبرا ويكثر القول بما لا يفعل، وفعله من باب علم. والمتكلف: المتعرض لما لا يعنيه، والمتعمق: المبالغ في الأمور المتشدد فيها والمتنطع في الكلام الغالي فيه.

(جميل المنازعة كريم المراجعة) إذ مراجعته من ضروريات الدنيا إلى الله وطلب رضاه ومنازعته مع بنى نوعه إما في أمور الدنيا على وجه لا يؤذيهم، أو في ترويج مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها الأماجد بالحكمة والموعظة الحسنة (عدل إن غضب رفيق إن طلب) إشارة إلى أنه عدل في القوة الغضبية فلا يكون مفرطا مقصرا بحيث يبطل حدا من حدود الله ولا مفرطا متجاوزا فيها عن الحد بحيث يكون ظالما لنفسه ولغيره، وبالجملة مالك لزمام تلك القوة يصرفها فيما ينبغي ويمنعها عما لا ينبغي وإلى أنه رفيق إن طلب حقه من الغير فلا يعنف به ولا يشدد عليه أو إن طلب الغير منه حقه فلا يماطله ولا يماكسه، فطلب على الأول معلوم وعلى الثاني مجهول.

(لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر) التهور: الوقوع في الأمر بقلة مبالاة يعني «بي باكانه كار كردن».

والتهتك خرق الستر يعني «پرده دريدن وپرده برادشتن». والتجبر: التكبر.

(خالص الود وثيق العهد وفي العقد) الود بالحركات الثلاث: الحب، والعهد: الموثق والذمة 142

والأمانة التي منها الولاية، والعقد: الضمان والمقرر بالعقود مثل النذر وغيره، يعني: حبه للمؤمنين خالص لله غير مشوب بغرض آخر، وعهده في الولاية والأمانة وغيرهما محكم لا يعتريه النقص، وعقده مقرون بالوفاء لا يعترضه العذر.

(شفيق وصول حليم خمول) أي وصول بنفسه إلى المؤمنين غير معتزل عنهم أو وصول بنعمته إلى الأقربين وذوي القربى والمساكين. وحليم ذو أناة وتثبت في الأمور كما هو من شعار العقلاء ودثار الكرماء، وخمول ليس من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها.

(قليل الفضول راض عن الله عز وجل مخالف لهواه) أي ليس في فعله وقوله فضول كثيرة فربما يفعل قليلا من المباحات ويتقول بها لحسن المعاشرة وراض عن الله عز وجل بما أعطاه من قسمه ورزقه، ومخالف لهواه بقهره نفسه الأمارة وتطويعها بالحياء وحسن السياسة للنفس المطمئنة فنجي عن الهواء وخلص عن الردى ولم يتجاوز في المأكول والملبوس والمنكوح ونحوها عن الحدود الشرعية.

(لا يغلظ على من دونه ولا يخوض فيما لا يعنيه) غلظ الرجل: اشتد فهو غليظ، وفعله كضرب وكرم. وأغلظ له في القول إغلاظا: خشن عليه وعنفه، وغلظ عليه في اليمين تغليظا: شدد عليه.

والخوض: الدخول في الأمر، أي: لا يغلظ على من دونه في العلم والعمل والدنيا ولا يشدد عليه ولا يعنفه ولا يدخل فيما لا يعنيه إذ همته متعلقة بالآخرة والملأ الأعلى، وما لا يعنيه يضاد ذلك ويمنعه عن الوصول إلى مقصده; فلذلك يرفضه بالكلية.

(ناصر للدين محام عن المؤمنين كهف للمسلمين) أي ناصر للدين يروجه بين المؤمنين ويدفع عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وكيد الكائدين، ومحام عن المؤمنين يحفظهم عن شر المعاندين ويحرسهم عن ظلم الظالمين وجور الماكرين، وكهف للمسلمين لأنهم يلجأون إليه في المكاره والنوائب، وإطلاق الكهف عليه وهو بيت منقور في الجبل على سبيل الاستعارة (ولا يخرق الثناء سمعه) أي لا يشقه ولا يدخل فيه لأنه يتأبى من استماعه ويستكرهه لعلمه بأن استماعه والرضا به يوجب اهتزاز النفس والاعتراف بكمالها والادلال بخروجها عن حد التقصير والعجب بكمالها وكل ذلك مهلك، ولم يرض أمير المؤمنين (عليه السلام) بالثناء عليه مع كمال تقدسه. فقال حين مدحه قوم في وجهه: «اللهم إنك أعلم بي من نفسي وإني أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلنا خيرا مما يظنون واغفر لنا مالا يعلمون».

(ولا ينكي الطمع قلبه) أي لا يقتل أو لا يجرح الطمع في الدنيا أو فيما في أيدي الناس قلبه لسده باب الطمع فلا يدخل فيه حتى يميته أو يجرحه.

ص:143

(ولا يصرف اللعب حكمه) إذ ليس له لعب معروف ولا ميل إلى الدنيا حتى يصرف حكمه وقضاءه عن إصلاح نفسه ودينه ودين إخوانه المؤمنين.

(ولا يطلع الجاهل علمه) أي لا يعلم الجاهل علمه، يقال: أطلعه على: افتعله إذا علمه، أو لا يعلو الجاهل علمه ولا يبلغ مبلغه من طلع الجبل - كمنع ونصر وعلم - إذا علاه. وذلك لأنه حكيم يضع علمه وحكمته في موضع ويمنعه عن غير أهله.

(قوال عمال عالم حازم) أي كثير القول في أمور الدين وهداية الخلق وكثير العمل لما بعد الموت لأن مخالفة القول للعمل عند الخلق قبيح وعند الله أقبح ولذلك عاتب بقوله (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وعالم بالكتاب والسنة وأحوال المبدأ والمعاد، وحازم ضابط لأمره متقن له آخذ فيه بالثقة لا يرتكب ما يضره في الدنيا والآخرة فهو كامل في قوته النظرية والعقلية والعملية.

(لا بفحاش ولا بطياش) الفحش: القول السئ وعدوان الجواب وما يشتد قبحه من الذنوب وكل ما نهى الله عز وجل عنه، والطيش: النزق والخفة وذهاب العقل. والطياش من لا يقصد وجها واحدا وذلك ينشأ بتجاوز القوة الغضبية عن حد الاعتدال والمبالغة في النفي كما مر، ولو أريد نفي المبالغة فللإشارة إلى أن الإنسان ليس بمعصوم إلا من عصمه الله تعالى.

(وصول في غير عنف بذول في غير سرف) أي وصول بالمؤمنين في غير أن يعنف عليهم ويؤذيهم بالقول والفعل، والعنف مثلثة العين ضد الرفق، وجواد في اقتصاد وهو من كمال العقل، والسرف بفتحتين ضد القصد وهو اسم من أسرف إسرافا إذا جاوز القصد بالتبذير أو الإنفاق في غير طاعة الله.

(لا بختال ولا بغدار) الغدار من ينقض عهده ولا يفي به، والختال من يخادع صاحبه، وفي بعض النسخ ولا بختار بالراء وهو الغدار والخداع.

(ولا يقتفي أثرا ولا يحيف بشرا) أي لا يتبع أثرا لجهلة لأنهم في واد وهو في واد آخر أو نقل أخبارهم لأنه لغو. ولا يجور بشرا ولا يظلمهم لقيامه على العدل.

(رفيق بالخلق ساع في الأرض عون للضعيف غوث للملهوف) رفقه بالخلق من توابع سكون قوته الغضبية والشهوية ووقوفهما على العدل، وسعيه في الأرض لقضاء حوائج المؤمنين وعونه للضعيف وغوثه للملهوف الحزين في دفع الضر عنهما، وتحصيل النفع لهما من لوازم الكمال في قوته العقلية (لا يهتك سترا ولا يكشف سرا) أي لا يهتك ستر غيره وفيما مر ستر نفسه، والتأكيد

ص:144

محتمل ولا يكشف سر غيره أو سر نفسه أو الأعم لعلمه بأن كشفه ليس من صفات العقلاء وسمات الكرماء، وبأنه إذا لم يحفظ سره فغيره أولى بأن لا يحفظه.

(كثير البلوى قليل الشكوى) البلوى والبلية اسمان من «بلاه الله بخير أو شر» إذا اختبره وامتحنه بهما لأنهما شاقان على النفوس، يدل الرضا بهما والصبر عليهما وترك الشكاية، على الخلوص في مقام العبودية كما هو شأن الأنبياء والأوصياء ومن يقتفي أثرهم.

(إن رأى خيرا ذكره وإن عاين شرا ستره يستر العيب ويحفظ الغيب) لعلمه بأن ذكر خير الغير مطلقا وإن لم يصل إليه وستر شره وإن وصل إليه، وستر عيبه وحفظ غيبه، من صفات الكرام، وخلاف ذلك من نعوت اللئام.

(ويقيل العثرة ويغفر الزلة) وهما متقاربان ويمكن تخصيص الزلة بالمنطق، والعثرة بغيره من الأفعال أو تخصيص العثرة بنقض العهد والوعد، وحمل الزلة على غيره، والإقالة في الأصل: فسخ البيع تقول: قلته البيع وأقلته إذا فسخته. والمراد هنا التجاوز عن التقصير على سبيل التشبيه والاستعارة (لا يطلع على نصح فيذره ولا يدع جنح حيف فيصلحه) أي لا يترك النصح في موضع ينبغي النصح فيه ولا يدع الميل إلى الجور بل يصلحه كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر (أمين رصين تقي نقي زكي رضي) أي أمين لا يضيع ما استحفظه الخلق والخالق من دينه وكتابه وحدوده. رصين لكونه محكما ثابتا في أمره ودينه. تقي بالفضائل. نقي عن الرذائل. زكي لكمال قوته العقلية بحيث يدرك المطالب العلية من المبادي الخفية بسهولة لكثرة مزاولتها. رضي عن الله بما قسم له أو مرضى عند الخالق والخلائق.

(يقبل العذر ويجمل الذكر) قبول عذر الإخوان وإن ضعف من صفات السمحاء وأرباب الايمان، وإجمال ذكرهم وتحسينه وتكثيره من سمات الصلحاء وأصحاب العرفان.

(ويحسن بالناس الظن ويتهم على الغيب نفسه) حسن الظن بالمؤمنين أمر مطلوب كما نطق به القرآن الكريم، وإساءة الظن بهم من وسوسة الشيطان الرجيم، والأمر بالحزم منهم كما في بعض الروايات لا ينافيه لأن بناء الحزم على التجويز والإمكان والغيب على ما صرحوا به يطلق على ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى الايمان به وعلى الآخرة وثوابها وعقابها وعلى قبول الأعمال، واتهام النفس راجع إلى الخوف من تقصيرها وهو محرك لها إلى رعاية الحقوق على وجه الكمال وإلى رد ما تحكم به النفس باستعانة الوهم من حسن العقائد والأعمال وكونها مقبولة واقعة على الوجه المطلوب لله تعالى، وهذا الوهم مبدأ للعجب بالعبادة وعدم التقصير فيها وهو من المهلكات.

(يحب في الله بفقه وعلم ويقطع في الله بحزم وعزم) الفقه هو البصيرة القلبية كما صرح به كثير

ص:145

من أهل العرفان، والعلم هو معرفة الشرائع وبينهما عموم مطلق، والحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة والإتقان، والعزم عقد الضمير على الفعل والاجتهاد والجد في الأمر، وفيه إشارة إلى أن حبه ووصله في الله، وبغضه وقطعه في الله لا في أمر آخر من الأغراض الدنيوية والهواجس النفسانية، وإلى أن ذلك لا يتحقق إلا في العالم البصير في طلب اليقين وفي الحازم العازم في أمر الدين (لا يخرق به فرح ولا يطيش به مرح) في المصباح: الفرح: يستعمل في معان: أحدها: الأشر والبطر، وعليه قوله تعالى: (ان الله لا يحب الفرحين) والثاني: الرضي، وعليه قوله تعالى: (كل حزب بما لديهم فرحون)، والثالث: السرور، وعليه قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله) ويقال فرح بشجاعته وبنعمة الله وبمصيبة عدوه، فهذا الفرح لذة القلب بنيل ما يشتهي، والمرح مثل الفرح وزنا ومعنى، وقيل أشد من الفرح، وفي القاموس: الفرح: محركة السرور والبطر، والمرح: الأشر والبطر والاختيال والنشاط والتبختر. وفي كنز اللغة: فرح «شاد شدن وبافراط شادى نمودن» كما قال الله تعالى: (إن الله لا يحب الفرحين) ومرح «از حد در گذشتن بشادي».

(مذكر للعالم معلم للجاهل) يذكر العالم ويخرجه عن الغفلة. ويعلم الجاهل ويهديه إلى طريق الحق، وهو ما يصلح له من أمر المعاش والمعاد فهو لنورية ذاته وفعلية صفاته، يحتاج إليه الخلائق كلهم.

(لا يتوقع له بائقة ولا يخاف له غائلة) أي لا يتوقع ولا يخاف لأجل وجوده، وفي المصباح:

البائقة: النازلة وهي الداهية والشر الشديد، وباقت الداهية إذا نزلت والجمع: البوائق. والغائلة:

الفساد والشر، وغائلة العبد إباقه وفجوره ونحو ذلك، والجمع: الغوائل، وقال الكسائي: الغوائل:

الدواهي، والغول من السعالي والجمغ غيلان وأغوال وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول.

(كل سعي أخلص عنده من سعيه وكل نفس أصلح عنده من نفسه) وهو تواضع لله واعتراف بالتقصير ودليل على تمام عقله، وقد مر في صدر الكتاب أنه لا يتم عقل امرئ حتى يرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه.

(عالم بعيبه شاغل بغمه لا يثق بغير ربه) أما علمه بعيبه فلرجوعه إلى نفسه وتفتيشه لأحوالها المذمومة وليس حاله كحال الجاهل الذي يحب نفسه فيغفل عن عيبه كما قيل: حبك للشيء يعمي ويصم. ولو قلع عن نفسه علاقة المحبة يرى عيبه كما يرى عيب غيره، وأما شغله بغمه فلعلمه بما يستقبله من المقامات الهائلة وصعاب الأمور وعدم علمه بما يفعل به فيه ويورث ذلك غمه بإصلاح مآله وشغله بتحسين حاله، وأما عدم وثوقه بغير ربه فلعلمه بأن كل شيء فقير لديه،

ص:146

محتاج إليه، متضرع بين يديه، وأن الوثوق بغيره في الأمر الحقير والخطير كالوثوق في الدلالة على الطريق بالأصم الأبكم الضرير، أو كالوثوق في قضاء الحوائج وكشف المضيق بالسائل المستعير أو لأنه لا يرى في الوجود إلا إياه فسد عنه طريق الوثوق بما سواه.

(قريب وحيد جريد) أي قريب بالخلق، وحيد منفرد عنهم، جريد خال عن الرذائل أو عن الميل إلى أخلاقهم وصنايعهم، وهذا من أعجب صفات العارف وكالجمع بين الضدين حيث إنه مع اتصافه بكونه مع الكثرة متصف بكونه مع الوحدة إلا أن الأول باعتبار كونه من العالم الجسماني، والثاني باعتبار كونه من العالم الروحاني فهو بالاعتبار الأول ظفر بالمخالطة وتحمل كلفتها في مكاسبته وبالاعتبار الثاني صفا فكرته في أمور دينه وآخرته وجرد نفسه عن الاتصاف بأخلاقهم بمداهنته. وفي بعض النسخ حزين بدل جريد.

(يحب في الله ويجاهد في الله ليتبع رضاه) أشار إلى أن حبه لاخوانه المؤمنين وقربات الحق في الله وجهاده بماله ونفسه في العلم والعمل وتهذيب نفسه في الله لمجرد أن يتبع رضاه ويطأ بساط قربه ويتشرف بإكرامه الذي لأوليائه، وأشار في السابق إلى أن حبه في الله مقرون بالفقه والعلم، على أن تكرير بعض الصفات في المواعظ قد يقصد للتأكيد والمبالغة في رعايته (ولا ينتقم لنفسه بنفسه ولا يوالي في سخط ربه) أي لا ينتقم من المتعدي لنفسه بنفسه بل يكله إلى ربه، أو يعفو ولا يوالي أحدا فيما فيه سخط ربه وعقوبته لما فيه من العلم والحلم والصبر والكرم، وفي قوله «لنفسه» إشارة إلى أنه ينتقم لربه لما فيه من القوة على القيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام في حق الله تعالى كان فيه مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن فيه صبر وكان هذا الخلق بطشا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط، وخير الأمور أوسطها، وفي قوله «بنفسه» إشارة إلى أنه ينتقم له ربه عاجلا أو آجلا.

(مجالس لأهل الفقر مصادق لأهل الصدق) مجالسته لأهل الفقر الصابرين على الفقد والسمل، ومجالسته لأهل الصدق الكاملين في القول والعمل من دلائل عقله وكمال فضله حيث إنه مع صفاء ذاته وحسن صفاته طلب البركة والفيض بصحبة الفقراء الصابرين ومصادقة أرباب الصدق واليقين (موازر لأهل الحق) الموازر الوزير أي يحمل ثقلهم يعينهم برأيه.

(عون للغريب أب لليتيم بعل للأرملة) لعلمه بأن هؤلاء عاجزون عن تحصيل مطالبهم وترتيب مقاصدهم ومآربهم. فقام بلطفه الطبيعي ورفقه الجبلي على قضاء حوائجهم، والغريب من خرج عن وطنه وبعد عن أقربائه ومسكنه. واليتيم من لا أب له والمؤمنون كلهم غرباء وأيتام في هذا الأوان عند غيبة صاحب الزمان فإعانتهم مثل إعانة الغريب واليتيم في استحقاق الأجر من الله

ص:147

الملك الديان.

(حفي لأهل المسكنة) حفي «مهربان ونيك پرسنده» (مرجو لكل كريهة مأمول لكل شدة) لكونه معروفا بدفع المكاره والشدائد ومشهورا به لجريانه على يديه كثيرا وتكرره منه فيتعلق رجاء الخلق وأملهم به عند نزول المكاره والشدائد عليهم، وهذه الخصلة من علامات تثبته بالإيمان لأنه متى قوي الايمان في القلب ظهرت آثاره في الجوارح فيتوجه إلى دفع المكاره والشدائد عن أهلها لكمال الشفقة عليهم.

(هشاش بشاش لا بعباس ولا بجساس) الهشاش من الهش وهو الارتياح والرخو واللين والتبسم والخفة والنشاط والفرح عند السؤال عنه وسهولة الشأن فيما يطلب منه. والبشاش من البش وهو طلاقة الوجه واللطف في المسألة والإقبال على أخيك والضحك إليه والأنس به، وفرح الصديق بالصديق، والعباس من العبس وهو الكلوح يعني «ترش روى شدن»، والجساس من الجس وهو تفحص الأخبار كالتجسس ومنه الجاسوس.

(صليب كظام بسام) الصليب كأمير: الشديد أي شديد في الأمور التي ينبغي له حفظها لكونه شجاعا، وكظام يكظم غيظه كثيرا من الذي له الانتقام منه. بسام يكثر التبسم في وجه أخيه.

(دقيق النظر عظيم الحذر) أي دقيق النظر في الأمور خيرها وشرها بدايتها ونهايتها عظيم الحذر مما ينبغي الحذر منه لما فيه من الحدة في القوة النظرية والجودة في القوة العملية.

(لا ينجل وإن نجل عليه صبر) الظاهر أن لا ينجل بالنون والجيم من النجل وهو إظهار العيب ونحوه والطعن وضرب الرجل بمقدم الرجل ليسقطه كما يفعله المصارع والرمي بشيء (عقل فاستحيى وقنع فاستغنى) أي أدرك الخير والشر والطاعة والمعصية فترك الشر والمعصية استحياء من الله تعالى وقنع بما رزقه الله تعالى فاستغنى عن الخلق أو عن الطلب.

(حياؤه يعلو شهوته، ووده يعلو حسده، وعفوه يعلو حقده) أي حياؤه من الله أو من الخلق أيضا يغلب شهوته ويمنعه من متابعتها، ووده للخلق يغلب حسده عليهم لأن بناء الحسد على البغض والعداوة، وعفوه للمسيء يغلب حقده عليه لأن الحقد متولد من احتقان الغضب فإذا وقع العفو زال الغضب فيزول الحقد، والحاصل أنه ترك الشهوة بالحياء والحسد بالود والحقد بالعفو (لا ينطق بغير صواب) الصواب فضيلة العدل المتعلقة باللسان وهي تقتضي أن يسكت عما ينبغي أن لا يقال، ويقول ما ينبغي أن لا يسكت عنه، ويضع كل قول في موضعه اللائق به فهو في مقام العدل دون الإفراط والتفريط، والصواب أخص من الصدق لجواز أن يصدق الإنسان فيما لا ينبغي من القول.

(ولا يلبس إلا الاقتصاد) أي لباسه التوسط في جميع الأحوال وشعاره الاقتصاد في جميع

ص:148

الأعمال فلا يلبس مثلا ما يلحقه بأهل الخسة والتبذير ولا يأكل ما يدخله في أهل الإسراف والتقتير ويمكن أن يكون المراد باللباس المعنى المعروف.

(مشيه التواضع) لكونه على سكون ووقار دون تبختر واختيال كما هو مشي المتكبرين، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) الآية. ويمكن أن يراد بمشى التواضع المشي للطاعة دون المعصية وقد روي أن الله تعالى فرض على الرجلين أن تنقلهما في طاعته وأن لا تمشي بهما مشية عاص.

(خاضع لربه بطاعته) إشارة إلى أنه راض نفسه بطاعة ربه وعبادته وهي غاية الخضوع والتذليل (راض عنه في كل حالاته) أي في حال الشدة والرخاء، وحال الصحة والنعمة، وحال السقم والبلاء وذاك من علامات المحبة ضرورة أن المحب راض بجميع ما يرد عليه من الحبيب (نيته خالصة، أعماله ليس فيها غش ولا خديعة) خلوص نيته إشارة إلى توجه سره إلى الله تعالى ورفض جميع ما عداه عنه بعد القيام بطاعته الكاسرة للنفس الأمارة، وهو باب عظيم من أبواب الوصول وسبب تام لاستشراق لوامع الأنوار وظهور بروق الأسرار. وعدم الغش في أعماله إشارة إلى مراعاته جميع الأمور المعتبرة فيها، وعدم إخراجه ما هو داخل فيها وعدم إدخاله ما هو خارج عنها، وعدم الخديعة إشارة إلى التوافق بين ظاهره وباطنه، وعدم قصده اظهار العبادة وابطان خلافها كما هو شأن المنافقين المخادعين الذين ليست صلواتهم وساير عباداتهم إلا مكاء وتصدية.

(نظره عبرة، سكوته فكرة، وكلامه حكمة) العبرة «پند گرفتن». والفكرة «بسيار انديشه كردن»، والحكمة تطلق على معان محصولها العلم بالأمور النافعة في الدين والحمل في الجميع للمبالغة في السببية فإن النظر إلى الدنيا ونعيمها وتصرفها وتقلبها على أهلها وإلى أحوال الماضين وانقطاعهم عما كان في أيديهم وانتقالهم من دار الغرور إلى وحشة القبور واشتغال كل واحد بعمله مثلا سبب للعبرة، والسكوت عما لا يعني سبب للفكرة في الأمور النافعة والأسرار اللامعة من أفق الغيب فإن المفهومات الفاسدة المستفادة من الكلمات الباطلة إذا وردت على القلب تمنعه من الفكر في الحقائق، والكلام سبب لظهور الحكمة وانتشارها في قلوب المستعدين لها، وفيه إشارة إلى أنه ساكت عن اللغو متكلم بالحق وذلك لاستقامة لسانه التابعة لاستقامة قلبه وكماله في القوة العقلية.

(مناصحا متباذلا متواخيا) الظاهر أنه حال عن ضمير نظره، وفيه إشارة إلى سياسته المنزلية والمدنية كما أن في السابق إشارة إلى سياسته البدنية ففيهما إشارة إلى أنه حكيم بجميع أقسام

ص:149

الحكمة العملية.

(ناصح في السر والعلانية) إشارة إلى أنه حكيم يعرف موارد النصح وكيفيته فينصح في السر إن اقتضته المصلحة وينصح في العلانية إن اقتضته الحكمة، ويحتمل أن يراد بالسر القلب وبالعلانية اللسان فيكون إشارة إلى أن نصحه خالص غير مشوب بالخدعة.

(لا يهجر أخاه ولا يغتابه ولا يمكر به) هجر المؤمن واغتيابه بما يكرهه أو يشينه أو يهينه في الأعين، ومكره بإرادة إيصال المكروه إليه من حيث لا يعلم ينشأ من الغيظ والغضب والحسد وميل الطبع إلى قطع رحم الأخوة وشئ من ذلك ليس من صفات المؤمن.

(ولا يأسف على ما فاته ولا يحزن على ما أصابه ولا يرجو مالا يجوز له الرجاء) الأسف محركة:

أشد الحزن، وفعله من باب علم أي لا يحزن على ما فاته من أمور الدنيا أو الأعم ولا على ما أصابه من الفقر ونوائب الدهر وغيرهما مما يثقل على النفس، ولا يرجو ما لا يجوز له رجاؤه إما لعدم كونه لايقا به، أو لعدم إمكان حصوله لأن هده الخصال ليست من صفات أهل الكمال (ولا يفشل في الشدة ولا يبطر في الرخاء) الفشل والفشل بالتسكين والتحريك: الضعف والجبن، وفعله من باب علم أي لا يضعف ولا يجبن على الشدة ولا يضطرب منها. بل يكون شجاعا يقدم عليها ويتقبلها بقبول حسن، ولا يبطر أي لا يطغى ولا يتكبر بالرخاء وكثرة النعمة بل يشكر عليه. فمقامه في الحالين مقام الصبر والشكر. وهذا غاية كمال النفس في السكون والتفويض (يمزج الحلم بالعلم والعقل بالصبر) العقل العلم بالأشياء وصفاتها من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو قوة للإنسان بها يميز بين الحسن والقبيح، أو هيئة محمودة له في حركاته وكلامه، والحق أنه روحاني تدرك بها النفس العلوم الضرورية والنظرية وابتداء وجوده عند اجتنان الولد ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. والمقصود من هذا الكلام أنه عالم حليم وعاقل صبور، وإنما ذكر هذين الخلقين أعني الحلم والصبر لأنهما يستلزمان سائر الأخلاق النفسانية بل جميع الأعمال الصالحة البدنية أيضا. أما الحلم فلأنه من اعتدال القوة الغضبية، واعتدالها يستلزم الاعتدال في القوة الشهوية لأن القوة الغضبية معينة للشهوية في جلب المنافع ودفع المضار فإذا اعتدلت هذه واعتدالهما تابع لكمال القوة العقلية واستيلائها على الظاهر والباطن فيضع كل عضو فيما يليق به، وأما الصبر فلأن توقف الأخلاق - مثل الورع والتقوى والعفو وحسن الخلق وكظم الغيظ وغيرها - والأعمال - مثل الصوم والصلاة والحج ونحوها وتروك المناهي - عليه أظهر من أن يحتاج إلى البيان.

(بعيدا كسله دائما نشاطه) الكسل محركة التثاقل عن الشيء والفتور وفعله كفرح، والنشاط بالفتح ويكسر طيب النفس للعمل وغيره، وفيه تنبيه على ثباته في طاعة الله وسلوك سبيله، ومنشأ

ص:150

ذلك قوة اعتقاده فيما وعد الله للعاملين والتصديق بشرف غاية العبادة.

(قريبا أمله قليلا زلله) أي ليس له طول أمل لإكثاره ذكر الموت والوصول إلى الله تعالى حتى أنه يترقبه آنا فآنا وليس له زلل ولو وقع لضرورة أو سهوا أو من باب ترك الأولى وقع قليلا نادرا.

(متوقعا لأجله خاشعا قلبه) إذا خشع قلبه خشعت جوارحه، والخشوع ثمرة الفكر في جلال المعبود وملاحظة عظمته التي هي روح العبادة، وانتظار الأجل من أشد الجواذب عن الدنيا إلى الله تعالى والشوق إلى لقائه والحزن من ألم فراقه حتى يبلغ ذلك إلى غاية لا يستقر روحه في جسده لولا الأجل الذي كتب له وهذا الشوق إذا بلغ حد الملكة يستلزم دوام ذكره لربه وقناعة نفسه بقليل من الدنيا وهو قدر الضرورة كما قال.

(ذاكرا ربه قانعة نفسه) ويعين على ذلك تصور الفرق بين الحاضرة والغايبة والتصديق بعدم المساواة بين الذاكر والغافل وبين القانع والحريص في الآخرة.

(منفيا جهله سهلا أمره) لاتصاف نفسه بالعلوم وظهور آثار الحكمة فيه وعدم تكلفه لأحد وعدم تكلف أحد له لأن المؤمن خفيف المؤونة.

(حزينا لذنبه ميتة شهوته) حزنه ثمرة الخوف من الله والتقصير في رعاية حقوقه، ولفظ الموت مستعار لخمود شهوته عما حرم عليه وما لا يليق به وهو العفة.

(كظوما غيظه صافيا خلقه) كظم الغيظ رده وحبسه من فضائل القوة الغضبية وأعظم الخصائل البشرية، وصفاء الخلق أعني خلوصه من الغش والامتزاج بضده من أعظم صفات الايمان وأفخم سمات الإيقان.

(آمنا منه جاره ضعيفا كبره) أمن جاره من ضره وشره وبوائقه وغوائله لكونه أمينا صالحا حافظا لوصية الله ووصية رسوله في الجار وضعف كبره وسلبه عن نفسه لعلمه بأن الكبر صفة أهل الجور وخلق أهل النار، وأن التواضع والتذلل من وصف الصالحين وحال أهل الجنة وشأن المؤمنين كما قال الله تعالى (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) وقال تعالى (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا).

(قانعا بالذي قدر له متينا صبره محكما أمره كثيرا ذكره) قناعته بما قدر له تابع لعلمه بأن فيها راحة الدارين وانقياده لحكمة الله تعالى في تقدير المعاش وتقسيم الأرزاق، وصرف نفسه عن الهوى وكسر حرصه في الدنيا ومتانة صبره وقوته على أثقال النفس من الأعمال والتروك والمصائب والنوائب لتوطينه عليها حتى صار الصبر ملكة له بحيث لا يضعفه شيء من المكاره.

وإحكام أمره لقوة رأيه وكمال عقله وشدة عزمه لأن خفيف الرأي وسخيف العقل وضعيف العزم أمره مضطرب وكثرة ذكره بالقلب واللسان وسائر الأركان لتوجهه بالكلية إلى مولاه وتطهير قلبه عن نقش ما سواه.

ص:151

(يخالط الناس ليعلم ويصمت ليسلم ويسأل ليفهم ويتجر ليغنم) أي يخالط الناس ليعلم القوانين الشرعية والآداب النبوية أو ليعلم أحوالهم وخيرهم وشرهم للعبرة، ويصمت عن الحق أو الأعم منه ليسلم من شرهم، ويسأل العالم ليفهم ما لم يعلم امتثالا لقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ويتجر في الدنيا بالعلم والعمل والجهاد بالنفس والمال ليغنم في الآخرة كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) وبالجملة فيه إشارة إلى جميع ما يحتاج إليه السالك وهو العلم والعمل والتعلم والسكوت في مواضع الضرر.

(لا ينصت للخبر ليفخر به ولا يتكلم ليتجبر على من سواه) أي لا ينصت للخبر والحديث لقصد الافتخار به على الناس بل ليعلم ويعمل فيكمل بالعلم والعمل ولا يتكلم به ليتجبر ويتكبر على من سواه كما هو شأن علماء السوء بل لينشر العلم بين أهله، وفي بعض النسخ: لا ينصت للخبر ليفجر به بالجيم، ولعل المراد بالفجور الفخر أو الافتاء مع عدم كونه أهلا له.

(نفسه منه في عناء والناس منه في راحة) فسر هذا بقوله:

(أتعب نفسه لآخرته) للقيام بالطاعات والانتهاض لوظائف العبادات.

(فأراح الناس من نفسه) أي من شر نفسه ومكائدها لأن مبدأ الشرور طغيان النفس ومحبة الدنيا وهو بمعزل عنهما، ويحتمل أن يراد بالفقرة الأولى أن نفسه الأمارة منه في عناء وتعب لمنعها عن هواها وزجرها عن رداها ومقاومته لها وقهره عليها ومراقبتها إياها. والناس في راحة من شر نفسه ومناقشته ومنازعته في أمر الدنيا ولعله أولى لأن التأسيس خير من التأكيد (إن بغي عليه صبر حتى يكون الله الذي ينتصر له) أي إن ظلم لم ينتقم هو بنفسه من الظلم بل يكل أمره إلى الله لينتصر منه. والانتصار «داد ستاندن وكينه كشيدن وبازداشتن» وذلك منه نظر إلى ثمرة الصبر والوعد الصادق، قال الله تعالى (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله) الآية.

(بعده ممن تباعد منه بغض ونزاهة ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ليس تباعده تكبرا ولا عظمة ولا دنوه خديعة ولا خلابة) خلبه كنصره خلبا وخلابا وخلابة بكسرهما خدعه، وفي كنز اللغة:

خلابة «فريفتن بزبان وبريدن» يعني بعده ممن تباعد منه بغض لما انهمكوا فيه من الدنيا والأعمال

ص:152

القبيحة ونزاهة عن التلوث به وبمشاهدته لا عن كبر وتعظم عليه كما هو شأن المتكبرين المتباعدين من الصلحاء وغيرهم ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة منه لهم لا مكر بهم ولا خديعة كما هو حال خبيث الأخلاق.

(بل يقتدى بمن كان قبله من أهل الخير) كالأنبياء والأوصياء وغيرهم ممن عرف بالخير واشتهر به (فهو إمام لمن بعده من أهل البر) البر: الصلة والجنة والخير والاتساع في الإحسان والصدق والطاعة، وقد يطلق على العفة، وبهذا الاعتبار يقابله الفجور ويمكن أن يراد بالبر هنا ما دل عليه القرآن الكريم (ولكن البر من آمن بالله) إلى قوله (أولئك هم المتقون). (ولكن البر من اتقى) فإن المراد بالبر في هاتين الآيتين كمال الايمان والتقوى والأعمال الجميلة والأخلاق الحسنة.

(قال فصاح همام صحية ثم وقع مغشيا عليه) في نهج البلاغة: «فصعق صعقة كانت فيها نفسه» يعنى غشي عليه ومات رحمه الله. قال بعض الأفاضل: لم يكن يغلب على ظنه (عليه السلام) الصعقة من الوجد الشديد. فأما إن فيها موته فلم يكن مظنونا له فلا تحم حول ما قيل إنه كيف جاز منه (عليه السلام) أن يجيبه مع غلبة ظنه بهلاكه وهو كالطبيب إنما يعطي كلا من المرضى بحسب احتمال طبيعته من الدواء والحق أنه (عليه السلام) كان عالما بما يرد عليه وربما يشعر به ما نقلناه في أول الباب عن بعض الأعلام كما يشعر به ما نقله الراوي بقوله:

(فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) أما والله لقد كنت أخافها عليه) وعدم جواز إجابته بعد مبالغته في السؤال وعزمه عليه مع غلبة ظنه بهلاكه ممنوع لجواز علمه (عليه السلام) وعدم جواز إجابته بعد مبالغته في السؤال وعزمه عليه مع غلبة ظنه بهلاكه ممنوع لجواز علمه (عليه السلام) بأنه تعالى جعل موته بسماع هذه الموعظة البليغة فما فعله إلا بأمر ربه، أو بأن فيه حكمة وإن لم نعلمها وخفاء الحكمة لا تقتضى نفيها.

(وقال هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها) وكان همام لاستعداد نفسه القدسية لاستشراق لوامع الأنوار الإلهية من أهلها فلذلك فعلت به ما فعلت.

(فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين، فقال: إن لكل أجلا لن يعدوه وسببا لا يجاوزه فمهلا لا تعد فإنما نفث على لسانك شيطان) اعلم أن هذه الصفات إذا اجتمعت في مؤمن تنور قلبه وتزيد رقته وتجلو رينه وتزيل قسوته وترفع الحجاب بينه وبين ربه وتفتح باب المكاشفة فيلوح فيه جمال الحق وأنوار الربوبية وعالم الملك وآثار القهر والجبروت كما ينتقش الصور في المرآة الصافية المجلوة، وهذا على سبيل التشبيه وإلا فقد ترتفع الأمثلة والأشباح من البين ويتصل هو بالحق اتصالا معنويا فيكون الحق حينئذ سمعه وبصره ويده ولسانه كما ورد في الحديث، وهذه الحالة هي الفناء في الله، وإنما يعرف حقيقتها المستعدون المجتهدون الواصلون دون السامعين ولذا

ص:153

أنكرها كثير منهم ولما كان همام مستعدا مجتهدا واصلا لمعت في قلبه حقيقة هذه الحالة عند سماع هذه الموعظة البالغة التي هي معارج الحق ومدارج النور ولم يقدر أن يملك نفسه فصاح ووقع مغشيا عليه وسؤال ذلك القائل وسوء أدبه إنما نشأ من سوء فهمه وضعف عقله وقلة علمه بأن القلوب تتفاوت في تحمل الأمور العظام والأهوال والجسام ومشاهدة العجائب وملاحظة الغرائب بسبب كثرة الممارسة وقلتها وقوة نور اليقين والتأيد بالتمكين وضعفه كما لا يخفى على الأعلام. وظاهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان غريقا في بحر المكاشفة واليقين بل كان قلبه نورا من نور رب العالمين فكيف يدهش من مشاهدة نوره، وإنما لم يجب (عليه السلام) بهذا الجواب لاستلزامه تفضيل نفسه أو لقصور فهم السائل بل أجاب بما هو أقرب إلى فهم السائل من الجواب المقنع له وهو أن بقاءه لعدم حضور أجله المحكوم به في القضاء الإلهي، وبالجملة سبب عدم تأثير هذه الموعظة فيه (عليه السلام) بالموت أمران: أحدهما عدم حضور أجله وثانيهما الفرق بين همام وبينه (عليه السلام) وأجاب (عليه السلام) بالأول دون الثاني.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن عبد الله بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والصبر أمير جنوده والرفق أخوه واللين والده.

* الشرح:

قوله (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن عبد الله بن غالب) هو عبد الله بن غالب الأسدي الشاعر الثقة الراوي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن (عليهم السلام)، وهذا الحديث من غير تغيير في المتن إلا في البر والده مروي في باب بعد باب نسبة الاسلام عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح، عن عبد الملك بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ومر شرحه فلا نعيد، والظاهر أن عبد الملك سهو من النساخ وهو غير مذكور فيما رأينا من كتب الرجال.

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن منصور بن يونس، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: المؤمن يصمت ليسلم، وينطق ليغنم، لا يحدث أمانته الأصدقاء ولا يكتم شهادته من البعداء ولا يعمل شيئا من الخير رياء ولا يتركه حياء، إن زكي

ص:154

خاف ما يقولون ويستغفر الله لما لا يعلمون، لا يغره قول من جهله ويخاف إحصاء ما عمله.

* الشرح:

قوله (أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار عن ابن فضال، عن منصور بن يونس عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال المؤمن) هذا الحديث مع تغيير يسير في المتن مروي في باب الحلم عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة قال المؤمن -... إلى آخره - ولعل المقول كلام المعصوم وهو علي بن الحسين (عليهما السلام) لا كلام أبي حمزة وقد ذكرنا شرحه ثمة فلا نعيده.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض من رواه، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن له قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وحرص في فقه ونشاط في هدى وبر في استقامة وعلم في حلم وكيس في رفق وسخاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وعفو في قدرة وطاعة لله في نصيحة وانتهاء في شهوة وورع في رغبة وحرص في جهاد وصلاة في شغل وصبر في شدة، وفي الهزاهز وقور وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور، ولا يغتاب ولا يتكبر، ولا يقطع الرحم وليس بواهن، ولا فظ ولا غليظ، ولا يسبقه بصره، ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه، ولا يحسد الناس، يعير ولا يعير، ولا يسرف، ينصر المظلوم ويرحم المسكين، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، لا يرغب في عز الدنيا ولا يجزع من ذلها، للناس هم قد أقبلوا عليه وله هم قد شغله، لا يرى في حكمه نقص ولا في رأيه وهن ولا في دينه ضياع، يرشد من استشاره، ويساعد من ساعده، ويكيع عن الخنى والجهل.

* الشرح:

قوله (المؤمن له قوة في دين) أي له قوة نظرية وعملية فيه فيعلمه ويعمل به ويقاوم فيه الوسواس ولا يدخل فيه خداع الناس.

(وحزم في لين) أي له ضبط وتيقظ في أموره الدينية والدنيوية ممزوجا بلين الطبع وعدم الفظاظة والخشونة مع معامليه وهو فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق. وقد يكون عن تواضع.

وقد يكون عن مهانة وضعف نفس، والأول هو المطلوب وهو المقارن للحزم في الأمور ومصالح النفس، والثاني رذيلة لا يمكن معه الحزم لانفعال المهين عن كل حادث، وبيان الظرفية على ما استفدنا من كلام بعض الأفاضل ثلاثة أوجه: الأول أن الظرفية مجازية بتشبيه ملابسة الحزم للين طبع في الاجتماع معه بملابسة المظروف للظرف. فيكون لفظة «في» استعارة تبعية.

ص:155

الثاني أن تعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من الحزم واللين ومصاحبة أحدهما الآخر بالهيئة المنتزعة من المظروف والظرف، ومصاحبتهما فيكون الكلام استعارة تمثيلية لكنه لم يصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المشبه به إلا بكلمة «في» فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما أعده تبع له يلاحظ معه في ضمن ألفاظ منوية فلا يكون لفظة في استعارة بل هي على معناها الحقيقي. الثالث أن تشبه اللين بما يكون محلا وظرفا للشيء على طريقة الاستعارة بالكناية. ويكون كلمة «في» قرينة وتخييلا.

(وإيمان في يقين) الإيمان وهو التصديق قابل للشدة والضعف فتارة يكون عن تقليد وتارة يكون عن دليل مع العلم بأنه لا يكون معه غيره وهو علم اليقين، والسالكون لا يقفون عند هذه المرتبة بل يطلبون عين اليقين بالمشاهدة بعد طرح حجب الدنيا والإعراض عنها، واليقين في كلامه (عليه السلام) يمكن حمله على أحد هذين المعنيين.

(وحرص في فقه) الحرص في أمور الدين مطلوب وأعظمها الفقه والعلم، فميل القلب إليه وطلب زيادته من صفة أهل الايمان وكمال حقيقة الإنسان، ولذلك قال الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) (قل رب زدني علما) (ونشاط في هدى) أي نشاط وسرور في سلوك سبيل الله وهو ينشأ من قوة الاعتقاد فيما وعد الله لمن سلك سبيله والتصديق بشرف غايته وهي الفلاح في الآخرة.

(وبر في استقامة) أي خير وطاعة في استقامة بأن لا يتركه أو لا يمزجه بشر ومعصية. (وعلم في حلم) فلا يجهل شيئا من أمور الدين ولا يطيش على أحد من الناس (وكيس في رفق) الكيس الفطنة والظرافة والغلبة والرفق خلاف العنف والخرق.

(وسخاء في حق) وهو صرف المال في وجوه البر على قدر يجوز شرعا (وقصد في غنى) وهو الاعتدال في طلب الدنيا وطلب فضولها.

(وتجمل في فاقة) بترك الشكاية إلى الخلق والطلب منهم وإظهار الغنى عنهم وينشأ من القناعة والرضا بالقضاء وعلو الهمة ويعين عليه ملاحظة قرب الأجل وما أعد للصابرين (وعفو في قدرة) العفو مع القدرة ممدوح وأما بدونها فلا يمدح بل لا يتحقق.

(وطاعة لله في نصيحة) لله ولرسوله وللمؤمنين وقد مر معنى النصيحة لهم (وانتهاء في شهوة) إلى أمر مشروع لاعتداله في القوة الشهوية (وورع في رغبة) أي ورع عن المحارم مع الرغبة فيها وميل النفس إليها، أو مع الرغبة عنها وعدم الميل إليها، وكلاهما من صفات المؤمن إلا أن الأول أشق والثاني أكمل لقمع الشهوة وكسر النفس الأمارة حتى زالت عنها الإرادة والميل (وحرص في جهاد) مع الكفار أو مع النفس الأمارة أو الأعم منهما ومن الاجتهاد في الخيرات

ص:156

كلها لأن كلها من صفات أهل الإيمان.

(وصلاة في شغل) الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ، والجمع أشغال وشغول، والقيام إلى الصلاة في أوقاتها مع وجود الأشغال من أعظم صفات المؤمن، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله).

(وصبر في شدة) من الفاقة والمصيبة وغيرهما مما يثقل على النفس ويشق عليها، ومنشؤه العفة وتصور الأجر المعد للصابرين (وفي الهزاهز وقور) عطف على قوله «له قوة في دين» أي المؤمن في الهزاهز وقور رزين لا يحركه الفتن ولا تضطربه، والهزاهز تحريك البلايا والحروب الناس وهزهزه ذلله وحركه، ويطلق على الفتن التي يهتز فيها الناس وتضطرب بها القلوب، والوقور مبالغة في الوقار وهو ملكة تحت الشجاعة.

(وفي المكاره صبور) لثبات نفسه وعلو همته عن الجزع وهذا كالتأكيد لما مر أو تعميم بعد تخصيص ان أريد بالشدة الفقر والفاقة (وفي الرخاء شكور) لمحبة المنعم فيزداد شكره في الرخاء وإن قل (لا يغتاب ولا يتكبر ولا يقطع الرحم) لكونه مشفقا على ذوي الأرحام والأقربين (وليس بواهن ولا فظ ولا غليظ) لقيام قوته الغضبية على حد الاعتدال بحكم العقل فخرجت عن حد التفريط الموجب للوهن، وعن حد الافراط الموجب لفظ القلب وغلظته على الغير بالتعدي والضرب والشتم وأمثالها، والفظ: الغليظ الجانب السيئ الخلق القاسي الخشن الكلام. فظ يفظ - من باب علم - فظاظة إذا غلظ حتى يهاب غيره في غير موضعه، والغليظ خلاف الرقيق وفعله من باب كرم.

(ولا يسبقه بصره ولا يفضحه بطنه ولا يغلبه فرجه ولا يحسد الناس) النفس الناطقة إذا غلبت على القوة الشهوية وأعطتها حظها وزجرتها عن غيره انقادت لها جميع الجوارح ولا تتجاوز عن القدر اللائق بها شرعا وعقلا فتمنع البصر والبطن والفرج والنفس الأمارة عما حرم الله على كل واحد منها.

(لا يرغب في عز الدنيا) لأن مبدأ الرغبة فيه محبة الدنيا وهو بمعزل عنها.

(للناس هم قد اقبلوا عليه وله هم قد شغله) هم الناس شغل الدنيا وهمه أمر الآخرة والنجاة من أهوالها والتوصل بما يوجب قرب الحق من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. والغرض الفرق

ص:157

بينه وبين أهل الدنيا إذ أهل الدنيا لا يرون لهم كمالا إلا هذه اللذات الحاضرة والمقتنيات الظاهرة (ويكيع عن الخنى والجهل) الخنى: الفحش والمراد بالجهل نفسه، أو آثاره والكيع والكيعوعة الجبن تقول كعت عنه أكيع وأكاع كيعا وكيعوعة إذا هبته وجبنت عنه.

5 - عنه، عن بعض أصحابنا، رفعه، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بمجلس من قريش، فإذا هو بقوم بيض ثيابهم، صافية ألوانهم، كثير ضحكهم يشيرون بأصابعهم إلى من يمر، ثم مر بمجلس للأوس والخزرج فإذا قوم بليت منهم الأبدان ودقت منهم الرقاب واصفرت منهم الألوان وقد تواضعوا بالكلام، فتعجب علي (عليه السلام) من ذلك ودخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال بأبي أنت وأمي إني مررت بمجلس لآل فلان ثم وصفهم ومررت بمجلس للأوس والخزرج فوصفهم، ثم قال: وجميع مؤمنون فأخبرني يا رسول الله بصفة المؤمن؟ فنكس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم رفع رأسه فقال: عشرون خصلة في المؤمن فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه، إن من أخلاق المؤمنين يا علي الحاضرون الصلاة والمسارعون إلى الزكاة والمطعمون المسكين، الماسحون رأس اليتيم، المطهرون أطمارهم، المتزرون على أوساطهم، الذين إن حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا تكلموا صدقوا، رهبان بالليل، أسد بالنهار، صائمون النهار، قائمون الليل، لا يؤذون جارا ولا يتأذى بهم جار، الذين مشيهم على الأرض هون وخطاهم إلى بيوت الأرامل وعلى أثر الجنائز، جعلنا الله وإياكم من المتقين.

* الشرح:

قوله (فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه) دل على أن الايمان نفس التصديق وأن الخصال والأعمال توجب كماله. (الحاضرون الصلاة) لعل المراد حضور صلاة الجماعة مع احتمال أن يراد محافظة أوقات الصلاة مطلقا.

(المطهرون أطمارهم) الأطمار جمع الطمر بالكسر وهو الثوب الخلق والكساء البالي، والمراد بتطهيرها تطهيرها بالماء من الدنس والنجاسة، أو تقصيرها كما في بعض الروايات لأن تطويلها كثيرا مذموم يدل عند العرب على التكبر والخيلاء.

(وإذا تكلموا صدقوا) كأنه تأكيد لقوله «إن حدثوا لم يكذبوا» مع احتمال أن يراد بالتحديث نقل الأحاديث والأخبار، وبالتكلم غيره (رهبان بالليل أسد بالنهار) الأسد بالضم والسكون جمع أسد بالتحريك، والرهبان جمع الراهب من الرهبة وهي الخوف وهو من ترك الدنيا وملاذها وزهد فيها واعتزل عن أهلها واشتغل بالعبادة لاستيلاء الخوف على سره.

ص:158

(لا يؤذون جارا ولا يتأذى بهم جار) لعل المراد بالأول عدم إيذائهم بلا واسطة، وبالثاني عدم إيذائهم بواسطة بأن لا يتسببوا للإيذاء، أو المراد بالأول عدم الإيذاء مطلقا، وبالثاني عدم توقع الجار ايذاءهم لكونهم معروفين بالخير والصلاح فيأمن الجار من إيذائهم.

(وخطاهم إلى بيوت الأرامل) لقصد إيصال النفع إليها والتفقد لأحوالها ليعرف حاجاتها فيتداركها بقدر الإمكان (جعلنا الله وإياكم من المتقين) ضم الكلام بالدعاء لنفسه وللسامعين - أن يجعلهم الله من المتقين الذين يسلكون سبيله الموصول إلى منازل الأبرار، وهي درجات الجنة ومقاماتها - للتنبيه على أن الامتثال بأعمال الخير والاجتناب عن أعمال الشر لا يمكن إلا بتوفيق الله وهو الموفق والمعين.

6 - علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن القاسم بن عروة، عن أبي العباس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.

* الشرح:

قوله (من سرته حسنة وساءته سيئة فهو مؤمن) هذا خبر لفظا وأمر معنى بالاتصاف بهاتين الخصلتين وكذا الخبران الآتيان وأمثالهما.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن الحسن بن [ز] علان، عن أبي إسحاق الخراساني، عن عمرو بن جميع العبدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شيعتنا الشاحبون، الذابلون، الناحلون، الذين إذا جنهم الليل استقبلوه بحزن.

* الشرح:

قوله (شيعتنا الشاحبون الذابلون الناحلون) تعريف الخبر باللام للحصر. والشاحب: المتغير اللون من هزال أو جوع، وفعله من باب منع ونصر وكرم، والذابل: من قل ماء بشرته ونداوته وذهبت نضارته من ذبل النبات كنصر وكرم ذبلا وذبولا: ذوي أي يبس من الحر، والناحل: المهزول من نحل جسمه كمنع وعلم ونصر وكرم نحولا: ذاب من مرض أو سفر ونحوهما (الذين إذا جنهم الليل) أي سترهم، (استقبلوه بحزن) في تفكر أمر الآخرة وأهوالها، واستقبال الليل كناية عن قطعه بالعبادة امتثالا لقوله تعالى (ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) وإنما خص الليل بالذكر لأنها محل للخلوة مع الله والفراغ من الناس والمغفرة والخلوص في العبادة كما قيل إذا كثرت الذنوب منك فداوها برفع يد في الليل المظلم.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن رجل، عن

ص:159

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الإيمان وأهل الفتح والظفر.

* الشرح:

قوله (شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير وأهل الايمان وأهل الفتح والظفر) أي أهل لفتح أبواب البر والإسرار، وأهل للظفر بالمقصود، ففي الأول إشارة إلى كمالهم في القوة النظرية، وفي الثاني إشارة إلى كمالهم في القوة العملية حتى بلغوا إلى غايتهما وهو فتح أبواب الأسرار والفوز بقرب الحق. وفيه حث لهم على تحصيل هذه الخصال أعني الهداية إذ سلوك سبيل الحق لا يمكن بدونها ثم التقوى أي الاجتناب عن المنهيات، ثم الخير وهو القيام على الطاعات، ثم الايمان الكامل الذي يتوقف عليهما فلذلك أخره عنهما، ثم الفتح والظفر بالمعنى المذكور. وإنما أخرهما لتوقفهما على الأمور المذكورة، ويمكن أن يكون الفتح والظفر إشارة إلى المجاهدات النفسانية وغلبة جنود العقل على الجنود الشيطانية فإنه إذا تقابل الجندان فثبات العقل ومحارباته مع العدو هو الاجتهاد وغلبته عليه هو الفتح والظفر.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بزرج، عن مفضل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك والسفلة، فإنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر.

* الشرح:

قوله (وإياك والسفلة فإنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه واشتد جهادته وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر) أي شيعتي، ففيه التفات على قول من جوزه ابتداء، والمراد بالسفلة التابعون للقوة الشهوية والغضبية، التاركون لما يقتضيه القوة العقلية وهو الصفات المذكورة، وإنما سموا سلفة لاستقرارهم كسائر الحيوانات في السافل وعدم ارتقائهم إلى الدرجة الانسانية. وعفة البطن والفرج عما لا يجوز تناوله إشارة إلى كسر القوة الشهوية وضبطها عن التجاوز إلى حد الإفراط فإنها تدعو إلى الشرور والمفاسد التي لا تحصى، واشتداد الجهاد إشارة إلى السعي في طلب زيادة العلم والمبالغة في تنزيه الظاهر والباطن عن الأعمال والأخلاق القبيحة. والعمل الخالص للخالق موقوف عليهما. فلذلك ذكره بعدهما. ثم الخوف والرجاء إنما يعتبران بعد العمل لأنهما بدونه من أثر الحماقة كما مر، ولذا أخرهما والخوف بعد العمل منشؤه جواز التقصير فيه وإمكان عدم قبوله.

ص:160

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن شيعة علي كانوا خمص البطون، ذبل الشفاه، أهل رأفة وعلم وحلم، يعرفون بالرهبانية، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد.

* الشرح:

قوله (إن شيعة علي (عليه السلام) كانوا خمص البطون وذبل الشفاه) شيعة الرجل بالكسر: أتباعه وأنصاره، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا (عليه السلام) وأهل بيته حتى صار اسما لهم خاصا. والخمص بالفتح والسكون «لا غر وگرسنه شدن». يقال خمص البطن مثلثة الميم خمصا إذا خلا وجاع، والخمص والخامص والخميص «مرد لاغر وگرسنه»، والذبل كذلك «خشك شدن لب وبدن ومانند آن» والذبل والذابل مرد خشك لب وبدن، وهما هنا إما مصدران والحمل للمبالغة، أو صفتان، والإفراد لإسنادهما إلى الظاهر، وأما قراءة خمص بضمتين جمع خميص كرغف جمع رغيف وقراءة ذبل بالضم وفتح الباء المشددة جمع ذابل كطلب جمع طالب فبعيدة. والشفاه جمع شفة بالفتح وقد يكسر وشفتا الإنسان طبقتا فمه، وذلك منهم لما علموا من أن في البطنة زوال الفطنة وفوات الرقة وحدوث القسوة والكسل عن العمل وصرف العمر في تحصيل الزائد ويمكن أن يكون كناية عن كثرة صيامهم.

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن صفوان الجمال، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر مما له.

* الشرح:

قوله (إنما المؤمن الذي إذا غضب لم يخرجه غضبه من حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل) أي إذا غضب على أحد لم يتجاوز عما يجوز له من حقه وإذا رضي عن أحد لم يدخله رضاه في باطل بالحماية عنه، أو إعطائه ما لا يستحقه أو منع الغير عما يستحقه عليه كما يفعله قضاة السوء وحكام الجور، والمؤمن لا يأثم بشيء من ذلك مع قيام الداعي وهو الغضب والرضا بل يكون على فضيلة العدل في الكل على سواء.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا سليمان أتدري من المسلم؟ قلت: جعلت فداك أنت أعلم، قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ثم قال: وتدري من

ص:161

المؤمن؟ قال: قلت: أنت أعلم، قال: [إن] المؤمن من ائتمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم والمسلم حرام على المسلم أن يظلمه أو يخذله أو يدفعه دفعة تعنته.

* الشرح:

قوله (قال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي من شره وانما خص اليد واللسان بالذكر لأنهما أظهر الجوارح في الكسب وليس المقصود حصر المسلم على الموصوف بالصفة المذكورة ونفي الاسلام عن غيره لأن المعنى على الفضل والكمال لا على الحصر (المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أموالهم وأنفسهم) لأنه عرف بالأمانة والديانة والصلاح وكمال الايمان بالتجربة واشتهر بها حتى صار أمينا عندهم في أموالهم وأنفسهم.

(أو يدفعه دفعة تعنته) كأن المراد يدفعه عن خير ويرده إلى شر يوجب عنته وهو الفساد والإثم والمشقة والشدة والعناء والهلاك والوهي والانكسار والخطاء، وعنت إذا وقع في هذه الأمور، وأعنته غيره تعنيتا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه. وفي كنز اللغة: الدفع: بازداشتن ودور كردن وچيزى را فرا كسى دادن ودافع باز دارنده وبدر آرنده. وفي المصباح: الدفع: التنحية، والدفعة بالفتح: المرة، وبالضم: اسم لما يدفع بمرة.

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما المؤمن الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق.

14 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي البختري رفعه قال:

سمعته يقول: المؤمنون هينون لينون كالجمل الآلف إذا قيد انقاد، وإن انيخ على صخرة استناخ.

* الشرح:

قوله (المؤمنون هينون لينون كالجمل الآلف إذا قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ) هان الشيء هونا بالفتح من باب قال وهو هين بالتخفيف والتثقيل على فيعل وعينه واو وجمعه هينون كذلك، والهون: السهل والسكينة والوقار، وفي الفائق قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالتخفيف وتذم بالتشديد، وقيل: هما واحد. أقول كأنه أراد أن المخفف من الهون بالفتح والمثقل من الهون بالضم. يقال هان الشيء يهون هونا بالضم وهوانا أي ذل وحقر، وفي التنزيل (أيمسكه على هون).

ص:162

ولأن الشيء يلين لينا بالفتح وتلين فهو لين والجمع لينون بالتخفيف والتشديد فيهما وهما بمعنى واحد، أو المخفف للمدح، والمثقل للذم كما مر، والمقصود بيان حسن أخلاقهم وأنهم سهل الانقياد لحكم الله تعالى فيما أمر ونهى قد سمحوا بأنفسهم له فيما قدر وقضى وتلقوا بقبول ما أجرى عليهم وتنزهوا عن مخالفة ما أراد منهم، جمل آلف أي أليف ذلول غير وحشي صعب أن قيد انقاد لصاحبه من غير إباء للقيد، وإن أنيخ وأبرك على صخرة استناخ وبرك، والمنقول من طريق العامة وكتب اللغة مثل الصحاح والنهاية كالجمل الآنف بالنون من أنف البعير وهو آنف أي اشتكى أنفه من البرة وهي حلقة من صفر تجعل في لحم أنف البعير فصار لذلك الوجع الذي به ذلولا منقادا.

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاثة من علامات المؤمن: العلم بالله ومن يحب ومن يكره.

* الشرح:

قوله (من علامات المؤمن العلم بالله ومن يحب ومن يكره) أي من علاماته معرفة الله تعالى ومعرفة من يحبه ومن يكرهه فإن من عرف الله تعالى آمن به ومن عرف من يحبه مثل النبي والأئمة (عليهم السلام) واتباعهم تابعه، ومن عرف من يكرهه الله تعالى اعتزل عنه، وهذه المعارف أصل لجميع الخيرات وأعظم علامات المؤمن.

16 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المؤمن كمثل شجرة لا يتحات ورقها في شتاء ولا صيف، قالوا: يا رسول الله وما هي؟ قال: النخلة.

* الشرح:

قوله (وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المؤمن كمثل شجرة لا يتحات ورقها في شتاء ولا صيف. قالوا: يا رسول الله وما هي؟ قال النخلة) نظير ذلك ورد من طرق العامة ففي مسلم عن عبد الله ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله وقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال فقال: هي النخلة» وإنما شبه المؤمن بالنخلة لكثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجوده على الدوام فإنه من حين يطلع لا يزال يوكل حتى ييبس وبعد أن يبس، وفيها منافع كثيرة جذوعها خشب في البناءات والآلات وجرائدها حطب وعصى ومحابر وحصر، وليفها حبال وحطب، وحشوها للوسايد وغير ذلك من وجوه نفعها

ص:163

وجمال نباتها وحسن هيآتها كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعته وكرم أخلاقه. هذا الصحيح في وجه التشبيه، وقيل:

وجه التشبيه أنه إذا قطع رأسها ماتت بخلاف غيرها من الشجر، وقيل: إنها لا تحمل حتى تلقح ولذلك سماها في الحديث عمة فقال «أكرموا عماتكم النخل» وقيل: لأن أحوالها من حين تطلع إلى تمام ثمرها سبعة كأحوال المؤمن من التوبة إلى قرب الحق سبعة: التوبة ثم الاجتهاد ثم الخوف ثم الرجاء ثم الإرادة ثم المحبة ثم الرضا، وثمر النخل طلع ثم أغريص ثم بلح ثم بسر ثم زهو ثم تمر ثم رطب.

17 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن اورمة، عن [أبي] إبراهيم الأعجمي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن حليم لا يجهل، وإن جهل عليه يحلم، ولا يظلم وإن ظلم غفر، ولا ينجل وإن نجل عليه صبر.

* الشرح:

قوله (ولا ينجل وإن نجل عليه صبر) النجل بالنون والجيم الطعن والشق، ونجل الناس بثارهم وتناجلوا: تنازعوا، يعني: إن طعنه أحد وسفه عليه صبر ولم يقابله بمثله.

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن منذر بن جيفر، عن آدم أبي الحسين اللؤلوئي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته، وصحت سريرته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه.

* الشرح:

قوله (المؤمن من طاب مكسبه) ذكر فيه من خصال المؤمن سبعة أوصاف:

الأول: طيب كسبه أو محل كسبه وهو يشمل طيب مكسبه للدنيا والآخرة بأن يطلب المعيشة من طريق يجوز شرعا وعقلا ولا يطلب زائدا على الكفاف ولا يفنى عمره فيما لا يحتاج إليه ويجعل أعماله موافقة للقوانين الشرعية ويصونها عن العلائق البشرية والشواغل القلبية خالصا لله.

الثاني: حسن الخليقة والطبيعة بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مثل الحقد والحسد والغضب وغيرها.

الثالث: صحة السريرة أي القلب باتصافه بصحة العقائد وتيقظه في جميع الحالات ومراقبته في جميع الحركات والسكنات، والرابع: إنفاق الفضل من المال وهو ينشأ من تصور فضل الإنفاق والتصديق بأن إمساك الفضل

ص:164

لا ينفعه وإنفاقه لا يضره.

الخامس: إمساك الفضل من الكلام وهو ما لا ينفع في الآخرة سواء يضره أم لا، فيشمل المباح وأكثر كلام الناس في المجالس من هذا القبيل.

السادس: كفاية الناس من شره ولا يتم ذلك إلا بالعدالة التابعة للاعتدال في القوة العقلية والشهوية والغضبية.

السابع: إنصاف الناس من نفسه بأن يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ولا يتصف بالإنصاف إلا من لمعت في قلبه الأسرار الإلهية، وانغلقت عنه أبواب الوساوس الشيطانية فإنه حينئذ لا يرجح نفسه على غيره إذا كان الحق مع ذلك الغير بل هو حاكم له على نفسه.

19 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن أبي كهمس، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا انبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، ألا انبئكم بالمسلم؟ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السيئات وترك ما حرم الله، والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة.

* الشرح:

قوله (والمهاجر من هجر السيئات) أي المهاجر الذي مدحه الله تعالى هو هذا يعنى أنه الفرد الكامل منه وإلا فالمهاجر يطلق أيضا على من هاجر من مكة إلى المدينة قبل الفتح وعلى من هاجر من البدو إلى المدينة وعلى من هاجر من بلاد كفر عند خوف الجور والفساد وعدم التمكن من إظهار شعائر الاسلام كما قيل في قوله تعالى (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون).

20 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر، عن أبي أيوب العطار، عن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما شيعة علي الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم.

* الشرح:

قوله (إنما شيعة علي (عليه السلام) العلماء الحلماء الذبل الشفاه تعرف الرهبانية على وجوههم) العلماء إشارة إلى كمال قوتهم النظرية بالعلم النظري وهو معرفة الصانع وصفاته ودينه وغير ذلك، والحلماء إشارة إلى كمالهم في القوة الغضبية لأن الحلم ملكة تحت الشجاعة الحاصلة من اعتدال

ص:165

تلك القوة، والذبل الشفاه وما بعده إشارة إلى كمالهم في القوة العملية، والراهب من انقطع للعبادة ومصدره الرهبة والرهبانية.

21 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن معروف بن خربوذ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: صلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالناس الصبح بالعراق، فلما انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله، ثم قال: أما والله لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا خمصا، بين أعينهم كركب المعزى، يبيتون لربهم سجدا وقياما يراوحون بين أقدامهم وجباهم، يناجون ربهم ويسألونه فكاك رقابهم من النار والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون.

* الشرح:

قوله (لقد عهدت أقواما على عهد خليلي) العهد «ديدن وياد داشتن» ومنهم سلمان وأبو ذر وعمار وابن التيهان - بتشديد الياء وسكونها - وذو الشهادتين وهؤلاء الثلاثة قتلوا في صفين وغيرهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية في صفين فقاتلوا حتى قتلوا.

(شعثا غبرا خمصا بين أعينهم كركب المعزى) كأن الأخير جمع الخميص وهو الجائع والأولين مؤنث الأشعث والأغبر كحمراء وأحمر، والتأنيث بتأويل الجماعة، والأشعث: المنتشر أمره والمتغير لونه والمتلبد شعره لقلة تعهده بالدهن والمتسخ ثوبه من غير استحداد ولا تنظف، والأغبر: المتلطخ بالغبار، والركب: جمع الركبة كالغرف جمع الغرفة، والمغر: اسم جنس لا واحد له من لفظه وهي ذوات شعر من الغنم، الواحدة: شاة وتفتح العين وتسكن والمعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث، ولهذا تنون في النكرة، والذكر ماعز، والأنثى ماعزة، والمقصود من هذا التشبيه هو وصفهم بكثرة السجود لأنه يحصل بها في الجبهة صلابة وخشونة لكثرة وضعها على الأرض (يراوحون بين أقدامهم وجباههم) أي إذا تعبت أقدامهم بطول القيام يراوحون بينها وبين الجباه فيضعون الجباه على التراب تواضعا لله وتذللا له.

(والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون) أي وهم خائفون من رد أعمالهم، مشفقون من عذاب النار وخوفهم من ذلك يعود إلى الخوف مما يحكم به الأوهام من حسن العبادة وكمالها ووقوعها على الوجه المطلوب الموصل إلى الله تعالى قطعا مع انقياد النفس الأمارة بالسوء لها، وهذا الوهم والانقياد مبدءان للتعجب بالعبادة والتقاصر عن الازدياد، والخوف من ذلك باعث على العمل والسعي فيه وفي تجويده، وكاسر للعجب ومبدئه. والعجب من المهلكات.

ص:166

22 - عنه، عن السندي بن محمد، عن محمد بن الصلت، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: صلى أمير المؤمنين (عليه السلام) الفجر ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح وأقبل على الناس بوجهه، فقال: والله لقد أدركت أقواما يبيتون لربهم سجدا وقياما يخالفون بين جباههم وركبهم، كأن زفير النار في آذانهم إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر، كأنما القوم باتوا غافلين، قال: ثم قام فما رئي ضاحكا حتى قبض صلوات الله عليه.

* الشرح:

قوله (حتى صارت الشمس على قدر رمح) في بعض النسخ على قيد رمح. القيد: القدر.

(يخالفون بين جباههم وركبهم) أي يضعون جباههم على التراب خلف وضع ركبهم عليه يأتون بأحدهما عقب الآخر.

(كأن زفير النار في آذانهم) أشار به إلى سبب تمرنهم بالطاعات وإحياء الليالي بالعبادات وهو كون علمهم بأحوال الجنة والنار في مرتبة عين اليقين.

(وإذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر) أي مالوا وتحركوا واضطربوا، وفيه تلميح إلى قوله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).

(كأنما القوم باتوا غافلين) اللام للعهد والمراد أنهم مادوا واضطربوا عند ذكره تعالى خشية منه كأنهم باتوا غافلين عنه تاركين لعبادته لعدم اعتدادهم بها نظرا إلى كمال عظمته تعالى، والغرض من هذا الحديث هو الحث على الاقتداء به.

(فما رئي ضاحكا حتى قبض صلوات الله عليه) لاستيلاء الخوف على قلبه الطاهر والخوف الشديد يوجب الحزن الدائم.

23 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أردت أن تعرف أصحابي فانظر إلى من اشتد ورعه وخاف خالقه ورجا ثوابه وإذا رأيت هؤلاء فهؤلاء أصحابي.

* الشرح:

قوله (إذا أردت أن تعرف أصحابي فانظر إلى من اشتد ورعه وخاف خالقه ورجا ثوابه) أشار به إلى أن أصحابه من أقر به وتبعه في العمل واتصف بالخوف والرجاء المستلزمين للزهد في الدنيا والإقبال إلى الآخرة وقد دلت عليه روايات أخر وكأن المراد بهم الخلص من الشيعة وهم الذين دلت الروايات على أنهم لا يدخلون النار.

ص:167

24 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن الحسن بن شمون عن عبد الله بن عمرو بن الأشعث، عن عبد الله بن حماد الأنصاري، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابون في مودتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إن غضبوا لم يظلموا وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوا.

* الشرح:

قوله (شيعتنا المتباذلون في ولايتنا) ذكر (عليه السلام) للشيعة سبع خصال: الأولى: التباذل أي بذل بعضهم فضل ماله ولفظة «في» إما للسببية أو لأحد المعاني الثلاثة المذكورة قبيل ذلك. الثانية:

التحابب أي حب بعضهم بعضا ولا يتحقق ذلك إلا بتحقيق آثاره. الثالثة: التزاور أي زيارة بعضهم بعضا لقصد إحياء أمر الأئمة (عليهم السلام) وذكر شرفهم وفضلهم. الرابعة: رفض الظلم عند سورة الغضب وهو مسبب عن كمال الاعتدال في القوة الغضبية. الخامسة: عدم الإسراف أي عدم التجاوز عن القصد ورفض الميل إلى الباطل وترك التعصب والحمية عند الرضا عن أحد وهو من توابع العدل.

السادسة: كونهم بركة على الجار لإيصال النفع إليه ودفع الضر عنه، السابعة: كونهم سلما لمن خالطوه وهو بكسر السين وفتحها الصلح ويذكر ويؤنث.

25 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان، عن عيسى النهريري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرف الله وعظمه منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام وعفى نفسه بالصيام والقيام، قالوا: بآبائنا وامهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله؟ قال: إن أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة، لولا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقر أرواحه في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب.

* الشرح:

قوله (عن عيسى البهريري) هكذا بالباء الموحدة قبل الياء الأولى في بعض النسخ، وفي بعضها النهري، وفي بعضها الجريري وهو الموافق لما ذكره الشيخ في الأربعين وقال في حاشيته: الجريري بضم الجيم منسوب إلى جرير بن عباد بالضم والتخفيف، وفي كتاب الرجال: عيسى بن أعين الجريري الأسدي مولى كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(من عرف الله وعظمته) في بعض النسخ وعظمه من التعظيم عطفا على عرف والمراد بمعرفته

ص:168

معرفة صفاته الجلالية والجمالية بقدر طاقة الإنسان، وأما معرفة حقيقة ذاته وصفاته فمما لا سبيل إليه لمن اتصف بصفة الإمكان.

(منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام) فإن حفظ اللسان عن الفضول باب النجاة، وحفظ البطن من الطعام مفتاح الخيرات لأن الفضول من الكلام يسود لوح النفس ويفسد العمل والإكثار من الطعام يوجب زوال الرقة وحدوث القسوة والكسل.

(وعفى نفسه بالصيام والقيام) أي جعلها صافية خالصة أو جعلها مندرسة ضعيفة ذليلة لأن الصيام والقيام بوظائف الطاعات يكسران شهوة النفس، وفي بعض النسخ عنا نفسه بالعين المهملة والنون المشددة أي أتعب، والعناء بالفتح والمد: التعب.

(قالوا بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله) أي نفديك بآبائنا وأمهاتنا فالباء للتفدية بحذف الفعل وهي في الحقيقة باء العوض نحو خذ هذا بهذا، وقولهم هؤلاء أولياء الله استفهام.

ويحتمل أن يكون خبرا قصد به لازم الحكم وهو علمهم بذلك.

(قال: إن أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا) لاشتغال قلوبهم الطاهرة بذكر الله تعالى وذكر علمه وقدرته وحكمته بملاحظة آثاره الغريبة وأفعاله العجيبة وحمل الذكر على السكوت للمبالغة في السببية والاشعار بكونه لازما غير منفك وكذا في القرائن الآتية وهذا إما رد لقولهم: هؤلاء أولياء الله، يعني أولياء الله صنف آخر صفاتهم فوق الصفات الثلاثة المذكورة أو تصديق له، ووصف للأولياء بصفات أخرى زيادة على الصفات المذكورة، وأمر التأكيد على الأول ظاهر لكون المخاطب مترددا أو حاكما بخلافه، وأما على الثاني مع أن المخاطب قائل بالحكم مصدق له فلصدوره عنه (صلى الله عليه وآله) عن كمال الرغبة ووفور النشاط لأنه في وصف أولياء الله بأعظم الصفات فكان مظنة التأكيد، كما ذكره الشيخ في الأربعين وصاحب الكشاف عند قوله تعالى (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون).

(ونظروا فكان نظرهم عبرة) نظروا إلى الأشياء كلها وعبروا من أخسها إلى أحسنها، مثلا نظروا إلى الدنيا والآخرة فرأوا بعين البصيرة أن الدنيا دار الغرور، والآخرة دار القرار فطلبوا الآخرة واشتغلوا بإصلاحها وتركوا الدنيا بأسرها ونظروا إلى أحوال الصالحين وأحوال الفاسقين، وعرفوا التفاوت بينهما فطلبوا الأسوة بالصالحين.

(ونطقوا فكان نطقهم حكمة) وهي ما ينفع في الآخرة من العلوم والمعارف والعقائد الصحيحة والأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، وهداية الخلق إليها وحثهم عليها، وذلك لكمال اعتدالهم

ص:169

في القوة العقلية.

(ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة) لأن قصدهم رفع الحوائج عن الناس وطلب المنافع لهم ودفع المضار عنهم مع أن وجودهم سبب لسعة أرزاقهم ورفع البلاء عنهم.

(لولا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب) أراد أن غلبة الشوق إلى ثواب الله والخوف من عقابه على نفوسهم القدسية إلى غاية أن أرواحهم لا تستقر في أجسادهم من ذلك، لولا الآجال التي قد كتبت عليهم، وهذا الخوف والشوق يستلزمان دوام الجد في العمل والإعراض عن الدنيا، ومبدؤهما تصور عظمة الخالق وبحسب قوة ذلك التصور يكون قوة الخوف والرجاء وهما بابان عظيمان للجنة. وينبغي أن يعلم أن جوهر البسيط الانساني إذا صفا عن الكدورات الجسمانية وخلا عن اللذات الطبيعية اتصل بعالم القدس وشاهد بنور البصيرة جمال الحق واستغرق في تجلياته وقطع عنه علائق الكثرة. وهذه المرتبة هي مرتبة حق اليقين وليست عند صاحب هذه المرتبة زيادة فرق بين تعلق جوهره ببدنه وتجرده عنه لأن استعمال القوى البدنية لا يمنعه من النظر إلى الكمال الحقيقي إلا أن ذلك النظر بعد تجرده التام ومفارقته بالكلية عن ذلك التعلق أصفى وأتم إذ هو ما دام التعلق لا يخلو من خوف فوات تلك المرتبة بمقتضيات التعلق والشهود التام، والأمن من الخوف إنما يحصلان بعد التجرد التام وزوال التعلق بالكلية فلذلك صاحبها يترقب رفع هذا الحجاب وكشف هذا النقاب خوفا من العذاب، وأشده فوات هذه المرتبة وشوقا إلى الثواب وأعظمه شهود جمال الحق.

26 - عنه، عن بعض أصحابه من العراقيين، رفعه قال: خطب الناس الحسن بن علي صلوات الله عليهما فقال: أيها الناس أنا اخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني وكان رأس ما عظم به في عيني، صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي مالا يجد ولا يكثر إذا وجد، كان خارجا من سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهي ولا يتسخط ولا يتبرم، كان أكثر دهره صماتا، فإذا قال بذ القائلين كان لا يدخل في مراء، ولا يشارك في دعوى، ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، وكان لا يغفل عن إخوانه، ولا يخص نفسه بشيء دونهم، كان ضعيفا مستضعفا فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا، كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا، كان يفعل ما يقول ويفعل مالا يقول، كان إذا ابتزه أمران لا يدري أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعا إلا عند من يرجو عنده البرء. ولا يستشير إلا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشكى ولا يتشهي ولا ينتقم ولا يغفل عن العدو فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأخذ القليل خير من ترك الكثير

ص:170

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* الشرح:

قوله (أنا أخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني) أريد بالأخ أبو ذر الغفاري على احتمال، وبالأعظم: الأعظم قدرا ومنزلة.

(وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه) الرأس: الأصل، والصغر وزان قفل: الذل والهوان، وهو خبر كان، وفاعل عظم ضمير الأخ، وضمير «به» عائد إلى الموصول، والباء للسببية (كان خارجا من سلطان بطنه) أي لم يكن لبطنه سلطنة وغلبة حيث أمات قوته الشهوية. وذكر لهذا علامتين فقال:

(فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد) أي فلا يشتهي ما لا يجد من نعم الدنيا ولا يشتاق إليها ولا يكثر إذا وجد شيئا منها وذلك لأنه ترك الدنيا لهوانها، والدرجة العليا والغاية القصوى من ترك الدنيا قطع المألوفات وترك المستحسنات وعدم صرف الهمة إلى تحصيل ما لم يجد من المشتهيات وإكثار ما وجد من الزهرات.

(كان خارجا من سلطان فرجه) أي لم يكن فرجه عليه سلطنة أصلا أو فيما لا يجوز استعماله فيه. وذكر لهذا أيضا علامتين فقال:

(فلا يستخف له عقله ولا رأيه) استخفه خلاف استثقله، ومعناه طلب منه الخفة يعني فلا يطلب لأجل فرجه وقضاء شهوته الخفة من عقله ورأيه أو تدبيره في إطاعتهما له. والحاصل أنه لا يجعل عقله ورأيه خفيفين سريعين مطيعين له في قضاء حوائج الفرج بل عقله رزين ورأيه متين لا يحركهما عواصف اللذات، وإرجاع الضمير في له إلى الأخ، ورفع عقله وما عطف عليه بعيد (وكان خارجا من سلطان الجهالة) لكونه كاملا في القوة العقلية فلا سلطنة للجهل عليه وذكر لهذا علامة فقال:

(فلا يمد يده إلا على ثقة لمنفعة) لأن العاقل العالم الكامل لا يتناول شيئا إلا على ثقة ويقين بكونه منفعة لكونه عارفا بحقائق الأشياء ومباديها ومآلها ومنافعها ومضارها بخلاف الجاهل فإن أكثر ما يتناوله مضر في الدنيا والآخرة.

(وكان لا يتشهى ولا يتسخط ولا يتبرم) أي كان لا يحب الدنيا ولا يرغب فيها ولا يتسخط بنصيبه منها وإن قل، أو لا يستقله من تسخط عطاءه إذا استقله أو لا يغضب لأجلها ولا يضجر ولا يغتم بفواتها (كان أكثر دهره صماتا) أي كثير السكوت إلا عن الخير، والمراد بالدهر هنا مدة العمر (فإذا

ص:171

قال بذ القائلين) أي فإذا تكلم بالحق غلب على القائلين وسبقهم لكمال عقله وكثرة علمه وصيرورة المعارف ملكة في جوهر نفسه.

(كان لا يدخل في مراء ولا يشارك في دعوى ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا) في المصباح:

ماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته، ويقال ماريته أيضا إذا طعنت في قوله تزييفا للقول وتصغيرا للقائل. ولا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا، وأدلى بحجته:

احتج بها وأثبتها فوصل بها إلى دعواه. يعنى كان لا يتعرض للمجادل وتزييف قوله ولا يتصدى للمدعي وإبطال دعواه ولا يتمسك بحجته في إثبات مدعاه حتى يرى قاضيا بالحق قاطعا للنزاع، وهذا من كمال النفس ورزانة العقل، والتكلم في هذه الأمور قبل وجدان الحاكم العادل المميز بين الحق والباطل من آداب السفهاء وسنن الجهلاء.

(وكان لا يغفل عن إخوانه ولا يخص نفسه بشيء دونهم) هذا من كمال شفقته ورقة قلبه ولينة طبعه حيث أنه لا يغفل عن تفقد أحوال إخوانه المؤمنين في جميع الحالات ولا يخص نفسه دونهم بشيء من الخيرات بل يريد لهم ما يريد لنفسه. ويكره لهم ما يكره لنفسه. ووجه تخصيص كان هنا بالعطف خفي فليتأمل.

(كان ضعيفا مستضعفا) منشأ الأول كثرة الصيام والقيام بالصلاة وسائر العبادات والسهر وخشونة المطعم والملبس وهجر الملاذ والشهوات الدنيوية، حتى صار ضعيفا في بدنه. ومنشأ الثاني تواضعه للمؤمنين وعدم مجادلته وتغلبه عليهم حتى استضعفوه وعدوه ضعيفا وإن كان قويا في نفس الأمر كما أشار إليه بقوله:

(فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا) الجد: الاجتهاد في الأمر والمراد به هنا المحاربة والمجاهدة، والسبع العادي الظالم الذي يفترس الناس. يعني إن كان وقت المجاهدة مع أعداء الدين فهو بمنزلة الأسد في الهيبة والقوة والصولة وهذا مقتبس من قوله تعالى في وصف أمير المؤمنين والأئمة من أولاده الطاهرين (عليهم السلام) (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وقرئ «غاديا» بالغين المعجمة أيضا وانما وصف الأسد به لأن الأسد إذا غدى كان جايعا فصولته أشد (كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا) أي كان من عادته الحسنة أن لا يسرع بملامة أحد إذا قصر في حقه لإمكان أن يكون له عذر، وليس المقصود اللوم بعد الاعتذار نظيره قولك: لا أطلب رزقي حتى يأتيني، لأنك لم تقصد الطلب بعد إتيانه.

(كان يفعل ما يقول ويفعل ما لا يقول) أي كان يفعل كل ما يقول ويأمر به غيره ويفعل ما لا يقوله

ص:172

، وفيه مبالغة لكمال عنايته بالتقرب إلى الله تعالى، وتلميح إلى تشبثه بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون).

(كان إذا ابتزه أمر ان لا يدري أيها أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه) البز والابتزاز: القهر والغلبة وأخذ الشيء بجفاء وقهر، وإنما خالف ما تهواه النفس وتميل إليه وهو الأخف الأسهل لطلب الأثقل الأشق عليها.

(كان لا يشكو وجعا إلا عند من يرجو عنده البرء) وهو الله تعالى أو غيره أيضا، وذلك لقوة صبره وإحاطة علمه بأن الشكاية عند غيره شكاية من الله تعالى، وهذا ليس من دأب العارفين، وأما عند من يرجو البرء عنده فليس بشكاية بل طلب لعلاجه وهو ممدوح عقلا وشرعا. هذا حال الشكاية عن الوجع حال وجوده. وأما الشكاية عنه بعد الصحة فقيل تجوز لأنها نوع من الشكر. هذا يتم إذا قال مثلا كان بي وجع كذا فمن الله على بالصحة. أما لو قال مثلا كان بي وجع هو لم يكن بأحد فالظاهر أنه شكاية من الله.

(ولا يستشير إلا من يرجو عنده النصيحة) لأنه بنور بصيرته وكمال فطنته يعرف أحوال الناس ويميز بين الناصح والغاش فلا يستشير في أمر من أموره إلا من يعلم أو يظن أنه ينصحه ويرشده إلى مصالحه.

(كان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشكى) أي من الوجع فلا تكرار، والتشكي «شكوه وگله كردن» (ولا يتشهى ولا ينتقم) تشهى «آرزو كردن». انتقام «كينه كشيدن از كسى»، وفيه إشارة إلى اعتداله في القوة الشهوية والغضبية وجعله إياهما تحت حكم العقل.

(ولا يغفل عن العدو) الداخل والخارج أما الداخل فكإفراط القوتين المذكورتين والأخلاق الذميمية وأهواء النفس الأمارة بالسوء، وأما الخارج فكالشياطين من الجن والإنس وأفعال الجوارح الخارجة عن القوانين الشرعية، وفيه إشارة إلى كماله في القوة العقلية.

27 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن مهزم، وبعض أصحابنا، عن محمد بن علي، عن محمد بن إسحاق الكاهلي، وأبو علي الأشعري، عن الحسين بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن ربيع بن محمد، جميعا، عن مهزم الأسدي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا مهزم شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه يديه ولا يمتدح بنا معلنا ولا يجالس لنا عائبا ولا يخاصم لنا قاليا، إن لقي مؤمنا أكرمه وإن لقي جاهلا هجره. قلت: جعلت فداك فكيف أصنع بهؤلاء المتشيعة؟ قال: فيهم التمييز وفيهم التبديل، وفيهم التمحيص، تأتي عليهم سنون تفنيهم

ص:173

وطاعون يقتلهم واختلاف يبددهم. شيعتنا من لا يهر هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب ولا يسأل عدونا وإن مات جوعا.

قلت: جعلت فداك فأين أطلب هؤلاء؟ قال: في أطراف الأرض، أولئك الخفيض عيشهم، المنتقلة ديارهم، إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، ومن الموت لا يجزعون، وفي القبور يتزاورون، وإن لجأ إليهم ذو حاجة منهم رحموه، لن تختلف قلوبهم وإن اختلف بهم الديار، ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا المدينة وعلي الباب، كذب من زعم أنه يدخل المدينة لا من قبل الباب وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض عليا صلوات الله عليه.

* الشرح:

قوله (شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه) لخفاء صوته الدال على لين طبعه، فإن الصوت الشديد دال على غلظته ولذلك يكون مذموما كما قال عز وجل (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وفي بعض النسخ «من لا يعلو».

(ولا شحناؤه يديه) الشحناء العداوة والبغضاء يعني أنهما تحت يده وقدرته يدفعهما باللطف والرفق (ولا يمتدح بنا معلنا) امتداح «ستودن» من المدح وهو ثناء أحد بما فيه من الصفات الجميلة خلقية كانت أو اختيارية، والظاهر أن الباء في «بنا» للتعدية، ولعل وجه ذلك أن إعلان مدحهم مضر لهم وللمادح.

(ولا يجالس لنا عائبا) لئلا يماثله ولا يشاركه في الإثم والعقوبة وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنه ونهى عن مجالسته بقوله (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وقوله (قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم اذا مثلهم) والآيات الأئمة (عليهم السلام) (ولا يخاصم لنا قاليا) أي مبغضا معاندا لأن مخاصمته لا تثمر إلا الضرر وزيادة العداوة والبغض (إن لقي مؤمنا أكرمه) لإيمانه، بأنحاء من الإكرام والإعظام.

(وإن لقي جاهلا هجره) لجهله وهوانه وللتحرز من أثر جهله، ويندرج في الجاهل العاصي والعالم الذي لا يعمل بعلمه بل الهجر عنه أولى لأن له قوة رأي يغلب بها على صاحبه بالحيل والتزوير (قلت جعلت فداك فكيف أصنع بهؤلاء المتشيعة) أي الذين يدعون التشيع وليس لهم معناه وعلاماته.

(قال فيهم التمييز وفيهم التبديل وفيهم التمحيص تأتى عليهم سنون تفنيهم وطاعون يقتلهم

ص:174

واختلاف يبددهم) ذكر (عليه السلام) أمورا توجب خروجهم من الفرقة الناجية أو هلاكهم بالأعمال والأخلاق الشنيعة في الدنيا والآخرة، أحدها التمييز بين الثابت الراسخ وغيره يقال مزته ميزا من باب باع بمعنى عزلته وفصلته من غيره، والثقيل مبالغة وذلك يكون في المشتبهات نحو (ليميز الله الخبيث من الطيب) وفي المختلطات نحو (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) وتميز الشيء انفصاله من غيره، وثانيها: التبديل أي تبديل حالهم بحال أحسن أو تبديلهم بقوم آخرين لا يكونوا أمثالهم والله يعلم، وثالثها: التمحيص وهو الابتلاء والاختبار والتخليص، تقول: محصت الذهب بالنار إذا خلصته مما يشوبه، وبذلك التميز والاختبار يخرج خلق كثير، كما يدل عليه ما روي عن ابن أبي يعفور قال «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب، قلت: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال نفر يسير، قلت: والله إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير، قال:

لابد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا ويستخرج في الغربال خلق كثير» (1)، ورابعها: السنون وهي الجدب والقحط قال الله تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) والواحد السنة وهي محذوفة اللام، وفيها لغتان أحدهما جعل اللام هاء والأصل سنهة وتجمع على سنهات مثل سجدة وسجدات وتصغر على سنيهة، وأرض سنهاء: أصابتها السنهة أي الجدب، والثانية جعلها واوا والأصل سنوة وتجمع على سنوات مثل شهوة وشهوات وتصغر على سنية. وأرض سنواء: أصابتها السنوة وتجمع في اللغتين كجمع المذكر السالم أيضا فيقال: سنون وسنين وتحذف النون للإضافة، وفي لغة تثبت الياء في الأحوال كلها وتجعل النون حرف إعراب تنون في التنكير ولا تحذف مع الإضافة كأنها من أصول الكلمة، وعلى هذه اللغة قوله (صلى الله عليه وآله): اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف. وخامسها: الطاعون وهو الموت من الوباء والجمع الطواعين وطعن الإنسان بالبناء للمفعول أصابه الطاعون فهو مطعون. وسادسها: اختلاف يبددهم أي اختلاف بينهم بالتدابر والتقاطع والتنازع أو غيرها يبددهم ويفرقهم تفريقا شديدا تقول بددت الشيء بدا من باب قتل إذا فرقته، والتثقيل مبالغة وتكثير.

(شيعتنا من لا يهر هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب) الهرير صوت الكلب وهو دون النباح وهو مصدر هر يهر من باب ضرب وبه يشبه نظر الكماة بعضهم إلى بعض، ومنه ليلة الهرير وهي وقعة كانت بين علي (عليه السلام) ومعاوية بظاهر الكوفة، وفيه إشارة إلى أن الشيعة من كسر قوته الشهوية والغضبية فإن إفراط القوة الغضبية في رجل يجعله شبيها بالكلاب وإفراط القوة الشهوية يجعله شبيها بالغراب.

ص:175


1- 1 - تقدم في المجلد السادس ص 320.

(ولا يسأل عدونا وإن مات جوعا) كأنه من باب المبالغة أو مع إمكان سؤال غير العدو، وإلا فالظاهر أن السؤال مطلقا عند ظن الموت من الجوع واجب، ثم المراد بالسؤال السؤال بلا عوض، وأما معه كالاقتراض فالظاهر أنه جائز.

(قلت جعلت فداك فأين أطلب هؤلاء) لقلة وجود من اتصف بالصفات المذكورة.

(قال في أطراف الأرض) لأنهم يستوحشون من الناس لما رأوا منهم ما يوجب تنفر القلوب عنهم (أولئك الخفيض عيشهم) العيش «زندگانى» والخفض: الراحة، ووجه كون عيشهم خفيضا أنهم تركوا الدنيا ولم يحملوا على أنفسهم ثقل ملاذها ونزهوا قلوبهم عن لوث همومها وغمومها (المنتقلة ديارهم) لأنهم سايحون في الأرض وليس لهم مسكن معين لأن طلب الفيض المستعد لقبوله لابد له من رفع الموانع وأعظمها صحبة الناس، الذين طبايعهم معوجة وقلوبهم منكوسة، وعقولهم ضعيفة، وشهواتهم قوية، ورفع هذا المانع لا يمكن إلا بالفرار من ديارهم، ورفض الميل إلى أطوارهم.

(إن شهدوا لم يعرفوا) لعدم شهرتهم وخمول ذكرهم بين الناس.

(وإن غابوا لم يفتقدوا) أي لم يطلبوا لاستنكاف الناس من صحبتهم وعدم اعتنائهم بشأنهم وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «إن الله يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الشعثة رؤوسهم، المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا».

(ومن الموت لا يجزعون) لأن أولياء الله يحبون الموت ويتمنونه لرفع الحجاب والتخلص من ألم الفراق فكيف يجزعون منه.

(وفي القبور يتزاورون) أي يزور بعضهم بعضا في البرزخ إلى يوم يبعثون وهم أحياء مرزوقون، أو يزور أحياؤهم أمواتهم في المقابر، والأموات لا يؤذون الزائر ولا يغتابون الغائب ويعظون الحاضر بلسان الحال بل بلسان المقال.

(وإن لجأ إليهم ذو حاجة منهم رحموه) لنزاهة نفوسهم وطهارة قلوبهم ورفق صدورهم وإحاطة علمهم بأن قضاء حوائج المضطر الملتجئ من صفات الكرام، ورده مع الاقتدار من سمات اللئام (لن تختلف قلوبهم وإن اختلفت بهم الديار) أي قلوبهم متوافقة غير مختلفة وإن كانت ديارهم مختلفة متباعدة لأن مقصدهم واحد وطريقتهم واحدة بخلاف غيرهم فإن قلوبهم مختلفة لأنهم تابعون للنفس الأمارة بالسوء وأهوائها وطرقها مختلفة أو قلب كل واحد غير مختلف ولا متغير من حال إلى حال وإن اختلفت دياره ومنازله، لأنسه بالله وعدم تعلقه بغيره فلا يستوحش بالوحدة

ص:176

والغربة واختلاف الديار، لأن مقصوده وأنيسه واحد حاضر معه في الديار كلها بخلاف غيره لأن قلبه لما كان متعلقا بغيره تعالى يأنس به إذا وجده ويستوحش إذا فقده. هذا من باب الاحتمال والله يعلم.

28 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكملت مروءته وظهر عدله ووجبت اخوته.

* الشرح:

قوله (من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم... إلى آخره) دخل في المعاملة البيع والشراء والخلطة وغيرها، وفي الحديث نقل الروايات وغيرها وفي الوعد وعد الإعطاء وغيره، وحرمة غيبته أعظم وأفحش، والظاهر أن المفهوم وهو جواز غيبة غيره غير مراد، وزجره بالنهي عن المنكر أمر آخر غير الغيبة، والمروة آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، يقال مرأ الإنسان فهو مريء مثل قرب فهو قريب أي ذو مروة، قال الجوهري وقد تشدد فيقال: مروة. والعدل ملكة تحصل بتعديل القوى كلها وإقامتها على قانون الشرع والعقل وتوجب صدور الأفعال الجميلة بسهولة فصدور تلك الأفعال دائما دليل على وجوده وظهوره، والمراد بوجوب الأخوة وجوب رعاية حقوقها التي مر بعضها.

29 - عنه، عن ابن فضال، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله بن الحسن، عن امه فاطمة بنت الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث خصال من كن فيه استكمل خصال الإيمان: إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له.

* الشرح:

قوله (ثلاث خصال من كن فيه استكمل (1) خصال الايمان) لأن هذه الثلاث أمهات يتولد منها

ص:177


1- 1 - قوله «ثلاث خصال من كن فيه استكمل» يشير إلى ما ذكره علماء الأخلاق عند ضبط الفضائل والرذائل قالوا: أصل الفضيلة الاعتدال، وأصل الرذيلة الخروج منه إلى الافراط أو التفريط، وذلك إما بالنسبة إلى القوة الشهوية التي آتاها الله تعالى الحيوان لجذب ما ينفعه أو إلى القوة الغضبية التي آتاها الله إياه لدفع ما يضره وإما بالنسبة إلى قوة تميز خيره من شره. والاعتدال في الأولى هو العفة وفي الثانية الشجاعة وفي الثالثة الحكمة. والرذيلة في القوة الشهوية الخمود والرهبانية والتقشف وأمثالها أو الإفراط في الأكل والوقاع واقتناء الملاهي والتجمل فوق ما ينبغي وأمثال ذلك. وفي القوة الغضبية عدم الغيرة والجبن والخوف والتذلل أو الإفراط في إظهار العداوة والضرب والشتم والحسد والغيبة والتهور والاستشاطة بأقل شيء لا ينبغي أن يستشاط به، والرذيلة في التميز: السفاهة والبلاهة والخلابة وحسن الظن بمن لا ينبغي أن يحسن الظن به ثم الإفراط في الحيلة والمكر والجربزة لسوء الظن بالناس أكثر مما ينبغي والتحذر مما لا يجوز التحذر عنه، وبالجملة فكل الرذائل يرجع إلى الإفراط أو التفريط في إحدى هذه القوى الثلاث ويشير (عليه السلام) إلى الاعتدال في الشهوة بقوله: إذا رضى لم يدخله رضاه في باطل. وإلى الاعتدال في الغضب بقوله: وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق. وإلى الاعتدال في التميز بقوله: وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له. فإن قيل: هذا لا يدل على كون السفاهة والبلاهة رذيلة بل على الجربزة فقط إذ بها يتعاطى ما لا يستحقه وأما البلاهة فتقتضى ترك ما يستحقه، قلنا: لعل البلاهة نقص لا يكلف بالتحذر عنه لعدم القدرة. إذا عرفت ذلك فيمكنك أن تنظر في جميع ما سبق ويأتي من روايات هذا الباب وهي تسعة وثلاثون حديثا فتعرف أن مرجع جميع ما ذكر فيهما من الفضائل والرذائل إلى ما في هذا الحديث، فابتدأ بحديث همام وأوله على ما في الكافي «المؤمن هو الكيس الفطن» فثبت منه أن البلاهة رذيلة. قوله «بشره في وجهه وحزنه في قلبه» إشارة إلى تملكه قوته الغضبية فإن العبوس غاضب على من لا يستحق وأكثر فقره راجعة إلى القوة الغضبية، والحكمة في تحصيل المعرفة والعمل بها. وأول هذا الحديث في نهج البلاغة في وصف المتقين «هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع». فقوله «منطقهم الصواب» إشارة إلى التوسط بين البلاهة والجربزة، وملبسهم الاقتصاد ناظر إلى التوسط في القوة الشهوية، ومشيهم التواضع إلى التوسط في القوة الغضبية وهكذا ساير فقرات الخطبة ينطبق على الاعتدال في إحدى القوى. ومما يناسب التنبه له هاهنا أن حديث همام في الكافي ونهج البلاغة مختلفان جدا في أكثر عباراتهما بل لا يتفقان إلا في جمل قليلة، بل ورد في الأمالي بألفاظ يخالفهما أيضا، والاعتماد على المعنى وكون مضامين جميعها موافقة لما نعلم ثبوته في الدين الحنيف من محاسن الأخلاق ومساويها، ولا حاجة في أمثال هذه الأمور إلى الأسناد البتة. ومما يناسب التنبيه عليه أن الاعتدال في كل شيء حسن، والإفراط والتفريط مزلة حتى في الاعتماد على الروايات والأسانيد، وممن افرط في الاعتماد من يزعم أن جميع ألفاظ الأحاديث بخصوصياتها صادرة عن المعصوم علما أو ظنا اطمينانيا فيحتجون بكل شيء حتى بكلمة إنما وإلا والتقديم والتأخير والمعرف باللام وغيره. وممن فرط في الإنكار من زعم أن جميع الأحاديث أو أكثرها مصنوعة مختلقة لا يعتمد عليها ولا حجة فيها، والاعتدال ان يعتقد حفظ أكثر المضامين والمعاني وعدم إمكان نقل عين الألفاظ، والشاهد في ذلك حديث همام وأمثاله حسبما أشرنا إليه فإن ألفاظها وعباراتها لا يتفق في الروايات ولو كانت عين الألفاظ محفوظة لم تختلف ونقل الرواة كلام المعصوم نظير نقل التلاميذ مذهب أساتيذهم ونقل المستمعين ما سمعوه من خطبائهم ونقل كل رسالة من أحد إلى غيره شفاها في الأمور الدنيوية والحوائج المعاشية والتعدي عن ذلك إفراط أو تفريط اللهم إلا في جوامع الكلم وقصارها التي تقتضي حسن تركيب ألفاظها أن تثبت في أذهان الناقلين مثل «الرضاع لحمة كلحمة النسب. ولا ضرر ولا ضرار» وقد تنتخب الرواة من أمثال هذه الالفاظ الواقعة في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبهم نحو عشرها أو أقل في أسطر قليلة لا يمكن أن تكون الخطبة مقصورة عليها لقصرها. (ش).

ص:178

خصال الايمان كلها إذ هي إذا تحققت تحقق العدل والعدل ملزوم لجميع الخصال.

30 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن لأهل الدين علامات يعرفون بها: صدق الحديث وأداء الأمانة ووفاء بالعهد وصلة الأرحام ورحمة الضعفاء وقلة المراقبة للنساء - أو قال، قلة المواتاة للنساء - وبذل المعروف وحسن الخلق وسعة الخلق واتباع العلم وما يقرب إلى الله عز وجل زلفى، طوبى لهم وحسن مآب، وطوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وليس من مؤمن إلا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلا أتاه به ذلك ولو أن راكبا مجدا سار في ظلها مائة عام ما خرج منه، ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما، ألا ففي هذا فارغبوا، إن المؤمن من نفسه في شغل والناس منه في راحة، إذا جن عليه الليل افترش وجهه وسجد لله عز وجل بمكارم بدنه يناجي الذي خلقه في فكاك رقبته، ألا [ف] - هكذا فكونوا.

* الشرح:

قوله (وقلة المراقبة - للنساء أو قال قلة المواتاة للنساء -) مراقبة «چيزى را چشم داشتن» ولعل المراد بها النظر إلى النساء الأجنبيات وأدبارهن، ويمكن أن يراد محافظة آرائهن من رقبته أرقبه من باب قتل إذا حفظته، والمواتاة: «موافقت كردن با كسى در كارى» تقول: واتيته على كذا مواتاة إذا وفقته وطاوعته، وأصل واتيته آتيته، وأهل اليمن يبدلون الهمزة واوا واشتهرت لغتهم على ألسنة الناس، ولعل المراد الحث على مخالفة آرائهن كما روي «شاوروهن وخالفوهن» (وبذل المعروف) أي الخير وهو الإحسان بالفضل من المال إلى الغير.

(وحسن الخلق وسعة الخلق واتباع العلم) لعل المراد بحسن الخلق حسن الهيئة وهو كون كل عضو على حد يليق به فإن ذلك دليل على استقامة المزاج ولين الطبع وصحة الأفعال غالبا إلا أنه ليس من صنع العبد وأنه يوجد في غير أهل الدين كما قال عز وجل في وصف المنافقين (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) ويمكن أن يراد به حسن الأعضاء الظاهرة بالأعمال الفاضلة فإنه من علامات أهل الدين. وبسعة الخلق تحققه بالنسبة إلى الناس كلهم من غير فرق بين القريب والبعيد والشريف والوضيع أو صفحه عن الزلات كلها صغارها وكبارها وباتباع العلم: تعلمه أو العمل به أو الأعم.

(ولو أن راكبا مجدا سار في ظلها مائة عام ما خرج منه) كان هذه الشجرة هي التي في رواية مسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن في الجنة شجرة يسير راكب الجواد المضمر السريع

ص:179

في ظلها مائة عام» وفي أخرى: «يسير الراكب في ظلها مائة سنة» قال عياض ظلها كنفها وهو ما يستره أغصانها وقد يكون ظلها نعيمها وراحتها من قولهم عيش ظليل، واحتيج إلى تأويل الظل بما ذكر هربا عن الظل في العرف لأنه ما بقي حر الشمس في الجنة ولا برد وإنما نور يتلألأ. انتهى.

وقال المازري: المضمر بفتح الضاد وشد الميم ورواه بعضهم بكسر الميم الثانية: صفة للراكب المضمر فرسه.

31 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو النخعي قال:

وحدثني الحسين بن سيف، عن أخيه علي، عن سليمان، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله) عن خيار العباد فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا وإذا اعطوا شكروا وإذا ابتلوا صبروا وإذا غضبوا غفروا.

32 - وبإسناده، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن خياركم اولو النهى، قيل: يا رسول الله ومن اولو النهى، قال: هم اولو الأخلاق الحسنة والأحلام الرزينة وصلة الأرحام والبررة بالامهات والآباء والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ويطعمون الطعام ويفشون السلام في العالم ويصلون والناس نيام غافلون.

* الشرح:

قوله (ويصلون والناس نيام غافلون) نام ينام - من باب علم - نوما ومناما فهو نائم والجمع نائمون ونوم ونيام أيضا، والنوم: غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، ولهذا قيل: هو أخو الموت، ويقال أيضا: نام عن حاجته إذا لم يهتم بها. وقوله «غافلون» خير بعد خبر للدلالة على التعميم أو تفسير للنيام وتنبيه على أن المراد بالنوم الغفلة للمشاركة في التسبب لعدم الإدراك كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

33 - عنه، عن الهيثم النهدي، عن عبد العزيز بن عمر، عن بعض أصحابه، عن يحيى بن عمران الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي الخصال بالمرء أجمل؟ فقال: وقار بلا مهابة وسماح بلا طلب مكافاة وتشاغل بغير متاع الدنيا.

* الشرح:

قوله (وقار بلا مهابة) الوقار: الرزانة والعظمة، والمهابة «بزرگى كردن وخشم آورى داشتن وترسيدن» وهي صفة تحصل بفساد القوة الغضبية، وتجاوزها عن حدها. وأما المهابة من الأولياء فهي من قبله تعالى لا للفساد في تلك القوة.

ص:180

(وسماح بلا طلب مكافاة) أي مكافاة عوض أو ثناء وشكر، والسماحة على هذا الوجه هي السخاوة والجود حقيقة وهي في البشر قليلة (وتشاغل بغير متاع الدنيا) أي تشاغل بالله وبما يقرب منه لا بمتاع الدنيا وزهراتها.

34 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد الحناط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إن المعرفة بكمال دين المسلم تركه الكلام فيما لا يعنيه وقلة مرائه، وحلمه وصبره وحسن خلقه.

35 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن عرفة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا اخبركم بأشبهكم بي؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: أحسنكم خلقا وألينكم كنفا، وأبركم بقرابته، وأشدكم حبا لإخوانه في دينه، وأصبركم على الحق، وأكظمكم للغيظ، وأحسنكم عفوا، وأشدكم من نفسه إنصافا في الرضا والغضب.

* الشرح:

قوله (وألينكم كنفا) الكنف الجانب. ولين الجانب سبب لميل الخلق إليه كما قال عز وجل (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).

36 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار، والتوسع على قدر التوسع، وإنصاف الناس، وابتداؤه إياهم بالسلام عليهم.

* الشرح:

قوله (من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار والتوسع على قدر التوسع) كما نطقت به الآية الكريمة فالمؤمن لا يمنع أهله من الإنفاق ما يقدر عليه ولا يرتكب منه ما لا يقدر عليه (وابتداؤه إياهم بالسلام عليهم) لما فيه من التواضع والتعظيم وجلب المودة والمحبة والأجر العظيم.

37 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شيء.

* الشرح:

قوله (المؤمن أصلب من الجبل الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شيء أي الجبل ينقص ويؤخذ منه بعضه بالفأس والمعول ونحوهما، والمؤمن لا ينقص شيء من دينه بمعول

ص:181

الشبهات نظيره ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) «المؤمن كالجبل لا تحركه العواصف» أي هو كالجبل لا تحركه ريح الهوى ولا شهوة المنى.

38 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحر مرتين.

* الشرح:

قوله (المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة) المعونة «يارى دادن». والمؤونة «رنج وسختى كشيدن وگران بار بودن»، وذلك لأنه رفيق زاهد فبرفقه بخلق الله حسنت معونته، وبزهده في الدنيا خفت مؤونته.

(جيد التدبير لمعيشته) المعيشة مكسب الإنسان الذي يعيش به وذلك باختياره طريقا مشروعا غير مذموم عقلا وشرعا وعرفا مقتصرا على قدر الكفاف.

(لا يلسع من جحر مرتين) اللسع «گزيدن مار وكژدم». والجحر بتقديم الجيم المضمومة على الحاء المهملة: الساكنة ثقبة الحية أو اليربوع أو الضب وهو استعارة هاهنا أي لا يخدع المؤمن من جهة واحدة مرتين فإنه بالأولى يعتبر.

ومثله رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال الخطابي يروي بضم العين وسكونها فالضم على وجه الخبر ومعناه أن المؤمن هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد مرة وهو لا يفطن لذلك ولا يشعر به، والمراد به الخداع في أمر الدين لا أمر الدنيا، وأما الكسر فعلى وجه النهي أي لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر به، وليكن فطنا حذرا وهذا التأويل يصلح أن يكون لأمر الدين والدنيا معا، وذكر عياض هذين الوجهين ورجح الخبر بأن سبب قوله (صلى الله عليه وآله) هذا أن أبا قرة الشاعر أخا مصعب بن عمير كان أسر يوم بدر فسأل النبي (صلى الله عليه وآله) أن يمن عليه ففعل وعاهده أن لا يحرض عليه ولا يهجوه فلما لحق بأهله عاد إلى ما كان عليه ثم أنه أسر يوم أحد فسأله أيضا أن يمن عليه فقال (صلى الله عليه وآله) هذا الكلام البليغ الجامع الذي لم يسبق إليه وفيه تنبيه عظيم على أنه إذا رأى الأذى من جهة لا يعود إليها ثانية.

وقال الآبي: رجح الخطابي النهي بعد ذكر الوجهين وكأنه لم يبلغه - أي الخطابي - سبب قوله (صلى الله عليه وآله) هذا الكلام ولو بلغه لم يحمله على النهى، وأجاب الطيبي بأنه وإن بلغه السبب فلا يبعد النهي بل هو أولى من الخبر وذلك أنه لما دعته نفسه (صلى الله عليه وآله) الزكية الكريمة إلى الحلم والصلح جرد من نفسه

ص:182

مؤمنا حازما فطنا ونهاه أن ينخدع لهذا المتمرد الخائن وكان مقام الغضب لله تعالى فأبى إلا الانتقام من أعداء الله لأن الانتقام منهم مطلوب والتجريد أحد ألقاب البديع ومحسناته، وبيان أنه أولى أنه إذا حمل على الخبر تفوت دلالة الحديث على طلبه الانتقام.

39 - علي بن محمد بن بندار، عن إبراهيم بن إسحاق، عن سهل بن الحارث، عن الدلهاث مولى الرضا (عليه السلام) قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من وليه، فأما السنة من ربه فكتمان سره، قال الله عز وجل: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) وأما السنة من نبيه فمداراة الناس فإن الله عز وجل أمر نبيه (صلى الله عليه وآله) بمدارة الناس فقال: (خذ العفو وأمر بالعرف) وأما السنة من وليه فالصبر في البأساء والضراء.

* الشرح:

قوله (وأمر بالعرف) العرف الجود وكل ما يبذله ويعطيه (فالصبر في البأساء والضراء) كالفقر والفاقة والمرض والصعوبة والقحط وأمثالها وهما متقاربان وقبل البأساء ما يتعلق بالمال كالفقر والتلف وغيرهما، والضراء ما يتعلق بالبدن كالمرض والعمى ونحوهما.

ص:183

باب في قلة المؤمن

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن قتيبة الأعشى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المؤمنة أعز من المؤمن ولا مؤمن أعز من الكبريت الأحمر، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر.

* الشرح:

قوله (المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر) أي المؤمنة أقل وجودا من المؤمن لأن المرأة الصالحة الكاملة في غاية الندرة لضعف عقولهن وشدة ميلهن إلى الدنيا وزينتها وكمال بعدهن عن أحكام الله تعالى، والمراد بالمؤمن المؤمن الكامل وهو الذي تشبث بالمنجيات وتحرز عن المهلكات بتهذيب الظاهر والباطن عن الرذائل وتحليتها بالفضائل وشاهد جمال الأسرار بعين اليقين بكشف الحجاب ورفع النقاب فاطمأن لها قلبه واستراح بها روحه، ولا ريب في أن مثله نادر (فمن رأى منكم الكبريت الأحمر) فيه مبالغة في قلة وجوده لا في نفيه مع احتماله والكبريت فعليت معروف (1).

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن مثنى الحناط، عن كامل التمار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الناس كلهم بهائم - ثلاثا - إلا قليل من المؤمنين والمؤمن غريب - ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله (الناس كلهم بهائم) في عدم العقل وإدراك الحق لأن المطاعم الحاضرة والمنافع الدائرة واللذات الظاهرة أعمت بصائر قلوبهم عن إدراك الإيمان ونيل العرفان ومشاهدة الإيقان، وأبعدتهم من الكمالات النفسانية والحقيقة الانسانية والمقامات الروحانية فصاروا يأكلون ويشربون وينكحون غاية همهم بطونهم ونهاية قصدهم فروجهم وهم عن مآل أحوالهم غافلون وعن قبح أعمالهم جاهلون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون.

ص:184


1- 1 - قوله (والكبريت معروف) ولكن الكبريت الأحمر غير معروف ويقال إنه جوهر ومعدنه خلف بلاد التبت، والقدر المسلم أنه كان شيئا نادر الوجود سواء كان من جنس الجواهر الكريمة أو نوعا من الذهب أو من اليواقيت الحمراء، ولا حاجة إلى تحقيق ذلك. (ش).

* الشرح:

قوله (المؤمن عزيز) في بعض النسخ غريب. الغريب من سكن في منزل غيره وبعد عن الأهل والاقران والمؤمن كذلك لأنه بعد عن أهل الايمان وسكن في منزل أهل الكفر والعصيان.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي بصير: أما والله لو أني أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثا.

* الشرح:

قوله (أما والله لو أني أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثا) دل على أن المؤمن الكامل الذي يستحق أن يكون صاحب السر قليل وأن التقية وإخفاء السر صدرا منه (عليه السلام) وأنهما كانا من أكثر من يدعي الايمان كما كانا من أهل الكفر والطغيان وأخبار شكايتهم (عليهم السلام) وإخفاء علومهم وأسرارهم عن المتشيعين أكثر من أن تحصى.

4 - محمد بن الحسن، وعلي بن محمد بن بندار، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد الأنصاري، عن سدير الصيرفي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: والله ما يسعك القعود، فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي. فقال: يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قلت: مائة ألف، قال: مائة ألف؟ قلت: نعم ومائتي ألف، قال: مائتي ألف؟ قلت: نعم ونصف الدنيا، قال: فسكت عني ثم قال يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع.

قلت: نعم فأمر بحمار وبغل أن يسرجا، فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير أترى أن تؤثرني بالحمار؟ قلت: البغل أزين وأنبل، قال: الحمار أرفق بي، فنزلت فركب الحمار وركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة، فقال: يا سدير أنزل بنا نصلي، ثم قال: هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال: والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.

* الشرح:

قوله (يخف عليك أن يبلغ معنا إلى ينبع) ينبع بفتح الياء وسكون النون وضم الباء الموحدة:

قرية بها حصن على سبع مراحل من المدينة من جهة البحر بين مكة والمدينة (قلت البغل أزين وأنبل)

ص:185

أي أكبر وأفضل فهو لذوي الشرف أجدر وأجمل وإنما فعل ذلك تواضعا له (عليه السلام) ورعاية للأدب واختار (عليه السلام) الحمار تواضعا وهضما لنفسه مع سهولة الركوب والنزول (فقال يا سدير انزل بنا نصلي. ثم قال هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها) الأمر بالنزول أولا ثم الإعراض عنه للتنبيه على أنه لا يجوز الصلاة في السبخة وهو محمول على الكراهة.

(ونظر إلى غلام يرعى جداء) قال بعض أهل اللغة: الجدى الذكر من أولاد المعز، والأنثى:

عناق وقيده بعضهم بكونه في السنة الأولى والجمع أجد وجداء مثل دلو وأدل ودلاء والجدي بالكسر لغة ردية (فقال والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود) يظهر منه أن الصاحب (عليه السلام) مع كثرة المنتسبين إليه من الشيعة لا يكون له شيعة في الواقع بهذا العدد وإلا لما وسعه القعود لعدم الفرق بينه وبينه (عليهما السلام).

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروإن عن سماعة بن مهران قال: قال لي عبد صالح صلوات الله عليه: يا سمعة أمنوا على فرشهم وأخافوني أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لأضافه الله عز وجل إليه حيث يقول: (إن إبراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) فغبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة أما والله إن المؤمن لقليل وإن أهل الكفر لكثير أتدري لم ذاك؟ فقلت: لا أدري جعلت فداك فقال: صيروا أنسا للمؤمنين، يبثون إليهم ما في صدورهم فيستريحون إلى ذلك ويسكنون إليه.

* الشرح:

قوله (يا سماعة أمنوا على فرشهم وأخافوني) شكاية من الفرقة المتشيعة حيث أذاعوا الأسرار وأخافوه من الأمراء الأشرار، وأشار إلى قله وجود عبد خالص لله بقوله:

(أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلا واحد يعبد الله) الواو للحال «وما» نافية. (ولو كان معه غيره) من أهل الايمان لإضافة الله عز وجل إليه لأن الغرض ذكر أهل الايمان التارك للشرك فلو كان معه غيره لذكره.

(حيث يقول (ان إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) الأمة: الجماعة من الناس وأتباع الأنبياء (عليهم السلام) والجمع أمم مثل غرفة وغرف، ويطلق على عالم دهره، المنفرد بعلمه، الجامع للخير، المقتدي لغيره، كما في المصباح وكنز اللغة وغيرهما، وهذا هو المراد هنا، والقنوت:

الدعاء

ص:186

والعبادة، والحنيف: المسلم لأنه مائل إلى الدين المستقيم، والناسك أيضا (فغبر بذلك ما شاء الله) غبر غبورا من باب قعد: مضى، وقد يستعمل فيما بقي أيضا فيكون من الأضداد. وقال الزبيدي: غبر غبورا: مكث وفي لغة بالمهملة للماضي وبالمعجمة للباقي (أما والله إن المؤمن لقليل وإن أهل الكفر لكثير) المراد بالمؤمن المؤمن الكامل وبأهل الكفر من سواهم فإن ادعوا الايمان ظاهرا فإن غير المؤمن الكامل لا يخلو من كفر ما، ثم بين وجه ايمانهم مع اتصافهم بالكفر بأن الله تعالى صيرهم أنسا للمؤمنين الكاملين وأما كثرتهم فهو لغرورهم بالدنيا ووغولهم فيها والدنيا تخدع أكثر من فيها، والغرض من هذا الحديث بيان قلة أهل الايمان والحمل على الصبر عليها وعدم الاستيحاش من الوحدة كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعتها قصيرة وجوعها طويل».

قال بعض الأفاضل: لما كانت العادة أن يستوحش الناس من الوحدة وقلة الرفيق في طريق طويل صعب، نهى (عليه السلام) عن الاستيحاش في تلك الطريق وكنى به عما عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنهم ليسوا على حق لقلتهم وكثرة مخالفيهم لأن قلة العدد في الطريق مظنة الهلاك والسلامة مع الكثرة فنبههم على أنهم في طريق الهدى وإن كانوا قليلين، ثم نبه على قلة عدد أهل طريق الهدى وهي اجتماع الناس على الدنيا فقال «فإن الناس - إلى آخره» واستعار للدنيا المائدة بملاحظة تشبيهها في كونها مجتمع اللذات، وكنى عن قصر مدتها بقصر شبعتها عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، ولفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقية الباقية من الكمالات النفسانية وهو بسبب الغفلة في الدنيا فلذلك نسب الجوع إليها.

وفي قوله (عليه السلام): (صيروا انسا للمؤمنين يبثون إليهم ما في صدورهم فيستريحون إلى ذلك ويسكنون إليه) دلالة على أن القلب يضيق بحفظ السر فإذا أظهره استراح منه فلذلك جعل بعض الناس من أهل الايمان الناقص ليظهر المؤمن الكامل سره لهم ويستريح من ضيق صدره.

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن اورمة، عن النضر، عن يحيى بن أبي خالد القماط، عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا احدثك بأعجب من ذلك: المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بيده - ثلاثا قال حمران: فقلت: جعلت فداك ما حال عمار؟ قال: رحم الله عمارا أبا اليقظان بايع وقتل شهيدا، فقلت: في نفسي ما شيء أفضل من الشهادة فنظر إلي فقال: لعلك ترى أنه مثل الثلاثة أيهات

ص:187

أيهات.

* الشرح:

قوله (ألا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بيده - ثلاثا) وجه زيادة التعجب أن ذهابهم يمينا وشمالا وخروجهم من الدين مع إدراكهم صحبة النبي (صلى الله عليه وآله) وقرب العهد به وبالوحي أعجب من خروج من فقد جميع ذلك، ولعل المراد بالثلاثة سلمان وأبو ذر والمقداد. روى الكشي عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال قال أبو جعفر (عليه السلام) «ارتد الناس إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد، فقلت: فعمار، قال كان جاض جيضة ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشك فالمقداد» (1) وروي أيضا عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال:

«إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر - الحديث».

(أيهات أيهات) في بعض النسخ: هيهات هيهات وهي كلمة تبعيد، والتاء مفتوحة وناس يكسرونها وقد تبدل الهاء همزة فيقال أيهات وربما قالوا أيهان بالنون كالتثنية.

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن جعفر قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ليس كل من قال بولايتنا مؤمنا ولكن جعلوا انسا للمؤمنين.

ص:188


1- 1 - قوله «إن أردت الذي لم يشك فالمقداد» يدل هذا الحديث على أن المراد بالمؤمن في هذا الباب البالغ أكمل درجات الإيمان والتسليم لا الإيمان في مقابل الكفر فإن أبا ذر وسلمان وعمارا لم يشكوا شكا يخرجهم من حد الإيمان قطعا وقد سبق أحاديث في أن الايمان درجات. (ش).

باب الرضا بموهبة الايمان والصبر على كل شيء بعده

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن فضيل بن يسار، عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا عبد الواحد ما يضر رجلا - إذا كان على ذا الرأي - ما قال الناس له ولو قالوا: مجنون، وما يضره ولو كان على رأس جبل يعبد الله حتى يجيئه الموت.

* الشرح:

قوله (ما يضر رجلا - إذا كان على ذا الرأي - ما قال الناس له ولو قالوا مجنون) ما قال فاعل ما يضر، ولعل المراد بذى الرأي الإمام (عليه السلام) أو الأعم منه ومن أهل العلم والصلاح مطلقا ويكون الرجل عليه متابعته والإعراض عن غيره، وفيه دلالة على أن الجنون أعظم ما يقال في مقام الذم والتحقير وهو كذلك إذ بالعقل يمتاز الإنسان عن غيره من الحيوانات. والجنون يوجب زواله فيوجب دخوله في الحيوانات بل كونه أخس منها لأنه فاقد لكماله (وما يضره ولو كان على رأس جبل يعبد الله حتى يجيئه الموت) أي ما يضره إذا كان على ذي الرأي ما قال الناس له ولو كان على رأس جبل لأن له مع وحدته ظاهرا أنسا بالله باطنا، ولا يضره شيء مع الأنس به كما لا ينفعه شيء مع البعد عنه، وفيه شيء لأن عدم الضرر وهو فيما بين الناس أخفى من عدمه وهو على رأس جبل فكيف يصح العكس، ويمكن أن يقال معنى قوله «وما يضره» أنه ما يضره شيء سواء كان قول الناس أم غيره مثل الوحشة ونحوها وحينئذ عدم الضرر في الثاني أخفى. إذ في عدم الضرر بالوحشة حينئذ كمال خفاء. أو المراد أنه لا يضره قول الناس بأنه مجنون إذ الجنون حينئذ أظهر فعدمه أخفى.

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله تبارك وتعالى: لو لم يكن في الأرض إلا مؤمن واحد لاستغنيت به عن جميع خلقي ولجعلت له من إيمانه انسا لا يحتاج إلى أحد.

* الشرح:

قوله (قال الله تبارك وتعالى لو لم يكن في الأرض إلا مؤمن واحد لاستغنيت به عن جميع خلقي) أي اكتفيت بعبادته عن عبادتهم. وفيه إشارة إلى كمال فضيلة الإيمان وتمام نعمته، فينبغي لمن

ص:189

يؤمن بالله أن لا يحتقر تلك النعمة، ولا يهمل أداء شكرها الذي من جملته أداء وظائف الطاعات وأن لا يجزع على فقد غيرها وأن يصبر على نوائب الدنيا وأن لا يؤذي أحدا من المؤمنين. لأن المؤمن حبيب الله ومن آذاه فقد آذى الله.

(ولجعلت له من إيمانه أنسا لا يحتاج إلى أحد) لأن الايمان بالله سبب للتفكر فيه والالتفات إلى فضله والشوق إلى قربه والوثوق بلطفه والعزلة عن شرار خلقه والانس به. فلا يعرضه وحشة فلا يحتاج إلى صحبة أحد لدفع الوحشة.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الحسين بن موسى، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما يبالي من عرفه الله هذا الأمر أن يكون على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يأتيه الموت.

* الشرح:

قوله (ما يبالي من عرفه الله هذا الأمر أن يكون على قلة جبل) لأن من عرفه الله تعالى أمر الإمامة والدين ووفقه للايمان به فقد أعطاه نعمة عظيمة مستعقبة لنعم أخروية أبدية وأكرمه بقربه فلا يبالي على فوات خسايس الدنيا الفانية التي توجب الغرور والبعد عن مولاه والحرمان في عقباه.

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن كليب بن معاوية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما ينبغي للمؤمن أن يستوحش إلى أخيه فمن دونه، المؤمن عزيز في دينه.

* الشرح:

قوله (ما ينبغي للمؤمن أن يستوحش إلى أخيه فمن دونه) أي ما ينبغي له أن يستوحش من الله ومن الايمان به إلى أخيه فكيف من دونه إذ للمؤمن أنس بالايمان وقرب الحق من غير وحشة. فلو انتفى الأنس وتحققت الوحشة انتفى الإيمان والقرب، ولعل قوله: (المؤمن عزيز في دينه) استيناف لبيان السبب للحكم المذكور لأن العزيز عند الله له أنس به غير مستوحش عنه والعزيز هو الخطير الذي يقل وجود مثله ويشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه والمؤمن كذلك. لأنه بعظمة صفاته يقل وجود مثله ويشتد حاجة الخلق إليه في أمور الدين وتعلمها ويصعب الوصول إلى مرتبته لأنها لا يتحقق إلا برياضات بدنية ومجاهدات نفسانية لا يلقاها إلا الصابرون.

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان وسيف بن عميرة، عن فضيل بن يسار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) في مرضة مرضها لم يبق منه إلا رأسه فقال: يا فضيل إنني كثيرا ما أقول: ما على رجل عرفه الله هذا الأمر لو كان في رأس جبل

ص:190

حتى يأتيه الموت، يا فضيل بن يسار إن الناس أخذوا يمينا وشمالا وإنا وشيعتنا هدينا الصراط المستقيم، يا فضيل بن يسار إن المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيرا له ولو أصبح مقطعا أعضاؤه كان ذلك خيرا له، يا فضيل بن يسار إن الله لا يفعل بالمؤمن إلا ما هو خير له، يا فضيل ابن يسار لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى عدوه منها شربة ماء، يا فضيل ابن ياسر إنه من كان همه هما واحدا كفاه الله همه، ومن كان همه في كل واد لم يبال الله بأي واد هلك.

* الشرح:

قوله (في مرضة مرضها لم يبق منه إلا رأسه) أي مرض بها وكأنها للنوع وأن المراد أنه نحف جميع أعضائه وهزلت حتى كأنه لم يبق منه شيء إلا رأسه فإنه لقلة لحمه لا يعتريه الهزال كثيرا. أو المراد أنه لم يبق قوة في الحركات في شيء من أعضائه إلا في رأسه (فقال يا فضيل إنني كثيرا ما أقول: ما على رجل عرفه الله هذا الأمر) أي ما وحشة عليه أو ما ضرر عليه من قول الناس له بأنه مجنون ونحوه.

(يا فضيل بن يسار إن المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيرا له ولو أصبح مقطعا أعضاؤه كان ذلك خيرا له) لأن الله تعالى عالم بسرائر العباد وأحوالهم ويفعل ما هو الأصلح بحال كل واحد منهم فمنهم من يصلح له الغنى ويفسده الفقر ويشقيه ويورده في المهالك فيفنيه، ومنهم على عكس ذلك فيفقره وهكذا في الأحوال المتقابلة مثل الصحة والسقم ونحوهما. وأكد ذلك بقوله: (يا فضيل بن يسار إن الله لا يفعل بالمؤمن إلا ما هو خير له) وفيه حث على الصبر في جميع الأحوال بعد الإيمان ونوع من الشكر لما أصابه (عليه السلام)، ثم حذر الأغنياء عن الفخر ورغب الفقراء في الصبر بقوله:

(يا فضيل بن يسار لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى عدوه منها شربة ماء) أي ليس لجملة الدنيا وما ينتفع به فيها قدر ولا وزن كقدر جناح بعوضة عندكم، ولهذا أقطعها الأعداء وأولاها الأشقياء ومتع بها الجهلاء، ولو كان لها قدر عنده لم يعطهم منها شربة ماء. ألا ترى الجنة لما جعل لها قدرا عنده كيف ولاها الأولياء وحرمها الأشقياء فلم يعطهم منها طعاما ولا شربة ماء فينادون من عطشهم وجوعهم أهل الجنة (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) ويدل على هوان قدر الدنيا روايات غير محصورة وآيات غير معدودة. ومنها قوله تعالى (ولولا أن يكون الناس أمه واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من

ص:191

فضة ومعارج عليها يظهرون) وفيه تنفير عن الدنيا وتحذير (1) عن الركون إليها فلا ينبغي للمؤمن أن يشغل قلبه بها ويحزن بفواتها ولا للغني أن يفتخر بها لأنها مال الفراعنة ومتاع الجبابرة، ثم رغب في الإيمان والصبر على تقويم أركانه بذكر ثمرته وذم متاع الدنيا والميل إليه بذكر غايته فقال:

(يا فضيل بن يسار إنه من كان همه هما واحدا كفاه الله همه، ومن كان همه في كل واد لم يبال الله بأي واد هلك) الهم القصد والعزم والحزن، ولعل المراد بالهم الواحد هو الآخرة والدين، وبكفايته

ص:192


1- 1 - قوله «وفيه تنفير عن الدنيا وتحذير» ملاحدة زماننا يعيبون ذلك على الاسلام ويقولون عدم الاعتناء بالدنيا وزخارفها أوجب ضعف المسلمين وذلتهم. وهو غلط من وجوه: الأول: أن المسلمين في عصر تشبثهم بالدين وتمسكهم به في العصور الأول حيث كان عهدهم قريبا والعمل بأحكامه في جميع شؤون حياتهم من معاملاتهم وسياساتهم وأحوالهم الشخصية والنوعية رائجا كانوا أعز الناس وأقوى الأمم، وكان الملك فيهم والدولة لهم وألقت الدنيا أزمتها بأيديهم وإنما ضعفوا بعد أن تركوا أحكام دينهم وأدخلوا أهواء ساير الأمم في أعمالهم ورجحوا قوانين الجاهلية على قواعد الاسلام كما ترى. الثاني: أن التنفير عن الدنيا في الاسلام ليس بمعنى تركها بتا، بل بمعنى عدم الركون إليها وعدم الاعتناء بها كشيء مقصود بذاته. بل يجب المعاملة معها معاملة المقدمات والآلات للوصول إلى شيء آخر مقصود بالذات كمن يحب دابته ليركب عليها ويصل بها إلى مقاصدها ويتعاهدها ويطعمها ويعتني بها وإن كانت مقدمة لساير مقاصدها. كذلك الدنيا عند المسلمين وسيلة للوصول إلى الآخرة يتعاهدها كما يتعاهد الدابة وإذا دار الأمر بين عمارة الدنيا بخراب الآخرة أو عمارة الآخرة بخراب الدنيا يختار الثاني كما فعل أبو ذر والمجاهدون في سبيل الله من الصحابة، وساير المعرضين والزاهدين إذا رأو أنه لا يمكن عمارة دنياهم إلا بالقتل والظلم والسرقة والخيانة ومعاونة الظلمة وتصويب أعمالهم الباطلة وقال تعالى (من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) الثالث: أن أعداء الاسلام كلما أرادوا تضعيف قوم وإبطال شوكتهم وتفرقة كلمتهم واضمحلال استقلالهم روجوا بينهم الفساد والفسوق واستخدموا الملاحدة وطردوا أهل الديانة والأمانة من أمر العامة وحذروهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وليس ذلك إلا لأنهم علموا أن الاسلام وتمسك المسلمين بأحكامهم واعتقادهم بأصولها يوجب قوتهم وضعف أعدائهم، وقد رأينا نجاحهم في ما أرادوا، وربما كانت دولة من دول الاسلام في العزة بحيث لم يؤثر في وهنها الحروب الناهكة ولا في شوكتها الهزيمة الفاضحة لتمسكهم ظاهرا بظواهر الاسلام، وكانوا يعدون من الأعضاء الرئيسة للجامعة الانسانية ويحتال غيرهم لموافقتها لهم في مقاصدهم، وكانت المسألة الشرقية من أهم المسائل السياسية إلى ان تنبهوا الحيلة وهي تقوية الملاحدة واستخدامهم وإيجاد التشكيك وتوهين العقائد، وتضعيف التمسك باحكام الاسلام، وتفريق الكلمة، فوفقوا بها لما لم يوفقوا له مدة خمسمائة سنة بالحروب فرأسهم الملاحدة فأزالوا الخوف عن قلوب أعدائهم وأراحوهم وانحطوا إلى التقليد بعد أن كانوا صاحب الرأي ويعتد برأيهم ولم يكن يتجرأ أحد ان يقطع أمرا دون تنفيذهم. (ش).

عز وجل: إعانته ونصرته عليه، والمراد بمقابله هم الدنيا وأهواء النفس الأمارة بالسوء وبعدم مبالاته صرف لطفه وتوفيقه عنه وتركه مع نفسه والمراد بكل واد كل واد من أودية جهنم أو كل واد من أودية الدنيا وكل شعبة من شعب النفس وهواها وهي كثيرة منها حب المال والجاه والشرف والعلو ولين المطاعم والمشارب والملابس والمناكح إلى غير ذلك من متعلقات الهوى ومقتضيات الطبع، فمن أرسل نفسه إلى هواها ولم يصرفها عن مقتضاها إلى دين الحق والايمان وأركانه لم يبال الله به وبما ذهب من دينه ولم يمدده بنصره وتوفيقه ولم يكن له عنده قدر يحفظه بتأييده ولا وزن يحرسه بتسديده. ولم يبال به في أي واد هلك ولا في أي طريق سلك ويمكن أن يراد بالهم الواحد القصد إلى الله والتوكل عليه في جميع الأمور فإنه تعالى يكفيه هم الدنيا والآخرة.

بخلاف من كان قصده الدنيا وسلب عن نفسه علاقة التوكل فإنه تعالى لم يبال بأي واد هلك، ويؤيده ما روى من جعل الهم هما واحدا كفاه الله هم الدنيا والآخرة.

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن منصور الصيقل والمعلى بن خنيس قالا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل:

ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت عبدي المؤمن، إنني لاحب لقاءه ويكره الموت، فأصرفه عنه وإنه ليدعوني فاجيبه وإنه ليسألني فاعطيه، ولو لم يكن في الدنيا إلا واحد من عبيدي مؤمن لاستغنيت به عن جميع خلقي ولجعلت له من إيمانه انسا لا يستوحش إلى أحد.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت عبدي المؤمن، إنني لأحب لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه) هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بين الخاصة والعامة، ومن المعلوم عند الموحد أنه لم يرد التردد المعهود من الخلق في الأمور التي يقصدونها فيترددون في إمضائها إما لجهلهم بعواقبها أو لقلة ثقتهم بالتمكن منها لمانع ونحوه، ولهذا قال أنا فاعله أي لا محالة أنا أفعله لحتم القضاء بفعله ولنقل العبد من دار الغرور إلى دار السرور التي هي غاية مأموله ونهاية مقصوده، فلابد فيه من تأويل، وفيه وجوه عند الخاصة والعامة. أما وجوهه عند الخاصة فثلاثة ذكرها الشيخ في الأربعين:

الأول أن في الكلام إضمارا والتقدير: لو جاز علي التردد ما ترددت في شيء كترددي في وفاة المؤمن.

الثاني: أنه لما جرت العادة بأن يتردد (1) الشخص في مساءة من يحترمه ويوقره كالصديق وأن لا

ص:193


1- 1 - قوله «لما جرت العادة بأن يتردد» نسبة التردد إلى الله تعالى كنسبة سائر الحالات الدالة على التغير والاستحالة يتنزه عنه الباري كالغضب والرضا والأسف، والمراد بأمثالها شأنية المقام لعروض هذه الحالات لو كان المورد انسانا. (ش).

يتردد في مساءة من ليس له عنده قدر ولا حرمة كالعدو، بل يوقعها من غير تردد وتأمل، صح أن يعبر عن توقير الشخص واحترامه بالتردد وعن إذلاله واحتقاره بعدمه، فالمعنى ليس لشيء من مخلوقاتي عندي قدر ولا حرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية.

الثالث: أنه ورد من طرق الخاصة والعامة أن الله سبحانه يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار فيقل تأذيه به ويصير راضيا بنزوله وراغبا في حصوله فأشبهت هذه المعاملة معاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقبه نفع عظيم، فهو يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذيه فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسيمة والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول ويعده من الغنائم المؤدية إلى إدراك المأمول; فيكون الكلام من الاستعارة التمثيلية.

وأما وجوهه عند العامة فأيضا ثلاثة:

الأول: أن معناه ما تردد عبدي المؤمن في شيء أنا فاعله كتردده في قبض روحه فإنه متردد بين إرادته للبقاء وإرادتي للموت فأنا ألطفه وأبشره حتى أصرفه عن كراهة الموت، فأضاف سبحانه تردد نفس وليه إلى ذاته المقدسة كرامة وتعظيما له كما يقول غدا يوم القيامة لبعض من يعاتبه من المؤمنين في تقصيره عن تعهد ولي من أوليائه «عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف تمرض وأنت رب العالمين، فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته لوجدتني عنده» فكما أضاف مرض وليه وسقمه إلى عزيز ذاته المقدسة عن نعوت خلقه إعظاما لقدر عبده وتنويها بكرامة منزلته كذلك أضاف التردد إلى ذاته لذلك.

الثاني: أن «ترددت» في اللغة بمعنى «رددت» مثل قولهم فكرت وتفكرت ودبرت وتدبرت، فكأنه يقول ما رددت ملائكتي ورسلي في أمر حكمت بفعله مثل ما رددتهم عند قبض روح عبدي المؤمن فأرددهم في إعلامه بقبضي له وتبشيره بلقائي وبما أعددت له عندي كما ردد ملك الموت (عليه السلام) إلى إبراهيم وموسى (عليهما السلام) في القضيتين المشهورتين إلى أن اختارا الموت فقبضهما كذلك خواص المؤمنين من الأولياء يرددهم إليهم رفقا وكرامة ليميلوا إلى الموت ويحبوا لقاء المولى.

الثالث: أن معناه ما رددت الإعلال والإمراض والبر واللطف والرفق حتى يرى بالبر عطفي وكرمي فيميل إلى لقائي طمعا، وبالبلاء والعلل فيتبرم بالدنيا ولا يكره الخروج منها، والله أعلم بحقيقة كلامه.

ص:194

وما دل هذا الحديث من أن المؤمن يكره الموت لا ينافي ما دل عليه الروايات المتكثرة من أن المؤمن يحب لقاء الله ولا يكرهه إما لما ذكره الشهيد في الذكرى من أن حب لقاء الله غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحب فإنه ليس شيء حينئذ أحب إليه من الموت ولقاء الله، أو لأنه يكره الموت من حيث التألم به لا لقاء الله وهما متغايران وكراهة أحد المتغايرين لا يوجب كراهة الآخر أو لأن حب لقاء الله يوجب حب كثرة العمل النافع وقت لقائه وهو يستلزم كراهة الموت القاطع له، واللازم لا ينافي الملزوم.

(ولجعلت له من إيمانه أنسا لا يستوحش إلى أحد) أنسه بالله وبالإيمان به من أجل الإيمان ولوازمه موجب لعدم الوحشة بالكلية إذ تحقق أحد الضدين يوجب رفع الآخر، وإذا كان كذلك فلا يستوحش منه إلى أحد إذ ليس له طبع مستوحش.

ص:195

باب في سكون المؤمن إلى المؤمن

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن، كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد.

* الشرح:

قوله (إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد) كما أن للظمآن اضطرابا في فراق الماء وكمال ميل إلى طلبه وسكونا واستقرارا عند وجدانه وانتفاعا به في حياة روحه كذلك للمؤمن بالنسبة إلى المؤمن، وفيه تشبيه للمعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح، وهذا السكون ينشأ من أمرين أحدهما الاتحاد في الجنسية للتناسب في الطبيعة والروح كما مر، والمتجانسان يميل أحدهما إلى الآخر وكل ما كان التناسب والتجانس أكمل كان الميل أعظم كما نقل: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وثانيهما المحبة لأن المؤمن لكمال صورته الظاهرة والباطنة بالعلم والايمان والأخلاق والأعمال محبوب القلوب وتلك الصورة فتدرك بالبصر والبصيرة، وقد يكون سببا للمحبة والسكون بإذن الله تعالى وبسبب العلاقة في الواقع وإن لم يعلم تفصيلها.

ص:196

باب فيما يدفع الله بالمؤم

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن علي بن الحسن التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد ابن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء.

* الشرح:

قوله (إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء) أي عن أهل القرية بحذف المضاف أو المراد بالقرية أهلها مجازا، وذلك الدفع إما بدعائه أو ببركة وجوده فيهم أو لئلا يلحق الفناء به لأن الفناء قد يلحق البريء بشوم الجريء.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين.

* الشرح:

قوله (لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين) أي لا يصيب غالبا أو حتما والمفهوم غير معتبر وعلى تقدير اعتباره لا ينافي منطوق السابق لإمكان حمله على جواز الإصابة، وهو لا ينافي عدمها، على أن الايمان والمعصية مراتبهما متفاوتة فقد يدفع بمؤمن واحد في معصية وقد يدفع بسبعة في معصية أخرى أشد ولا يدفع بواحد واثنين فيها.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له في العذاب إذا نزل بقوم يصيب المؤمنين؟ قال: نعم ولكن يخلصون بعده.

* الشرح:

قوله (قيل له في العذاب إذا نزل بقوم يصيب المؤمنين، قال: نعم ولكن يخلصون بعده) أي يخلصون بعده من العذاب الأخروي لإيمانهم الموجب للنجاة منه، وأما العذاب الدنيوي فإنما لحقهم بالعرض من أجل مجاورة الفاسقين، ولا ينافي ذلك ما مر لأن البر والفاجر إذا اختلطا فقد يصل خير البر إلى الفاجر وقد يصل شر الفاجر إلى البر، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فكل يعامل بعمله.

ص:197

باب في ان المؤمن صنفان

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن نصير أبي الحكم الخثعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله ووفى بشرطه وذلك قول الله عز وجل: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة وذلك ممن يشفع ولا يشفع له، ومؤمن كخامة الزرع، تعوج أحيانا وتقوم أحيانا، فذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة وذلك ممن يشفع له ولا يشفع.

* الشرح:

قوله (فمؤمن صدق بعهد الله ووفى بشرطه) لعل المراد بالعهد عهد الربوبية والايمان بالله وبرسوله وبما جاء به وبالوفاء بالشرط الاتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيات وهذا المؤمن هو الناظر بعين بصيرته إلى مبادى جميع حركاته وسكناته ومآلهما، والمشاهد لأحوال نفسه في الفعل والترك فيعلم كل ما له فيقدم عليه، وكل ما عليه فيبعد عنه، وبالجملة هو الحارس الناظر إلى صلاح أحواله ظاهرا وباطنا.

(فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة) أما الآخرة فلحسن استعداده لها وهو يقتضي الفراغ والأمن من أهوالها، وأما الدنيا فلعل المراد بأهوالها الهموم من فوات نعيمها لأن الدنيا ونعيمها لم تخطر بباله فيكف الهموم من فواتها، أو المراد أعم منها ومن عقوباتها ومكارهها ومصايبها لأنها عنده نعمة مرغوبة لا أهوال مكروهة، أو لأنها لا تصيبه لأجل المعصية فلا ينافي إصابتها لرفع الدرجات.

(وذلك ممن يشفع ولا يشفع له) لأنه من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحتاج إلى أن يشفع له وله درجة الشفاعة لغيره من أهل العصيان.

(ومؤمن كخامة الزرع تعوج أحيانا وتقوم أحيانا) شبه المؤمن بالخامة وهي الغضة اللينة من الزرع، وألفها منقلبة عن واو، وأشار إلى وجه التشبيه بقوله «يعوج أحيانا ويقوم أحيانا» والمراد باعوجاجه ميله إلى الباطل وهو متاع الدنيا والمعصية وهواء النفس ورداها. وبقيامه ميله إلى الحق وهو الآخرة والطاعة ومخالفة النفس في هواها وذلك تصيبه أهوال الدنيا ومكارهها مثل الأمراض وسكرات الموت لتخفيف ذنوبه، وأهوال الآخرة مثل المناقشة في الحساب وغيرها ويندرج فيها أهوال البرزخ ولكن ينجو بالشفاعة له وليست له درجة الشفاعة لغيره إلا أن يشاء الله بمجرد التفضل دون الاستحقاق.

ص:198

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الله، عن خالد العمي عن خضر بن عمرو، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى لله بشروطه التي شرطها عليه، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا، وذلك من يشفع ولا يشفع له، وذلك ممن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة، ومؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفئته الريح انكفأ وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة ويشفع له وهو على خير.

* الشرح:

قوله (كيفما كفئته الريح انكفأ) أي قلبته وأمالته وهو إشارة إلى وجه تشبيهه بخامة الزرع، والتشبيه تمثيل لإمالة أهواء نفسه وريح خاطراته إياه من حال إلى حال فتارة يعوج وأخرى يقوم ويعتدل.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن يونس بن يعقوب، عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان، فقال: الإخوان صنفان: إخوان الثقة وإخوان المكاشرة، فأما إخوان الثقة فهم الكف والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حد الثقة فابذل له مالك وبدنك وصاف من صافاه وعاد من عاداه واكتم سره وعيبه وأظهر منه الحسن، واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر، وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب لذتك منهم، فلا تقطعن ذلك منهم ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان.

* الشرح:

قوله (فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان) أراد بالإخوان المؤمنين كما قال عز وجل (انما المؤمنون إخوة).

(فقال: الإخوان صنفان إخوان الثقة وإخوان المكاشرة) الثقة مصدر بمعنى الأمانة والاعتماد، والمراد بإخوان الثقة أهل الأمانة والاعتماد في الدين وأرباب الثبوت والقوة في اليقين، وهم المؤمنون المتصفون بالفضائل، المقدسون عن الرذائل. والمكاشرة المضاحكة من الكشر وهو ظهور الأسنان للضحك. وكاشره إذ ضحك في وجهه وباسطه، والاسم الكشرة كالعشرة، والمراد بإخوان المكاشرة أهل الحق والباطل الذين جمعوا بين شيء من الفضائل والرذائل يعملون تارة بمقتضى الايمان وأخرى بحكم النفس والشيطان، ثم أشار (عليه السلام) إلى شيء من أحوال الفريقين وكيفية المعاشرة معهما بقوله: (فأما اخوان الثقة فهم الكف والجناح والأهل والمال) الكف الراحة

ص:199

مع الأصابع سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن صاحبها وعن غيره، والجناح للطير معروف ويطلق على العضد والأبط والجانب والعصا أيضا، والأهل أهل البيت ويطلق على الأقرباء والأتباع أيضا، والحمل في الأكثر من باب المبالغة أو بتقدير مضاف أي أهل الكف.

(فإذا كنت من أخيك على حد الثقة) أي الاعتماد والديانة والرسوخ في الدين.

(فابذل له مالك وبدنك) بذل المال للأخ عند حاجته سأل أو لم يسأل ناظر إلى الكف والمال.

وبذل البدن بالسعي في حاجته ناظر إلى الجناح والأهل.

(وصاف من صافاه وعاد من عاداه، واكتم سره وعيبه وأظهر منه الحسن) أمر (عليه السلام) بالتزام الصداقة على جميع أنواعها، الأول أن يكون صديقا له، والثاني أن يكون صديقا لصديقه، والثالث أن يكون عدوا لعدوه، فإن الصداقة لصديقه والعداوة لعدوه صداقة له كما يرشد إليه أيضا ما روي عنه (عليه السلام) «أصدقاؤك ثلاثة وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك.

وأعداؤك: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك» والحسن بالتحريك أو بالضم والتسكين.

(واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر) يعنى أن إخوان الثقة في غاية القلة ونهاية الندرة لأن جواهر ذواتهم نفيسة وكل نفيس نادر الوجود، وأما إخوان المكاشرة ففي غاية الكثرة لأن أكثر الناس يتبع اللذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية والوساوس الشيطانية ولكن لابد من الاختلاط وحسن المعاشرة معهم لأجل الضرورة واستكمال النظام والقطع منهم يوجب تبدده كما أشار إليه عليه بقوله:

(وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب لذتك منهم) لعل المراد باللذة اللذة الدنيوية مثل حسن المعاشرة والمعاملة وتحصيل منافع الدنيا ونحوها.

(فلا تقطعن ذلك منهم) لعل ذلك إشارة إلى إصابة اللذة منهم، وفيه ترغيب في حسن المعاشرة معهم لأن اعتزالك عمن يريدك ويعينك نقص حظ، كما أن ميلك إلى من لا يريدك ولا يعينك ذل نفس كما يرشد إليه ما روي عنه (عليه السلام) «زهدك في راغب فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس» وذلك لأن الراغب في شخص يبذل ماله بجهاته ويعينه في حاجاته وله منه نصيب وحظ إذا لم يزهد فيه وإن زهد فيه فلا يبذل ولا يعين فيكون ناقص الحظ، والراغب في الشخص المعرض عنه المستكره لصحبته يصير عنده حقيرا ذليلا، إما بالذات أو بحسب أفعاله المذلة في اعتقاده (ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم) أي لا تطلبن سوى ما أصابت منهم من اللذة الدنيوية من ضميرهم شيئا لتعلق ضميرهم بالعقائد الفاسدة والخاطرات الكاسدة والأهواء الباطلة (وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان) بمنزلة التأكيد لما ذكره أولا من قوله «فإنك تصيب - إلى آخره» وفيه ترغيب في التأنيس بالجهال واستجلاب طباعهم إلى الحق لئلا يزيد نفارهم ولا ينقطع نظام أحوالهم.

ص:200

باب ما اخذه الله على المؤمن من الصبر على ما يلحقه فيما ابتلي به

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدق مقالته ولا ينتصف من عدوه وما من مؤمن يشفي نفسه إلا بفضيحتها لأن كل مؤمن ملجم.

* الشرح:

قوله (أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدق مقالته) (1) ألا ترى أن جميع الأنبياء والأوصياء كانوا كذلك، والمراد عدم تصديق أكثر الخلق إذ بعضهم قد يصدقه، وما من متكلم صادق إلا وله مصدق (ولا ينتصف من عدوه) أي لا ينتقم. (وما من مؤمن يشفى نفسه إلا بفضيحتها) شفاه يشفيه من باب ضرب فاشتفى هو، وهو من الشفاء بمعنى البرء من الأمراض ويستعمل في شفاء القلب من الأمراض النفسية والمكاره القلبية كما يستعمل في شفاء الجسم من الأمراض البدنية وكون شفاء نفسه من غيظ العدو موجبا لفضيحتها ظاهر لأن الانتقام من العدو مع عدم القدرة عليه يوجب الفضيحة والذلة وزيادة الإهانة والأذى (لأن كل مؤمن ملجم) تعليل لجميع ما ذكر.

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله يحسده، أو منافق يقفو أثره، أو شيطان يغويه، أو كافر يرى جهاده فما بقاء المؤمن بعد هذا.

* الشرح:

قوله (ان الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله يحسده أو منافق يقفو أثره أو شيطان يغويه) أي يريد أن يغويه ويضله عن سبيل الحق بالوسوسة

ص:201


1- 1 - قوله «على أن لا تصدق مقالته» المراد عدم تصديق مقاله في الحكومات الباطلة والدول الجائرة من أناس طبعوا على اتباع الأيدي القوية لا مطلقا. فإن المؤمن يقول الحق والحق مصدق به لكل أحد حتى السارق في سرقته، والزاني عند الفحشاء يصدق بأن عمل الصلحاء خير من عمله. وكذلك قوله: لا ينتصف من عدوه: يعني يعجز عن الانتصاف لغلبة أهل الباطل لا أنه يحرم عليه الانتصاف بالحق إذا قدر، وقوله «لا يشفى نفسه إلا بفضيحتها» هذا أيضا في دولة الباطل والفضيحة بلسان أهل زمانها، وإن من رام ترويج الحق ودفع الباطل في زمانهم ولم يقدر، غلب عليه وافتضح بالمغلوبية، وصار ذلك موجبا ليأس أهل الحق وضعف إرادتهم. (ش).

والخاطرات كما حكى عنه الكتاب الكريم (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) وهو كناية عن جذبهم من طريق الحق إلى الطريق الباطل.

(أو كافر يرى جهاده) لازما فيجاهده ويضره من كل وجه يمكنه (فما بقاء المؤمن بعد هذا) ولهذا قل أهل الايمان. والمقصود من الحديث أن المؤمن لا يكون إلا ومعه هذه البلايا كلها أو بعضها، فلا ينافي الترديد الدال على منع الخلو، وأيسرها صفة لبلايا أربع وفيه إشعار بأن للمؤمن بلايا أخر أشد منها، وفي بعض النسخ: «أشدها» بدل «أيسرها» فيفيد أن هذه الأربع أشد بلاياه. وقوله «مؤمن» خبر مبتدأ محذوف أي هي مؤمن، وربما يزعم أن «أيسرها» مبتدأ و «مؤمن» خبره، وأن أشدها أولى من أيسرها لئلا ينافي قوله (عليه السلام) فيما بعد: ومؤمن يحسده وهو أشدهم عليه، وفيه أن أيسرها أو أشدها صفة لما تقدم فلا يتم ما ذكر، وكون هذه الأربع أيسر من غيرها لا ينافي أن يكون بعضها أشد من بعضها ولو جعل مبتدأ كما زعم لزم أن لا يكون المؤمن الحاسد أشد من المنافق وما بعده، وهو مناف لما يأتي، فليتأمل.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ولربما اجتمعت الثلاثة عليه، إما بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه، أو جار يؤذيه أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه، ولو أن مؤمنا على قلة جبل لبعث الله عز وجل شيطانا يؤذيه، ويجعل الله له من إيمانه انسا لا يستوحش معه إلى أحد.

* الشرح:

قوله (ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ولربما اجتمعت الثلاثة عليه إما بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه) أفلت إفلاتا إذا تخلص وأفلته إذا خلصه لازم ومتعد، وهنا لازم، ومن لطف الله بعباده أنه إذا أحب عبدا صب عليه البلاء صبا، ومن جملته أن يسلط عليه بعضا من شرار خلقه يؤذيه، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت الدرجات والمقامات كما يرشد إليه إيذاء الأمة للأنبياء والأوصياء والأولياء من لدن آدم (عليه السلام) إلى الآن، وقوله (صلى الله عليه وآله) «ما أوذى أحد في الله ما أوذيت» وقد ذكروا لذلك وجوها من الحكمة منها أنه لكفارة ذنوبه، ومنها أنه لاختبار صبره وإدراجه في الصابرين، ومنها أنه لتزهيده في الدنيا وتبريدها في قلبه لئلا يفتتن بها ولا يطمئن إليها فلا يشق عليه الخروج منها، ومنها لإضعاف نفسه عن الصفات البشرية والقطع عنها مواد العلائق الجسمانية لينقطع علاقته بدنياه ويرجع بكله إلى مولاه ويألف الإقبال عليه في السراء ويستديم المثول بين يديه في الضراء إلى أن يرتقى بذلك إلى أعلى درجة الأحباب والأولياء. ومنها لتنفيره

ص:202

بذلك عن مصاحبتهم، وايحاشه منهم بواسطة أذيتهم ليؤنسه بحضرة ربوبيته ويقتطعه إليه عن بريته، ومنها لإكرامه برفع الدرجة التي لا يبلغها الإنسان قط بكسبه، لأنه ممنوع من ايلام نفسه شرعا وطبعا فإذا سلط عليه في ذلك غيره أدرك ما لا يصل إليه بفعله كدرجة الشهادة لا يبلغها المؤمن قط بقتل نفسه، وانما يبلغها بقتل العدو له في الله فيكرم الله عليه بدرجة الشهادة على يد غيره.

ومنها لتشديد عقوبة العدو في الآخرة فإنه يوجب سرور المؤمنين به. والغرض من هذا الحديث وأمثاله حث المؤمن على الاستعداد لتحمل أنواع النوائب والأذى بالصبر والرضا بقضاء الله، وبالله الاستعانة والتوفيق.

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أربع لا يخلو منهن المؤمن أو واحدة منهن، مؤمن يحسده وهو أشدهن عليه، ومنافق يقفو أثره أو عدو يجاهده، أو شيطان يغويه.

* الشرح:

قوله (مؤمن يحسده وهو أشدهن) لأن صدور الشر من القريب المجانس أشد وأعظم من صدوره من البعيد المخالف، لتوقع الخير من الأول دون الثاني.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن سنان، عن عمار بن مروإن، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل جعل وليه في الدنيا غرضا لعدوه.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فشكا إليه رجل الحاجة، فقال له: اصبر فان الله سيجعل لك فرجا، قال: ثم سكت ساعة، ثم أقبل على الرجل فقال: أخبرني، عن سجن الكوفة كيف هو؟ فقال:

- أصلحك الله - ضيق منتن وأهله بأسو ء حال، قال: فإنما أنت في السجن فتريد أن تكون فيه في سعة، أما علمت أن الدنيا سجن المؤمن.

* الشرح:

قوله (اصبر فإن الله سيجعل لك فرجا) دلت الفاء على أن الفرج مترتب على الصبر كما اشتهر «الصبر مفتاح الفرج» وكما قيل: «من صبر ظفر فاصبر تظفر» ثم قال تسلية له في تحمل المشاق والبليات رجاء لما بعد الدنيا من الخيرات:

(أما علمت أن الدنيا سجن المؤمن) قد ورد من طرق الخاصة والعامة «أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» يعنى أن المؤمن في الدنيا ممنوع من الشهوات المحرمة ومكلف بالأعمال والأخلاق الشاقة، وممتحن بالبلايا والرياضات التامة، فإذا مات استراح من جميع ذلك وانقلب إلى ما أعد الله له من النعيم المقيم، وأما الكافر فإنما له الدنيا حسب، وإذا مات انقلب إلى ما أعد الله له من العذاب الجحيم، فالدنيا جنة له وإن كان ذا مشقة فيها.

ص:203

قيل أن يهوديا رث الهيئة والحالة رأى فقيها وعليه لباس حسن فقال: ألستم تروون عن نبيكم «أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» فأين ذلك من حالي وحالك؟ فأجابه بأنه إذا مت وصرت إلى ما أعد الله لك من العذاب علمت أن الدنيا كانت جنة لك، وإذا مت أنا وصرت إلى ما أعد الله لي من النعيم علمت أن الدنيا كانت سجنا لي.

7 - عنه، عن محمد بن علي، عن إبراهيم الحذاء، عن محمد بن صغير، عن جده شعيب قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الدنيا سجن المؤمن فأي سجن جاء منه خير.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن داود بن أبي يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن مكفر.

* الشرح:

قوله (المؤمن مكفر) (1) وفي رواية أخرى: «وذلك أن معروفه يصعد إلى الله فلا ينشر في الناس، والكافر مشكور» الرواية الأخرى تفسر الأولى، ولعل بناء هذا التفسير على أن المؤمن يخفى معروفه من الناس ولا يفعله رياء وسمعة فيصعد إلى الله فلا ينشر فيهم وإلا فالصعود إلى الله مع الإعلان به لا يستلزم عدم نشره فيهم، وعلى هذا فكون الكافر مشكورا معناه أن معروفه لكونه واقعا إعلانا لا لوجه الله ينشر في الناس ولا يصعد إلى الله، وللأولى تفسير آخر أنسب بعنوان الباب، ولعل المصنف باعتباره ذكره فيه وهو أن المؤمن مكفر أي مرزء في نفسه وماله ومصاب بمصيبة لتكفر

ص:204


1- 1 - قوله «المؤمن مكفر» الناس مفطورون على طلب منافعهم الفردية والتمتع باللذات الدنيوية وإن استلزم الظلم والإجحاف بغيرهم فبعث الله النبيين (عليهم السلام) لتحديد إراداتهم ومنع استرسالهم، حتى يقتصروا على ما لا يضر بالغير، ولا يمنع أحد أحدا عن إراداته المباحة وحوائجه المشروعة، وأشد أعداء الأنبياء والشرائع الجبابرة وأصحاب الدول الظالمة فإن قدرتهم غير محدودة يريدون أن يفعلوا ما يرون صلاحا لهم من غير أن يمنعهم مانع ولا يحد قدرتهم محدد، والأنبياء يحددون قدرتهم، ويمنعهم من أفعالهم فيحدث بينهم العداوة والبغضاء والمنافرة قهرا. ويأخذ جماعة من الناس جانب الظلمة وهم أصحاب الشهوات واللذات لاشتراكهم في طلب حرية أنفسهم وعدم المبالاة بالضعفاء، وجماعة جانب الأنبياء وهم أصحاب النفوس الأبية وأرباب العقول الراجحة والمبغضون للظلم والإجحاف الكارهون لمساءات الخلق لا يرون لائقا بكرامتهم أن يروا جماعة في الضر والبأس ممنوعين عما يريدون من الاستمتاع بحوائجهم لمنع الأقوياء إياهم، ولابد في دولة الباطل من المصادمة بين الفريقين، ويكون الغلبة لغير المؤمن قطعا لأنهم لا يبالون بالظلم وإيذاء الخلق ومصادرة الأموال والقتل والحبس والتشريد لتحقيق مقاصدهم أيا ما كان، والمؤمن في دولتهم منفور إن صدر منه فعل حسن شكره أهل الحق ولا يرضى به أهل الباطل فإن ما يرون منه من منع الباطل لا يكافي فعله الحسن ويذمونه على كل حال، وقد رأينا جماعة من المثرين بذلوا أموالا عظيمة في سبيل الله تعالى، ومع ذلك يكرههم المبطلون ويبغضونهم وينسبونهم إلى كل سوء لأنهم مؤمنون غير موافقين لهم في اتباع الشهوات واعتقاد الكفر والإلحاد. أعاذ الله الناس من شرورهم. (ش).

خطاياه وذنوبه بخلاف الكافر.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ما من مؤمن إلا وقد وكل الله به أربعة: شيطانا يغويه، يريد أن يضله، وكافرا يغتاله، ومؤمنا يحسده وهو أشدهم عليه، ومنافقا يتتبع عثراته.

* الشرح:

قوله (وكافرا يغتاله) غاله غولا من باب قال: أهلكه، واغتاله: قتله على غرة وهي بالكسر: الغفلة والخفية، والاسم الغيلة بالكسر.

10 - عدة من أصحابا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إذا مات المؤمن خلي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر، كانوا مشتغلين به.

* الشرح:

قوله (إذا مات المؤمن خلي على جيرانه عدد ربيعة ومضر) هما في النسب أخوان ابنا نزار بن معد ابن عدنان، ومضر الجد السابع عشر للنبي (صلى الله عليه وآله) وقبيلتاهما كانتا مشهورتين في كثرة العدد وقساوة القلوب وغلظ الأفئدة ومعاندتهما للنبي (صلى الله عليه وآله) وكفرهما أشهر من كفر إبليس.

11 - سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلا وله جار يؤذيه، ولو أن مؤمنا في جزيرة من جزائر البحر لابتعث الله له من يؤذيه.

* الشرح:

قوله (ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلا وله جار يؤذيه) ليس المراد به الجار المعروف فقط بل كل من يجاوره ويقاربه رآه أو لم ير، فليس أحد يخلو من جار وأقله الشيطان، فالحصر كلي.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان فيما مضى ولا فيما بقي ولا فيما أنتم فيه مؤمن إلا وله جار يؤذيه.

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما كان ولا يكون إلى أن تقوم الساعة مؤمن إلا وله جار يؤذيه.

ص:205

باب شدة ابتلاء المؤمن

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن، هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل.

* الشرح:

قوله (إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل) البلاء ما يختبر به ويمتحن به من خير أو شر وأكثر ما يأتي مطلقا في الشر وإذا أريد به الخير يأتي مقيدا كما قال تعالى «بلاء حسنا» وأصله المحنة والله تعالى بلى عبدا بالصنع الجميل ليمتحن شكره، وبما يكره ليمتحن صبره، يقال: بلاه الله بخير أو شر يبلوه بلوا وأبلاه إبلاء وابتلاه ابتلاء بمعنى امتحنه، والاسم البلاء مثل سلام والبلوى والبلية مثله، والمراد بالأمثل فالأمثل الأشرف فالأشرف وإلا على فالأعلى في المرتبة والمنزلة، يقال: هذا أمثل من هذا أي أفضل وأشرف وأدنى إلى الخير، وأماثل الناس خيارهم.

وفي هذا الحديث وغيره من الأحاديث المتكثرة من طرق الخاصة والعامة دلالة واضحة على أن الأنبياء في الأمراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيما لأجرهم الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم. بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب البشر مع ما يظهر من أيديهم من خرق العادة لقيل فيهم ما قالت النصارى في نبيهم، واستثنى بعض من ذلك ما هو نقص كالجنون والجذام والبرص، وحمل استعاذة النبي (صلى الله عليه وآله) منها على أنها تعليم للخلق، وقال محي الدين: الأنبياء (عليهم السلام) منزهون عن النقص في الخلق والخلق، سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما نسب بعض إلى بعضهم من العاهات فإن الله تعالى رفعهم عن كل ما هو عيب ينقص العيون وينفر القلوب، وقال الآبي في كتاب إكمال الإكمال: إن الأنبياء والناس في الأمراض سواء، والأنبياء منزهون عن المعايب، ويسمى هذا الابتلاء تنبيه الغافلين وتذكير الصالحين وتنويه الذاكرين، وله فوائد غير محصورة ذكرنا بعضها في باب أن المؤمنين صنفان وابتلاء الأنبياء والمقربين تحفة لهم لرفع الدرجات التي لا يمكن الوصول إليها بشيء من العمل إلا ببلية كما أن بعض الدرجات لا يمكن الوصول إليها إلا بالشهادة فيمن الله سبحانه على من أحب من عباده بهما تعظيما وتكريما له.

ص:206

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء وما يخص الله عز وجل به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال النبيون ثم الأمثل فالأمثل ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن عمله فمن صح إيمانه وحسن علمه اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه.

* الشرح:

قوله (ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن عمله فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه) كلما زاد ايمان رجل زاد قربه من الله، وكلما زاد قربه زاد حبه وكلما زاد حبه زاد استحقاقه لعطاياه وأعظم عطاياه البلية; لأنها توجب رفع الذنوب والخطايا وسلب الميل إلى الدنيا والتضرع بين يدي المولى والوصول إلى الدرجة العليا والاختصاص بأعلى مقام الشرف والزلفى والنجاة من أهوال العقبى حتى توصله إلى أعلى درجات المحبين وأقصى مراتب المقربين. نعم ما قيل:

أبليت من أحببت يا حسن البلاء * وخصصت بالبلوى رجالا خشع أحببت بلواهم وطول حنينهم * وأطلت ضرهم لكي يتخضعوا (ومن سخف إيمانه) سخف الشيء سخفا بالضم وسخافة بالفتح من باب قرب قربا وقرابة أي رق ونقص (وضعف عمله) بالكمية والكيفية. (قل بلاؤه) لضعف محبته وهو يقتضي قلة عطيته لأنه تعالى إذا أحب عبدا حبا صب عليه البلاء صبا.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروإن، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء، وما أحب الله قوما إلا ابتلاهم.

* الشرح:

قوله (إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء) يعني أن البلاء والأجر متوازنان فإن زاد البلاء زاد الأجر وإن نقص نقص (وما أحب الله قوما إلا ابتلاهم) بأنواع المشاق الدنيوية من العلل والأمراض والأوجاع والفقر والخوف والمصائب في النفس والأهل والمال لينفرهم عن الدنيا ويعدهم للإقبال إليه والتضرع بين يديه حتى يبلغ كمال محبته وينال ما عنده من الأجر الجميل والثواب الجزيل.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن حماد ابن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أشد الناس بلاء

ص:207

الأنبياء، ثم الأوصياء، ثم الأماثل فالأماثل.

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل عبادا في الأرض من خالص عباده ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم إلى غيرهم ولا بلية إلا صرفها إليهم.

* الشرح:

قوله (ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلا صرفها عنهم... ولا بلية إلا صرفها إليهم) المراد بالتحفة التحفة الدنيوية التي يتم بها عيش الدنيا وزينتها وهي التي يفر منها الأولياء والصلحاء فرار الجبان من الأسد، وبالبلية البلية الدنيوية وهي التي يستقبلها الصلحاء والعرفاء الفحول ويتلقونها بالرحب والقبول علما بأنها أبواب لفضله وأسباب لعفوه وذرايع إلى جنانه ووسائل إلى رضوانه.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن عبيد، عن الحسين بن علوان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال - وعنده سدير -: إن الله إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا وإنا وإياكم يا سدير لنصبح به ونمسي.

* الشرح:

قوله (غته بالبلاء غتا) أي عصره بسبب البلاء عصرا شديدا حتى يجد منه المشقة الشديدة كما يجدها من يغمس في الماء قهرا أو غمسه فيه غمسا متتابعا على أن يكون الباء بمعنى في، أو كده يقال غته بالأمر أي كده، والكد: «رنجانيدن وكوفتن» (وإنا وإياكم يا سدير لنصبح به ونمسي) لأنهم كانوا خائفين وجلين من الأعداء، والخوف منهم من أعظم البلاء.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن الوليد بن علاء، عن حماد، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا وثجه بالبلاء ثجا، فإذا دعاه قال: لبيك عبدي لئن عجلت لك ما

ص:208

سألت إني على ذلك لقادر، ولئن ادخرت لك، فما ادخرت لك فهو خير لك.

* الشرح:

قوله (وثجه بالبلاء ثجا) أي أسال دم قلبه بالبلاء وهو كناية عن أخذه بالشدائد، تقول: ثججت الماء من باب قتل إذا صببته وأسلته، والثلج أيضا: إسالة دم الهدى.

(فإذا دعاه) أي لرفع البلاء أو لغيره من المطالب أيضا (قال لبيك عبدي لئن عجلت لك ما سألت) إن كانت في التعجيل مصلحة. (أني على ذلك لقادر ولئن ادخرت لك) إن لم تكن في التعجيل مصلحة (فما ادخرت لك) من أجر الدعاء سوى أجر الابتلاء، (خير لك) مما سألت لأنه ينفع في الآخرة وكل ما ينفع في الآخرة خير مما ينفع في الدنيا وما ينفع فيها داثرة زائلة، وفيه تعظيم لأمر الابتلاء وتفخيم لشأن الداعي والدعاء حيث يقول الله تعالى له: لبيك أي أقيم بخدمتك إقامة بعد إقامة وألزم على طاعتك لزوما بعد لزوم. وأصل «لبيك» لبين لك حذفت اللام ثم النون للإضافة.

8 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن زيد الزراد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله الرضا ومن سخط البلاء فله عند الله السخط.

* الشرح:

قوله (إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء) الكفء: النظير، ومنه كافأه إذا ساواه، وكل شيء ساوى شيئا حتى صار مثله فهو مكافئ له، والمكافاة بين الناس من هذا، ومعناه أن عظيم البلاء يساويه عظيم الجزاء.

(فإذا أحب الله عبدا ابتلاه بعظيم البلاء) أي إذا أراد الله أن يوصل الخير إلى عبده وأن يرحمه ويرضى عنه ويدخله الجنة ويرفع درجته فيها وهو نقي عن الذنوب ابتلاه ببلاء عظيم إما بأمراض جسمانية أو بمكاره روحانية.

(فمن رضي فله عند الله الرضا ومن سخط البلاء فله عند الله السخط) أي فمن رضي عن الله بما قضى عليه من البلاء وصبر وشكر فله رضاه تعالى ورضوانه وإحسانه عند اللقاء في دار البقاء، ومن سخط البلاء وكره القضاء ولم يرض بحكم الله فيه وإجراء البلاء عليه جرى عليه حكم الله وسخط فيلقاه وهو محروم عما أعده الله للصابرين الشاكرين من أهل البلاء، وإنما لم ينسب السخط إليه تعالى كما نسب إليه الرضا للتنبيه على أن السخط ليس من صفاته تعالى ومرادا له تعالى حقيقة، بل إنما هو جزاء عمل العبد، وفيه تنبيه على أن الأجر للبلاء انما يكون لمن رضى وصبر، وتحريص للعبد على الصبر والرضاء الموجبين للإكرام والاصطفاء.

9 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن زكريا بن الحر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما يبتلى المؤمن في الدنيا على قدر دينه - أو قال: - على حسب دينه.

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابه، عن محمد بن المثنى

ص:209

الحضرمي، عن محمد بن بهلول بن مسلم العبدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

* الشرح:

قوله (انما المؤمن بمنزلة كفة الميزان) الظاهر أنه تشبيه تمثيلي متضمن لتشبيه الايمان بالجنس المرغوب الموزون، وقوله (كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه) إشارة إلى وجه التشبيه وإلى أن الايمان والبلاء متساويان.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه، يذكر به.

* الشرح:

قوله (المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يذكر به) حزن حزنا من باب علم والاسم الحزن بالضم فهو حزين ويتعدى في لغة قريش بالحركة يقال حزنني الأمر يحزنني من باب قتل، قاله ثعلب والأزهري، وفي لغة تميم بالألف ومنع أبو زيد استعمال الماضي من الثلاثي فقال: لا يقال حزنه وإنما يستعمل المضارع من الثلاثي فيقال يحزنه عروض أمر يوجب حزن المؤمن في تلك المدة من لطف الله تعالى عليه لتنفيره عن الدنيا وتنبيهه عن الغفلة وتذكيره للآخرة وإصلاحه لنفسه وإقباله إلى الله تعالى وينبعث من ذلك التفكر فيما فات من عمره في الخيالات وما فرط منه من الهفوات الموجبة لدوام الحسرات والقلب بذلك يرق ويصفو ويتدارك ما فات ويستعد لما هو آت، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى داود (عليه السلام) طهر قلبك بالهموم والأحزان على ما يفوت مني، وقال بعض السلف: القلب الذي لا حزن فيه كالبيت الخراب.

12 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن معاوية بن عمار، عن ناجية قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن المغيرة يقول: إن المؤمن لا يبتلى بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا ولا بكذا؟ فقال: إن كان لغافلا

ص:210

عن صاحب ياسين إنه كان مكنعا - ثم رد أصابعه - فقال: كأني أنظر إلى تكنيعه أتاهم فأنذرهم، ثم عاد إليهم من الغد فقتلوه، ثم قال: إن المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه.

* الشرح:

قوله (إن المغيرة يقول: إن المؤمن لا يبتلى بالجذام ولا بالبرص ولا بكذا وكذا فقال: إن كان لغافلا عن صاحب ياسين إنه كان مكنعا) «إن» في «إن كان» مخففة بدليل دخول اللام على خبر كان.

لا يقال صاحب ياسين هو مؤمن آل فرعون لما سيأتي في هذا الباب من رواية يونس بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا ويمد يديه ويقول (يا قوم اتبعوا المرسلين) وهذا ينافي ما صرح به علماء التفسير من أنه غيره وصرح به السيوطي (كذا؟) في العرايس أيضا قال كان مؤمن آل فرعون اسمه خربيل من أصحاب فرعون وكان نجارا وهو الذي نجر التابوت لأم موسى حين قذفته في البحر; وقيل إنه كان خازنا لفرعون قد خزن له مائة سنة وكان مؤمنا مخلصا يكتم إيمانه فأخذ يومئذ مع السحرة وقتل صلبا، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) الآية وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين، وخربيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب أفضلهم» ويخالف الواقع أيضا لأن صاحب ياسين كان من أمة عيسى (عليه السلام) فلا يكون هو مؤمن آل فرعون موسى (عليه السلام) لأنا نقول: المراد بفرعون من رواية يونس فرعون عيسى (عليه السلام) وهو كان مكنع الأصابع، والمكنع من تشنجت أصابعه حتى رجعت إلى كفه وظهرت رواجبه أي أصول الأصابع أو بواطن مفاصلها (ثم قال: إن المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه) الميتة بالكسر للحال والهيئة، وفيه دلالة على أن الموت بكل وجه من الوجوه يجامع الايمان ولا ينافيه إلا الموت على الوجه الخاص وهو قتل نفسه فإنه ينافي الايمان ولا يجامعه فيفهم منه كفر من قتل نفسه بأي وجه كان سواء قتلها بالسيف أو السكين أو نحوهما أو بشرب السم ونحوه أو بترك الأكل أو مداواة جراحة أو مرض علم نفعها، أما لو أحرق العدو السفينة فألقى جالس السفينة نفسه في البحر فمات فالظاهر أنه داخل في هذا الحكم خلافا لبعض العامة فإنه أخرجه منه لأنه فر من موت إلى موت وهو ضعيف لا مستند له ويمكن حمل كفره على ما إذا استحل قتل نفسه، أو على أنه ليس بمؤمن كامل يستحق الجنة ابتداء والله أعلم.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن المؤمن من الله عز وجل لبأفضل مكان - ثلاثا - إنه ليبتليه بالبلاء ثم ينزع نفسه عضوا عضوا من جسده وهو يحمد الله على ذلك.

* الشرح:

قوله (إن المؤمن من الله لبأفضل مكان) هو مكان غاية القرب ونهاية العز ولو رأيته

ص:211

لرأيت مقاما رفيعا ومكانا عليا.

(ثم ينزع نفسه عضوا عضوا من جسده) النزع القلع والتفريق تقول نزعته من موضعه نزعا من باب ضرب إذا قلعته وانتزعته مثله والنفس اسم لجملة البدن وللروح أيضا.

(وهو يحمد الله على ذلك) لأن كل شيء من الحبيب حبيب ولعلمه بأنه أصلح له وإن فيه رفع الدرجة ونعمة التطهير من الذنوب كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن الله تعالى في السراء نعمة الفضل، وفي الضراء نعمة التطهير.

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن فضيل بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء في جسده.

* الشرح:

قوله (إن في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء في جسده) في الجنة منازل ودرجات بعضها يبلغها العبد بكسبه وسعيه وبعضها لرفعته وعلوه خارج عن قدرة البشر وبلوغه إليه بالكسب وانما يبلغه بالابتلاء، ولذلك الابتلاء عند المحبين أحلى من الشهد.

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن أبي يحيى الحناط، عن عبد الله بن أبي يعفور قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ما ألقى من الأوجاع - وكان مسقاما - فقال لي: يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنى أنه قرض بالمقاريض.

* الشرح:

قوله (وكان مسقاما) مسقام «آنكه بسيار رنج شود» (لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب) في لفظة لو والموصول المشعر بالإبهام دلالة واضحة على أن أجر المصائب في العظمة والفخامة على حد لا يصل إليه عقول البشر.

(لتمنى أنه قرض بالمقاريض) قرضت الشيء قرضا من باب ضرب: قطعته بالمقراض، ويجمع المقراض بالمقاريض، وفيه تبشير للمؤمن بالصبر على الأمراض والبلايا لما له من الأجر العظيم الذي لا يبلغ كنهه عقول العارفين ولا يقدر على وصفه فحول الواصفين.

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن يونس بن رباط قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدة أما إن ذلك إلى مدة قليلة وعافية طويلة.

ص:212

* الشرح:

قوله (إن أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدة) يعنى أن أهل الحق والايمان من أول زمانهم إلى هذا كانوا في شدة كما يشهد له النظر في حال الأنبياء والأوصياء والتفكر في القرآن العزيز والتأمل في السنة والسير. وفيه حث للمؤمن على الصبر بالشدائد والبلايا تأسيا بهؤلاء الكبراء الذين صبروا لله على قضائه وشكروا له على بلائه، ثم حث على الصبر مبالغة بقوله:

(إن ذلك إلى مدة قليلة وعافية طويلة) فإن زمان البلاء والصبر مدة العمر وهي قليلة فانية وزمان العافية مدة الآخرة وهي طويلة باقية. ومن البين أن العاقل يرجح العافية الباقية على العافية الفانية.

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن الحسين بن المختار، عن أبي اسامة، عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة) شبه تعاهده وحفظه للمؤمن بالبلاء وإرساله إليه بتعاهد الرجل الغائب وحفظه لأهله بالهدية وإرسالها إليه وفيه تشبيه البلاء بالهدية، والغرض هو النفع وهو وإن كان في المشبه أدوم وأوفر لكنه في المشبه به أجلى وأظهر.

(ويحميه الدنيا كما يحمى الطبيب المريض) الحمى: المنع أي يمنعه عن الدنيا ويزوي عنه فضولها ويقطع عنه أسبابها ويبعد عنه المهلك من لذاتها كيلا يتدنس بها ولا يسكن قلبه إليها ولا تقف نفسه عليها كما يمنع الطبيب المريض عن تناول ما يضره من الأطعمة والأشربة شفقة عليه ومحبة له فينبغي للمؤمن الذي حماه الله تعالى عنها أن يعد ذلك من أجل نعماء الله ويفرح بذلك ويشكره به ويفرغ قلبه عنها إلى ذكره ويصير ويسعى في طريق محبته حتى يدخل في أعلى منازل المقربين وأقصى درجات المحبين.

18 - علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن محمد بن بهلول العبدي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يؤمن الله المؤمن من هزاهز الدنيا ولكنه آمنه من العمى فيها والشقاء في الآخرة.

* الشرح:

قوله (لم يؤمن الله المؤمن من هزاهز الدنيا ولكنه آمنه من العمى فيها والشقاء في الآخرة) هززته

ص:213

أي حركته، والهزاهز الفتن يهتز فيها الناس (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) والعمى عمى القلب الموجب للجهل بالله والتنفر عن الحق والبعد من الايمان وكل ذلك يوجب الشقاء في الآخرة.

19 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن نعيم الصحاف عن ذريح المحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إني لأكره للرجل أن يعافي في الدنيا فلا يصيبه شيء من المصائب.

20 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن نوح بن شعيب، عن أبي داود المسترق، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) دعي النبي (صلى الله عليه وآله) إلى طعام فلما دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه ولم تسقط ولم تنكسر، فتعجب النبي (صلى الله عليه وآله) منها فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة فوالذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط، [قال:] فنهض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئا وقال: من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة.

* الشرح:

قوله (فوالذي بعثك بالحق ما رزئت شيئا قط) الرزية النقص والمصيبة وأصلها الهمزة والاسم الرزء مثال قفل ورزأته أنا إذا أصبت بمصيبته فرزئت بالهمزة وقد يأتي بغير الهمزة وهو من التخفيف الشاذ (فنهض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئا) نهوضه (صلى الله عليه وآله) وعدم أكله من طعامه مع كونه من أهل الايمان ظاهرا كما يشعر به الحديث دليل على أن من لم يرزأ ولم يصب في نفسه وماله وأهله بشيء من النقص والمصائب فهو مبغوض ممقوت عند الله ومن بغضه إياه ومقته له أنه زوى عنه مصايب الدنيا كلها وذلك لأمرين أحدهما الاستدراج له ليتمادى في بغيه وطغيانه ويغتر بدوام صحته وسلامة ماله فيزيد في غيه وعصيانه كما قال تعالى (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) قيل في تفسيره: كلما أحدثوا معصية جددنا لهم نعمة، والآخر أنه لم يصبه بمصيبة لئلا يكفر عنه شيئا من معاصيه وذنوبه حتى يأتي في الآخرة بجميعها فيكبه في النار بسببها، وبضد هذا المؤمن الخالص المتقي فإنه - تعالى شأنه - يخصه بالبلاء في الدنيا إما تكفيرا لذنوبه أو رفعا لدرجته التي لا يصل إليها إلا بالبلاء أو لغير ذلك.

(وقال من لم يرزأ فما لله فيه من حاجة) أي في إعلان دينه والإتيان بتكاليفه، ولفظ الحاجة مستعار في حقه تعالى باعتبار طلبه للعبادات بالأوامر وغيرها كطلب ذي الحاجة ما يحتاج إليه أو سلب الحاجة كناية عن سلب اللطف به وترك الإقبال إليه لأن اللطف والإقبال متلازمان للحاجة،

ص:214

فنفى الملزوم وأراد نفي اللازم.

21 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (عليه السلام); وأبي بصير (1)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب.

* الشرح:

قوله (لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب) ضمير «له» راجع إلى «من» أو إلى «الله».

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عثمان النوا، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يبتلي المؤمن بكل بلية ويميته بكل ميتة ولا يبتليه بذهاب عقله. أما ترى أيوب كيف سلط إبليس على ماله وعلى ولده وعلى أهله وعلى كل شيء منه ولم يسلط على عقله، ترك له ليوحد الله به.

* الشرح:

قوله (لا يبتليه بذهاب عقله) لأن فائدة الابتلاء التصبر والتذكر والرضا ونحوها ولا يتصور شيء من ذلك بذهاب العقل وفساد القلب ولا ينافي ذهاب العقل لا لغرض الابتلاء على أن الموضوع هو المؤمن والمجنون ليس بمؤمن.

23 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلا بإحدى خصلتين إما بذهاب ماله أو ببلية في جسده.

* الشرح:

قوله (إنه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلا بإحدى خصلتين) المراد بالعبد العبد المحبوب لله تعالى فإذا أحبه ابتلاه بإحدى الخصلتين ليشرفه بتلك المنزلة التي لا مدخل لكسبه فيها.

24 - عنه، عن ابن فضال، عن مثنى الحناط، عن أبي اسامة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: لولا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه لعصبت رأس الكافر بعصابة حديد، لا يصدع رأسه أبدا.

* الشرح:

قوله (قال الله عز وجل لولا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه لعصبت رأس الكافر بعصابة حديد لا يصدع رأسه أبدا) الوجد: الحزن، والعصابة بالكسر: العمامة وكل ما يعصب به الرأس.

ص:215


1- 1 - كذا في النسخ والظاهر «عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله وأبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) - الحديث» كما في الوافي.

يقال عصبت رأسه بعصابة تعصيبا وعصبته بها عصبا أي شددته بها، والصداع وجع الرأس يقال منه صدع تصديعا بالبناء للمفعول، ولعل المراد أن نزول البلية في الدنيا على الكافر لئلا يحزن المؤمن بصحته وفراغ خاطره دائما ولولا ذلك تنزل عليه البلية ما دام في الدنيا.

25 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن عثمان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مثل المؤمن كمثل خامة الزرع تكفئها الرياح كذا وكذا وكذلك المؤمن تكفئه الأوجاع والأمراض، ومثل المنافق كمثل الإرزبة المستقيمة التي لا يصيبها شيء حتى يأتيه الموت فيقصفه قصفا.

* الشرح:

قوله (مثل المؤمن كمثل خامة الزرع تكفئها الرياح كذا وكذا وكذلك المؤمن تكفئه الأوجاع والأمراض) مر شرحه في باب أن المؤمنين صنفان.

(ومثل المنافق كمثل الإرزبة المستقيمة التي لا يصيبها شيء حتى يأتيه الموت فيقصفه قصفا) الإرزبة بكسر الهمزة مع التثقيل والجمع أرازب وفي لغة: مرزبة بميم مكسورة مع التخفيف، والعامة تثقل مع الميم، قال ابن السكيت: وهو خطأ، والجمع مرازب بالتخفيف أيضا وهي عصية من حديد يكسر بها الحجر والمدر والقصف: الكسر، تقول قصفت العود قصفا فانقصف مثل كسرته فانكسر وزنا ومعنى وربما استعمل لازما أيضا فقيل قصفته فقصف، والمقصود من هذا التمثيل أن المنافق يؤخذ بغتة أخذا شديدا وهو أشد أنواع الأخذ.

ومثل هذه الرواية رواها مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تكفئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها حتى يأتيه أجله، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا تصيبها حتى يكون انجعافها مرة واحدة» وفي رواية أخرى «مثل الكافر» قال عياض: الخامة هي الزرع أول ما ينبت، ومعنى «تكفيها» بضم التاء: تميلها الريح وتلقيها بالأرض كالمصروع ثم تقيمه يقوم على سوقه، ومعنى المجذية: الثابتة، يقال أجذى يجذى، والانجعاف: الانقطاع، يقال: جعفت الرجل صرعته. وقال محي الدين: الأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء: شجر معروف بالشام ويسمى بالعراق الصنوبر، والصنوبر انما هو ثمره وسمي الشجر باسم ثمره، وحكى الجوهري في راء الأرزة بالفتح، وقال بعضهم هي الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة، وأنكره أبو عبيد، قال أهل اللغة: الآرزة بالمد: النابتة، وهذا المعنى صحيح هاهنا، فإنكار أبي عبيد إنكار الرواية لا إنكار اللغة، وقال أبو عبيد: شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الريح لأنه يرزأ في نعمته وأهله وماله، وشبه الكافر بالأرزة لأنه لا يرزأ

ص:216

في شيء حتى يموت، وإن رزىء لم يوجر حتى يلقى الله تعالى بذنوب جمة.

26 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لأصحابه: ملعون كل مال لا يزكى، ملعون كل جسد لا يزكى ولو في كل أربعين يوما مرة، فقيل: يا رسول الله أما زكاة المال فقد عرفناها فما زكاة الأجساد؟ فقال لهم: أن تصاب بآفة، قال: فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه، فلما رآهم قد تغيرت ألوانهم قال لهم: أتدرون ما عنيت بقولي، قالوا: لا يا رسول الله، قال: بلى الرجل يخدش الخدشة وينكب النكبة ويعثر العثرة ويمرض المرضة ويشاك الشوكة وما أشبه هذا - حتى ذكر في حديثه اختلاج العين -.

* الشرح:

قوله (قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لأصحابه) هذا الحديث شرحه الشيخ (رضي الله عنه) في الأربعين ونحن نذكر شرحه تيمنا (ملعون كل مال لا يزكى) أي بعيد عن الخير والبركة يعنى لا خير فيه لصاحبه ولا بركة، ويجوز أن يراد ملعون وصاحبه على حذف مضاف أي مطرود مبعد عن رحمة الله تعالى، وقس عليه قوله (ملعون كل جسد لا يزكى) ذكر الزكاة هنا من باب المشاكلة ويجوز أن يكون استعارة تبعية ووجه الشبه أن كلا منهما وإن كان نقصا بحسب الظاهر إلا أنه موجب لمزيد الخير ولا بركة في نفس الأمر.

أقول كل مال يمكن حمله على العموم سواء كانت الزكاة فيه واجبة أم لا لأن في كل مال حقا للسائل والمحروم.

(ولو في كل أربعين يوما مرة) أقول هذه غاية المدة المضروبة للحوق اللعن أما قبلها فلا لعن وأما بعدها فيشتد ويضعف اللعن بحسب زيادة الزمان ونقصانه.

(فقيل يا رسول الله أما زكاة المال فقد عرفناها) أقول: عرفوها لعلمهم بأنها قدر معين من مال معين واجبة كانت أم مندوبة وقدر يقدره الباذل في ماله الفاضل على تقدير التعميم (فما زكاة الأجساد؟ فقال لهم أن تصاب بآفة) أقول زكاة الجسد وإن كانت أعم من الآفة لشمولها الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة أيضا إلا أنها غير مرادة هنا.

(قال فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه) لأنهم ظنوا أن مراده (صلى الله عليه وآله) بالآفة هنا العاهة والبلية الشديدة التي كثيرا ما يخلو عنها الإنسان سنين عديدة فضلا عن أربعين يوما.

(فلما رآهم قد تغيرت ألوانهم قال لهم أتدرون ما عنيت بقولي) أقول يدل هذا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

لا يقال ليس فيه تأخير البيان لأن الخبر ليس فيه تكليف بعمل، غاية ما في

ص:217

الباب هناك تكليف باعتقاد فيما يقول.

لأنا نقول: لم نعلم أن أحدا فرق في تأخير البيان بين المسايل العلمية والعملية وأدلتهم في المسألة تدل على عدم الفرق وقد أشرنا إليه في أصول الفقه (قالوا: لا يا رسول الله. قال: بلى الرجل يخدش الخدشة) يخدش بالبناء للمفعول وكذا ينكب، والخدشة تفرق اتصال في الجلد من ظفر ونحوه سواء خرج معه دم أم لا.

(وينكب النكبة) أقول: النكبة هي ما يصيب الإنسان من حوادث الدهر، والجمع النكبات، مثل:

السجدة والسجدات.

(ويعثر العثرة) المراد بها عثرة الرجل ويجوز أن يراد بها ما يعم عثرة اللسان أيضا لكنه بعيد، أقول العثار والعثرة بالفارسية «بسر در آمدن ولغزيدن»، إلا أن العثرة للمرة والفعل من باب قتل وفي لغة من باب ضرب ويقال للزلة عثرة لأنها سقوط في الإثم.

(ويمرض المرضة) أقول هي للمرة والفعل من باب علم لازم يقال مرض الإنسان مرضا، ويعدى بالألف فيقال أمرضه الله، والمرض حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وقيل: المرض:

كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر.

(ويشاك الشوكة) يقال شاكته الشوكة تشوكه شوكة وشيكة إذا دخلت في جسده، وانتصاب الشوكة بالمفعولية المطلقة كانتصاب الخدشة والنكبة والعثرة، فإن قلت: تلك المصادر بخلاف الشوكة فإنها واحدة الشوك وهو من الشجر معروف فكيف يكون مفعولا مطلقا؟ قلت: يجيء المفعول المطلق غير مصدر إذا لابس المصدر بالآلية ونحوها، نحو: ضربته سوطا، وإن أبيت فاجعل انتصابها بنزع الخافض أي يشاك بالشوكة.

(وما أشبه هذا) يحتمل أن يكون من كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وأن يكون من كلام الراوي.

(حتى ذكر في حديثه اختلاج العين) عده (صلى الله عليه وآله) من جملة الآفات لأن اختلاج العين مرض من الأمراض وقد ذكره الأطباء وهو حركة سريعة متواترة غير عادية تعرض لجزء من البدن كالجلد ونحوه بسبب رطوبة غليظة لزجة تنحل فتصير ريحا بخاريا غليظا يعسر خروجه من المسام وتزاول الدافعة دفعه فيقع بينهما مدافعة واضطراب - أقول فسر (صلى الله عليه وآله) تسلية للمؤمنين الآفة على وجه يعم الآفات المذكورة ودونها، وأمثال هذه الآفات لا يخلو المؤمن عنها في المدة المذكورة ولو فرض خلوه عنها فهو ملعون لا بمعنى أنه بعيد عن الرحمة الواسعة الربانية مطلقا بل عن هذه الرحمة التي تصل إليه من جهة هذه الآفة لأن الآفة رحمة من الله يرفع بها بعض الذنوب ويكفره ويرفع الدرجة، والله أعلم.

27 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) أيبتلى المؤمن بالجذام والبرص وأشباه هذا؟ قال: فقال: وهل كتب البلاء إلا على المؤمن.

ص:218

28 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن رواه، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن: ليكرم على الله حتى لو سأله الجنة بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينقص من ملكه شيئا وإن الكافر ليهون على الله حتى لو سأله الدنيا بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينقص من ملكه شيئا وإن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الغائب أهله بالطرف وإنه ليحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

* الشرح:

قوله (إن المؤمن ليكرم على الله حتى لو سأله الجنة بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينقص من ملكه شيئا وإن الكافر ليهون على الله حتى لو سأله الدنيا بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا) انتقاص «كم كردن وكم شدن» فهو متعد ولازم، والأول هو المراد هنا يفهم منه أن المؤمن لو سأل تمام الدنيا أو بعضها لم يعطه لأنه يحميه عنها لمصلحة عائدة إليه ولأن الدنيا مبغوضة والمؤمن محبوب، والمبغوض لا يناسب المحبوب، وإنه لا يسأل تمام الجنة لعلمه بأن لغيره من المؤمن نصيبا فيها فطلب الاختصاص محال.

لا يقال: الشرطية تقتضي تحقق الإعطاء على تقدير وقوع السؤال، ووقوع السؤال أمر ممكن فيلزم تحقق الإعطاء عند سؤال مؤمن ذلك.

لأنا نقول: وقوع السؤال وإن كان ممكنا في نفسه إلا أنه ممتنع بالغير وهو العلم باستحالة الاختصاص، والموقوف على الممتنع بالغير ممتنع بالغير أيضا، على أن الشرطية خرجت مخرج المبالغة في تعظيم المؤمن وأن الدنيا مبغوضة لا قدر لها عند الله حيث يعطيها عدوه وأن الكافر لو سأل الجنة لا يجيبه لأنها محرمة على الكافرين وأنه لا يسأل تمام الدنيا لعلمه بأن غيره من الخلق مرزوق فيها واعتبر فيه سائر ما ذكرناه، والله أعلم وقد مر شرح باقي الحديث في هذا الباب.

29 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في كتاب علي (عليه السلام) أن أشد الناس بلاء النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل; وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، وذلك أن الله عز وجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر ومن سخف دينه وضعف علمه قل بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن النقي من المطر إلى قرار الأرض.

* الشرح:

قوله (وذلك أن الله عز وجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر) ولو جعلها كذلك لما منع المؤمن من الدنيا ولما اختبره بالبلاء ولما سقى الكافر فيها شربة من الماء وإنما جعل الآخرة كذلك فلذلك يعطي المؤمن فيها ما تقر به عينه من الثواب ويعاقب الكافر فيها بأنواع من

ص:219

العقاب، ولا ينبغي للمؤمن الفقير الممتحن بالبلاء أن يغتم لأنه مشارك للأنبياء والأولياء، ولا للغني الخلي منه أن يغتر ويفتخر لأنه مشارك للكفرة والجهلاء (وأن البلاء أسرع إلى المؤمن التقى من المطر إلى قرار الأرض) شبه البلاء النازل إلى المؤمن بالمطر النازل إلى الأرض للإيضاح، والوجه متعدد وهو السرعة والاستقرار بعد النزول وكثرة النفع والتسبب للحياة فإن البلاء سبب للحياة الأبدية والمطر سبب للحياة الأرضية.

30 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن هذا الذي ظهر بوجهي يزعم الناس أن الله لم يبتل به عبدا له فيه حاجة، قال: فقال لي: لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا - ويمد يديه - ويقول: (يا قوم اتبعوا المرسلين) ثم قال لي: إذا كان الثلث الأخير من الليل في أوله فتوض وقم إلى صلاتك التي تصليها فإذا كنت في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فقل وأنت ساجد: «يا علي يا عظيم يا رحمن يا رحيم يا سامع الدعوات يا معطي الخيرات صل على محمد وآل محمد وأعطني من خير الدنيا والآخرة ما أنت أهله وأصرف عني من شر الدنيا والآخرة ما أنت أهله وأذهب عني بهذا الوجع - وتسميه - فإنه قد غاظني وأحزنني» وألح في الدعاء. قال: فما وصلت إلى الكوفة حتى أذهب الله به عني كله.

* الشرح:

قوله (فقال لي لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا - ويمد يديه - ويقول (يا قوم اتبعوا المرسلين)) لعل المراد بهذا المؤمن صاحب ياسين المذكور سابقا، وبفرعون فرعون عيسى (عليه السلام) وهو حاكم الأنطاكية لا فرعون موسى (عليه السلام) والفرعون يطلق على كل جبار متكبر، نعم شاع إطلاقه على ثلاثة: فرعون الخليل واسمه سنان، وفرعون يوسف واسمه الريان بن الوليد، وفرعون موسى واسمه الوليد بن مصعب. ويؤيد ما قلنا قوله (يا قوم اتبعوا المرسلين) فإن مؤمن آل فرعون موسى قال: (يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد) وإضافته إلى فرعون عيسى باعتبار أدنى الملابسة وهو كونه فيهم واشتغاله بانذارهم أو باعتبار كونه منهم في نفس الأمر، والله أعلم (وألح في الدعاء) إلحاح «مبالغة كردن وايستادن ودائم باريدن سحاب»، قال في المصباح: ألح السحاب إلحاحا: دام مطره، ومنه ألح الرجل على الشيء إذا أقبل عليه مواظبا.

ص:220

باب فضل فقراء المسلمين

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد بن سنان، عن العلاء، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ثم قال: سأضرب لك مثل ذلك إنما مثل ذلك مثل سفينتين مر بهما على عاشر فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئا، فقال: أسربوها ونظر في ا [لا] خرى فإذا هي موقرة فقال:

احبسوها.

* الشرح:

قوله (إن فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا) روى مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا» قال صاحب النهاية: الخريف الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء، ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة فإذا انقضى أربعون خريفا فقد مضت أربعون سنة، وفسره صاحب المعالم بأكثر من ذلك كثيرا، وفي بعض رواياتنا أنه ألف عام والله أعلم.

ثم الظاهر أن التفاوت بهذه المدة إذا كان الأغنياء من أهل الصلاح والسداد والتزموا الحقوق المالية ولم يكتسبوا من وجه الحرام فيكون حبسهم لمجرد خروجهم عن عهدة الحساب والسؤال عن مكسب المال ومخرجه وحقوقه ورعاية الفقراء والأيتام والأرامل والأرحام والجار وعن التقصير في بعض العبادات لاشتغال قلبه بكسبه وحفظه وإلا فهم على خطر عظيم ونجاتهم في مشية الله.

ويفهم منه أن الفقر أفضل من الغنى ومن الكفاف للصابر، وما وقع في بعض الروايات من استعاذتهم (عليهم السلام) من الفقر يمكن حمله على الاستعاذة من الفقر الذي لا يكون معه صبر ولا ورع يحجز عما لا يليق بأهل الدين والمروة أو من فقر القلب وفقر الآخرة وقد صرح به بعض العلماء ودل عليه بعض الروايات.

وللعامة في تفضيل الفقر على الغنى والكفاف أو العكس أربعة أقوال ثالثها الكفاف أفضل ورابعها الوقف، ومعنى الكفاف أن لا يحتاج ولا يفضل، وقال بعضهم: الغنى والفقر أفضل من الكفاف، ولكل واحد استدلال لا يناسب المقام ذكره.

ص:221

(ثم قال سأضرب مثل لك ذلك) أي دخول الفقراء في الجنة قبل الأغنياء (إنما مثل ذلك مثل سفينتين مر بهما على عاشر) هو من يأخذ عشر المال ويقال له العشار أيضا مبالغة وفعله من باب قتل (فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئا فقال أسربوها) أي أرسلوها من أسربه إذا ارسله وبعثه وهكذا حال الفقراء (ونظر في الأخرى فإذا هي موقرة) بالأسباب والأحمال، والموقرة على صيغة الفاعل أو المفعول من باب الإفعال يقال أوقرت النخلة إذا كثر حملها فهي موقرة وأوقرت بالبناء للمفعول صار عليها حمل ثقيل (فقال احبسوها) إلى أن يخرج من عهدة ما عليه وهكذا حال الأغنياء.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن سعدان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): المصائب منح من الله والفقر مخزون عند الله.

* الشرح:

قوله (المصائب منح من الله) المنح: العطاء، منحته منحا من بابي نفع وضرب: أعطيته، والاسم المنحة بالكسر وهي في الأصل: الشاة التي يعطيها صاحبها رجلا ليشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع اللبن ثم كثر استعماله حتى أطلق على كل عطاء، وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن يفرح صاحب المصائب بها كما يفرج صاحب العطية بها حيث عد المصائب عطية لأن العطية ما ينتفع به والمصائب كذلك وإن كانت في المذاق مرة كما أن الدواء النافع للمريض عطية وإن كان في مذاقه مرا.

(والفقر مخزون عند الله) لخواصه وأوليائه يوصله إليهم تحفة لهم، ويحتمل أن يكون التقدير:

وجزاء الفقر مخزون، وفيه تنبيه على كمال منزلته ومنزلة أهله.

3 - وعنه رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه، فمن ستره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم ومن أفشاه إلى من يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله، أما إنه ما قتله بسيف ولا رمح ولكنه قتله بما نكأ من قلبه.

* الشرح:

قوله (ولكنه قتله بما نكأ من قلبه) نكأت القرحة أنكؤها مهموز بفتحتين: قشرتها، ونكأت في العدو نكأ من باب نفع أيضا، وفي لغة: نكيت فيه أنكى من باب رمى، والاسم: النكاية بالكسر إذا قطعت وأثخنت.

4 - عنه عن محمد بن علي، عن داود الحذاء، عن محمد بن صغير، عن جده شعيب، عن مفضل

ص:222

قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كلما ازداد العبد إيمانا ازداد ضيقا في معيشته.

* الشرح:

قوله (كلما ازداد العبد إيمانا ازداد ضيقا في معيشته) نظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وكل الرزق بالحمق ووكل الحرمان بالعقل» وقوله:

كم من أديب عالم فطن * مستكمل العقل مقل عديم وكم من جهول مكثر ماله * ذلك تقدير العزيز العليم ولعل سر ذلك أن الإكثار موجب للتكبر والخيلاء واحتقار الناس والجفاء والخشونة والقسوة والغفلة بسبب اشتغال المكثرين بأموالهم مع كثرة ما وجب عليهم من الحقوق التي قل من يؤديها، وبذلك يتعرضون لسخط الله وبعدهم عن رحمته فلذلك جعل الله عز وجل ازدياد الايمان الموجب لازدياد المحبة سببا لضيق معيشة المحبين لطفا وإكراما ليحفظهم عن المفاسد المذكورة.

فطب أيها العاقل اللبيب نفسك بما رضي الله لك من المعاش واكتف بالحلال عن الحرام وبما رزقك الله عما لم يعطك فإنه خير لك وكاف لسد جوعتك ولا تضيع عمرك في طلب ما زاد.

5 - وبإسناده قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لولا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها.

* الشرح:

قوله (لولا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها) لأن الله تعالى يحبهم ويحب تقربهم منه. والدنيا على تفاوت درجاتها مانعة من قربه فيمنعهم منها لئلا يشغل قلوبهم بها، ثم إنه يستجيب دعاءهم في طلب الزيادة لئلا تنكسر قلوبهم وقد يصرف قلوبهم عن الثقة بها ويميلها إلى الثقة به وذلك أيضا من توابع المحبة.

6 - عنه، عن بعض أصحابه، رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما اعطي عبد من الدنيا إلا اعتبارا وما زوي عنه إلا اختبارا.

* الشرح:

قوله (ما أعطي عبد من الدنيا إلا اعتبارا ولا زوي عنه إلا اختبارا) جعل الغني غنيا ليرى ما دونه فيشكر، وجعل الفقير فقيرا ليرى ما فوقه فيصبر، والكل ممتحن بامتحانات أخر ومختبر باختبارات أخفى وأظهر، وبالجملة كل ما في الدنيا فهو لاختبار العبد، وحقيقة الاختبار طلب الخبر ومعرفته لمن لا يكون عارفا به، ولما كان الله عز وجل عالما بمضمرات القلوب وخفيات الغيوب كان عالما

ص:223

بالمطيع والعاصي فليس نسبة الاختبار إليه بحقيقة بل مجاز باعتبار أن فعله ذلك مع عباده ليترتب عليه الجزاء مشابه بفعل المختبر منا مع صاحبه.

7 - عنه، عن نوح بن شعيب وأبي إسحاق الخفاف، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس لمصاص شيعتنا في دولة الباطل إلا القوت، شرقوا إن شئتم أو غربوا لن ترزقوا إلا القوت.

* الشرح:

قوله (ليس لمصاص شيعتنا في دولة الباطل إلا القوت) المصاص خالص كل شيء يقال فلان مصاص قومه أي خالصهم نسبا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، والقوت ما يؤكل ليمسك الرمق، قاله ابن الفارس والأزهري، وقيل: هو البلغة يعني قدر ما يبلغ به من العيش ويسمى ذلك أيضا كفافا لأنه قدر يكفه عن الناس ويغنيه عن سؤالهم وهذا القدر يدفع الفاقة ويوجب الراحة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت» والوجه فيه أن من رضي بالقوت وتوكل على الحي الذي لا يموت لم يفتقر إلى غيره لأجل المسكنة. وقال أيضا:

«من اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة في الزائد مفتاح النصب ومطية التعب».

ثم بالغ في أن نصيبهم القوت بقوله (شرقوا إن شئتم أو غربوا لن ترزقوا إلا القوت) وهو كناية عن الجد في الطلب والسير في أطراف الأرض فإنه تعالى يمنع خلصهم عن الزائد من القوت لطفا بهم وحفظا لهم عن مفاسد الزائد، وينبغي للعاقل الطالب للحق أن يترك طلب الزيادة ويتصور أن كل أحد انما يأكل قوته ويكفيه ذلك في البقاء والتعيش وأن الزيادة وبال عليه.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن الأشعري، عن بعض مشايخه، عن إدريس بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي الحاجة أمانة الله عند خلقه، فمن كتمها على نفسه أعطاه الله ثواب من صلى، ومن كشفها إلى من يقدر أن يفرج عنه ولم يفعل فقد قتله، أما إنه لم يقتله بسيف ولا سنان ولا سهم ولكن قتله بما نكأ من قلبه.

9 - عنه، عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن سعدان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين، شبيها بالمعتذر إليهم، فيقول وعزتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم علي ولترون ما أصنع بكم اليوم فمن زود منكم في دار الدنيا معروفا فخذوا بيده فأدخلوه الجنة قال: فيقول رجل منهم: يا رب إن أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النساء ولبسوا الثياب اللينة وأكلوا الطعام وسكنوا الدور وركبوا المشهور من الدواب فأعطني مثل ما أعطيتهم. فيقول تبارك وتعالى: لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا

ص:224

منذ كانت الدنيا إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفا.

* الشرح:

قوله (ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم) ويعلم بحكم المقابلة أنه تعالى ما أغنى أحدا للتعظيم والتكريم به، وبالجملة إعطاء المال وغيره ليس تكريما وتعظيما ومنعه ليس إهانة وتحقيرا بل كل واحد من المنع والإعطاء اختبار وامتحان ولكن الفقر خير من الغنى مع الصبر على مشاقة لما فيه من قطع التعلق بغيره تعالى. وفيه رد على من زعم من الجهلة من أن الفقراء لو كانوا من خواص الله وأوليائه وأهل كرامته لم يبتلهم بالشدائد والمكاره، وهل يرى أحد يبتلي محبه كما قال فرعون لموسى (عليه السلام) (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) وقال كفرة قريش (أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) قالوا ذلك لجهلهم بمصالح الفتنة والاختبار ومواضع الغنى والإقتار، وللفقراء أن يقولوا: لو كان الأغنياء من خواص الله وأوليائه لم يمنحهم بالمال الذي يذكر الدنيا ويقسو القلب وينسى الآخرة فالمال بلية عظيمة لا أنه خيرات عجل الله تعالى لهم، كيف وقد قال الله تعالى (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) ثم أشار إلى أنه تعالى يشرف الفقراء بشرف درجة الشفاعة لمن أحسن إليهم من الأغنياء والناس في الحساب بقوله: (فمن زود منكم في دار الدنيا معروفا) أي أعطاه (فخذوا بيده فأدخلوه الجنة) فيأخذون بيد من أطعمهم بطعام وسقاهم بماء وألبسهم بلباس وأعانهم في حاجة ويدخلون الجنة والناس في الحساب فعلم أن احتياج الأغنياء إلى الفقراء أشد من العكس.

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن عقبة، عن إسماعيل بن سهل وإسماعيل بن عباد، جميعا يرفعانه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان من ولد آدم مؤمن إلا فقيرا ولا كافر إلا غنيا حتى جاء إبراهيم (عليه السلام) فقال: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) فصير الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة.

* الشرح:

قوله (فصير الله في هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة) فصار الناس أربعة أصناف موسع عليه في الدنيا والآخرة وهو المؤمن الصالح الغني الشاكر. ومقتور عليه فيهما وهو الكافر الفقير، وموسع عليه في الدنيا فقط وهو الكافر الغني، وموسع عليه في الآخرة فقط وهو المؤمن الفقير الصابر.

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عمن ذكره، عن أبي

ص:225

عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل موسر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقي الثوب فجلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أخفت أن يمسك من فقره شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا، قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن. وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمعسر: أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرجل: ولم؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك.

* الشرح:

قوله (فجلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)) أي مع رسول الله أو عنده (فجاء رجل معسر درن الثوب) درن بفتح الدال وكسر الراء صفة مشبهة من الدرن بفتحهما وهو الوسخ درن الثوب درنا من باب تعب فهو درن مثل وسخ وسخا فهو وسخ وزنا ومعنى.

(فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه) قال الشيخ: ضمير «فخذيه» يعود إلى الموسر، أي جمع الموسر ثيابه تحت فخذيه وضمها تحت فخذي نفسه لئلا يلاصق ثياب المعسر ويحتمل عوده إلى المعسر، و «من» على الأول إما بمعنى «في» أو زايدة على القول بجواز زيادتها في الإثبات، وعلى الثاني لابتداء الغاية، والعود إلى الموسر أولى كما يرشد إليه قوله (صلى الله عليه وآله) (فخفت أن يوسخ ثيابك) لأن ثيابه لو كانت تحت فخذي المعسر لأمكن أن يكون قبضها من تحت فخذيه خوفا من أن يوسخها في نفس الأمر فلا يكون هذا التقريع في مرتبة الكمال كما يكون التقريعان السابقان في مرتبته.

(فقال يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن) أي إن لي شيطانا يغويني ويجعل في نظري القبيح حسنا والحسن قبيحا وهذا العمل الشنيع من جملة إغوائه، وفي النهاية ما من أحد إلا وكل به قرينه أي مصاحبه من الملائكة والشياطين فقرينه من الملائكة يأمره بالخير وقرينه من الشياطين يأمره بالشر، والمراد بالقرين هاهنا هو الثاني.

(قد جعلت له نصف مالي) مقابلا لكسرى قلبه وزجرا لنفسي عن مثل هذه الزلة (قال أخاف أن يدخلني ما دخلك) من الكبر والغرور والترفع على الناس واحتقارهم وغيرها من الأخلاق الذميمة اللازمة للمال، والغرض من الحديث بيان لما لزم المال من القبايح والمفاسد وإظهار أن اللائق بحال الفقراء رده للفرار من مفاسده.

12 - علي بن إبراهيم، عن علي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود

ص:226

المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في مناجاة موسى (عليه السلام): يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته.

* الشرح:

قوله (إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين) الشعار: ما ولي الجسد من الثياب، والشعار: العلامة أيضا، والفقر من شعار الصالحين وصفاتهم مثل الأنبياء والأولياء، والغنى من شعار الظالمين والمتكبرين مثل الفراعنة وأشياعهم، والأمر بترحيبه إشارة إلى التلقي بقبوله والرضا به من صميم القلب لأنه يوجب دخول أهله في حزب الصالحين وحسن أولئك رفيقا (وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته) لعل المراد بالذنب: الغنى، وبالعقوبة: البعد عن الحق في الدنيا وهو من أعظم العقوبات، وقد شبه أمير المؤمنين (عليه السلام) أهل الدنيا تارة بالكلاب والذئاب وأخرى بالأنعام والدواب في أنهم يزرعون أياما قليلة في مزرع الدنيا ويتركون عنان الطبيعة في أيدي الهوى ويعرضون عن حقوق المولى فيحشرون يوم القيامة أعمى، ويحتمل أن يراد بالذنب غير الغنى وبالعقوبة الغنى.

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): طوبى للمساكين بالصبر وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض.

* الشرح:

قوله (طوبى للمساكين بالصبر وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض) لعل المراد أن المساكين الزاهدين في الدنيا الراغبين عن زهراتها، الصابرين في البأساء والضراء، الشاكرين لخالق الأرض والسماء يفتح الله عيون قلوبهم ويرون ملكوت السماوات والأرض وينظرون في الظلمات البشرية إلى الأسرار الإلهية، ويشاهدون في الأبدان الناسوتية الإشراقات اللاهوتية وربما يتفاوت ذلك التجلي بتفاوت حالاتهم في الصبر والشكر والسير إلى الله سبحانه وبذلك يتفاوت ذلك التجلي بتفاوت حالاتهم في الصبر والشكر والسير إلى الله سبحانه وبذلك يتفاوت نور الايمان في قلوبهم وبذلك يتفاوت الرؤية، والله يؤيد بنصره من يشاء.

14 - وبإسناده قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا معشر المساكين طيبوا نفسا وأعطوا الله الرضا من قلوبكم يثبكم الله عز وجل على فقركم، فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم.

* الشرح:

قوله (وأعطوا الله الرضا من قلوبكم يثبكم الله عز وجل على فقركم فإن لم تفعلوا فلا ثواب لكم)

ص:227

الفقر نعمة من الله على عبده فإذا رضي به كان رضاه شكرا يستحق به الأجر والثواب، وإن سخط منه كان سخطه كفرانا لتلك النعمة فلا يستحق الثواب، نعم لو كان عدم الرضا عبارة عن ميل قلبه إلى الغنى دون السخط والاعتراض على قسمة الحق فالظاهر أن له ثوابا دون ثواب الراضي.

وملخص القول: أن للفقير ثلاثة أحوال أحدها الرضا بالفقر والفرح به وهو شأن الأولياء والأصفياء، وثانيهما الرضا به دون الفرح وله أيضا ثواب دون الأول، وثالثها عدم الرضا به والكراهة في القسمة وهذا لا ثواب له أصلا.

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عيسى الفراء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى مناديا ينادي بين يديه أين الفقراء؟ فيقوم عنق من الناس كثير، فيقول: عبادي! فيقولون: لبيك ربنا، فيقول: إني لم أفقركم لهوان بكم علي ولكني إنما اخترتكم لمثل هذا اليوم تصفحوا وجوه الناس فمن صنع إليكم معروفا لم يصنعه إلا في فكافوه عني بالجنة.

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إبراهيم الحذاء، عن محمد بن صغير، عن جده شعيب، عن مفضل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لولا إلحاح هذه الشيعة على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى ما هو أضيق منها.

17 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن محمد بن الحسين بن كثير الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال لي: أما تدخل السوق؟ أما ترى الفاكهة تباع؟ والشيء مما تشتهيه؟ فقلت: بلى، فقال: أما إن لك بكل ما تراه فلا تقدر على شرائه حسنة.

18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن علي بن عفان، عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله جل ثناؤه ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في الدنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه، فيقول: وعزتي وجلالي ما أحوجتك في الدنيا من هوان كان بك علي، فارفع هذا السجف فانظر إلي ما عوضتك من الدنيا، قال: فيرفع فيقول: ما ضرني ما منعتني مع ما عوضتني.

* الشرح:

قوله (فارفع هذا السجف) السجف بالفتح ويكسر وككتاب: الستر.

19 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة قام عنق من الناس حتى يأتوا باب الجنة فيضربوا باب الجنة، فيقال لهم:

من أنتم؟ فيقولون: نحن الفقراء، فيقال لهم: أقبل الحساب؟ فيقولون: ما أعطيتمونا شيئا تحاسبونا

ص:228

عليه، فيقول الله عز وجل: صدقوا ادخلوا الجنة.

20 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن مبارك غلام شعيب قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل يقول إني: لم اغن الغني لكرامة به علي ولم أفقر الفقير لهوان به علي وهو مما ابتليت به الأغنياء بالفقراء ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة.

* الشرح:

قوله (وهو مما ابتليت به الأغنياء بالفقراء) جملة ما في الدنيا خيرها وشرها، عسرها ويسرها، منافعها ومضارها جعلت اختبارا وامتحانا للخلق سبحانه، كما ابتلى بعضهم بالفقر اختبارا لصبره على المكاره وغيره، كذلك اختبر بعضهم بالغني امتحانا لشكره وصبره على ما يثقل عليه من رعاية حال الفقراء بشيء من أمواله، وقوله:

(ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة) إشارة إلى كثرة مفاسد الغنى وإلى أن نجاة الأغنياء منحصرة في رعاية أحوال الفقراء الذين هم عيال الله وعيال رسوله والتفاتهم إلى تدارك ما يحتاجون إليه ببذل شيء من أموالهم وسد خلتهم ورفع حاجتهم.

21 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن إسحاق بن عيسى، عن إسحاق ابن عمار والمفضل بن عمر قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): مياسير شيعتنا امناؤنا على محاويجهم، فاحفظونا فيهم يحفظكم الله.

* الشرح:

قوله (مياسير شيعتنا أمناؤنا على محاويجهم) المفعال يجمع على مفاعيل كالمثقال على مثاقيل (فاحفظونا فيهم يحفظكم الله) أي يحفظكم الله في أموالكم وأنفسكم فدل على أن الأغنياء لو لم يراعوا حال الفقراء سلبت منهم النعمة لأنه إذا ظهرت الخيانة من المؤتمن استحق أن يؤخذ ما في يده. يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن لله تعالى عبادا يختصهم بالنعم لمنافع العباد فيقرها في أيديهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها ثم حولها إلى غيرهم»، أقول: فاللائق بحال ذي القدرة أن يشتري درجات الجنة وصحته وبقاء ثروته بمواساة ذوي الحاجات، ويحتمل أن يكون «يحفظكم الله» جملة دعائية.

22 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الفقر أزين للمؤمن من العذار على خد الفرس.

ص:229

* الشرح:

قوله (الفقر أزين للمؤمن من العذار على خد الفرس) أي في الحسن أو الحفظ والمنع لأن الفقر يحفظ النفس من الطغيان كما أن العذار يمنع الفرس من العصيان، والعذار بالكسر من الفرس كالعارض من وجه الإنسان، ثم سمى السير الذي على خده من اللجام عذارا باسم موضعه، وفي المهذب: العذار سر أفسار والعذاران «دوال از دو سوى روى أسب».

23 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال، سألت علي بن الحسين (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل: (ولولا أن يكون الناس امة واحدة) قال: عنى بذلك امة محمد (صلى الله عليه وآله) أن يكونوا على دين واحد كفارا كلهم (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) ولو فعل الله ذلك بأمة محمد (صلى الله عليه وآله) لحزن المؤمنون وغمهم ذلك ولم يناكحوهم ولم يوارثوهم.

* الشرح:

قوله (عنى بذلك أمة محمد (صلى الله عليه وآله)) أريد بذلك هنا الناس، وبالأمة الأمة المدعوة والمستجيبة جميعا وأريد بالأمة في قوله (ولو فعل ذلك بأمة محمد (صلى الله عليه وآله)) غير المستجيبة وبذلك الجعل المذكور، وأشير بقوله: (ولم يناكحوهم ولم يوارثوهم) إلى أن كونهم أمة واحدة كفرة على تقدير الجعل المذكور من جهة انقطاع النسل والايمان لعدم التناكح والتناسل دون الارتداد، والغرض أن منع الكفار من بعض الدنيا لاسترضاء المؤمنين لئلا يحزنوا بمشاهدة عدوهم في النعمة والزينة الكاملة فيهلكهم الحزن أو ينقطع النسل فيصير كل الأمة كفارا، والله أعلم.

ص:230

باب

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبان بن عبد الملك قال:

حدثني بكر الأرقط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو عن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه دخل عليه واحد فقال: أصلحك الله إني رجل منقطع إليكم بمودتي وقد أصابتني حاجة شديدة وقد تقربت بذلك إلى أهل بيتي وقومي فلم يزدني بذلك منهم إلا بعدا، قال: فما آتاك الله خير مما أخذ منك. قال:

جعلت فداك ادع الله لي أن يغنيني عن خلقه، قال: إن الله قسم رزق من شاء على يدي من شاء ولكن سل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه.

* الشرح:

قوله (فما آتاك الله خير مما أخذ منك) المراد بالموصول الأول إما الفقر أو حب الأئمة (عليهم السلام) والانقطاع إليهم، وأما الموصول الثاني فالمراد به الغني ومتاع الدنيا.

(ولكن سل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه) اللئام جمع اللئيم وهو البخيل ومن ليس له مروة وفتوة وذلك لأنه لا يقضي حاجة أحد وربما يلومه في رفع الحاجة إليه أو يمنه بقضائها ومثله الظالم والفاسق المعلن بفسقه، وفي الأدعية «اللهم لا تجعل لظالم ولا فاسق علي يدا ولا منة» وذلك لأن القلب مجبول على حب من أحسن إليه، وفي حب الظالم معاصي كثيرة ولذلك قال الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الفقر الموت الأحمر، فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال: لا ولكن من الدين.

* الشرح:

قوله (الفقر الموت الأحمر) شبه الفقر بالموت في الكرب والشدة، ووصفه بالأحمر مبالغة في شدته لأن أشد الموت ما كان بالقتل وسفك الدم.

(فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) «الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال: لا ولكن من الدين» نظير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الفقر والغنى بعد العرض على الله» والمعنى أنهما يتبينان ويظهران بعد العرض على الله والفراغ من الحساب وهو ما أشار إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له. فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة

ص:231

ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار (1) بل قد يقال إن المفلس حقيقة هو هذا وأما من ليس له مال أو من قل ماله فالناس يسمونه مفلسا وليس هو بمفلس وفقير حقيقة لأن هذا الإفلاس ينقطع بموته وربما ينقطع بيسار في حياته بخلاف ذلك المفلس الفقير فإنه هالك دائما ويحتمل أن يراد بقوله (عليه السلام) «ولكن من الدين» الفقر القلبي وضده الغنى القلبي، فالفقير على هذا من ليس له في الدين معرفة وعلم بأحكامه ولا تقوى وورع وغير ذلك من الصفات الحسنة، وهذا أيضا أشد من الفقر المتعارف بل لا نسبة بينهما.

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا * لا بارك الله في الدنيا بلا دين

ص:232


1- 1 - أخرجه مسلم في صحيحه ج 1 ص 18 من حديث أبي هريرة.

باب ان للقلب اذنين ينفث فيهما الملك والشيطان

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قلب إلا وله اذنان، على إحداهما ملك مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها، وهو قول الله عز وجل: (عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).

* الشرح:

قوله (ما من قلب إلا وله أذنان على إحديهما ملك مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن) الظاهر أن المراد بالقلب النفس الناطقة وهي جوهر روحاني متوسط بين العالمين عالم روحاني صرف وعالم جسماني يفعل فيما دونه وينفعل عما فوقه، وإثبات الإذن له من باب الاستعارة والتشبيه في إدراك الأقوال وهو بمثابة مرآة تجتاز عليه أصناف الصور المختلفة أما من طرق الحواس الظاهرة والباطنة أو من العالم الروحاني (1) فهو دائما محل للحوادث الإدراكية وموضوع للأحوال النفسانية فدائما

ص:233


1- 1 - قوله «أو من العالم الروحاني» هذا ظاهر مشهود في النفوس الانسانية إذ ليست إدراكاتها منحصرة فيما يأتي إليها من الحواس الظاهرة والباطنة بل لها إدراكات يأتي إليها من عالم آخر غير العالم المشهود، وبالجملة النفس برزخ بين عالمي الغيب والشهادة فيدرك الإنسان عالم الشهادة وهو عالم الأجسام بأعضائه الجسمانية ويدرك عالم الغيب بقوة غير جسمانية، ولو كان إدراكه بالحس فقط لكانت معلوماته قليلة جدا فاعتبر ذلك بحال الصبي الرضيع والرجل البالغ المحنك كلاهما مشتركان في الحس، فالصبي يرى الألوان والأضواء ويرى أمه ومن حوله ويسمع الصوت نداء كما يرى ويسمع البالغ، وكلما يدرك البالغ زائدا على الرضيع فإنما يدركه بغير حسه مثل أن الصورة في المرآة لا حقيقة لها وأن اللون ليس موجودا جوهريا قائما بنفسه بل هو في جسم حامل له وأن الكواكب والأجسام البعيدة أعظم مما يرى منها وغير ذلك، فكل المعلومات والمعقولات الحاصلة له مدركات بغير حسه. ملاك الفرق والامتياز بين الحس وغير الحس أن كل قوة تزيد وتنقص وتشتد وتضعف بضعف مزاج بعض أعضاء البدن وقوته فهي حسية وكل قوة لا تتغير لتغير العضو فهي غير جسمانية مثال الأول الإبصار فإن ضعفه تابع لضعف العين وقوته تابعة لقوتها، والسمع فإنه تابع للأذن كذلك، ومثال الثاني التعقل فإنه لا يضعف بضعف أي عضو في البدن فالمهندس في زمان شيخوخته يتعقل المثلث كما كان يتعقل في شبابه وليس معنى المثلث أخفى عند عقله بخلاف الإبصار فإن الخطوط والنقوش عند بصره في الشيخوخة أخفى عنده منها في أيام شبابه بل التعقل بعكس الإبصار يشتد عند ضعف البدن وبالجملة إدراك الإنسان تلك المعقولات الكثيرة التي تزيد على محسوساته أضعافا مضاعفة (بل نسبة المحسوسات إليها أقل من نسبة الواحد إلى آلاف آلاف كنسبة معلومات الرضيع إلى معلومات أعاظم الحكماء) ليس إدراك هذه المعلومات الكثيرة بالحس من عالم الشهادة بل بالعقل من عالم الغيب والحس معد لصاحب العقل لا لفاقده كالرضيع، ولا ريب أن الأعدام لا تمايز بينها فلو لم يكن قوة مسماة بالعقل موجودة في الإنسان الحكيم لم يكن تمايز بينه وبين الرضيع إذ كلاهما واجدان للحس وعادمان للعقل إن فرض عدم قوة مسماة بالعاقلة. ويمكنك أن تجري كلامنا في القوى الباطنة أيضا مثلا الواهمة معنى واحد يعرض للحيوان وقتا ما ويزول من غير أن يكسب منه علما، فالرضيع يحزن لفقد أمه ويسر بحضورها، وهذا الحزن أو السرور حالة واحدة تعرض له في وقت واحد ثم يزول، وخيال المرئي مثلا كذلك لا يوجب كسب علم بل هو جزئي يوجد وقتا ما وحافظة لما أدركه جزئيا مثله، بل نقول ذلك في الفكر أيضا فإنه حالة جسمانية غير العقل عارضة للدماغ لو لم يكن قوة مسماة بالعاقلة مستعملة إياه لم يتحرك لتتبع المعقولات وتركيبها وتفصيلها بل كان يقتصر على تركيب المحسوسات فقط. وبالجملة فهذه القوة العاقلة باب مفتوح على الإنسان من العالم الروحاني به يطلع على عالم الغيب إن لم يدنسها بالاقتصار على الكليات المتعلقة بالموجودات الدنيوية ولم يشتغل بالتفكر في الدنيا عن الآخرة وإلا فهو بمنزلة طائر يطير عن المزبلة ثم يهبط إليها. ثم اعلم وتفطن أنا نتمسك لإثبات تجرد العاقلة بعدم حصول الضعف لا بكثرة المعقولات في الشيخوخة فإن ضعف البصر يدل على جسمانيته وإن كثر به المبصرات كما يأتي قريبا إن شاء الله. (ش).

ينتقل من حال إلى حال، وتلك الحوادث والأحوال المسماة بالخواطر محركات للإرادة والأشواق، وهي محركات للعزم والنية، وهي محركة للقوة والقدرة، وهي محركة للأعضاء فيصدر الفعل خيرا كان أو شرا عنهما عن هذه المبادئ المترتبة، وهذا معنى ما روي «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها (1)» ثم تلك الخواطر المحركة للإرادة تنقسم إلى قسمين (2) قسم يدعو إلى الخيرات وقسم يدعو إلى الشرور فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر الداعي إلى الخير يسمى إلهاما، والخاطر الداعي إلى الشر يسمى وسواسا، وهما لما كانا حادثين والحادث يحتاج إلى سبب وجب أن تكون أسبابهما القريبة مختلفة، فسبب الالهام يسمى ملكا (3) وسبب الوسواس يسمى

ص:234


1- 1 - تقدم في كتاب الحجة باب معرفة الإمام ج 5 ص 167.
2- 2 - قوله «تلك الخواطر المحركة للإرادة تنقسم إلى قسمين» يعنى أن كل ما يأتي إليها من طرق حواسه خاطر داع إلى الشر وكل ما يأتي إليها من غير حواسه خاطر داع إلى الخير لأن العقل لا يدعو إلى الشر البتة. فإن رأيت بعض أفراد الإنسان استعمل عاقلته في جمع حطام الدنيا وتحصيل علوم لا ينفع إلا في الدنيا ويضر بالآخرة فإنما دعاه إلى ذلك حبه للمحسوسات وركونه إليها وعاد الشر إلى الحس بالأخرة (ش).
3- 3 - قوله «فسبب الالهام يسمى ملكا» سبق من الشارح أن داعي الخير يأتي إلى القوة العاقلة من العالم الروحاني وهو عالم الملائكة فلابد أن يكون سبب الإلهام ملكا وأما داعي الشر فمن الحواس ولا يدعو الحس نفسه إلى شيء فإذا أبصر الرجل شيئا فربما لا يتشوق إلى القرب منه ولا إلى الهرب عنه. فالشوق أمر زائد على الحس غير حاصل للحواس الظاهرة ويسمون القوة التي بها يتشوق الحيوان الواهمة، والواهمة قوة جسمانية ولا شيء من الجسم يتغير عن حاله إلا أن يغيره غيره. فلو خلي جسم ونفسه بقي على حاله مستمرا فالواهمة لا تتغير عن حالها ولا تحصل فيها حالة الشوق بعد العدم إلا بسبب، وليس هذا بسبب الحس الظاهر وإلا لكان كل من أحس شيئا اشتاق إليه أو تنفر عنه وليس كذلك فلابد أن يكون السبب شيئا آخر ينضم إلى الحس وباجتماعها يحصل الشوق فإن كان ذلك لسبب هو العقل فهو داع إلى الخير بإلهام الملك، وخارج عن موضوع بحثنا فلابد أن يكون السبب الداعي إلى الشر شيئا آخر غير العقل وهو الشيطان. ولابد من هذا التفصيل هنا لأن كلام الشارح يوهم أن الشيطان هو نفس الحواس الظاهرة والباطنة وليس مراده ذلك قطعا بل الشيطان موجود آخر مسلط على الحواس غير مسلط على العقل وله سبيل إلى باطن العروق ولا سبيل له إلى داخل القلب، ولما كان أصل كلام الشارح مقتبسا من كلام صدر المتألهين (قدس سره) ننقل كلامه هاهنا توضيحا وتأييدا لما فصلناه; قال في مفاتيح الغيب: إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة وكل حادث لابد له من سبب ومهما اختلفت الحوادث دل على اختلاف الأسباب لكن الاختلاف إن كان بحسب العوارض والخارجيات فيحتاج إلى اختلاف القوابل والاستعدادات وإن كان الاختلاف بحسب الحقائق والمنوعات فيفتقر إلى اختلاف العلل الفاعليات، ولما كان اختلاف الخواطر بحسب الخيرات والشرور وكان الاختلاف بينهما اختلافا حقيقيا ذاتيا فيكون الاختلاف بين مبدأ الالهام ومبدأ الوسواس أيضا كذلك، وهذا مما يشاهد من سنة الله في ترتيب المسببات على الأسباب فمهما استنار حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه بسواد الدخان علمت أن سبب الاسوداد غير سبب الاستنارة كذلك لأنوار القلب وظلماته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا، واللطف الذي به يتهيأ القلب لقبول إلهام الملك يسمى توفيقا والذي يتهيأ لقبول وسوسة الشيطان يسمى خذلانا، والملك عبارة عن جوهر روحاني نوراني خلقه الله، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف وقد سخره الله لذلك، والشيطان عبارة عن موجود روحاني ظلماني شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالمنكر والتخويف عند الهم بالخير بالفقر ونحوه. انتهى ما أردنا نقله والشارح كما ترى حذف في تعريف الشيطان قوله موجود روحاني ظلماني واكتفى عن ذلك بقوله خلق فصار كلامه موهما (وعذره انصراف لفظ الروحاني إلى الخير) وقالوا يجب الاجتناب في التعريفات عن الكلام المشتبه والمشترك، والخلق يشمل كل شيء حتى المحسوسات والروحاني خاص بالمجردات، وإن أمر بالشر (ش).

شيطانا. والأمر الذي به يتهيأ القلب لقبول الهام الملك يسمى توفيقا وهداية، والأمر الذي به يتهيأ لقبول وسوسة الشيطان يسمى إغواء وخذلانا فالملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى لإلهام الحق والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك فالشيطان في مقابلة الملك والوسواس في مقابلة الإلهام، والإغواء والخذلان في مقابلة التوفيق والهداية، فالقلب دائما متجاذب بين الملك والشيطان، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها ويأمر بالخيرات فإن تبع أمر الشيطان بإمضاء القوة الشهوية والغضبية واختبار الأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة ظهر تسلطه على الملك وصار القلب ملكه يتصرف فيه ما يشاء كيف شاء، وإن تبع أمر الملك وسلك سبيل الخيرات وترك الهوى والشهوات واتصف بالعلم والطهارة والتقوى والاشتياق إلى الآخرة والزهد في الدنيا ظهر تسلطه

ص:235

على الشيطان وصار القلب ملكا له ومهبطا للإلهامات ومعدنا للمعارف والكرامات وموردا للأنوار والإشراقات ومندرجا في زمرة الروحانيين والملائكة المقربين. والله يؤيد بنصره من يشاء وهو على كل شيء قدير.

2 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن للقلب اذنين فإذا هم العبد بذنب قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: افعل وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان.

* الشرح:

قوله (أن للقلب أذنين فإذا هم العبد بذنب قال له روح الايمان لا تفعل، وقال له الشيطان: افعل، وإذا كان على بطنها نزع منه روح الايمان) للنفس طريق إلى الخير وطريق إلى الشر وللخير مشقة حاضرة زائلة ولذة غائبة دائمة، وللشر لذة حاضرة فانية ومشقة غائبة باقية والنفس يطلب اللذة ويهرب عن المشقة فهو دائما متردد بين الخير والشر فإذا هم بخير قال له روح الايمان وهو الملك الموكل به: افعل وأوحى إليه منافعه. وقال له الشيطان: لا تفعل وألقى إليه بواعثه; وإذا هم بذنب له قال له روح الايمان لا تفعل وقال له الشيطان افعل، فيقع بينهما تدافع فيقول له الشيطان عند ذلك:

ما هذا الزهد ولم تمتنع عن هذه اللذة الحاضرة؟ وهل ترى أحدا يخالف هواه ويترك نفعه الحاضر ومبتغاه؟ وهل تريد أن يزيد صلاحك على فلان وفلان وقد فعلوا ما تمتنع منه؟ وإن خفت من العقوبة الآجلة فإن باب التوبة والإنابة مفتوح والله غفور رحيم، إلى غير ذلك من البواعث على مطلبه فيميل النفس إلى الشيطان ويصغي إلى زخرف أقواله وعند ذلك يقوم الملك بالإرشاد ويقول: لم تسمع ما ألقى إليك عدوك وهل هلك إلا من اتبع اللذة الحاضرة ونسي سوء العاقبة وقنع بلذة يسيرة في مدة قليلة وترك السعادة الأبدية واللذة الحاضرة ونسي سوء العاقبة وقنع بلذة يسيرة في مدة قليلة وترك السعادة الأبدية واللذة الباقية؟ ولو وقع الناس في المهالك أفتقع فيها وترك الذنب أهون من طلب التوبة؟ أفما ترى أن كثيرا من المذنبين يموتون بلا توبة وللتوبة شرائط قلما تحصل ومغفرة الرب لمن يشاء فلعل مشيته لا تتعلق بك؟ ورحمته للمحسن فلعلك لا تكون من المحسنين؟ وهكذا يقع بينهما مقاولات ويتلو كل واحد فصلا مشبعا من مطالبه ولا يزال النفس يتردد بينهما حتى يستقر على ما شاء الله وعلى ما هو أشد مناسبة له فإن كان الغالب

ص:236

فيه الصفات الملكية صار من حزب الله وجرى على جوارحه الطاعة ودخل في زمرة المقربين وإن كان الغالب فيه الصفات الشيطانية ظهر على جوارحه الأعمال الشنيعة كالزناء وغيره فعند ذلك يفر منه روح الايمان لئلا يشاهد معصية الجبار تعظيما له، أو ليتباعد عمن يستحق العذاب كما خرج لوط عن القرية التي أمطرت عليها مطر السوء بعد التقليب، أو لغلبة غيظه على ذلك المحل، ثم إنه يعود بعد الفراغ كما دل عليه بعض الروايات إن بقي إيمانه ويقع بينهما مقاولة مرة بعد أخرى، وقد لا يعود إن كان الذنب موجبا لزوال الايمان بالكلية، وبالجملة: الإنسان مريض، والمعصية بمنزلة المرض، والطاعة بمنزلة الدواء، والملك بمنزلة طبيب يدله على الدواء، والشيطان بمنزلة عدو يأمره بتناول الداء، والمريض إذا لم يعمل بما يأمره الطبيب الحاذق المشفق وعمل بما يأمر به العدو الجاهل تركه الطبيب بحاله ويصرف عنه عنان عنايته وإقباله، اللهم إني أسألك نصرة الملك وصلاح العمل وأطلب منك الدراية والهداية، وأعوذ بك من إغواء الشيطان في البداية والنهاية، إنك قريب مجيب.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من مؤمن إلا ولقلبه اذنان في جوفه: اذن ينفث فيها الوسواس الخناس واذن ينفث فيها الملك، فيؤيد الله المؤمن بالملك، فلذلك قوله: (وأيدهم بروح منه).

* الشرح:

قوله (ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه أذن ينفث فيها الوسواس الخناس وأذن ينفث فيه الملك). في طريق العامة «أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» قال الأزهري: معناه أنه لا يفارق ابن آدم ما دام حيا كما لا يفارقه دمه، وقال: هذا على طريق ضرب المثل، وجمهورهم حملوه على ظاهره وقالوا: إن الشيطان جعل له هذا القدر من التطرق إلى باطن الآدمي بلطافة هيئته فيجري في العروق (1) التي هي مجاري الدم إلى أن يصل إلى قلبه فيوسوسه على حسب ضعف

ص:237


1- 1 - قوله «بلطافة هيئته فيجري في العروق» كل لفظ لا يقبل الحمل على المعنى المادي الجسماني يؤول عند بعض أهل الظاهر، والثابت في ذهن الجمهور أن الشيطان موجود جسماني كأفراد الإنسان والحيوان، فإن قيل لهم: كيف لا يرى؟ قالوا: إنه لطيف كالهواء. وإن قيل: كيف يدخل من الباب المسدود في البيت الذي لا منفذ له إلى الخارج؟ قالوا: إنه للطافته يقدر على النفوذ من المنافذ الضيقة كالدخان. فإن قيل: إن فرض عدم المنافذ أصلا بحيث لا يكون دخول الهواء والدخان بل الرائحة ممكنا؟ قالوا: يمكنه للطافته أن يعبر الجدر من غير أن يشقها للطافته ولا يستحيل تداخل الجسمين من غير خرق والتيام. فإن قيل: الجسم اللطيف بهذه اللطافة كيف يقدر على الأفعال الشديدة التي يعجز عنه أقوياء الإنس كما فعلوا لسليمان؟ قالوا: لا منافاة بين اللطافة والقدرة، وهكذا يقال فيما لو اعترضوا على دخوله في العروق وأنه يزاحم الدم الجاري والروح البخاري الساري في العروق قالوا: إنه للطافته لا يزاحم الأجسام الأخر، وأهل المعرفة أيضا يوافقون الجمهور في جميع ذلك فإنهم يقولون ليس سنخ أجسام الشياطين من سنخ هذه الأجسام المشهودة ولذلك ينفذون في الحس المشترك في النوم من غير طريق الحواس الظاهرة، وهذا النفوذ غير ممكن في الأجسام المادية ولكن المتوسطين من أهل الظاهر يتحيرون ولا يجدون طريقا للتخلص إلا بإنكار بعض ما ورد في الأخبار المستفيضة أو تأويلها بوجه متعسف بعيد نظير ما نقله الشارح عن الأزهري، وهذا طريق خطر والسلامة في التسليم. (ش).

إيمان العبد وقلة ذكره وكثرة غفلته ويبعد عنه ويقل تسلطه وسلوكه إلى باطنه بمقدار قوته ويقظته ودوام ذكره وإخلاص توحيده.

ونقل عن ابن عباس: أنه تعالى جعله بحيث يجري من بني آدم مجرى الدم وصدور بنى آدم مسكن له كما قال (من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس) والجنة الشياطين، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله): «إن الشيطان ليجثم على قلب بني آدم له خرطوم كخرطوم الكلب إذا ذكر العبد الله عز وجل خنس أي رجع على عقبيه وإذا غفل عن ذكر الله وسوس» فاشتق له اسمان من فعليه: الوسواس من وسوسته عند غفلة العبد، والخناس من خنوسه عند ذكر العبد، وقيل: الناس عطف على الجنة، والإنسي لا يصل في وسوسته بذاته إلى باطن الآدمي فكذا الجنة في وسوسته، وأجيب بأن الإنس ليس له ما للجن من اللطافة، فعدم وصول الإنس إلى الجوف لا يستلزم عدم وصول الجن إليه.

ثم إن الله تعالى بلطفه جعل للإنسان حفظة من الملائكة وأعطاهم قوى الإلهام والإلمام بهم في بواطن الإنسان في مقابلة لمة الشيطان كما روي «إن للملك لمة بابن آدم وللشيطان لمة، لمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليحمد الله، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق فمن وجد من ذلك شيئا فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم».

ص:238

باب الروح الذي أيد به المؤمن

اشاره:

1 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى، جميعا، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن مسلم، عن أبي سلمة، عن محمد بن سعيد بن غزوان، عن ابن أبي نجران، عن محمد بن سنان، عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه وتسيخ في الثرى عند إساءته فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرأ هم بخير فعمله أوهم بشر فارتدع عنه، ثم قال:

نحن نويد الروح بالطاعة لله والعمل له.

* الشرح:

قوله (إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي) لعل المراد بالروح هنا الملك كما مر، وبالإحسان الإتيان بالطاعات، وبالاتقاء الاجتناب عن المنهيات.

(وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي) أي يتجاوز عن حدود الشريعة ويظلم على نفسه أو على غيره (فهي معه تهتز) أي تتحرك (سرورا عند إحسانه) سروره لمشاهدة طاعة الرب وتعظيمه وصلاح العبد وقربه.

(وتسيخ في الثرى عند إساءته) أي تدخل فيه دخول الرجل في الماء فإذا فرغ عاد وفيه ترغيب في اجتناب الذنوب وتخويف بمفارقة هذه النعمة الجليلة لامكان أن لا تعود أصلا لسد النفس الامارة مسالك عودها بزبر الشهوات.

(فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم) بترك الرذائل من الأخلاق والأعمال وتحصيل الفضائل منهما فإنكم إن تعاهدتم بذلك (تزدادوا يقينا) فإن الإنسان بإصلاح النفس ومحاسبتها وتزكيتها كما ينبغي يترقى عن درجة علم اليقين ويبلغ مرتبة حق اليقين التي يشاهد فيها جمال الأسرار اللاهوتية (1) وكمال الأنوار الملكوتية (وتربحوا نفيسا ثمنيا) وهي الجنة ودرجاتها العالية

ص:239


1- 1 - قوله «يشاهد فيها جمال الأسرار اللاهوتية» اللذة الحاصلة للإنسان بعد موته أعظم وأشد بكثير مما يحصل له في الدنيا من الشهوات فإنها خالية عن الكدورة أولا ومأمونة من الزوال ثانيا ولأنه لا يعقل أن يكون الموجود الدنيوي كالحمار أسعد من الروحانيين وأن يكون الموجود الروحاني محروما من السعادات، ثم يمكنك أن تتأمل في كلامهم هنا وتعرف منه أن الكمال بشدة العقل والإدراك لا بكثرة المعقول وبينهما فرق كما أن قوة الإبصار وكماله ليس بكثرة المبصرات، فرب شيخ ضعيف البصر رأى أمورا كثيرة في بلاد كثيرة طول عمره وشاب حديد البصر لم ير إلا ما حوله في بلده، ويستدل بضعف بصر الشيخ على أن الإبصار جسماني وإن كثر مبصراته، ويستدل في الشيخ على عدم كون عقله جسمانيا بقوة عقله لا بكثرة معقولاته لأن كثرة المعقولات مع ضعف العقل لا يدل على تجرده، وعين اليقين أكمل من علم اليقين من جهة شدة وضوح المعقول لا من جهة كثرته وكذلك حق اليقين بالنسبة إلى عين اليقين، وحصول عين اليقين وحق اليقين للإنسان يدل على كون النفس مجردة إذ لا يحصل هذه الأمور من إدراك الحس البتة. ثم اعلم أن من أهم مبادئ علم الأخلاق إثبات بقاء النفس وبقاء ملكاتها الحسنة أو السيئة معها وقد سبق منا مكررا، وإنما يشتبه على الجاهل قوى النفس الجسمانية بذات النفس إذ يرى الجاهل أن السمع والبصر والذاكرة والمتخيلة تضعف بضعف البدن وتضمحل بانحلال المزاج والموت فيتوهم أن النفس ذاتها أيضا تضمحل ولا يعرف إذ لا يدقق النظر في أن الحس شيء والشعور بالحس شيء آخر والحافظة شيء والتذكر شيء والفكر شيء والتعقل الذي لا يضعف ولا يضمحل بفناء البدن شيء غير ذلك، كلها وكثرة المعقولات شيء وووضح التعقل شيء آخر والاستدلال على تجرد النفس بالأخير. (ش).

والسعادة الباقية وقرب الأخيار في دار القرار.

(رحم الله امرأ هم بخير فعمله) بلا تأخير لئلا يفوته بإغواء الشيطان ومكائد النفس وطريان النسيان (أو هم بشر فارتدع عنه) تعظيما لله ورجاء في ثوابه وخوفا من عقابه (ثم قال نحن نؤيد الروح بالطاعة لله والعمل له) إشارة إلى أن الروح لا تفارقهم آنا من الآنات لأنهم لا يعصون الله وقتا من الأوقات، في بعض النسخ: «نزيد» بالزاي المعجمة وله وجه ظاهر إن أريد بالروح نور الإيمان، والله أعلم.

ص:240

باب الذنوب

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله.

* الشرح:

قوله (ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة) إن قلت: كل ما يفسد القلب فهو خطيئة فما معنى التفضيل وأي شيء المفضل عليه؟ قلت: لا نسلم ذلك (1) فإن كثيرا من المباحات والأمراض والآلام يفسد القلب وليس بخطيئة وهي أعم من الخطايا الظاهرة مثل الأعمال القبيحة إذ للظاهر تأثير في الباطن ومن الخطايا القلبية كالعقائد الفاسدة والهم بالمعصية، وقوله: (إن القلب ليواقع الخطيئة) كما يناسب الثانية ظاهرا يناسب الأولى أيضا كما لا يخفى.

(فما تزال به حتى تغلب عليه) إن لم ترفع بالتوبة الخاصة والاستغفار.

(فيصير أعلاه أسفله) أي تكدره وتسوده لأن الأعلى صاف والأسفل دردي من باب التمثيل فإذا صيرت أعلاه أسفله لزم ما ذكرناه، أو تصيره مائلا إلى الباطل بكله لأن أعلاه طرفه المائل إلى الحق وأسفله طرفه المائل إلى الباطل. فإذا جعلت أعلاه أسفله جعلت كله مائلا إلى الباطل، أو جعلته كالكوز المنكوس (2) لا يدخل فيه شيء من الحق، وخرج ما دخل فيه فيصير خاليا من الحق

ص:241


1- 1 - قوله «قلت لا نسلم ذلك» قال العلامة المجلسي (رحمه الله) قلت: لا نسلم ذلك فإن كثيرا من المباحات تفسد القلب بل بعض الأمراض والآلام (و) الهموم والوساوس أيضا تفسده وإن لم تكن مما تستحق عليه العذاب وهي أعم من الخطايا الظاهرة - إذ للظاهر تأثير في الباطن (بل عند المتكلمين الواجبات البدنية لطف في الطاعات القلبية) - ومن الخطايا القلبية كالعقائد الفاسدة والهم بالمعصية (والصفات الذميمة كالحقد والحسد والعجب وأمثالها) انتهى، وما جعلناه بين الهلالين مما زاده العلامة المجلسي «ره» على عبارة الشارح. وأما قوله عند المتكلمين الواجبات البدنية لطف في الطاعات القلبية فالظاهر أنه سهو أو مسامحة وإنما قال المتكلمون: «التكاليف الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية» وهو حق وكلا التكليفين الشرعي والعقلي أعم من أن يكون بدنيا أو قلبيا. وأما قوله «والصفات الذميمة» ففيه مسامحة أيضا لأن الصفة تتبادر منها الذهن إلى الثابتة بغير اختيار وليس مثلها خطيئة ومراد المجلسي «ره» الجري على مقتضى الحسد والحقد في العمل لا أن وجود الصفة خطيئة. (ش).
2- 2 - قوله «كالكوز المنكوس» تمثيل لما ذكره بقوله أو تصيره مائلا إلى الباطل والعلامة المجلسي «ره» جعله وجها ثالثا. قال فيصير أعلاه أسفله أي يصير منكوسا كالإناء المقلوب المكبوب لا يستقر فيه شيء من الحق ولا يؤثر فيه شيء من المواعظ، ثم قال: هذا الذي خطر بالبال أظهر الأقوال من جهة الأخبار، انتهى. والفرق بينه وبين كلام الشارح تبديل الكوز بالإناء وأما كونه وجها مخالفا له أو للوجوه الأخر التي نقلها ففيه خفاء، وكون ما خطر بباله أظهر الأقوال أخفى. (ش).

والمعارف، مظلما قابلا لجميع المفاسد نعوذ بالله من ذلك.

2 عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الله بن مسكان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فما أصبرهم على النار) فقال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.

* الشرح:

قوله (فما أصبرهم على النار فقال ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار) هذا التأويل يحتمل أمرين أحدهما حذف المضاف أي على سبب النار وهو الفعل المذكور، وثانيهما إطلاق المسبب على المسبب.

3 - عنه عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) قال: ثم قال: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به.

* الشرح:

قوله (أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب) إن قلت: لزم من هذا أن لا تردد الآلام على الأنبياء والأوصياء لعدم تحقق سببها وهو الذنب فيهم، واللازم باطل بالاتفاق، ولما مر قلت: لا نسلم انتفاء السبب فيهم فإن الذنوب متفاوتة بالذات وبالنسبة إلى الأشخاص، فترك الأولى ذنب بالنسبة إليهم فلذلك قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ويؤيده ما أصاب آدم ويونس وغيرهما بسبب تركهم ما هو أولى بهم، ولئن سلم فقد يصاب البريء بذنب الجري وكما مر، على أنه يمكن تخصيص ذلك بغيرهم جمعا بينه وبين ما دل على أن الغرض من ابتلائهم رفع درجاتهم التي لا مدخل لكسب الإنسان فيها.

(وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به) الذنوب كما تدفعها التوبة والآلام، يدفعها أيضا العفو، والأصل فيه أنه كما لا يرجع إليه سبحانه نفع لطاعة العباد كذلك لا يرجع إليهم ضرر بمعصيتهم.

وقد وصف

ص:242

نفسه بأنه غفور وغفار وأنه يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك، وأنه لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وأخبر بأنه يغفر الذنوب مطلقا فلابد من أن يقع مغفرتها إما بالتوبة، أو بالآلام، أو بالعفو ولا قصور في وصفه بالمغفرة حتى يتوقف ظهورها منه على الأولين ومن تاب أو تألم خرج من الذنب فلابد من وقوع العفو عنه في غيرهما ليبقي الآية على عمومها، وأيضا من المعلوم في وصف الكريم أن يعفو في حقه وأيضا قد أمرنا في مواضع بالعفو ويبعد أن لا يعفو هو، وبالجملة في الآيات والروايات حث بليغ على دوام الرجاء لمغفرته تعالى وإن كثرت الذنوب، وحسم مادة الإياس والقنوط من رحمته. إذ فيهما جحد لكرمه وإنكار لمغفرته ورحمته وذلك خروج عن التوحيد.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من نكبة يصيب العبد إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر.

5 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ولا يأمن البيات من عمل السيئات.

* الشرح:

قوله (لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة) الإبداء: الإظهار، وتقول: أبديته إذا أظهرته، وتعديته ب «عن» لتضمنه معنى الكشف، والوضوح: الانجلاء والانكشاف. يقال: وضح من باب وعد أي انجلى وانكشف. وفي المصباح: الواضحة: الأسنان تبدو عند الضحك. وفيه ردع عن الضحك وزجر عن الأعمال القبيحة وحث على محاسبة النفس، فإن من حاسبها وعرف قبح أفعالها وشناعة أعمالها واستولت عليه الخشية والهيبة، وانقطعت عنه الراحة واللذة وداس في قلبه عساكر الهموم فاستحق أن يبكي بحاله دون أن يضحك، ويؤيده ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» إشارة إلى علمه بما في عالم الغيب من أحوال البرزخ وأهوال القيامة والنار ودركاتها وشدائدها فإن من عرفها حق المعرفة بنور الايمان لابد من أن يبكي على نفسه.

(ولا يأمن البيات من عمل السيئات) البيات: الإغارة ليلا وهو اسم من بيته تبيتتا إذا دبره في الليل، وتبييت العدو هو أن يقصد في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ، وهو بالفارسية «شبيخون كردن وبشب كار ساختن»، وفيه وعيد للمذنب بالعقوبات العاجلة.

6 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي اسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: تعوذوا بالله من سطوات الله بالليل والنهار، قال: قلت له: وما سطوات

ص:243

الله؟ قال: الأخذ على المعاصي.

* الشرح:

قوله (تعوذوا بالله من سطوات الله) سطا عليه وبه يسطو سطوا وسطوة قهره وأذله وهو البطش بشدة (قال الأخذ على المعاصي) يعنى عاجلا، والأخذ عليها أعم من الإهلاك والابتلاء ببلية.

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن سليمان الجعفري عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الذنوب كلها شديدة وأشدها ما نبت عليه اللحم والدم، لأنه إما مرحوم وإما معذب، والجنة لا يدخلها إلا طيب.

* الشرح:

قوله (قال: الذنوب كلها شديدة) (1) وإن كان بعضها أشد من بعض ووجه شدتها أنها مخالفة لأمر الرب الجليل وموجبة للعذاب الوبيل.

(وأشدها ما نبت عليه اللحم والدم) يشمل أكل الحرام والإصرار على معصية من غير تكفيرها بالتوبة (لأنه إما مرحوم وإما معذب) لعل المرحوم من كفرت ذنوبه بالتوبة أو البلايا أو العفو، والمعذب من لم تكفر ذنوبه بأحد هذه الوجوه.

(والجنة لا يدخلها إلا طيب) أي طاهر خالص من الذنوب. ويشكل هذا بما دل على أن العصاة

ص:244


1- 1 - «الذنوب كلها شديدة» قال علماؤنا: إن الذنوب جميعها معصية ومخالفة لأمر الرب وموجب لاستحقاق العقاب ولا فرق بينها من هذه الجهات، والكبائر والصغائر نسبية، فقد يكون بعض الذنوب بالنسبة إلى ذنب كبيرة وبالنسبة إلى غيره صغيرة كالجرح بالنسبة إلى القتل صغيرة وبالنسبة إلى اللطم كبيرة والزناء بالنسبة إلى القبلة كبيرة وبالنسبة إلى اللواط صغيرة، وليس بين الكبر والصغر حد فاصل يميز بينهما بحيث يكون الكبائر محدودة في حد خاص لا يتجاوزها، وما أوعد الله عليها النار في الكتاب صريحا أكبر مما لم يوعد عليه وما صرح بحرمته فيه أكبر مما لم يصرح لأن ذكر معصية بالخصوص في الكتاب يدل على أهميتها نظيره في عرف الناس البلد الصغير والبلد الكبير والدار الواسعة والدار الضيقة والمشهور والخامل وأعاظم القوم وأصاغرهم والمتاع الغالي والرخيص والمثري والمقل وغير ذلك مما لا حد فاصل بين مراتبها ولذلك لم يعدد في الشرع عدا جازما وعلى هذا فاللمم الذي لا يقدح في العدالة هو الذي يتفق اتفاقا للإنسان من غير أن يصر عليه كما يدل عليه لفظ اللمم وأما الكبائر التي وعد الله عليها النار في القرآن فيقدح في العدالة وإن كان لمما أي اتفاقا نادرا من غير إصرار بدليل خاص كالآية المصرحة بأن القذف يوجب الفسق وأنه لا يقبل من صاحبه الشهادة إلا أن يتوب، والصحيح أن العدل في صفة الشاهد في القرآن أي الرجل المستوي عند الله لا يشمل من ارتكب ذنبا مطلقا وإن كان اتفاقا، ومن ارتكب فقد مال عن الاستواء وهو الأصل في الباب يخرج عنه اللمم في الصغائر بالدليل القطعي، ومع الشك فالأصل الخروج من العدالة وأراد بعضهم حصر الكبائر في عدد معدود بحد فاصل بين الصغر والكبر وهو تكلف غير ممكن البتة بحسب الأدلة. (ش).

من المؤمنين يدخلون الجنة بالشفاعة أو بالعفو، ويمكن أن يؤول ذلك بأنه لا يدخلها بدون الشفاعة أو العفو إلا طيب أو بأنه لا يدخلها ابتداء بلا مجازاة إلا طيب، أو بأنه تعالى ينزع عنهم الذنوب فيدخلونها وهم طيبون من الذنوب ويؤيده قوله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غل) الآية.

8 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق.

* الشرح:

قوله (أن العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق) لعل السر في ذلك أن الحكمة البالغة اقتضت تطهير المذنب بالمصائب والبلايا، وصرف الرزق عنه من أعظم المصائب لأن الفقر من كاسرات الظهر. فإن قلت قد نرى كثيرا من الفسقة والكفرة مرزوقين في سعة. قلت: هذا أيضا تعذيب واستدراج كما دلت عليه الآيات والروايات ولله أن يعذب عباده بما يشاء. على أنه يمكن أن يقال:

ذلك الصرف والمنع مختص بمن أراد الله تعالى انصرافه من الذنوب واستيقاظه عن الغفلة من المؤمنين الذين استعدوا لقبول الخير.

9 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن محمد بن إبراهيم النوفلي، عن الحسين بن مختار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ملعون ملعون من عبد الدينار والدرهم. ملعون ملعون من كمه أعمى، ملعون ملعون من نكح بهيمة.

* الشرح:

قوله (ملعون ملعون من عبد الدينار والدرهم) اللعن: الطرد والإبعاد من الخير. والرجل لعين وملعون، ولعل المراد بعبادة الدينار والدرهم حبهما، والمحبوب إله كما قال سبحانه (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) ولعل المراد بالحب الحب المانع من أداء الحقوق المالية وصلة الأرحام ورعاية حال الفقراء والأرامل والجيران ولا يبعد أن يكون حكم غيرهما كحكمهما، وتخصيصهما بالذكر لأن التعلق بهما أعظم وأكثر، ولا ينافي هذا الخبر الأخبار الدالة على وجوب حفظ المال وتحريم تضييعه إذ ليست فيها دلالة على جواز المحبة، والتعلق به والوثوق والركون إليه كما يتكلون عليه أبناء الدنيا.

(ملعون ملعون من كمه أعمى) كمه يكمه من باب علم عمى، والأكمه الذي يولد أعمى. وربما يقال للذي عمي بعد، وكمه أيضا حار حيرة، ومنه الكامه الذي يركب فرسه لا يدري أين يتوجه

ص:245

وفلان يتكمه في الأرض، وكمهه بالتشديد أعماه وحيره أيضا، ولعل المراد هنا من حير الأعمى بأن يضله عن طريقه أو لا يهديه إليها، ويمكن أن يراد بالأعمى أعمى القلب الذي لا يهتدي إلى الحق فيكون وعيدا لمن أخرجه منه أو لم يهده إليه والله يعلم.

10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا، يقول أحدكم: أذنب وأستغفر، إن الله عز وجل يقول: (سنكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، وقال عز وجل: (إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير).

* الشرح:

قوله (اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا) لا يغفل عنها ويؤاخذ بها (يقول أحدكم أذنب وأستغفر) في المصباح: الذنب: الإثم والجمع ذنوب، وأذنب: صار ذا ذنب بمعنى تحمله، والظاهر أن هذا بيان ومثال للمحقرات فإن هذا القائل يحقر ذنبه ويقول إنه سهل يرفعه الاستغفار ولا يدري أن الذنب من حيث إنه معصية الله العظيم عظيم، ولا ينبغي للمؤمن أن يحقر شيئا من ذنوبه وقد لا يغفر الله تعالى لأجل تحقيره إياه كما روى زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر» قلت: وما المحقرات؟ قال: «الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك» ثم أشار إلى بيان قوله «فإن لها طالبا» وإلى بعض ما يصنعه الطالب تحذيرا عن الذنوب وهو أنه يكتبها ويحفظها ليشاهدها فاعلها بعد الخروج من الدنيا بقوله: ان الله عز وجل يقول (سنكتب ما قدموا) من الأعمال مطلقا صالحة كانت أم فاسدة.

(وآثارهم) من حسنة أذاعوها وسيئة أظهروها وبقي أثرهما بعدهم كتعليم علم وتأسيس ظلم مثلا، وقيل: أريد بالآثار آثار أقدام المشائين إلى المساجد، وقيل: أريد بها الأعمال وب «ما قدموا» النيات المقدمة عليها، وعلى التقادير فيه حث بليغ على الخير، وزجر عظيم عن الشر، فإن الثبت معلوم والمحو بالاستغفار وغيره غير معلوم.

(وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) فيه تنبيه على أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء; إذ رب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط وتعميم بعد تخصيص. فكأنه قيل: الكتابة غير مختصة بأعمالهم وآثارهم، بل هي لكل شيء حتى أنه كتب أنهم سيفعلون كذا فإذا فعلوا كتب عليهم فعلوا كذا والإمام: اللوح المحفوظ، قيل: سمي به لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة

ص:246

وإحياء، ووصفه بالمبين لأنه مظهر للأمور وفارق بين أحوال الخلق.

(وقال عز وجل) حكاية لقول لقمان في نصيحته ابنه ناتان: (إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) ضمير إنها للخصلة من الإساءة أو الإحسان، وضمير «إن تك» راجع إليها، والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فكل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ومثقال الشيء ميزانه، وهو المراد هنا يعني أن تلك الخصلة إن تك في الصغر كحبة خردل وتك في أخفى مكان من المذكور وغيره كفوق السماوات وقعر البحار وتحت الأرضين يأت بها الله، ويحضره ليحاسب عليها إن الله لطيف عالم بلطائف الأمور وأمكنتها، نافذ قدرته فيها، خبير بدقائق الأشياء وحقائقها، وقال بعض المحققين: خفاء الشيء إما لغاية صغره، وإما لاحتجابه، وإما لكونه بعيدا، وإما لكونه في ظلمة فأشار إلى الأول بقوله: (مثقال حبة من خردل) وإلى الثاني بقوله (فتكن في صخرة) وإلى الثالث بقوله (أو في السماوات) وإلى الرابع بقوله (أو في الأرض).

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن سليمان بن طريف، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الذنب يحرم العبد الرزق.

12 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الرجل ليذنب الذنب فيدرء عنه الرزق وتلا هذه الآية: (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون).

* الشرح:

قوله (إن الرجل ليذنب الذنب فيدرأ عنه الرزق وتلا هذه الآية (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) اللام في الذنب للجنس باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان وإن كان صغيرا بل وإن كان خلاف مروة كما يدل عليه ظاهر الآية وتفسيرها كما ذكره الطبرسي في جامع الجوامع (إنا بلوناهم) أي أهل مكة بالجوع والقحط بدعاء الرسول (صلى الله عليه وآله) كما بلونا أصحاب الجنة وهم إخوة كان لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء يمن بفرسخين فكان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي من البساط الذي يبسط تحت النخلة إذ أصرمت فكان يجتمع له شيء كثير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال ليصرمنها مصبحين داخلين في وقت الصباح خفية عن المساكين ولا يستثنون أي لم يقولوا إن شاء

ص:247

الله في يمينهم فأحرق الله جنتهم. وإنما سمي ذلك استثناء وهو شرط لأن معنى قولك لأخرج إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد، فطاف طائف أي هلاك أو بلاء وهم نائمون أي في حال نومهم.

13 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا.

* الشرح:

قوله (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا) النكتة النقطة وكل نقطة في شيء بخلاف لونه فهي نكتة، واعلم أن الله تعالى خلق قلب المؤمن نورانيا قابلا للصفات النورانية فإن أذنب خرج فيه نقطة سوداء فإن تاب بأن ندم وعزم أن لا يعود زالت تلك النقطة وعاد محلها إلى نورانيته، وإن زاد في الذنب سواء كان من نوع ذلك الذنب أم من غيره زادت نقطة أخرى سوداء وهكذا حتى تغلب النقاط السود على جميع قلبه فلا يفلح بعدها أبدا، لأن القلب حينئذ لا يقبل شيئا من الصفات النورانية، والظاهر أنه إن تاب من ذنب ثم عاد لم تبطل التوبة الأولى وأنه إن تاب من بعض الذنوب دون بعض فهي صحيحة على أحد القولين فيها.

14 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني.

* الشرح:

قوله (إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تعالى للملك لا تقض حاجته وأحرمه إياها فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني) هذا صريح في أن للذنوب والأعمال الخارجة عن طور الشريعة تأثيرا في سلب الرحمة، وذلك لأن الفيض الإلهي لا بخل ولا منع من قبله وإنما ذلك بحسب عدم الاستعداد، وظاهر أن المذنب معرض عنه غير معترض لرحمته، بل مستعد لضد ذلك أعني سخطه وعذابه فاستحق بذلك أن لا ينال رحمته ويحرم من الإجابة.

ص:248

لا يقال: هذا ينافي ما في بعض الروايات من أن العاصي إذا دعاه أجابه بسرعة كراهة من سماع صوته لأنا نقول: لا منافاة بينهما لأن هناك شيئين: أحدهما المعصية وهي تناسب عدم الإجابة، والثاني كراهة من سماع صوته وهي تناسب سرعة الإجابة، فربما ينظر إلى الأول فلا يجيبه وربما ينظر إلى الثاني فيجيبه، وليس في الأخبار ما يدل على أن العاصي يجاب دائما، ولو سلم لأمكن حمل هذا الخبر على أن المؤمن الصالح إن أذنب وتعرض لسخط ربه استوجب الحرمان ولا يقضي الله حاجته تأديبا لينزجر عما فعله كما هو المعروف بين المحبين.

15 - ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول: إنه ما من سنة أقل مطرا من سنة ولكن الله يضعه حيث يشاء، إن الله عز وجل إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم وإلى الفيافي والبحار والجبال وإن الله ليعذب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلها بخطايا من بحضرتها وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوى محلة أهل المعاصي. قال: ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): فاعتبروا يا اولي الأبصار.

* الشرح:

قوله (وإن الله ليعذب الجعل في جحرها بحبس المطر عن الأرض التي هي بمحلها بخطايا من بحضرتها وقد جعل الله لها السبيل في مسلك سوى محلة أهل المعاصي قال ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) فاعتبروا يا أولي الأبصار) الاعتبار: الاتعاظ والتفكر في العواقب وقبول الموعظة والنصح. وفيه دلالة واضحة على وجوب المهاجرة عن بلاد المعاصي وسيجئ في باب عقوبات المعاصي العاجلة مثله.

فإن قلت: الجعل لا تعلم وجوب المهاجرة عليها فكيف تعذب على تركها. قلت: بم عرفت أنها لا تعرفه؟ لعل الله تعالى ألهمها ولا استبعاد في ذلك، ويؤيده حكاية نملة سليمان (عليه السلام). وإذا تأملت أيها اللبيب معاملة ربك جل وعز مع هذا الحيوان الضعيف الذي لا يقدر على قطع الفيافي والمنازل البعيدة أزيد من قدرة قطع الطفل إياها حبوا ولا يقدر على حمل ما تحتاج إليه من الطعام والشراب لأجل معصية بني نوعك، علمت أنك لو عصيته أو سكنت مع أهل المعصية كانت معاملته معك شديدة ومواخذته إياك عظيمة إذ صورك بأحسن صورة وقدرك بأحسن تقدير وسخر لك السماوات والأرض والشمس والقمر وسائر ما يطول الكلام بذكره فيحصل لك حالة شريفة مانعة عن المعصية والميل إلى أهلها.

ص:249

16 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم.

* الشرح:

قوله (إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل) هذا التأديب كثيرا ما يقع بالنسبة إلى الصالحين وقد كان بعضهم معتادا بقيام الليل مع خضوع وابتهال وصدرت منه صغيرة يوما فاستغفر واسترجع فلما نام الليلة رأى أنه مسافر إلى بيت الله الحرام وانقطع عن الرفقاء فإذا رجل قبيح المنظر شديد الأهبة ظهر قبال وجهه فتكلم بلسان وهو لا يعرفه وظن أنه لسان ترك فقال: أنا ما أعرف هذا اللسان فتكلم بلسان الفرس وقال ما معناه أعطني جميع ما يكون معك وما لي على حياتك سبيل، فوقع في نفسه أنه شيطان فاستفزع واستيقظ فإذا الفجر طالع فصلى الصبح بتضرع وخشوع وبكاء فدفع عنه ذلك، ولا تنظر أيها الأخ الصالح إلى بعض الظالمين المشتغلين بأخذ أموال الناس وسفك دمائهم وهم مع ذلك يصلون صلاة الليل فإن حرمانها للتأديب والتنبيه وهم بما عملوا خرجوا عن أهلية ذلك. ألا ترى أن كثيرا ممن خرجوا من الدين يسعون في العبادات أشد من سعي المؤمنين. ثم أشار إلى أن العمل القبيح مهلك بقوله: (وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم) شبه السيئة بالسكين في سرعة النفوذ وقوة التأثير، والغرض من هذا التشبيه هو الإهلاك، وهو في المشبه به أجلى وإن كان في المشبه أقوى إذ بالمشبه به هلاك الدنيا وبالمشبه هلاك الآخرة.

17 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من هم بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب تبارك وتعالى فيقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبدا.

* الشرح:

قوله (من هم بسيئة فلا يعملها فإنه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب تبارك وتعالى) في مقام معصيته واشتغاله بها (فيقول وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك) إذا وقع هذا القسم وكله إلى نفسه وخلي بينه وبين شيطانه فيعمل ما يعمل حتى يصير من إخوان الشياطين وهو يخرج عن الدنيا بغير إيمان فلا تدركه شفاعة الشافعين، فلا يرد أنه إذا خرج هذا مع إيمان كيف لا يغفر له والغفران معد للمؤمنين، وفيه تنفير عن السيئة كلها فإن كل سيئة يمكن أن يكون هذه السيئة.

ص:250

18 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن عمرو بن عثمان، عن رجل، عن أبي الحسن (عليهما السلام) قال: حق على الله أن لا يعصى في دار إلا أضحاها للشمس حتى تطهرها.

* الشرح:

قوله (حق على الله أن لا يعصى في دار إلا أضحاها للشمس حتى تطهرها) ضحى الشيء ظهر وأضحاه أظهره وهو كناية عن أن المعاصي تخرب الديار.

19 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن.

* الشرح:

قوله (إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام) نظيره ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «قال لا تتكلوا بشفاعتنا فإن شفاعتنا لا تلحق بأحدكم إلا بعد ثلاثمائة سنة» وفيه دلالة على أن الذنب يمنع من الدخول في الجنة في تلك المدة، ولا دلالة فيه على أنه في تلك المدة في النار أو في شدائد القيامة، وأما من لا ذنب له فلا يحبس في القيامة ويدخل الجنة بغير حساب.

20 - أبو علي الأشعري، عن عيسى بن أيوب، عن علي بن مهزيار، عن القاسم بن عروة، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: [قال:] ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا تغطي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عز وجل:

(كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

* الشرح:

قوله (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء) نظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن الإيمان يبدو لمطة في القلب كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمطة» هذا وإن مر شرحه إلا أنه لا بأس أن نفسره ثانيا لزيادة التوضيح والتقرير فنقول: قال بعض المحققين:

اللمطة مثل النكتة أو نحوها من البياض ومنه قيل فرس لمط إذا كان بجحفلته شيء من البياض، وتوضيح الكلام أن بأصل الإيمان يظهر نكتة أبيض في قلب من آمن أول مرة ثم إذا أقر باللسان ازدادت تلك النكتة وإذا عمل بالجوارح عملا صالحا ازدادت وهكذا حتى يصير قلبه نورانيا كالنير الأعظم وبعكس ذلك في العمل السيئ، وتحقيق الكلام في هذا المقام أن المقصود بالقصد الأول بالأعمال

ص:251

الظاهرة والأمر بمحاسنها والنهي عن مقابحها هو ما تكتسب النفس منها من الأخلاق الفاضلة والصفات الفاسدة فمن عمل صالحا أثر في نفسه وبازدياد العمل يزداد الضياء والصفا حتى يصير كمرآة مجلوة صافية، ومن أذنب ذنبا أثر ذلك أيضا وأورث لها كدورة فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس مصقولة وإن أصر عليه زاد الأثر الميشوم وفشا في النفس واستعلى عليها وصار من أهل الطبع ولم يرجع إلى خير أبدا إذ دواء هذا الداء هو الانكسار وهضم النفس والاعتراف بالتقصير والرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار والانقلاع عن المعاصي ولا محل لشيء من ذلك في هذا القلب المظلم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم أشار إلى أن ذلك هو الرين المذكور في الآية الكريمة بقوله (وهو قول الله عز وجل (كلا بل ران على قلوبهم) ما كانوا يكسبون) أي غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون حتى قبلت الطبع والختم على وجه لا يدخل فيها شيء من الحق، والمراد بما كانوا يكسبون: الأعمال الظاهرة القبيحة والأخلاق الباطنة الخبيثة فإن ذلك سبب لرين القلب وصداه وموجب لظلمته وعماه، فلا يقدر أن ينظر إلى وجوه الخيرات ولا يستطيع أن يشاهد صور المعقولات كما أن المرآة إذا ألقيت في مواضع الندى ركبها الصدا، وأذهب صفاءها وأبطل جلاءها فلا ينتقش فيها صور المحسوسات، وبالجملة يشبه القلب في قسوته وغلظته وزوال نوره بما يعلوه من الذنوب والهوى وما يكسوه من الغفلة والردى بالمرآة المتكدرة من الندى وكما أن هذه المرآة يمكن إزالة ظلمتها بالعمل المعلوم كذلك هذا القلب يمكن تصفيته من ظلمات الذنوب وكدورات الأخلاق بدوام الذكر والتوبة الخالصة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة حتى ينظر إلى عالم الغيب بنور الإيمان ويشاهده كمشاهدة العيان إلى أن يبلغ إلى أعلى درجة الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ويرى الجنة وما أعد الله فيها لأوليائه، ويرى النار وما أعد الله فيها لأعدائه.

21 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ولا تأمن البيات وقد عملت السيئات.

22 - محمد بن يحيى، وأبو علي الأشعري، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن حماد بن عيسى، عن أبي عمرو المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كان أبي (عليه السلام) يقول: إن الله قضى قضاء حتما ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.

23 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن سدير قال: سأل رجل

ص:252

أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) الآية.

فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية وأموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمة. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فأرسل الله عليهم سيل العرم فغرق قراهم وخرب ديارهم وأذهب أموالهم وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل، ثم قال: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).

* الشرح:

قوله (فقال هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة) هؤلاء كانوا من أولاد سبأ وكانت لهم قرى متصلة متقاربة من مواضع سكناهم باليمن إلى الشام ينظر بعضهم إلى بعض لغاية القرب وكمال الاتصال وأنهار جارية فيها وفيما بينهما وأموال ظاهرة لأبناء السبيل والمسافرين في كل ما يحتاجون إليه بلا تعب في تحصيله وحمله وكانوا يسيرون فيها ليالي وأياما آمنين من غير خوف، وأمروا بأن يأكلوا رزق ربهم ويشكروا له بإزاء تلك النعمة الجليلة فأعرضوا عن الشكر وكفروا أنعم الله عز وجل وغيروا ما بأنفسهم من العافية والخير وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، طالبين أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وبراري ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزود الزاد، فغير الله ما بهم من نعمة فأرسل عليهم سيل العرم ففرق قراهم وخرب ديارهم وأذهب بأموالهم الصامت والناطق وأبدلهم جناتهم التي كانت عن يمين بلدهم وشماله وعن يمين مسكن كل رجل وشماله (جنتين ذواتي أكل خمط) وهو ثمرة بشع أو نوع من شجر أراك به حمل يؤكل، وذواتي أثل وهو نوع من الشجر شبيه بالطرفا لا ثمر له (وشئ من سدر قليل) وثمره وهو النبق يطيب أكله ولذا وصفه بالقلة، وتسمية البدل جنتين من باب المشاكلة أو التهكم، ثم قال جل شأنه: (ذلك) أي الذي فعلناه بهم وقضينا عليهم (بما كفروا) أي بسبب كفرانهم بتلك النعم الجليلة (وهل نجازي) بذلك الجزاء أو بمثل ما فعلنا بهم (إلا الكفور) أي المبالغ في الكفر، والاستفهام للتقرير.

والمفسرون نقلوا في العرم أقوالا الأول أنه السد الذي يحبس الماء وكان له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض فيسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث بقدر الاحتياج. وأضاف السيل إلى العرم لأنه بخرابه جاء السيل. الثاني أنه اسم الوادي وأضاف السيل إليه لأنه جاء من قبله. الثالث أن العرم صفة السيل من العرام وهو الشدة أي سيلان لا يمنع منه. الرابع أنه الخلد وهو الجرذ الأعمى فنقب السكر من أسفله فسال منه فخرب جناتهم، والإضافة لأدنى ملابسة.

ص:253

24 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما أنعم الله على عبد نعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحق بذلك السلب.

25 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن الهيثم بن واقد الجزري قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا [أ] ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما احب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما احب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون، وقل لهم: إن رحمتي سبقت غضبي فلا تقنطوا من رحمتي فإنه لا يتعاظم عندي ذنب أغفره وقل لهم: لا يتعرضوا معاندين لسخطي ولا يستخفوا بأوليائي فإن لي سطوات عند غضبي، لا يقوم لها شيء من خلقي.

* الشرح:

قوله (فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون) يشهد للفريقين الخبر المشهور وهو «كما تدين تدان» ثم بشر المذنبين بقوله: (وقل لهم إن رحمتي سبقت غضبي... إلى آخره). إذا اشتد سبب الغضب وكان هناك سبب الرحمة ولو كان ضعيفا تعلقت الرحمة إن شاء الله وهو المراد بسبقها، أو المراد به أنه تعالى خلق الإنسان برحمته لإدراجهم في ظلها، والغضب إنما تشأ من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم ولذلك لا يتغاظم عنده غفران ذنوبهم إن بقيت علاقة المغفرة في الجملة، وفيه ترغيب في التوبة والرجوع عن المعصية ووعد بقبولها ووعيد عن القنوط من رحمته بسبب معصيته وإن عظمت كما في قوله:

(وقل لهم لا يتعرضوا معاندين لسخطي ولا يستخفوا بأوليائي) فإن فيه وعيدا على المعصية والبقاء عليها، والاستخفاف بالأولياء شامل للاستهزاء بهم وقتلهم وحبسهم وضربهم وشتمهم وغيرها مما ينافي تعظيمهم، والسطوة والقهر: الإذلال والبطش الشديد.

26 - علي بن إبراهيم الهاشمي، عن جده محمد بن الحسن بن محمد بن عبيد الله، عن سليمان الجعفري، عن الرضا (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء إذا اطعت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الورى.

* الشرح:

قوله (ولعنتي تبلغ السابع من الورى) وراء الرجل أولاد أولاده وكل من جاء خلفه،

ص:254

ولعل المراد قد تبلغ وذلك إذا رضوا بفعل أبيهم أو اقتدوا به والله يعلم.

27 - محمد بن يحيى، عن علي بن الحسن بن علي، عن محمد بن الوليد، عن يونس ابن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) [أنه] قال: إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها.

* الشرح:

قوله (إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا بالذنوب) فكذا بالنسبة إلى السلطان الأعظم وفيه تشبيه للخفي بالظاهر الجلي للتقرير والإيضاح ثم أمر بالوقاية عن الذنوب بقدر الاستطاعة ونهى عن الإصرار عليها والتمادي فيها والمداومة عليها على تقدير الوقوع، وبالجملة يجب حفظ النفس من الذنب ولو صدر وجب التدارك بالتوبة وعدم الإصرار عليه.

28 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب ولا خوف أشد من الموت، وكفى بما سلف تفكرا، وكفى بالموت واعظا.

* الشرح:

قوله (لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب) إذ كل وجع يفرض لا يوجب بعد القلب من الله المطلوب لكل سالك إلا الذنوب في العقائد والأعمال، وأيضا كل وجع لا يوجب هلاك القلب أبدا وسواده إلا الذنوب.

(ولا خوف أشد من الموت) أي من خوف الموت إذ كل شيء يخاف منه وقوعه غير متيقن بخلاف الموت، ولأن الخوف إنما هو من ألم، والموت ألم شديد مع ما يعقبه من الآلام التي لا علم بالنجاة منها قطعا (وكفى بما سلف تفكرا) فإن من تفكر فيما سلف من أحوال القرون وفيمن أنس بالدنيا فغرتهم ووثقوا بها فصرعتهم وعصوا فيها فدمرتهم فأخرجوا من دورهم وحملوا إلى قبورهم فأنزلوا شر الدار وأدخلوا بئس القرار وألبسوا سرابيل القطران وعذبوا بمقطعات النيران حصلت له ملكة الصبر على الطاعة وفضيلة التحرز عن المعصية فيتذكر ما كانوا عنه يغفلون ويحذر عما كانوا به يعلمون.

(وكفى بالموت واعظا) لأنه يقرع الآذان بحديث الفناء ويخبر الإنسان بعدم البقاء ويقبح الشغل بالدنيا لسرعة زوالها ويشنع معصية المولى لشدة نكالها ويتعظ بمواعظها من هو سديد أو ألقى السمع إلى زواجرها وهو شهيد.

29 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن الميثمي، عن العباس بن هلال الشامي مولى

ص:255

لأبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون.

* الشرح:

قوله (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) يدل عليه (1) أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «من صارع الحق صرعه» يجوز أن يراد بالحق ذات الله تعالى والمراد بالمصارعة حينئذ مخالفة أوامره ونواهيه، وأن يراد به الصواب أي من عدل عن طريق الصواب صرعه في مهاوي البلاء والعتاب.

30 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عباد بن صهيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

يقول الله عز وجل: إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني.

* الشرح:

قوله (إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني) لعل المراد به الجاحد له من الإنسان أو المعاند له كالشيطان.

31 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن ابن عرفة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل في كل يوم وليلة مناديا ينادي: مهلا مهلا عباد الله عن معاصي الله، فلولا بهائم رتع وصبية رضع وشيوخ ركع لصب عليكم العذاب صبا، ترضون به رضا.

* الشرح:

قوله (مهلا مهلا عباد الله) المهل بالتسكين والتحريك لغة: الرفق والتأني والتأخر أي رفقا رفقا يا عباد الله عن معاصي الله يعني تأن فيها ولا تعجل أو تأخر عنها ولا تقربها، وهو للواحد والاثنين والجماعة والمؤنث بلفظ واحد. ورتع ورضع وركع بضم الأول وفتح الثاني مع الشد جمع راتع وراضع وراكع كطلب جمع طالب، والرض: الكسر والدق الجريش وفعله من باب قتل، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي وأما العذاب الأخروي فلا دافع له إلا التوبة أو العفو أو الشفاعة.

ص:256


1- 1 - قول «يدل عليه» معنى الحديث أن الناس إذا اخترعوا في المعاصي وجوها لم يكن يعرفها أحد قبلهم كآلات اللهو والقمار وغيرها أحدث الله لهم بلاء لم يكونوا يعرفون كأمراض خطرة ووسائل للقتل والسلب والظلم، ولا أدري ما فهم منه الشارح. (ش).

باب الكبائر

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) قال: الكبائر: التي أوجب الله عز وجل عليها النار.

* الشرح:

قوله (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) هذا على مذهب من قال بأن الذنوب بعضها كبائر وبعضها صغائر (1) ظاهر فإن الكبائر تكفر الصغائر، وأما على مذهب من قال: إن الذنوب كلها كبائر في ذواتها وإن كان بعضها أكبر من بعض كما هو مذهب الإمامية على ما نقله الشيخ أبو علي الطبرسي في مجمع البيان ففيه خفاء إذ ليس ذنب غير الكباير حتى يكون اجتنابها كفارة له، وأجيب عنه بأن من عن له ذنبان أحدهما أكبر من الآخر ودعت نفسه اليهما بحيث لا يتمالك فترك الأكبر وفعل الأصغر فإنه يكفر عنه الأصغر لما استحقه من الثواب على ترك الأكبر كمن عن له التقبيل والنظر بشهوة فكف عن التقبيل وارتكب النظر، وهذا الجواب مذكور في كنز العرفان وأورده البيضاوي في تفسيره، ونقله الشيخ في الأربعين وأمر بالتأمل فيه، وبين وجه التأمل في الحاشية بأنه يلزم منه أن من كف نفسه عن قتل شخص وقطع يده مثلا يكون مرتكبا للصغيرة وتكون مكفرة عنه اللهم إلا أن يراد بالأصغر ما لا أصغر منه وهو في هذا المثال أقل ما يصدق عليه الضرر لا قطع اليد، ثم قال: وفيه ما فيه فليتأمل، ثم أشار إلى تعريف الكبائر بقوله:

(الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار) يعني أن الكبائر ما تعلق به الوعيد بالنار في القرآن الكريم وله أفراد كثيرة يعرفها من تفكر في القرآن وعرف زواجره ونواهيه.

ص:257


1- 1 - قوله «بعضها كبائر وبعضها صغائر» لا أستحسن تعبير الشارح في نقل القولين إذ لا ينكر أحد تقسيم المعاصي إلى كبيرة وصغيرة كما ورد في القرآن إلا أنهم اختلفوا في كون كل منهما محدودة في عدد خاص، أو أن الكبر والصغر نسبي إضافي كالأمثلة التي ذكرناها، والحق هو ما نقله عن الطبرسي ولا يعتبر ذلك بالنسبة إلى ما هم به العبد بل إلى إيجاب سخط الله وعقابه، فكلما هو أشد كراهة عند الله وسخطه فيه أعظم وعذابه آلم وأدوم فهو أكبر. وروي «أن أكبر الكبائر الشرك بالله تعالى» وفي القرآن الكريم: (الفتنة أشد من القتل) مع كون القتل كبيرة، وأيضا أن القتال في الشهر الحرام كبير وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، ومع ذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر كما في القرآن. وبالجملة كلما هو أقبح عند الله فهو أعظم وإنما الكلام في تقييد اسم الكبائر بعدة معدودة وهو ممنوع، ويعرف كون بعض المعاصي أعظم عند الله وقباحته أشد بأن يذكره في القرآن مع الوعيد ولو لم يكن شدة قبحه لم يخصصه تعالى بالذكر. وأما تكفير السيئات الصغيرة ففيه كلام ليس هنا موضع تفصيله. (ش).

2 - عنه، عن ابن محبوب قال: كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر كم هي وما هي، فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف.

* الشرح:

قوله (كم هي وما هي) العطف إما للتفسير أو الأول سؤال عن عدد الكبائر والثاني عن حدها، والواو لا تفيد الترتيب وإلا فالسؤال عن حد الشيء مقدم على السؤال عن عدد أفراده، فأشار (عليه السلام) إلى تعريفها بأنها ما تعلق به الوعيد بالنار، وإلى بعض خواصها بأنها مكفرة لما دونها من السيئات.

وإلى شرائط التكفير بأنه إذا كان مؤمنا، وإلى أفرادها بأنها السبع الموجبات للنار، والظاهر أن قوله «الكبائر» في قوله فكتب «الكبائر» مفعول كتب كما بعدها أي كتب لفظ الكبائر في صدر الكتاب ليعلم أن ما بعدها متعلق ببيانها كما هو المتعارف في ذكر الشيء مجملا، ثم مفصلا. وأن قوله:

(والسبع الموجبات) عطف على ما وعد الله أي من اجتنب السبع الموجبات للنار كفر عنه سيئاته من باب عطف الخاص على العام لأن الكبائر أكثر منها كما سنشير إليه أو من باب عطف المفصل على المجمل، ويحتمل أن يكون عطفا على من اجتنب أي الكبائر السبع الموجبات وهي (قتل النفس الحرام) سواء كانت نفس القاتل أو ولده أو غيرهما وقد وقع النهي المشدد عن الكل.

(وعقوق الوالدين) وهو ترك ما يجب لهما من البر وفعل ما يتأذيان به ومخالفتهما فيما ليس بمعصية، وفي جواز المخالفة في الشبهات نظر والأقرب عدم الجواز.

(وأكل الربا) الربا من أعظم الكبائر وهو حرام مطلقا بالبيع وغيره نقدا ونسية اقتناء وأكلا وغيرهما من التصرفات وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أعظم ما يكتسب له حقيقة وعادة، على أنه شاع في العرف إطلاق الأكل على جميع وجوه التصرفات، وقيد الخبر الآخر تحريم أكله يكون أخذه بعد البينة أي بعد البيان النبوي والدليل الشرعي فيفيد كظاهر الآية جواز التصرف فيما أخذه قبلها وإن كانت العين باقية وأما ما لم يأخذه قبلها فلا يجوز أخذه والاحتياط هو الرد مع بقاء العين.

(والتعرب بعد الهجرة) قال ابن الأثير: هو أن يعود إلى البادية بعد أن كان مهاجرا وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، أقول: وجوب المهاجرة إلى المدينة قبل الفتح لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله) وتحريم التعرب قبله مما أجمع عليه الأمة، وأما التعرب بعده فالظاهر أنه

ص:258

حرام أيضا للاستصحاب ولظاهر هذا الخبر ونحوه، ويحتمل العدم لقوة الدين وكثرة الناصر بعده وكذا الحكم في وجوب المهاجرة بعده وتحريم التعرب بعد هذه المهاجرة (وقذف المحصنة) أي رميها بالزنا وكذا رمي المحصن به أو باللواط والمراد بها العفيفة سواء كانت ذات بعل أم لا.

(وأكل مال اليتيم) الأكل يعم جميع وجوه التصرف عرفا، واليتم لغة: الانفراد، وهو في الناس من فقد أباه وفي البهائم من فقد أمه بشرط الصغر فيهما، والزمخشري لا يشترطه لوجود الانفراد في الكبير أيضا إلا أنه غلب استعماله في الصغير وقال: حديث «لا يتم بعد البلوغ» تعليم شريعة لا تعليم لغة، والمراد هنا الصغير ويمكن إرادة الأعم منه ومن الشيعة مطلقا لأنهم أيتام أهل البيت (عليهم السلام) كما دل عليه بعض الروايات، والحديث نص في تحريم أكل ماله على كل أحد حتى الوصي والولي وجوز بعض الأصحاب أكل الولي بالمعروف لقوله تعالى (فليأكل بالمعروف) وأجاب المانع بأنه أمر الولي بأن يأكل من مال نفسه بالمعروف ولا يبذر خوف أن يحتاج فيمد يده إلى مال اليتيم، أو أمره بأن يختار الاقتصاد في صرفه لليتيم أو بأن يأكل على قصد الأداء، والكل ضعيف بل غير مناسب لسوق الآية. ثم تحريم أكل ماله مقيد بما إذا أكل من ماله وحده وأما إذا خلط ماله مع ماله نفسه وأكلا منه فهو جايز بشرط رعاية الغبطة كما في بعض الروايات (والفرار من الزحف) الزحف: المشي يقال زحف إليه زحفا وزحوفا من باب منع إذا مشى، ويطلق على الجيش الكبير تسمية بالمصدر، والفرار من العدو بعد الالتقاء بشرط أن لا يزيدوا على الضعف كبيرة إلا في التحرف لقتال أو التحيز إلى فئة، والمراد بالتحرف لقتال الاستعداد له بأن يصلح آلات الحرب أو يطلب الطعام أو الماء لجوعه أو عطشه أو يجتنب عن مواجهة الشمس والريح أو يطلب مكانا أحسن لثبات القدم أو نحو ذلك، والمراد بالتحيز إلى فئة الرجوع إليهم للاستعانة مع صلاحيتهم لها وعدم البعد المفرط بحيث يعد الرجوع إليهم فرارا.

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله عليه النار.

* الشرح:

قوله (الكبائر سبع قتل المؤمن متعمدا) الروايات في عدد الكبائر مختلفة ففي رواية

ص:259

عبد العظيم ابن عبد الله الحسني المذكورة في آخر هذا الباب إحدى وعشرون، وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) سبعة، وفي رواية مسعدة بن صدقة عنه (عليه السلام) عشرة وفي هذه الرواية سبعة إلا أن السابعة كل ما أوجب الله عليه النار. وهو كالتعميم بعد التخصيص لأنه يشمل غير ما ذكر امورا كثيرة مثل عقوق الوالدين والشرك بالله واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله ونحوها، وفي الروايتين المذكورتين قبل ما نحن فيه أيضا دلالة على أنها كثيرة جدا وهذا هو الحق، ولعل المعينات في الروايات محمولة على أنها أكبر من البواقي أو على أن الوقوع فيها أكثر فوقع الاهتمام بذكرها ليحترزوا عنها مع أن في أكثرها إشارة إجمالية إلى غيرها لاشتراكها في العلة وهي الوعيد، ومما يؤيده ما نقل عن ابن عباس أن الكبيرة ما نهى الله سبحانه عنه، قيل أهي سبع؟ قال هي إلى السبعين أقرب، ويروى إلى السبعمائة، وعنه أيضا هي ما توعد الله تعالى عليه بعذاب أو قرن بلعنة أو غضب، وقيل: هي ما توعد عليه بعذاب أو رتب عليه حد، وقيل: هي كل ذنب يؤذن بقلة اعتناء فاعله بالدين، وقيل: هي كل ذنب علم حرمته بدليل قاطع، وقال الغزالي:

هي ما فعل دون استشعار خوف ولا اعتقاب ندم لأن الذي يفعل الذنب بدون أحدهما مجتري متهاون وما وقع مع أحدهما صغيرة وهذا التفصيل لم نجد عليه دليلا مع أنه لا يخلو من غرابة كما لا يخفى، وقيل: يعرف الفرق بأن تعرض مفسدة الذنب فإن نقصت عن مفسدة أقل الكباير المنصوص عليها فهي صغيرة وإن ساوتها أو كانت أعظم فهي كبيرة فالشرك كبيرة بالنص، وتلطيخ الكعبة بالقذر وإلقاء المصحف فيه مساو له والزنا والقتل كبيرتان بالنص وحبس امرأة ليزني بها أو ليقبلها لم ينص عليه لكنه أعظم مفسدة من أكل مال اليتيم المنصوص عليه، والفرار من الزحف كبيرة والدلالة على عورة المسلمين مع العلم بأنهم يسبون أموالهم وذراريهم لم ينص عليه ولكنه أعظم من الفرار من الزحف وكذلك لو كذب على مسلم كذبة يعلم أنه يقتل بها. وقال جماعة:

الذنوب كلها كبائر لاشتراكها في مخالفة الأمر والنهي لكن قد يطلق الصغير والكبير على الذنب بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته، فالقبلة صغيرة بالنسبة إلى النظر بشهوة. قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان بعد نقل هذا القول: وإلى هذا ذهب أصحابنا رضي الله عنهم فإنهم قالوا: المعاصي كلها كبيرة لكن بعضها أكبر من بعض وليس في الذنوب صغيرة وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر (1) ويستحق العقاب عليه أكثر، قال الشيخ في الأربعين: لا يخفى أن كلام الشيخ الطبرسي مشعر بأن القول بأن الذنوب كلها كبائر متفق عليه بين علماء الامامية وكفى بالشيخ ناقلا:

ص:260


1- 1 - «وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر» هذا تعبير حسن لا يرد عليه ما أوردنا في الحاشية السابقة. (ش).

إذا قالت حذام فصدقوها * فإن القول ما قالت حذام ولكن صرح بعض أفاضل المتأخرين (1) منهم بأنهم مختلفون وإن بعضهم قائل ببعض الأقوال السالفة ونسب هذا القول إلى رئيس الطائفة الشيخ المفيد وابن البراج وأبي الصلاح والمحقق محمد بن إدريس والشيخ أبي علي الطبرسي رضوان الله عليهم.

4 - يونس، عن عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين واليأس من روح الله والأمن لمكر الله. وقد روي [أن] أكبر الكبائر الشرك بالله.

* الشرح:

قوله (واليأس من روح الله والأمن لمكر الله) اليأس من رحمة الله الواسعة المريحة من الشدائد إنكار لأعظم صفاته تعالى وهي الرحمة المبتنية عليها إفاضة جميع الخيرات دنيوية كانت أم أخروية ولوعده الصادق بمغفرة الذنوب وإن كثرت وإساءة الظن به والأمن لمكر الله تعالى وسكون القلب من عقوبته وعدم الخوف من معصيته جرأة عليه وإنكار لوعيده وجلالته واستخفاف لعظمته وعزته فينبغي للعبد أن يكون دائما بين الخوف والرجاء (وقد روي [أن] أكبر الكبائر الشرك (2) بالله) لأن عقوبته أشد لقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) والشرك أعم من اتخاذ الشريك له في الألوهية كما في عبدة الأوثان والغلاة ومن تشبيهه بالخلق كما في المصورة والمجسمة.

5 - يونس، عن حماد، عن نعمان الرازي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من زنى خرج من الإيمان ومن شرب الخمر خرج من الإيمان ومن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا خرج من

ص:261


1- 1 - قوله «لكن صرح بعض أفاضل المتأخرين» لعل هذا البعض فهم من اختلاف العلماء في هذه المسألة غير ما هو المقصود وتحليل المطلب أن من قال مثلا الكبائر سبع: الشرك والقتل والزنا.... إلى آخره. هل يكون مقصوده تساوي هذه المعاصي في القبح وكراهة الله تعالى إياها واستحقاق جميعها عقابا واحدا أو يكون مقصوده عدم تساويها في هذه الأمور ولا يتوقع منه الاعتقاد بالتساوي فلابد أن يكون بعضها أكبر وبعضها أصغر، ثم ننقل الكلام إلى ما سوى هذه السبع وما سواها صغائر في اصطلاحه هل يكون مقصوده تساويها في ما ذكر من القباحة والسخط والعذاب أو عدم تساويها، ولا يتوهم في حقه أن يعتقد تساوي جميع الذنوب ما سوى السبع الكبائر. فيكون بعضها أقبح وحينئذ فمرتكب هذه الصغائر في اعتقاد القائل به هل يستحق العذاب أو لا؟ فإن قالوا لا يستحق العقاب فليست معصية لا كبيرة ولا صغيرة، وإن استحق العقاب فلابد أن يكون العفو عنه تفضلا ويمكن العفو تفضلا عن الكبائر أيضا. فإن فتشنا القائل بكون الكبائر سبعا وجدناه موافقا لمن قال بقول الطبرسي رحمه الله إلا أن يظن بأحد من العلماء تساوي الكبائر في القباحة وتساوي الصغائر فيها وكون القبح ذا مرتبتين فقط وأن الصغائر ليست معصية أصلا، وهم بريئون من هذا الظن. (ش).
2- 2 - قوله «أكبر الكبائر الشرك» يدل على قول الإمامية على ما سبق عن الطبرسي رحمه الله. (ش).

الإيمان.

* الشرح:

قوله (من زنى خرج من الإيمان ومن شرب الخمر خرج من الإيمان ومن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا خرج من الإيمان) الروايات الدالة على أن العاصي يخرج من الإيمان حين المعصية كثيرة فمنهم من حملها على ظاهرها ومنهم من حملها على نفي الكمال وزواله من باب نفي الشيء بنفي صفته نحو «لا علم إلا ما نفع» ومنهم من حملها على المستحل ومنهم من حملها على أنه ليس آمنا من عقوبة الله، ويرد عليهما أنه لا وجه لتخصيص هذه المعاصي بذلك بل الجميع كذلك ولا للتخصيص بوقت الفعل كما في بعض الروايات، وقد يجاب عن الأول بأن الحكم غير مختص بهذه المعاصي لأنه نبه بالزنا على جميع ما حرمه الله من الشهوات وبالخمر على جميع ما يشغل عن الله وبالسرقة على الرغبة في الدنيا وأخذ الشيء من غير وجهه، ويؤيده ما سيأتي من رواية محمد بن حكيم قال: «قلت لأبي الحسن (عليه السلام): الكبائر تخرج من الإيمان؟ قال: نعم وما دون الكبائر» (1) ومنهم من حملها على نفي اسم المدح أي لا يقال له مؤمن بل يقال له زان وشارب الخمر وتارك للصوم وسارق. ويقرب منه قول المعتزلة أن الفاسق لا يسمى مؤمنا، ومنهم من حملها على زوال النور الناشئ من الإيمان وهو منقول عن ابن عباس، وأيده بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) «من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء رده إليه» ومنهم من حملها على زوال استحضار الإيمان أي لا يزني الزاني وهو مستحضر الإيمان; ويقرب منه قول الفخر الرازي «لا يزني الزاني وهو عاقل» لأن المعصية مع استحضار العقوبة مرجوحة والحكم بالمرجوح خلاف المعقول، ومنهم من حملها على نفي الحياء أي لا يزني الزاني وهو مستحي من الله والحياء خصلة من الإيمان وهذا راجع إلى التأويل الأول وهو أقرب التأويلات وإن كان الخبر كاد أن يكون من المتشابهات فترك تأويله إلى العالم (2) بها أولى.

6 - عنه، عن محمد بن عبده قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لا يزني الزاني وهو مؤمن؟ قال: لا، إذا

ص:262


1- 1 - قوله «نعم وما دون الكبائر» يعني الصغائر فإنها أفعال غير مرضية لله تعالى ويستحق فاعلها العقاب فإن ثبت العفو عنها فهو تفضل وهذا يدل على قولنا أيضا. (ش).
2- 2 - قوله «فترك تأويله إلى العالم» هذا حسن بالنسبة إلى المسألة من حيث أنها مسألة اعتقادية أصولية أما من جهة العمل فلا، فلأن الفساق يعاشرون مع الصلحاء وينكحون فيهم ويؤاكلونهم ويدخلون في مساجدهم فإن خرج أحد بالفسق عن الإيمان نجس بدنه ويعامل معه معاملة الكافر وهو خلاف الاجماع فلابد من تأويل هذا الخبر بوجه لا ينافي الحكم المعلوم وخروج الفاسق عن الإيمان بفسقه مذهب الوعيدية من الخوارج. (ش).

كان على بطنها سلب الإيمان فإذا قام رد إليه فإذا عاد سلب، قلت: فإنه يريد أن يعود؟ فقال: ما أكثر من يريد أن يعود فلا يعود إليه أبدا.

* الشرح:

قوله (قلت فإنه يريد أن يعود -... إلى آخره) توهم أن إرادة العود إلى الفعل مثله فدفعه (عليه السلام) بأنه لليس كذلك وهو لا ينافي أن هم العود معصية باعتبار ترك التوبة.

7 - يونس، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: الفواحش الزنا والسرقة، واللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه. قلت: بين الضلال والكفر منزلة؟ فقال: ما أكثر عرى الإيمان.

* الشرح:

قوله (الفواحش الزنا والسرقة) الزنا بالكسر والقصر والسرقة مثل كلمة والفعل من باب ضرب، والفاحشة منها: كل ما اشتد قبحه من الكبائر كالزنا بالمحارم أو مطلقا وتخصيصها بالذكر بعد ذكر الكبائر الشاملة لها للاهتمام بالزجر عنهما لكونهما أشد قبحا وأكثر وقوعا (واللمم) بفتحتين مقاربة الذنب وقيل هو الصغائر وقيل هو أن يفعل الصغيرة ثم لا يعاوده كالقبلة والوطء بين الفخذين وغيرها مما تكفره الصلاة وقيل هو أن يلم بالشيء ولا يفعله (قلت بين الضلال والكفر منزلة؟ فقال: ما أكثر عرى الإيمان) كان المراد إثبات المنزلة بينهما بأن الضال من دخل في الاسلام ولم يدخل في الإيمان، والكافر من لم يدخل في الاسلام فبينهما منزلة عريضة هي الإيمان (1) وله مراتب كما أشار إليه بقوله «ما أكثر عرى الإيمان» وهي أركان الإيمان وآثاره التي بها يكمل الإيمان ويستقر على سبيل تشبيهها بعروة الكوز في احتياج حمله إلى التمسك بها فالإيمان بجميع مراتبه منزلة بينهما، ويحتمل أن يراد بالكفر أعم من الخروج من الإيمان وترك رعاية شيء من آثاره، وإطلاقه على هذا المعنى الأعم شايع كما سيجيء، وحينئذ الإيمان الحقيقي وهو المقرون بجميع آثاره منزلة بينهما، والله يعلم.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: هن في كتاب علي (عليه السلام) سبع: الكفر بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل الربا بعد البينة وأكل مال اليتيم ظلما والفرار من الزحف والتعرب بعد

ص:263


1- 1 - قوله «منزلة عريضة هي الإيمان» اثبات المنزلة بين الكفر والإيمان مذهب بعض المعتزلة وغيرهم على نفيها ولما كان لفظ الرواية يوهم موافقة قول المعتزلة أولها الشارح بوجه لا يخالف إجماع الشيعة وأكثر العامة لأنا لم نر أحدا من علمائنا يثبت واسطة بين الإيمان والكفر، فقال جميع المراتب المتصورة هي من الإيمان وللايمان درجات. (ش).

الهجرة، قال: فقلت: فهذا أكبر المعاصي؟ قال: نعم، قلت: فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟ فقال: أي شيء أول ما قلت لك؟ قال: قلت: الكفر؟ قال: فإن تارك الصلاة كافر يعني من غير علة.

* الشرح:

قوله (فإن تارك الصلاة كافر يعني من غير علة) تاركها من غير علة مستخفا بها كافر جاحد، وغير مستخف بها كافر مخالف لأعظم الأوامر، وإطلاق الكفر على مخالفة الأوامر والنواهي شايع كما سيجيء، والظاهر أن «يعني» كلام المصنف.

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن حبيب، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ما من عبد إلا وعليه أربعون جنة حتى يعمل أربعين كبيرة فإذا عمل أربعين كبيرة انكشفت عنه الجنن فيوحي الله إليهم أن استروا عبدي بأجنحتكم فتستره الملائكة بأجنحتها.

قال: فما يدع شيئا من القبيح إلا قارفه حتى يمتدح إلى الناس بفعله القبيح، فيقول الملائكة: يا رب هذا عبدك ما يدع شيئا إلا ركبه وإنا لنستحيي مما يصنع، فيوحي الله عز وجل إليهم أن ارفعوا أجنحتكم عنه فإذا فعل ذلك أخذ في بغضنا أهل البيت فعند ذلك ينهتك ستره في السماء وستره في الأرض، فيقول الملائكة: يا رب هذا عبدك قد بقي مهتوك الستر فيوحي الله عز وجل إليهم: لو كانت لله فيه حاجة ما أمركم أن ترفعوا أجنحتكم عنه.

* الشرح:

قوله (ما من عبد إلا وعليه أربعون جنة) الجنة بالفتح: الساتر، وبالضم: الترس، وقد يراد بها الساتر على سبيل الاستعارة، والأولى تجمع على جنن بكسر الجيم وفتح النون، والثانية على جنن بضم الجيم وفتح النون، وهذه الجنن يحتمل أن تكون أجنحة الملائكة وأن تكون غيرها، والأول أظهر، ولعل الغرض من الستر أن لا يرى معصيته طائفة من المقربين.

(حتى يمتدح إلى الناس بفعله القبيح) أي يمدح نفسه عند الناس بفعله القبيح أو يريد أن يمدحه الناس به كذلك زين له الشيطان سوء عمله فيراه حسنا، وفي كنز اللغة: تمدح: «خويشتن را ستردن وستايش خواستن».

(فيقول الملائكة يا رب هذا عبدك قد بقي مهتوك الستر -... إلى آخره) لا يقال: قول الملائكة هذا بناء على أنهم يريدون ستره، وهذا ينافي قولهم المذكور قبله لاشعاره

ص:264

بأنهم يريدون هتك ستره.

لأنا نقول: دلالة قولهم الأول على ذلك ممنوع لاحتمال أن يكون طلبا لإصلاحه، ولو سلم فيحتمل أن يكون طلبهم هتك الستر أولا نظر إلى عظمة معصية الرب عندهم ثم بدا لهم طلب الستر له نظرا إلى شفقتهم ببني آدم، ويمكن أن يراد بالملائكة ثانيا غير من رفع أجنحتهم فلا منافاة بين القولين لاختلاف القائلين لكن يأباه قوله «ما أمركم أن ترفعوا أجنحتكم عنه» إلا أن يراد بالخطاب جنس الملائكة.

ورواه ابن فضال، عن ابن سكان.

10 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الكبائر القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة والفرار من الزحف، فقيل له: أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها، أتخرجه من الإيمان، وإن عذب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين، أوله انقطاع؟ قال: يخرج من الإسلام إذا زعم أنها حلال ولذلك يعذب أشد العذاب وإن كان معترفا بأنها كبيرة وهي عليه حرام وأنه يعذب عليها وأنها غير حلال فإنه معذب عليها وهو أهون عذابا من الأول ويخرجه من الإيمان ولا يخرجه من الإسلام.

* الشرح:

قوله (الكبائر القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله) الظاهر أن القنوط واليأس مترادفان (1) فالجمع بينهما للتأكيد والمبالغة مع احتمال أن يكون النظر في القنوط إلى قصور الرحمة وفي اليأس إلى عظمة المعصية وحرمان صاحبها من الرحمة أو يكون الروح غير الرحمة كالتنفيس من الكرب والعقوبة وقد ذكرنا ما يتعلق به سابقا ولا بأس أن نشير إليه ثانيا مبالغة لترك هذه الخصلة الذميمة فنقول: اليأس، وهو ضد الرجاء، من الكبائر الموبقة لأن فيه جحدا للرحمة والمغفرة وخروجا من التوحيد وقد جاء في كثير من الآيات الدالة على شمول الرحمة للمذنبين مثل (رحمتي وسعت كل شيء) (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم

ص:265


1- 1 - «القنوط واليأس مترادفان» وسره أن الآيسين من روح الله يتمادون في المعاصي ويزيد شرحهم بالنسبة إلى أنفسهم وإلى غيرهم، أما بالنسبة إلى غيرهم فواضح فإن السارق والقاتل إذا أيس من رحمة الله سرق وقتل أكثر مما فعل، وأما بالنسبة إلى نفسه فيزيد ظلمة على ظلمة في قلبه وانحطاطا أكثر من انحطاطه عن السعادة الأخروية كفقير يسرق ومريض يشرب السم. (ش).

الخاسرون) و (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). وتقييد المغفرة بالتوبة في قوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب) لا ينافي ثبوتها بلا توبة ولا يوجب تقييد الآيات والروايات المطلقة بها إذ لا قصور في الرحمة حتى لا يتحقق بدونها، على أن من تاب فقد خرج من الذنوب فلو قصرت المغفرة على التائب تعطل معنى الآيات والروايات وذهبت فائدة الرحمة وسعتها فلابد من أن لا ييأس العاصي وأن يكون بين الخوف والرجاء بل يكون طمعه بالرجاء أوثق وقلبه بشمول العناية أعلق كما قيل وبالجملة وجب على العاصي أن يتوب ويرجع وإن لم يتب وجب عليه أن لا يقنط لئلا يزيد على كبيرة كبيرة أخرى.

إذا كثرت منك الذنوب فداوها * برفع يد في الليل والليل مظلم ولا تيأسن من رحمة الله إنما * قنوطك منها من ذنوبك أعظم (ويخرجه من الإيمان ولا يخرجه من الاسلام) قد شاع عند أهل البيت (عليهم السلام) اطلاق الإيمان على الإيمان الذي لا كرب معه ولا عقوبة بعد الدنيا وهو الإيمان الكامل وإطلاق الاسلام على ما دونه وهو يجامع أصل الإيمان فهذا العاصي يخرج من كمال الإيمان ولا يخرج من أصله فتدركه الرحمة أو الشفاعة إن شاء الله، والله أعلم.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان؟ قال: هو قوله: (وأيدهم بروح منه) ذلك الذي يفارقه.

* الشرح:

قوله (قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان؟ قال:

هو قوله: (وأيدهم بروح منه) ذلك الذي يفارقه) أصل الإيمان وهو التصديق بالربوبية والرسالة والولاية حق وله حقيقة وهي موافقة الظاهر والباطن في التعلق بما ينبغي وإليه يشير قوله (صلى الله عليه وآله) «فما حقيقة ايمانكم» مخاطبا لقوم قالوا «نحن مؤمنون» وقوله لحارثة - حين سأله عن حاله فقال مؤمن حقا -: «إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟» وقوله «إن لكل يقين حقيقة» وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إن على كل حق حقيقة» وهذا جار بعمومه فإن كل عبادة مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها حق وله حقيقة وكل خلق من الأخلاق الحسنة حق وله حقيقة هو أولها وهي غايته وهو ظاهرها وهي كماله وبطانته كالتوكل والتقوى مثلا فإن التوكل حق بضرورة عقد الإيمان مع التعلق بالأسباب وحقيقته ينتهي إليها الخاص بقطع الأسباب وسكون قلبه إلى مسبب الأسباب،

ص:266

والتقوى حق تشمل عوام المؤمنين وهي تقوى الشرك وحقيقتها غاية يبلغها خواص الأولياء كما قال عز وجل (اتقوا الله حق تقاته) ثم للحقيقة علامات منها الإعراض عن الدنيا وعدم الميل ونور الإيمان إذ بها يهتدي الطالب إلى المطلوب ويعرف بين أهل السماوات والأرضين، وروح الإيمان إذ بها حياة الإيمان وحياة قلب المؤمن أبدا، وقد يطلق روح الإيمان على ملك موكل بقلب المؤمن يعينه ويهديه في مقابل شيطان يضله ويغويه وعلى نصرة ذلك الملك أيضا وحينئذ لا ريب في أنه إذا زنى المؤمن فارق عنه حقيقة الإيمان وكماله ونوره كما دل عليه بعض الروايات وروحه بالمعاني الثلاثة ثم إذا تاب عاد إلى محله، وقد يعود الروح بالمعنيين الآخرين قبل التوبة أيضا، والضمير المجرور في قوله «بروح منه» راجع إلى الله أو إلى الإيمان. ومن هذا الإجمال يظهر حقيقة المقال، والله أعلم.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن ربعي، عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

يسلب منه روح الإيمان ما دام على بطنها فإذا نزل عاد الإيمان. قال: قلت [له]: أرأيت إن هم؟ قال: لا، أرأيت إن هم أن يسرق أتقطع يده؟.

* الشرح:

قوله (قال يسلب منه روح الإيمان ما دام على بطنها فإذا نزل عاد الإيمان) الظاهر أن المراد بروح الإيمان هنا أحد المعنيين الأخيرين المذكورين حيث لم يقيد العود بالتوبة ويمكن أن يراد بها حقيقته بقرينة قوله عاد الإيمان، ولعل المراد أنه يسلب منه شعبة من شعب الإيمان وهي ايمان أيضا فإن المؤمن يعلم أن الزنا مهلك ويزهر نور هذا العلم في قلبه ويبعثه على كف الآلة عن الفعل المخصوص، وكل واحد منهما - أعني العلم والكف - ايمان وشعبة من الإيمان أيضا فإذا غلبت الشهوة على العقل وأحاطت ظلمتها بالقلب زال عنه نور ذلك العلم واشتغلت الآلة بذلك الفعل فانتقصت من الإيمان شعبتان، وإذا انتقصت الشهوة وعاد العقل إلى ممالكه وعلم وقوع الفساد فيها وشرع في اصلاحها بالندامة عن الغفلة صار ذلك الفعل كالعدم أو زالت تلك الظلمة عن القلب ويعود نور ذلك العلم فيعود ايمانه ويصير كاملا بعد ما صار ناقصا (قال قلت [له] أرأيت إن هم) أي أخبرني إن هم أن يزني هل هو مثل أن يزني في العقوبة؟ (قال: لا) أي ليس هم الزنا مثل فعله فيها.

(أرأيت إن هم أن يسرق أتقطع يده) ليس المقصود منه إثبات الحكم بالقياس بل المقصود منه تقوية الحكم بالتماثل وإن كان كل مستندا إلى نص.

ص:267

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن صباح بن سيابة قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له محمد بن عبده: يزني الزاني وهو مؤمن؟ قال: لا إذا كان على بطنها سلب الإيمان منه فإذا قام رد عليه، قلت: فإنه أراد أن يعود؟ قال: ما أكثر ما يهم أن يعود ثم لا يعود.

14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمدا والشرك بالله العظيم وقذف المحصنة وأكل الربا بعد البينة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم ظلما، قال: والتعرب والشرك واحد.

* الشرح:

قوله (قال والتعرب والشرك واحد) أي واحد في الكبر والإثم لا في الحقيقة والصدق.

15 - أبان، عن زياد الكناسي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): والذي إذا دعاه أبوه لعن أباه والذي إذا أجابه ابنه يضربه.

* الشرح:

قوله (والذي إذا دعاه أبوه لعن أباه -... إلى آخره) يريد أن لعن الأب عند دعائه وضرب الابن بدون ذنب من الكبائر، والأول داخل في العقوق، والثاني قريب منه.

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه، عن محمد بن داود الغنوي، عن الأصبغ بن نباتة قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن ناسا زعموا أن العبد لا يزني وهو مؤمن ولا يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن ولا يأكل الربا وهو مؤمن ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن، فقد ثقل علي هذا وحرج منه صدري حين أزعم أن هذا العبد يصلي صلاتي ويدعو دعائي ويناكحني واناكحه ويوارثني واوارثه وقد خرج من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه، فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: صدقت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول، والدليل عليه كتاب الله: خلق الله عز وجل الناس على ثلاث طبقات وأنزلهم ثلاث منازل وذلك قول الله عز وجل في الكتاب: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل الله فيهم خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح القوة وروح الشهوة وروح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين وبها علموا الأشياء وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به

ص:268

شيئا وبروح القوة جاهدوا عدوهم وعالجوا معاشهم وبروح الشهوة أصابوا لذيذ الطعام ونكحوا الحلال من شباب النساء وبروح البدن دبوا ودرجوا فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم، ثم قال: قال الله عز وجل: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) ثم قال: في جماعتهم (وأيدهم بروح منه) يقول: أكرمهم بها ففضلهم على من سواهم، فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم، ثم ذكر أصحاب الميمنة وهم المؤمنون حقا بأعيانهم، جعل الله فيهم أربعة أرواح: روح الإيمان وروح القوة وروح الشهوة وروح البدن فلا يزال العبد يستكمل هذه الأرواح الأربعة حتى تأتي عليه حالات، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذه الحالات؟ فقال: أما أولادهن فهو كما قال الله عز وجل: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا) فهذا ينتقص منه جميع الأرواح وليس بالذي يخرج من دين الله لأن الفاعل به رده إلى أرذل عمره فهو لا يعرف للصلاة وقتا ولا يستطيع التهجد بالليل ولا بالنهار ولا القيام في الصف مع الناس، فهذا نقصان من روح الإيمان وليس يضره شيئا، ومنهم من ينتقص منه روح القوة فلا يستطيع جهاد عدوه ولا يستطيع طلب المعيشة ومنهم من ينتقص منه روح الشهوة فلو مرت به أصبح بنات آدم لم يحن إليها ولم يقم وتبقى روح البدن فيه فهو يدب ويدرج حتى يأتيه ملك الموت فهذا الحال خير لأن الله عز وجل هو الفاعل به وقد تأتي عليه حالات في قوته وشبابه فيهم بالخطيئة فيشجعه روح القوة ويزين له روح الشهوة ويقوده روح البدن حتى توقعه في الخطيئة، فإذا لامسها نقص من الإيمان وتفصى منه فليس يعود فيه حتى يتوب، فإذا تاب تاب الله عليه وإن عاد أدخله الله نار جهنم، فأما أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى يقول الله عز وجل: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) يعرفون محمد والولاية في التوراة والإنجيل كما يعرفون أبناءهم في منازلهم (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك) إنك الرسول إليهم (فلا تكونن من الممترين) فلما جحدوا ما عرفوا ابتلاهم [الله] بذلك فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح روح القوة وروح الشهوة وروح البدن، ثم أضافهم إلى الأنعام، فقال: (إن هم إلا كالأنعام) لأن الدابة إنما تحمل بروح القوة وتعتلف بروح الشهوة وتسير بروح البدن، فقال [له] السائل أحييت قلبي بإذن الله يا أمير المؤمنين.

ص:269

* الشرح:

قوله (وقد خرج من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه) اليسير في مقابل الكثير لا في مقابل الحقير فلا ينافي عظمة الذنوب المذكورة.

(خلق الله الناس على ثلاث طبقات) (1) الخلق بمعنى الإيجاد أو التقدير ووجه الحصر أن الناس إما كافر أو مؤمن، والمؤمن إما أن يكون له قوة قدسية مقتضية للعصمة أو لم تكن، والأول أصحاب المشأمة، والأخير أصحاب الميمنة، والثاني السابقون، ويفهم منه أن غير المؤمن من أهل الاسلام داخلون في أصحاب المشأمة، وقد مر نظير هذا الحديث في كتاب الحجة في باب ذكر الأرواح التي في الأئمة (عليهم السلام)، وذكرنا شرحه مفصلا فلا نعيده ولا نتعرض إلا بعض ما ينبغي التعرض له (فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم) ذنوبهم عبارة عن خلاف الأولى (وهم المؤمنون حقا) هم الذين حققوا إيمانهم بيقين أو اتصفوا بمقتضاه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.

(ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة (2) قاله في

ص:270


1- 1 - قوله «خلق الله الناس على ثلاث طبقات» حديث شريف مشتمل على معان دقيقة وانما لم يتعرض لشرحها كثيرا لأن معناه سبق في حديث أورد في كتاب الحجة (الصفحة 60 وما بعدها من الجزء السادس) وذكر الشارح فيه ما ينبغي أن يذكره وغني عن الإعادة. (ش).
2- 2 - قوله «أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة» إن قيل: لا يزال العلماء يحتجون على بقاء النفس الناطقة بعد فناء البدن ببقاء العقل مع ضعف آلات الإحساس وهو من مبادئ علم الأخلاق وهذا الكلام ينافيه. قلنا: أشرنا فيما مر إلى ما فيه كفاية لدفع الشبهة ونزيد توضيحا وبيانا: أن كل قوة تتوقف على وجود البدن وآلاته تفنى بخراب البدن وفساده وكل قوة لا تتوقف عليه لا تفنى كما قلنا في قوة الإبصار فإنا نعلم أنها قوة جسمانية متوقفة على عين صحيحة فإذا فسد مزاج العين بطل الإبصار ولكن الذي كان أكثر عمره بصيرا ورأى أشياء كثيرة واختزنت في ذهنه، ثم عمي آخر عمره لم تزل عن ذهنه ما كان رآه سابقا فنعلم بذلك أن حفظ ما رآه ليس متوقفا على العين ولا تفنى بفساد العين بخلاف الإبصار فإنه لا يستطيع أن يجدد إبصارا، وهكذا نقول في جميع ما يحصل من الحواس ويجتمع عند النفس طول عمر الإنسان لا يجب أن يبطل بزوال الحواس فلا تزول المسموعات وما ترتب عليها من العلوم المكتسبة إذا فسد الإذن وصار صاحبها أصم، فاحدس من هذا أن ما اختزنت من العلوم للإنسان لا تزول بزوال حواسه جميعا إذ لا يحتاج بقاؤها إلى الحواس وانما يحتاج في حدوثها فقط. فبقي احتمال واحد وهو أن يكون اختزان العلوم المكتسبة في جسم غير الآلات الحسية الظاهرة كالدماغ مثلا وهو احتمال مردود بأن كل عضو من أعضاء البدن له قوة وقدرة على فعل فإنما يصدر عنه فعل بعد فعل متدرجا ولا يجتمع الجميع فيه دفعة واحدة فلا تستطيع الإذن أن تسمع آلافا من الأصوات دفعة واحدة بل يؤثر فيها صوت فتسمعه وينتفي أثره فلا تسمعه، ويؤثر فيها بعد ذلك صوت آخر فتسمعه بعد الأول، وهكذا الإبصار بل الفكر الذي هو جسماني في الدماغ لا يستطيع أن يتفكر في مسألة لاحقة إلا بعد أن يعرض عن مسألة سابقة ولا يقدر أن يفكر دفعة واحدة في مسألة رياضية وإلهية معا. والذاكرة أيضا جسمانية لا تقدر أن تتفحص عن شعر وآية وعبارة ومسألة دفعة واحدة، وهذا يدل على أن الدماغ أيضا لا يقدر إلا على فعل بعد فعل تدريجا. وأما العلماء بعد أن بلغوا خمسا وسبعين سنة بل وأكثر وضعفت قواهم الجسمانية جميعا فهم ذوو ملكة علمية جامعة للمسائل الكثيرة الحاصلة لهم طول عمرهم يرجعونها من عند أنفسهم من غير علم جديد وليسوا مساوين لأنفسهم حال صغرهم قبل البلوغ والتعلم قطعا وحينئذ فنسأل عن ملاك الفرق بين الحالتين المتمايزتين: حالة الصغر قبل التعلم وحالة الكبر بعد الحنكة، فإن قيل لا فرق; قلنا هذا باطل بالحس. وإن قيل بينهما فرق بشيء موجود في دماغ الشيخ الكبير دون الطفل الصغير. قلنا هذا أيضا باطل غير معقول لأنا نعلم أن العلوم الكثيرة التي اجتمعت للعلماء والحكماء لا يمكن أن تكون آثارا جسمانية نظير الخطوط والنقوش والألوان مجتمعة حاصلة في دماغ إذ يبطل كل أثر منها الأثر الآخر، والجسم لا يقوى إلا على فعل واحد في آن واحد وعلى أفعال كثيرة متدرجة في أزمنة متعاقبة لا في زمان واحد فبقي أن يكون حامل تلك العلوم موجودا غير جسماني غير محتاج في وجوده إلى البدن ولا يضمحل بفساده ونحن نعترف بأن الدماغ آلة للفكر أعني لتحصيل المعقولات لا لتعقلها وحفظها كما أن البصر آلة لتحصيل المبصرات لا لحفظها وتجريدها (راجع الصفحة 226 من هذا الجزء). (ش).

الكشاف ونقله عن علي (عليه السلام).

(وتبقى روح البدن) لم يرد به بقاءه على كماله لعروض النقص فيه أيضا (فإذا لامسها نقص من الإيمان وتفصى منه). الإيمان يطلق على التصديق وعلى الأخلاق والأعمال وعلى الأول بشرط وجود الثاني وعلى المجموع من حيث هو والأول أفضل من الثاني والأخيران أفضل منهما وبين الأخيرين تفاوت وتفاضل حتى يبلغ إلى غاية الكمال، إذا عرفت هذا فنقول إذا انتفى التصديق سواء كان هو الإيمان وحده أو هو مع العمل أو بشرط وجوده تحقق الكفر والجحود وإذا تحقق التصديق وتحققت المخالفة في العمل تحقق النقص من الإيمان والخروج من كماله.

(فإذا تاب تاب الله عليه) أي قبل توبته ولا يعذبه وصارت التوبة كفارة لذنبه وسببا لاستقامته فيعود الإيمان إلى حاله، وإن لم يتب أو عاد بعد التوبة إلى المعصية مستمرا عليها أدخله الله نار جهنم إن لم تدركه الرحمة أو الشفاعة. ثم بعد الدخول لا يكون مخلدا ان شاء الله.

17 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان؟ قال: فقال: هو مثل قول الله عز وجل [:

(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ثم قال: غير هذا أبين منه، ذلك قول الله عز وجل]: (وأيدهم بروح منه) هو الذي فارقه.

* الشرح:

قوله (إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان) مر تفسيره في هذا الباب. (قال فقال هو مثل قول الله عز وجل (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون)) أي لا تقصدوا الخبيث من المال. و

ص:271

«تنفقون» حال مقررة لفاعل «تيمموا» ويحتمل أن يتعلق منه به ويكون الضمير المجرور للخبيث، والجملة حال منه، ولعل وجه المماثلة أن إيمان الزاني ناقص لا أنه معدوم بكله كما أن الإنفاق من المال الخبيث ناقص لا أنه ليس بإنفاق أصلا.

(ثم قال غير هذا أبين منه ذلك قول الله عز وجل (وأيدهم بروح منه) هو الذي فارقه) أي المفارق روح الإيمان وهو الملك الموكل به لهدايته أو قوة الإيمان أو نوره أو حقيقته على ما مر تفصيله دون الإيمان كله.

18 - يونس، عن ابن بكير، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) الكبائر فما سواها قال: قلت: دخلت الكبائر في الاستثناء قال: نعم.

* الشرح:

قوله (قال قلت دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال: نعم) المراد بالاستثناء مغفرة ما دون الشرك لمن يشاء وإنما سمى استثناء لأنه في قوة لا يغفر إلا ما دون الشرك، وهذا السؤال بعد تفسيره (عليه السلام) ما دون الشرك بالكبائر فما سواها نشأ من نشاط النفس وانبساطها وفيه دلالة واضحة على أنه جل وعز يغفر الكبائر بدون التوبة ولكن قال لمن يشاء لئلا يجترى العبد بالمعصية لجواز أن لا تتعلق به المشيئة.

19 - يونس، عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الكبائر فيها استثناء أن يغفر لمن يشاء؟ قال: نعم.

20 - يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول (من يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) قال: معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار.

* الشرح:

قوله (قال معرفة الإمام واجتناب الكبائر) فسر الحكمة بهما لأنهما من أعظم أفرادها لا لانحصارها فيها، ولعل السر فيه أن الحكمة وهي معرفة ما ينبغي معرفته نور القلب، به يعرف المشروعات والمحظورات والمعقولات والمستحيلات وأعظم ذلك النور معرفة الإمام لأنها أصل لجميع الخيرات وأعظم ثمراته اجتناب الكبائر لكونه أفخم القربات واشتماله على أعظم الواجبات.

21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم قال: قلت لأبي

ص:272

الحسن (عليه السلام): الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن.

* الشرح:

قوله (قلت لأبي الحسن (عليه السلام) الكبائر تخرج من الإيمان فقال نعم وما دون الكبائر) لا يخفى أن ما دون الكبائر هو الصغائر ولا يقول أحد بأن الصغائر تخرج من الإيمان وتزيله بكله، غاية ما في الباب أنها تنقصه، ومنه يفهم أن الكبائر تنقصه أيضا لا تنفيه بالمرة، فهذا الخبر ونحوه يمكن أن يكون تفسير الأخبار المجملة الدالة على أن الكبائر تخرج من الإيمان (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن) قد مر كلام الأكابر في تأويله وتأويل مثله، ومنهم من حمل نظيره على النهي دون الخبر تحرزا عما يفيد ظاهره ومن أحاط علما بالأخبار يعلم أن هذا الحمل لا يحسم مادة الإشكال.

22 - ابن أبي عمير، عن علي [بن] الزيات، عن عبيد بن زرارة قال: دخل ابن قيس الماصر وعمرو بن ذر - وأظن معهما أبو حنيفة - على أبي جعفر (عليه السلام) فتكلم ابن قيس الماصر فقال: إنا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب، قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): يا ابن قيس أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد قال: لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن، فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت.

* الشرح:

قوله (فتلكم ابن قيس الماصر فقال انا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب) كأنه أراد أن المعاصي لا تضر الإيمان أصلا كما هو مذهب طائفة من المبتدعة فأجاب (عليه السلام) بأنها تضره.

23 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام وإن عذب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدة وانقطاع؟ فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذب أشد العذاب وإن كان معترفا أنه أذنب ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام وكان عذابه أهون من عذاب الأول.

* الشرح:

قوله (فقال من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الاسلام وعذب أشد العذاب) لأن المحلل لكبيرة راد على الله والراد عليه كافر خارج من الاسلام فيستحق الخلود في النار وأشد العذاب لأن تحليل الحرام بعد العلم به أقبح من تحليله بدون العلم والمعرفة

ص:273

ويفهم منه أن عذاب المرتد أشد من عذاب غيره.

(وكان عذابه أهون من عذاب الأول) لعل المراد أن عذابه أهون بحسب الكم لعدم الخلود، وبحسب الكيف لاعترافه بالمعصية وعدم رده الشريعة المعلومة.

24 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال:

حدثني أبو جعفر صلوات الله عليه قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول:

دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله (عليه السلام) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) ثم أمسك فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) ما أسكنك؟ قال: احب أن أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك بالله، يقول الله: (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) وبعده الإياس من روح الله، لأن الله عز وجل يقول: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) ثم الأمن لمكر الله، لأن الله عز وجل يقول: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) ومنها عقوق الوالدين، لأن الله سبحانه جعل العاق جبارا شقيا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، لان الله عز وجل يقول: (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) إلى آخر الآية، وقذف المحصنة، لأن الله عز وجل يقول: (لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) وأكل مال اليتيم. لأن الله عز وجل يقول: (إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).

وأكل الربا لأن الله عز وجل يقول: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) والسحر لأن الله عز وجل يقول: (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) والزنا لأن الله عز وجل يقول: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا) واليمين الغموس الفاجرة لأن الله عز وجل يقول: (الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الآخرة) والغلول لأن الله عز وجل يقول: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة) منع الزكاة المفروضة لأن الله عز وجل يقول: (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله عز وجل يقول: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وشرب الخمر لأن الله عز وجل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسول

ص:274

الله (صلى الله عليه وآله)، ونقض العهد وقطيعة الرحم، لأن الله عز وجل يقول: (اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: هل من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم.

* الشرح:

قوله (أكبر الكبائر الإشراك بالله) يدخل في المشرك عبدة الأوثان والملاحدة وعبدة النيران والمصورة والمجسمة والغلاة واضرابهم.

(وبعده الإياس من روح الله) دل على أن الإياس بعد الإشراك أكبر من البواقي وعلى أن ترك الرجاء كبيرة كما دل قوله «ثم الأمن لمكر الله» أي لعقوبته على أن عدم الخوف كبيرة فوجب الجمع بين الخوف والرجاء.

(وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) لا ريب في أن قتل النفس المحرمة كبيرة وأما أنه سبب للخلود في النار كما دلت عليه الآية الكريمة فإما أن يراد بالقتل القتل مستحلا أو لأجل دينه وإيمانه فيكون كافرا خارجا عن الاسلام مستحقا للنار أبدا، ويدل عليه رواية سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله عز وجل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) قال من قتل مؤمنا على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله عز وجل (وأعد له عذابا عظيما) قال قلت:

فالرجل. يقع بينه وبين الرجل شيء فيضربه بسيفه فيقتله قال: ليس ذاك المتعمد الذي قال الله عز وجل». وإما أن يراد بالخلود الزمان الطويل دون الأبد لأن ذا الكبيرة يخرج من النار كما دلت عليه الأخبار وصرح به بعض الأصحاب.

(وأكل مال اليتيم) يمكن أن يدخل في الوعيد أيضا أكل مال الشيعة بغير حق فإن الشيعة أيتام آل محمد (عليه السلام) كما دل عليه بعض الروايات.

(لأن الله عز وجل يقول:) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما (انما يأكلون في بطونهم نارا) قيل أي سببا للنار أو أكلها كناية (1) من دخولها أو المراد به أكلها يوم القيامة و «ظلما» حال أو تميز أي ظالمين أو من جهة الظلم، وهو إما للبيان والكشف فإن أكل أموالهم انما يكون ظلما كما في

ص:275


1- 1 - قوله «أو أكلها كناية» لا ريب أن للأمور صورا مختلفة بالنسبة إلى النشآت والعوالم المختلفة فما هو مأكول ومشروب من مال اليتيم هو بعينه نار بصورة أخرويه كما أن اللبن الذي يشربه النائم هو بعينه علم في الدنيا، والآخرة محيط بالدنيا كالدنيا بالرحم فما هو في الدنيا فهو في الآخرة ومن أكل مال اليتيم فإنما أكل النار حقيقة من غير حاجة إلى تأويل وتوجيه كما ورد في القرآن الكريم في وصف الكفار (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). (ش).

(تقتلون النبيين بغير حق) أو للتقييد لأنه يجوز أكل مالهم بالحق مثل الأكل أجرة بالمعروف أو عوضا عما اقترضه آباؤهم أو مستقرضا من مالهم، وحكم غير الأكل من التصرفات حكمه، وذكر البطون للتأكيد مثل (يطير بجناحيه) ونظرت بعيني (وسيصلون سعيرا) صلى بالنار وصليها من باب علم: وجد حرها، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار سعرا من باب منع إذا أوقدتها أي يلزمون النار المسعورة الموقدة ويقاسون حرها وشدائدها، وقيل فيه إعادة لما سبق ليعلم أن أكل مال اليتيم سبب تام لدخول النار لا أنه سبب ناقص صغير بل هو كبير من الكبائر.

(وأكل الربا لأن الله عز وجل يقول: (الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)) المس: الجنون وهو متعلق ب «لا يقومون» أو ب «يقوم» أو يتخبطه أي لا يقومون من القبور إلا قياما مثل قيام الشخص الذي يتخبطه الشيطان ويجعله مصروعا من الجنون، وهذا بناء على زعم العرب (1) أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه والخبط حركة على غير النحو الطبيعي وعلى غير اتساق كخبط العشواء، حاصله كما صرح به بعض الأصحاب أنهم لا يقومون من قبورهم بسبب الربا ووزره وثقله عليهم قياما مثل قيام صحيح العقل بل مثل قيام المجانين فيسقطون تارة ويمشون على غير الاستقامة أخرى ولا يقدرون على القيام أخرى فكان ما أكلوا من الربا أربى في بطونهم وصار شيئا ثقيلا على ظهورهم فلا يقدرون على القيام والمشي على الاستقامة، وقيل يكون علامة لهم يوم القيامة (2) يعرفون بها كما أن لبعض المعاصي علامة يعرف صاحبه بها وكذا

ص:276


1- 1 - قوله «بناء على زعم العرب» قد يقع في كلام العرب كلمات وتعبيرات لا يراد بها اثبات حقائقها بل إعطاء مفاهيمها مثل قول امرئ القيس «ومسنونة زرق كأنياب أغوال» وفي القرآن (طلعها كأنه رؤس الشياطين) ولا يستدل به على أن العرب كان عندهم شيء معروف يسمى برؤوس الشياطين بل أريد به غاية القبح والشر، وإذا اطلق النبي (صلى الله عليه وآله) على جده اسم عبد مناف لا يدل على أن جده كان عبدا لغير الله بل هو اسم يعرف به وعبد الشمس كذلك ولعل من سماهما بهذه التسمية أيضا كان موحدا فأول كما نسمي بكلب علي وغلام حسين، ورأينا في أطباء عصرنا من لا يعتبر الكيفيات الأربع الحار والبارد والرطب واليابس في الأدوية ويتكلم بلسان المرضى يقول اجتنب عن كل مأكول حار أو استكثر من البرودة وهكذا. والله العالم. (ش).
2- 2 - قوله «يكون علامة لهم يوم القيامة» توجه الإنسان إلى شيء واحد بعينه وعدم تصرف فكره في الأمور المختلفة يورث نوعا من الجنون يسمى مانيا وكل أهل حرفة سواء كان تاجرا أو صانعا أو زارعا يتفكر في أمور كثيرة متعلقة بشغله وأما آكل الربا فذهنه متوجه إلى شيء واحد لا يلتفت إلى غيره وليس شغله متشعبا إلى أفعال مختلفة كثيرة كالتجار والصناع ففكرهم يشبه فكر المجانين هذا النحو من الجنون فربما يستمر ساعات بل أياما يتفكر في شيء واحد يأخذ مجامع إدراكه ويسكت ولا يتكلم ولا ينام ثم يهيج به فيغضب ويريد أن يثب ويحمل ولا يقدر أحد أن يصرفه عما هو فيه وفيه سبعية وكلب وهكذا أصحاب الربا يشبهون هؤلاء للعلة المذكورة، هذا مقتضى نفس العمل فإن وجدوا بخلاف ذلك فهو لتعارض سائر الأعمال والأشغال المخالفة له. (ش).

الطاعات (والسحر) الظاهر أن تعليمه وتعلمه والعمل به كبيرة وجوز بعضهم تعلمه ليبطل على مدعيه وليفرق بينه وبين المعجزة.

(والزنا) لا يبعد إلحاق اللواط والمساحقة به (واليمين الغموس الفاجرة) هي اليمين الكاذبة على ما مضى وليس فيها كفارة لشدة الذنب فيها فكأنه مغموس في الذنب لحلفه كاذبا على علم منه. (والغلول) هو لغة: الخيانة، وعرفا الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة، وكل من خان في شيء خفية فقد غل، يقال: غل غلولا من باب قعد، وأغل إغلالا في المغنم، وقال ابن السكيت: لم يسمع في المغنم إلا غل ثلاثيا وهو متعد في الأصل لكن أميت مفعوله فلم ينطق به، وقال نفطويه: سمي غلولا لأن الأيدي منها مغلولة محبوسة كأنها مجعول فيها غل وهو بالضم طوق من حديد يجمع أيدي الأسير إلى عنقه، ولا يبعد إلحاق الغصب والسرقة به لأنه إذا كان كبيرة مع الشركة فهما أولى منه بذلك مع عدم الشركة.

(ومنع الزكاة المفروضة) أما غير المفروضة لا عقوبة في منعه وانما الغبن فيه هو الحرمان من ثوابه (لأن الله عز وجل يقول:) (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) الكنز لغة: جمع المال وادخاره، وعرفا: المال المذخور المحفوظ تحت الأرض أو فوقها وبعض الأصحاب خصه بالأول لكن قال: لعل المراد هنا حفظه مطلقا وعدم انفاقه فيكون (ولا ينفقونها) بيانا للمقصود وقوله (فبشرهم) خبر للموصول، والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، و (يوم تحمى) منصوب على الظرف بعامل محذوف على أنه صفة لعذاب أي بعذاب أليم كائن يوم يحمى، والضمائر المؤنثة إما راجعة إلى الكنوز المفهومة من سياق الكلام أو إلى كل واحد من الذهب والفضة، والتأنيث باعتبار الفضة أو باعتبار الكثرة أو إلى الفضة لقربها، وفهم حكم الذنب بالطريق الأولى.

وقال بعض الأصحاب: اختيار هذه الأعضاء لأن الجبهة كناية عن الأعضاء المقاديم المواجهة، والجنوب كناية عن الأيمان والشمائل، والظهور كناية عن الأعضاء المتأخرة، فاستوعب الكي البدن كله وفيه أقوال أخر، ولعل الاستشهاد بالآية باعتبار أن المراد بالكنز وعدم الإنفاق منع الزكاة فيكون فيها إشارة اجمالية إلى وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وتفصيل شرائط الوجوب والنصاب وقدر المخرج مذكور في محله.

ص:277

(وشهادة الزور) وهي الشهادة بغير علم عمدا سواء طابقت الواقع أم لا، وتفسيرها بالشهادة بالكذب ليس بشيء لأنه تفسير بالأخص، ولو استندت بالشهادة إلى شبهة كرؤيتهم إياه وقد ظهرت فيه آثار الموت وعلاماته فظنوا أنه مات فشهدوا بموته فالظاهر أنها ليست شهادة زور تعد من الكبائر وإن كانت فسقا لأن العلم معتبر في أداء الشهادة، ثم إن شهادة الزور لما كانت مفضية إلى إتلاف النفس والمال وتحريم الحلال وعكسه وإجراء الحدود كانت مفسدة عظيمة حتى قيل إنه ليس بعد الشرك أعظم منها، ثم الظاهر من الحديث أنها كبيرة وإن كان المشهود به يسيرا، وقال بعض العامة: هي كبيرة قطعا إذا تلف به خطير وضبطه بنصاب السرقة، فإن نقص عنه احتمل أن تكون كبيرة وأن لا تكون والأول أظهر، سدا لباب المفسدة، كما أن شرب قطرة من الخمر كبيرة لأجل ذلك.

ص:278

باب استصغار الذنب

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي اسامة زيد الشحام، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر، قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول:

طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك.

* الشرح:

قوله (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر) أي لا تغفر لأجل تحقيرها، وقال الباقر (عليه السلام) لمحمد ابن مسلم «يا محمد لا تستصغرن سيئة تعمل بها فإنك تراها حيث تسوؤك».

(قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك) أي غير ذلك الذنب فقد عده محقرا ولم يحصل له خوف منه، والواجب عليه استشعار الخوف منه وعدم تحقيره له وإن كان صغيرا في نفسه لأنه عظيم في مخالفة الرب تبارك وتعالى.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيرا وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف.

* الشرح:

قوله (لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب) الظاهر من القلة القلة بحسب العدد سواء كان في نفسه كبيرا وصغيرا ويحتمل أن يراد بها القلة بحسب الكيف والمقدار فيختص بالأخير، والمقصود أن العمل الصادر من العبد إن كان طاعة وخيرا فليعد نفسه مقصرة في الكم والكيف. وإن كان كثيرا بالنسبة إلى وسعه لأن ذلك أدخل في تعظيم الرب وأبعد من العجب والاعتماد على عمله وأقرب إلى البقاء عليه والسعي فيه ومقام العبودية المبنية على التذلل والاعتراف بالتقصير، وإن كان ذنبا فليعده كثيرا عظيما وإن كان قليلا حقيرا في نفسه لأنه بالنظر إلى مخالفة الرب عظيم كثير، أو تقليله موجب لعدم المبالاة به والاعتناء بشأنه وسبب للوقوع فيه والإتيان به مرة بعد أخرى تجتمع عليه ذنوب كثيرة ويبلغ حد الكبيرة (وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف) الخوف من الله مطلوب في السر والعلانية إلا أنه في السر أعظم وأفضل إذ لا زاجر له سوى ذكره عز وجل فلذلك خصه بالذكر مع أن حصول

ص:279

الخوف في السر مستلزم لحصوله في العلانية، والنصف والنصفة بفتحين اسم من الإنصاف وهو لزوم العدل في المعاملات مع الرب وغيره.

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال والحجال، جميعا عن ثعلبة، عن زياد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالبا، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين.

* الشرح:

قوله (نزل بأرض قرعاء) هي أرض لا شجر فيها ولا نبات، ومنه الرجل الأقرع الذي لم يبق على رأسه شعر إما أصالة أو لذهابه من آفة، وفعله من باب علم.

(فإن لكل شيء طالبا) أي لكل شيء من الطاعات والذنوب يطلب حفظه وضبطه صغيرا كان أو كبيرا ليجزي صاحبه.

(وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم) أي طالب الذنوب يكتب ما قدموا منها وآثارهم التي بقيت بعدهم من البدع مثل إذاعة باطل وتأسيس ظلم.

(وكل شيء) من الأعمال وغيرها (أحصيناه في إمام مبين) أي في اللوح المحفوظ أو في القرآن أو في دفتر الأعمال وقد مر توضيحه، وفيه حث بليغ على ترك الذنوب كلها وفعل الخيرات لأن الإنسان إذا علم واستيقن بأن عليه حافظا رقيبا يكتب كل ما عمله ليحاسبه ويجزيه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، يجود عمله ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب.

ص:280

باب الإصرار على الذنب

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الله بن محمد النهيكي، عن عمار ابن مروإن القندي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.

* الشرح:

قوله (لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار) ظاهره أن الكبيرة تصير صغيرة أو تزول بالكلية مع الاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة مع الإصرار وهو مع ذلك يستلزم الجرأة على الكبيرة غالبا ولذلك ألحق العلماء بالكبائر الإصرار على الصغائر واستدلوا بهذا الحديث، وتوضيحه:

أنه (عليه السلام) دعا إلى الاستغفار عن كبائر الذنوب وصغائرها وبين أن الصغيرة مع الإصرار لا يبقى صغيرة على حالها، لأن الإصرار بها معصية أخرى تنضم إلى الأولى فإذا دام على الإصرار توالت المعاصي وتكاثرت وتراكمت حتى تعد كبيرة لا سيما إذا كان الإصرار يتضمن الاستهانة والاحتقار وقد قيل في تفسير قوله تعالى (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) يعذب من يشاء على الصغيرة للإصرار بها، ويغفر لمن يشاء الكبيرة لاستعظامه إياها وخوفه من الله.

وقوله (عليه السلام) «ولا كبيرة» مع الاستغفار معناه أن الكبيرة لا تبقى كبيرة بل تذوب وتصغر بأمر الله تعالى إذا قارنها الاستغفار وهو طلب المغفرة من الغفار; وذلك لأن الاستغفار يتضمن التوبة مع طلب المغفرة، والمستغفر يشاهد قبح فعله وشناعة ذنبه واستحقاقه للعقوبة فيندم بقلبه والندم توبة، ثم يسأل بصدق النية المغفرة منه مستعظما له فتصغر بذلك كبيرته عند الله تعالى بل ربما تزول عن أصلها، ويوافق الفقرتين قول بعض العارفين متى عظمت المعصية في قلب العاصي صغرت عند الله تعالى ومتى صغرت في قلبه عظمت عنده تعالى.

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار.

* الشرح:

قوله (الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار) دل على أن الإصرار يتحقق بالذنب مع عدم الاستغفار والتوبة سواء أذنب ذنبا آخر من

ص:281

نوع ذلك الذنب أو من غير نوعه أو عزم على ذنب آخر أم لا، أما تحققه في غير الأخير فظاهر وأما في الأخير فلان التوبة واجبة في كل آن فتركها ذنب مضاف إلى الذنب الأول فيتحقق الإصرار، وقسم الشهيد في «قواعده» الإصرار إلى فعلي وحكمي وقال: الفعلي هو الدوام على نوع واحد من الصغاير بلا توبة والاكثار من جنس الصغاير بلا توبة، والحكمي هو العزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها، أما لو فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصر.

وقال الشيخ في الأربعين: تخصيصه الإصرار الحكمي بالعزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يعطي أنه لو كان عازما على صغيرة أخرى بعد الفراغ مما هو فيه لا يكون مصرا والظاهر أنه مصر أيضا وتقييده ب «بعد الفراغ منها» يقتضي بظاهره أن من كان عازما مدة سنة على لبس الحرير مثلا لكن لم يلبسه أصلا لعدم تمكنه لا يكون في تلك المدة مصرا، وهو محل نظر، وقال بعض: الإصرار هو إدامة الفعل والعزم على إدامته يصح معها إطلاق وصف العزم عليه، وقال بعضهم: هو تكرار الصغيرة تكرارا يشعر بقلة المبالاة إشعار الكبيرة بذلك، أو فعل صغائر من أنواع مختلفة بحيث يشعر بذلك.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا والله لا يقبل الله شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه.

* الشرح:

قوله (لا والله لا يقبل الله شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه) لعل السر فيه أن سبب قبول الطاعة هو دلالتها على تعظيم الرب، والإصرار على المعصية وإن كانت صغيرة يستلزم تحقيره وإن لم يقصده العاصي، والتحقير ينافي التعظيم، أو أن قبول الطاعة عبارة عن تقريب المطيع إلى ذاته المقدسة، والإصرار على المعصية يوجب تبعيده عنه، وحمل عدم القبول على وجه الكمال محتمل.

ص:282

باب في أصول الكفر وأركانه

اشاره:

1 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد، فأما الحرص فإن آدم (عليه السلام) حين نهي عن الشجرة، حمله الحرص على أن أكل منها وأما الاستكبار فإبليس حيث امر بالسجود لآدم فأبى، وأما الحسد فابنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه.

* الشرح:

قوله (أصول الكفر ثلاثة الحرص والاستكبار والحسد) أصل الشيء أساسه وما يستند إليه وجود ذلك الشيء، والحرص على الدنيا وجمع زهراتها جدا وتناولها من كل وجه، والاستكبار عن الخلق وطلب العظمة عليهم وعن الخالق في الأوامر والنواهي وترك التسليم والحسد على الخلق في نعماء الله الفائضة عليهم ظاهرة وباطنة، أصول الكفر بجميع أنواعه إذ بها تضعف القوة العقلية وينطمس نورها وتقوى القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الحيوانية، وتستولي على الظاهر والباطن فتنمو أخلاق ذميمة، وتصدر أفعال قبيحة بعضها كفر بالرب، وبعضها كفر بالحق مع العلم بأنه حق، وبعضها كفر بالنعم لاستحقارها وترك الشكر عليها، وبعضها كفر المعصية بترك الأوامر وفعل النواهي بخلاف الزهد في الدنيا والتذلل والخشوع لدى الحق والرضا بقسمة الرب فإنها أصول الإيمان إذ منها يتولد جميع الخيرات ويرتقى الإنسان إلى أرفع الدرجات. ثم أشار إلى تفصيل بعض ما نشأ من هذه الخصال الذميمة بقوله:

(فأما الحرص - إلى آخره) والغرض من هذا التفصيل بيان أول المخالفة، والمعصية الصادرة من هذا النوع وبسببه، بسبب هذه الخصال الشنيعة. ثم نشأت وتنشأ منها المخالفات والمعاصي الكثيرة التي بعضها كفر، فتلك الخصال هي أمهات المعاصي تتولد منها إلى يوم القيامة. وقد كان إباء إبليس لعنه الله من السجود عن حسد واستكبار وإنما خص الاستكبار بالذكر لأنه تمسك به حيث (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) أو لأن الاستكبار أقبح من الحسد لأن المتكبر يدعي مشاركة الباري في أخص صفاته والقاتل من ابني آدم قابيل والمقتول هابيل، وكان قابيل أكبر سنا منه وتقربا قربانا فتقبل الله من هابيل، ولم يتقبل منه لخبث نيته وخساسة قربانه فحسد على أخيه فقتله.

ص:283

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أركان الكفر أربعة: الرغبة والرهبة والسخط والغضب.

* الشرح:

قوله (أركان الكفر أربعة: الرغبة، والرهبة، والسخط، والغضب) لعل المراد بالرغبة الرغبة في الدنيا، والحرص عليها، وسعة الأمل وطلب الكثير منها. وبالرهبة الخوف من فواتها، والهم من زوالها وهو يوجب صرف العمر في حفظها، والمنع من أداء حقوقها، أو الخوف من إجراء الاحكام والحدود وهو الجبن الموجب لفوات كثير من الحقوق الشرعية. وبالسخط - مثال القفل - عدم الرضا بقضاء الله وانقباض النفس في حكمه. وبالغضب ثوران النفس نحو الانتقام عند مشاهدة ما لا يلائمها من المكاره والآلام، وإنما شبه هذه الأمور الأربعة التي هي مواد الكفر وأسباب ستر الحق بالأركان لابتناء الكفر عليها بل لتركبه منها; إذ الكفر عبارة عن جحد الحق أو جحد شيء مما قرره، وهذه الأمور إما نفسه، أو أعظم سبب من أسبابه، والله يعلم.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن نوح بن شعيب، عن عبد الله الدهقان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أول ما عصي الله عز وجل به ست: حب الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام وحب النوم وحب الراحة وحب النساء.

* الشرح:

قوله (إن أول ما عصي الله عز وجل به ست: حب الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام وحب النوم وحب الراحة وحب النساء) هذه الأمور معاصي قلبية تسود لوح القلب وتسد عنه طرق الحق وتعزل القوة العاقلة عن التصرف فيه وهي مبادي الطغيان في القوة الشهوية الجالبة للمنافع الحاضرة الزائلة، الطالبة للفوائد الظاهرة والباطلة وتجاوزها عن الحد اللائق بها عقلا ونقلا وتنهض حينئذ أيضا النفس الأمارة إلى تحصيل مقتضاها، وتستعين بالقوة الغضبية في دفع الموانع وتحرك الظاهر والباطن إلى نحو المطلوب، وتحصيله بأي وجه كان فيقع الظلم والكفر والمخالفة والمعصية التي لا تعد ولا تحصى من هذه المبادي. فهي أوائل المعاصي وأمهات القبائح.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا من خثعم جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أي الأعمال أبغض إلى الله عز وجل؟ فقال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

* الشرح:

قوله (أي الأعمال أبغض إلى الله عز وجل) المراد بالأعمال ما يعم أعمال القلب

ص:284

والجوارح وأبغضها ما هو أفسد للدين، وكون الأمور المذكورة بهذه الصفة ظاهر، والظاهر أن قطع الرحم شامل لقطع رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله) بل هو أولى بالقصد عند الإطلاق كما مر.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسن بن عطية، عن يزيد الصائغ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل على هذا الأمر إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن ائتمن خان، ما منزلته؟ قال: هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر.

* الشرح:

قوله (هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر) هي أدنى منازل الكفر بحيث لو تجاوزه بأن أحل ذلك دخل في الكفر. ولعل المراد بالكفر هنا إنكار الرب، أو الأعم منه ومن إنكار الحق مطلقا بدليل قوله (وليس بكافر) لأنه ليس بكافر بالمعنى المذكور، وإلا فهو كافر بمعنى كونه تاركا للحق وسيجئ في باب وجوه الكفر اطلاق الكافر عليه.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب وشدة الحرص في طلب الدنيا والإصرار على الذنب.

* الشرح:

قوله (من علامة الشقاء جمود العين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب) الشقاء «بد بخت شدن» شقى يشقى شقاء: ضد سعد فهو شقي، والشقوة بالكسر، والشقاوة بالفتح اسم، ومنه أشقاه الله «بالألف»، وجمود العين كناية عن بخلها بالدموع من جمد الماء جمدا وجمودا من باب نصر: خلاف ذاب، وهو من توابع قسوة القلب وهي غلظته وشدته، والسعادة والشقاوة وقرب الحق والبعد منه واستحقاق الجنة والنار وإن كانت امورا معنوية لا يعلمها إلا الله عز وجل لكن لها علامات تدل عليه فمن علامة الشقاوة هذه الخصال المذكورة كما أن أضدادها وهي البكاء للخوف من الله والتأمل في أمر الآخرة ورقة القلب والزهد في الدنيا وعدم الإصرار على الذنب بالتوبة والاستغفار من علامة السعادة، وفيه تحريض على ترك تلك الخصال والأمراض المهلكة، وطلب أضدادها بالمعالجات النافعة مثلا يتأمل في سبب الإصرار على الذنب بأنه إما لعدم الإيقان باليوم الآخر، أو للغفلة عنه بسبب غلبة الشهوة واستيلاء شوق اللذات الحاضرة على النفس بحيث يتعسر عليها الانصراف عنها، أو لكون أمور الآخرة غائبة ولذات الدنيا حاضرة، والنفس إلى اللذات الحاضرة أميل منها إلى اللذات الغائبة كما قيل «كلما بعد عن العين بعد عن القلب» أو لكونه قاصدا للتوبة ولكن يؤخرها إلى غد وبعد غد، أو لاعتماده على عفو الله

ص:285

ثم يشتغل بالمعالجة أما علاج الأول فبأن يعلم أن الأنبياء والرسل قد أخبروا باليوم الآخر وهم أولى بالاتباع من اتباع أهواء النفس، ولو لم يحصل له يقين بقولهم فالاحتياط يقتضي أن لا يترك متابعتهم كما لا يترك قول الطبيب بأن أكل هذا الطعام يضر مع أنه لا يحصل له علم بقوله، وأما علاج الثاني فبأن يعلم أن الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على النار، وأما علاج الثالث فبأن يعلم أن أمور الآخرة آتية قطعا وعقوبتها باقية أبدا، وأما علاج الرابع فبأن يعلم أن وصوله إلى غد ليس منوطا بقدرته وإرادته. فيمكن أن يموت قبله مع أن تحقق التوبة قبله أسهل من تحققها بعده لأن المعصية إذا قويت كانت إزالتها أصعب، وأما علاج الخامس وهو الاعتماد على العفو فبأن يعلم أن الإيمان يضعف بالمعاصي فلعل إيمانه بسبب نقصانه يزول عند السكرات ولو بقي أمكن أن يعاقب بل العقوبة مظنونة لإخبار الصادقين بها فكيف يعمل عمل أهل النار وهو يتوقع أو يستيقن أنه من أهل الجنة.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن داود بن النعمان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس فقال: ألا اخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يمنع رفده ويضرب عبده ويتزود وحده. فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا، ثم قال: ألا اخبركم بمن هو شر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شره. فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا، ثم قال: ألا اخبركم بمن هو شر من ذلك؟ قالوا:

بلى يا رسول الله، قال: المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم وإذا ذكروه لعنوه.

* الشرح:

قوله (الذي يمنع رفده ويضرب عبده ويتزود وحده) الرفد بالكسر: العطاء والصلة، وهو اسم من رفده رفدا من باب ضرب أعطاه، أو أعانه بعطاء أو قول أو غير ذلك ومنه الرفادة لإطعام الحاج.

ولعل المراد بضرب العبد ضربه من غير ذنب، أو زايدا على القدر المشروع، أو مطلقا وكأن مضمون الحديث محمول على المبالغة، وعلى أن المؤمن ينبغي أن يكون في نظره كل واحدة من المعاصي وخلاف الآداب أعظم من الأخرى حتى إذا رأى عاصيا يظن أنه من حيث هو عاص شر خلق الله، وإذا رأى عاصيا آخر يظن فيه أيضا ذلك ففيه مبالغة في شرارتهم وخبثهم، وليس القصد فيه معنى التفضيل حقيقة، كما في قولك: هذه الطائفة كل واحد منهم شر من الآخر. فإنك قصدت به المبالغة في شرهم دون التفضيل، وفي قوله فظنوا دون علموا ايماء إليه والله أعلم، والتفحش «بد وناسزا گفتن»، واللعان للمبالغة في اللعن وهو من الله الطرد والإبعاد من الرحمة، ومن

ص:286

الخلق السب والدعاء على أحد.

8 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه، عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم:

من إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، إن الله عز وجل قال: في كتابه: (إن الله لا يحب الخائنين) وقال: (أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وفي قوله عز وجل: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد (1) وكان رسولا نبيا).

9 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا اخبركم بأبعدكم مني شبها؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الفاحش المتفحش البذيء البخيل المختال الحقود الحسود القاسي القلب، البعيد من كل خير يرجى، غير المأمون من كل شر يتقى.

* الشرح:

قوله (الفاحش المتفحش البذيء) الفحش القول السيئ والكلام الرديء، وكل شيء جاوز الحد فهو فاحش ومنه غبن فاحش إذا جاوزت الزيادة ما يعتاد مثله والتفحش كذلك مع زيادة تكلف وتصنع، ومن طرق العامة «أن الله يبغض الفاحش المتفحش» قال الزمخشري في الفائق: الفاحش ذو الفحش في كلامه، والمتفحش الذي يتكلف ذلك، ولا يبعد أن يراد بالمتفحش الذي يقبل الفحش من غيره. فالفاحش المتفحش الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، والبذي على فعيل قد يطلق على السفيه، وهو الذي لا رزانة له وعلى الفاحش في المنطق إن كان كلامه صدقا كما صرح به في المصباح.

(البخيل المختال الحقود الحسود) لمن شق عليه بذل المال أوصاف مرتبة، باعتبار كل وصف اسم ذكره الثعالبي في سر الأدب: الأول البخيل إذا كان ضد الكريم، ثم لحز إذا كان ضيق النفس شديد البخل، ثم شحيح إذا كان مع بخله حريصا، ثم فاحش إذا كان متشددا في بخله، ثم حلز إذا كان في نهاية البخل، والمختال المتكبر المعجب بنفسه. والحقد والحسد يعني إضمار عدواة المؤمن وتمني زوال نعمته مع كونهما من أعظم القبايح يستلزمان مفاسد كثيرة غير محصورة.

ص:287


1- 1 - قوله: في متن الحديث «إنه كان صادق الوعد» صرح أكثر فقهاء زماننا بأن الوفاء بالوعد مستحب إلا إذا كان شرطا في عقد لازم وهو مستبعد جدا مع هذه التأكيدات في القرآن والحديث حتى أن مخلف الوعد عد منافقا. والذي اعتقده والتزم به أن الوفاء واجب والمخلف فاسق ومراد من يعتد بقوله منهم عدم ثبوت حق بالوعد للموعود له ثبوتا دنيويا بحيث يمكن مطالبته عند القضاة والمرافعة بل يجب وجوبا حكميا يطالب به في الآخرة نظير الخمس والزكاة ونذر التصدق لرجل بعينه. (ش).

(القاسي القلب البعيد من كل خير يرجى غير المأمون من كل شر يتقى) القلب إذا قسى وغلظ بطل استعداده للخيرات واستعد للشرور ووصف الخير ب «يرجى» إما للتوضيح، أو للتقييد لأن بعض الخير لا يرجى منه.

10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن منصور بن العباس، عن علي بن أسباط، رفعه إلى سلمان قال: إذا أراد الله عز وجل هلاك عبد نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا كان خائنا مخونا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا فظا غليظا، فإذا كان فظا غليظا نزعت منه ربقة الإيمان، فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلا شيطانا ملعونا.

* الشرح:

قوله (إذا أراد الله عز وجل هلاك عبد نزع منه الحياء) الحياء خلق يمنع من القبائح والتقصير في حقوق الخلق والخالق، وهو إذا تحقق تحققت الأمانة الدينية والدنيوية في الحقوق كلها للتحرز من اللوم في تركها، وتحقق لين الطبع ورقة القلب فيصدر عن الأعضاء الظاهرة والباطنة ما هو مطلوب منها بسهولة فيكمل الإيمان لأن الإيمان الكامل متوقف على استقامة جميع الأعضاء وقيامها بوظائفها. وإذا انتفى الحياء انتفى جميع هذه الأمور وتحققت أضدادها فتحقق الخيانة في الحقوق كلها وشدة الطبع وغلظة القلب ونقص الإيمان لأنه يصعب حينئذ على الأعضاء قبول وظائفها.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا أراد الله عز وجل هلاك عبد وعقوبته لإبطاله الاستعداد الفطري بسوء معاملته نزع منه الحياء بسلب لطفه وتوفيقه عنه. فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا خائنا في حقوق الغير ومخونا في حق نفسه إذ في كل خيانة خيانتان، والخيانة رذيلة تحت الفجور وجارية في جميع الأعضاء، فإن للقلب خيانة وهي التفكر في الأمور الباطلة، ولليد خيانة وهي تناول ما لا يجوز مثلا، وللرجل خيانة وللعين خيانة وهكذا في الجميع فإذا كان خائنا مخونا نزعت منه الأمانة لأنها ضد الخيانة، وتحقق الشيء سبب لذهاب ضده، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا فظا غليظا لأن الأمانة لازمة للرقة واللينة، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، فإذا انتفت الرقة تحققت الغلظة فإذا كان فظا غليظا نزعت منه ربقة الإيمان لانتفاء مقوماته، ولعل المراد زوال كماله، واللعن في قوله «فإذا نزعت منه ربقة الإيمان لم تلقه إلا شيطانا ملعونا» لا يدل على زوال ايمانه بكله حتى يكون كافرا كما أن لعن المتغوط في ظل النزال في الخبر الآتي لا يدل على ذلك.

ص:288

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن زياد الكرخي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث ملعونات ملعون من فعلهن: المتغوط في ظل النزال، والمانع الماء المنتاب، والساد الطريق المقربة.

* الشرح:

قوله (ثلاث ملعونات) كأن لعنها كناية عن ذمها وقبحها أو مجاز بجعل سبب اللعن ملعونا مطرودا.

(ملعون من فعلهن) دل على أنه يجوز لنا أن نلعنه (المتغوط في ظل النزال) هو الظل الذي يستظل به الناس ويتخذونه مقيلا ومناخا.

(والمانع الماء المنتاب) الماء المفعول أول للمانع إما مجرور بالإضافة من باب الضارب الرجل أو منصوب على المفعولية. والمنتاب أي صاحب نوبة منصوب على أنه مفعول ثان من الانتياب افتعال من النوبة. وجوز بعضهم أن يكون اسم مفعول صفة للماء من انتاب فلان القوم أي أتاهم مرة بعد أخرى، والماء المنتاب هو الماء الذي يرد عليه الناس متناوبة ومتبادلة لعدم اختصاصه بأحدهم كالماء المملوك المشترك بين جماعة فلعن المانع لأحدهم في نوبته، والماء المباح الذي ليس ملكا لأحدهم كالغدران في البوادي، فإذا ورد عليه الواردون كانوا فيه سواء فيحرم لأحدهم منع الغير في التصرف فيه على قدر الحاجة لأن في المنع تعريض مسلم للتلف فلو منع حل قتاله، فإن لم يقو الممنوع على دفع المانع حتى مات عطشا فهو في حكم من حبس ظلما حتى مات جوعا أو عطشا.

(والساد الطريق المقربة) المقربة بفتح الميم وسكون القاف وفتح الراء، ونظيره من طريق العامة: «من غير المقربة فعليه لعنة الله» ومن طريقهم أيضا: «ثلاث لعينات رجل عور طريق المقربة» قال الزمخشري في الفائق: المقربة المنزل وأصلها من القرب وهو السير إلى الماء، ونقل عن صاحب النهاية أن المقربة طريق صغير ينفذ إلى طريق كبير، وجمعها المقارب وهو هنا أنسب من الأول وتأنيث ضمير الطريق هنا وتذكيره في الخبر الآتي باعتبار أن الطريق يؤنث ويذكر.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب، عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث ملعون من فعلهن: المتغوط في ظل النزال، والمانع الماء المنتاب، والساد الطريق المسلوك.

13 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن يزاد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي حمزة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا اخبركم بشرار

ص:289

رجالكم؟ قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: إن من شرار رجالكم البهات الجريء الفحاش، الآكل وحده، والمانع رفده، والضارب عبده، والملجئ عياله إلى غيره.

* الشرح:

قوله (البهات الجريء الفحاش) البهات: الذي يبهت غيره أي يقذفه بالباطل ويفتري عليه الكذب، والاسم البهتان، والجري بالياء المشددة وبالهمزة أيضا على فعيل وهو المقدام على القبيح من غير توقف، والاسم الجرأة. والفحاش ذو الفحش وهو كل ما يشتد قبحه من الأقوال والأفعال وكثيرا ما يراد به الزنا.

(والمانع رفده) يفهم منه ومما سبقه أن ترك المندوب وما هو خلاف المروة شر، فالمراد بشرار الرجال فاقد الكمال سواء كان فقده موجبا للعقوبة أم لا.

(والملجئ عياله إلى غيره) بترك الانفاق عليهم وعدم القيام بحوائجهم، وقد روي «أن الكد للعيال أفضل من الزهد في الدنيا».

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ميسر، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والتارك لسنتي، والمكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمستأثر بالفيء المستحل له.

* الشرح:

قوله (وكل نبي مجاب) قيل يحتمل أن يكون عطفا على فاعل «لعنتهم» و «مجاب» حينئذ صفة ل «نبي». ويحتمل أن يكون كل نبي مبتدأ و «مجاب» خبره، والجملة حال لإفادة أن دعاءه عليهم ولعنه إياهم مستجابة قطعا.

(والمكذب بقدر الله) كالمفوضة حيث قالوا ليس لله قدر، أي تدبير في أفعالنا أصلا، بل أقدرنا عليها وفوض أمرها وتدبيرها إلينا، كذا قال بعض الأصحاب.

(والمستحل من عترتي ما حرم الله) العترة نسل الإنسان قال الأزهري، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرف من العترة غير ذلك واللعن يشمل قاتلهم وموذيهم وضاربهم ومانع حقوقهم وآخذ أموالهم.

(والمستأثر بالفيء المستحل له) في بعض النسخ «والمستحل له» بالعطف للتفسير أو للتغاير، والفيء يطلق على الغنيمة وهو ما أخذ من أموال الكفار بحرب وغلبة كما صرح به المصنف في آخر كتاب الحجة في باب الفيء والأنفال وخمسه لله تعالى ولمن سماه تعالى في كتابه الكريم، والباقي للمجاهدين على نحو ما ذكر في موضعه، ويطلق أيضا على الأنفال كما يشعر به اللغة، وصرح به ابن الأثير، ودلت عليه رواياتنا الكثيرة، وأشرنا إلى بعضها في ذلك الباب وهو حينئذ ما أخذ بغير قتال فهو للرسول (صلى الله عليه وآله) خاصة ولمن بعده من الأئمة (عليهم السلام).

ص:290

باب الرياء

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لعباد بن كثير البصري في المسجد: ويلك يا عباد إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له.

* الشرح:

قوله (يا عباد إياك والرياء) حذره عن الرياء وهو من تسويلات الشيطان والنفس الأمارة الطالبة للدنيا بأي وجه كان، فربما تخيل إلى الإنسان أن الناس إذا عظموا أحدا ومالوا إلى توقيره لأمر يقتضيه كالعلم والعبادة وسائر الخيرات بذلوا له أنفسهم وأموالهم طوعا ورغبة فيتمسك بالخيرات رياء وسمعة، ويطلب بها صرف قلوبهم إليه وقيامهم بوظائف الخدمة بين يديه، ويجعلها وسيلة لإعانتهم له بالنفس والمال، وذريعة لكفايتهم مهماته في جميع الأحوال. وللرياء طرق واسعة ومسالك كثيرة، ولا يحترز منها إلا العارفون المالكون لزمام أنفسهم بالمراقبة والمحاسبة فإنه قد يتعلق بالعبادات كتحسين القراءة، وتطويل القنوت والركوع وتكثير الصوم والصلاة والسجود مثلا لإظهار أنه عابد مبالغ في العبادة، وقد يتعلق بتغيير الصورة كاصفرار الوجه لإظهار السهر، وقلة النوم، وتضعيف البدن لإظهار المجاهدة وقلة الأكل وإخفاء الصوت لإظهار الرزانة والوقار، وقد يتعلق باللسان كالتكلم بالمقالات العالية لإظهار أنه عالم ماهر. وتحريك اللسان عند لقاء الناس لإظهار أن قلبه حاضر ذاكر وقد يتعلق باللباس كلبس الصوف والخشن والمرقع لإظهار الزهد في الدنيا.

(فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له) أي من عمل عملا ينبغي أن يكون لله خالصا أو من عمل لغير الله خالصا أو بالتشريك وكله الله إلى ذلك الغير يوم القيامة، ويقول خذ أجرك منه، أو وكل ذلك العمل إلى الغير ولا يقبله أصلا، وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا هل تجدون عندكم ثواب أعمالكم».

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه

ص:291

قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اجعلوا أمركم هذا لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله.

* الشرح:

قوله (اجعلوا أمركم هذا لله) أي اجعلوا أمركم هذا لله خالصا ولا تجعلوه للناس بالانفراد والاشتراك. فإن ما كان لله خالصا فهو لله ويصعد إليه وعليه أجره، وما كان للناس ولو بالشركة فلا يصعد إلى الله لأنه لا يصعد إليه إلا العمل الخالص له.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي المغراء، عن يزيد بن خليفة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) قال: الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه، ثم قال: ما من عبد أسر خيرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له خيرا،

ص:295

وما من عبد يسر شرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له شرا.

* الشرح:

قوله (قال ما من عبد أسر خيرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له خيرا) من عمل لله خالصا وأخفاه خوفا من الرياء وطلبا لرضاه تعالى أظهره الله وأظهر حاله يوما لعباده وصرف قلوبهم إليه ليمدحوه ويوقروه ويعظموه، فيحصل له مع ثناء الله تعالى ثناء الناس وبحكم المقابلة لو أظهره طلبا لرضاهم صرف الله عنه قلوبهم وجعلها مبغضة له، والظاهر أن إظهار الخير الخفي كلي بدليل قوله:

«ما من عبد» ولا يستلزم ذلك إظهاره لجميع الخلق لجواز إظهاره للخواص من الملائكة والناس. فلا ينافي ما روي «طوبى لعبد يعرف الناس ولا يعرفه الناس» ويفهم من هذا الحديث ونحوه أن أسرار الخير أحسن من إظهاره ولكل فائدة، أما فائدة الإسرار فللتحرز من الرياء وأما فائدة الإظهار فترغيب الناس في الاقتداء به وتحريكهم إلى فعل الخير ولذلك أثنى الله تعالى على كليهما بقوله (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وفي هذا المقام تفصيل مذكور في محله.

ص:292

(وما من عبد يسر شرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له شرا) فيه وعيد لمن عمل رياء أو عمل شرا وأخفاه خوفا من لوم الناس وذمهم فإنه تعالى يرتب على إخفائه نقيض مقصوده فيظهره على عباده ويظهر سوء حاله ليذموه ويعاندوه ويحقروه.

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن عرفة قال: قال لي الرضا (عليه السلام):

ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل. ويحك ما عمل أحد عملا إلا رداه الله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

* الشرح:

قوله (ما عمل أحد عملا إلا رداه الله) التردية «رداء بر كسى أفكندن»، شبه العمل بالرداء في الإحاطة والشمول.

(إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا) أي ان كان عمله خيرا فكان جزاؤه خيرا، وإن كان عمله شرا فكان جزاؤه شرا. وجاء الخبر الآخر برفع الأخيرين أي إن كان عمله خيرا فجزاؤه خير وإن كان عمله شرا فجزاؤه شر.

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) إذ تلا هذه الآية (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يتقرب إلى الله عز وجل بخلاف ما يعلم الله تعالى، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: من أسر سريرة رداه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

* الشرح:

قوله (إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام)) العشاء بالكسر والمد: أول ظلام الليل، وبالفتح والمد:

الطعام الذي يتعشى به وقت العشاء، وتعشيت أنا: أكلت العشاء.

(إذ تلا هذه الآية (بل الإنسان على نفسه بصيرة)) قال القاضي أي حجة بينة على أعمالها لأنه شاهد بها، وصفها بالبصارة على المجاز، أو عين بصيرة بها فلا يحتاج إلى الإنباء.

أقول: التوجيه الأول لأكثر المفسرين. والثاني نقله النيشابوري عن الأخفش فإنه جعل الإنسان بصيرة كما يقال فلان كرم، وذلك لأنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم، ونقل عن أبي عبيدة أن التاء للمبالغة كعلامة.

(ولو ألقى معاذيره) قال القاضي ولو جاء بكل ما يعتذر به. جمع معذار وهو العذر أو جمع معذرة على غير قياس فإن قياسه معاذر، وقال النيشابوري: هذا تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنها لا تخفى شيئا من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه. ثم قال: قال الواحدي والزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لكان معاذر بغير ياء، ونقل عن الضحاك والسدي: أن المعاذير جمع المعذار وهو الستر، والمعنى أنه وإن أسبل

ص:293

الستور لن يخفى شيء من عمله، قال الزمخشري: إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما يمنع المعذرة عقوبة المذنب.

(يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يتقرب إلى الله بخلاف ما يعلم الله) لأهل الرياء ظاهر وباطن، ظاهره مع الله للتقرب منه، وباطنه مع الخلق لطلب المنزلة والتعظيم والتوقير منه، والله سبحانه يعلم أن باطنه مخالف لظاهره وأن العمل الموجب للقرب منه هو العمل الخالص له دون المشترك بينه وبين غيره فالتقرب بهذا العمل المشترك إلى الله تعالى تقرب بخلاف ما يعلم الله أنه موجب للتقرب، وهو سفه واستهزاء، وقوله «ما يصنع» للتقريع والتوبيخ والتنبيه على أنه مع كونه غير نافع مضر والله أعلم.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد بها.

* الشرح:

قوله (اجعلوها في سجين إنه ليس إياي أراد) سجين موضح فيه كتاب الفجار ودواوينهم، وقيل: واد في جهنم قال الله تعالى (إن كتاب الفجار لفي سجين).

8 - وبإسناده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع اموره.

* الشرح:

قوله (ينشط إذا رأى الناس) سواء كان النشاط قبل العمل وباعثا للشروع فيه أم بعد الشروع فيه وسببا لتجويده.

(ويحب أن يحمدوه في جميع أموره) سواء كان من أمور الدين كفعل الطاعات وترك المنهيات فإنه قد يترك الزنا، وشرب الخمر ليمدحه الناس بالصلاح، أم من أمور الدنيا كالتشبع بالمال والتحلي باللباس لثناء الناس عليه، وإليه أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: «إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب ان يحمده على شيء من عمل الله».

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال الله عز وجل: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.

* الشرح:

قوله (قال عز وجل أنا خير شريك -... إلى آخره) أطلق الشريك على ذاته المقدسة

ص:294

بزعم من أشرك معه غيره، وأطلق الخير عليها باعتبار أنه يترك نصيبه مع شريكه ولا يساهمه كسائر الشركاء وانما يقبل ما كان له خالصا من الرياء والعجب والإدلال كما قال في حديث: «إني أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا ثم شرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك بي دوني».

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن داود، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أظهر للناس ما يحب الله وبارز الله بما كرهه لقى الله وهو ماقت له.

* الشرح:

قوله (من أظهر للناس ما يحب الله وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له) مبارزه «با كسى جنك كردن ونبرد جستن». والمبارز: المحارب الذي لا يبالي بإقدام صاحبه، ومن أسباب المقت والعقوبة والخزي في الدنيا والآخرة إظهار الطاعة لخلق الله طلبا للرفعة والمنزلة عندهم، والإقدام بمعصية الله.

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن فضل أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسر سيئا، أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أن ذلك ليس كذلك والله عز وجل يقول: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) إن السريرة إذا صحت قويت العلانية.

الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن محمد بن جمهور، عن فضالة، عن معاوية، عن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله (ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسر سيئا -... إلى آخره) لعل المراد بالحسن الأعمال والعبادات الظاهرة، وبالسيئ قصد الرياء ونية التقرب بها عند الناس ولو رجع هذا إلى نفسه وعقله علم أن ذلك العمل ليس بعمل حسن يترتب عليه الثواب والتقرب إلى الله بل علم أنه معصية لأن الإنسان عالم بحال نفسه من الخير والشر فيجب عليه الاجتناب من الشر وما يضره، والسبب لذلك القصد فساد القلب وميله إلى الدنيا وطلب العزة من أهلها، وإذا صح عن الفساد ومال إلى الحق وقصد التقرب إليه والسعادة الأبدية قويت العلانية. وصحت الجوارح والأعضاء الظاهرة، وصدرت منها الأعمال الصالحة كما روي «أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، ألا وهي القلب».

12 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من عبد يسر خيرا إلا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله له خيرا وما من عبد يسر شرا إلا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله له شرا.

13 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن يحيى بن بشير، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أراد الله عز وجل بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر مما أراد، ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عز وجل إلا أن يقلله في عين من سمعه.

* الشرح:

قوله (من أراد الله عز وجل بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر مما أراد) أي أكثر مما أراد الله عز وجل به من العمل، ولعل المراد بإظهاره إظهاره على الخلق كما دل عليه بعض الروايات ليعرفوه بالتقوى والصلاح فيجمع له خير الدنيا والآخرة، ويمكن أن يراد به إظهاره له يوم فقره وفاقته كما دل عليه قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وإرادة الأعم أولى.

(ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عز وجل إلا أن يقلله في عين من سمعه) كأن تقليله في أعينهم كناية عن تحقيرهم وبغضهم له كما دل عليه ما روي «أن رجلا من بني إسرائيل قال لأعبدن الله عبادة أذكر بها، فمكث مدة مبالغا في الطاعات وجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا متصنع مرائي، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك وضيعت عمرك في لا شيء فينبغي أن تعمل لله سبحانه. فغير نيته وأخلص عمله لله فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قالوا ورع تقي».

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم، طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.

* الشرح:

قوله (سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا) هكذا حال المرائي فإنه يحسن علانيته مع الخلق ويفسد سريرته بقصد الرياء وطلب المنزلة عندهم، وسبب ذلك حب الدنيا وشهواتها، ونسيان الآخرة وعقباتها وهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب، وهو الذي يحول بين القلب وبين تفكره في أمر العاقبة، ويبعثه على تحصيل الدنيا بأي وجه كان وأي طريق يمكن حتى أنه يجعل العبادة التي تجب أن تكون لله خالصة وسيلة إلى المنافع الموهومة الزائلة.

ص:296

(لا يريدون به ما عند ربهم) من الثواب الجزيل والأجر الجميل، وضمير «به» راجع إلى حسن العلانية، أو إلى العمل المعلوم من سياق الكلام.

(يكون دينهم رياء) لطلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس والرغبة في نعيم الدنيا.

(لا يخالطهم خوف) من الله ولو كان لهم خوف لزهدوا في الدنيا وأقبلوا إلى الآخرة وأخلصوا سريرتهم (يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم) دل على أن المرائي وغيره من أهل العصيان مستحقون للعقوبة وعلى أن من شرائط استجابة الدعاء الصلاح والخوف والرجوع من المخالفة بالتوبة والاستغفار والإنابة، وذلك لأن الاستجابة حق لهم على الله. والخوف والصلاح وخلوص العبادة حق لله عليهم، فإذا منعوا حقه تعالى فله أن يمنع حقهم، وذلك عدل وليس بظلم كما تدين تدان.

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) إذ تلا هذه الآية (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

* الشرح:

قوله (يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم -... إلى آخره) ذكر هذا الحديث سندا ومتنا قبيل ذلك (1) من غير تفاوت إلا قوله «أن يعتذر إلى الناس» الاعتذار إظهار العذر وطلب قبوله، ولعل المراد به هو الحث على التسوية بين السريرة والعلانية بحيث لا يفعل سرا ما لو ظهر لاحتاج إلى العذر، ومن البين أن الخير لا يحتاج إلى العذر، وانما المحتاج إليه هو الشر ففيه ردع عن تعلق السر بالشر مخالفا للظاهر، وهذا كما قيل لبعضهم: عليك بعمل العلانية.

قال: وما عمل العلانية؟ قال: ما إذا أطلع الله الناس عليك لم يستحى منه، وهذا مأخوذ من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما ذكره صاحب العدة (رحمه الله) يقول (عليه السلام): «إياك وما تعتذر منه

ص:297


1- 1 - قوله «متنا قبيل ذلك» في الحديث السادس، وهذا يدل على جواز نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ وليس المراد بحفظ المعنى حفظ جميع خصوصيات الأصل بل حفظ حاصل المضمون، مثلا في الحديث السابق: «ما يصنع الإنسان أن يتقرب إلى الله» وفي هذا الحديث بدله: «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس» وفي السابق: «رداه الله رداءها» وهنا: «ألبسه الله رداءها» والعجب أن كثيرا من أهل زماننا يدعون حصول الظن الاطميناني بصدور الأحاديث بجميع ألفاظها ويزعمون أنه علم في العرف والعادة ويستنبطون الاحكام من خصوصيات الألفاظ التي نعلم قطعا عدم امكان حفظها للرواة كما هي، ومن تمسك في حجية ألفاظ الأحاديث بالأدلة التعبدية كآية النبأ كما عمل به العلامة وسائر الفقهاء لم يتوجه عليهم ما أوردنا على التمسك بالظن الاطميناني. (ش).

وإنه لا يعتذر من خير، وإياك وكل عمل في السر تستحيي منه في العلانية، وإياك وكل عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره».

16 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتب له سرا ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء.

* الشرح:

قوله (الإبقاء على العمل أشد من العمل) كما يتحقق الرياء في أول العبادة ووسطها كذلك يتحقق بعد الفراغ منها إلى آخر العمر فيجعل ما فعل لله خالصا في حكم ما فعل لغيره فيبطلها كالأولين عند علمائنا، بل يوجب الاستحقاق للعقوبة أيضا عند الجميع، وانما كان الإبقاء أشد لأنه يحتاج إلى مراقبة النفس ومحافظة العمل من المفسد في زمان أطول من زمان الأولين، وقال الغزالي: لا يبطلها، لأن ما وقع صحيحا فهو صحيح لا ينتقل من الصحة إلى الفساد، نعم الرياء بعده حرام يوجب استحقاق العقوبة.

17 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا لله في غير رياء ولا سمعة، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله.

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) أخشوا الله خشية ليست بتعذير) في المصباح: عذر في الأمر تعذيرا إذا قصر ولم يجتهد، أي أخشوا الله خشية ليست متلبسة بتقصير وهي الخشية المستلزمة للتوافق بين السر والعلانية وترك محارم الله الظاهرة والباطنة، ولزوم حدوده الجاذبة إلى الزهد الحقيقي، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي على ما نقل عنه: إذا فعل أحد فعلا من باب الخوف ولم يرض به فخشيته خشية تعذير وخشية كراهية، وإن رضي به فخشيته خشية رضاء وخشية محبة.

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك؟ فقال: لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك.

ص:298

* الشرح:

قوله (قال سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه انسان فيسره ذلك؟ فقال: لا بأس ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك) نظيره من طريق العامة عن أبي ذر: «قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال:

تلك عاجل بشرى المؤمن يعني البشرى المعجلة له في الدنيا، والبشرى الأخرى قوله سبحانه (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار) وهذا ينافي ما روي من طريقنا «ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل لله» وما روي من طريقهم عن سعيد بن جبير قال «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به. فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يقل شيئا فنزل قوله تعالى (قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وطرق الجمع ما ذكره صاحب العدة رحمه الله وهو أنه إن كان سروره باعتبار أنه تعالى أظهر جميله عليهم، أو باعتبار أنه استدل بإظهار جميله في الدنيا على إظهار جميله في الآخرة (1) على رؤوس الأشهاد أو باعتبار أن الرائي قد يميل قلبه بذلك إلى طاعة الله تعالى أو باعتبار أنه يسلب ذلك اعتقادهم بصفة ذميمة له فليس ذلك السرور رياء وسمعة، وإن كان سروره باعتبار رفع المنزلة وتوقع التعظيم والتوقير والمدح بأنه عابد زاهد وتزكيتهم له إلى غير ذلك من التدليسات النفسانية والتلبيسات الشيطانية فهو رياء ناقل للعمل من كفة الحسنات إلى كفة السيئات والله هو المستعان.

ص:299


1- 1 - «على إظهار جميله في الآخرة» لا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يفرح بغلبة دينه على الأديان وظهور ملته على الملل واشتهار ذكره وهزم أعدائه وعزة أوليائه في الدنيا وكان داعيه على ذلك الآخرة لا الدنيا كما في سائر الملوك والسلاطين، فالأصل في الرياء أن يكون قصد الفاعل بفعله الدنيا لا ظهور عمله للناس فمن أظهر عمله ليراه الناس وكان قصده الآخرة لم يكن ذلك رياء مبغوضا. فإن قيل: الرئاء من الرؤية، والفعل الخالص من الرياء أن يخفيه بحيث لا يراه الناس. قلنا: المتبادر من النهي هو كون إراءة الناس مقصودا لذاته الصلاح فاعله وإما إن لم يكن ذلك مقصودا لذاته بل كان غرضه ترغيبهم في العمل الصالح وتعليمهم وإرشادهم وأمثال ذلك كان مرغوبا فيه ويجب على الفاعل أن يمتحن نفسه بأمور يعلم بها حاله واقعا فلا يشتبه عليه الأمر، مثلا: إذا كان عمله الإرشاد والتعليم وأراد أن يعرف غرضه واقعا فكر في نفسه إن فرض تصدي غيره لتعليم العباد وكان ذلك الغير أعلم وأنطق بحجته وأكثر ممارسة في عمله هل يرضى ويفرح بأن الناس وجدوا وسيلة أقوى للرشاد أو يحسده ويبغضه ويكرهه فإن وجد من نفسه الثاني علم أنه بإرشاده مراء، وإن وجده راضيا به وأشد سرورا بوجود غيره الأعلم من نفسه فهو غير مراء وهكذا. (ش).

باب طلب الرئاسة

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه ذكر رجلا فقال: إنه يحب الرئاسة، فقال: ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرئاسة.

* الشرح:

قوله (عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه ذكر رجلا فقال إنه يحب الرئاسة فقال ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرئاسة) في بعض النسخ: «عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)».

والرئاسة: الشرف والعلو على الناس، رأس الرجل يرأس مهموز بفتحتين رئاسة: شرف وعلا قدره وهو رئيس، والجمع رؤساء، مثل شريف وشرفاء، والضاري: السبع الذي اعتاد بالصيد وإهلاكه، والرعاء بالكسر والمد: جمع راع، اسم فاعل، وبالضم: جمع.

صرح بالأول صاحب المصباح، وبالثاني القاضي، وفيه تبعيد للمسلم من طلب الرئاسة لأنها تهلك دينه وتفسده، وسبب ذلك أن الرئاسة متوقفة على العلم بالأمور الشرعية والأخلاق النفسانية وتهذيب الظاهر والباطن من الأعمال والأخلاق الباطلة وتحليتهما بالأعمال والأخلاق الفاضلة، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، وتعديل القوة الشهوية والغضبية ورعاية العدل في جميع الأمور، وهذه الأمور لا توجد إلا في المعصوم، ومن وفقه الله تعالى من أوليائه، وقد سأل بعض موالي علي بن الحسين أبا عبد الله (عليه السلام) «أن يكلم بعض الولاة على أن يوليه في بعض البلاد وأقسم بأيمان مغلظة أن يعدل ولا يظلم ولا يجور فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) رأسه إلى السماء فقال: تناول السماء أيسر عليك من ذلك» وروى مسلم باسناده عن أبي ذر رحمه الله قال: «قلت يا رسول الله ألا تستعملني فقال: فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة (1) وإنها يوم

ص:300


1- 1 - قوله «إنك ضعيف وإنها أمانة» كأنه من مجعولات رواة السوء في دولة بني أمية فإن أبا ذر (رحمه الله) كان مضادا لهم لظلمهم وإسرافهم وكانوا يزعمون العدل والتسوية التي يريدها أبو ذر ضعفا، وهكذا الجبابرة القدرة عندهم مرادفة للظلم، والعدل مساوق للضعف، وعند الحكماء المعتنين بالعلوم الاجتماعية العدل مساوق للقدرة والظلم للضعف، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» ولا يبقى الشيء إلا لقوته ولا يفنى إلا لضعفه، والسر فيه أن الظالم يبغض الخلق والخلق يبغضونه وكل همه أن يحارب رعيته ويمنعهم من كل شيء يوجب تقويتهم حتى لا يبارزوه ولا يظهر من أحد من رعاياه ما أودعه الله فيه من إبداع الحرف والصنايع والعلوم وأنواع آثار العمران، وذكر ابن مسكويه أن ارتفاع البلاد قل في زمن الحجاج جدا لظلمه وزاد وكثر في عهد عمر بن عبد العزيز لعدله. (ش).

القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها».

2 - عنه، عن أحمد، عن سعيد بن جناح، عن أخيه أبي عامر، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من طلب الرئاسة هلك.

* الشرح:

قوله (من طلب الرئاسة هلك) طلب الرئاسة - قصد أو لا - تفوقه على الخلق واستيلاؤه عليهم بحكم النفس الأمارة وقضاء القوة الشهوية والغضبية، وعلم أن ذلك لا يتيسر له إلا بالرئاسة المقتضية لتوجه الخلق إليه واحتياجهم لديه فلذلك طلبها مع علمه بأن فيها هلاكه لكونها حقا للعالم الرباني ضرورة أن التصرف والتدبير في أمر الخلق، وإقامة المعدلة بينهم قبل تحقق العلم والمعرفة والوقوف على مراتب حالاتهم وقدر حقوقهم وحقوق الله تعالى من الأوامر والنواهي وغيرها محال.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن مسكان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك.

* الشرح:

قوله (عن عبد الله بن مسكان قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون) فيه تحذير عن متابعتهم، والرجوع إليهم كما في «إياك والأسد» والإتيان بصيغة التفاعل ليدل على أنهم أظهروا أن أصل الفعل وهو الرئاسة حاصل لهم وهو منتف عنهم كما في تجاهل وتغافل، ورواية عبد الله بن مسكان هذا الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) دل على أن ما ذكره بعض أصحاب الرجال من أن عبد الله بن مسكان لم يرو عن أبي عبد الله (عليه السلام) وما ذكره بعضهم من أنه لم يرو عنه إلا حديثا واحدا وهو حديث من أدرك المشعر فقد أدرك الحج خطأ.

ثم علل التحذير بقوله (فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك) نظيره ما رواه المصنف في كتاب الروضة بإسناده عن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لي: «يا جويرية إنه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم» الخفق صوت النعل أما هلاكه فلأنه يورث الفخر والعجب والتكبر وغيرها من المهلكات، وأما إهلاكه فلأن الرئيس المقدم والأمير المعظم إذا ضل عن العدل وعدل عن طريق الحق يتبعه كافة العوام خوفا من بطشه وطمعا في جاهه وماله فضلوا بمتابعته وأضلهم عن سبيل الرشد بسيرته القبيحة، هذا إذا كان الرئيس جاهلا ظاهر، وكذا إذا كان عالما غير عادل فإنه كثيرا ما تعتريه شبهة وتعرضه زلة فيضل بها عوام

ص:301

المؤمنين فإنهم يقلدونه في ظاهر أحواله ويعتمدون عليه في أقواله وأفعاله بل ربما يقولون في أنفسهم إذا فعل هو هذا فنحن أولى به منه، ومن ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أخاف على أمتي زلة عالم».

4 - عنه، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع وغيره رفعوه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث بها نفسه.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن أيوب، عن أبي عقيلة الصيرفي قال: حدثنا كرام، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إياك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجال، قال: قلت: جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال فقال لي: ليس حيث تذهب، إياك أن تنصب رجلا دون الحجة، فتصدقه في كل ما قال.

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة ولا تكن ذئبا ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله ولا تقل فينا مالا نقول في أنفسنا فإنك موقوف ومسؤول لا محالة فإن كنت صادقا صدقناك وإن كنت كاذبا كذبناك.

* الشرح:

قوله (ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة ولا تكن ذئبا) الذئب معروف وهو يهمز ولا يهمز، ويقع على الذكر والأنثى، وربما دخلت الهاء في الأنثى فقيل ذئبة، وفي بعض النسخ: ذنبا بالنون بعد الذال وهو واحد الأذناب بمعنى الأتباع نهاه أن يكون رئيسا وتابعا للرئيس فإن لكل واحد مفاسد غير محصورة، وقوله: (ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله) تأكيد لما في الأصل، يقال: فقر زيد - من باب علم - إذا قل ماله، ويتعدى بالهمزة فيقال: أفقره الله فافتقر. نهاه أن يجعل العلوم الشرعية التي أخذها منهم (عليهم السلام) آلة لأكل أموال الناس كما هو شأن قضاة الجور، وأوعده بأن الله تعالى يفقره إما في الدنيا بتفويت المال ونقص العيش، أو في الآخرة بسلب الرحمة.

ثم نهاه عن نسبة الباطل إليهم بقوله: (ولا تقل فينا مالا نقول في أنفسنا) لعل المراد لا تقل في ذاتنا ووصفنا أو لا تقل في أقوالنا وأفعالنا، والأول أظهر، والثاني أنسب، والتعميم أولى، والله أعلم.

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن منصور بن العباس، عن ابن مياح عن أبيه قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من أراد الرئاسة هلك.

8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أترى لا أعرف خياركم من شراركم؟ بلى والله وإن شراركم من أحب

ص:302

أن يوطأ عقبه، إنه لابد من كذاب أو عاجز الرأي.

* الشرح:

قوله (ان شراركم من أحب أن يوطأ عقبه) كناية عن حب الرئاسة وهو أشد الفسوق وأعظمها إذ كل فسق غيره يعود ضره إلى الفاسق، وهذا الفسق يعود ضره إلى تخريب الدين وإلى الفاسق والخلق أجمعين.

(إنه لابد من كذاب أو عاجز الرأي) الرأي: العقل والتدبير، ورجل ذو رأي أي له بصيرة وحذق بالأمور، ولعل المراد بعاجز الرأي: الجاهل المدعي للعلم، المتكفل للحكومة بين الخلق، الذي ضعف عقله ونقص علمه واتبع هواه. فلا يهتدي إلى نصح الخلق ومصالحهم كما ينبغي، وبالكذاب: السلطان المدعي للخلافة وإمارة الخلق كذبا، وكل سلطان إلى زمان القائم (عليه السلام) كذاب فاجر لابد للخلق منه في ضبط نظام أحوالهم في الجملة كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر» وحيث لم يكن أمير قاهر بعده إلى عهد القائم (عليه السلام) برا من جميع الوجوه كان كل أمير بعده فاجرا كذابا.

ص:303

باب اختتال الدنيا بالدين

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن يونس بن ظبيان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل يقول: ويل للذين يختلون الدنيا بالدين، وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية، أبي يغترون أم علي يجترئون، فبي حلفت لاتيحن لهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.

* الشرح:

قوله (ويل للذين يختلون الدنيا بالدين) أي يطلبون الدنيا بعمل الآخرة يقال: ختله يختله إذا خدعه (أبي يغترون) أي يظنون الأمن ولا يتحفظون من الذنب. تقول: اغتررت به إذا ظننت الأمن ولم تتحفظ (أم على يجترئون) اجترأ عليه - بالهمز -: أسرع بالهجوم عليه من غير توقف، والاسم الجرأة، وهو جريء بالهمز أيضا على فعيل.

(فبي حلفت لأتيحن) أي لأقدرن، من «الإتاحة» وهي التقدير (لهم فتنة تترك الحليم منهم حيران) الحلم: الأناة، والحليم من لا يستخفه شيء من مكاره النفوس ولا يستفزه الغضب. والفتنة:

المحنة والابتلاء، وأصلها من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أحرقته بالنار لتبين الجيد من الردي وهي قد تكون في حال الحياة الدنيا; وفسرها السهروردي بأنها الابتلاء مع ذهاب الصبر والرضا والوقوع في الآفات والمهلكات والإصرار على الفساد، وترك اتباع طريق الهدى، وقد تكون في الممات وفسرها بعضهم بأنها ما يرد في حال الاحتضار من سوء الخاتمة الذي يضطرب منه قلوب العارفين، وبعضهم بأنها ما يرد في البرزخ وما بعده من الشدائد والعذاب وسوء المعاملة والمضايقة في الحساب وغيرها.

ص:304

باب من وصف عدلا وعمل بغيره

اشاره

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يوسف البزاز، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) [أنه] قال: إن [من] أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم عمل بغيره.

* الشرح:

قوله (إن [من] أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم عمل بغيره) شمل الوعيد من وصف إماما عادلا اعترف بحقه وخالفه، ومن وصف حقيقة العدل ومنافعه وجار، ومن وصف أعمالا وأخلاقا حسنة وعمل بغيرها. ومن وصف أعمالا وأخلاقا قبيحة وعمل بها، ومن وعظ الناس ولم يتعظ وهو بالقول مدل واثق، وبالعمل مقل فاسق، ومن أمر بالمعروف وتركه ونهى عن المنكر وفعله. ودل على ذم هؤلاء أيضا قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) وقوله تعالى: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاهم بمقاريض من نار فقلت من أنتم؟ فقالوا كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه» وما رواه العامة «أنه يؤتى برجل يوم القيامة فيلقى في النار فيندلق قباب بطنه أي تخرج أمعاؤه فيدور كما يدور الحمار بالرحى ويقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه». وانما كانت حسرته أشد لوقوعه في الهلكة مع العلم وهو أشد من الوقوع فيها بدونه، ولمشاهدته نجاة الغير بقوله وعدم نجاته به.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن [من] أشد الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره.

4 - محمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن عبد الله بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في قول الله عز وجل: (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قال: يا أبا بصير هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية، عن خيثمة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): أبلغ شيعتنا أنه لن ينال ما عند الله إلا بعمل، وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم يخالفه إلى غيره.

ص:305

باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أمير المؤمنين (عليه السلام): إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق.

* الشرح:

قوله (إياكم والمراء والخصومة) المراء بالكسر مرادف للمجادلة تارة وأخص منها أخرى، تقول:

ماريته أماريه مماراة ومراء إذا جادلته، وتقول أيضا: ماريته إذا طعنت في قوله تزييفا للقول وتصغيرا للقائل فلا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا، والجدال أخص من الخصومة. يقال: جدل الرجل من باب علم فهو جدل إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة وجدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب. والخصومة لا يعتبر فيها الشدة ولا الشغل، وقال الغزالي: يندرج في المراء كل ما يخالف قول صاحبه مثل أن يقول هذا حلو فيقول ملح، أو يقول من كذا إلى كذا فرسخ فيقول ليس بفرسخ، أو يقول شيئا فيقول أنت أحمق، أو أنت كاذب.

ويندرج في الخصومة كل ما يوجب تأذي خاطر الآخر ويزداد القول بينهما، وإذا اجتمعا يمكن تخصيص المراء بالأمور الدينية والخصومة بغيرها، أو بالعكس. وينبغي لمن يخاصم أن لا يبالغ فيها، وقد قيل لبعض الأشراف: بم نلت هذا السؤدد؟ فقال لم يخاصمني أحد إلا وقد أبقيت بيني وبينه موضعا للصلح.

ثم أشار إلى بعض آثارهما المذمومة مبالغة في التنفير عنهما بقوله: (فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق) لا ريب في أنهما يوجبان تغير كل واحد وعداوته وبغضه وغيظه على الآخر ويورثان التفاوت بين ظاهر كل واحد منهما وباطنه بالنسبة إلى صاحبه، وهذا نفاق يقتضي زوال الألفة وارتفاع الوحدة وتبدد النظام وانقطاع الالتيام.

2 - وبإسناده قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ثلاث من لقي الله عز وجل بهن دخل الجنة من أي باب شاء:

من حسن خلقه، وخشي الله في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقا.

* الشرح:

قوله (وترك المراء وإن كان محقا) لأن مفاسد المراء لا تتخلف عنه وإن كان صاحبه محقا، على أن المحق المجادل كثيرا مالا يكتفي بسلوك سبيل الدفع. ولا يقتصر على سلوك سبيل

ص:306

الحق بل يتجاوز عنه فيقع في الاثم، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «من بالغ في الخصومة أثم» والمراء قبيح سيما من أهل الدين والورع، وإن كان لابد فلابد من أن يصدق ولا يؤذي ولا يتكلم إلا بقدر الضرورة.

3 - وبإسناده قال: من نصب الله غرضا للخصومات أوشك أن يكثر الانتقال.

* الشرح:

قوله (من نصب الله غرضا للخصومات أوشك أن يكثر الانتقال) الخصومة مع الخلق خصومة مع الخالق، والنصب: الإقامة، والغرض بالغين المعجمة: الهدف، وبالمهملة: الجانب، و «أوشك» من أفعال المقاربة بمعنى القرب والدنو، وقال الفارابي: الإيشاك: الإسراع. والانتقال التحول من حال إلى حال كالتحول من الخير إلى الشر ومن حسن الأفعال إلى قبح الأعمال المقتضية فساد النظام وزوال الألفة والالتيام.

4 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عمار بن مروإن قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تمارين حليما ولا سفيها، فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك.

5 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كاد جبرئيل (عليه السلام) يأتيني إلا قال: يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

* الشرح:

قوله (اتق شحناء الرجال وعداوتهم) الشحناء: العداوة والبغضاء، وشحنت عليه شحنا من باب علم: حقدت وأظهرت العداوة، ومن باب منع لغة.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن الحسين الكندي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله): إياك وملاحاة الرجال.

* الشرح:

قوله (إياك وملاحاة الرجال) ملاحاة «يكديگر را دشنام دادن وبا يكديگر نزاع كردن» وفي المثل: من لاحاك فقد عاداك.

7 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إياكم والمشارة فانها تورث المعرة وتظهر المعورة.

* الشرح:

قوله (إياكم والمشارة) مشارة «با كسى بدى كردن وبا همديگر خصومت كردن»، وأصلها مشاررة أدغمت إحدى الرائين في الأخرى، ولما حذر منها أشار إلى بعض غوائلها

ص:307

ومفاسدها للمبالغة في التحذير بقوله: (فإنها تورث المعرة) العر بضم العين وفتحها: الحرب، والمعرة: المساءة والمكروه والاثم، وعره بالشر يعره من باب قتل: لطخه به.

(وتظهر المعورة) اسم فاعل من أعور الشيء إذا صار ذا عورة وهي العيب والقبح وكل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء فهو عورة. والمراد بها هنا القبيح من الأخلاق والأفعال وغيرها فإن الخصومة سبب لإظهار الخصم قبح خصمه لبغض منه وليضع قدره بين الناس كما هو غالب عادات أهل الدنيا إلا من عصمه بالتقوى وقليل ما هم.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عنبسة العابد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن.

* الشرح:

قوله (إياكم والخصومة فإنها تشغل القلب) أي تشغل القلب عن ذكر الله وتورث النفاق والضغائن للخلق، وكل ذلك من المهلكات الدينية والدنيوية ويدخل فيها الخصومة بين يدي الحكام في الأموال وغيرها وإن احتاج إليها وجب أن لا يغلظ القول ولا يكذب ولا يزيد على قدر الحاجة ولا يقصد إيذاء صاحبه.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كاد جبرئيل (عليه السلام) يأتيني إلا قال: يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

* الشرح:

قوله (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير -... إلى آخره) مر هذا متنا وسندا قبيل ذلك، والظاهر أنه تكرار من الناسخ.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن مهران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أتاني جبرئيل (عليه السلام) قط إلا وعظني فآخر قوله لي: إياك ومشارة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز (1).

* الشرح:

قوله (فآخر قوله لي إياك ومشارة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالغر) الغر بالغين المعجمة جمع الأغر من الغرة وهي البياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، وكل شيء ترفع قيمته كما يقال غرة ماله، والمراد بها هنا محاسن الأمور والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة على سبيل التشبيه والاستعارة. فقد حذر من الخصومة فإنها سبب لإظهار المخاصم عورة خصمه أي معايبه وقبايحه وذهابه بمحاسن أمره وإخفائه فضائل أعماله وأخلاقه، ويحتمل أن يقرأ العز بالعين

ص:308


1- 1 - في بعض النسخ (الغر) بتقديم المعجمة.

المهملة والزاي المعجمة، ويؤيد الأول ما روى من طرق العامة «إياك ومشارة الناس فإنها تظهر العرة وتدفن الغرة» قالوا: العرة: القبيح من الأخلاق والأفعال، والغرة: العمل الصالح شبهه بغرة الفرس.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الوليد بن صبيح قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما عهد إلي جبرئيل (عليه السلام) في شيء ما عهد إلي في معاداة الرجال.

* الشرح:

قوله (ما عهد إلي جبرئيل (عليه السلام) في شيء ما عهد إلي في معاداة الرجال) لما كانت المعاداة منافية للمصالح الكلية والمقاصد المهمة المطلوبة للحكيم جل شأنه وهي النظام الكلي واجتماع النفوس على طريقة واحدة هي سلوك سبيل الله بسائر وجوه الأوامر والنواهي والآداب الذي لا يتم بدون التعاون والتعاضد والتلاطف بين أبناء النوع، كرر جبرئيل (عليه السلام) العهد فيها، وبالغ في الحث على تركها من بين سائر المعاصي وهي وإن كانت أيضا قبيحة لكن قبحها لكونها ملتزمة لمفاسد جزئية أقل من قبح المعاداة المستلزمة لمفاسد كلية.

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابه، رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من زرع العداوة حصد ما بذر.

ص:309

باب الغضب

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل.

* الشرح:

قوله (الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل) غضب «خشم گرفتن» ومبدؤه قوة للإنسان بها يرتكب الأهوال العظام، ويتحرك نحو الانتقام، وله فيها حالات ثلاثة لأنه إن لم يستعملها فيما هو محمود عقلا وشرعا مثل دفع الضرر عن نفسه على وجه سايغ والجهاد مع أعداء الدين والبطش عليهم وإقامة الحدود على الوجه المعتبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصلت له ملكة الجبن وهو مذموم معدود من الرذائل النفسانية، وإن استعملها فيما هو محمود ولم يتجاوز عن حكم العقل والشرع حصلت له ملكة الشجاعة التي هي من الفضائل النفسانية التي وقع الحث عليها في كتب العلماء وزبر الحكماء، وإن أفرط فيها بالإقدام على ما ليس بجميل واستعملها فيما هو مذموم مثل الضرب والبطش والشتم والنهب والقتل والقذف وأمثال ذلك مما لا يجوزه العقل والشرع حصلت له ملكة التهور المعدودة من الرذائل النفسانية أيضا، وتلك الملكة وما يتولد منها من الأفعال الشنيعة والأقوال القبيحة والأخلاق الذميمة والحركات الخارجة من القوانين العقلية والنقلية تظلم الظاهر والباطن، وتختلط بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الكاملة التي هي أنوار الإيمان وحقائق العرفان فيفسد الإيمان، سواء كان الإيمان عين تلك العقائد أم هي مع الأعمال كما يفسد الخل العسل إذ المركب مما ذكر ليس بايمان كما أن المركب من الخل والعسل ليس بعسل بل قد يزيله بالكلية كالخل الكثير للعسل القليل، وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الإيضاح والتقرير.

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن ميسر قال: ذكر الغضب عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار، فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فانه سيذهب عنه رجز الشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه، فإن الرحم إذا مست سكنت.

* الشرح:

قوله (إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار) الرضى «خشنود شدن»

ص:310

وفيه إشارة إلى بعض مفاسد الغضب والاستمرار عليه وتنبيه على أنه ينبغي أن لا يغضب، وعلى أنه لو غضب ينبغي أن لا يستمر عليه بل يزيله بالرضى عن المغضوب إذ لو استمر عليه اشتد غضبه آنا فآنا شيئا فشيئا وصدر منه قبايح متكثرة بعضها فوق بعض، وهكذا حتى يدخل النار، واعلم أن علاج الغضب أمران: علمي وفعلي أما العلمي فبأن يتفكر في الآيات والروايات التي وردت في ذم الغضب ومدح العفو والحلم الذي هو ضده ويتفكر في توقعه عفو الله عن ذنبه ورفع غضبه عنه، وكذلك كل صفة ذميمة تعالج بمثل ذلك، وبالصبر على تحمل ضدها حتى يصير بالتكلف ملكة.

مثلا علاج التكبر التواضع والصبر عليه وعلاج البخل إعطاء المال بالتكلف حتى يصير صفة راسخة، وعلى هذا القياس، وأما الفعلي فأمران أشار إلى الأولى بقوله (فأيما رجل) «ما» زائدة (غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك) الضمير إما للرجل أو للغضب، وهو من: فار الماء فورا نبع وجرى، أو من: فارت القدر فورا، وفي المصباح: قولهم الشفعة على الفور من هذا أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه. ثم استعمل في الحالة التي لابطء فيها. يقال جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره أي حركته التي وصل فيها ولم يسكن بعدها وحقيقته أن يصل ما بعد المجيء بما قبله من غير لبث.

(فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان) الرجز: العذاب والخبث والرجس المنتن، والمراد به هنا نزغات الشيطان ووساوسه فإن الخبيث ينفخ في الإنسان الكبر والعجب والغضب، والأولان يوجبان تغيره بأدنى شيء لا يلايم طبعه، والثالث ينتهض للانتقام فيحركه إلى مالا يليق بذوي العقول.

وما ذكره (عليه السلام) من ذهاب رجز الشيطان ووساوسه وصولته بالجلوس عند ظهور الغضب مجرب كما أن من جلس عند حملة الحلب وجده ساكنا لا يحوم حوله، وفيه سر لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، وربما يقال السر فيه هو الإشعار بأنه من التراب، وعبد ذليل لا يليق به الغضب، أو التوسل بسكون الأرض وثبوتها، وألحق بعض الأفاضل الاضطجاع والقيام إذا كان جالسا، والوضوء بالماء البارد وشربه بالجلوس في ذهاب الرجز.

وأشار إلى الثاني بقوله: (وأيما رجل غضب على ذي رحم) وإن بعد (فليدن منه فليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت) هذا إذا مسه لأجل كسر سورة الغضب وصح قصده لا لأجل إمضائه فإن المس على هذا الوجه لا يكسره، ولذلك قد يأخذه ويضربه أو يقتله مع تحقق المس هنا، والظاهر أن مس المغضوب للغضوب أيضا يدفع الغضب كما دل عليه بعض الروايات.

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن داود بن فرقد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

ص:311

الغضب مفتاح كل شر.

* الشرح:

قوله (الغضب مفتاح كل شر) إذ يتولد منه الحقد والحسد والشماتة والتحقير والأقوال الفاحشة وهتك الأستار والسخرية والطرد والضرب والقتل والنهب ومنع الحقوق إلى غير ذلك مما لا يحصى، وفيه حث على معالجته بحكمة نظرية وعملية.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم ابن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله): رجل بدوي فقال:

إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب، فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بالخير قال: وكان أبي يقول: أي شيء أشد من الغضب، إن الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة.

* الشرح:

قوله (فعلمني جوامع الكلام) أي علمني كلاما قليل الألفاظ كثير المعاني. كذا في المصباح.

قوله (ويقذف المحصنة) القذف: الرمي بالزنا. والمحصنة بالكسر والفتح أيضا على غير قياس وهي العفيفة، يقال: أحصنت المرأة إذا عفت. وأحصنت نفسها بعقلها التام.

5 - عنه، عن ابن فضال، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): علمني عظة أتعظ بها، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه رجل فقال له: يا رسول الله علمني عظة أتعظ بها، فقال له: انطلق ولا تغضب، ثم أعاد إليه فقال له: انطلق ولا تغضب - ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله (علمني عظة أتعظ بها) العظة مصدر وغير مصدر، والمراد هنا غير المصدر، ويقال لها بالفارسية «پند» والاتعاظ: قبول العظة وكف النفس عن المخالفة.

6 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عمن سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كف غضبه ستر الله عورته.

* الشرح:

قوله (من كف غضبه ستر الله عورته) أي عيوبه، أو ذنوبه في القيامة فيكون كفارة عنها، واختلفوا في أن من كف نفسه عن الغضب ومن لا يغضب أصلا لكونه حليما بحسب الخلقة

ص:312

أيهما أفضل؟ فقيل الثاني، وقيل الأول لأن الأجر على قدر المشقة، وفيه جهاد النفس وهو أفضل من جهاد العدو، وغضب النبي (صلى الله عليه وآله) مشهور إلا أن غضبه لم يكن من مس الشيطان ورجزه، وانما كان من بواعث الدين.

7 - عنه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام): يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي.

* الشرح:

قوله (يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي) المراد بالموصول إما العبيد والإماء، أو الرعية أو الأعم وهو أولى، وغضب الخلق ثوران النفس وحركاتها بسبب تصور المؤذي والضار إلى الانتقام والمدافعة، وغضب الخالق عقابه التابع لعلمه بمخالفة أمره ونواهيه وغيرهما، وفيه إشارة إلى نوع من معالجة الغضب وهو أن يذكر الإنسان عند غضبه على الغير غضبه تعالى عليه، فإن ذلك يبعثه على الرضى والعفو طلبا لرضاه تعالى وعفوه لنفسه، والمراد بذكره تعالى له في غضبه - كما في الخبر الآخر - عدم المعاقبة والعذاب بزلاته ومعاصيه جزاء بما صنع في أخيه من العفو عنه.

8 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يحيى بن عمرو، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق وارض بي منتصرا فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

* الشرح:

قوله (وارض بي منتصرا فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك) لما كان الغرض من إمضاء الغضب غالبا هو الانتصار أي الانتقام من الظالم رغب في تركه بأنه تعالى منتقم من الظالم لك وعلله بأن انتقامه خير من انتقامك لأن انتقامه على قدر الظلم وانتقامك قد يتعدى. وأيضا انتقامك قد يؤدي إلى المفاسد الكلية والجزئية بانتهاض الخصم للمعاداة بخلاف انتقامه تعالى.

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، وزاد فيه: وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

ص:313

* الشرح:

قوله (وزاد فيه: وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري فإن انتصاري لك) لعل المراد بالزيادة وقوع هذه العبارة فقط بدل قوله في الرواية السابقة «وارض بي منتصرا» كما في الرواية الآتية.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن في التوراة مكتوبا: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

11 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعلي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد جميعا، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله علمني، قال: اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذاك فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفا ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه، ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تغضب» فرمى السلاح، ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه، فقال: يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، قال:

فاصطلح القوم وذهب الغضب.

* الشرح:

قوله (ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر) الأثر بالتحريك: العلامة، وبالضم وبالضمتين: أثر الجراح يبقى بعد البرء و «ليس فيه أثر» صفة لضرب ويريد به ضرب ليس فيه جراحة لأنه قسيمه، فأشار إلى جميع أقسام الضرب وضمن الوفاء بجميعها في ماله.

12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك.

* الشرح:

قوله (إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وأن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه) الجمرة. القطعة الملتهبة من النار شبه بها الغضب في الإحراق والإهلاك، ونسبها إلى الشيطان لأن بنفخ نزغاته ووساوسه تحدث وتشتد وتوقد في قلب ابن آدم وتلتهب التهابا

ص:314

عظيما، ويغلي بها دم القلب غليانا شديدا كغلي الحميم فيحدث منه دخان بتحليل الرطوبات وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعلى البدن والوجه كما يرتفع الماء والدخان في القدر فلذلك تحمر العين والوجه والبشرة وتنتفخ الأوداج والعروق وحينئذ يتسلط عليه الشيطان كمال التسلط، ويدخل فيه ويحمله على ما يريد فيصدر منه أفعال شبيهة بأفعال المجانين. ولزوم الأرض يشمل الجلوس والاضطجاع والسجود.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغضب ممحقة لقلب الحكيم، وقال: من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

* الشرح:

قوله (الغضب ممحقة لقلب الحكيم) ممحقة بكسر الميم اسم آلة للمحق، وهو الإبطال وذلك لأن ثوران نار الغضب وانبعاث دخانه في ساحة القلب، وغليان الرطوبات القلبية يوجب محق نور القلب ويصيره مظلما بحيث لا يدرك شيئا من الحق وعند ذلك يستولي عليه الشيطان ويحمله على أن يفعل ما يفعل، وإنما خص قلب الحكيم بالذكر لأن المحق الذي هو إزالة النور انما يتعلق بقلب له نور، وقلب غير الحكيم مظلم ليس له نور، أو لأن قلب غير الحكيم يعلم بالأولوية، وإذا عرفت أن الغضب يمحق قلب الحكيم يعني عقله ظهر لك حقيقة قوله «ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله» وذلك لأن من لم يملك غضبه ولم يمنعه من الانبعاث عند وجود سببه بطل نور عقله وحكمه، وصار مأسورا في يد النفس الأمارة، وإذا بطل حكمه صدرت عنه أفعال وحركات غريبة مثل المجانين.

14 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كف نفسه عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة، ومن كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (من كف نفسه عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة) والغرض منه هو الترغيب في ترك الغيبة والبهتان ومواجهتهم بما يكرهونه وكشف عيوبهم وأذاهم بأن الله تعالى يقيل عيوبه ويستر ذنوبه ولا يكشفها يوم القيامة.

15 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة.

ص:315

باب الحسد

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

* الشرح:

قوله (إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر) البادرة الخطأ وما يبدر من الحدة في الغضب من قول أو فعل.

(وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب) تقول: حسدته على النعمة مالا كان أو حالا مثل العلم وغيره، وحسدته النعمة حسدا بفتح السين، أو كسرها على قلة يتعدى إلى الثاني بنفسه وبالحرف إذا كرهتها عنده وتمنيت زوالها عنه سواء قصدت انتقالها إليك أم لا، وهو من طغيان القوة الشهوية المقتضية لحب الدنيا وحب البخل وحب الرئاسة وحب الفخر وحب التعزز ومن طغيان القوة الغضبية المقتضية لإلتذاذ النفس بمضار ترد على عباد الله والعداوة لهم.

ومن نقصان القوة العقلية حيث لا يعلم أن ذلك لا ينفعه بل يضره ويوجب عقوبته وأنه لا يضر المحسود بل يوجب علو درجته لكونه مظلوما وأنه مضاد لحكمة الله تعالى وإرادته وفضله وقضائه ومصالحه وقسمته لكل ما يليق به، ومفاسده كثيرة منها أنه يفسد الإيمان ويفنيه كما تفسد النار الحطب وتفنيه، وذلك لأن الحسد مع كونه في نفسه صفة منافية للايمان مضر بالنفس والجسد. أما بالنفس فلأنه يصرف فكرها إلى الاهتمام بأمر المحسود حتى لا يفرغ للتصرف فيما يعود نفعه إليها فتغفل عن الملكات الخيرية والصور العقلية المنقوشة فيها، وإذا دام الحسد واشتغل الفكر في أمر المحسود، وطال الحزن والهم له اضمحل نور العقائد وانقطع الوقت عن تحصيل الحسنات بالكلية، وأما بالجسد لأنه يعرض له عند عروض هذه الأمراض للنفس طول السهر وسوء الاغتذاء ورداءة اللون وسوء السجية وفساد المزاج. فتنقطع عنه القوة للأعمال، وإذا فسد الجسد والنفس وأعمالهما فسد الإيمان على أي معنى كان، وتشبيه كل واحد من الحسد والنار بالشخص الآكل في الإفساد والإزالة مكنية، وإثبات الأكل لهما تخييلية، وتشبيه أكل الحسد بأكل النار في الإفناء تشبيه

ص:316

معقول بمحسوس لزيادة الإيضاح، أو تشبيه إفساد الحسد الإيمان وإفساد النار الحطب بإفساد الأكل الطعام، واستعارة الأكل لهما تبعية، وتشبيه الأول بالثاني لقصد الإيضاح.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد; والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن داود الرقي قال:

سمعت أبا عبد الله يقول: اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضا، إن عيسى بن مريم كان من شرائعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير وكان كثير اللزوم لعيسى (عليه السلام)، فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم الله، بصحة يقين منه فمشى على ظهر الماء فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى (عليه السلام) جازه: بسم الله، بصحة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى (عليه السلام)، فدخله العجب بنفسه، فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء، وأنا أمشي على الماء فما فضله علي، قال: فرمس في الماء فاستغاث بعيسى فتناوله من الماء فأخرجه. ثم قال له: ما قلت يا قصير؟ قال: قلت: هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فدخلني من ذلك عجب، فقال له عيسى: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت فتب إلى الله عز وجل مما قلت، قال: فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتقوا الله ولا يحسدن بعضكم بعضا.

* الشرح:

قوله (اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضا) لأن الحسد أعظم الأدواء وأعضلها، وأقبح المعاصي وأكبرها وسبب لخراب العالم وبطلان نظامه لتعلقه بأرباب الفضائل وأصحاب الشرف والأموال الذين يتم بوجودهم عمارة الأرض وكثيرا ما يسعى الحاسد إزالة المحسود عن مرتبته ويبتغى الحيلة في زوال نعمته بظلم أو سعاية إلى ظالم إلى غير ذلك من أسباب البغي ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): «إذا حسدتم فلا تبغوا» قال ذلك لعلمه بأن الحسد يتعقبه البغي، والبغي شؤم يضر بالحاسد والمحسود والدين والدنيا جميعا. ألا ترى أن إبليس اللعين لما حسد آدم كفر واستحق عذاب الأبد وبطلت رفاهة عيش آدم، ودخلت البلية في ذريته، وأن أرباب الطغيان في صدر الإيمان لما حسدوا الإمام العالم العادل أزالوه عن مرتبته فبطل بذلك نظام الدنيا والدين وأحاطت البلية بالخلق أجمعين،

ص:317

وبالجملة كل بلية في العالم فهي من الحسد بواسطة أو بغيرها.

وقال بعض الأفاضل: إذا كان لظالم أو فاسق مال يصرفه في غير وجهه ويجعله آلة للظلم والفسق يجوز الحسد عليه وتمنى زوال ماله وهو في الحقيقة تمني زوال الظلم والفسق، ويصدقه أنه يزول ذلك التمني بتوبتهما، وقال بعضهم: كراهة نعمة أحد بالطبع بحيث لا يقدر دفعها عن نفسه ليست بحسد، لأن دفعها خارج عن التكليف ولكن يجب عليه أمران أحدهما عدم إظهارها بالقول والفعل، وثانيهما إنكار تلك الكراهية وإرادة زوالها، ولو انتفى أحدهما تحقق الحسد.

(إن عيسى بن مريم كان من شرائعه السيح في البلاد) ساح في الأرض يسيح سيحا إذا سار وذهب فيها، ومنه المسيح بن مريم (عليه السلام).

(فدخله العجب بنفسه فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فما فضله علي) هذا عجب كما قال هو: فدخلني من ذلك عجب، وقال (عليه السلام) فدخله العجب بنفسه وشبيه بالغبطة من وجه حيث تمنى منزلة روح الله، وليس له أن يتمناها كما يرشد إليهما قوله (عليه السلام) «لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت» وبالحسد من وجه آخر إما لأنه نفى زيادة فضل روح الله عليه وأنزله منزلة نفسه، أو لأن كل واحد من الحاسد والمعجب يضع نفسه في غير موضعه، وبهذا الاعتبار ذكره في هذا الباب فلا يرد أن العجب غير الحسد فلا يناسب ذكره في هذا الباب.

(فرمس في الماء) أي غمس فيه على صيغة المجهول فيهما من «رمست الميت» إذا دفنته في التراب.

إن قلت هذا دل على المؤاخذة بالأفعال القلبية، وسيجئ في باب من يهتم بالحسنة والسيئة أنه لا مؤاخذة بها.

قلت: هذا من الأفعال القلبية واللسانية بدليل قوله فقال: «هذا عيسى روح الله - إلى آخره» ولو أريد بهذا القول القلبي لأمكن أن يقال الأفعال القلبية التي لا مؤاخذة بها هي التي ليست من العقائد مثل قصد شرب الخمر ونحوه، وأما العقائد ففيها مؤاخذة قطعا وهذا منها.

(ثم قال ما قلت يا قصير) الظاهر أن قصيرا كان وصفا له لا اسما له، ففيه دلالة على جواز تخاطب الرجل ببعض أوصافه الظاهر المشتهر به لا على قصد الاستهزاء.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول

ص:318

الله (صلى الله عليه وآله): كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر.

* الشرح:

قوله (قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كاد الفقر أن يكون كفرا) من طريق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) قال: «لولا رحمة ربي لكاد الفقر أن يكون كفرا» لعل المراد به الفقر القاطع لعنان الاصطبار وقد وقع الاستعاذة منه، وأما الفقر الممدوح، فهو الفقر المقرون بالصبر. وقال الغزالي: سبب ذلك أن الفقير إذا نظر إلى شدة حاجته وحاجة عياله ورأى نعمة جزيلة مع الظلمة والفسقة وغيرهم، ربما يقول ما هذا الإنصاف من الله وما هذه القسمة التي لم تقع على العدل؟ فإن لم يعلم شدة حاجتي ففي علمه نقص، وإن علم ومنع مع القدرة على الإعطاء ففي وجوده نقص، وإن منع لثواب الآخرة، فإن قدر على إعطاء الثواب بدون هذه المشقة الشديدة فلم منع؟ وإن لم يقدر عليه ففي قدرته نقص. ومع هذا يضعف اعتقاده بكونه عدلا جوادا رحيما كريما مالكا لخزائن السماوات والأرض، وحينئذ يتسلط عليه الشيطان ويذكر له شبهات حتى يسب الفلك والدهر وغيرهما وكل ذلك كفر أو قريب منه، وإنما يتخلص من هذه الأمور من امتحن الله قلبه بالإيمان، ورضى عن الله بالمنع والإعطاء، وعلم أن كل ما فعله بالنسبة إليه فهو خير له وقليل ما هم.

(وكاد الحسد أن يغلب القدر) فيه مبالغة في تأثير الحسد في فساد النظام المقدر للعالم فإنه كثيرا ما يبعث صاحبه على قتل النفوس ونهب الأموال وسبي الأولاد وإزالة النعم حتى كأنه غير راض بقضاء الله وقدره ويطلب الغلبة عليهما وهو حد الشرك بالله.

5 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن معاوية بن وهب قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): آفة الدين الحسد والعجب والفخر.

6 - يونس، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل لموسى بن عمران (عليه السلام) قال: يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس مني.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن الفضيل بن عياض، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط.

ص:319

* الشرح:

قوله (إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط) وهو بحسب اللفظ إخبار بأن الحاسد منافق لأن ظاهره الإيمان وباطنه النفاق مع المؤمنين، وبحسب المعنى أمر بطلب بأن الحاسد منافق لأن ظاهره الإيمان وباطنه النفاق مع المؤمنين، وبحسب المعنى أمر بطلب الغبطة وترك الحسد، وذلك لأن الحسد وهو تمني زوال النعمة حرام، وأما الغبطة هو تمني مثلها فإن كانت في أمور الدنيا فمباحة، وإن كانت في أمور الدين فمطلوبة.

لا يقال: المغتبط يتمنى فوق مرتبته والأفضل من نعمته فهو ساخط بالنعمة وغير راض بالقسمة كالحاسد وإلا فما الفرق؟ لأنا نقول الفرق أن الحاسد غير راض بالقسمة تمنى أن يكون قسمته ونصيبه للغير ونصيب الغير له فهو راد للقسمة قطعا، وأما المغتبط فقد رضي أن يكون نصيب الغير له ورضي أيضا بنصيبه إلا أنه لما جوز أن يكون له أيضا مثل نصيب ذلك الغير وكان ذلك ممكنا في نفسه ولم يعلم امتناعه بحسب التقدير الأزلي ولم يدل عدم حصوله على امتناعه لجواز أن يكون حصوله مشروطا بشرط كالتمني ونحوه تمناه، وهذا مثل من وجد درجة من الكمال يسأل الله تعالى ويطلب منه التوفيق لما فوقها.

ص:320

باب العصبية

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن داود بن النعمان، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان عن عنقه.

* الشرح:

قوله (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه) الربق بالكسر: جمع الربقة وهي في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، والمراد بها ما يشد المسلم به نفسه من عرى الاسلام أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه، والتعصب: المحاماة والمدافعة وإعانة القوم والعصبة وذوي القرابة على الظلم وهو من الحمية الجاهلية التي تحدث من طغيان النفس الأمارة ونفثات الشيطان فيها بأن تقاعدك أنفة وعار عليك وعلى قومك فتقدم حينئذ على ما يوجب خروجه من الإيمان وخلع ربقه من عنقه، وهذا من المتعصب ظاهر، وأما من المتعصب له فلابد من تقييده بما إذا كان هو الباعث عليه والراضي به وإلا فلا إثم عليه.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم ودرست ابن أبي منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية.

* الشرح:

قوله (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) لتشبهه بهم في العصبية والحمية والخروج من طاعة الله تعالى ومحاسن الأخلاق ومحامد الأعمال، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن خضر، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من تعصب عصبه الله بعصابة من نار.

* الشرح:

قوله (من تعصب عصبه الله بعصابة من نار) العصب الشد، ومنه عصابة الرأس - بالكسر - وهي ما يشد به من عمامة وغيرها.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن

ص:321

صفوان بن مهران، عن عامر بن السمط، عن حبيب بن أبي ثابت، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب - وذلك حين أسلم - غضبا للنبي (صلى الله عليه وآله) في حديث السلا الذي القي على النبي (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (لم تدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب) الحمية: الأنفة والعار والغيرة، وهي من أسباب الحماية أي المنع والدفع، ومن لوزام الغضب والفخر والعجب والكبر لأنها تنشأ من تصور المؤذي مع الترفع على فاعله واعتقاد الشرف عليه.

ولما ذم الحمية أشار إلى الحمية المحمودة وهي الحمية في الدين التي هي من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يتفاضل فيها أهل المجد والشرف.

(والسلا) مقصورا الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي.

6 - عنه، عن أبيه، عن فضالة، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين).

* الشرح:

قوله (فاستخرج ما في نفسه) أي أظهر ما في نفس إبليس.

(بالحمية والغضب فقال (خلقتني من نار وخلقته من طين)) فأخذته الحمية وافتخر وتكبر على آدم بأن أصله من نار وأصل آدم من طين، والنار أشرف من الطين، فصار بذلك إمام المتعصبين، ومقتدى المتكبرين، فأبعده الله من رحمته، وقال (فأخرج إنك من الصاغرين) وإذا كان حاله مع كثرة عبادته حتى قيل إنه عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدنيا أو من سني الآخرة وحتى ظن الملائكة أنه منهم، كذلك لأجل تكبر وعصبية واحدة على شخص واحد في ساعة واحدة فما ظنك أيها المتعصب المتكبر على كثير من ذرية آدم، وكيف أمنت أن تكون مع قصر مدة عبادتك وكثرة معصيتك مثله، والله هو المستعان.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن العصبية، فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.

ص:322

باب الكبر

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبان، عن حكيم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أدنى الإلحاد فقال: إن الكبر أدناه.

* الشرح:

قوله (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من أدنى الإلحاد فقال: إن الكبر أدناه) لما كان السائل طالبا استحسن التأكيد في جوابه. والإلحاد: الميل عن الحق، والمراد به إما نفي الصانع أو إثبات الشريك له أو الأعم منهما، والكبر: العظمة وهي هيئة نفسانية تنشأ من تصور الإنسان نفسه أعظم من غيره وأعلى رتبة منه، وهي رذيلة تحت الفجور مقابل التواضع. وانما كان أدنى الإلحاد لأن المتكبر يلزمه إنكار الرب أو أثبات الشريك له من حيث لا يعلم وذلك لأن الكبر من الصفات المخصوصة بالرب باعتبار أنه متوقف على كمال الذات في الوجود والصفات والأفعال وجميع ذلك له تعالى لا لغيره بالضرورة، فإذن ليس المستحق للكبر إلا هو وأما غيره فهو ذليل فقير عاجز مضطر من جهات شتى.

فإذا تكبر لزمه القول بأنه شريك له وإن لم يقل به صريحا فيلزم الإلحاد بالمعنى الثاني.

وكذلك لزمه القول بنفيه تعالى لأن الصانع الذي له شريك ليس بصانع فيلزم الإلحاد بالمعنى الأول، ولما لم يكن من باب الإلحاد صريحا حكم بأنه أدناه وقريب منه، واعلم أن الكبر من المهلكات ومنشأوه الجهل، وإزالته وهي فرض العين يحتاج إلى معالجة علمية وعملية. أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه ويكفيه ذلك في إزالته فإنه إذا عرف نفسه حق المعرفة عرف أنه أذل الأشياء، وأن عليه التواضع والذلة والمسكنة، وإذا عرف ربه علم أنه لا يليق العظمة والكبرياء إلا به وأن كل من سواه عاجز مضطر عبد مملوك لا يقدر على شيء ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فتنقطع عنه مواد البطر والكبرياء، وبواعث الفخر والخيلاء، وأما العملي فهو الاشتغال بأنواع العبادات والطاعات والمداومة لذكر الله والابتهال إليه والتضرع بين يديه وتفويض الأمر إليه وحسن المكالمة والمجالسة والمعاشرة مع الفقراء وغيرهم.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس،

ص:323

والكبر رداء الله، فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالا، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين فقيل لها: تنحي عن طريق رسول الله، فقالت: إن الطريق لمعرض فهم بها بعض القوم أن يتناولها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعوها فانها جبارة.

* الشرح:

قوله (الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس) أي من كل صنف من أصناف الناس وإن كان دنيا كما يشعر به تكبر سوداء أو من كل جنس من أجناس السبب كالعلم والعبادة والزهد والمال والجاه والنسب والصورة والشهرة ونحوها والأول أظهر.

(والكبر رداء الله) في الخبر الآخر: «العز رداء الله، والكبر إزاره» وروى مثلهما من طرق العامة قال الآبي: الإزار: الثوب الذي يشد على الوسط، والرداء: الذي يمد على الكتفين. وقال محي الدين:

هما لباس، واللباس من خواص الأجسام وهو سبحانه ليس بجسم فهما استعارة للصفة التي هي العزة والعظمة، ووجه الاستعارة أن هذين الثوبين لما كانا مختصين بالناس ولا يستغنى عنهما، ولا يقبلان الشركة، وهما جمال عبر عن العز بالرداء، وعن الكبر بالإزار على وجه الاستعارة المعروفة عند العرب كما يقال فلان شعاره الزهد ودثاره التقوى لا يريدون الثوب الذي هو شعار ودثار بل صفة الزهد كما يقولون: فلان غمر الرداء واسع العطية فاستعاروا لفظ الرداء للعطية، انتهى.

أقول: يجوز أن يكون من باب التشبيه البليغ بحذف الأداة، والوجه الاختصاص لأن العزة والكبر مختصان به سبحانه، كما أن الرداء والإزار مختصان بصاحبهما، أو الإحاطة لوجودها في العزة والكبر تخييلا، وفي الرداء والإزار تحقيقا بل التشبيه أولى لأن المشبه ينبغي أن لا يكون مذكورا وهو هنا مذكور، والمقصود من هذا التشبيه هو الإيضاح لأنه أخرج المعقول إلى المحسوس تقريبا للإفهام.

فإن قلت: هل في تشبيه العز بالرداء والكبر بالإزار وجه؟ قلت نعم لأن العزة أمر إضافي كما قيل: هي الامتناع من أن ينال، وقيل: هي الصفة التي تقتضي عدم وجود مثل الموصوف بها. وقيل: هي الغلبة على الغير، والأمر الإضافي أمر ظاهر، والرداء من الأثواب الظاهرة، فبينهما مناسبة من جهة الظهور، والكبر بمعنى العظمة، وهي صفة حقيقية إذ العظيم قد يتعاظم في نفسه من غير ملاحظة الغير فهي أخفى من العزة، والإزار ثوب خفي لأنه قد يستر بغيره، فبينهما مناسبة من هذه الجهة، وفي الحديث الأول شبه الكبر بالرداء، وله أيضا وجه

ص:324

ظاهر لأن الكبر كثيرا ما يفتقر إلى ملاحظة متكبر عليه فهو بهذا الاعتبار أمر إضافي ظاهر يناسب الرداء.

(فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالا) قد عرفت أن الكبر والعظمة والرفعة على الخلق من الصفات المختصة بالله سبحانه فمن نازعه فيها لم يزده الله إلا سفالا في أعين العارفين ونظر الصالحين أو في القيامة كما سيجئ: «أن المتكبرين يجعلون في صورة الذر يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب» فلا يرد: أن كثيرا من المتكبرين ليسوا من أهل السفال، قال بعض المحققين: الإنسان مركب من جوهرين أحدهما أعظم من الآخر وهو الروح التي من أمر الرب وبينها وبين الرب قرب تام، لولا عنان العبودية لقال كل واحد: أنا ربكم الأعلى، فكل أحد يحب الربوبية ولكن يدفعها هو عن نفسه بالإقرار بالعبودية، ويطلب باعتبار الجوهر الآخر المركوز فيه القوة الشهوية والغضبية آثار الربوبية وخواصها، وهي أن يكون فوق كل شيء وأعلى رتبة منه، ويغفل عن أن هذا في الحقيقة دعوى الربوبية. وكذلك كل صفة من الصفات الرذيلة تتولد من ادعاء آثار الربوبية كالغضب والحسد والحقد والرياء والعجب، فإن الغضب من جهة الاستيلاء اللازم للربوبية، والحسد من جهة أنه يكره أن يكون أحد أفضل منه في الدين والدنيا وهو أيضا من لوازمها، والحقد يولد من احتقان الغضب في الباطن، والرياء من جهة أنه يريد ثناء الخلق، والعجب من جهة أنه يرى ذاته كاملة وكل ذلك من آثار الربوبية، وقس عليه سائر الرذائل فإنك إن فتشتها وجدتها مبنية على ادعاء الربوبية والترفع.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن العلاء بن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): العز رداء الله والكبر إزاره، فمن تناول شيئا منه أكبه الله في جهنم.

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن معمر بن عمر ابن عطاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الكبر رداء الله والمتكبر ينازع الله رداءه.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن أبي جميلة، عن ليث المرادي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: الكبر رداء الله فمن نازع الله شيئا من ذلك أكبه الله في النار.

6 - عنه، عن أبيه، عن القاسم بن عروة، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر.

ص:325

* الشرح:

قوله (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) هذا الحديث مذكور في صحيح مسلم بإسناده عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال الخطابي: المراد بالكبر الكبر عن الإيمان لقوله: «ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من ايمان» فقابل الإيمان بالكفر، ويحتمل أن يريد به نزع الكبر عن داخل الجنة لقوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) أقول: التأويل الأول موافق لما في الخبر الآتي من أن المراد بالكبر الجحود، وأما التأويل الآخر فلا يخفى بعده لأن المقصود ذم المتكبر وتحذيره لا تبشيره برفع الإثم والعقاب عنه. ويمكن أن يراد به المستحل، أو يخصص عدم الدخول ببعض الأوقات وهو أن لا يدخلها ابتداء بل بعد المجازاة، وقيل إنما صار الكبر حجابا عن الجنة لأنه يحول بين العبد وبين فضائل الأخلاق التي هي أبواب الجنة فإن الكبر يغلق تلك الأبواب كلها لأن المتكبر لا يقدر أن يحب للمؤمن ما يحب للنفسه ولا يتمكن من ترك الرذائل كالحقد والحسد والتقدم في الطرق والمجالس وطرد الفقراء عن المجالسة والمؤاكلة والعنف والغلظة والغيبة والتطاول، وعدم الرفق بذوي الحاجات وفعل أضدادها من الفضائل كالتواضع وكظم الغيظ وقبول الحق وسماعه والرفق في القول وغيرها، وما من خلق فاضل إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه فلذلك «لا يدخل الجنة من [كان] في قلبه مثقال ذرة من كبر».

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر، قال:

فاسترجعت فقال: مالك تسترجع؟ قلت: لما سمعت منك، فقال: ليس حيث تذهب إنما أعني الجحود، إنما هو الجحود.

* الشرح:

قوله (انما أعني الجحود انما هو الجحود) أي المراد بالكبر إنكار الحق، أو إنكار أمره وحكمه مثل كبر إبليس فإنه لما كان مقرونا بالجحود والإباء عن طاعة الله والاستصغار لأمره كما دل عليه قوله (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال) كان لا محالة مستلزما لكفره والكفر يوجب الحرمان من الجنة أبدا هذا أحد التأويلات للروايات الدالة على أن من في قلبه كبر لا يدخل الجنة، والمقصود أن هذا الوعيد مختص بكبر الجحود لا أن غيره لا يتعلق به الوعيد مطلقا.

ص:356

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أيوب ابن الحر، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكبر أن تغمص الناس وتسفه الحق.

* الشرح:

قوله (الكبر أن تغمص الناس وتسفه الحق) غمصه - كضربه، وسمعه - غمصا احتقره واستصغره وعابه ولم يره شيئا، وسفه سفها من باب علم وسفه سفاهة من باب شرف إذا نقص عقله، وسفهه تسفيها إذا نسبه إلى السفه، والمراد به هنا لازمه وهو الجهل بالحق وطعن أهله.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق، قال: قلت: ما غمص الخلق وسفه الحق؟ قال: يجهل الحق ويطعن على أهله، فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه.

* الشرح:

قوله (إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق) قد عرفت أن الكبر عظمة مخصوصة وهي هيئة نفسانية تنشأ من تصور الإنسان أنه أعلى من غيره، وهذه الهيئة بعد رسوخها إن كملت واشتدت حتى دلت صاحبها على تحقير الخلق بأن لا يراه شيئا وجهل الحق بأن لا يقبله من صميم القلب والطعن على من قبله ورآه حقا، حصل نوع آخر من الكبر أعظم من الأول وهي الهيئة المذكورة مجردة عن التحقير والجهل المذكورين، ومنه يظهر حقيقة قوله «أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق» ونقل عن الزمخشري أن سفه الحق اسم مضاف إلى الحق، وأن فيه وجهين أحدهما أن يكون على حذف الجار والإيصال كان الأصل سفه على الحق، والثاني أن يتضمن معنى فعل متعد كجهل والمعنى الاستخفاف به وأن لا يراه على ما هو عليه من الرجحان.

(فمن فعل ذلك نازع الله عز وجل رداءه) إن قلت: الغمص والسفه بالتفسير المذكور ليسا من صفات الله تعالى وردائه فما معنى هذا القول؟ قلت: الغمص والسفه أثر من آثار الكبر ولازم من لوازمه ففاعل ذلك منازع لله من حيث الملزوم على أنه لا يبعد أن يراد بهما الملزوم مجازا وهو الكبر البالغ إلى هذه المرتبة المقتضية لهذا الفعل الشنيع.

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في

ص:327

جهنم لواديا للمتكبرين يقال له: سقر، شكا إلى الله عز وجل شدة حره وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم.

* الشرح:

قوله (فتنفس فأحرق جهنم) لعل المراد بتنفسه خروج لهب منه، وبإحراق جهنم تسخينها أشد ما كان لها من السخونة وإحداث حرارة زائدة فيها.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن داود بن فرقد، عن أخيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن المتكبرين يجعلون في صور الذر، يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب.

* الشرح:

قوله (ان المتكبرين يجعلون في صورة الذر -... إلى آخره) عوملوا بهذا لأنه مقابل لتكبرهم وترفعهم فعوملوا بمقابل مقصودهم ونقيض مطلوبهم.

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن غير واحد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الكبر؟ فقال: أعظم الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس، قلت: وما سفه الحق قال: يجهل الحق ويطعن على أهله.

13 - عنه، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن عمر بن يزيد، عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنني آكل الطعام الطيب وأشم الريح الطيبة وأركب الدابة الفارهة ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئا من التجبر فلا أفعله؟ فأطرق أبو عبد الله (عليه السلام) ثم قال: إنما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق. قال: عمر: فقلت: أما الحق فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو، قال: من حقر الناس وتجبر عليهم فذلك الجبار.

* الشرح:

قوله (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنني آكل الطعام الطيب وأشم الريح الطيبة وأركب الدابة الفارهة) أي النشيطة الحادة والخفيفة القوية.

(ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئا من التجبر فلا أفعله -... إلى آخره) كأن السائل توهم أو شك في أن محبة هذه الأمور تجبر وتكبر، فأجاب (عليه السلام) بأنها ليست تجبرا وتكبرا وأنهما إنكار الحق وتحقير الناس، كيف وقد نقل في باب التجمل «إن الله جميل يحب الجمال» يعني أنه تعالى جميل

ص:328

الفعال يحب منكم التجمل والتزين وإظهار نعمه وعدم الحاجة إلى الغير. ثم إن الأمور المذكورة ونحوها وإن لم تكن في ذواتها تجبرا إلا أنها في أكثر الناس مفضية إليه; فلذلك أطرق (عليه السلام) ولم يجبه بأنها تجبر أولا وأتى بجواب على وجه كل يشعر بأنها من حيث هي ليست تجبرا، ولو تبعها فرد من هذا الكلي فإنما هي مذمومة لأجل ذلك لا لذاتها.

14 - محمد بن جعفر، عن محمد بن عبد الحميد، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك جبار ومقل مختال.

* الشرح:

قوله (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك جبار ومقل مختال) معنى لا يكلمهم أنه لا يكلمهم كلام رضى بل كلام سخط مثل (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) وقيل: لا يكلمهم بلا واسطة، وقيل: هو كناية عن الإعراض والغضب فإن من غضب على أحد قطع كلامه، ومعنى «لا ينظر إليهم» أنه لا ينظر إليهم نظر الكرامة والعطف والبر والرحمة والإحسان لضعتهم وحقارتهم عنده وقلة قدرهم لديه. وليس المراد نفي الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا نفي تقليب الحدقة إليهم لأنه من صفات الأجسام. وفي قوله «يوم القيامة» إشعار بأن المعاصي المذكورة بل غيرها أيضا لا تمنع من إيصال الخير والنعمة إليهم في الدنيا لأن إفضاله فيها يعم الأبرار والفجار تأكيدا للحجة عليهم. ومعنى قوله «ولا يزكيهم» أنه لا يطهرهم من ذنوبهم أو لا يقبل عملهم أو لا يثني عليهم ومن لا يثني الله سبحانه عليه يعذبه.

وتخصيص الثلاثة بالذكر ليس لأجل أن غيرهم معذور بل لأجل أن عقوبتهم أعظم وأشد لأن المعصية مع وجود الصارف عنها أقبح وأشنع، والصارف للشيخ عن الزنا انكسار قوته وانطفاء شهوته وطول إعذاره ومدته وقرب الانتقال إلى الله فلابد من أن يتدارك ما فات ويستعد لما هو آت فإذا شغل بالزنا دل ذلك على أنه غير مقر بالدين ومستخف بنهي رب العالمين; فلذلك استحق العذاب المهين. ويمكن أن تستدل بهذا على أن الشيخ، في جميع المعاصي أشد عقوبة من الشاب وعلى أن الشاب بالعفة أمدح من الشيخ والصارف للملك عن كونه جبارا مشاهدة كمال نعمه تعالى عليه حيث سلطه على عباده وبلاده وجعلهم تحت يده وقدرته فاقتضى ذلك أن يشكر نعمه ويعدل بين خلق الله ويرتدع عن الظلم والفساد ويشاهد ضعفه بين يدي الملك المنان، فإذا قابل

ص:329

كل ذلك بالكفران استحق عذاب النيران، والصارف للمقل الفقير عن الاختيال والاستكبار فقره لأن الاختيال انما هو بالدنيا وليست عنده فاختياله عناد، ومن عاند ربه العظيم يصير محروما من رحمته وله عذاب أليم. ولا يبعد أن يكون المدح في أضداد هذه الأنواع متفاوتا فالشاب بالعفة أمدح من الشيخ كما ذكرنا، ودل عليه أيضا الآثار.

والتواضع من الغني أمدح منه من الفقير كما دل عليه بعض الأخبار، وأما العدل من غير الملك ففي كونه أمدح منه من الملك محل نظر.

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن مروك بن عبيد، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن يوسف (عليه السلام) لما قدم عليه الشيخ يعقوب (عليه السلام) دخله عز الملك، فلم ينزل إليه، فهبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا يوسف أبسط راحتك فخرج منها نور ساطع، فصار في جو السماء، فقال: يوسف يا جبرئيل ما هذا النور الذي خرج من راحتي؟ فقال: نزعت النبوة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشيخ يعقوب فلا يكون من عقبك نبي.

* الشرح:

قوله (لما قدم عليه الشيخ يعقوب (عليه السلام) دخله عز الملك فلم ينزل إليه -... إلى آخره) الملك بضم الميم وسكون اللام السلطنة وبفتح الميم وكسر اللام السلطان وبكسر الميم وسكون اللام ما يملك وإضافة العز إليه لامية ولم يكن ما دخله تكبرا تحقيرا للشيخ فإنه كان منزها عنه بل كان حفظا لعزه عند عامة الناس إذ كان نزول الملك عندهم لغيره موجبا لذله، وهذا شبيه بالتكبير من جهة وبالعجب من أخرى، فانظر إلى ما ورد على الرجل الصالح من خروج نور النبوة من يده لأجل صدور أمر شبيه بالتكبر منه وحرمان عقبه من تلك الفضيلة والكرامة، واحذر عن التكبر فإنه يخرج نور الإيمان من قلبك وربما يسري شوم ذلك وذله في عقبك.

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة وملك يمسكها فإذا تكبر قال له: اتضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس وإذا تواضع رفعه الله عز وجل، ثم قال له: انتعش نعشك الله فلا يزال أصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس.

* الشرح:

قوله (ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة وملك يمسكها فإذا تكبر قال له اتضع وضعك الله -... إلى آخره) حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، ومنه

ص:330

«الحكمة» وزان قصبة للدابة، سميت بذلك لأنها تذللها لراكبها حتى يمنعها الجماع ونحوه، ومنه أيضا اشتقاق الحكمة لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال، ولعل المراد بالحكمة هنا: الحالة المقتضية لسلوكه سبيل الهداية على سبيل الاستعارة، وبإمساك الملك إياها إرشاده إلى ذلك السبيل ونهيه عن العدول عنه.

(وإذا تواضع رفعه الله عز وجل) إنما لم يقل: وإذا تواضع قال له «ارفع رفعك الله» على وفق قوله فيما سبق فإذا تكبر قال له «اتضع وضعك الله» للتنبيه على أن الرفع مترتب على التواضع من غير حاجة إلى دعاء الملك له بالرفع بخلاف الوضع فإنه غير مترتب على التكبر ما لم يدع الملك عليه بالوضع، وهو الذي سبقت رحمته غضبه.

(ثم قال له انتعش نعشك الله) نعشه الله كمنعه، وأنعشه الله أقامه ورفعه، ونعشه فانتعش أي رفعه فارتفع، وقوله «نعشك الله» إما اخبار بما وقع من الرفع أو دعاء له به على سبيل التأكيد أو دعاء له بالثبات والاستمرار (فلا يزال أصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس) لأنه تعالى يعظمه في أعين الناس ويجري ذكره بالصلاح والخير على ألسنتهم. قيل روي عنه (صلى الله عليه وآله) «أن الله إذا أحب عبدا يدعو جبرئيل فيقول إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيحبه جبرئيل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبونه (كذا) أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض».

17 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابه، عن النهدي، عن يزيد بن إسحاق شعر، عن عبد الله بن المنذر، عن عبد الله بن بكير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من أحد يتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه. وفي حديث آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه.

* الشرح:

قوله (ما من أحديتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه) تاه فلان يتيه إذا تكبر ولعل من للابتداء فيفيد أن التكبر لا ينفك من الذلة حتى كأنه نشأ منها وفي بعض النسخ «ينبه» بالنون بعد الياء قبل الباء الموحدة وله أيضا وجه يقال نبه بالضم نباهة شرف فهو نبيه يعني أن الشرف والنباهة من ذلة التواضع.

قوله (ما من رجل تكبر أو تجبر الا لذلة وجدها في نفسه) أي الذلة في الدنيا والآخرة سبب للتكبر لأن العزيز عند الله لا يتكبر أو غايته وعاقبته فاللام مثلها في قوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) في كونها للعاقبة.

ص:331

باب العجب

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن أسباط، عن رجل من أصحابنا من أهل خراسان من ولد إبراهيم بن سيار، يرفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبدا.

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب) قيل: حقيقة العجب استعظام العمل الصالح واستكثاره والابتهاج له والادلال به وأن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير، وأما السرور به مع التواضع لله تعالى والشكر له على التوفيق لذلك وطلب الاستزادة منه فهو حسن ممدوح.

وتوضيحه ما ذكره الشيخ في الأربعين بقوله: لا ريب أن من عمل أعمالا صالحة من صيام الأيام وقيام الليالي أمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج فإن كان من حيث كونها عطية من الله له ونعمة منه تعالى عليه وكان مع ذلك خايفا من نقصها مشفقا من زوالها طالبا من الله الازدياد منها لم يكن ذلك الابتهاج عجبا. وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجا عن حد التقصير بها وصار كأنه يمن على الله سبحانه بسببها فذلك هو العجب المهلك وهو من أعظم الذنوب. وقيل: العجب هيئة نفسانية تنشأ من تصور الكمال (1) في النفس

ص:332


1- 1 - قوله «هيئة نفسا تنشأ من تصور الكمال» قال هيئة تنشأ من تصور الكمال لا نفس تصور الكمال; لأن الإنسان العاقل إذا كان واجدا لكمال كعلم وكرم وتقوى فلابد أن يكون متصورا لكماله ومدركا له، وليس هذا منقصة. وقيل: رحم الله امرأ عرف قدره أو عرف نفسه. وذكر الأئمة (عليهم السلام) والعلماء فضائل أنفسهم وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وأنا أفصح من نطق بالضاد» بل لعل من لا يعرف قدر نفسه ويجعل نفسه دون مرتبته يرتكب شرورا وقبائح ولا يرى لنفسه مندوحة في ارتكابها. وورد في الشرائع الإلهية تعظيم مقام الإنسان وشرفه وكونه خليفة الله ومخلوقا بيدي الرب لأمر عظيم وقال: (لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر) ليعتقدوا شرف ذاتهم ويعرفوا أنهم فوق رتبة الحيوانات ولا يليق بهم الانهماك في الشهوات والاقتصار على الحياة الدنيا، وبالجملة فاعتراف الإنسان بكمال نفسه وشرفه وعلوه يوجب ارتداعه عن الفواحش، ومن لا يعرف لنفسه قيمة يرتكب ملاذه وشهواته ولا يبالي، فالعجب المذموم والتكبر المنهي ليسا نفس العلم بالكمال وإظهاره واعتقاد علو النفس في حد ذاته، وكان أعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) يرمونه بالعجب والتكبر ولا يعرفون هذه النكتة، وإنما القبيح إذلال الغير وتوهين الناس وكسر قلوبهم في التكبر وتحقير نعم الله تعالى وفضله وإنعامه في مقابل العبادة في العجب وهما من آثار الوهم وأفعاله، والوهم رائد الشيطان فكما أن العلم بجمال انسان من غير أن يتلذذ بالنظر إليه بشهوة ليس مذموما لأن العلم للقوة العاقلة والتشهي للواهمة كذلك قياس العلم بالكمال النفساني والتكبر والعجب به والأول ممدوح والثاني مبغوض، وبالجملة قد تبين لنا من تتبع كلام العلماء أن كل كمال حاصل بسبب القوة العاقلة وكل فعل يعمل بهدايتها فهو حسن وكل ما يكون بسبب العواطف والشهوات وأمثالها أعني بالقوة الواهمة فهو شر قبيح. (ش).

والفرح به والركون إليه من حيث أنه قائم به وصفة له مع الغفلة عن قياس النفس إلى الغير بكونها أفضل منه; وبهذا القيد ينفصل عن الكبر إذ لابد في الكبر أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبته فوق مرتبة الغير، وهذا التعريف أعم من المذكور إذ الكمال أعم من أن يكون كمالا في نفس الأمر أو لم يكن، كسوء العمل إذا رآه حسنا فابتهج به، والأول أعم من أن يكون فعله كالأعمال الصالحة، أو لا كالصورة الحسنة والنسب الرفيع.

وقيل: العجب أن يرى الإنسان نفسه بعين الاستحسان لأفعالها وما يصدر عنها من عادة أو عبادة أو كثرة وزيادة في أمر، وذلك مذموم لأنه حجاب للقلب عن رؤية منقه؟؟، فإن أعجب بنفسه في صورة أو عادة أثار كبرا وإن كان في عبادة ففيه عمى عن رؤية توفيق الله، وأصل ذلك من الشرك الخفي، والشرك الجلي لا يغفر، والخفي منه لا يهمل بل يؤاخذه الله به صاحبه.

(ولولا ذلك ما ابتلى مؤمنا بذنب أبدا) فجعل الذنب له فداء عن عجبه بنفسه ليبقى له فضيلة الإيمان وثواب الأعمال واستحقاق الإحسان ولو لم يذنب لدخل فيه العجب وأفسد قلبه وحجبه عن ربه ومننه ومنعه عن رؤية توفيقه ومعونته وصده عن الوصول إلى حقيقة توحيده وأحبط عمله الذي صدر منه في مدة طويلة بخلاف الذنب فإنه لا يبطل العبادات السالفة وفيه متابعة للهوى.

وفي العجب شركة بالمولى ويفهم منه أن ارتكاب أقل القبيحين أولى من الآخر وأن ذنب المؤمن مصلحة له وأنه يغفر له قطعا.

2 - عنه، عن سعيد بن جناح، عن أخيه أبي عامر، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من دخله العجب هلك.

* الشرح:

قوله (من دخله العجب هلك) قيل: العجب يدخل الإنسان بالعبادة وترك الذنوب والصورة والنسب والأفعال العادية مثل الإحسان إلى الغير وغيره وهو من أعظم المهلكات وأشد الحجب بين القلب والرب والشرك بالله وسلب الإحسان والإفضال والإعانة والتوفيق عنه تعالى وادعاء الاستقلال لنفسه، ويبطل به الأعمال والإحسان وأجرهما كما قال تعالى (ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) وليس المن بالعطاء وأذى الفقير بإظهار الفضل والتعيير عليه إلا من عجبه بعطية وعماه عن منة ربه وتوفيقه.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن أحمد بن عمر الحلال، عن علي بن سويد،

ص:333

عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن.

* الشرح:

قوله (العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا) أكثر الجهلة على هذه الصفة فإنهم يفعلون أعمالا قبيحة عقلا ونقلا ويعتادون عليها حتى تصير تلك الأعمال بتسويل أنفسهم وتزيين قرينهم من صفات الكمال عندهم فيذكرونها ويتفاخرون بها ويقولون إنا فعلنا كذا وكذا، إعجابا بشأنهم وإظهارا لكمالهم.

* الشرح:

قوله (ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن) كما قال تعالى (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه.

* الشرح:

قوله (إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه) ندامته مقام عجز وتقصير وهو مقام عال للسالكين (ويعمل العمل فيسره ذلك) المراد بالسرور بالعمل هنا الإدلال به واستعظامه وإخراج نفسه عن حد التقصير، وأما السرور به مع التواضع لله والشكر له على التوفيق لذلك العمل فليس عجبا كما مر.

(فيتراخى عن حاله تلك) أي تصير حاله بسبب هذا السرور والعجب أدون من حاله وقت الندامة، ويفهم منه أن العجب يبطل الأعمال السابقة أيضا.

(فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه) نظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «سيئة تسؤك خير من حسنة تعجبك» والظاهر أن الفاء للتفريع و «خير» خبر «لأن يكون» أي كونه على تلك الحالة، أعني: حالة الندامة خير له مما دخل فيه من الحسنة مع العجب بها لأن هذا أبطل تلك الحالة أيضا.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن نضر بن قرواش، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك فقال: مثلي يسأل عن

ص:334

صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا. قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شيء.

* الشرح:

قوله (فقال مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا -... إلى آخره) عظم العابد نفسه بكثرة العبادة وطول زمانها وكثرة البكاء ودوام الخشوع فأخرج نفسه عن مقام العبودية المبنية على المذلة والاعتراف بالتقصير والعجز عن الإتيان بحق العبادة وأدخلها في مهاوي العجب ومهالكه فلذلك حكم العالم بأن أضداد الأمور المذكورة الباعثة للمذلة وما بعدها أفضل له منها، ويعلم منه أن العلم أفضل من العبادة إذ به يحصل الاهتداء إلى المقابح والمحاسن. والإدلال «نازيدن بعمل خود» والمدل المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل ونقصانه ولا تذلل له في مقام العبودية كما هو شأن المعجب بنفسه.

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن أبي داود، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عز وجل مما صنع من الذنوب.

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به؟ فقال: هو في حاله الاولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه.

* الشرح:

قوله (الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به؟ فقال: هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه) يمكن أن يراد بالعمل العمل البر وبالخوف الخوف من التقصير أو من عدم القبول والأولى أن يراد به العمل الشر أو اللغو وبالخوف الخوف من العقوبة لأن التفضيل في الأول ظاهر ليس لبيانه كثير فائدة.

8 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بينما موسى (عليه السلام) جالسا إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلما دنا من موسى (عليه السلام) خلع البرنس وقام إلى موسى فسلم عليه فقال له موسى: من أنت؟ فقال: أنا إبليس، قال: أنت فلا قرب الله دارك. قال: إني إنما جئت لاسلم عليك لمكانك من الله، قال: فقال له

ص:335

موسى (عليه السلام): فما هذا البرنس؟ قال: به أختطف قلوب بني آدم، فقال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: أعجبته نفسه وأستكثر عمله وأصغر في عينه ذنبه. وقال:

قال الله عز وجل لداود (عليه السلام) يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين قال: كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين؟ قال: يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك.

* الشرح:

قوله (إذا أقبل إبليس وعليه برنس -... إلى آخره) البرنس بضم الباء والنون وسكون الراء قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كان أو جبة أو ممطرا أو غيره (فلا قرب الله دارك) لعله كناية عن حيرته أو بعد منزله عن المؤمن.

(به أختطف قلوب بني آدم) اختطاف «ربودن» يقال خطفه - من باب علم وضرب - واختطفه إذا استلبه وأخذه بسرعة. ومن طريق العامة: «أن الشيطان ليجثم على قلب ابن آدم له خرطوم كخرطوم الكلب إذا ذكر العبد الله عز وجل خنس وإذا غفل عن ذكر الله وسوس» واستحواذ الشيطان على العبد غلبته واستمالته إلى ما يريده منه.

(وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم) أي لا يتبهجوا بها ولا يتكلوا عليها ولا يعتقدوا أنهم بسببها خرجوا عن حد التقصير فإنه ليس عبد أنصبه أي أقيمه، وفعله من باب ضرب (للحساب إلا هلك) إذ كل عبد مقصر في أداء حقوقه تعالى وكل عمل ناقص في جنب عظمته ولا قدر له في مقابل نعمته فإذا وقع التقابل بين الأعمال والنعماء بقي أكثر النعماء لا مقابل لها من الأعمال فعلم أن إحسانه تعالى إلى العباد وإثابته انما هو بالتفضل لا بالعمل (1) فينبغي أن لا يعجبوا به مع كماله في النقص، فحاصل التعليل الردع عن العجب بالعمل لعدم الاعتداد به وعدم دخوله تحت

ص:336


1- 1 - قوله «إنما هو بالتفضل لا بالعمل» مذهب أهل العدل أن كل مشقة تصل إلى العبد بسبب إطاعة أمر المولى استحق ثوابا بمقتضى عدله وحكمته، وهذا حكم العقل، ولو لم يكن المولى عادلا أو حكيما احتمل في حقه تخلف عن الواجب لا إذا كان حكيما عادلا، ولو بنى الأمر على تخطئة العقل في هذه الأحكام بطل قاعدة اللطف وإثبات النبوة والإمامة والمعاد وسائر أصول الدين والمذهب، ولعل مراد الشارح أن هذا الثواب المستحق الذي يجب على العادل الحكيم إثابة المكلف به أقل كثيرا مما يصل إليه فعلا في الآخرة، فأصله مستحق واجب ومقداره زائدا على مقدار الاستحقاق تفضل، وقد ذكر علماؤنا أن كل مشقة ومصيبة وألم ومرض ونقص تعرض المكلف سواء كان مؤمنا أو كافرا أو حيوانا يدرك الآلام يستحق بها على العدل الحكيم عوضا إذا كان بسببه لا من قبل العبد، وقد ورد «أن لكل كبد حرى أجرا» وإن لم يكن هناك تكليف وامتثال وعبادة، ومن قال إن المكلف لا يستحق أجرا على مقدمات العبادات كالسير إلى الحج إذا لم يترتب عليها نفس الحج ومات في الطريق، فهو جاهل بأصول المذهب. (ش).

الحساب وعدم الوزن له في مقابلة إحسانه تعالى.

باب حب الدنيا والحرص عليها

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن درست بن أبي منصور عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رأس كل خطيئة حب الدنيا.

* الشرح:

قوله (رأس كل خطيئة حب الدنيا) لأن كل خصال الشر مطوية في حب الدنيا وكل ذمائم القوة الشهوية والغضبية مندرجة في الميل إليها; ولذا قال الله عز وجل: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) ولا يمكن التخلص من حبها إلا بالعلم بمقابحها ومنافع الآخرة وتصفية النفس وتعديل القوتين.

2 - علي، عن أبيه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن حماد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها، أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم.

* الشرح:

قوله (ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم) شبه حب المال والشرف والجاه بالذئب الضاري المهلك المعتاد بأكل اللحوم في الإفساد والإهلاك لقصد الإيضاح لأن حبهما يشغل القلب عن ذكر الله وما يوجب القرب منه ويقيده بلذة الإقبال إلى الخلق وإقبالهم إليه ويبعثه على ملازمة الفساق من أهل الدنيا وأمراء الجور والمداراة معهم ومخالفة ظاهره لباطنه; ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله): «حب الجاه والمال ينبتان في القلب النفاق كما ينبت الماء البقل» ويتولد منه جميع الأخلاق الذميمة كالحقد والحسد والعداوة والرياء والكبر والعجب ونحوها.

3 - عنه، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أولها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، الخزاز، عن غياث ابن

ص:337

إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته.

* الشرح:

قوله (ان الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء) من أحوال المبدأ والمعاد والإيمان والطاعة والمعصية والأخلاق (فإذا أعياه جثم له) أي لزم مكانه ولم يبرح (عند المال فأخذ برقبته) فالمال مصيدة عظمى ومكيدة كبرى للشيطان في صيد الخلق وجذبهم إلى الباطل وإضلالهم عن طريق الحق وحملهم على الجمع من طريق الحلال والحرام بالحيلة والخدعة والظلم وبعثهم على الأعمال والأخلاق الخارجة عن القوانين العقلية والشرعية.

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن أبي اسامة زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس كثر همه ولم يشف غيظه ومن لم ير لله عز وجل عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو ملبس فقد قصر عمله ودنا عذابه.

* الشرح:

قوله (من لم يتعز بعزاء الله) عزى يعزي - من باب علم -: صبر على ما نابه، وعزيته تعزية: قلت له: أحسن الله عزاك أي رزقك الصبر الحسن، والعزاء - مثل سلام - اسم من ذلك، وتعزى هو تصبر، وشعاره أن يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) كما أمر الله تعالى ومعنى قوله بعزاء الله أي بتعزية الله إياه فأقام الاسم مقام المصدر (تقطعت نفسه حسرات على الدنيا) لعل المراد بالنفس الروح الإنساني أعني النفس الناطقة المدبرة للروح الحيواني الذي به يتحقق الموت إذا فسد وهي باقية أبدا (1) إما مسرورة بما حصلت

ص:338


1- 1 - قوله «به يتحقق الموت إذا فسد وهي باقية أبدا» لعلك عرفت بما كررنا لك في هذه التعليقات من الأدلة والشواهد على تجرد النفس الناطقة وبقائها ما يغنيك عن تأسيس الكلام في هذا المقام، لكن لا بأس بالإشارة إلى حاصل ما مضى بتعبير أوضح لتقريب ذهن المبتدئ إن شاء الله تعالى، فنقول: كل موجود وإن أمكن في حقه الفساد والفناء انما يتصور فناؤه إما بفناء علته الفاعلية كزوال نور الشمس بأفولها وانتفاء نور السراج بانتفاء نفس السراج، وإما بزوال الموضوع والمادة إن توقف وجوده عليهما كزوال الطعم والرائحة عن الأشياء بتحلل مزاج الموضوع وتفرق عناصره كاللحم والفاكهة إذا فسد، أو إما إن لم يحتج الشيء إلى الموضوع والمادة أصلا كنور الشمس على الجدران فإنه غير محتاج إليها، أو احتاج إليهما في أول الحدوث لا في البقاء كالدخان المتصاعد من الحطب والجزل المتحرق فربما يبقى الدخان بعد أن صار الجزل رمادا، وانما يحتاج الدخان في حدوثه فقط إلى احتراق الحطب، وأما النفس الناطقة الانسانية لما ثبت تجردها وعدم احتياجها إلى المادة بعد وصولها إلى رتبة العقل بالفعل وإدراك الكليات في الجملة وإن احتاجت إلى حصول المزاج الخاص بالإنسان في الجنين أول حدوثها كانت بمنزلة الدخان الساطع يحتاج في أول حدوثه لا في بقائه، والبدن بالنسبة إليها كالعلل المعدة دون الفاعلة، ومثله البناء والبناء حيث يحتاج البيت إليه في حدوثه لا في بقائه، فلا وجه لبطلان النفس الناطقة بفساد البدن من جهة فساد البدن، بخلاف القوى البدنية كالباصرة والسامعة فإنها من الروح الحيواني الذي يؤثر الموت في فنائها وهي بمنزلة آلات للنفس الناطقة كالمنشار للنجار، والمنظار للبصر الضعيف. فإن قيل: سلمنا أن النفس الناطقة لا يجب أن تفنى بفناء البدن، كالدخان حيث لا يفنى بفناء الحطب، فما الدليل على أنها لا تفنى بنفسه. ولا تتلاشى كما يتلاشى الدخان لا بسبب فناء الحطب بل بسبب آخر وهذا من التشكيكات الفخرية، وأجاب عنه المحقق الطوسي في شرح الإشارات بما حاصله أن النفس الناطقة ليست جسما مركبا من أجزاء مقدارية أو من عناصر مختلفة [كالدخان حتى تتلاشى كما يتلاشى الدخان وإنما شبهنا النفس به في عدم الاحتياج إلى البدن بعد الوجود فقط] وأيضا النفس ليست مركبة من جزئين أحدهما كالهيولى والآخر كالصورة حتى يتعقل تبدل النفسية بصورة أخرى لأن الشيء الذي يمكن أن يتصور جزء من النفس كالهيولى لابد أن يكون مجردا غير ذي وضع وغير متمكن في مكان ولا متحيزا في حيز، والشيء المتصف بهذه الصفات لابد أن يكون عاقلا وإن سميناه هيولى، فهي بنفسها من غير أن يلحقها تلك الصورة تدرك، وهي باقية كسائر الهيوليات وإن احتمل أن للهيولي المفروضة صورة يكون إدراكها وتعقلها بتلك الصورة، نلتزم حينئذ بعدم إمكان انفكاك تلك الصورة عن تلك الهيولى وتبدلها بصورة أخرى لأن هذه الحالات الطارية لابد أن تكون حادثة زمانية معلولة لتغيرات استعداد وهذه كلها غير ممكنة في غير الأجسام المادية. ثم لما أوهم كلام الشارح هذا روحانية المعاد فقط استدركه بقوله: وباعتبار البدن جنة وجحيم تعود إلى إحداهما بعد الحشر فأثبت صيرورة الكمالات والرذائل أجساما بعد الحشر على ما سبق مرارا من تجسم الأعمال; وقد سبق أيضا أن كل كمال لا يتوقف استمرار وجوده على الجوارح يبقى مع النفس وإن كان متوقفا على البدن أول حصوله. (ش).

من أسباب السعادة أو متحسرة بما حصلت من أسباب الشقاوة فلها بذاتها جنة وجحيم جنتها كمالاتها، وجحيمها رذائلها من حب الدنيا، وما يتولد منه وباعتبار البدن جنة وجحيم تعود إلى إحداهما بعد الحشر. إذا عرفت هذا فنقول: من أحب الدنيا ولم يصبر على ما نابه فيها وترك ما يتوقع منها فهو في حسرة دائما، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنه إن لم يحصل له فهو في حسرة لفوات محبوبه، وإن حصل له فهو في حسرة على فواته وأخذه منه قهرا عند الموت وبعده كالعاشق إذا لم يجد المعشوق أو وجده وأخذه منه قهرا.

(ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس كثر همه ولم يشف غيظه) فيه حث على النظر إلى من دونه فإنه يوجب الرضا بقسمته ومعرفة قدر نعمته والشكر لربه ومنع من النظر إلى من فوقه من أهل الدنيا وما هم فيه من النعماء، فإن من نظر إليهم زاغ قلبه وكثر همه وزاد غمه ولم يشف غيظه بل

ص:339

يوجب زيادة غيظه لكثرة حظهم وقلة حظه ويبعثه على تمني مثل حالهم وهو لا يعلم حقيقة مآلهم كما (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فلما خسف الله به وبداره الأرض أصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون) وانتفاء الخسف بأهل الأموال والتجبر من هذه الأمة لا يوجب انتفاء عقوبتهم في الآخرة فينبغي للمؤمن أن لا ينظر إلى أموالهم ولا يتمنى مثل أحوالهم.

(ومن لم ير لله عز وجل عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو ملبس فقد قصر عمله ودنا عذابه) لأن نعم الله عليه غير المذكورات التي وجدها أو فقدها كثيرة جليلة باطنة وظاهرة فيجب أن ينظر إليها ويرضى عن ربه ويشكر له وأن لا يغفل عنها ولا يسلبها، فإن سلبها فقد كفر وقصر في شكرها الذي من أعظم أعماله واستحق بذلك نزول العذاب.

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن أبي وكيع، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم.

* الشرح:

قوله (إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم) حبهما وصرف العمر في تحصيلهما وتحصيل ما يتوقف عليهما من أمتعة الدنيا ومشتهياتها ولذاتها وفي حفظ جميع ذلك من المهلكات العظيمة التي أهلكت كثيرا من السابقين لأنه صرف قلوبهم وجوارحهم عن التفكر في أمر الآخرة والأعمال النافعة فيها وبعثهم على الأخلاق والأعمال الرذيلة كالظلم والحسد والحقد والعداوة والفخر والكبير والبخل ومنع الحقوق إلى غير ذلك مما لا يحصى، وإذا أخذا منهم قهرا بالموت وأعطيا غيرهم بقوا هالكين مغمومين، أما أولا فللفراق عن محبوبهم وأما ثانيا فلمصاحبة رذائل الأخلاق والأعمال التي بمنزلة الحيات تؤذيهم وتنهشهم أبدا، وأما ثالثا فلفوات الأخلاق والأعمال النافعة الموجبة للسعادة أبدا وذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وفعلهما بكم كفعلهما بهم لأن أفعالهما متشابهة وآثارهما متقاربة، وقيل: أول درهم ودينار ضرب أخذه إبليس ووضعه على عينه وقبله وقال: من أحبك فهو عبدي.

ص:340

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يحيى بن عقبة الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال أبو جعفر (عليه السلام): مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز، كلما ازدادت من القز على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما. وقال أبو عبد الله (عليه السلام): أغنى الغنى من لم يكن للحرص أسيرا. وقال: لا تشعروا قلوبكم الاشتغال بما قد فات فتشغلوا أذهانكم عن الاستعداد لما لم يأت.

* الشرح:

قوله (مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما) شبه حال الحريص بحال الدودة فإنه يفعل على نفسه ما يوجب هلاكه من الأغشية والأغطية المانعة من الخروج من سجن الشقاوة إلى جنة السعادة ومناطه الجهل بأحوال الدنيا وأضرارها في أمر الآخرة فيشغل قلبه بها ويسعى في تحصيلها حتى يموت غما بفوات الدنيا والآخرة.

قوله (أغنى الغنى من لم يكن للحرص أسيرا) الحرص: طرف الإفراط في القوة الشهوية الطالبة لشهوات الدنيا، وإذا وقع الإفراط فيها طلبت ما يضر بالدين ولا يليق بأهله وهو مع كونه رذيلة سبب لرذيلة أخرى هي الإفراط في القوة الغضبية لأن الحريص إذا منع مما أراد تشبث لدفع المانع بالغضب وإذا غضب أفرط وإذا أفرط صدر منه مالا يمكن وصفه فهو دائما يؤلم ويتألم فلا يكون غنيا، لأن الغني من رفه باله ولم تتفرق حاله، والأسير للحرص عبد له يستعمله في أمور تحصيلها ألم وهم وفواتها حزن وغم، بخلاف الحر وهو غير الحريص فإنه فارغ عن جميع ذلك فهو أغنى من الحريص، وأيضا الغنى ما ينفع ولغير الحريص ما ينفعه في الدنيا والآخرة بخلاف الحريص فهو أغنى منه.

قوله (لا تشعروا قلوبكم الاشتغال بما قد فات فتشغلوا أذهانكم عن الاستعداد لما لم يأت) إشعار «بيم در دل انداختن وجامه اندرونى پوشانيدن» أي لا تدخلوا الاشتغال بما قد فات من الدنيا في قلوبكم أو لا تجعلوه شعار قلوبكم، فإن اشتغال القلب بالفائت من أمور الدنيا يوجب دوام تفكره فيها وفي تداركها وصرف العمر في تحصيلها، وهو يوجب اشتغاله عن الاستعداد لأمر الآخرة وما ينفع فيها لأن الدنيا ضد الآخرة، والاشتغال بأحد الضدين يمنع من الاشتغال بالآخر.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان

ص:341

المنقري، عن عبد الرزاق بن همام، عن معمر بن راشد، عن الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل من بغض الدنيا فإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعب فأول ما عصي الله به الكبر، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ثم الحرص وهي معصية آدم وحواء (عليهما السلام) حين قال الله عز وجل لهما: (وكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنياءان: دنيا بلاغ ودنيا ملعونة.

* الشرح:

قوله (عن الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحرث بن شهاب بن زهرة بن الكلاب وهو بدل عن الزهري، وفي بعض النسخ: «عن الزهري عن محمد بن مسلم». والظاهر أن لفظة «عن» زائدة من قلم الناسخ، ويؤيده أن هذا الحديث ذكر متنا وسندا في باب «ذم الدنيا والزهد فيها» وليست فيه هذه اللفظة، والزهري على تقدير وجودها مشترك بين ستة رجال (1) أكثرهم ضعيف وهم إبراهيم بن سعد وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، ومسور ابن مخرمة، ومحمد بن قيس، وعبد الله بن أيوب، ومطلب بن زياد، والأخيران ثقتان، بقي شيء وهو أن في باب الذم محمد بن مسلم بن شهاب وهذا مع كونه غير مذكور في كتاب الرجال على ظني، غير موافق لما هو في هذا السند ولعله نسبة إلى جده السابق، والله اعلم.

(ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله (صلى الله عليه وآله) أفضل من بغض الدنيا) دل على أن المعرفة أفضل لأنها أصل لجميع الأعمال، والأصل أفضل من الفرع، ويدخل في معرفة الرسول معرفة الإمام، وأريد ببغض الدنيا تحقيرها وكراهتها والإعراض عن متاعها وزينتها.

(فإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعب) الظاهر أنه تعليل لكونه بغض الدنيا بعد المعرفة

ص:342


1- 1 - قوله «مشترك بين ستة رجال» لا وجه لترديد الشارح وتتعتعه، والزهري محمد بن مسلم تابعي من مشاهير رجال العامة وفقهائهم مع ميله إلى زين العابدين (عليه السلام)، وعدوه من الفقهاء السبعة، وروي في بعض الروايات ما يدل على نصبه وهو بعيد. كانت ولادته سنة اثنتين وخمسين، ومات سنة أربع وعشرين ومائة. (ش).

أفضل الأعمال.

وأن ذلك إشارة إلى بغض الدنيا وأن المراد بالشعب الأولى أنواع الأخلاق والأعمال الفاضلة، وبالشعب الثانية أنواع المعاصي، والأولى مندرجة تحت بغض الدنيا والثانية مندرجة تحب حبها، فبغضها أفضل الأعمال لاشتماله على محاسن كثيرة مثل التواضع المقابل للكبر والقنوع المقابل للحرص، وقس على هذا، وبحكم المقابلة حب الدنيا أقبح الأعمال لاشتماله على رذائل كثيرة وهي الكبر إلى آخر ما ذكر، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والله لدنياكم أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم» العراق بضم العين: جمع عرق بفتح العين وسكون الراء، وهو عظم أكل لحمه، تقول: عرقت العظم عرقا - من باب قتل - إذا أكلت ما عليه من اللحم، وفي الفائق: أنه العظم عليه اللحم، وهذا جمع غريب لأن فعلا لا يجمع على فعال، وقال ابن فارس: لم يسمع للعرق جمع.

(وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه) ذمهم في طلب غير المحتاج إليه لأنه يوجب ضياع العمر فيما لا يعني وتهيج قوتي الشهوة والغضب وإفسادهما في ملك البدن بل في نظام العالم واستيلاءهما على العقل وعلى عزله في التدبير وتولد الرذائل غير محصورة موجبة للشقاوة الأبدية والغفلة عن الحق وما يقرب منه مثل العلوم الكاملة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة الموجبة للسعادة الأبدية التي هي مشاهدة جلال الله والقرب منه، وأما طلب المحتاج إليه وهو القدر الضروري من الطعام واللباس والمسكن ونحوها فليس بمذموم بل ممدوح لأنه لا يمكن بدونه تكميل النفس بالعلم والعمل.

(حيث حسد أخاه فقتله) قيل: قتله حسدا في قبول قربانه، وقيل: حب النساء، وقيل: في حب الدنيا لئلا يكون له نسل يعيرون أولاده في رد قربانه.

(فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا) يمكن أن يكون المراد بها الكبر والحرص وحب النساء وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة وهما شعبة واحدة بقرينة عدم ذكر الحب في المعطوف كما ذكر في السوابق، وأما الحسد فقد اكتفى عنه بذكر شعبه وأنواعه إذ الجنس لا وجود له إلا في ضمن أنواعه، والله أعلم.

(والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة) المراد بالأولى: قدر الكفاف، وتحصيله من طريق مشروع ممدوح، وبالثانية: الزائد عليه وهو الذي ينبغي التحرز عنه، ولا وجه لتخصيصه بالحرام بل ينبغي منع النفس عن كثير من المباح أيضا لأن في تسمينها به وتحريك القوة الشهوية إليه مضرة كثيرة.

9 - وبهذا الإسناد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في مناجاة

ص:343

موسى (عليه السلام): يا موسى إن الدنيا دار عقوبة، عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي، يا موسى إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم وما من أحد عظمها فقرت عيناه فيها ولم يحقرها أحد إلا انتفع بها.

* الشرح:

قوله (وجعلتها ملعونة) اللعن: الطرد والإبعاد والسب، وكأن المراد بلعنها لعن أهلها أو كراهتها أو إجراء الكلام على قانون العرب، والعرب تقول لكل شيء ضار: ملعون، والشجرة الملعونة عندهم هي كل من ذاقها كرهها ولعنها وكذلك حال الدنيا فإن كل من ذاق شهواتها لعنها إذا أحس بضررها (ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي) أي كل ما في الدنيا من الخلق والعمل كائنا ما كان ملعون إلا ما كان لله تعالى وهو المؤمن ومعرفة الله ومعرفة رسله وأوليائه والعلم بأحكامه وشرايعه والعمل بطاعته وترك معصيته وتحصيل الكفاف ورعاية عباده لقصد قربته إلى غير ذلك من القربات التي تبقى بعد الدنيا وتنفع في الآخرة، وينبغي أن يعلم أن ما يقع في الدنيا من الأعمال أربعة أقسام:

الأول ما يكون ظاهره وباطنه لله كالطاعات والخيرات الخالصة، الثاني ما يكون ظاهره وباطنه للدنيا كالمعاصي والمباحات أيضا لأنها مبدأ البطر والغفلة إلا ما شذ، الثالث ما يكون ظاهره لله وباطنه للدنيا كأعمال المرائي وطاعاته، الرابع عكس الثالث كطلب الكفاف لقصد حفظ بقاء البدن والقوة على العبادة وتكميل النفس بالعلم والعمل.

(يا موسى إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم) (1) لعلمهم بأنها سجن المؤمنين ومحبس الصالحين وفي حلالها حساب وفي حرامها عقاب وخيرها مقترن بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، وخيرها قليل وشرها كثير، ومتاعها سراب، وعامرها خراب; فلذا صرفوا قلوبهم عنها وزهدوا فيها ولم يركنوا إليها.

(وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم) فكل من كان جهله أتم وأكثر كانت رغبته فيها أشد وأوفر (وما من أحد عظمها فقرت عينه فيها) كيف يسر ويفرح من عظمها وعلق قلبه بنعيمها وهو يعلم أن أولها العناء وأوسطها البلاء وآخرها الفناء وأنها تختلس وتسوق بالفناء سكانها وتحدوا بالموت

ص:344


1- 1 - قوله «زهدوا في الدنيا بقدر علمهم» الإنسان يعرف الدنيا بحواسه ويشترك الناس جميعهم في وجود الحواس وإدراك الأجسام ولكن يعرف الحقائق والمعاني بعقله وكلما كان عقله أكمل كان اعتناؤه بالمعاني أشد وأقوم وكلما كان عقله أنقص كانت معرفته بالأجسام والمواد المحسوسة أظهر واعتناؤه بالدنيا أشد، فزهد الإنسان في الدنيا بقدر علمه. (ش).

جيرانها.

(ولم يحقرها أحد إلا انتفع بها) لأنها توصل إليه ما عندها من حظه المقدر ونصيبه المقرر.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها، واحد في أولها وهذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم.

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن منصور بن العباس، عن سعيد بن جناح، عن عثمان بن سعيد، عن عبد الحميد بن علي الكوفي، عن مهاجر الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مر عيسى بن مريم (عليه السلام) على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابها فقال: أما إنهم لم يموتوا إلا بسخطة ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا، فقال الحواريون يا روح الله وكلمته ادع الله أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها، فدعا عيسى (عليه السلام) ربه فنودي من الجو أن نادهم، فقام عيسى (عليه السلام) بالليل على شرف من الأرض فقال: يا أهل هذه القرية! فأجابه منهم مجيب: لبيك يا روح الله وكلمته، فقال: ويحكم ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت وحب الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد وغفلة في لهو ولعب، فقال: كيف كان حبكم للدنيا، قال: كحب الصبي لأمه إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا وإذا أدبرت عنا بكينا وحزنا، قال كيف كانت عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي، قال: كيف كان عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في الهاوية، فقال: وما الهاوية؟ فقال: سجين قال: وما سجين؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة، قال: فما قلتم وما قيل لكم؟ قال: قلنا ردنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا: كذبتم، قال:

ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم؟ قال: يا روح الله إنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد وإني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل العذاب عمني معهم فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم لا أدري اكبكب فيها أم أنجو منها، فالتفت عيسى (عليه السلام) إلى الحواريين فقال: يا أولياء الله! أكل الخبز اليابس بالملح الجريش والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة.

* الشرح:

قوله (أما أنهم لم يموتوا إلا بسخطة بسخط بالتحريك وبالضم والسكون: الغضب.

(ولو ماتوا متفرقين لتدافنوا) قال الشيخ في الأربعين: الظاهر أن التفاعل هنا بمعنى فعل كتواني، ويمكن إبقاؤه على أصل المشاركة بتكلف.

(فنودي من الجو أن نادهم) الجو بالفتح والتشديد: ما بين السماء والأرض، والشرف: المكان

ص:345

العالي والموضع المرتفع.

(فقال ويحكم) ويح اسم فعل بمعنى الترحم كما أن ويل كلمة العذاب وبعض اللغويين يستعمل كلا منهما مكان الأخرى.

(ما كانت أعمالكم؟ قال: عبادة الطاغوت) أصله طغيوت من الطغيان وهو تجاوز الحد في تقدير فعلوت بفتح العين، قدمت الياء على خلاف القياس، وقيل: طيغوت في تقدير فلعوت ثم قلبت الياء ألفا فصار طاغوت، وهو يذكر ويؤنث، ويطلق على الكاهن والشيطان والصنم وعلى كل رئيس في الضلالة وعلى كل ما يصد من عبادة الله تعالى وعلى كل ما عبد من دون الله، وعلى المفرد والجمع.

قال الشيخ (رحمه الله): لعلك تظن أن ما تضمنه هذا الحديث من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على ضرب من التجوز لا الحقيقة، وليس كذلك بل هو حقيقة فإن العبادة ليست إلا الخضوع والتذلل والطاعة والانقياد، ولهذا جعل سبحانه اتباع الهوى والانقياد عبادة للهوى فقال تعالى:

(أفرأيت من اتخذ إله هواه) وجعل طاعة الشيطان عبادة له فقال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان) وذكر بعض الروايات الدالة عليه ثم قال: وإذا كان اتباع الغير والانقياد إليه عبادة له فأكثر الخلق عند التحقيق مقيمون على عبادة أهواء نفوسهم الخسيسة الدنية وشهواتهم البهيمية والسبعية على كثرة أنواعها واختلاف أجناسها وهي أصنامهم التي عليها عاكفون والأنداد التي هم لها من دون الله عابدون، وهذا هو الشرك الخفي نسأل الله سبحانه أن يعصمنا عنه ويطهر نفوسنا بمنه وكرمه.

(وحب الدنيا) هو منبع جميع الرذائل من الأعمال والأخلاق وهو نار في جوهر النفس تحرق جميع الخيرات ويظهر أثرها كما هو بعد الفراق من الدنيا.

(مع خوف قليل وأمل بعيد) طول الأمل من أشد الخصال المذمومة فإنه يورث القساوة ويعمي البصيرة وينسي الآخرة ويزيد الشوق إلى الدنيا والفرح بحصولها.

(وغفلة في لهو ولعب) عطف على خوف، وعطفه على عبادة الطاغوت بعيد. واللهو «بازى كردن وزن وفرزند وباطل وچيزى كه از عمل خير باز دارد». واللعب بفتح اللام وكسر العين «بازى كردن» وبفتحها «بازى كردن» ويمكن تخصيص الأول بالطبل والقمار ونحوها وتخصيص الثاني بغير ذلك والغفلة سبب لهما وهما سببان لثباتها ورسوخها في جوهر النفس. قال الشيخ: «في» إما

ص:347

للظرفية المجازية كما في نحو «النجاة في الصدق» أو بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: (ادخلوا في أمم) أو للسببية كقوله تعالى (فذلكن الذي لمتنني فيه).

(قال: كحب الصبي لأمه إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا وإذا أدبرت علينا بكينا وحزنا) قال الشيخ: الشرطيتان واقعتان موضع أي المفسرة لحب الصبي وأمه.

(قال: الطاعة لأهل المعاصي) سمي الطاعة لهم والانقياد لحكمهم والاتباع لأمرهم ونهيهم عبادة لأنه ظهر له بعد الموت أن طاعة أهل المعاصي عبادة لهم حقيقة. قال الشيخ: ما ذكره هذا الرجل المتكلم لعيسى على نبينا وعليه السلام في وصف أصحاب تلك القرية وما كانوا عليه من الخوف القليل والأمل البعيد والغفلة واللهو واللعب والفرح بإقبال الدنيا والحزن بإدبارها هو بعينه حالنا وحال أهل زماننا بل أكثرهم خال عن ذلك الخوف القليل أيضا نعوذ بالله من الغفلة وسوء المنقلب.

(قال: كيف كانت عاقبة أمركم؟ قال بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في الهاوية، فقال: وما الهاوية؟ فقال سجين، قال: ما سجين؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة) قال الشيخ ما تضمنه هذا الحديث من كون أهل تلك القرية في جبال جمر توقد عليهم إلى يوم القيامة صريح في وقوع العذاب في مدة البرزخ أعني ما بين الموت والبعث وقد انعقد عليه الإجماع ونطقت به الأخبار ودل عليه القرآن العزيز وقال به أكثر الملل وإن وقع الاختلاف في تفاصيله، والذي يجب علينا هو التصديق المجمل بعذاب واقع بعد الموت وقبل الحشر في الجملة. وأما كيفياته وتفاصيله فلم نكلف بمعرفتها على التفصيل وأكثره مما لا تسعه عقولنا (1) فينبغي ترك البحث والفحص عن تلك التفاصيل وصرف الوقت فيما هو أهم أعني فيما يصرف ذلك العذاب ويرفعه عنا كيف ما كان وعلى أي نوع حصل، وهو المواظبة على الطاعات واجتناب المنهيات لئلا يكون حالنا في الفحص عن ذلك والاشتغال به عن الفكر فيما يدفعه وينجي منه كحال شخص أخذه السلطان وحبسه ليقطع في غد يده وجدع أنفه فترك الفكر في الحيل المؤدية إلى خلاصه وبقي طول ليله متفكرا في

ص:347


1- 1 - قوله «مما لا تسعه عقولنا» الإنسان مجبول على قياس ما لم يعرفه بما يعرف ولذلك يشكل عليه كثير من أمور البرزخ والآخرة. مثلا: يقيس الإنسان دور مكة وسككها وأبنيتها بما رآه في بلده فالعجمي يتصور في مكة دارا واسعة فيها صحن كبير وبركة يغتسل فيها كل يوم مرات ويدفع عن نفسه حرارة الهواء ولا يختلج بباله أن الدار هناك ليس لها صحن وبركة وإذا نشأ أحد في بلد الجبارين واعتاد الخوف والإطاعة لأهواء الأمراء مقيدا بقيود الظلمة بحيث يحسب كل صيحة عليه هي العدو، ثم خرج من بلاده إلى غيرها يتعجب من الناس وحريتهم واختيارهم وعدم التزامهم بإطاعة أمرائهم الا بالحق وكذلك الإنسان في الدنيا يزعم جميع أمور البرزخ كالدنيا. ففي بعض الروايات أن أرواح الأشقياء في برهوت، وفي هذه الرواية أنها في سجين، وفي بعضها أن الميت يعذب في قبره. ولم يعرف في الدنيا شيئا كذلك في أمكنة متعددة فيقيس الآخرة بالدنيا ويصعب على عقله فهمه. (ش).

أنه هل يقطع بالسكين أو بالسيف وهل القاطع زيد أو عمرو (قيل لنا كذبتم) دل على أنهم لو ردوا لعادوا كما نطقت به الآية.

(وإني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل العذاب عمني معهم) قال الشيخ: هذا يشعر بأنه ينبغي المهاجرة عن أهل المعاصي وأن المقيم معهم شريك لهم في العذاب ومحترق بنارهم وإن لم يشاركهم في أفعالهم وأقوالهم.

(فأنا معلق بشعرة على شفير جهنم) قال الشيخ: هذا كناية عن أنه مشرف على الوقوع فيها ولا يبعد أن يراد معناه الصريح أيضا. والشفير: حافة الشيء وجانبه.

(لا أدري أكبكب فيها) على صيغة المبني للمفعول أي أطرح على وجهي.

(أكل الخبز اليابس بالملح الجريش) أي الذي لم ينعم دقه، تقول: جرشت الشيء إذا لم تنعم دقه فهو جريش.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ما فتح الله على عبد بابا من أمر الدنيا إلا فتح الله عليه من الحرص مثله.

* الشرح:

قوله (ما فتح الله على عبد بابا من أمر الدنيا إلا فتح الله عليه من الحرص مثله) دل على أن أهل الدنيا لا يشبعون منها بل لو أعطى كل واحد مثل الدنيا مرة طلبها مرتين لأن طلبها على قدر الحرص دون الحاجة ومراتب الحرص غير محصورة.

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال عيسى بن مريم صلوات الله عليه: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، ويلكم علماء سوء، الأجر تأخذون، والعمل تضيعون، يوشك رب العمل أن يقبل عمله ويوشك أن يخرجوا من ضيق الدنيا إلى ظلمة القبر، كيف يكون من أهل العلم من هو في مسيرة إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أحب إليه مما ينفعه.

* الشرح:

قوله (قال عيسى بن مريم صلوات الله عليه تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل) قال الله تعالى لأهل الدنيا: (وما من دابة إلا على الله

ص:348

رزقها) ولأهل الآخرة: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) فطلب العمل للدنيا مع أنها تنال بدونه وترك العمل للآخرة مع أنها لا تنال إلا به دل على نقص الإيمان وأنه مجرد التقول باللسان.

قال بعض العارفين لرجل: كيف طلبك للدنيا؟ قال: شديد. فقال هل أدركت ما تريد؟ قال: لا. قال:

فهذه التي تطلبها شديدا لم تدرك منها ما تريد فكيف بالتي لم تطلبها.

(ويلكم علماء سوء، الأجر تأخذون. والعمل تضيعون) خاطب علماء الدين بالنداء وذمهم بترك العمل بعلومهم وتوقع الأجر إنكارا لذلك وحثهم على العمل بقوله: (يوشك رب العمل أن يقبل عمله) إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفيه إشارة إلى ما يرد عليه بعد الموت من الصور الحسنة والقبيحة من جهة الأعمال فهو إما في راحة روحانية أو في عقوبة نفسانية إلى يوم البعث ثم يرجع إلى جنة عالية أو إلى نار حامية.

(ويوشك أن يخرجوا من ضيق الدنيا إلى ظلمة القبر) فيجدوا ما كانوا فيه من خير وشر حاضرا.

وفيه ترغيب في ترك الدنيا لقلة مدتها وسرعة زوال شدتها، وتحريض على العمل لما بعدها والأعمال الصالحة أنوار تدفع ظلمات القبر والقيامة.

(كيف يكون من أهل العلم من هو في مسيرة إلى آخرته وهو مقبل على دنياه وما يضره أحب إليه مما ينفعه) ما يضره الدنيا وأعمالها المطلوب منها متاعها وما ينفعه هو الآخرة وأعمالها المستلزمة لرفيع درجاتها، ومن أدبر عن الثاني وأقبل إلى الأول وأحب الدنيا والاستكثار منها وصحبة أهلها للجاه والمال فليس بعالم وإنما العالم من عرف الله وعظمته وعزه وقهره وغلبته ودينه وكتابه وسنته وبعثه ذلك على الورع والتقوى والزهد في الدنيا ودوام الهيبة والخشية والعمل لله وهو الذي وصفه الله تعالى بقوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

14 - عنه، عن أبيه، عن محمد بن عمرو - فيما أعلم - عن أبي علي الحذاء، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أبعد ما يكون العبد من الله عز وجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه.

* الشرح:

قوله (أبعد ما يكون العبد من الله عز وجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه) للبطن والفرج نصيب عقلا وشرعا وهو ما يحتاج إليه في قوام البدن واكتساب العلم والعمل وبقاء النوع ودفع الشهوة المضرة، وأما الزائد عليه فمن طغيان القوة الشهوية وأعظم المهلكات وجواذب النفس عن سبيل الخيرات

ص:349

إلى الشهوات والشبهات وأبلغ أسباب البعد من الله تعالى ومن دار القرار وأكمل أسباب القرب من الفراعنة والدخول في النار ولذلك حذر (عليه السلام) من صرف الهمة إلى تحصيل مقاصدهما لكثرة مفاسدهما. ويدخل في هم البطن البطنة والأكل والشرب من الحرام وصرف الجوارح في تحصيل مقاصده وفي هم الفرج الزنا وما يشبهه والنظر واللمس واستماع الحركات إليه وجميع مقدماته المعينة عليه.

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان وعبد العزيز العبدي، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم الله له ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغني في قلبه وجمع له أمره.

* الشرح:

قوله (من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه) فهو فقير في الآخرة لتقصيره فيما ينفعه فيها وفي الدنيا لأنه يطلبها شديدا والغنى من لا يحتاج إلى الطلب ولأن مطلوبه كثيرا ما يفوت عنه والفقر عبارة عن فوات المطلوب وأيضا يبخل عن نفسه وعياله خوفا من فوات الدنيا وهو فقر حاضر.

(وشتت أمره) في الآخرة لكنه فائت المقصود فيها وفي الدنيا لتفرق قلبه في طرق تحصيلها لعدم عمله بما هو المقدر منها.

(ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له) قال الله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) وما جعله الحكيم قسما لكل واحد وهو ما يأكله ويحتاج إليه ما دام العمر يأتيه قطعا وإن لم يبالغ في تحصيله ورفض الكد في طلب الدنيا، وأما ما يجمعه ويتركه فليس قسما له بل لغيره وهو حمال الحطب.

(ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله الغنى في قلبه) فيصرف قلبه إلى الله معرضا عما عداه ويعطف فكره إلى إحسانه غافلا عما سواه ويثق بوصول رزقه معتمدا على وعد مولاه ولا يحتاج في شيء من أموره إلى الأنام ولا يطلب قضاء حوائجه من الخواص والعوام والغنى عبارة عن هذه الأمور.

(وجمع له امره) في الآخرة لكونه عاملا لها وفي الدنيا لتفرغ خاطره عنها فضلا عما فيها مما يغتر

ص:350

به المفتونون بها، وبالجملة تفرق القلب في الدنيا وتزلزله انما هو لطلب الرزق وعدم العلم بموضعه والله سبحانه رفع عنه ذلك التفرق والتزلزل وأمر الدنيا بخدمته فيأتيه رزقه من حيث لا يحتسب بل زائد عليه كما قيل: اترك الدنيا كلها وخذها كلها فإن تركها في أخذها وأخذها في تركها.

16 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن سنان، عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها.

* الشرح:

قوله (من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها) اشتباك «بهم در رفتن» يقال اشتبكت النجوم إذا كثرت وانضمت وكل متداخلين مشتبكان ومنه تشبيك الأصابع لدخول بعضها في بعض، وفيه ترغيب في رفض الدنيا وترك محبتها لئلا يشتد الحزن والحسرة في مفارقتها فإن من أحب شيئا تحزن وتحسر من مفارقته وكلما زاد المحبوب زاد الحزن والحسرة كما أشار إليه أيضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «وكلما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزية لفقده» وذلك لشدة المحبة ومن ثم قيل: ومن أكبر المصالح ترك محبوب لابد من مفارقته تركا باستدراج النفس واستغفالها كي لا يفدحه مفارقته دفعة مع تمكن محبته من جوهرها فيبقى كما نقل من معشوقه إلى موضع ظلماني شديد الظلمة.

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد العزيز العبدي، عن ابن أبي يعفور قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يفنى وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال.

* الشرح:

قوله (من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يغنى وأمل لا يدرك ورجاء لا ينال) لا يغنى بالغين أي لا ينفع أو بالفاء أي لا يزول لبقائه بعد الموت. ولعل المراد أن المقدر من الدنيا لكل أحد يأتيه وإن لم يبالغ في طلبه، وغير المقدر لا يأتيه وإن طلبه فتعلق القلب به تعلق بهم لا ينفع أي لا يزول وبأمل ورجاء لا يدرك ولا ينال.

يا طالب الرزق في دنياك مجتهدا * اقصر عنانك إن الرزق مقسوم لا تحرصن على ما لست تدركه * إن الحريص على الآمال محروم أو المراد أن من تعلق قلبه بالدنيا ودخل حبها فيه يهتم بفراقها ويأمل أن يكون هو معها ويرجى أن تكون هي معه، ومن البين أن الدنيا فانية فلا يدرك أمله ورجاءه ويبقى مع هم لا يفنى ولا يزول والله أعلم.

ص:351

باب الطمع

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن حسان، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله.

* الشرح:

قوله (ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذله) رغبة «اراده داشتن» وهي من الله عزة، ومن غيره ذلة، فقوله «تذله» صفة مخصصة، والذلة لازمة سواء حصل له المرغوب أم لم يحصل، وعدم الحصول أكثر، فيكون مع ذله ورفع وقاره بين الأنام فاقدا للمرام ومبغوضا لرب العالمين فاكتسب خسران الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

2 - عنه، عن أبيه، عمن ذكره، بلغ به أبا جعفر (عليه السلام): قال: بئس العبد عبد له طمع يقوده وبئس العبد عبد له رغبة تذله.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس.

* الشرح:

قوله (رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس) طمع «اميد داشتن بچيزى». وهو يورث الذل والاستخفاف والحسد والحقد والعداوة والغيبة والوقيعة وظهور الفضايح والظلم الكثير والمداهنة والنفاق والرياء والصبر على باطل الخلق والإعانة عليه وعدم التوكل على الله والوثوق به والتضرع إليه والرضا بقسمه والتسليم لأمره، إلى غير ذلك من المفاسد.

وقطع الطمع يورث أضداد هذه الأمور التي كلها خيرات.

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن سليمان بن رشيد، عن موسى بن سلام، عن سعدان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: [ما] الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: الورع، والذي يخرجه منه؟ قال: الطمع.

ص:352

* الشرح:

قوله (قال قلت له [ما] الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: الورع، والذي يخرجه منه؟ قال الطمع) الورع وهو لزوم الأعمال الجميلة المسعدة في الدنيا والآخرة يقوي نور الإيمان ويزيد العقائد ويثبتها في القلب لما مر مرارا أن بين الظاهر والباطن تناسبا بها يصل أثر كل منها إلى الآخر، والطمع يخرجه من الإيمان لما عرفت من كثرة مفاسده، والمفاسد يبطل الإيمان ويضعفه وهو المراد بإخراجه منه، وفيه دلالة على أن الإيمان نفس الاعتقاد.

باب الخرق

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عمن حدثه، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قسم له الخرق حجب عنه الإيمان.

* الشرح:

قوله (من قسم له الخرق حجب عنه الإيمان) الخرق بالتحريك «درشتى كردن» وهو مصدر خرق من باب علم إذا عمل شيئا فلم يرفق فيه، والاسم: الخرق بالضم والسكون، وقد روي «أن الرفق يمن والخرق شوم» ومن شومه أنه يحجب عن صاحبه الإيمان ويوجب فساد أمره في الدين لأن الإيمان لا يستقر إلا في قلب سليم عنه وعن آفاته التي يشتبك بعضها في بعض كما لا يخفى على ذوي البصائر الثاقبة، ومن شومه أنه يوجب تنفر الطبايع عمن يصف به وفساد أمره في الدنيا، ثم الخرق شوم إن لم يقع في موضعه وإلا فهو يمن كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «وارفق ما كان الرفق ارفق» أي أصلح «واعتزم» بالشدة «حين لا يغني عنك» أي الرفق «الا الشدة» وفيه تنبيه على سلوك سبيل الرفق بقدر الإمكان.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو كان الخرق خلقا يرى ما كان شيء مما خلق الله أقبح منه.

* الشرح:

قوله (لو كان الخرق خلقا يرى ما كان شيء مما خلق الله أقبح منه) فيه تنفير عن الخرق لتنفر الطبع عن الصورة القبيحة وسيراها المتصف به بعد الموت وهي رفيقة أبدا ويفتضح بها عند الأبرار.

ص:353

باب سوء الخلق

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

* الشرح:

قوله (إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) سوء الخلق وصف للنفس يوجب للنفس فسادها وانقباضها وتغيرها على أهل الخلطة والمعاشرة وإيذائهم بسب ضعيف أو بلا سبب ولو فرض حقوق المعاشرة وعدم احتمال مالا يوافق طبعه منهم وقيل هو كما يكون مع الخالق أيضا بعدم تحمل مالا يوافق طبعه من النوائب والاعتراض عليه، ومفاسده وآفاته في الدنيا والدين كثيرة منها أنه يفسد العمل بحيث لا يترتب عليه ثمرته المطلوبة منه كما يفسد الخل العسل، وفيه تشبيه معقول بمحسوس للإيضاح وإذا أفسد العمل أفسد الإيمان أيضا كما صرح به في الخبر الآتي.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أبى الله عز وجل لصاحب الخلق السيئ بالتوبة. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه.

* الشرح:

قوله (قال النبي (صلى الله عليه وآله) أبى الله عز وجل لصاحب الخلق السيئ بالتوبة. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه) الإباء بالتوبة يحتمل الإباء بوقوعها والإباء بقبولها، والسائل سأل عن حاله وسببه مع أن باب التوبة مفتوح للمذنبين، والله عز وجل يقبل التوبة عن عباده، والجواب أن الخلق السيئ يمنع صاحبه من التوبة والبقاء عليها ولو تاب من ذنب وقع عقبه بلا مهلة في ذنب أعظم منه لأن نقض التوبة ذنب مقرون بذنب آخر وهما أعظم من الأول، أو لأن ذلك الخلق إذا لم يعالج يعظم ويشتد قوته آنا فآنا وقوة المؤثر وعظمته مستلزمة لقوة الأثر وعظمته فالذنب الآخر أعظم من الأول وانما يتحقق تخلصه من هذه الذنوب بالتوبة من هذا الخلق ورفعه بمعالجات علمية وعملية كما هو المقرر في علاج جميع الصفات الذميمة.

ص:354

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة; عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن سوء الخلق ليفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل.

4 - عنه، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عبد الله بن عثمان، عن الحسين بن مهران، عن إسحاق بن غالب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من ساء خلقه عذب نفسه.

* الشرح:

قوله (من ساء خلقه عذب نفسه) لأن نفسه منه في تعب كالناس ولأنهم قد لا يحتملون منه فيؤذونه كما يؤذيهم ولما كان هو الباعث لذلك كأنه عذب نفسه.

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يحيى بن عمرو، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه: الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.

ص:355

باب السفه

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن السفه خلق لئيم، يستطيل على من [هو] دونه ويخضع لمن [هو] فوقه.

* الشرح:

قوله (إن السفه خلق لئيم يستطيل على من دونه ويخضع لمن فوقه) السفه قد يقابل الحكمة الحاصلة بالاعتدال في القوة العقلية وهو وصف للنفس يبعثها على السخرية والاستهزاء والاستخفاف والجزع والتملق وإظهار السرور عند تألم الغير والحركات الغير المنتظمة والأقوال والأفعال التي لا تشابه أقوال العقلاء وأفعالهم منشأه الجهل وسخافة الرأي ونقصان العقل.

وقد يقال الحلم الحاصل بالاعتدال في القوة الغضبية وهو وصف للنفس يبعثها على البطش والضرب والشتم والخشونة والتسلط والغلبة والترفع ومنشأه الفساد في تلك القوة وميلها إلى طرف الإفراط ولا يبعد أن ينشأ من فساد القوة الشهوية أيضا وهو خلق لئيم يستطيل أي يقهر من دونه ويخضع لمن فوقه طلبا لرضاه وطمعا في ماله وجاهه، والاستطاله من فساد القوة العقلية والغضبية، والخضوع من فساد القوة العقلية والشهوية، والظاهر جر «لئيم» بالإضافة إذ رفعه بالوصف يوجب ارتكاب نوع تجوز في وصف الخلق باللئيم والاستطالة.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه، عن أبي المغرا، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تسفهوا فإن أئمتكم ليسوا بسفهاء.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): من كافأ السفيه بالسفه فقد رضي بما أتى إليه حيث احتذى مثاله.

* الشرح:

قوله (لا تسفهوا فإن أئمتكم ليسوا بسفهاء) نقل عن المبرد وثعلب أن سفه بالكسر متعد، وبالضم لازم، فإن كسرت الفاء هنا كان المفعول محذوفا أي لا تسفهوا أنفسكم، والخطاب للشيعة كلهم، والغرض من التعليل هو الترغيب في الأسوة، والغرض أنكم إن سفهتم نسب من خالفكم السفه إلى أئمتكم كما ينسب الفعل إلى المؤدب وأئمتكم ليسوا بسفهاء فينبغي أن لا تسفهوا لئلا ينسب ذلك إلى أئمتكم.

ص:356

قوله (وقال أبو عبد الله (عليه السلام)) الظاهر أنه رواية أخرى بحذف الاسناد.

(من كافأ السفيه بالسفه فقد رضي بما أتى إليه حيث احتذى مثاله) حيث تعليل للرضا بما أتى السفيه إليه، والاحتذاء: الاقتداء. وفيه زجر عن مكافأة السفيه بالسفه وترغيب في تركها كما هو شأن الكرام، قال الله تعالى في وصفهم: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) وقال: (وإذا مروا باللغو مروا كراما).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابان فقال: البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يتعد المظلوم.

* الشرح:

قوله (عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابان فقال: البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يتعد المظلوم) مثله ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم» يعني إثم سباب المتسابين على البادي أما إثم ابتدائه فلأن السب حرام وفسق لحديث «سباب المؤمن فسق وقتاله كفر» وأما إثم سب الراد فلان البادي هو الحامل له على الرد وإن كان منتصرا فلا إثم على المنتصر لقوله تعالى (ولمن انتصر بعد ظلمه) الآية. لكن الصادر منه هو سب مترتب عليه الإثم إلا أن الشرع أسقط منه المؤاخذة وجعلها على البادي للعلة المتقدمة، وانما أسقطها عنها ما لم يتعد أي يتجاوز فإنه إن تعدى كان هو البادي في القدر الزائد والتعدي في الرد قد يكون بالتكرار مثل أن يقول البادي يا كلب فيرد عليه مرتين.

وقد يكون بالأفحش كما لو قال له يا سنور فيقول في الرد يا كلب، وإنما كان هذا تعديا لأن الرد بمنزلة القصاص والقصاص انما يكون بالمثل، ثم الراد أسقط حقه على البادي ويبقى على البادي حق الله تعالى لقدومه على ذلك ولا يبعد تخصيص تحمل البادي إثم الراد بما إذا لم يكن الرد كذبا أو الأول قذفا فإنه إذا كان الرد كذبا مثل أن يقول البادي: يا سارق وهو سارق فيقول الراد: بل أنت سارق وهو كاذب أو يكون الأول قذفا مثل أن يقول يا زاني فيقول الراد بل أنت الزاني، فالظاهر أن إثم الرد على الراد وبالجملة انما يكون الانتصار إذا كان السب مما تعارف السب به عند التأديب كالأحمق والجاهل والظالم وأمثالها فأمثال هذه إذا رد بها لا إثم على الراد ويعود إثمه على البادي، والله أعلم.

ص:357

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن صفوان، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبغض خلق الله عبد اتقى الناس لسانه.

* الشرح:

قوله (إن أبغض خلق الله عبد اتقى الناس لسانه) ذكر هذا الحديث في باب «من يتقى شره» أنسب ولعل ذكره في هذا الباب باعتبار أنه مبدأه السفه.

باب البذاء

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن أبي المغرا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: [إن] من علامات شرك الشيطان الذي لا يشك فيه أن يكون فحاشا، لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.

* الشرح:

قوله (من علامات شرك الشيطان) الشرك والشركة مثال السمك والسمكة «دام صياد» ومثال الكلم والكلمة «انباز كردن كسى را در كارى» وهما مصدر أشركته في الأمر - من باب علم - إذا صرت له شريكا فيه، واقتصر الشيخ في الأربعين على ذكر المصدر وقال: هو بمعنى اسم المفعول أو اسم الفاعل أي مشاركا فيه مع الشيطان أو مشاركا فيه الشيطان، والفحاش من يبالغ في الفحش ويعتاد به وهو القول السيئ.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له فإنه لغية أو شرك شيطان.

* الشرح:

قوله (إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال ولا ما قيل له فإنه لغية أو شرك شيطان) لغية بكسر الغين المعجمة وتشديد الياء المفتوحة: ولد الزنا، واللغى كالغنى: الدنى الساقط عن الاعتبار، كذا قال الجوهري وغيره، ولم يذكره الشيخ وانما ذكر احتمالين آخرين فقال: يحتمل أن يكون بضم اللام وإسكان الغين المعجمة وفتح الياء المثناة من تحت أي ملغى، والظاهر أن المراد به المخلوق من الزنا، ويحتمل أن يكون بالعين المهملة المفتوحة أو الساكنة والنون أي من دأبه أن يلعن الناس أو يلعنوه. قال في كتاب أدب الكاتب: فعله بضم الفاء وإسكان العين من صفات المفعول، وبفتح العين من صفات الفاعل، يقال: رجل همزة للذي يهزأ به، وهمزة لمن يهزأ بالناس، وكذلك لعنة

ص:358

ولعنة، انتهى كلامه.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذي، قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل له فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان. فقيل: يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما تقرأ قول الله عز وجل: (وشاركهم في الأموال والأولاد).

* الشرح:

قوله (إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذي قليل الحياء) البذي بشد الياء - وزان القوي - من البذاء بالفتح والمد بمعنى الفحش في القول، يقال: فلان بذي اللسان أي فحاش، والمراد بقلة الحياء إما المعنى الظاهري، أو عديمه كما يقال: فلان قليل الخير أي عديمه، ولعله (صلى الله عليه وآله) أراد أن الجنة محرمة عليهم زمانا طويلا لا محرمة تحريما مؤبدا أو المراد جنة خاصة معدة لغير الفحاش، وإلا فظاهره مشكل فإن العصاة من هذه الأمة مآلهم إلى الجنة وإن طال مكثهم في النار، كما قاله الشيخ رحمه الله.

(قيل: يا رسول الله وفي الناس شرك شيطان؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما تقرأ قول الله عز وجل (وشاركهم في الأموال والأولاد)) قال الشيخ: قال المفسرون: إن مشاركة الشيطان لهم في الأموال حملهم على تحصيلها وجمعها من الحرام وصرفها فيما لا يجوز وبعثهم على الخروج في إنفاقها عن حد الاعتدال إما بالاسراف والتبذير أو البخل والتقتير وأمثال ذلك، وأما المشاركة في الأولاد فحثهم على التوصل إليها بالأسباب المحرمة من الزنا ونحوه أو حملهم على تسميتهم إياهم بعبد العزى وعبد اللات، أو تضليل الأولاد بالحمل على الأديان الزايغة والأفعال القبيحة.

هذا كلام المفسرين، وقد روى الشيخ الجليل ثقة الاسلام أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله سره حديثا يتضمن معنى آخر للمشاركة في الأولاد روي في باب الاستخارة للنكاح من تهذيب الاحكام عن أبي بصير عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) أنه قال: «إذا تزوج أحدكم كيف يصنع؟ قال: قلت له: ما أدي جعلت فداك.

قال: فإذا هم بذلك فليصل ركعتين ويحمد الله ويقول: اللهم إني أريد أن أتزوج فاقدر لي من

ص:359

النساء أعفهن فرجا وأحفظهن لي في نفسها وفي مالي وأوسعهن رزقا وأعظمهن بركة وقدر لي منها ولدا طيبا تجعله خلفا صالحا في حياتي وبعد موتي» فإذا أدخلت عليه فليضع يده على ناصيتها ويقول: «اللهم على كتابك تزوجتها وفي أمانتك أخذتها وبكلماتك استحللت فرجها فإن قضيت في رحمها ولدا فاجعله مسلما سويا ولا تجعله شرك شيطان» قلت: وكيف يكون شرك شيطان؟ فقال لي: إن الرجل إذا دنا من المرأة وجلس مجلسه حضره الشيطان فإن هو ذكر اسم الله تنحى الشيطان عنه، وإن فعل ولم يسم أدخل الشيطان ذكره فكان العمل منهما جميعا والنطفة واحدة.

قلت: فبأي شيء يعرف هذا؟ قال بحبنا وبغضنا».

وهذا الحديث يعضد ما قاله المتكلمون من أن الشيطان أجسام شفافة تقدر على الولوج في بواطن الحيوانات ويمكنها التشكل بأي شكل شاءت وبه يضعف ما قال بعض الفلاسفة من أنها النفوس الأرضية المدبرة للعناصر أو النفوس الناطقة الشريرة التي فارقه أبدانها وحصل لها نوع تعلق وألفة بالنفوس الشريرة المتعلقة بالأبدان فتمدها وتعينها على الشر والفساد. انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

قال: وسأل رجل فقيها هل في الناس من لا يبالي ما قيل له؟ قال: من تعرض للناس يشتمهم وهو يعلم أنهم لا يتركونه، فذلك الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.

* الشرح:

قوله (وسأل رجل فقيها هل في الناس من لا يبالي ما قيل له) يريد أنه لا يوجد ذلك فإن طبع الإنسان مجبول على أن يبالي ما قيل له ويستكرهه، فأجاب الفقيه بأن من شتم مثلا رجلا يقدر على شتمه وهو يعلم أنه لا يترك فهو من لا يبالي ما قيل له وإن كان يستكرهه في الواقع.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي جميلة، يرفعه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله يبغض الفاحش والمتفحش.

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن نعمان الجعفي قال: كان لأبي عبد الله (عليه السلام) صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكانا، فبينما هو يمشي معه في الحذائين ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره فلما نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) يده فصك بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله تقذف امه، قد كنت أرى أن لك ورعا فإذا ليس لك ورع، فقال: جعلت

ص:360

فداك إن امه سندية مشركة، فقال: أما علمت أن لكل امة نكاحا، تنح عني، قال: فما رأيته يمشي معه حتى فرق الموت بينهما. وفي رواية اخرى: إن لكل امة نكاحا يحتجزون به من الزنا.

* الشرح:

قوله (فبينما هو يمشي معه في الحذائين) الحذاء - مثل كتاب -: النعل، والحذاء بالتشديد صانعها، والحذائين جمع الحذاء.

(فقال: أما علمت أن لكل أمة نكاحا تنح عني -... إلى آخره) دل على أمور:

الأول: أن مثل ذلك القول المستند إلى الجهل لا يعذر، لا يقال إنه لم يعذر لعلمه بأن لكل أمة نكاحا وعقدا كما يرشد إليه الاستفهام للتقرير والتوبيخ في قوله (عليه السلام) «أما علمت أن لكل أمة نكاحا» لأنا نقول علمه بذلك لا يخرجه عن الجهل لأنه توهم أن النكاح المبيح للوطي هو النكاح الشرعي المستند إلى نبي من الأنبياء وأن نكاح المشرك لا يبيح.

الثاني: أنه لا يجوز أن يقال لأحد من أفراد الإنسان إلا مع القطع بأنه متولد من الزنا لاحتمال أن يكون تولده من نكاح بل لا يجوز ذلك القول مع القطع أيضا.

الثالث: أنه لا يجوز مصاحبة الفاسق وإن كان قريبا أو صديقا لوجوب البغض لله وإنما فارقه (عليه السلام) إلى آخر العمر لأنه كان فاسقا في مدة عمره إذ هذا الذنب لكونه من حق الأم لا يدفعه إلا الحد بعد طلبها أو العفو وشئ منهما لم يكن مقدورا.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله): إن الفحش لو كان مثالا لكان مثال سوء.

* الشرح:

قوله (إن الفحش لو كان مثالا لكان مثال سوء) أي لو كان شخصا مجسدا (1) في هذه النشأة وأما

ص:361


1- 1 - قوله «أي لو كان شخصا مجسدا» شأن الأنبياء تقريب الحقائق إلى أفهام الناس، وشأن الحكماء بيان الحقائق لأهل الفضل والمستعدين وإن لم ينله الناس. فالحكمة كسائر الفنون الخاصة بأهل الخبرة والعالمين باصطلاحهم كالنحو والصرف والطب والهندسة ويحصل فهمه بالتمرن والتدريج، وأما الدين فأكثر مسائله لعامة الناس وإن كان فيها مسائل دقيقة لأهل الذوق والعرفان ومما ألهمه الله الأنبياء لتقريب الناس إلى الحقائق الغير المحسوسة تشبيهها بالمحسوسات، وهذا الخبر مصرح بذلك، ولو كان الفحش مجسدا لكان في صورة سيئة قبيحة وقد سبق مثله في الصفحة 334 «لو كان الخرق خلقا يرى ما كان شيء مما خلق الله أقبح منه» وهذا مبنى تجسم الأعمال في الآخرة كما ذكره الشارح رحمه الله تعالى فيظهر فيها صور الأخلاق والأعمال، وقال أيضا في الصفحة 320: «جنتها أي جنة النفس كمالاتها وجحيمها رذائلها من حب الدنيا وما يتولد منه وباعتبار البدن جنة وجحيم تعود إلى إحداهما بعد العود إلى الحشر» وبين ذلك أتم بيان في الصفحة 154 و 155 من الجزء الأول فراجع. (ش).

في النشأة الآخرة فالظاهر أنه مثال قبيح يرى ويتأذى به صاحبه، والفرق أن هذه النشأة دار التكليف ودار الكمون والنشأة الآخرة دار الجزاء ودار البروز فيظهر فيها صور الأخلاق والأعمال إن خيرا فخيرا وإن شر فشرا.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان في بني إسرائيل رجل فدعا الله أن يرزقه غلاما ثلاث سنين فلما رأى أن الله لا يجيبه قال: يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت مني فلا تجيبني قال: فأتاه آت في منامه فقال: إنك تدعو الله عز وجل منذ ثلاث سنين بلسان بذي وقلب عات غير تقي ونية غير صادقة، فاقلع عن بذائك وليتق الله قلبك لتحسن نيتك، قال: ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله فولد له غلام.

* الشرح:

قوله (قال يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت مني فلا تجيبني) الظاهر أن مراده بالبعد البعد المعنوي دون المكاني لأن تجويز ذلك كفر، فكان أولى بالجرح واللوم، وإنما نسب البعد إلى نفسه والقرب إليه عز وجل للتنبيه على أن البعد إذا تحقق كان من جانب العبد، والقرب إن تحقق كان من فضله عز وجل لأن العبد وإن بلغ في إخلاص العبودية لا يصلح أن يعد نفسه قريبا منه. وقوله «فلا تجيبني» معناه فلا تجيبني بسبب من الأسباب، والجواب ظاهر الانطباق على الشق الثاني مع إمكان انطباقه على الأول أيضا.

(قال فأتاه آت في منامه فقال: إنك تدعو الله عز وجل منذ ثلاث سنين بلسان بذي وقلب عات غير تقي ونية غير صادقة -... إلى آخره) البذي: الفحاش. وعات: اسم فاعل من عتى عتوا إذا استكبر وجاوز الحد، والتقوى: التنزه عن رذائل الأعمال والأخلاق وعما يشغل القلب عن الحق، والنية الصادقة: توجه القلب إلى الله تعالى وحده وانبعاث النفس نحو الطاعة غير ملحوظ فيه سوى وجه الله، ويفهم منه أن الفسق يمنع الإجابة، ولا ينافيه ما روى من أن دعاء الفاسق أسرع إجابة لكراهة استماع صوته لأن سرعة إجابة دعائه ليست كلية، على أن سرعة الإجابة يمكن أن يكون لمن كان مبغوضا بذاته، وأما من كان محبوبا بذاته ومبغوضا بفعله فربما تبطئ الإجابة نظرا إلى الأول وربما تسرع نظرا إلى الثاني وقد يكون البطء نظرا إلى الثاني لا لكراهة استماع صوته بل

ص:362

لغرض آخر كتنبيهه بالقبايح كما في هذا الرجل، والله أعلم.

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه.

* الشرح:

قوله (إن من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه) هو الذي عرف بالفحش من القول واشتهر به لما يجري من لسانه من أنواع البذاء ويتكرر منه فيكره الناس مجالسته خوفا من فحشه لعدم أمنهم منه ومثله من لزم مجالسته لفحشه ومن لزم اكرامه لاتقاء شره.

9 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البذاء من الجفاء والجفاء في النار.

* الشرح:

قوله (البذاء من الجفاء) «من» إما تبعيضية أو ابتدائية، أي: البذاء ناش من الجفاء، والجفا في الأصل: الجهل ثم أطلق على الغلظة والفظاظة والإعراض عن الحق وطرده.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان عن الحسن الصيقل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق.

* الشرح:

قوله (إن الفحش والبذاء والسلاطة من النفاق) السلاطة «دراز زبان شدن»، وهي مصدر سلط بالضم، يقال: امرأة سليطة أي: صخابة، ورجل سليط: حديد اللسان شديد الكلام، وهذه الصفات متقاربة، وانما كانت من النفاق لأن النفاق مرض قلبي يغيره على المؤمنين ويبعثه على إيذائهم، وأيضا أصحاب هذه الصفات يتلونون ألوانا ويتغيرون في أقوالهم وأفعالهم من حال إلى حال بحسب أغراضهم الفاسدة وتتشعب أقوالهم وأفعالهم بحسب تشعب أغراضهم ويؤذون المؤمنين، كالمنافق إذ المنافق لا يلزم خلقا واحدا بل تارة يكون صادقا وتارة يكون كاذبا وتارة يكون وفيا وتارة يكون غادرا ومع الظالمين ظالم ومع العادلين عادل.

11 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن عمرو بن شمر، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله يبغض الفاحش البذيء والسائل الملحف.

ص:363

* الشرح:

قوله (إن الله يبغض الفاحش البذيء والسائل الملحف) ألحف السائل في المسألة الحافا: إذا ألح فيها ولزمها وكرر السؤال من الخلق بدلا عن السؤال من الرب فيبغضه الله تعالى لدناءة همته ونقصان عقيدته حتى أعرض عن الغني الكريم وسأل الفقير اللئيم، وأنشد بعضهم:

الله يبغض إن تركت سؤاله * أما ابن آدم حين يسأل يغضب وترى في عرف الناس أن عبد الإنسان إذا سأل غير مولاه يمقته مولاه لجره إليه عارا بسؤال غيره، ولهذا المعنى أو لغيره ورد في المسألة وتحريمها وكراهتها ما ورد من الأخبار الدالة على ذم السائل ولو مرة واحدة فكيف بالسائل إذا كان ملحفا في السؤال مبرما في الطلب جاعلا له حرفة فإنه أشد مقتا وأعظم بغضا لقوة حرصه وعماه عن ربه حتى اشتغل عن مسألة كريم يحب الملحين في الدعاء وألحف بسؤال لئيم يكلح وجهه عند السؤال ويبخل بالبذل والعطاء، وفيه ذل لنفسه وعار لمولاه.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة: يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء) روى المصنف في باب التسليم على أهل الملل بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السام عليكم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد عليه كما رد على صاحبه. ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما رد على صاحبه، فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا إخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شانه. قالت يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم السام عليكم؟ فقال: بلى أما سمعت ما رددت عليهم قلت عليكم؟ فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا سلام عليكم فإذا سلم عليكم كافر فقولوا عليك» أقول فيه دلالة على كمال خلقه (صلى الله عليه وآله) وأمر عام بترك الجفاء في الكلام بالنسبة إلى كافة الناس وبالتثبت والرفق وعدم الاستعجال باللعن والطعن وغيرهما وقد كان (صلى الله عليه وآله) يستألف الكفار بالأموال الطائلة فكيف بالكلام الحسن.

ص:364

13 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله قال: قال من فحش على أخيه المسلم نزع الله منه بركة رزقه ووكله إلى نفسه وأفسد عليه معيشته.

14 - عنه، عن معلى، عن أحمد بن غسان، عن سماعة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي مبتدئا: يا سماعة ما هذا الذي كان بينك وبين جمالك؟! إياك أن تكون فحاشا أو صخابا أو لعانا، فقلت: والله لقد كان ذلك، إنه ظلمني، فقال: إن كان ظلمك لقد أربيت عليه إن هذا ليس من فعالي ولا آمر به شيعتي، استغفر ربك ولا تعد، قلت: أستغفر الله، ولا أعود.

* الشرح:

قوله (إياك أن تكون فحاشا أو صخابا أو لعانا) الصخب محركة: الصياح وشدة الصوت (فقال:

إن كان ظلمك لقد أربيت عليه) أي إن كان جمالك ظلمك لقد أربيت أي زدت عليه، والإرباء «أفزون شدن وأفزون كردن».

باب من يتقى شره

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) بينا هو ذات يوم عند عائشة إذ استأذن عليه رجل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بئس أخو العشيرة، فقامت عائشة فدخلت البيت وأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) للرجل، فلما دخل أقبل عليه بوجهه وبشره يحدثه حتى إذا فرغ وخرج من عنده قالت عائشة: يا رسول الله بينا أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرته به إذ أقبلت عليه بوجهك وبشرك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك: إن من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه.

* الشرح:

قوله (بينا هو ذات يوم) «بين» ظرف مبهم لا يبين معناه إلا بإضافته إلى شيئين فصاعدا، وألفه للاشباع، وعامله الفعل الواقع بعد إذ المفاجأة، وذات الشيء: نفسه، أي استأذن عليه رجل بين ساعات يوم من الأيام هو عند عائشة.

(فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بئس أخو العشيرة) أي هو، والمراد بالعشيرة القبيلة، والعرب تقول أخو العشيرة وتعني قومه ونظير هذا الحديث رواه مخالفونا عن عروة بن الزبير قال «حدثتني عائشة أن

ص:365

رجلا استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول؟ قال: يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه اتقاء فحشه» قال عياض: قوله «لبئس» ذم في الغيبة، والرجل هو عيينة بن حصين الفزاري ولم يكن أسلم حينئذ، ففيه أنه لا غيبة في فاسق ومبتدع وإن كان قد أسلم فيكون (عليه السلام) أراد أن يبين حاله، وفي ذلك الذم يعني «لبئس» علم من أعلام النبوة فإنه ارتد وجئ به إلى أبي بكر وله مع عمر خبر، وفيه أيضا: أن المداراة مع الفسقة الكفرة مباحة وتستحب في بعض الأحوال بخلاف المداهنة المحرمة.

والفرق بينهما أن المداراة بذل الدنيا، لصلاح الدين أو الدنيا والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي (صلى الله عليه وآله) بذل له من دنياه حسن العشرة وطلاقة الوجه ولم يرد أنه مدحه حتى يكون ذلك خلاف قوله لعائشة، ولا من ذي الوجهين، وهو (عليه السلام) منزه عن ذلك وحديثه هذا أصل في جواز المداراة وغيبة أهل الفسق والبدع، وقال القرطبي: قيل أسلم هو قبل الفتح، وقيل بعده ولكن الحديث دل على أنه شر الناس منزلة عند الله تعالى ولا يكون كذلك حتى يختم له بالكفر والله سبحانه أعلم بما ختم له وكان من المؤلفة وجفاة الأعراب، وقال النخعي «دخل على النبي (صلى الله عليه وآله) بغير إذن فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): وأين الإذن؟ فقال: ما استأذنت على أحد من مضر. فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مطاع وهو على ما ترين سيد قومه» وخبره مع عمر هو أنه كان له ابن أخ يجالس عمر فقال لابن أخيه ألا تدخلني على هذا؟ فقال: أخاف أن تتكلم بما لا ينبغي. فقال: لا أفعل. فأدخله، فقال: يا بن الخطاب ما تقسم بالعدل ولا تعطي الجزل. فغضب عمر غضبا شديدا حتى هم أن يوقع به. فقال ابن أخيه: إنه تعالى يقول (خذ العفو) وهذا من الجاهلين فخلى عنه.

ومعنى اتقاء فحشه لأجل اتقاء قبيح كلامه لأنه من جهال العرب وحمقاها وسادتها، وكان يسمى الأحمق المطاع، وقال الآبي: هذا منه (صلى الله عليه وآله) تعليم لغيره لأنه أرفع من أن يتقى فحش كلامه.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): شر الناس عند الله يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم.

3 - عنه، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من خاف الناس لسانه فهو في النار.

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي حمزة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): شر الناس يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم.

ص:366

باب البغي

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أعجل الشر عقوبة البغي.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن أعجل الشر عقوبة البغي) بغى في مشيته: اختال، وبغى على الناس: ظلم واعتدى وعدل عن الحق واستطال وكذب وافترى وهو باغ. والجمع بغاة وبغى سعى في الفساد، ومنه الفرقة الباغية لأنها عدلت عن القصد. وبغت المرأة تبغي بغا وبالكسر والمد:

فجرت وزنت فهي بغي، والجمع: البغايا وهو وصف مختص بالمرأة فلا يقال للرجل بغي. قاله الأزهري وقال بعضهم: البغى طلب تجاوز الاقتصاد وهو على ضربين: محمود وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع. ومذموم وهو تجاوز الحق إلى الباطل أو تجاوزه إلى الشبه كما ورد: الحق بين والباطل بين، وبين ذلك أمور مشتبهات ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه، والثاني هو المعروف عند الإطلاق بين أرباب الأحاديث، ومما يدل على تعجيل عقوبته ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم إن الباطل كان زهوقا» وما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «من سل سيف البغي قتل به» وسر ذلك أن الناس لا يتركونه بل ينالونه بمثل ما نالهم أو بأشد، وتلك عقوبة حاضرة جلبها إلى نفسه من وجوه متكثرة.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك.

* الشرح:

قوله (يقول إبليس لجنوده: ألقوا بينهم الحسد والبغي، فإنهما يعدلان عند الله الشرك) في الإخراج من الدين والعقوبة والتأثير في فساد نظام الخلق قال الله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) والحسد حمل أكثر المشركين على إنكار الحق والرسول وترك التوحيد.

3 - علي، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن مسمع أبي سيار أن أبا عبد الله (عليه السلام) كتب إليه في كتاب: انظر أن لا تكلمن بكلمة بغي أبدا وإن أعجبتك نفسك وعشيرتك.

ص:367

4 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب ويعقوب السراج، جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الناس إن البغي يقود أصحابه إلى النار وإن أول من بغى على الله عناق بنت آدم، فأول قتيل قتله الله عناق وكان مجلسها جريبا في جريب وكان لها عشرون إصبعا في كل إصبع ظفران مثل المنجلين فسلط الله عليها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا مثل البغل، فقتلنها وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا.

* الشرح:

قوله (وإن أول من بغى على الله عناق بنت آدم) الظاهر أنها كانت علما لها ويمكن أن يكون إطلاقها عليها (1) من باب الاستعارة تشبيها بعناق الأرض وهي دابة خبيثة نحو الكلب تصيد الوحوش والحيوانات ولا تأكل إلا اللحم (فأول قتيل قتله الله عناق) قتلها لبغيها على المؤمنين، وفيه وعيد للباغي بتعجيل عقوبته.

(وكان مجلسها جريبا في جريب) في المغرب: الجريب بالفتح «ستون» ذراعا في ستين، قال قدامة: الأشل إذا ضرب في مثله فهو جريب، والأشل: طول ستين ذراعا والذراع ست قبضات، والقبضة أربع أصابع، قال: وعشر هذا الجريب يسمى قفيزا، وعشر هذا القفيز عشيرا (المنجلين) المنجل كمنبر حديدة يحصد بها الزرع.

(ونسرا مثل البغل) النسر طائر معروف له قوة في الصيد ويقال لا مخلب له وانما له ظفر كظفر الدجاجة (وقد قتل الله الجبابرة) أي الذين جبروا خلق الله على ما أرادت نفوسهم الخبيثة من الأوامر والنواهي وبغوا عليهم ولم يرفقوا بهم، وقتلهم وهم على أحسن الأحوال والشوكة والقدرة لفسادهم، وبغيهم على عباد الله في القرآن والأخبار مذكور وفي السير والآثار مسطور، وفيه زجر لمن يدعي القوة والاقتدار عن البغي لأن الله تعالى أشد قوة منه ينتصر منه لعباده وهو القوي العزيز.

ص:368


1- 1 - قوله «ويمكن أن يكون اطلاقها عليها» الحديث قاصر عن الصحة عند أصحاب الرجال، وصحة معناه المقصود بالبيان مما لا ريب فيه فإن البغي شؤم يقود صاحبه إلى النار والمثل الذي يذكر لتقريب المعنى شاهدا عليه لا يجب صحته فإن كان إسناد الحديث غير صحيح والشاهد غير واقع ونسبته إلى الإمام غير ثابتة لا يضر بالمقصود، وأول نبي قام بالسيف موسى (عليه السلام) وأول من بغى وغلب عليه أصحاب موسى (عليه السلام) وقتلوه (على ما في التوراة وروايات اليهود) ملك باشان من نواحي فلسطين وكان يسمى عوج وكان قويا شديدا ذا قامة طويلة وكان من قوم أقوياء معروفين بالشدة وعظم الجسم وطول القد يقال لهم: بنو عناق وعناق اسم رجل كان أبا قبيلتهم على ما في التوراة. وقد روى الثعلبي في العرائس أن عوج كان ابن عناق وعناق بنت آدم. والتحديد الذي ذكره في جثتهما كأنه من مبالغات العامة الداخلة في كل شيء وقوله «جريب في جريب» كأنه تعبير بعض الرواة ولا يليق بأن يكون كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ لا معنى له مع أن في أصل الإسناد كلاما.

باب الفخر والكبر

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثمالي قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): عجبا للمتكبر الفخور، الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة.

* الشرح:

قوله (عجبا للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة) وفي الخبر الآتي عن أبي جعفر (عليه السلام) «عجبا للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما لابن آدم والفخر، أوله نطفة وآخره جيفة لا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه» وفي طريق العامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله تعالى خلقتكم من التراب ومصيركم إلى التراب فلا تتكبروا على عبادي في حسب ولا مال فتكونوا علي أهون من الذر وانما تجزون يوم القيامة بأعمالكم لا بأحسابكم وإن المتكبرين في الدنيا أجعلهم يوم القيامة مثل الذر يطأهم الناس» ومعنى الجميع أن في الإنسان كثيرا من صفات النقصان فلا يليق بشخص أن يفتخر على غيره من الإخوان، وفيه إشعار بأن دفع هذا المرض المهلك واقع تحت اختيار العبد، وعلاجه مركب من أجزاء علمية وعملية، أما العلمية فبأن يعرف الله وتوحيده في ذاته وصفاته وأفعاله وأن يعلم أن كل موجود سواه مقهور مغلوب عاجز لا وجود له إلا بفيض جوده ورحمته، وأن الإنسان مخلوق من أكثف الأشياء وأخسها وهو التراب، ثم النطفة النجسة القذرة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم الجنين الذي غذاه دم الحيض ثم يصير في القبر جيفة منتنة يهرب منه أقرب الناس إليه وهو فيما بين ذلك ينقلب من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، من مرض إلى صحة ومن صحة إلى مرض إلى غير ذلك من الأحوال المتبادلة، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وأن يعلم أنه يبقى في البرزخ وحيدا فريدا منقطعا لا يدري ما يفعل به وأنه يقوم من مرقده عند قيام الساعة بين يدي العليم الخبير الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فينبئه بما عمله من صغير وكبير وأنه لا يدري مآل أمره هناك هل هو إلى الجنة أو إلى النار، وأن يعلم أن استكمال كل شيء سواء كان طبيعيا أو إراديا لا يتحقق إلا بالانكسار والضعف، فإن العناصر ما لم تنكسر سورة كيفياتها الصرفة لم

ص:369

تقبل صورة كمالية حيوانية أو إنسانية، والبذر ما لم يقع في التراب ولم يقرب من التعفن والفساد لم يقبل صورة نباتية ولم تخرج منه سنبلة ذات حبات وثمرة، وماء الظهر ما لم يصر منيا منتنا لا يقبل صورة انسانية قابلة للخلافة الربانية، فمن حصل له هذه العلوم والمعارف وأمثالها وصارت ملكة له أمكنه التحرز من التكبر والفخر. وأما العملية فهي المداومة على التواضع لكل عالم وجاهل وصغير وكبير، والمواظبة على الانكسار والعجز والاقتداء بطريقة المتواضعين من الأنبياء والمرسلين والاهتداء بسنة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وغيرهم من الأخيار الصالحين، فإن من تتبع سيرتهم وحسن معاشرتهم مع الخلائق وجد أنهم كانوا متواضعين في جميع الأحوال. ثم الذي يبعث المتكبر على التكبر أمور:

الأول: النسب، فإن كان افتخاره به باعتبار أن أباه كان حاكما فليعلم أن كل حاكم غير معصوم فهو طاغوت كما ورد به الخبر، وكل طاغوت من أهل النار فوجب البراءة منه فكيف يفتخر به، وإن كان باعتبار أنه كان ذا مال فليعلم أن المال ليس من الكمالات التي يقع بها الافتخار بل ورد ذمه في كثير من الأخبار، وعلى تقدير أن يكون كمالا كان ذلك الكمال لأبيه لا له، والعاقل لا يفتخر بكمال غيره.

وإن كان باعتبار أنه كان خيرا أو فاضلا عالما فليعلم أن ذلك الكمال كان لأبيه وهو بريء منه ويتوجه إليه ما قيل:

پسر كو ندارد نشان پدر * تو بيگانه خوانش مخوانش پسر على أنه لو حضر أبوه وقال له: الشرف الذي تدعيه وتفتخر به كان لي فما لك من شرف تفتخر به فهو يعجز عن الجواب ويسود وجهه ويستحق أن يقال له:

إن افتخرت بآباء مضوا سلفا * قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدا ثم لما كان نظره إلى الأصل كان أصله القريب أولى بالنظر إليه وهو النطفة القذرة النجسة المنتنة، وقد أشار سبحانه إلى أصل الإنسان ونسبه بقوله (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) فمن كان هذا أصله ونسبه لا يليق به التكبر والافتخار.

الثاني: الحسن والجمال وهو صفاء ظاهر البدن بالتناسب في الصور والأشكال فإن افتخر به فليعلم أنه قد يزول بأدنى الأمراض والاسقام وما هو في عرضة الزوال ليس بكمال يفتخر به ولينظر أيضا إلى أصله مما خلق منه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وإلى ما يصير إليه في القبر من جيفة منتنة وإلى ما في بطنه من الخبائث المكدرة لطبعه مثل الأقذار التي في جميع أعضائه

ص:370

والرجيع الذي في أمعائه والبول الذي في مثانته والمخاط الذي في أنفه والوسخ الذي في أذنيه والدم الذي في عروقه والصديد الذي تحت بشرته إلى غير ذلك من المقابح والفضائح فإذا عرف هذا لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن.

الثالث: القوة والشجاعة فمن افتخر بها فليعلم أن الذي خلقه هو أشد منه قوة وأن الأسد والفيل أقوى منه وأن أدنى العلل والأمراض تجعله أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل وأن البعوضة لو دخلت في أنفه أهلكته ولم يقدر على دفعها فإذا عرف هذه الأمور حق المعرفة علم أنه لا يليق به الافتخار بالقوة.

الرابع: الغنى والثروة.

الخامس: كثرة الأتباع والأنصار والعشيرة وقرب السلاطين والاقتدار من جهتهم، والكبر والفخر بهذين السببين أقبح لأنه بأمر خارج عن ذات الإنسان وصفاته فمن تكبر وافتخر فليعلم أنه لو تلف ماله أو غضب أو نهب أو تغير عليه السلطان وعزله لبقى ذليلا عاجزا، وأن الفرقة اليهودية والفرنكية وأضرابهم أكثر منه أموالا وجاها فإذا علم هذا علم أن التكبر بهما في غاية الجهل، وقد حكي أن رجلا من رؤساء اليونان افتخر على عبد حكيم فقال العبد: سبب افتخارك علي إن كانت هذه الأثواب الفاخرة التي لبستها فالحسن والزينة فيها لا فيك، وإن كان هذا الفرس الذي أنت عليه فالفراهة والكمال فيه لا فيك، وإن كان فضل آبائك فالفضل إن كان كان فيهم لا فيك، فلو أخذ كل ذي فضل فضله بقيت لا شيء وبلا فضيلة فمن أنت حتى تفتخر علي.

السادس: العلم وهذا السبب أعظم الأسباب وأقواها فإنه كمال نفساني له قدر عظيم (1) عند الله

ص:371


1- 1 - قوله «فإنه كمال نفساني له قدر عظيم» الملاك في ما يجوز أن يفتخر به الإنسان وما لا يجوز على ما ذكر الشارح في الأمور الخمسة أن كل ما لا يبقى للإنسان وليس له في نفسه لا يجوز الفخر به كالمال والجمال والنسب وقوة البدن وأمثال ذلك، وهو حق لأن النفس تبقى والبدن يفنى، وكل ما يفنى بفناء البدن لا يجوز للعاقل أن يسر به ويعتمد عليه، وأما العلم فكمال للنفس لا للبدن، نعم كل إدراك حاصل لحاسة من الحواس الحالة في الجوارح والأعضاء البدنية فإنه يزول بزوال البدن ولا فخر به كالمحسوسات، وينبغي أن يتأمل الإنسان ويدقق النظر حتى يتحقق لديه أن العلوم الحاصلة للإنسان التي بها يمتاز عن سائر الحيوانات كعلم الحساب والهندسة وخواص النبات والحيوان والمعارف الإلهية وغيرها جميعا أمور كلية عقلية غير مدركة بالحواس الجسمانية بل بقوة مجردة عقلية وإن كانت أول حدوثها محتاجة إلى الاحساس لكن لا يحتاج إليها في البقاء كما قلنا آنفا في مراتب النفس، وأن المزاج الخاص علة معدة لوجود النفس كالحطب للدخان لا علة فاعلة، فتبقى العلوم للإنسان بعد أن صار أعمى وأصم وإن كانت أول حدوثها حاصلة من السمع والبصر، ولكن هاهنا شيئا وهو أن بعض العلوم وإن كانت كلية لكن غايتها الاستعانة بها على المعاش وإتقان الصنائع ولا يفيد فائدة كلية للنفس بعد الفراق عن البدن كالحساب فإنه للتجارة، والهندسة فإنها للصنائع، والبناء والطب لمعالجة المرضى، واختزان أمثال هذه العلوم للنفس وإن كان يبقى بعد الموت بمنزلة اختزان النجار آلاته بعد قطع يده وزوال قدرته، وأما العلم الذي يفيد الإنسان بعد الموت فهو العلم الذي لا يتوقف الاستفادة منه على البدن وليس لنظم أمر الدنيا ومعاشه، وينبغي التأمل والبحث في الفرق بين حالة الإنسان وعلومه المكتسبة في الدنيا وبينهما في الآخرة والميز بينهما، ولعلنا نعود إليه في موضع لائق إن شاء الله تعالى.

تعالى وعند الخلائق وصاحبه معظم عند جميع المخلوقات كما دل عليه صريح الروايات، ولهذا قيل: إذا ذل العالم، ذل بذله العالم، فإذا تكبر العالم وافتخر فليعلم أن خطر أهل العلم أكثر من خطر أهل الجهل وأن الله تعالى يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العالم، وأن العصيان مع العلم أفحش من العصيان مع الجهل، وأن عذاب العالم أشد من عذاب الجاهل، وأنه تعالى شبه العالم الغير العامل تارة بالحمار وتارة بالكلب، وأن الجاهل أقرب إلى السلامة من العالم لكثرة آفاته وأن الشياطين أكثرهم على العالم، وسوء العاقبة وحسنها أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه، فلعل الجاهل يكون أحسن عاقبة من العالم، وأن العالم ينبغي أن يكون مستغرقا في شهود الحق لا يلاحظه غيره فضلا أن يتكبر ويفتخر عليه، وأن الكبرياء رداء الله ومختص به وأن المتكبر ممقوت عند الله تعالى ومعذب في الآخرة كما قال تعالى: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) وأن الكلب والخنزير أحسن حالا من أهل جهنم فإذا علم هذه الأمور بعين اليقين وتأمل فيها تأملا صادقا أنيقا ونظر إليها نظرا دقيقا أمكن له التخلص من رذيلة الافتخار والنجاة من معصية الاستكبار.

السابع: العبادة والورع (1) والزهادة وهي أيضا فتنة عظيمة وعلاجها صعب، لكن من كان ذاته

ص:372


1- 1 - قوله: «السابع العبادة والورع» هذا أقوى ما يفيد النفس ويوجب سعادته بعد الفراق عن البدن ولو كان العلم فقط يوجب السعادة لكان أبو ذر ومقداد وأم أيمن أشقياء في الآخرة بل الذي ثبت لنا أن العلم الموجب للسعادة هو ما يوجب الورع والورع ما يوجب الإعراض عن الدنيا والإعراض عن الدنيا يوجب فراغ الخاطر حتى يلتفت النفس إلى جوهر ذاته وما أودع فيه إذ لا يمكن الالتفات إلى وجهين في حال واحدة، ويستحيل التوجه إلى جهتين في زمان واحد وإذا التفت إلى استعداد ذاتها وما أودعها الله فيها من قوة الكمال والترقي إلى معرفة ذي الجلال وسعى في الوصول إلى ما أعد له حصل له السعادة، والسعادة كل السعادة في الوصول إلى الله تعالى والرجوع إليه، كما أشار إليه في مواضع كثيرة من الكلام الإلهي مثل قوله: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وقوله: (إنا لله وانا إليه راجعون) و (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) وليس تحصيل إدراك ذلك سهلا فتفاوت مراتب الإنسان كتفاوت الجماد والنبات والحيوان، فرب إنسان تراه في صورة إنسانية وإنسانا آخر في صورته بعينها مع أن تفاوت الرتبة بينهما كالتفاوت بين جماد وحيوان وانسان كما أن الحيوان لا يعرف ما في نفس الإنسان من العلوم الكثيرة ولا يعلم أنه أقرب إلى الله تعالى منه كذا زيد لا يعرف رتبة عمرو وكونه أقرب إلى الله فمثله عنده كمثل جماد عند انسان، والكافر الملحد المادي لا يعرف ما عند أبي علي ابن سينا ونصير الدين الطوسي ولا يعلم أنهما أقرب إلى الله والآخرة وليس التقرب إلى الله بالزمان ولا بالمكان بل بالتشبه في الكمال كما قيل: تخلقوا بأخلاق الله تعالى، وكلما حصل في الإنسان من صفاته تعالى كالعلم والحلم والرحمة والبر ما هو أكمل بالرياضة والزهد كان القرب أشد، وروي عن عيسى بن مريم (عليه السلام) خطابا للحواريين: كونوا كاملين كما أن الله ربكم في السماء كامل. وبالجملة مع حب الدنيا والاستغراق في شهواتها ومهالكها لا يمكن الالتفات إلى باطن النفس وتحصيل التشبه بالخالق والتقرب إليه وتحصيل علم الآخرة، فالورع أقوى ما يفيد النفس البتة، وأما ما ذكره الشارح من عدم جواز الفخر بالعلم والورع وعدم الغرور بهما فلأن الفخر والغرور ينشئان من حب الدنيا والجاه والترأس وليس من الآخرة في شيء. بل التوسل بالعلم والتظاهر بالورع لحصول الجاه وتحصيل المال أشنع وأقبح من التوسل بالأسباب الدنيوية، إذ ليس فيه توهين للعلم والدين، فمثل من يكتسب بالغناء والملاهي مثل من يضع صندوقا تحت رجليه لتصل يده إلى الطعام في الرف، ومثل من يكتسب بالعلم والورع مثل من يجعل القرآن وكتب الحديث، نعوذ بالله من الضلالة. (ش).

لطيفا وطبعه شريفا وذهنه زكيا وعقله نقيا أمكنه أن يعالجها بحسن التدبير ولطف التصوير بأن يتصور أنه لا ينبغي له الفخر والتكبر على من تقدمه في العلم لما فيه من فضيلة العلم الذي قال الله تعالى في تعظيمه: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ولا يبلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل» ولا على من تأخر عنه في العلم إذ لعل قليل علمه يكون مقبولا وكثير علمه يكون مردودا ولا على الجاهل والفاسق إذ قد يكون لهما خصلة خفية وصفة قلبية موجبة لمحبة الرب ورحمته، ولو فرض خلوهما عن جميع ذلك بالفعل فلعل الأحوال في العاقبة تنعكس وقد وقع أمثال ذلك كثيرا، ولو فرض عدم ذلك فليتصور أن تكبره في نفسه شرك فيحبط عمله فيصير هو في الآخرة مثلهم بل أقبح منهم والله هو المستعان، وانما بسطنا الكلام لأن في أحاديث هذا الباب إشارة اجمالية إلى ما ذكرنا يظهر لمن تأمل فيها تأملا دقيقا.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): آفة الحسب الافتخار والعجب.

* الشرح:

قوله (آفة الحسب الافتخار والعجب) الحسب بفتحتين مصدر حسب وزان شرف شرفا وكرم كرما ومعناه بالفارسية «شمردن»، وكثيرا ما يطلق على ما يعده الرجل من مآثر آبائه ومفاخرهم ومناقبهم مثل الشجاعة والجود والشرف والمجد والحماية ونحوها، وقيل: الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف، والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء، ويشهد له قول الشاعر:

من كان ذا نسب كريم ولم يكن * له حسب كان اللئيم المذمما ولعل المراد أن الحسب يستتبع آفة الافتخار ويوجبها لأن آفة الافتخار بالحسب تضيعه وإن كان محتملا.

ص:373

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان عن عقبة ابن بشير الأسدي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أنا عقبة بن بشير الأسدي وأنا في الحسب الضخم من قومي قال: فقال: ما تمن علينا بحسبك؟ إن الله رفع بالإيمان من كان الناس يسمونه وضيعا إذا كان مؤمنا ووضع بالكفر من كان الناس يسمونه شريفا إذا كان كافرا، فليس لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى.

* الشرح:

قوله (وأنا في الحسب الضخم من قومي) في المصباح: ضخم الشيء - بالضم - ضخما - مثال عنب - وضخامة عظم فهو ضخم، والجمع ضخام مثل سهم وسهام، افتخر الرجل بالحسب وهو من صفات الجاهلية ولم يعلم أن الله سبحانه جعل النسب سببا للتعارف والتواصل وأن اشتهار بعض الإنسان دون بعض لا يقتضي كرامة المشهور عند الله تعالى وأن كمال الرجل بحسب الإيمان والتقوى كما قال الله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وأن العبد الحبشي المتقي أفضل وأكرم من الحر القرشي الغير المتقي.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن عيسى بن الضحاك قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): عجبا للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل فقال: يا رسول الله أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما إنك عاشرهم في النار.

* الشرح:

قوله (قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل فقال يا رسول الله أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما إنك عاشرهم في النار) تكبر هذا الرجل وتفاخر بسمو النسب وعلو الحسب فرد عليه النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه وآباءه كلهم في النار وكان ذلك باعتبار أن آباءه كانوا أيضا موصوفين بوصف التكبر، أو باعتبار أن كلهم كانوا كفارا أو باعتبار أن هذا الرجل كان متكبرا وآباءه كانوا كفارا وهو الأظهر.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): آفة الحسب الافتخار.

ص:374

باب القسوة

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عيسى رفعه، قال:

فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام): يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب مني بعيد.

* الشرح:

قوله (فيما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام): يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب مني بعيد) طول الأمل والرجاء في أمور الدنيا سيما ما يستبعد حصوله وصرف الفكر فيها يوجب قساوة القلب أي غلظته وصلابته حتى يصير كالحجر، ويورث موته وكدرته حتى يصير كالمرآة المظلمة فلا يستقر فيه بعد ذلك روح التفكر فيما ينبغي أن يعتقد أو يفعل أو يترك ثم يزداد هذا المرض بوسوسة الخبيث فيتبع الهوى ويشغل عن العمل وذكر الله تعالى ويضل عن سبيل الحق كما قيل: من ركب مطية الآمال سلك أودية الضلال ومن أطال الأمل أساء العمل، فلذلك كان قاسي القلب بعيدا من الله، ولعل هذا كان تعليما للأمة وإلا فكليم الله كان أرفع من أن يتدنس قلبه بطول الامل.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن حفص، عن إسماعيل بن دبيس عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا خلق الله العبد في أصل الخلقة كافرا لم يمت حتى يحبب الله إليه الشر فيقرب منه فابتلاه بالكبر والجبرية فقسا قلبه وساء خلقه وغلظ وجهه وظهر فحشه وقل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها، ثم ركب معاصي الله وأبغض طاعته ووثب على الناس، لا يشبع من الخصومات، فاسألوا الله العافية واطلبوها منه.

* الشرح:

قوله (إذا خلق الله العبد في أصل الخلقة كافرا -... إلى آخره) «كافرا» حال عن العبد فلا يلزم أن يكون كفره مخلوقا لله تعالى، نعم يلزم اتصافه بالكفر حين خلقه وهو كذلك كما دلت عليه الروايات المتكثرة وهذا موافق لما هو المشهور من أن السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه، ومن كان شقيا في العلم الأزلي يكون شقيا في العالم الظلي وهو عالم الأرواح وفي عالم الأرحام

ص:375

حين تعلقه بالأبدان وهكذا في كل موطن إلى يوم الفصل، وهو في هذا الموطن أعني موطن الغربة والمصيبة ودار التكليف والبلية وإن صدرت منه الخيرات في الجملة لم يمت حتى يخلى بينه وبين الشر فيميل إليه ويحبه ويعانقه ويعود خاتمته إليه، وإن كان سعيدا كان الأمر بالعكس فيرجع كل إلى ما سبق له في العلم الأزلي لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم (1) (وقل حياؤه) أريد به ظاهره أو ذهابه بالكلية.

(وكشف الله ستره) أي رفع ستره الحاجز عن مشاهدة أعماله القبيحة (2) فيراه المقربون على

ص:376


1- 1 - قوله «لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم) سبق تحقيق الكلام في القضاء والطينة والعلم الأزلي بحيث لا يلزم منه الجبر، ولابد أن يكون مراد الشارح ذلك فإنه (قدس سره) لم يكن جبريا قطعا، والجبر خلاف مذهب أئمتنا (عليهم السلام) فراجع الجزء الخامس. (ش).
2- 2 - قوله «عن مشاهدة أعماله القبيحة» من المسائل التي تعد في معجزات نبينا العلمية، (صلى الله عليه وآله) والأولياء من خلفائه المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين كلامهم في أحوال النفوس وأدوائها وعلاجاتها، وكيفية انطواء ملكاتها فيها وخفائها في الدنيا ونحو مشاهدتها ظاهرة في البرزخ والقيامة، وتلك أمور لم يعهد في أشعار العرب وخطبهم وسائر أقسام كلامهم مثلها ولم ير فيهم من حام حول هذه المسائل، وقد رأينا في كلامهم ذكر الله تعالى ويوم الحساب والجزاء والعقاب والثواب وأسماء بعض الأنبياء (عليهم السلام). أما الدقائق التي لم يتنبه لها المسلمون إلا بعد أجيال، فكيف الجاهلون، فاشتمال القرآن والسنة عليها يدل على رباط باطني بين المعصومين (عليهم السلام) وبين منبع جميع الحقائق، وهذا الرابط الخاص المسمى بروح القدس هو الذي كان سببا لعلمهم، وقد رأينا في أشعار زهير بن أبي سلمى في معلقته الجاهلية: فلا تكتمن الله ما في صدوركم * ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر * ليوم الحساب أو يعجل فينقم وفي أشعار النابغة وأمية بن أبي الصلت والأعشى ذكر بعض الأنبياء (عليهم السلام). وأما مثل قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) وقوله تعالى: (ونفس وما سويها * فألهمها فجورها وتقويها * قد أفلح من زكيها * وقد خاب من دسيها) ومثل قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) ومثل قوله تعالى خطابا للناس يوم القيامة: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) فيصعب على فهم أهل الجاهلية بل يتعذر عليهم إدراك هذه المعاني ويرون تناقضا بين هذه الآية وقوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) فنبه على أن البصيرة مبدؤها الذكر، والعمى مبدؤها النسيان وعدم الاعتناء. فربما ينسى الإنسان شيئا ويذكر شيئا في الدنيا كذلك في الآخرة يرى شيئا ولا يرى شيئا وهو بالنسبة إلى الأول بصره حديد، وبالنسبة إلى الاخر أعمى، ولا يجب أن يكون صفة البصر في الآخرة صفته في الدنيا حتى يكون أعمى بالنسبة إلى كل شيء، أو بصيرا بالنسبة إلى كل شيء. ثم إن الحكماء ذكروا: أن الشعور بالشيء لا يستلزم الشعور بالشعور فربما ينطوي صور عقلية كثيرة في النفس، وهي موجودة فيها لا محالة، والإنسان يغفل عن جميعها، والذي يبين ذلك أمور: الأول أن العالم العاقل قد يكون نائما أو مغشيا عليه أو غافلا عن علمه أو مشتغلا بشيء آخر. ولا يمكن أن يكون علومه مسلوبة عنه في هذه الأحوال إذ يتساوى هو والجاهل بتلك العلوم حينئذ ولا يتمايز الأشياء بالأعدام. فلو لم يكن شيء موجودا في نفس العالم لم يكن فرق بينه حال الغفلة وبين الجاهل وهو مستحيل. الثاني أن الإنسان يرى في منامه مركوزات ذهنه، ولابد أن تكون موجودة حال اليقظة وهو غافل عنها باشتغال حواسه الظاهرة بالأمور الخارجة عنه فإذا هدأت الحواس بالنوم فرغ النفس لمشاهدة ما هو موجود فيه. ولو لم يكن في ذهنه شيء لتساوي جميع الناس في الرؤيا وليس كذلك. الثالث أن جميع ما في القوة الحافظة موجودة فيها مع الغفلة عنها بل ربما يصعب على الإنسان استرجاعها بحيث لا يوفق له إلا بعد أيام مع أنها موجودة عنده البتة وإلا لم ترجع أبدا، ولكن لا نعلم كيفية وجودها وإن كان أصل وجودها مما لا ريب فيه، وعلى هذا فيتضح علة كون ملكات النفس في الدنيا خفية على صاحبها ظاهرة في الآخرة وأن التذاذها بوجودها فرع الشعور بشعوره إياها، ويظهر معنى قوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). ثم إن الملكات الخبيثة أو الطيبة ربما كانت قوية راسخة بحيث تظهر آثارها على الجوارح كرجل شديد الغضب يعرف غضبه في عينه ووجهه. وربما كانت ضعيفة يستطيع الإنسان أن يخفيها، وهذا سر قوله (عليه السلام) «قل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها» مع ما قبله وما بعده. (ش).

أخس أحواله أو ستره الحاجز بينه وبين القبائح وهو الحياء فيكون تفسيرا لما قبله.

(وركب المحارم لم ينزع عنها ثم ركب معاصي الله وأبغض طاعته) لعل المراد بالمحارم:

الصغائر وبالمعاصي: الكبائر، لأن الصغائر قنطرة الكبائر، أو المراد بها: الذنوب مطلقا، وبالمعاصي:

حبها أو استحلالها بقرينة قوله «وأبغض طاعته» لأن بغض الطاعة يستلزم حب المعصية، أو المراد بها ذنوبه بالنسبة إلى الخلق.

(فاسألوا الله العافية واطلبوها منه) في بعض النسخ: العاقبة بالقاف، وفيه تنبيه على أن النفس الأمارة بالسوء لا تنزجر عن أمثال هذه الحركات الشنيعة إلا بعصمة الله والاستعانة منه.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك، فلمة الملك: الرقة والفهم، ولمة الشيطان السهو والقسوة.

* الشرح:

قوله (قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لمتان لمة من الشيطان ولمة من الملك) أي للناس لمتان، واللمة بفتح اللام وشد الميم: الهمة تقع في القلب، والمراد: أن لكل من الشيطان والملك إلماما بالقلب وقربا منه وإلقاء شيء إليه.

ص:377

(فلمة الملك الرقة والفهم) (1) لمة الملك: القاء الخير والتصديق بالحق إلى القلب، وثمرته رقة القلب وصفاؤه وانعطافه إلى الخير وفهم الحقائق والإذعان بالحق لمن وجد ذلك في نفسه فليحمد الله ليزداد له (ولمة الشيطان السهو والقسوة) لمة الشيطان إلقاء الشر والتكذيب بالحق إلى القلب وتزيين الباطل له، وثمرته السهو عن الحق والغفلة عن ذكر الله وقساوة القلب وغلظته بحيث يتأبى عن استماع النصائح وقبول لمة الملك، ومن وجد في قلبه ذلك فليتعوذ بالله من الشيطان فإن الاستعاذة يدفعه إن شاء الله.

ص:378


1- 1 - قوله «فلمة الملك الرقة والفهم» قال الحكماء: لا يخرج شيء من القوة إلى الفعل إلا بعلة مخرجة إياه ولا تصير القوة فعلا بنفسه، ولا شك أن نفس الإنسان فيها قوة الخير والشر، وليس صيرورته عاقلا عالما خيرا فهما ذا فضائل مقتضى ذاته وإلا لاستوى جميع أفراد الإنسان فيها فهو بالنسبة إلى جميع ذلك بالقوة. وأما مخرجه من القوة إلى الفعل فلابد أن يكون موجودا عاقلا مفارقا عنه ويسمى في عرفهم بالعقل الفعال، وفي اصطلاح الدين: الملك كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمة الملك، ويزعم الجاهل أن الإنسان يعقل بنفسه، والعلة الموجودة للتعقلات هي الحواس الظاهرة، وهو باطل لأن جميع أفراد الحيوان والإنسان الرضيع وغيره مشتركون في وجدان الحس. وكل ما يمتاز الإنسان البالغ العاقل به عن غيره من العقل والمعقولات لها علة أخرى غير الحس، ولو كان الحس علة للتعقل لكان جميع أفراد الحيوان مساوية لأفلاطون وأرسطو. فإن قيل: علة امتياز الإنسان الحس مع القابلية. قلنا: أما الحس فقد بان عدم غنائه، وأما القابلية فمحال أن يكون سببا من غير فاعل كقابلية الخشب للاحتراق لا توجب احتراقا بلا مس نار، وهذا سر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام). ونظير ما ذكرنا في الملك يجري في الشيطان ولمة الشر. (ش).

باب الظلم

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن المفضل بن صالح، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الظلم ثلاثة: ظلم يغفره الله وظلم لا يغفره الله وظلم لا يدعه الله، فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأما الظلم الذي لا يدعه المداينة بين العباد.

* الشرح:

قوله (الظلم ثلاثة) الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وفي المثل: من استرعى الذنب فقد ظلم. فالمشرك ظالم لأنه جعل غير الله تعالى شريكا له ووضع العبادة في غير محلها والعاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة.

(فأما الظلم الذي لا يغفره فالشرك) كما قال عز وجل: (ان الله لا يغفر أن يشرك به) ولعل الشرك بالعبادة داخل فيه وإن كان دون الشرك بإنكار التوحيد. قال الله تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا).

(وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله) بفعل المعصية وترك الطاعة وهذا يغفر له بالتوبة قطعا على شرائطها، وبدونها لمن يشاء.

(وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد) كان ذكر المداينة على سبيل التمثيل لأن الظاهر أن حقوق الخلق كلها كذلك.

2 - عنه، عن الحجال، عن غالب بن محمد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إن ربك لبالمرصاد) قال: قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة.

* الشرح:

قوله (في قول الله عز وجل إن ربك لبالمرصاد) في المصباح: الرصد: الطريق، والجمع: أرصاد مثل: سبب وأسباب، ورصدته رصدا - من باب قتل -: قعدت له على الطريق، والفاعل راصد، والرصدي نسبة إلى الرصد وهو الذي يقعد على الطريق ينتظر الناس ليأخذ شيئا من أموالهم ظلما وعدوانا، وقعد فلان بالمرصد - وزان جعفر - وبالمرصاد - بالكسر - وبالمرتصد أيضا: أي بطريق

ص:379

الارتقاب والانتظار (إن ربك لبالمرصاد) أي مراقبك، فلا يخفى عليه شيء من أفعالك ولا تفوته.

(قال: قنطرة على الصراط) القنطرة: ما يبنى على الماء للعبور عليه - فنعلة - والجسر: أعم لأنه يكون بناء وغير بناء.

(لا يجوزها عبد بمظلمة) هي بفتح الميم وكسر اللام: اسم لما يطلب عند الظلم كالظلامة بالضم.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن وهب بن عبد ربه وعبيد الله الطويل، عن شيخ من النخع قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إني لم أزل واليا منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة؟ قال: فسكت ثم أعدت عليه، فقال: لا حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه.

* الشرح:

قوله (عن شيخ من النخع) (1) النخع بفتحتين: قبيلة من اليمن من مذحج.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونا إلا الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونا إلا الله عز وجل) قال أمير

ص:380


1- 1 - قوله «شيخ من النخع» هذه الأخبار قاصمة الظهر نعوذ بالله من موبقات الآثام ونفثات الشيطان ووساوسه، وربما يختلج ببال أهل الدين والشرع أن الولاية من قبل الجائر جائزة في مذهب فقهاء أهل البيت، وربما دخل فيها جماعة من أعاظم الرواة في عهد الأئمة (عليهم السلام) ولم يعبأوا بما ورد من المنع عن إعانة الظالمين ولم يعرفوا أن الوالي من قبل الجائر قد يكون مختارا فيما يفعل وله أن يعمل بمقتضى حكم الشرع على مذهب أهل الحق فهو وال من قبل الجائر وليس معينا للظالم، وقد يكون مأمورا بأمر الظالم يفعل ما يأمره أو يعاونه في فعله، وبين الولاية وإعانة الظالم عموم وخصوص من وجه، ومورد الاجتماع وال لا يمكنه إلا العمل بما يأمره الظالم، وليس له أن يفعل باختياره شيئا كما هو الحال في ولاة زماننا ومورد الافتراق وال بغير إعانة ومعين بغير ولاية، أما الوالي بغير إعانة فهو من يوليه الظالم عملا في صقع من الأصقاع يعمل بما يقتضيه دينه وعقله في القضاء وجباية الأموال ولا يعين له دستورا خاصا لا يتجاوزه وكان المتولون للأعمال في عهد الأئمة (عليهم السلام) كذلك وهذا جائز، وفي أخبار بعض الملوك أنه كتب إلى وال له يجب عليك أن تعمل في عملك بما يأمرك به الفقيه الفلاني ويجب على الفقيه أن يأمرك بما أمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن هذا القبيل ولاية المحقق الكركي على العراق من قبل شاه طهماسب الصفوي. بل ليس مثل هذا ولاية حقيقة من جانب الجائر بل تقلد للأمر بإذن صاحب الولاية وتولية الجائر رفع للمحذور والمزاحمة هذا. أما الإعانة للظالم من غير ولاية من قبله فواضح. (ش).

المؤمنين (عليه السلام): «ظلم الضعيف أفحش» وقال أيضا: «يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم» وقال أيضا: «من ظلم عباد الله كان خصمه الله في الدنيا والآخرة ويوم الظالم الدنيا فقط وهي تنقطع، ويوم المظلوم الدنيا والآخرة والمنتقم هو الله تعالى والله عزيز ذو انتقام» وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله عز وجل: اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري» وروي أيضا عنه (صلى الله عليه وآله): «العبد إذا ظلم فلم ينتصر ولم يكن له من ينصره رفع طرفه إلى السماء فدعا الله تعالى قال جل جلاله: لبيك عبدي أنصرك عاجلا وآجلا، اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري» وقد حكي أن ظالما ظلم على ضعيف أعواما، قال المظلوم للظالم يوما: إن ظلمك علي قد طاب بأربعة أشياء: أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والديان يحكم بيننا.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن درست بن أبي منصور، عن عيسى بن بشير، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضر علي بن الحسين (عليهما السلام) الوفاة ضمني إلى صدره، ثم قال: يا بني اوصيك بما أوصاني به أبي (عليه السلام) حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به، قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله.

6 - عنه، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن حفص بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: من خاف القصاص كف عن ظلم الناس.

* الشرح:

قوله (من خاف القصاص كف عن ظلم الناس) لأن من خاف القصاص وهو قتل القاتل وجرح الجارح وقطع القاطع، وبالجملة المعاملة بالمثل، تحرز عن ظلم الناس الموجب للقصاص، وهذا بحسب الحقيقة تحذير عن الظلم للتحرز من المعاملة بمثله.

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أصبح لا ينوي ظلم أحد غفر الله له ما أذنب ذلك اليوم ما لم يسفك دما أو يأكل مال يتيم حراما.

* الشرح:

قوله (من أصبح لا ينوي ظلم أحد غفر الله له ما أذنب ذلك اليوم ما لم يسفك دما أو يأكل مال يتيم حراما) دل على أن من دخل في الصبح غير ناو لظلم أحد ولم يسفك دما حراما أو لم يأكل مال يتيم غفر له ذنوب ذلك اليوم كائنا ما كان، وعلى أن من انتفى عنه هذه الأمور بأن نوى أو سفك

ص:381

أو أكل لم يغفر له فكأن الأمور المذكورة كفارة لذنوب يومه.

ويفهم من ظاهر الخبر أن ذنوبه تغفر مطلقا سواء كانت من حقوق الله تعالى أم من حقوق الناس مثل الضرب والشتم والغيبة ونحوها، وهذا ينافي رواية النخعي المذكورة وغيرها من الروايات الدالة على المؤاخذة بحقوق الناس، ويمكن تخصيص الذنوب هنا بالذنوب التي بينه وبين الله تعالى جمعا بين الروايات، وأما تخصيص عموم الروايات بهذا الخبر والقول بأن الله تعالى لا يؤاخذ العبد بظلم الناس، بعد ما أصبح غير ناو لظلمهم وأنه يرضي المظلوم بوجه آخر فبعيد.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصبح لا يهم بظلم أحد غفر الله له ما اجترم.

* الشرح:

قوله (من أصبح لا يهم بظلم أحد غفر الله له ما اجترم) أي ما اكتسب من الجرم والإثم في ذلك اليوم بقرينة السابق، أو مطلقا على احتمال، وفيما بينه وبين الله عز وجل أو فيما بينه وبين الخلق أيضا احتمال بعيد، وعدم قصد ظلم أحد أولا لا ينافي قصد ظلمه ثانيا.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

من ظلم مظلمة اخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده.

* الشرح:

قوله (من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده) نظيره ما سيأتي من رواية مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيه تنبيه للظالم المغرور بعدم المؤاخذة بالفعل بأنها لا محالة يكون ولو في ولده الذي هو بمنزلة نفسه وبحكم المقابلة خير صلاح الأب قد يصل إلى ولده، وقد ذكرناه مشروحا ويؤيده قوله تعالى حكاية: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) ولا ينافي الأول قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لخروجه بهذا النص وغيره من عموم الآية كخروج مؤاخذة العاقلة في الخطاء، والأب هو الذي أدخل على نفسه وولده هذه الخصلة المسرية إلى أعقابه وهو الذي ظلمهم أيضا وما الله بظلام للعبيد.

10 - ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة) ظلمات جمع ظلمة وهي خلاف النور

ص:382

وحملها على الظلم باعتبار تكثره معنى أو للمبالغة. وفيه تحذير من الظلم على النفس وعلى الغير، والمراد بالظلمة إما الحقيقة لما قيل من أن الهيئات النفسانية التي هي ثمرات الأعمال الموجبة للسعادة والشقاوة أنوار وظلمات مصاحبة للنفس وهي تنكشف لها في القيامة التي هي محل بروز الأسرار وظهور الخفيات فتحيط بالظالم على قدر مراتب ظلمه ظلمات متراكمة حين يكون المؤمنون في نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، أو المراد بها الشدائد والأهوال كما قيل في قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر).

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى [عن محمد بن عيسى] عن منصور، عن شام بن سالم، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من أحد يظلم بمظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه وماله، وأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر الله له.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن أبي نجران؟ عن عمار بن حكيم، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): مبتدئا: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال: قلت: هو يظلم فيسلط الله على عقبه أو على عقب عقبه؟! فقال: إن الله عز وجل يقول: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا).

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل يقول: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا)) لعله أمر للأوصياء بالخشية والعدل في أموال اليتامى وعدم ظلمهم فيها خوفا من أن يرجع ظلمهم إلى أولادهم، وأمر لهم بالقول السديد للأيتام بأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعونهم ب «يا بني ويا ولدي» ولا يقولوا ما يؤذيهم، وللمفسرين فيه أقوال.

14 - عنه، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن ائت هذا الجبار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء واتخاذ الأموال وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فاني لم أدع

ص:383

ظلامتهم وإن كانوا كفارا.

* الشرح:

قوله (إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين أن أئت هذا الجبار فقل له: إني لم أستعملك على سفك الدماء) يجب على الحاكم أمران أحدهما أن يلاحظ نفسه مع مالك الملوك ويعلم أنه المالك لا غيره وأن كل من سواه عبد له متقلد بربقة العبودية لئلا يغيره فضل ماله من نعم الله تعالى عليه من الإمارة وغيرها ولا طول خص به بل يزيده ذلك قربا وعبادة وتواضعا، وثانيهما أن ينظر إلى من دونه ويعلم أنهم ودايع الله عز وجل في أرضه وذرية أبيه آدم (عليه السلام) قد سلطه عليهم لإعانتهم وإغاثتهم وحفظ صورتهم وسيرتهم ليزداد عليهم شفقة ورأفة سواء كانوا مؤمنين أم كافرين معاهدين، وأنت تعلم أن كل واحد من الأمرين أمر صعب لا يتأتى الا لمن حفظه الله تعالى بلطفه وعنايته ولذلك ورد روايات كثيرة على ذم الرئاسة.

(فإني لم أدع ظلامتهم) الظلامة بالضم: اسم لما تطلبه عند الظالم كالمظلمة بفتح الميم وكسر اللام.

15 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي ابن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من أكل مال أخيه ظلما ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (أكل جذوة من النار يوم القيامة) الجذوة: الجمرة المتلهبة وتضم الجيم وتفتح وتجمع جذى مثل مدى وقرى وتكسر أيضا فتكسر في الجمع أيضا مثل جزية وجزى.

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم.

* الشرح:

قوله (العامل بالظلم -... إلى آخره) أي العامل بالظلم على نفسه أو على غيره، والمعين له على الظلم أو مطلقا على احتمال لعموم بعض الروايات والراضي به مظلوما كان أو غيره شركاء في الإثم، وإذا كان الميل القليل إلى من وجد منه ظلم ما حراما موجبا للدخول في النار لقوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) فكيف حال الظالم وحال من أعانه وحال من رضي

ص:384

به، قال في الكشاف: النهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زمرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وذكر الفقيه في باب جمل من مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من مدح سلطانا جائرا أو تخفف وتضعضع طمعا فيه كان قرينه في النار» وقال (عليه السلام): «من ولى جائرا على جوره كان قرين هامان في جهنم». وإن شئت زيادة المعرفة بأحوالهم فارجع إلى ما ذكره المفسرون والله هو المستعان.

17 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما.

* الشرح:

قوله (إن العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما) كان المراد من يدعو لظالم يكون ظالما لأنه رضي بظلمه قيل: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «من دعا للظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه».

18 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي نهشل، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: من عذر ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته.

* الشرح:

قوله (من عذر ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه) (1) عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب رفعت عنه اللوم فهو معذور أي غير ملوم والاسم العذر بضم الذال للاتباع وتسكن والجمع أعذار والمعذرة بمعنى العذر، وأعذرته بالألف لغة.

(فإن دعا لم يستجب له) أي دعا الله تعالى أن يدفع عنه ظلم من يظلمه، أو مطلقا لم يستجب له

ص:385


1- 1 - قوله «سلط الله عليه من يظلمه» الظالم غير مقيد نفسه بما يقيد به أصحاب الوفاء والمروة أنفسهم والناس مفطورون على أن الإحسان يجب أن يكافى بالإحسان وربما يزعم بعضهم أنه إذا داهن الظالم وصحح أعماله وأظهر له عذرا في مظالمه لابد أن يكافئه الظالم بهذا الإحسان ويكف عنه أو يحسن إليه وهذا زعم باطل لأن الظالمين خارجون عما يقتضيه العقل الحاكم بالحسن والقبح وغير ملتزمين بما يلتزم به أصحاب المروة فإذا رأوا مصلحتهم في قتل أعز الناس عليهم ومصادرة أموال أكثرهم إحسانا إليه وأخدمهم له فعلوا من غير مراعاة، والتواريخ مملوءة بأمثال هذه الأخبار، ولو كان الوالي ممن يراعي لوازم المروة وقواعد الانسانية لم يكن ظالما بل عادلا. (ش).

لأنه بسبب عذره صار ظالما خرج عن استحقاق الاستجابة ودخل في زمرة الظلمة (ولم يأجره الله تعالى على ظلامته) لأنها وقعت مجازاة.

19 - عنه، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: ما انتصر الله من ظالم إلا بظالم، وذلك قوله عز وجل: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا).

20 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ظلم أحدا ففاته فليستغفر الله له فإنه كفارة له.

21 - أحمد بن محمد الكوفي، عن إبراهيم بن الحسين، عن محمد بن خلف، عن موسى بن إبراهيم المروزي، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصبح وهو لا يهم بظلم أحد غفر الله له ما اجترم.

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: دخل رجلان على أبي عبد الله (عليه السلام) في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامهما قال: أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم، ثم قال: من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به، أما إنه إنما يحصد ابن آدم ما يزرع وليس يحصد أحد من المر حلوا ولا من الحلو مرا.

فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما.

* الشرح:

قوله (أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم) الخير مضاف إلى «من» وفيه تنبيه على أن المظلومية أفضل الخيرات وبين ذلك بأن المظلوم يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم عوضا مما أخذه الظالم من ماله، وما يأخذه المظلوم أكثر منفعة وأعظم مقدارا لأن منفعته وهي الفوز بالسعادة الأخروية أبدية بخلاف ذلك المال فإن نفعه قليل في زمان يسير. وفيه تحذير للظالم من سوء عاقبة الظلم وتسلية للمظلوم بأن الظالم يسعى في مضرة نفسه (1) ونفع المظلوم كما أشار إليه أيضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «ولا

ص:386


1- 1 - قوله «فإنه يسعى في مضرة نفسه» وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» وسر قبح الظلم أنه يمنع أفراد الإنسان عن السعي والعمل وإظهار ما أبدع الله تعالى في قريحتهم من الاستعداد للصنايع والعلوم وعن تأديب الناس وسوقهم إلى الآخرة والكمالات الانسانية، والناس في دولة الظلمة خامدون جامدون آيسون من الحياة غير ناشطين للعمل يرون قبالهم في كل شيء مانعا يمنعهم من فعلهم مجبولون على الإطاعة جبرا لغيرهم مسلوبو الإرادة والهمة. والإنسان خلق مختارا مريدا فإذا سلب عنه الاختيار والإرادة قسرا كان كشجرة تحت قبة مظلمة تمنعها نور الشمس والهواء ولا تنبت ولا تثمر. والله تعالى مع أنه خالق للإنسان لم يجبرهم على الخير والدين بل تركهم وما يختارون (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) واكتفى بالإعذار والإنذار، والظلمة يجبرون الناس على الشر والقبائح وهو خلاف حكمة الله تعالى وقد روى في الحكايات المصنوعة على ألسنة الحكماء أن نية الظالم تدفع بركة الأرض ويمثلون ذلك بملك مر على قرية وكان عطشانا فطلب من بعض أهله ماء فجاءه بشربة من عصير قصبة السكر فسأله الملك عن هذا المقدار من العصير من كم قصبة؟ أجابه بأنه من قصبة واحدة، فنوى الملك أن يزيد الخراج على القصب إذ اعجبه كثرة ارتفاعه ثم ذهب ورجع ثانيا وعطش وطلب العصير من ذلك القروي بعينه فجاءه بالعصير وكان أقل من الأول فسأله هذا من كم قصبة؟ أجاب من ثلاث قصبات فسأله الملك كيف كان عصير قصبة واحدة في المرة الأولى أكثر من عصير ثلاث في هذه المرة وما سره؟ قال الرجل لأن الملك نوى الظلم فزالت البركة، وربما يزعم الجاهل أنها حكاية خرافية ولكنها تعليم حكمي فلسفي وضعه أحد من أعاظم الحكماء قطعا لتمثيل أصل عقلي اجتماعي كما هو شأنهم. وأما علاج الظلم ومداواته فقد جاء به الأنبياء (عليهم السلام) في مقابل الجبابرة وهو تعظيم قدر أفراد الإنسان وأنهم موجودون مكرمون معظمون ولكل واحد واحد منهم حق فردي لا يجوز أن يتعدى عنه، وليس للجبابرة منع أحد عن حقه كلما كان الظالم قادرا والمظلوم ضعيفا وكذلك كان إبراهيم (عليه السلام) وموسى وعيسى وسائر الأنبياء (عليهم السلام) في قبال جبابرة زمانهم. فرسخ هذا الأصل في القلوب والعقول. وفي هذه العصور وضع النصارى قواعد مبنية على هذا الأصل الإلهي ونزعوا من الولاة حق العمل بما يسنح لهم وقيدوهم بما يرضى به الناس وليس لأحد أن يحمل على غيره مالا يرضاه. ورجع بعضهم إلى مذهب الجبابرة المعاندين للأنبياء ورخصوا الجماعة من الناس جبر غيرهم على خلاف رضاهم وبالجملة مباحث هذا الباب دنيوية وأخروية يليق أن يتكلم فيها ويحقق مسائلها لكن المجال ضيق. والتفضيل في موضع خاص به أليق وليس لمسلم أن يعرض عن طريقة الأنبياء ويركن إلى الجبابرة لأنه إذا سلب نور الاسلام عن القلوب هوى في ظلمات الجهل إلى المهالك ولا ينفع اسم الاسلام مع اختيار طريقة الجبابرة الكافرين. (ش).

يكبرن أي لا يعظمن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته ونفعك».

* الشرح:

قوله (وليس يحصد أحد من المر حلوا ولا من الحلو مرا) هذا تمثيل والمقصود أن عامل الشر لا يجد خيرا وثوابا وعامل الخير لا يجد شرا وعقابا. وفيه تقبيح للشر وتبعيد عنه. وتحسين للخير وترغيب فيه.

23 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من خاف القصاص كف عن ظلم الناس.

ص:387

باب اتباع الهوى

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن أبي محمد الوابشي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم.

* الشرح:

قوله (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم) هويته من باب علم إذا أحببته وعلق به قلبك ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها نحو الشيء ثم استعمل في ميل مذموم فيقال اتبع هواه وهو من أهل الأهواء، والهوى: ميل النفس إلى مشتهياتها; والوغول فيها، وصرف الفكر في تحصيلها يوجب الغفلة عن ذكر الله تعالى والإعراض عن أمر الآخرة وموت القلب وفساد الدين والبعد من الله والعاقل يحذر منه كما يحذر من الأعداء لقصد الفرار من الضرر بل ضرره أفخم وأعظم والحذر منه أولى وأهم كما أشار إليه بقوله:

(فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم) لأن ضرر العدو على فرض تحققه راجع إلى الدنيا الفانية وضرر الهوى مع تيقنه راجع إلى الآخرة الباقية والفرق بينهما كالفرق بين الدنيا والآخرة، وقد رغب الله عز وجل في ترك الهوى ورتب عليه دخول الجنة فقال: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) وحث أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «الهوى شريك العمى» يريد أن الهوى مثل عمى القلب يلقى صاحبه في جب الغوى فهو شريك له في الإهلاك وفي تركه مراتب كثيرة لا يقدر عليه إلا العالم الماهر العارف بمكائد النفس أو التابع له إذ النفس مكارة قد تلبس الباطل بلباس الحق فيظن الجاهل أنه حق. ثم أشار إلى أن صرف اللسان فيما لا يعني، وما قيل في الناس والقطع به عليهم مشارك للهوى في الإضرار والإفساد بقوله:

(وحصائد ألسنتهم) حصدت الزرع حصدا من باب ضرب وقتل وهو محصود وحصيد، وحصد بفتحتين والحصيدة موضع الحصاد والحصائد جمع حصيد، والمراد بها ما يقتطفونه من الكلام الذي لا خير فيه تشبيها له بما يحصد من الزرع وتشبيها للسان بحد المنجل الذي يحصد به وهذا الخطاب أعظم وقعا في القلوب وأتم منعا للسان من التسرع في الكلام فليتق الله عبد عند إرادة

ص:388

نطقه وليتأمل في خيره وشره.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها إلا ما قدرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني) أقسم عز وجل تأكيدا لتحقيق مضمون الخطاب المبين وتثبيتا لمفهومه في قلوب السامعين أولا بعزته وهي القوة والغلبة وخلاف الذلة وعدم المثل والنظير، وثانيا بجلاله وهو التنزه من النقائص، والعظمة في القدرة التي تصغر لديها قدرة كل ذي قدرة، وثالثا بعظمته وهي تنصرف إلى عظمة الشأن والقدر التي يذل عندها شأن كل ذي شأن، ورابعا بكبريائه وهي العظمة التي تتأبى من وقوف الأفهام عليها وبلوغ الأوهام إليها، وخامسا بنوره وهو هدايته التي بها يهتدي أهل السماوات والأرضين إليه وإلى صالحهم ومراشدهم كما يهتدي بالنور، وسادسا بعلوه وهو كونه فوق الممكنات بالعلية والايجاد أو تعاليه عن الاتصاف بصفات المخلوقين كما يقول من لا يعتد به من فرق الجاهلين، وسابعا بارتفاع مكانه وهو ارتفاع مرتبته من أن يناله وصف الواصفين، أو يبلغه نعت الناعتين.

(لا يؤثر عبد هواه على هواي) إن كان هوى العبد في الفعل كان هواه تعالى في الترك وبالعكس وقد يكون متعلقهما فعلين.

(إلا شتت عليه أمره) أي فرقت عليه حاله كما تشاهد من أهل الأهواء فإن أحوالهم متفرقة وقلوبهم متشتتة وهم في سبل الضلالة يهيمون وفي طرق الغواية يتيهون.

(ولبست عليه دنياه) أي خلطتها أو أشكلتها عليه حتى يكون مضطربا في طلب المعيشة متحيرا في طريقها. تقول: لبست الأمر لبسا من باب ضرب: إذا خلطته، وفي التنزيل: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) والتشديد مبالغة وفي الأمر لبس بالضم ولبسة أيضا أي إشكال، والتبس الأمر:

أشكل

ص:389

(وشغلت قلبه بها) فهو دائما في ذكر منها وفكر لطرق تحصيلها فارغا عن ذكر الآخرة ولذلك قال الله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).

(ولم أوته منها إلا ما قدرت له) كما تشهد عليه التجربة فإنك تجد الخلائق كلهم إلا من عصمه الله من أهل الأهواء مشغولين بالدنيا ولا يجدونها كما يطلبونها.

(لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي) أي طلبت منهم أن يحفظونه من الضياع والفساد والانحراف عن طريق السداد (وكفلت السماوات والأرضين رزقه) أي جعلتها متحملة لرزقه فيأتيه رزقه بوعد العليم القادر الكريم بلا تعب من حيث لا يحتسب فلابد لك أيها الأخ في الله إذا ورد عليك أمران في أحدهما رضاك وفي الآخر رضاه تعالى أن تختار ما فيه رضاه فإن فعلت ذلك فالله كفيلك وولي أمورك في الدنيا والآخرة نعم من كان لله كان الله له (وكنت له ما وراء تجارة كل تاجر) كل أحد في الدنيا تاجر يطلب نفعا في تجارة، والله عز وجل هو النفع والمقصد لهذا العبد من وراء تجارته.

(وأتته الدنيا وهي راغمة) أي أتته على كره منه. أو أتته وهي ذليلة عنده من رغم أنفه من باب قتل وعلم إذ ذل كأنه لصق بالرغام وهو بالفتح التراب.

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة.

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق (1) وأما طول الأمل فينسي الآخرة) لأن اتباع الهوى وهو ميل النفس إلى

ص:391


1- 1 - قوله «أما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق» إن الله تعالى بحكمته البالغة ركب في طبيعة الحيوان قوة يميل بها إلى جلب مصالحه والتحرز من مضاره غريزة ملزمة فيميل إلى الطعام والفساد، ويفر من الحر والبرد الضارين وكل مؤذ ومهلك، ويحب أولاده ويبني مسكنه وغير ذلك ويسمون هذه القوة القوة الواهمة ولا يخلو عنها الإنسان من بين الحيوانات، لكن لما كان الحيوان لم يخلق لكسب الفضائل لم يركب في طبيعته قوة مضادة لواهمته فهو مجبور في اتباع هواه، ولا يؤاخذ عليه، وأما الإنسان صاحب النفس الناطقة المستعدة لتحصيل الكمال والفضائل (فألهمها فجورها وتقويها) ولم يخلها والواهمة تميل بها إلى كل جانب، والحق الذي يصد عنه اتباع الهوى هو مقتضى حكم العقل والنطق. فقد يقع المعارضة بين الواهمة والعقل ويستحسن كل منهما ما يستقبحه الآخر فإذا اتبع هواه وميله ولم يلاحظ العقل لم يعرف ما هو الحق، والتجربة شاهدة بأن من يتوجه ذهنه إلى بعض قواه يغفل عن الأخرى كمن صرف ذهنه إلى استماع صوت لا يبين له ما هو حاضر عند بصره، بل ربما غمض عينه ليسمع أحسن، ومن يشتغل بعمل بيده وكلمه أحد ترك شغله حتى يفهم كلام الفائل. ثم يشتغل بعد الاستماع وهكذا حكم الواهمة والعاقلة. فكلما أمعن الإنسان في الالتفات إلى مدركات الواهمة المجبرة له إلى هواه غفل عن الالتفات إلى مدركات العاقلة، وليس خلق الواهمة في الإنسان بغير حكمة ومصلحة. لكن يجب أن يكون العقل مهيمنا عليها حتى يصونها عن الأنهماك، في الشر، فالشهوة والغضب وسائر العواطف خير بشرط كونها تحت تدبير العاقلة، وهذا أصل يبتنى عليه مسائل علم الأخلاق. (ش).

الشهوات الدنية وانحرافها عن حدود الشريعة النبوية أشد جاذب للإنسان عن قصد الحق وملاحظة آثاره وأقوى صاد له عن سلوك سبيله ومشاهدة مناره. وطول الأمل وهو صرف عنان الهمة إلى البقاء وزمام العزيمة إلى النعماء وعطف القلب إلى زخارف الدنيا وتفكر زهراتها وتكميل أسبابها وتصور مقتنياتها ودوام اشتغالها بكيفية تحصيلها وكيفية العمل بها بعد حوصلها يستلزم نسيان الآخرة ومثوباتها والغفلة عن ذكر الله وذكر الموت وما بعده من أهوال القيامة ومقاماتها.

ووجه حصر الخوف فيهما أنهما أعظم المهلكات حتى كأنه لا مهلك سواهما. وذلك لأن الإنسان اما سالك طريق الخير، أو سالك طريق الشر. أو واقف بين الطريقين والأول يسمى بالرشد والهداية، والثاني يسمى بالهوى والغواية، ومن البين أن الخوف من الثاني أعظم من الخوف من الثالث وقس عليه حال طول الأمل، وإنما أضاف (عليه السلام) الخوف منهما إلى نفسه القدسية لأنه لما كان هو المتولى لإصلاح حال الخلق والراعي لهم في أمور معاشهم ومعادهم، والأولى بهم من أنفسهم كان الاهتمام بصلاحهم منوطا بهمته العالية فلا جرم نسب الخوف إلى نفسه.

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): اتق المرتقى السهل إذا كان منحدره وعرا، قال: وكان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تدع النفس وهواها فإن هواها [في] رداها وترك النفس وما تهوى أذاها وكف النفس عما تهوى دواها.

* الشرح:

قوله (اتق المرتقى السهل إذا كان منحدره وعرا) المرقى والمرتقى والمرقاة: موضع الرقى والصعود من رقيت السلم والسطح والجبل علوته، والمنحدر والحدور - وزان رسول - المكان الذي ينحدر منه أي ينزل من الانحدار وهو النزول تقول حدرت الشيء حدورا من باب قعد فانحدر أي أنزلته فنزل. والوعر الصعب وزنا ومعنى وهذا الكلام البليغ تمثيل لمتابعة النفس في أهوائها

ص:391

والترقي من بعضها إلى بعض وإن كانت صغاير وسهولة ذلك عليها وصعوبة عاقبتها والخروج من عهدتها وأولها بالآخرة إلى الهلاك، بمن يصعد الجبل ويسهل عليه الصعود ثم يصعب عليه النزول بل قد يهلك والغرض أيضا حينئذ سوء العاقبة.

* الشرح:

قوله (لا تدع النفس وهواها فإن هواها [في] رداها وترك النفس وما تهوى أذاها وكف النفس عما تهوى دواها) النفس مائلة إلى هواها وهي منافع حاضرة ولذات ظاهرة تقتضيها القوتان الشهوية والغضبية مثل الشره والحرص وحب المال والجاه والرئاسة والغلبة والنهب والفخر والكبر إلى غير ذلك من الأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة، وهي وإن كانت لذات بحسب الظاهر لكنها حيات مؤذية وأمراض ردية مهلكة بحسب الباطن، وحجب مانعة للنفس مما هو المقصود منها وهو اتصافها بالصفات الملكية والأخلاق الروحانية والأعمال الحسنة الجسمانية وسيرها إلى الحضرة الربوبية ومشاهدتها جمال الأسرار الإلهية. ودواء تلك الأمراض كف النفس عنها بالمعالجة المقررة عند أطباء النفوس بأن يدفع كل صفة من الصفات الذميمة وكل عمل من الأعمال القبيحة بتحصيل ضدها ولا يمكن ذلك إلا بالعلم المحيط بالمضار والمنافع والصبر على الشدائد وكسر القوتين المذكورتين واعطاء كل واحدة منهما ما هو المجوز لها عقلا وشرعا فإذا تحققت هذه المعالجة صحت هاتان القوتان وصحت بصحتها سائر القوى والأعضاء واشتغل كل شيء بما هو المقصود منه، وتمت إمارة النفس في هذا البدن ووصلت إلى سعادتها الأبدية وهي التقرب إلى الحضرة الربوبية.

ص:392

باب المكر والغدر والخديعة

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس.

* الشرح:

قوله (لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس) أي أهل المكر وأهل الخديعة على حذف المضاف أو أريد بهما الماكر والخادع مجازا، أو كونهما في النار كناية عن كون المتصف بهما فيها. والمكر والخديعة متحدان. تقول: مكر مكرا من باب قتل إذا خدع فهو ماكر، ومكار للمبالغة وأمكر بالألف لغة. وقد ينسب المكر إلى الله تعالى ويراد به المجازاة ويسمى جزاء المكر مكرا كما يسمى جزاء السيئة سيئة مجازا على سبيل مقابلة اللفظ باللفظ، وخدعته خدعا فانخدع، والخدع بالكسر اسم منه والخديعة مثله، والفاعل خدوع مثل رسول وخداع وخادع. والخدعة بالضم ما يخدع به الإنسان مثل اللعبة لما يلعب به ويمكن الفرق بينهما حيث اجتمعا بأن يراد بالمكر احتيال النفس واستعمال الرأي فيما يراد فعله مما لا ينبغي، وإرادة إظهار غيره وصرف الفكر في كيفية ترويجه، وبالخديعة إبراز ذلك في الوجود وإجراؤه على من يريد وكونه (عليه السلام) أمكر الناس على تقدير جواز المكر وعدم العقوبة به ظاهر; لأن مناط المكر على استعمال الفكر في درك الحيل ومعرفة طرق المكروهات ومعرفة كيفية ايصالها إلى الغير على وجه لا يشعر به وهو (عليه السلام) كان أعلم الناس بجميع الأمور.

2 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار، ويجيء كل ناكث بيعة إمام أجذم حتى يدخل النار.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجيء كل غادر يوم القيامة بإمام مائل شدقه حتى يدخل النار -... إلى آخره) الغدر نقض العهد والبيعة وإيقاد نار الحرب وإرادة إيصال السوء إلى الغير بالحيلة بسبب خفي، وفعله من باب ضرب، وقوله «بإمام» متعلق بغادر، والشدق بكسر الشين وفتحها: جانب

ص:393

الفم، ولما كان الغادر غالبا بتشبث بسبب خفي لإخفاء غدره ذكر (عليه السلام) أنه يعاقب بضد ما فعله وهو تشهيره بهذه البلية التي تتضمن خزيه على رؤوس الاشهاد ليعرفوه بقبح عمله وينبغي أن يعلم أن الغدر قد يلتبس بالكيس عند الجهلة (1) كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا. ونسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة» قال بعض الأفاضل في تفسير كلامه: وذلك لجهل الفريقين بثمرة الغدر وعدم تمييزهم بينه وبين الكيس فإنه لما كان الغدر هو التفطن بوجه الحيلة، وإيقاعها على المغدور به وكان الكيس هو التفطن بوجه الحيلة والمصالح فيما ينبغي، كانت بينهما مشاركة في التفطن بالحيلة واستخراجها بالآراء إلا أن تفطن الغادر بالحيلة التي غير موافقة للقوانين الشرعية والمصالح الدينية، والكيس هو التفطن بالحيلة الموافقة لهما ولدقة الفرق بينهما يلبس الغادر غدره بالكيس وينسبه الجاهلون إلى حسن الحيلة كما نسب ذلك إلى معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأضرابهم (2)، ولم يعلموا أن حيلة الغادر تخرجه إلى رذيلة الفجور وأنه لا حسن لحيلة جرت إلى رذيلة. بخلاف حيلة الكيس ومصلحته فإنه يجر إلى العدل.

ص:394


1- 1 - قوله «قد يلتبس بالكيس عند الجهلة» الغدر يشبه الظلم في ملاك قباحته خصوصا في الأمراء والولاة. وذلك لأن الغدر يسلب الاختيار والنشاط في أفراد الإنسان فلا يتجرأ أحد على إظهار كماله وما أودعه الله فيه من الاستعداد، وقلنا إن الإنسان خلق مختارا والاختيار مقتضى طبعه، وسلب الاختيار عنه بالقسر على خلاف مقتضى طبعه كجعل النبات تحت اناء يمنعه من النمو، والإنسان المسلوب الإرادة لا يفعل شيئا فإن فرض أكثر أفراد البشر عاطلين بسلب الإرادة عنهم لم يتكون جامعة بشرية فإذا خاف الناس كل واحد منهم الآخر ولم يأمن أحد أحدا، ولم يعتمدوا على عهودهم وأقوالهم، واحتمل كل في حق الآخر الغدر والخيانة لم يعمل أحد عملا لغيره أصلا وأمير المؤمنين (عليه السلام) رضى بترك الغدر مع معاوية مع أنه كان قادرا وكان في ذلك حسم مادة فتنته ولم يفعل لأنه رأى في غدره ترخيصا للغدر وإشاعته في الناس واستحسانهم إياه، وفي ذلك فساد عظيم يصغر عنده فساد فتنة معاوية، وامتنع مسلم بن عقيل من الفتك بعبيد الله بن زياد لتلك العلة بعينها. (ش).
2- 2 - قوله «والمغيرة بن شعبة وأضرابهم» كالمأمون مكر بالرضا (عليه السلام) وغدر حيث استحضره وولاه عهده جهرا ثم قتله (عليه السلام) سرا، وذكرت ذلك في هذا الموضع لأن في مثل هذه الأيام (10 ع 2) اتفقت مصيبة من مصائب مشهده الشريف ألحت على الأحشاء بالزفرات والشيء بالشيء يذكر، لعن الله الظالمين وقطع دابرهم ورضي الله عن شهداء الفتنة، وحشر أرواحهم مع موإليهم وأشركنا معهم في ثواب حزننا لحزن آل محمد صلوات الله عليهم. وبالجملة ليس التهجم على الغافل الغير المستعد للدفاع والتحرز من مذهب أصحاب المروة فكيف بأهل الدين وحكم شارع الاسلام بعدم جواز التعرض للكافر المستأمن إذا توهم غلطا أنه مأمون في دار الاسلام فدخلها بظن الأمن، وللإمام أن يبلغه مأمنه سالما، فكيف يقاس ذلك بعمل من يأمن مسلما صالحا حتى يحضره عنده ويغتاله بعد الأمن. ثم كيف حال من غدر بالإمام الحق. (ش).

3 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس منا من ماكر مسلما.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قريتين من أهل الحرب لكل واحد منهما ملك على حدة، اقتتلوا ثم اصطلحوا، ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزو معهم تلك المدينة؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار.

* الشرح:

قوله (لكل واحدة منهما ملك على حدة) وحد يحد حدة من باب وعد انفرد بنفسه، وكل شيء على حدة أي متميز من غيره.

(ولا يأمروا بالغدر) عطف على يغدروا و «لا» لتأكيد النفي. أي لا ينبغي أن يأمروا بالغدر لأن الغدر عدوان وظلم، والأمر بهما غير جائز وإن كان المغدور به كافرا (1).

(ولا يقاتلوا مع الذين غدروا) أي لا ينبغي لهم أن يقاتلوا مع الحربيين الذين غدروا بالحربيين ونقضوا عهدهم وصلحهم.

(ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم) سواء كان المشركون من أهل هاتين القريتين، أو غيرهم. وفيه دلالة على جواز قتالهم في حال الغيبة (2).

(ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار) في بعض النسخ: ما عهد، ومعنى لا يجوز لا ينفذ ولا يصح، تقول: جاز العقد وغيره إذا نفذ ومضى على الصحة. يعني عهد المشركين وصلحهم معهم على غزو فريقهم غير نافذ ولا صحيح. فلهم أن يقاتلوهم حيث وجدوهم والله أعلم.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عمرو بن أشعث، عن عبد الله بن حماد الأنصاري، عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يجيء كل غادر بإمام يوم القيامة مائلا شدقه حتى يدخل النار.

ص:395


1- 1 - هنا سؤال وجواب يأتي الإشارة إليهما إن شاء الله. (ش).
2- 2 - بل لا دلالة. (ش).

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم عن أبي الحسن العبدي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة: يا أيها الناس لولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس ألا إن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة ألا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار.

* الشرح:

قوله (لولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس) الدهاء «زيرك شدن»، والمراد به هنا طلب الدنيا بالحيلة واستعمال الرأي في غير المشروع مما يوجب الوصول إلى المطالب الدنيوية وتحصيلها وطالبها على هذا النحو يسمى داهيا وداهية للمبالغة. وهو مستلزم للغدر بمعنى نقض العهد وترك الوفاء والوصول إليها بهذا الطريق، وأشار (عليه السلام) بهذا الكلام إلى نفي الدهاء عن نفسه المقدسة بنفي لازمه الذي هو الغدر لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، ثم أشار إلى أن الغدر مستلزم للفجور بقوله:

(إن لكل غدرة فجرة) لأن الوفاء لما كان فضيلة تحت العفة كان الغدر الذي هو ضده رذيلة تحت ما يقابل العفة وهو الفجور، والظاهر أن اللام في «لكل» مفتوحة للمبالغة في التأكيد «وغدرة» بالتحريك جمع غادر، ثم أشار إلى أن الفجور مستلزم للكفر بقوله:

(ولكل فجرة كفرة) وهو ظاهر مع استحلال الفجور كما في معاوية وعمرو بن العاص وأضرابهما من رؤساء الغادرين الفاجرين حيث أنكروا ما هو ضروري دين نبينا (صلى الله عليه وآله) وغدروا بإمام الزمان حتى فعلوا ما فعلوا، وأما مع عدم الاستحلال فالظاهر أن المراد بالكفر كفر نعم الله تعالى وسترها وكفر مخالفته بإظهار معصيته والحمل على الأعم محتمل وتنتج المقدمتان أن كل غدرة كفرة. ثم أشار بقوله:

(وإن الغدر والفجور والخيانة في النار) إلى سوء عاقبة أهلها تحذيرا لعباد الله عز وجل منها وتبعيدا لهم عنها، والخيانة مصدر خانه إذا ترك رعاية ما ائتمن عليه من حقوق الحق والخلق، وقصر في أدائه كما هو وهي تدخل في أفعال القلب والجوارح كلها.

ص:396

باب الكذب

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي النعمان قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا النعمان لا تكذب علينا كذبة فتسلب الحنيفية ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا ولا تستأكل الناس بنا فتفتقر فإنك موقوف لا محالة ومسؤول، فإن صدقت صدقناك وإن كذبت كذبناك.

* الشرح:

قوله قال أبو جعفر (عليه السلام) يا أبا النعمان لا تكذب علينا كذبة (1) فتسلب الحنيفية) الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو سواء فيه العمد والخطأ إذ لا واسطة بينه وبين الصدق، والظاهر أن الإثم يتبع العمد. والكذب عليهم يشمل افتراء الحديث عليهم وصرف حديثهم إلى غير مرادهم والجزم به، ونسبة فعل لا ينبغي إليهم ونفي الولاية عنهم، ويفهم منه أن الكذب عليهم يوجب سلب الحنيفية أي الملة المستقيمة والسنة النبوية ويورث زوال الإيمان والخروج من الدين، ولعل السر فيه أن استقرار الدين والإيمان في القلب موقوف على استقامة اللسان. فمتى لم يستقم اللسان في نطقه ونسب إلى رؤساء الدين ما لا يليق بهم علم أن القلب سقيم ولم يستقم في مراقبة الدين وأهله.

(ولا تطلبن أن تكون رأسا فتكون ذنبا) مدخول الفاء متفرع على الطلب، ولعل الذنب كناية عن الذل والهوان عند الله تعالى وعند الصالحين من عباده لكثرة مفاسد الرئاسة الموجبة لفساد الدين.

(ولا تستأكل الناس بنا فتفتقر) لعل المراد هو النهي عن أكل أموال الناس بسبب العلوم المستفادة منهم (عليهم السلام) وجعلها ذريعة إلى تحصيل الدنيا كما هو شأن قضاة الجور. وذلك يوجب الافتقار في الآخرة (2).

ص:397


1- 1 - قوله «لا تكذب علينا كذبة» الكذب مطلقا قبيح وهو أعم من الغدر لأن الغدر نوع من الكذب يتخصص بكونه بعد العهد والميثاق والتأمين، والكذب على الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أشد عقوبة. (ش).
2- 2 - قوله «في الآخرة» بل في الدنيا أيضا فإن الغرض المقصود بالكلام النوع لا الأشخاص كما روي أن الجالب مرزوق، والمراد نوع التجار الذين يحملون حوائج الناس من بلد إلى بلد. والمستأكل بعلمه فقير نوعا والتاجر الجالب غني نوعا، وربما يتفق أن يكون جالب فقيرا ولا يضر بالمقصود. فمن أراد تتبع الأغنياء في البلد تتبعه في التجار لا في العلماء والزراع، وأهل الصنعة محتاجون إلى التجار وإن كثرت أموالهم لأن رؤوس أموالهم راكدة غالبا لا تنتقل سريعا كما تنتقل أموال التجار. وفي الحديث ترغيب في أن لا يجعل العلماء علمهم وسيلة إلى رزقهم لأن من احتاج إلى ما في أيدي الناس يفتي مطابقا لهواهم ولا يبين لهم حقائق أمر الدين إذا أحس منهم عدم الرضا وربما يتكلف لتوجيه أعمالهم الفاسدة وإبداء حيل لتصحيحها. (ش).

(فإنك موقوف لا محالة ومسؤول) تعليل للنواهي المذكورة وحث على الامتثال فإن تذكر الوقوف بين يدي الله تعالى والسؤال عن الأفعال الصادرة من اللسان وغيره يحرك إلى ترك أمثال هذه المناهي.

(فإن صدقت صدقناك) أي فإن صدقت بحفظ اللسان بل الجوارح كلها عما لا ينبغي لما ذكره بعض الأعلام من أن الصدق يتحقق أيضا في الجوارح باستعمالها فيما خلقت له صدقناك فتكون مع الصادقين الذين أمر الله عز وجل بالكون معهم.

(وإن كذبت كذبناك) ونسبناك إلى الكذب ونقول إنك كاذب فتكون من الخاسرين في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وذلك لأنهم (عليهم السلام) شهداء يشهدون للناس وعليهم يوم القيامة كما نطقت به الآية الكريمة.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عمن حدثه. عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول لولده:

اتقوا الكذب، الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا.

* الشرح:

قوله (قال كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول لولده اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل) جد في الأمر يجد جدا من بابي ضرب وقتل: اجتهد فيه، والاسم: الجد بالكسر، ومنه يقال: فلان محسن جدا أي نهاية ومبالغة، وجد في الكلام جدا من باب ضرب: هزل، والاسم منه الجد بالكسر أيضا. والأول هو المراد هنا لأن التأسيس خير من التأكيد، وهزل في كلامه هزلا من باب ضرب: مزح ولعب، والفاعل هازل، أو هزال مبالغة، والظاهر أن كل واحد من الجد والهزل متعلق بالصغير والكبير، وتخصيص الأول بالكبير والثاني بالصغير بعيد، والحاصل أنه كما لا يجوز الكذب جدا مطلقا كذلك لا يجوز هزلا وهو اللعب والمزاح وما يوجب الضحك من الكلام، قال أمير المؤمنين: «وإياك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك» وقال

ص:398

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك ويل له ويل له» وروي أنه (صلى الله عليه وآله) يمزح ولا يقول إلا حقا ولا يؤذي قلبا ولا يفرط فيه. فالمزاح على حد الاعتدال مع عدم الكذب والأذى لا حرج فيه بل هو من خصال الإيمان، والكذب في الصغير ينبغي أن لا يساهل فيه فإنه مع كونه قبيحا في نفسه كثيرا ما يؤدي إلى ما هو أقبح منه كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: (فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترى على الكبير) أي على الكبير من الكذب، ولعله الكذب على الله وعلى رسوله أو مطلقا أو على الكبير من الذنوب فإن الكذب كثيرا ما يؤدي إلى ذنوب غيره كما أن ضده وهو الصدق يؤدي إلى البر والخير والعمل الصالح (أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه الله صديقا وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا) صديق بالكسر والتثقيل: كثير الصدق والملازم له، والذي يطابق قوله فعله، ومنه يفهم أن الصدق يؤدي إلى العمل الصالح، والكذب خلافه، وفيه ترغيب في تحري الصدق دائما وترك التساهل في الكذب حتى يعرف به فإنه إذا تساهل في الكذب كثر منه وجر بعضه إلى بعض حتى يعتاد به فيكتب الله الأول لمبالغته في الصدق صديقا ويدخله في زمرة الصديقين، ويكتب الثاني كذابا ويدخله في جملة الكذابين، ولعل معنى يكتب على ظاهره يكتب في اللوح المحفوظ أو في دفتر الأعمال، أو في غيرهما أن فلانا صديق وفلانا كذاب ليعرفهما الناظرون إليه بهذين الوصفين، أو معناه يحكم لهما بذلك أو يوجب لهما استحقاق الوصف بصفة الصديقين وثوابهم وصفة الكذابين وعقابهم، أو معناه أنه يلقى ذلك في قلوب المخلوقين ويشهره بين المقربين وإلا فالقضاء سبق بما كان وما يكون والله أعلم.

3 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل جعل للشر أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب والكذب شر من الشراب.

* الشرح:

قوله (والكذب شر من الشراب) يفيد أن الكذب شر مبدأ لجميع الشرور مثل خراب الدين والدنيا وثوران الفتنة وصب الدماء ونهب الأموال وتهيج العداوة والبغضاء والتفرق بين الأحبة إلى غير ذلك من أنواع المفاسد وأنحاء الظلم، ولذلك اتفق أرباب الملل وغيرهم على تحريمه وادعى المعتزلة أن قبحه بالضرورة لذاته وهو رذيلة مقابلة للصدق داخلة تحت رذيلة الفجور، والصدق بحكم المقابلة خير مبدأ لجميع الخيرات، ومن طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) «قال: «إن الكذب فجور

ص:399

وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق بر وإن البر يهدي إلى الجنة» والفجور اسم جامع للشر كله والبر اسم جامع للخير كله، وأما كونه شرا من الشراب فلعل الوجه فيه أن الشرور التابعة للشراب تصدر بلا شعور بخلاف الشرور التابعة للكذب.

4 - عنه، عن أبيه، عمن ذكره، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الكذب هو خراب الإيمان.

* الشرح:

قوله (إن الكذب هو خراب الإيمان) الحمل للمبالغة في السببية لأن الكذب يخرب ايمان الكاذب ويذهب بصالح دينه ويورث النفاق ويمنع أن ينتقش في النفس صورة الحق والصدق ويسد باب الخير وكل ذلك سبب لزوال الإيمان أو نقصانه.

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعلي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد جميعا، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) من الكبائر.

* الشرح:

قوله (الكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) من الكبائر) من الكذب على الله عز وجل إنكاره وتشبيهه بالخلق ووصفه بصفة المخلوقين واعتقاد الشريك وزيادة الصفات له ونسبة الجهل إليه، وتفسير كلامه بالرأي الناقص ونسبة عدم النص بالإمام إليه. وعلى رسوله إنكار رسالته، ووضع الحديث عليه وتفسير متشابهات كلامه والقطع به، ويدخل فيه الكذب على أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وفاطمة (عليهم السلام) وقد وقع جميع ذلك.

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أول من يكذب الكذاب الله عز وجل ثم الملكان اللذان معه. ثم هو يعلم أنه كاذب.

* الشرح:

قوله (إن أول من يكذب الكذاب -... إلى آخره) فكل كذب عليه أربعة شهود أعظمهم هو الله سبحانه وكفى به شهيدا وفيه تنفير من الكذب وتقبيح له فليحذر الكاذب عن خجالة يوم تقام على كذبه شهادة مقبولة، ولو لم يشهد عليه لسانه لشهدت جوارحه، والظاهر أن المراد بالكذب الكذب

ص:400

عن عمد بقرينة آخر الحديث.

7 - علي بن الحكم، [عن أبان] عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الكذاب يهلك بالبينات ويهلك أتباعه بالشبهات.

* الشرح:

قوله (إن الكذاب يهلك بالبينات ويهلك أتباعه بالشبهات) ألا ترى أن الكذابين الأولين هلكوا بالبينات الدالة على أن الخلافة لعلي (عليه السلام) وأتباعهم إلى يوم القيامة هلكوا بالشبهات التي دخلت عليهم وكذا كل كذاب واضع للأحاديث وغيره فإنهم يقولون كذبا مع ظهور بطلانه عندهم. ثم يتقول به من يشتبه عليه وهم يظنون أنه هين وهو عند الله عظيم.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن آية الكذاب بأن يخبرك خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حرام الله وحلاله لم يكن عنده شيء.

* الشرح:

قوله (إن آية الكذاب بأن يخبرك) الباء زائدة في الخبر كما في قولك حسبك يزيد، أي آية الكذاب في دعوى الدين والإيمان أن يخبرك خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حلال الله وحرامه لم يكن عنده شيء، وفيه ذم لمن يصرف عمره في القصص والحكايات والتواريخ وطلب علم النجوم والرياضي والهندسة ونحوها وتركه طلب المعارف الشرعية والعلوم الدينية النافعة في الآخرة مثل علم الاحكام والأخلاق ومراقبة النفس.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الكذبة لتفطر الصائم، قلت: وأينا لا يكون ذلك منه؟! قال: ليس حيث ذهبت إنما ذلك الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة صلوات الله عليه وعليهم.

* الشرح:

قوله (إن الكذبة لتفطر الصائم -... إلى آخره) دل على أن الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة (عليهم السلام) يفسد الصوم كما هو مذهب جماعة من الأصحاب وهم اختلفوا فقيل: يجب به القضاء والكفارة، وقيل يجب به القضاء خاصة والمشهور أنه لا يفسد وإن تضاعف به العقاب.

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه رفعه إلى أبي

ص:401

عبد الله (عليه السلام)، قال: ذكر الحائك لأبي عبد الله (عليه السلام) أنه ملعون فقال: إنما ذاك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله).

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن القاسم بن عروة عن عبد الحميد الطائي، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده.

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده) إن أريد بالإيمان الكامل فالأمر واضح لأن الصدق من أجزائه فالكذب ينافيه وإن أريد به الاعتقاد الحق.

فالمراد بذلك نفي استقراره ورسوخه في القلب لأن الكذب وهو من أعظم الرذائل يشعر بعدم ثبوته ورسوخه وعدم استقامة القلب فكان الكاذب ليس بمؤمن كما أشار إليه النبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما بقولهما «جانبوا الكذب فإنه مجانب للايمان».

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الكذاب هو الذي يكذب في الشيء، قال: لا، ما من أحد إلا أن يكون ذلك منه ولكن المطبوع على الكذب.

13 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن الحسن بن ظريف، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال عيسى بن مريم (عليه السلام): من كثر كذبه ذهب بهاؤه.

* الشرح:

قوله (من كثر كذبه ذهب بهاؤه) أي ذهب حسنه وجماله ووقره عند الخلق فإن الخلق وإن لم يكونوا من أهل الملة يكرهون الكذب ويقبحونه ويتنفرون من أهله.

14 - عنه، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن سالم، رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مواخاة الكذاب، فإنه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدق.

* الشرح:

قوله (فإنه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدق) ومن كان كذلك فلا خير في مواخاته مع أنه جذاب لطبع الجليس إلى طبعه.

15 - عنه، عن ابن فضال، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا

ص:402

عبد الله (عليه السلام) يقول: إن مما أعان الله [به] على الكذابين النسيان.

* الشرح:

قوله (إن مما أعان الله [به] على الكذابين النسيان) ولذلك يأتون كثيرا ما بالأخبار المتضادة والأقوال المتخالفة ويفتضحون بذلك عند العامة والخاصة.

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكلام ثلاثة صدق وكذب وإصلاح بين الناس قال: قيل له:

جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس؟ قال: تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعت منه.

* الشرح:

قوله (فتقول قد سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعت منه) هذا الخبر وإن كان كذبا لغة وعرفا لا تورية ولا تعريض فيه أصلا جايز لقصد الإصلاح بين الناس، والظاهر أنه لا خلاف فيه عند أهل الاسلام. ومن طريق العامة: «ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرا ونمى خيرا» وقد اتفقت الأمة على أنه لو جاء ظالم يطلب رجلا مختفيا ليقتله ظلما أو يطلب وديعة إنسان ليأخذها غصبا وجب الإخفاء على من علم ذلك، فأمثال هذا الكذب ليست بمذمومة في نفس الأمر بل إما واجبة أو مندوبة لأن الكذب إنما يذم ويترك لله تعالى فإذا كان لله تعالى انقلب حكمه نعم الأولى أن لا يسمى ذلك كذبا لاشتهاره بكونه مذموما بل يسمى إصلاحا فهذا قسم ثالث واسطة بين اسمي الصدق والكذب كما نطق به (عليه السلام).

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام):

(أيتها العير إنكم لسارقون)؟ فقال: والله ما سرقوا وما كذب، وقال إبراهيم (عليه السلام): (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)؟ فقال: والله ما فعلوا وما كذب، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قال: فقلت: ما عندنا فيها إلا التسليم، قال: فقال: إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين: أحب الخطر فيما بين الصفين وأحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات وأبغض الكذب في الإصلاح، وإن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بل فعله كبيرهم هذا) إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون، وقال: يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح.

ص:403

* الشرح:

قوله (إنه قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف (عليه السلام): (أيتها العير إنكم لسارقون)) هذا لم يكن قول يوسف (عليه السلام) وانما كان قول مناديه ونسب إليه لوقوعه بأمره، والعير بالكسر: الإبل تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة.

(وقال إبراهيم (عليه السلام) (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)؟ فقال: والله ما فعلوا وما كذب) أريد بالكبير الكبير في الخلقة أو التعظيم، قيل كانت لهم سبعون صنما مصطفة وكان ثمة صنم عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، ولعل ارجاع ضمير جمع المذكر العاقل إلى الأصنام من باب التهكم أو باعتبار أنها يعقلون ويفهمون ويجيبون بزعم عبادها، وأما ضمير الجمع في قوله (عليه السلام) والله ما فعلوا فراجع إلى الكبير باعتبار إرادة الجنس الشامل للمتعدد، ولو فرضا أو إلى الأصنام للتنبيه على اشتراك الجميع في عدم صلاحية صدور ذلك الفعل منه والله أعلم.

(أحب الخطر فيما بين الصفين) أي اهتزاز الرجل وتبختره في المشي كمشي المتكبر المعجب بنفسه (إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: (بل فعله كبيرهم هذا) إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون) لعل المراد إرادة اصلاح حال قومه برجوعهم عن عبادة الأصنام وجه الدلالة أن العاقل إذا تفكر في نسبة الكسر إليها وعلم أنه لا يصح ذلك إلا من ذي شعور عاقل قادر وعلم أن هذه الأوصاف منتفية فيها وعلم أنها لا تقدر على دفع الاستخفاف والضرر عن نفسها علم أنها ليست بمستحقة للألوهية والعبادة ويكون ذلك داعيا إلى الرجوع عنها، ورفض العبادة لها وللعلماء فيه وجوه أخر:

الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وإلزام الخصم وتبكيته فلم يكن قصده (عليه السلام) أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم وانما قصده أن يقرره لنفسه على أسلوب تعريضي وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتابا بخط حسن وأنت مشهور بحسن الخط: أنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر فقلت: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الأمي، والتعريض مما يجوز عقلا ونقلا لمصلحة كجلب نفع أو دفع ضر أو استهزاء في موضعه أو نحوها.

الثاني أنه (عليه السلام) غاظته الأصنام حين رآها مصطفة مرتبة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم وتوقيرهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته وكسره لها، والفعل كما يسند إلى المباشر يسند إلى السبب أيضا.

ص:404

الثالث أن ذلك حكاية لما يقود إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال سيما الكبير الذي يستنكف أن يعبد معه هذه الصغار.

الرابع ما روي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله (بل فعله) ثم يبتدئ (كبيرهم هذا) أي فعله من فعله، وهذا من باب التورية إذ له ظاهر وباطن. باطنه ما ذكر، وظاهره إسناد الفعل إلى الكبير وفهمهم تعلق به، ومراده (عليه السلام) هو الباطن.

الخامس ما روي عن بعضهم أنه كان يقف عند قوله (كبيرهم) ثم يبتدى بقوله (هذا فسألوهم) وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا أيضا من باب التورية، وأنت خبير بأنه يتم حينئذ بدون الوقف أيضا بأن يكون هذا إشارة إلى نفسه المقدسة، والمغايرة بين المشير والمشار إليه بحسب الاعتبار كاف في الإشارة.

السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين لم يكونوا فاعلين، والغرض منه تسفيه القوم وتقريعهم وتوبيخهم لعبادة من لا يسمع ولا ينطق ولا يقدر على أن يخبر عن نفسه بشيء.

(وقال يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح) كان المراد إرادة الإصلاح بينه وبين إخوته في حبس أخيه بنيامين عنده وإلزامهم على ذلك بحيث لا يكون لهم محل منازعة فيه ولم يتيسر له ذلك إلا بأمرين أحدهما نسبة السرقة إليه، وثانيهما التمسك بحكم آل يعقوب في السارق وهو استرقاق السارق سنة، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ما سرق فلم يتمكن من أخذ أخيه في دين الملك فلذلك أمر فتيانه بأن يدسوا الصاع في رحل أخيه وأن ينسبوا السرقة إليه وأن يستفتوا في جزاء السارق منهم فقالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه أي أخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير، فلما فتشوا وجدوا الصاع في رحل أخيه فأخذوا برقبته وحكموا برقيته ولم يبق لإخوته محل منازعة في حبسه إلا أن قالوا على سبيل التضرع أو الالتماس (فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين) فردهم بقوله (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) قيل:

أراد أنا إذا أخذنا غيره لظالمون في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصاع في رحله ظلم عندكم أو أراد أن الله أمرني وأوحى إلي أن آخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي.

وللعلماء فيه أيضا وجوه أخر:

الأول أن ذلك النداء لم يكن بأمره بل نادوا من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا الصاع غلب على

ص:405

ظنهم أنهم أخذوه.

الثاني أنهم لم ينادوا أنكم سرقتم الصاع فلعل المراد أنكم سرقتم يوسف من أبيه يدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب العلل بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنهم حين قالوا «ماذا تفقدون» قالوا: نفقد صواع الملك. ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك.

الثالث لعل المراد من قولهم (إنكم لسارقون) الاستفهام كما في قوله تعالى حكاية (هذا ربي) وإن كان ظاهره الخبر، وأيد ذلك بأن في مصحف ابن مسعود «أئنكم» بالهمزتين.

18 - عنه، عن أبيه، عن صفوان، عن أبي مخلد السراج، عن عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلا [كذبا] في ثلاثة: رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك إصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم.

* الشرح:

قوله (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلا [كذبا] في ثلاثة:

رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم) ظاهره يفيد جواز الكذب في هذه الثلاثة من غير تورية ولا ريب في أنها أولى مع الإمكان وهي أن تطلق لفظا ظاهرا في معنى وتريد آخر يتناوله ذلك اللفظ. ولكنه خلاف ظاهره، ومضمون الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة، ففي الترمذي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «لا يحل الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضاها، والكذب في الحرب والكذب في الإصلاح بين الناس» وفي كتاب مسلم. قال ابن شهاب وهو أحد رواته لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها قال عياض لا خلاف في جوازه في الثلاث وإنما يجوز في صورة ما يجوز منه فيها فأجاز قوم فيها صريح الكذب وأن يقول ما لم يكن لما فيه من المصالح ويندفع فيها الفساد.

قالوا وقد يجب لنجاة مسلم من القتل وقال بعضهم: لا يجوز فيها التصريح بالكذب، وإنما يجوز

ص:406

فيها التورية بالمعاريض (1) وهي شيء يخلص من المكروه والحرام إلى الجائز أما لقصد الإصلاح بين الناس أو لدفع ما يضر أو لغير ذلك وتأول المروي على ذلك، وقال مثل أن يعد زوجته أن يفعل لها ويحسن إليها ونيته إن قدر الله تعالى أو يأتيها في هذا بلفظ محتمل وكلمة مشتركة يفهم من ذلك ما يطيب قلبها، وكذلك في الإصلاح بين الناس ينقل لهؤلاء الكلام المحتمل والغدر المحتمل، وكذلك في الحرب مثل أن يقول لعدوه: انحل حزام سرجك ويريد فيما مضى، ويقول لجيش عدوه: مات أميركم، ليذعر قلوبهم ويعني النوم أو يقول لهم: غدا يأتينا مدد وقد أعد قوما من عسكره ليأتوا في صورة المدد أو يعني بالمدد الطعام فهذا نوع من الخدع الجائزة والمعاريض المباحة، وقال القرطبي: لعل هذا القائل استند في منعه التصريح بقاعدة حرمة الكذب وتأويله الأحاديث بحملها على المعاريض ما يعضده دليل. وأما الكذب ليمنع مظلوما من الظلم عليه فلم يختلف فيه أحد من الأمم لا عرب ولا عجم، ومن الكذب الذي يجوز بين الزوجين الإخبار بالمحبة والاغتباط وإن كان كذبا لما فيه من الاصطلاح ودوام الألفة.

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن مغيرة، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المصلح ليس بكذاب.

20 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي، عن محمد بن مالك، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: حدثني أبو عبد الله (عليه السلام) بحديث، فقلت له: جعلت فداك أليس زعمت لي الساعة كذا وكذا؟ فقال: لا، فعظم ذلك علي، فقلت: بلى والله زعمت، فقال: لا والله ما زعمته، قال: فعظم علي فقلت: جعلت فداك بلى والله قد قلته، قال:

نعم قد قلته. أما علمت أن كل زعم في القرآن كذب.

* الشرح:

قوله (نعم قد قلته أما علمت أن كل زعم في القرآن كذب) (2) في الزعم ثلاث لغات:

407


1- 1 - قوله «وانما يجوز فيها التورية بالمعاريض» وهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي أن الجاهل يتوهم التورية مخرجة للكذب عن موضوعه فإذا تكلم بكلام ظاهره كاذب وقصد به معنى صادقا فكلامه ليس بكذب موضوعا وهذا يوجب تجويز كل كذب بالتورية وإن لم يكن من الأمور الثلاثة أعني الكيد في الحرب أو الإصلاح بين الناس ووعد الأهل وهذا غير مراد قطعا وإنما المجوز تلك الأمور الثلاثة لا التورية والكاذب لغير تلك الأعذار معاقب وإن ورى لكن الغرض من التورية في موارد الأعذار تأديب النفس حتى لا يعتاد الكذب مطلقا بتكراره في موارد العذر فإن الإنسان إذا تكرر عليه الفعل ولو لعذر سلب عنه الاستيحاش عن القبائح مثلا من شرب المسكر مكررا للضرورة لم يتوحش منه كمن لم يشرب منه قط وبالجملة ليت التورية بنفسها من مجوزات الكذب إذا لم يمكن عذر آخر (ش).
2- 1 - قوله «كل زعم في القرآن كذب» مناسبة هذا الخبر لهذا الباب خفية ومقصود الإمام (عليه السلام) تنبيه الراوي على استعمال كلمة في غير معناه ولم ينسب الراوي إلى الإمام (عليه السلام) كذبا ولم يعاتبه الإمام على ذلك حتى يناسب الباب (ش).

فتح الزاي للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس. أي نعم قد قلت ذلك لا زعمته لأن الزعم هو الكذب وما كذبت، يدل على ذلك أن كل زعم في القرآن كذب مثل قوله تعالى حكاية (أو تسقط السماء كما زعمت) وقوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) وقد صرح به أيضا أرباب اللغة قال الأزهري: أكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه، ولا يتحقق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلا أو فيه ارتياب، وقال ابن القوطية: زعم زعما: قال خبرا لا يدري أحق هو أو باطل. قال الخطابي: ولهذا قيل: زعم مطية الكذب وزعم غير مزعم أي قال غير مقول صالح وادعى ما لم يمكن. وإذا كان كذلك لم يصح اسناده إلى من علم صدق قوله قطعا.

21 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن أبي إسحاق الخراساني قال:

كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: إياكم والكذب فإن كل راج طالب وكل خائف هارب.

* الشرح:

قوله (قال كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: إياكم والكذب فإن كل راج طالب وكل خائف هارب) حذر من الكذب على الله وعلى رسوله وعلى غيرهما وفي ادعاء الدين مع ترك العمل به ورغب في الصدق بأن الكذب ينافي الإيمان وذلك لأن الكاذب لم يطلب الثواب وكل من لم يطلب الثواب فهو ليس براج بحكم المقدمة الأولى ولم يهرب من العقاب وكل من لم يهرب من العقاب فهو ليس بخائف بحكم المقدمة الثانية. ومن انتفى فيه الخوف والرجاء فهو ليس بمؤمن كما هو المقرر عند أهل الإيمان ودلت عليه الروايات والله يعلم حقيقة كلام وليه.

22 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحجال، عن ثعلبة، عن معمر بن عمرو، عن عطاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا كذب على مصلح، ثم تلا (أيتها العير إنكم لسارقون) ثم قال: والله ما سرقوا وما كذب، ثم تلا (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) ثم قال: والله ما فعلوه وما كذب.

ص:408

باب ذي اللسانين

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عون القلانسي عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار.

* الشرح:

قوله (قال من لقى المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار) قال الشهيد الثاني: كونه ذا اللسانين وذا الوجهين من الكبائر للتوعد عليه بخصوصه، ويتحقق هذا الوصف بأمور: منها أن يتردد بين اثنين سيما المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه وذلك عين النفاق، ومنها أن ينقل كلام كل واحد إلى الآخر وهو مع ذلك نميمة وزيادة فإن النميمة تتحقق بالنقل من أحد الجانبين فقط وهو من شر خلق الله كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء».

وفي حديث آخر «الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» ومنها أن يحسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه وإن لم ينقل بينهما كلاما، ومنها أن يعد كل واحد منهما بأن ينصره ويساعده، ومنها أن يثني على كل واحد منهما في معاداته وأولى منه أن يثني عليه في وجهه وإذا خرج من عنده ذمه والذي ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق منهما في حضوره وغيبته وبين يدي عدوه، ومنها أن يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا إن أعطي حسده وإن ابتلي خذله كما سيجيء من الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) ويوافقه ما روي عنه (عليه السلام) أيضا قال: «بئس العبد همزة لمزة يقبل بوجه ويدبر بآخر» واختلاف اللسانين مع أعداء الدين والأمراء الظالمين والدخول عليهم إن كان لضرورة أو دفع مضرة أو تقية فجائر بقدر الحاجة، وإن كان لحب الجاه والمال أو لغيرهما فهو ذو لسانين منافق تحت الوعيد.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي شيبة، عن الزهري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين: يطري أخاه شاهدا

ص:409

ويأكله غائبا، إن اعطي حسده وإن ابتلي خذله.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن عبد الرحمن بن حماد رفعه قال: قال الله تبارك وتعالى لعيسى بن مريم (عليه السلام): يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية لسانا واحدا وكذلك قلبك إني احذرك نفسك وكفى بي خبيرا، لا يصلح لسانان في فم واحد ولا سيفان في غمد واحد ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان.

* الشرح:

قوله (قال الله تبارك وتعالى لعيسى بن مريم (عليه السلام) يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية لسانا واحدا -... إلى آخره) أمره الله تعالى بثلاثة أشياء هي أمهات جميع الخصال الفاضلة والأعمال الصالحة.

الأول أن يكون لسانه في جميع الأحوال واحدا يقول الحق ويتكلم به فلا يقول في السر خلاف ما يقول في العلانية كما هو شأن الجهال، لأن ذلك خدعة ونفاق وحيلة وتفريق بين العباد وإغراء بينهم، وقد يجوز ذلك لغرض صحيح من غير مفسدة كما مر في باب من يتقى شره وغيره.

الثاني أن يكون قلبه واحدا قابلا للحق وحده غير متلون بالحيل ولا متلوث بالمكر والختل فإن ذلك يميت القلب ويبعده من الحق ويورثه أمراضا مهلكة ويميله إلى الجور في الحكم.

الثالث أن يكون ذهنه واحدا وهو الذكاء والفطنة، ولعل المراد به هنا الفكر في الأمور الحقة النافعة ومباديها، وبوحدته خلوصه عن الفكر في الباطل والشرور وتحصيل مباديها وكيفية الوصول إليها، وبالجملة أمره أن يكون لسانه واحدا وقلبه واحدا وذهنه واحدا ومطلبه واحدا، ولما كان سبب التعدد والاختلاف أمرين أحدهما تسويل النفس، والثاني الأمن من المؤاخذة واللوم لعدم علم أحد به قال تبارك وتعالى (إني أحذرك نفسك وكفى بي خبيرا) فحذره من تسويلات النفس وأمره بمراقبتها وأعلمه بأنه تعالى عالم السرائر وكفى به خبيرا، فيجزي كل أحد بما عمل.

ص:410

باب الهجرة

اشاره:

1 - الحسين بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن القاسم بن الربيع، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، رفعه قال: وفي وصية المفضل: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما، فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم؟ قال: لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته ولا يتغامس له عن كلامه، سمعت أبي يقول إذا تنازع اثنان فعاز أحدهما الآخر فليرجع المظلوم إلى صاحبه حتى يقول لصاحبه: أي أخي أنا الظالم، حتى يقطع الهجران بينه وبين صاحبه، فإن الله تبارك وتعالى حكم عدل يأخذ للمظلوم من الظالم.

* الشرح:

قوله (لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة وربما استحق ذلك كلاهما) الهجر والهجران خلاف الوصل، يقال هجر أخاه من باب قتل هجرا وهجرانا فهو هاجر والأخ مهجور إذا تركه وقطع كلامه، والتغامس بالغين المعجمة التغافل، وأصل الغمس الإخفاء وأن تظهر أنك لا تعرف الأمر وأنت تعرفه. والمعازة الغلبة. يقال عازه في الخطاب بتشديد الزاي إذا غلبه واشتد كعزه، وفي بعض النسخ بدل فعاز فعال من العول وهو الجور والظلم، ولما كان الخير في الاجتماع والألفة والمحبة حتى يصيروا كشخص واحد وبه يتم نظام الدين والدنيا وكان في الفرقة أضداد ذلك، حذر (عليه السلام) من الإصرار على العداوة والعدوان ومن القطع والهجران بذكر مفاسده وسوء عاقبته، واختصاص أحدهما بالبراءة واللعنة من أجل أنه الباعث أو غير قابل لعذر الآخر، واستحقاق كليهما باعتبار أنهما الباعثان والقاصدان لاستمرار القطع.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا هجرة فوق ثلاث.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا هجرة فوق ثلاث) المؤمنون متساوون في كونهم عباد الله وملتهم ملة واحدة وتعاونهم في الأمور الدينية والدنيوية مطلوب للشارع فوجب عليهم أن يكونوا اخوة بررة

ص:411

متواصلين متآلفين غير مفترقين كما قال عز وجل (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) ولو وقع بينهم موجدة أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة وأفضى ذلك إلى الهجرة فالواجب عليهم أن لا يبقوا عليها فوق ثلاث ليال وأما الهجر في الثلاث فظاهر الحديث بحسب المفهوم أنه معفو عنه وسببه أن البشر لا يخلو من غضب وسوء خلق فسومح في تلك المدة مع احتمال أن يكون حكمها مسكوتا عنه، وإنما قلنا في حقوق العشرة لأن هجر أهل الأهواء والبدع مطلوب ما لم يظهر منه التوبة والرجوع إلى الحق فإن ذلك من أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصرم ذوي قرابته ممن لا يعرف الحق قال: لا ينبغي له أن يصرمه.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن عمه مرازم بن حكيم قال:

كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) رجل من أصحابنا يلقب شلقان وكان قد صيره في نفقته وكان سيئ الخلق فهجره، فقال: لي يوما يا مرازم [و] تكلم عيسى؟ فقلت: نعم، فقال: أصبت لا خير في المهاجرة.

* الشرح:

قوله (كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) رجل من أصحابنا يلقب شلقان) شلقان لقب عيسى بن أبي منصور وقد ذكر أصحاب كتب الرجال في مدحه روايات كثيرة، والظاهر أن الضمير المنصوب (1) في قوله «فهجره» راجع إلى مرازم، وكان مرازم يقوم بكثير من خدمات أبي عبد الله (عليه السلام) وإرجاعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، وقراءة ونكلم على صيغة المتكلم مع الغير دون الخطاب محتمل لكنه بعيد.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد القماط عن داود ابن كثير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال أبي (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيما مسلمين تهاجرا

ص:412


1- 1 - قوله «والظاهر أن الضمير المنصوب» عبارة الخبر غير مستقيمة لا تفسر بغير تكلف لأن القائل إما مرازم أو علي بن حديد، فإن كان الأول كان الواجب أن يقول: هجرني لا هجره، وإن كان الثاني وجب أن يقول: قال له يوما يا مرازم لا قال لي. وروي الخبر في رجال أبي علي بغير كلمة «لي» والأظهر ما في الوافي في تفسيره يعني هجر عيسى أبا عبد الله (عليه السلام) وخرج من عنده بسبب سوء خلقه مع أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) وكون مرازم منهم، وهذا يستقيم من غير تكلف ولا يحتاج إلى قراءة تكلم على صيغة المتكلم مع الغير لأن الظاهر أن شلقان لما هجر الإمام وخرج عن داره أبغضه خدامه (عليه السلام) وكانوا في معرض الهجر فنبههم الإمام على أن يعفوا عن سوء خلقه ولا يهاجروه. (ش).

فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية، فأيهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنة يوم الحساب.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد، ثم قال: فزت، فرحم الله امرأ ألف بين وليين لنا، يا معشر المؤمنين تألفوا وتعاطفوا.

* الشرح:

قوله (ان الشيطان يغرى بين المؤمنين) دل على ان الهجران من اغراء الشيطان وإن الشيطان مع المؤمنين وأنه لا يفارقهم حتى يخرجهم عن دينهم فإنه غاية مناه ونهاية تمناه. فإذا حصل حصلت له الراحة والفوز بالمطلوب وبحكم المقابلة كان المؤلف بين المؤمنين مرحوما فلذلك قال: (فرحم الله) مصدرا بالفاء.

7 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعيد، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن محفوظ عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يزال إبليس فرحا ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلعت أوصاله ونادى يا ويله، ما لقي من الثبور.

* الشرح:

قوله (فإذا التقيا اصطكت ركبتاه تخلعت أوصاله) أي اضطربت ركبتاه أو ضربت أحديهما الأخرى عند المشي وتفككت أوصاله. وثبر الله الكافر ثبورا من باب قعد أهلكه وثبر هو ثبورا يتعدى ولا يتعدى.

ص:413

باب قطعية الرحم

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في حديث: ألا إن في التباغض الحالقة، لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين.

* الشرح:

قوله (ألا إن في التباغض الحالقة لا أعني حالقة الشعر ولكن حالقة الدين) الحالقة الآلة القاطعة للشعر كالموسي، والمراد بها الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما تستأصل الموسي الشعر، أي في تباغض بعضهم بعضا هلاك دينهم وفساده، وحمل هذا على النهي عن الأمور الموجبة للتباغض والتجانب مثل قطع الرحم وغيره ممكن، وبغض الفاسق لأجل فسقه خارج عنه بدليل خارج.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن حذيفة بن منصور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اتقوا الحالقة فإنها تميت الرجال، قلت:

وما الحالقة؟ قال: قطعية الرحم.

* الشرح:

قوله (اتقوا الحالقة فإنها تميت الرجال قلت وما الحالقة؟ قال: قطيعة الرحم) قطع الرحم ضد صلتها وهو ترك الإحسان إلى الأقربين والتعطف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم. والرحم في الأصل منبت الولد ووعاؤه في البطن ثم سميت القرابة من جهة الولادة رحما، ومنها ذو الرحم خلاف الأجنبي، والمراد بإماتة الرجال إماتة قلوبهم ودينهم أو إفناء حياتهم وآجالهم أو الأعم منهما.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن إخوتي وبني عمي قد ضيقوا علي الدار وألجأوني منها إلى بيت ولو تكلمت أخذت ما في أيديهم، قال: فقال لي: اصبر فإن الله سيجعل لك فرجا، قال:

فانصرفت ووقع الوباء في سنة إحدى وثلاثين [ومائة] فماتوا والله كلهم فما بقي منهم أحد، قال:

فخرجت فلما دخلت عليه قال: ما حال أهل بيتك؟ قال: قلت له: قد ماتوا والله كلهم، فما بقي منهم أحد، فقال: هو بما صنعوا بك وبعقوقهم إياك وقطع رحمهم بتروا أتحب أنهم بقوا وأنهم ضيقوا عليك؟ قال: قلت: إي والله.

ص:414

* الشرح:

قوله (ووقع الوباء قي سنة إحدى وثلاثين) أي في سنة إحدى وثلاثين ومائة حذف لفظ مائة لوضوح الأمر أو سقط من قلم الناسخ الأول.

والباء في قوله: (وبعقوقهم إياك وقطع رحمهم) متعلق بقوله (بتروا) وسبب للتبتير وهو الإهلاك، والتقديم لقصد الحصر.

4 - عنه، عن أحمد، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: في كتاب علي (عليه السلام): ثلاث خصال لا يموت صاحبهن أبدا حتى يرى وبالهن: البغي وقطيعة الرحم واليمين الكاذبة يبارز الله بها، وإن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم وإن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمى أموالهم ويثرون وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها وتنقل الرحم وإن نقل الرحم انقطاع النسل.

* الشرح:

قوله (وإن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم) الثواب: الرجوع والعود، والثواب: الجزاء وأجر المطيع لأنه نفع يعود إليه، وهو اسم من الإثابة أو التثويب وأعظم عوده إليه في الآخرة، وقد يعود إليه في الدنيا أيضا من غير أن ينقص منه شيء في الآخرة مثل نفع التقوى وهو الفوز في الآخرة، ووصول الرزق الموعود في الدنيا ونفع الصلة وهو ما ذكر من طول العمر وغيره وصوله أعجل من وصول نفع التقوى وغيرها، والثروة كثرة المال، وأثرى الرجل أثرا استغنى، والاسم منه الثراء، ولما أشار إلى أن نفع صلة الرحم يأتي صاحبها عاجلا أشار إلى أن ضرر قطعها أيضا يأتي عاجلا بقوله:

(وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها) أي كل واحدة منهما تذر الديار خالية من أهلها، والديار بالكسر البلاد لأنها جامعة لأهلها كالدار، ومنه قولهم ديار ربيعة وديار مضر، ويفهم منه سراية شومها ويمكن أن يراد بالديار دور صاحبهما، وهذا الكلام في اللفظ خبر، وفي المعنى نهي عنهما، وتخويف بسوء عاقبتهما في الدنيا مع فخامة أمرهما في الآخرة، ثم أشار إلى أن قطع الرحم يوجب انقطاع النسل تأكيدا لما سبق بقوله:

(وتنقل الرحم وإن نقل الرحم انقطاع النسل) فاعل «تنقل» ضمير يعود إلى قطيعة الرحم والواو إما للحال عنها، أو للعطف على قوله «وإن اليمين الكاذبة» إن جوز عطف الفعلية على الاسمية وإلا فليقدر، وأن قطيعة الرحم تنقل بقرينة المذكورة لا على قوله «لتذران» وأن هذا مختص بالخطيئة ولعل المراد بنقل الرحم نقلها من القرابة إلى الغرابة، ومن الوصلة إلى الفرقة، ومن التعاون والمحبة

ص:415

إلى التدابر والعداوة، وهذه الأمور من أسباب نقص العمر وانقطاع النسل كما صرح به على سبيل التأكيد والمبالغة بقوله: «وإن نقل الرحم انقطاع النسل» من باب حمل المسبب على السبب مبالغة في السببية، وفيه أيضا تحذير عن القطيعة بسوء عاقبتها في الدنيا أيضا.

5 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عنبسة العابد قال: جاء رجل فشكا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أقاربه، فقال له: أكظم غيظك وافعل، فقال: إنهم يفعلون ويفعلون، فقال: أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر الله إليكم.

* الشرح:

قوله (جاء رجل فشكا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أقاربه فقال له: أكظم غيظك وافعل فقال: إنهم يفعلون ويفعلون فقال: أتريد أن تكون مثلهم فلا ينظر الله إليكم) أمره (عليه السلام) بكظم الغيظ وعدم إجراء الغضب، وهو من فضائل القوة الغضبية وداخل تحت الشجاعة، ثم أمره بالوصل والإحسان إليهم حيث قال «وافعل» فاعتذر السائل بأنهم يقطعون ويظلمون ويستمرون حيث قال «إنهم يفعلون ويفعلون» فكيف يستحقون الوصل والإحسان في مقابلة القطع والعدوان فزجره (عليه السلام) عن ذلك بقوله «أتريد أن تكون مثلهم» في القطع والظلم والطغيان «فلا ينظر الله إليكم» جميعا أي يسلب عنكم رحمته وإثابته في الآخرة وإحسانه وإفضاله في الدنيا، وإذا وصلت فربما يصير وسيلة لرجوعهم إلى الوصل ولو لم يرجعوا اختص عدم النظر بهم.

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تقطع رحمك وإن قطعتك.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تقطع رحمك وإن قطعتك) فكيف إذا وصلتك، ومقابلة الإساءة بالإكرام من صفات الكرام سيما إذا كان المسئ قريبا وفيه مبالغة في صلة الرحم وحث عليها، فإنك إذا قطعتك وقطعتها آل الأمر إلى القطع بالكلية، وأوجب ذلك قصر العمر وضيق الرزق وضنك العيش وتسلط الأعداء بخلاف ما إذا قطعتك ووصلتها، فإن وصلك يوجب زوال قطعها بالأخرة، ولو فرض بقاؤه على القطع كان الإثم والنكال عليه لا عليك.

7 - عدة من أصحابنا، محمد أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه رفعه، عن أبي حمزة الثمالي قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته: أعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء، فقام إليه عبد الله بن الكوا، اليشكري فقال: يا أمير المؤمنين أو تكون ذنوب تعجل الفناء؟ فقال: نعم وتلك قطيعة الرحم، إن أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة فيرزقهم الله، وإن أهل البيت ليتفرقون ويقطع بعضهم

ص:416

بعضا فيحرمهم الله وهم أتقياء (1).

* الشرح:

قوله (وإن أهل البيت ليتفرقون ويقطع بعضهم بعضا فيحرمهم الله وهم أتقياء) أي فيحرمهم الله من طول الأعمار وسعة الأرزاق ورفاهة العيش وإن كان معهم التقوى التي من شأنها التوسعة والإخراج من الضيق كما قال تبارك وتعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) وذلك لأن التقوى لها تأثير في ذلك إذا لم يمنعها مانع وقطع الرحم من أشد الموانع، ويفهم منه أن صلة الرحم أقوى في تيسير المعاش وتوسيع الرزق من التقوى.

8 - عنه، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار.

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار) الأرحام تشمل أرحام رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس قطعوها قديما فجعلوا أموالهم في أيدي أعدائهم الذين هم أشرار الناس ولو وصلوها لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وكذلك قطع الناس أرحامهم سبب لتسلط الأعداء والأشرار عليهم وعلى أموالهم.

ص:417

باب العقوق

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حديد بن حكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أدنى العقوق اف ولو علم الله عز وجل شيئا أهون منه لنهى عنه.

* الشرح:

قوله (أدنى العقوق أف ولو علم الله عز وجل شيئا أهون منه لنهى عنه) إذ المقصود نهى الأدنى ليعلم منه نهى الأعلى بالأولوية. والأف كلمة تضجر وقد أفف تأفيفا إذا قال ذلك، والمراد بعقوق الوالدين ترك الأدب لهما والإتيان بما يؤذيهما قولا وفعلا ومخالفتهما في أغراضهما الجائزة عقلا ونقلا، وقد عد من الكبائر ودل على حرمته الكتاب والسنة وأجمع عليها الخاصة والعامة.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كن بارا واقتصر على الجنة وإن كنت عاقا [فظا] فاقتصر على النار.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كن بارا واقتصر على الجنة وإن كنت عاقا [فظا] فاقتصر على النار) أي اكتف بها، تقول اقتصرت على كذا إذا اكتفيت به، وفي بعض النسخ اقصر وفيه تعظيم أجر البر حتى أنه يوجب الجنة، ويفهم منه أنه يكفر كثيرا من السيئات ويرجح عليها في ميزان الحسنات.

3 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن صالح الحذاء، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة كشف غطاء من أغطية الجنة فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام إلا صنف واحد، قلت: ومن هم؟ قال:

العاق لوالديه.

* الشرح:

قوله (العاق لوالديه) أي لواحد منهما وذلك ظاهر أن أريد بالعقوق الفرد الكامل منه كالقتل. إذ الظاهر أنه يوجب سلب الإيمان وإلا فالحمل على التشديد محتمل، والله أعلم.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فوق كل ذي بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر، وإن فوق كل

ص:418


1- 1 - قوله «فيحرمهم الله وهم أتقياء» من لوازم التعاون والتواسي بين الأرحام كثرة المال وسعة الرزق سواء كان المتواسون أتقياء أو فجرة ولازم العكس العكس، كما أن من لوازم البطالة والكسل الحرمان ومن لوازم الجد والكسب كثرة المال نوعا سواء كان التاجر مؤمنا أو كافرا، وعلى هذا فلا يدل الخبر على جواز الموادة والمعاشرة مع الفجرة والفساق خصوصا إذا خاف من سراية أخلاقهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة إلى نفسه وإلى أهل بيته فإنا مكلفون بمحادة من حاد الله وإن كان من أقرب الأقرباء قال الله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) ومع ذلك لا أرى تجويز قطع الرحم مطلقا حينئذ بل كل صلة لا تستلزم موادة ولا تنافي النهي عن المنكر، مثلا ان كانوا فقيرا فأحسن إليهم وأعطاهم شيئا يسد خلتهم من غير أن يظهر مودة قلبية تغريهم أو كانوا في مهلكة نجاهم منها لنفوسهم المحترمة أو كانوا مظلومين وقدر على دفع الظلم عنهم فدفع وأمثال ذلك لم يكن به بأس وإن كانوا فساقا وهذه صلتهم أو كما أن قولهم (عليهم السلام) تسعة أعشار الرزق في التجارة يشمل ظاهره كل تجارة ولا يدل على تجويز التجارة المحرمة كذلك الحث على صلة الرحم وكونها منماة للمال لا يوجب جواز كل معاشرة محرمة مع الفساق كالحضور في مجلس لهو هم وشربهم وإن كان التعاون يوجب كثرة الرزق فتدبر. كان في أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) من يقاتل أقاربه كأبيه وأخيه، وقد قتل كعب بن الأشرف اليهودي من بني النضير أخوه من الرضاعة وهو مسلم قتله غيلة على ما هو مشهور، فإن قيل كيف هذا وقد منع الاسلام عن القتل غيلة وقد ذكرت سابقا (ص 373) أن أصحاب المروات أيضا يستقبحون قتل المستأمن والغافل ومن لا يحتمل الخيانة فلا يحترز فكيف قتل كعب بن الأشرف غيلة. قلنا هنا كانت الحرب قائمة ولم يكن أحد منهم يتوقف الفتك بالمسلمين مهما أمكنهم وكان مقام تحرز ومكيدة ولو كان أحد منهم استجار بالمسلمين لم يتعرضوا له حتى يبلغوه مأمنه. (ش).

عقوق عقوقا حتى يقتل الرجل أحد والديه فإذا فعل ذلك فليس فوقه عقوق.

* الشرح:

قوله (فوق كل ذي بر بر) البر الثاني بفتح الباء أو بكسرها مع حذف مضاف وهو ذو مع احتمال عدمه.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة.

* الشرح:

قوله (من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة) فكيف إذا كانا بارين محقين وهما أيضا آثمان لأنهما حملاه على العقوق، ولعل المراد بعدم قبول الصلاة عدم الثواب عليها كاملا وعدم كونها وسيلة للقرب منه تبارك وتعالى إلا أن يرضيهما لا عدم الخروج من التكليف.

6 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن فرات، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلام له: إياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء إنما الكبرياء لله رب العالمين.

* الشرح:

قوله (فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام) لا ينافي ما مر من أن ريح الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام لأنه يختلف ذلك باختلاف كشف الأغطية. فلعل هذا من كشف غطائين والسابق من كشف غطاء واحد كما هو المصرح به. ثم الظاهر أن الرجل بسبب هذه الذنوب لا يخرج عن الإيمان بالكلية فلابد فيه من التأويل بأنه يفعل ذلك مستحلا أو بأنه لا يجد ريحها ابتداء حتى يمضي فيه الوعيد أو بغيرهما، والظاهر أن «خيلاء» حال عن فاعل جار أي جار ثوبه على الأرض متبخترا متكبرا مختالا أي متمايلا في جانبيه وأصله من المخيلة، وهي القطعة من السحاب تميل في جو السماء هكذا وهكذا، كذلك المختال يتمايل لعجبه بنفسه وكبره وهي مشية المطيطا ومنه قوله تعالى (ذهب إلى أهله يتمطى) أي يتمايل مختالا متكبرا كما قيل. وأما إذا لم يقصد بإطالة الثوب وجره على الأرض الاختيال والتكبر بل جرى في ذلك على رسم العادة، فالظاهر أنه أيضا

ص:419

غير جايز لوجوه أخر منها مخالفة السنة وشعار المؤمنين المتواضعين كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إزرة المؤمنين إلى نصف الساق فإن أبى فإلى ما فوق الكعبين فما زاد على ذلك ففي النار» ومنها الإسراف في الثوب بما لا حاجة فيه ومنها أنه لا يسلم الثوب الطويل من جره على النجاسة تكون بالأرض غالبا فيختل أمر صلاته ودينه فإن تكلف رفع الثوب إذا مشى تحمل كلفة كان غنيا عنها ثم يغفل عنه فيسترسل، ومنها أنه يسرع البلى إلى الثوب بدوام جره على التراب والأرض فيخرقه وسخها إن لم ينجس.

7 - عنه، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد [السلمي]، عن أبيه، عن جده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لو علم الله شيئا أدنى من اف لنهى عنه وهو من أدنى العقوق ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر إليهما.

* الشرح:

قوله (ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحد النظر اليهما) يحتمل أن يكون هذا من الأدنى ويساوي الأف في المرتبة وأن يكون الأف أدنى بحسب القول وهذا أدنى بحسب الفعل.

8 - علي، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أبي نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي والابن متكئ على ذراع الأب، قال: فما كلمه أبي (عليه السلام) مقتا له حتى فارق الدنيا.

* الشرح:

قوله (فما كلمه أبي (عليه السلام) مقتا له حتى فارق الدنيا) الظاهر أن الضمير راجع إلى الابن وأنه اتكاء على الأب بدون رضاه أو أنه (عليه السلام) علم أن الابن فعل ذلك تكبرا واختيالا، ومن هذا يعلم أن العقوق أمره دقيق.

9 - أبو علي الأشعري، عن أحمد بن محمد، عن محسن بن أحمد، عن أبان بن عثمان، عن حديد بن حكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أدنى العقوق اف ولو علم الله أيسر منه لنهى عنه.

ص:420

باب الانتفاء

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق.

* الشرح:

قوله (كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق) أي وإن دق ثبوته أو خفض لا ريب في أن إلحاق كل رجل بنسبه واجب، ولكن الظاهر أن ترك الواجب ليس بكفر مخرج عن أصل الإيمان فلعل ذلك بما إذا كان مستحلا لأن مستحل قطع الرحم كافر، ومما يدل على هذا التأويل ما سيجيء في باب الكفر عن الصادق (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل فرض على العباد فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمور فليس من ترك بعض ما أمر الله عز وجل به عباده من الطاعة بكافر ولكنه تارك للفضل منقوص من الخير» ويمكن أن يراد بالكفر كفر النعمة لأن قطع النسب كفر لنعمة المواصلة أو يراد به أنه شبيه بالكفر لأن هذا الفعل يشبه فعل أهل الكفر لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية ولا فرق في ذلك بين تبري الوالد من الولد أو بالعكس، أو تبري بعض الأقارب من بعض، وسيجئ نظير ذلك في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي المغرا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق.

3 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن ابن أبي عمير، وابن فضال، عن رجال شتى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: كفر بالله العظيم الانتفاء من حسب وإن دق.

ص:421

باب من آذى المسلمين واحتقرهم

اشاره:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن. ولو لم يكن من خلقي في الأرض فيما بين المشرق والمغرب إلا مؤمن واحد مع إمام عادل لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي ولقامت سبع سماوات وأرضين بهما ولجعلت لهما من إيمانهما انسا لا يحتاجان إلى انس سواهما.

* الشرح:

قوله (قال الله عز وجل ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن -... إلى آخره) أي ليعلم من أذنت بالشيء علمت به، والمراد بالعبد المؤمن شيعة علي وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) كما في رواية معاوية الآتية عن أبي عبد الله (عليه السلام) وبالأذى: الأذى الذي لم يجوزه الشارع وأما ما جوزه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو خارج عنه بدليل خارج، وبالإكرام: الإكرام خلقا وقولا وفعلا، ومنه جلب النفع له ودفع الضر عنه وبالاستغناء بعبادة مؤمن واحد مع إمام عادل «مع أنه عز وجل غني مطلق لا حاجة له إلى عبادة أحد» قبول عبادتهما وجعلها ذخرا لهما وسببا لنظام العالم.

2 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن منذر بن يزيد، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الصدود لأوليائي فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جهنم.

* الشرح:

قوله (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الصدود لأوليائي فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم - ... إلى آخره) أي أين المعرضون عن الأولياء المعادون لهم أو أين المانعون لهم عن حقوقهم أو أين المستهزئون بهم، والصد جاء لهذه المعاني كما يظهر من مصباح اللغة ولعل المراد بخلو وجوههم عن اللحم لأجل أنه ذاب من الغم وخوف العقوبة، أو من خدشه بأيديهم تحسرا وتأسفا، ويؤيده ما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «مررت ليلة أسري بقوم لهم أظفار من نحاس يخدشون وجوههم

ص:422

وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم».

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن حماد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي.

* الشرح:

قوله (قال الله تبارك وتعالى من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي) المراد بالولي المحب وهو الذي ولي حقوقه سبحانه بنفسه ومهجته ظاهرا، وصرف وجه قلبه وفؤاده إليه باطنا فهو في كنفه وحماه، منقطع إليه عما سواه، محفوف بالكرامة في منقلبه ومثواه، أي من استحقر واستخف وليا لي وأعرض عنه ومنع حقه وترك توقيره وتعظيمه فقد هيأ نفسه لمحاربتي وذلك لأنه تعرض لحرمة الله واستهان بكرامته ورام خفر ذمته وعرض نفسه للهلاك في الدارين بترك متابعته وإنما سماه محاربا لأن المحاربة هي سلب الأموال والأنفس فكأن هذا المهين لولي الله عز وجل يريد أن يسلب من والي ما أنعم الله عليه من كرامته وأن يضع ما رفع من مرتبته وهو مشغول بمولاه عن نصرة نفسه، والله تعالى يغار عليه كما غار وليه أن يذهب وقتا من أوقاته مع غيره، وقد روي «أن الله تعالى ينتقم لأوليائه ممن عاداهم وقصدهم، ومن حارب الله حربه وحطمه ومن خاصمه خصمه وقصمه» ومن فوائد هذا الكلام التحذير التام لأذى واحد من المؤمنين صغيرا وكبيرا خشية أن يكون ذلك الولي فيهلك مؤذيه ويتعرض لسخط ربه. يدل عليه أيضا ما رواه الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إن الله أخفى وليه في عباده فلا تستصغروا شيئا من عباده فربما يكون وليه وأنت لا تعلم» ومنها التنبيه على إكرام من أقبل على الله من أهل ولايته، ومنها الترغيب في سلوك طريق ولي الله ومتابعته.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن محمد بن أبي حمزة، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من حقر مؤمنا مسكينا أو غير مسكين لم يزل الله عز وجل حاقرا له ماقتا حتى يرجع عن محقرته إياه.

* الشرح:

ص:423

قوله (من حقر مؤمنا مسكينا أو غير مسكين) أظهر تحقيره أو لم يظهره والاظهار إما بقول كرهه أو بالاستهزاء به أو بضربه أو شتمه أو بفعل يستلزم إهانته أو بترك قول أو ترك فعل يستلزمها وأمثال ذلك.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن معلى بن خنيس قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك وتعالى يقول: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي.

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل قد نابذني من أذل عبدي المؤمن.

* الشرح:

قوله (قال الله عز وجل قد نابذني من أذل عبدي المؤمن) نابذتهم خالفتهم ونابذتهم الحرب كاشفتهم إياها وجاهرتهم بها.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، جميعا، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن حماد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها. إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موت المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته.

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي) لما قدم ذكر اختصاص الأولياء إليه وبين أن نصرتهم معدة بين يديه أشار إجمالا إلى طريق الوصول إلى درجة الولاية من بداية السلوك إلى النهاية بقوله:

(وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضت عليه) أي ما تحبب إلي، ولا طلب القرب لدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وظاهر الموصول هو الفرض بالأصالة وحمله عليه وعلى ما

ص:424

أوجبه المكلف على نفسه بنذر وشبهه ممكن، وهذا صريح في أن المفروضات أعظم ثوابا وأتم قربا من المندوبات إلا ما خرج بدليل، والسبب في ذلك أن الله عز وجل هو الأعلم بالأسباب التي تقرب العبد إلى محبته وكرامته وتبلغه إلى مرتبة رضاه وولايته فجعل أكبر تلك الأسباب وأعظمها الفرائض وأوعد بالنار على التضييع بها والتفريط فيها فيجب على السالك المبادرة إلى أدائها والمبالغة في أحكامها وعدم اشتغال عنها بالنوافل لأن النوافل لا تقبل حتى تؤدي فريضة حق الأداء، ثم رتب على أداء الفرايض فعل النوافل لتكميل الفرائض وزيادة التقرب ودوام التحبب وقال: (وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه) وذلك لأن السالك لو لم يشتغل بعد أداء الفرائض بالنوافل وضيع باقي أوقاته في المباحات ولذاتها وأظلم قلبه بزهرات الدنيا وشهواتها بعد عن المولى بعبادة الهوى، ولم تصف الفرائض له في وقت الأداء ونقصت عن حد الكمال وفاته كمال التقرب والتحبب بخلاف ما إذا اشتغل بالنوافل فإنه يوجب كمال الفرائض وزيادة القرب ودوام التحبب، وهكذا حتى يبلغ مرتبة كمال المحبة فلا يحب إلا الله، والله عز وجل يحبه.

ومعنى محبة الله تعالى للعبد كما ذكره شيخ العارفين في الأربعين هو كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه من أن يطأ على بساط قربه فإن ما يوصف به سبحانه إنما يؤخذ باعتبار الغايات لا باعتبار المبادي وعلامة حبه سبحانه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور، والترقي إلى عالم النور، والأنس بالله والوحشة مما سواه وصيرورة جميع الهموم هما واحدا انتهى.

وفي قوله «إلي» في الموضعين حيث لم يقل إلى جنتي ولا إلى ثوابي وكرامتي ولا إلى بري به وصلتي دلالة واضحة على أنه ينبغي للسالك العابد أن يقصد بعبادته ذاته عز وجل لا عوضا عليها ولا جزاء فإن العوض والجزاء غيره تعالى ومن كانت عبادته للأغيار لم تصف محبته للولي الجبار.

كما قيل لن يصل العبد إلى حقيقة الحرية وقد بقي عليه من غير الله بقية. ثم أشار إلى شرف منزلة المحبة وبعض آثارها بقوله:

(فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته) ليس المراد ما يفيده ظاهر (1) هذه العبارة من الاتحاد لاستحالته نقلا وعقلا لأن هذه الأعضاء مختلفة الحقائق والآثار،

ص:425


1- 1 - قوله «ليس المراد ما يفيده ظاهر» لأن العبارة إذا دلت على معنى مستحيل لا يليق أن يتفوه المتكلم بها أو كان في سائر عباراته وكلامه ما ينافيه فلابد أن يكون مراده بالعبارة الأولى معنى غير مستحيل يصح العبارة عنه بتلك العبارة واتحاد الاثنين معنى مستحيل لا يمكن أن يلتزم به عاقل، وقد حكى ابن سينا عن عوام الصوفية وأبطل القول به في النمط السابع من الإشارات وصرح أعاظم الصوفية وعلمائهم بأن مرادهم بالاتحاد ليس ما يتبادر إلى أذهان الأكثرين وفي أبيات الشبستري: تعين بود كز هستي جدا شد * نه أو بنده نه بنده خود خدا شد وفي كلام محيي الدين ابن عربي وهو من أشد المصرين على الاتحاد تصريحات كثيرة بتحقق الكثرة في التعينات أي الممكنات تجعل قرينة على أن مراده بالاتحاد غير ما توهمه عوام الصوفية على ما نقل، وكلامه في الاتحاد ممزوج مع الحكم بالتعدد وفي الفص الإبراهيمي بشرح القيصري: «فالحكم لك بلا شك في وجود الحق وذلك لأن وجود الحق من حيث هو هو واحد لا تعدد فيه فالتعدد والتنوع والاختلاف من أحكام مرايا الأعيان في الوجود الحقاني». ثم قال: «إن ثبت أنك موجود أي بالوجود الفائض عليك من الحق تعالى فالحكم لك بلا شك» وأمثال ذلك كثيرة جدا في كلامه في كتبه فثبت أن الاتحاد المتوهم ليس مذهبا لعرفائهم وحكمائهم وعلمائهم وأن ما تفوهوا به ليس إلا عبارة عن معنى صريح نظير ما ذكره الشارح وغيره من العلماء في تفسير هذا الحديث وأمثاله، وما يقال أن ظاهر كلامهم الاتحاد وهم مأخوذون بالظاهر، قلنا: الظاهر حجة إذا لم يكن قرينة عقلية أو نقلية متصلة أو منفصلة على إرادة خلاف الظاهر، وإذا كان كلام القائلين مملوة من قرائن تدل على عدم إرادة معنى مستحيل ولا يحتمل منهم الالتزام به فالتمسك بظاهر باطل خارج عن الطريق المستقيم. قال الشارح: لابد فيه من تأويل وذلك لأن الحديث ليس مما يحتمل فيه الوضع والجعل لبعد هذه المعاني عن أذهان عامة الناس ولأنه مروي باتفاق الفريقين وإسناد مستفيض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروته العامة في صحاحهم وأصحابنا في كتبهم وتكلموا فيه كثيرا، وأشار الشارح في المجلد الأول إلى معنى الفناء وذكرنا هناك ما يؤيده وأورد العلامة المجلسي كلام الشيخ بهاء الدين العاملي في معنى الحديث وجميع ما ذكره في مرآة العقول بطوله لا يخرج من كلامه ولا حاجة بنا إلى نقل ما فيه، ويكفي ما أورده الشارح هنا ان شاء الله جزاهم الله عن الدين وأهله خير الجزاء ولا بأس بأن نشير إلى نكتة هنا وهي أن الالفاظ الموضوعة في اللغة العربية وسائر اللغات إنما يتبادر منها المعنى الجسماني ولعل الواضع الأول لم يضع الألفاظ إلا له كالتباين والتفارق والتقارن والوصول فإنها تدل على المكاني منها وهي معروفة في الأجسام فجسم يباين جسما لأنه في حيز وذاك في حيز آخر بعيد عنه أو قريب منه، وقد يكون معنيان في حيز واحد كالحرارة والنور في شعلة السراج، ولابد من اتحاد المكان. وأما المجردات التي لامكان لها كالنفوس والعقول فإذا أطلق هذه الألفاظ عليها يتبادر الذهن منها إلى خلاف المقصود بمعنى أنه ليس تقارن النفس والعقل حلولا نظير النور والحرارة ولا تباين نفس عن نفس بالمكان وليس إدراك أحداهما الأخرى وشعورها بها بالتماس ولا جهلها بها وعدم اطلاعها عليها بالحجاب والبعد كما يتبادر من هذه الألفاظ ولابد من التعبير عن المقصود بلفظ يقرب المعنى إلى الذهن ولا يحصل إلا بالتشبيه مهما أمكن والتشبيه لا يستلزم التشريك في جميع الصفات كما إذا أردنا تشبيه خلق السماء والأرض بالباني الذي يبني البيت فإن وجه الشبه أصل الفعل لا عدم احتياج المخلوق إلى الله بعد حصول الوجود وإذا شبهنا بالشمس والنور فوجه الشبه احتياج السماء والأرض إلى خالقهما بقاء كاحتياج النور إلى الشمس لا في عدم الاختيار في إفاضة النور، وكذلك يحتاج الحكيم إلى التعبير عن حال الإنسان بعد استكماله في العلوم الكلية فإنه سريع الاقتناض من العقول وشديد الارتباط مع الملأ الأعلى ولم يكن ربطه حال الصبى كذلك والنائم الذي يرى الرؤيا الصادقة شديد الارتباط مع الروحانيين العالمين بالغيوب وليس هذا الربط في اليقظة وليس الربط والاتصال معنى جسمانيا، بل هو معنى لم يوضع له في اللغة كلمة خاصة به لا يتبادر منه إلا المعنى العلي فاستعير لفظ بدل على معنى أقرب إليه كالفناء والاتحاد والمحو والوصول فإن الرابطة بين النفس والعقل أشد من رابطة المتعلم والمعلم وقريب من الاتحاد كأن ذهن المتعلم دخل في ذهن المعلم ورأى في ذهن معلمه ما استعد لفهمه، والتعبير بالاتحاد والفناء أقرب إلى هذا المقصود من التعبير بما يفيد القرب وأمثاله ولا يوجب ذلك تحير المستمع بعد أن أقاموا قرائن كثيرة على عدم إرادة اتحاد نظير اتحاد جسم وجسم حلول عرض وحالة في جسم كما أقاموا قرائن كثيرة على عدم إرادتهم من تشبيه بناء العالم ببناء البيت استغناء العالم عن الله تعالى في بقاء الوجود. وأما الاتحاد الذي يفهم العامة من هذا اللفظ فلا يتصور إلا بين جسمين فكأنهم تصوروا إله العالم جسما والمخلوق جسما آخر أو إله العالم عرضا وحالة والمخلوق جسما أو بالعكس وجميع ذلك غير معقول وللعوام وتدخلهم في الدين ضرر عظيم فقد أوجب بدع العوام الصوفية ودعاويهم وما لا يعرفون تنفير الناس عن كثير من العبادات ومحاسن الشريعة فلا يرغب أحد في تهذيب النفس وتحسين الأخلاق والرياضات المشروعة والأذكار والأدعية وعرض عيوب نفوسهم على البصراء بأدواء القلب والاستعلاج حذرا من التشبه بالصوفية. قد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يختار أشق الأمور على نفسه حتى المباحات فإذا كان شيئا كلاهما مباحين يختار أبعدهما عن اللذة. والرياضة حسنة على كل حال. (ش).

ص:426

واستحالة اتحاد شيء من الأشياء معها أمر ضروري لا يقبل الإنكار. فلابد فيه من تأويل والذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أني إذا أحببته كنت كسمعه الذي يسمع به وكبصره - إلى آخره - في سرعة الإجابة، وقوله:

«إن دعاني أجبته» إشارة إلى وجه التشبيه يعني أني أجيبه سريعا إن دعاني إلى مقاصده كما يجيبه سمعه عند إراداته سماع المسموعات وبصره عند إرادته إبصار المبصرات، وهكذا، وهذا مثل قول الناس المعروف بينهم: فلان عيني ونور بصري ويدي وعضدي وإنما يريدون به التشبيه في معنى من المعاني المناسبة للمقام، ويسمون هذا تشبيها بليغا بحذف الأداة مثل زيد أسد. ويمكن أن يكون فيه تنبيه على أنه عز وجل هو المطلوب لهذا العبد المحبوب عند سمعه للمسموعات وبصره للمبصرات وهكذا. يعني مني يسمع المسموعات وبها يرجع إلي والمقصود أنه يبتدئ بي في سماع المسموعات وينتهي إلي فلا يصرف شيئا من جوارحه فيما ليس فيه رضاي، وإليه أشار بعض الأولياء بقوله: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، وقال شيخ العارفين في الأربعين في تأويله:

هذا مبالغة في القرب وبيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد وباطنه وسره وعلانيته.

فالمراد - والله أعلم - اني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الأنس، وصرفته إلى عالم القدس، وصيرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت، وحواسه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت فتثبت حينئذ في مقام القرب قدمه ويمتزج بالمحبة لحمه ودمه إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسه فتتلاشى الاغيار في نظره حتى أكون بمنزلة سمعه وبصره كما قال من قال:

ص:427

جنوني فيك لا يخفى، ونارى منك لا تخبو * فأنت السمع والإبصار والأركان والقلب أقول: هذا قريب مما نقل عن صاحب الشجرة الإلهية أنه قال فيها كما أن النفس في حال التعلق بالبدن تتوهم أنها هي البدن أو أنها فيه وإن لم تكن هو ولا فيه فكذلك النفس الكاملة إذا فارقت البدن وقطعت تعلقها من شدة قوتها ونوريتها وعلاقتها العشقية مع نور الأنوار، والأنوار العقلية تتوهم أنها هي فتصير الأنوار مظاهر النفوس المفارقة كما كانت الأبدان أيضا فهذا هو معنى الاتحاد لا بمعنى صيرورة الشيئين شيئا واحدا فإنه باطل، وقيل المعنى لا يسمع إلا بحق وإلى حق، ولا ينظر إلا بحق وإلى حق ولا يبطش إلا بإذن الحق، ولا يمشي إلا إلى ما يرضى به الحق وهو المحق الولي والمؤمن حقا الذي راح عنه كل باطل وصار واقفا مع الحق. وهو قريب مما ذكرناه ثانيا. ثم نبه على جلالة قدره وعلو منزلته عنده وكمال عطفه ورحمته عليه عند وفاته آخر أمره بقوله: (وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي عن موت المؤمن يكره الموت وأكره مساءته) قد مر شرحه في آخر باب «الرضا بموهبة الإيمان» فلا نعيده.

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ليتقرب إلي بالنافلة حتى احبه فإذا أحببته كنت إذا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته.

* الشرح:

قوله (لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) قال يا رب ما حال المؤمن عندك) أي ما قدره ومنزلته وأسري بالبناء للفاعل والمفعول من السري على وزن الهدي وهو السير في الليل ويكون أوله وأوسطه وآخره. يقال سريت الليل وسريت بالليل إذا قطعته بالسير واسريت بالألف لغة حجازية ويستعملان متعديين بالباء إلى المفعول فتقول سريت بزيد وأسريت به إذا جعلته سايرا في الليل وتقييده بالليل في قوله عز وجل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) للدلالة بتنكير الليل على تقليل مدة الإسراء مع أن المسافة بين المسجدين مسير أربعين ليلة كما

ص:428

صرح به شيخ العارفين وغيره، ثم بعد ما أشار عز وجل إلى أنه منتقم للمؤمن من أعدائه وناصر له ورؤوف به أشار بقوله:

(وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك) إلى أن كل ما يفعله به من الغنى والفقر وغيرهما فهو خير له وأصلح بحاله وأحفظ له من الفساد والهلاك، وإلى ترغيبه في الحمد والشكر في جميع الحالات. والأولى أن من عبادي اسم أن بتقدير البعض، ومن الموصولة خبرها دون العكس لعدم الفائدة في الإخبار كما قيل في قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) وإنما أكد مضمون الجملة بأن لكونه في محل التردد أو الإنكار لأن أكثر الخلق مترددون فيه بل ربما ينكره بعضهم وكون الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) وهو أعلمه بأن أفعال الله تعالى مبنية على الحكم والمصالح لا يخرجه عن مقام التأكيد لأنه باطنا لغيره كما قيل في قوله تعالى: (ولئن أشركت ليحبطن عملك) وانما فصل قوله «لو صرفته» عما قبله لأنه كاشف مبين له إذ كون هلاك دينه في الفقر مثلا يبين كون صلاحه في الغنى فبينهما كمال الاتصال كما صرح به الشيخ رحمه الله.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

من استذل مؤمنا واستحقره لقلة ذات يده ولفقره شهر الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق.

10 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن معاوية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد أسرى ربي بي فأوحى إلي من وراء الحجاب ما أوحى وشافهني [إلى] أن قال لي: يا محمد من أذل لي وليا فقد أرصدني بالمحاربة ومن حاربني حاربته، قلت: يا رب ومن وليك هذا؟ فقد علمت أن من حاربك حاربته، قال لي: ذاك من أخذت ميثاقه لك ولوصيك ولذريتكما بالولاية.

11 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: من استذل عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في عبدي المؤمن، إني احب لقاءه فيكره الموت، فأصرفه عنه وإنه ليدعوني في الأمر فأستجيب له بما هو خير له.

* الشرح:

قوله (إني أحب لقاءه فيكره الموت فأصرفه عنه) أي فأصرف الموت عنه بتأخير أجله أو

ص:429

أصرف كره الموت عنه بإظهار اللطف والكرامة والبشارة بالجنة على وجه يزيل عنه كراهته ويرغب في الانتقال إلى دار القرار، ثم أشار عز وجل إلى أنه يختار له ما هو أصلح في دينه ودنياه بقوله:

(وإنه ليدعوني في الأمر فأستجيب له بما هو خير له) أي أستجيب له ذلك الأمر إن كان خيرا له أو أستجيب له بدلا من ذلك الأمر بما هو خير له فيكون من باب تلقي السايل بغير ما يطلبه للدلالة على أن ذلك الغير أحسن بحاله وأنفع له.

ص:430

فهرس الآيات

(اتقوا الله حق تقاته) آل عمران: 102... 267

(اخسؤوا فيها ولا تكلمون) المؤمنون: 108... 328

(إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم

نائمون) القلم: 17... 247

(إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106... 122 - 124

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) البقرة: 146... 269

(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) البقرة: 275... 274 -

276

(الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) الشورى: 37... 263 - 274

(الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الآخرة) آل

عمران: 77... 274

(الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) الرعد: 21... 16 -

10 - 17

(المال والبنون زينة الحياة الدنيا) كهف: 46... 117

(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما

واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) الاسراء: 23... 19

(إن إبراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) النحل: 120... 186

(إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال: 58... 287

(ان الله لا يحب الفرحين) القصص: 76... 146

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) النساء: 116... 261 - 379 - 272

(إنا لله وإنا إليه راجعون) البقرة: 156... 338

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13... 374

(إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان: 19... 174

(إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) البقرة: 271... 292

(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) النساء: 31... 257

ص:431

(إن ربك لبالمرصاد) الفجر: 14... 379

(إن سرق فقد سرق أخ له من قبل سرقة) يوسف: 77... 119

(إن كتاب الفجار لفي سجين) المطففين: 7... 294

(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص: 56... 110

(انما المؤمنون إخوة) الحجرات: 10... 199

(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الأنفال:... 167

(إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) النساء: 10... 274

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر: 28... 349

(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) الأعراف: 196... 382

(إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن

الله لطيف خبير) لقمان: 16... 246

(ان هدى الله هو الهدى) البقرة: 120... 134

(إن هم إلا كالأنعام) الفرقان: 44... 269

(اني لاجد ريح يوسف) يوسف: 94.... 36

(اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25... 274

(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) البقرة: 44... 305

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت: 2... 213

(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) المائدة: 54... 172

(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99... 110

(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الفرقان: 43... 245

(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان) يس: 60... 346

(أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) الزمر: 60... 372

(أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) الحج: 48... 23

(أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على

الكافرين) الأعراف: 50... 191

(أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) النور: 7... 287

(أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة) البلد: 16... 91

ص:432

(أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة) القصص: 54... 118

(أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) الانعام: 53... 152

(أيتها العير إنكم لسارقون) يوسف: 70... 119 - 403

(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا

يشعرون) المؤمنون: 57... 225

(أيمسكه على هون) النحل 59... 162

(بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار) الحديد: 12... 299

(بل الإنسان على نفسه بصيرة) القيامة: 14... 293 - 295 - 293 - 297

(بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء: 63... 403 - 408

(تقتلون النبيين بغير حق) البقرة: 61... 275

(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن

مريم البينات وأيدناه بروح القدس) البقرة: 253... 269

(ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) السجدة: 8... 370

(جنتين ذواتي أكل خمط وشئ من سدر قليل) النبأ: 16... 253

حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 52... 19

(خذ العفو وأمر بالعرف) الأعراف: 199... 182 - 366

(خلقتني من نار وخلقته من طين) الانعام: 2... 322

(ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) سبأ: 17... 252

(ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله) الحج: 60... 153

(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) الممتحنة: 5... 225

(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الأحزاب: 23... 198

(رحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: 156... 265

(زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) التغابن: 7... 407

(سأل سائل بعذاب) المعارج: 1... 6

(سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) الأعراف: 182... 214

(سنكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) الجن 26... 246

(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) الجن: 26... 182

ص:433

(عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ق: 17... 233

(غرف فوقها غرف مبنية) الزمر: 20... 79

(فأخرج إنك من الصاغرين) الأعراف: 13... 322

(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43... 152

(فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) القصص: 8... 331

(فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) التوبة: 35... 274

(فجزاؤه جهنم خالدا فيها) النساء: 93... 274

(فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من) يوسف: 36... 405

(فذلكن الذي لمتنني فيه) يوسف 32... 346

(أفرأيت من اتخذ إله هواه) الفرقان: 43... 346

(فرحين بما آتاهم الله من فضله) آل عمران: 170... 146

(فكبكبوا فيها هم والغاوون) الشعراء: 94... 305

(فلا تكونن من الممترين) البقرة: 147... 269

(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) الأعراف: 99... 274

(فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل

منها) الزخرف: 53... 225

(فما أصبرهم على النار) البقرة: 175... 242

(فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه

أحدا) الكهف: 101... 292 - 379

(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما

يصعد في السماء) الانعام: 125... 112

(فوقاه الله سيئات ما مكروا) غافر: 45... 115

(قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال

الذين) الانعام: 124... 339

(قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف: 12... 283

(قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) الشعراء: 177... 152

(فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) سبأ: 19... 252

ص:434

(قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) النساء: 14... 174

(قل انما أنا بشر مثلكم يوحى) الكهف: 110... 299

(قل رب زدني علما) طه: 114... 156

(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) الانعام: 63... 382

(كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف: 3... 305

(كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) المطففين: 14... 251

(كل حزب بما لديهم فرحون) المؤمنون: 53... 146

(لأقعدن لهم صراطك المستقيم) الأعراف: 16... 202

(لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) النور: 23... 274

(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92... 19

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء: 22... 367

(ليميز الله الخبيث من الطيب) آل عمران: 179... 174

(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء) الشورى: 52... 26

(ما من دابة إلا على الله رزقها) هود: 6... 348

(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ق: 18... 60 - 63

(معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) يوسف: 79... 405

(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام: 160... 76 - 83 - 296

(من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة

والناس) الناس: 4... 238

(من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس

جميعا) المائدة: 32... 105

(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة

من نصيب) الشورى: 20... 337

(من يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا) البقرة: 269... 272

(نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) الزخرف: 32... 350

(واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم) لقمان: 15... 24

(واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: 16.... 17 - 6 - 16

ص:435

(واجعل لي لسان صدق في الآخرين) مريم: 50.... 9

(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الفرقان: 63... 357

(وإذا مروا باللغو مروا كراما) الفرقان: 72... 357

(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في) الانعام: 68... 174

(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) المنافقون: 4... 179

(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن

مستهزئون) البقرة: 14... 169

(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) مريم: 54... 287

(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103... 411

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) عنكبوت: 69... 134

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم) التوبة: 34... 277

(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما

مبينا) النساء: 20... 76

(وامتازوا اليوم أيها المجرمون) يس: 59... 174

(وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك) البقرة: 146... 269

(وإني لغفار لمن تاب) طه: 82... 266

(وأعد له عذابا عظيما) النساء: 93... 275

(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات: 40... 388

(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم: 39... 24 - 348

(وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22... 237 - 266 - 269 - 271

(وبالوالدين إحسانا) البقرة: 83... 19 - 22

(وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون) الأنبياء: 103... 95

(وجعلني مباركا أينما كنت) مريم: 31... 31

(وشاركهم في الأموال والأولاد) الاسراء: 64... 358

(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) غافر: 28... 211

(وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء فنعم أجر

العاملين) الزمر: 74... 72

ص:436

(وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ) النساء: 140... 70

(وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) الاسراء: 23... 22

(وقولوا للناس حسنا) البقرة: 83... 30

(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) الانعام: 129... 385

(وكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: 35... 341

(ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) البقرة: 264... 333

(ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص: 24... 389

(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) البقرة: 224... 104

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط...) الاسراء: 29... 46

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله

من فضله) آل عمران: 170... 25

(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود: 113... 231 - 384

(ولا تزر وازرة وزر أخرى) الانعام: 164... 382

(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الانعام: 108... 21

(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كانه

ولي حميم) فصلت: 34... 121

(ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) الاسراء: 37... 149

(ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون) يوسف: 87... 266

(ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) البقرة: 267... 271

(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) الأعراف: 130... 175

(ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق) البقرة: 102... 274

(ولكن البر من اتقى) البقرة: 189... 21 - 153

(وللبسنا عليهم ما يلبسون) الانعام: 9... 389

(ولمن انتصر بعد ظلمه) الشورى: 41... 357

(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) آل عمران: 135... 281

(ولو كان بهم خصاصة) الحشر: 9... 98

(ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159... 181

ص:437

(ولولا أن يكون الناس أمه واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم

سقفا) الزخرف: 33... 191 - 230

(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله) النساء: 9... 383

(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر: 7... 61

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30... 242

(وما أنا بظلام للعبيد) آل عمران: 182... 139

(وما قدروا الله حق قدره) الانعام: 91... 61

(ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) الانسان: 26... 160

(ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا المائدة: 32... 91

(ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا) النحل: 70... 269

(ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) (إنه لا ييأس من روح الله) مائدة 72... 274

(ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة) آل عمران: 161... 274

(ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهانا) هود: 20... 274

(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) النساء: 93... 275

(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) البقرة: 283... 274

(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9... 98

(ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم)

وبئس المصير) الأنفال: 16... 274

(ونزعنا ما في صدورهم من غل) الحجر: 47... 244 - 325

(ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس: 11... 9

(ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما

وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) العنكبوت: 8... 22

(ويقدم قومه يوم القيامة) هود: 98... 73

(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة الحشر: 9... 98

(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر: 9... 373

(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا

تفعلون) الصف 2... 172 - 144

ص:438

(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) التحريم: 6... 107

(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له

بالقول...). الحجرات: 2... 20

(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) المنافقون: 9... 157

(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله

ورسوله) الصف: 10... 152

(يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) العنكبوت: 56... 165

(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو

الغفور الرحيم) الزمر: 53... 266

(يا قوم اتبعوا المرسلين) يس: 20... 210 - 220

(يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد) غافر: 29... 220

(يد الله فوق أيديهم) الفتح: 10... 20

(يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) المائدة: 40... 281

(يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم

صادقين) الحجرات: 17... 334

(يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة

شرا يره) النساء: 40... 73

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا

آل عمران: 30... 73

(لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال) الحجر: 33... 326

ص :439

فهرس المطالب

باب الاستغناء عن الناس...3

باب صلة الرحم...6

باب البر بالوالدین...19

باب الاهتمام بامور المسلمین و النصیحة لهم و نفعهم...29

باب اجلال الکبیر...31

باب إخوة المؤمنین بعضهم لبعض...33

باب فیما یوجب الحق لمن انتحل الایمان وینقضه...38

باب فی ان التواخی لم یقع علی الدین و انما هو التعارف ...39

باب الحق المؤمن علی أخیه و أداء حقه...40

باب التراحم و التعاطف...51

باب زیارة الاخوان...52

باب المصافحه...57

باب المعانقة...63

باب التقبیل...65

باب تذاکر الاخوان...67

باب ادخال السرور علی المؤمنین...71

باب قضاءحاجة المؤمن...77

باب السعی فی حاجة المؤمن...82

باب تفریج کرب المؤمن...87

باب اطعام المؤمن...89

باب من کسا مؤمنا...95

باب فی إلطاف المؤمن و إکرامه...97

باب فی خدمة...101

باب نصیحة المؤمن...101

ص:440

باب الإصلاح بین الناس...103

باب فی أحیا المؤمن...105

باب فی الدعاء للأهل إلی الایمان...107

باب فی ترک دعاءالناس...108

باب أن الله انما یعطی الدین من یحبه...114

باب سلامة الدین...115

باب التقیة...118

باب الکتمان...127

باب المؤمن وعلاماته و صفاته ...137

باب فی قلة المؤمن...184

باب الرضا بموهبة الایمان و الصبر علی کل شیء بعده ...189

باب فی سکون المؤمن إلی المؤمن...196

باب فیما یدفع الله بالمؤمن...197

باب فی ان المؤمن صنفان...198

باب ما اخذه الله علی المؤمن من الصبر علی ما یلحقه فیما ابتلی به...201

باب شدة ابتلاء المؤمن...206

باب فضل فقراء المسلمین...221

باب...231

باب ان للقلب اذنین ینفث فیما الملک و الشیطان...233

باب الروح الذی اید به المؤمن ...239

باب الذنوب...241

باب استصغار الذنب...279

باب الإصرار علی الذنب ...281

باب فی أصول الکفر و أرکانه ...283

باب الریاء...291

باب طلب الرئاسة...300

باب اختتال الدنیا بالدین...304

ص:441

باب من وصف عدلا وعمل بغيره...305

باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال...306

باب الغضب...310

باب الحسد...316

باب العصبیة...321

باب الکبر...323

باب العجب...332

باب حب الدنيا والحرص عليها...337

باب الطمع...352

باب الخرق...353

باب سوءالخلق...354

باب السفه...356

باب البذاء...358

باب من يتقى شره...365

باب البغی...367

باب الفخر و الکبر...369

باب القسوة...375

باب الظلم...379

باب اتباع الهوی...388

باب المکر والغدر و الخدیعة...393

باب الکذب...397

باب ذی السائلین...409

باب الهجرة...411

باب قطعیة الرحم...414

باب العقوق...418

باب الانتفاء...421

باب من آذى المسلمين واحتقرهم...421

ص:442

المجلد 10

اشاره:

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إبراهيم والفضل ابني يزيد الأشعري، عن عبد الله (عليه السلام) بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا:

«أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه بها يوما ما».

* الشرح:

قوله: (أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه بها يوما ما) قد تحقق هذا في كثير من الإخوة والأصدقاء ولذلك قال بعض العارفين لابد من أن تأخذ صديقا معتمدا موافقا مأمونا شره ولا يحصل ذلك إلا بعد إختيارك إياه قبل الصداقة آونة من الزمان في جميع أقواله وأحواله مع بني نوعه ومع ذلك لابد بعد الصداقة من أن تخفي كثيرا من أسرارك وأحوالك منه فإنه ليس بمعصوم فلعل بعد المفارقة منك لامر قليل يوجب زوال الصداقة يعنفك بأمر يكرهك.

والمراد باحصاء العثرات والزلات حفظها وضبطها في الخاطر أو الدفاتر ليعنفه ويعيره بها يوما من الأيام. ويفهم من هذا الحديث وغيره من أحاديث هذا الباب أن كمال قربه إلى الكفر بمجرد الإحصاء لقصد التعنيف وإن لم يقع التعنيف، ووجه قربه إلى الكفر أن ذلك منه باعتبار عدم استقرار ايمانه في قلبه ومن لم يستقر ايمانه بعد فهو قريب من الكفر، أو المراد بالكفر كفر النعمة فإن مراعاة حقوق الاخوة من أجل نعماء الله عز وجل وقصده ذلك مناف لمراعاتها فهو قريب من الكفر ويتحقق بالكفر بوقوع التعنيف، وينبغي للمؤمن إذا عرف عثرات أخيه أن ينظر أولا إلى عثرات نفسه ويطهر نفسه عنها، ثم ينصح أخاه بالرفق واللطف والشفقة ليترك تلك العثرات ويكمل الاخوة والصداقة ويتم الرفاقة في السير إلى الله تبارك وتعالى، ثم لعل المراد بتلك العثرات ما ينافي حسن الصحبة والعشرة، وأما ما ينافي الدين من الذنوب فلا يعنفه ولا يعيره على رؤوس الخلائق ولكن يجب عليه من باب النهي عن المنكر زجره عنها على الشروط والتفاصيل المذكورة في

ص:3

موضعها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن إسحاق بن عمار قال: قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين ولا تتبوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته».

عنه، عن علي بن النعمان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذموا المسلمين) دل على أن من ذم المسلمين فهو مسلم بلسانه وحده غير خالص الإيمان، ولعل المراد بعدم خلوصه شوبه بما ينافيه أو عدم ثبوته واستقراره في القلب فإن الإيمان المتزلزل غير خالص، ثم أشار إلى النهي عن تتبع العورة مع الوعيد الدنيوي مبالغة في الزجر عنه بقوله: (ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته) العورة كل أمر قبيح يستره الإنسان أنفة أو حياء، والمراد بتتبعها تطلبها شيئا بعد شيء في مهلة والفحص عن ظاهرها وباطنها بنفسه أو بغيره، والمراد بتتبع الله تعالى عورته إرادة اظهارها على خلقه ومن أراد الله تعالى إظهار عورته واعلان بواطن ما يكره اظهاره بفضحه باظهارها ولو في جوف بيته إذ لا مانع لإرادته تعالى ولا دافع لها.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه بها يوما ما».

4 - عنه، عن الحجال، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه لا تتبعوا عثرات المسلمين فإنه من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه».

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن إسماعيل، عن ابن مسكان، عن

ص:4

محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإن من تتبع عثرات أخيه تتبع الله عثراته ومن تتبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته».

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيره بها يوما ما».

7 - عنه، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ [عليه] زلاته ليعيره بها يوما ما».

* الشرح:

قوله: (أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ [عليه] زلاته ليعيره بها يوما ما) عيرته كذا وعيرته بكذا قبحته عليه ونسبته اليه، يتعدى بنفسه وبالباء، ولعل المراد بزيادة البعد الزيادة في بعض الأحوال لا في جميعها وإلا فالزيادة في حال الكفر والشرك أكثر وأظهر فلا ينافي قوله: «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي... إلى آخره».

ص:5

باب التعيير

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أنب مؤمنا أنبه الله في الدنيا والآخرة».

* الشرح:

قوله: (من أنب مؤمنا أنبه الله في الدنيا والآخرة) التأنيب ملامت وسرزنش كردن وتأنيبه عز وجل إياه اما على الحقيقة أو يراد به العقوبة على تأنيبه وعثراته.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل بن عمار، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ومن عير مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه».

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ومن عير مؤمنا بشيء لم يمت حتى يركبه) الفاحشة كل ما نهى الله عز وجل عنه وربما يختص بما يشتد قبحه من الذنوب، وقد يقال:

هذا الوعيد إنما هو في ذي الهيئات الحسنة فيمن لم يعرف بأذى ولا فساد في الأرض وأما المولعين بذلك الذين ستروا غير مرة فلم يكفوا فلا يبعد القول بكشفهم; لأن الستر عليهم من المعاونة على المعاصي وستر من يندب إلى ستره إنما هو في معصية مضت، وأما معصية هو متلبس بها فلا يبعد القول بوجوب المبادرة إلى انكارها والمنع منها لمن قدر عليه فإن لم يقدر رفع إلى اولي الأمر ما لم يؤد إلى مفسدة أشد، وأما جرح الشاهد والرواة والامناء على الأوقاف والصدقات وأموال الأيتام فيجب عند الحاجة إليه لأنه يترتب عليه أحكام شرعية ولو رفع إلى الإمام ما يندب الستر فيه لم يأثم إذا كانت نيته دفع معصية الله تعالى لا كشف ستره، وجرح الشاهد إنما هو عند طلب ذلك منه أو يرى حاكما يحكم بشهادته وقد علم منه ما يبطلها فلا يبعد القول برفعه، والله يعلم.

ص:6

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عير مؤمنا بذنب لم يمت حتى يركبه».

* الشرح:

قوله: (من عير مؤمنا بذنب لم يمت حتى يركبه) لا ينبغي تعيير مؤمن بشيء ولو كان معصية سيما على رؤوس الخلائق ولا ينافي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأن المطلوب منهما أن يكون على سبيل النصح إلا إذا علم انه لا ينفعه فينبغي التشدد عليه على النحو المقرر.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن حسين بن عمر بن سليمان، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من لقي أخاه بما يؤنبه أنبه الله في الدنيا والآخرة».

ص:7

باب الغيبة والبهت

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث، قيل: يا رسول الله وما يحدث؟ قال:

الاغتياب».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه) أي في قلبه أو مطلقا. والغيبة بالكسر اسم من اغتاب فلان فلانا إذا ذكره بما يسوؤه ويكرهه من العيوب وكان فيه وإن لم يكن فيه فهو تهمة، وفي العرف ذكر الإنسان المعين أو بحكمه في غيبته بما يكره نسبته إليه وهو حاصل فيه ويعد نقصا في العرف بقصد الانتقاص والذم قولا أو إشارة أو كناية، تعريضا أو تصريحا فلا غيبة في غير معين كواحد مبهم من غير محصور بخلاف مبهم من محصور كواحد من المعينين فإنه في حكم المعين كما صرح به شيخ العارفين في الأربعين ولا بذكر عيبه في حضوره وإن كان آثما لإيذائه إلا بقصد الوعظ والنصيحة والتعريض حينئذ أولى إن نفع; لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ولا بذكر ما ليس فيه فإنه بهتان وتهمة، ولا بذكر ما لا يكره ولا يعد نقصا، ولا بذكر عيبه لا لقصد الانتقاص كذكره للطبيب لقصد العلاج، وللسلطان لقصد الترحم.

والغيبة حرام للآيات والروايات واجماع الامة وقد عدت من الكبائر والمغتاب لما لم يكن معصوما ينبغي أن يكون له في عيبه لنفسه شغل عن عيب غيره، ولو فرض أنه خال من العيوب كلها فلينزه نفسه من الغيبة التي هي أقبح العيوب ومن أعظم الكبائر وليعلم ان ما صدر من أخيه مفسدة جزئية والغيبة مفسدة كلية; لأن مقصود الشارع اجتماع المؤمنين وإيتلافهم وتعاونهم وتصافي قلوبهم ومحبتهم، والغيبة لكونها مثيرة للتضاغن والتباعد والتعاند منافية لذلك المقصود فهي مفسدة كلية وإذا علم ذلك زجر نفسه عنها لأن العاقل لا يعيب أحدا بمفسدة جزئية مع تلبسه

ص:8

هو بمفسدة كلية.

قال الشهيد الثاني: والعجب من علماء أهل الزمان أن كثيرا منهم يجتنبون كثيرا عن المعاصي الظاهرة مثل شرب الخمر والزنا وغصب أموال الناس ونحوها وهم مع ذلك يتعاطون الغيبة والسبب فيه إما الغفلة عن تحريمها وما ورد من الوعيد عليها، وإما لأن مثل ذلك من المعاصي لا يخل عرفا بمراتبهم ومنازلهم من الرئاسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات ولو رغبوهم في الشرب أو الزنا أو غصب مال الغير ما أطاعوه لظهوره فحشه عند العامة وسقوط منزلتهم لديهم، ولو استبصروا علموا أن لا فرق بين المعصيتين بل لا نسبة بين المعصية المستلزمة للاخلال بحقه تعالى وبين ما يتعلق مع ذلك بحق العبد خصوصا بأعراضهم بل هي أجل وأشرف من أموالهم.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن حفص بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سئل النبي (صلى الله عليه وآله) ما كفارة الاغتياب؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته».

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اذناه فهو من الذين قال الله عز وجل: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم)».

* الشرح:

قوله: (فهو من الذين قال الله عز وجل -... إلى آخره) إنما قال من الذين لأن الآية الكريمة تشمل أيضا من بهت رجلا ومن ذكر عيبه في حضوره ومن أحب شيوعه وإن لم يذكره ومن سمعه ورضي به والوعيد بالعذاب الأليم للجميع. قال الشهيد رحمه الله: إن الله أوحى إلى موسى بن عمران «أن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة وإذا لم يتب فهو أول من يدخل النار».

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلي بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن داود بن سرحان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغيبة قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد».

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغيبة قال: هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد) هو راجع إلى الغيبة والتذكير باعتبار الاغتياب أو

ص:9

باعتبار الخبر، وقوله: «لم يقم عليه فيه حد» صفة بعد صفة لامر أو حال بعد حال عنه وفيه دلالة على انه لا حرمة للكافر فلا يحرم غيبته وحرمة قذفه من دليل خارج وعلى أن الغيبة هي نسبة القبيح إلى الغير سواء فعله أم لا فتشمل البهتان وسواء حضر أم غاب، فيراد بالغيبة هنا غير المعنى المصطلح وعلى أن ذكر الأمر المكشوف المشهور ليس بغيبة وسيجئ زيادة البحث فيه وعلى أن ذكر الامر المستور الذي يقام فيه الحد على فاعله مثل الزناء وغيره ليس بغيبة وإلا لبطلت الحدود، فلو اطلع العدد الذين يثبت بهم الحد أو التعزير على فاحشة جاز ذكرها عند الحاكم بصورة الشهادة في حضور الفاعل وغيبته، ولا يجوز التعرض إليها في غير ذلك.

* الشرح:

قوله: (سئل النبي (صلى الله عليه وآله) ما كفارة الاغتياب؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته) في بعض النسخ كما ذكرته أي بالعيب، والأصل يفيد وقوع الاستغفار في أوقات التذكر كلها قال الشهيد (قدس سره):

كفارة الغيبة أن يندم ويتوب ويتأسف على فعله ليخرج من حق الله تعالى، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج عن مظلمته، وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون تائبا فيكون قد قارف معصية أخرى يدل على ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) «من كانت لأخيه في قبله مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم إنما يؤخذ من حسناته فإن لم تكن حسنات اخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته» (1) ولا منافاة بين هذه الرواية ورواية الكتاب لأنه يمكن حمل الاستغفار على من لم يبلغ غيبته المغتاب وفي حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول إليه بموت أو غيبة، وحمل الاستحلال على من تمكن الوصول إليه مع بلوغه الغيبة ويستحب للمعتذر إليه قبول العذر والمحالة فإن لم يقبل كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له وقد يقابل سيئة الغيبة في القيامة ولا فرق بين غيبة الصغير والكبير والحي والميت والذكر والأنثى وليكن الاستغفار والدعاء له على حسب ما يليق بحاله فيدعو للصغير بالهداية وللميت بالرحمة والمغفرة ونحو

ص:10


1- (1) أخرجه أحمد في مسنده: ج 2 ص 506 من حديث أبي هريرة.

ذلك، ولا يسقط الحق بإباحة الإنسان عرضه لأنه عفو عما لم يجب كما أن من أباح قذف نفسه لم يسقط حقه من الحد، والظاهر أنه تجب في هذه الكفارة النية كباقي الكفارات.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك ابن عطية، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من بهت مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيه بعثه الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال، قلت: وما طينة الخبال؟ قال: صديد يخرج من فروج المومسات».

* الشرح:

قوله: (من بهت مؤمنا أو مؤمنة بما ليس فيه بعثه الله في طينة خبال حتى يخرج مما قال، قلت:

وما طينة خبال؟ قال: صديد يخرج من فروج المومسات) البهت الافتراء والقذف، بهته بهتا من باب نفع قذفه بالباطل وافترى عليه الكذب والاسم البهتان واسم الفاعل بهوت والجمع بهت مثل رسول ورسل، والخبال بفتح الخاء الفساد، والصديد الدم المختلط بالقيح، وقيل هو القيح الذي كأنه الماء في رقته والدم في شكله، والمومسات بضم الميم الأولى وكسر الثانية جمع المومسة وهي الفاجرة، وتجمع أيضا على المواميس والمياميس.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن العباس بن عامر، عن أبان، عن رجل لا نعلمه إلا يحيى الأزرق قال: قال لي أبو الحسن صلوات الله عليه: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته».

* الشرح:

قوله: (من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس اغتابه) دل على جواز ذكر المعائب إذا كانت مشهورة عند من عرفها ومن جملة ذلك إذا كان معروفا بلقب قبيح كالأعمش والقصير والأعمى والأعور والأعرج ونحوها فيذكر ذلك للتعريف لا للتنقيص وان أمكن تعريفه بغير ذلك اللقب فهو أولى تحرزا من احتمال كسر قلب المؤمن وعلى جواز غيبة الفاسق المعلن بفسقه بذكر فسقه ذلك لا بغيره من معايبه سواء

ص:11

استنكف ذكر ذلك الفسق أم لا ومنهم من منعه مطلقا ومنهم من منعه في المستنكف وجوزه في غيره وظاهر هذا الحديث والذي يأتي بعده وظاهر ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» هو الجواز مطلقا والله أعلم.

وأما الفاسق الغير المعلن فالأظهر أنه لا يجوز غيبته بذكر فسقه، إلا أن يتعلق بها غرض صحيح ديني بأن يرجو ارتداعه عن المعصية فيلحق بباب النهي عن المنكر، ثم إن كل ذلك إذا لم يندم على المعصية ولم يتب منها والا فلا يجوز قطعا، ودل أيضا على أن الاغتياب هو ذكر الرجل في غيبته بما يسوؤه فلو ذكره في حضوره لا يكون غيبة وان كان حراما لأنه لا يجوز ايذاء المؤمن على أي وجه كان وعلى أن ذكر غير المعروف من المعايب اغتياب وقد استثنوا من ذلك جرح الشاهد والراوي، وتفضيل بعض العلماء والصناع على بعض، والتنبيه على الخطأ في المسائل العلمية لقصد أن لا يتبعه أحد فيها، وشكاية المتظلم عند الوالي أو عند من يقدر على انصافه ويقتصر على مورد الظلم ويقول: فلان فعل كذا ليزجره عنه، والنصح للمؤمن المتردد إلى الفاسق والمبتدع فيعلمه ليتباعد منه، ونصح المستشير إلى غير ذلك مما يتعلق به غرض صحيح شرعي وأمثال هذه الأمور إن أغنى التعريض فلا يبعد القول بتحريم التصريح لأنها انما شرعت للضرورة والضرورة تقدر بقدر الحاجة، والله أعلم.

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن سيابة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه».

ص:12

باب الرواية على المؤمن

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان».

* الشرح:

قوله: (من روى على مؤمن رواية -... إلى آخره) بأن ينقل عنه كلاما يدل على ضعف عقله وسخافة رأيه وسفاهة طبعه، ولعل السر في عدم قبول الشيطان له أن فعله أقبح من فعل الشيطان لان سبب خروج الشيطان من ولايته الله تعالى هو مخالفة أمره مستندا بأن أصله أشرف من أصل آدم (عليه السلام) ولم يذكر من فعل آدم ما يسوؤه ويسقطه عن نظر الملائكة وسبب خروج هذا الرجل من ولاية تعالى هو مخالفة أمره عز وجل من غير أن يسندها إلى شبهة إذ الأصل واحد وذكره من فعل المؤمن ما يؤذيه ويحضره في أعين السامعين وادعاء الكمال الفعلي لنفسه ضمنا وهذا إدلال وتفاخر وعجب وتكبر فلذلك لا يقبله الشيطان لكونه أقبح فعالا منه على أن الشيطان لا يعتمد على ولاية له لأن شأنه نقض الولاية لاعن شيء فلذلك لا يقبله.

2 - عنه، عن أحمد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: «نعم»، قلت: تعني سفله؟ قال: «ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سره».

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحسين بن مختار، عن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيما جاء في الحديث «عورة المؤمن على المؤمن حرام» قال: «ما هو أن ينكشف فترى منه شيئا إنما هو أن تروي عليه أو تعيبه».

ص:13

باب الشماتة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن أبان بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «لا تبدي الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيرها بك، وقال: من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن».

* الشرح:

قوله: (لا تبدي الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويصيرها بك) شمت به يشمت إذا فرح بمصيبة نزلت به. والاسم الشماتة واشتمت الله به العدو، ومنه قوله تعالى: (ولا تشمت بي الأعداء) أي لا تفعل بي ما يحبون ويسرون، وإبداؤها يكون بالفعل مثل إظهار السرور والبشاشة والضحك عند المصاب، وبالقول مثل الهزء والسخرية به، وإنما نهي (عليه السلام) عن الإبداء لعلمه بأن الشماتة توجد في قلب العدو فرحا بمقتضى الطبع فنهى عن إظهارها للمصاب لما فيه من الزيادة له على مصيبته وإيذائه والتأكيد للعداوة عنده وإغرائه وشئ من ذلك ينبغي أن لا يكون; لأن من صفات المؤمنين أن يكونوا متراحمين متعاطفين متواصلين، ولأن العاقل لعلمه بأسرار القدر وملاحظته لأسباب المصائب وأنه في معرض أن يصيبه مثلها يتصور ثبوتها لنفسه ولا يفرح بنزولها في غيره ولأن الله تعالى قد يرحم المصاب ويعافيه عن المصيبة ويصيرها بالشامت فيعكس أمر الشماتة وذلك; لأن في اظهار الشماتة نوع بغي على المصاب في أمر أنزله الله تعالى به وعقوبة البغي عاجلة فيعافيه إرغاما للشامت ويبتليه تعجيلا لعقوبة بغيه.

والظاهر أن قوله: (وقال: من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن) من تتمة الرواية المذكورة بالاسناد المذكور، واحتمال كونه رواية اخرى بحذف الاسناد بعيد، ويفتتن بالبناء للمفعول من الفتنة وهي المحنة والمصيبة والابتلاء وأصلها من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أحرقته بالنار لتبين الجيد من الرديء، وإنما يفعل الله تعالى به ذلك غيرة وانتصارا ورغما له وجزاء لما صنع بأخيه بسبب ما أنزل الله فيه.

ص:14

باب السباب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة) السب الشتم سبه يسبه سبا شتمه، فهو سباب، ومنه قيل للإصبع التي تلي الإبهام: سبابة لأنه يشاربها عند السب وسابه مسابة وسبابا سب كل واحد صاحبه، والهلكة مثال قصبة. والهلك مثال قفل بمعنى الهلاك، ولعل المراد بها الكفر والخروج من الدين وبالمشرف عليها من قرب وقوعه فيهما بفعل الكبائر العظيمة، والساب شبيه بالمشرف وقريب منه، ولو أريد بها العقوبة أو استحقاقها لم يتم التشبيه على الظاهر; لأن الساب على الأول مشرف عليها وعلى الثاني متصف بها.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الله بن بكير، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق) الفسوق مصدر يقال: فسق فسوقا من باب نصر وضرب أي خرج عن الطاعة، والاسم فسق، ويقال: أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كل شيء خرج من قشره فقد فسق، والسباب بالكسر مصدر ساب كقتال مصدر قاتل، وهو إما بمعنى السب أو على بابه للطرفين والإضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل على احتمال، وسابه بأن يقول مثلا: يا شارب الخمر أو يا آكل الربا، أو يا ملعون، أو يا خائن، أو يا حمار، أو يا كلب، أو يا خنزير، أو يا فاسق، أو يا فاجر، أو أمثال ذلك خارج عن ولاية المؤمن وعن طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة الأئمة المعصومين، وفاعل لما

ص:15

يؤذبهم ومستحق للتأديب على حسب ما يراه الحاكم (وقتاله كفر) كأن القتال كان من أسباب الكفر فأطلق عليه الكفر مجازا أو أريد به القتال مستحلا، أو قتال المؤمن من حيث إنه مؤمن أي لأجل إيمانه أو أريد بالكفر كفر نعمة التآلف إن الله ألف بين المؤمنين أو إنكار حق الأخوة إذ من حقها عدم المقاتلة، والله أعلم.

(وأكل لحمه معصية) المراد به الغيبة كما قال عز وجل: (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) شبه صاحب الغيبة بآكل لحم أخيه الميت زيادة في التنفير والزجر عنها، والمراد بالمعصية الكبيرة; لأن الغيبة كبيرة موبقة.

(وحرمة ماله كحرمة دمه) جمع المال والدم في احترام، ولا شك في أن اهراق دمه كبيرة مهلكة فكذا أكل ماله، ومثل هذا الحديث مذكور في كتب العامة، وقال ابن الأثير: قيل هذا محمول على من سب أو قاتل مسلما من غير تأويل، وقيل: إنما قال على جهة التغليظ لا أ نه يخرجه إلى الفسق والكفر.

3 - عنه، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن رجلا من بني تميم أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: لا تسبوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم».

* الأصل:

4 - ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابان قال: «البادي منهما أظلم وزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم».

* الشرح:

قوله: (ابن محبوب عن عبد الرحمن بن الحجاج) أسقط المصنف (قدس سره) طريقه إلى ابن محبوب ويؤيده أ نه روى هذا الحديث سابقا في باب السفه عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) إلى آخر ما ذكره من غير تفاوت إلا في قوله (ما لم يعتذر إلى المظلوم) فإن في السابق «ما لم يتعد المظلوم» وقد مر شرحه مفصلا فلا نعيده، ويفهم منه أ نه إذا اعتذر وعفا عنه سقط عنه الوزر والتعزير أو الحد قبل الثبوت عند الحاكم وبعده، ولا اعتراض للحاكم لأنه حق آدمي يتوقف إقامته على مطالبته ويسقط بعفوه.

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلا باء به أحدهما إن كان شهد [به]

ص:16

على كافر صدق وإن كان مؤمنا رجع الكفر عليه، فإياكم والطعن على المؤمنين».

* الشرح:

قوله: (ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلا باء به أحدهما) بأن شهد به عند الحاكم أو أتى بصيغة الخبر نحو أنت كافر أو بصيغة النداء نحو يا كافر، وباء بمعنى رجع أي رجع بالكفر أحدهما وصار عليه، وقوله: «فإياكم والطعن على المؤمنين» إشارة إلى أن مطلق الطعن حكمه حكم الكفر في الرجوع إلى أحدهما قطعا فإن قيل: إذا لم يكن المقول له كافرا فغاية ما في الباب أن القائل ساب كاذب وشئ منهما ليس بكفر، فالجواب أنهما من أقرب منازل الكفر إذ صاحبهما لا يأمن من أن ينتقل منهما إلى الكفر لعدم استقرار الإيمان في قلبه، وقد شاع في الأخبار إطلاق الكفر عليه، وباقي التوجيهات السابقة يجري هنا أيضا وقيل: ضمير «به» يعود إلى السيئة المفهومة من السياق لا إلى الكفر أي باء بالسيئة أحدهما، وقيل: الضمير يعود إلى التكفير لا إلى الكفر يعني تكفيره لأخيه تكفير لنفسه لأنه لما كفر مؤمنا فكأنه كفر نفسه، وفيه أن التكفير حينئذ غير مختص بأحدهما لتعلقه بهما جميعا، وقيل: الضمير يعود إلى الكفر الحقيقي; لأن القائل اعتقد أن ما عليه المقول له من الإيمان كفر فقد كفر لقوله تعالى: (ومن كفر بالإيمان فقد حبط عمله) وفيه أن القائل بكفر أخيه لم يجعل الإيمان كفرا بل جعل بدل الإيمان كفرا توبيخا وتعييرا له بترك الإيمان وأخذ الكفر بدلا منه، وبينهما بون بعيد.

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن علي بن أبي حمزة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «سمعته يقول: إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها ترددت فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها».

* الشرح:

قوله: (إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها ترددت فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها) فيه تفخيم لأمر اللعن وإثمه، وحث على التجنب منه فإنه لا يقع قط عبثا بل يرجع إما إلى الملعون أو إلى اللاعن. فليجتنب المسلم عن لعن المسلمين ولا يلعن إلا من لعنه الله تعالى أو المعصوم أو من علم قطعا أنه محروم من الرحمة الواسعة; لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وليس ذلك من خلق المؤمنين الذين وصفوا بأنهم كجسد واحد وأنهم متراحمون بينهم، وأنهم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، ومن دعا على أخيه باللعن فهو في غاية التقاطع والتدابر وهذا غاية ما يود المسلم للكافر.

ص:17

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي، عن علي بن عقبة، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها ترددت بينهما فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها».

* الأصل:

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا قال الرجل لأخيه المؤمن: اف خرج من ولايته وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما، ولا يقبل الله من مؤمن عملا وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءا».

* الشرح:

قوله: (ولا يقبل الله من مؤمن عملا وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءا) دل على أن إضمار السوء لا يقدح في أصل الإيمان نعم يدفع كماله، وليس المراد باضماره الخطرات التي تخطر في القلب; لأن دفعه غير مقدور. بل المراد الظن به وإن لم يتكلم. ثم إن لم يحصل الظن بوجه شرعي معتبر وإلا فالظاهر أ نه خارج عن هذا الوعيد لترتب كثير من الأحكام الشرعية عليه، مثل الحدود والتعزير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينافي هذا الحديث حديث «الحزم مساءة الظن»; لأن معنى هذا هو الأمر بالتحفظ والاحتياط دون الظن بالسوء والله أعلم.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن حماد بن عثمان، عن ربعي، عن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير».

* الشرح:

قوله: (ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير) الطعن القدح والعتب والوقوع في أعراض الناس سواء فعلوا أم لا وفعله من باب قتل ومن باب نفع لغة، والميتة بكسر الميم للحال والهيئة، ولعل المراد بها ميتة الكفر نعوذ بالله منها. والقمن بالتحريك الجدير والحقيق ويستعمل بلفظ واحد مطلقا فيقال: هو وهي وهم وهن قمن أن يفعل كذا ويجوز قمن بكسر الميم فيطابق في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع، والمراد بالخير التوبة أو الإيمان أو الأعم.

ص:18

باب التهمة وسوء الظن

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء».

* الشرح:

قوله: (إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء) اتهمته بكذا ظننته به والاسم التهمة وزان رطبة، والسكون لغة حكاها الفارابي، وأصل التاء واو، ولعل المراد بها أن يقول ما ليس فيه مما يكسر شأنه ويوجب شينه، ويحتمل أن يراد بها سوء الظن به، وانماث الملح في الماء ذاب، وإنما قال: من قلبه ولم يقل: في قلبه للتنبيه على فساد قلبه حتى أ نه ينافي الإيمان ويوجب فساده.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن الحسين بن حازم، عن حسين بن عمر بن يزيد، عن أبيه، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما، ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به الناس فهو بريء مما ينتحل».

* الشرح:

قوله: (من اتهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما) الحرمة - بالضم - اسم من الاحترام، وسلبها باعتبار انقطاع علاقة الأخوة وزوال الرابطة الدينية، ثم بالغ في حفظ حال الأخ في الدين ورعاية جانبه زائدا عن غيره بقوله:

(ومن عامل أخاه).

* الأصل:

3 - عنه، عن أبيه، عمن حدثه، عن الحسين بن المختار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا».

ص:19

* الشرح:

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه) أي احمل أمر أخيك قولا كان أو فعلا على أحسنه وإن كان مرجوحا وكان خلافه راجحا (1)

ص:20


1- (1) قوله: و «إن كان مرجوحا وكان خلافه راجحا» يعني ليس ظاهر الكلام حجة في الحكم بالتضليل والتفسيق، وإن كان حجة في الحكم بالإسلام وفي المعاملات والأقارير، وربما يغفل عن ذلك الجاهل فيحمل كلام الناس على الفساد كالغلو أو التفويض والجبر والتعطيل وأمثالها بظاهر يحتمل الخلاف بل مع قيام قرينة عقلية على إرادة خلاف الظاهر بل بلوازم الكلام عند نفسه وإن لم تكن تخطر ببال أحد قط بل يحكم بتضليل رجل بظاهر كلام صاحبه ومن لم يثبت موافقته له. ولذلك أمثلة كثيرة: منها تكفير العوام بقولهم: شفاني العباس بن علي (عليهما السلام) من هذا المرض وأعطاني أبو عبد الله (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) هذا الولد وهذا المال، فيقال: هذا نسبة فعل الله إلى غيره وتعطيله تعالى عن فعله وهو شرك أو كفر والحاد، ومثله نسبة فعله تعالى إلى الأسباب الطبيعية والروحانية كقولهم: أنبت الربيع البقل، وأينعت الثمار بحرارة الشمس، وشفي المريض بالدواء أو بالتربة المقدسة، وتصور الجنين في الرحم بفعل الملائكة المصورة، وأفيض العلم على النفوس من العقول المجردة ولم يقل أحد بأن نسبة الفعل إلى تلك الأسباب كفر وإن كان ظاهر الكلام يقتضي نسبة الفعل إليها مستقلا بالمباشرة كما إذا نسب القتل والسرقة إلى زيد في مقام الشهادة اقتضى المباشرة والاستقلال، ولكن القرينة العقلية والعادية دالة على عدم إرادة نسبة فعل الله تعالى إلى الأسباب واستقلالها فيه، وقال الحكماء: لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، وهو تصريح بأن الأسباب غير مؤثرة. وأيضا ربما لم يكن المتكلم بالكلام وليا أو نبيا أو عاقلا حكيما متفطنا لجميع النكات التي يجب مراعاتها فيأتي بكلام يفيد ظاهره شيئا لا يريده ولا يقيم قرينة على خلافه لعدم تنبهه، ويجب درء كل تهمة عن الناس بالشبهة المحتملة ، والحاصل أن ظاهر الكلام إن دل على ضلال المتكلم واحتمل خلافه مرجوحا يجب حمل كلامه على ذلك الوجه المحتمل. وأما نسبة الضلال إليه باللوازم المستخرجة بالتكلف من كلامه أو بصدوره من غيره الموافق له في الجملة في طريقته فغلط جدا وهو من سير الظلمة وولاة الجور لا من طريقة العلماء، ولذلك أمثلة منها: تكفير الروافض مطلقا لقول بعض من يسمونه رافضيا بالوهية أمير المؤمنين (عليه السلام) وتكفير الصوفية مطلقا لقول بعضهم بحلول ذات الواجب في الممكنات وتضليل المنجمين مطلقا لقول بعضهم بألوهية النجوم وتكفير الحنابلة بأن بعضهم قال بالتجسيم، ومن لوازم الجسم التركيب، ومن لوازم التركيب الإمكان والحدوث فكل من قال بالجسم فهو منكر للمبدأ تعالى، وهذه لوازم لا تخطر ببال حنبلي أصلا، وترى في الناس من يضلل أو يكفر رجلا لمدحه بعض الكفار أو المبتدعين بأنه لو لم يكن راضيا بكفره وضلاله لم يمدحه، وقد مدح السيد الرضي بعض الكفار الصابئين لعلمه وأدبه ورثاه بعد موته وتأسف من فقده بقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد؟ * أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟ ويضللون من يمدح المولوي بشعره وابن عربي بعلمه لأن في كليهما أمورا فاسدة الظاهر، ويظنون أن كل من يمدح أحدا فهو متفق معه في جميع العقائد أو أ نه تتبع جميع كتبه وكلماته واستحسن جميعها، وهذه الإحاطة لا تتفق لغير المعصوم البتة، وأما الخلفاء والظلمة فكانوا يعاقبون من يحتمل إخلالهم في ملكهم بأدنى تهمة وبناؤهم في ذلك على أصالة الاحتياط وكانوا يرون في الشيعة إباء وتنفرا ونزعة فينسبون كل واحد منهم بكل سوء احتمل وجوده في غيره احتياطا لملكهم وحفظا لقدرتهم. (ش)

مظنونا من غير تجسس حتى يأتيك اليقين على خلافه. فإن الظن قد يخطئ والتجسس منهي عنه كما قال الله عز وجل: (إن بعض الظن إثم) وقال: (ولا تجسسوا) ومن ثم قال العلماء: أفعال المؤمنين محمولة على الصحة. ثم نهى تأكيدا لما مر عن حمل كلامه على الشر إن كان محتملا للخير وإن كان بعيدا جدا بقوله:

(ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) فإذا خرجت منه كلمة ذات وجهين وجب عليك أن تحملها على وجه الخير، وإن كان معنى مجازيا بدون قرينة أو كناية أو تورية أو نحوها، ومن هذا القبيل ما سماه علماء العربية أسلوب الحكيم كما قال الحجاج للقبعثرى متوعدا له بالقيد: لأحملنك على الأدهم، فقال القبعثرى مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فأبرز وعيده في معرض الوعد. ثم قال الحجاج للتصريح بمقصوده: إنه حديد فقال القبعثرى: لئن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا. وبالجملة: كما يحرم على المؤمن سوء القول في أخيه كذلك يحرم عليه سوء الظن به بان يعقد القلب عليه ويحكم به من غير يقين، وأما الخاطر بحديث النفس فمعفو كما مر وما وقع في قلبه من غير يقين فهو من الشيطان يلقي إليه ليغريه على أخيه، فوجب أن يكذبه فإنه أفسق الفاسقين فلا يجوز تصديقه. ومن ثم جاء في الشرع أن من تكلم بكلمة ظاهرها الارتداد ولها معنى صحيح لا يحكم بارتداده (1) وأن من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن تحكم عليه بشر بها وأن تحده عليها لإمكان أن يكون تمضمض بها ومجها أو وجر في حلقه جبرا وذلك أمر ممكن.

ص:21


1- (1) قوله: «ولها معنى صحيح لا يحكم بارتداده» لعلك تقدر على ما بين في الحاشية السابقة على استخراج أمثلة كثيرة لا نطيل الكلام بتفصيلها وقد مر في المجلد الثامن حديث طويل في عدم جواز تبرى أحد من غيره بعدم وجود ما عنده عنده قال الصادق (عليه السلام) فينبغي لنا أن نبرأ منكم. (ش)

باب من لم يناصح أخاه المؤمن

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي حفص الأعشى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان الله ورسوله».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان الله ورسوله) خيانت با كسى دغلى وناراستى كردن، والنصح خلاف الغش فإذا لم ينصحه فقد غشه بتضييع حقوقه، ورفض سيرة العدل فيه، وقول الصدق في أمره، والدفع عن عرضه وحماية حوزته، وبذل السعي في حاجته، ومن غشه بشيء من ذلك فقد خانه فيما اعتمد عليه وجعله وسيلة إليه وواسطة بينه وبين حاجته، ومن خان مؤمنا فقد خان الله ورسوله فيما أراد من النصح للمؤمن وهو يظهر النصح ظاهرا ويعمل بخلافه باطنا وهذه خيانة عظيمة.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أيما مؤمن مشى في حاجة أخيه فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله».

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان جميعا، عن إدريس بن الحسن، عن مصبح هلقام قال: أخبرنا أبو بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ فيها بكل جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» قال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تعني بقولك: والمؤمنين؟ قال: «من لدن أمير المؤمنين إلى آخرهم».

* الشرح:

قوله: (من لدن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى آخرهم) لعل المراد بهم الأئمة (عليهم السلام) مع احتمال أن يراد

ص:22

بهم المؤمنون كلهم إلى يوم القيامة.

* الأصل:

4 - عنهما جميعا، عن محمد بن علي، عن أبي جميلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من مشى في حاجة أخيه ثم لم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه».

* الشرح:

قوله: (كان كمن خان الله ورسوله) التشبيه باعتبار أن خيانة المؤمن كخيانتهما أو باعتبار أن خيانته مستلزمة لخيانتهما، والقاصد للملزوم كالقاصد للازم وإن لمن يشعر به.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن حسين بن حازم، عن حسين بن عمر بن يزيد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله عز وجل رأيه».

* الشرح:

قوله: (من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله عز وجل رأيه) أمحضه الود والنصيحة أخلصهما كمحضهما، والرأي العقل والتدبير وما اعتقده الإنسان وكل ذلك هنا محتمل،، ولعل السر في سلبه أنه نعمة جليلة وترك الشكر عليه بعدم العمل بمقتضاه كفران لتلك النعمة وكفرانها موجب لسلبها.

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أيما مؤمن مشى مع أخيه المؤمن في حاجة فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله».

ص:23

باب خلف الوعد

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض وذلك قوله:

(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)».

* الشرح:

قوله: (عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له) أي كالنذر في جعله على نفسه أو في لزوم الوفاء به إلا أ نه لا كفارة له وهو اما للتخفيف أو للتغليظ على احتمال وهذا التشبيه، وقوله: (فمن اخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض) يعني أن مخلف الوعد مخالف لأمر الله أو لا ومتعرض لمقته وغضبه واستشهاده بالآية وقوله في الحديث الآخر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد» يدل على أن خلف الوعد حرام، والوفاء به واجب فينبغي للمؤمن أن لا يعد وإذا وعد أن يفي به وقد حث على الوفاء به قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا) قارن صدق الوعد بالرسالة والنبوة وقدمه عليهما لشدة الاهتمام به والحث عليه.

2 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد».

ص:24

باب من حجب أخاه المؤمن

* الأصل:

1 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد جميعا، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

«أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله عز وجل بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام».

* الشرح:

قوله: (أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام) سيأتي هذا في الحديث الآخر مع زيادة وهي «أن غلظ كل سور مسيرة ألف عام» أقول: لا نعلم أنها ألف عام الدنيا أو ألف عام الآخرة، ثم الظاهر منه إرادة هذا العدد، ويمكن حمله على المبالغة في بعده عن الرحمة والجنة، أو على أ نه لا يدخلها إلا بعد زمان طويل يقطع فيه تلك المسافة البعيدة، أو على أن المراد بالجنة جنة معينة يدخل فيها من لم يحجب المؤمن والله يعلم.

* الأصل:

2 - علي بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن أحمد بن الحسين، عن أبيه، عن إسماعيل ابن محمد، عن محمد بن سنان قال: كنت عند الرضا صلوات الله عليه فقال لي: «يا محمد إنه كان في زمن بني إسرائيل أربعة نفر من المؤمنين فأتى واحد منهم الثلاثة وهم مجتمعون في منزل أحدهم في مناظرة بينهم فقرع الباب فخرج إليه الغلام فقال: أين مولاك؟ فقال: ليس هو في البيت فرجع الرجل ودخل الغلام إلى مولاه فقال له: من كان الذي قرع الباب؟ قال: كان فلان، فقلت له: لست في المنزل، فسكت ولم يكترث، ولم يلم غلامه، ولا اغتم أحد منهم لرجوعه عن الباب، وأقبلوا في حديثهم، فلما كان من الغد بكر إليهم الرجل فأصابهم وقد خرجوا يريدون ضيعة لبعضهم فسلم عليهم، وقال: أنا معكم؟ فقالوا له: نعم ولم يعتذروا إليه وكان الرجل محتاجا ضعيف الحال، فلما كانوا في بعض الطريق إذا غمامة قد أظلتهم فظنوا أنه مطر، فبادروا

ص:25

فلما استوت الغمامة على رؤوسهم إذا مناد ينادي من جوف الغمامة أيتها النار خذيهم وأنا جبرئيل رسول الله، فإذا نار من جوف الغمامة قد اختطفت الثلاثة النفر وبقي الرجل مرعوبا يعجب مما نزل بالقوم ولا يدري ما السبب، فرجع إلى المدينة فلقي يوشع بن نون (عليه السلام) فأخبره الخبر وما رأى وما سمع، فقال يوشع بن نون (عليه السلام): أما علمت أن الله سخط عليهم بعد أن كان عنهم راض وذلك بفعلهم بك؟ فقال: وما فعلهم بي؟ فحدثه يوشع، فقال الرجل: فأنا أجعلهم في حل وأعفوا عنهم، قال: لو كان هذا قبل لنفعهم فأما الساعة فلا، وعسى أن ينفعهم من بعد».

* الشرح:

قوله: (ولم يكترث) اكثراث «باك وفكر داشتن از چيزى» يقال: ما يكترث أي ما يبالي، والغمامة أخص من الغمام وهو السحاب سمى سحابا لانسحابه أي جريه في الهواء، وغماما لأنه يغم أي يغطي ويستر نور الشمس. والمرعوب من الرعب وهو الخوف تقول: رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته. والسخط من الله التعذيب والعقوبة والمذكور في جميع النسخ راض، والوجه غير ظاهر، والظاهر «راضيا» بالنصب على أ نه خبر كان، ويفهم من هذا الحديث أ نه لو صدر عن أحد مثل هذه المبادرة كان عليه أن يبادر إلى الاعتذار لئلا يصيبه مثل ما أصابهم، ولئلا يرد على الله وهو ماقت وأن الحجب حرام.

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن محمد بن سنان، عن مفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب ضرب الله بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، وغلظ كل سور مسيرة ألف عام [ما بين السور إلى السور مسيرة ألف عام]».

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك ما تقول في مسلم أتى مسلما زائرا [أو طالب حاجة] وهو في منزله، فاستأذن عليه فلم يأذن له ولم يخرج إليه؟ قال: يا أبا حمزة أيما مسلم أتى مسلما زائرا أو طالب حاجة وهو في منزله فاستأذن له ولم يخرج إليه لم يزل في لعنة الله حتى يلتقيا، فقلت: جعلت فداك في لعنة الله حتى يلتقيا؟ قال: نعم يا أبا حمزة».

* الشرح:

قوله: (لم يزل في لعنة الله حتى يلتقيا) الظاهر أن مجرد الملاقاة غير كاف في رفع اللعنة والعقوبة، بل لابد من الاعتذار والعفو بقرينة ما مر.

ص:26

باب من استعان به اخوه فلم يعنه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن محمد بن علي، عن سعدان، عن حسين بن أمين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر».

* الشرح:

قوله: (من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر) أي ولا يؤجر بما وقع عليه من الظلم، والبخل بالمعونة مستلزم لتركها وعدمها أي لم يعن أخاه إلا إبتلي، والظاهر أن عطف القيام على المعونة للتفسير والتأكيد مع احتمال أن يراد بالمعطوف القيام في حاجته عند غيره والسعي فيها وبالمعطوف عليه الإعانة في حاجته عنده، وربما يشعر به لفظ القيام وفاعل يأثم راجع إلى من وتعديته بعلى لتضمن معنى القهر أو الظلم ويندرج في معونة من يأثم عليه معونة الأعداء ومعونة الظالم وإن كان من أهل الإيمان.

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما رجل من شيعتنا أتى رجلا من إخوانه فاستعان به في حاجته فلم يعنه وهو يقدر إلا ابتلاه الله بأن يقضي حوائج غيره من أعدائنا، يعذبه الله عليها يوم القيامة».

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن محمد بن أسلم، عن الخطاب بن مصعب، عن سدير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لم يدع رجل معونة أخيه المسلم حتى يسعى فيها ويواسيه إلا ابتلي بمعونة من يأثم ولا يؤجر».

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن جعفر عن [أخيه] أبي الحسن (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله عز وجل».

* الشرح:

قوله: (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا في بعض أحواله) سواء استجار به في دفع الظلم عنه، أو في قضاء حاجة له عنده أو عند غيره.

ص:27

باب من منع مؤمنا شيئا من عنده أو من عند غيره

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، جميعا، عن محمد بن علي، عن محمد بن سنان، عن فرات بن أحنف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أيما مؤمن منع مؤمنا شيئا مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسودا وجه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار».

* الشرح:

قوله: (من منع مؤمنا شيئا مما يحتاج إليه... إلى آخره) مفاد أحاديث هذا الباب راجع إلى ما في الباب السابق إلا أنها لما وردت باسم خاص ونهي خاص وضع لها بابا آخر وأمثال هذه الأحاديث دلت على العقوبة بسبب خلاف المروة وترك الآداب والمرغبات وحملها على التغليظ أو المنع لأجل الإيمان أو للاستخفاف كما قيل في نظائرها ممكن والله أعلم، والظاهر أن مزرقة من الأفعلال. قال في كنز اللغة: ازرقاق «گربه چشم شدن».

* الأصل:

2 - ابن سنان، عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا يونس، من حبس حق المؤمن أقامه الله عز وجل يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل عرقه أو دمه وينادي مناد من عند الله: هذا الظالم الذي حبس عن الله حقه قال: فيوبخ أربعين يوما ثم يؤمر به إلى النار».

* الشرح:

قوله: (حتى يسيل عرقه أو دمه... إلى آخره) الترديد من الراوي أو القضية منفصلة مانعة الخلو وفي بعض النسخ أودية جمع الوادي ولعل المراد بأربعين يوما زمان مقداره أربعون يوما من أيام الدنيا والموبخ المؤمنون أو الملائكة أو هما، وفيه دلالة على أن حق المؤمن حق الله عز وجل لكمال القرب أو لأنه تعالى جعلة حقا له وأول من دخل في هذا الوعيد الخلفاء الثلاثة ومن تبعهم لأنهم منعوا حق أول المؤمن وأفضلهم أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الأصل:

3 - محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من كانت له دار فاحتاج مؤمن إلى سكناها فمنعه إياها قال الله عز وجل: يا ملائكتي بخل عبدي على عبدي بسكنى الدار الدنيا وعزتي وجلالي لا يسكن جناني أبدا».

ص:28

* الشرح:

قوله: (قال الله عز وجل: يا ملائكتي بخل عبدي على عبدي بسكنى الدار الدنيا وعزتي وجلالي لا يسكن جناني أبدا) لا ريب في أنه بمجرد ذلك المنع لا يصير كافرا خارجا عن الإيمان من كل وجه، فلابد من التأويل والله ورسوله أعلم به، ويمكن أن يأول المنع بالمنع من أجل الإيمان فيصير كافرا، أو يراد بالجنان الجنان المعين وهو الجنان الذي يدخلها قاضي حوائج المؤمنين.

* الأصل:

4 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن علي بن جعفر قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله عز وجل ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله عز وجل، وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفور له أو معذب، فإن عذره الطالب كان أسوء حالا قال: وسمعته يقول: من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله تبارك وتعالى».

* الشرح:

قوله: (وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلط الله عليه شجاعا من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفور له أو معذب) الشجاع ضرب من الحيات على الاستعارة سمي به لكثرة سمه القاتل، ولعل المراد به الحية حقيقة، واستبعاد بعض السفهاء بأنه لو كانت لرأيناها عند مشاهدة الميت في القبر واللازم باطل، وأيضا الميت تتفرق أجزاؤه فلا يتصور نهشه، ومدفوع بأن هذه الباصرة لا تقدر أن ترى ما في عالم الآخرة، وتفرق الأجزاء لا يدفع ذلك; لأن الله تعالى يقدر على جمعها وإن لم تبصره، وعلى إيصال الألم لم بكل جزء، ويمكن أن يراد بها الصفات الذميمة للنفس فإن كان واحدة بمنزلة حية تعذبها بعد فرقها من البدن وإن لم تجد ألمها قبله، وعلى هذا لا يتوجه الاستبعاد المذكور، ثم بالغ في تقبيح حاله بقوله: (فإن عذره الطالب كان أسوء حالا) أي رفع عنه اللوم، وقيل: عذره مع عدم العذر; لأن المفروض أنه قادر على قضاء الحاجة، ولعل وجه كونه أسوء حالا أنه خالف الله في عذره مع أنه لا منفعة له فيه بخلاف تارك القضاء فإنه خالفه لرفاهة نفسه ومنافعه، ومن البين أن المخالفة الأولى أشد وأقبح مع أن فيه الرضا بالمنكر، والميل إلى من أبغضه الله تعالى، وقد يقال: اسم كان يعود إلى الموصول مثل ضمير عذره.

ص:29

باب من أخاف مؤمنا

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى، عن الأنصاري، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله عز وجل يوم لا ضل إلا ظله».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله عز وجل يوم لا ضل إلا ظله) يدخل في الوعيد كل ما يخيفه مثل الإشارة بالسيف والسكين ونحوها، ولعل الظل مستعار للجود والرحمة أو الحماية والستر، والوجه الراحة. فإن الملتجىء في راحة كالمستظل من حر الشمس.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي إسحاق الخفاف، عن بعض الكوفيين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من روع مؤمنا بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصبه فهو في النار، ومن روع بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار».

* الشرح:

قوله: (من روع مؤمنا بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصبه فهو في النار) ترويع المؤمن وهو تفزيعه وتخويفه حرام ونوع من أذاه. ثم المروع إن كان كافرا فأمره ظاهر، وإن كان مؤمنا ولم يتب ولم يعتذر نقص بذلك إيمانه واستحق الوعيد المذكور وتدركه الشفاعة بعد العقوبة إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمتي».

* الشرح:

قوله: (من أعان على مؤمن بشطر كلمة) الإعانة عليه أعم من الإعانة على نفسه وماله وعرضه.

ومن أن تؤثر فيه تلك الكلمة أو لا.

ص:30

باب النميمة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا انبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:

المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا انبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب) البراء ككرام جمع البريء، والبغي الطلب، والنم نقل الحديث لقصد الإفساد يقال: نم الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب سعى به، ليوقع فتنة أو وحشة فالرجل نم تسمية بالمصدر، ونمام مبالغة، والاسم النميمة، والنميم أيضا وهي قول الغير المنقول إلى المقول فيه كما يقول: فلان تكلم فيك بكذا وكذا، وينقله بالقول أم بالكتابة أم بالإشارة والرمز، وكثيرا ما يكون نقل ذلك القول نقصا أو عيبا في المحكي عنه موجبا لكراهته له وإعراضه عنه فهو راجع إلى الغيبة أيضا فالنمام كثيرا ما يجمع بين المعصيتين معصية الغيبة والنميمة، ومفاسدها أكثر من أن تحصى، ويجب على المنقول إليه أن لا يصدق الناقل لأنه فاسق وان ينهاه لأن نهيه من النصيحة وأن يبغضه لأنه مبغض عند الله، ويجب بغض من يبغضه الله سبحانه وأن لا يظن بالمنقول عنه شرا، ولا يحمله ذلك على التجسس عليه لأنه حرام بنص القرآن ولا يحكى ما نقل إليه لأنه يصير مثله نماما إلا أن يتضمن مصلحة شرعية كإخبار الإمام عمن يريد أن يوقع فسادا وكاخبار الرجل عمن يريد أن يفتك به أو بأهله أو بماله، وقد يجب ذلك بحسب المواطن.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عيسى، عن يوسف بن عقيل عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «محرمة الجنة على القتاتين المشائين بالنميمة».

* الشرح:

قوله: (محرمة الجنة على القتاتين المشائين بالنميمة) القتات: النمام يقال: قت الحديث يقته

ص:31

إذا زوره وهيأه، وقيل: النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، والقتات الذي يتسمع وهم لا يعلمون ثم ينم والقساس الذي يسأل عن الأخبار ثم ينمها، والحديث يحتاج إلى تأويل لأن الفسق لا يوجب الكفر الموجب للخلود في النار والحرمان من الجنة أبدا والحمل على المستحل، وعلى أن الجنة حرام عليه ابتداء ولا يدخلها إلا بعد انقضاء مدة العقوبة، أو على أن المراد بالجنة جنة معينة لا يدخلها القتات أبدا محتمل، والله أعلم.

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن الإصبهاني عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شراركم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، المبتغون للبراء المعايب».

ص:32

باب الإذاعة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن الله عز وجل عير أقواما بالإذاعة في قوله عز وجل:

(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) فإياكم والإذاعة».

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل عير أقواما بالإذاعة في قوله: عز وجل: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) فإياكم والإذاعة) قال المفسرون: معناه إذا جاءهم مما يوجب الأمن أو الخوف أذاعوه وأفشوه كما إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أخبرهم الرسول بما أوحى إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوه من غير حزم وكانت إذاعتهم مفسدة، وهذا صريح في أن إذاعة الخبر إذا كانت مفسدة لا تجوز.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن محمد الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا.

قال: وقال لمعلى بن خنيس: المذيع حديثنا كالجاحد له».

* الشرح:

قوله: (من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا) المذيع والجاحد متشاركان في عد الإيمان وبراءة الإمام منهم وفعل ما يوجب لحوق الضرر، بل ضرر الإذاعة أقوى; لأن ضرر الجحد يعود إلى الجاحد، وضرر الإذاعة يعود إلى المذيع وإلى المعصوم وإلى المؤمنين، واعلم أ نه (عليه السلام) كان خائفا من أعداء الدين على نفسه المقدسة وعلى شيعته وكان في تقية شديدة منهم فلذلك نهى عن إذاعة خبر دال على إمامته وامامة آبائه وأولاده الطاهرين، وعلى ذم أعدائهم بل عن إذاعة أخبارهم في الشرائع والأحكام والحدود لكون أكثرها مخالفة لأحكام العامة المخترعة لأوهامهم الكاسدة وآرائهم الفاسدة ولم يجوز الإذاعة إلا إلى ثقة معتمد في دينه مأمون من الإذاعة وبالغ في

ص:33

الزجر عنها تارة بأن المذيع كالجاحد وتارة بأنه قاتل وتارة بأنه ليس بمؤمن وتارة بأنه شاك وتارة بأنه عاص وتارة بأنه مارق عن الدين وخارج عنه لعلهم يحذرون.

3 - يونس، عن ابن مسكان، عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان».

4 - يونس بن يعقوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتلنا قتل عمد».

* الأصل:

5 - يونس، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «يحشر العبد يوم القيامة وما ندى دما فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك. فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب إنك لتعلم أنك قبضتني وما سفكت دما، فيقول: بلى سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه فنقلت حتى صار إلى فلان الجبار فقتله عليها وهذا سهمك من دمه».

* الشرح:

قوله: (يحشر العبد يوم القيامة وما ندى دما فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك... إلى آخره) المحجمة بكسر الأول قارورة الحجام، والواو في قوله: «وماندى دما» للحال والنداوة البلل أي ما نال دما ولم يصبه نداوته وبلله، وفي هذا الحديث وما قبله وما بعده دلالة واضحة على أن السبب يشارك القاتل المباشر في العقوبة، وعلى أن القول الباعث للقتل كالقتل ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «رب كلام كالحسام» وقال أيضا: «رب كلام أنفذ من السهام».

* الأصل:

6 - يونس، عن ابن سنان، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وتلا هذه الآية: «(ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) قال: والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية».

* الشرح:

قوله: (ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية) أي فصارت الإذاعة من حيث أنها سبب للقتل قتلا، ومن حيث أنه ظلم على المقتول وإعانة للقاتل

ص:34

اعتداء، ومن حيث إنه لا يجوز عند احتمال الضرر معصية فالمذيع متصف بهذه الثلاثة.

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «(ويقتلون الأنبياء بغير حق) فقال: أما والله ما قتلوهم بأسيافهم ولكن أذاعوا سرهم وأفشوا عليهم فقتلوا».

8 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل عير قوما بالإذاعة، فقال: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) فإياكم والإذاعة».

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن عثمان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أذاع علينا شيئا من أمرنا فهو كمن قتلنا عمدا ولم يقتلنا خطأ».

* الأصل:

10 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن نصر بن صاعد مولى أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مذيع السر شاك وقائله عند غير أهله كافر ومن تمسك بالعروة الوثقى فهو ناج، قلت: ما هو؟ قال: التسليم».

* الشرح:

قوله: (مذيع السر شاك وقائله عند غير أهله كافر) لعل المراد أن مذيع السر عند مجهول الحال شاك بقرينة قوله: «وقائله - أي قائل السر - عند غير أهله وهو المذيع والمخالف، كافر» وأما إظهاره عند المؤمن المعتمد فجائز.

11 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن رجل من الكوفيين، عن أبي خالد الكابلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجل جعل الدين دولتين دولة آدم - وهي دولة الله - ودولة إبليس، فإذا أراد الله أن يعبد علانية كانت دولة آدم، وإذا أراد الله أن يعبد في السر كانت دولة إبليس، والمذيع لما أراد الله ستره مارق من الدين».

* الأصل:

12 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من استفتح نهاره بإذاعة سرنا سلط الله عليه حر الحديد وضيق المحابس».

* الشرح:

قوله: (من استفتح نهاره بإذاعة سرنا) لعل ذكر الاستفتاح بذلك على سبيل التمثيل وإلا فالحكم غير مختص به.

ص:35

باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق

* الأصل:

1 - علي إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من طلب رضا الناس بسخط الله جعل الله حامده من الناس ذاما».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من طلب رضا الناس بسخط الله جعل الله حامده من الناس ذاما) هذا النوع من الإنسان كثير منهم من ترك الإمام الحق واتبع الجائر طلبا لرضاه كأصحاب معاوية ويزيد عليهما اللعنة ويدخل في هذا النوع كل من أعان جائرا في جوره طلبا لرضاه كعساكر السلطان الجائر وغلمانه، والمتكفلين لأعماله، والمتكلمين على وفق مقاصده الخارجة عن القوانين الشرعية، ومنهم استعمل الحمية للحميم بالباطل، ومنهم شاهد الزور ومنهم من رجح جانب أحد المتخاصمين لمجرد صداقته، ومنهم من جمع المال من الحرام والشبهة طلبا لرضا أهله ووارثه، ومنهم من يساعد الرفقاء ويوافقهم في الغيبة وذكر عيوب الناس طلبا لرضاهم عنه بالمرافقة والموافقة، فإنهم قد يغتابون أحدا فيرى أنه لو أنكر وقطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم طلبا لرضاهم عنه، ويرى ذلك لجهله أنه من حسن المعاشرة، ويظن أنه مجاملة في الصحبة، ومنهم السلطان الذي لا يدفع ظلم عامله عن رعيته أو ظلم الرعايا بعضهم بعضا ولو فتشت أحوال الناس وجدت أكثرهم على هذه الخصلة الذميمة الموبقة، ثم هو بعد ما عليه في الآخرة من العقوبة التي لا مفر له منها يذمه في الدنيا والآخرة من يحمده في وقت النصرة أو من يتوقع منه الحمد فيترتب على فعله نقيض مقصوده أما في الدنيا فلأن حامده يعلم خيانته وجوره قطعا فيبغضه باطنا، وربما يلومه ظاهرا أو لايثق به في أمر من أموره، وأما في الآخرة فإن كل واحد منهما يتبرأ من الآخر كما نطق به القرآن الكريم.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذاما ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كل عدو، وحسد كل حاسد، وبغي كل باغ وكان الله عز وجل له ناصرا وظهيرا».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذاما ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله

ص:36

عداوة كل عدو، وحسد كل حاسد، وبغي كل باغ وكان الله عز وجل له ناصرا وظهيرا) رغب في ترك تلك الخصلة ومعالجتها فإن اختيارها إما لتوقع المال والجاه والحمد والثناء من الناس، أو لدفع الخوف والضرر عن نفسه، وشئ من هذه الأمور لا يصلح لذلك إذ مع ما فيه الإعراض عن حمده تعالى والتعرض للعقوبة منه لعل الله تعالى يصرف قلوب العباد عنه فيجعل من يتوقع الحمد منه ذاما وعدوا له فيصير خاسر الدنيا والآخرة وفي العكس سعادتهما إذ من آثر طاعة الله بعضب الناس طالبا لحمده تعالى وخوفا من عقوبته كفاه الله عداوة كل عدو وحسد كل حاسد يريد زوال نعمته ويحتال لازالتها وبغي كل باغ متجاوز عن الحد في إيصال السوء إليه وايقاع المكروه عليه، إما بصرف قلوبهم عما أرادوا وإلقاء المحبة فيها فيجعلهم محبين حامدين له بعد ما كانوا مبغضين معاندين له، أو بنصرته عليهم إن تبعوا أحكام الغضب ولو أجروا عليه الغضب كان الله عز وجل منتقما له في الآخرة.

* الأصل:

3 - عنه، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كتب رجل إلى الحسين صلوات الله عليه: عظني بحرفين، فكتب إليه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر».

* الشرح:

قوله: (من حاول أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر) مثلا من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق يفوت رضاه ومدحه ويجد غضبه وذمه بخلاف من حاول رضاه تعالى بمعصية الخلق فإنه تعالى يجعله مادحا له وهذا أمر مشاهد مجرب فإن الناس مجبولون على حب الأمين المتدين العامل لله القاصد له في جميع حركاته وسكناته وهذا من جوامع الكلام في الزجر عن المنهيات والترغيب في الخيرات.

* الأصل:

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله، ولا دين لمن دان بفرية باطل على

ص:37

الله، ولا دين لمن دان بجحود شيء من آيات الله».

* الشرح:

قوله: (لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله، ولا دين لمن دان بفرية باطل على الله، ولا دين لمن دان بجحود شيء من آيات الله) الفرية «دروغ بافتن» وهي أخص من العصيان وطاعة العاصي أعم من طاعته في المعصية وغيرها ولعل المراد بآيات الله الأئمة (عليهم السلام) أو الأعم وبالدين الطريقة النبوية ومن البين أنه لادين بهذا المعنى لمن دان بالأمور المذكورة; لأن هذه الأمور ليست من هذه الطريقة وأول من دخل في هذا الوعيد أتباع الخلفاء الثلاثة، ثم أتباع سلاطين الجور، ثم اتباع من دونهم من الفاسقين.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام)، عن جابر بن عبد الله [الأنصاري] قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من أرضى سلطانا بسخط الله خرج من دين الله».

ص:38

باب في عقوبات المعاصي العاجلة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خمس إن أدركتموهن فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا اخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولو لا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم وعدوهم وأخذوا بعض ما في أيديهم، ولم يحكموا بغير ما أنزل الله [عز وجل] إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمس إن دركتموهن فتعوذوا بالله منهن) هي: ظهور الفاحشة أي الزنا، ونقص المكيال والميزان، ومنع الزكاة، ونقض عهد الله ورسوله والحكم بغير ما أنزل الله، ويترتب على كل واحد منها عقوبة تناسبه فإن الأول لما كان فيه تضييع آلة النسل ناسبه الطاعون الموجب لانقطاعه، والثاني لما كان القصد فيه زيادة المعصية ناسبه القحط وشدة المؤونة وجور السلطان بأخذ المال وغيره، والثالث لما كان فيه منع ما أعطاه الله بتوسط الماء ناسبه منع نزول المطر من السماء، والرابع لما كان فيه ترك العدل والحاكم العادل ناسبه تسلط العدو وأخذ الأموال، والخامس لما كان فيه رفض الشريعة وترك القوانين العدلية ناسبه وقوع الظلم بينهم وغلبة بعضهم على بعض، وفيه تنبيه على أن لهذه الأمور تأثيرا عظيما في نزول هذه البلايا وورود هذه المصائب لاستعداد أهلها بالانهماك فيها وعدم المبالاة بها لسخط الله وعقوبته وأشار بقوله:

(ولو لا البهائم لم يمطروا) إلى أن وجود البهائم رحمة للناس وسبب لوصول فيض الحق إليهم، وذلك لأن بقاء البهائم ونشوءها بالماء والكلاء وهو متوقف على نزول المطر من السماء فإذا نزل المطر رعاية لحالها وحفظا لنظام أحوالها انتفع به بنو آدم أيضا كما دلت عليه حكاية النملة واستسقائها وقولها: «اللهم لا تؤاخذنا بذنوب بني آدم» وكما أن عقوبة الله عز وجل قد تعم الأبرار بشؤم الأشرار كذلك رحمته قد تعم الأشرار لرعاية الضعفاء والأخيار، ولعل المراد بعهد الله وعهد

ص:39

رسوله هو العهد بنصرة الإمام الحق واتباعه في جميع الامور، وظاهر أن ذلك موجب لظهور العدل بينهم وحفظ أموالهم ودمائهم وقطع أيدي الأعداء عنهم وأن نقض ذلك العهد والهجران عن الإمام موجب لتسلط سلطان الجور عليهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم كما هو مشاهد الآن في أقطار الأرض وأما جعل بأسم بينهم وهو القوة والشدة والعذاب فكأن المراد به غلبة بعضهم على بعض بالتعدي والطغيان ومعاونة بعضهم لبعض على الظلم والعدوان والله أعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد جمعيا، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة وإذا طفف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم عدوهم وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم».

* الشرح:

قوله: (وإذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان); لأن الرافع للتعاون على الظلم والعدوان والباعث للتعاون على البر والتقوى والإحسان هو العدل، فإذا ارتفع العدل وتحقق ضده وهو الجور تحقق التعاون على الظلم والعدوان في النفس والمال والعرض وذلك موجب لتبدد النظام المطلوب عقلا وشرعا.

قوله: (وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار) أول الأرحام وأولاها بالوصل رحم آل محمد والأئمة صلى الله عليه وعليهم أجمعين وقطعها يوجب وقوع أموال المؤمنين والأبرار في أيدي الفجرة والأشرار كما وقع في الصدر الأول واستمر إلى الآن، ثم أرحام المؤمنين وقطعها يوجب انقطاع النسل الموجب لوقوع الأموال في أيدي الأشرار، أو يوجب وقوع المخالفة بينهم وعدم معاونة بعضهم بعضا، وذلك يوجب طمع الأشرار في أموالهم وأخذها منهم ظلما (وإذا لم يأمروا بالمعروف... إلى آخره) يحتمل ترتب التسليط على ترك كل واحد من الأمرين المذكورين، وعلى تركهما جميعا، ووجه عدم استجابة دعاء الخيار هو استحكام الغضب وبلوغه حد الحتم والإبرام، ألا يرى أنه لم تقبل شفاعة خليل الرحمن لقوم لوط كما يدل عليه قوله تعالى:

(يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)؟

ص:40

باب مجالسة أهل المعاصي

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن عبد الله بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره».

* الشرح:

قوله: (لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره) المراد بمعصية الله ترك أوامره وفعل نواهيه، كبيرة كانت أو صغيرة، حق الله كان أو حق الناس. ومن جملة ذلك اغتياب المؤمن وذكره بما يكرهه فإن فعل أحد شيئا من ذلك وقدرت على تغييره ومنعه منه فغيره أشد تغيير حتى يسكت عنه وينزجر ولك ثواب المجاهدين وإن خفت منه فاقطعه وانقله بالحكمة من أمره إلى أمر آخر جائز ولو بنحو من التقريب ولابد أن يكون التغيير بالقلب واللسان لا باللسان وحده والقلب مائل إليه فإن ذلك نفاق وفاحشة اخرى، وإن لم تقدر عليه فقم ولا تجلس معه فإن لم تقدر على القيام أيضا فأنكره بقلبك وامقته في نفسك، وكن كأنك على الرضف فإن الله تعالى مطلع على سرائر القلوب وأنت عنده حينئذ من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وإن لم تنكر ولم تقم مع القدرة على الإنكار والقيام فقد رضيب بالمعصية فأنت وهو حينئذ سواء في الإثم كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «المستمع أحد المغتابين» وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

«السامع للغيبة أحد المغتابين».

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن بكر بن محمد، عن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب؟ فقال: إنه خالي، فقال: إنه يقول في الله قولا عظيما، يصف الله ولا يوصف، فإما جلست معه وتركتنا، وإما جلست معنا وتركته، فقلت:

هو يقول ما شاء، أي شيء علي منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (عليه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو

ص:41

يرغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا فاتي موسى (عليه السلام) الخبر، فقال: هو في رحمة الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع»؟

* الشرح:

قوله: (فإما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته) دل على أنه ينبغي عدم الجلوس مع من يجالس أهل المعاصي وإن لم يكن هو من أهلها.

(وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا) المراغمة المغاضبة تقول: راغمته إذا غاضبته، وغرقه في البحر مع كونه في طاعة الله تعالى بنصيحة أبيه وهدايته لأجل مقاربة المذنب فمن قارب المذنب ولم تكن تلك المقاربة طاعة فهو أولى بالمؤاخذة وأمره في الآخرة شديد.

* الأصل:

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أ نه قال: «لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المرء على دين خليله وقرينه».

* الشرح:

قوله: (لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم); لأن من تشبه بقوم فهو منهم، ويفهم منه أن حسن الحال عند الناس مطلوب، وربما كان ذلك سببا لحسن حاله عند الله تعالى; لأن الله تعالى لا يرد شهادة المؤمنين له فما ذهب إليه فرقة من الملامتيه باطل، وينبغي أن يعلم أن الناس إما أهل الخير والصلاح، وإما أهل الشر والفساد والواجب على الفرقة الأولى التعاون والتآلف والتودد فيما بينهم، والقيام بأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إلى الفرقة الثانية مع وجود الشرائط وإلا وجب عليهم المهاجرة عنهم وبما قررنا يظهر وجه الجمع بين الأخبار التي يدل بعضها على مدح الاعتزال وبعضها على مدح الاجتماع، وبعضها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبطل قول من رجح الاعتزال مطلقا وقد بسطنا الكلام في صدر الكتاب.

ثم بالغ في الزجر عن مصاحبة أهل البدع بقوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المرء على دين خليله وقرينه) أي ظاهرا وباطنا أما ظاهرا فظاهر لأنه عند الناس مثلهم، وأما باطنا فلأن النفس مائلة إلى الشرور فتميل إلى طبع الجليس سريعا وتسكن إليه فتستعد لصدور ما يصدر عنه من الامور المنكرة، ويعكس الأمر إذا كان الجليس زاهدا متورعا عالما متدينا.

ص:42

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم) الريب الشك ومن علاماته المساهلة في الدين وترك الأوامر وفعل النواهي وعدم الاعتناء بهما، والبدعة اسم من الابتداع (1) وهو الاحداث ثم غلب استعمالها فيما هو زيادة أو نقصان في الدين، والمراد بسبهم الإتيان بكلام يوجب الاستخفاف بهم.

قال الشهيد الثاني: يصح مواجهتهم بما يكون نسبته إليهم حقا لا بالكذب (2) وهل يشترط جعله على طريق النهي فتشترط شروطه أم يجوز الاستخفاف بهم مطلقا؟ ظاهر النص والفتاوى الثاني والأول أحوط. ودل على جواز مواجهتهم بذلك وعلى رجحانها رواية البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إذا ظاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة» (3) ومرفوعة محمد بن بزيع «من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب» انتهى. والوقيعة اللوم والذم والعيب. تقول: وقعت في فلان وقوعا ووقيعة إذا عبته وذممته، وبفلان إذا لمته، والبهت التحير والدهش، ولعل المراد به (4) إلزامهم

ص:43


1- (1) قوله: «والبدعة اسم من الابتداع» وليست بهذا المعنى شيئا مذموما مطلقا; لأن الأمر الحادث الذي لم يكن على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة على ما في قواعد الشهيد، فكتابة القرآن والحديث في مجلد بين الدفتين كان أمرا حادثا بعد رسول (صلى الله عليه وآله) وهو واجب حفظا للكتاب والسنة، وايجاد المدارس وتدوين علم النحو واللغة، وتأليف الكتب فيها حادث مستحب، والتوسع في النعيم والتنوع في الأطعمة والألبسة وتزيين البناء وأمثالها مكروهة، وكل حادث نهى عنه الشرع بدعة محرمة واختراع عبادة لم يأمر بها عموما ولا خصوصا محرمة كذلك، وفي البدع امور مباحة لم ينه الشارع عنها ولم يأمر بها، وقالوا: أول بدعة حدثت بعد رسول الله استعمال المنخل لنخل الدقيق، ولكن غلب في استعمال أهل الشرع إطلاق البدعة على خصوص ما حرم منها، ولا يسمى عند المتأخرين غيره بدعة (ش).
2- (2) قوله: «نسبته إليهم حقا لا بالكذب» فلا يجوز نسبة شيء إلى أحد، وإن كان مبتدعا إلا إذا كانت صادقة، فلا يجوز نسبة الكفر إليه إن لم يقل كلمة تدل على كفره (ش).
3- (3) الوسائل أبواب آداب العشرة من كتاب الحج ب 154.
4- (4) قوله: «والبهت والتحير والدهش ولعل المراد به» وربما يختلج في ذهن بعض العوام أنه يجوز البهتان والافتراء على أهل البدع بأن ينسب إليهم كفر لم يتفوهوا به لمزيد تنفير الناس عنهم وهو غلط واضح بل البهتان كذب وهو حرام كما مر من قول الشهيد (قدس سره) (ش).

بالحجج البالغة لينقطعوا ويبهتوا كما بهت الذي كفر في محاجة إبراهيم (عليه السلام) وكل ذلك. (كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم) فإنك إذا وقعت فيهم وأظهرت بدعهم ولمتهم بها يتركون الفساد، ويحذر منهم الناس ولا يتعلمون من بدعتهم، ولا يكتسبونها خوفا من الله، أو من الوقيعة، واعلم أن لخلاف الحق درجات متفاوتة منهم الكافر، والإعراض عنه وعداوته وبغضه لازم وإن كان أهل الذمة والأمان، ومنهم المبتدع وهو الذي يرتكب البدعة ويدعو الناس إليها، ومنهم أهل المعصية التي فيها إيذاء الخلق، كالظلم، والشهادة الزور، والحكم بخلاف الحق، والهجو، والغيبة. وفهم أهل المعصية التي فيها إيذاء الخلق كالظلم وشهادة الزور والحكم بخلاف الحق والهجو والغيبة، ومنهم أهل المعصية التي لا تؤذي الخلق كشرب الخمر وترك الصلاة، وهؤلاء يجب زجرهم عن المعصية فإن قبلوا وتابوا وإلا وجب الوقوع فيهم وتشهيرهم لما ذكر. ثم رغب فيما ذكر بقوله:

(يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة) فيا عجبا لمن يدعي الفضل حيث يجالس الشاربين للخمور والشاغلين بالنرد والطنبور، والمؤذين للمؤمنين بالغيبة وقول الزور، والعاملين بجميع أنواع المعصية والفجور، وهو يتكلم على وفق مرادهم بغمض عن فسادهم حبا للشهرة والرئاسة وطلبا لما في أيديهم من متاع الدنيا للخساسة.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن يوسف، عن ميسر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا ينبغي للمسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب».

الشرح:

قوله: (لا ينبغي للمسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب) الفاجر الفاسق، والأحمق الناقص العقل من الحمق وهو نقصان العقل وفساده، وقيل: هو من يسبق كلامه فكره ولا يتأمل في نطقه أهو صواب أم خطأ، وإليه يرشد قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه» والكذاب المبالغ في الكذب المشتهر به، وهؤلاء لا ينفعون في الدين والدنيا فلا خير في مواخاتهم وصداقتهم.

* الأصل:

6 - عنه، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن سالم الكندي، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)

ص:44

قال: «كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يجتنب مواخاة ثلاثة: الماجن والأحمق والكذاب، فأما الماجن فيزين لك فعله ويحب أن تكون مثله ولا يعينك على أمر دينك ومعادك ومقارنته جفاء وقسوة، ومدخله ومخرجه عليك عار، وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه وربما أراد منفعتك فضرك، فموته خير من حياته وسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه، وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش ينقل حديثك وينقل إليك الحديث، كلما أفنى احدوثة مطها باخرى حتى أ نه يحدث بالصدق فما يصدق ويغري بين الناس بالعداوة فينبت السخائم في الصدور فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم».

* الشرح:

قوله: (ينبغي للمسلم أن يجتنب مواخاة ثلاثة: الماجن والأحمق والكذاب) مجن مجونا من باب قعد صلب وغلظ وهزل ورفث أي أفحش في منطقه، ولا يبالي قولا وفعلا فهو ماجن وقد بالغ في الزجر عن مواخاة الأحمق بقوله:

(وربما أراد منفعتك فضرك) وذلك لأنه لا يعرف موارد الكلام وحقائق الامور وآثارها وفوائدها ومفاسدها ومنافعها ومضارها، فربما يقول شيئا مثلا ويعتقد أنه نافع وهو ضار، وأشار إلى بعض من صفات الكذاب الداعية إلى ترك مواخاته بقوله:

(وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش ينقل حديثك وينقل إليك الحديث) وبذلك يفتح بينك وبين بني نوعك باب الفساد الذي لا يمكن سده بشيء.

(كلما أفنى احدوثة مطها باخرى) أي مدها والأحدوثة واحد الأحاديث وهي ما يتحدث به، (حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق); لأن الكذوب قد يصدق إلا أنه لا يصدق لشهادة حاله على كذب مقاله (ويغري بين الناس بالعداوة) للافتراء عليهم ونقل كلام كل إلى الآخرين (فينبت السخائم في الصدور) السخيمة والسخمة بالضم الحقد، وفي بعض النسخ الشحناء بالشين والحاء المهملة وهو البغض والحدق وفي بعضها «الشجنا» بالشين والجيم من الشجن بالتحريك وهو الهم والحزن، والكل مناسب، والإنبات استعارة تبعية وهذه الخصلة هي ثمرة مصاحبة الكذابين وهي خصلة شنيعة ذميمة لكونها منافية للنظام، قاطعة للالتئام، مؤدية إلى شيوع القتل والنهب والسبي في الأنام.

(فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم) لما كان الكذاب ذليلا في نفسه مذلا لغيره وبين (عليه السلام) مضاره نبه

ص:45

هنا بأنه لابد لكل أحد من أن ينظر لنفسه ويعرف حال من يريد مؤاخاته ومصادقته ولا يعتمد على ظاهر حاله في بادىء الرأي لئلا يتخذ مصاحبا ذليلا مذلا.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن عذافر، عن بعض أصحابه، عن محمد بن مسلم أو أبي حمزة، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قال لي علي بن الحسين صلوات الله عليهما: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا توافقهم في طريق فقلت: يا أبه من هم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك باكلة أو أقل من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاث مواضع: قال الله عز وجل: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وقال: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) وقال: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)».

* الشرح:

قوله: (إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب) السراب كثيرا ما يطلق على الآل اللامع في المفازة بصورة الماء ويطلق أيضا على كل ما لا حقيقة له، وقوله: «يقرب... إلى آخره» إشارة إلى وجه الشبه كما فسرناه آنفا.

(وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك باكلة) هي بضم الهمزة اللقمة وبفتحها مرة من الأكل ونظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «إياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه» أي باليسير الحقير وذلك لأنه سهل عليه خلاف الديانة فلا يحفظ حق المصادقة.

چو فاسق ديانت ندارد يقين * تو خود را بلقمه فرخته ببين (وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه) خذلته وخذلت عنه من باب قتل والاسم الخذلان إذا تركت نصرته واعانته وتأخرت عنه وهجرته والظاهر أن أحوج منصوب على الحال من الكاف، و «ما» مصدرية، وضمير إليه راجع إلى البخيل أو إلى ماله.

ص:46

قوله: (قال الله عز وجل: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)) أي فهل يتوقع منكم أن توليتم امور الناس وتأمرتم عليهم أو توليتم عن الإسلام وأعرضتم عنه أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وتقطعوا أرحامكم وتظلموا في الولاية وتقاتلوا الأقارب؟ وفيه توبيخ يعني أن لضعفكم في الدين وحرصكم على الدنيا يتوقع ذلك منكم أولئك المذكورون الذين لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام فأصمهم عن استماع الحق وقبوله وأعمى أبصارهم فلا يهتدون سبيله.

(وقال: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)) لله تعالى عهود، عهد أخذه بالعقل على عباده بإراءة آياته في الآفاق والأنفس وبما ركز فيه من إقامة الحجة على وجود الصانع وقدرته وتوحيده وعهد أخذه عليهم بان يقروا بربوبيته وأقروا وقالوا: بلى حين قال: (ألست بربكم). وعهد أخذه على أهل الكتاب في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد (صلى الله عليه وآله) وعهد أخذه على الأمم بأن يصدقوا نبيا بعث إليهم بالمعجزات ويتبعوه ولا يخالفوا حكمه، وعهد أخذه عليهم بالولاية للأوصياء. وعهد أخذه على العلماء بأن يعلموا الجهال ويبينوا ما في الكتاب ولا يكتموه. وعهد أخذه على النبيين بأن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وقد وقع النقض في جميع ذلك إلا في الأخير والضمير في ميثاقه للعهد، وقال المفسرون: هو اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام والمراد ما وثق الله به عهده من الآيات والكتب أو ما وثقوه به من الالتزام والقبول. و «أن يوصل» في محل الخفض على أنه بدل الاشتمال من ضمير «به» وقطعهم شامل لقطع رحم محمد (صلى الله عليه وآله) وترك الوصل بأوصيائه الطاهرين وقطع رحم الأقربين وقطع موالاة المؤمنين وقطع ما بين الأنبياء والمرسلين من الوصلة والاجتماع على الحق بالإيمان ببعض والكفر ببعض. والافساد في الأرض شامل لكل ما يجوز شرعا كالمنع من الإيمان والاستهزاء بالحق وأهله والقتل والنهب ونحوها.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن قول الله عز وجل: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها)... إلى آخر الآية، فقال: «إنما عنى بهذا [إذا سمعتم] الرجل [الذي] يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان».

ص:47

* الشرح:

قوله: (ولا تقاعده كائنا من كان) أي سواء كان من أهل ملتك أم من أهل الخلاف فإنه لا بد من القيام وترك مجالسته إذا لم يمكنك نهيه عن المنكر وإلا وجب نهيه وإذا لم يمكن النهي والقيام للتقية والخوف منه أو من غيره وجب إنكاره قلبا كما دلت عليه روايات أخر وقد مر تفسير الآية الكريمة في باب «أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها» فلا نعيده.

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن سيف بن عميرة، عن عبد الأعلى ابن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن».

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة».

* الشرح:

قوله: (قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة) أي لا يقوم مقام تهمة وشك ولا يجلس فيه فإنه يتهم بالفسق ظاهرا عند الناس وقد يتلوث به باطنا لقلق قلبه وقبوله الشك والفسق من الجليس. قال في المغرب: رابه ريبا شككه والريبة الشك والتهمة ومنها الحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإن الكذب ريبة وإن الصدق طمأنينة أي ما يشكك ويحصل فيك الريبة وهي في الأصل قلق النفس واضطرابها، ألا ترى كيف قابلها بالطمأنينة، وهي السكون وذلك أن النفس لا تستقر متى شكت في أمر وإذا أيقنته سكنت واطمأنت.

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة عن عبد الأعلى قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخرة فلا يقعدن في مجلس يعاب فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن».

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن مسلم، عن إسحاق بن موسى قال: حدثني أخي وعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه، ومجلسا ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رث، ومجلسا فيه من يصد عنا وأنت تعلم، قال: ثم تلا أبو

ص:48

عبد الله (عليه السلام) ثلاث آيات من كتاب الله كأنما كن في فيه - أو قال [في] كفه -: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره). (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)».

* الشرح:

قوله: (ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته... إلى آخره) المراد بالنقمة - بفتح النون وكسر القاف أو سكونها - إما العقوبة الدنيوية أو اللعنة، وبالرث البالي الخلق، والهين الضعيف وبمن يصد من يصد عنهم (عليه السلام) في ذلك المجلس أو أعم فيفهم عدم مجالسة الصاد عنهم مطلقا، ويؤيد الثاني قوله «وأنت تعلم» أي وأنت تعلم به من يصدعنا وإن لم تعلم فلا حرج عليك في مجالسته إذ لا تكليف بالمهاجرة عنه مع عدم العلم بحاله، وبسب الله عز وجل سبهم (عليه السلام) وإنما نسب سبهم إلى ذاته المقدسة تشريفا وتعظيما لهم وليس المراد سب الله عز وجل حقيقة لأن أحدا لا يسبه كما وقع التصريح به في بعض الروايات، وبالآيات أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وقع التصريح به في بعض الروايات وربما يؤيده تذكير الضمير في غيره.

* الأصل:

13 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن مسلم، عن داود بن فرقد قال: حدثنى محمد بن سعيد الجمحي قال: حدثني هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف حتى تقوم فإن الله يمقتهم ويلعنهم فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط الله ينزل هناك عليهم».

* الشرح:

قوله: (فكن كأنك على الرضف حتى تقوم) الرضف الحجارة المحماة الواحدة رضفة مثل تمر وتمرة وفي كنز اللغة رضف «سنگى كه گرم ميسازند وبآن شتر را داغ ميكنند وگوشت را بريان ميكنند».

14 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجاج.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من قعد عند ساب لأولياء الله فقد عصى الله تعالى».

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن القاسم بن عروة، عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من قعد في مجلس يسب فيه إمام من الأئمة، يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله الذل في الدنيا وعذبه في الآخرة وسلبه صالح ما من به عليه

ص:49

من معرفتنا».

* الشرح:

قوله: (من قعد في مجلس يسب فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف) من الانتصاف أن يقتله إذا لم يخف على نفسه أو عرضه أو ماله أو على مؤمن آخر وقد سئل الصادق (عليه السلام) عمن سمع يشتم عليا (عليه السلام) ويبرأ منه فقال: هو حلال الدم. وإضافة «صالح» إلى الموصول في قوله (وسلبه صالح ما من به من معرفتنا) إما بيانية فيفيد سلب المعرفة وإما لامية فيفيد سلب الأعمال الصالحة عنه.

* الأصل:

16 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى، عن علي بن محمد بن سعد، عن محمد بن مسلم، عن الحسن بن علي بن النعمان، قال: حدثني أبي علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن اليمان بن عبيد الله قال: رأيت يحيى بن أم الطويل وقف بالكناسة ثم نادى بأعلى صوته: معشر أولياء الله، إنا براء مما تسمعون من سب عليا (عليه السلام) فعليه لعنة الله ونحن براء من آل مروان وما يعبدون من دون الله، ثم يخفض صوته فيقول: من سب أولياء الله فلا تقاعدوه ومن شك فيما نحن عليه فلا تفاتحوه، ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم فقد خنتموه، ثم يقرأ: (إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا).

* الشرح:

قوله: (رأيت يحيى بن أم الطويل وقف بالكناسة) يحيى بن أم الطويل المطعمي من أصحاب الحسين (عليه السلام) وقال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن علي بن الحسين (عليهما السلام) في أول أمره إلا خمسة أنفس وذكر من جملتهم يحيى بن أم الطويل وروي عن الصادق (عليه السلام) قال: «ارتد الناس بعد قتل الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا» وفي رواية اخرى مثله وزاد فيها: وجابر بن عبد الله الأنصاري، وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن الحجاج طلبه وقال: تلعن أبا تراب، وأمر بقطع يديه ورجليه وقتله.

(ومن شك فيما نحن عليه فلا تفاتحوه) أي فلا تحاكموه أو تبتدئوه بالمجادلة والمناظرة (ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم فقد خنتموه) إذ لابد من إعطائه قبل الطلب كما دل عليه بعض الروايات.

(وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) في النهاية: المهل القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من الجسد ومنه قيل للنحاس المذاب مهل، وفي الكشاف المهل: ما اذيب من جواهر الأرض وقيل دردي الزيت يشوي الوجوه من حرارته إذا قدم ليشرب، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) هو كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه.

ص:50

باب أصناف الناس

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن سليم مولى طربال قال:

حدثني هشام، عن حمزة بن الطيار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «الناس على ستة أصناف، قال:

قلت: أتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم قلت: ما اكتب؟ قال: أكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار، واكتب (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: وحشي منهم، قال: واكتب (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) قال: واكتب (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) لا يستطيعون حيلة إلى الكفر، ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) قال: واكتب أصحاب الأعراف، قال: قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم وإن أدخلهم الجنة فبرحمته».

* الشرح:

قوله: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): الناس على ستة أصناف) لعل وجه الحصر أن الناس إما مؤمن أو كافر أو لا هذا ولا ذاك، والأخير هم المستضعفون الذين لا يقرون بالحق ولا ينكرونه والثاني هم أهل النار قطعا والأول إما مؤمن كامل سابق بالخيرات لم يصدر منه ذنب أصلا أو لا، والأول هم أهل الجنة قطعا والثاني إما أن يتوب عن ذنبه أولا، والأول (وهم آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) أي يقبل توبتهم والثاني إما أن تغلب حسناته على سيئاته أو لا، والأول هم (آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) والأول هم أصحاب الأعراف. قال بعض المفسرين: الأعراف سور مضروب بين الجنة والنار وهو السور المذكور وفي قوله تعالى: (فضرب بينهم بسور له باب) قيل: أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السماوات والجحيم في أسفل السافلين؟ وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر (1)

ص:51


1- (1) قوله: «أجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر» إن كان غرض المجيب أن البشر ما داموا في الدنيا لا يعرفون تفاصيل امور الآخرة فلعل البعد بين الجنة والنار لم يكن مانعا من الرؤية، ويحتاج في المنع إلى سور، فله وجه; لأن البعد المكاني في الدنيا مانع من رؤية الأجرام الصغار دون الكبار كالكواكب الثابتة مع بعدها العظيم وأما الآخرة فأهل الجنة يرون أهل النار أو بالعكس صغيرا وكبيرا، ولا يجوز قياس الدنيا بالآخرة، اما إذا ضرب بينهما بسور أمكن منع الرؤية، وأما إن كان غرضه أن السور ضرب لغير منع الرؤية فهو بعيد عن سياق الآية، وربما يتوهم المبتدي أن النفوس المفارقة لا تطلع إلا على أنفسها، ومرتكزات خاطرها، ومعلوماتها المخزونة في ذاتها، ولا تعلم الموجودات الخارجة عن ذاتها إذ لا يعلم الأشياء الخارجة عن الذات إلا بالحواس، ولا حاسة بعد مفارقة البدن وهو غير موافق لما حققه الحكماء العارفون بهذا الشأن إذ المجرد يمكن أن يكون عالما بغيره بغير وساطة الجوارح وعاقلا له إذا كان ذلك الغير مجردا، وقالوا: إن المجرد قابل: لأن يصير مقارنا لمجرد آخر فيصح أن يصير معقولا; لأن العقل ليس إلا مقارنة العاقل للمعقول (ش).

لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب وله أعلى وأسفل وعلى أعلاه رجال يعرفون كلا بسيماهم أجلسهم الله تعالى في ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم وليكونوا مشرفين مطلعين على أحوال الخلائق وهم كما كانوا في الدنيا شهداء على أهل الطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية كذلك يكونون في الآخرة شهداء على كل أحد بما يليق به ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلى في الجنة، وعلى أسفله قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله تعالى عليه لأنه درجة متوسطة بين الجنة والنار ثم يؤول أمرهم إلى الجنة بفضل الله تعالى إن شاء الله.

(قال اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار) «من» بيان لأهل الوعيد وإشارة إلى صنفين من الأصناف الستة، وفي بعض النسخ «الوعد» بدون الياء بدل الوعيد، وفي بعضها الوعدين على صيغة التثنية.

(قال: وحشي منهم) هو قاتل حمزة ثم أسلم وقتل مسيلمة الكذاب كما هو المذكور في كتب السير على المشهور وأدرجه (عليه السلام) في هذا الصنف وأدرجه أبوه (عليه السلام) في الباب الثامن بعد هذا الباب في صنف المرجون لأمر الله، ولعل المراد بالمرجون في الباب الثامن المعنى الشامل للصنفين جميعا، والإرجاء التأخير وسموا بذلك; لأن حكمهم مؤخر إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله عليهم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حماد، عن حمزة بن الطيار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «الناس على ست فرق، يؤولون كلهم إلى ثلاث فرق: الإيمان والكفر والضلال، وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله الجنة والنار: المؤمنون والكافرون، والمستضعفون والمرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وأهل الأعراف».

ص:52

* الشرح:

قوله: (الناس على ست فرق يؤولون كلهم إلى ثلاث فرق: الإيمان والكفر والضلال) لعل المراد بالإيمان الإيمان الكامل الذي لا يشوبه شيء من المعصية والمتصفون به هم السابقون المقربون وبالكفر انكار الحق والمتصفون به هم المخلدون في النار والضلال واسطة بينهما والمتصفون به على أربعة أقسام لأنهم إن وقفوا بين الإيمان والكفر فهم المستضعفون وإن اتصفوا بالإيمان والمعصية وتابوا عنها فهم المعترفون بذنوبهم وإن لم يتوبوا فإن نقصت المعصية عن الطاعة فهم المرجون لأمر الله وإن زادت عليها أو سواها فهم أهل الأعراف وضمير الجمع في قوله (وهم أهل الوعيد) راجع إلى ست فرق، وفي بعض النسخ بدل الوعيد «الوعدين» مثل السابق.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن زرارة قال: دخلت أنا وحمران - أو أنا وبكير - على أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: إنا نمد المطمار قال: وما المطمار؟ قلت: التر، فمن وافقنا من علوي أو غيره توليناه ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عز وجل: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا)؟ أين المرجون لأمر الله، أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟، أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟! وزاد حماد في الحديث قال: فارتفع صوت أبي جعفر (عليه السلام) وصوتي حتى كاد يسمعه من على باب الدار، وزاد فيه: جميل، عن زرارة: فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة حقا على الله أن لا يدخل الضلال الجنة».

* الشرح:

قوله: (دخلت أنا وحمران - أو أنا وبكير - على أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنما نمد المطمار، قال: وما المطمار؟ قلت التر) الترديد إما من زرارة أو من راويه، والتر بالضم الخيط يقدر به البناء ويمد عليه يقول الرجل لصاحبه عند الغضب: لأقيمنك على التر.

(فمن وافقنا من علوي أو غيره توليناه ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه) كان مراده بالموافق مؤمن مستقر إيمانه ليس عليه كبيرة كما هو مذهب الخوارج والكبيرة عندهم كفر، فخرج بالأول من جحد الله أو رسوله أو الحجة (عليه السلام) والمستضعف الذي لا يعرف الحق ولا ينكره، وبالثاني المؤلفة وهم الذين آمنوا ولم يستقر الإيمان في قلوبهم لقرب عهدهم بالجاهلية وسموا بها، لأن

ص:53

النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعطيهم الزكاة والصدقات لتأليف قلوبهم، وبالثالث الكبيرة وهم المرجون لأمر الله والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وأصحاب الأعراف ودخل هؤلاء كلهم عنده في المخالف الذي يجب التبرؤ منه.

(فقال لي: يا زرارة قول الله أصدق من قولك) وهو وعد المستضعفين ومن بعدهم من الأصناف المذكورة بالجنة فلا يجوز إدخالهم في المخالف والتبرؤ منهم كما يتبرىء منه.

(وزاد حماد في الحديث قال:) أي زاد حماد في هذا الحديث عن زرارة قال زرارة: (فارتفع صوت أبي جعفر (عليه السلام) وصوتي حتى يكاد يسمعه من على باب الدار) دل على سوء أدب زرارة وانحرافه (1) والحق أنه من أفاضل أصحابنا أنه منزه عن مثل ذلك وكأن قوله هذا كان قبل استقراره على المذهب الصحيح أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب وتحصيل المهارة فيها ليناظر مع الخوارج وأضرابهم ورأى أن المبالغة فيها لا تسوؤه (عليه السلام) بل تعجبه، والله يعلم.

(وزاد فيه جميل عن زرارة فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة حقا على الله أن لا يدخل الضلال الجنة) المراد بالضلال المستضعفين وغيرهم من الأصناف المذكورة فهم ليسوا بكفار لدلالة الروايات الصحيحة والمعتبرة وإجماع الفرقة الناجية على أن الكفار لا يدخلون الجنة.

ص:54


1- (1) قوله «على سوء أدب زرارة وانحرافه» أما سوء الأدب فهو كذلك، وأما الانحراف فلا يدل كلامه عليه إذ رب محب يطيش فيخرج عن الأدب لاعن الحب، وليس كل أحد معصوما عن الزلل. أما رأيت ولدا برا بوالديه قد يتفق عند الغضب أن يخشن الكلام ويهجر الوالد ثم يندم من قريب ويعتذر، وروي من ابن عباس أشد من ذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان تابعا وليا له من أول عمره إلى آخره بعد ذاك العتاب وقبله بل يدل هذا الحديث على أن زرارة مفرطا في الولاية مبالغا فيه زائدا متجاوزا عن الحد الذي كان يرضى به الإمام (عليه السلام) وكان يرى أن كل متخلف عن أهل البيت كافر وردعه عنه الإمام (عليه السلام) بأن المستضعفين من الضلال في الجنة (ش).

باب الكفر

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن داود بن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفرائض الله عز وجل؟ فقال: إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا وأمر [رسول] الله بأمور كلها حسنة فليس من ترك بعض ما أمر الله عز وجل به عباده من الطاعة بكافر ولكنه تارك للفضل، منقوص من الخير».

* الشرح:

قوله: (قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفرائض الله عز وجل؟) أي في الشرف والاحترام أو في لزوم الوفاء أو في كفر التارك؟ (فقال: إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا) الفريضة تشمل الواجبات الأصولية والفروعية فلا يبعد أن يكون قوله: (فلم يعمل بها) ناظرا إلى الثانية وقوله: (وجحدها) ناظرا إلى الأولى حينئذ يكون الكفر أعم من كفر الجحود وكفر ترك ما أمر الله تعالى به وإن كان تركه مقرونا بالجحود كان كفره أيضا كفر جحود، وأما ترك الأولى من غير جحود ولا إقرار فهو مستضعف وقد مر وسيجئ أن المستضعف ليس بمؤمن ولا كافر وأنه في المشيئة.

(وأمر الله بأمور كلها حسنة فليس من ترك بعض ما أمر الله عز وجل به عبادة من الطاعة بكافر ولكنه تارك للفضل منقوص الخير) لعل المراد بتلك الامور الامور المندوبة، ففيه دلالة بحسب المنطوق أن ترك بعضها ليس بكفر وهو كذلك وبحسب المفهوم أن ترك جميعها كفر ولعل وجهه أنه موجب للاستخفاف بالدين والاستخفاف به كفر ولو خصت الفريضة بالأصولية أمكن أن يراد بتلك الامور الفروعية مطلقا وإن ترك بعضها وهو المندوبات ليس بكفر بشرط عدم الاستخفاف والإنكار، وفي بعض النسخ «وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمور».

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)

ص:55

قال: «والله إن الكفر لأقدم من الشرك وأخبث وأعظم، قال: ثم ذكر كفر إبليس حين قال الله له:

اسجد لآدم فأبى أن يسجد، فالكفر أعظم من الشرك فمن اختار على الله عز وجل وأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر ومن نصب دينا غير دين المؤمنين فهو مشرك».

* الشرح:

قوله: (إن الكفر لأقدم من الشرك وأخبث وأعظم) أما أنه أقدم فلأنه إباء من الطاعة وإنكار الحق وهو مقدم الشرك مسبوق لتوقفه على الكفر وأقل مراتبة الاباء من الأمر بترك الشرك وانكاره، وما ذكره (عليه السلام) من كفر إبليس على سبيل التمثيل بالفرد الواضح فإنه أبى أولا من طاعة الرب وأنكر أمره فكفر، ثم دعا إلى عبادة غير الله تعالى فأشرك. وأما أنه أخبث وأعظم من الشرك فلأنه سبب له وداع إليه وسبب الخبث وداعيه أخبث وأعظم منه، ومن هنا يظهر أن الشرك يستلزم الكفر دون العكس وإن من خالفنا في إمامة علي (عليه السلام) فهو كافر من جهة الإباء من طاعة الله وطاعة رسوله وإنكار أمرهما بخلافته (عليه السلام)، ومشرك من جهة نصب دين غير دين المؤمنين والظاهر أنه عز وجل لم يقل لإبليس بخصوصه اسجد لآدم والمراد بقوله (عليه السلام): «حين قال الله له: اسجد لآدم» أنه تعالى أمره أيضا بالسجود في قوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وشمول خطاب الملائكة له إما باعتبار التغليب أو لكونه داخلا فيهم ومعدودا من جملتهم.

(فمن اختار على الله عز وجل وأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر) لعل المراد بالاختيار اختيار مراده على مراد الله تعالى أو اختيار أمر إبليس على أمره تعالى وبالإباء من الطاعة إنكارها، ولا ريب في أن إنكار الطاعة سواء كانت من الاصول أم من الفروع كفر، ولو أريد بإبائها ترك العمل بها في الفرعية لا يبعد أن يراد بالكفر كفر النعمة أو كفر ترك المأمور به أو كفر الجحود مع الاستخفاف فيرجع إلى الأول.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ذكر عنده سالم بن أبي حفصة وأصحابه فقال: إنهم ينكرون أن يكون من حارب عليا (عليه السلام) مشركين؟ فقال: أبو جعفر (عليه السلام): فإنهم يزعمون أنهم كفار، ثم قال لي: إن الكفر أقدم من الشرك، ثم ذكر كفر إبليس حين قال له: اسجد فأبى أن يسجد، وقال: الكفر أقدم من الشرك، فمن اجترى على الله فأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر (يعني مستخف كافر)».

* الشرح:

ص:56

قوله: (عن عبد الله بن بكير، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ذكر عنده سالم بن أبي حفصة وأصحابه فقال: إنهم ينكرون أن يكون من حارب عليا (عليه السلام) مشركين؟) سالم بن أبي حفصة روى عن علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله (عليهم السلام) وكان زيديا بتريا من رؤسائهم، لعنه الصادق (عليه السلام) وكذبه وكفره وروي في ذمه روايات كثيرة، واسم أبي حفصة زياد وعبد الله مشترك بين عبد الله بن بكير بن أعين وعبد الله بن بكير الأرجاني وعبد الله بن بكير المرادي وعبد الله بن بكير الهجري والثلاثة الأول من أصحاب الصادق (عليه السلام) والأخير من أصحاب الباقر (عليه السلام) والظاهر أن فاعل قال في الموضعين راجع إلى زرارة وإن «ذكر» مبني للمفعول إلا أنه حينئذ في الثاني يحتاج إلى تقدير، أي فقال: قلت: إنهم ينكرون، ويحتمل أن يكون فاعل الأول راجعا إلى عبد الله وفاعل الثاني و «ذكر» إلى زرارة إلا أن نقله عن زرارة يأباه في الجملة.

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): فإنهم يزعمون أنهم كفار) أشار (عليه السلام) إلى مذهبهم وإلى أنهم يعتقدون في المحاربين ما هو أخبث من الشرك وليس فيه تصديق لقولهم بنفي الشرك وإن احتمل بناء على أن الشرك عبارة عن عبادة غير الله وهي لم تتحقق والكفر يتحقق بترك الطاعة وقد تحقق، ولعل المراد هو الأول ويؤيده ما يجيء في هذا الباب عنه (عليه السلام) من أن الحروري كافر مشرك، والله يعلم.

(فمن اجترى على الله فأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر يعني مستخف كافر) كأن قوله:

«يعني مستخف كافر» ليس من كلام الباقر (عليه السلام) وإن احتمل والغرض منه على التقديرين إما التنبيه على أن إباء الطاعة والقيام على الكبائر كفر إن كان مع الاستخفاف بها وإلا فلا، أو التنبيه على أن الإباء لا ينفك عن الاستخفاف فيكون هذا القول تفسيرا وبيانا للزوم لا تقييدا، والله يعلم.

* الأصل:

4 - عنه، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) قال: «إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر».

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول له عز وجل: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) قال: إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر) الهاء راجع إلى الإنسان و «إما» مع مدخولها حال عنه، أي إنا هديناه سبيل الخير وهو طريق التوحيد والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة وغيرها بإعطاء العقل ونصب الدلائل وانزال الكتاب وبعث الرسل فإما شاكرا بالاهتداء والأخذ فيه

ص:57

وإما كفورا بالإعراض عنه، فالمراد بالشكر الإقرار بالله وبرسوله وكتابه وشرايعه وأحكامه والعمل بها وبالكفر إنكار ذلك وترك العمل والأول كفر جحود وكذا الثاني مع الاستخفاف وبدونه كفر نعمة، ومن لطف الله تعالى على عباده وتشريفه لهم أنه من الله عليهم بالتوفيق لطاعته والقيام بوظائف خدمته وهي نعمة عظيمة، ثم جعلها جزاء وشكرا لبعض نعمائه الأخرى ومع ذلك يعطيهم بها أجرا جميلا وثوابا جزيلا في الآخرة.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن حماد بن عثمان، عن عبيد، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) قال: «ترك العمل الذي أقر به، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل».

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) قال:

ترك العمل الذي أقربه من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل) أشار بذلك إلى أن المراد بالإيمان العمل وقد مر أن إطلاقه عليه شايع ولعل المراد بالكفر كفر النعمة أو كفر ترك الأمر ومخالفته لا كفر الجحود والإنكار إلا أن يكون ترك العمل مقرونا بالاستخفاف أو الجحود وزوال الاعتقاد، أو يقال: ترك العمل بالواجبات المؤكدة والاستمرار عليه من غير علة لا ينفك عنها ويؤيده ذكر حبط العمل معه وعدم السقم والشغل، والله يعلم.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن موسى بن بكر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ قال: «فقال لي: ما عهدي بك تخاصم الناس، قلت:

أمرني هشام بن سالم أن أسألك عن ذلك، فقال لي: الكفر أقدم وهو الجحود، قال الله عز وجل:

(إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)».

* الشرح:

قوله: (ما عهدي بك تخاصم الناس) لعل المراد بالعهد هنا الإدراك والمعرفة أي ليس لي معرفة بحالك هل تخاصم الناس فتريد معرفة ما سألت لتخاصمهم.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن زرارة قال:

ص:58

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يدخل النار مؤمن؟ قال: «لا والله، قلت: فما يدخلها إلا كافر؟ قال: لا إلا من شاء الله، فلما رددت عليه مرارا قال لي: أي زرارة إني أقول: لا، وأقول: إلا من شاء الله وأنت تقول: لا، ولا تقول: إلا من شاء الله، قال: فحدثني هشام بن الحكم وحماد، عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخ لا علم له بالخصومة قال: فقال لي: يا زرارة ما تقول فيمن أقر لك بالحكم أتقتله؟ ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟ قال: فقلت: أنا - والله - الذي لا علم لي بالخصومة».

* الشرح:

قوله: (عن عبد الرحمن بن الحجاج عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يدخل النار المؤمن؟ قال: لا والله، قلت: فما يدخلها إلا كافر؟ قال: لا إلا من شاء الله) أي لا يدخلها أحد غير كافر إلا من شاء الله أن يدخلها وهذا وسط بين المؤمن والكافر لما ستعرفه خلافا لزرارة حيث ينفي الوسط بينهما وكأنه تمسك بقوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وبقوله تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير) وفي دلالتهما على ذلك منع. قال: (فلما رددت عليه مرارا قال لي: أي زرارة إني أقول: لا وأقول: إلا من شاء الله وأنت تقول: لا ولا تقول: (إلا من شاء الله) المفهوم من قوله (عليه السلام) «إلا من شاء الله» أن غير الكافر قد يدخل النار وقد فهم من قوله: (عليه السلام) (لا والله) أن المؤمن لا يدخل النار فقد فهم منهما أن هذا الغير ليس بمؤمن ولا كافر فهو وسط بينهما، وإنما لم يأت (عليه السلام) بعد قوله: (لا والله) بالاستثناء ولم يقل: إلا ما شاء الله لعدم احتماله إذ المؤمن لا يدخل النار قطعا بخلاف قوله: (لا) في السؤال الثاني فإنه يجوز فيه الاستثناء فإن المستثنى منه المقدر في قول زرارة (فما يدخلها إلا كافر؟) وهو أحد يصدق بعد استثناء الكافر، على المؤمن وغيره، وغيره قد يدخل النار فلذلك استثناه بقوله: (إلا من شاء الله) وجوز دخوله في النار بمشيئة الله تعالى، وأما زرارة فلما خص المستثنى منه بالمؤمن ترك الاستثناء ولم يقل: إلا ما شاء الله. ومما قررنا ظهر أن مناط الفرق بين القولين هو هذا الاستثناء وتركه فإن الأول يوجب ثبوت الواسطة والثاني عدمه.

(قال: فحدثني هشام بن الحكم وحماد، عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخ لا علم له بالخصومة) قال زرارة: النار لا يدخلها إلا كافر، صادق بدون الاستثناء ولا يثبت الحاجة إليه إلا بإبطال قوله وبيان فساده، ولما تكرر الكلام ولم يبين (عليه السلام) فساده أساء زرارة وأضمر بأنه شيخ لا علم له بالخصومة والمناظرة إذ لابد في مقام المناظرة وإثبات المدعى من إبطال قول الخصم وبيان

ص:59

فساده، فلما علم (عليه السلام) ما أضمره تصدى بيان فساد قوله بمقدمة مسلمة عنده وهي أن ضعفاء المسلمين الذين ليس لهم معرفة بالدين وهم مقرون بحكمه مندرجون تحت يده وقدرته وان خدمه وأهليه المستضعفين غير مؤمنين عنده ولا كافرين لأنه لا يجوز قتلهم ولو كانوا كافرين لجاز، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وهو كفر هؤلاء يستحقون النار بزعمه فلزم من ذلك أن النار لا يدخلها إلا كافر على الإطلاق ليس بصحيح بل لابد من التقييد بالاستثناء كما ذكره (عليه السلام) وهذا ما نقله زرارة عنه (عليه السلام).

(قال: فقال لي: يا زرارة ما تقول فيمن أقر لك بالحكم أتقتله؟) إشارة إلى القسم الأول (ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟) (1) إشارة إلى القسم الثاني والهمزة للإنكار، ويحتمل أن يكون «ما تقول في خدمكم» بيانا لما قبله والغرض على التقديرين تقريره بأن هؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا كافرين.

(قال: فقلت: أنا - والله - الذي لا علم لي بالخصومة) قال ذلك لصيرورته مغلوبا بما لديه ومخصوما بما عنده وهو عليه، والظاهر أن يقول: «لا علم له» إلا أنه عدل عن الغائب إلى المتكلم

ص:60


1- (1) قوله: «ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم؟» والظاهر أنه اشتبه على زرارة الإيمان والكفر في الدنيا الموضوعان للأحكام الفقهية من النجاسة والطهارة وتحريم التزويج وتحليله الحكم بالارتداد والقتل وأمثال ذلك وفي الآخرة الموجبان للثواب والسعادة أو العذاب والشقاوة الأبدية وظن أنهما من باب واحد ولا ريب أن الإنسان في الدنيا إما مؤمن طاهر يحل زواجه بالمسلمة أو كافر نجس لا يحل زواجه ويقتل إن كان مرتدا ولا وسط بين الإيمان والكفر والمنزلة بين المنزلتين قول بعض المعتزلة وهو باطل. وأما بالنسبة إلى درجات الآخرة فلا ريب في اختلاف درجات الناس وأما الحكم بفساد رأي المبطل والضال والتبري منهم فأمر لا ينافي المعاملة معهم ظاهرا معاملة المسلمين ثم ننبههم على خطئهم وبطلانهم وإن ارتدعوا فنتولاهم وإن تمادوا في الغي نتبرأ من آرائهم ولا نحكم بكفرهم ونجاستهم ووجوب قتلهم وزعم زرارة أن كل منحرف كافر والمؤمن من يعتقد الحق في جميع مزاعمه وآرائه ولو كان ذلك كذلك انحصر المؤمن في المعصومين (عليهم السلام) إذ ما من أحد إلا هو مخطىء في رأي من آرائه أو عقيدة من عقائده ولو كان من أعلم العلماء المتورعين ولابد أن يكون كل رجل مخطئا في رأي فإن كان لشبهة فهو معذور وإن كان لتقصير فهو معاقب في الآخرة من غير أن يحكم بكفره في الدنيا نعم لو كان خطؤه في الاعتقاد بالتوحيد والرسالة كان كافرا في الدنيا وإن كان لشبهة ولا يستلزم الكفر في الدنيا العقاب حتما فإن أولاد الكفار محكومون بالكفر والنجاسة والحرمان من إرث المسلمين وسائر أحكام الدنيا وإن لم يستحقوا العقاب في الآخرة، ومما يدل على ما ذكرناه خطا زرارة نفسه في هذا الرأي الذي حاج فيه الإمام (عليه السلام) فلو كان هو بهذا الخطأ خارجا عن الإيمان وجب التبري منه ولعنه ولم يعده أحد من أعاظم أصحاب الأئمة وأوثق الرواة وأفقههم ولكن عذروه لأن الاشتباه في أمثال هذه الآراء قد يتفق لأعاظم العلماء ويرد بعضهم على بعضهم ويبطل بعضهم آراء بعض آخر ونعلم أنهم لم يقصدوا بذلك إلا تحري الحق إلا أنه منحصر في أحدهم والباقون مبطلون معذورون (ش).

رعاية لجانب المعنى كما قيل في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنا الذي سمتنى أمي حيدرة» وهذا الذي ذكرته في الشرح هذا الحديث من باب الاحتمال، والله تعالى شأنه يعلم حقيقة هذا المقال.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وسئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟ فقال: «الكفر أقدم وذلك أن إبليس أول من كفر وكان كفره غير شرك لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله وإنما دعي إلى ذلك بعد فأشرك».

* الشرح:

قوله: (وذلك أن إبليس أول من كفر) حيث ترك طاعة ربه عتوا حين أمره بالسجود لآدم، ويفهم من آخر الحديث أن الداعي إلى عبادة غير الله والعابد له مشتركان في الشرك.

* الأصل:

9 - هارون، عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وسئل: ما بال الزاني لا تسميه كافرا وتارك الصلاة قد سميته كافرا؟ وما الحجة في ذلك؟ فقال: «لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه وتارك الصلاة لا يتركها إلا استخفافا بها وذلك لأنك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلا وهو مستلذ لإتيانه إياها قاصدا إليها وكل من ترك الصلاة قاصدا إليها فليس يكون قصده لتركها اللذة فإذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر، قال: وسئل أبو عبد الله (عليه السلام) وقيل له: ما الفرق بين من نظر إلى المرأة فزنى بها أو خمر فشربها وبين من ترك الصلاة حتى لا يكون الزاني وشارب الخمر مستخفا كما يستخف تارك الصلاة؟ وما لحجة في ذلك؟ وما العلة تفرق بينهما؟ قال: الحجة أن كلما أدخلت أنت نفسك فيه لم يدعك إليه داع ولم يغلبك غالب شهوة، مثل الزنا وشرب الخمر وأنت دعوت نفسك إلى ترك الصلاة وليس ثم شهوة فهو الاستخفاف بعينه وهذا فرق ما بينهما».

* الشرح:

قوله: (وسئل ما بال الزاني لا تسميه كافرا وتارك الصلاة قد سميته كافرا؟ (وما الحجة في ذلك؟) لما كان الظاهر تساوي الزاني وتارك الصلاة في الحكم لفعل كل واحد منهما منهيا عنه وهو الزنا وترك الصلاة، أو لأن الأول فعل منهيا عنه والثاني ترك مأمورا به والأمر والنهي متقابلان متماثلان سأل عن سبب التفاوت حيث إن الثاني يسمى كافرا دون الأول، وأجاب (عليه السلام) بإبداء السبب وإظهار الفرق بأن الثاني وهو تارك الصلاة مستخف لها وللامر بها دون الأول، ووجه

ص:61

الاستخفاف بها أن تاركها إما أن يختار السكون للاستراحة التي لا قدر لها عند العقلاء ولا لذة تقابل لذة فعلها، وإما أن يختار فعلا آخر من الافعال الدنيوية أو غيرها وعلى التقادير تركها استخفاف دال على إنكارها أو على عدم الاعتناء بها، وضمير التأنيث في قوله: «قاصدا إليها» راجع إلى المرأة أو إلى اللذة، ولعل المراد بالكفر في قوله: «وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر» كفر الجحود; لأن المستخف بالصلاة جاحد لا كفر النعمة وهو مقابل للشكر بناء على أن الصلاة شكر فتركها كفر لأن الكفر بهذا المعنى غير مختص بالصلاة لوجوده في الزاني وشارب الخمر أيضا; لأن تركهما طاعة وكل طاعة شكر، والمراد في قوله: «لم يدعك إليه داع» الداعي المخصوص وهو غلبة الشهوة، فقوله: «ولم يغلبك عليه غالب شهوة» عطف تفسير وإلا فكل فعل اختياري له داع.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من شك في الله وفي رسوله (صلى الله عليه وآله) فهو كافر».

* الشرح:

قوله: (من شك في الله وفي رسوله (صلى الله عليه وآله) فهو كافر) الظاهر أن الواو بمعنى «أو» للتنويع وأن الشك في إمامة علي (عليه السلام) مثل الشك في الرسالة والشاك فيهما كافر وجب قتله مع القدرة إذا كان ظاهر الإسلام وأما الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم فلا يجوز قتلهم من هذا الوجه وإن جاز قتلهم من وجه آخر.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

«من شك في رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: كافر، قلت: فمن شك في كفر الشاك فهو كافر؟ فأمسك عني فرددت عليه ثلاث مرات فاستبنت في وجهه الغضب».

* الشرح:

قوله: (قال: كافر قلت: فمن شك في كفر الشاك فهو كافر؟ فأمسك عني فرددت عليه ثلاث مرات فاستبنت في وجهه الغضب) كأنه سد بالامساك سؤاله عمن شك في علي (عليه السلام) لعلمه (عليه السلام) بأنه يسأل عنه بعد هذا السؤال فمنعه بالإمساك خوفا من إفشائه أو تقية من بعض الحاضرين.

* الأصل:

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة

ص:62

قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)؟ فقال: «من ترك العمل الذي أقر به، قلت: فما موضع ترك العمل حتى يدعه أجمع؟ قال: منه الذي يدع الصلاة متعمدا لامن سكر ولامن علة».

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)؟ فقال: من ترك العمل الذي أقر به، قلت: فما موضع ترك العمل حتى يدعه أجمع؟) كأنه طلب معرفة العمل الذي تركه يوجب حبط العمل حتى يجتنب منه وفيه دلالة على أن الذنب يحبط العمل، قيل: لا خلاف في أن الكفر يحبطه، ولا في أن احباط الموازنة واقع وإنما الخلاف في الإحباط بمعنى عدم اعتبار الحسنات لاقتراف السيئات، فالمعتزلة يثبتونه وجماعة من أهل السنة ينفونه.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم وحماد، عن أبي مسروق قال: سألني أبو عبد الله (عليه السلام) عن أهل البصرة، فقال لي: «ما هم؟» قلت: مرجئة، وقدرية وحرورية فقال: «لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء».

* الشرح:

قوله: (قلت: مرجئة وقدرية وحرورية) مرجئة بالياء أو الهمزة اسم فاعل من أرجيته أو أرجاءه بمعنى أخرته وهم فرقة من أهل الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا بذلك لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي وأخره عنهم.

والقدرية طائفة يقولون بخلق الاعمال وأن العباد لا قدرة لهم على أعمالهم. والحرورية الخوارج نسبوا إلى حروراء بالمد والقصر اسم قرية لأنه كان أول مجتمعهم وتحكيمهم بها.

(فقال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء) وصف الكافرة بالمشركة للتقييد لأن الكفر أقدم من الشرك وأعم منه كما مر واللعن يتوجه إليهم باعتبار كفرهم حيث أنكروا طاعة الله تعالى وأوامره وباعتبار شركهم حيث اتخذوا دينا غير دينه فلم يعبدوه على شيء يعتد به ويستحق اسم العبادة.

14 - عنه، عن الخطاب بن مسلمة وأبان، عن الفضيل قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وعنده رجل فلما قعدت قام الرجل فخرج، فقال لي: «يا فضيل ما هذا عندك؟ قلت: وما هو؟ قال:

ص:63

حروري، قلت: كافر؟ قال: إي والله مشرك».

* الأصل:

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «كل شيء يجره الإقرار والتسليم فهو الإيمان وكل شيء يجره الإنكار والجحود فهو الكفر».

* الشرح:

قوله: (كل شيء يجره الإقرار والتسليم فهو الإيمان وكل شيء يجره الإنكار والجحود فهو الكفر). الاقرار والتسليم لله ولرسوله ولأولي الامر ولوازمهما من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة إيمان، والإنكار والجحود وتوابعهما من الأعمال القبيحة والاخلاق الذميمة كفر.

* الأصل:

16 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إن عليا صلوات الله عليه باب فتحه الله من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا».

* الشرح:

قوله: (قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن عليا صلوات الله عليه باب فتحه الله من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا) المراد بالداخل العارف بحقه، وبالخارج المنكر له سواء أنكره مطلقا أو أنكره في مرتبته، وهنا قسم ثالث وهو الذي لم يدخل ولم يخرج ويسمى ضالا ومستضعفا كما سيجيء.

* الأصل:

17 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار وابن سنان وسماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

طاعة علي (عليه السلام) ذل ومعصيته كفر بالله، قيل: يا رسول الله وكيف يكون طاعة علي (عليه السلام) ذلا ومعصيته كفرا بالله؟ قال: إن عليا (عليه السلام) يحملكم على الحق فإن أطعتموه ذللتم وإن عصيتموه كفرتم بالله عز وجل».

* الشرح:

قوله: (فإن أطعتموه ذللتم وإن عصيتموه كفرتم بالله) لعل المراد بالذل الذل عند الله تعالى

ص:64

لأن مدار طاعته على المجاهدة في الطاعات والتضرع والخضوع والسجود والركوع وغيرها من العبادات وكل واحد منها بكيفياته وهيئاته موضوع على المذلة والاستسلام لعزة الله وعظمته وملاحظة كبريائه وجبروته وغير ذلك مما ينافي التكبر والتعظم، ويحتمل أن يراد به الذل عند الناس لأن طاعته توجب ترك الدنيا وزينتها والرضا بتسوية القسمة بين الشريف والوضيع وغير ذلك مما يوجب ذلا عند الناس وقد نقل أنه (عليه السلام) قسم بيت المال بين أكابر الصحابة والضعفاء على السوية فغضب لذلك طلحة والزبير وفعلا ما فعلا.

* الأصل:

18 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، قال: حدثني إبراهيم بن أبي بكر قال:

سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: «إن عليا (عليه السلام) باب من أبواب الهدى، فمن دخل من باب علي كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله فيهم المشيئة».

* الشرح:

قوله: (من لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله فيهم المشيئة) هذا قبل قيام الحجة وأما بعده فعدم الدخول فيه كفر; لأن المتوقف معذور إن لم يصل إليه أنه (عليه السلام) إمام مفترض الطاعة ولم يبلغه الحجة وإلا فلا عذر له كما سيجيء في باب المستضعف.

* الأصل:

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا».

* الشرح:

قوله: (لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا) مثلا من جحد حق علي (عليه السلام) ولم يقم عليه حجة إذا وقف ولم ينكره لم يكفر ودخل في المستضعف وهو في مشيئة الله فعسى أن تدركه الرحمة بخلاف الكفر، ومن هذا يعلم أن المخالفين كافرون.

* الأصل:

20 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن فضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل نصب عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن جهله كان ضالا ومن نصب معه شيئا كان مشركا ومن جاء بولايته دخل الجنة ومن جاء

ص:65

بعداوته دخل النار».

* الشرح:

قوله: (فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن جهله كان ضالا ومن نصب معه شيئا كان مشركا) من أنكر فهو كافر سواء أنكره عنادا أو أنكره مع الجهل بحاله أما من جهله ولم يقربه ولم ينكره فهو ضال ومستضعف والضال في المشيئة ومن نصب معه إماما وأخره فهو مشرك لأنه وضع دينا غير دين الله فالناس بالنسبة إليه (عليه السلام) إما مؤمن أو كافر أو مستضعف أو مشرك.

21 - يونس، عن موسى بن بكر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: «إن عليا (عليه السلام) باب من أبواب الجنة فمن دخل بابه كان مؤمنا ومن خرج من بابه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة التي لله فيهم المشيئة».

باب وجوه الكفر

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن يزيد، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل قال: «الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله وكفر البراءة وكفر النعم، فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم: الدهرية وهم الذين يقولون: «وما يهلكنا إلا الدهر» وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون، قال الله عز وجل: (إن هم إلا يظنون) أن ذلك كما يقولون وقال: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يعني بتوحيد الله تعالى فهذا أحد وجوه الكفر وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنه حق، قد استقر عنده، وقد قال الله عز وجل: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) وقال الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) فهذا تفسير وجهي الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه

ص:66

ومن كفر فإن ربي غني كريم)» وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وقال: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم اسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم) فكفرهم بترك ما أمر الله عز وجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله عز وجل يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) يعني تبرأنا منكم، وقال: يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس يوم القيامة: (إني كفرت بما أشركتموني من قبل) وقال: (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) يعني يتبرأ بعضكم من بعض».

* الشرح:

قوله: (وهو قول من يقول: لا رب ولا جنة ولا نار) (1) يعني ينكر المبدأ والمعاد.

ص:67


1- (1) قوله: «لا رب ولا جنة ولا نار» الكفر مشترك بين خمسة معان اشتراكا لفظيا أو معنويا لأنه استعمل في القرآن في كل واحد من الخمسة بالخصوص فإن كان منقولا شرعيا كان مشتركا لفظيا، وإن أطلق باعتبار كون المستعمل فيه من مصاديق المفهوم اللغوي كان مشتركا معنويا، والثلاثة الأخيرة منها غير الكفر المصطلح عنه المتشرعة المتأخرين إذ ليس كافر النعمة ولا مرتكب الكبائر كافرا عندهم والكفر بالمشركين وأعمالهم بمعنى البراءة منهم هو عين الإيمان، والكفر الذي يوافق اصطلاحهم هو المعنى الأول والثاني أي كفر الجحود بوجهيه. ولم يذكر الإمام (عليه السلام) كفر أهل الكتاب أعنى الاقرار بالربوبية وانكار الرسالة لأن الكفر لم يستعمل في القرآن الكريم في هذا المعني بخصوصه أو لعدم الحاجة إلى كثير مؤونة في بيان بطلانهم وإنما المهم اثبات الربوبية والمعاد، أو لأنهم داخل في القسم الثاني والكافر المستحق لاطلاق هذه الكلمة عليه هو الذي لا يؤمن بوجود شيء غير المادة المحسوسة وينكر وجود كل شيء لا يناله الحواس ولا يتحيز في مكان فمن رسخ هذا المعنى في ذهنه لا يخضع لأي دليل على وجود الواجب تعالى ولا الجنة والنار ولا وجود الملائكة والوحي والرسالة فإن جميع ذلك من عالم الغيب وشرط الإيمان بها الإيمان بالغيب وعدم كون الشيء محسوسا عند هؤلاء يدل على عدمه واقعا وهو الظن الذي لا يغني من الحق شيئا لأن عدم الوجودان لا يدل على الوجود، وقال تعالى في درهم «ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يظنون». (ش)

(وهو قول صنفين من الزنادقة) لعل المراد بهما صنف طلبوا لهذا العالم سببا فأحالوه على الطبع الذي هو صفة جسمانية خالية عن العلم والإدراك وصنف لم يطلبوا له سببا بل اشتغلوا بأنفسهم وعاشوا عيش البهائم أو صنف أنكروا والمبدأ والمعاد جميعا وصنف أنكروا المعاد وقالوا بقدم العالم وأبديته وصنف قالوا: لا حياة بعد الموت وصنف قالوا بالتناسخ وهو تعلق الروح بعد الموت ببدن آخر.

و (يقال لهم: الدهرية وهم الذين يقولون وما يهلكنا إلا الدهر) زعموا أن تولد الأشخاص وتكون الممتزجات وفسادها وحياتها وموتها مستندة إلى الدهر وتأثير الكواكب وحركات الأفلاك (وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان) منهم عدوه حسنا بتسويلات نفوسهم الفاسدة واختراعات أوهامهم الكاسدة.

و (على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون) كما قال عز وجل: (وما لهم بذلك من علم) بل بنوا ذلك على وهم وتخمين.

(قال الله عز وجل: (إن هم إلا يظنون) أن ذلك كما يقولون) وهذا القول في غاية البعد عن منهج الصواب بحيث لا يلتفت إلى قائله بالخطاب والجواب.

قوله: (وقال: (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يعني بتوحيد الله تعالى) سواء اسم بمعنى الاستواء وخبر لأن وما بعده فاعله أي مستو عليهم إنذارهم وعدمه أو خبر لما بعده والجملة خبر «لأن» أي إنذارهم وعدمه سيان عليهم وقوله: «بتوحيد الله» متعلق بكفروا أو بلا يؤمنون أو بهما على التنازع، ولما فرق عن الوجه الأول من الجحود أشار إلى الوجه الآخر منه بقوله:

(وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة) أي على معرفة الحق مثل الرسالة والولاية ونحوهما للعناد أو الحسد أو الاستكبار أو لغيرها.

(وهو أن يجحد الجاحد وهم يعلم أنه حق قد استقر عنده) استقرارا لا شك فيه (وقد قال الله عز وجل: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) أي أنكروا آيات الله وكذبوها والحال أن أنفسم مستيقنة بها عالمة إياها وإنما أنكروها ظلما لأنفسهم وعلوا أي ترفعا على الرسول والانقياد له والإيمان به. قال بعض الأصحاب: فيه دلالة على أن الإيمان هو التصديق مع العمل دون التصديق وحده وإلا لما سلب الإيمان عمن له هذا التصديق بانتفاء الإقرار باللسان وفيه نظر; لأن الروايات المتكثرة صريحة في أن الإيمان هو التصديق القلبي (1) وقد ذكرنا بعضها في

ص:68


1- (1) قوله: «صريحة في أن الإيمان هو التصديق القلبي» أن الإنسان مع كمال عقله وتفطنه مبتلى بوجود الواهمة فربما يعتقد شيئا لا يشك في صحته ومع ذلك لا ينقاد لاعتقاده كما مثلوه بأن الميت جماد والجماد لا يخاف عنه فينتج الميت لا يخاف عنه وهذا دليل عقلي صحيح يعتقده الإنسان لكن لا يوافقه وهمه على عدم الخوف كذلك المعاندون من أهل الكتاب على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا (قبل بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) وعلة كفرهم على ما بين الله تعالى في كتابه غلبة القوة الواهمة على العاقلة فلم يؤمنوا كما لا يؤمن بالمقدمات التي يعترف بها وبصحتها من يخاف من الميت وكذلك حب الجاه والعادة وكراهة ترك ما تربى عليه يمنع الكافي من الخضوع لعقله ونرى في زماننا أيضا كثيرا ممن نشأ على رأي وعقيدة واعتاد طريقة وعملا لا يتيسر له ترك ما اعتاده وإن أقيم له ألف دليل وإذا أقام الشيعي على مخالفه ألف قرينة وشاهد على كون علي (عليه السلام) غير راض بخلافة من تقدم عليه تمحل في الخروج عن العويصة وتكلف لإبداء احتمالات غير معقولة لتوجيه ما أشكل عليه حتى يتخلص من ترك ما نشأ عليه وهذا معنى قوله تعالى (ظلما وعلوا); لأن الظلم وهو الانحراف عن الحق وحب الاستعلاء والغلبة وعدم الاعتراف بالجهل والقصور من القوة الواهمة التي تغلب على العقل وكل صاحب رأي وحرفة وفن وعلم يريد أن يثبت رجحانه وعلوه وفضله على مخالفه، وكل جاهل بشيء يريد أن يبطل ذلك الشيء أو يجعله تافها ويظهر أن جهله به لأنه لا يعبأ به ولا فضل في علمه. فالمتفلسف أو المتفقه إن لم يكن عارفا بالنحو لا يعترف بأن النحوي أفضل منه في شيء بل يقول: إن النحو شيء لا فضل لعالمه ولا نقص على جاهله والمهم هو الذي أنا عالم به، والمتكلم الجاهل بالفقه لا يرى الفقه إلا وسيلة للتكسب لا علما يكمل به النفوس (وكل حزب بما لديهم فرحون) والفقيه الجاهل بالكلام لا يرى النظر في الكلام إلا تضييعا للعمر واشتغالا بما لا يعنى إن لم يعتقده ضلالا. وبالجملة هذا الصنف من الكفار جماعة غلبت أوهامهم على قوتهم العاقلة فصار تصديقهم القلبي مقهورا نظير من يخاف من الميت مع تصديقه بأنه جماد لا يخاف منه فكما أنه لا يصدق عليه أنه لا يخاف كذلك لا يصدق على من جحد واستيقنتها أنفسهم أنهم مؤمنون; لأن ظلمهم وانحرافهم وعلوهم وعصبيتهم مانعة من خضوع نفوسهم ليقينهم المرتكز في باطنهم (ش).

باب «أن السكينة هي الإيمان» وهو مذهب المحققين من أصحابنا ثم كون التصديق القلبي إيمانا مشروط بالإقرار باللسان مع القدرة وهو مذهب طائفة من العامة أيضا قال التفتازاني في شرحه للعقائد النسفية: فرقة يعني من أهل السنة والجماعة تقول الإقرار شرط لصحته وقال العلامة الدواني في شرحه للعقائد العضدية: والتلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار ولنا أيضا أن نقول: كون التصديق: ايمانا مشروط بعدم الإنكار فينتفي الإيمان بالإنكار، والله أعلم.

(وقال الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)) أي وكان أهل الكتاب من قبل البعثة يطلبون الغلبة على المشركين ويستنصرون عليهم بخاتم الأنبياء ويقولون: اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة أو يفتحون عليهم ويعرفون أن نبيا يبعث منهم وقرب زمانه فلما جاءهم النبي الذي عرفوه كفروا به

ص:69

وجحدوه حسدا أو خوفا من الرئاسة أو لغير ذلك فلعنة الله على الكافرين أي عليهم فوضع الظاهر موضع الضمير للتنصيص على أن لعنهم بسبب كفرهم وإنكارهم الحق المعروف عندهم.

(والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله: تعالى يحكى قول سليمان: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)) حين عرف سليمان (عليه السلام) نعمة الله تعالى في شأنه وعلم أنها صورة الابتلاء قال: هذا من فضل ربي أي الاقتدار من إحضار العرش في مدة يسيرة من مسافة بعيدة وهي مسافة بين سبأ والشام بلا حركات جسمانية من فضل ربي ونعمائه ليبلوني أأشكر بالإقرار بأن ذلك الفضل له ومنه لا لي ومني وبالإتيان بالثناء الجزيل والذكر الجميل أم أكفر بترك ذلك الإقرار وعدم ذلك الإتيان، ومن شكر فإنما يكشر لنفسه لأنه يديم العتيد ويجلب المزيد ويستحق الثواب ومن كفر بما مر فلا يضر الله شيئا فإن ربي غني عن عبادة العابدين وشكر الشاكرين، كريم بالإفضال والإحسان وترك مؤاخذه العبد بالإساءة والكفران لعله يتوب ويصلح حاله في مستقبل الأزمان ومن ها هنا ظهر أن ترك الشكر على النعمة كفر.

(وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)) الشكر هو الاعتراف بالنعمة ظاهرة كانت أو باطنة، جلية كانت أو خفية، والإقرار بها للمنعم والإتيان بالأعمال الصالحة المطلوبة له والامتثال بأوامره ونواهيه والاجتناب عن معاصيه. وكفر النعم ضد للشكر بهذا المعنى وهو سبب لزوال النعمة وعدم الزيادة وتحقق العقوبة في الدنيا والآخرة ولذلك قال الله عز وجل على سبيل التأكد من وجوه شتى: (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).

(وقال: (فأذكروني أذكركم)) أي فاذكروني ظاهرا باللسان وباطنا بالجنان عند الأوامر والنواهي أذكركم في ملأ المقربين بالخير والصلاح أو في القيامة إذا بلغت القلوب الحناجر من شدائدها أو في حال الموت أو في البرزخ أو في جميع الأحوال كما دلت عليه صيغة الاستقبال.

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)) قيل: أخذ العهد منهم بأن لا يقتلوا أنفسهم كما يفعله من يصعب عليه الزمان للتخلص من الصعوبة وكما يفعله بعض أهل الهند للتخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور وقيل بأن لا يفعلوا ما يوجب قتلهم وإخراجهم من ديارهم وقيل بأن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا عن وطنه وإنما جعل قتل الرجل وإخراجه غيره قتل نفسه وإخراجها لاتصاله به نسبا أو دينا ولأنه يقتص منه فكأنه قتل نفسه وقيل بأن لا يفعلوا ما يصرفهم عن الحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية وما يمنعهم عن الجنة التي هي

ص:70

دار القرار فإنه الجلاء الحقيقي.

(ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أي أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها وهذا تأكيد كقولك: أقر فلان على نفسه بكذا شاهدا عليها واعترفتم على قبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك أو أنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على اقرار أسلافكم بهذا الميثاق فيكون إسناد الإقرار إلى المخاطبين مجازيا.

(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) قيل: ثم استبعاد لما أسند إليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد الميثاق منهم واقرارهم وشهادتهم وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون الشاهدون يعني أنتم قوم آخرون غير هؤلاء الشاهدين كقولك: رجعت بغير الوجه الذي خرجت أي ما أنت الذي كنت من قبل نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات، وتقتلون حينئذ بيان لهذه الجملة وقيل: أنتم مبتدأ وتقتلون خبره، وهؤلاء إما منصوب بتقدير أعني أو منادى بحذف حرف النداء عند من جوز حذف حرف النداء في المبهمات كسيبويه وأتباعه، وقيل: «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» بمعنى الذين و «تقتلون» صلته أي ثم أنتم الذي يقتلون، وهذا عند الكوفيين وأما البصريون فلا يجوزون أن يكون هؤلاء وأولاء هذا بمعنى الموصول، وقيل: أنتم مبتدأ وهؤلاء خبره بحذف المضاف أي مثل هؤلاء (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) قيل: هو حال عن فاعل تخرجون أو عن مفعوله أو كليهما والتظاهر التعاون من الظهر أي تتعاونون عليهم، وقيل: لما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى زيادة اقتدار عليه بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان، وفيه دلالة على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة ولا يشكل هذا بتمكن الله الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه.

(وإن يأتوكم اسارى تفادوهم) قال المفسرون: قريظة وهم قبيلة من يهود خيبر كانوا حلفاء الأوس والنضير وهم قبيلة اخرى منهم حلفاء الخزرج فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإخراج أهلها وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟! فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن نذل حلفاءنا فذمهم الله تعالى على ذلك إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض، وأسارى جمع أسرى كسكارى جمع سكرى وأسرى جمع أسير كمرضى جمع مريض وقيل: اسارى أيضا جمع أسير وقيل: هو من الجموع التي تركوا مفردها كأنه جمع أسران كعجالي وعجلان (وهو محرم عليكم إخراجهم) هذا متعلق بتخرجون فريقا من دياركم وما بينهما اعتراض وهو ضمير الشأن وإخراجهم مبتدأ ومحرم خبره والجملة خبر لهو مفسرة له أو هو مبتدأ مبهم

ص:71

ومحرم خبره وإخراجهم تفسير له، أو هو راجع إلى الإخراج المفهوم من تخرجون وإخراجهم تأكيد أو بيان له.

(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) المراد بالبعض الأول الفداء وبالبعض الآخر حرمة القتال والإجلاء، وقد ذمهم الله تعالى على ذلك وأنكر الجمع بين الأمرين وأوعد عليه بقوله: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) قتل قريظة وسبي نسائهم وذراريهم واجلاء النضير لنقض عهدهم وضرب الجزية على غيرهم، والخزي ذل وهو أن يستحيي منه، يقال: أخزاه الله أي أهانه وأوقعه موقعا يستحيي منه، وتنكير خزي يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يعرف كنهه.

(ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) لشدة عصيانهم قيل: عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد فكيف وصف عذاب اليهود بأنه أشد؟ وأجيب أولا كفر العناد أشد فعذابهم أشد، وثانيا بأن المراد أن عذابهم أشد من الخزي لا مطلقا.

(وما الله بغافل عما تعملون) قيل هذا وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين; لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تقتضي وصول الحقوق إلى مستحقها.

(والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة) إضافة الكفر إلى البراءة بيانية.

(وذلك قوله: عز وجل يحكي قول إبراهيم (عليه السلام): (كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) يعني تبرأنا منكم) كفرهم جحود بالرب وبينه وكفر الخليل بهم بمعنى البراءة وفي «حتى» إشعار بأن البراءة والعداوة والبغض إنما كانت لله بسبب إنكارهم ولو زال السبب زال المسبب ولعل الفرق بين العداوة والبغض أن العداوة يظهر أثرها بخلاف البغض أو البغض أشد من العداوة.

وفي المصباح: البغضة بالكسر، والبغضاء شدة البغض.

(وقال: (إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم)) أول من يدخل في الأوثان وفي الخطاب الشيوخ الثلاثة وتابعوهم إلى يوم القيامة كما نطقت به الأخبار المعتبرة والآيات المذكورة صريحة في أن الكفر بمعنى البراءة كما يكون بين المؤمن والكافر كذلك يكون بين الكافرين.

ص:72

باب دعائم الكفر وشعبه

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن عمر بن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: «بني الكفر على أربع دعائم: الفسق والغلو والشك والشبهة.

والفسق على أربع شعب: على الجفاء والعمى والغفلة والعتو، فمن جفا احتقر الحق ومقت الفقهاء أصر على الحنث العظيم، ومن عمي نسي الذكر واتبع الظن وبارز خالقه وألح عليه الشيطان وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ولا غفلة، ومن غفل جنى على نفسه، وانقلب على ظهره، وحسب غيه رشدا، وغرته الأماني، وأخذته الحسرة والندامة إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء وبدا له ما لم يكن يحتسب، ومن عتا عن أمر الله شك ومن شك تعالى الله عليه فأذله بسلطانه وصغره بجلاله كما اغتر بربه الكريم وفرط في أمره.

والغلو على أربع شعب: على التعمق بالرأي والتنازع فيه والزيغ والشقاق، فمن تعمق لم ينب إلى الحق ولم يزدد إلا غرقا في الغمرات ولم تنحسر عنه فتنة إلا غشيته اخرى وانخرق دينه فهو يهوى في أمر مريج، ومن نازع في الرأي وخاصم شهر بالعثل من طول اللجاج، ومن زاغ قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة ومن شاق أعورت عليه طرقه واعترض عليه أمره، فضاق عليه مخرجه إذا لم يتبع سبيل المؤمنين.

والشك على أربع شعب: على المرية والهوى والتردد والاستسلام وهو قول الله عز وجل:

(فبأي آلاء ربك تتمارى).

وفي رواية اخرى: على المرية والهول من الحق والتردد والاستسلام للجهل وأهله، فمن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه، ومن امترى في الدين تردد في الريب وسبقه الأولون من المؤمنين وأدركه الآخرون ووطئته سنابك الشيطان ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيما بينهما، ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين ولم يخلق الله خلقا أقل من اليقين.

والشبهة على أربع شعب: إعجاب بالزينة وتسويل النفس وتأول العوج ولبس الحق بالباطل، وذلك بأن الزينة تصدف عن البينة، وأن تسويل النفس تقحم على الشهوة، وأن العوج يميل

ص:73

بصاحبه ميلا عظيما وأن اللبس ظلمات بعضها فوق بعض فذلك الكفر ودعائمه وشعبه».

* الشرح:

قوله: (بني الكفر على أربع دعائم) المراد هنا تفصيل دعائم الكفر مطلقا وبيان فروعها وثمراتها لا بيان حقيقته; لأن حقيقته إما الجحود أو غيره من الأنواع المذكورة.

(الفسق) وهو الخروج عنه الطاعة ويقال: أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد (والغلو) وهو مجاوزة الحد في الدين وفي التنزيل (لا تغلوا في دينكم) ويقال: أصله الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء.

(والشك) وهو تساوي النقيضين وفي المصباح: قال أئمة اللغة هو خلاف اليقين وهو التردد بين الشيئين سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر، قال تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) قال المفسرون: أي غير مستيقن وفعله يستعمل لازما ومتعديا بالحروف فيقال: شك الأمر يشك شكا إذا التبس وشككت فيه ولعل المراد به الشك في أصول الدين وضرورياته وهو أعظم أصول الكفر إذ يبتنى عليه أعظم المفاسد وأكثرها.

(والشبهة) وهي ترجيح الباطل بالباطل وتصوير غير الواقع بصورة الواقع وجلها بل كلها يحصل بمزج الباطل بالحق كما مر في كتاب العلم، ولذلك سميت شبهة لأنها تشبه الحق ولما فرغ من دعائم الكفر وأصوله وكان لكل واحدة منها أربع شعب وكانت لتلك الشعب ثمرات وآثار مهلكة أشار إلى تلك الشعب وثمراتها للتحذير منها والتنفير عنها بقوله: (والفسق على أربع شعب:

على الجفاء) وهو الغلظة في الطبع والخرق في المعاملة والفظاظة في القلب ورفض الصلة والبر والرفق ويقال: هو مأخوذ من جفاء السيل وهو ما نفاه السيل (والعمى) وهو إبطال البصيرة القلبية وترك التفكر في الامور النافعة في الآخرة (والغفلة) وهي غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له وقد استعملت فيمن ترك إهمالا وإعراضا كما في قوله تعالى: (وهم في غفلة معرضون) يقال:

غفلت عن الشيء غفولا من باب قعد وله ثلاثة مصادر: غفول وهو أعمها وغفلة وزان تمرة وغفل وزان سبب.

(والعتو) وهو مصدر بمعنى التجبر والاستكبار وفعله من باب نصر.

(فمن جفا احتقر الحق ومقت الفقهاء) المراد بالفقهاء من له معرفة دينية وبصيرة قلبية وحذاقة عقلية بها يعرف آفات النفس وأمراض القلب ومنافع الدنيا والآخرة ومضارهما وهو مع ذلك يقظ حذر وجل خائف. ورأس هذه الطائفة المكرمة أوصياء نبينا صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

ص:74

(وأصر على الحنث العظيم) وهو الإثم بالاحتقار والمقت أو بالأعم منهما (ومن عمي نسي الذكر) أي ذكر الله أو ذكر الآخرة أو القرآن الكريم أو أمير المؤمنين (عليه السلام) (واتبع الظن) أي الظن الحاصل له بالرأي والقياس والاستحسان العقلي كما هو شأن مخالفينا.

(وبارز خالقه) أي حاربه مطلقا أو في اتباع الظن حيث ارتكب ما نهاه عنه بقوله عز وجل:

(ولا تقف ما ليس لك به علم) وبقوله (إن يتبعون إلا الظن إن الظن لا يغني من الحق شيئا) (وألح عليه الشيطان) لأنه أثر فيه إغواؤه فطمع فيه وجد في إضلاله.

(وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ولا غفلة) أي طلب المغفرة من الله تعالى بلا توبة وندامة مما فعل ولا استكانة وتواضع لله عز وجل ولا غفلة من الذنوب وإذاعتها لأنه متلبس بهما والأول استهزاء والثاني نفاق والثالث اغترار.

(ومن غفل جنى على نفسه وانقلب على ظهره وحسب غيه رشدا) أي من غفل عما ذكر جنى على نفسه بما يهلكه وانقلب من الدين على ظهره ورجع عنه وحسب غيه وضلالة رشدا وصوابا وذلك لفساد عقله وكمال جهله.

(وغرته الأماني) وهي تعمى عين البصائر حتى لا ترى عواقب الامور وهي إنما تحصل من قصور العقل وإن كان كماله يقتضى فطام النفس عن الشهوات ونزعها عن الأماني والشبهات وخلو السر عن النظر إلى الزهرات والمقتنيات الداثرة، قال بعض الأفاضل: من المغرورين من ينكر الحشر والنشر ومنهم من يزعم أن وعيد الأنبياء من باب التخويف ولا عقاب في الآخرة، ومنهم من يقول:

إن لذات الدنيا متيقنة وعقوبة الآخرة مشكوكة والمتيقن لا يترك بالمشكوك، ومنهم من يفعل المعاصي ويقول: الله غفور رحيم، ومنهم من يزعم أن الدنيا نقد والآخرة نسية والنقد أحسن من النسية، ومنهم من اغتر بنفسه وبعمله وغفل عن آفاته، ومنهم من اغتر بعمله وظن أنه بلغ حد الكمال وليس مثله أحد وكأنه لم يسمع ما ورد من ذم العلماء المغرورين بعلومهم، ومنهم من علم وعمل وغفل عن طهارة الباطن من الأخلاق الرذيلة وظن أنه منزه عنها مستحق للثواب الجزيل بسببه، ومنهم من أغتر بأصل العلم وطلب علوما نافعة في الدنيا وغفل عن علم الآخرة، ومنهم من اغتر بأصل الطهارة والنيات وتبع وسواس الشيطان وظن أنه يحسن شيئا وأنه مستحق للاجر به، ومنهم اغتر بالعبادة وظن أنه فاق العابدين، ومنهم من اغتر بالزهد وظن أنه أزهد الناس وأنه شفيع للخلق يوم القيامة، ومنهم من اغتر بالمال، والمغرورون به كثير، ومنهم من اغتر بالأولاد والأنصار، ومنهم من اغتر بالجاه والرئاسة إلى غير ذلك من أسباب الغرة التي لا تحصى كثرة.

(وأخذته الحسرة) مما لحقه من الفضائح (والندامة) مما فعله من القبائح (إذا قضي الأمر)

ص:75

بين الخلائق في القيامة أو أمر الدنيا بالموت.

(وانكشف عنه الغطاء) المانع له من مشاهدة سوء عاقبته في القيامة أو في وقت الموت (1).

ص:76


1- (1) قوله: «فليس مثله أحد» جميع أصحاب الفنون مبتلون غالبا بهذه البلية فلا يعترفون بنقصهم بل قد لا يخضعون لغير أهل فنهم أيضا مع أن كل عالم عامي في غير فنه يجب عليه تقليده عقلا وأما العلوم الإسلامية فكل من تبحر في شعبة منها إن كان طالبا للجاه والحشمة ومؤثرا للدنيا على الآخرة نعوذ بالله - يدعي لا محالة انحصار الحق فيما يعلمه وأما غيره من العلوم فإن أمكن ابداء وجه للحكم بكونها ضلالا وكفرا وبدعة ولو بتكلف تمحل وأبداه ليكون معذورا في جهله إذ لا كمال في العلم بالبدعة والضلال وإن لم يمكن توسل بوجه آخر ليبدي عذره مثل ان كل علم غير علمه غير مهم ولا مفيد لا ينفع التمهر فيه ولا يضر الجهل به بل صرف العمر فيه تضييع للعمر، مع أن بقاء الدين وقوامه بعلوم كثيرة لا يتصور الاستغناء عنها البتة ولابد من وجود العالم بها في كل عصر وإن كان بعضها سهل المنال غير حاو لمسائل عويصة وغوامض صعبه أترى أنه لا يحتاج المسلمون إلى علم قراءة القرآن وضبط ألفاظها مع كونه المعجز الأعظم لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) أو إلى معرفة سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ الخلفاء وأعمالهم مع الأئمة المعصومين (عليه السلام) وأحوال الرجال أو إلى المواعظ لتذكير الناس وقصص الزهاد وآراء أهل الملل أو لا يحتاجون إلى الصرف والنحو والعربية إلى غير ذلك من العلوم وينحصر احتياجهم في الكلام والأصول؟ فيجب على العلماء حسن التفاهم والتناصر وترك التباغض والتحاسد وترغيب بعضهم بعضا في جميع ما يتعلق بالدين ولا يجوز ما يفعل بعضهم من الازدراء والتبرىء كما نراه، فالمتكلم إذا رأى المحدث أو الفقيه عاجزا عن إدراك دقائق علم الكلام ازدراه به واستخف به ورماه بنقص العقل وضعف الفكر، وصرف العمر في المسائل التي لا يحتاج إليها أحد من المسلمين عن ما يحتاج إليه نفسه كل يوم، والمحدث يرمي المتكلم بأن تتبع أصحاب المقالات الضالة والآراء الباطلة والاحتجاج بالأدلة العقلية لا يزيد المتفكر إلا ضلالا وتحيرا وبعدا، ويرمي أصحاب القراءات بأنها مأخوذة من العامة لا حجة فيها، وأصحاب الاصول كذلك بأنها مأخوذة من العامة وكتبهم طافحة بالمطالب التافهة وأصحاب العربية مضيعون عمرهم فيما لا يعني ولا فضل في العلم وهكذا ولا يبالون بتكفير من يؤمن بالله ويصلي ويصوم في خلوته ويظهر من أمارات أحواله ومخائل أطواره أنه أشد في الإيمان وأرسخ في اليقين وأعرف بمقام الأئمة (عليهم السلام) أشد تمسكا بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وأزهد في الدنيا وأعرض عن زخارفها من كل أحد بل ربما يجعلون الدليل على ضلاله ما هو أدل على إيمانه كالاستشفاء بالدعاء والتوسل بقبور الأئمة والأولياء واستصحاب الأدعية والرقى والتحرز من العين وغير ذلك مما يدل على اعتقاد صاحبه تأثير شيء غير الامور المادية في الحوادث فإن نفس هذا الاعتقاد من الإيمان وإن كان ما يعتقده مخالفا للواقع. (ش) وقوله أيضا: «وغفل عن طهارة الباطن» وربما تجافوا وغلوا ونسبوا صاحب الأخلاق إلى التصوف والرهبانية نعوذ بالله، وربما حملوا جميع ما ورد في أحاديث علم الأخلاق على الاستحباب والترغيب دون الوجوب، وذلك لأن موضوعات الفقه الأعمال الظاهرة وهي قريبة المنال وغايته إصلاح امور الدنيا ونظمها وكل الناس يطلبون النظام ويستحسنون قواعد لا يتخلفون عنها في معايشهم وإن لم يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر وأحكام المعاملات والسياسات ظاهرة الفوائد واضحة الغايات، وأما موضوع الرقائق ومباحث الأخلاق وما ورد في أبواب الإيمان والكفر بعيد المنال للماديين غير واضحة المعنى والغاية لهم وخرافات عند أهل الدنيا، يفهمون معنى قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وأنها تفيد حفظ الاموال وقوله: (أوفوا بالعقود) فإنها تفيد اعتماد الناس على غيرهم في معاملاتهم وأما سجدة الشجر لله تعالى وحمل الملائكة عرش الرحمن (وسع كرسيه السماوات والأرض) (وهو معكم أينما كنتم) (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (وله معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله) وقال ربكم (ادعوني استجب لكم) (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وغير ذلك مما لا يناله الماديون وأمثالهم من أهل الظاهر ولا يهتمون به إذا لا يرون فائدة في فهمه ولا غاية دنيوية في الاعتقاد به وكذلك قوله تعالى: (ونفس وما سويها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) وإن تصوروا فائدة فيها تصوروا فائدة دنيوية أيضا للاجتماع لا للشخص; لأن الزهد وترك الحرص في المال والحسد والبغض يضر بالشخص غالبا في الدنيا ويفيد الاجتماع إن كان له فائدة وصريح القرآن بخلاف ذلك وأن تهذيب النفس يفيد الشخص أيضا وكذلك في الأحاديث لا يهتمون بخطب أمير المؤمنين في التوحيد والعدل وأحاديث أصول الكافي في خلق الأسماء والمشيئة وما ورد في الجبر والتفويض وخلق الملائكة والعرش والكرسي فإنها غير متعلقة بأمور الدنيا ومعايش العباد. وبالجملة: يعرضون عن كل شيء يتعلق بباطن النفوس ويتشبثون بكل ما يتعلق بالدنيا والمعاش والحياة الظاهرة ويزعمون أن الدين لا صلاح الدنيا لا أن الدنيا لإصلاح الدين نعوذ بالله - من الضلال وسمعنا من بعض طلبة العلوم الدينية أن الأدب شؤم والكلام يورث الفقر ولذلك تركتهما وأقبلت على الفقه حذرا من الفقر يعني أني طالب العلم للدنيا والمال والله الهادي (ش).

(وبداله) من الله (ما لم يكن يحتسب) لغفلته وسوء فعاله وشدة نكاله، والإبهام للتفخيم.

(ومن عتا عن أمر الله) أي تركه استكبارا ولم يتخضع له (شك) في الله أو في أمره إذ الموقن مطيع له، منقاد لامره، متواضع لحكمه.

(ومن شك) فيما ذكره (تعالى الله) أي استولى (عليه فأذله) في الدنيا والآخرة.

(بسلطانه) أي بتمكنه وقدرته (وصغره) عند الخلائق (بجلاله) وعظمته فيفعل به نقيض مقصوده وهو التكبر (كما اغتر بربه الكريم) الذي أحسن إليه وأنعم عليه.

(وفرط في أمره) أي قصر فيه واجترأ عليه وجعل المفعول في أذله وصغره راجعا إلى الله عز وجل بعيد، ولما فرغ عن شعب الفسق وثمراتها أشار إلى شعب الغلو وثمراتها بقوله:

(والغلو على أربع شعب: التعمق بالرأي) أي التعمق في الباطل وطلب أقصى غايته بالرأي والقياس أو بالجهل وقد شاع اطلاق الرأي على الجهل.

(والتنازع فيه) أي مخاصمة الحق بالرأي والباطل (والزيغ) أي الميل عن دين الحق إلى الباطل.

(والشقاق) أي المخالفة الشديدة مع أهل الحق (فمن تعمق) في الرأي (لم ينب إلى الحق) ولم يرجع إليه وإن ظهر لأن من خاض في الباطل وتمكن في قلبه لم يرجع إلى الحق الواضح إلا من

ص:77

شد.

(ولم يزدد) في تعمقه (إلا غرقا في الغمرات) الشديدة والآراء الفاسدة المتراكمة بعضها فوق بعض (ولم تنحسر) أي لم تنكشف (عنه فتنة) مضلة (إلا غشيته اخرى) لأن الشرور بعضها يجر إلى بعض فيتعسر عليه الخروج عنها، والتخلص منها وانخرق دينه بمقراض الفتنة (فهو يهوي في أمر مريج) مختلط بالأباطيل المتكثرة المختلفة أو بالحق والباطل.

(ومن نازع في الرأي وخاصم شهر بالعثل من طول اللجاج) العثل بالعين المهملة والثاء المثلثة الحمق والعثول كصبور الأحمق وبالتاء المثناة الفوقانية: الغلظة والفظاظة، وأما الفشل بالفاء والشين وهو الجبن والضعف فيأباه ظاهر المقام.

(ومن زاغ) عن منهج الحق ومال إلى الباطل (قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة) كما هو شأن أهل الضلالة (كذلك زين لهم الشيطان سوء أعمالهم). (ومن شاق) أهل الدين والإمام المبين (أعورت عليه طرقه) أي صارت أعور لا علم لها فلا يهتدي سالكها، وفي بعض النسخ «أوعرت» بمعنى صعبت من الوعر وهو ضد السهل، وإنما جمع الطرق للدلالة على كثرة طرق الباطل (واعترض عليه أمره) أي أمره متعرض عليه مستول كالفرس الحرون يمشي نشاطا في عرض الطريق، وهو كناية عن عدم استقامته أو عن قوته ونشاطه في الباطل أو معترض عليه مانع عن قبول الحق من عرض له عارض أي مانع ومنه اعتراضات العلماء لأنها تمنع من التمسك بالدليل وتعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها.

(فضاق عليه مخرجه) أي خروجه من الباطل لقوة باطله وصيرورته ملكه له وعقد قلبه به (إذا لم يتبع سبيل المؤمنين) متعلق بالثلاثة المذكورة أو بالامر الأخير، والمراد بسبيلهم دين الحق أو ترك المشاقة وتركها يوجب انتفاء هذه الأمور ضرورة أن انتفاء السبب يوجب انتفاء المسبب، ولما فرغ عن شعب الغلو وثمراتها شرع في شعب الشك وثمراتها فقال:

(والشك على أربع شعب: على المرية) لعل المراد بالشك الشك في أصول الدين أو خلاف اليقين وبالمرية الشك في فروعه أو بمعنى تساوي الطرفين الحق والباطل والأخيران من شعب الأولين (والهوى) إذ الشك يوجب متابعة الهوى ويميل النفس إليه وأما من له اليقين فهو يقطع كل سبب بينه وبين الله تعالى ويكون الله مراده لا غير ويؤثر رضاه على كل شيء سواه فكيف يتبع هواه؟ (والتردد) بين الحق والباطل لأن الشاك متردد بين النقيضين اللذين أحدهما حق والآخر باطل (والاستسلام للجهل وأهله) لأن الشاك واقف على الجهل مستسلم له أو لما يوجب هلاك الدنيا

ص:78

والآخرة (وهو) أي الشك وشعبه والزجر عنه (قول الله عز وجل: (فبأي آلاء ربك تتمارى) إذ المماراة مجادلة على مذهب الشك وشعبه).

(والهول من الحق) أي الفزع منه والرعب من قبوله لدخول الباطل في قلبه فيظن الباطل حقا والحق باطلا فيشمئز من قبول الحق ويخاف منه.

(فمن هاله ما بين يديه) من الحق والخير (نكص على عقبيه) أي رجع إلى الباطل والشر، إذ لا واسطة بينهما فإذا هاله أحدهما رجع إلى الآخر.

(من امترى في الدين تردد في الريب) امتراء «درشك افتادن وشك» بردن»، ولعل المراد بالتردد في الريب التحير فيه والقيام عليه لعدم العلم بطريق النجاة منه.

(وسبقه الأولون من المؤمنين) في المسير إلى الله وهم المقربون (وأدركه الآخرون) أي التابعون للأولين وهو واقف متحير كالضال عن الطريق.

وحينئذ (وطئته سنابك الشيطان) واستولى عليه جنوده. والسنابك جمع السنبك وهو طرف مقدم الحافر (ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيما بينهما) فلم تكن له الدنيا خالصة لزوالها مع ما عليه من العقوبات فيها ولم تكن له الآخرة لعدم اتيانه بما ينفعه فيها. قال بعض المحققين: فيه إشارة إلى أن الطالب للدنيا المستسلم لها هالك وأن الطالب للعقبى ونعيمها أيضا هالك وللانسان الموقن شأن وراء ذلك يليق به وهو نبذ الدنيا والعقبى وراء ظهره والترقي إلى ساحة الوصول أمام دهره. روي أن الله تعالى أوحى إلى داود «يا داود، إن أحب الأحباء إلي من عبدني بغير نوال ولكن عبدني ليعطي الربوبية حقها ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار ألم أكن أهلا أن أطاع وأعبد خالصة؟».

(ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين) ليس اليقين أن يقول الإنسان: أيقنت بأن الله تعالى موجود لا شريك له حي قادر إلى آخر ما يليق به ومنزه عن جميع ما لا يليق به، وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله وأن علي بن أبي طالب وأولاده الطاهرين خلفاؤه وأنما اليقين كيفية نفسانية تبعث على متابعتهم من جميع الوجوه وتمنع عن مخالفتهم ولذلك قال (عليه السلام):

(ولم يخلق الله خلقا أقل من اليقين) لأن اليقين بالمعنى المذكور لا يكون إلا لمن اصطفاه الله تعالى من عباده وجعله نورا في بلاده يهتدون به في المصير إلى الله ولهم يقين في الجملة يزداد بحسب الازدياد في المتابعة إلى أن يبلغ حد الكمال.

وبعد الفراغ مما ذكر أشار إلى شعب الشبهة وثمراتها بقوله: (والشبهة على أربع شعب: إعجاب بالزينة) أي إعجاب المرء بالزينة الدنيوية أو القلبية من الأمور التي اخترعتها النفس بالرأي

ص:79

والاستحسان مع استعانة الوهم والخيال فأعجبت بها لكونها من عملها.

(وتسويل النفس) أي تزيينها للأمور الباطلة بحسب المادة أو الصورة مع شوب الحق وعدمه فإن النفس بإستعانة الوهم قد تزين الأمور الباطلة الصرفة كما تزين الباطل الممتزج بالحق (وتأول العوج) التأول هنا بمعنى التأويل أي تأويل العوج وتفسيره بوجه يخفى عوجه ويبرز استقامته فيظن أنه مستقيم كما فعل أهل الخلاف في كثير من أحاديثهم الموضوعة.

(ولبس الحق بالباطل) وإخفاء الواقع بخلاف الواقع كما يلبس طائفة حدوث العالم بقدمه وطائفة خلافة علي (عليه السلام) بخلافة الثلاثة الباطلة وأمثال ذلك أكثر من أن تحصى.

(وذلك بأن الزينة تصدف علن البينة) أي تصرف النفس عن البينة الشرعية والعقلية التي يحكم بصحتها النص الصحيح والعقل الصريح.

(وأن تسويل النفس تقحم على الشهوة) أي تزيين النفس للباطل يقحم على الشهوة الداثرة الجسمانية واللذة الحاضرة النفسانية ويورث الدخول فيها والعكوف عليها.

(وأن العوج يميل بصاحبه إلى الباطل ميلا عظيما) يتعسر معه الرجوع إلى الحق وإنما لم يقل تأول العوج إما للاقتصار اكتفاء بما سبق، أو للتنبيه على أن تأول العوج أيضا عوج (وأن اللبس) أي لبس الحق بالباطل وان كان واحدا. (ظلمات بعضها فوق بعض) ظلمة الباطل وظلمة القلب، وظلمة الأعمال المترتبة عليه، وظلمة يوم القيامة وأنت تعلم بعد التأمل ان معاني هذا الباب عجيبة أنيقة وأن التفكر فيها حق التفكر مثمر للعلوم الجمة وإنما اقتصرنا على ما ذكرنا تحرزا من الإطناب.

ص:80

باب صفة النفاق والمنافق

* الأصل:

1 - «قال: والنفاق على أربع دعائم: على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع:

فالهوى على أربع شعب: على البغي والعدوان والشهوة والطغيان، فمن بغى كثرت غوائله وتخلي عنه ونصر عليه، ومن اعتدى لم يؤمن بوائقه ولم يسلم قلبه ولم يملك نفسه عن الشهوات ومن لم يعدل نفسه في الشهوات خاض في الخبيثات ومن طغى ضل على عمد بلا حجة.

والهوينا على أربع شعب: على الغرة والأمل والهيبة والمماطلة وذلك بأن الهيبة ترد عن الحق والمماطلة تفرط في العمل حتى يقدم عليه الأجل، ولولا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ولو علم حسب ما هو فيه مات خفاتا من الهول والوجل والغرة تقصر بالمرء عن العمل.

والحفيظة على أربع شعب: على الكبر والفخر والحمية والعصبية، فمن استكبر أدبر عن الحق ومن فخر فجر ومن حمى أصر على الذنوب، ومن أخذته العصبية جار، فبئس الأمر أمر بين إدبار وفجور وإصرار وجور على الصراط.

والطمع على أربع شعب: الفرح والمرح واللجاجة والتكاثر، فالفرح مكروه عند الله والمرح خيلاء واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حمل الآثام والتكاثر لهو ولعب وشغل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فذلك النفاق ودعائمه وشعبه. والله قاهر فوق عباده تعالى ذكره وجل وجهه وأحسن كل شيء خلقه وانبسطت يداه ووسعت كل شيء رحمته وظهر أمره وأشرق نوره وفاضت بركته واستضاءت حكمته وهيمن كتابه وفلجت حجته وخلص دينه واستظهر سلطانه وحقت كلمته وأقسطت موازينه وبلغت رسله، فجعل السيئة ذنبا والذنب فتنة والفتنة دنسا وجعل الحسنى عتبى والعتبى توبة والتوبة طهورا، فمن تاب اهتدى ومن افتتن غوى ما لم يتب إلى الله ويعترف بذنبه ولا يهلك على الله إلا هالك.

الله الله فما أوسع مالديه من التوبة والرحمة والبشرى والحلم العظيم وما أنكل ما عنده من الأنكال والجحيم والبطش الشديد، فمن ظفر بطاعته اجتنب كرامته ومن دخل في معصيته ذاق وبال نقمته وعما قليل ليصبحن نادمين».

* الشرح:

ص:81

قوله: (قال: والنفاق على أربع دعائم) فاعل قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذا من تتمة الحديث السابق أفرده المصنف عنه. والنفاق بالكسر فعل المنافق ومحله القلب واشتقاقه إما من نفقت الدابة نفوقا من باب قعد إذا ماتت لأن المنافق بنفاقه بمنزلة الميت الهالك، أو من نفق البيع نفاقا بالفتح إذا راج لأن المنافق يروج إيمانه ظاهرا ويخفي باطله باطنا أو من النفق بفتحتين وهو خرق في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر لأن المنافق يستر نفاقه كما يستر السائر في الأرض نفاقه أي دراهمه وغيرها أو من النافقاء وهي احدى جحرتي اليربوع لأن له جحرتين يقال لإحداهما النافقاء وللآخر القاصعاء فإذا دخل من إحداهما وهي القاصعاء خرج من الأخرى وهي النافقاء وفيه تشبيه باليربوع فإن اليربوع يخرق الأرض من أسفل حتى إذا قارب وجهها أرق التراب فإذا رابه شيء دفع التراب برأسه وخرج فظاهر جحره تراب وباطنه حفر وكذا المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر ويخرج من الايمان من غير الوجه الذي دخل فيه (على الهوى والهونيا) الهوى ميل النفس إلى مقتضى طباعها وخروجها عن حدود الله عز وجل وهو أشد جاذب عن قصد الحق وأعظم ساد عن سلوك سبيله وأقوى باعث على سلوك سبيل النفاق، والهوينا تصغير الهونا تأنيث الأهون وهي الفتنة الصغرى التي تجري إلى الكبرى والفتن تترتب كبراها على صغراها والمؤمن يترك الصغرى فضلا عن الكبرى.

(والحفيظة والطمع) الحفيظة الغضب وهو في الإنسان تغير على الغير لقصد الإساءة إليه والطمع توقع الدنيا وما في أيدي الناس وهما أكثر مصارع النفوس وأخص أفعال الشيطان وأضر أحوال الإنسان.

(فالهوى على أربع شعب على البغي) وهو التجاوز عن الاقتصاد وقصد الاستيلاء على الأئمة والعباد والتجبر عليهم ومبدؤه الفساد في القوة العقلية والغضبية والشهوية إذ بفساد الأولى لا يعلم أن صلاحه في متابعتهم وبفساد الثانية يطلب مخالفتهم والتجبر عليهم وبفساد الثالثة يطلب ما سولت له نفسه من مشتهياتها التي يظن أنها لا تحصل إلا بمخالفتهم.

(والعدوان) على الخلائق في الانتقام وأخذ الحقوق ومبدؤة أيضا الفساد في القوى المذكورة (والشهوة) وهي الميل إلى المعاصي وزهرات الدنيا ومبدؤه الفساد في القوة الشهوية والتجاوز عن حد الإعتدال فيها.

(والطغيان) وهو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغ وهو كما يكون بالمال يكون بالحسب والنسب والعلم وغيرها ومن طريق العامة «للعلم طغيان كطغيان المال» قال ابن الأثير أي يحمل صاحبه على الترخص بما اشتبه منه إلى ما لا يحل له ويترفع به

ص:82

على من دونه ولا يعطى حقه بالعمل به كما يفعل رب المال.

(فمن بغى كثرت غوائله) أي مهالكه جمع غائلة وهي صفة لخصلة مهلكة من غاله يغوله إذا أهلكه والباغي على أهل الحق لا محالة متصف بصفات كثيرة مهلكة كما ترى في مخالفينا.

(وتخلي منه ونصر عليه) كان فاعل تخلي ونصر على البناء للمفعول راجع إلى من وضمير منه راجع إلى البغي والتخلي التفرغ، وفيه إشارة إلى أن الباغي بعد تقريره قوانين البغي ووضعه إياها له ناصر في حياته وبعد موته وعليه وزره ومثل وزر ناصره إلى يوم القيامة.

(ومن اعتدى لم يؤمن بوائقه) جمع البائقة وهي الداهية أي من اعتدى على الخلق لم يؤمن شروره وخصوماته (ولم يسلم قلبه) من الأمراض المهلكة النفسانية أو من الميل إلى ايذاء الغير (ولم يملك نفسه عن الشهوات) من المعاصي والمقتينات التي هي مقتضى طباعها لأن زجر النفس عنها موقوف على خصلة ربانية وملكة روحانية وهي عارية عنها.

(ومن لم يعدل نفسه في الشهوات خاض في الخبيثات) أي الخصال الذميمة والافعال الردية التي يعود ضررها إليه وإلى غيره وذلك ظاهر لأن الجور في الشهوات وترك العدل فيها يوجب الخوض فيما ذكر (ومن طغى ضل على عمد بلا حجة) لأن منشأ الضلال وهو الطغيان لما كان عمدا كان الضلال على عمد، وأما أنه بلا حجة فهو ظاهر لأن الضال لا حجة له.

(والهوينا على أربع شعب على الغرة) أي غفلة الرجل عن دينه وعاقبة أمره.

(والأمل) هو ميل القلب إلى البقاء وحصول المرغوبات ومنشؤه الذهول عن أمر الآخرة ولذلك روى أن طول الامل ينسى الآخرة، قيل: اجتمع ثلاثة نفر فسأل بعضهم بعضا عن أمله فقال أحدهم: ما يأتي علي شهر إلا ظننت أني أموت فيه، وقال الثاني: لم يأت علي يوم إلا ظننت أني أموت فيه، وقال الثالث: ما أمل من أجله بيد غيره. وهذا هو الذي لا أمل له.

(والهيبة) وهي قد يكون من الفساد في القوى العقلية والغضبية والعملية باتصاف النفس والجوارح بما يوجب الخوف، والهيبة من الاخلاق الذميمة والاعمال القبيحة المخوفة مثل التجبر والضرب والقتل ونحوها، وقد تكون من الصلاح والتقوى، والمراد بها هنا هو الأولى لأنها التي ترد عن الحق لأن صاحبها يستنكف عنه حفظا لمقامه، وأما الثانية فهي ناشئة من الحق وعائدة إليه وباعثة على اتباعه.

(والمماطلة) وهي تأخير ما يوجب الاقدام عليه، وتسويف ما ينبغي الاقبال إليه من الاعمال القلبية والبدنية (وذلك بأن الهيبة ترد عن الحق والمماطلة تفرط في العمل حتى يقدم عليه الاجل) وهو نهاية العمر، وضمير عليه راجع إلى العمل أو إلى المماطل المفهوم من المماطلة

ص:83

(ولو لا الامل علم الإنسان حسب ما هو فيه ولو علم حسب ما هو فيه مات خفاتا من الهول والوجل) الحسب بالتحريك القدر والعدد، والخفات بضم الخاء المعجمة الموت فجأة والهول الخوف والوجل بالتحريك الفزع وهو من آثار الخوف وتوابعه يعني لولا الأمل علم الإنسان قدر ما هو فيه وعظمة عاقبته من ألم الفراق والموت وما بعده من العقبات والعقوبات وأهوال القيامة وصار ذلك نصب عينه حتى كأنه مشاهد له ولو علم الإنسان حسب ما هو فيه وقدره مات فجأة من الخوف والفزع فينتج لولا الأمل مات الإنسان من الخوف والفزع وابتغاء الامل على الحكمة لا يقتضي أن يكون مطلوبا كالمعصية، ويفهم منه أن الإنسان إلا من عصمه الله عز وجل لا يخلو من شعب النفاق، وأن المؤمن الخالص المنزه عنها ليس إلا من أخذت بيده العناية الإلهية والتوفيقات الربانية.

(والغرة تقصر بالمرء عن العمل) لظهور أن العمل يتوقف على المعرفة والتذكر والتيقظ وشئ من ذلك لا يتحقق مع الغرة قيل: والفرق بين الغرة والمماطلة أن مع المماطلة شعورا بالعمل ومعرفة بثبوته وحقيقته بخلاف الغرة ولذلك ذكر التفريط مع المماطلة والقصر مع الغرة إذ الشايع في التفريط هو التقصير بالشيء مع العلم به.

(والحفيظة على أربع شعب على الكبر) وهو ترفع الإنسان وتعظمه بادعاء الشرف والعلو على غيره أو هو بطر الحق ويؤيده ما روي من طريق العامة «الكبر بطر الحق» قال ابن الأثير: هو أن يجعل ما جعله الله حقا من توحيده وعبادته باطلا، وقيل: هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا، وقيل: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله.

(والفخر) وهو إظهار الفرح والكمال بالمال والحسب والنسب ونحوها وادعاء العظمة والشرف بذلك، وأما ذكر آلائه واحسانه عز وجل في نفسه فليس من الفخر كما قال النبي (صلى الله عليه وآله): «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي لا أقوله تبجحا وفخرا ولكن شكرا لله تعالى وتحدثا بنعمته، (والحمية) هي الأنفة والعار لأنهما من أسباب الحماية أي المنع والدفع وحامية القوم الذي يحميهم ويذب عنهم، والهاء للمبالغة.

(والعصبية) العصبة قرابة الرجل وصاحب العصبية هو الذي يغضب لعصبته ويتعصب لهم وهي والحمية من لوازم الكبر لحصولهما عن تصور المؤذي مع الترفع على فاعله واعتقاد الشرف عليه ومن خطرات الشيطان التي توجد في النفوس ونزعاته التي يفسد بها الناس ونفثاته التي يلقيها إلى أذهانهم بتحسين الغلبة والانتقام والترفع لغرض الإفساد والإضلال.

(فمن استكبر أدبر عن الحق); لأن الكبر صفة ردية توجب إخفاء الحق والإدبار عنه بل أصل

ص:84

الاستكبار إدبار وهو مع ذلك مستلزم لصفات رذيلة أخرى موجبة للإدبار عن الحق.

(ومن فخر فجر) أي كذب ومال عن الصدق أو أذنب ووقع في المعاصي والمحارم إذ الفخر مع كونه معصية مستلزم لمعاصي اخر غير محصورة.

(ومن حمى أصر على الذنوب) أي من دفع عن قومه حمية أصر على الذنوب لأن الحامية كلما فرغ من ذنب دخل في آخر، بل الحمية مرة مورثة لذنوب كثيرة مثل الضرب والشتم والقتل ونحوها. وأما من دفع لامن باب الحمية وتعدى الحق فليس بمذموم بل هو ممدوح.

(ومن أخذته العصبية جار) لأن المعتصب جائر عن القصد. مائل إلى الباطل دائما.

(فبئس الامر أمر بين ادبار وفجور واصرار وجور على الصراط) لعل المراد بذلك الامر الحفيظة. وفي بعض النسخ «فبئس الامرؤ امرءا» بالهمزة والمراد به صاحب الحفيظة ووجه الذم العام أنه بين الأمواج الأربعة من المهلكات فالنجاة منها من المحالات.

(والطمع على أربع شعب الفرح) وهو السرور بما يحصل من الدنيا (والمرح) وهو أشد الفرح أوثر من آثاره كالتبختر ونحوه.

(واللجاجة) وهي التمادي في تعاطي الفعل المزجور عنه (والتكاثر) وهو التباهي بالكثرة في الأموال والأولاد والأنصار ونحوها.

(فالفرح مكروه عند الله) كما قال: «إن الله لا يحب الفرحين» والمؤمن قلبه حزين في أمر الآخرة و (المرح خيلاء) وهو بالضم والكسر والمد العجب والتبختر في المشي، وقيل: هو التكبر في كل شيء، وقال ابن دريد: هو التكبر مع جر الإزار وأنه كمال التكبر عند العرب.

(واللجاجة بلاء) أي فتنة ومحنة (لمن اضطرته) أي ألجأته (إلى حمل الآثام) الناشئة منها لأن اللجاجة سبب المعاصي والآثام ولذلك قيل: اللجاجة متولدة من الكبر وغيره من الامور الفاسدة ويتولد منها امور فاسدة اخرى.

(والتكاثر لهو ولعب) شبه التقلب في أمر الدنيا باللهو واللعب والاتعاب بلا منفعة وفي المنع عما يوجب منفعة أبدية من أمر الآخرة.

(وشغل) للقلب عن الله تعالى وعما أراد من نوع الإنسان من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة النافعة في الآخرة (واستبدال الذي هو أدنى) وهو الدنيا وزهراتها الفانية (بالذي هو خير) وهو الآخرة ونعيمها الباقي (فذلك النفاق ودعائمه وشعبه) أي أصوله وفروعه المنتجة للبعد من الله ومن دينه، فمن تخلص من الجميع فهو مؤمن كامل ومن اتصف بالجميع فهو منافق كامل، ومن اتصف ببعض دون بعض فهو مذبذب بينهما، شبيه بالمنافق إلى أن يستقر أمره فيما شاء الله تعالى، 85

واعلم أن أحاديث هذا الباب تدل على أن المؤمن أقل وجودا من الكبريت الأحمر إذ لا يخلو أحد من العلماء والصلحاء عن بعض الخصال المذكورة فضلا عن غيرهم، ويمكن أن يقال: هذه الخصال إن كانت لأجل التهاون بالدين وعدم اعتقاد حقيقته كان صاحبها منافقا خارجا عن الإيمان مشاركا لمنافقي عهد النبي (صلى الله عليه وآله) في الاسم والمعنى، وان لم يكن لأجل ذلك بل حصلت بمجرد اقتضاء الطبيعة وهوى النفس الأمارة كان مشابها بهم ومشاركا لهم في الاسم دون المعنى ولا يكون بذلك خارجا عن الايمان وان خرج عن كماله.

ومما يدل على ذلك ما ذكره في آخر الباب «ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق» وقال المازري من العامة: المراد بالمنافق من غلب عليه خصال النفاق وأصر فيها وجعلها طبيعة وعادة له لامن وجدت فيه ندرة، وقال: لابد من هذا التأويل لأن تلك الخصال قد تجتمع في واحد ولا تخرجه من الاسلام كما اجتمعت في بعض السلف وبعض العلماء وفي اخوة يوسف فإنهم حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا مع أنهم لم يكونوا منافقين خارجين عن الإسلام لأن ذلك كان ندرة منهم ولم يصروا على ما فعلوا. وقال محي الدين البغوي: هذه ذنوب لا نكفر بها فتجمل على أن من فعلها عادة وتهاونا بالدين يكون منافقا خارجا عن الاسلام أو على أن المراد بالنفاق معناه اللغوي لأنه لغة اظهار خلاف ما في الضمير ومن فيه هذه الخصال كذلك فإن الكاذب يظهر أنه صادق، ومخلف الوعد يظهر أنه يفي بوعده، وكذا في بقيتها.

(والله قاهر فوق عباده) أي غالب على جميع العباد فوقهم بالاستيلاء والقدرة على ايجادهم وابقائهم وافنائهم (تعالى ذكره) عن النقائص أو عن معرفة كنه ذاته وصفاته.

(وجل وجهه) أي ذاته وصفاته أو رسله وحججه أو دينه بناء على أن وجهه ما يتوجه به إليه.

(وأحسن كل شيء خلقه) فقدر ركل شيء أتقن تقدير وأوجده أحسن ايجاد وتدبير بحيث لا يتصور المزيد عليه ولا يتخيل النقص لديه.

(وانبسطت يداه) أي قدرته أو نعمته واطلاقها عليها إما مجاز مرسل أو مكنية، ونسبة الانبساط إليها تخييلية، ويمكن أن يكون اليد كناية عن قبول توبة المذنبين وإنما كنى بذلك لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لأخذه وإذا كرهه قبضها فخوطبوا بأمر محسوس يفهمونه ليتمكن المراد في النفس وانما وجب حملها على ذلك لأن اليد التي هي الجارحة والبسط الحقيقي لها يستحيل كل منهما في حقه تعالى لأن ذلك من صفات الأجسام.

(ووسعت كل شيء رحمته) أي وسعت رحمته كل شيء من المؤمن والكافر والمكلف وغيره في الدنيا، وأما في الآخرة فهي للمؤمن خاصة كما قال جل شأنه: (ورحمتي وسعت كل شيء

ص:86

فسأكتبها للذين يتقون) (وظهر أمره) أي دينه وشرايعه في العباد ليقروا له بالعبودية أو أمره التكويني الدال على كمال قدرته (وأشرق نوره) أي علمه وهو نور الله الذي لا يضل من اهتدى به، والمراد باشراقه انتشاره في قلوب العارفين أو حجته الدالة على وحدانيته وعلو ذاته وصفاته أو نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) أو نور الولاية المشار إليه بقوله تعالى: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره) (وفاضت بركته) أي كثرت من فاض الماء يفيض فيضا إذا كثرو من أسمائه تعالى الفياض لسعة عطائه وكثرته والبركة العطية لكون عطاياه كلها ثابتة أو زائدة على أصل الاستحقاق وعلى قدره.

(واستضاءت حكمته) أي شريعته أو مصلحته أو علمه بالأشياء وايجادها على غاية الاحكام أو علم الإنسان بالموجودات وفعل الخيرات (وهيمن كتابه) الهيمنة القيام على الشيء يعني كتابه الكريم قائم على سائر الكتب رقيب عليها لأنه يشهد لها بالصحة.

(وفلجت حجته) أي غلبت حجته الدالة على ربوبيته وتوحيده وقدرته وحكمته، أو ظهرت ظهورا تاما حتى فرقت بين الحق والباطل، أو المراد بالحجة الرسل والأوصياء (عليه السلام) (وخلص دينه) المراد بالدين الطريقة الإلهية والشريعة النبوية، وبخلوصه خلوصه عن الباطل يحتمل أن يراد بالدين الطاعة وفيه حينئذ تنبيه على أن الطاعة المختلطة بغير وجه الله عز وجل ليست بطاعة (واستظهر سلطانه) الاستظهار بمعنى الظهور والعلو والغلبة يقال: ظهر على الحائط إذا علاه وظهر على العدو إذا غلبه، والسلطان بمعنى الحجة والبرهان والولاية والسلطنة والزيادات للتأكيد والمبالغة والاحتمالات تسعة تحصل بضرب الثلاثة في الثلاثة، (وحقت كلمته) لعل المراد بكلمته كلامه مطلقا أو كلامه في الثواب والعقاب أو في التوحيد والرسالة أو القرآن الكريم (واقسطت موازينه) الأقساط العدل والمقسط العادل يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار فكأن الهمزة في أقسط للسلب والمراد بالميزان إما الشرائع الإلهية أو ميزان الحساب والجزاء.

(وبلغت رسله) ما أرسلهم به إلى عباده بلا افراط ولا تفريط لأنهم أمناؤه في وحيه.

(فجعل السيئة ذنبا) مبعدا عن رحتمه والسيئة الخصلة الذميمة من القول والفعل والعقد (والذنب فتنة) أي ضلالة عن سبيله وهي اسم لكل ما يفتتن به الناس عن سبيل الحق (والفتنة دنسا) أي وسخا تتوسخ به النفس الناطقة كالثوب المتوسخ بانحاء من القاذورات وأنواع من النجاسات وهو سبب تام للبعد من الحق والخذلان والتخلق بأخلاق المنافق والشيطان.

87

(وجعل الحسنى عتبى) العتبى الرجوع من الذنب والإساءة والعصيان إلى الطاعة والتوبة والإحسان والحسنى الفعلة الحسنى وهي الأعمال الحسنة الموافقة للقوانين الشرعية والعقلية أو الكلمة الحسنى هي الشهادتان وغيرهما من الأقوال المطابقة للقواعد الحقة أو العبادة الحسنى أعني العبادة الواقعة على التوافق بين الظاهر والباطن المعراة عن صفة النفاق وحقيقتها أن تعبد الله كأنك تراه وقد عبر عنها بالاحسان والإخلاص اللذين هما شرط في صحة الإيمان والعلم جميعا (والعتبى توبة) أي ندامة عما فعل وعزما على عدم الإتيان بمثله وأما مجرد الندامة بدون ذلك العزم فليس بتوبة (والتوبة طهورا) أي مطهرا من الذنوب إذ التوبة تغسل النفس عن الخباثة كما أن الماء يغسل الثوب عن النجاسة.

(فمن تاب اهتدى) أي فمن تاب من الذنوب التي منها النفاق اهتدى إلى الحق ورفع عنه أغلال الذنوب المانعة من الوصول إلى رحمته.

(ومن افتتن) بالادناس والذنوب (غوى) عن سبيل الحق وضل عنه (ما لم يتب إلى الله ويعترف بذنبه) فإنه إذا تاب واعترف اهتدى إذ لا ذنب مع التوبة ولا غواية مع الاعتراف (ولا يهلك على الله) بعد الهداية وتقرير التوبة. (إلا هالك) بلغ الغاية في استحقاق العقوبة وهذا كما تقول: لا يعلم الفن من هذا العلم إلا عالم أي بلغ الغاية في العلم.

(الله الله) أي اتقوا الله أو احذروا الله والتكرير للتأكيد وقد يراد به التعجب (فما أوسع مالديه من التوبة) عن الذنوب.

(والرحمة) للعباد بعد استحقاقهم للعقوبة (والبشرى) بالرحمة وقبول التوبة وإن بلغت النفس الحلقوم (والحلم العظيم) حيث لم يعجل في أخذهم بالمعصية رحمة بهم لعلهم يرجعون عنها بالتوبة والاعتراف بالتقصير (وما أنكل ما عنده من الأنكال والجحيم) النكل بالتحريك منع الرجل وتبعيده عما يريد والنكال بالفتح العقوبة التي تنكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء والنكل بالكسر والسكون القيد لأنه ينكل به أي يمنع وجمعه أنكال ونكول، والجحيم من أسماء جهنم، وأصله ما اشتد لهبه من النيران.

(والبطش الشديد) البطش الأخذ القوى الشديد والوصف للتأكيد وفيه إشارة إلى نوع آخر من العقوبة (فمن ظفر بطاعته اجتنب كرامته) أي تحفه وهداياه الخاصة لأوليائه والمنزل الرفيع في الدنيا والآخرة; لأن أصل الطاعة كرامة مستلزمة لكرامات اخرى غير محصورة كما هو معلوم لأرباب الطاعة وأصحاب العرفان.

(ومن دخل في معصيته ذاق وبال نقمته) الوبال في الأصل الثقل والمكروه ويراد به العذاب

ص:88

في الآخرة والنقمة السخط والغضب والعقوبة ومن أسمائه المنتقم وهو المبالغ في العقوبة مفتعل من نقم ينقم من باب علم إذا بلغت به الكراهة حد السخط وكما أن رحمته عظيمة كذلك نقمته شديدة لأن كل صفة له عز وجل فهي على حد الكمال ولذلك ورد «اتقوا من غضب الحليم».

(وعما قليل ليصبحن نادمين) ما زائدة للمبالغة في القلة أي عن زمان قليل ليصبحن نادمين مما فعلوا من المعاصي ولا ينفعهم الندم لانقطاع زمان التكليف والندامة بزمان الموت والقيامة.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن محمد بن عبد الحميد والحسين بن سيعد جميعا، عن محمد بن الفضيل قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن مسألة فكتب إلي: «أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالي يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يظلل الله فلن تجد له سبيلا، ليسوا من الكافرين وليسوا من المؤمنين وليسوا من المسلمين يظهرون الإيمان ويصيرون إلى الكفر والتكذيب لعنهم الله».

* الشرح:

قوله: (عن محمد بن الفضيل) رمى بالغلو وروي عن أبي الحسن موسى والرضا (عليهما السلام)، (فكتب إلى أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) أن يظهرون الإيمان والصلاح ويخفون الكفر والفساد للنجاة من قتلهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم ودفع ضرر المؤمنين عن أنفسهم والله تعالى خادعهم بادخالهم في المسلمين ظاهرا واجراء أحكامهم عليهم وتعذيبهم أشد من تعذيب الكفار وجعلهم في الدرك الأسفل من النار وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا يخفى عليه شيء بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف أو على أن معاملة الرسول معاملة الله، وأما أن صورة صنيعهم مع الله وصورة صنيعه معهم صورة المتخادعين.

(وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) متثاقلين عنهما كالمكره على الفعل (يراؤون الناس) إظهارا لإيمانهم (ولا يذكرون إلا قليلا); لأن المرائي لا يفعل إلا بحضور من يراه وهو أقل أحواله أو لأن المراد بالذكر القلبي وهو في المرائي قليل.

(مذبذبين بين ذلك) حال من واو يراؤون مثل ولا يذكرون، أو من واو يذكرون، أو منصوب على الذم والمعنى مرددين بين الإيمان والكفر متحيرين فيهما من ذبذبه تركه حيران مترددا (لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين لعدم الإقرار بالجنان وعدم الإنكار

ص:89

باللسان (ومن يضلل الله) بسلب اللطف والتوفيق (فلن تجد له سبيلا) إلى الحق والإيمان.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن الهيثم بن واقد، عن محمد بن سليمان، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما قال: «إن المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي وإذا قام إلى الصلاة اعترض. قلت: يا ابن رسول الله وما الاعتراض؟ قال: الالتفات. وإذا ركع ربض، يمسي وهمه العشاء وهو مفطر ويصبح وهمه النوم ولم يسهر، إن حدثك كذبك وإن إئتمنته خانك وإن غبت اغتابك وإن وعدك أخلفك».

* الشرح:

قوله: (إن المنافق ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي به -.. إلى آخره) لعل المراد بالمنافق هنا ناقص الإيمان وهو شبيه بالمنافق الحقيقي لما بينهما من الملائمة في عدم الإتيان بما ينبغي الإتيان به وإن كان هذا معتقدا للحق ومما يدل على ما ذكرنا ما مر في باب أصول الكفر وأركانه عن يزيد الصايغ قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل على هذا الأمر إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان ما منزلته؟ قال: هي أدنى منازل الكفر وليس بكافر» ولا دلالة فيه على أن من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يأتي الأمر بذلك المعروف ويكف الناهي عن ذلك المنكر، لأن الواجب في طرف الأمر أمران أحدهما أمر غيره والثاني أن يمتثل في نفسه وكذا في طرف النهي أمران أحدهما أن ينهى غيره، والثاني أن يكف في نفسه، والنفاق والعقوبة من جهة المخالفة وهي أنه لم يمتثل ولم ينته لا للأمر والنهي، المراد بالالتفات الالتفات يمنة ويسرة أو الأعم وبالربوض بضم بعضه ببعض من غير تجنيح مثل ربوض الغنم وهو كبروك الإبل أو لصوقه بالأرض من غير تربص وطمأنينة من ربض في الأرض إذا لصق بها ولازمها.

* الأصل:

4 - عنه، عن ابن جمهور، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الملك بن بحر، رفعه - مثل ذلك وزاد فيه - «إذا ركع ربض وإذا سجد نقر وإذا جلس شغر».

* الشرح:

قوله: (وزاد فيه إذا ركع ربض) ليس هذا من الزيادة وإنما ذكره تمهيدا لبيان الزيادة والارتباط (وإذا سجد نقر) أي نقر كنقر الديك يعني يسرع في السجود ويخففه ولا يمكث فيه إلا قدر وضع

ص:90

الديك منقاره فيما يريد أكله.

(وإذا جلس شغر) أي رفع ساقيه عن الأرض وقعد على عقبيه من شغر الكلب كمنع رفع إحدى رجليه بال أو لم يبل.

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مثل المنافق مثل جذع النخل أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه فلم يستقم له في الموضع الذي أراد، فحوله في موضع آخر فلم يستقم له، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار».

* الشرح:

قوله: (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مثل المنافق مثل جذع النخل أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه... إلى آخره) هذا تمثيل حسن إذ كما أن جذع النخل غير مستقيم لكون ظاهره متحدبا وباطنه معوجا غائرا وصار ذلك سببا لعدم الانتفاع به في بعض الامور المطلوب منه واحراقه بالنار كذلك بالمنافق.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق».

* الشرح:

قوله: (ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق) تساوي خشوع القلب والجسد وزيادة الأول على الثاني من صفات الإيمان، وأما العكس فهو نفاق وإن كان المتصف به على هذا الأمر.

ص:91

باب الشرك

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركا؟ قال: «فقال: من قال للنواة: إنها حصاة وللحصاة:

إنها نواة ثم دان به».

* الشرح:

قوله: (قال: سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركا؟ قال: فقال: من قال للنواة: إنها حصاة وللحصاة: إنها نواة ثم دان به) المشرك كما يطلق على من عبد غير الله تعالى مثل عبدة الأصنام والأوثان وعبدة الشمس والنيران، كذلك يطلق على من أطاع غيره سواء عبد ذلك الغير أو لم يعبده وسواء كان ذلك الغير شيطانا أو إنسانا أو نفسا أمارة، وأما طاعة الرسول والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين فهي طاعة الله عز وجل كما نطقت به الآيات والروايات ويقال للشرك بهذا المعنى: الشرك بالمعنى الأعم وعلى هذا كل من أنكر من الدين ما هو حق واعتقد فيه ما هو باطل ودان به. وسواء كان من الضروريات كما يظهر من المثال أو من غيرها كما يظهر من بعض أخبار هذا الباب وغيره. وسواء كان من الأمور الكبار أم من الصغار فهو مشرك لأنه أطاع نفسه وشيطانه فكأنه جعلهما ربا من دون الله.

* الأصل:

2 - عنه، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركا؟ قال: «فقال: من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض عليه».

* الشرح:

قوله: (من ابتدع رأيا فأحب عليه أو أبغض عليه) الرأي المبتدع ما ليس له مستند شرعي فما حبه مشرك لأنه اتخذ مع الرب عز وجل ربا آخر وهو نفسه وهواه وإن لم يشعر به سواء كان ذلك الرأي متعلقا بالاصول أم بالفروع، وسواء أحبه عليه غيره وتابعه أم لم يحبه عليه أحد وأما المجتهد المخطىء الذي له مستند شرعي في ظنه غير مطابق لحكم الله تعالى في نفس الأمر فالظاهر أنه ليس بمشرك، والله أعلم.

ص:92

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن سماعة، عن أبي بصير، وإسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال: «يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك».

* الشرح:

قوله: (يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك) الظاهر أن من حيث لا يعلم متعلق بيطيع فيفيد أن إطاعة الشيطان في العقائد والأعمال مع عدم العلم بأنها فاسدة وأنها إطاعة له وشرك.

فكيف مع العلم فإنها أيضا شرك بطريق أولى، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «فيشرك» فيفيد أن إطاعة الشيطان مطلقا شرك وإن لم يعلم أنها شرك ولم يقصده لأنه تابع لازم لها.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن بكير، عن ضريس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال: «شرك طاعة وليس شرك عبادة وعن قوله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون في أتباعه ثم قلت: كل من نصب دونكم شيئا فهو ممن يعبد الله على حرف؟ فقال: نعم، وقد يكون محضا».

* الشرح:

قوله: (شرك طاعة وليس شرك عبادة) أي أريد الشرك شرك طاعة لغير الله تعالى لا شرك عبادة له فمن أطاع غير الله سواء كان شيطانا أو نفسا داعية إلى السوء أو انسانا ضالا مضلا فقد أشرك بالله غيره وإن لم يعبده ولم يسجد له فالخلفاء الثلاثة مشركون لأنهم أطاعوا شياطينهم ونفوسهم الامارة وكذا أتباعهم إلى يوم القيامة.

(وعن قوله عز وجل (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون في اتباعه - إلى آخره) أي من الناس من يعبد الله على طرف من الدين ومن كان على طرف منه فهو خارج عنه مشرك بالله غير مؤمن به ولعل المراد به الشك في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به من ولاية علي (عليه السلام) وغيرها، وفيه إشارة إلى أن الآية نزلت في الثلاثة وأتباعهم وأن نزولها يكون محضا لهم وأنهم مقصودون منه أصالة.

5 - يونس، عن داود بن فرقد، عن حسان الجمال، عن عميرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته

ص:93

يقول: «امر الناس بمعرفتنا والرد إلينا والتسليم لنا، ثم قال: وإن صاموا وصلوا وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا وإلينا كانوا بذلك مشركين».

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا الشيء صنعه الله أو صنعه النبي (صلى الله عليه وآله): ألا صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسلميا» ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): فعليكم بالتسليم».

* الشرح:

قوله: (ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبي (صلى الله عليه وآله): ألا صنع خلاف الذي صنع.. إلى آخره) فمن لاموه (صلى الله عليه وآله) بما صنع من نصب علي (عليه السلام) وغيره من الاصول والفروع أو وجدوا عدم الرضا بذلك في قلوبهم فهم مشركون حيث نفي عنهم حقيقة الإيمان به وهو مستلزم لثبوت الشرك لهم ويستمر لهم هذه الخصلة حتى يجعلوه حكما فيما تنازعوا فيه من خلافة علي (عليه السلام) وغيرها ويرضوا بحكمه ولا يجدوا في أنفسهم حرجا وشكا فيما حكم به ويسلموا له ولا له صلوات الله عليهم، وبالجملة ثبوت الإيمان المنافي للشرك لهم موقوف على الرجوع إليه والرضا بما حكم به والتسليم له وهو أعلى درجة من الرضا; لأن أهل الرضا يرون أنفسهم ويحكمون عليها بحكمه وإن كان بشعا مرا في مذاقهم، وأهل التسليم لا يرون أنفسهم ولا بشاعة بل يجدون حكمه أحلى من العسل.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) فقال: «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم ولكن أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون».

* الشرح:

ص:94

قوله: (فعبدوهم من حيث لا يشعرون) كذلك أكثر هذه الامة اتخذوا جهلة أربابا من دون الله وتبعوا أحكامهم المغايرة لأحكام الله تعالى فعبدوهم من حيث لا يشعرون وليس الذم مختصا بأهل الكتاب.

* الأصل:

8 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده».

* الشرح:

قوله: (من أطاع رجلا في معصية فقد عبده) في معصية إما وصف لرجلا أو حال عنه أو متعلق بأطاع فيفيد على الأولين ان العاصي معبود لمن أطاعه مطلقا سواء أطاعه في المعصية أم في غيرها كما يدل عليه قوله تعالى (ولا تركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار) وعلى الأخير أن العاصي معبود لمن أطاعه في المعصية سواء فعلها أيضا أو رضي بها ومدحه عليها أو دعا له أو لم ينكرها مع القدرة على الإنكار، وسر ذلك أن العبادة ليست إلا الخضوع والتذلل والطاعة والانقياد ولذلك جعل الله سبحانه اتباع الهوى وطاعة الشيطان عبادة للهوى والشيطان. فقال (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) وقال: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وصدرت عن أهل العصمة في ذلك روايات كثيرة، وإذا كان اتباع الغير عبادة له فأكثر الخلق مقيمون على عبادة غير الله تعالى وهو النفس والشيطان وأهل المعصية والكفران وهذا هو الشرك الخفي نعوذ بالله منه.

ص:95

باب الشك

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) اخبره أنى شاك وقد قال إبراهيم (عليه السلام): (رب أرني كيف تحيى الموتى) وإني احب أن تريني شيئا، فكتب (عليه السلام): «أن إبراهيم كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا وأنت شاك الشاك لا خير فيه، وكتب: إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك، وكتب: أن الله عز وجل يقول: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) قال: نزلت في الشاك».

* الشرح:

قوله: (قال: كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) اخبره أنى شاك وقد قال إبراهيم (عليه السلام): (رب أرني كيف تحيى الموتى) وإني احب أن تريني شيئا) كأنه أراد أني شاك فيك فأحب أن تريني شيئا يفيد اليقين بك كما كان إبراهيم (عليه السلام) شاكا في إحياء الموتى فأحب أن يريه ربه ما يفيده اليقين به.

(فكتب (عليه السلام)) إليه (أن إبراهيم (عليه السلام) كان مؤمنا وأحب أن يزداد إيمانا وأنت شاك والشاك لا خير فيه) المراد أن إبراهيم (عليه السلام) لم يسأل ربه ليزيل الشك عن نفسه لأنه كان مؤمنا بذات الرب وصفاته وقدرته على احياء الموتى ولم يشك قط بل سأله ليزداد يقينا بأن يرى بالعيان ما علمه بالدليل والجنان، والحاصل أنه كان له علم اليقين فطلب عين اليقين وأنت شاك كما اعترفت به والشاك لا خير فيه لأن الخير كله سيما الإيمان في ضد الشك وهو اليقين.

(وكتب (عليه السلام): إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك) كأنه تأكيد لقوله: أن إبراهيم كان مؤمنا. وحاصله أنه كان له يقين بقدرته تعالى على احياء الموتى فكان مؤمنا غير شاك إذ الشك بالشيء ينافي اليقين به فلا يجامعه، وقيل: انما سأل إبراهيم (عليه السلام) ليعلم قدر منزلته عند الله تعالى لأن الإسعاف بالمطلب الفخم يدل على مكانة السائل وحينئذ معنى (أو لم تؤمن) أو لم تؤمن بمنزلتك عندي. قال الصدوق في كتاب العلل: «سمعت محمد أن عبد الله بن محمد بن طيفور يقول قول إبراهيم (عليه السلام): (ربي أرني كيف تحيي الموتى) الآية، إن الله عز وجل أمر

ص:96

إبراهيم (عليه السلام) أن يزور عبدا من عباده الصالحين فزاره فلما كلمه قال له: إن لله تبارك وتعالى في الدنيا عبدا يقال له إبراهيم واتخذه خليلا قال: وما علامة ذلك العبد؟ قال: يحيى له الموتى فوقع لإبراهيم أنه هو فسأله أن يحيى له الموتى قال: (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) يعني على الخلة، ويقال: إنه أراد أن يكون له ذلك معجزة كما كانت للرسل، وقيل: كأنه له اليقين بالإحياء وانما سأل ليعلم كيفية الاحياء كما يشعر به كيف، وقيل: إنما سأله أن يقدره على احياء الموتى وتأدب في السؤال فقال: (أرني كيف تحيي الموتى)» وقال بعض أهل الإشارة: أرى من نفسه الشك فما شك فإنما سأل فيزداد قربا (وكتب: أن الله عز وجل يقول: (وما وجدنا لا كثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين) قال: نزلت في الشاك) العهد يكون بمعنى الوصية، كما قيل في قوله تعالى (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) وبمعنى الولاية والخلافة ومنه قوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين) وبمعنى الإمام والذمة، وبمعنى الضمان كما قيل في قوله تعالى: (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) أي أوفوا بما ضمنتكم من طاعتي أوف بما ضمنت لكم من ثوابي وجنتي ولعله (عليه السلام) أشار بذلك إلى أن الأكثر نقضوا عهد الله وعهد رسوله في الولاية والخلافة وشكوا فيها وأن الآية نزلت في ذمهم وأن كل شاك فاسق.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن أبي إسحاق الخراساني قال:

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في خطبته: «لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا».

* الشرح:

قوله: (كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في خطبته: لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا) الارتياب يجيء بمعنى القلق والاضطراب وبمعنى سوء الظن والتهمة وبمعنى الشك، ولعل المراد لا توقعوا أنفسكم في قلق واضطراب وبسبب الفكر فيما يعارض الحق ويدفعه من الشبهات والتخيلات فإنه يؤديكم إلى الشك فيه أو لا تتهموا الله في أفعاله وصفاته ولا رسوله في تبليغ رسالاته ولا خليفته في ولايته والاتصاف بكمالاته ولا تتصفوا بسوء الظن بهم فإنه يؤديكم إلى الشك في صدقهم ولا تشكوا فيهم فتكفروا فإن الشك فيه كفر بالله العظيم وبما أنزله إلى رسوله الكريم، وقد مر توضيحه في باب استعمال العلم.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن أبي

ص:97

أيوب الخزار، عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله؟ فقال: «كافر يا أبا محمد، قال: فشك في رسول الله؟ فقال: كافر، قال: ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد».

* الشرح:

قوله: (قال: فشك في رسول الله؟ فقال: كافر، ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد) من البين أن الشك في رسول الله إنما يتصور قبل تمام الحجة إذ لا شك بعده بالضرورة، والشاك قبله كافر إذا جحد وأنكر بخلاف ما إذا لم يجحد فإنه مستضعف، وسيجئ بيانه، وأما الشاك في الله فهو كافر; لأن حجة الله والدليل على وجوده هي الحجة الواضحة إذ كل شيء شاهد عليه وإنما التفت إلى زرارة للتنبيه على فساد مذهبه وهو أنه لا واسطة بين المؤمن والكافر كما مر وسيجئ أيضا والله يعلم.

* الأصل:

4 - عنه، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: «بشك».

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بشك) أي الذين آمنوا بالله ورسوله وأوصياء رسوله ظاهرا ولم يلبسوا ايمانهم بشك في أحدهم باطنا أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، والظلم وضع الشيء في غير محله، فالعاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة والكافر ظالم لأنه وضع الكفر موضع الإيمان، والشاك ظالم لأنه وضع الشك موضع اليقين، وبالجملة كل من عدل عن طريق حق إلى طريق باطل فهو ظالم وكان السائل سأل عن العام هل هو باق بعمومه أو مختص ببعض أفراده، فأجاب (عليه السلام) بأن المراد به ظلم الشك والكفر قيل: فيه دلالة على أنهم كانوا يقولون بالعموم وعلى جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة واعترض بأنه لا دلالة فيه على شيء منها أما الأول فلأن السائل حمل الظلم على ظلم المخالفة وشق عليه ذلك لما ترتب عليه من عدم الامن وعدم الاهتداء فسأل عن ذلك فأجاب (عليه السلام) بحمله على ظلم الشك، وأما الثاني فلأن الآية ليس فيها تكليف يعمل وإنما فيها

ص:98

تكليف باعتقاد صدق الخبر بأن للمؤمنين الأمن والاهتداء فأين الحاجة التي يؤخر البيان إليها؟ وأجيب عن الأول بأن ظلم المخالفة يتنوع إلى كبائر وصغائر لا تنحصر وإنما شق عليه حمله على ظلم المخالفة إذا عم جميع صورها فأخذ العموم لازم سواء جعل من تعميم الجنس في أنواعه أو من تعميم النوع في أفراده، وعن الثاني بأن الآية وإن كانت خبرا فهي في معنى النهي عن لبس الإيمان بالظلم فهي عملية من هذا الوجه على أن الفرق في تأخير البيان بين المسائل العلمية والعملية غير ظاهر والدليل في المسألة مشترك.

5 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الشك والمعصية في النار، ليسا منا ولا إلينا».

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من شك في الله بعد مولده على الفطرة لم يفىء إلى خير أبدا».

* الشرح:

قوله: (من شك في الله بعد مولده على الفطرة لم يفىء إلى خير أبدا) دل على أن المرتد عن فطرة وهو المولود على الإسلام لا تقبل توبته كما هو المشهور، وقال الشيخ زين الملة والدين: لا تقبل توبته ظاهرا وفي قبولها باطنا قول قوي (1) حذرا من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفا بالإسلام

ص:99


1- (1) قوله: «وفي قبولها باطنا قول قوي» مبني على ما ذكر مرارا من أن أحكام الفقه للدنيا لا الآخرة فرب من يحكم بإيمانه ظاهرا وطهارته وجواز نكاحه بحسب أحكام الفقه مع أنه كافر حقيقة ومن أهل النار، والمرتد مأمور بأداء التكاليف الشرعية كالصلاة والصوم ولا يصح منه بدون الإيمان شيء والأمر بالشيء مع العلم بانتفاء شرطه قبيح عند الاصوليين، فلابد أن يكون توبته صحيحة وإيمانه بعد الارتداد مقبولا لكن قتله حد كحد الزنا واللواط ومفارقة الزوجة وسلب الاموال وتوريثه وراثه حكم تأديبي ليس بمنزلة قتل الحربي وغنيمة أمواله ولو كان كذلك انتقل ماله إلى قاتله لا إلى وارثه فإن الغنيمة للمجاهدين. فإن قيل: ما حكم المرتد في زمان الغيبة; لأن إجراء الحدود على الإمام (عليه السلام) وهو غائب؟ قلنا: هو داخل في ولاية الفقيه عند بعض العلماء ومتوقف على ظهور الإمام (عليه السلام) عند آخرين ولم يرد دليل لفظي على جواز اجراء الحدود للفقهاء فيما نعلم، بل ولايتهم ثابتة بدليل العقل والنقل فيما لا يمكن توقيفه وتأخيره كالحكم في المعاملات وحفظ أموال الصغار واليتامى والمجانين ولا ولاية له فيما لا ضرورة تقتضيه كالجهاد للدعوة إلى الإسلام وهذا هو المتيقن مما له فيه الولاية قطعا أو ليس له قطعا ويبقى الشك في الحدود ويحتمل قويا كونها مما لا يمكن تأخيره وتوقيفه خصوصا في السارقين والمحاربين وأما صلاة الجمعة فالظاهر عدم توقف صحتها على ظهور الإمام بل توقف وجوبها العيني فقط ولا يجري فيه دليل ولاية الفقيه إذ لا ضرورة في إقامتها ويمكن تأخيرها إلى ظهور الإمام (عليه السلام) وتمسك بعض المتأخرين برواية في الاحتجاج عن إسحاق بن يعقوب وهو رجل مجهول وفيها «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» وفيه أولا ضعف الرواية كما قلنا، وثانيا: لا شك في وجوب الرجوع في كل واقعة إلى العلماء ولا حاجة فيه إلى التمسك بالروايات الضعيفة مع تصريح آيات القرآن العظيم والروايات المتواترة وإنما الكلام في أنا إذا رجعنا إلى العلماء فعلى العلماء أن يجيبوا بما ظهر لهم من الأدلة وإن لم يكن عندهم دليل توقفوا فيرجع فيها إلى الإمام ومورد السؤال الحوادث التي يحتاج فيها إلى سؤال الإمام نفسه كما في عصرهم (عليهم السلام) فربما أجابوا بأن حكم الحدود كحكم الجهاد موقوف إلى ظهوره (عليه السلام) ويظهر من الشيخ المحقق الأنصاري أنه كان يعرف إسحاق بن يعقوب (ش).

أو خروجه عن التكليف ما دام حيا كامل العقل وهو باطل بالإجماع، وقال ابن فهد في شرح النافع:

لو تاب المرتد عن فطرة لم تقبل بالنسبة إلى إسقاط الحد وملك المال وبقاء النكاح وابتداء النكاح مطلقا وتقبل بالنسبة إلى الطهارة وصحة العبادات واسقاط عقوبة الآخرة واستحقاق الثواب ولا ينافي ذلك وجوب قتله كما لو تاب المحصن بعد قيام البنية.

* الأصل:

7 - عنه، عن أبيه، رفعه إلى أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا ينفع مع الشك والجحود عمل».

* الشرح:

قوله: (لا ينفع مع الشك والجحود عمل); لأن الشاك والجاحد كافران والكافر لا ينفعه عمله وقد دلت الروايات على أن عمل الشاك في الإمام والجاحد له كالخوارج وأضرابهم لا ينفع

* الأصل:

8 - وفي وصية المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة».

الشرح:

قوله: (وفي وصية المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط الله عمله) أي من شك في الله أو في الرسول أو في الإمام أو ظن بطلانهم (1) فأقام

ص:100


1- (1) قوله: «أو ظن بطلانهم» تعلق الظن بالبطلان غير متجه والحق أن الظن بالصحة أيضا لا يغنى من الحق شيئا وقد أصر بعض المتأخرين على كفاية الظن في اصول الدين وكأنه مخالف لإجماع المسلمين من صدر الإسلام إلى عهدنا هذا، فإنا لم نر أحدا اكتفى في اسلام الكافر بأن يقول أني أظن أن لا إله إلا الله ويحتمل ضعيفا عنده عدم وجوده تعالى أو يقول اليهودي أني أظن أن محمدا نبي وربما يحكون القول به عن الحكيم الطوسي في بعض مؤلفاته والفيض رحمهما الله وغيرهما ولا أدري ما أقول في هذه النسبة بعد وضوح بطلان هذا القول وعلى فرض صدور كلام مشتبه منهما يجب أن يؤول بوجه لا ينافي ضرورة الإسلام والآيات الناهية عن تقليد الآباء ومتابعة الظن ولعلهم أرادوا بالظن غير معناه المتداول كمن يعتقد شيئا بدليل قاطع لا يستطيع أن يقرره كالعوام أو أرادوا أن المظهر لليقين المبطن للظن محكوم بالإسلام ظاهرا لأنه إذا كان المنافق الجازم بالخلاف مسلما ظاهرا فالظان مسلم بطريق أولى واختار بعض تلامذة الشيخ المحقق الأنصاري في كتابه كاشف الأسرار أن الظن الإطمئناني علم ويكتفي به في اصول الدين وفيه أن الإعتقاد أما أن يحتمل فيه الخلاف أو لا يحتمل فإن احتمل الخلاف ولو ضعيفا ليس علما ولا يكتفي به وإن لم يحتمل الخلاف فليس ظنا بل هو علم، مثلا إذا وقع في ألف ألف درهم صحيح درهم واحد مغشوش وأخذت منه درهما واحتمل كونه ذلك الدرهم المغشوش ولو ضعيفا جدا لم يصح لك دعوى العلم بأن ما أخذته صحيح إلا أن تسامح أو تكذب وكيف يصح لهذا الفاضل مع مهارته في العلوم العقلية أن يحكم باسلام من يحتمل ضعيفا كذب خاتم الأنبياء وصدق الدهرية نعم قد يحصل للإنسان اعتقاد بشيء فيجري على اعتقاده ولا يخطر بباله خلافه حتى يحتمل وإن نبه عليه ربما تردد، مثاله من يرى شبحا من بعيد فيعتقد أنه شجر ويقصده ليستظل تحته ويجني من ثمره ولا يخطر بباله شيء غير الشجر ولو نبه عليه تردد في المسير وهذا ظن في الواقع وليس معنى الظن أن يلتفت الظان فعلا إلى النقيض فيحتمله بل لو التفت احتمل ويدل على ذلك قول الله عز وجل في تخطئة الدهريين (ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يظنون) فسمى جزمهم بنفي الربوبية ظنا وإن لم يحتمل عندهم خلاف ما اعتقدوا لأنهم لو نبهوا على أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ربما تبدل جزمهم باحتمال خلاف ما رأوا. وقد يحصل مثل هذا الإعتقاد للمقلد فيجري عليه في العمل ولو نبه على أن الإنسان جائز الخطاء فلعل من تقلده مخطى احتمال خطائه وتبدل جزمه بالترديد ولا ريب أن سائر الكفار كاليهود والنصارى والمشركين يقلدون آباءهم ومع ذلك هم جازمون بآرائهم لا يختلج في ذههنم ترديد وشك ولذلك كانوا يحاربون عليه ويبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل دينهم ولا يرجعون عن الحق مع أن التقليد لا يفيد العلم لاحتمال الغلط في المقلد ولو اختلج في ذهن اليهودي أنه في تقليده آباءه كالنصراني ولو كان التقليد طريقا إلى الحق لكان كلا طرفي النقيض حقا وهو باطل وقد ذمهم الله تعالى بالتقليد وبين وجه غلطهم عقلا بقوله

على أحدهما أحبط الله عمله ولا ينفعه في الآخرة كما قال عز وجل (لئن أشركت ليحبطن عملك).

وقوله: (أن حجة الله هي الحجة الواضحة) إشارة إلى أن الموجب لاحباط العلم هو الشك في الأمر الجلى وأما الأمر الخفي مثل بعض الفروع فليس الأمر فيه كذلك، والله يعلم.

* الأصل:

9 - عنه، عن علي بن أسباط، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال:

قلت: إنا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحق فهل ينفعه ذلك شيئا؟ فقال: «يا أبا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل كان لا يجتهد أحد منهم أربعين

ص:101

ليلة إلا دعا فأجيب وإن رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا فلم يستجب له فأتى عيسى بن مريم (عليه السلام) يكشو إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء قال: فتطهر عيسى وصلى ثم دعا الله عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه يا عيسى إن عبدي أتاني من غير الباب الذي اوتي منه، أ نه دعاني وفي قلبه شك منك فلو دعاني حتى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له، قال: فالتفت إليه عيسى (عليه السلام) فقال: تدعوا ربك: وأنت في شك في نبيه؟ فقال: يا روح الله وكلمته قد كان والله ما قلت، فادع الله [لي] أن يذهب به عني قال: فدعا له عيسى (عليه السلام) فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حد أهل بيته».

* الشرح:

قوله: (فقال: يا أبا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلا دعا فأجيب - إلى آخره) المراد بالاجتهاد الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات وتهذيب الظاهر والباطن لله تعالى، وفيه دلالة على أنه من شرائط قبول الدعاء والروايات الدالة عليه كثيرة وسيجئ بعضها في كتاب الدعاء والغرض من هذا التمثيل أن العبادة مع الشك في أهل البيت غير مقبولة ولا نافعة فكيف إنكارهم وإن التمسك بهم يوجب قبولها وإن التوبة بعد الشك والإنكار مقبولة وإن المؤمن الخالص في حد أهل البيت (عليهم السلام).

ص:102

باب الضلال

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن هاشم صاحب البريد قال: كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو كافر، فقال له محمد بن مسلم:

سبحان الله ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟! ليس بكافر إذا لم يجحد، قال: فلما حججت دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرته بذلك، فقال: «إنك قد حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة، الجمرة الوسطى بمنى، فلما كانت الليلة اجتمعنا عنده وأبو الخطاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره، ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونساءكم وأهليكم أليس يشهدون أن لا إله إلا الله؟ قلت: بلى قال: أليس يشهدون أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون، قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا. قال: فما هم عندكم؟ قلت: من لم يعرف [هذا الأمر] فهو كافر، قال: سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟ قلت: بلى، قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد، رسول الله؟ قلت: بلى، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هم عندكم؟ قلت: من لم يعرف [هذا الأمر] فهو كافر، قال: سبحان الله أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليقين وتعلقهم بأستار الكعبة؟ قلت: بلي، قال: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويصلون ويصومون ويحجون؟ قلت بلي، قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت، لا، قال: فما تقولون فيهم؟ قلت: من لم يعرف فهو كافر، قال: سبحان الله هذا قول الخوارج ثم قال: إن شئتم أخبرتكم، فقلت أنا: لا، فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا، قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم».

* الشرح:

قوله: (فقلت من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه

ص:103

الحجة فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو كافر، فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟! ليس بكافر إذا لم يجحد) الفرق بين الأقوال الثلاثة أنه ذهب صاحب البريد إلى أن غير العارف كافر سواء قامت عليه الحجة أم لم تقم، وسواء جحد أم لم يجحد، وعلى هذا لا واسطة بين المؤمن والكافر وذهب أبو الخطاب إلى أنه كافر أن قامت عليه الحجة، سواء جحد أو لم يجحد وعلى هذا بينهما واسطة وهي غير العارف قبل قيام الحجة ولكن يلزم أن لا يكون قبله مع الانكار أيضا كافرا وليس كذلك. وذهب محمد بن مسلم إلى أنه كافر إذا جحد وبدون الجحد ليس بكافر، وعلى هذا بينهما واسطة وهي من لم يعرف ولم يجحد ويسمى مستضعفا وضالا، والمراد بالضال في هذا الباب هو هذا المعنى وان كان يطلق كثيرا ما على المعنى الأعم منه وهو من لم يتمسك بالحق وخرج عن سبيله فإنه يصدق على جميع أرباب المذاهب الباطلة، والظاهر وأن مرادهم بالكافر هنا من يجري عليه أحكام الكفر في الدنيا مثل النجاسة وعدم جواز المباشرة والمناكحة وغيرها كما هو مذهب بعض العلماء والا فلا خلاف في استحقاق العقوبة وخلود بعضهم في النار.

(قال فلما حججت دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرته بذلك فقال: إنك قد حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة. الجمرة الوسطى بمنى) دل على أنه ينبغي للحاكم أن يترك الحكومة والتكلم فيها حتى يحضر الخصوم جميعا ومن ثم قال بعض الأكابر إذا جاءك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له فلعله يأتيك خصمه وقد فقئت عيناه.

(ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم - إلى آخره) لما أظهروا عنده (عليه السلام) أقوالهم المذكورة استفهم (عليه السلام) ثلاث مرات عمن أسلم وأقر بالشهادتين وأتى بالصلاة والصوم والحج ونحوها ولم يعرف هذا الامر والإمام الحق فأجاب صاحب البريد في كل مرة ومراده أنه كافر ينبغي أن يجري عليه أحكام الكفر من النجاسة والقتل وحرمة المناكحة وغيرها فقال (عليه السلام) - توبيخا له وردا لقوله -:

(سبحان الله هذا قول الخوارج) القائلين بأن من فعل كبيرة أو صغيرة وأصر عليها كافر خارج عن الاسلام مستحق للقتل ولذلك حكموا بكفر أمير المؤمنين (عليه السلام) للتحكيم لزعمهم أن التحكيم معصية صدرت منه عليه السلام وقد أخطاؤا، أما أولا فلأن التحكيم وقع بغير رضاه (عليه السلام) بسبب غلبة الرجال والعساكر كما هو المسطور في الكتب المفصلة المعتبرة، وأما ثانيا فلأن تعيين الحاكم وتفويض الحكم إلى أبي موسى وقع ايضا بدون رضاه (عليه السلام) كما هو المسطور فيها أيضا.

وأما ثالثا فلأن المقصود في التحكيم هو الرجوع إلى حكم الله في كتابه وتعيين الأحق بالخلافة

ص:104

منه ولا ريب في أنه ليس بمعصية واغترار الحاكم من صاحبه وحكمه بخلاف ما في كتاب الله معصية صدرت من ذلك الحاكم لا ممن أمره بالحكم الحق وانما لم يقل (عليه السلام) هذا قول الخوارج بعد الجواب عن السؤال الأول بل كرر السؤال عن جنس واحد للتأكيد والتقرير وتوقع رجوع المخاطب عن اعتقاده الباطل بتكرار السؤال والتنبيه، وانما لم يجبه بالجواب الحق مع أن شأنه (عليه السلام) هو الارشاد إليه بل استعلمه بقوله إن شئتم أخبرتكم لعلمه بأنه متعنت ولذلك أساء الأدب وقال لا ووبخه (عليه السلام) بقوله أما أنه شر عليكم أن تقولوا لشيء ما لم تسمعوه منا للتنبيه على فساد قوله وعلى أن كل ما يتكلم به الناس من أمور الدين وجب أن يكون مسموعا من أهل العصمة (عليهم السلام) ولو بواسطة ليكون مأمونا من الخطاء.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: ما تقول في مناكحة الناس فإني قد بلغت ما تراه وما تزوجت قط، فقال: وما يمنعك من ذلك؟ فقلت: ما يمنعني إلا أنني أخشى أن لا تحل لي في مناكحتهم فما تأمرني؟ فقال:

«كيف تصنع وأنت شاب، أتصبر؟» قلت: أتخذ الجواري قال: «فهات الآن فبما تستحل الجواري؟» قلت: إن الأمة ليست بمنزلة الحرة إن رابتني بشيء بعتها واعتزلتها، قال: «فحدثني بما استحللتها؟» قال: فلم يكن عندي جواب فقلت له: فما ترى أتزوج؟ فقال: «ما ابالي أن تفعل، قلت: أرأيت قولك: ما ابالي أن تفعل، فإن ذلك على جهتين تقول: لست ابالي أن تأثم من غير أن آمرك، فما تأمرني أفعل ذلك بأمرك؟ فقال لي: قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوج وقد كان من أمر امرأة نوح وامرأة لوط ما قد كان إنهما كانتا تحت عبدين من عبادنا

ص:105

صالحين، فقلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس في ذلك بمنزلتي إنما هي تحت يده وهي مقرة بحكمه مقرة بدينه، قال: فقال لي: ما ترى من الخيانة في قول الله عز وجل: (فخانتاهما) ما يعني بذلك إلا الفاحشة وقد زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلانا، قال: قلت: أصلحك الله ما تأمرني انطلق فأتزوج بأمرك؟ فقال لي: إن كنت غافلا فعليك بالبلهاء من النساء، قلت: وما البلهاء قال: ذوات الخدور العفاف، فقلت: من هي على دين سالم بن أبي حفصة قال: لا، فقلت: من هي على دين ربيعة الرأي؟ فقال: لا ولكن العواتق اللواتي لا ينصبن كفرا ولا يعرفن ما تعرفون، قلت: وهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة؟ فقال:

تصوم وتصلي وتتقي الله ولا تدري ما أمركم؟ فقلت: قد قال الله عز وجل: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) لا والله لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر، قال: فقال: أبو جعفر (عليه السلام) قول الله أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول الله عز وجل: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى

ص:106

الله أن يتوب عليهم) فلما قال: عسى؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين، قال: فقال: ما تقول في قوله عز وجل: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) إلى الإيمان، فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين، فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين، ثم أقبل علي فقال: ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين، إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون وإن دخلوا النار فهم كافرون، فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين، ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ولكنهم قوم قد استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال وإنهم لكما قال الله عز وجل فقلت: أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم حيث تركهم الله، قلت:

أفترجئهم؟ قال: نعم ارجئهم كما أرجأهم الله، إن شاء أدخلهم الجنة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم، فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا، قلت: [ف] - هل يدخل النار إلا كافر؟ قال: فقال: لا إلا إن يشاء الله يا زرارة إنني أقول ما شاء الله وأنت لا تقول ما شاء الله، أما إنك إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك».

* الشرح:

قوله: (فقلت: ما يمنعني إلا أنني اخشى أن لا تحل لي مناكحتهم) منشأ الخشية توهم إن غير العارفات بهذا الأمر كافرات لا يجوز نكاحهن وقد مر وسيجئ إن زرارة كان لا يقول بالواسطة بين المؤمن والكافر فكان جميع المخالفين من أي فرق الإسلام كانوا ولو من الشيعة غير الإمامية كفارا عنده يجري عليهم أحكام الكفرة ظاهرا وباطنا ومنها عدم جواز مناكحتهم (قلت أن الأمة ليست بمنزلة الحرة أن رابتني بشيء بعتها واعتزلتها قال: فحدثني بما استحللتها) رابه وارابه شككه وأو همه يعني أن أوهمتني بشيء يسوئني ويخالف ما أنا عليه بعتها واعتزلتها بخلاف الحرة فإن حرمتها أتم وأعظم وقبح مفارقتها أشد وأفخم ولما لم يكن هذا الجواب مطابقا للسؤال; لأن السؤال عن سبب التحليل أعاد (عليه السلام) السؤال بعينه للتنبيه على خطائه في الجواب.

(قلت أرأيت قولك ما أبالي أن تفعل فإن ذلك على جهتين تقول لست أبالي أن تأثم من غير أن آمرك) أي أخبرني عن تفسير قولك ما أبالي أن تفعل فإن هذا القول يحتمل وجهين أحدهما أنك لا تبالي أن أعصي الله وآثم إذ لم تأمرني بذلك والوجه الآخر أن يكون ذلك جائزا لي ولم يذكره لظهوره (فقال لي: قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوج) أي تزوج عائشة وحفصة وفعلتا بالنفاق واستبطان الكفر وعدم الإخلاص له (صلى الله عليه وآله) ما فعلتا وآذتاه بما غاظه وكرهه كما هو المذكور في القرآن الكريم.

(وقد كان من امرأة نوح وامرأة لوط ما قد كان أنهما قد كانتا تحت عبدين من عباد نا صالحين) ذم الله عز وجل المرأتين المذكورتين ومثل حالهما بحال امرأة نوح وامرأة لوط في أنهما بالنفاق واستبطان الكفر وعدم الإخلاص كفرتا وخرجتا عن الدين فلم يغن نوح ولوط عنهما من عذاب الله شيئا من الاغناء بحق الزواج حتى يقال لهما عند الموت أو في القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، قال المفسرون فيه إشارة إلى أن سبب القرب والرجحان عند الله تعالى ليس إلا الصلاح كائنا من كان وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وابطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين فامرأة نوح قالت لقومه أنه مجنون وامرأة لوط دلت قومه على ضيفانه، وليس المراد بالخيانة البغى والزنا إذ ما زنت امرأة نبي قط، وذلك هو المراد بقوله (عليه السلام):

(ما ترى من الخيانة في قول الله عز وجل (فخانتاهما) ما يعني بذلك إلا الفاحشة) هي كلما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي والمراد بها هنا النفاق والمخالفة والكفر، وفيه رد لقول زرارة وهي مقرة بحكمه مقرة بدينه إذ علاقة الزوجية لا تستلزم ذلك وقوله (عليه السلام). (وقد زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلانا) إشارة إلى أن يجوز للمؤمنة التزويج بالمخالف المظهر للإسلام المبطن للنفاق والكفر وهو مذهب المفيد والمحقق ابن سعيد والمشهور المنع لأخبار كثيرة بعضها مرسل وبعضها ضعيف وبعضها مجهول وهما حملاها على الكراهية جمعا ودعوى الإجماع على المنع لم يثبت والاحتياط ظاهر، ولما استشعر زرارة من الكلام المذكور الرخصة في نكاحهن أراد أن يعلمها صريحا.

(قال: قلت أصلحك الله ما تأمرني انطلق فاتزوج بأمرك) أي أتزوج من النساء اللواتي لا يعرفن هذا الأمر بأمرك وإذنك.

(فقال لي: أن كنت فاعلا فعليك بالبلهاء من النساء) الأبله ضعيف العقل والأنثى بلهاء والجمع بله مثل أحمر وحمراء وحمر، وفعله بله من باب تعب.

(قلت وما البهاء؟ قال: ذوات الخدور العفاءف) الخدر بالكسر الستر، والجمع خدور، يطلق الخدر على البيت أن كانت فيها امرأة وإلا فلا وأخدرت الجارية لزمت الخدر وأخدرها أهلها أي ستروها وصانوها عن الإمتهان والخروج لقضاء حوائجها، يتعدى ولا يتعدى، والعفائف جمع العفيفة وهي المرأة الممتنعة عن القبائح حياء من عف عن الشيء يعف من باب ضرب عفة بالكسر وعفافا بالفتح امتنع عنه، وإنما أمر بتزويجهن لأنهن أقرب إلى الحق وقبول دين الأزواج وأبعد من سوء الأخلاق ونصب أهل البيت (عليهم السلام).

(فقلت من هي على دين سالم بن أبي حفصة؟ قال: لا) كان زيديا بتريا من رؤسائهم لعنه الصادق (عليه السلام) وكذبه وكفره (فقلت من هي على دين ربيعة الرأي؟ فقال لا) هو ربيعة بن أبي عبد

ص:107

الرحمن مدني عامي خبيث، وإنما منع من تزويجهن لكفرهن وعداوتهن لأهل البيت وإنكارهن لهم (ولكن العواتق اللواتي لا ينصبن كفرا ولا يعرفن ما تعرفون) العواتق جمع العاتق وهي الجارية أول ما أدركت، وهذا يدل على أنه لا يجوز أنه للمؤمن أن ينكح الناصبية المعروفة بالنصب لأنها كافرة، ولا يجوز للمؤمن أن ينكح الكافره كما لا يجوز للكافر أن ينكح المؤمنة دواما ومتعة، وعليه روايات كثيرة. ثم عاد زرارة بعد تلك المقدمات إلى ما كان عليه من أن غير العارفة كافرة ولذلك قال:

(قلت: وهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة) أي لا تتجاوز المرأة أحد هذين الوصفين الإيمان والكفر. وإذا فقدت وصف الإيمان فقد اتصفت بالكفر. فقال (عليه السلام) ردا لقوله.

(تصوم وتصلي وتتقى الله ولا تدري ما أمركم) من الإقرار بالولاية فهي مسلمة فكيف تكون كافرة (فقلت: قد قال الله عز وجل (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) لا والله لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر) استدل على مذهبه بهذه الآية وليس نصا فيه، لأن الإيمان هو الإقرار والكفر هو الإنكار، وبينهما واسطة هي عدمهما ويسمون المتصف به تارة غير عارف وتارة مستضعفا، وتارة ضالا، والحكم على الخلق بأن بعضهم مؤمن وبعضهم كافر لا يدل على إنحصارهم فيهما إلا أن يريد بالكافر غير المؤمن سواء كان منكرا أم غير عارف فيتوجه أن اطلاق الكافر على هذا المعنى غير متعارف، وإن عدم جواز نكاح الكافرة بهذا المعنى مطلقا ممنوع لجواز نكاح غير العارفة، وكأنه (عليه السلام) لم يتعرض لجوابه لظهوره بل أشار إلى ثبوت الواسطة كما نقلها عن زرارة.

(قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): قول الله أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول الله عز وجل: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم)) ربما يشعر بتوسطه أن الله عز وجل جعل المعذرين المتخلفين عن غزوة تبوك قسيم المؤمنين قال: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفهسم - الآية) وقال: (وجاء المعذرون.. الآية) ثم جعل المعذرين على صنفين: كافرين وغير كافرين، قال: (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) وضمير منهم راجع على المعذرين، وفيه تنبيه على أن المعذر اعتذر لكسله لا لكفره وجعل المعذر لكسله إلى صنفين حيث قال:

(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم) أي اعترفوا بذنوبهم وندموا من التخلف (خلطوا عملا صالحا) هو اظهار الاعتراف بالذنب والندم منه (عسى الله أن يتوب عليهم) أي يقبل توبتهم المفهومة من قوله (اعترفوا بذنوبهم) وقال (وآخرون مرجون لأمر الله أما يعذبهم وإما يتوب عليهم) أي آخرون من المتخلفين وهم الذين لم يعترفوا بذنوبهم، ولم يندموا مؤخرون موقوف أمرهم لأمر الله تعالى في

ص:108

شأنهم إما يعذبهم أن اصروا على الذنب، وأما يتوب عليهم أن تابوا، ومن هذه المقدمات يعلم أن هذين الصنفين لم يكونوا مؤمنين ولا كافرين، والله يعلم، ولما لم يفهم زرارة المقصود منه قال (فلما قال «عسى»؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين) وأعرض (عليه السلام) عن بيانه وتوضيحه وأشار إلى دليل آخر أظهر في المقصود كما يفعله الحكيم، وقد صدر مثله من الخليل لإلزام نمرود كما نطق به القرآن الكريم وهو ما نقله زرارة.

(قال: فقال: ما تقول في قوله: عز وجل: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) إلى الإيمان) أي لا يستطيعون حيلة إلى الكفر فيكفروا ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان فيؤمنوا، وقد مر تفسيره بهذا في باب أصناف الناس، وسيجئ في أول الباب الآتي وهذا صريح في أن المستضعفين ليسوا بمؤمنين ولا كافرين.

(فقلت: ما هم إلا مؤمنين أو كافرين) هذا القول مكابرة وكأنه بنى ذلك على باطله، وهو أن المراد بالكافر غير المؤمن، أو على تفسيره الآية بوجه آخر، وعلى التقديرين بالغ في إساءة الأدب، ويمكن أن يكون مراده بذلك الاستقصاء في المناظرة ليعلم جودة الكلام، وتحصل له قوة المجادلة مع الخصم.

(فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين) قد صرح بعض الأصحاب بأن المستضعفين الذين لا يعرفون الحق ولا ينكرون، والذين لم تحصل لهم المعرفة بالدليل ما هم بمؤمنين ولا كافرين. (ثم أقبل علي فقال: ما تقول في أصحاب الأعراف؟) قد مر تفسيره في باب أصناف الناس (فقلت ما هم إلا مؤمنين أو كافرين) وذلك لأنهم (إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون); لأن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن (وإن دخلوا النار فهم كافرون); لأن النار لا يدخلها إلا كافر، والمقدمتان ممنوعتان لأن الجنة قد يدخلها غير مؤمن برحمة الله وفضله، والنار قد يدخلها غير كافر بذنب غير الكفر كما ستعرفه (فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة) أي ابتداء، أو بسبب الإيمان (كما دخلها المؤمنون) كذلك وهذا لا ينافي دخولهم فيها بالرحمة كما سيأتي (ولو كانوا كافرين لدخلوا النار) أي ابتداء أو بسبب الكفر.

(كما دخلها الكافرون) كذلك، وهذا لا ينافي دخولهم فيها بذنوبهم غير الكفر كما سيأتي، (ولكنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم) كأن المراد بهما الإقرار والإنكار، وباستوائهما عدم رجحان أحدهما على الآخر أو الأعم منهما ومن الأعمال الصالحة والذنوب.

(فقصرت بهم الأعمال) أي لم تبلغ بهم الأعمال الحسنة إلى مقصدهم وهو الجنة، وفي المصباح قصرت بنا النفقة أي لم تبلغ بنا إلى مقصدنا. فالباء للتعدية.

ص:109

(وإنهم لكما قال الله عز وجل) قال بعض المفسرين: في الدرجة الأدنى من الأعراف قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله تعالى عليها لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة برحمة من الله وفضل كما قال الله عز وجل: (لم يدخلوها وهم يطمعون) أي لا يطمعون دخولها من عملهم. بل يطمعون من فضل الله واحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة (فقلت: أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار؟) كان غرضه من هذا السؤال أن يقول: هم المؤمنون إن كانوا من أهل الجنة، والكافرون إن كانوا من أهل النار لزعمه أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن، والنار لا يدخلها إلا كافر.

(فقال: أتركهم حيث تركهم الله) وهو مقام الرجاء برحمته وفضله، وفيه تنبيه على أن دخول الجنة قد يكون بالرحمة لا بالإيمان كما أن دخول النار قد يكون بالذنوب لا بالكفر (قلت:

أفترجئهم) أي أفتؤخرهم ولا تحكم بكفرهم أو افتوقعهم في الرجاء والطمع للمغفرة ولا تحكم بكفرهم.

(قال: نعم ارجئهم كما ارجأهم الله، إن شاء أدخلهم الجنة برحمته) لا بإيمانهم لعدمه (وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم) لا بكفرهم لعدمه أيضا (ولم يظلمهم) إذ لا ظلم في العقوبة مع الاستحقاق بالذنوب.

(فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا قلت: هل يدخل النار إلا كافر؟ قال: فقال لا إلا أن يشاء الله) كان غرضه ان يحمله على التقرير للمقدمتين ليتفرع عليه عدم الواسطة مع ملاحظة المقدمة المعلومة بادعائه، وهي أن الناس إما أهل الجنة أو أهل النار. إذ بحكم المقدمة الأولى كل من دخل الجنة فهو مؤمن، وبحكم المقدمة الثانية كل من دخل النار فهو كافر ولا واسطة بحكم المقدمة المعلومة. فأجاب (عليه السلام) بمنع المقدمة الثانية بقوله (لا إلا أن يشاء الله) أشار به إلى أنه قد يدخل النار غير كافر فهذا واسطة، ويمكن الجواب بمنع المقدمة الأولى أيضا إذ لا يلزم من عدم دخول الكافر في الجنة أن يكون كل من دخلها مؤمنا لجواز أن يدخلها غير المؤمن كالمستضعف، وبمنع المقدمة الادعائية أيضا لجواز أن لا يدخل بعض الناس في الجنة، ولا في النار. كما قال قوم أصحاب الأعراف هم الفساق من أهل الصلاة يسكنهم الله الأعراف بين الجنة والنار، إنما خص (عليه السلام) الاستثناء بالمقدمة الثانية لأنه لا يصلح تعلقه بالمقدمة الأولى نعم لو قال زرارة: هل يدخل الجنة غير مؤمن لجاز تعلقه بها أيضا (يا زرارة انني أقول ما شاء الله وأنت لا تقول ما شاء الله) أشار به إلى خطاء زرارة فإنه يقول: كل من دخل النار فهو كافر بدون الاستثناء، وهذا خطاء لأنه قد يدخلها غير كافر ممن شاء الله دخوله فيها.

(أما إنك إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك) العقد بالكسر القلادة وبالضم الرأي ومع الهاء بدونها أيضا العهد والبيعة المعقودة للولاة، ولعل المراد رجعت عن هذا القول الباطل

ص:110

وتحللت عنك هذه القلادة أو هذا الرأي أو رجعت عن دين الحق وتحللت عنك العهد والبيعة.

وفيه على الأخير ذم عظيم (1) له إلا أن في الرواية ضعفا بالإرسال وبمحمد بن عيسى وهو محمد ابن عيسى بن عبيد بن يقطين وإن كان له مدح وتوثيق من بعض الأصحاب لكن جزم ابن طاووس بضعفه في مواضع وضعفه أبو جعفر محمد على بن الحسين بن بابويه وشيخه محمد بن الوليد، والشهيد الثاني، وقال اشترك جميع الأخبار القادحة لزرارة في استنادها إلى محمد بن عيسى وهو قرينة عظيمة على ميل وانحراف منه على زرارة مضافا إلى ضعفه في نفسه وقال مثله ابن طاووس (رضي الله عنه) واعلم أن ما ذكرته في شرح هذا الحديث كله من باب الاحتمال والله تعالى شأنه يعلم حقيقة الحال.

ص:111


1- (1) قوله «على الأخير ذم عظيم» ولكن الاحتمال الأخير ضعيف جدا ولا ريب أن الرواية تدل على تخطئة زرارة في رأيه وإنه كان مقصرا عليه غير قانع بما احتج به (عليه السلام) وكان زرارة يرى أن الناس على قسمين فقط لا ثالث لهما أما مؤمن ناج يدخل الجنة، وأما كافر يدخل النار وليس بينهما واسطة ومقتضى أحكام الفقه هو ما اختاره زرارة; لأن الإنسان إما أن يحكم بطهارته وحل ذبيحته وتجويز نكاحه المسلمة وأمثال هذه الأحكام وهو مسلم وإما أن يكون نجسا لا يحل ذبيحته ولا يجوز نكاحه المسلمة وهو كافر ورأيه صحيح في طريقة الفقهاء وعلى قواعدهم وبين الإمام (عليه السلام) خطاءه في رأيه حيث ظن أن كل من يحكم بإسلامه ظاهرا فهو ناج في الآخرة ومن أهل الجنة وكل كافر ظاهرا فهو من أهل النار وفرع حكم الآخرة على الدنيا وليس كذلك وهذا الخبر وإن كان ضعيفا بمحمد بن عيسى بن عبيد على ما ذكره الشارح لكن مضمونه مستفيض عن زرارة وسبق حديث بهذا المضمون عنه ليس في طريقه محمد بن عيسى بن عبيد ولا غيره ممن يطعن فيه وذكرنا سابقا في تعليق ما يوضح المقصود فراجع وكان على زرارة أن يسلم للإمام (عليه السلام) ويرتدع عن مقاله ولا يصر على مخالفة المعصوم (عليه السلام) ولكن ذلك غير عجيب من كثير من الرواة فقد اتفق إن عرضت لهم شبهة لم تزل عن ذهنهم بعد مدة ولم يكن إصراره على الإنكار بل على الإستفتاح والإستيضاح إذ تعسر تفطنه لمراده (عليه السلام) لجموده على الالتزام بظواهر أحكام الفقه ونرى مثله في كثير من أمثاله في أمثال هذه المسائل مثلا الصحيح عند المتكلمين ما يوجب الثواب وعند الفقهاء ما يوجب اسقاط القضاء أو يوافق الأمر الواقعي فيعرف كل منهما بحسب ما يهم في علمه ولما كان نظر الفقيه إلى أحكام الدنيا فكل عبادة لم يستتبع تبعة فهي صحيحة عنده ونظر المتكلم إلى حكم الآخرة فكل عبادة استحق بها ثوابا فهي صحيحة عنده ويظهر الثمرة في الصلاة باستصحاب الطهارة بعد ما تبين الحدث فإنها باطلة عند الفقيه ويستحق بها ثوابا عند المتكلم وصوم يوم الفطر لمن لم يثبت عنده الهلال فإنه باطل عند الفقيه ويستحق به الثواب عند المتكلم والمتوغل في الفقه الحاصر كل أمر الدين في الفقه يلتزم بأن الصائم في الصيف مع الحر وتحمل الشدة بقصد التقرب إلى الله تعالى يستحق ثوابا إذا صادف يوم الفطر وهو لا يعلم لثواب من لم يصادف وهو يعلم (ش).

باب المستضعف

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بعض أصحابه، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المستضعف فقال: «هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم».

* الشرح:

قوله: (قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المستضعف) كأنه سأل عن المستضعف الذي استثناه عز وجل في قوله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا) قال أصحاب التفسير توفاهم اما ماض فيكون اخبارا عن حال قوم انقرضوا وكانوا قوما من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم، وإما مستقبل بحذف احدى التائين. فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة، (وظالمي أنفسهم) حال عن ضمير الموصول والظلم قد يراد به الشرك والنفاق. فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة، وقد يراد به المعصية فالمراد الذين اسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار الإسلام حين كانت الهجرة فريضة وفي خبر أن وجوها [وجوه. ظ]:

الأول: قالوا فيم كنتم والعائد محذوف. أي قالوا لهم فيم كنتم. أي في أي شيء كنتم أمر دينكم. والمراد التوبيخ بأنكم لم تكونوا من الدين في شيء.

والثاني: فأولئك ويكون «قالوا» حالا من الملائكة بتقدير قد.

والثالث: أن الخبر محذوف وهو هلكوا يفسره فيم كنتم وهم أجابوا اعتذارا بقولهم (كنا مستضعفين في الأرض) غير قادرين على شعائر الإيمان والمهاجرة، ثم الملائكة لم يقبلوا عنهم هذا العذر فبكتوهم بقولهم (ألم تكن أرض الله واسعة) وأرادوا أنكم كنتم قادرين على المهاجرة.

ثم

ص:112

استثنى من الموصول المستضعفين في نفس الأمر والاستثناء منقطع لعدم دخول المستثنى في المستثنى منه; لأن المستثنى منه أهل الوعيد دون المستثنى، ومن شرط الاتصال أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج، وفي ذكر العفو وكلمة الأطماع وهي عسى تنبيه على أن أمر الهجرة خطير مضيق لا توسعة فيه حتى أن المضطر من حقه أن يترقب العفو ولا يأمن وينبغي أن يعلق قلبه بها.

ولعل المراد بالولدان الأطفال والصبيان (1) كما في هذه الرواية وغيرها، وإنما ذكرهم مع أنهم لم يبلغوا حد التكليف أصلا; لأن السبب في سقوط التكليف هو العجز، وأنه حاصل فيهم فحسن استثناؤهم بهذا الوجه، وقيل المراد بهم العبيد، وقيل المراد بهم المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله، وقيل استثناؤهم للمبالغة في الأمر والاشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا عليها فلا محيص لهم عنها، وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت، وقال أرباب التأويل: الموصول هم الذين رفضوا الحق واتبعوا الباطل فظلموا أنفسهم فيقول الملائكة: (فيم كنتم) أي في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري، وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون. فيقولون:

كنا مستضعفين عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة، وغلبة الهوى فيقول الملائكة: (ألم تكن أرض الله) أي أرض القلوب (واسعة) فتخرجوا عن مضيق ما كنتم فيه. ثم استثنى ضعفاء العقول الذين رفع

ص:113


1- (1) قوله «ولعل المراد بالولدان الأطفال والصبيان» أطال الشارح الكلام وتكلف فيه والمستضعف كلمة واضحة المفهوم وإنما يسئل عن المصاديق المرادة في العبارات المختلفة والمراد به في الآية العجزة والفقراء ومن ليس له قوة يقدر بها على اظهار شعائر الإسلام وإقامة أحاكمه في بلدة يكون أمرائها وأشرافها وأهل الحل والعقد فيها منكرين كافرين واحتج الملائكة عليهم حين توفتهم عند الموت بأنكم وإن كنتم غير قادرين على العمل بالتكاليف في بلد الكفر لكن ما منعكم من أن تهاجروا إلى بلاد الإسلام وتقيموا بها ما فرض الله عليكم واستثنى منهم من كان عاجزا عن المهاجرة والحيلة في الفرار وبهذا تم معنى الآية، وأما المراد من المستضعف في الحديث فهو العاجز عن التدبر والفهم ولو في دار الإسلام لا العاجز عن العمل بعد التأمل والفهم فلا يتوافق المصاديق مع اتحاد المفهوم، وأما المستضعف في خبر سفيان بن السمط الآتي فليس بمعنى الولدان والصبيان قطعا إذ الإمام (عليه السلام) لما نفي أن يكون اليوم مستضعف لم يرد به نفي وجود الولدان وضعاف العقول الذين عقولهم مثل عقول الصبيان بل أراد المستضعف البالغ العاقل غير العاجز الذي له قدرة على تحقيق الحق وتميز الدين الصحيح لكن لم يلتفت إلى وجوب التحقيق عليه; لأن التكليف متفرع على الالتفات ومن لم يخطر بباله قط أن للناس اختلافا في مسئلة من المسائل كالإمامة لم يعقل تكليفه بتحقيق الحق فيه كما لو لم يخطر ببال أحدنا أن في لبس جورب لا ساق له اختلافا بين العلماء، أو في أرضاع الطفل أقل من حولين وغير ذلك لم ينبعث في نفسنا إرادة تحقيق ذلك وأراد الإمام (عليه السلام) بنفي وجود المستضعف نفي وجود من لم يطلع على الاختلاف في الإمامة دون المستضعف في سائر المسائل وبالجملة يجب تعيين المراد في كل عبارة بالقرائن الخاصة بها (ش).

عنهم قلم التكليف بالمعارف، وهم الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج عن الدنيا لضعف الرأي ولا يهتدون سبيلا إلى صاحب الولاية.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» قال: لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان ولا يكفرون، الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء».

* الشرح:

وقول الباقر (عليه السلام) في تفسير المستضعف يمكن تطبيقه على تفسير الآية الكريمة وعلى تأويلها فليتأمل وإنما قال (عليه السلام) في الكفر: «حيلة» وفي الإيمان «سبيلا» للتنبيه على أنه لا سبيل إلى الكفر ولا دليل عليه ولو فرض شيء يفضى إليه فإنما هي يفضى إليه حيلة نفسانية وشبهة شيطانية وقال في الخبر الآخر لا يستطيع حيلة إلى الإيمان للاشعار بأن الحيلة كافية للخروج من الكفر إلى الإيمان أو لإرادة السبيل بها مجازا لاشتراكهما في الإفضاء والإيصال، واطلاق الصبيان يشمل صبيان الكفار أيضا إلا أن الروايات المتكثرة دلت على أنهم مع آبائهم في النار، قال بعض العلماء: لكن لا يؤثر فيهم حرها (1) كما لا يؤثر في آبائهم، وقال أيضا: يحتمل أنهم يدخلون مداخل آبائهم في النار لتذهب بخبثهم كما تذهب بخبث الحديد، ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة، وأيده بما هو المشهور من أنهم يخدمون أهل الجنة، وحديث التأجيج مشهور بين الخاصة والعامة (2) وعلى هذا يمكن أن يقال: كل من أطاع منهم وقت التأجيج يدخل الجنة وكل من خالف دخل النار والله يعلم.

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المستضعف، فقال: «هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر ولا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر، قال: والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على عقول الصبيان».

*أصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن

ص:114


1- (1) قوله: «قال بعض العلماء لكن لا يؤثر فيهم حرها» أراد بذلك الجمع بين دليلي النقل والعقل وذلك; لأن الالتزام بظاهر الروايات غير ممكن في العقل ولا يلائم ما علمنا بالضرورة من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فإن الصبيان غير مقصرين ولا مأخوذين بمعصية آبائهم والحق ان الجمع تبرع غير واجب والوجه الالتزام بحكم العقل وضرورة المذهب وترك كل رواية لا توافقها ومن جمع بينهما أيضا ترك ظاهر الرواية والتزم بالعقل (ش).
2- (2) راجع توحيد الصدوق باب الأطفال تحت رقم 60.

جندب، عن سفيان بن السمط البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في المستضعفين؟ فقال لي شبيها بالفزع: «فتركتم أحدا يكون مستضعفا وأين المستضعفون؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهن وتحدث به السقايات في طريق المدينة».

* الشرح:

قوله: (عن سفيان بن السمط البجلي) هو مجهول وبجيلة قبيلة من اليمن والنسبة إليها بفتحتين مثل حنفي في النسبة إلى بني حنيفة، وبجلة مثال ثمرة قبيلة أيضا والنسبة إليها على لفظها (قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في المستضعفين؟ فقال لي شبيها بالفزع: فتركتم أحدا يكون مستضعفا - إلى آخره) المستضعف عند أكثر الأصحاب من لا يعرف الإمام ولا ينكره ولا يوالي أحدا بعينه، وقال ابن إدريس: هو من لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب ولا يبغض أهل الحق على اعتقادهم وهذا أوفق بأحاديث هذا الباب وأظهر; لأن العالم بالخلاف والدلائل إذا توقف لا يقال له مستضعف، ولعل فزعه (عليه السلام) باعتبار أن سفيان كان من أهل الإذاعة لهذا الأمر، فلذلك قال (عليه السلام) على سبيل الإنكار «فتركتم أحدا يكون مستضعفا» يعني أن المستضعف من لا يكون عالما بالحق والباطل وما تركتم أحدا على هذا الوصف لافشائكم أمرنا حتى تتحدث النساء والجواري في خدورهن والسقايات في طريق المدينة، وإنما خص العواتق بالذكر وهي الجارية أول ما أدركت لأنهن إذا علمن مع كمال استتارهن فعلم غيرهن به أولى.

* الأصل:

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستضعفين فقال: «هم أهل الولاية، فقلت: أي ولاية؟ فقال: أما إنها ليست بالولاية في الدين ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار ومنهم المرجون لأمر الله عز وجل».

* الشرح:

قوله: (فقال هم أهل الولاية، فقلت: أي ولاية؟ فقال: أما انها ليست بالولاية في الدين ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة) لما كان الظاهر من الولاية هو الولاية في الدين الشاملة لولاية العادل والجائر سأل عمر عنها فأجاب (عليه السلام) أنها ليست ولاية في الدين لظهور أن أهلها إما مؤمن أو كافر، وهو على التقديرين ليس بمستضعف، بل المراد بها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة، ولجعل هذه الولاية مقابلا للولاية في الدين لا يرد أن تفسير المستضعف بها تفسير

ص:115

بالأعم لثبوت الولاية في المناكحة وما عطف عليها في الولاية في الدين أيضا وفي قوله «ومنهم المرجون لأمر الله عز وجل» إشارة إلى أنهم قسم من المستضعف ولعل المراد بهم من شهد بالتوحيد والرسالة ولم يستقر الإيمان في قلبه بعد ان كان له شك في الرسول وما جاء به ومن لم يصدق ولم ينكر ومن ساوت حسناته وسيئاته ومن زادت سيئاته على حسناته فإن كلهم مرجون لأمر الله.

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن مثنى، عن إسماعيل الجعفي قال:

سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، فقال: «الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فاحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى، فقلت:

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله وأتولاكم وأبرء من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئا، هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلا المستضعفين، قلت:

من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم. ثم قال: أرأيت ام أيمن؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة وما كانت تعرف ما أنتم عليه».

* الشرح:

قوله: (الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم) لعل المراد بسعته هنا سعته باعتبار أن الذنوب كلها غير الكفر يجامع الإيمان ولا يرفعه خلافا للخوارج فإنهم قالوا الذنوب كلها كفر.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف».

* الشرح:

قوله: (من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف) إذ من عرف اختلاف الناس في مذاهبهم مكلف بالإيمان طلب الحق فلا يكون معذورا ولا مستضعفا; لأن المستضعف من ليس له عقل يقتضي تكليفه بالمعرفة.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن جميل بن دراج قال:

ص:116

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني ربما ذكرت هؤلاء المستضعفين فأقول: نحن وهم في منازل الجنة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يفعل الله ذلك بكم أبدا».

* الشرح:

قوله: (فأقول نحن وهم في منازل الجنة) كأنه أراد به التساوي في الدرجة فأنكره (عليه السلام) وأظهر التفاوت، وفي الحديث الثاني أيضا دلالة على أن أرباب الذنوب من أهل الإيمان ليست درجتهم ودرجة المستضعفين سواء.

9 - عنه، عن علي بن الحسن التيمي، عن أخويه محمد وأحمد ابني الحسن، عن علي بن يعقوب، عن مروان بن مسلم، عن أيوب بن الحر قال: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام) ونحن عنده:

جعلت فداك، إنا نخاف أن ننزل بذنوبنا منازل المستضعفين، قال: فقال: «لا والله لا يفعل الله ذلك بكم أبدا».

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي المغرا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عرف إختلاف الناس فليس بمستضعف».

11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن منصور الخزاعي، عن علي بن سويد، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الضعفاء فكتب إلي:

«الضعيف من لم ترفع إليه جنة ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف».

* الأصل:

12 - بعض أصحابنا، عن علي بن الحسن، عن علي بن حبيب الخثعمي عن أبي سارة إمام مسجد بني هلال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ليس اليوم مستضعف أبلغ الرجال الرجال والنساء والنساء».

* الشرح:

قوله: (ليس اليوم مستضعف - إلى آخره) المستضعف من لم يعرف اختلاف الناس ولم يبلغه الحق ولم ترفع إليه الحجة وأما من عرف الاختلاف وبلغه ذلك ولم يؤمن فهو كافر ومن ههنا ظهر أن اليوم ليس بمستضعف لشيوع الحق وبلوغه إلى الناس فمن قبله فهو مؤمن ومن لم يقبله فهو كافر.

ص:117

باب المرجون لأمر الله

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل (وآخرون مرجون لأمر الله) قال: «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين، ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنة ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار فهم على تلك الحال إما يعذبهم وإما يتوب عليهم».

* الشرح:

قوله: (قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجفعر وأشباههما - إلى آخره) دل على اعتبار قتل المؤمن حال الكفر والرجوع عنه إلى الإسلام بعده وعدم استقرار الإيمان في قلوبهم ويمكن التعميم بحيث يشمل الاقسام المذكورة آنفا أيضا ولعل ذكر هذا القسم على سبيل التمثيل.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر الواسطي، عن رجل قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «المرجون قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ثم إنهم بعد ذلك دخلوا في الإسلام فوحدوا الله وتركوا الشرك ولم يكونوا يؤمنون فيكونوا من المؤمنين ولم يؤمنوا فتجب لهم الجنة ولم يكفروا فتجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله».

* الشرح:

قوله: (ولم يؤمنوا فتجب لهم الجنة ولم يكفروا فتجب لهم النار) لعل المراد بالإيمان الإيمان المقتضى لدخول الجنة كما يشعر به التفريع وهو الإيمان الكامل المستقر الموجب للأمن وبالكفر الجحود الموجب لدخول النار وعلى هذا يصدق المرجون على جميع الأقسام المذكورة سابقا.

ص:118

باب أصحاب الأعراف

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن ابن فضال، عن ابن بكير، وعلي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل جميعا، عن زرارة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون وإن دخلوا النار فهم كافرون، فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين دخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، ولكنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال وإنهم لكما قال الله عز وجل، فقلت: أمن أهل الجنة هم أو من أهل النار؟ فقال: اتركهم حيث تركهم الله، قلت: أفترجئهم قال: نعم ارجئهم الله كما أرجأهم الله، وإن شاء الله أدخلهم الجنة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا، قلت: هل يدخل النار إلا كافر قال: فقال: لا إلا أن يشاء الله، يا زرارة إنني أقول: ما شاء الله وأنت لا تقول ما شاء الله أما إنك إن كبرت رجعت وتحللت [عنك] عقدك».

* الشرح:

قوله: (ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون - إلى آخره) ومر هذا الحديث مع شرحه مفصلا في باب أصناف الناس وباب الضلال فلا نعيده.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن رجل قال:

قال أبو جعفر (عليه السلام): «الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم».

* الشرح:

قوله: (قال أبو جعفر (عليه السلام) الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا - إلى آخره) مر شرحه أيضا وذكر المصنف هذا الحديث في هذا الباب مشعر بأن هذا الصنف عنده أيضا من أصحاب الأعراف وعلى هذا لا يبعد أن يكون المرجون لأمر الله منهم، والله يعلم.

ص:119

باب في صنوف أهل الخلاف

اشاره:

(وذكر القدرية والخوارج والمرجئة وأهل البلدان)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن مروك بن عبيد، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لعن الله القدرية، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة قال: قلت: لعنت هؤلاء مرة مرة ولعنت هؤلاء مرتين؟ قال: إن هؤلاء يقولون: إن قتلتنا مؤمنون فدماؤنا متلطخة بثيابهم إلى يوم القيامة، إن الله حكى عن قوم في كتابه: (لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين) قال: كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا».

* الشرح:

قوله: (قال إن هؤلاء يقولون قتلتنا مؤمنون - إلى آخره) هذا القول بناه على أصلهم الفاسد وهو أنه لا يضر مع الإيمان والشهادة بالتوحيد والرسالة معصية وإن كانت قتل نفس معصومة مؤمنة كما لا ينفع مع الكفر طاعة. سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم، والمرجئة بالهمزة مثل مرجعة من ارجأته وبدون الهمزة مثل معطية من أرجيته وكلاهما بمعنى أخرته، وذكر الآية استشهاد بأن الراضي بقتل حكمه حكم القاتل في العقوبة فإن الراضي بالشيء كالفاعل له، فعلى هذا كل من رضي بقتل أحد من الأئمة المعصومين وقتل شيعتهم إلى يوم الدين فهو بمنزلة قاتلهم ويدخل النار مع الداخلين.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم وحماد بن عثمان، عن أبي مسروق قال: سألني أبو عبد الله (عليه السلام) عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدرية وحرورية، فقال: «لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء».

* الشرح:

قوله: (فقال: لعن الله تلك الملل الكفافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء) أي على شيء من الحق والعبادة أو على شيء من الأشياء التي جاء النبي (صلى الله عليه وآله). والملل جمع الملة وهي الدين ووصفها بالكفر والشرك وعدم العبادة لله وصف مجازي; لأن هذه الأوصاف لصاحب الملل حقيقة نسبت إلى الملل التي هي سبب لإتصاف صاحبها بها بمالغة في السببية كما أن في لعن تلك الملل مبالغة في لعن صاحبها أيضا، والمراد بلعنها طردها عن طريق الحق وساحة القبول

ص:120

ونيل الرحمة ودخول الجنة.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن منصور بن يونس، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أهل الشام، شر من أهل الروم وأهل المدينة شر من أهل مكة وأهل مكة يكفرون بالله جهرة».

* الشرح:

قوله: (قال: أهل الشام، شر من أهل الروم وأهل المدينة شر من أهل مكة وأهل مكة يكفرون بالله جهرة) الخيرية والشرية لهذه الامة باعتبار الإيمان ومحبة أهل البيت (عليهم السلام) وباعتبار الكفر وعداوتهم فكلما كان الإيمان والمحبة أفخم كان الخير أعظم وكلما كان الكفر والعداوة أعظم كان الشر أتم، وأهل هذه البلدان اشتركوا في الكفر وعداوة أهل الشام لهم لما كانت أكثر من عداوة أهل الروم كان شرهم أكثر من شرهم وكذلك أهل المدينة بالنسبة إلى أهل مكة يكفرون بالله جهرة لأنهم كانوا يكفرون الأوصياء صريحا يحتمل أن يراد بالكفر بالله الكفر بالأوصياء وقد مر أن الفعل المتعلق بهم ينسب إلى الله تعالى مبالغة في شرفهم أو لأن أهل مكة إذا عصوا أو عبدوا غير الله أو تولوا غير أولياء الله فقد ألحدوا وأشركوا لقوله تعالى: (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) روى في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال: «من عبد فيه غير الله أو تولى فيه غير أولياء الله فهو ملحد بظلم وعلى الله أن يذيقه من عذاب أليم» ويظهر من هذا الخبر ونحوه أن أهلها غالبا ملاحدة يكفرون بالله جهرة.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفا».

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة ابن أيوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أهل الشام شر أم [أهل] الروم فقال: «إن الروم كفروا ولم يعادونا وإن أهل الشام كفروا وعادونا.

6 - عنه، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن شعيب، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تجالسوهم - يعني المرجئة - لعنهم الله ولعن [الله] مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله على شيء من الأشياء».

ص:121

باب المؤلفة قلوبهم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر; وعلي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل جميعا، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«المؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة [من يعبد] من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم ويعرفهم لكيما يعرفوا ويعلمهم».

* الشرح:

قوله: (قال: المؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة [من يعبد] من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتألفهم ويعرفهم لكيما يعرفوا ويعلمهم) الظاهر أن محمدا بدل من المعرفة بحذف مضاف أي لم تدخل معرفة أن محمدا رسول الله في قلوبهم بالشك في بعض ما جاء به كما في الخبر الآتي. والمفهوم من هذا الخبر وما بعده أن المؤلفة مسلمون لهم ضعف في الإسلام لعدم استقراره في قلوبهم، ويدخل فيهم المنافقون بدليل الشك في بعض ما جاء به رسول الله، ومن طريق العامة «إني اعطى رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم».

قال ابن الأثير: التألف المداراة والإيناس ليثبتوا على الاسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال، وقال المفيد: المؤلفة قسمان: مسلمون ومشركون، وقال العلامة في الإرشاد: المؤلفة هم الكفار الذين يستمالون للجهاد، وهذا هو المشهور بين الأصحاب، وقال في القواعد المؤلفة قسمان كفار يستمالون الإسلام. ومسلمون أما من ساداتهم لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام، وأما سادات مطاعون ترجى بعطائهم قوة إيمانهم ومساعدة قومهم في الجهاد، واما مسلمون في الأطراف إذا أعطوا منعوا الكفار من الدخول، وإما مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من ما نعيها، وقيل: المؤلفة الكفار خاصة، ونقل الشهيد في الدروس عن ابن الجنيد أنه قال: المؤلفة هم المنافقون، وفي مؤلفة الإسلام قولان: أقربهما أنهم يأخذون من سهم سبيل الله، وقال بعض الأصحاب للإمام أن يتألف هؤلاء إن شاء من سهم المؤلفة وإن شاء من سهم مصالح، ثم الظاهر أن يعلمهم عطف على يعرفهم وإن الضمير فيهما راجع إلى المؤلفة وأن قوله «لكيما يعرفوا» على

ص:122

صيغة المجهول علة لهما، والمقصود أن اعطاءهم لأمرين أحدهما تأليف قلوبهم بالمال ليثبت إسلامهم ويستقر في قلوبهم، وثانيهما أن يعرفهم ويعلمهم بأعيانهم لأصحابه حتى يعرفوهم بأنهم من الذين لم يثبت إيمانهم في قلوبهم وأنهم مؤلفة والله أعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل (والمؤلفة قلوبهم) قال: «هم قوم وحدوا الله عز وجل وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فأمر الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به.

وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم حنين تألف رؤساء العرب من قريش وسائر مضر، منهم أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجعرانة فقال: يا رسول الله أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم فقال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا أنزله الله رضينا وإن كان غير ذلك لم نرض، قال زرارة: وسمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر الأنصار أكلكم على قول سيدكم سعد؟ فقالوا: سيدنا الله ورسوله: ثم قالوا في الثالثة: نحن على مثل قوله ورأيه قال زرارة: فسمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: فحط الله نورهم. وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن».

* الشرح:

قوله: (وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم حين تألف رؤساء العرب ومن قريش وساير مضر - إلى آخره) حنين بضم الحاء وفتح النون واد قبل الطائف قريب من مكة كانت بها وقعة معروفة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد غلب بعد ما غلب وأخذا سارى وغنائم كثيرة، ومضر بضم الميم وفتح الضاد قبيلة من العرب معروفة في الكثرة والغلظة، والجعرانة بكسر الجيم والعين وفتح الراء المشددة، وقد تسكن العين وتخفف الراء موضع قريب من مكة، وسبب غضب الأنصار أنه (صلى الله عليه وآله) أعطاهم ذلك اليوم أقل مما أعطى المؤلفة فتحركت قوتهم الشهوية إلى طلب الزائد واستعانت بالقوة الغضبية فتحركت حتى ظهر منهم الغضب والقوة الشهوية إذا عجزت عن مقتضاها تستعين بالقوة الغضبية لرفع الموانع، ولغضبهم على النبي (صلى الله عليه وآله) وعدم رضاهم بما صنع حط الله تعالى نور إيمانهم بسبب ما قالوا جهالة أو عنادا أو طعما للزيادة من زخارف الدنيا فنقص بذلك إيمانهم وفرض الله تعالى رغما

ص:123

لهم سهما للمؤلفة في القرآن.

* الأصل:

3 - علي، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «المؤلفة قلوبهم لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم».

* الشرح:

قوله: (قال المؤلفة قلوبهم لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم) المؤلفة لم يكونوا محصورين في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بل يكونون بعده أكثر; لأن أهل النفاق مع المؤمنين وأهل الإنكار والشك فيما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من حق الأئمة المعصومين أكثر من أن يحصى، ولكل إمام قائم مقامه بالحق أن يعطيهم ويألفهم، وأما في زمان الغيبة فيسقط سهمهم; لأن ذلك ولاية مختصة بهم (عليهم السلام) وقال العلامة في النهاية: لو فرضنا الحاجة إلى المؤلفة في يومنا بأن تنزل بالمسلمين نازلة واحتاجوا إلى الاستعانة بالكفار فالأقوى عندي جواز صرف السهم إليهم، وفيه رد على بعض العامة حيث قال:

سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط، ولذلك لما تولى أبو بكر منع المؤلفة لكثرة المسلمين وعدم الحاجة إليهم ولم يعلم أن أعطاءهم ليس للجهاد فقط بل قد يكون لتثبيتهم على الإسلام أو لغير ذلك.

* الأصل:

4 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن إسحاق بن غالب قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية: (إن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) قال: ثم قال: هم أكثر من ثلثي الناس».

* الشرح:

قوله: (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية: (إن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) قال: ثم قال: هم أكثر من ثلثي الناس) لما قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) غنائم حنين واستعطف قلوب المؤلفة بتوفير الإعطاء عليهم قال بعض من لم يؤمن بالله وبرسوله حقيقة: اعدل يا رسول الله. فقال: «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل» فنزل قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا) الآية، أي منهم من يعيبك وينسبك إلى الجور في تقسيمها، وقد أشار (عليه السلام) إلى أن المعترضين على الإمام لو ملك الأرض وقسم الغنائم على ما فرضه الله أكثر بكثير من المعترضين على النبي (صلى الله عليه وآله).

ص:124

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن رجل قال:

قال أبو جعفر (عليه السلام): «ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم، وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكيما يعرفوا».

* الشرح:

قوله: (وتألهم المؤمنون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكيما يعرفوا) لعل المراد بالمؤمنين الأئمة (عليهم السلام); لأن ذلك ولاية مختصة بهم وذلك ظاهر في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك في عصر القائم (عليه السلام) وأما في عصر سائر الأئمة فليس بواضح إلا أن يقال ذلك حقهم وحصول المانع لا يقدح فيه، ولا يبعد أن يراد بالمؤمنين المعنى إلا عم فيكون حجة للعلامة فيما نقلنا عنه آنفا.

ص:125

باب في ذكر المنافقين والضلال وإبليس في الدعوة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: كان الطيار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة وإنما امرت الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) فقال إبليس: لا أسجد، فما لإبليس يعصي حين لم يسجد وليس هو من الملائكة؟ قال: فدخلت أنا وهو على أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«فأحسن والله في المسألة، فقال: جعلت فداك أرأيت ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله:

(يا أيها الذين آمنوا) أدخل في ذلك المنافقون معهم؟ قال: نعم والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم».

* الشرح:

قوله: (وإنما أمرت الملائكة بالسجود لآدم - إلى آخره) الحصر ممنوع، وإنما يتم لو قال الله تعالى يا ملائكتي اسجدوا أو قال اسجدوا يا ملائكتي، وذلك غير معلوم لجواز أن يكون الخطاب اسجدوا بدون ذكر الملائكة، نعم في قوله تعالى (عليهم السلام) (وإذ قلنا للملائكة) تجوز لما ذكره عليه أو تغليب، والمنافقون هم المقرون بالنبي ظاهرا والمنكرون له باطنا والضلال هم المقرون به ظاهرا وباطنا إلا أنهم أخطأوا سبيل الحق ولم يعرفوا الحجة فضلوا، أو المراد بهم أهل الكبائر الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم أو زادت سيئاتهم إذا عرفت هذا فنقول لما علم الطيار أن المنافقين غير مؤمنين حقيقة لعدم اتصافهم بالإيمان، وهو الإقرار باطنا وان شاركهم في الصورة الظاهرة، والمخالطة والكون معهم ظاهرا أحسن في المسألة واستفهم عن دخولهم في خطاب المؤمنين وعدمه ليجعله ذريعة إلى ما هو مقصوده من دخول إبليس في خطاب الملائكة بناء على الصورة الظاهرة حيث كان معهم وفي زمرتهم، أو عدم دخوله فيه بناء على إرادة الملائكة حقيقة.

ليعلم عدم ورود الشبهة المذكورة أو ورودها، فأجاب (عليه السلام) بأنهم داخلون في خطاب المؤمنين باعتبار أن المراد بالمؤمنين المؤمنون بحسب الظاهر الذين أقروا بالدعوة الظاهرة سواء أقروا بالدعوة الباطنة أو لا، ثم أنه (عليه السلام) لما كان عالما بمقصوده من هذا السؤال صرح به وبين أن إبليس كان داخلا في خطاب الملائكة باعتبار أن المراد بالملائكة من هو بصورتهم الظاهرة، فيشمل إبليس لأنه كان معهم وفي صورتهم بحسب الظاهر ويحتمل أن يكون دخوله فيهم من باب التغليب والله أعلم.

ص:126

باب في قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)

اشاره:

(1)

ص:127


1- (1) قوله: (من يعبد الله على حرف) بعد ما ثبت أن بين الإيمان والكفر منازل ودرجات كثيرة في الآخرة، وإن لم يكن بينهما منزلة في الدنيا بالنسبة إلى أحكام الفقه، ناسب المقام الإشارة إلى بعض هذه الوسائط والأقسام فأورد المصنف روايات يتضمن جماعة من هؤلاء مثل الضال والمستضعف والمرجون لأمر الله وأصحاب الأعراف وصنوف أهل الخلاف والمؤلفة قلوبهم ومن يعبد الله على حرف، ولعل المتتبع في الروايات يجد أقساما آخر ووجه ضبط هذه الأقسام أن ينظر إلى حال الإنسان واعتقاده الحاصل بعقله وملكاته وأحواله المتعلقة بوهمه وتعارض العقل والوهم في بعثه على الأعمال إذ قد سبق أن الوهم لا يخضع للعقل مطلقا كما مر من مثال مذكور هناك أن الميت جماد والجماد لا يخاف منه فالميت لا يخاف منه. هذا حكم العقل، والوهم يتأبي جدا لغلبة الخوف والخوف من توابع الوهم فيغلب العقل ونقول الإنسان بالنسبة إلى الإعتقادات الدينية التي يجب المعرفة بها إما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت غافل فإن كان غير ملتفت أصلا فهو مستضعف كمن لم يسمع أن في المسلمين خلافا في الإمامة. ثم الملتفت أما أن تحرى واجتهد للوصول إلى الحق أو قصر لعذر أو لغير عذر فبقى على الشك. والمجتهد للوصول إلى الحق ربما لم يجد دليلا فبقى على الشك أيضا، وربما وجد دليلا هداه إلى الباطل، وربما وجد دليلا هداه إلى الحق، والذي وجد دليلا هداه إلى الحق قد يكون سالما عن معارضة الأوهام فيلتزم بالحق ويدين به وقد يعارض أوهام تمنعه من متابعة الحق أصلا أو في الجملة كما كان يمنع التنفر من الميت والخوف منه أن يذعن بأن الميت جماد لا يخاف منه، فهذه مبادى وأصول يجعل الإنسان في منزلة بين الإيمان المحض والكفر المحض وبالجملة المستضعف من لم يلتفت حتى يجتهد وهو معذور. والضال من التفت واجتهد واطلع على دليل مغالطي هداه إلى الباطل فإن كان راجعا إلى أصل الدين فهو كافر وإلا فهو ضال، والمرجون لأمر الله جماعه تعارض أوهامهم وعقولهم ومنعهم هواهم وشهواتهم وعاداتهم الخبيثة وتماديهم في الباطل أن يدينوا للحق الذي عرفوه ويلتزموا به كل الالتزام وأمرهم إلى الله، وأصحاب الأعراف جماعة اتفق لهم حالتان مدة حياتهم تارة غلبت شهواتهم وتارة غلبت عقولهم، خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا والفرق بينهم وبين المرجين لأمر الله أن هؤلاء لم يغلب عقلهم على هواهم بل دامت المعارضة واستمر الخلاف بينهما إلى آخر عمرهم ولم يصروا على الكفر والضلال أيضا، وصنوف أهل الخلاف جماعة خالفوا مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في أمر من الامور كالجبرية والخوارج، والمؤلفة قلوبهم جماعة كانوا في معرض أن يخرجوا من الدين لغلبة أوهامهم أو يدخلوا في الدين لغلبة عقولهم فيعطون من المال لتضعيف أوهامهم; لأن حب المال من القوة الواهمة فإذا وجدت الواهمة ما يرضيها لم يعارض العقل في متابعة الدين، ومن يعبد الله على حرف هو نظير المؤلفة مبتلى بمعارضة الوهم أن أصابه خير اطمأن به وثبت في إسلامه وإن اصابته فتنة دعته والواهمة إلى ترك العقل ولا ريب أن الحب والبغض والخوف والطمأنينة وأمثال ذلك كلها من أفعال الواهمة وإن استحسن بعضها العقل. ثم أعلم أن غالب هذه الأقسام مما لا يمكن أن يترتب عليها حكم فقهى في الدنيا إذ هي امور باطنة في القلب لا يطلع عليها إلا الله ويجازيهم في الآخرة على حسب ما يعلم من استحقاقهم والناس مأمورون بالظاهر وما يمكن إطلاعهم عليه، وكل هؤلاء المظهرين للإسلام محكومون بالطهارة، وأخطأ زرارة في أمرين الأول أنه نفي الواسطة بين الإيمان والكفر في الآخرة وقاسه على الدنيا واجرى حكم الفقه في جميع امور الدين، الثاني أنه حكم بكفر هذه الوسائط مطلقا ودل الحديث الأول السابق في باب الضلال على إصابة محمد بن مسلم. وهذه الفرق والأقسام غير الفرق التي لهم عقائد ممهدة مدونة وجماعة متظاهرة متناصرة وآراء معلومة مضبوطة وأسماء مشهورة كالزيدية والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، فإنهم يعرفون بالانتحال إلى فرقتهم وليسوا مما لا يطلع أحد على باطنهم إلا الله. نعم لا يحكم بكفر أحد وضلاله ما لم يسمع مذهبه من لفظه، ولا يكفي في ذلك انتحاله إلى طائفة، فرب أشعري لا يلتزم ببعض أصولهم ومعتزلي كذلك والانتحال إليهم باعتبار الاتفاق في أغلب القواعد أو الظاهر المهم منها، وكم من شافعي خالف الشافعي في بعض فتاواه، وهنا فرق ليس لهم اختصاص بدين ومذهب أصلا ولا يمكن الحكم فيهم بشيء أصلا بصرف الانتحال كالصوفية والفلاسفة فهم بمنزلة الشاعر والنحوى يوجد فيهم الشيعي والسني والنصراني واليهودي. بل يوجد في الفلاسفة المشرك والملحد كما يوجد فيهم المسلم الإمامي الاثنا عشري ولا يصح جعل هذه الفرق بمنزلة ما ورد في الروايات من فرق المخالفين والوسائط بين الإيمان والكفر. (ش)

*أصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن الفضيل وزرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) قال زرارة سألت عنها أبا جعفر (عليه السلام) فقال: «هؤلاء قوم عبدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشكوا في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به فتكلموا بالإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأقروا بالقرآن وهم في ذلك شاكون في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به وليسوا شكاكا في الله، قال الله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) يعني على شك في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به (فإن أصابه خير) يعني عافية في نفسه وماله وولده (أطمأن به) ورضي به (وإن أصابته فتنة) يعني بلاء في جسده أو ماله تطير وكره المقام على الإقرار بالنبي (صلى الله عليه وآله) فرجع إلى الوقوف والشك، فنصب العداوة لله ولرسوله والجحود بالنبي وما جاء به».

* الشرح:

قوله: (وشكوا في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به فتكلموا بالإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأقروا بالقرآن وهم في ذلك شاكون في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به) أي شهدوا أن محمدا رسول الله وأقروا بالقرآن ظاهرا باللسان لا باطنا بالجنان بقرينة نسبة الشك إليهم في موضعين

ص:128

وتكلمهم بالإسلام، لأن الشاك في شيء غير معتقد به، وهذا من أوصاف المنافقين والمستودعين الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم.

(وليسوا شكاكا في الله عز وجل) شكاك بضم الشين وشد الكاف جمع شاك مثل كفار جمع كافر (قال الله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) يعني على شك في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به)، الحرف الطرف، والشاك في الدين على طرف منه لإثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر، قال المفسرون: نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه نتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا الا خيرا واطمأن وأن كان الأمر بخلافه تشأم به، وقال: ما أصبت إلا شرا وانقلب.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال:

«هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا أن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله، فهم يعبدون الله على شك في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به، فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أ نه صادق وأنه رسول الله وإن كان غير ذلك نظرنا قال الله عز وجل: (فإن أصابه خير اطمأن به) يعني عافية في الدنيا (وإن أصابته فتنة) يعني بلاء في نفسه [وماله] (انقلب على وجه) انقلب على شكه إلى الشرك، (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه) قال:

ينقلب مشركا، يدعو غير الله ويعبد غيره، فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدق ويزول عن منزلته من الشك إلى الإيمان. ومنهم يثبت على شكه ومنهم من ينقلب إلى الشرك».

علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن زرارة مثله.

* الشرح:

قوله: (فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أ نه صادق وأنه رسول الله وإن كان غير ذلك نظرنا) جعلوا حصول المعافاة وكثرة الأموال والأولاد دليلا على صدق الرسول، وحقية دينه لزعمهم أن كل ما يورث ذلك فهو مبارك، وكل ما هو بخلافه فهو شؤم وكذلك كان شأن جهال العرب ولم يعلموا أن نزول البلايا والمصائب على المؤمنين من

ص:129

لدن آدم (عليه السلام) إلى آخر الدهر كان أكثر من نزولها على غيرهم وأن بناه كأصل التكليف على الاختبار والامتحان، وقد أشار إليه عز وجل بقوله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال وإلا نفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا أنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).

(انقلب على شكه إلى الشرك) أي ينتقل من شكه في رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول البلايا إلى الشرك بالله بسبب إنكار الرسول وما جاء به، وليس المراد أنه اجتمع الشك فيه مع الشرك فلا ينافي ما فهم سابقا من خروجهم من الشرك مع الشك فيه.

(خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) أما خسرانه في الدنيا والآخرة فلو ورد البلايا عليه وذهاب عصمته وهبوط عمله بالارتداد، وأما إن خسرانه هو الخسران المبين الظاهر في الخسارة فلانه لا خسران أعظم وأظهر منه; لأن الخسران أما بفوات المرغوبات الدنيوية أو بفوات المثوبات الاخروية أو بفواتهما جميعا، وهذا أظهر وأبين من الأولين.

(فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه - إلى آخره) قسم من خرج عن الشرك والشك في محمد (صلى الله عليه وآله) وما جاء به على ثلاثة أقسام (عليهم السلام) فمنهم من يعرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقربه ظاهرا وباطنا ويزول عنه الشك بمشاهدة الآيات والمعجزات والهدايات الخاصة، ومنهم من يثبت على شكه فيه ويقيم عليه لعدم انتقاله من الشك إلى الإيمان ولا منه إلى الشرك، ومنهم ينتقل من الشك إلى الشرك بإنكار الرسول وتشأمه به كما ذكر وهذا أسوء حالا من الثاني.

ص:130

باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر ليماني، عن ابن أذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال: سمعت عليا صلوات الله عليه يقول وأتاه رجل فقال له: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا وأدنى ما يكون به العبد كافرا وأدنى ما يكون به العبد ضالا فقال له: «سألت فافهم الجواب أما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة، ويعرفه نبيه (عليه السلام) فيقر له بالطاعة، ويعرفه أمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة، قلت له: يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم إذا امر أطاع وإذا نهي انتهى، وأدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أن شيئا نهى الله عنه أن الله أمر به ونصبه دينا يتولى عليه ويزعم أ نه يعبد الذي أمره به وإنما يعبد الشيطان، وأدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عز وجل بطاعته وفرض ولايته، قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي فقال: الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه ونبيه فقال: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) قلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي فقال: الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في آخر خطبته يوم قبضه الله عز وجل إليه: إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه ولا أقول: كهاتين وجمع بين المسبحة والوسطي فتسبق إحداهما الاخرى، فتمسكوا بها لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا».

* الشرح:

قوله: (أما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة إلى آخره) تعريف الرب يتحقق بما أظهر من آيات وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وسائر صفاته الكمالية والفعلية في الآفاق وإلا نفس، وتعريف النبي يتحقق بما خصه من المعجزات البينات والأفعال الخارقة للعادات، وتعريف الحجة يتحقق بالكرامات الجلية والنصوص النبوية والعلوم اللدنية، والظاهر من الإقرار الاقرار بالجنان أو الأعم منه، ومن الإقرار باللسان مع الإمكان، وفيه

ص:131

دلالة على أن أصل الإيمان هو التصديق والاذعان وإن لم يكن معه شيء من الأعمال، وأن الأعمال مترتبة على الإيمان ولا ينافيه ما روى عنه وعن الرضا (عليهما السلام) «إن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان» لجواز أن يكون المراد به الإيمان الكامل أو التقدير زين الإيمان ذلك على حذف المضاف، وقد مرت الأخبار الدالة على أن الإيمان هو التصديق، وعلى أنه بالعمل يكمل ويتم ويرتقى إلى الدرجة العليا ومرتبة الكمال (وأدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أن شيئا نهى الله عنه أن الله أمر به (1) ونصبه دينا يتولى عليه) يشمل الاصول والفروع، ومن ذلك أن يتخذ الطاغوت إماما ووليا والله تعالى أمره أن يكفر بالطاغوت.

(ويزعم أنه يعبد الذي أمر به) هو صادق في هذا الزعم، لكن أخطأ في أن الذي أمر به هو الله تعالى وإنما أمر به الشيطان فهو إنما يعبد الشيطان من حيث لا يعلم.

(وأدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى - إلى آخره) عدم معرفة الحجة وإن كان أعم من الإعتقاد بعد كونه حجة، ومن عدم الإعتقاد مطلقا لكن المراد هنا هو الثاني; لأن الأول كفر ومن قدم الطاغوت على الحجة فهو داخل في الأول إذ يصدق عليه أنه أنكر الحجة في الجملة وفي الكلام السابق اشعار به فليتأمل.

(فقال: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم)) حذف مفعول الإطاعة للدلالة على التعميم فوجب إطاعة أولى الأمر في جميع الامور كما وجب إطاعة الله

ص:132


1- (1) قوله: «إن شيئا نهى الله عنه أن الله أمر به» في معناه الحديث الأول من باب الشرك وقد مضى فمن قال للحصاة أنها نواة أو بالعكس ودان به فهو الشرك وكتاب سليم وإن كان ضعيفا ولكن يعتمد على ما تأيد مضمونه بغيره ويشكل هذا الخبر بأن الكفر والإيمان لا يختلف فيهما الاحكام بالقصور والتقصير والكافر كافر وإن لم يكن مقصرا وحينئذ فيلزم كفر جميع الناس إلا المعصومين إذ ما من أحد إلا وقد أخطأ في حكم من أحكام الإسلام ورأى من آرائه ودان به من غير تقصير وأي مجتهد أصاب في جميع ما أفتى به عند أصحاب التخطئة؟ والجواب المحتمل في دفع الإشكال شيئان الأول أن يلتزم بأن الكافر من غير تقصير ليس كافرا كشبان اليهود والنصارى وعوامهم حيث لم يخطر ببالهم وجود أديان يجب البحث عنها والتفحص فيها. وهذا حكمهم في الآخرة وأما الدنيا فهم كفار قطعا. الثاني أن يرد ظاهر هذه الأخبار فإنها تخالف الاجماع والسيرة القطعية ويلزم منه كفر كل صالح وطالح وفقيه وعامي، فإن قيل نحمل على كفرهم في الآخرة لا في الدنيا قلنا أمر الآخرة أوسع وكيف يعذب الله أحدا خالف بعض تكاليفه لا بالتقصير، فإن قيل نحمله على حط الدرجات قلنا استعارة لفظ الكفر لحط الدرجة غير مأنوس ولا مقبول; لأن الصلحاء والشهداء والعلماء الربانيين لا يوصفون بالكفر ولو مجازا وإن كان درجتهم أحط من المعصومين وأيضا صدر الحديث أن أدنى الإيمان من عرف الله وأقر له بالطاعة وهذا يشمل جميع الناس إلا من قل وغاية ما يمكن أن يقال هنا أن المقصود كفر المعاند ومن يخالف حكما من أحكام الله عنادا للدين في مقابل المؤمن الذي يقر بالطاعة. (ش)

وإطاعة الرسول فيها، فلا يجوز أن يراد بأولى الأمر السلطان الجائر إذ لا يجوز اطاعته في أكثر الامور وقد ذكرنا شرحه مفصلا فلا نعيده.

(إني قد تركت فيكم أمرين) لو كان لهذه الامة متمسك غيرهما لذكره والحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة، وقد مر شرحه مفصلا.

(فإن اللطيف الخبير قد عهد إلى أنهما لن يفترقا حتى يراد على الحوض) أي لن يفترقا في وجوب التمسك والحجية فلو كان علي (عليه السلام) حجة بعد الثلاثة وقد كان القرآن حجة بعد النبي بلا فصل لزم الافتراق وأنه باطل.

(ولا تقدموهم فتضلوا) نهى عن التقدم عليهم لعلمه بوقوع ذلك وقد وقع فضلوا وأضلوا.

ص:133

باب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان ابن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن بني امية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه».

* الشرح:

قوله: (قال: إن بني امية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه) أطلقوا أي جوزوا ورخصوا والضمير في لم يعرفوه راجع إلى الشرك أو إلى تعليمه والمراد بعدم معرفته انكاره (1) مجازا أو كناية وفيه دلالة على أن سلاطين بني أمية لم يؤمنوا، وإنما تمسكوا بظاهر الإيمان لتمشية أمور سلطنتهم (2) والتحرز عن مخالفة رعيتهم.

ص:134


1- (1) قوله: «والمراد بعدم معرفته انكاره» حمل الشارح تبعا لغيره تعليم الشرك على ترغيب الناس إلى الشرك وترويج الشرك فيهم ومعنى امتناع بني أمية عن تعاليم الشرك تظاهرهم بالاسلام وعدم اظهار شيء يدل على باطنهم ولم يبين وجها معقولا لقوله (عليه السلام) «لكي إذا حملوهم عليه - إلى آخره» لأنهم إذا كانوا مصرين على تظاهرهم بالاسلام كيف حملوا الناس على الشرك وأرادوا ذلك وكيف يصير تظاهرهم بالاسلام موجبا لانكار الناس الشرك إذا حملوهم عليه وهل هو الا نقض غرض فإن كان غرضهم ترويج الشرك كيف فعلوا أمرا يوجب انكار الناس وان كان غرضهم حفظ ملكهم بالتظاهر بالاسلام كيف قصدوا حملهم على الشرك؟! والوجه الصحيح أن بني أمية رخصوا للعلماء تعليم القرآن والعبادات واتيان المساجد والصلوات فمن كان منهم يعلم أمثال هذه الأمور من لوزام الايمان لم يمنعوه ولم يحبسوه ولم يشردوه وأما من كان من العلماء يبين عاقبة الظلم وعذاب الظلمة ويقبح أمر المعاصي وينفر الناس من شاربي الخمور والزناة وأصحاب البدع في الدين وأمثال ذلك عذبوه وشردوه وقتلوه كما فعل الحجاج وزياد ابن أبيه بحجر بن عدي وسعيد بن جبير وكميل وغيرهم بل اخترعوا مذهب المرجئة وهو ان المتظاهر بالإسلام ان ارتكب الكبائر كقتل الصلحاء والعلماء والأئمة وشرب الخمر وظلم الناس فلا يضره فعل تلك الكبيرة وهو مساو عند الله في الآخرة لمن هو قانت اناء الليل وصائم في النهار يحذر الآخرة وغرضهم أن لا يتنفر الناس من ملوك بني أمية وبالجملة معنى تعليم الشرك تعليم قباحة هذه الأمور التي هي من لوازم الشرك ومعني حملوهم عليه أنهم إذا أرادوا حمل الناس على قتل الأولياء وأعانتهم في الظلم وشرب الخمر لم يمتنعوا وأطاعوهم لعدم كون ذلك قبيحا ونعلم أن المعصية إذا راجت ولم يرخص للعلماء تقبيح القبيح وتذكير الناس بالعذاب وتعظيم الامر لديهم هانت عليهم ولم يمتنعوا. (ش)
2- (2) قوله: «لتمشية أمور سلطنتهم» حق لا ريب فيه وهو مقتضى العادة فإن كفار قريش كانوا معاندين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وآمن من آمن منهم ظاهرا بعد فتح مكة ولم يمض عليهم ثلاث سنين حتى مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جوار ربه ولم ينسوا في ثلاث سنين حقدهم ونرى في زماننا أن المغلوبين بالقهر لا ينقادون إلا ما دام القاهر فوق رؤوسهم فإذا زال المانع وعاد الممنوع فكيف إذا انعكس الامر وصار المغلوب غالبا وكذلك بنو أمية غلبوا على الملك وانتهزوا للانتقام وأول غرض استهدفوه أولاد رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم، ثم الأنصار أهل المدينة حيث نصروا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كفار مكة في غزوات كثيرة وقتلوا أعاظم بني أمية وأكابر قريش في بدر واستحل القتل فيهم يزيد بن معاوية ثم المهاجرين والمؤمنين وهم أعاظم أهل الكوفة وأهل العراق وبذلك يعرف أن رواج الاسلام وظهوره لم يكن قهرا بالسيف بل بالبراهين والبينات وان الناس آمنوا حقيقة وكان السيف لدفع المانع من دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا لايجاد المقتضى للايمان ولو كان إسلام الناس جبرا لارتدوا وتركوا الاسلام في دولة بني أمية لأن القهر كان للمخالف ولم يتجرى بنو أمية لإظهار كفرهم لأنهم علموا ايمان الناس بقلوبهم وتمكنه في نفوسهم واصرارهم. (ش)

باب ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن حسين ابن نعيم الصحاف قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «لم يكون الرجل عند الله مؤمنا قد ثبت له الإيمان عنده ثم ينقله الله بعد من الإيمان إلى الكفر؟ قال: فقال: إن الله عز وجل هو العدل إنما دعا العباد إلى الإيمان به لا إلى الكفر ولا يدعوا أحدا إلى الكفر به، فمن آمن بالله ثم ثبت له الإيمان عند الله لم ينقله الله عز وجل بعد ذلك من الإيمان إلى الكفر، قلت له: فيكون الرجل كافرا قد ثبت له الكفر عند الله ثم ينقله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان؟ قال: فقال: إن الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها، لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفرا بجحود، ثم بعث الله الرسل يدعوا العباد إلى الإيمان به، فمنهم من هدى الله ومنهم لم يهده الله».

* الشرح:

قوله: (قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لم يكون الرجل عند الله مؤمنا قد ثبت له الإيمان عنده ثم ينقله الله بعد من الإيمان إلى الكفر؟ قال: فقال: إن الله عز وجل هو العدل إنما دعا العباد إلى الإيمان به لا إلى الكفر ولا يدعوا أحدا إلى الكفر به، فمن آمن بالله ثم ثبت له الإيمان عند الله لم ينقله الله عز وجل بعد ذلك من الإيمان إلى الكفر) سأل عن سبب نقل ثابت الايمان منه إلى الكفر إلا أنه نسب النقل إلى الله عز وجل مجازا باعتبار خذلانه له وسلب لطفه وتوفيقه عنه، أو عن سبب

ص:135

نقله عز وجل إياه حقيقة لزعمه أن الكفر والايمان من فعله عز وجل والجواب عن الأول ان الله تعالى عادل ومن عدله دعا الناس إلى الايمان لا إلى الكفر، فمن آمن به وثبت ايمانه في علمه لم ينقله من الايمان إلى الكفر ولم يسلب عنه لطفه وتوفيقه ابدا، وهو يخرج من الدنيا مؤمنا وما قد يتفق من نقل المؤمن إلى الكفر فإنما هو إذا كان الإيمان مستودعا غير ثابت، وعن الثاني أنه تعالى عادل لا يجوز ولو كان الايمان والكفر والنقل من الأول إلى الثاني من فعله تعالى لزم الجور والظلم، وإنما فعله دعاء الناس إلى الإيمان لا إلى الكفر وهدايتهم إلى منافع الأول ومضار الثاني فمن آمن به، وثبت له الايمان واستقر في قلبه لم ينقله إلى الكفر ولم يسلب عنه توفيقه.

(قلت له: فيكون الرجل كافرا قد ثبت له الكفر عند الله ثم ينقله الله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان؟ قال: فقال: إن الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها، لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفرا بجحود، ثم بعث الله الرسل يدعوا العباد إلى الإيمان به، فمنهم من هدى الله ومنهم لم يهده الله) يحتمل الخبر والاستفهام أما الأول فظاهر وأما الثاني فلان السائل لما علم بالجواب المذكور أن من ثبت ايمانه لم ينقله الله إلى الكفر بسلب التوفيق عنه سأل عن حال من ثبت كفره هل ينقله من الكفر إلى الايمان باهداء التوفيق واللطف أم لا، وانطباق الجواب على الأول ظاهر لاشعاره بأنه ممن هداه لعدم ابطاله الفطرة الأصلية بالكلية، فلذلك تداركته العناية الإلهية، وأما انطباقه على الثاني ففيه خفاء إذ لم يصرح (عليه السلام) بما سأل عنه إلا أنه أشار إلى تقرير قاعدة كلية للتنبيه على أن المقصود الأهم هو معرفتها، والتصديق بها وهي أن الله تعالى خلق الناس على نحو من الفطرة، وهي كونهم قابلين للخير والشر، وهداهم اليهما ببعث الرسل، وهم يدعونهم إلى الايمان وإلى سبيل الخير، وينهونهم عن سبيل الكفر والشر، فمنهم من هداه الله عز وجل بالهدايات الخاصة لعدم ابطاله الفطرة الأصلية وتفكره في أنه من أين جاء ولأي شيء جاء، وإلى أين نزل وأي شيء يطلب منه، واستماعه إلى نداء الحق فإنه عند ذلك يتلقاه اللطف والتوفيق والرحمة كما قال عز وجل: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).

ومنهم من لم يهده الله عز وجل لابطاله فطرته، وعدم تفكره فيما ذكر وإعراضه عن سماع نداء الحق فيسلب عنه الرحمة واللطف والتوفيق، وهو المراد من عدم هدايته له فقد أشار عليه السلام بتقرير هذه المقدمة إلى أن الواجب عليكم أن تعلموا وتصدقوا بأن كل من آمن به فإنما آمن لأجل هدايته الخاصة وكل من لم يؤمن به لم يؤمن به لفقده تلك الهداية والله أعلم.

ص:136

باب المعارين

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقا للإيمان لا زوال له، وخلق خلقا للكفر لا زوال له، وخلق خلقا بين ذلك واستودع بعضهم الإيمان، فإن يشأ أن يتمه لهم أتمه، وإن يشأ أن يسلبهم إياه سلبهم وكان فلان منهم معارا».

* الشرح:

قوله: (قال سمعته يقول: ان الله عز وجل خلق خلقا للإيمان لا زوال له، وخلق خلقا للكفر لا زوال له، وخلق خلقا بين ذلك - إلى آخره) كان اللام للعاقبة أي خلق خلقا عاقبتهم الايمان في العلم الأزلي لا زوال لهم عنه، وهم الأنبياء والأوصياء والتابعون لهم من المؤمنين الثابتين في الإيمان، وخلق خلقا عاقبتهم الكفر في علمه عز وجل أزلا لا زوال عنه لاستحالة تخلف علمه عن المعلوم، وهم المنكرون لهؤلاء الكرام، وخلق خلقا مترددين بين الايمان والكفر، مستضعفين في علمه، فمن آمن منهم كان ايمانهم مستودعا فإن يشأ الله أن يتمه لهم لحسن استعدادهم واقبالهم إلى الله وتعرضهم لأوامره ونواهية أتمه بفضله وتوفيقه وجعله ثابتا مستقرا فيهم، وان شاء أن يسلبهم إياه لزوال استعدادهم الفطري وفساد استعدادهم الكسبي، وكون قلوبهم لاهية ونفوسهم ساهية سلبهم وسلط عليهم عدوهم، ورفع عنهم توفيقهم، ويفهم بالمقايسة حال من كفر منهم، ويحتمل أن يكون اللام للتعليل والغرض، لأنه إذا كانت عاقبتهم في علمه ذلك صح أنه خلقهم لذلك وأنه لا زوال لهم لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم، ولعل المراد بفلان أبو الخطاب لوقوع التصريح به في الخبر الآتي.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب والقاسم ابن محمد الجوهري، عن كليب بن معاوية الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن العبد يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح كافرا ويمسى مؤمنا وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين، ثم قال: فلان منهم».

ص:137

* الشرح:

قوله: (قال: إن العبد يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح كافرا ويمسى مؤمنا وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين، ثم قال: فلان منهم) يريد أن كل واحد من الايمان والكفر قد يكون مستودعا غير مستقر فيزول سريعا بحدوث ضده وسر ذلك أن القلب إذا اشتد ضياؤه وكمل صفاؤه استقر الايمان وكل ما هو حق فيه، فإذا اشتدت ظلمته وكملت كدرته استقر الكفر وكل ما هو باطل فيه، فإذا كان بين ذلك باختلاط الضياء والظلمة فيه كان مترددا بين الإقبال والإدبار ومتحيرا بين الإيمان والكفر. فإن غلب الأول دخل الإيمان فيه من غير استقرار وان غلب الثاني دخل الكفر فيه كذلك، وربما يصير الغالب مغلوبا فيعود من الايمان إلى الكفر ومن الكفر إلى الايمان، فلا بد للعبد مراعاة قلبه فإن رآه مقبلا إليه عز وجل شكر وبذل جهده ويطلب منه الزيادة لئلا يستدبر ولذلك قال العلماء: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) وان رآه مدبرا زائغا عن الحق تاب واستدرك ما فرط فإن لم يفعل ربما سلط الله عليه العدو ورفع عنه التوفيق وهو يموت مدبرا مسلوب الايمان كما قال الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) نعوذ بالله من الازاغة.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري وغيره عن عيسى شلقان قال:

كنت قاعدا فمر أبو الحسن موسى (عليه السلام) ومعه بهمة قال: قلت: يا غلام ما ترى ما يصنع أبوك، يأمرنا بالشيء ثم ينهانا عنه، أمرنا أن نتولى أبا الخطاب ثم أمرنا أن نلعنه ونتبرء منه؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) وهو غلام: «إن الله خلق خلقا للإيمان لا زوال له وخلق خلقا للكفر لا زوال له وخلق خلقا بين ذلك أعارهم الإيمان يسمون المعارين، إذا شاء سلبهم وكان أبو الخطاب ممن، أعير الإيمان.

قال: فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأخبرته ما قلت لأبي الحسن (عليه السلام) وما قال لي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنه نبعة نبوة».

* الشرح:

قوله: (قال كنت قاعدا فمر أبو الحسن موسى (عليه السلام) ومعه بهمة - إلى آخره) البهمة بفتح الباء وسكون الهاء ولد الشاة، وهي بعد السخلة، وأبو الخطاب كوفي غال ملعون قد أعير الايمان فرجع منه إلى الكفر فله التولي وقت الايمان ومنه التبري وقت الكفر، والنبعة الشجرة التي يتخذ منها القوس ويتخذ من أغصانها السهام، وقد تطلق على غصنها أيضا.

ص:138

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن صلوات الله عليه قال: «إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين وأعار قوما إيمانا، فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه، قال: وفيهم جرت: (فمستقر ومستودع) وقال لي: إن فلانا كان مستودعا إيمانه; فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك».

* الشرح:

قوله: (قال لي: ان فلانا كان مستودعا ايمانه فلما كذب علينا سلب ايمانه) دل على أنه سلب الايمان عن المستودع ليس بظلم لأنه مستند إلى فعله واتمامه أيضا مستند إلى فعله بقرينة المقابلة، وهذا مؤيد لما ذكرناه آنفا.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن حبيب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله جبل النبيين على نبوتهم، فلا يرتدون أبدا، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبدا، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبدا، ومنهم من اعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان».

* الشرح:

قوله: (ومنهم من اعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان) هذا تنبيه للغافلين على دوام الذكر وطلب حسن الخاتمة. ومنه خوف أكثر الخائفين حيث علموا صفات القلب وغفلته وتنقله، ولم يعلموا أن عاقبة أمرهم هي الاستقرار على الإيمان أو الكفر مع امكان الموت في ساعة الغفلة واغواء الشيطان، وغاية جهده في إزالة الايمان حينئذ وفيه أيضا دلاله على أن الاتمام والسلب مسببان من فعل الإنسان لأنه يصير بذلك محلا للتوفيق والخذلان كما ذكرنا سابقا.

ص:139

باب في علامة المعار

* الأصل:

1 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن المفضل الجعفي قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفع له أم ضر؟ قلت له: فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟ قال: من كان فعله لقوله موافقا فأتت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع».

* الشرح:

قوله: (ان الحسرة والندامة والويل كله لمن لا ينتفع بما أبصره) الحسرة اسم من حسرت على الشيء حسرا من باب تعب وهي التلهف والتأسف على فوات أمر مرغوب، والندامة الحزن على فعل شيء مكروه، والويل العذاب وواد في جهنم، يعني هذا كله لمن لم ينتفع بما أبصره من العقائد والاحكام والاعمال والاخلاق والآداب وعدم الانتفاع كناية عن الاعراض عنه وعدم الاعتناء به.

(ولم يدر ما الامر الذي هو عليه مقيم) فيه حث على مراقبة النفس في جميع الحالات ومحاسبتها في جميع الحركات والسكنات ليعلم ما ينفعها وما يضرها فإن ذلك يوجب طلب النافع وترك الضار، وسلوك طريق الخير، ورفض طريق الشر.

(قلت له: فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك - إلى آخره) سأل عن سبب النجاة من العذاب أو من ألم الفراق أو من الكفر ليعرفه ويتمسك به ويتبعه. فأجاب (عليه السلام) بأنه الموافقة بين القول والفعل. والمراد بالقول القول الحق، فمن كان فعله موافقا لقوله الحق «فأتت» أي جاءت له الشهادة بالنجاة لأنه لأنه حكيم كامل قلبه متنور بنور المعارف والايمان فظاهر مستقيم بعمل الخير والاحسان لأن الأول وهو القول الحق دليل على اتصافه بالحكمة النظرية إذ استقامة اللسان دليل على استقامة الجنان، والثاني وهو موافقة الفعل لقوله دليل على اتصافه بالحكمة العملية وغلبته على القوة الشهوية والغضبية. وفي بعض النسخ «فأثبتت» على صيغة المؤنث المجهول من الاثبات ومن لم يكن فعله موافقا لقوله بأن يكون قوله حقا وفعله بالطلا كما هو شأن أكثر الخلق فإنما ذلك مستودع ايمانه غير ثابت فيحتمل أن يبقى على الحق ويثبت له الايمان ويحصل له النجاة، ويحتمل أن يزول عن الحق ويسلب عنه الايمان ويعود إلى الشقاوة ويستحق الويل والحسرة والندامة.

ص:140

باب سهو القلب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جعفر بن عثمان، عن سماعة عن أبي بصير وغيره قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن القلب ليكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق، قال: ثم قال لي: أما تجد ذلك من نفسك؟ قال: ثم تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر وإيمان».

عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن أبي عمير مثله.

* الشرح:

قوله: (إن القلب ليكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق، قال: ثم قال لي: أما تجد ذلك من نفسك) المراد بالقلب النفس الناطقة التي هي محل للايمان والكفر، وحمله على الجسم المعروف كما يشعر به ظاهر هذا التشبيه وظاهر التشبيه بالمضغة في الخبر الآتي وهو الجسم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر الذي هو محل للروح بعيد.

والمراد بالساعة ساعة الغفلة عن الحق والاشتغال بما سواه إذ ليس في القلب حينئذ بالفعل التصديق بالحق والانكار له، وفيه اشعار بأن الكفر وجودي إذ لو كان عبارة عن عدم الأيمن كما زعم لما انتفيا معا، وتشبيه القلب بالثوب الخلق في الكثافة والرثاثة أو في أنه ليس باطلا بالمرة ولا كاملا في الجملة تشبيه معقول بمحسوس لقصد التقبيح والتنفير والاستفهام في «اما تجد» للتقرير.

(قال ثم تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر وإيمان) النكتة النقطة، وكل نقطة في شيء بخلاف لونه تسمي نكتة، والحالة المذكورة مرض القلب ونكتة الكفر فيه بمنزلة اماتته، ونكتة الايمان بمنزلة شفائه كما أن مرض البدن اما أن يزول بالشفاء أو ينجر إلى الموت ولكن مرض القلب أشد من مرض البدن لتفاوت الاثرين.

فإن المرض البدني سبب للألم الدنيوي والمرض القلبي سبب للعذاب الأخروي، ولا نسبة بينهما، ثم ان كون نكتة الايمان والكفر من الله سبحانه يحتمل أن يكون باعتبار أنه وكل على القلب ملكا يهديه إلى الخير وشيطانا يرشده إلى الشر كما مر، وبهذا الاعتبار كانت النكتتان منه تعالى ومعنى مشيئته للايمان والكفر المشيئة باعتبار الاقدار عليهما دون المشيئة على سبيل الاجبار، فإنه عز وجل لما جعل فيه آلة الايمان فقد شاء منه الكفر والايمان لكن لا بحيث يكون مجبورا،

ص:141

وتكون المشيئة مشيئة حتم والله أعلم.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن العباس بن معروف، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «يكون القلب ما فيه إيمان ولا كفر، شبه المضغة أما يجد أحدكم ذلك».

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال:

«إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد استشارة ما فيها نضحها بالحكمة وزرعها بالعلم، وزارعها والقيم عليها رب العالمين».

* الشرح:

قوله: (قال إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الايمان) خلق قلوبهم مطوية على سبيل التشبيه بما يقبل الطي كالثياب والكتاب والمراد بالمبهمة المغلقة والمقفلة على سبيل الشبيه بالبيت. فلا يعلم ما فيها إلا هو من أبهم الباب فهو مبهم إذا أغلقه وأقفله أو المعظلة التي لا يعلم حالها ووصفها إلا هو من أبهم الامر فهو مبهم إذا لم يجعل عليه دليلا، أو الخالصة الصحيحة التي ليس فيها شيء من العاهات والأمراض، ومنه فرس بهيم وهو الذي له لون واحد لا يخالطه لون سواه، وقوله على الايمان متعلق بمطوية أو بمبهمة أو بهما على التنازع أو حال عن القلوب أي خلقها كائنة على الايمان، وفي ذكر المطوية والمبهمة اشعار بأن ايمانها مغفول عنه وهو عبارة عن سهو القلب. ولما كان الخلق تابعا للعلم وكان علم الله عز وجل بالشيء قبل خلقه كعلمه به بعده، وكان قلب المؤمن متصفا بالايمان باختيار إياه صدق أنه تعالى خلقه على هذا الوصف فلا يلزم الجبر.

(فإذا أراد استشارة ما فيها نضحها بالحكمة وزرعها بالعلم) الاستشارة بالشين المعجمة استخراج العسل من موضعه يقال: شار العسل شورا من باب قال، وأشاره واستشاره إذا استخرجه من الوقبة وهي نقرة في صخرة يجتمع فيها الماء والعسل، وفيه نوع تخييل وتشبيه الماء في قلوب المؤمنين بالعسل في الترغيب وميل الطبع، والنضح الرش نضحه كمنعه إذا رشه، وانما شبه الحكمة وهي دين الحق المانع للقلب عن الصلابة والغلظة والباعث للرخوة واللينة بالماء لأنها تلين القلب وتصلحها كالماء للأرض وشبه العلم بالبذر لأنه ينمو ويحصل منه المانع الكثير كالبذر، ولا يخفي ما فيه من المكنية والتخييلية.

ص:142

(وزارعها والقيم عليها رب العالمين) الزرع في الأصل الانبات. يقال: زرع الله الحرث أي أنبته وأنماه، وهو فعله تعالى دون البشر. ولذلك قال: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) نسب الحرث إليهم لكونه فعلا لهم وسببا للزرع ونسب الزرع إلى ذاته المقدسة لكونه فعلا له، ثم قيل: زرع الله العلم على سبيل الاستعارة بتشبيه القاء العلوم والاسرار إلى القلوب بالزرع في التزيين والحياة والثمرة فكما أن الزرع يزين الأرض ويوجب حياتها ويثمر ثمرة توجب حياة الأبدان ونموها وقيامها بأفعالها كذلك الالقاء المذكور يزين القلب ويوجب حياتها الأبدية، وثمرة أقوى وأتم من ثمرة الزرع لأن ثمرة الزرع هي الحياة الدنيوية، وثمرة الالقاء المذكور هي الحياة الأخروية الأبدية التي لا انقطاع لها، والفضل بينهما كفضل الآخرة على الدنيا، والحاصل أن الذي ينبت في القلوب النبات الحسن من العقائد الصحيحة والحقائق الربوبية والاسرار الحكمية لحسن استعدادها وكمال حفظها للقوة الفطرية، والذي يقوم بأمرها ويدبر فيها، ويراقب جميع أفعالها هو رب العالمين الذي بيده ايجاد العالم على الأنواع المختلفة.

وتربيته واخراج كل شيء من حد النقص إلى حد الكمال، وفيه تنبيه على أن القلوب التي بها قوام الحقيقة الانسانية في تصرفها وحركتها وسكونها بعد ميلها إلى الجناب الحق، وتشوقها إلى لقائه في أسر أقدار الله تعالى وقهر قدرته ويد تقليبه في المراقبات المتوالية عليها بحيث لا يمهلها طرفة عين ولا يتصرف فيها إلا هو، ومن ثم جاء في الأدعية «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فلا بد للعبد كما ذكرنا آنفا من مراعاة قلبه فإن رآه مقبلا على ربه ومنقادا لامره ونهيه ومتوجها اليهما استبشر وشكر لعظيم مننه وبذل طاقته في طاعته، وان رآه مقبلا على غيره من الهوى النفسانية والوساوس الشيطانية تاب واعتذر واستدرك واستغفر. فإن لم يفعل فربما سلط عليه الشيطان ومات من غير ايمان.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن القلب ليرجج فيما بين الصدر والحنجرة حتى يعقد على الإيمان، فإذا عقد على الإيمان قر وذلك قول الله عز وجل: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)».

* الشرح:

قوله: (إن القلب ليرجج فيما بين الصدر والحنجرة حتى يعقد على الإيمان، فإذا عقد على الإيمان قر وذلك قول الله عز وجل: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)) الرج التحريك والتحرك

ص:143

والاهتزاز، والرجرجة الاضطراب. والحنجرة الموضع الناتي من خارج الحلق يعني أن قلب من علم الله ايمانه يتحرك ويضطرب فيما بين الصدر والحنجرة طلبا للحق يعقد عليه فإذا عقد عليه ووجد مطلوبه قر وسقط عنه الاضطراب كما هو شأن كل من وجد مطلوبه، وأما قلب غيره فهو دائما مضطرب لأنه على الباطل، وللباطل طرق متكثرة وشعب متعددة فهو دائما يطير من باطل باطل ولعل وجه الاستشهاد بالآية ان من شأنه أن يؤمن بالله يهد الله قلبه للإيمان ويرشده اليه، ويوفقه له فيستقر عليه.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه إطمأن وقر، ثم تلا أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - إلى قوله - كأنما يصعد في السماء)».

* الشرح:

قوله: (ان القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه اطمأن) التجلجل التحرك والتضعضع، وهذا مثل السابق ولعل المراد من الآية ان من يرد الله أن يهديه إلى الاسلام لعلمه أزلا باسلامه وحسن رعايته للفطرة الأصلية يشرح صدره للاسلام، وقبول أحكامه ويصرف زمام قلبه إليه باللطف والتوفيق.

فإذا أصابه قر وأطمأن به، ومن يرد أن يضله بسلب اللطف والتوفيق لعلمه بأنه لا يؤمن يجعل صدره ضيقا في قبول الإيمان حرجا في الاتصاف به كأنها يصعد إلى السماء وهو كناية عن شدة قلبه وصعوبته ونهاية بعده وتألمه في قبول الايمان ولوازمه.

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغرا، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: إن القلب يكون في الساعة من الليل والنهار ليس فيه إيمان ولا كفر، أما تجد ذلك، ثم تكون بعد ذلك نكتة من الله في قلب عبده بما شاء إن شاء بإيمان وإن شاء بكفر».

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسين بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن القاسم، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله خلق قلوب المؤمنين مبهمة على الإيمان، فإذا أراد استنارة ما فيها فتحها بالحكمة وزرعها بالعلم، وزارعها والقيم عليها رب العالمين».

ص:144

باب في ظلمة قلب المنافق وإن أعطى اللسان ونور قلب المؤمن وإن قصر به لسانه

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن فضال، عن علي بن عقبة، عن عمرو عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال لنا ذات يوم: تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو خطيبا مصقعا ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم وتجد الرجل لا يستطيع يعبر عما في قلبه بلسانه وقلبه يزهر كما يزهر المصباح».

* الشرح:

قوله: (قال: قال لنا ذات يوم) الذات بمعنى النفس أي قال لنا نفس يوم يعني قال لنا يوما من الأيام. (تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو) هذا مثل لمن يقدر على الكلام قدرة كاملة بحيث لا يفوته شيء من الوجوه المحسنة اللفظية. (خطيبا مصقعا) المصقع بكسر الميم وفتح القاف البليغ أو العالي الصوت أو من لا يضطرب في كلامه ولا يلتبس عليه وجوهه المعتبرة في تحسينه لفظا ومعنا ولا يتعتع.

(ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم) المراد بالقلب الروح الانساني وهو من عالم الامن نزل في هذا العالم بأمر ربه للتجارة والحراثة كما قيل: الدنيا مزرعة الآخرة وبذره الايمان وماؤه الحكمة وثمرته الاعمال والاخلاق والمقصود من جميع ذلك النعيم الأبدي وقرب الحق والمنافق لما كان فاقدا لجميع هذه الأمور التي هي أضواء عقلية وأنوار الهية لفقده البصيرة القلبية التي هي مبدأ المشاهدات والمكاشفات ومنشأ صفاء مرآة القلب واستضاءته بنور تلك الأنوار كان قلبه لا محالة مظلما لا يمكنه رؤية جمال المعارف وهذا بخلاف المؤمن العارف المطيع كما أشار بقوله:

(وتجد الرجل لا يستطيع يعبر عما في قلبه بلسانه) لقصور في لسانه ونقض في بيانه (وقلبه يزهر كما يزهر المصباح) باعتبار نور الايمان وأركانه وعقائده الحقة وأخلاقه الحسنة وأعماله الصالحة وتنزهه عما يوجب ظلمة القلب وغلبته على القوة الشهوية والغضبة المكدرة لصفاء مرآته وهذه الأمور توجب صفاء القلب ونورانيته ومشاهدة ما في عالم الغيب والشهادة وفيه دلالة واضحة على أن حسن الظاهر وطلاقة اللسان وفصاحة البيان بدون تنور القلب وصفاءه واستقامته لا عبرة بها وإنما العبرة بصفاء الباطن ونورانيته وإن لم يكن معه صفاء الظاهر والله الناظر

ص:145

الرقيب لا ينظر إلى صور ظاهركم وانما ينظر إلى صور باطنكم. اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن هارون بن الجهم، عن المفضل، عن سعد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس وقلب مطبوع، وقلب أزهر أجرد، فقلت: ما الأزهر؟ قال: فيه كهيئة السراج، فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك. ثم قرء هذه الآية: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم) فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا».

* الشرح:

قوله: (عن المفضل عن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام)) لعل المراد بالمفضل المفضل بن صالح أبو جميلة، وبسعد سعد بن طريف بقرينة أن المفضل بن صالح أبا جميله يروى عنه كما صرح به النجاشي (قال: إن القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وايمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر أجرد) وجه الحصر أن القلب إما متصف بالإيمان أو لا، الأول إما متصف بالإيمان بجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) أو ببعضه دون بعض، الأول قلب المؤمن والثاني قلب فيه إيمان ونفاق والثاني إما أن يصرح بالإيمان ظاهرا أو لا، الأول قلب المنافق والثاني قلب المشرك.

(فقلت: ما الأزهر؟ قال فيه كهيئة السراج) الهيئة الصورة شبه ما في القلب من نور الإيمان والمعارف بنور السراج لقصد الإيضاح والظهور وإن كان الوجه في المشبه أكمل; لأن بنور القلب يرى ما في عالم الملك والملكوت وبنور السراج يرى بعض ما حوله من المبصرات.

(فأما المطبوع فقلب المنافق) الطبع الختم وختم القلب كناية عن منع الله عز وجل ألطافه وتوفيقه المانع من دخول الإيمان وغيره من المعارف فيه، وإنما نسب الطبع إلى قلب المنافق; لأن عدم دخول الإيمان فيه مع تعرضه له بإظهاره باللسان إنما هو لمانع عظيم وهو الطبع المسبب عن إبطاله لإستعداده الفطري.

(وأما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر) ذكر من أوصاف المؤمن وعلاماته أمرين الشكر والصبر لأنهما يدلان على كمال إيمانه ومعرفته وصفاء باطنه وظاهره إذ هما تابعان للعلم بالله وبما وعد للشاكرين والصابرين.

(وأما المنكوس فقلب المشرك، ثم قرء هذه الآية: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن

ص:146

يمشي سويا على صراط مستقيم)) القلب المنكوس كالكوز المقلوب وإنما نسب النكس إلى قلب المشرك مع المشاركة بينه وبين المنافق في عدم الإيمان; لأن قلب المنافق يمر فيه شيء من الحق والإيمان ولا يعتقد به بخلاف قلب المشرك فإنه لا يمر فيه شيء من الحق كالكوز المنكوس ولا يلزم من ذلك أن يكون عقوبة المنافق أخف من عقوبة المشرك; لأن انكار الحق مع الشعور به أقبح وأشد، وقيل القلب المنكوس القلب الناظر إلى الدنيا والمتوجه إليها; لأن الدنيا تحت الآخرة والآخرة فوقها فالناظر إليها منكوس رأسه، والآية من باب التمثيل بالأشياء المحسوسة تقريبا للفهم والاستشهاد باعتبار أن المشرك يمشي مكبا على وجهه لكون قلبه مكبوبا مقلوبا والمؤمن يمشي سويا لكون قلبه على وجه الفطرة مستقيما عارفا بالحق كما يرشد إليه قوله تعالى (على صراط مستقيم).

(فإما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا) القلب الذي فيه نفاق وإيمان هو قلب من آمن ببعض ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وجحد بعضه أو شك وهذا في الحقيقة نوع من النفاق كما يرشد إليه قوله «فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه» بأن لا يرجع عنه ولا يتوب وقوله «فهم قوم كانوا بالطائف» على سبيل التمثيل وإلا فكل من اتصف بصفاتهم فحكمه حكمهم.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئا من الخير وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان فأيهما كانت منه غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن».

* الشرح:

قوله: (قال: القلوب ثلاثة) هذا لا ينافي ما مر من أن القلوب أربعة; لأن قوله «وقلب فيه نكتة سوداء» يشمل القسمين منها وهما قلب فيه نفاق وإيمان وقلب المنافق الذي لم يؤمن بحسب الباطن أصلا، والاعتلاج با يكديگر در آويختن در كشتى گرفتن وجنگ كردن وأمثال آن (وقلب مفتوح) الفتح مقابل القبض والطبع وهو قلب يقبل الإيمان والمعارف والأسرار وكلها نور ينور القلب في عالم الأبدان والأرواح كما أن الشمس تنور الأرض في عالم الأجسام والأشباح، وقوله:

(لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة) إشارة إلى أن القلب المنور بأنوار الإيمان والمعارف منور بعد الفراق من البدن في عالم البرزخ وبعده فإن هذه الأنوار باقية لا تزول منه أبدا ورفقاؤه دائما وهو مبتهج مسرور بها وكذلك ظلمة القلب بحكم المقابلة معه أبدا وهو مغموم ومحزون بها دائما.

ص:147

باب في تنقل أحوال القلب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد ابن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن ابن محبوب، عن محمد بن النعمان الأحوال، عن سلام بن المستنير قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام): فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام): اخبرك أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): أما إن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال: فقال: ولم تخافون ذلك؟ قالوا:

إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا، ثم يستغفروا الله فيغفر [الله] لهم، إن المؤمن مفتن تواب أما سمعت قول الله عز وجل: (إن الله يحب التوابين ويحب المطهرين) وقال:

(إستغفروا ربكم ثم توبوا إليه)».

* الشرح:

قوله: (فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام) أخبرك أطال الله بقاءك لنا وامتعنا بك أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا - إلى آخره) هذا انكار منه على نفسه لما وجد منها في خلوتها خلاف ما يظهر منه بحضرته (عليه السلام) خوف أن يكون ذلك من أنواع النفاق وأراد من نفسه أن يكون دائما على تلك الحالة التي يجدها عند موعظته (عليه السلام) ولا يشتغل عنها بشيء فأخبره تحسرا وتأسفا بأنه يفوت عنه تلك الحالة الشريفة عند المعاشرة مع أهل الدنيا فأجاب (عليه السلام) بأن القلوب مرة

ص:148

تصعب ومرة تسهل وليست دائم على حالة واحدة فإذا صعبت أدبرت وانتقلت إلى حالة دنية وإذا سهلت أقبلت وانتقلت منها إلى حالة شريفة ووجه ذلك أن سنة الله في عالم الإنسان أن يكون فعله متوسطا بين عالم الملائكة وعالم الشياطين فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار ولا يفترون ومكن الشياطين في الشر بحيث لا يغفلون فجعل عالم الإنسان متلونا.

وإليه يرشد ما نقل عن أبي ذر قال: «وعلى العاقل أن تكون له ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يفكر فيها في صنع الله وساعة يخلو فيها بحاجته من المطعم والمشرب» وفيه رد على من زعم لنفسه دوام تلك الحال وأنه لا يميل معها إلى الأهل والمال اللهم إلا أن يدعي أنه خرج من جبلة البشر وتعاطى دوام الذكر وعدم الفترة التي هي من خواص الملائكة والحق أن دوام الأحوال محال عادة وإنما الذي يمكن دوامه هو المقام وهو يحصل للإنسان لسعيه وكسبه والحال تحصل بهبة ربه ولهذا قالوا المقامات مكاسب والأحوال مواهب (1) وفيه دلالة واضحة

ص:149


1- (1) قوله: «المقامات مكاسب والأحوال مواهب» كلمة متلقاة من الصوفية ولا ضير في نقلها والاعتماد عليها والاعتناء بها إذا لم تكن من البدع ودل عليها العقل ولا ريب أن كل كمال للنفس يفيض عليها من الملاء الأعلى سواء كان علما نافعا أو خلقا حسنا، وإذا أخذته النفس والتفتت إليه واعتنت به وعملت بمقتضاه وحفظته صارت ملكة راسخة وسمى مقاما وإن لم تعتن به وأهملته وكان في معرض الزوال سمى حالا، والأصل في ذلك أن في الإنسان قوة تسمى بالقوة العاقلة وقوة اخرى تسمى بالواهمة، والشهوة والغضب وما يتضرع عليها من الأهواء من الواهمة والخير والفضائل من العاقلة، والعاقلة والواهمة قد تتفقان كشهوة طعام الحلال ودفع أعداء الدين فلا كلام وقد تتخالفان وهو الغالب وكل ما نرى من البدع والضلالات والفتن والأهواء والفسوق والمعاصي فإنما هي لغلبة القوة الواهمة على العاقلة لا لأن العاقلة معزولة لا تحكم بشيء بل لأنها مغلوبة لا تطيعها سائر القوى ولو كانت العاقلة معزولة لكان صاحبها بمنزلة الحيوان والمجانين ولكنها آمرة لا تطاع وطريق تسخير الواهمة أن يتمرن الإنسان ويتتبع حالاته فكلما رأى حالا أفيضت عليه وأمره بها العقل تمسك ولم يهمل وعمل بها قهرا على الواهمة حتى يصير الحال راسخة والعاقلة غالبة والواهمة مغلوبة ويثبت على الخير ويحصل له المقام وليس الحال والمقام منحصرين في مرتبة بعينها من مراتب السلوك بل هما في جيمع منازل السالكين إلى الله تعالى، وهنا مطالب يسئل عنها وقد أشير إليها في مطاوي الأحاديث السابقة لابد من الإشارة إليها بتوفيق الله تعالى: الأول: ما معنى الإيمان المعار والمستودع؟ هل تحقق عندهم اليقين بالتوحيد والنبوة أو شكوا وظنوا؟ فإن تحقق عندهم اليقين فلا يمكن زوال اليقين والضلال بعد الهداية على ما مر في الروايات فليس معارا وإن شكوا أو ظنوا فليس الشك ولا الظن إيمانا والجواب أنهم أيقنوا بعقولهم وعارض عقولهم أوهامهم نظير من يعلم يقينا إن الميت جماد والجماد لا يخاف منه ولكن يفر من الميت ولا يخضع لعقله كذلك هؤلاء وليس لهم التزام بما تحكم به عقولهم إلا في حالات خاصة لا يزاحم الدين أهواءهم وقد مر في الحديث الذي سبق في باب علامة المعار «أن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره - أه» وليس كل من عرف شيئا يقينا ملتزما بالعمل بيقينه كمريض يعلم ضرر طعام ويأكله متابعة لشهوته وفي ذلك الحديث أيضا من لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع أي أبصر ولم ينتفع بما أبصره. الثاني: قد مر في بعض الروايات أن الرجل المؤمن لا ينقل إلى الكفر فما معنى الإرتداد والأحكام الواردة للمرتد في الفقه وما معنى قوله تعالى (إن الذين كفروا - إلى قوله - ثم ازدادوا كفرا) فإن الظاهر منها متناقض والجواب أن أحكام الفقه واردة للدنيا وهذه الروايات ناظرة إلى الآخرة ولا تناقض بينهما فمظهر الإسلام محكوم بالإسلام في الدنيا فإذا ظهر منه الإنكار حكم بارتداده في الدنيا وأما بالنسبة إلى الآخرة فالمرتد لم يكن مؤمنا حقيقة والدليل عليه مع هذه الروايات أمور: الأول: أن الشك بعد اليقين خلاف العادة; لأن الإنسان قد يتفق له أن يشك في شيء ثم يتنبه لدلائل ثبوته ويتيقن به ولكن لا يتفق عادة ان يتضح لديه شيء يتقين به ويدرك الواقع على ما هو عليه بالبداهة أو بدليل صحيح ثم يشك فيه كمن رأى نارا وأدرك حرارتها بيده أو ثبت عنده أن حاصل ضرب أربعة في خمسة عشرون لم يتردد فيه إلا أن يكون المطلب مبهما وكان اقراره به أولا تخمينا ثبت بعده خطاؤه. الثاني: ما استدل به كثير من المتكلمين أن المؤمن يستحق الثواب والكافر العقاب فإذا مات المرتد على الكفر استحق الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر ولا يمكن الجمع بينهما ولا احباط في مذهبنا ولا تكفير وحينئذ فإما ان يقدم العقاب على الكفر فيخرج منه إلى الثواب خالدا وهو غير صحيح مع موته على الكفر وإما يقدم الثواب فيخرج منه إلى العقاب الدائم على الكفر وهذا أيضا ينافي الثواب لأن انتظار العقاب حين الثواب منغص للالتذاذ به وغير مناسب للكريم تعال ولا استدراج في القيامة. المطلب الثالث ان قيل لا منافاة بين أن يكون الإنسان مؤمنا موقنا بالله تعالى ورسالة نبيه (صلى الله عليه وآله) وان لا يعرض له شك فيها بعد الإيمان لكن يصير مرتدا بإنكار امور اخر من ضروريات الدين كالمعاد وحدوث العالم قلنا هذا غير معقول; لأن اليقين بالرسالة يقين بجميع ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) فإن تردد الموقن بالرسالة في شيء فإنما تردد في صحه نسبة ذلك الشيء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو لا يستلزم الإرتداد; لأن المرتد من ينكر شيئا مع علمه بصدوره من النبي (صلى الله عليه وآله) (ش).

على أن مجالسة الصالحين ومصاحبتهم تنسى الدنيا وتذكر الآخرة وتدفع خطرات النفس ووساوس الشيطان ولذلك كثرت الروايات في الحث عليها سيما أرباب العصمة (عليهم السلام) فإنهم أنوار الله في عباده وخزان علمه في بلاده والناصرون لأمره والقائمون به والذابون عن دينه يشدون قلوب من توسل بهم ويقومون ظهره ويؤيدون أمره ويحذفون شواغل الدنيا وحب زهراتها عن قلبه ويقلعون شبهات الباطل عن صدره بالكلمات البالغة إلى أعلى مدارج ذهنه والخطابات الواصلة إلى أقصى معارج فهمه فيشرق الأنوار الغيبية على ظاهره وباطنه هدانا الله بفيض جودهم إلى أعلى معارج اليقين وبنور وجودهم إلى أرفع منازل الآمنين.

(ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق - إلى قولهم - افتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا) لما كان باطنهم متصفا بصفة شريفة عند حضرته (صلى الله عليه وآله)

ص:150

وبصفة دنية عند غيبته توهموا أن يكون ذلك نفاقا.

(فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلا أن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا) ردعا لهم عن ذلك التوهم; لأن باطنهم موقن متذكر في وقت وغافل في وقت آخر لخطوات الشيطان وترغيبه في الدنيا كما هو شأن الخبيث اللعين حيث أنة إذا لم يكن له تصرف في إيمان المؤمن يتوصل بما يوجب نقص إيمانه وينزله عن كماله والمنافق باطنه غير مؤمن وقلبه غير موقن بل متصف بصفة الغفلة دائما وبينهما بون بعيد، وينبغي أن يعلم أن قلب المؤمن في الحقيقة عرش الرحمن يطوف به قوافل واردات الحق والهاماته ويشرق فيه لوامع أنواره وطوالع أسراره ولذلك يجب تطهيره عن أدناس التعلقات وأرجاس الشهوات.

وقد قيل: له بابان باب شرقي أيمن مفتوح إلى مشرق نور الحق وحظيرة القدس يطلع من ذلك الباب شوارق الألطاف الربوبية والمواعظ اللاهوتية وباب غربي أيسر إلى مغرب الجسد والأعضاء ومنه يظهر آثار تلك الشوارق والمواعظ إلى الأعضاء فتخضع بالأعمال الصالحة تواضعا ويسهل القلب عند ذلك ويتم النعمة ظاهرة وباطنة وكثيرا ما يتصرف فيه الشيطان ويلقى إليه من باب الغربي كذبا وزورا ويوحى إلى زخرف القول غرورا، فيميله إلى الدنيا ويحدث فيه صداء ورينا فإن استيقظ من نداء الغيب ودعوة أهل الحق ونصحه واستغفر زال عنه وإن استمر يسرى ذلك من الباب الشرقي إلى عالم القدس ويمنع الواردات اللاهوتية والأنوار الربوبية فيسود لوح القلب ويصدر من الجوارح أعمال قبيحة ومظلمة تنعكس ظلمتها إليه فينطمس نوره بريح الشهوات وتراكم الظلمات ظلمات بعضها فوق بعض فلا يقبل الحق أبدا.

ثم أشار (صلى الله عليه وآله) إلى أن الحالة الأولى حالة حسنة شريفة والدوام عليها يوجب التشبه بالملائكة والوصول إلى مقامات عالية وإلى أن الحالة الثانية والتعرض للذنب والاستغفار بعده أيضا لا تخلوا من حكة الهية ومصلحة ربانية بقوله: (والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء) هذا الخطاب حق وصدق; لأن المانع من ذلك إنما هو الكدورات الجسمية والتعلقات البشرية والأوزار النفسانية والوساوس الشيطانية والميل إلى الزهرات الدنيوية واللذات الفانية، فإذا زالت عن العبد تلك الموانع دائما يصير نورا صرفا وروحا محضا ويتصف بصفات الملائكة ويلتحق بالروحانيين ويصافحهم ويكون معهم ويمشى على الماء مثلهم، وإن شئت توضيح ذلك فنقول: إن للروح الإنساني منازل في السير إلى الله أولها المحسوسات وثانيها المتخيلات وثالثها الموهومات ورابعها المعقولات وهو في هذا المنزل يمتاز عن سائر الحيوانات ويرى فيه ما هو خارج عن عالم الحس والخيال والوهم ويعلم روح الأشياء

ص:151

وحقايقها وله عرض عريض وله أول عالم الإنسان وآخر عالم الملائكة بل فوقه وهو معراج الإنسان وأعلى عليين له كما أن الثلاثة الأول أسفل السافلين له وأعظم أسباب معراجه قطع التعلق عن الدنيا والاعراض عنها بالكلية، ثم الدوام على هذه الحالة فإنه يوجب الوصول إلى حالة شريفة هي مرتبة عين اليقين وله في تلك المرتبة قدرة على أفعال غريبة (1) وآثار عجيبة باذن الله تبارك وتعالى كمصافحة الملائكة والمشي على الماء والهواء وغيرها ومنه يعلم أن الكرامات غير منكرة من الأولياء كما زعمه بعض العلماء نعم هي مستبعدة والاستبعاد لا يقتضي نفيها. وتنقل القلب أعنى الروح عبارة عن انتقاله من المرتبة الأعلى إلى المرتبة الأدنى وقد ينتقل إلى أدنى جميع المراتب

ص:152


1- (1) قوله: «وله في تلك المرتبة قدرة على أفعال غريبة» أورد المجلسي (رحمه الله) كلام الشارح من قوله ينبغي أن يعلم إلى قوله بعض العلماء في مرآة العقول وذلك لنفاسته واشتماله على أصول شريفة هي غاية خلق الإنسان ومنتهى المقاصد في ارسال الأنبياء وانزال الكتب ولعمرى ان كتاب الإيمان والكفر أنفس ما في الكافي الشريف لأنه الغرض الأقصى وهذا الحديث من أعلاق النفائس يبين به سر السعادة وإن مقامات السائرين إلى الله ومنازلهم غير متناهية وتفاضل الناس بالحصول على تلك المراتب وكلها أعلى وأشرف من العدالة الشرعية التي هي مرتبة واحدة وتلك المقامات غير متناهية لا يمكن احصاؤها ولو أراد أحد تقسيم الناس بحسب الأحكام الدنيوية قسمهم أولا إلى قسمين مسلم وكافر، والمسلم إلى أهل الولاية والمخالف، وأهل الولاية إلى العادل والفاسق ولكن إذا أراد تقسيمهم بحسب أحكام الآخرة فلا يجوز الاكتفاء بذلك بل يجب أن ينظر إلى حالات النفوس في الحقيقة والواقع والعمدة فيه أن الإنسان اما أن يكون ماديا قائلا بأن الموجود منحصر في هذه المحسوسات وليس وراء المحسوس شيء واما أن يكون مؤمنا بالغيب والآخرة يقينا أو بحسب الاحتمال وهذا أول الاعتناء بما وراء المحسوسات فالمادي منغمر في الدنيا بعيد عن الله تعالى (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون) وهؤلاء أخس أفراد الإنسان وأما الذين يؤمنون بالغيب فيرجى الخير منهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن والكفار منهم مشركون ومنهم موحدون ويرجى من كل منهم الإيمان واما المنغمر في الدنيا (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). والمؤمنون على درجات شتى غير متناهية على حسب تقديرهم للغيب الذي آمنوا به فكل من كان اعتناؤه بالغيب أشد واعراضه عن الدنيا أبلغ وأكثر كان مقامه أعلى وأشرف وإلى الله تعالى أقرب. والسلوك إلى الله تعالى عبارة عن أعمال يوجب تنزيه القلب عن الشهوات والأوهام والرذائل الخلقية بالتدريج شيئا بعد شيء ورذيلة بعد رذيلة حتى يصل إلى مقام يليق به فإن رفض حب الدنيا وتمحض في عالم الغيب بحيث لو انكشف الغطاء ما ازداد يقينا أو قارب ذلك المقام ناسب أن يصافح الملائكة ويمشى على الماء ويظهر منه الكرامات واما مراتب العدالة في الفقه فكل منها في عرض الأخرى ممكن الحصول لجميع الناس بالسهولة فيتجنب المحرمات والشبهات ويأتي بالنوافل بقدر ما يمكن ولكثير من مدعى التصوف تمحلات في توجيه رغبتهم في الدنيا وتكالبهم عليها يعلم منها كذبهم وعدم معرفتهم بمقصد الدين الشريف في السلوك والهادي هو الله. وأهم ما يدل عليه هذا الحديث أن السلوك إلى الله ومراتبه حق مطلوب في الشرع وليس كما يظن أهل الظاهر وقد مر في المجلد (9) ما يؤيد كلام الشارح هنا.

ويستقر فيه وهو أسفل السافلين فيكون بعد الفراق من البدن من الخاسرين أعاذنا الله منه.

(ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفر والله فيغفر [الله] لهم) الاستغفار طلب غفران الذنوب وسترها والتجاوز عنها وهو سبب للرجوع إلى الحق وسلوك سبيله; لأن الذنوب اغلال للسائرين إليه وموانع للطالبين له ولذلك قال عز وجل (ثم توبوا) مع احتمال أن يراد بالتوبة العزم على عدم الإتيان بالذنوب فيما بقي من عمره بعد الاستغفار عما مضى وفيه تسلية للمذنبين وبشارة للتائبين وإشارة إلى أن الحكمة البالغة (1) تقتفي وجود هذا النوع من الخلق لتكون مظهر الرحمة وأن المؤمن لابد أن يكون دائما بين هذين الوصفين وأن يكون مراقبا لأحواله الماضية والآتية فيتدارك ما فات ويستعد لما هو آت والله هو الموفق للخيرات.

ص:153


1- (1) قوله: «إشارة إلى أن الحكمة البالغة» لكن إرادة المعاصي بالعرض لا بالذات فإنه تعالى أراد أن يكون الإنسان مختارا في فعله وأن لا يجبره على الطاعة ولازم الاختيار وجود جماعة عاصية كسلطان لا يرى المصلحة في اجبار رعاياه على شيء فإن الإجبار يرفع نشاط العمل ويقل ارتفاع البلاد فيتركهم وما يفعلون إلا أنه يعاقب من ارتكب فسادا وفتنة ولازم تخيير الرعايا وحريتهم أن يرتكب بعضهم بعض القبائح لكن قهرهم يوجب ضررا أشد فيختار أهل الضررين والقبائح ليست مطلوبة له إلا بالعرض لضرورة حرية الناس واختيارهم. (ش)

باب الوسوسة وحديث النفس

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوسوسة وإن كثرت، فقال: «لا شيء فيها، تقول: لا إله إلا الله».

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوسوسة وإن كثرت فقال: لا شيء فيها، تقول: لا إله إلا الله) الوسوسة حديث النفس مثل من خلق الله؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ ومتى هو؟ يخطر ذلك في القلب من غير قصد ولا عقد ولا تكلم به لقصد الترويج والتشهير وربما يفرق بينهما بأن الوسوسة آكد مثلا ان خطر ببالك النظر إلى امرأة فهو حديث النفس وإن حصلت الرغبة وحركتك الشهوة فهو الوسوسة ولا شيء فيهما ومن أراد دفع كراهة ذلك وطرد الخبيث عن نفسه فليقل: لا إله إلا الله أو ليقل: آمنا بالله وبرسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله أو ليذكر الله وحده، أمره بالتوحيد لوجوه: الأول:

أن لا يأتيه الموت وهو على تلك الحال.

الثاني: نفي ما القى في نفسه من أن لا له إلها آخر حيث صرح بأن إله واحد ليس إلا هو، الثالث:

أن تلك الكلمة تطرد الخبيث وتدفعه عن قائلها ولذلك يلقن المحتضر بها، الرابع: إفادتها أن سلسلة الممكنات منتهية إليه فلا يكون له موجد، الخامس: أن من اتصف بجميع صفات الكمال لا يتصف بالمخلوقية والاحتياج، السادس: أنه لو كان له إله لزم الدور أو التسلسل فوجب حصر الألوهية في واحد ومثل هذا الحديث روى العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله تجاوز لي عن امتي ما حدثت به أنفسهم ما لم تتكلم به أو تعمل به» قال بعضهم قال (عليه السلام) هذا بعد نزول النسخ أو التخفيف لقوله تعالى: (فإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) فقال بعض الصحابة من يطيق هذا؟ فقال: أتريدون أن تقولوا كما قال بنوا إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوا، فأنزل الله التخفيف بقوله: (لا يكلف الله نفسا إلى وسعها - الآية) فقال (عليه السلام) كالمبين والمفصل لجملتها: إن الله تجاوز لي إلى آخره فبين لهم ما رفع عنهم مما لا يطيقونه وهو حديث النفوس فأعلمهم أن له سبحانه أن يكلفهم ما يعلم أنه يشق عليهم معاناته بمقتضى عدله وعدله حسن، ثم خفف عنهم برفع ما يعجزون عنه اظهارا لفضله والفضل عليهم أحسن، والمراد بحديث النفس المعفوا عنه ما لا يدخل تحت كسب العبد من الخواطر أولا والفكر فيما يخطر للنفس ثانيا فيتأمله ويتحدث هل يعمله أم لا فهذا معفوا إلى أن يترجح في القلب الفعل أو الترك فيهم به فإن كان خيرا كتب له حسنة

ص:154

وإن كان شرا لم يكتب فإذا قوى الهم صار نية فيعرم القلب وينوى فمن هنا يتحقق كسبه وفعله فتقع المؤاخذة والمحاسبة لقوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) ثم استدرك (عليه السلام) بعد ذكر ما عفى عنه ما يحاسب عليه فقال: ما لم تتكلم به وهو عمل اللسان أو تعمل به وهو عمل القلب وكسبه وهو عزمه ونيته وأفعال الجوارح والأركان فهذا ما لم يعف عنه وإن جاز العفو عنه بعد إثباته والمحاسبة عليه فضلا كما روى أن الله تعالى يقول للحافظين: «وإذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها وآخذه أو اغفر» وقوله (عليه السلام) «إن الله تجاوز لي» يشعر بفضيلته فإن الله تعالى خصه في حق أمته بهذا العفو دون من قبله من الأنبياء كما خصه بقوله: «نصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم ولم يحل لأحد قبلي ونصرت بالصبا» إلى غير ذلك مما أكرمه انتهى كلامه.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قلت له: إنه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: «قل: لا إله إلا الله، قال جميل: فكلما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلا الله، فيذهب عني».

* الأصل:

3 - ابن أبي عمير، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله هلكت، فقال له (عليه السلام): أتاك الخبيث فقال لك: من خلقك؟ فقلت: ألله، فقال لك:

ألله من خلقه؟ فقال: إني والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذلك والله محض الإيمان، قال ابن أبي عمير: فحدثت بذلك عبد الرحمن بن الحجاج فقال: حدثني أبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما عنى بقوله «هذا والله محض الإيمان» خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض له ذلك في قلبه».

* الشرح:

قوله: (فقال يا رسول الله هلكت) قال ذلك لظنه أنه مكلف بالتحفظ من الخطرات ودفعها شاق عليه وذلك إشارة إلى خوف الهلاك كما دل عليه ما بعده أي خوفك من الهلاك لأجل تلك المخاطرة محض الإيمان ضرورة ان الكافر لا يخاف من هذه ولا من أعظم منها ولا يخبر بهلاكه.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، جميعا عن علي بن مهزيار قال: كتب رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) يشكو إليه لمما يخطر على باله، فأجابه في بعض كلامه: «إن الله عز وجل إن شاء ثبتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقا، قد شكى قوم إلى

ص:155

النبي (صلى الله عليه وآله) لمما يعرض لهم; لأن تهوي بهم الريح أو يقطعوا أحب إليهم من أن يتكلموا به فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتجدون ذلك قالوا نعم فقال: والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الإيمان، فإذا وجدتموه فقولوا: آمنا بالله ورسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله».

* الشرح:

قوله: (كتب رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) يشكوا إليه لمما يخطر على باله - إلى آخره) اللمم بفتحتين مقاربة الذنب وقيل هو الصغائر من الذنوب وهو أيضا طرف من الجنون يلم به الإنسان وإنما جعل الوسوسة لمما أي ذنبا صغيرا لزعمه أنها من صغائر الذنوب أو لأنها قد تؤول إلى ذنب وإلا فهي ليست من الذنوب والهوى السقوط من أعلى إلى أسفل وفعله من باب ضرب ومنه قوله تعالى: (أو تهوى به الريح في مكان سحيق) أي بعيد والباء في بهم للتعدية وهم جعلوا التكلم باللمم واظهاره أشد عليهم من أن يسقطهم الريح إلى مكان عميق أو من أن تقطع أعضاؤهم استقباحا لشأنه واستعظاما لأمره لأنه محال في حقه تعالى وكفر به، والاستفهام في قوله (أتجدون ذلك) على حقيقته أو للتعجب أو التقرير، ولفظه ذلك في الموضعين إشارة إلى الاستعظام أو الخوف المفهومين من سياق الكلام.

وصريح الإيمان خالصة ولو جعل إشارة إلى اللمم لورد أن الإيمان يقين واللمم شك أو قريب منه فلا يكون اللمم من الإيمان فضلا عن أن يكون من صريحه، ويمكن أن يدفع ذلك بأن الشيطان إذا يئس من كفر من صح إيمانه ومن الإتيان به من جهة الأعمال قصده بالوسوسة ليشغل قلبه بحديث النفس وليؤذيه بذلك فإذا سبب الوسوسة هو محض الإيمان وصريحه فصح أن الوسوسة صريح الإيمان بخلاف الكافر والشاك وضعيف الإيمان فإنه يأتيهم من أي وجه أراد، ويدل على هذا التوجيه حديث آخر الباب.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن محمد، عن محمد ابن بكر بن جناح، عن زكريا بن محمد، عن أبي اليسع داود الأبزاري، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنني نافقت فقال: والله ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني، تعلمني ما الذي رابك؟ أظن العدو الحاضر أتاك فقال لك: من خلقك؟ فقلت: الله خلقني، فقال لك: من خلق الله؟ قال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال: إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم، فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده».

ص:156

باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي الأحمسي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».

* الشرح:

قوله: (والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به) أي ما ينجو منه قطعا أو استحقاقا إلا من أقر به وأما غيره ففي مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه فلا ينافي الحصر.

(قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): كفى بالندم توبة) ندم على ما فعل ندما وندامة فهو نادم إذا حزن أو فعل شيئا ثم كرهه، واعلم أن الله تعالى خلق القلب قابلا للخاطرات الحسنة والخاطرات القبيحة والأولى من الملك والثانية من الشيطان ثم الثانية إذا أثرت في القلب حصل شوق إلى الذنب وهو يوجب العزم عليه والعزم يوجب تحرك القدرة والقوة إليه وتحرك القدرة يوجب تحرك الأعضاء والجوارح إليه فيصدر منها الذنب وإذا أخذت بيده العناية الأزلية وأثرت فيه الخاطرات الحسنة وحصل له علم بأن الذنوب سموم مهلكة حصل له شوق إلى قرب المبدأ والرجوع إليه وزال عنه الشوق إلى الذنب فيحصل له ندامة عما كان فيه وهو المسمى بالتوبة فإذا زال الشوق إلى الذنب وحصل له الندامة زال العزم عليه ومتى زال العزم زال تحرك القوة فيزول تحرك الأعضاء; لأن المسببات تزول بزوال أسبابها كما يشعر به قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الباب: «إن الندم على الذنب يدعوا إلى تركه» فمعنى قوله (عليه السلام): «كفى بالندم توبة» أنه إذا حصل الندم حصل التوبة والرجوع إلى الله تعالى بالاقلاع عن الذنوب والخروج منه لأنه أصل له وسبب مؤد إليه ولم يرد أن مجرد التوبة من دون كف النفس عن الذنوب كاف في الرجوع إليه إذ ليس مجرد ذلك توبة وندامة بل هو شبيه بالإستهزاء، نعم الندامة المفضية إلى ترك الذنوب توبة وإن لم يستغفر منه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم».

ص:157

* الشرح:

قوله: (عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم) المراد بالإقرار بالنعم معرفة المنعم وقدر نعمته وأنها منه تفضلا وهي شكر والشكر يوجب الزيادة وبالإقرار بالذنوب الإقرار بها مجملا ومفصلا وهو ندامة منها والندامة توبة والتوبة توجب غفران الذنوب، ولعل الحصر حقيقي; لأن كل ما أراد الله من الناس فهو داخل في الخصلتين.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمر [و] بن عثمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة، قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: «نعم إنه ليذنب فلا يزال منه خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة».

* الشرح:

قوله: (قال نعم إنه ليذنب فلا يزال منه خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة) دل على أن دوام الخوف والمقت بمعنى تحققهما كلما خطر الذنب بباله سبب للرحمة لأنه بالخوف اعترف بعظمة الرب وقبح مخالفته وبالمقت اعترف بذنبه وتقصيره وكل واحد سبب تام للرحمة.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن معاوية بن عمار قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بإصرار وما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار».

* الشرح:

قوله: (ما خرج عبد من ذنب بإصرار وما خرج عبد من ذنب بإقرار) الإصرار إما فعلي وهو المواظبة على نوع ذلك الذنب أو على نوع آخر أو حكمي وهو العزم على فعله ثانيا وإن لم يفعل كما صرح به الشهيد في شرح اللمعة، والغرض الأصلي منه لازمه وهو الوعيد بوخامة العاقبة وشدة العقوبة وإلا فمضمونه ظاهر وليس الحصر بالنسبة إليه لأنه حقيقي إذ الخروج على سبيل القطع والاستحقاق لا يحصل إلا بالإقرار.

* الأصل:

5 - الحسين بن محمد، عن محمد بن عمران بن الحجاج السبيعي، [عن محمد بن وليد] عن

ص:158

يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «من أذنب ذنبا فعلم أن الله مطلع عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له غفر له وإن لم يستغفر».

* الشرح:

قوله: (من أذنب ذنبا فعلم أن الله مطلع عليه - إلى آخره) لعل الوجه أن ذلك اقرار بالذنب وبأنه معصية للخالق العالم المطلع القادر على جميع الأشياء واعتراف بالعجز والتقصير وكل ذلك سبب للمغفرة كالتوبة والندامة وترك الذنوب إلا أن هذا السبب أعظم من الأول.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم، عن عنبسة العابد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير».

* الشرح:

قوله: (قال إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير) يتحقق هذا الطلب بدوام الحسرة والتضرع، ومنشأوه العلم بقبح المعصية والمخالفة، وثمرته تنور القلب ومحبة الرب والمراد بالإستخفاف بالجرم اليسير عدم الاعتناء به والإصرار عليه وذلك استخفاف بالله وبالشريعة وصاحبها فمن أجل ذلك يستحق البغض من الله وسلب رحمته بخلاف من لجأ إلى الله وطلب المغفرة في الذنب العظيم فإن فيه تقبيحا للذنب وتعظيما للرب وتعييرا للنفس وكل ذلك موجب لأن يحبه الله ويفيض عليه رحمته.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إسماعيل بن سهل، عن حماد عن ربعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن الندم على الشر يدعو إلى تركه».

* الشرح:

قوله: (ان الندم على الشر يدعوا إلى تركه) فالنادم الفاعل للشر ليس نادما في الحقيقة ولا يبعد أن يستفاد منه أن التوبة في الحقيقة هي التي تدعوا إلى ترك الذنوب كلها كما هو مذهب بعض الأصحاب.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن علي الحسين الدقاق، عن عبد الله بن محمد، عن أحمد بن عمر، عن

ص:159

زيد القتات، عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلا غفر الله له قبل أن يستغفر، وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنها من عند الله إلا غفر الله له قبل أن يحمده».

* الشرح:

قوله: (ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلا غفر الله له قبل أن يستغفر) الندمة فعل القلب والاستغفار فعل اللسان والأول أشرف فلذا له تأثير بدون الثاني ولا تأثير للثاني بدونه.

قوله: (وما من عبد أنعم الله عليه نعمة - إلى آخره) ايصال كل مرغوب ودفع كل مكروه نعمة ويفهم منه أن الحمد القلبي أشرف من الحمد اللساني وأن الحمد وغيره من العبادات القلبية والبدنية سبب للمغفرة كما يدل عليه أيضا قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات).

ص:160

باب ستر الذنوب

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن العباس مولى الرضا (عليه السلام) قال: سمعته (عليه السلام) يقول: «المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له».

* الشرح:

قوله: (المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة) أي تعدل حسنته سبعين حسنة دل على أن الحسنة في السر أفضل لبعده من الرياء والسمعة، وقد استثنى اظهار الصدقة لدفع التهمة أو لأسوة الغير به أو لنحو ذلك.

(والمذيع بالسيئة مخذول); لأن في إذاعتها استخفاف بالدين واستهانة بالذنب وتبجح به واستحسان له وترويج له بين العوام وهتك لما ستره الله عليه بفضله وكل ذلك مذموم عقلا ونقلا حتى أنه يقرب من الكفر.

(والمستتر بالسيئة بها مغفور له); لأن استتارها نوع من الإقرار بقبحه وقبح فاعله وتقصيره في تعظيم الرب وقد مر أن المقر مغفور له.

2 - محمد بن يحيى، عن محمد بن صندل، عن ياسر، عن اليسع بن حمزة، عن الرضا (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له».

ص:161

باب من يهم بالحسنة أو السيئة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه [سيئة] ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة».

* الشرح:

قوله: (قال إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة - إلى آخره) تفصيل المقام أن ما في النفس ثلاثة أقسام: الأول الخطرات التي لا تقصد ولا تقتصر وقد مر فيما قبل أنه لا مؤاخذة بها ولا خلاف فيه بين الامة، الثاني: الهم وهو حديث النفس اختيارا ان تفعل ما يوافقها أو يخالفها أو أن لا تفعل فإن كان ذلك حسنة كتبت له حسنة واحدة فإن فعلها كتبت له عشر حسنات وإن كان سيئة لم تكتب عليه وإن فعلها كتبت عليه سيئة واحدة كل ذلك مقتضى أحاديث هذا الباب ولا خلاف فيه أيضا بين الامه إلا أن بعض العامة صرح بأن هذه الكرامة مختصة بهذه الامة وظاهر هذا الحديث أنها في الامم السابقة أيضا.

الثالث: العزم وهو التصميم وتوطين النفس على الفعل أو الترك وقد اختلفوا فيه فقال كثير من الأصحاب أنه لا يؤاخذ به (1) لظاهر هذه الأحاديث وقال أكثر العامة والمتكلمين والمتحدثين

ص:162


1- (1) قوله: «فقال كثير من الأصحاب أنه لا يؤاخذ به» هذا من فروع مسئلة التجري والبحث فيه من ثلاثة وجوه: الأول على طريقة الفقهاء والثاني على طريقة المتكلمين والثالث على طريقة أهل الحديث ولكل واحد هؤلاء الأعلام غرض في البحث يخالف غرض الآخرين. أما على طريقة الفقهاء فغرضهم ترتب أحكام الفعل على القصد أو عدم ترتبه ولا ينبغي التأمل في عدم ترتب الأحكام الدنيوية عليه مثلا من قصد الزنا وعزم عليه لا يحد حد الزنا لأن الحد ثابت على من زنى بالفعل لا على من قصده ولا تحرم عليه أم من قصد الزنا بها أو بنتها، وكذلك من عزم شرب الخمر لا يضرب الحد وإن شرب ماء ظنه خمرا، والقاصد لسرقة مال الغير لا يقطع إذا تبين أنه أخذ مال نفسه، ولا تحرم أخت غلام قصد ايقابه عليه أبدا ولا ذات البعل إن قصد الزنا بها وأما الحكم بفسقه وزوال عدالته وعدم قبول شهادته والصلاة خلفه بالعزم الخالي عن الفعل فمبنى على كون العزم معصية بنفسه وبالجملة لا يترتب حكم الزنا على قصد الزنا قطعا، نعم إن قلنا بكون العزم معصية بنفسه لا بأنه سبب ينجر إلى المعصية فلا ريب في فسق القاصد وقد قال الله تعالى: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) وقال تعالى: (إن السمع والبصير والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) ولا ريب أن العزم من الأفعال الاختيارية للقلب يصح أن يكون موردا للتكليف بنفسه وقال تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم). أما على طريقة المتكلمين فاستحقاق العقاب على قصد المعصية ثابت عقلا إذ لا ريب في أنه فبيح ولكن لو فرض أن عقاب نفس المعصية شيء غير عقاب العزم عليها ثبت استحقاق عقاب العزم لا عقاب المعصية وهذا خارج عن غرضنا. وأما أهل الحديث فغرضهم النظر في كل حديث ورد في هذا المعنى وابداء وجه الجمع بينها إن أوهم ظاهرها المنافاة، ووجه التأويل فيها إن خالفت أصلا من أصول المذهب مثلا: «من هم بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه» ينافي ظاهر الآيات السابقة فيقال أن الآيات تدل على الاستحقاق والرواية على التفضل بالعفو أو يقال المؤاخذة والسؤال أعم من العقاب، وأيضا ورد «أن خلود أهل النار فيها لأن نياتهم كانت على الاستمرار على العصيان ان خلدوا في الدنيا» وهذا ينافي نفي العقاب على النية فيقال نفي العقاب تفضل على من ارتدع بنفسه من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) والتفضل لا ينافي استحقاق العقاب لأن التفضل غير واجب ولا ريب أن الجمع والتأويل في أمثال هذه الروايات تبرع غير واجب فإن لم يظهر لنا وجه أو استبعدنا بعض توجيهاتهم لم يضرنا البتة وقد تكلم شيخنا المحقق الأنصاري في التجري في رسائله بما لا مزيد عليه وتكلم فيه اتباعه بعده بما يغنينا عن التكرار والإعادة وفيما ذكرنا كفاية وزيادة، ويبقى الكلام في تأثير سوء السريرة أعنى وجود الدواعي القوية في النفس إلى المعصية والتحقيق أن العزم غير سوء السريرة لأن الإنسان قد يكون فيه الدواعي إلى الطاعة أيضا فإن غلب دواعي الخير على داعية الشر لم يعزم على العصيان وكذلك إن تكافئتا وإن غلبت داعية الشر عزم على العصيان قطعا فليس وجود داعية الشر كافيا في استحقاق العقاب نعم لا يصحل لصاحبها الترقي في معارج الكمال والسعادة والوصول إلى المراتب العالية التي هي فوق مرتبة العدالة إلا بقلع مواد الفساد من قلبه ومحو حب الدنيا والشهوات من نفسه حتى يخلص إلى مطالعة عالم الغيب ويتلذذ بمشاهدة جمال الله وجلاله. (ش)

ومنهم القاضي أنه يؤاخذ به لكن بسيئة العزم لا بسيئة المعزوم عليه لأنها لم تفعل فإن فعلت كتبت سيئة ثانية لقوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) وقوله: (اجتنبوا كثيرا من الظن) ولكثرة الأخبار الدالة على حرمة الحسد واحتقار الناس وإرادة المكروه بهم وحملوا الأحاديث الدالة على عدم المؤاخذة على الهم، والمنكرون أجابوا عن الآيتين بأنهما مخصصتان بإظهار الفاحشة والمظنون كما هو الظاهر من سياقهما، وعن الثالث: ان العزم المختلف فيه ما له صورة في الخارج كالزنا وشرب الخمر، وأما ما لا صورة له في الخارج كالإعتقادات وخبائث النفس مثل الحسد وغيره فليس من صور محل الخلاف فلا حجة فيه على ما نحن فيه، وأما احتقار الناس وإرادة المكروه بهم فإظهارهما حرام يؤاخذ به ولا نزاع فيه وبدونه أول المسألة والحق أنها محل إشكال، ثم الظاهر أنه لا فرق في قوله «ومن هم بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه» بين أن يعملها خوفا من الله أو خوفا من الناس وصونا لعرضه ويدل على التعميم أيضا روايات اخر فقول من قال التعميم لا وجه له وأن عشر أمثال الحسنة مضمونة البتة لدلالة نص

ص:163

القرآن عليه وإن شاء الله تعالى قد يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف كما جاء في بعض الأخبار وإلى ما لا يأخذه حساب كما قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) بقي هنا شيء وهو أنه سألني بعض الأفاضل عن وجه الجمع بين أحاديث هذا الباب وبين ما مر في باب النية عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنما خلد أهل النار في النار; لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا وإنما خلد أهل الجنة في الجنة; لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته)» قال: على نيته فإنه دل أحدهما على المؤاخذة بالنية ودل الآخر على عدم المؤاخذة بها، قلت له: لا منافاة بينهما إذ دل أحدهما على عدم المؤاخذة بنية المعصية إذا لم يفعلها ودل الآخر على المؤاخذة بنية المعصية إذا فعلها فإن المنوي كالكفر واستمراره مثلا موجود في الخارج فهذه النية ليس داخلة في النية بالسيئة التي لم يعملها، ثم قال: كما أن المعصية ليست سببا للخلود على ما يفهم من الحديث المذكور لكونها في زمان محصور منقطع هو مدة العمر كذلك نيتها لأنها تنقطع أيضا عند انقطاع العمر لدلالة الآيات والروايات على ندامة العاصي عند الموت ومشاهدة أحوال الآخرة فينبغي أن يكون ناويها في النار بقدر كونها في الدنيا لا مخلدا فقلت له: أولا أن هذه النية موجبة للخلود لدلالة الحديث عليه بلا معارض فوجب التسليم والقبول، وثانيا أن صاحبها في هذه الدنيا التي هي دار التكليف لم يفعل شيئا يوجب نجاته من النار وندامته بعد الموت لا تنفع لإنقطاع زمان التكليف، وثالثا ان سبب الخلود ليس ذات المعصية ونيتها من حيث هي بل هو المعصية ونيتها على فرض البقاء أبدا ولا ريب في أنها معصية أبدية موجبة للخلود أبدا، تأمل تعرف.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه».

* الأصل:

3 - عنه، عن علي بن حفص العوسي، عن علي بن السائح، عن عبد الله بن موسى بن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) قال: سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟ فقال:

«ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟ قلت: لا، قال: إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح فقال: صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنه قد هم بالحسنة فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه

ص:164

مداده فأثبتها له وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين:

قف فإنه قد هم بالسيئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها عليه».

* الشرح:

قوله: (فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فاثبتها له) أي ثبت له تلك الحسنة مع الزيادة كما دل عليه الأخبار الآتية ويفهم منه أن الملائكة أجسام لطيفة كما ذهب إليه أكثر المسلمين (1) ثم إذا كان هم السيئة نتنا يجد ريحه المقربون كان نتن السيئة عندهم أشد وأقبح وريحها لديهم أبين وأوضح فيا حسرة للمذنبين عند كشف الغطاء في تنفرهم من أنفسهم.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن فضيل بن عثمان

ص:165


1- (1) قوله: «أجسام لطيفة كما ذهب إليه أكثر المسلمين» أكثر المسلمين بل أكثر الناس مطلقا يزعمون انحصار الموجودات في الأجسام وأحوال الأجسام ولا يخطر ببالهم الوجود المجرد حتى أن كثيرا منهم كانوا مجسمة يعتقدون تحيزه تعالى فوق العرش وأهل العلم والحديث منهم يخلطون بين تبادر المعنى من اللفظ وبين رسوخ المعنى في الذهن قبل اللفظ فيتمسكون بلفظ جاء ورفع مثلا في قوله تعالى: (وجاء ربك) وقوله تعالى: (والعمل الصالح يرفعه) ولفظ التنزيل في قوله تعالى: (نزله روح القدس على قلبك) على جسمية متعلقات هذا الفعل لأن المركوز في ذهنهم ان كل شيء يتعلق به فعل من الأفعال لابد أن يكون جسما وليس مثل هذا التبادر حجة كما يفهم العجمي من لفظ الدار أنها مشتملة على صحن وحوض وبيوت لانس ذهنه ورسوخ هذا المعنى في قلبه مع ان الدار في مكة وكثير من البلاد لا تشتمل على صحن ولا يتبادر إلى ذهن أهله، كذلك يتبادر إلى ذهنه ان البسر حامض قياسا على الحصرم والبسر بالفارسية غورة خرما والحصرم غورة انگور وما يتبادر في أمثال هذه الموارد ناشىء من أنس ذهن المستمع لا من دلالة اللفظ وكون الملائكة أجساما عندهم ناشىء من وهمهم الغلط لا من الصفات الثابتة لهم في الأدلة الشرعية ولا من ظهور لفظ جاء ونزل وكون الملائكة مرئية لبعض الناس دون بعض من غير اعتبار حدة البصر وضعفه يدل على تجردهم، إذ لو كانوا جسما عنصريا شفافا جدا وجب أن لا يبصرهم أحد وإن كانوا غير شفاف وجب أن يبصرهم كل الناس وأيضا يدخلون من باب مسدود لا منفذ فيه من غير خرق والتيام ويقعدون على شدق ابن آدم أي على طرف فمه ولا يزاحمون الالتقام والتكلم وينزلون مع قطرات الأمطار ولا يتزاحمون وبعضهم راسخة في الأرضين السفلى اقدامهم وشاخصة إلى السماوات العليا رؤوسهم من غير خرق للأرض ولا للسماء والتداخل محال بالبديهة وبعضهم يدخلون القبور ويسئلون الموتى من غير نبش القبر إلى غير ذلك من الصفات الثابتة لهم فوق حد الإحصاء وهذا يدل على كونهم من غير سنخ هذه الأجسام العنصرية الداخلة في تركيب المواليد ويطلق عليهم المجرد تارة وأجساما مثالية تارة اخرى وكذلك كل ما اختلفوا في جسميته يجب تتبع الصفات الثابتة له هل هي من صفات الأجسام أو من صفات المجردات فإن أراد القائل إن الملائكة أجسام لطيفة أي أجسام مثالية فهو صحيح وأن أراد أنهم أجسام عنصرية فالصفات المذكورة تأباه. (ش)

المرادي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك، يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته، وإن هو عملها كتب الله له عشرا. ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن هو عملها اجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات) أو الاستغفار فإن هو قال: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه» لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اكتب على الشقي المحروم».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك); لأن الله تعالى كثر الحسنات وقلل السيئات حيث كتب بهم الحسنة مع عدم فعلها حسنة ومع فعلها عشر حسنات ولم يكتب بهم سيئة مع عدم فعلها سيئة وكتب مع فعلها بعد مضى سبع ساعات يمكن دفعها بحسنة أو باستغفار سيئة واحدة فلم يهلك مع سعة هذه الرحمة الواسعة إلا هالك لا خير فيه أصلا مستغرق في المعصية متماد في الغي والضلالة.

(وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها) قيل ان تبعها بحسنة كانت له عشر أمثالها فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال واحدة بواحدة ويكتب له تسعة وربما يفهم منه أن المحو قبل كتب السيئة لا بعدها وإلا فلا فائدة في تأخير الكتابة إلا أن يقال الفائدة هي ترك ما هو في معرض الزوال والمحو، ثم الظاهر أن الحسنة وإن كانت صغيرة ماحيه لسيئة قبلها وإن كانت كبيرة ولا بعد فيه نظرا إلى الرحمة الواسعة وفي نسبة كتب السيئة إلى صاحب الشمال وكتب عشر حسنات إلى الله تعالى أشعار بأن اثبات العشر من باب التفضل.

ص:166

باب التوبة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه وما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».

* الشرح:

قوله: (إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة - إلى آخره) التوبة الرجوع عن الذنب لقبحه إلى الطاعة فخرج الرجوع عن شرب الخمر مثلا لإضطراره بالبدن وقد يزاد مع العزم على عدم المعاودة إليه وتدارك ما يمكن أن يتدارك وقال الغزالي: التوبة تنتظم من امور ثلاثة علم وحال وعمل، أما العلم فهو اليقين بأن الذنوب سموم مهلكة وحجاب بين العبد ومحبوبه وهذا اليقين تثمر حالة ثانية هي التألم بفوات المطلوب والتأسف من فعل الذنوب ويعبر عن هذه الحالة بالندامة وهي تثمر حالة ثالثة هي ترك الذنوب في الحال وعزم على عدم العود إليها في الاستقبال وتدارك ما فات في الماضي من حقوق الله تعالى مثل الصلاة والصيام والزكاة ونحوها من حقوق الناس مثل رد المال إلى صاحبه أو وارثه وطلب الإبراء في الغيبة وتسليم النفس في القصاص إلى وليه ليقتص منه أو ليعفوا عنه، ولو لم يمكنه ذلك كان عليه أن يكثر في العبادة ليبقى له قدر الكفاية في القيامة بعد أخذ حقوقهم منها وهذه الامور الثلاثة مترتبة في الحصول ويطلق اسم التوبة تارة على مجموعها وتارة على الندم والعزم واخرى على الندم وحده ويجعل العلم كالمقدمة والترك، كالثمرة فيكون الندم محفوفا بالطرفين الطرف الأول مثمر الندم والطرف الآخر ثمرته كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن الندم على الشر يدعوا إلى تركه» وترتب هذه الامور غير مختصة بالتوبة بل انتظام الصبر والشكر والتوكل والرضا وغير ذلك من المقامات الدينية ينتظم من علم وحال وعمل وهذه الامور الثلاثة إذا قيس بعضها إلى بعض لاح للناظرين إلى الظواهر أن

ص:167

العلوم مطلقا إنما تراد للأحوال والأحوال إنما تراد للأعمال (1) وأما أهل البصائر وأولوا الباب فالأمر عندهم بالعكس فإن الأعمال عندهم تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال; لأن كل مراد لغيره كان ذلك الغير لا محالة أفضل منه، ثم المراد بكتمان الجوارح وبقاع الأرض ذنوبه اما نسيانهما كما في الملكين أو عدم الشهادة بها والأول أظهر، ويؤيده ما روى من طرق العامة أنه تعالى ينسى أيضا جوارحه وبقاع الأرض ذنوبه بل ربما يقال: أنه تعالى يمحوها عن لوح نفسه أيضا ليكمل استعداده لإفاضة الفيض والرحمة عليه ويرتفع عنه الانفعال عند لقاء الرب.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) قال:

«الموعظة التوبة».

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه، قال محمد بن الفضيل: سألت عنها أبا الحسن (عليه السلام) فقال: «يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، وأحب العباد إلى الله تعالى المفتنون التوابون».

* الشرح:

قوله: (قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه) دل هذا وما بعده على أن التوبة النصوح هي التوبة القوية الثابتة التي تمنع صاحبها من العود إلى الذنب بعدها وهذا التفسير يؤيده ما قيل

ص:168


1- (1) قوله: «والأحوال إنما تراد للأعمال» أهم الامور عند هؤلاء امور الدنيا والآخرة مغفول عنها عندهم وكل شيء عندهم لنظم الدنيا وعمرانها، والدين أيضا من نظم الدنيا حتى لا يظلم أحد أحدا ولا يتعدى أحد على أحد ولا يكون الهرج والفساد وينبغي أن يزاد على عبارة الشارح بعد قوله «والأحوال إنما تراد للأعمال» والأعمال العبادية إنما تراد لحفظ حقوق الناس; لأن من يعتاد العبادات لا يتعدى على غيره والحق أن الدنيا للآخرة وإنما خلق الناس ليعبدوا الله لا ليعمروا الدنيا، والدين لعمارة الآخرة أصلا وبالذات وما يتعلق من أحكامه بالدنيا أيضا موضوعة لتأمين الناس في معاشهم حتى يتهيأ لهم زاد المعاد والمراد بالعلوم كل ما يدعوا إلى الآخرة لا علوم الدنيا المنسية للآخرة وإلا لكان بقراط وجالينوس وأمثالهم أفضل عند الله من سلمان وأبي ذر; لأن الطب أفضل علوم أهل الدنيا. (ش)

من أنها توبة تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبدا أو تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها، وقيل هي توبة خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل ناصح إذا كان خالصا من الشمع بأن لا تكون لرياء ولا نفاق ولا لخوف النار وقد حكم المحقق في التجريد بأن الندم على الذنوب خوفا من النار ليس توبة. وقيل اسناد النصوح إلى التوبة من باب الاسناد المجازي; لأن النصح صفة للتائبين أي توبوا توبة تنصحون بها أنفسكم بأن تأتوا بها على أكمل الوجوه وأفضل الشرائط حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب الكلية وذلك بإذابة النفس بالحسرات ومحو ظلمة السيئات بنور الحسنات.

قوله: (وأحب العباد إلى الله تعالى المفتنون التوابون) أي المفتونون بالذنوب التوابون منها ولعل المراد بالمفتون التواب من لا يعود إلى الذنب بعد التوبة فيكون تأكيدا لما قبله وكونه أحب بالنظر إلى من يتوب (1) ثم يعود ثم يتوب وهكذا لا بالنظر إلى من لم يذنب أصلا، ويحتمل أن يراد بها كثير التوبة بأن يتوب ثم يذنب ثم يتوب وهكذا وهو أحب ممن يتوب من الذنوب كلها توبة واحدة وممن يذنب ذنوبا ثم يتوب منها ثم يذنب ذنوبا ثم يتوب منها.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) قال: «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا، قلت: وأينا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب».

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا رفعه قال: «إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها قوله عز وجل: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فمن أحبه الله لم يعذبه، وقوله: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات

ص:169


1- (1) قوله: «أحب بالنظرة إلى من يتوب» أقول كأنه ناظر إلى الغالب; لأن من لم يذنب ذنبا خاصا ربما كان امتناعه منه لعدم العادة والداعي أو لعدم تهيؤ وسائله أو لشدة حيائه وأمثال ذلك بخلاف من ارتكبه مرة أو مرات فإن امتناعه للخوف من الله تعالى ولإدراك قبحه وغلبة عقله على شهوته فهو أرسخ في التقوى وأبعد من العود إلى الذنب وأما الذي كان امتناعه من الذنوب من أول الأمر خوفا من العذاب وامتثالا لأمره تعالى فهو أقرب إلى السعادة وأحب عند الله قطعا يأتي في في الحديث 9 وليس لفظ الحديث محمولا على العموم; لأن المعصومين (عليهم السلام) والمقاربون لهم أحب عند الله يقينا. (ش)

ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم») وقوله عز وجل: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما)».

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال) الأولى أنه تعالى يحبهم والثانية ان الملائكة المقربين يطلبون المغفرة لهم والثالثة انه عز وجل وعدهم بالأمن والرحمة ومعنى أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين انه يجنب التوابين عن النجاسات الباطنة وهي الذنوب ويحب المتطهرين من النجاسات الظاهرة بالماء وقيل يحب التوابين من الكبائر ويحب المتطهرين من الصغائر وقد وصف الله تعالى نفسه في آخر الآية بقوله: (وكان الله غفورا رحيما) فيغفر الذنوب ويبدل السيئات حسنات تحريكا لطمع المذنبين التائبين ومن طريق العامة: «إن الله جعل رحمته مائة جزء، جزء في الدنيا والبواقي في الآخرة» فإذا كانت رحمة واحدة في هذه الدار التي هي دار الأكدار يقع بها من التراحم ما لا يحصى فكيف بالبواقي في دار القرار.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟! فقال: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته، قلت: فإنه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب ويستغفر [الله] فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة وإن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله».

* الشرح:

قوله: (أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته) الهمزة للإنكار وفيه دلالة على أن التوبة مقرونة بالقبول البتة ويدل عليه أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما كان الله ليفتح على عبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة» ويدل عليه أيضا ظاهر الآيات وقال محي الدين البغوي: التوبة من الكافر مقطوع بقبولها واختلف في قبولها من العاصي فقيل كذلك

ص:170

وقيل لا ينتهي إلى القطع (1); لأن الظواهر التي جاءت بقبولها ليست بنص وإنما هي نصوصات معرضة للتأويل، وقال عياض: قبولها ليس بواجب على الله تعالى عقلا وإنما علمناه بالشرع والإجماع خلافا للمعتزلة في إيجابهم ذلك عقلا على أصلهم في التحسين والتقبيح، ولما استبعد السائل قبول التوبة بعد نقضها مرارا حذره (عليه السلام) من ذلك بقوله «فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله» تقنيط المؤمن من الرحمة الواسعة والقول بأنك فعلت ما لا يغفر الله لك بعده حرام وحكم على الله سبحانه وحجر عليه وجهل بأحكام الربوبية وادلال بأن له عند الله تعالى منزلة لا لذلك المذنب ولذلك قال العلماء: ينبغي أن يكون واعظ الناس متوسطا بين الترغيب والترهيب ولو زاد الترهيب لا على حد يوجب القنوط جاز باعتبار أن أكثر النفوس إلى الفساد أميل فزجرها بزيادة الترهيب أفضل.

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته، عن قول الله عز وجل: (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) قال: «هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك فذلك قوله: (تذكروا فإذا هم مبصرون)».

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينه، عن أبي عبيدة الحذاء قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته ومزاده في ليلة ظلماء، فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

* الشرح:

ص:171


1- (1) قوله: «وقيل لا ينتهى إلى القطع» مذهب أهل التحقيق منا أن قبول التوبة تفضل من الله تعالى ولا يرفع استحقاق العقاب عقلا ولا شرعا لكنه تعالى وعد قبول التوبة وإجابة الدعاء كما وعد اخلاف المنفق في سبيل الله خيرا مما أنفق ويوفي بما وعد لأنه كريم فإن ظهر تخلف في موارد نادرة لحكمة ومصلحة أو تأخر قبول التوبة لعظم الذنب كجماعة تابوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم ينزل قبول توبتهم إلا بعد مدة حتى أن أبا لبابة ربط نفسه بأسطوانة مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبقى أياما وبعضهم خرج من المدينة وتوارى في الشعاب والبوادي واستغاث إلى الله تعالى حتى قبلت توبتهم ولو كان قبول التوبة واجبا لم يتأخر عن الندم فكل ذلك يدل على عدم كون الوعد عاما بحيث لا يخرج عنه مورد أصلا ويستأنس لذلك بما ورد من أن الحد لا يسقط بالتوبة بعد الثبوت عند الحاكم ولو كان سقوط العقاب بالتوبة واجبا عقلا واستلزم نفى استحقاق العقاب من أصله لم يكن فرق بين العقوبة الدنيوية والاخروية ولو كان العقاب بعد الندم قبيحا لسقط الحد. ومع ذلك كله فقد تردد المحقق الطوسي رحمه الله في التجريد في وجوب القبول وللنظر والتأمل مجال. (ش)

قوله: (قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته ومزاده في ليلة ظلماء، فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها) الفرح السرور يقارنه الرضا بالمسرور به فالمعنى أن الله سبحانه يرضى توبة العبد أشد مما يرضى الواجد لراحلته الضالة في الليلة الظلماء ومزاده فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومثل هذا الحديث رواه مسلم بطرق متعددة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا وراحلته وزاده» الدوية منسوبة إلى الدو بتشديد الواو وهي البرية التي لانبات فيها.

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله ابن عثمان، عن أبي جميلة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله يحب العبد المفتن التواب ومن لم يكن ذلك منه كان أفضل».

* الأصل:

10 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن محمد بن سنان، عن يوسف [بن] أبي يعقوب بياع الأرز، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزيء».

* الشرح:

قوله: (قال: سمعته يقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزيء) الظاهر أن التشبيه في نفي الذنب لا في التساوي في الدرجة والاستغفار باللسان مع الإصرار على الذنب استهزاء فهو استغفار يحتاج إلى استغفار، أما أنه استهزاء فلانه يظهر ندامته عند الله مع عدمها بقرينة الإقامة على الذنب إذ الندم على الشر يدعو إلى تركه ويظهر أيضا أنه خائف من الله مع عدم الخوف منه وبهذين الوجهين يشبه فعله واستغفاره بالإستهزاء في أنه يشعر ظاهرا بأن مقصوده الحاق الهوان والحقارة به سبحانه ولكنه ليس مستهزئا حقيقة إذ ليس قصده ذلك وإلا لكان كافرا بالله العظيم وليس كذلك لما مر عن الباقر (عليه السلام): «أن المؤمن كلما عاد بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة» ثم الظاهر أن الذنب أعم من أن يكون من نوع واحد أو من أنواع

ص:172

متعددة فلو فعل ذنبا معينا وندم منه استغفر منه ولم يعد إليه، ثم فعل ذنبا آخر وندم واستغفر وهكذا صدق عليه أنه بمنزلة المستهزيء فعلى هذا فيه دلالة على ما ذهب إليه بعض المحققين من أن التوبة إنما تحقق بالندم من جميع الذنوب والاقلاع عنها.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل أوحى إلى داود (عليه السلام) أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، فأتاه داود (عليه السلام) فقال: يا دانيال إنني رسول الله إليك وهو يقول: إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، فقال له دانيال: قد أبلغت يا نبي الله، فلما كان في السحر قام دانيال فناجى ربه فقال: يا رب إن داود نبيك أخبرني عنك أنني قد عصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي وعصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أنني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك لئن لم تعصمني لأعصينك، ثم لأعصينك، ثم لأعصينك».

* الشرح:

قوله: (فوعزتك وجلالك لئن لم تعصمني لأعصينك) فيه مع الإقرار بالتقصير اعتراف بالعجز عن مقاومة النفس وهواها ودفع وساوسها ورداها وتنبيه للغافلين وتحريض للعاصين على التوسل بذيل الإلطاف الإلهية والتوفيقات الربانية فأن ذلك جذاب للهدايات الخاصة الوافية والعنايات التامة الشافية للأمراض القلبية والبدنية وليس للمريض في الدين دواء انفع من هذا على اليقين.

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم، عن جده الحسن بن راشد، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ويوحى [الله] إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله عز وجل حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».

13 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها».

ص:173

باب الاستغفار من الذنب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران، عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن العبد إذا أذنب ذنبا اجل من غدوة إلى الليل فإن استغفر الله لم يكتب عليه».

* الشرح:

قوله: (قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن العبد إذا أذنب ذنبا اجل من غدوة إلى الليل) هذا إذا أذنب غدوة وأجل هذا المقدار من الزمان أن أذنب في غيرها وزمان التأجيل متفاوت بحسب التفاوت في الأشخاص والأزمان والذنوب فلا ينافي هذا رواية سبع ساعات ونحوها، والظاهر أن الكبيرة داخلة في هذا الذنب وإن حقوق الناس خارجة منه، وقد يقال الفرق بين التوبة والاستغفار أن التوبة ترفع اسم الذنوب والاستغفار طلب المغفرة والستر عن الأغيار كيلا يعلمه أحد ولا يكون عليه شاهد.

2 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن أبي أيوب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عمل سيئة اجل فيها سبع ساعات من النهار فإن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم - ثلاث مرات - لم تكتب عليه».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وأبو علي الأشعري، ومحمد بن يحيى، جميعا عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب، عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجله الله سبع ساعات فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه من ساعته».

* الشرح:

قوله: (وإن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه

ص:174

من ساعته) ذكر المؤمن من لطفه تعالى لتخليص المؤمن ونسيان الكافر من سلب لطفه تعالى عنه ليؤاخذه بالكفر والذنب جميعا وحمل الكفر على كفر النعمة وكفر المخالفة بناء على أن كفر الجحود لا ينفع معه التوبة عن الذنب والاستغفار إلا عن الكفر بعيد; لأن الكفر بالمعنيين الأولين يجامع الإيمان أيضا.

* الأصل:

4 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن غير واحد، عن أبان، عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتوب إلى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة، فقلت: أكان يقول: أستغفر الله وأتوب وإليه؟ قال: لا ولكن كان يقول: أتوب إلى الله، قلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوب ولا يعود ونحن نتوب ونعود، فقال: الله المستعان».

* الشرح:

قوله: (قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتوب إلى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة) فيه ترغيب في التوبة لأنه (صلى الله عليه وآله) إذا تاب مع علو رفعته وكمال عصمته بهذا العدد في كل يوم كان الأولى بحال غيره أن لا يترك التوبة في شيء من الأوقات.

(فقلت أكان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟ قال: لا ولكن كان يقول: أتوب إلى الله) الظاهر أنه (عليه السلام) لم يقصد نفي الاستغفار عنه (صلى الله عليه وآله) مطلقا لما سيجيء في باب الاستغفار من كتاب الدعاء أنه (صلى الله عليه وآله) كان لا يقوم من مجلس وإن خف حتى يستغفر الله عز وجل خمسا وعشرين مرة، بل قصد بيان الواقع في هذه القضية وكيفية توبته في كل يوم سبعين مرة فأفاد أنه لم يكن معها استغفار وبالجملة كان (صلى الله عليه وآله) يتوب ويستغفر ولكن لم تكن توبته واستغفاره من الذنوب المنافية للعصمة لأنه عندنا وعند كثير من العامة لم يكن مذنبا أصلا بل من أمر آخر والله أعلم بحقيقة ذلك الأمر وللعلماء فيه كلام مبسوط ومجمل والأحسن ما أفاده صاحب كشف الغمة وتبعه البيضاوي في شرح المصابيح، ونقله الشيخ في الأربعين هو: أن الأنبياء لما كانت قلوبهم مستغرقة بذكر الله ومشغولة بوجه الله ومتعلقة بجلال الله ومتوجهة إلى كمال الله وكانت أتم القلوب صفاء وأكثرها ضياء وأغرقها عرفانا واذعانا وأكملها أيقانا كانوا إذا وأنحطوا عن تلك المرتبة العلية ونزلوا عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتناكح والصحبة مع بنى نوعه وغير ذلك من المباحات أسرعت كدورة ما إليها لكمال رقتها وفرط نورانيتها فإن الشئ كلما كان أرق وانظر كان تأثره بالكدورات أبين وأظهر، فعدوا ذلك ذنبا وخطيئة فتابوا واستغفروا منه، وكما روي: «حسنات

ص:175

الأبرار سيئات المقربين».

وإليه يشير قوله (صلى الله عليه وآله) «ليران؟؟ على قلبي وإني أستغفر بالنهار سبعين مرة» وقيل أراد به تعليم الناس كيفية التوبة والاستغفار من الذنوب وقيل هو محمول على الاعتراف بالعبودية وإن البشر في مظنة التقصير والعجز على أن دفع ذلك عن توبته ظاهر; لأن التوبة في اللغة الرجوع إلى الحق عز شأنه وإن لم يكن من ذنب يقال تاب وآب وأناب إذا رجع إلى الحق.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من عمل سيئة اجل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال:

استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه - ثلاث مرات - لم تكتب عليه».

* الشرح:

قوله: (فإن قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم) المراد به الاستغفار مع الندم على الذنب كما سيأتي ودل عليه أيضا ما مر من إن الاستغفار مع القيام على الذنب استهزاء.

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة بياع الأكسية، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن المؤمن ليذنب الذنب فيذكر بعد عشرين سنة فيستغفر الله منه فيغفر له وإنما يذكره ليغفر له وإن الكافر ليذنب الذنب فينساه من ساعته».

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة، فيقول وهو نادم أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب علي إلا غفرها الله عز وجل له، ولا خير فيمن يقارف في يوم أكثر من أربعين كبيرة».

* الشرح:

قوله: (فيقول وهو نادم) أي فيقول عقب كل كبيرة أو عقب الجميع، وإنما قيد بالندم; لأن الاستغفار بدونه لا أثر له بل يعد استهزاء. وفي قوله:

(ولا خير فيمن يقارف في يوم أكثر من أربعين كبيرة) دلالة على أن المغفرة بالقول المذكور لا تتعلق بالزائد عن الأربعين ولعل السر فيه أن من زاد عليه لعدم مبالاته بالدين خارج عن الإيمان مع

ص:176

احتمال أن يكون هذا الكلام في مقام الوعيد للمبالغة في الزجر.

* الأصل:

8 - عنه، عن عدة من أصحابنا، رفعوه، قالوا: قال: «لكل شيء دواء ودواء الذنوب الاستغفار».

* الشرح:

قوله: (ودواء الذنوب الاستغفار) شبه الذنوب بالداء والمرض المهلك وأثبت لها الدواء على سبيل المكنية والتخييلية وحمل الاستغفار على الدواء من باب حمل المشبه على المشبه به للدلاة على الاتحاد والتعريف للحصر.

9 - أبو علي الأشعري، ومحمد بن يحيى جميعا، عن الحسين بن إسحاق وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن علي بن مهزيار، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان. عن حفص قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما من مؤمن يذنب ذنبا إلا أجله الله عز وجل سبع ساعات من النهار، فإن هو تاب لم يكتب عليه شيء وإن هو لم يفعل كتب [الله] عليه سيئة، فأتاه عباد البصري فقال له: بلغنا أنك قلت: ما من عبد يذنب ذنبا إلا أجله الله عز وجل سبع ساعات من النهار؟ فقال: ليس هكذا قلت ولكني قلت: ما من مؤمن وكذلك كان قولي».

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار ابن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من قال: أستغفر الله مائة مرة في [كل] يوم غفر الله عز وجل له سبعمائة ذنب ولا خير في عبد يذنب في [كل] يوم سبعمائة ذنب».

* الشرح:

قوله: (من قال أستغفر الله مائة مرة في كل يوم غفر الله عز وجل له سبعمائة ذنب) الظاهر أن المجموع يترتب على المجموع فلا يدل على أن من استغفر مائة مرة غفر الله له مائة ذنب، ولا على أن من استغفر خمسين مرة غفر الله له ثلاثمائة وخمسين ذنبا مع احتماله والذنب يشمل الصغيرة والكبيرة والملفق منها. وقوله:

(ولا خير في عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنب) أخبار بشدة عاقبته وسوء حاله وخاتمته إذ قد لا يوفق من له هذه الذنوب الكثيرة للاستغفار والتوبة لكمال غفلته ووغوله في المعاصي ومخالفته.

ص:177

باب «فيما أعطى الله عز وجل آدم (عليه السلام) وقت التوبة»

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (عليهما السلام) قال: «إن آدم (عليه السلام) قال: يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مني مجرى الدم فاجعل لي شيئا. فقال: يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة فإن هو عملها كتبت له عشرا قال: يا رب زدني، قال: جعلت لك إن من عمل منهم سيئة ثم استغفر غفرت له قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتى تبلغ النفس هذه.

قال: يا رب حسبي».

* الشرح:

قوله: (قال إن آدم (عليه السلام) قال: يا رب سلطت على الشيطان أجريته منى مجرى الدم) روى العامة أيضا: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ذهب قوم ممن ينتمي إلى ظاهر العلم إلى أن المراد به أن الشيطان لا يفارق ابن آدم ما دام حيا كما لا يفارقه دمه وحكى هذا عن الأزهري وقال:

هذا على طريق ضرب المثل والجمهور من علماء الامة أجروا ذلك على ظاهره وقالوا: إن الشيطان جعل له هذا القدر من التطرق (1) إلى باطن الآدمي بلطافة هيئته لمحنة الابتلاء ويجري في العروق

ص:178


1- (1) قوله: «جعل له هذا القدر من التطرق» لا ريب في عدم كون الشياطين والجن والملائكة من سنخ العناصر والجسمانيات المحسوسة ويعرف تجرد هذه الموجودات من الصفات الثابتة لهم في الشرع فإن للمجردات صفات وللماديات صفات اخرى ضدها والملاحدة الحاصرون للموجود في المادي يحملون جميع ما ورد في الشياطين والجن والملائكة وأمثالها على المعنى المادي ويستهزؤون بالدين والأنبياء إذ ليس في الماديات شيء بصفات هذه الموجودات ويؤيدهم الظاهريون ويوافقون معهم في كونها مادية ويعتذرون بأجوبة يزيدهم شرا وفسادا واستهزاء، والحق أن الموجود غير منحصر في الجسمانيات ولم يقل أحد من المسلمين أنهم من الأجسام العنصرية وقد ذكرنا قريبا بعض صفات الملائكة مما دل على كونهم مجردات وهي صفات يعتقد بها وبأمثالها المسلمون جميعا. ومما يدل على عدم كون الشيطان جسما عنصريا هذه الرواية فإن تداخل الأجسام محال بالضرورة. قال المحقق الطوسي في التجريد: والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل ولا ريب أن الدم ملاء العروق فإن دخل الشيطان وهو جسم عنصري زادها حجما ودخل في تركيب الدم ويمكن أن يلتزم الظاهريون بأن الشيطان قادر على أن يتصغر كصغر الجرائيم ويتلين كلين الأدهان ويدخل من مسامات الجلد في العروق ويمتزج بالدم ثم يتعظم وينبسط في جميع العروق ويصير إلى القلب والرأس ويغير مزاج الأعضاء ويؤثر في إرادة الإنسان الشر كما يؤثر الأشربة المسكرة، ويستهزء الملاحدة من هذه الاعتذارات أشد من استهزائهم بأصل الإعتقاد وبدن المؤمن والفاسق متساويان في قبول نفوذ الأجسام اللطيفة فكيف يسد مسامات المؤمن من نفوذ جسم الشيطان اللين دون الادهان والجراثيم ودون مسامات الفاسق، أيضا كيف يدخل الشيطان من الأبواب المسدودة من غير خرق وكيف يتحرك في الهواء من غير أن يظهر أثر ترجرج واضطراب فيه وأمثال ذلك والجواب عن جميع ذلك أنكم غلطتم واشتبه عليكم الجسم المادي بالموجود المجرد وأول ما يجب على المؤمن الإيمان بعالم الغيب المقابل لعالم الشهادة أي بالموجود المجرد المقابل للمادي وقد فتح الله تعالى كتابه العزيز بعد الخطبة أعنى سورة الفاتحة بقوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقن الذين يؤمنون بالغيب) فالشرط الأول للمسلم الإيمان بالمجردات ولا يتعقل الإسلام من الرجل المادي فكما بالغيب أن علوم العلماء لا توجد محسوسة في تضاعيف دماغهم مع وجودها حقيقة لترتب آثار الوجود عليها كذلك يوجد الشيطان في العروق من غير أن توجد محسوسة بأي وجه فرض والله الهادي وما قال الأزهري أنه على طريق ضرب المثل فله وجه ضعيف والأصح ما ذكرناه وليكن هذا أصلا بيدك كلما سمعته في الروايات والأخبار والآيات من ألفاظ دالة على التجسم ثم رأيت صفات بخلاف صفات الأجسام العنصرية بحيث يستحيل اتصاف الجسم العنصري بتلك الصفات فأعلم أنه من المجردات أو الأجسام المثالية البرزخية ولا تصر على اثبات شيء ينفر الناس من الدين والأنبياء والكتب السماوية ولو اسلم الناس كلهم وأقروا بما ورد وأحالوا علمه إلى الله تعالى كان أولى وأقوم لكن بعد أن تعمقوا وأثاروا الشبه فالواجب ابداء الوجه الصحيح لأهل النظر وإحالة العامة على الإيمان بواقع معنا كما كان عليه السلف. (ش)

التي هي مجاري الدم من الآدمي إلى أن يصل إلى قلبه فيوسوسه على حسب ضعف إيمان العبد وقلة ذكره وكثرة غفلته ويبعد عنه ويقل تسلطه وسلوكه إلى باطنه بمقدار قوة إيمانه ويقظته ودوام ذكره وإخلاص توحيده وما رواه المفسرون عن ابن عباس قال: «إن الله جعل الشياطين من بني آدم مجري الدم وصدور بني آدم مساكن لهم» مؤيد لما ذهب إليه الجمهور وهم يسمون وسوسته لمة الشيطان ومن ألطافه تعالى أنه هيأ ذوات الملائكة على ذلك الوصف من أهل لطافتهم وأعطاهم قوة الحفظ لبني آدم وقوة الإلهام في بواطنهم وتلقين الخير لهم في مقابله لمة الشيطان كما روي أن للملك لمة بابن آدم للشيطان لمة، لمة الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليحمد الله ولمة الشيطان ايعاد بالشر وتكذيب بالحق فمن وجد من ذلك شيئا فليستعذ بالله من الشيطان وقالوا: إنما ينكر مثل هذا عقول اسراء العادات الذين استولت عليهم المألوفات فما لم يجدوا في مستقر عاداتهم أنكروه كما أنكر الكفار احياء العظام النخرة وإعادة الأجسام البالية والذي يجب هو التسليم بما نطق به الخبر الصريح ولا يأباه العقل الصحيح، (قال: جعلت لهم التوبة - أو قال بسطت لهم التوبة - حتى تبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي) النفس بالتحريك ما يخرج

ص:179

من الحي عند التنفس وبالسكون الروح والمقصود أن باب التوبة مفتوح إلى أن تبلغ النفس الحلقوم وتتحق الغرغرة فإذا بلغت هذه فلا توبة لأنه وقت المعاينة والتوبة إنما يكون في حال الغيب وإنما قال آدم (عليه السلام): حسبي لعلمه بأن أكثر أولاده إلا من أخذت يده الشقاوة الأبدية تدركهم الرحمة الواسعة وتدخلهم في باب التوبة ولو كان شيء أنفع لأولاده من هذه النعمة المبسوطة لطلبه، ومن طريق العامة: «إن إبليس بعد ما صار ملعونا وأنظر قال بعزتك لا أخرج عن قلب ابن آدم ما دام الروح في بدنه فقال الله تبارك وتعال بعزتي لا أسد باب التوبة عليه ما دام الروح في بدنه».

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال:

إن الجمعة لكثير من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال: إن يوما لكثير من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته».

* الشرح:

قوله: (من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته) قال الشيخ في الأربعين: المراد بقبول التوبة اسقاط العقاب المترتب على الذنب الذي تاب منه وسقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الإسلام وإنما الخلاف فيه أنه هل يجب على الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه ورحمة بعباده، المعتزلة على الأول والأشاعرة على الثاني وإليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي (قدس سره) في كتاب الإقتصاد والعلامة جمال الملة والدين (رحمه الله) في بعض كتبه الكلامية وتوقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد، ومختار الشيخين هو الظاهر، دليل الوجوب مدخول (من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته) أي قبل أن يرى ملك الموت أو رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ويمكن أن يراد بالمعاينة علمه بحصول الموت وقطعه الطمع من الحياة والظاهر أن المرض المهلك ليس من باب المعاينة; لأن الموت معه ليس بمتحقق قطعا وكأنه (صلى الله عليه وآله) أتى بالتفصيل المذكور ولم يذكر أولا ما ذكره آخرا للإشارة إلى تفضيل مراتب التوبة بعضها على بعض، ووجوبها فورى عند العلماء وفي تسويفها خطر عظيم لإمكان أن يأتيه الموت بغتة فلا يوفق للتوبة ولان ظلمة الذنوب قد يتراكم على قلبه إلى أن تصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو بعد ذلك قطعا.

ص:180

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم تكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة».

* الشرح:

قوله: (إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم تكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة) لأن العالم لما ترك مقتضى علمه إلى هذا الوقت لا عذر له فلا مساهلة معه بخلاف الجاهل فإن توبته تقبل حينئذ لوقوع المساهلة معه في كثير من الامور وقبول توبته في هذا الوقت من جملتها وإليه يشير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما)، وقيل المراد بالعالم العالم بموته وبالجاهل الجاهل بموته.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن معاوية ابن وهب قال: خرجنا إلى مكة ومعنا شيخ متأله متعبد [لا يعرف هذا الأمر] يتم الصلاة في الطريق ومعه ابن أخ له مسلم، فمرض الشيخ فقلت لابن أخيه: لو عرضت هذا الأمر على عمك لعل الله أن يخلصه، فقال كلهم: دعوا الشيخ حتى يموت على حاله فإنه حسن الهيئة فلم يصبر ابن أخيه حتى قال له: يا عم إن الناس ارتدوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا نفرا يسيرا وكان لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) من الطاعة ما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان بعد رسول الله الحق والطاعة له، قال: فتنفس الشيخ وشهق وقال: أنا على هذا وخرجت نفسه. فدخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فعرض علي بن السري هذا الكلام على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «هو رجل من أهل الجنة، قال له علي بن السري: إنه لم يعرف شيئا من هذا غير ساعته تلك؟ قال: فتريدون منه ماذا؟ قد دخل والله الجنة».

* الشرح:

قوله: (فإنه حسن الهيئة) تعليل لقوله لعل الله أن يخلصه وتوسط كلام الغير لا ينافي الاتصال، والهيئة صورة الشيء وشكله، والمراد بحسن هيئته كونه ملتزما لسمت واحد وصفة مستحسنة شرعا وعقلا (فتنفس الشيخ وشهق) تنفس أدخل النفس إلى باطنه وأخرجه، وشهق من بابي منع وضرب شهيقا ردد نفسه مع سماع صوته من حلقه (قال: فتريدون منه ماذا؟ قد دخل والله الجنة) يعني ماذا تريدون منه أتريدون منه الأعمال والأعمال ساقطة عنه مكفرة بالتوبة أم تريدون منه الإقرار والإيمان وقد أقر وآمن فدخل الجنة.

ص:181

باب اللمم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد ابن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أرأيت قول الله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: «هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد».

* الشرح:

قوله: (قال: قلت له: أرأيت قول الله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم)) قال المفسرون: الكبائر ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب الوعيد عليه بخصوصه أو ما يوجب الحد مثل الزنا والسرقة ونحوها واضافتها إلى الاثم إضافة النوع إلى الجنس; لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر والفواحش ما يزيد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله وحده وذكرها بعد الكبائر للتنبيه على زيادة قبحها واللمم بفتحتين ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر والاستثناء منقطع أو «إلا» صفة بمعني غير، ولما كان سؤال السائل عن تفسير اللمم أشار (عليه السلام) إليه بقوله: (هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد) ألم فلان بالذنب إذا فعله ولعل المراد أن ذنب صغير يفعله الرجل فيمكث ما شاء الله ويتركه ثم يلم به بعد ذلك ويفعله فإن الله تعالى يغفر له باجتناب الكبائر ويكفره به كما يكفر الكبائر بالتوبة.

* الأصل:

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت له: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: «الهنة بعد الهنة أي الذنب بعد الذنب يلم به العبد».

* الشرح:

قوله: (قال الهنة بعد الهنة أي الذنب بعد الذنب يلم به العبد) أي ينزل به بعد فعله مع توسط الترك كما مر والهن والهنة بتخفيف النون وتشديدها كناية عن كل شيء ذكره باسمه قبيح مثل الفرج ونحوه وهي هنا كناية عن الذنب كما وقع التفسير به، ولعل التفسير من المعصوم مع احتمال أن يكون من غيره والله أعلم.

ص:182

3 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما من مؤمن إلا وله ذنب يهجره زمانا ثم يلم به وذلك قول الله عز وجل: (إلا اللمم) وسألته عن قول الله عزو جل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال:

الفواحش الزنا والسرقة، واللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه».

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحارث بن بهرام عن عمرو بن جميع قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): «من جاءنا يلتمس الفقه والقرآن وتفسيره فدعوه ومن جاءنا يبدي عورة قد سترها الله فنحوه، فقال له رجل من القوم: جعلت فداك والله إنني لمقيم على ذنب منذ دهر، اريد أن أتحول عنه إلى غيره فما أقدر عليه، فقال له: إن كنت صادقا فان الله يحبك وما يمنعه أن ينقلك منه إلى غيره إلا لكي تخافه».

* الشرح:

قوله: (ومن جاءنا يبدي عورة قد سترها الله فنحوه) قد أمر (عليه السلام) أصحابه الذين من أهل التفرس أن يمنعوا من الدخول عليه من هو من أهل الإذاعة والابداء لأنه أصلح له ولهم ويندرج فيه ابداء أحاديثهم لغير أهلها وإذاعة أمرهم إلى أهل الجور واظهار سرهم الذي ستره الله تعالى وأمر باستتاره حفظا له ولشيعته من أعدائهم لشدة الخوف والتقية منهم وقد أشار (عليه السلام) إلى أن صدور الذنب من المؤمن مبنى على المصلحة له بقوله (إن كنت صادقا فإن الله يحبك - إلى آخره) محبة الله لعبده عبارة عن إيصال الخير إليه أو إرادة ايصاله فإذا علم الله تعالى أن عبدا من عباده يغتر بترك الذنوب ويعجب بكثرة الطاعة ولزوم الانقياد ويخرج نفسه عن حد التقصير والخوف منه يبتليه ببعض الذنوب وذلك لطف منه ورحمة على عبده لكي يخافه ويرجع إليه ويعترف بتقصيره، وهذا من أحسن الحالات للإنسان ولو لا هذا المصلحة لم يذنب مؤمن قط، ومنه يفهم أن الذنب خير من العجب والله المستعان.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى [عن حريز] عن إسحاق ابن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما من ذنب إلا وقد طبع عليه عبد مؤمن يهجره الزمان ثم يلم به وهو قول الله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم)، قال: اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته، أي من طبيعته».

ص:183

* الشرح:

قوله: (ما من ذنب إلا وقد طبع عليه عبد مؤمن - إلى آخره) الطبع على الشيء الختم عليه وهو مستلزم لمنع دخول شيء فيه، ولعل المراد أن المؤمن ممنوع من الدخول في الذنب زمانا على سبيل الكناية ثم يلم به لمصلحة وأما حمله أن المؤمن خلق عليه بمعنى أنه مقتضى طبعه وسجيته فينافيه آخر هذا الحديث والحديث الذي بعده فليتأمل.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن المؤمن لا يكون سجيته الكذب والبخل والفجور وربما ألم من ذلك شيئا لا يدوم عليه. قيل: فيزني؟ قال: نعم ولكن لا يولد له من تلك النطفة».

* الشرح:

قوله: (وربما ألم من ذلك شيئا لا يدوم عليه) عدم دوامه دليل على أنه ليس من طبيعته; لأن مقتضى الطبيعة لا ينفك عنها وأيضا طبيعته الطيبة من طينة الجنة والروحانية المربية لها من روح الله وليس شيء منهما مقتضيا للذنب والمخالفة وإنما هو لامور خارجة عنهما ولحكمة مقتضية له (قيل فيزني؟ قال نعم ولكن لا يولد له من تلك النطفة) لعل المراد أن المتولد من تلك النطفة لا يكون ولدا له ولا يلحق به شرعا لا أنه لا يتولد منها ولد فإنه خلاف الواقع، وهنا احتمال بعيد وهو أنه لا يولد للمؤمن من تلك النطفة لأنه ليس بمؤمن حين يزنى فيكون إشارة إلى سلب الإيمان عنه حين الزنا.

ص:184

باب في أن الذنوب ثلاثة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن حماد، عن بعض أصحابه رفعه قال: صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إن الذنوب ثلاثة ثم أمسك فقال له حبة العرني: يا أمير المؤمنين قلت: الذنوب ثلاثة ثم أمسكت، فقال: ما ذكرتها إلا وأنا اريد أن أفسرها ولكن عرض لي بهر حال بيني وبين الكلام نعم الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه، قال: يا أمير المؤمنين فبينها لنا، قال: نعم أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذنب الذي لا يغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسما على نفسه، فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف ولو مسحة بكف ولو نطحة ما بين القرناء إلى الجماء فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد على أحد مظلمة ثم يبعثهم للحساب، وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على خلقه ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب» .

* الشرح:

قوله: (إن الذنوب ثلاثة) وجه الحصر أن الذنب أما للتقصير في حق الله أو في حق الناس والأول أما أن يرفع عن العبد العقوبة الدنيوية بالتوبة أو لا فهذه ثلاثة وأما الذنب الذي لا عقوبة عليه في الدنيا ولم يتب منه، فالظاهر أنه داخل في القسم الثالث وحكمه حكمه وإن كان الخوف منه أشد (ولكن عرض لي بهر) هو انقطاع النفس من الأعياء (أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه) دخل على أن المحدود على الذنوب كلها باي حد كان وإن كان لأمر مشترك مغفور وأما المعاقب بالأمراض فالظاهر أنه أيضا داخل فيه والعلة مشتركة (إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه) أي ظهر أمره وحكمه لطلب الحقوق منهم (أقسم قسما على نفسه فقال وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف ولو مسحه بكف ولو نطحه ما بين القرناء إلى الجماء فيقتص للبعاد بعضهم من بعض) أي فيأخذ بعض ثواب بعض ويأخذ بعض عقاب بعض وهذا إذا لم يعف عن صاحبه وقد روي أنه عز وجل يطلب منهم العفو ويعد لمن عفى أجرا جزيلا حتى يعفو الأكثر طلبا لما

ص:185

عنده تعالى ثم ظاهر هذا الخبر وظاهر قوله تعالى (وإذا الوحوش حشرت) وظاهر ما في مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «ليؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» يفيد وقوع حشر الوحوش يوم القيامة والشاة الجلحاء التي لا قرن لها وكذا الجماء مؤنث الاجم وصرح بعض المفسرين (1) في تفسير الآية بحشر الوحوش وقيل المراد إذا الوحوش جمعت من أطراف الأرض، وقيل اميتت.

قال عياض: اضطرب العلماء في بعث البهائم وأقوى ما تعلق به من يقول ببعثها قوله تعالى (وإذا الوحوش حشرت) وأجاب الآخر بأن معنى حشرت ماتت، قال والأحاديث الواردة في بعثها آحاد تفيد الظن والمطلوب في المسألة القطع، وحمل البعض القود المذكور في الحديث على أنه ليس حقيقة وإنما هو ضرب مثل اعلاما للخلق بأنها دار جزاء لا يبقى فيها حق عند أحد، ثم قال: ويصح عندي أن يخلق الله تعالى هذه الحركة للبهائم يوم القيامة ليشعر أهل المحشر بما هم صائرون إليه من العدل وسمى ذلك قصاصا لا أنه قصاص تكليف ومجازاة ومن توقف في بعثها إنما توقف في القطع بذلك ما يقطع ببعث المكلفين والأحاديث الواردة ليست نصوصا ولا متواترة وليست المسئلة عملية حتى يكتفي فيها بالظن (2) والأظهر حشر المخلوقات كلها بمجموع ظواهر الآي والأحاديث وليس من شرط الإعادة المجازاة بعقاب أو ثواب للإجماع على أن أولاد الأنبياء (عليهم السلام) في الجنة ولا مجازاة على الأطفال، واختلف في أولاد من سواهم اختلافا كثيرا انتهى.

ص:186


1- (1) قوله: «وصرح بعض المفسرين» أورد العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول كلام الشارح هنا بعين عباراته وكذلك كل تحقيق أنيق ونكتة طريفة تجلب النظر هنا توجد في المرآة في هذه الأبواب وما أجمله الشارح اعتمادا على القارئين وإحالة لهم على مظانه فصله ليرفع عنهم الفحص ويسهل عليهم الأمر ومنه قول الشارح بعض المفسرين مجملا وفصله العلامة المجلسي (رحمه الله) فاورد كلام الطبرسي والرازي. ثم نقل كلام الشارح من قوله قال عياض إلى آخره وأورد بدل عياض بعض شراح صحيح مسلم (ش).
2- (2) قوله: «وليست المسألة عملية حتى يكتفى فيها بالظن» الاكتفاء في المسألة العملية بالظن أيضا غير معقول إلا أن يقوم دليل علمي على حجية الظن وحينئذ فالإعتماد على العلم لا على الظن ولا يخفى أن في المسائل الاعتقادية أو العملية إذا حصل من الأدلة والإمارات ظن بشيء لم يمكن لأحد سلب الظن عن قلبه، فإنه يحصل بغير اختياره، ولا يعقل أن يأمره الشارع بأن يعتقد خلاف ظنه أو يعلم قطعا صحة ظنه ومطابقته للواقع يقينا، ولكن يعقل أنى يأمره بالعمل مع ظنه عمل من يعلم بصحته أو يعلم ببطلانه ولذلك قالوا يكتفي في المسائل العملية بالظن دون الاعتقادية، فتبين من ذلك أن قيام الدليل العلمي على حجية الظن في الإعتقادات غير معقول فإن الظن لا يتغير ماهيته ولا يصير علما ولا شكا ولا مطلوب في الإعتقاديات إلا حصول نفس الإعتقاد بخلاف العمليات فإن المطلوب فيها ترتيب آثار الإعقتاد ولا مانع من قيام الدليل العلمي على ترتيب آثار اليقين على الظن تشريعا ولكن لا يعقل قيام الدليل العلمي على كون الظن علما تكوينا (ش).

وقال القرطبي: حمل بعضهم الحديث على ظاهره لأنه قال يؤتى يوم القيامة بالبهائم فيقال لها كونى ترابا بعد ما يقاد للجماء من القرناء وحينئذ (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا) يدل على أنها ضرب مثل ما جاء في بعض الروايات من الزيادة في هذا الحديث (يريد الحديث الذي نقله مسلم) قال: حتى يقاد من القرناء وللحجر ما ركب على حجر وللعود لم خدش العود لأن الجمادات لا تعقل كلاما (1) فلا ثواب ولا عقاب لها وهو في التمثيل مثل قوله تعالى: (ولو أن قرآنا) الآية وقوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن) الآية وقال الآبي: المسائل العلمية التي لا ترجع للذات ولا للصفات كهذه يصح التمسك فيها به بالآحاد والاستدلال بمجموع ظواهر الآي والأحاديث يرجع إلى التواتر المعنوي والاختلاف فيمن سوى أولاد الأنبياء (عليهم السلام) إنما هو في محلهم بعد البعث لا في بعثهم كذا أظنه توقف الأشعري في بعث المجانين ومن لم يبلغه الدعوة فجوز أن يبعثوا وجوز أن لا يبعثوا ولم يرد عنه قاطع في ذلك، ثم قال: لا معنى لتوقفه; لأن ظاهر الآي والأحاديث بعث الجميع والمسئلة علمية لا ترجع للذات ولا للصفات فيصح التمسك فيها بالآحاد كما تقدم أو يقال مجموع الآي والأحاديث يفيد التواتر المعنوي كما تقدم انتهى.

(وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على خلقه ورزقه التوبة منه فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربه - إلى آخره) لما كانت التوبة أيضا عملا وقبول الأعمال غير متيقن لم يحصل له القطع بالتخلص من العقوبة بعد التوبة كما لم يحصل له القطع بالتخلص منها بالأعمال فلذلك كان التائب بين الخوف والرجاء، وما ورد من أن التائب مغفور وأن الله تعالى لا يعذبه فالمراد منه أنه تعالى إذا قبل توبة عبد لا يعذبه، ولله أعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن بكير، عن زرارة عن حمران، قال:

سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل اقيم عليه الحد في الرجم أيعاقب [عليه] في الآخرة؟ قال: «إن الله

ص:187


1- (1) قوله: «; لأن الجمادات لا تعقل» لا ينافي ذلك ثبوت الاعواض للحيوانات إذ كما أن مقتضى العدل الإلهي إثابة المطيع كذلك مقتضاه تعويض الآلام عند أهل العدم نعم لا تختص الأعواض بعالم الآخرة والحق أن القيامة وما بعدها من الأسرار الغيبية الإلهية التي لا طريق لنا إليها وإنا لا نعلم منها إلا ما ورد من الشرع، والبزخ وإن كان كذلك لكنه أقرب إلينا ويمكننا تصور شيء منه بالتقريب وجماعة من الحكماء الإسلاميين أثبتوا تجرد نفوس الحيوان نوع تجرد ولأن بقاء النفوس فرع تجردها أثبتوا حشر الحيوانات ولكن العارف بطريقتهم يعلم أن ما ذكروه خاص بالبرزخ ولم يذكروا بعد إثبات الحشر في القيامة حتى بالنسبة إلى الإنسان تفصيلا شافيا فما ثبت يقينا من الشرع وجب التصديق به وما لم يثبت فلا طريق لنا إليه قال تعالى: (يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها فيم أنت من ذكريها إلى ربك منتهاها) (ش).

أكرم من ذلك».

* الشرح:

قوله: (قال: إن الله أكرم من ذلك) من جرى عليه الحد غفر له قطعا وإن دفعه بالتوبة قبل لزومه غفر له أيضا إن قبلت توبته ووقعت شرائطها ولكن قبولها غير متيقن ولذلك كان التائب بين الخوف والرجاء إلى أن يعلم مآل حاله.

ص:188

باب تعجيل عقوبة الذنب

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن حمزة بن حمران، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة فإن لم يفعل به ذلك شدد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، قال: وإذا كان من أمره أن يهين عبدا وله عنده حسنة صحح بدنه، فإن لم يفعل به ذلك وسع عليه في رزقه، فإن هو لم يفعل ذلك به هون عليه الموت ليكافيه بتلك الحسنة».

* الشرح:

قوله: (قال: إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة فإن لم يفعل به ذلك شدد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب) وفي رواية:

«إن بقي عليه ذنب يكافيه بضغطة القبر وقد يجتمع الأثنان والثلاثة والأربعة أن عظم الذنب بحيث لا يكفره أحد» وفيه دلالة واضحة على أن المؤمن لا يعذب في الآخرة إلا أن يقال قد يبقي الذنب لا يكفره شيء من الأربعة أو يخصص الذنب بالتقصير في حق الله تعالى.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن الحكم بن عتيبة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ابتلاه بالحزن ليكفرها».

* الشرح:

قوله: (ابتلاه بالحزن ليكفرها) أما بالسقم أو بالحاجة أو بفوات المال والولد أو بغيرها من الأسباب المعلومة وغير المعلومة.

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا اريد أن أرحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده وإما بضيق في

ص:189

رزقه وإما بخوف في دنياه فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت، وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا اريد أن اعذبه حتى اوفيه كل حسنة عملها إما بسعة في رزقه وإما بصحة في جسمه وإما بأمن في دنياه فإن بقيت عليه بقية هونت عليه بها الموت».

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن هشام ابن سالم، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن المؤمن ليهول عليه في نومه فيغفر له ذنوبه وإنه ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه».

* الشرح:

قوله: (إن المؤمن ليهول عليه في نومه فيغفر له ذنوبه وإنه ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه) إذا كان الخوف الخيالي والحزن المثالي موجبان للمغفرة فكيف المتحقق منهما ومنه يتأكد أمر الرجاء، وفي بعض النسخ «ليمهن» من أمهنته أي أضعفته وفي كنز اللغة الإمتهان ضعيف كردن.

5 - علي بن إبراهيم; عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن السري بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد سوءا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة».

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير): ليس من إلتواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب ولما يعفو الله أكثر، فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيا فإن الله أجل وأكرم وأعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة».

* الشرح:

قوله: (ليس من إلتواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب) نكبته الحجارة نكبا لثمته أي أصابته وأدمته، وفيه دلالة على أن أمثال هذه المصائب إنما تكون من أجل ذنب لتكون كفارة عنه وإن الله تعالى يعفو أكثر الذنوب تفضلا بدون إيصال تلك المصائب أو المراد أنه يبقى على المؤمن بعد تلك المصائب أكثر الذنوب والله سبحانه يعفو عنه تفضلا.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن العباس بن موسى الوراق عن علي

ص:190

الأحمسي، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنبا».

8 - عنه، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن أبي عمير، عن الحارث بن بهرام، عن عمرو بن جميع قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب عليه».

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي الأحمسي عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له من ذنب».

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: ما من عبد اريد أن ادخله الجنة إلا إبتليته في جسده، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه وإلا شددت عليه عند موته حتى يأتيني ولا ذنب له، ثم ادخله الجنة وما من عبد اريد أن ادخله النار إلا صححت له جسمه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا آمنت خوفه من سلطانه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا وسعت عليه في رزقه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا هونت عليه موته حتى يأتيني ولا حسنة له عندي ثم ادخله النار».

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن اورمة، عن النضر بن سويد عن درست ابن أبي منصور، عن ابن مسكان، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مر نبي من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج منه قد شعثته الطير ومزقته الكلاب، ثم مضى فرفعت له مدينة فدخلها فإذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجا بالديباج حوله المجمر فقال: يا رب أشهد أنك حكم عدل لا تجور، هذا عبدك لم يشرك بك طرفة عين أمته بتلك الميتة وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمته بهذه الميتة! فقال: عبدي: أنا كما قلت حكم عدل لا أجور، ذلك عبدي كانت له عندي سيئة أو ذنب أمته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبق عليه شيء وهذا عبدي كانت له [عندي] حسنة فأمته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي حسنة».

* الشرح:

قوله: (فقال: عبدي: أنا كما قلت حكم عدل لا أجور، ذلك عبدي كانت له عندي سيئة أو ذنب

ص:191

إلى آخره) الترديد من الراوي وفيه دلالة على أن رفع السيئات والحسنات لا يختص بالابتلاء والإكرام في حال الحياة بل يكون بالاعزاز وعدمه بعد الموت أيضا.

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي الصباح الكناني قال:

كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه شيخ فقال: يا أبا عبد الله أشكو إليك ولدي وعقوقهم وإخواني وجفاهم عند كبر سني، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا هذا إن للحق دولة وللباطل دولة وكل واحد منهما في دولة صاحبه ذليل وإن أدنى ما يصيب المؤمن في دولة الباطل العقوق من ولده والجفاء من إخوانه، وما من مؤمن يصيبه شيء من الرفاهية في دولة الباطل إلا ابتلي قبل موته، إما في بدنه وإما في ولده وإما في ماله حتى يخلصه الله مما اكتسب في دولة الباطل ويوفر له حظه في دولة الحق. فأصبر وأبشر».

* الشرح:

قوله: (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هذا إن للحق دولة وللباطل دولة وكل واحد منهما في دولة صاحبه ذليل إلى آخره) الحق والباطل مثل كفتى ميزان رفع أحدهما موجب لوضع الآخر وبالعكس، فإذا كانت الدولة دولة الباطل كان الباطل رفيعا وأهله عزيزا وكان الحق وضيعا وأهله ذليلا وإذا كانت الدولة ودلة الحق كان الأمر بالعكس، ثم إنه يصيب المؤمن في دولة الباطل مصائب كثيرة أدناها ما ذكر، كل ذلك لظهور الباطل وخفاء الحق وإن أصاب المؤمن في دولة الباطل رفاهية في العيش وسعة في الرزق وفراغ للخاطر فإنما هو غالبا لمماشاته مع أهل الباطل ومجاراته معهم ولو فرض عدم ذلك فلا شبهة في وقع التشابه بينه وبينهم ومن تشبه بقوم فهو منهم فلذلك كانت له سيئة يتخلص منها بالابتلاء قبل الموت ولما كان السائل في دولة الباطل وانتفت عنه الرفاهية أمره (عليه السلام) بالصبر على المصائب اللازمة في دولة الباطل وبشره بما أعد الله للصابرين.

ص:192

باب في تفسير الذنوب

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن العباس بن العلاء، عن مجاهد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الذنوب التي تغير النعم البغي والذنوب التي تورث الندم القتل، والتي تنزل النقم والظلم، والتي تهتك الستر شرب الخمر، والتي تحبس الرزق الزنا، والتي تعجل الفناء قطيعة الرحم، والتي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين».

* الشرح:

قوله: (قال الذنوب التي تغير النعم البغي) أي البغي على الإمام العارف العادل أو على الناس أو السعي بالفساد بينهم أو فجور المرأة وكل ذلك يوجب فساد النظام وزوال الرفاهية وتغير النعم وذهاب الراحة، ونقل صاحب العدة عن سيد العابدين (عليه السلام) أنه قال: «الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وقال أيضا: «الذنوب التي تزيل النعم عصيان العارف والتطاول على الناس والاستهزاء والسخرية منهم» (والذنوب التي تورث الندم القتل) فإنه يورث الندامة في الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى في قابيل حين قتل أخاه هابيل: (فأصبح من النادمين) والندامة الاخروية ظاهرة لمشاهدة الخلود في النار وشدة العقوبة وليست ندامة غيره من المعاصي مثل ندامته حيث كان الندامة منحصرة فيه (والتي تنزل النقم الظلم) الظلم على عباد الله يوجب نزول عقوبته ولزوم نقمته على الظالم ولو بعد حين وقد خرب الله تعالى ديار الظالمين وأفنى أولادهم وأموالهم كما هو معلوم من أحوال فرعون وهامان وأحوال بني امية وبني عباس وغيرهم من المشهورين بالظلم وهذه عقوبة دنيوية وأما الاخروية فمعدة لهم لا يعلم قدرها إلا هو (والتي تهتك الستر شرب الخمر) لأن الله تعالى يكشف الغطاء عن الأفعال القبيحة لشارب الخمر ويزيل الحياء عنه فلا يرى قبح شيء من الأشياء ولا يبالي بأقبح الأعمال ومن كان بهذه الصفة فهو حرى بأن يهتك ستره عند المقربين ويظهر عيبه عند الخلائق أجمعين (والتي تحبس الرزق الزنا) لأن قوة الباه من كثرة الرزق ولذلك يضعف بالصوم ونحوه من الرياضات النفسانية فالزاني إذا صرف قوته في غير محله استحق

ص:193

أن يحبس عنه الرزق (والتي تعجل الفناء قطعية الرحم) قد مر تحقيق ذلك في باب صلة الرحم وقطعها (والتي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين) الهواء الفضاء بين الأرض والسماء وأظلام العقوق له مبالغة في ظلمة العقوق وقبحه، ولا يبعد أن يجعل كناية عن أنه يمنع القلب عن إدراك الحق.

وأما أنه يرد الدعاء فلان قبول الدعاء منوط برضاء الله المنوط برضاء الوالدين فإذا تحقق العقوق انتفى جميع ذلك فينتفى القبول، ولا ينافي ذلك ما روى من أن الله تعالى يقبل دعاء العدو والفاسق سريعا كراهة لسماع صوتهما; لأن هذا ليس بكلى على أنه يمكن أن يخصص بغير العقوق.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان أبي (عليه السلام) يقول: «نعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء وتقرب الآجال وتخلي الديار وهي قطيعة الرحم والعقوق وترك البر».

* الشرح:

قوله: (نعوذ بالله من الذنوب التي تعجل الفناء وتقرب الآجال وتخلي الديار وهي قطيعة الرحم والعقوق وترك البر) الظاهر على أن النشر على ترتيب اللف، ويحتمل تعلق كل واحد بكل واحد، ولعل المراد بالبر بر الوالدين ويحتمل الأعم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أيوب بن نوح - أو بعض أصحابه عن أيوب - عن صفوان بن يحيى قال:

حدثني بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا فشا أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة، وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر، وإذا خفرت الذمة اديل لأهل الشرك من أهل الإسلام، وإذا منعوا الزكاة ظهرت الحاجة».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا فشا أربعة ظهرت أربعة) فيه تنبيه على أن للذنوب والأعمال الخارجة عن أوامر الله تعالى تأثيرا في دفع الرحمة وسر ذلك أن الجود الإلهي لا بخل فيه ولا منع من قبله وإنما ذلك بحسب عدم الاستعداد الكسبي وقلته وكثرته وظاهر أن المقبلين إلى الدنيا وشهواتها المرتكبين لمحارم الله معرضون عنه غير مقبلين لآثار رحمته بل مستعدون لضد ذلك أعنى سخطه وعذابه بحسب استعدادهم بالإنهماك في محارمه والجور عن سبيل وحرى بمن كان كذلك أن لا تناله البركة ولا تفاض عليه الرحمة (وإذا اخفرت الذمة اديل لأهل الشرك من أهل

ص:194

الإسلام) الاخفار نقض العهد والأدالة النصرة والغلبة يقال اديل لنا على أعدائنا أي نصرنا عليهم وصارت الغلبة لنا والمقصود أن المشركين يغلبون على أهل الإسلام (وإذا منعوا الزكاة ظهرت الحاجة) أي حاجة الفقراء أو حاجة الأغنياء أيضا; لأن الزكاة سبب لبقاء المال ونموه فإذا منعوها تلفت أموالهم.

باب نادر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد العزيز العبدي، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قال الله عز وجل: إن العبد من عبيدي المؤمنين ليذنب الذنب العظيم مما يستوجب به عقوبتي في الدنيا والآخرة فأنظر له فيما فيه صلاحه في آخرته فاعجل له العقوبة عليه في الدنيا لاجازية بذلك الذنب واقدر عقوبة ذلك الذنب وأقضيه وأتركه عليه موقوفا غير ممضى ولي في إمضائه المشية وما يعلم عبدي به فأتردد في ذلك مرارا على إمضائه ثم امسك عنه فلا امضيه كراهة لمساءته وحيدا عن إدخال المكروه عليه فأتطول عليه بالعفو عنه والصفح، محبة لمكافاته لكثير نوافله التي يتقرب بها إلي في ليله ونهاره فأصرف ذلك البلاء عنه وقد قدرته وقضيته وتركته موقوفا ولي في إمضائه المشية: ثم أكتب له عظيم أجر نزول ذلك البلاء وأدخره واوفر له أجره ولم يشعر به ولم يصل إليه أذاه وأنا الله الكريم الرؤوف الرحيم».

* الشرح:

قوله: (قال الله عز وجل: إن العبد من عبيدي المؤمنين ليذنب الذنب العظيم مما يستوجب به عقوبتي في الدنيا والآخرة فأنظر له فيما فيه صلاحه في آخرته... إلى آخره) هو جعله خالصا مما يوجب عقوبته في الآخرة بإبتلائه في الدنيا ليكون كفارة لذنبه وهو مع كونه مستحقا له رفع الله عنه ذلك البلاء تفضلا ونظرا إلى بعض نوافله فعفى عن ذنبه في الدنيا والآخرة وقوله: (فأعجل له العقوبة) إشارة إلى إرادة تعجيل العقوبة الدنيوية وتقديرها وقضائها ليكون جزاء لذلك الذنب وكفارة له ثم إنه بعد القضاء جعله موقوفا على الإمضاء إذ لا يوجد شيء في الخارج يدون الإمضاء ثم امسك عن الإمضاء وعفى عن ذلك الذنب رحمة وتفضلا ونظرا لبعض نوافله لئلا يرد عليه المساءة والمكروه وقوله: (وقد قدرته) إشارة لي زيادة الامتنان حيث دفع عنه البلاء المقدر

ص:195

المقضي الذي هو قريب الوقوع.

قوله (فأصرف ذلك البلاء عنه) إشارة إلى البلاء الدنيوي أعنى العقوبة المقدرة المذكورة وقوله: «ثم أكتب له عظيم أجر نزول ذلك البلاء» إشارة إلى تفضل آخر فوق المذكور وهو أنه أثابه لأجل ذلك البلاء المقدر المقضى مع عدم نزوله ثوابا عظيما فالمراد بنزول البلاء نزوله على سبيل الفرض، ولعل المراد بتوفير الاجر أجر ذلك الذنب حيث عفى عنه وأجر ذلك البلاء المقدر أو أعطاء أجره بعشر أمثاله، وقوله: (ولم يشعر به) إشارة إلى أن له من الله تعالى الطافا غيبية مع عدم علمه بها وقوله: «وأنا الله الكريم الرؤوف» إشارة إلى أن مبدأ جميع هذه الالطاف هو هذه الأوصاف هذا، ويحتمل أن يراد بتعجيل العقوبة الدنيوية وقعوها وامضاؤها وبتقدير عقوبة ذلك الذنب تقدير عقوبته الاخروية مع العفو عنها وعدم امضائها ولكنه بعيد والله يعلم.

ص:196

باب نادر أيضا

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) فقال هو: (ويعفو عن كثير) قلت: ليس هذا أردت أرأيت ما أصاب عليا وأشباهه من أهل بيته (عليهم السلام) من ذلك؟ فقال: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب».

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في قوله: عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) فقال هو - أي أبو عبد الله (عليه السلام) - «ويعفو عن كثير» قلت: ليس هذا أردت أرأيت ما أصاب عليا وأشباهه من أهل بيته (عليهم السلام) من ذلك؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة) التوبة وهي الرجوع مما يوجب الغفلة عن الحق إليه، كما تكون من الكفر والمعصية كذلك تكون من الغفلة عن ذكر الحق ولو لحظة إليه فإنها أصل من اصول المعاصي ولو فرض عدم الغفلة أصلا ودوام اشتغال القلب بالذكر والتفكر فلا ريب في أن مقامات الذكر متفاوتة لأجل الاشتغال بالامور الضرورية الدنيوية مثل المشارب والمآكل والمناكح وغيرها فالكون في الدرجة التحتانية نقص بالنسبة إلى الكون في الدرجة الفوقانية، ولا ريب في أن التوبة منه أيضا مطلوبة ولعل توبته (صلى الله عليه وآله) كانت من هذا القبيل.

إذا عرفت هذا فنقول: لما اقتصر السائل بذكر بعض الآية وذكر (عليه السلام) باقيها أشار السائل بقوله «وليس هذا أردت» اعتذارا لعدم ذكر باقيها إلى أن مراده من السؤال غير متعلق بالباقي وإنما هو متعلق بما ذكره وهو أنه أصاب عليا (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين مصيبات عظيمة وهي ليست بما كسبت أيديهم لأنهم معصومون من الذنوب. أو نقول لما دلت الآية على أن كل معصية بسبب كسب الذنوب ولزم منه أنه متى تحقق الكسب تحققت المصيبة لامتناع تخلف المعلول عن علته وحمل (عليه السلام) أصل السؤال على هذا اللازم وأشار بقوله (ويعفوا عن كثير) إلى أن كسب الذنوب ليس علة مستقلة للمصيبة وإنما وهو موجب لإستحقاقها واستحقاقها لا يوجب حصولها بل الله تعالى يغفر أكثر الذنوب بلا مصيبة، قال السائل ما أردت هذا بل أردت أن مصيبة على وعترته

ص:197

الطاهرين هل هي بسبب ذنوبهم كما يقتضيه منطوق الآية فأجاب (عليه السلام) بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب وهذا الجواب يحتمل وجهين: أحدهما أن المصيبة قد تكون من غير ذنب كما أن التوبة قد تكون من غير ذنب والغرض منها زيادة الثواب ورفع الدرجات، حينئذ حكم الآية جار في غيرهم (عليهم السلام) والخطاب غير شامل لهم كما سيجيء، وثانيهما أن المكتسب أعم من الذنب وغيره كما أن التوبة أعم من ذنب وغيره فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، والفرق بين الجوابين تخصيص الحكم والمكتسب في الأول وتعميمهما في الثاني، والله أعلم.

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته (عليهم السلام) من بعده هو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، رفعه قال: لما حمل علي بن الحسين صلى الله عليهما إلى يزيد بن معاوية فاوقف بين يديه قال يزيد لعنه الله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «ليست هذه الآية فينا إن فينا قول الله عز وجل: (وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)».

* الشرح:

قوله: (فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): ليست هذه الآية فينا إن فينا قول الله عز وجل: (وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)) مصيبتهم واقعة في أهل الأرض والخطاب لهم والكتاب اللوح المحفوظ والضمير في نبرأها أي نخلقها للمصيبة أو الأرض أو الأنفس أو المخلوقات وذلك إشارة إلى اثباتها وحفظها وهو يسير سهل على الله سبحانه وان كان عسيرا صعبا على غيرة والمقصود أن مصيبتنا قدره الله تعالى لنا من غير ذنب ليأجرنا بها ويرفع درجتنا عنده، والله أعلم.

ص:198

باب «إن الله يدفع بالعامل عن غير العامل»

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن الله [ل] - يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عز وجل: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) فوالله ما نزلت إلا فيكم ولا عنى بها غيركم».

* الشرح:

قوله: (قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا - إلى آخره) المراد بالهلاك الهلاك الدنيوي وهو الاستيصال فيدل على أن وجود الصلحاء سبب لبقاء الأشقياء ولعل الدفع والهلاك غير مختصين بفعل الواجبات المذكورة وتركها مع احتماله ولعل المراد بقوله (عليه السلام): «فو الله ما نزلت إلا فيكم» أن تنزيلها فيكم وانكم مقصودون أولا وبالذات فلا ينافي شمول تأويلها للغير.

ص:199

باب «إن ترك الخطيئة أيسر من [طلب] التوبة»

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن بعض أصحابه، عن أبي العباس البقباق [قال:] قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة وكم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا والموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحا».

* الشرح:

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة) لظهور أن ترك الفعل أسهل من الفعل ولصفاء النفس قبل فعل الخطيئة وتكدرها بعده والترك مع صفائها واستعدادها له أسهل من الفعل مع تكدرها وزوال استعدادها له وبالجملة الذنب يسود لوح النفس ويوردها في مهاوي الهلاك فكانت مخالفتها حينئذ أصعب (وكم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا) وهو الحزن بعد الموت بمشاهدة سوء العاقبة أبدا، أو قبل الموت أيضا فإن التابع للشهوة كثيرا ما يحزن بعد انقضائها حزنا شديدا لعلمه بقبح متابعتها وظلمة آثارها (والموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا) فضحه فأنفضع أي كشف عن مساويه، يعني أن الموت كشف عن مساوي الدنيا أو مساوي أهلها إذ بعد الموت يعلم أن شهواتها التي دعت أربابها إليها فرية وغرورا وزهراتها التي حرضت أصحابها عليها مينا وزورا، صورتها في نظرهم بأحسن الصور حتى مالوا إليها بأكمل الميل والنظر وهي في نفس الامر كحيات مهلكة وعقارب مؤذية فلم يترك الموت لذي لب وعقل يدرك شناعة أواخر الأمور في أوائلها، وقباحة نهاية الشهوات في بدايتها، وكمال بوائق الدنيا وغوائلها فرحا وسرورا، يوجب فراغ باله ورفاه حاله لعلمه بأن الدنيا قد غرت كثيرا من الأذكياء فأنزلتهم في منازل الأشقياء فهم بعد الموت هائمون وفي الحسرة والندامة دائمون، ويمكن أن يراد أن أصل الموت فضح الدنيا لكشفه عن عدم وفائها لأهلها بالبقاء أو أن موت الأمة الماضية وتركهم الدنيا وزهراتها واشتغالهم بأعمالهم بعد الموت فضح الدنيا بعد الوفاء لهم، وفيه على التقادير ترغيب في ذكر الموت فإنه يوجب ترك الدنيا والركون إليها.

ص:200

باب الإستدراج

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن جندب، عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادي بها، وهو قول الله عز وجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) بالنعم عند المعاصي».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار - إلى آخره) العبد إذا كان خيرا صالحا مائلا إلى النجاة والسعادة وعلم الله ذلك منه فأذنب ذنبا أتبعه الله تعالى بنقمة ويلهمه أنها لأجل ذلك الذنب ويذكره الاستغفار منه ليستغفر فيغفر له، وإذا كان شريرا مائلا إلى الفساد والشقاوة وعلم الله ذلك منه فأذنب ذنبا أتبعه الله عز وجل بنغمة لتنسيه الاستغفار عنه ويتمادي في الغي والضلالة وهو قول الله عز وجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) واستدراجهم بإيصال النعم إليهم عند اشتغالهم بالمعاصي والاستدراج قيل هو الاخذ على الغرة من حيث لا يعلم.

وقيل هو أن يتتابع على عبده النعم ابلاغا للحجة والعبد مقيم على الإساءة مصر على المعصية فيزداد بتواتر النعم عليه غفلة ومعصية وذهابا إلى الدرجة القصوى منها فيأخذه الله بغتة على شدة حين لا عذر له كما ترى الراقي في الدرجة فيتدرج شيئا بعد شيء حتى يصل إلى العلو فيسقط منه، وفيه تخويف للمنعم عليه بالاغترار والنسيان، وحمل ذلك على الالطاف والإحسان وتذكير له باحتمال أن يكون ذلك استدراجا ليأخذه على الغرة والشدة فوجب أن يستيقظ من سنة غفلته وينظر إلى مآل حاله ويترك انهماكه في غيه وضلاله، ويبتهل إلى الله سبحانه ويتضرع بين يدي رحمته لعل الله يرحمه ويجعل ذلك رحمة ونعمة عليه فإن الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب، وإليه يرد قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أيها الناس ليريكم الله تعالى من النعمة وجلين» يعني إذا أنعم الله عليكم في الدنيا فينبغي أن تكونوا خائفين وجلين لإمكان أن يكون ذلك ادراجا لكم في الفتنة، وقوله أيضا: «انه من وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك ادراجا فقد أمن

ص:201

مخوفا» يعني إن من وسع عليه النعمة فلم ير أن ذلك استدراج فقد أمن من الفتنة وغفل عنها فوجب عليه أن يرى بعين البصيرة مآل الحال وأن ذلك استدراج وامهال من الملك المتعال كي يرجع عن الضلال وينفق ذلك المال في وجوه الخير.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بعض أصحابه قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الإستدراج، فقال: «هو العبد يذنب الذنب فيملي له ويجدد له عندها النعم فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب فهو مستدرج من حيث لا يعلم».

* الشرح:

قوله: (فقال: هو العبد يذنب الذنب فيملى له) الاملاء الامهال. قال الله تعالى: (واملي لهم أن كيدي متين) واشتقاقه من أمليت بمعنى أمهلت وأخرت وأطلت له مدة وزمانا والاملاء أعظم الابتلاء إذ بسببه يصدر عن المبتلي جرائم غير محصورة ومعاصي غير معدودة.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) قال: «هو العبد يذنب الذنب فتجد له النعمة معه تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب».

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان [بن داود] المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه وكم من مستدرج يستر الله عليه وكم من مفتون بثناء الناس عليه».

* الشرح:

قوله: (قال: كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه - إلى آخره) كم للأخبار بكثرة مغرور بالنعمة مستدرج مستور عليه. ومفتون بالمعصية ممدوح بين الناس، وهذا حال أهل الدنيا فإن المنعم بالنعم المتوافرة غافل عن المبدأ والمعاد وأحوال النفس، ومن أراد الله عز وجل استدراجه يستر عليه قبائح أعماله حتى يتدرج فيها إلى الدرجة العليا فيأخذه بغتة من حيث لا يدري أخذا شديدا والمفتون بالمعصية والدنيا يثنى عليه أكثر الناس أما طمعا لما في يديه، أو خوفا منه أو ميلا إلى المعصية فلا يحكمون بقبحها كما هو المعلوم في عصرنا هذا; وفيه تنفير عن الميل إليهم والمخالطة معهم.

ص:202

باب محاسبة العمل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إنما الدهر ثلاثة أيام أنت فيما بينهن: مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبدا فإن كنت عملت فيه خيرا لم تحزن لذهابه وفرحت بما استقبلته منه وإن كنت قد فرطت فيه فحسرتك شديدة لذهابه وتفريطك فيه وأنت في يومك الذي أصبحت فيه من غد في غرة ولا تدري لعلك لا تبلغه وإن بلغته لعل حظك فيه في التفريط مثل حظك في الأمس الماضي عنك، فيوم من الثلاثة قد مضى أنت فيه مفرط ويوم تنتظره لست أنت منه على يقين من ترك التفريط وإنما هو يومك الذي أصبحت فيه وقد ينبغي لك إن عقلت وفكرت فيما فرطت في الأمس الماضي مما فاتك فيه من حسنات ألا تكون أكتسبتها ومن سيئات ألا تكون أقصرت عنها وأنت مع هذا مع استقبال غد على غير ثقة من أن تبلغه وعلى غير يقين من اكتساب حسنة أو مرتدع عن سيئة محبطة، فأنت من يومك الذي تستقبل على مثل يومك الذي استدبرت، فاعمل عمل رجل ليس يأمل من الأيام إلا يومه الذي أصبح فيه وليلته، فاعمل أودع، والله المعين على ذلك».

* الشرح:

قوله: (قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إنما الدهر ثلاثة أيام أنت فيما بينهن) هي اليوم الذي أصبحت فيه وهو يومك الذي ينبغي لك أن تعمل فيه; واليوم الذي قبل هذا اليوم وهو يشمل كل يوم قبله وهو المراد بالأمس الماضي لا خصوص يوم واحد قبله واليوم الآتي بعد هذا اليوم كذلك وهو المراد بالمستقبل (مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبدا فإن كنت عملت فيه خيرا لم تحزن لذهابه وفرحت بما استقبلته منه - إلى آخره) يتحقق الفرح والحسرة بالعمل والتفريط ويتضح حق الوضوح وقت كشف الاستار وهو وقت الموت وما بعده وبالجملة الحسرة هي الحزن بفوات المحبوب والفرح هو السرور بحصوله وأحب الأشياء هو أنفعها وأنفعها عند المؤمن هو الطاعات والخيرات لأنها معه دائما وثوابها يعود إليه أبدا، فإذا أتى بها فرح ويزداد الفرح عند

ص:203

كشف الغطاء، وإذا فرط فيها مع علمه بقدرها ومنافعها اشتدت حسرته لذهاب وقتها وحرمانه عن منافعها.

وفيه تحريص على محافظتها وأدائها في أوقاتها ورعاية حقوقها (وأنت في يومك الذي أصبحت فيه من غد في غرة) من للابتداء. والغد أول النهار والغرة بالكسر الغفلة أي أنت في اليوم الذي أصبحت فيه في غفلة من غد لا تدري تبلغه أم لا وعلى تقدير البلوغ لا تدري ما حظك فيه فاغتنم الوقت الذي أنت فيه كما أشار إليه بقوله (وإنما هو يومك الذي أصبحت فيه) الضمير راجع إلى الدهر أو إلى اليوم على احتمال، وفيه ترغيب في حفظ النفس فيه عن الأعمال الفاسدة وحبسها على الأعمال الصالحة كما أشار إليه بقوله (وقد ينبغي لك أن عقلت وفكرت فيما فرطت - إلى آخره) والظاهر أن مضمون الشرط والجزاء وهو «فاعمل عمل رجل» فاعل ينبغي، يعني ينبغي لك التفكر فيما فرطت في الماضي بترك الحسنات وفعل السيئات مع عدم الوثوق بادراك المستقبل، وعدم اليقين بفعل الحسنة وترك السيئة فيه على تقدير إدراكه، فإن هذا يوجب العمل في يومك الذي أصبحت فيه تداركا لما فات وتلافيا لما هو آت، وأنت أيها اللبيب إذا اعتبرت وتفكرت فيما ذكر بعين البصيرة، وتيقنت أنك قد سهوت في صرف ما مضى من عمرك في قنيات الدنيا وشهوات النفس حفظت ما بقي من عمرك في صرفه في الفاسد المفسد، ولا يخفى أن ذلك يحصل للمستيقظ الناظر إلى النفس في جميع حركاتها وسكناتها المتمسك بذيل العناية الأزلية وحبل رجائها، العارف بأن عمره في هذا اليوم رأس ماله وهو ينقص وينقضي بالتدريج وربحه فيه ذكر الحق بأنحاء الطاعات وأنواع العبادات فيحذر أن يفوته الربح ورأس المال جميعا والله ولى التوفيق.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم عن عمر اليماني عن أبي الحسن الماضي صلوات الله عليه قال: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا استزاد الله وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه».

* الشرح:

قوله: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا استزاد الله وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه) محاسبه النفس ضبط الإنسان على نفسه الأعمال الخيرية والشرية ليحليها بما ينبغي ويخليها عما لا ينبغي، وينبغي أن يكون حال العقل مع النفس كحال الإنسان مع

ص:204

الشريك، فينبغي أن يتولى حسابها في كل يوم وينظر إلى قيامها وقعودها وأكلها وشربها وحركتها وسكونها في الأعمال الظاهرة والباطنة ويزن جميع ذلك بميزان الشرع ليعلم مداخل الزيادة والنقصان كما أن التاجر يصنع ذلك بشريكه ويفتش عن حساب الدنيا بالحبة والقيراط ويتحفظ مداخل الزيادة والنقصان، ولابد أن يجعل الإنسان ليله ونهاره أربعة أجزاء: جزء لمحاسبة النفس، وجزء لمناجاة الرب، وجزء لتدبير المعاش، وجزء للاستراحة والاستمتاع بما أبيح له.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن إسحاق ابن عمار عن أبي النعمان العجلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا أبا النعمان لا يغرنك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل إليك دونهم ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك وأحسن فإني لم أر شيئا أحسن دركا ولا أسرع طلبا من حسنة محدثة لذنب قديم».

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي النعمان مثله.

* الشرح:

قوله: (لا يغرنك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك - إلى آخره) لما كان أكثر الناس في غفلة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا» حذرك أولا عن متابعتهم وتقريرهم إياك وعلل ذلك بأن أمرك في الغفلة واليقظة إنما يصل إليك لا إليهم فترحم على نفسك ولا تتبعهم في أعمالهم، ونهاك ثانيا أن تصرف عمرك في نهارك الذي أنت فيه وتقدر على العمل فيما صرفوا فيه أعمارهم من المباحات والمحرمات وعلل ذلك بأن معك من يحفظ عليك عملك وسترى ما عملت من خير وشر حاضرا، فينبغي أن تقول هذا يوم جديد قد أمهلني الله فيه ولو قصرت فيه لقلت بعد الموت رب ارجعني لعلى أعمل صالحا فاحسب أنك رددت فيه فجد فيه وأعمل عملا صالحا، وأمرك ثالثا بالإحسان ولعل المراد به الإحسان إلى نفسك بتزكيتها أو إحسان العبادة بفعلها في أوقاتها مقرونة بأركانها وشرائطها المعتبرة في تحققها وكمالها وعلل ذلك بأنها درك حسن تام لذنب قديم أي يتدارك بها ذلك الذنب وطالب سريع له ليدفعه فهي في ذاتها طاعة توجب أجرا جزيلا ومحبطة لذنب سابق كما قال عز وجل: (إن الحسنات يذهبن السيئات).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابنا،

ص:205

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال: إصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة فما مضى منه فلا تجد له ألما ولا سرورا وما لم يجيء فلا تدري ما هو وإنما هي ساعتك التي أنت فيها فاصبر فيها على طاعة الله واصبر فيما عن معية الله».

* الشرح:

قوله: (إنما هي ساعتك التي أنت فيها) أي ما دنياك إلا ساعتك التي أنت فيها، وتحمل شدائد الصبر فيها لسرور الأبد سهل عند من آمن بالله واليوم الآخر، وطلب الشهوة فيها يوجب حزنا كما دل عليه قوله (عليه السلام) فيما مر: «كم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا».

5 - عنه، عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك فإن لم تفعل لم يحملك غيرك».

* الأصل:

6 - عنه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: «إنك قد جعلت طبيب نفسك وبين لك الداء وعرفت آية الصحة ودللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: إنك قد جعلت طبيب نفسك وبين لك الداء وعرفت آية الصحة - إلى آخره) المراد بالداء الداء النفساني والبدني من الأمراض القلبية والأعمال الفاسدة البدنية، وبالدواء أضداد تلك الأمراض والأعمال، وبآية الصحة الإيمان على احتمال، فإذا عرفته وعرفت الداء والدواء فكن طبيب نفسك. وعالج كل داء بضده من الدواء كما أشار إليه بقوله:

(فانظر كيف قيامك على نفسك) فإذا قمت على الداء ولم تعالجه بالدواء فقد قتلت نفسك ومن قتل نفسه فجزاؤه جهنم خالدا فيها.

* الأصل:

7 - عنه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: «اجعل قلبك قرينا برا أو ولدا واصلا واجعل عملك والدا تتبعه واجعل نفسك عدوا تجاهدها واجعل مالك عارية تردها».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: اجعل قلبك قرينا برا أو ولدا واصلا واجعل عملك والدا تتبعه - إلى آخره) القرين البار المصاحب الصالح، وهو الذي يهديك إلى ما ينفعك، ويمنعك عما يضرك، والولد الواصل هو الذي لا يفعل ما يؤذيك أصلا وقد شبه القلب أعنى العقل بهما

ص:206

للمشاركة بينه وبينهما في هذا المعنى، وشبه العمل الصالح بالوالد لأنه يوصل الخير العظيم والنفع الجسيم إليه كالوالد، وشبه النفس الأمارة بالعدو لأنها أعدى عدو للإنسان. فلابد من قتل متمنياتها القاتلة وشهواتها الباطلة لتطيع العقل فيما يأمرها به وينهاها عنه، وشبه المال بالعارية في قطع التعلق به أو في أنه ليس فيه إلا المشقة.

* الأصل:

8 - [و] عنه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك وأسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك، فإن نفسك رهينة بعملك».

* الشرح:

قوله: (وأسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك) أراد به السعي فيما يوجب فكاكها وهذا وإن كان ينبغي أن يكون أزيد وأكمل من السعي في طلب المعيشة; لأن التفاوت بينهما بقدر التفاوت بين الدنيا والآخرة إلا إن طلب المعيشة في أكثر الناس لما كان أزيد وأكمل وقع التشبيه به في أصل السعي لظهوره أو في قدره على سبيل التنزيل فكأنه قال: ينبغي أن لا يكون سعيك في فكاكها أقل من سعيك في طلب المعيشة كما هو شأن أكثر أهل الدنيا، ثم علل ذلك ورغب في العمل بقوله:

(فإن نفسك رهينة بعملك) رهينة فعيلة بمعنى فاعل أي ثابتة مقيمة، وقيل بمعنى مفعول أي نفسك مقامة في جزاء ما قدر من عملك، ولما كان الرهن يتصور منه الحبس استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان قال الله تعالى: (كل إمريء بما كسب رهين).

* الأصل:

9 - عنه، عن بعض أصحابه، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «كم من طالب للدنيا لم يدركها ومدرك لها قد فارقها، فلا يشغلنك طلبها عن عملك، والتمسها من معطيها ومالكها فكم من حريص على الدنيا قد صرعته واشتغل بما أدرك منها عن طلب آخرته حتى فنى عمره وأدركه أجله. وقال أبو عبد الله (عليه السلام): المسجون من سجنته دنياه عن آخرته».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): كم من طالب للدنيا لم يدركها ومدرك لها قد فارقها) يعني أن طالب الدنيا يكون بين حزنين أحدهما عدم النيل بمطالبه، والثاني النيل مع فراقها فإن الحريص على الدنيا إذا جمعها كان عليه من وراء ذلك فراق ما جمع ونقض ما أبرم بهادم اللذات، ولا حسرة

ص:207

أعظم من أن يضيع أحد عمره فيما يتركه لغيره ويكون الحساب والعقاب عليه ثم نفر عن الدنيا ورغب في الآخرة على وجه آخر بقوله:

(المسجون من سجنته دنياه عن آخرته) أي حبسه، وهو الذي اشتغل بزهرات الدنيا عن أمر الآخرة وعلق قلبه عليها فيدركه الموت وليس له شيء منهما.

* الأصل:

10 - وعنه، رفعه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال: إذا أتت على الرجل أربعون سنة قيل له: خذ حذرك فإنك غير معذور وليس ابن الأربعين بأحق بالحذر من ابن العشرين فإن الذي يطلبهما واحد وليس براقد، فاعمل لما أمامك من الهول ودع عنك فضول القول».

* الشرح:

قوله: (وليس ابن الأربعين بأحق بالحذر من ابن العشرين فإن الذي يطلبهما واحد وليس براقد) «فإن» وجه لعدم الأحقية وذلك; لأن الأحقية أما باعتبار أن طالبهما متعدد فيمكن أن يتفاوت الطلب ويتفاوت بتفاوته الحذر بالشدة والضعف أو باعتبار أن طالبهما واحد صالح للرقود والغفلة فيغفل عن الثاني دون الأول، أو باعتبار أن طلب الموت لأحدهما أقرب من طلبه للآخر، ويمكن ادراجه في الاعتبار الأول، وليس شيء من هذا الاعتبارات فانتفت الأحقية، والمراد بترك فضول القول عدم التكلم به وعدم استماعه; لأن ذلك مفسد للسان والسمع والقلب، ومانع عن إدراك الحق واستقراره في القلب، ويمكن أن يراد به التسويف، والقول بأني سأعمل فيما يأتي من الزمان.

* الأصل:

11 - عنه، عن علي بن الحكم، عن حسان، عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «خذ لنفسك من نفسك، خذ منها في الصحة قبل السقم وفي القوة قبل الضعف وفي الحياة قبل الممات».

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): خذ لنفسك من نفسك، خذ منها في الصحة قبل السقم وفي القوة قبل الضعف وفي الحياة قبل الممات) لما كان كل من السقم والضعف بكبر السن والموت مانعا من الأعمال الحسنة وكانت القدرة في أضدادها وهي الصحة والقوة والحياة أمر (عليه السلام) بالمبادرة إلى تلك الأعمال في حال الاقتدار عليها فأن الفرصة غنيمة والأعمال نافعة، والندامة غير مفيدة.

* الأصل:

12 - عنه، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:208

«إن النهار إذا جاء قال: يا ابن آدم اعمل في يومك هذا خيرا، أشهد لك به عند ربك يوم القيامة، فإني لم آتك فيما مضى ولا آتيك فيما بقي وإذا جاء الليل قال مثل ذلك».

* الشرح:

قوله: (قال أن النهار إذا جاء قال: يا ابن آدم - إلى آخره) قال ذلك بلسان الحال أو بلسان المقال.

* الأصل:

13 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن شعيب بن عبد الله عن بعض أصحابه، رفعه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «يا أمير المؤمنين أوصني بوجه من وجوه البر أنجو به، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها السائل استمع ثم استفهم ثم استيقن ثم استعمل وأعلم أن الناس ثلاثة: زاهد وصابر وراغب فأما الزاهد فقد خرجت الأحزان والأفراح من قلبه فلا يفرح بشيء من الدنيا ولا يأسى على شيء منها فاته، فهو مستريح وأما الصابر فإنه يتمناها بقلبه فإذا نال منها ألجم نفسه عنها لسوء عاقبتها وشنآنها، لو اطلعت على قلبه عجبت من عفته وتواضعه وحزمه وأما الراغب فلا يبالي من أين جاءته الدنيا من حلها أو [من] حرامها ولا يبالي ما دنس فيها عرضه وأهلك نفسه وأذهب مروءته، فهم في غمرة يضطربون».

* الشرح:

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أيها السائل استمع ثم استفهم ثم استيقن ثم استعمل) الامور الأربعة مترتبة. فإن العمل موقوف على اليقين، واليقين موقوف على الفهم، والفهم موقوف على الاستماع من أهل العلم.

(وأعلم أن الناس ثلاثة: زاهد وصابر وراغب) وجه الحصر أن الإنسان أما أن يخرج حب الدنيا عن قلبه أو لا، والثاني أما أن يمنع نفسه عن تحصيلها أو لا، فالأول زاهد، والثاني صابر، والثالث راغب.

(فأما الزاهد فقد خرجت الأحزان والافراح من قلبه) أي خرج الحزن بفوات الدنيا والفرح بحصولها من قلبه (فلا يفرح بشيء من الدنيا ولا يأسى على شيء منها فاته) الأسى بالفتح والقصر الحزن أسى يأسي من باب علم أسى فهو آس، والمقصود أن قلب الزاهد متعلق بالله وبأمر الآخرة لا بالدنيا فلا يفرح بشيء منها يأتيه ولا يحزن على شيء فاته.; لأن الفرح بحصول محبوب. والحزن بفواته، وشئ من الدنيا ليس بمحبوب عند الزاهد التارك لها بالكلية.

ص:209

(فهو مستريح) في الدنيا والآخرة أما الدنيا فلخلوه من مشاق الكسب وشدائد الصبر على حبه، وأما الآخرة فلنجاته من الحساب والعقاب.

(لو اطلعت على قلبه عجبت من عفته) التعجب ينشأ من إدراك أمر غريب وهو عفته من الدنيا التي يتمناها مع خفاء سبب العفة وهو علاقة كاملة بينه وبين الله تعالى ولا يعلم تلك العلاقة إلا هو، والحزم جودة الرأي.

(ولا يبالي ما دنس فيها عرضه) عرض الرجل ما ينبغي أن يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص، وقيل: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير، وقد بين أن الراغب في الدنيا لا يبالي بتوسخ عرضه الظاهري في هذا العالم، وذهاب عرضه الباطني في عامل الأرواح ولا باهلاك نفسه بابطال استعدادها للكمال، وجعلها مستعدة للعقوبات ولا باذهاب مروته وهي كمال الرجولية لإخراج طوره عن طور الأحرار. ثم شبه الدنيا بالبحر الزاخر.

والراغب فيها يالغريف المضطرب فيها لإيضاح المقصود وتصوير المعقول بصورة المحسوس فقال: (فهم في غمرة يضطربون) غمرة سختى ونادانى وكودكى وآن قدر آبى كه به پوشاند قامت را، وقد يراد بها الشدة، وأعلم أن المحب للدنيا الذي لا يبالي من أين جاءته في غمرات متعددة وشدائد مختلفة أوليها الشدة في جمعها وحفظها وثانيها الشدة في مفارقتها عند الموت وبعد كفراق المحب عن محبوبه، وثالثها الشدة بالأخلاق الرذيلة اللازمة لمحبتها فإن كل واحد منها كحية في جوهر النفس تنهشها، ورابعها شدة الحرمان عن قرب الحضرة الربوبية وبعده عن مشاهدة جلاله وكماله، وخامسها شدة العقوبة بالنار فهو في ظلمات الشدائد بعضها فوق بعض.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن محمد بن حكيم، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لا يصغر ما ينفع يوم القيامة ولا يصغر ما يضر يوم القيامة، فكونوا فيما أخبركم الله عز وجل كمن عاين».

* الشرح:

قوله: (فكونوا فيما أخبركم الله عز وجل كمن عاين) كما أن أمر من عاين الشيء هو اليقين كذلك أمر من سمع اخباره عز وجل هو اليقين به إذ لا كذب قطعا في أخباره تعالى بل هو أولى باليقين لإمكان الغلط في الحس، وإن لم يقع بخلاف اخباره عز وجل فإنه لا يتصور فيه الغلط أصلا.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم ابن محمد، عن

ص:210

سليمان المنقري، عن حفص بن غياث قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك ألا يثني عليك الناس وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله (عليه السلام)، ثم قال: قال أبي علي ابن أبي طالب (عليه السلام): لا خير في العيش إلا لرجلين رجل يزداد كل يوم خيرا ورجل يتدارك منيته بالتوبة وأنى له بالتوبة والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله تبارك وتعالى منه إلا بولايتنا أهل البيت، ألا ومن عرف حقنا ورجا الثواب فينا ورضي بقوته نصف مد في كل يوم وما ستر عورته وما أكن رأسه وهم والله في ذلك خائفون وجلون ودوا أنه حظهم من الدنيا وكذلك وصفهم الله عز وجل فقال: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) ثم قال: ما الذي آتوا؟ آتوا والله مع الطاعة المحبة والولاية وهم في ذلك خائفون، ليس خوفهم خوف شك ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا».

* الشرح:

قوله: (إن قدرت أن لا تعرف فافعل) ترغيب في الاعتزال بقدر الإمكان; لأن التخلص من الآفات الدينية والدنيوية فيه وفي الشهرة آفات عظيمة لا ينجو منها إلا من عصمه الله تعالى وقوله (إذا كنت) متعلق بكل واحد من الأمرين أعنى عدم لحوق الضرر بذم الناس وعدم ثنائهم ولما كان المحمود عند الله أطواره غير أطوار الناس وهم لا يثنونه بل يذمونه لذلك تسلاه بأنه لا يعود إليه ضرر بذلك أصلا، ولعل المراد بالعيش الحياة الدنيوية أو الاخروية، وبالرجل الأول رجل لم يذنب أصلا وبالثاني رجل يذنب ويتوب ويستغفر ربه.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن إبراهيم بن مهزم، عن الحكم بن سالم قال:

دخل قوم فوعظهم ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد عاين الجنة وما فيها وعاين النار وما فيها إن كنتم تصدقون بالكتاب».

* الشرح:

قوله: (عن الحكم بن سالم قال: دخل قوم فوعظهم) الواعظ غير معلوم (ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد عاين الجنة وما فيها وعاين النار وما فيها إن كنتم تصدقون بالكتاب) لعل المراد أن في الكتاب أحوال الجنة ودرجاتها وما فيها، وأحوال النار ودركاتها وما فيها، والله سبحانه أصدق الصادقين فمن صدق بالكتاب كان كمن عاينهما وما فيها ومن عاينهما يترك المعصية قطعا فمن

ص:211

ادعى التصديق بالكتاب وعصى ربه فهو كاذب في دعواه.

* الأصل:

17 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيرا، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصف وسارعوا إلى طاعة الله وأصدقوا الحديث وأدوا الأمانة فإنما ذلك لكم ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم، فإنما ذلك عليكم».

* الشرح:

قوله: (قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لا تستكثروا كثير الخير) إذ استكثار الخير يوجب العجب والفخر والادلال والاعتقاد بخروج النفس عن حد التقصير وكل ذلك مهلك، وأيضا من عرف الله وعظمته علم أنه لم يعبده حق عبادته وأنه مقصر غاية التقصير فكيف يستكثر عبادته فالعابد وإن بالغ في العبادة ينبغي أن يستقل عبادته ويحكم بتقصيره فيها ويخاف من عدم قبولها حيث لا علم له بالرد والقبول.

(ولا تستقلوا قليل الذنوب - إلى آخره) إذا اعتقاد قلة الذنب في الكم والكيف ذنب والاستمرار عليه ذنب آخر وهكذا وأيضا هو لا يبالي بالذنب ومخالفة الحق: فيأتي بذنب آخر، وهكذا حتى يجتمع عليه ذنوب كثيرة فيخرج عن حد الصغيرة، ويدخل في حد الكبيرة كما روي «لا صغيرة مع الإصرار» والإصرار كما يتحقق بتتابع المعصية يتحقق بترك التوبة أيضا.

(وخافوا الله في السر) ينبغي الخوف من الله في السر والعلانية وإنما خص السر بالذكر; لأن الناس يتسامحون في السر ما لا يتسامحون في العلانية، وأيضا كل خائف في السر خائف في العلانية دون العكس وأيضا الخوف في السر أشد على النفس.

(فإنما ذلك لكم ولا تدخلوا فيما لا يحل لكم فإنما ذلك عليكم) لما كان كل إنسان طالبا لمنافعه ودافعا لمضاره حث (عليه السلام) على الامور المذكورة والاجتناب عما لا يحل بأن بين أن منافع الأول له ومضار الثاني عليه، وهذا وإن كان بينا لكن فيه تنبيه لهم عن الغفلة.

* الأصل:

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: ما أحسن الحسنات بعد السيئات وما أقبح السيئات بعد

ص:212

الحسنات».

* الشرح:

قوله: (ما أحسن الحسنات بعد السيئات وما أقبح السيئات بعد الحسنات) أما حسن الأول فلان فيه ابطالا للباطل ورجوعا منه إلى الحق وتطهير النفس، وأما قبح الثاني فلان فيه ابطالا للحق ورجوعا منه إلى الباطل وتنجيس النفس، وهذا كلام موجز يندرج فيه التوبة بعد المعصية والمعصية بعد التوبة وكل خير بعد شر وكل شر بعد خير سواء كانا ضدين كالإحسان والإساءة أم لا كالصلاة والشرب ونحوهما.

* الأصل:

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنكم في آجال مقبوضة وأيام معدودة، الموت يأتي بغتة، من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة ولكل زارع ما زرع ولا يسبق البطيء منكم حظه ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من اعطى خيرا فالله أعطاه ومن وقي شرا فالله وقاه».

* الشرح:

قوله: (قال إنكم في آجال مقبوضة وأيام معدودة والموت يأتي بغتة) أشار بالوصفين إلى أن الآجال والأيام التي هي مدة العمر كأنها قبضت وعدت بتمامها فينبغي لكم أن تفرضوا كل زمان أنتم فيه آخر عمركم والموت يأتي بغته من غير شعور لكم بزمانه. ثم رغب في حسن الاستعداد لما بعد الموت بقوله:

(من يزرع خيرا يحصد غبطة - إلى آخره) الغبطة النعمة والسرور والكلام تمثيل، أو يزرع استعارة تبعية بمعني يعمل والحصاد ترشيح والتنكير في غبطة وندامة للتعظيم ولما كان المانع من الخير غالبا هو طلب الدنيا زجر (عليه السلام) عن الوغول فيه بأنه عبث عند العقلاء; لأن البطيء المقصر فيه لا يفوته رزقه المقدر له والحريص المنهمك فيه لا يدرك ما لم يقدر له وبالجملة المقدر لكل أحد يأتيه أراد أولم يرد وهذا كلام صحيح لا ريب فيه ولا ينافيه وجدان الحريص زيادة; لأن تلك الزيادة ليست من قوته المفتقر هو إليه في البقاء بل هو لغيره والحساب عليه ثم أشار بقوله (من أعطى خيرا) إلى أن العبد ينبغي أن لا يتكل على قوته في طلب الخير ورفع الشر بل عليه تفويض اموره إلى الله في جميع الأحوال لا حول ولا قوة إلا بالله.

* الأصل:

ص:213

20 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن واصل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أباذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب.

فقال له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله وأما المسئ منكم فكالابق يرد على مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إن الله يقول: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال: فقال الرجل فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين. قال: أبو عبد الله (عليه السلام): وكتب رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه يا أبا ذر أطرفني بشيء من العلم فكتب إليه أن العلم كثير ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبه فافعل، قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحدا يسيء إلى من يحبه؟ فقال له: نعم نفسك أحب الأنفس إليك فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها».

* الشرح:

قوله: (فقال لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة) دل على أن تارك الدنيا وطالب الآخرة لا يكره الموت ولا يرضي ببقائه في الدنيا بل يريد فراقها شوقا إلى لقائه عز وجل لو لا الأجل مكتوب عليه كما دل عليه أيضا قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا أن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت أن كنتم صادقين).

(فقال أما المحسن منكم فكالغائب يقدم على أهله) أراد أن المحسن آمن يقينا معزز قطعا وأما المسىء من أهل الإيمان فهو بين خوف ورجاء أن عذب فهو عدل وإن رحم فهو فضل، اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، وقوله (يرد على مولاه) بتشديد الدال أو تخفيفها والأول أظهر (قال اعرضوا أعمالكم على الكتاب - إلى آخره) يعني إن كنتم بررة عملة بما في الكتاب فحالكم عند الله حسن وأنتم من أهل هذه الآية (إن الأبرار لفي نعيم) وإن كنتم فسقة فجرة فحالكم عند الله قبيح - أنتم من أهل هذه الآية (وإن الفجار لفي جحيم) (قال: رحمة الله قريب من المحسنين) دل قرب الرحمة منهم على أنهم من أهلها قطعا ولا يبعد أن يفهم منه أن تعلق الرحمة بهم أنسب لأن الإنسان وإن كان محسنا فهو يعد في حيز التقصير يدل على ذلك ما روى أنه «لا يدخل الجنة أحد إلا بالتفضل».

(أطرفني بشيء من العلم) الطارف والطريف من المال المستحدث والاسم منه الطرفة وهي

ص:214

ما يستطرف أي يستملح وأطرف فلان إذا جاء بطرفة.

(ولكن أن قدرت على أن لا تسىء إلى من تحبه فافعل) لعل المراد به هو الزجر عن إساءة المحبوب الحقيقي وهو الله عز وجل بأن لا يقابل نعماه بالكفران ولا يبدل طاعته بالعصيان، والتمثيل بالنفس لايضاح ما استبعده السائل وهذه كلمة وجيزة; لأن الوفاء بمضمونها متوقف على علم الأخلاق والشرايع كلها مع الأعمال القلبية والبدنية طرها.

* الأصل:

21 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «اصبروا على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله، فإنما الدنيا ساعة فما مضى فليس تجد له سرورا ولا حزنا وما لم يأت فليس تعرفه فاصبر على تلك الساعة، التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت».

* الشرح:

قوله: (اصبروا على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله) لما كانت اللذة في فعل المعصية أكمل من اللذة في ترك الطاعة كان الصبر على المعصية أشق على النفس من الصبر على فعل الطاعة ولذلك قال في الطاعة اصبروا وفي المعصية تصبروا وهو تكلف الصبر وحمل النفس عليه، ثم حرض على الصبر بالبيان الشافي فقال (فإنما الدنيا ساعة فما مضى فليس تجد له سرورا ولا حزنا) أي فليس تجد له سرورا في اللذة الماضية ولا حزنا بفواتها، فالماضي بالنظر إلى السلطان والفقير سواء (وما لم يأت فليس تعرفه) لعل المراد به عدم معرفة إتيانه لإمكان نزول الموت قبله أو عدم معرفة أحواله فيه لإمكان التقصير فيه أو عروض مانع من العمل.

(فأصبر على تلك الساعة التي أنت فيها) بفعل الطاعات وترك المنهيات.

(فكأنك قد اغتبطت) اغتباط بغين معجمه شاد شدن وآرزو بردن بنيكوئى حال كسى تا أو را مثل آن حال باشد، ومن تفكر في هذا الكلام الوجيز هونت عليه جميع المصائب والمشاق، والله هو الموفق والمعين.

* الأصل:

22 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«قال الخضر لموسى (عليه السلام): يا موسى إن أصلح يوميك الذي هو أمامك فانظر أي يوم هو وأعد له الجواب، فانك موقوف ومسؤول وخذ موعظتك من الدهر فإن الدهر طويل قصير، فاعمل كأنك

ص:215

ترى ثواب عملك ليكون أطمع لك في الآخرة فإن ما هو آت من الدنيا كما هو قد ولى منها».

* الشرح:

قوله: (وخذ موعظتك من الدهر فإن الدهر طويل قصير - إلى آخره) الموعظة ما يتعظ به ويمنع من الدخول فيما منعه الله عز وجل ولما كان كل صادر منك واقعا في الدهر حاضرا عنده حتى كأنه وديعة عنده. أمر بأخذ الموعظة منه سريعا من غير تسويف فإن الدهر مع طوله نظرا إلى ذاته قصير نظرا إلى وجودك وهو الساعة التي أنت فيها أو نظرا إلى انقطاعه فإن كل منقطع قصير فهذا الدهر القصير لا يصلح ترك اتخاذ الموعظة منه وتأخيرها عنه فوجب عليك أن تعمل فيه عملا بحضور القلب وكمال التوجه حتى كأنك ترى ثواب عملك في لوح نفسك فإن ذلك أطمع لك في أجرك إذ الطمع بدون ذلك كأنه مقطوع والظاهر أن قوله (فإن ما هو آت) علة للقصر وحاصله أن الآتي من الدهر كالماضي منه في عدم قدرتك على العمل فيهما، وإنما قدرتك على العمل في زمان قصير فاغتنمه وأعمل فيه كما ذكره والله أعلم.

* الأصل:

23 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): عظنا وأوجز، فقال: الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب وأنى لكم بالروح ولما تأسوا بسنة نبيكم تطلبون ما يطغيكم ولا ترضون ما يكفيكم».

* الشرح:

قوله: (فقال الدنيا حلالها حساب وحرامها عقاب - إلى آخره) الحمل للمبالغة والحلال ما يجوز التصرف فيه شرعا من الماكل والمشارب والمناكح والمراكب والملابس وغيرها وطلب الزائد على قدر الكفاف منها ورسوخ محبة ذلك في القلب يمنع من اللحوق بالمجردين المعرضين عنها، الذين لم يكتب في صحائف أعمالهم شيء منها ما يحاسبون عليه حتى أنهم يدخلون الجنة قبل هؤلاء بخمسمائة سنة أو أزيد وما ذلك إلا لكثرة حساب هؤلاء، والمراد بالروح الراحة، وبسنة النبي طريقته في ترك الدنيا أو الأعم منه فإنه يبعد عن التأسي بها من طلب من الدنيا ما يطغيه ولا يرضى منها ما يكفيه وهذه الكلمة الوجيزة شاملة لجميع ما ينبغي فعله وما ينبغي تركه من الأخلاق والأعمال وغيرهما.

ص:216

باب من يعيب الناس

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن أسرع الخير ثوابا البر وإن أسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه أو يعير الناس بما لا يستطيع تركه أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه».

* الشرح:

قوله: (إن أسرع الخير ثوابا البر وإن أسرع الشر عقوبة البغي) لعل المراد بالبر هنا اللطف بخلق الله والإحسان إليهم وثوابه سريع يصل إلى صاحبه في الدنيا أيضا ويطلق كثيرا ما على كمال الإيمان والطاعة والعفة والتقوى والأعمال الجميلة كلها، والبغي الظلم والعدوان على عباد الله والفساد بينهم ويطلق على الزنا أيضا. وهذا الكلام لفظه اخبار ومعناه نهي عن ركوب هذه المعاصي وحث على الانتهاء عنها.

(وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه أو يعير الناس بما لا يستطيع تركه أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه) من البين أن الإنسان يحب نفسه وأن المحب لا يرى عيب من يحبه فلذلك لا يبصر الإنسان عيب نفسه ولو قلع عنه علاقة المحبة لابصر عيبه كما يبصر عيب غيره، فينبغي أن يرجع إلى نفسه فإن وجد فيها عيبا اشتغل به وبإصلاحه ودفعه ولا يترك نفسه ويذم غيره وإن عجز عن إصلاحه فينبغي أن يعلم أن عجر غيره كعجزه ولو لم يجد في نفسه عيبا فهو من أعظم العيوب; لأن براءة النفس من العيب جهل والجهل عيب عظيم وعلى تقدير عدمه فليشكر الله عز وجل على النزاهة ولا يلوث نفسه بذكر عيب أخيه الذي هو أعظم العيوب، والعلم بأن تألم غيره بذكره عيب ذلك الغير كتألمه بذكر ذلك الغير عيبه، باب عظيم إلى ترك عيوب الغير، ثم الظاهر أن المراد بما يعمى عنه من نفسه وما لا يستطيع تركه الأمر الأعم سواء كان من جنس ما في الغير، أم لم يكن مع احتمال المماثلة وعلى التقديرين لا ينبغي أن يعيب صاحبه; لأن عيبه إما أن يكون مثل عيب صاحبه أو أكبر منه أو أصغر فإن كان الأولان ينبغي أن يكون له في عيبه لنفسه شغل عن عيب صاحبه وإن كان الأخير فهو ممنوع أيضا لأنه يضيف إلى عيبه الأصغر عيبا آخر أكبر

ص:217

وهو الغيبة والتعيير.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه».

3 - محمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن حماد ابن عيسى، عن الحسين بن مختار، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كفى بالمرء عيبا أن يتعرف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه أو يعيب على الناس أمرا هو فيه، لا يستطيع التحول عنه إلى غيره، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه».

4 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي عبد الرحمن الأعرج، وعمر بن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر وعلي بن الحسين صلوات الله عليهم قالا: «إن أسرع الخير ثوابا البر وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن ينظر في عيوب غيره ما يعمى عليه من عيب نفسه أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه أو ينهى الناس عما لا يستطيع تركه».

ص:218

باب أنه لا يؤاخذ المسلم بما عمل في الجاهلية

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن ناسا أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ما أسلموا فقالوا: يا رسول الله أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد إسلامه؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): من حسن إسلامه وصح يقين إيمانه لم يأخذه الله تبارك وتعالى بما عمل في الجاهلية ومن سخف إسلامه ولم يصح يقين إيمانه أخذه الله تبارك وتعالى بالأول والاخر».

* الشرح:

قوله: (قال إن ناسا أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ما أسلموا فقالوا: يا رسول الله أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد إسلامه - إلى آخره) الأظهر في السائل أنه كان حديث عهد بالإسلام; لأن جب الإسلام ما قبله كان من معالم الدين التي لا تجهل، ولعل المراد بالإسلام الحسن أن يكون اعتقاديا لا يكون فيه شوب شك ونفاق فقوله «وصح يقين إيمانه» تفسير له.

والمراد بالإسلام السخيف ما كان فيه شك ونفاق والإسلام الحسن يجب جميع ما وقع في أيام الكفر من حق الله وحق البشر إلا ما خرج بدليل مثل مال المسلم الموجود في يده، ثم الظاهر أن هذا حال الحربي الذي أسلم وأما الذمي فلا يسقط إسلامه ما وجب من دم أو مال أو غيره; لأن حكم الإسلام جار عليه على الظاهر والإسلام السخيف لا يجب ما قبله لأنه ليس بإسلام حقيقة فيؤخذ بالكفر الأول والآخر وبالعمل فيهما، وفيه دلالة على أن الكافر مكلف بالفروع كما أنه مكلف بالاصول ويمكن أن يراد بالإسلام الحسن الإسلام الثابت الذي لا يعقبه ارتداد وبالإسلام السخيف ما يعقبه ارتداد فإذا ارتد يؤخذ بكفره الأول والآخر وهذا التفسير لا يخلوا من مناقشة; لأن الإسلام قد جب الأول فكيف يؤخذ بعد الإرتداد بالأول، ويحكم بعود الزائل من غير سبب، ويمكن أن يدفع بأن السبب هو الإرتداد لأنه إذا ارتد حبطت عمله ومن جملة عمله إسلامه السابق فإذا بطل إسلامه السابق بطل جبه وإذا بطل جبه يؤخذ بالكفر الأول أيضا ضرورة أن المسبب ينتفي بانتفاء سببه على أنه يمكن أن يقال الذي يجب ما قبله هو الإسلام بشرط الاستمرار وإذا قطع الاستمرار بالارتداد علم أن هذا الإسلام لم يجب ما قبله فلا يلزم عود الزائل بل اللازم ظهور عدم زواله بذلك

ص:219

الإسلام.

واعلم أن تفسير الإسلام بالطاعة بأن يكون معه أعمال صالحة والإسلام السخيف بالمخالفة وجعل قوله «وصح يقين إيمانه» وصفا آخر للإسلام غير صحيح لأنه يوجب أن يكون جب الإسلام ما قبله موقوفا على الطاعة والعمل وليس الأمر كذلك إذ لا دليل عليه ولم نعرف أحدا يقول به.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن المنقري، عن فضيل بن عياض قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحسن في الاسلام أيؤاخذ بما عمل في الجاهلية؟ فقال: «قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام اخذ بالأول والاخر».

ص:220

باب أن الكفر مع التوبة لا يبطل العمل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب وغيره، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «من كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه، ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».

* الشرح:

قوله: (من كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه، ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره) الفتنة قد تكون من الشيطان وقد تكون من البشر وقد تكون من الله قال الله تعالى: (وفتناك فتونا) والمقصود من ذلك إظهار كمال المفتون إن صبر وإظهار خبثه إن لم يصبر والفتنة إذا اشتدت أفسدت القلوب وأورثتها القسوة والغفلة التي هي سبب الشقاء فلذلك ذكر الفتنة وفرع الكفر عليها، و «ثم» هنا للتراخي في الرتبة، وفي قوله: «إذا تاب بعد كفره» دلالة بحسب مفهوم الشرط، إن ثبت انه حجة، على أن الكفر الذي لم تعقبه التوبة يحبط الأعمال الصالحة ودل عليه أيضا قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) ثم الظاهر أن المراد بالإحباط وعدم ترتب الثواب في الآخرة; لأن الكافر إذا عمل خيرا جزاه الله عز وجل في الدنيا إن الله لا يضيع عمل عامل.

وإلحاق غير الكفر من المعاصي في الإحباط بعيد، بل لا يبعد القول بعدم الإحباط لقوله تعالى:

(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) اللهم إلا إذا غلب المعاصي على الطاعة كما دل عليه قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية) وعموم هذا الخبر أو إطلاقه دل على أن توبة المرتد مقبولة وإن كان فطريا وقد يخصص بالملى لروايات دلت على أن توبة الفطري غير مقبولة، والله أعلم.

ص:221

باب المعافين من البلاء

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه; جميعا عن ابن محبوب [وغيره] عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن لله عز وجل ضنائن يضن بهم عن البلاء فيحييهم في عافية ويرزقهم في عافية ويميتهم في عافية ويبعثهم في عافية ويسكنهم الجنة في عافية».

* الشرح:

قوله: (إن لله عز وجل ضنائن يضن بهم عن البلاء فيحييهم في عافية ويرزقهم في عافية ويميتهم في عافية ويبعثهم في عافية ويسكنهم الجنة في عافية) الضنائن الخصائص جمع ضنينة فعيله بمعنى مفعول من الضن وهي ما تخصه وتضن به لمكانه منك وموقعه عندك ومنه قولهم هو ضني من بين اخواني أي أختص به وأضن بمودته واعلم أن الله تعالى حكيم كل فعله منوط بالحكمة فإذا علم أن بعض عباده لا يحتاج في اصلاحه إلى البلاء رزقهم العافية وقد يعطي بعضهم البلاء لزيادة الأجر ورفع المنزلة وإذا علم أن بعضهم يحتاج إلى البلاء ابتلاهم به.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقا ضن بهم عن البلاء، خلقهم في عافية وأحياهم في عافية وأماتهم في عافية وأدخلهم الجنة في عافية.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن جعفر بن محمد، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل ضنائن من خلقه يغذوهم بنعمته ويحبوهم بعافيته ويدخلهم الجنة برحمته تمر بهم البلايا والفتن لا تضرهم شيئا».

ص:222

باب ما رفع عن الأمة

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أبي داود المسترق قال: حدثني عمر وابن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن امتي أربع خصال: خطاؤها ونسيانها وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك قول الله عز وجل: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) وقوله: (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان)».

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن أمتي أربع خصال - إلى آخره) أي رفع أثم البعض كما في الثلاثة الأول ونفس البعض أو حكمه التكليفي كما في الأخير فإن ما لا يطاق التكليف به أعنى الايجاب والندب غير موجودين في هذه الأمة ثم انتفاء الاثم في الأولين لا ينافي بعض الاحكام لهما كالضامن في خطاء الطبيب وقاتل النفس وإعادة الصلاة عند نسيان الركن وسجدة السهو والتدارك ونحو ذلك ويفهم من الرفع أنهما يورثان الاثم والعقوبة ولكنه تعالى تجاوز عنها رحمة وتفضلا وهو غير بعيد وإلا كراه أعم من أن يكون في أصول الدين أو فروعه، وأعم من أن يبلغ الوعيد حد القتل أو غيره مما لا يتحمل عادة وهذا العام مخصوص إذ لا اكراه في قتل المؤمن ثم استشهد لرفع الخصال المذكورة عن الأمة بالآية الكريمة، فإن قلت الآية دلت على المؤاخذة والاثم بالخطأ والنسيان والا فلا فائدة للدعاء بعدم المؤاخذة فكيف تكون دليلا على الرفع المذكور؟ قلت: أولا: قال بعض المحققين: السؤال والدعاء قد يكون للواقع والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب وعرض الافتقار لديه كما قال خليل الرحمن وابنه إسماعيل (عليهم السلام): (ربنا تقبل منا) مع أنهما لا يفعلان غير المقبول، قلت: وثانيا قد صرح بعض المفسرين بأن الآية دلت على أن الخطأ والنسيان سببان للإثم والعقوبة ولا يمتنع عقلا المؤاخذة بهما إذ الذنب كالسم فكما أن السم يؤدي إلى الهلاك وأن تناوله خطأ، كذلك الذنب ولكنه عز وجل وعد بالتجاوز عنه رحمة وتفضلا وهو المراد من الرفع فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة لها وامتدادا بها، وقال بعضهم معنى الآية ربنا لا

ص:223

تؤاخذنا بما أدى بنا إلى خطاء أو نسيان من تقصير وقلة مبالاة فإن الخطاء والنسيان أغلب ما يكون من عدم الاعتناء بالشيء وهذا وان كان دافعا للايراد المذكور لأن الدعاء بعدم المؤاخذة بسببهما ليس دعاء بعدم المؤاخذة بهما لكن فيه شيء لا يخفى على المتأمل. والاصر الذنب والعقوبة وأصله من الضيق والحبس يقال أصره يأصره إذا حبسه وضيق عليه وقيل: المراد به الحمل الثقيل الذي يحبس صاحبه في مكانه والتكاليف الشاقة مثل ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وخمسين صلاة في اليوم والليلة وصرف ربع المال للزكاة أو ما أصابهم من الشدائد والمحن وقوله: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) تأكيد لما قبله وطلب للاعفاء من التكليفات الشاقة التي كلف بها الأمم السابقة لا طلب الاعفاء عن تكليف ما لا يتعلق به قدرة البشر أصلا فلا دلالة فيه على جواز التكليف بما لا يطاق الذي أنكره العدلية وجوزه الأشاعرة باعتبار أنه لو لم يجز لم يطلبوا الاعفاء عنه وقوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) معناه إلا من أكره على قبيح مثل كلمة الكفر وغيرها وقلبه مطمئن بالإيمان غير متغير عن اعتقاد الحق وفيه دلالة على أنه لا اثم على المكره، لا يقال الاستثناء من قوله تعالى: (ومن كفر بالله من بعد إيمانه) و «من» شرطية محذوفة الجزاء أي فهو مفتر للكذب بقرينة ما تقدم، فالاستثناء دل على أن المكروه غير مفتر للكذب لا على أنه غير آثم لأنا نقول المستثنى منه في معرض الذم والوعيد وهما منتفيان عن المكره بحكم الاستثناء فلا يكون المكره من أهل الذم والوعيد فلا يكون آثما.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع عن امتي تسع خصال: الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والطيرة والوسوسة في التفكر الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد».

* الشرح:

قوله: (وما لا يعلمون) كالصلاة مع نجاسة الثوب والبدن أو موضع السجود أو في الثوب والمكان المغصوبين أو ترك الجهر والاخفات في موضعهما أو ترك القصر في السفر وغير ذلك مما يعذر الجاهل فيه وهذا العام مخصوص إذ الجاهل في كثير من المواضع غير معذور كما ذكروا في تضاعيف كتب الفروع.

(وما اضطروا إليه) سواء كان سبب الاضطرار من قبل الله تعالى كما في أكل الميتة وشرب

ص:224

النجس للمفتقر اليهما وشرب الحرام والتداوي به للمريض، أو من قبل نفسه أو من قبل الغير كمن جرح نفسه أو جرحه غيره في شهر رمضان واضطر إلى الإفطار.

(والطيرة) هي بكسر الطاء وفتح الياء وسكونها التشام بالشيء وهي مصدر يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء في المصادر هكذا غيرهما والأصل فيها أن العرب إذا أرادت المضي لمهم مرت بمجاثم الطير وأثارتها لتستفيد هل تمضى أو ترجع، ثم أجروها في السوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرها وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر.

(والوسوسة في التفكر في الخلق) كالتفكر بأنه تعالى كيف خلق الأشياء بلا مادة ولا مثال؟ أو لأي شيء خلق ما يضر ولا ينفع بحسب الظاهر؟ أو لأي خلق بعض الأشياء طاهرا وبعضها نجسا؟ أو لأي شيء خلق الإنسان من تفاوت؟ أو كيف هو سبحانه من من خلقه؟ وقد ورد أنه إذا دخل فيكم هذا الوسواس قولوا لا إله إلا الله.

(والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد) الظاهر ان ما لم يظهر متعلق بالحسد فيفهم منه ان الحسد مع الإظهار يؤاخذ به ولا ينافي ذلك ما روى من أن: «الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب» لإمكان حمله على الحسد مع الاظهار أو على الترغيب في معالجته ليحصل الإيمان الكامل وان لم يكن مؤاخذا به، ويمكن أن يكون متعلقا بالوسوسة أيضا فيفهم أن الوسوسة موضوعة ما لم يظهر وقد صرح به الشهيد في الدروس كما نقل عنه.

ص:225

باب إن الإيمان لا يضر معه سيئته والكفر لا ينفع معه حسنة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل لأحد على ما عمل ثواب على الله، موجوب إلا المؤمنين قال: «لا».

* الشرح:

قوله: (هل لأحد على ما عمل ثواب على الله، موجوب إلا المؤمنين قال: لا) دل على وجوب الثواب للمؤمنين على الله سبحانه لا لغيرهم وذلك; لأن الله سبحانه وعد على العمل بشرائطه ثوابا فإذا تحقق العمل مع شرائطه التي من جملتها الإيمان لزم الثواب وثبت وهذا معني الوجوب على الله عز وجل خلافا للأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أنه لا يجب على الله شيء وقالوا: يجوز أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي وهذا القول يبطل الوعد والوعيد.

* الأصل:

2 - عنه، عن يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال موسى للخضر (عليهما السلام): قد تحرمت بصحبتك فأوصني، قال [له]: ألزم ما لا يضرك معه شيء كما لا ينفعك مع غيره شيء».

* الشرح:

قوله: (قال [له]: ألزم ما لا يضرك معه شيء كما لا ينفعك مع غيره شيء) لعل المراد بالموصول الإيمان، وبالضرر الضرر الموجب للخلود في النار، وبالنفع النفع الموجب للدخول في الجنة وبالشيء الأول العمل القبيح وبالشيء الثاني العمل الصالح وعلى هذا لا ينافي ما ورد من الاخبار من معاقبة المؤمن بالعمل القبيح وإثابة الكافر في الدنيا بالعمل الصالح وقد مر بعضها، ويحتمل أن يراد بالشيء الاول أيضا العمل الصالح ويجعل التنكير للتصغير ويراد بالضرر النقص، لأن; العمل الصالح الصغير يجعل للمؤمن كبيرا مثله، ويجري في الحديثين بعده، وحديث ابن مارد الآتي يؤيد الاحتمال الأخير، والله أعلم.

* الأصل:

3 - عنه، عن يونس، عن ابن بكير، عن أبي أمية يوسف بن ثابت قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

ص:226

يقول: «لا يضر مع الإيمان عمل ولا ينفع مع الكفر عمل، ألا ترى أنه قال: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) - وماتوا وهم كافرون».

* الشرح:

قوله: (وماتوا وهم كافرون) دل على أنه تقبل منهم نفقاتهم في حال الكفر لو ماتوا وهم مؤمنون، والله أعلم.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن أبي أمية يوسف بن ثابت بن أبي سعدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) [قال:] قال: «الإيمان لا يضر معه عمل وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل».

5 - أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عمن ذكره، عن عبيد بن زرارة. عن محمد بن مارد قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): حديث روي لنا أنك قلت: «إذا عرفت فاعمل ما شئت؟ فقال: قد قلت ذلك، قال: وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر؟ فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون اخذنا بالعمل ووضع عنهم، إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره فإنه يقبل منك».

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن الريان بن الصلت، رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما يقول في خطبته: يا أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره والسيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لا تقبل.

هذا آخر كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي من كتاب الكافي والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله».

* الشرح:

قوله: (يا أيها الناس دينكم دينكم) أي خذوا أو الزموا أو احفظوا دينكم والتنكير للمبالغة وفي قوله: «والسيئة فيه تغفر إلى آخره» إشارة إلى أن السيئة من حيث هي سيئة ليست خيرا من الحسنة من حيث هي حسنة بل الخيرية وعدمها باعتبار المغفرة وعدم القبول.

هذا آخر ما أردنا شرحه من كتاب الإيمان والكفر ويتلوه كتاب الدعاء ان شاء الله تعالى والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص:227

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الدعاء

باب فضل الدعاء والحث عليه

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) قال: هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء، قلت: إن (إبراهيم لأواه حليم)؟ قال: الأواه هو الدعاء.

* الشرح:
كتاب الدعاء

الدعاء بالضم والمد الرغبة إلى الله تعالى ومنه دعوت فلانا ناديته وهو على أربعة أقسام: الأول ما يتعلق بالتحميد والتسبيح والتهليل، الثاني ما يتعلق بطلب خير الدنيا ورفع مكارهها، الثالث ما يتعلق بطلب الآخرة والتوفيق لخيراتها، والرابع ما تعلق بالاثنين والثلاثة منها.

قوله: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي صاغرين ذليلين (وقال هو الدعاء) أي العبادة المذكورة في الآية الدعاء وتذكير الضمير باعتبار الخبر (وأفضل العبادة الدعاء ) لعل السر في أن أفضلية العمل أما لأنه لغيره من الأعمال أو لأنه أصرح في الدلالة على الافتقار والحاجة إلى الله تعالى أو لثمرته المترتبة عليه وكل هذه الأسباب للدعاء; لأن الدعاء وهي الرغبة إليه أصل لجميع العبادات إذ لو لم يتحقق الرغبة لم يتحقق العبادة وكونه على الافتقار ظاهر وثمرته طلب اللذات أو طلب الخيرات ومن الخيرات سائر العبادات فظهر أنه أفضل حتى من تلاوة القرآن كما دلت عليه روايات آخر، وقال النووي وغيره من علماء العامة تلاوة القرآن أفضل منه إلا في الأوقات التي خصصها الشارع به كبعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس مثلا الظاهر أن القرآن ما كان من باب الدعاء فهو داخل في حكم الدعاء وما ليس منه فهو في حكم سائر العبادات،

ص:228

والله يعلم.

(قال الأواه هو الدعاء) الأواه المتضرع المتأوه والدعاء بتشديد العين الكثير الدعاء وتخصيصه بالذكر في مقام المدح دل على كمال فضله.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل وابن محبوب، جميعا عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أي العبادة أفضل؟ فقال: ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يسئل ويطلب مما عنده وما أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده.

* الشرح:

قوله: (من أن يسأل ويطلب مما عنده) متعلق بالفعلين و «من» للتبعيض وإنما أتى به لأن جميع ما عنده للجميع ولأنه غير محصور فطلبه خارج من الآداب.

(وما أحد أبغض إلى الله عز وجل ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده) لما كان الاستكبار أشد القبايح كان المتصف به أبغض الخلائق، وفي العطف إشارة إلى أن الاستكبار كناية عن ترك السؤال ولا يراد به حقيقته إذ لا يستكبر أحد من القائلين بوجوده عز وجل حقيقة.

* الأصل:

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا ميسر ادع ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه. إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا فسل تعط، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه.

* الشرح:

قوله: (يا ميسر ادع ولا تقل ان الأمر قد فرغ منه) (1) أي لا تقل أن كل كائن مكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل فمن علم الله أنه يموت في سنة كذا يستحيل أن يموت قبلها أو بعدها; لأن العلم معرفة المعلوم على ما هو به فلو مات قبلها أو بعدها لم يكن الله علم ذلك الاجل على ما هو به وانقلب العلم جهلا والجهل على الله محال، فإذا كان نصا في الاجل لا يزيد ولا ينقص

ص:229


1- (1) قوله: «الامر قد فرغ منه» فإن الله تعالى قضى للداعي بالخير لا لكل أحد. وعلمه بأن الداعي يدعو باختياره لا يتخلف كما أن علمه بأنه يصل إلى السعادة والخير لا يتخلف (ش)

وكذلك الارزاق وسائر المطالب التي يدعوهما الإنسان وهذه من الشبهات التي ذكرها المبتدعة لعدم فائدة الدعاء، وأجاب (عليه السلام) عنها بوجهين: أحدهما أن الدعاء في نفسه مطلوب لأنه عبادة جليلة تؤدي إلى منزلة رفيعة عند الله تعالى لا تنال المنزلة إلا بمسئلة ودعاء وتضرع.

الثاني أن الكائن قد يزيد وينقص ويمحو إذا كان مشروطا بشرط مثلا يقدر عمره بثلاثين سنة أن لم يصل رحمه وبسبعين ان وصلها ويقدر رزقه يوم كذا بدرهم ان لم يدع ولم يطلب الزيادة وبدرهمين ان دعاها وطلبها وهكذا باقي المطالب فحينئذ يجوز أن يكون الدعاء من جملة الشرائط للزيادة والأصل حصول المطلوب وكذا لو قدر نزول بلية يوم كذا أن لم يتضرع إليه في دفعها فلا شبهة في أن حصول النجاة منها مشروط بالدعاء، وبالجملة لوجود الكائنات وعدمها شروط وأسباب والدعاء من جملتها بل أعظمها، نعم رد هذه الشبهة على من يزعم أنه لا فاعل إلا الله ولا مؤثر سواه فإنه يفعل بلا شرط ولا سبب (1) ولا غرض، وكما يرد عليهم هذه الشبهة يرد عليهم أن لا فائدة في السعي إلى جميع الأعمال مثل الصوم والصلاة والزكاة والحج وغيرها فإن كل مقدر كائن قطعا ولا دخل لسعي العباد فيه وهم أجابوا عنها بتكلفات، فقال السمعاني: معرفة هذا الباب التوقف لا النظر ومن نظر ضل وحار وهذا لا يزيل الشبهة بل اعتراف بورودها وقال الآبي: والقضاء وان سبق بمكان كل ما هو كائن لكن استحقاق العبد للثواب وحصول المطالب ليس بذاته بل موقوف على العمل والدعاء بمعني أن الفائز بالمقاصد ميسر للدعاء والعمل والمحروم ميسر لتركها كما قال (عليه السلام): «كل ميسر لما خلق له» وقال محي الدين البغوي: والكل وان كان مفروغا عنه إلا أن الله تعالى أمر بالصلاة والصوم ووعد بأنها تنجي من النار والدعاء بالنجاة مثلا من جملة تلك العبادات فكما لا يحسن ترك الصلاة اتكالا على ما سبق من القدر فكذلك لا يترك الدعاء بالمعافاة.

* الأصل:

4 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ، عن عمرو بن جميع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من لم يسأل الله عز وجل من فضله [فقد] افتقر.

* الشرح:

قوله: (من لم يسأل الله عز وجل من فضله [فقد] افتقر) إذ وقوع الإعطاء مع السؤال متحقق لا

ص:230


1- (1) قوله: «ولا مؤثر سواه فإنه يفعل بلا شرط ولا سبب» الحق أنه تعالى فاعل وحده ولا مؤثر سواه ولم يدع أحد من المحصلين أنه بلا شرط ولا سبب بل الشرط والسبب معد يهييء الأشياء لقبول الفيض من المبدأ الاعلى كرجل يجعل الشيء مقابلا للشمس حتى تضيئه الشمس ولا مؤثر في الإضاءة إلا الشمس. (ش)

بدونه بناء على وجود شرطه أو وجود ما هو سبب لصيرورته مصلحة وهو السؤال والطلب فترك السؤال يوجب الافتقار.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ادع ولا تقل: قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز وجل يقول: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال: (ادعوني استجب لكم).

* الشرح:

قوله: (وقال: ادعوني استجب لكم) الدعاء هنا بمعنى السؤال كما هو الظاهر خصوصا مع اقترانه بأستجب لكم فهو دليل على أن المراد بالعبادة في الآية المذكورة الدعاء، عبره بها لأنه من أعظم أبوابها وهذا أو لي مما قاله بعض المفسرين من أن المراد بالدعاء هنا العبادة وبالاستجابة الإثابة حيث قال المعنى اعبدوني اثب لكم إذ فيه حمل اللفظ على خلاف ظاهره في الموضعين.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن أبي نجران، عن سيف التمار قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون بمثله ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار.

* الشرح:

قوله: (ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها) تحريص على الدعاء في جميع الأشياء صغيرها وكبيرها حتى شسع النعل وملح الطعام فأنه تعالى هو ا لمعطي للجميع.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، عن رجل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

الدعاء هو العبادة التي قال الله عز وجل: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) - الآية ادع الله عز وجل ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه. قال زرارة: إنما يعني لا يمنعك إيمانك بالقضاء والقدر أن تبالغ بالدعاء وتجتهد فيه - أو كما قال -.

* الشرح:

قوله: (إنما يعني لا يمنعك إيمانك بالقضاء والقدر أن تبالغ بالدعاء وتجتهد فيه - أو كما

ص:231

قال -) وجه المنع أن الإيمان بالقدر وهو تقدير الأشياء وبالقضاء هو الحكم بها مظنة لتوهم أنهما إن تعلقا بوجود المطلوب وجد، وان تعلقا بعدمه عدم فلا فائدة على التقديرين في الدعاء ويدفع ذلك التوهم بأنه يجوز المحو والإثبات بعدهما قبل الإمضاء على أن تعلقهما بوجود المطلوب وعدمه يجوز أن يكون مشروطا بالدعاء وعدمه فللدعاء فائدة ظاهرة وقوله: «- أو كما قال: إشارة إلى ما نقله عن زرارة اما عبارته أو مثل عبارته في إفادة هذا المعني.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن أبن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أحب الأعمال إلى الله عز وجل في الأرض الدعاء وأفضل العبادة العفاف، قال: وكان أمير المؤمنين رجلا دعاء.

* الشرح:

قوله: (وأفضل العبادة العفاف) كل ما يوجب القرب منه تعالى فهو عبادة وله مراتب متفاوتة في الفضل وأفضله العفاف بالفتح وهو ترك السؤال من الناس وكف البطن والفرج وغيرهما من الحرام ومبدؤه العلم بالمحاسن والمقابح والاعتدال في القوى العقلية والشهوية والغضبية.

ص:232

باب ان الدعاء سلاح المؤمن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض.

* الشرح:

قوله: (الدعاء سلاح المؤمن) لأنه يدفع المكاره الدنيوية والأخروية وشر شياطين الجن والإنس كما أن السلاح يدفع شر الأعداء (وعمود الدين); لأن فيضان الخيرات الدينية والتوفيق لها بسببه وثباتها وقيامها عليه كقيام السقف بالعمود.

(ونور السماوات والأرض) لعل المراد أنه لصاحبه فيها يعرفه أهلها كما يعرف الشمس والقمر وسائر الكواكب بأنوارها أو المراد أنه منورهما كما قال تعالى (الله نور السماوات والأرض) وحمل النور عليه إما من التشبيه والوجه في المشبه به حسي وفي المشبه عقلي أو من باب الحقيقة; لأن الدعاء نور ساطع عند أهل التجريد وضوء لامع عند أصحاب التوحيد.

* الأصل:

2 - وبهذا الإسناد قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع.

* الشرح:

قوله: (الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح) النجاح الظفر بالمقصود والفلاح الفوز والنجاة والبقاء على الخير ولعل المراد بالأول الظفر بالمطالب الدنيوية وبالثاني الفوز بالسعادات الأخروية والنجاة من العقوبات الباقية والبقاء على المثوبات الأبدية، والاقليد كالإحليل والمقلد كالمنبر المفتاح الذي يشبه المنجل ويجمع الأول على الاقاليد والثاني على المقالد والمقاليد، وحمل الجمع على المفرد وهو الدعاء باعتبار أن المراد به الجنس الشامل للمتكثر والمتعدد وفائدة الجمع هي التنبيه على أن الدعاء مفتاح لجميع المطالب والمقاصد (وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي

ص:233

وقلب تقي) خيريته باعتبار أنه أقرب إلى الاخلاص والإجابة وأكمل من حيث الثواب والطاعة، وفيه إشارة إلى بعض من شرائط الدعاء، والصدر النقي ما استخرج خبثه فطهر من الرذائل، والقلب التقي ما له وقاية من الميل إلى المعصية والآفات (وفي المناجاة) مع الرب (سبب النجاة) من نكارة الدنيا وشدايد الآخرة. (وبالاخلاص) في الدعاء - وهو تجريد عن شوائب النقص والرياء - (يكون الخلاص) أي النجاة من المشقة والبلاء، أو الوصول إلى الله تبارك وتعالى أو إلى المطلوب، قال في النهاية: خلص فلان إلى فلان وصل وخلص أيضا سلم ونجا، وفيه إشارة إلى بعض من شرائط الدعاء.

(فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع) الفزع الخوف والمفزع هنا الاستعانة يقال فزع منه إذا خاف، واليه إذا استغاث. يعني إذا اشتد الخوف من الأعداء ومن الفقر والبلاء ونحوها فإلى الله الاستغاثة والاستعانة لدفع ذلك وتقديم الظرف للحصر والخبر بمعني الامر.

* الأصل:

3 - وبإسناده قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء.

* الشرح:

قوله: (ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم)؟ الادرار الاكثار ويفهم منه أن الدعاء - وان لم يشمل على طلب دفع العدو ووصول الرزق وكثرته - سبب لهما وتخصيصه بالمشتمل عليهما احتمال بعيد.

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الدعاء ترس المؤمن ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك.

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن بعض أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه كان يقول لأصحابه: عليكم بسلاح الأنبياء. فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبي سعيد البجلي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الدعاء أنفذ من السنان.

* الشرح:

قوله: (إن الدعاء أنفذ من السنان) أشار إلى نفوذ الدعاء في الأعداء أشد من نفوذ السنان فيهم،

ص:234

ولعل السر فيه أن الداعي الراجي من الله تعالى والملتجيء إليه في دفع الأعداء يظهر ضعفه وعجزه ويسلب عن نفسه الحول والقوة ويتمسك بحول الله وقوته والمتمسك بالسيف والسنان معتمد بحوله وقوته وسنانه، ومن البين أن الأول أقول من الثاني في دفعهم.

7 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الدعاء أنفذ من السنان الحديد.

ص:235

باب أن الدعاء يرد البلاء والقضاء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، قال: سمعته يقول: إن الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد ابرم إبراما.

* الشرح:

قوله: (إن الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد ابرم إبراما) (1) الياء في قوله «يرد» متعلق بالدعاء، والإبرام الاحكام وقد مر أن البداء يجري في مرتبة القضاء وأن الإمضاء بعده لا راد له فالدعاء قد ينقض القضاء ويمنع من الإمضاء، والمستتر في ينقض راجع إلى ما الموصولة في كما وفيه تشبيه معقول بمحسوس لقصد الإيضاح وفي بعض النسخ «يرد» بالياء المثناة التحتانية فقوله ينقضه حينئذ خبر بعد خبر أو حال من فاعل يرد أو استيناف والظاهر أنه تصحيف.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن الدعاء يرد ما قد قدر وما لم يقدر، قلت: وما قد قدر عرفته فما لم يقدر؟ قال: حتى لا يكون.

* الشرح:

قوله: (إن الدعاء يرد ما قد قدر وما لم يقدر) اشاره إلى أن الدعاء يرد البلاء الذي قدر وقوعه والذي لم يقدر بعد فإن تقدير وقوعه في الاستقبال ممكن يدفع بالدعاء فقوله (عليه السلام): «حتى لا يكون» معناه يرد الدعاء ما لم يقدر حتى لا يكون التقدير أو غير المقدر، وإن شئت زيادة توضيح فنقول:

ايجاده تعالى للشيء موقوف على علمه بذلك الشيء ومشيئة وارادته وهي العزيمة على ما شاء وتقديره وقضائه وامضائه وفي مرتبة المشيئة إلى الامضاء تجري البداء فيمكن الدفع بالدعاء وان أردت تحقيق ذلك فارجع إلى باب البداء من كتاب التوحيد.

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن بسطام الزيات، عن أبي

ص:236


1- (1) قوله: «وقد أبرم ابراما» مع قطع النظر عن الدعاء أي تهيأت جميع أسباب الحادثة بحيث لولا الدعاء لوقعت وعلم الله أنها تقع لو لا الدعاء ولا تقع للدعاء. (ش)

عبد الله (عليه السلام) قال: إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء وقد ابرم إبراما.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن أبي همام إسماعيل بن همام، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن الدعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة، إن الدعاء ليرد البلاء وقد ابرم إبراما.

* الشرح:

قوله: (إن الدعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة) في عدة الداعي ليتوافقان، ومن طرق العامة: «ان الدعاء ليلقي البلاء فيعتلجان في الهواء» قال الزمخشري في الفائق: يعتلجان أي يصطرعان فيتدافعان.

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ألا أدلك على شيء لم يستثن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قلت: بلى، قال: الدعاء يرد القضاء وقد ابرم إبراما - وضم أصابعه -.

* الشرح:

قوله: (قال: الدعاء يرد القضاء وقد ابرم إبراما - وضم أصابعه -) لعل المراد بالقضاء المبرم هو الحكم بالتيام اجزاء المقضي وانضمام بعضها ببعض كما يرشد إليه ضم الأصابع، والإمضاء الذي لا يرده الدعاء هو الحكم بوصول المقضى إلى أهله كما يرشد إليه حديث إسحاق بن عمار الآتي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

7 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الدعاء يرد القضاء بعد ما ابرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله عز وجل إلا بالدعاء وإنه ليس باب يكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد قال: قال أبو الحسن موسى (عليه السلام): عليكم بالدعاء فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي

ص:237

ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفة.

* الأصل:

9 - الحسين بن محمد، رفعه، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل ليدفع بالدعاء الأمر الذي علمه أن يدعى له فيستجيب ولو لا ما وفق العبد من ذلك الدعاء لأصابه منه ما يجثه من جديد الأرض.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل ليدفع بالدعاء الأمر الذي علمه أن يدعى له فيستجيب) لعل الغرض في توجيه ذلك الامر وهو البلاء إلى العبد مع العلم بأنه يدفعه بالدعاء هو تحريك العبد إليه في جميع الأوقات فإنه يجوز في كل وقت أن يكون البلاء متوجها إليه ويبعثه ذلك إلى الدعاء دائما وقوله «يجثه من جديد الأرض» أي من وجهها، وفي بعض النسخ بالنون من الإجتنان وهو الاستتار وفي بعض بالثاء المثلثة من الجث وهو القطع أو انتزاع الشجر من أصله.

ص:238

باب أن الدعاء شفاء من كل داء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أسباط بن سالم. عن ابن كامل قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): عليك بالدعاء فإنه شفاء من كل داء.

* الشرح:

قوله: (فإنه شفاء من كل داء) من الادواء الجسمانية والروحانية ولبعضها أدعية مأثورة والحمل للمبالغة.

ص:239

باب أن من دعا استجيب له

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر.

* الشرح:

قوله: (الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر) الكهف كالبيت المنقور في الجبل والمراد هنا المحل ويستفاد منه مع ملاحظة التشبيه أن الإجابة في الدعاء لا في غيره ففيه ترغيب فيه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا استحيا الله عز وجل أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح على وجهه ورأسه.

* الشرح:

قوله: (ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا استحيا الله عز وجل أن يردها صفرا) الحياء انقباض النفس عن القبيح خوفا من الذم وإذا نسب إليه تعالى يراد به الترك اللازم للانقباض.

باب الهام الدعاء

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

هل تعرفون طول البلاء من قصره؟ قلنا: لا، قال: إذا الهم أحد [كم] الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن أبي ولاد قال: قال أبو الحسن موسى (عليه السلام): ما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيلهمه الله عز وجل الدعاء إلا كان كشف

ص:240

ذلك البلاء وشيكا وما من بلاء ينزل على عبد مؤمن فيمسك عن الدعاء إلا كان ذلك البلاء طويلا فإذا نزل فعليكم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (شيكا) الوشيك السريع والقريب.

باب التقدم في الدعاء

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة:

صوت معروف ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه.

* الشرح:

قوله: (من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء) ترغيب في الدعاء في جميع الأوقات لأنه مع كونه عبادة ينفع صاحبه إذا دعا عند نزول البلاء ويوجب كشفه سريعا للعلة المذكورة.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ابن سنان، عن عنبسة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من تخوف [من] بلاء يصيبه فتقدم فيه بالدعاء لم يره الله عز وجل ذلك البلاء أبدا.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن منصور بن يونس، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء.

4 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من سره أن يستجاب له في الشدة فليكثر الدعاء في الرخاء.

5 - عنه، عن أبيه، عن عبيد الله بن يحيى، عن رجل، عن عبد الحميد بن غواص الطائي، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان جدي يقول: تقدموا في الدعاء فإن العبد إذا كان دعاء فنزل به البلاء فدعا، قيل: صوت معروف وإذا لم يكن دعاء فنزل به بلاء فدعا، قيل: أين كنت قبل اليوم؟!.

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عمن حدثه، عن أبي الحسن الأول،

ص:241

عن أبيه (عليهما السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: الدعاء بعد ما ينزل البلاء لا ينتفع [به].

* الشرح:

قوله: (الدعاء بعد ما ينزل البلاء لا ينتفع [به]) يعني لمن لم يتعود بالدعاء قلبه، لما مر آنفا.

باب اليقين في الدعاء

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سليم الفراء، عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا دعوت فظن أن حاجتك بالباب.

باب الاقبال في الدعاء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه) ينبغي أن يعلم أن مقام الدعاء من أشرف مقامات العارفين فلا بد للناسك السالك العارف أن يتفكر في عجائب الملك والملكوت ويعرج إلى عالم العز والجبروت حتى ينتهي إلى سرادقات جلاله وينظر بعين بصيرته إلى قدرته وكماله ويقف بين يديه بقلبه وبدنه في مقام التناجي والدعاء ثم يفتح لسانه بالذكر والثناء مع حضور البال على وجه الخضوع والابتهال ليكون دعاؤه مقرونا بالإجابة فلو تحرك لسانه بقلب ساه (1) كان حريا بعدم الاستجابة لوجوه: الأول: أن الدعاء من أفضل الأعمال وإنما الأعمال

ص:242


1- (1) قوله: «بقلب ساه» نعلم أن جميع ما يحدث في العالم إنما هي بتأثير الملائكة الروحانيين بأمر الله تعالى لا بإستقلال الطبيعيات وعواملها لأنا نرى المصالح والأغراض في جميع المخلوقات بحيث لا نشك أن المدبر يفعل بعناية ونعلم أن الإنسان متصل بذلك العالم أعنى عالم الملائكة بإفاضة العلوم والرؤيا الصادقة فلا يمتنع أن يكون دعاؤه وتوجهه قلبا إلى ذلك العالم واستدعاؤه والحاجة باطنا إليهم موجبا لتأثيرهم في تسبيب الأسباب وتوفيق الأمور حتى يحصل المطلوب المراد ولا يرتبط أحد مع الروحانيين إلا بالقلب والنفس الناطقة وأصل الاستدعاء بالقلب وإنما الكلام لجمع الخواطر وانصراف الهمة عن غيره تعالى فإن للتكلم في شيء بعينه أثرا في ذلك مشهودا. (ش)

بالنيات ولا يتصور النية مع سهو القلب، الثاني: أن دعاءه حينئذ شبيه بالاستهزاء وهو يوجب البعد عن الرحمة فكيف يكون موجبا للإجابة، الثالث: أن اللسان ترجمان للقلب والترجمان إذا قال شيئا لم يخطر ببال الأصل ظهر منه الخيانة واستحق به الطرد والمنع عن الحضور، الرابع: ان القلب أعرض عنه جل شأنه واشتغل بغيره فقد أتخذ الها غيره كما قال عز شأنه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) فحقيق بأن يكله إلى ذلك الغير، الخامس: أن العاشق إذا أعرض عن المعشوق مع كمال ألطاف المعشوق واكرامه فالمعشوق أولى بأن يعرض عنه.

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه، وكان علي (عليه السلام) يقول: إذا دعا أحدكم للميت فلا يدعوا له وقلبه لاه عنه ولكن ليجتهد له في الدعاء.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه، عن سيف بن عميرة، عن سليم الفراء، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا دعوت فأقبل بقلبك وظن حاجتك بالباب.

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاس.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

لما استسقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسقي الناس حتى قالوا: إنه الغرق - وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده وردها:

أللهم حوالينا ولا علينا قال: فتفرق السحاب - فقالوا: يا رسول الله استسقيت لنا فلم نسق ثم استسقيت لنا فسقينا؟ قال: إني دعوت وليس لي في ذلك نية ثم دعوت ولي في ذلك نية.

* الشرح:

قوله: (اللهم حوالينا ولا علينا) أي أنزل الغيث في جوانبنا ولا تنزله علينا فالواو للعطف وفي النهاية: رأيت الناس حوله وحواليه أي مطيفين به من جوانبه يريد انزال الغيث في مواضع النبات لا في مواضع الابنية (وليس لي في ذلك نية - إلى آخره) أراد بالنية تمام القصد وكمال الاهتمام دون الاخلاص لأنه (صلى الله عليه وآله) منزه عن عدمه.

ص:243

باب الإلحاح في الدعاء والتلبث

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن حسين بن عطية، عن عبد العزيز الطويل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن العبد إذا دعا لم يزل الله تبارك وتعالى في حاجته ما لم يستعجل.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن عطية عن عبد العزيز الطويل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (ما لم يستعجل) أي ما لم يفرغ عن الدعاء أو لم يستعجل، ولم يقم بحاجته ويؤيده الخبر الآتي من «أن العبد إذا عجل فقام لحاجته يقول الله تبارك وتعالى أما يعلم العبد أني أنا الله الذي أقضى الحوائج» ومحصل القول انه لا بد للداعي من أن يعزم المسئلة ويعظم الرغبة إليه سبحانه ولا يتراخى ويحسن الظن بالله تعالى في الإجابة فإن الله سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه ولكن قد يؤخر الإجابة أما لحب صوته وتضرعه أو لغير ذلك فوجب على الداعي أن لا ييأس من الإجابة.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، وحفص بن البختري وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد إذا عجل فقام لحاجته يقول الله تبارك وتعالى: أما يعلم عبدي أني أنا الله الذي أقضي الحوائج.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن محمد ابن مروان، عن الوليد بن عقبة الهجري قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: والله لا يلح عبد مؤمن على الله عز وجل في حاجته إلا قضاها له.

* الشرح:

قوله: (والله لا يلح عبد مؤمن على الله عز وجل) معنى الالحاح أن يشتد ويتلبث ولا يتراخى ولا يتوانى وقد يفسر الالحاح بالعزم وحسن الظن بالله سبحانه في الإجابة وأحاديث هذا الباب

ص:244

يؤيد الأول.

* الأصل:

4 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن حسان، عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحب ذلك لنفسه، إن الله عز وجل يحب أن يسأل ويطلب ما عنده.

* الشرح:

قوله: (وأحب ذلك لنفسه) أي أحب الحاح الناس لنفسه دون غيره والالحاح عليه هو الملازمة بين يديه وقرع باب رحمته في الدعاء والسؤال إليه في جميع الأحوال من ألحت الناقة إذا قامت ولم تبرح وإنما أحب الله تعالى الملحين من عباده لدوام ملازمتهم ببابه وانزال فقرهم وفاقتهم بعز جنابه ونشر آمالهم ومهماتهم لديه ورفع حاجتهم وضرورياتهم إليه ورجوعهم إليه في جميع الحاجات ولونهم بكرمه في جميع الحالات سواء كانوا في ضيق ومحنة أو في سعة ونعمة لا يقطعهم المحن عن الرجوع إليه ولا يشغلهم النعم عن الإقبال إليه ولا يمنعهم الشواغل عن العكوف بين يديه وفيه اعتراف بحقيقة التوحيد والمجد والكرم واقرار بأنه مالك العز والجود والنعم ولذلك ورد «أن الدعاء مخ العبادات وأفضلها وأشرف الطاعات وأكملها»، ولذلك قال سبحانه في الترغيب إليه: (ادعوني استجب لكم) وفي المدح عليه (يدعوننا رغبا ورهبا) وفي الذم على تركه: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال (عليه السلام): «الدعاء ينفع ما نزل وما لم ينزل».

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حسين الأحمسي، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا والله لا يلح عبد على الله عز وجل إلا استجاب الله له.

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رحم الله عبدا طلب من الله عز وجل حاجة فألح في الدعاء استجيب له أو لم يستجب [له] وتلا هذه الآية: (وادعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا).

ص:245

باب تسمية الحاجة في الدعاء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله الفراء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ولكنه يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسم حاجتك، وفي حديث آخر قال: قال: إن الله عز وجل يعلم حاجتك وما تريد ولكن يحب أن تبث إليه الحوائج.

باب إخفاء الدعاء

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي همام إسماعيل بن همام عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية. وفي رواية اخرى: دعوة تخفيها أفضل عند الله من سبعين دعوة تظهرها.

* الشرح:

قوله: (وفي رواية اخرى: دعوة تخفيها أفضل عند الله من سبعين دعوة تظهرها) الفرق بين الروايتين أن الأولى تفيد المساواة بين الواحدة الخفية والسبعين والثانية تفيد الزيادة عليها ثم الحكم بالمساواة والزيادة إنما هو إذا كانت الظاهرة عرية عن الرياء والسمعة والا فلا نسبة بينهما.

ص:246

باب الأوقات والحالات التي ترجى فيها الإجابة

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح وزوال الأفياء ونزول القطر وأول قطرة من دم القتيل المؤمن فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء.

2 - عنه، عن أبيه وغيره، عن القاسم بن عروة، عن أبي العباس فضل البقباق قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يستجاب الدعاء في أربعة مواطن: في الوتر وبعد الفجر وبعد الظهر وبعد المغرب.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اغتنموا الدعاء عند أربع: عند قراءة القرآن وعند الأذان وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين للشهادة.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن عبد الله بن عطاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أبي إذا كانت له إلى الله حاجة طلبها في هذه الساعة يعني زوال الشمس.

* الأصل:

5 - عنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا رق أحدكم فليدع، فإن القلب لا يرق حتى يخلص.

* الشرح:

قوله: (فإن القلب لا يرق حتى يخلص) (1) أي يخلص عن غيره تعالى ويفرغ عن الشواغل أو يصل إليه وقد مر.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير وقت دعوتم الله عز وجل فيه الأسحار،

ص:247


1- (1) قوله: «فإن القلب لا يرق حتى يخلص» يؤيد ما ذكر في الحاشية السابقة. (ش)

وتلا هذه الآية في قول يعقوب (عليه السلام): (سوف أستغفر لكم ربي) [و] قال: أخرهم إلى السحر.

* الشرح:

قوله: (أخرهم إلى السحر) في بعض الروايات إلى سحر ليلة الجمعة، قال القاضي (عليهم السلام) اخره إلى السحر أو إلى صلاة الليل أو إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة أو إلى أن يستحل لهم من يوسف أو إلى أن يعلم أنه هل عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة.

7 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند زوال الشمس فإذا أراد ذلك قدم شيئا فتصدق به وشم شيئا من طيب، وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن حديد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا اقشعر جلدك ودمعت عيناك، فدونك دونك، فقد قصد قصدك.

قال: ورواه محمد بن إسماعيل، عن أبي إسماعيل السراج، عن محمد بن أبي حمزة عن سعيد مثله.

* الشرح:

قوله: (فدونك دونك) أي هو دونك أو قريب منك يقال هذا دونه أي قريب منه ودونك اغراء والتكرير للمبالغة.

قوله: (فقد قصد قصدك) أي اعتدل قصدك إياه وإستقام وفيه حث على طلب الحاجات منه حينئذ.

* الأصل:

9 - عنه، عن الجاموراني، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن صندل عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يحب من عبادة المؤمنين كل [عبد] دعاء، فعليكم بالدعاء في السحر إلى طلوع الشمس فإنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وتقسم فيها الأرزاق، وتقضى فيها الحوائج العظام.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل يحب من عبادة المؤمنين كل [عبد] محبته تعالى إرادة

ص:248

احسانه واكرامه وافضاله أو نفس هذه الافعال ومن دلائل محبته له توفيقه للدعاء والعبادة وهدايته اليهما ومن هذا الوجه ما يذكر أن لرجل كانت جارية فافتقدها في بعض أجزاء الليل فلم يجدها فطلبها فوجدها في بعض زوايا القصر ساجدة تقول «اللهم بمحبتك لي» فسألها بعد ذلك لم قلت بمحبتك لي ولم تقولي بمحبتي لك وكيف عرفت أنه محبك؟ قالت لو لا محبته لي ما أيقظني للعبادة وأنامك، وما وفقني لها.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن في الليل لساعة ما يوافقها عبد مسلم ثم يصلي ويدعوا لله عز وجل فيها إلا استجاب له في كل ليلة، قلت: أصلحك الله وأي ساعة هي من الليل؟ قال؟ إذا مضى نصف الليل وهي السدس الأول من أول النصف.

* الشرح:

قوله: (وهي السدس الاول من أول النصف) أي من أول النصف الاخر ومن ابتدائية وبيانية للسدس وتعيين النصف متوقف على تحقيق أن ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من الليل أو من النهار والظاهر هو الثاني وقيل بالأول.

ص:249

باب الرغبة والرهبة والتضرع والتبتل والابتهال والاستعاذة والمسألة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء والرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء. وقوله: (وتبتل إليه تبتيلا) قال: الدعاء بأصبع واحدة تشير بها، والتضرع تشير بأصبعيك وتحركهما، والابتهال ترفع اليدين وتمدهما وذلك عند الدمعة، ثم ادع.

* الشرح:

قوله: (الرغبة ان تستقبل ببطن كفيك إلى السماء) الرغبة الإرادة يقال رغب فيه واليه كسمع رغبة إذا أراده والراغب الطالب للشيء منه تعالى يناسب حاله أن يبسط كفيه إلى السماء ليوضع مطلوبه فيهما (والرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء) الرهبة الخوف والفزع والخائف يناسب حاله أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء وبطنهما إلى الأرض للاشعار بأنه القى نفسه على الأرض تذللا (1) أو بأنه مع الخوف من التقصير كيف يتوقع أخذ شيء منه تعالى: (وقوله: (وتبتل إليه تبتيلا)) الظاهر أنه من كلام الصادق (عليه السلام) وان ضمير قوله راجع إلى الله تعالى وان المقصود بيان المراد من هذه الكلمات الواقعة في القرآن الكريم.

(قال الدعاء بأصبع واحدة تشير بها) التبتل الانقطاع والمتبتل المنقطع إليه تعالى المعرض عما سواه يناسب حاله ذلك للإشعار بأنه ليس به سواء ولا مرجع إلا إياه وفي خبر يأتي «يحرك السبابة اليسرى إلى السماء بالتأني ويضعها» قيل: لعل السر فيه هو الإشارة إلى أن الروح يجرني إليك والتعلق الجسماني يجرني إلى السفل ولا يمكنني الانقطاع إليك إلا بجذباتك. (والتضرع تشير باصبعيك وتحركهما) الظاهر أنهما من اليدين وأنهما سبابتان وكونهما من يد واحدة بعيد وفي خبر يأتي تحرك السبابة اليمني يمينا وشمالا. قيل السر فيه هو الإشعار بأنه لا أدري أنا من أصحاب اليمين أم من أصحاب الشمال.

(والابتهال ترفع اليدين وتمدهما وذلك عند الدمعة، ثم ادع) في

ص:250


1- (1) قوله: «ألقى نفسه على الأرض تذللا» دلالة حركات الأعضاء على الحالات النفسانية مبنية على رابطة بينهما والسر فيه مجهول غالبا كدلالة القبلة على المحبة وعقد الحواجب على الغضب وفتح الفم على التحير وما ذكر في توجيهه تكلف. (ش)

القاموس الابتهال الإجتهاد واخلاصه، وفي النهاية الابتهال ان تمد يديك جميعا وأصله التضرع والمبالغة في السؤال وقيل الابتهال حين يرى أسباب البكاء فيرفع يديه إلى السماء حتى يتجاوز رأسه لأن البكاء علامة إجابة الدعاء فكأنه وصل إلى المطلوب وأعطاه الله تعالى فيمد يديه حتى يأخذه والظاهر أن قوله: «ثم ادع» مترتب على الابتهال وترتبه على الجميع أنسب.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم قال:

سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) فقال: الاستكانة هو الخضوع والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما.

* الشرح:

قوله: ((فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)) قيل استكان من باب الافتعال وأصله إفتعل من السكون فالمد شاذ حصل بالإشباع وقيل من باب الاستفعال وأصله استفعل من كان فالمد قياس ووجه بأنه يقال استكان إذا خضع وذل أي صار له كون خلاف كونه الأولي كما يقال استحال إذا تغير من حال إلى حال إلا أن استحال عام في كل حال واستكان خاص.

(فقال الاستكانة هو الخضوع) تذكير الضمير باعتبار الخبر والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما الإشارة بالإصبعين وتحريكهما كما مر أو الأعم منها فيشمل الابتهال أيضا.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا; عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي خالد، عن مروك بياع اللؤلؤ، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الرغبة وأبرز باطن راحتيه إلى السماء، وهكذا الرهبة وجعل ظهر كفيه إلى السماء، وهكذا التضرع وحرك أصابعه يمينا وشمالا، وهكذا التبتل ويرفع أصابعه مرة ويضعها مرة وهكذا الابتهال ومد يده تلقاء وجهه إلى القبلة ولا يبتهل حتى تجري الدمعة.

* الشرح:

قوله: (وهكذا الرهبة) أي وهكذا ذكر الرهبة وقس عليه البواقي واعلم أن تفسير الألفاظ المذكورة موافق لما مر في الرواية السابقة إلا التضرع والتبتل ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى فرد آخر لهما كما يمكن تخصيص السابق بما ذكر هنا فتأمل.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة، عن العلاء، عن

ص:251

محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مربي رجل وأنا أدعو في صلاتي بيساري فقال: يا عبد الله بيمينك، فقلت: يا عبد الله إن الله تبارك وتعالى حقا على هذه كحقه على هذه.

وقال: الرغبة تبسط يديك وتظهر باطنهما، والرهبة تبسط يديك وتظهر ظهرهما والتضرع تحرك السبابة اليمني وشمالا، والتبتل تحرك السبابه اليسرى ترفعها في السماء رسلا وتضعها، والابتهال تبسط يديك وذراعيك إلى السماء والابتهال حين ترى أسباب البكاء.

* الشرح:

قوله: (يا عبد الله بيمينك) بناء السؤال على أن اليمين أشرف من اليسار فينبغي رفع اليمين إلى الله تعالى وبناء الجواب على أن اليسار قد ينبغي رفعها لئلا يبطل حقها، وقد ورد استحباب رفعها دون اليمين في بعض الأدعية المخصوصة.

* الأصل:

5 - عنه، عن أبيه أو غيره، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الدعاء ورفع اليدين فقال: على أربعة أوجه: أما التعوذ تستقبل القبلة بباطن كفيك وأما الدعاء في الرزق فتبسط كفيك وتفضي بباطنهما إلى السماء وأما التبتل فإيماء بإصبعك السبابة وأما الابتهال فرفع يديك تجاوز بهما رأسك، ودعاء التضرع أن تحرك أصبعك السبابة مما يلي وجهك وهو دعاء الخيفة.

* الشرح:

قوله: (أما التعوذ تستقبل القبلة بباطن كفيك) كأنك تشير به إلى أنك استقبلت إلي القبلة الحقيقية التي يتوجه إليها وجوه الممكنات كلها وجعلت يدك ترسا لدفع المكاره وإنما يفعل ذلك في مقام إظهار العجز كما ترى أن العاجز المضطر قد يجعل يده ترسا لدفع السيف والسنان وقوله فيما بعد: «وتفضي بكفيك» معناه تفضي بباطن كفيك إلى القبلة.

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد ابن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) قال:

الاستكانة هي الخضوع والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم وزرارة قالا: قلنا لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف المسألة إلى الله تبارك وتعالى؟ قال: تبسط كفيك، قلنا: كيف الاستعاذة؟ قال:

تفضي بكفيك والتبتل الايماء بالأصبع، والتضرع تحريك الأصبع والابتهال أن تمد يديك جميعا.

ص:252

باب البكاء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شيء إلا وله كيل ووزن إلا الدموع فإن القطرة تطفيء بحارا من نار، فإذا أغر ورقت العين بمائها لم يرهق وجهها قتر ولا ذلة فإذا فاضت حرمه الله على النار ولو أن باكيا بكى في امة لرحموا.

* الشرح:

قوله: (ما من شيء إلا وله كيل ووزن إلا الدموع فإن القطرة تطفيء بحارا من نار) لذلك قيل محو المثبتات من العثرات بالمرسلات من العبرات، والكيل والوزن إما مصدران يقال: كال الطعام يكيله كيلا ووزنه يزنه وزنا إذا قاسه بالمكيال والميزان أو اسم لما يكال به الطعام وللعبارة وجهان الأول أن كل عبادة يعتبر كيلها ووزنها ويجزي على وجه الاستحقاق بمثلها كيلا بكيل ووزنا بوزن وإذ وقعت الزيادة فهي تفضل إلا الدمع فإنه وإن كان خفيفا قليلا يستحق صاحبه أجرا جزيلا لا يعلم قدره إلا الله عز وجل. الثاني: أن الدمع لكونه عظيما لا يحبط به الكيل والوزن لا يمكن أن يقدر بهما فلذلك يوجب أجرا جزيلا.

(فإذا إغرورقت العين بمائها) أي دمعت كثيرا كأنها غرقت في دمعتها.

(لم يرهق وجهها قتر ولا ذلة) في القاموس رهقة كفرح غشية ولحقة أو دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه والقتر محركة والقترة بالفتح العبرة، والذلة بالكسر الهون والحقارة والصعوبة.

قوله: (ولو أن باكيا بكى في امة لرحموا) أي بكي فيما بينهم أو في رفع العقوبة عنهم فعلى الأول دفع الله عنهم العقوبة الدنيوية وعلى الأخير دفع عنهم العقوبة الدنيوية والاخروية.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة ومنصور ابن يونس، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من عين إلا وهي باكية يوم القيامة إلا عينا بكت من خوف الله وما أغرورقت عين بمائها من خشية الله عز وجل إلا حرم الله عز وجل سائر جسده على النار ولا فاضت على خده فرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة وما من شيء إلا وله كيل ووزن إلا

ص:253

الدمعة، فإن الله عز وجل يطفئ باليسير منها البحار من النار، فلو أن عبدا بكي في امة لرحم الله عز وجل تلك الامة ببكاء ذلك العبد.

3 - عنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن مثنى الحناط، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دموع في سواد الليل مخافة من الله لا يراد بها غيره.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن صالح بن رزين ومحمد بن مروان وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة: عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في طاعة الله وعين بكت في جوف الليل من خشية الله.

5 - ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج ودرست، عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من شيء إلا وله كيل ووزن إلا الدموع فإن القطرة منها تطفيء بحارا من النار فإذا أغر ورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة فإذا فاضت حرمه الله على النار ولو أن باكيا بكي في امة لرحموا.

6 - ابن أبي عمير، عن رجل من أصحابه قال: قال أو عبد الله (عليه السلام): أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام): إن عبادي لم يتقربوا إلي بشيء أحب إلي من ثلاث خصال، قال موسى: يا رب وما هن؟ قال: يا موسى الزهد في الدنيا والورع عن المعاصي والبكاء من خشيتي، قال موسى، يا رب فما لمن صنع ذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى أما الزاهدون في الدنيا ففي الجنة، وأما البكاؤون من خشيتي ففي الرفيع الأعلى لا يشاركهم أحد، وأما الورعون عن معاصي فإني افتش الناس ولا افتشهم.

* الشرح:

قوله: (يا موسى أما الزاهدون في الدنيا) الزاهد في الدنيا من لا يحبها وهو من يرضى بالكفاف ويترك الزائد من حلالها ولا يلتفت إلى حرامها وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في باب الزهد من كتاب الكفر والإيمان، والرفيع الأعلى مسكن الأنبياء والأولياء من أعلى عليين وهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا. والتفتيش الطلب والفحص عن أحوال الناس من كبير ما فعلوا وصغيره وكان المراد بعدم تفتيش أهل الورع دخولهم الجنة بغير حساب والتسامح فيه محتمل.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار قال:

ص:254

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون أدعو فأشتهي البكاء ولا يجيئني وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرق وأبكي فهل يجوز ذلك؟ فقال: نعم فتذكرهم فإذا رققت فابك وادع ربك تبارك وتعالى.

* الشرح:

قوله: (فإذا رققت فابك وادع ربك) أمر بصرف قلبه إلى الله تعالى وإلى أمر الآخرة وذكر ما بعد الموت فإن ذكر الميت كثيرا ما يفضى إلى ذلك، وفيه دلالة على جواز استعمال الحيل المشروعة لترقيق القلب والقدرة على البكاء.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عنبسة العابد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن لم تكن بك بكاء فتباك.

* الشرح:

قوله: (إن لم تك بك بكاء فتباك) (كذا) الظاهر إن لم تك خطاب. وبكاء بتشديد الكاف للمبالغة وهو من يقدر على البكاء بسهولة ويحتمل الغيبة وتخفيف الكاف وضم الباء و «كان» حينئذ تامة والتباكي إظهار البكاء مع عدمه وفيه تشبه بالباكي وهو مطلوب مع أنه قد يفضي إلى البكاء ولو قليلا.

* الأصل:

9 - عنه، عن ابن فضال، عن يونس بن يعقوب، عن سعيد بن يسار بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أتباكى في الدعاء وليس لي بكاء؟ قال: نعم ولو مثل رأس الذباب.

10 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لأبي بصير: إن خفت أمرا يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله ومجده واثن عليه كما هو أهله وصل على النبي (صلى الله عليه وآله) وسل حاجتك وتباك ولو مثل رأس الذباب، إن أبي (عليه السلام) كان يقول: إن أقرب ما يكون العبد من الرب عز وجل وهو ساجد باك.

* الشرح:

قوله: (إن خفت أمرا يكون أو حاجة تريدها) أي إن خفت أمرا مكروها يوجد أو خفت فوات حاجة تريدها (فابدأ بالله تعالى) من قبل الدعاء.

(ومجده واثن عليه كما هو أهله) بحسب الطاقة والقدرة لا بحسب الواقع; لأن تمجيده وثناءه

ص:255

كما هو أهله بحسب الواقع خارج عن طوق البشر والتمجيد التعظيم بالرفعة والعلو والكرم والشرف وحسن الفعال، والثناء الوصف بالمدح والذكر الجميل وهما متغايران بحسب المفهوم ومتقاربان بحسب الصدق.

(أقرب ما يكون العبد من الرب عز وجل وهو ساجد باك) غاية القرب منه بغاية التذلل والتواضع له وهي في تلك الحالة توضع مكارم الأعضاء له على التراب وقد دل عليه القرآن الكريم أيضا.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل البجلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لم يجئك البكاء فتباك، فإن خرج منك مثل رأس الذباب فبخ بخ.

* الشرح:

قوله: (فبخ بخ) في النهاية هي كلمة يقال في المدح والرضا بالشيء وتكريره للمبالغة وهي مبنية على السكون فإن وصلت جررت ونونت فقلت بخ بخ وربما شددت وبخبخت الرجل إذا قلت له ذلك ومعناه تعظيم الأمر وتفخيمه.

ص:256

باب الثناء قبل الدعاء

* الأصل:

1 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن الحارث ابن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدح له والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم يسأل الله حوائجه.

* الشرح:

قوله: (إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه - إلى آخره) أي بعدوا أنفسكم حين أراد أحدكم أن يسأل ربه من أن يسأله حتى يبدأ بالثناء على الله فالمحذر منه محذوف لدلالة سياق الكلام عليه و «إذا» ظرف للتحذير.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن محمد ابن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن في كتاب أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن المدحة قبل المسألة فإذا دعوت الله عز وجل فمجده، قلت: كيف امجده؟ قال: تقول: «يا من هو أقرب إلي من حبل الوريد، يا فعالا لما يريد، يا من يحول بين المرء وقلبه، يا من هو بالمنظر الأعلى يا من هو ليس كمثله شيء».

* الشرح:

قوله: (إن المدحة قبل المسألة) المدحة بالكسر ما يمدح به مما يليق بذاته وصفاته الذاتية والفعلية والمسئلة والسؤال بمعنى.

قوله: (تقول: يا من هو أقرب إلي من حبل الوريد) تمثيل لغاية قربه. وفي النهاية الوريد هو العرق الذي في صفحة العنق ينتفخ عند الغضب وهما وريدان.

(يا فعالا لما يريد) المبالغة لقوة الفاعل وكمال قدرته وكثرة الفعل واشتماله على كمال الصنع والحكمة وسرعة ترتبه على الإرادة ونصب المنادى لكونه شبه مضاف.

(يا من يحول بين المرء وقلبه) فيوفقه لعدم الميل إلى الشهوات البدنية ومقتضيات القوى

ص:257

الجسمانية وذلك لطف منه تعالى لمن يشاء من عباده وإليه يشير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لو لا أن رأى برهان ربه) والمعنى لو لا رأى برهان ربه لهم بها كما صرح به الرضا (عليه السلام) ويمكن أن يكون إشارة إلى كمال قربه ومبالغة فيه لافادته أنه أقرب إلى المرء من القلب وهو النفس الناطقة مع كمال اتصالها وقربها منه أو إلى عمله بمقاصد القلب فيوفقه لما يشاء منها ويمنعه عما يشاء وهو قرب الأول.

(يا من هو بالمنظر الأعلى) المنظر والمنظرة ما نظرت إليه وهو سبحانه منظور جميع الممكنات إذ نظر جميعها في ذواتها ولوازمها وآثارها وخواصها في سلسلة الأسباب والعلل والإمكان إليه جل شأنه وهو أعلى من الجميع ويمكن أن يكون كناية عن إحاطة علمه بجميع الممكنات جليها وخفيها كبيرها وصغيرها واستيلاؤه على الجميع; لأن كونه بالمنظر الاعلى يستلزم ذلك.

قوله: (يا من ليس كمثله شيء) المقصود نفي مثله لا نفي مثل مثله المستلزم لثبوت مثله فالكاف زائدة كذا قيل، وقيل غير زائدة والمقصود نفي المثل بالبرهان، بيانه أن ذاته تعالى مسلم الثبوت لا ينكره أحد فلو ثبت له مثل لزم ثبوت مثل المثل ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم وهو المطلوب.

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن ابن سنان، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار.

4 - وعنه، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله إلا أ نه قال:

ثم الثناء، ثم الاعتراف بالذنب.

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن حماد بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أردت أن تدعو فمجد الله عز وجل وأحمده وسبحه وهلله واثن عليه وصل على محمد النبي وآله، ثم سل تعط.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عيص بن القاسم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربه وليمدحه فإن الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه فإذا طلبتم الحاجة فمجدوا الله العزيز الجبار وامدحوه وأثنوا عليه تقول: «يا أجود من اعطى ويا خير من سئل، يا أرحم من استرحم، يا أحد

ص:258

يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا من لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، يا من يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ويقضي ما أحب، يا من يحول بين المرء وقلبه، يا من هو بالمنظر الأعلى، يا من ليس كمثله شيء يا سميع يا بصير» وأكثر من أسماء الله عز وجل فإن أسماء الله كثيرة وصل على محمد وآله وقل: «اللهم أوسع علي من رزقك الحلال ما أكف به وجهي واؤدي به عن أمانتي وأصل به رحمي ويكون عونا لي في الحج والعمرة» وقال: إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين ثم سأل الله عز وجل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عجل العبد ربه وجاء آخر ففصلى ركعتين ثم أثنى على الله عز وجل وصلى على النبي [وآله] فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سل تعط.

* الشرح:

قوله:: (يا أجود من أعطى) وجه التفضيل ظاهر لعظمة جوده وسرعة وصوله ووقوعه من موقعه وعدم توقع العوض في مقابله وعدم خوف النقص والحاجة إلى الآلة في تحققه وإنما لم يحصر الجود فيه مع أنه أكمل في المدح وأقوى في الثناء; لأن عدمه أنسب بالمقام وأدل على كمال انقطاع السائل إليه عز وجل وإعراضه عما سواه وقس عليه ما بعده.

(يا أحد) في بعض الأدعية «يا واحد يا أحد» والفرق بينهما على ما ذكره صاحب العدة أن الواحد من لا نظير له في الذات والأحد من لا نظير له في الصفات.

(يا صمد) الصمد السيد الذي يقصد إليه في الامور ويرجع إليه في الحوائج والنوازل من صمد إذا قصد (يا من لم يلد) لتنزهه عن الشهوة والافتقار إلى الصاحبة والولد والمجانسة لشيء والولد يجانس الوالد، وفيه رد على من أثبت له ولدا كاليهود والنصارى. (ولم يولد) إذ لم يسبقه أحد ولا يفتقر وجوده إلى شيء.

(ولم يكن له كفوا أحد) أي لم يكن أحد مماثلا له قدم الخبر لرعاية الفواصل وللإهتمام بنفي المماثل من جميع الجهات.

(يا من يفعل ما يشاء) بمجرد المشيئة والإرادة بلا آلة ولاروية ولا تعب.

(ويحكم ما يريد) الحكم القضاء بالعدل أي يحكم بلا مانع بالعدل بين العباد ما يشاء من الفقر والغنى والصحة والسقم وغيرها.

(ويقضى ما أحب) أي يقضى بلا دافع وجود ما أحب وجوده مما فيه صلاح.

(يا سميع يا بصير) السميع السامع والبصير والمبصر فعيل من أبنية المبالغة وهو سبحانه يسمع المسموعات ويبصر المبصرات أي يعلمها بلا آلة ولا جارحة فهما نوعان من العلم وفي ذكر

ص:259

هذه الأوصاف قبل السؤال أشعار بأنه مبدأ الحاجات كلها واستعطاف في حصولها.

(اللهم أوسع علي من رزقك الحلال) هو ما كان مكسبه طيبا وطريقه مشروعا واختلفوا في أن الحرام رزق أم لا فذهب إلى كل فرقة فالحلال على الأول تقييد وعلى الثاني تأكيد.

(ما أكف به وجهي) عن سؤال الناس إذ فيه ذل حاضر وخسران لازم.

(وأؤدى به عن أمانتي) أي أقوى يقال آدى يؤدي كآوى يؤوى إذا أقوى، وعن بمعنى على وقراءة أودى بتشديد الدال من التأدية وجعل عن زائدة احتمال بعيد، والمراد بالأمانة العبادات والقوة عليها وأداؤها موقوف على الرزق وفي الخبر «لو لا الخبز ما صلينا ولا صمنا» (عجل العبد ربه) حيث سأله قبل أن يمجده ويثنى عليه وفيه دلالة على أن الحمد والثناء والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلاة غير كافية السؤال عقيبها.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي كهمس قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: دخل رجل المسجد فابتدأ قبل الثناء على الله والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عاجل العبد ربه، ثم دخل آخر فصلى وأثنى على الله عز وجل وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سل تعط، ثم قال: إن في كتاب علي (عليه السلام): أن الثناء على الله والصلاة على رسوله قبل المسألة وإن أحدكم ليأتي الرجل يطلب الحاجة فيحب أن يقول له خيرا قبل أن يسأله حاجته.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت:

آيتان في كتاب الله عز وجل أطلبهما فلا أجدهما قال: وما هما؟ قلت: قول الله عز وجل:

(ادعوني أستجب لكم) فندعوه ولا نرى إجابة، قال: أفترى الله عز وجل أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمم ذلك؟ قلت: لا أدري، قال: لكني اخبرك، من أطاع الله عز وجل فيما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه: قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثم تشكره ثم تصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ثم تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء ثم قال: وما الآية الاخرى؟ قلت: قول الله عز وجل: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) وإني انفق ولا أرى خلفا، قال: أفترى الله عز وجل أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمم ذلك؟ قلت: لا أدري قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفقه في حله لم ينفق درهما إلا اخلف عليه.

* الشرح:

ص:260

قوله: (ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ثم تستعيذ منها) كان الإستعاذة كناية عن التوبة وفيه دلالة على أن الدعاء محجوب بدون شرطه كما لا تصح صلاة بغير طهور ومن جملة شرائطها التوبة عن الذنوب كلها والعزم على عدم العود إليها وهذا الشرط لمن له صلاح ولله تعالى فيه عناية حيث يمنع إجابة دعائه تأديبا له حتى يخلص له النية يطهر نفسه عن الذنوب المكدرة لصفاء قلبه ويدخل نفسه في خلص عباده، وإلا فيجيء إن دعاء العدو قد يكون أسرع إجابة من دعاء المحب حبا لسماع صوته وبغضا لسماع صوت العدو. وقال بعض العامة: ومن شرائط قبوله أن لا يشتغل به في وقت مستحق لغيره كما لو اشتغل به في وقت خيار فريضة فلا يتقبل من غاصب فإنه في كل آن مكلف بالاشتغال بالرد، وقال بعضهم: الصواب خلاف ما ذكر وأنه يصح من المشتغل به في وقت عبادة اخرى ويأثم بالترك أو بتأخير تلك العبادة.

9 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سره أن يستجاب له دعوته فليطب مكسبه.

ص:261

باب الاجتماع في الدعاء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبيد الله بن عبد الله الواسطي، عن درست بن أبي منصور، عن أبي خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من رهط أربعين رجلا اجتمعوا فدعوا الله عز وجل في أمر إلا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعين فأربعة يدعون الله عز وجل عشر مرات إلا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعة فواحد يدعوا الله أربعين مرة فيستجيب الله العزيز الجبار له.

* الشرح:

قوله: (ما من رهط أربعين رجلا اجتمعوا فدعوا الله عز وجل في أمر إلا استجاب الله لهم) في النهاية الرهط وهم عشيرة الرجل وأهله من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه ويجمع على أرهط وأرهاط، وأراهط جمع الجمع، وفي القاموس الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة.

وفيه فضيلة الاجتماع للدعاء والظاهر أنه لابد من دعاء كل واحد سواء كان الدعاء واحدا أو متعددا فإذا اجتمعوا في طلب الرزق مثلا ودعا كل واحد منهم دعاء مأثورا غير ما دعا به الآخر من الأدعية المأثورة فيه يتحقق الاجتماع وترتب عليه الاستجابة، ويحتمل أن يحقق الاجتماع إذا دعا واحد وأمن الباقون كما يدل عليه خبر آخر.

ثم الظاهر أنه يعتبر في دعاء الأربعة عشر مرات ودعاء الواحد أربعين مرة أن يكون ذلك في مجلس واحد; لأن ذلك قائم مقام اجتماع الأربعين.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن يونس ابن يعقوب، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد فدعوا [الله] إلا تفرقوا عن إجابة.

* الأصل:

3 - عنه، عن الحجال، عن ثعلبة، عن علي بن عقبة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) إذا حزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا وأمنوا.

ص:262

* الشرح:

قوله: (ثم دعا وأمنوا) أمن فلان يؤمن تأمينا إذا قال آمين وهو اسم مبنى على الفتح ممدود ومقصور والمد أكثر وقد يشدد المد ويمال أيضا ومعناه اللهم استجب لي، وقيل معناه كذلك فليكن أو فافعل يعني الدعاء وعن الواحدي أنه اسم من أسمائه تعالى.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الداعي والمؤمن في الأجر شريكان.

ص:263

باب العموم في الدعاء

اشاره:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دعا أحدكم فليعم فإنه أوجب للدعاء.

باب من أبطأت عليه الإجابة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:

قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك إني قد سألت الله حاجة منذ كذا وكذا سنة وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال: يا أحمد إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك، إن أبا جعفر صلوات الله عليه كان يقول: إن المؤمن يسأل الله عز وجل حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حبا لصوته واستماع نحيبه ثم قال: والله ما أخر الله عز وجل عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم فيها وأي شيء الدنيا، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحوا من دعائه في الشدة، ليس إذا اعطي فتر، فلا تمل الدعاء فإنه من الله عز وجل بمكان وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم وإياك ومكاشفة الناس فإنا أهل بيت نصل من قطعنا ونحسن إلى من أساء إلينا، فنرى والله في ذلك العاقبة الحسنة، إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فاعطي طلب غير الذي سأل وصغرت النعمة في عينه فلا يشبع من شيء وإذا كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه وما يخاف من الفتنة فيها، أخبرني عنك لو أني قلت لك قولا أكنت تثق به مني؟ فقلت له: جعلت فداك إذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله على خلقه؟ قال: فكن بالله أوثق فإنك على موعد من الله، أليس الله عز وجل يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وقال: (لا تقنطوا من رحمة الله) وقال: (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيرا فإنه مغفور لكم.

* الشرح:

قوله: (حبا لصوته واستماع نحيبه) النحب والنحيب أشد البكاء وفعله كمنع وينبغي أن يعلم

ص:264

أن لإجابة الدعاء شروطا متكثرة معلومة لمن تصفح الأحاديث والكتب المدونة لبيان فوائد الدعاء وشرائطه والشروط المذكورة في هذا الحديث خمسة: الأول: أن يكون دعاؤه في الرخاء مثل دعائه في الشدة لئلا يقول الملك في حال الشدة إن ذا الصوت لا نعرفه فينبغي أن لا يمل من الدعاء ولا يتركه في جميع الحالات، الثاني: أن يكون صابرا فيه لو تأخر الإجابة ملحا عليه ولا يقول دعوت مرات فلم يستجب لي فيقطعه ويستحسر منه، الثالث: أن يكون دعاؤه وطلبه متعلقا بأمر حلال، الرابع: أن لا يكون الداعي قاطع الرحم ويندرج فيه قاطع حقوق المسلمين.

الخامس: أن يجتنب من مكاشفة الناس ومجادلتهم بما لا يناسبه، وإذا كملت هذه الشرائط وغيرها من الشرائط المعتبرة فيه استجاب الله وقبله البتة وما لم يقبل من الدعاء فإنما هو لعدم شرط من شرائطه، ثم الاستجابة بأحد أمور أربعة: الأول: اعطاء مطلوبه سريعا، الثاني: إنجاز مطلوبه وتأخيره زمانا ماحبا لسماع صوته، الثالث: قبول دعائه وجعله كفارة لذنوبه، الرابع قبوله وجعله ذخيرة له للآخرة وهذان الأخيران إذا علم الله سبحان بأن لا مصلحة له في إنجاز مطلوبه في الدنيا فمن دعا مرارا ولم يصل إلى مطلوبه وترك الدعاء يأسا من قبوله كأنه ظن أن استجابة الدعاء وفوائده منحصرة في الأمر الأول وهذا جهل منه وقنوط من روح الله تعالى وتكذيب لوعده نعوذ بالله من هذه الرذائل النفسانية والخصائل الشيطانية.

* الأصل:

2 - عنه، عن أحمد، عن علي بن الحكم، عن منصور الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما دعا الرجل بالدعاء فاستجيب له ثم أخر ذلك إلى حين؟ قال فقال: نعم، قلت: ولم ذاك؟ ليزداد من الدعاء؟ قال: نعم.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن أبي هلال المدائني، عن حديد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد ليدعوا فيقول الله عز وجل للملكين: قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته، فإني احب أن أسمع صوته وإن العبد ليدعوا فيقول الله تبارك وتعالى عجلوا له حاجته فإني أبغض صوته.

4 - ابن أبي عمير، عن سليمان صاحب السابري، عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يستجاب للرجل الدعاء ثم يؤخر؟ قال: نعم عشرين سنة.

5 - ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بين قول الله عز وجل: (قد اجيبت دعوتكما) وبين أخذ فرعون أربعين عاما.

6 - ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

ص:265

يقول: إن المؤمن ليدعوا فيؤخر إجابته إلى يوم الجمعة.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن غير واحد من أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن العبد الولي لله يدعوا الله عز وجل في الأمر ينوبه فيقول: للملك الموكل به: اقض لعبدي حاجته ولا تعجلها فإني أشتهي أن أسمع نداءه وصوته وإن العبد العدو لله ليدعوا الله عز وجل في أمر ينوبه فيقال للملك الموكل به: اقض [لعبدي] حاجته وعجلها فإني أكره أن أسمع نداءه وصوته قال: فيقول الناس: ما اعطي هذا إلا لكرامته ولا منع هذا إلا لهوانه.

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام ابن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يزال المؤمن بخير ورجاء، رحمة من الله عز وجل ما لم يستعجل، فيقنط ويترك الدعاء، قلت له: كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة.

9 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن إسحاق ابن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليدعوا الله عز وجل في حاجته فيقول الله عز وجل: أخروا أجابته شوقا إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل: عبدي! دعوتني فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا ودعوتني في كذا وكذا فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب.

* الشرح:

قوله: (فيقول الله عز وجل: أخروا أجابته شوقا إلى صوته ودعائه) قيل الشوق إنما يتعلق بشيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه آخر فإن غير المدرك أصلا والمدرك من جميع الوجوه لا يتصور الشوق إليه فإن من غاب عنه محبوبه وبقى عنده خياله يشتاق إليه وكذا لو رآه لم يتصور أن يشتاق إليه إلا أن يراه من وجه دون وجه كأن يرى وجهه دون شعره ويراه في ظلمة فإنه يشتاق إلى استكمال رؤيته باشراق الضوء إليه فلكل مشتاق جهتان جهة أدراك وجهة جهل فالشوق نقص وهو ممتنع عليه سبحانه، وأجيب بأن الشوق يستلزم المحنة وإذا نسب إليه سبحانه يراد به ذلك اللازم.

(فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا) إن قلت عدم ظفر المتمني بما تمناه ألم ولا ألم في الجنة قلت لا نسلم أن ذلك ألم ولو سلم فقد وقع هذا الألم في يوم القيامة على أنه ألم لمن لم ينل ثواب ذلك ولعله بتمنيه ذلك ينال ثوابه أيضا.

ص:266

باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته عليهم السلام

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد.

* الشرح:

قوله: (قال: لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد) آل النبي عندنا عترته الطاهرة وأهل العصمة (عليهم السلام). ولا وجه لتخصيص الشهيد الثاني بأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). وللعامة اختلافات فيه فقيل آله أمته وقيل عشيرته وقيل من حرم عليه أخذ الزكاة من بني هاشم وبني عبد المطلب، والسر في حجب الدعاء بدون الصلاة: أمران: الأول أن نبينا وآله (عليهم السلام) وسائط بينه سبحانه وبين عباده في قضاء حوائجهم ونيل مطالبهم وهم أبواب معرفته عز وجل فلابد من التوسل بهم في عرض الدعاء عليه وقبوله لديه وذلك ما إذا أراد أحد من الرعية اظهار حاجته على السلطان يتوسل بمن يعظمه السلطان ولا يرد قوله وقد أشار إليه فخر السالكين ابن طاووس رضي الله عنه في بعض المواضع:

الثاني: إن العبد إذا ضم الصلاة مع دعائه وعرض المجموع إلى الله سبحانه والصلاة غير محجوبة فالدعاء أيضا غير محجوب; لأن الله سبحانه كريم يستحيى أن يقبل جزء المعروض ويرد جزءا آخر وقد جعل ذلك خصلة بين عباده أيضا فإنه قرر على من اشترى أمتعة مختلفة وكان بعضها معيبا أن يرد الجميع أو يقبل الجميع ولم يجوز قبول الصحيح ورد المعيب وقد صرح بذلك بعض المتأخرين وأشار إليه الصادق (عليه السلام) في الخبر الآتي.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من دعا ولم يذكر النبي (صلى الله عليه وآله) رفرف الدعاء على رأسه فإذا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) رفع الدعاء.

* الشرح:

قوله: (رفرف الدعاء) على رأسه رفرف الطائر إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه.

ص:267

* الأصل:

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن أبي اسامة زيد الشحام، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني أجعل لك ثلث صلواتي، لا، بل أجعل لك نصف صلواتي، لا، بل أجعلها كلها لك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

إذا تكفي مؤونة الدنيا والآخرة.

* الشرح:

قوله: (إذا تكفي مؤونة الدنيا والآخرة) إذا جواب وجزاء والمؤونة ما يحتاج إليه والصعوبة أيضا أي إذا كان الأمر كما ذكرت يكفيك الله مؤونتك في الدنيا والآخرة فحذف الفاعل وأقيم المفعول الأول مقامه.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف، عن أبي اسامة، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما معنى أجعل صلواتي كلها لك؟ فقال: يقدمه بين يدي كل حاجة فلا يسأل الله عز وجل شيئا حتى يبدأ بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيصلي عليه ثم يسأل الله حوائجه.

* الشرح:

قوله: (ما معنى أجعل صلواتي كلها لك؟ فقال يقدمه بين يدي كل حاجة - إلى آخره) تذكير الضمير هنا باعتبار المعنى وهو الدعاء وتأنيثه سابقا باعتبار اللفظ ولعل المراد بكل صلاة الصلاة الكاملة في الفضل والأجر وهي الواقعة قبل السؤال وبنصفها ما دونها بهذا القدر في الفضل وهي الواقعة في وسط السؤال وثلثها ما انحط منها بهذه النسبة وهي والواقعة بعد الفراغ من السؤال، وبالجملة ففيه إشارة إلى تفاوت مراتب الصلاة في الفضل والكمال والأجر والله أعلم.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لاتجعلوني كقدح الراكب فإن الراكب يملأ قدحه فيشر به إذا شاء، اجعلوني في أول الدعاء وفي آخره وفي وسطه.

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا: تجعلوني كقدح الراكب) مثله في كتب العامة أيضا وفي النهاية والفائق أراد لا تؤخروني في الذكر; لأن الراكب يؤخر القدح إلى أن يرفع كل شيء بسبب ما فيه من

ص:268

الماء وربما يحتاج إليه فيستعمله ويشربه ثم يعلقه في آخر رحله عند فراغه من ترحاله ويجعله من خلفه.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، وحسين بن أبي العلاء عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال:

إذا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) فأكثروا الصلاة عليه فانه من صلى على النبي (صلى الله عليه وآله) صلاة واحدة صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة ولم يبق شيء مما خلقه الله إلا صلى على العبد لصلاة الله عليه وصلاة الملائكة، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور، قد برئ الله منه وروله وأهل بيته.

* الشرح:

قوله: (قال: إذا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) فأكثروا الصلاة عليه فانه من صلى على النبي (صلى الله عليه وآله) صلاة واحدة صلى الله عليه ألف صلاة في ألف صف من الملائكة) صلاته تعالى ألف صلاة في ألف صف من الملائكة يحتمل وجهين الأول: أنه صلى عليه حقيقة بكلام يسمعه ألف صف من الملائكة فيصلون الملائكة أيضا بصلاته جل جلاله، الثاني: أنه صلت عليه ألف صف من الملائكة بأمره جل جلاله لهم بالصلاة عليه ونسبة الصلاة إليه سبحانه باعتبار أنه أمر ويحتمل أن يراد من قوله «صلى الله عليه» رحمته وضعف أجره من قبيل (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وهذه الوجوه تجرى في قوله تعالى: «فإن ذكرني في ملاء ذكرته في ملاء خير منهم».

وأعلم أن الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) لا في الصلاة ولا عند الذكر مستحب عند أهل الإسلام ولا نعرف أحدا يقول بوجوبه إلا الكرخي فإنه أوجبها في العمر مره كما في الشهادتين، وأما في الصلاة فأجمع علماؤنا على وجوبها في التشهدين معا وسيجئ الكلام فيه، وقال الشافعي: مستحبة في الأول واجبة في الثاني، وقال أبو حنيفة ومالك: مستحبة فيهما، وأما عند ذكره (صلى الله عليه وآله) فظاهر هذا الخبر وظاهر خبر عبيد الله بن عبد الله الدهقان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وظاهر قوله (صلى الله عليه وآله): «من ذكرت عنده ولم يصل على دخل النار ومن ذكرت عنده فنسي الصلاة على خطىء به طريق الجنة» أنها تجب كلما ذكر وكلما سمع وهو مختار ابن بابويه (قدس سره) وصاحب كنز العرفان من أصحابنا والطحاوي من العامة.

وقال الزمخشري وهو الذي يقتضيه الاحتياط ومنهم من أوجبها في العمر مرة ومنهم من أوجبها

ص:269

في كل مجلس، وقال الفاضل الأردبيلي: ولا شك أن احتياط الكشاف أحوط، ثم قال: ويمكن اختيار الوجوب في مجلس مرة أن صلى آخرا وأن صلى ثم ذكر تجب أيضا كما في تعدد الكفارة بتعدد الموجب إذ تحللت وإلا فلا، أقول هذه التفاصيل عرية عن المستند فالقول به مستبعد فالأولى أما الوجوب عند كل ذكر كما ذهب إليه طائفة من الأفاضل، وأما الاستحباب مطلقا كما ذهب إليه آخرون مستدلين بالأصل والشهرة المستندين إلى عدم تعليمه (عليه السلام) للمؤذنين وتركهم ذلك مع عدم نكير لهم كما يفعلون الآن ولو كان لنقل، وفيه نظر; لأن عدم التعليم ممنوع وكذا عدم النكير وعدم النقل وسيجئ في باب بدء الاذان والإقامة ما رواه زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إذ أذنت فافصح بالألف والهاء فصل على النبي كلما ذكرته أو ذكره ذاكر في أذان أو غيره».

على أن عدم النقل ليس دليلا على عدمه وأصالة البراءة لا يصحل التمسك بها بعد ورود القرآن والأخبار به، ثم الظاهر من بعض الأخبار المذكورة حيث رتب الأمر بالصلاة على الذكر بالفاء التعقيبية هو فوريتها فلو أهمل الفور أثم على تقدير الوجوب ولم يسقط، وكذا الظاهر هو الأمر بها على كل أحد في جميع الأحوال ولو كان مشتغلا بالصلاة فلو ترك الامتثال واشتغل بالقراءة أو بغيرها من الأذكار الواجبة أمكن القول ببطلانها على تقدير الوجوب بناء على أن الأمر بالشيء نهيا عن ضده الخاص، والنهي عن العبادة يدل على الفساد، والراجح عدم البطلان; لأن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده الخاص ممنوع وقد حققناه في الاصول ولو سلم فلو تكرر الذكر تكرارا كثيرا بحيث يخرج الاشتغال بالصلاة عليه (صلى الله عليه وآله) عن كونه مصليا لا يبعد القول بسقوط التكليف بها لأن الفعلين إذا تضيقا ولم يكن الجمع بينهما علمنا أن أحدهما ليس بواجب قطعا ولما كان مشتغلا بالصلاة ووجب إتمامها والاستمرار بها كان ما ينافيها غير مأمور به فليتأمل.

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من صلى علي صلى الله عليه وملائكته ومن شاء فليقل ومن شاء فليكثر.

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصلاة علي وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق.

* الأصل:

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن أبي عمران الأزدي، عن عبد الله بن الحكم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال: يا رب صل على محمد وآل محمد مائة

ص:270

مرة قضيت له مائة حاجة ثلاثون للدنيا [والباقي للآخرة].

* الشرح:

قوله: (من قال: يا رب صل على محمد وآل محمد مائة مرة قضيت له مائة حاجة ثلاثون للدنيا) ظاهره أن قضاء الحاجات مترتب على القول المذكور وإن لم يطلبها وأن مائة مرة بيان لمرتبة التكرار يعني يكرر ذلك القول مائة مرة ويحتمل بعيدا أن يكون مجموع يا رب صل على محمد وآل محمد مقول القول كما يقال سبحان الله عدد خلقه.

* الأصل:

10 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، وعبد الرحمن بن أبي نجران، جميعا، عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل دعاء يدعى الله عز وجل به محجوب عن السماء حتى يصلى على محمد وآل محمد.

11 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أجعل نصف صلواتي لك؟ قال: نعم، ثم قال: أجعل صلواتي كلها لك؟ قال: نعم، فلما مضى قال:

رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفي هم الدنيا والآخرة.

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني جعلت ثلث صلواتي لك؟ فقال له: خيرا، فقال: يا رسول الله إني جعلت نصف صلواتي لك؟ فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كل صلواتي لك؟ فقال: إذا يكفيك الله عز وجل ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك الله كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يسأل الله عز وجل شيئا إلا بدأ بالصلاة على محمد وآله.

13 - ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ارفعوا أصواتكم بالصلاة علي فإنها تذهب بالنفاق.

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن يعقوب بن عبد الله، عن إسحاق ابن فروخ مولى آل طلحة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق بن فروخ من صلى على محمد وآل محمد عشرا صلى الله عليه وملائكته مائة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مائة [مرة] صلى الله عليه وملائكته ألفا: أما تسمع قول الله عز وجل: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته

ص:271

ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما).

* الشرح:

قوله: (مولى آل طلحة) نقل عن الشهيد الثاني أن المولى إذا أطلق في كتب الرجال فالمراد به غير العربي الصريح ومتى وجد منسوبا فبحسب النسبة.

(من صلى على محمد وآل محمد عشرا صلى الله عليه وملائكته مائة مرة) يدل عليه أيضا قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ولا ينافي ذلك ما سبق من أن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه ألف صلاة; لأن الزيادة من باب التفضل، ويحتمل أن يكون باعتبار تفاوت مراتب المصلين أما تسمع قول الله عز وجل: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) الاستشهاد إنما هو لصلاته تعالى وصلاة ملائكته علينا رفعا لاستبعاد ذلك لا لبيان العدد المذكور، إذ لا دلالة فيه على ذلك العدد، قيل الصلاة من الله سبحانه رحمة ومن الملائكة دعاء ففيه دلالة على جواز استعمال المشترك في كلا المعنيين على سبيل الحقيقة فهو حجة على من أنكره، والجواب أنه يمكن أن يكون ذلك من باب عموم المجاز ولا نزاع في جوازه على أنا لا نسلم أن ملائكته عطف على المفروع المستكن في يصلي لجواز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وهو يصلون بقرينة المذكور ويكون من عطف الجملة على الجملة.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج (صلى الله عليه وآله) الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح.

* الشرح:

قوله: (ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به - إلى آخره) الباء للمصاحبة أي فتميل الأعمال مع الميزان إلى الرفع لخفتها، قال الشيخ في الأربعين: ثقل الميزان كناية عن كثرة الحسنات ورجحانها على السيئات وقد اختلف أهل الإسلام في أن وزن الأعمال الوارد في الكتاب والسنة هل هو كناية عن العدل والإنصاف والتسوية، أو المراد به الوزن الحقيقي؟ فبعضهم على الأول; لأن الاعراض لا يعقل وزنها وجمهورهم على الثاني للوصف بالخفة والثقل في الحديث والموصوف صحائف الأعمال أو

ص:272

الأعمال نفسها بعد تجسيمها في تلك النشأة، ثم قال: الحق أن الموزون نفس الأعمال لا صحائفها وأن العرض في هذا المقام يتجسم في الآخرة (1) وبين ذلك بوجه طويل ومن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه.

* الأصل:

16 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن رجاله قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) من كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإن الله عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تحجب عنه.

17 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محسن بن أحمد، عن أبان الأحمر، عن عبد السلام بن نعيم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني دخلت البيت ولم يحضرني شيء من الدعاء إلا الصلاة على محمد وآل محمد فقال: أما إنه لم يخرج أحد بأفضل مما خرجت به.

18 - علي بن محمد، عن أحمد بن الحسين، عن علي بن الريان، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان قال: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال لي: ما معنى قوله: (وذكر اسم ربه فصلى) قلت: كلما ذكر اسم ربه قام فصلى، فقال لي: لقد كلف الله عز وجل هذا شططا فقلت: جعلت فداك فكيف هو؟ فقال: كلما ذكر اسم ربه صلي على محمد وآله.

* الشرح:

قوله: (لقد كلف الله عز وجل هذا شططا) الشطط الجور والظلم والبعد عن الحق وذلك لكثرة أفعال الصلاة ومقدماتها وشرائطها فلو كلفوا به عند كل ذكر لوقعوا في شدة وضيق وعطلت أمورهم بخلاف الصلاة على النبي وآله عليهم السلام.

* الأصل:

19 - عنه، عن محمد بن علي، عن مفضل بن صالح الأسدي، عن محمد بن هارون، عن أبي

ص:273


1- (1) قوله: «يتجسم في الآخرة» بينه تلميذه صدر المتألهين (قدس سرهما) في كتبه بما لا مزيد عليه وأصله أن لكل شيء في كل عالم صورة تطابقه بحيث لو اطلع عليه لعرف أنه هو وإن اختلف مراتبه بالتجسم والعرضية، والحقيقة محفوظة كما أن الرؤية بالعين وبالحس المشترك رؤية حقيقة وإن كان الرؤية بالعين ضعيفة بالنسبة إلى الحس المشترك والحس المشترك أعم وأشمل ويمكن أن يرى به ما مضى وما سيأتي والمبصر لا يرى إلا ما في الحال ومعنى تأويل الرؤيا استنباط المناسبة التي يتنبه بها للصورة الجسمية التي تطابق الاعراض كسنى الجدب التي رآها فرعون يوسف بصورة سبع بقرات عجاف ولم تكن تخيلا محضا بلا حقيقة وإلا لم تكن لها تأويل وهكذا سائر ما ذكروه (ش).

عبد الله (عليه السلام) قال: إذا صلى أحدكم ولم يذكر النبي [وآله] (عليه السلام) في صلاته يسلك بصلاته غير سبيل الجنة وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله، وقال (صلى الله عليه وآله): ومن ذكرت عنده فنسي الصلاة علي خطىء به طريق الجنة.

* الشرح:

قوله: (إذا صلى أحدكم ولم يذكر النبي وآله في صلاته يسلك بصلاته غير سبيل الجنة) يعني لا ترفع صلاته إلى عليين بل ترد عليه وربما يستدل به على وجوب الصلاة على النبي وآله في التشهد إذ لا تجب الصلاة إلا فيه اتفاقا.

قوله: (فأبعده الله تعالى) أي عن رحمته أو عن شفاعتي (وقال (صلى الله عليه وآله): من ذكرت عنده فنسى الصلاة علي خطىء به طريق الجنة) خطىء بتشديد الطاء مهموز اللام مبني للمفعول والباء للتعدية والضمير المجرور راجع إلى من، وطريق الجنة مفعول وأصله خطأ الله به طريق الجنة فحذف الفاعل وأقيم الظرف مقامه يعني جعله الله مخطئا طريق الجنة غير مصيب إياه، ثم النسيان إن كان كناية عن الترك وقد فسره به (عليه السلام) في قوله تعالى في آدم (عليه السلام): (فنسى ولم نجد له عزما) فالأمر ظاهر، وإن حمل على معناه الحقيقي فلعل ذلك لعدم الاهتمام به فليتأمل.

* الأصل:

20 - أبو علي الأشعري، عن الحسين بن علي، عن عبيس بن هشام، عن ثابت، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ذكرت عنده فنسي أن يصلي علي خطأ الله به طريق الجنة.

21 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمع أبي رجلا متعلقا بالبيت وهو يقول: اللهم صل على محمد، فقال له أبي: يا عبد الله لا تبترها لا تظلمنا حقنا قل: اللهم صل على محمد وأهل بيته.

* الشرح:

قوله: (سمع أبي رجلا متعلقا بالبيت وهو يقول: اللهم صل على محمد، فقال له أبي: يا عبد الله لا تبترها لا تظلمنا حقنا قل: اللهم صل على محمد وأهل بيته) البتر بتقديم الباء الموحدة على التاء المثناة الفوقانية بمعنى القطع قبل الإتمام يقول بترت الشيء أبتره كفرح بترا قطعته قبل اتمامه وقد ابتره أي صيره أبتر، وضمير التأنيث راجع إلى الصلاة، وحقنا مفعول فيه أي لا تظلمنا في حقنا والظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن هذا الخبر يستفاد وجوب ذكر أهل البيت معه عليهم

ص:274

السلام في الصلاة لأنه نهي عن البتر وعد ذلك ظلما ولا شك أن الظلم على أهل البيت حرام والاحتياط ظاهر، وينبغي أن يعلم أنه لا نزاع في جواز ذكر الال في الصلاة تبعا له (صلى الله عليه وآله) وإنما النزاع في جواز ذلك انفرادا وأصالة والذي عليه أصحابنا أجمعون الجواز لقوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافة: (هو الذي يصلى عليكم وملائكته) فإذا جاز الصلاة على آحاد المؤمنين فكيف لا يجوز على أشرف الامة وأخصهم به (صلى الله عليه وآله) وقوله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) ولا شك أنهم أصيبوا بأعظم المصائب وصبروا أجمل صبر وقوله تعالى: (وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم) وقوله (صلى الله عليه وآله): «اللهم صل على أبي أوفى وآل أبي أوفى» حين أوفى أبو أوفى زكاته فإذا جاز صلاته على أمته فكيف لا يجوز صلاة أمته على آله عليهم السلام، ولأن صلاة الله بمعنى الرحمة ويجوز الرحمة عليهم اجماعا فيجوز مرادفها كما تقرر في الاصول.

وقال المخالفون: إن افرادهم مكروه ومنهم صاحب الكشاف قال: نص القرآن والأخبار وإن دل على جواز ذلك لكنه مكروه; لأن ذلك صار شعارا لذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأنه اتهام بالرفض. ولا يخفى سماجة هذا القول لأنه لا معنى للحكم بالكراهة بعد شهادة القرآن والأخبار كما اعترف به وحديث الشعار الاختصاص مصادرة; لأن ذلك شعار له (صلى الله عليه وآله) عندهم بسبب منعهم لغيره والمجوزون لغيره لا يسلمون اختصاصه به وترك ما اقتضاه الدليل لأجل أن طائفة من محبي آل الرسول (صلى الله عليه وآله) عملوا به، تعصب وعناد لا يليق ارتكابه بالعاقل اللبيب وإلا لزمهم ترك العبادات لئلا يتهموا بالرفض ولهم أمثال ذلك كثيرة مثل ما ورد من تسنيم القبور حيث قالوا المستحب هو التسطيح لكن هو شعار للرفضة فالتسنيم خير منه وكذلك في التختم باليمين وغير ذلك والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.

ص:275

باب ما يجب من ذكر الله عز وجل في كل مجلس

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن ربعي ابن عبد الله بن الجارود الهذلي، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من مجلس يجتمع فيه أبرار وفجار، فيقومون على غير ذكر الله عز وجل إلا كان حسرة عليهم يوم القيامة.

* الشرح:

قوله: (ما من مجلس يجتمع فيه أبرار وفجار - إلى آخره) المجلس يصدق حتى من الواحد والحكم المذكور مشترك بينه وبين الجماعة ويندرج في الذكر ذكر الحلال والحرام والقرآن والسنة وآثار الصالحين وأخبار الأئمة الطاهرين وتنزيههم عن النقائص، واعلم أن ذكر الله تعالى هو المقصود من خلق الإنسان ومن وضع جميع التكاليف فإن المقصود من الصلاة ذكر الحق وتعظيمه، ومن الصوم كسر الشهوات وتصفية القلب عن آثارها ليصلح استقرار الذكر فيه إذ القلب المملو بالشهوات لا يتأثر بالذكر ولا يبلغ مقام القرب، ومن الحج ذكره وذكر أحوال القيامة وقس على ذلك.

وللذكر درجات الأولى: أن يكون باللسان مع غفلة القلب عنه وهذا أضعفها وإن كان لا يخلوا من فائدة.

والثانية: أن يكون بالقلب مع عدم استقراره فيه ولا يتوجه إلا بالتكلف والاجتهاد، والثالثة: أن يكون بالقلب ويستقر فيه بحيث لا يتوجه القلب إلى غيره إلا بالتكلف، والرابعة: أن يكون بالقلب مع استقراره فيه واستيلائه عليه بحيث لا يشغل عنه أصلا وهذا مرتبة المحبة، والذاكر في هذه المرتبة قد يبلغ مقام الفناء في الله بحيث يغفل عن نفسه وعن غيرها حتى عن الذكر فلا يجد في قلبه إلا المذكور.

* الأصل:

2 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما اجتمع في مجلس قوم لم يذكروا الله عز وجل ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة، ثم قال: [قال] أبو جعفر (عليه السلام): إن ذكرنا من ذكر الله وذكر عدونا من ذكر الشيطان.

ص:276

3 - وبإسناده قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

* الشرح:

قوله: (من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل - إلى آخره) المكيال والكيل بمعنى واكتلت عليه اخذت منه يقال كال المعطي واكتال الأخذ وكيل الطعام على ما لم يسم فاعله وإن شئت ضممت الكاف والطعام مكيل ومكيول مثل مخيط ومخيوط والمعنى من أراد أن يأخذ الثواب من الله سبحانه على الوجه الأكمل من غير نقص فليقل ذلك فهو كناية عن كثرة الثواب وعظمته ويحتمل أن يكون تمثيلا; لأن الثواب لا يكال بمكيال وإن احتمل ذلك كما أنه يوزن بميزان.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: مكتوب في التوراة التي لم تغير أن موسى (عليه السلام) سأل ربه فقال: يا رب أقريب أنت مني فاناجيك أم بعيد فاناديك. فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني، فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلا سترك؟ فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابون في فاحبهم فأولئك الذين إذا أردت أن اصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم.

* الشرح:

قوله: (يا رب أقريب أنت مني فاناجيك أم بعيد فاناديك) شبه حاله معه عز وجل بحال من وقع في مهلكة فاحتاج إلى الاستغاثة من القريب، أو البعيد مناجيا أو مناديا لإظهار التوبة والتحير مع علمه بأنه تعالى أقرب من كل قريب بالعلم والقدرة أو لإظهار قربه على العباد ورفع توهم البعد عنهم كما: (قال رب أرني أنظر إليك) ليجاب ب: (لن تراني) ليعلم أصحابه أنه تعالى لا يرى أبدا فأوحى الله تعالى إليه يا موسى: (أنا جليس من ذكرني) هذا أيضا استعارة تمثيلية تشبيها للغائب بالحاضر للإيضاح أو كناية عن الحضور اللائق وفيه تعب للنفوس على العبادة وحفظ النفس عن القبايح وضبط الأصوات وعدم رفعها كثيرا.

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن حسين بن زيد،

ص:277

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم الله عز وجل ولم يصلوا على نبيهم إلا كان ذلك المجلس حسرة ووبالا عليهم.

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا بأس بذكر الله وأنت تبول فإن ذكر الله عز وجل حسن على كل حال فلا تسأم من ذكر الله.

* الشرح:

قوله: (لا بأس بذكر الله وأنت تبول فإن ذكر الله حسن على كل حال) دل على استحباب الذكر في حال الجنابة والخلاء وفي حال الطهارة وعدمها وفي وقت الخلوة وعدمها فيمكن أن يستفاد منه جواز تلاوة القرآن للجنب والحائض وسيجئ الكلام فيه في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى (1) فلا تسأم عن ذكر الله في تلك الحالات لشرافة الذكر وخسة المحل فظهر التفريع.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام): يا موسى، لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب وإن ترك ذكري يقسي القلوب.

* الشرح:

قوله: (يا موسى لا، تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال) نهي عن الفرح بكثرة المال وترك الذكر في شيء من الأحوال ورتب على كل منهما ما يترتب عليه من الفساد ترغيبا في قبوله.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: مكتوب في التوراة التي لم تغير أن موسى سأل ربه فقال:

إلهي إنه يأتي علي مجالس اعزك واجلك إن أذكرك فيها، فقال: يا موسى إن ذكري حسن على كل حال.

ص:278


1- (1) قوله: «وسيجئ الكلام في كتاب الطهارة» كان بناء الشارح على شرح الفروع لكن لم ير منه شيء وقال بعضهم أنه رأى شرح كتاب الخمس وهو بعيد وكأنه اشتبه عليه ما ورد من أحاديث الخمس في باب الإمامة فرأى نسخة فيها ذكر الخمس زعمه من الفروع (ش).

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل لموسى: أكثر ذكري بالليل والنهار وكن عند ذكري خاشعا وعند بلائي صابرا واطمئن عند ذكري واعبدني ولا تشرك بي شيئا، إلي المصير، يا موسى اجعلني ذخرك وضع عندي كنزك من الباقيات الصالحات.

10 - وبإسناده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل لموسى: اجعل لسانك من وراء قلبك تسلم وأكثر ذكري بالليل والنهار ولا تتبع الخطيئة في معدنها فتندم فإن الخطيئة موعد أهل النار.

* الشرح:

قوله: (اجعل لسانك من وراء قلبك تسلم) يعني تأمل وتفكر أولا فكل ما رجحه عقلك ورآه خيرا لك وعاريا عن المفسدة ووخامة العاقبة فتكلم به فإنك إن فعلت هكذا تسلم من الندامة عاجلا وآجلا ولا تجعل قلبك وراء لسانك كما هو شأن الجهال وأهل النفاق فيكلمون بما لا يعنيهم وبما يوردهم في معرض الهلاك والندامة وهذه الكلمة الشريفة الموجزة مشتملة على نصايح الدنيا والآخرة (ولا تتبع الخطيئة في معدنها فتندم) عند مشاهدة سوء عاقبتها في يوم لا تنفع فيه الندامة وكأن المراد بمعدن الخطيئة هو الظلمة والفجرة أو السفاهة والجهالة أو كل ما يتولد منه الخطايا والشرور كرذايل النفس وأهوائها وبالجملة نهي عن اتباع الخطيئة بالتحرز عن الاصول المتولدة هي منها.

* الأصل:

11 - وبإسناده قال: فيما ناجى الله به موسى (عليه السلام) قال: يا موسى لا تنسني على كل حال فإن نسياني يميت القلب.

12 - عنه، عن ابن فضال، عن غالب بن عثمان، عن بشير الدهان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم اذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملئك.

13 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء من الملائكة.

* الشرح:

قوله: (قال الله عز وجل يا ابن آدم اذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملائك) أراد بالملاء الأول الملاء من الناس وبالأخير الملاء من الملائكة كما يأتي في تفسيره في الخبر الآخر والمعنى أنوه باسمه فيهم وآمر ملكا ينادي بذكره في ملائكة السماوات وفيه دلالة على تفضيل

ص:279

الملائكة على بني آدم في الجملة وهو كذلك واما الأنبياء والأوصياء عليهم السلام فالظاهر أنهما أفضل من الملائكة لدلالة روايات متكثرة على ذلك وقد وجد مثل هذا في كتب العامة ففي مسلم:

«إن ذكرني عبد في ملاء ذكرته في ملاء هم خير منهم»، قال القرطبي: يعني بهم الملائكة عليهم السلام وفيه تفضيل الملائكة على بني آدم وهو أحد القولين انتهى، وقال عياض: اضطرب العلماء أيما أفضل الملائكة أو الأنبياء على جميعهم السلام واستدل الأولون بهذا الحديث وأجاب الآخرون تارة بأن المعنى ذكرته بذكر خير من ذكره وهو بعيد عن اللفظ واخرى بأن هذا الحديث خبر واحد ورد بلفظ العموم وخبر الواحد لا يفيد القطع وفي التمسك بالعام خلاف (1) ثم الخلاف في تفشيل الملائكة أو الأنبياء لا يجري في نبينا (صلى الله عليه وآله) لأنه خارج عن هذا الخلاف للإجماع على أنه أفضل الخلق كلهم (2).

ص:280


1- (1) قوله: «وفي التمسك بالعام الخلاف» التمسك بالعام تمسك بالظاهر والظاهر يفيد الظن والظن ليس بحجة إلا يقام عليه دليل يقيني وتمسكوا الحجية ظواهر الالفاظ في التكاليف والاعمال بأن المخاطب إذا كلف بشيء كالصلاة والطهارة والركوع والسجود ونهي عن شيء كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام يفهم من الالفاظ معنى فإن كان مكلفا بما فهم فهو معنى حجية الظواهر وان كان مكلفا بما لا يفهم فهو تكليف بما لا يطاق فإن قيل قد يتفق أن يفهم شيئا لم يرده الشارع مثل «قوله: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) وظاهره كون المرافق منتهي المسح وليس بمراد قلنا، المراد حجية الظاهر بعد التأمل في أساليب الكلام ومراعاة القرائن ومقايسة عبارات الفصحاء ودفع احتمال ما يكون ارادته ولعلك سمعت ما روى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما مدحه شاعر من الشعراء قال لرجل بحضرته: اقطع لسانه; فذهب ليقطع لسانه بالسكين فأدركه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال المراد أحسن اليه. هذا في الظواهر المتعلقة بالعمل اما فيما لا يتعلق بالعمل فلا يبعدان يتكلم بلفظ ويراد غير ما يفهم من ظاهر معناه ولا يلزم تكليف بمالا يطاق ولا من توقف المخاطب فيه محذور. فإن قيل فما تقول في ما ورد في المعاد من الحشر والنشر والجنة والنار والحساب والميزان وسائر ما يتعلق به ألا يجوز التمسك بظواهر ألفاظ الكتاب والسنة للرد على الملاحدة والزنادقة ومن يأولها بأن المراد منها الترغيب والترهيب لرفع الظلم والفساد في الدنيا؟ قلنا نتمسك في حجية الظواهر بدلالة العقل على أن لم يكن مراد الأنبياء الكذب والغرور واغراء الناس بالجهل فإنهم مبرؤون من المكر والحيلة واغفال الناس، ولا ريب في أن ما ذكروه من شدة عذاب نار الآخرة وتوافر لذاتها وجزاء كل عامل بمقتضى عمله على أبلغ ما يكون من العدل حق ونرى أنهم أخبروا بأمور تقع بعدهم ووقعت كما أخبروا والاخبار بالقيامة من ذلك القبيل فنؤمن بها لقيام هذا الدليل القطعي على حجية ظواهر الالفاظ في هذا المقام وان لم نعلم على التفصيل كيفية تلك النقم والنعم مع التصديق بأصلها ونظير ذلك أن القرآن أخبر المهاجرين والأنصار بأنهم سيظهرون على أمم العالم فتحقق ذلك وأن لم يكونوا يعلمون قبل الوقوع تفصيله ولعل ما ظفروا من الغلبة كان فوق ما فهمو على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما حصل لهم من الأموال والدولة أعظم وأكثر مما قدروه سابقا، والله اعلم وقال تعالى في شأن المنافقين: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). (ش)
2- (2) قوله: «للإجماع على أنه أفضل الخلق كلهم» خالف فيه شرذمة لايعباء بهم كالزمخشري فزعم ان جبرئيل أفضل من نبينا (صلى الله عليه وآله) فتبرأ منه المسلمون أعنى من رأيه هذا وأطبق العرفاء أن الإنسان الكامل أفضل من كل موجود سوى الواجب وان العقل بعده في الرتبة، فإن قيل أن العقول كلهم بالفعل من جميع الجهات والإنسان بالفعل من جهة وبالقوة من جهة قلنا ليس المراد بالانسان هذا البدن المحسوس والنفس المتعلقة به الموجودة بعده بل باطنه المتحد به نحوا من الاتحاد ولم يكن نبينا (صلى الله عليه وآله) ببدنه المتولد عام الفيل نبيا وآدم بين الماء والطين ولا بنفسه المتعلقة ببدنه أيام حمله بل كان نبيا بحقيقة روحه المجردة قبل أن يخلق آدم وهو الذي أشار بقوله «أول ما خلق الله روحي» وكذلك ليس زيد زيدا ببدنه ولم يكن الشيخ الرئيس طبيبا ببدنه ولا بنفسه المنطبعة بل بعقله وروحه ولا أرسطو حكميا كذلك ولا أبو جهل كافرا ببدنه ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان بروحه في مقام وجميع الموجودات الروحانيين دون مقامه وان كان مقتضى بشريته كسائر الناس مثلهم قال: (إنما انا بشر مثلكم يوحى إلي) وسائر الناس بأرواحهم في مقامات يكون الروحانيون مثلهم أو فوقهم. (ش)

باب ذكر الله عز وجل كثيرا

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شيء الا وله حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه، فرض الله عز وجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن، وشهر رمضان فمن صامه فهو حده والحج فمن حج فهو حده إلا الذكر فإن الله عز وجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهي إليه ثم تلا هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) فقال: لم يجعل الله عز وجل له حدا ينتهي إليه، قال: وكان أبي (عليه السلام) كثير الذكر لقد كنت أمشي معه وإنه ليذكر الله وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله ولقد كان يحدث القوم [و] ما يشغله ذلك عن ذكر الله وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ومن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر. والبيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عز وجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا اخبركم بخير أعمالكم لكم، أرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من الدينار والدرهم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم ويقتلوكم؟ فقالوا: بلى، فقال: ذكر الله عز وجل كثيرا، ثم قال:

ص:281

جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكرا. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من اعطي لسانا ذاكرا فقد اعطي خير الدنيا والآخرة. وقال: في قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر) قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله.

* الشرح:

قوله: (ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا)) قال القرطبي في تفسير هذه الآية هذا السياق يدل على وجوب الذكر الكثير لأنه لم يكتف به حتى أكده بالمصدر ولم يكتف بالمصدر حتى وصفه بالكثير وهذا السياق لا يكون في المندوب فظهر أن الذكر الكثير واجب ولم يقل أحد بالوجوب اللساني دائما، فرجع إلى ذكر القلب وذكر الله تعالى دائما في القلب يرجع اما إلى الإيمان بوجوده وصفات كماله وهو يجب ادامته في القلب ذكرا أو حكما في حال الغفلة لأنه لا ينفك عنه إلا بنقيضه وهو الكفر، وأما أن يرجع إلى ذكر الله تعالى عند الاخذ في الفعل فإنه يجب أن لا يقدم أحد على فعل أو قول حتى يعرف حكم الله فيه ولا ينفك المكلف عن فعل أو قول دائما فيجب ذكر الله دائما.

قوله: (وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: لا اله إلا الله) اللسان يلزق في قول هذه الكلمة الشريفة بالحنك أربع مرات.

(وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر) فيه فضل الاجتماع للذكر والدعاء والتلاوة وهذا متفق عليه بين الخاصة والعامة ومن طرقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده، قال بعضهم المراد بالسكينة الوقار والطمأنينة، وقال بعضهم المراد بها الرحمة، ورد بذكر الرحمة قبلها.

(كما يضيء الكواكب الدري) في النهاية الكواكب الدري الشديد الإنارة كأنه نسب إلى الدر تشبيها بصفائه وقال الفراء الكوكب الدري هو العظيم المقدار وقيل هو أحد الكواكب الخمسة السيارة. (وخير لكم من الدينار والدرهم) وهو ظاهر لأن نفعهما منقطع ونفع الذكر دائم، والمراد خير لكم من انفاقهما في سبيل الله.

(فقد أعطى خير الدنيا والآخرة) أما خير الآخرة فظاهر وأما خير الدنيا فلان من كان لله كان الله له فهو مشغول بالذكر والله سبحانه يهيء له أسباب مهماته.

(وقال في فوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر) قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله) كأنه أشار إلى أن لا تمنن من منه بكذا وأن تستكثر بدل منه وأن ما صدر من خير لله سواء كان عبادته أم

ص:282

الاحسان إلى عباده يجب أن لا تستكثر لأن اكثاره يوجب اخراج النفس عن حد التقصير وعجبها واحباط أجرها.

* الأصل:

2 - حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا الله كثيرا.

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا عن الحسن بن علي الوشاء، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أكثر ذكر الله عز وجل أحبه الله ومن ذكر الله كثيرا كتبت له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن بكر بن أبي بكر، عن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الذكر الكثير الذي قال الله عز وجل: (اذكروا الله ذكرا كثيرا).

عنه; عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي اسامة زيد الشحام ومنصور بن حازم وسعيد الأعرج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

5 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن داود الحمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أكثر ذكر الله عز وجل أظله الله في جنته.

* الشرح:

قوله: (من أكثر ذكر الله عز وجل أظله الله في جنته) أي أظله فيها بظل قبابها وبيوتها وأشجارها أو أظله فيها بظل رحمته الفائضة عليه آنا فآنفا على ما ذكر كما قال: (ولدينا مزيد).

ص:283

باب ان الصاعقة لا تصيب ذاكرا

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يموت المؤمن بكل ميتة إلا الصاعقة، لا تأخذه وهو يذكر الله عز وجل.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ان أبي عمير، عن ابن اذينة، عن بريد ابن معاوية العجلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الصواعق لا تصيب ذاكرا، قال: قلت: وما الذاكر؟ قال: من قرأ مائة آية.

3 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ميتة المؤمن، قال: يموت المؤمن بكل ميتة يموت غرقا ويموت بالهدم ويبتلي بالسبع ويموت بالصاعقة ولا تصيب ذاكرا لله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (يموت المؤمن بكل ميتة إلا الصاعقة) الميتة بالكسر حالة الموت ونوعه والصاعقة النار التي يرسلها الله تعالى مع النار الشديد.

ص:284

باب الاشتغال بذكر الله عز وجل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن الله عز وجل يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي من سألني.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما اعطي من سألني) دل على أن من شعل بذكره تعالى خالصا من غير أن يجعله وسيلة للسؤال عن حاجته وقضائها قضى الله تعالى له حاجة ووجه التفضيل حينئذ ظاهر، ويمكن التعميم بحيث يشمل أيضا من أراد السؤال ونسيه.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن منصور بن يونس، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العبد ليكون له الحاجة إلى الله عز وجل فيبدأ بالثناء على الله والصلاة على محمد وآل محمد حتى ينسى حاجته فيقضيها الله له من غير أن يسأله إياها.

باب ذكر الله عز وجل في السر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: من ذكرني سرا ذكرته علانية.

* الشرح:

قوله: (قال الله عز وجل: من ذكرني سرا ذكرته علانية) لعل المراد إظهار حاله وشرفه في المخلوقين من الملائكة والناس أجمعين. قيل الذكر ثلاثة: ذكر باللسان وذكر بالقلب وهذا نوعان أحدهما الذكر في عظمة الله سبحانه وجلاله وملكوته وآيات أرضه وسمائه والثاني ذكره عنده أمره ونهيه فيتمثل الامر ويجتنب النهي ويقف عند ما يشكل، وارفع الثلاثة الفكر لدلالة الأحاديث الواردة على الذكر الخفي وأضعفها الذكر باللسان ولكن له فضل كثير على ما جاء في الآثار. وقيل

ص:285

الخلاف انما هو في الذكر بالقلب بالتهليل والتسبيح ونحوهما وفي الذكر باللسان به لا في الذكر الخفي الذي هو الكفر وفي الذكر باللسان فإن الفكر لا تقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضل معه، ثم هذا الخلاف إذا كان القلب في ذكر اللسان حاضرا وأما إذا كان لاهيا فذكر اللسان لغو لا ذكر.

فمن رجح ذكر القلب قال; لأن عمل السر أفضل، ومن فضل ذكر اللسان قال; لأن فيه زيادة عمل الجوارح على عمل ذكر القلب وزيادة العمل يقتضي زيادة الاجر. أقول وما ذكر من أنه لابد من حضور القلب كأنه أراد به النية فإن خلا الذكر عن النية فهو لغو ثم ان صحبته النية من الشروع إلى التمام فهو الغاية المطلوبة وأن صحبته في الشروع وغربت في الأثناء فالظاهر أنه إذا كان أصل العمل لله تعالى وعلى ذلك عقد فلا يضره ما يعرض من الخطرات التي يقع في القلب ولا يملك ولذلك اعتبروا النية الحكمية في الوضوء والصلاة ونحوهما دون الفعلية، ثم اختلفوا في ان ذكر القلب هل تكتبه الملائكة وتعلمه؟ قيل: نعم لأن الله تعالى يجعل عليه علامة، وقيل: لا; لأنهم لا يطلعون عليه، أقول في باب المصافحة ما يشعر بالثاني.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو، عن أبي المغرا الخصاف، رفعه، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله عز وجل في السر، فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر، فقال الله عز وجل: (يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا).

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، رفعه، قال: قال الله عز وجل لعيسى (عليه السلام): يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي واذكرني في ملأك أذكرك في ملاء، خير من ملاء الادميين، يا عيسى ألن لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات واعلم أن سروري أن تبصبص إلي ولكن في ذلك حيا ولا تكن ميتا.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لا يكتب الملك إلا ما سمع وقال الله عز وجل: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير الله عز وجل لعظمته.

* الشرح:

قوله: (قال الله عز وجل لعيسى (عليه السلام): يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي) قيل النفس تطلق على الدم وعلى نفس الحيوان وعلى الذات وعلى الغيب ومنه قوله تعالى: (ولا أعلم ما في

ص:286

نفسك) أي في غيبك والأولان يستحيلان في حقه تعالى دون الأخيرين، إذا عرفت هذا فنقول المراد بالذكر النفساني في قوله تعالى: «اذكرني في نفسك» ذكر لا يعرفه غير الذاكر، وفي قوله: « أذكرك في نفسي» جزاء ذلك الذكر يعني أجازيك وأرحمك لأجل الذكر فسمى جزاء الذكر ذكرا وليس المراد به الذكر المقابل للنسيان لأن الذكر بهذا المعنى ثابت له تعالى سواء ذكره العبد أم لا أو المراد أذكرك من حيث لا يطلع عليه أحد فإن العبد إذ ذكره تعالى بحيث لا يطلع عليه أحد أثابه تعالى ثوابا لا يطلع عليه أحد كما قال تعالى: (فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين) فأخبر سبحانه بأنه انفرد بعلم بعض ما يجازي به عباده الصالحين والله أعلم.

(اذكرني في ملأك) إشارة إلى الذكر الجلى ويندرج فيه فعل الطاعات ظاهرا والامر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضا لأن كل واحد منها من أفراد الذكر.

(اذكرني في ملاء خير ملاء الآدميين) أي أظهر ذكرك إياي للملائكة والروحانيين ليثنوا عليك أو أظهر ثواب ذكرك لهم أو أظهر فضلك وشرفك على الإطلاق لهم.

(وأعلم أن سروري أن تبصبص) التبصبص التملق من خوف أو طمع، (وكن في ذلك حيا ولا تكن ميتا) أي كن حاضر القلب ولا تكن ساهيا غافلا فإن القلب الساهي الغافل عن ذكره تعالى وعن أدراك الحق ميت والقلب العاقل الذاكر حي، وقوله تعالى: (أفمن كان ميتا فأحييناه) و: (إنك لا تسمع الموتى) أشار إلى هذين القلبين».

ص:287

باب ذكر الله عز وجل في الغافلين

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن المختار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الذاكر لله عز وجل في الغافلين كالمقاتل في المحاربين.

* الشرح:

قوله: (الذاكر لله عز وجل في الغافلين كالمقاتل في المحاربين) تشبيه هيئة بهيئة أو مفرد بمفرد والوجه ظاهر ويندرج في الذاكر فيهم الذاكر سرا وعلانية وتعليما وتفهيما وأمرا ونهيا ويجري مثل ذلك فيما بعده.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل عن الفارين والمقاتل عن الفارين له الجنة.

ص:288

باب التحميد والتمجيد

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي سعيد القماط، عن المفضل قال: قلت:

لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك علمني دعاء جامعا، فقال لي: أحمد الله فإنه لا يبقى أحد يصلي إلا دعا لك، يقول: سمع الله لمن حمده.

* الشرح:

قوله: (يقول) في صلاته بعد الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده) فيشملك هذا الدعاء لأنك حمدته، قال الشهيد الثاني والشيخ في الأربعين ضمن سمع معنى استجاب فلذلك عدى باللام كما ضمن معنى الاصغاء فعدى ب (إلى) في قوله تعالى: (لا يسمعون إلى الملاء الأعلى).

* الأصل:

2 - عنه، عن علي بن الحسين، عن سيف بن عميرة، عن محمد بن مروان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ فقال: أن تحمده.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي الحسن الأنباري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله): يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة مرة وستين مرة، عدد عروق الجسد، يقول: الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال.

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وحميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، جميعا، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن في ابن آدم ثلاثمائة وستين عرقا، منها مائة وثمانون متحركة ومنها مائة وثمانون ساكنة، لو سكن المتحرك لم ينم ولو تحرك الساكن لم ينم وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أصبح قال: الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال - ثلاثمائة وستين مرة - وإذا أمسى قال مثل ذلك.

* الشرح:

(وحميد بن زياد، عن الحسين بن محمد) هكذا في النسخ التي رأيناها والظاهر الحسن مكبرا لان حميد بن زياد يروى عنه وهو يروى عن أحمد الميثمي.

(وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أصبح قال: الحمد لله رب العالمين كثيرا على كل حال - ثلاثمائة

ص:289

وستين مرة - وإذا أمسى قال مثل ذلك) هذا مفصل والسابق عليه وهو أنه (صلى الله عليه وآله) كان يقول في كل يوم الحمد لله رب العالمين كثيرا ثلاثمائة وستين مرة مجمل والمجمل يحمل على المفصل مع احتمال السابق على أنه (صلى الله عليه وآله) كان يقول العدد المذكور في كل يوم، وحمل هذا على أنه (صلى الله عليه وآله) كان يقول في بعض الأيام مرتين مرة في الصباح ومرة في المساء وفي لفظة «إذا» اشعار به للاهمال والمهملة في حكم الجزئية.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن منصور بن العباس، عن سعيد بن جناح قال: حدثني أبو مسعود، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال أربع مرات إذا أصبح: الحمد لله رب العالمين، فقد أدى شكر يومه، ومن قالها إذا أمسى فقد أدى شكر ليلته.

* الشرح:

قوله: (من قال أربع مرات إذا أصبح: الحمد لله رب العالمين فقد أدي شكر يومه) من النعماء الواصلة إليه في ذلك اليوم والحمد شكر بل رأسه لأنه من أظهر أفراده إذ في أصل الإعتقاد وفي دلالته دلالة الأعمال والأركان على النعمة خفاء.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن حسان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

كل دعاء لا يكون قبله تحميد فهو أبتر، إنما التحميد، ثم الثناء. قلت: ما أدري ما يجزي من التحميد والتمجيد، قال: يقول: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت البطان فليس دونك شيء وأنت العزيز الحكيم».

* الشرح:

قوله: (كل دعاء لا يكون قبله تحميد فهو أبتر) أي أقطع من البتر وهو القطع والمراد به النقص أو القطع من القبول أو الصعود.

(إنما التحميد ثم الثناء) مر الفرق بينهما وفيه حذف وهو ثم الدعاء ولو كان الدعاء بدل الثناء لم يحتج إليه (قلت: ما أدرى ما يجزي من التحميد والتمجيد) مر الفرق بينهما أيضا (قال يقول اللهم أنت الأول) حصر الأولية المطلقة فيه دل على وجوبه بالذات وقدمه ولذلك فرع عليه قوله:

(فليس قبلك شيء) إذ لو كان قبله شيء واتصف بالحدوث لم تكن له أولية مطلقة، هذا خلف ( وأنت الآخر) لعل المراد بالآخر الآخر بحسب الغايات وحصر الآخرية المطلقة بحسبها دل على

ص:290

أنه منتهى كل غاية ومرجع كل حاجة ولذلك فرع عليه قوله: (فليس بعدك شيء) إذ كل من بعده شيء في سلسلة رفع المقامات والحاجات ليس هو منتهاها وبالجملة أشار بالفقرة الاولى إلى أنه الأول باعتبار ابتداء الوجودات وبالفقرة الثانية إلى أنه الآخر باعتبار انتهاء الغايات فدائرة الإمكان تبتدء منه في الوجود وتنتهى إليه في الحاجة.

(وأنت الظاهر) أي الغالب القاهر على جميع الأشياء وحصر الغلبة المطلقة فيه دل على أن أحدا غيره ليس له تلك الصفة فلذلك فرع عليه قوله:

(فليس فوقك شيء) يغلبك ويقدر علمك إذ لو كان فوقه شيء لم تكن له الغلبة المطلقة، هذا خلف (وأنت الباطن) أي العالم بسرائر الأشياء وبطونها وبضماير القلوب وكمونها.

(فليس دونك شيء) لم يبغله علمك وإن كان في غاية الصغر.

ويحتمل أن يراد بالدون معنى الغير أي فليس غيرك شيء تكون له تلك الصفة والأول أظهر والثاني أنسب بالقرائن السابقة (وأنت العزيز الحكيم) هما من أسمائه تعالى والعزيز هو الغالب القوى الذي لا يغلب والرفيع المنيع الذي لا يعادله شيء ولا يماثله أحد، والعزة في الأصل القوة والشدة والغلبة يقال عز يعز بالكسر إذا صار عزيزا وبالفتح إذا اشتد والحكيم هو الذي يقضى بالحق والذي يحكم الأشياء ويتقنها بأكمل التدبير وأحسن التقدير والتصوير والذي لا يفعل القبيح ولا يخل بالأصلح والذي يضع الأشياء في مواضعها والذي يعلم الأشياء كما هي وأعلم أن هذا الدعاء يضمن ما يضمن قوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) واختلف عبارات المفسرين، فقيل أنه الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية والظاهر بلا اقتراب والباطن بلا احتجاب، وقيل الأول بالابتداء والآخر بالانتهاء والظاهر بالآيات والباطن عن الادراكات، وقيل الأول القديم والآخر الباقي، وقيل الظاهر الغالب والباطن اللطيف الرفيق بالخلق، وقوله تعالى: (فأصبحوا ظاهرين) أي غالبين قاهرين. وقيل ظاهر لقوم فوجدوه وباطن لقوم فجحدوه، قال المازري: واحتجت المعتزلة به لمذهبهم أن الأجسام تفنى; لأن معنى الآخر الباقي بعد فناء خلقه ومذهب أهل السنة خلافه وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم وقد مر في صدر هذا تفسير شيء من هذه الكلمات.

* الأصل:

7 - وبهذا الإسناد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما أدنى ما يجزي من التحميد؟ قال: تقول:

الحمد لله الذي علا فقهر، والحمد لله الذي ملك فقدر، والحمد لله الذي بطن فخبر، والحمد لله الذي [يميت الأحياء] ويحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.

ص:291

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي علا فقهر) أي فوق الممكنات بالشرف والرتبة والغلبة والقدرة والقوة فقهرهم بالايجاد والافناء وغلبهم بالاعدام والإبقاء فلا يملكون المنع والدفع ولا الضر والنفع وقد يكون علوه تعالى عبارة عن تنزهه عن صفات المخلوقين وسمات المصنوعين والأشباه والأضداد والأمثال والأنداد.

(والحمد لله الذي ملك فقدر) أي ملك رقاب الأكاسرة وأعناق القياصرة وزمام المخلوقات وتمام المصنوعات فقدر على امضاء ما أراد واجراء ما شاء عليهم من الأحياء والإماتة والإبقاء والإزالة والصحة والسقم وغيرها من الامور المعلومة لنا وغير المعلومة.

(والحمد لله الذي بطن فخبر) من الخبر وهو العلم أي دخل علمه في بواطن الأشياء فعلم بواطنها كما علم ظواهرها أو بطن من الأبصار والأوهام واحتجب من العقول والأفهام فلا يدركه بصر ووهم ولا يحيط به عقل وفهم وهو يدركها كما قال تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) والأول أنسب كما لا يخفى.

(والحمد لله الذي يحيى الموتى) في القبر والحشر أو الأعم الشامل لإحياء المواد الحيوانية بإفاضة الأرواح واحياء القلوب الميتة بإفاضة المعارف.

(وهو على كل شيء) من الممكنات (قدير) فلا يستطيع أن يجاوز شيء منها عن تقديره وتدبيره وإرادته وقضائه على نحو ما أراد.

ص:292

باب الاستغفار

* الشرح:

قوله: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان لا يقوم من مجلس وإن خف حتى يستغفر الله عز وجل خمسا وعشرين مرة) قيل دعاؤه واستعاذته واستغفاره (صلى الله عليه وآله) مع معافاته وعصمته إنما هو تعليم للخلق وإبلاغ في العبودية والخوف، وقيل قد كان يحصل فترات وغفلات من الذكر الذي شأنه الدوام عليه فعد ذلك ذنبا واستغفر منه.

وقيل كان استغفارا لامته بسبب ما أطلع عليه من أحوالهم، وقيل سببه النظر في مصالح امته

ص:293

وامورهم ومحاربة العدو مداراتهم وتأليف المؤلفة ونحو ذلك من معاشرة الأزواج والاكل والشرب والنوم وذلك مما يحجبه ويحجزه عن عظيم مقامه فرآه ذنبا بالنسبة إلى ذلك المقام العلى وهو حضوره في حضرة القدس ومشاهدته ومراقبته وفراغه مع الله مما سواه فيستغفر لذلك وإن كانت تلك الامور من أعظم الطاعات، وقيل سببه تغشي السكينة قلبه لقوله تعالى: (فأنزل الله سكينته على رسوله) فالإستغفار لإظهار العبودية والافتقار والشكر لما أولاه، وقيل سببه حالات حسنة وافتقار فالاستغفار شكر لها، قال المحاسبي: خوف المقربين خوف اجلال واعظام، وقيل سببه شيء يعترى القلوب الصافية مما يحدث في النفس من الملامة والحديث والغفلة فيشوشها، وقيل أنه (صلى الله عليه وآله) كان يترقي في كل يوم إلى مقام أعلى من الذي كان قبله فيجعل الكون في المقام الذي انتقل عنه كالذنب بالنسبة إلى المقام الذي يترقي إليه وإن كان من المقامات العالية.

ص:294

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه. عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير الدعاء الاستغفار.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن سيف، عن أبي جميلة عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أكثر العبد من الاستغفار رفعت صحيفته وهي يتلألأ.

3 - علي بن إبراهيم، [عن أبيه] عن ياسر، عن الرضا (عليه السلام): مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزيء بربه.

4 - عدة من وأصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان لا يقوم من مجلس وإن خف حتى يستغفر الله عز وجل خمسا وعشرين مرة.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستغفر الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة ويتوب إلى الله عز وجل سبعين مرة، قال: قلت: كان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟ قال: كان يقول: أستغفر الله، أستغفر الله - سبعين مرة - ويقول وأتوب إلى الله وأتوب إلى الله - سبعين مرة -.

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن حسين بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الاستغفار وقول: لا إله إلا الله، خير العبادة، قال الله العزيز الجبار: (فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك).

باب التسبيح والتهليل والتكبير

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، وأبي أيوب الخزاز، جميعا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء الفقراء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله إن الأغنياء لهم ما يعتقون وليس لنا، ولهم ما يحجون وليس لنا، ولهم ما يتصدقون وليس لنا، ولهم ما يجاهدون وليس لنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كبر الله عز وجل مائة مرة كان أفضل من عتق مائة رقبة ومن سبح الله مائة مرة كان أفضل من سياق مائة بدنة ومن حمد الله مائة مرة كان أفضل من حملان مائة فرس في سبيل الله بسرجها ولجمها وركبها ومن قال: لا إله إلا الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا ذلك اليوم، إلا من زاد، قال: فبلغ ذلك الأغنياء فصنعوه، قال: فعاد الفقراء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

* الشرح:

قوله: (ومن حمد الله مائة مرة كان أفضل من حملان مائة فرس في سبيل الله - إلى آخره) الحملان بالضم مصدر وفعله من باب ضرب والسروج جمع سرج كالفلوس جمع فلس واللجم والركب بضمتين فيهما جمع اللجام بالكسر والراكب وفي قوله (إلا من زاد) تنبيه على أن ما زاد على هذا العدد يكون له الأجر بحساب ذلك وأنه ليس من العبادات التي نهى الشرع عن الزيادة في عددها وقوله (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ظاهر في تفضيل الغنى على الفقر لأنه لما استووا في عمل الذكر واختص الأغنياء من العبادة المالية بما عجز الفقراء عنه قال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

فالإشارة بذلك إلى الفضل الذي اختصوا به، وإنما قلنا ظاهر في ذلك لإمكان أن يجعل سبق الفقراء بالذكر المذكور وتقدمهم على الأغنياء فضيلة اختصوا بها دون الأغنياء ويجعل ذلك إشارة إليها فيفيد تفضيل الفقر على الغنى لكنه عدول عن الظاهر ولا يمكن ترجيح هذا بقوله «كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد» بناء على حمل الناس على العموم وحمل الزيادة على الزيادة في الذكر فمن اتصف بالزيادة المالية داخل في المفضل عليه وغير خارج بالاستثناء لأنا

ص:295

نمنع عموم الناس لأنه يستلزم تفضيل الشيء على نفسه بل المراد به من لم يماثله في الذكر المذكور ونمنع أيضا تخصيص الزيادة بالزيادة في الذكر لجواز أن يكون المراد بها الزيادة المطلقة الشاملة للزيادة في الذكر وفي غيره من الأعمال التي تشمل الحقوق المالية، ولبعض الأفاضل في تحقيق أفضلية الفقر أو الغنى كلام لا بأس أن نورده في هذا المقام فإنه ينفتح محل النزاع وهو أن الفقر والغنى ثلاثة: الأولى الغني والفقير اللذان يفعل كل منهما الواجب عليه فقط، الثانية أن يفعل كل منهما ما هو مقدوره كان يصبر الفقير ويؤثر على غيره ويحج الغنى ويعتق ويتصدق، الثالثة الفقر والغني وصفان كليان من حيث كون كل منهما قابلا لأمر; أما الغني فقابل لتحصيل القرب بالمالية; وأما الفقير فقابل للصبر وكل واحد من هذه الثلاثة يصح أن يكون محلا للخلاف.

أما الاولى، فلأنه يمكن أن يقال فيها هل فضل القربات المالية أرجح من صبر الفقير أو صبره أرجح، وأما الثانية: وهي الأنسب بهذا الحديث فكذلك بنحو ما تقدم، وأما الثالثة فكذلك فإنه يصح أن يقال هل قابلية فعل الخيرات والقربات المالية الواجبة أرجح من قابلية تحصيل الصبر والسلامة من عهدة الغناء وتكاليفه أو العكس; فتأمل ورجح بحسب ما ظهر لك من الروايات وغيرها.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حماد عن ربعي، عن فضيل، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سمعته يقول: أكثروا من التهليل والتكبير فإنه ليس شيء أحب إلى الله عز وجل من التهليل والتكبير.

3 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملأ الميزان والله أكبر يملأ ما بين السماء الأرض.

* الشرح:

قوله: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملأ الميزان) أما بنفسه أو مع التسبيح فهو على الأول ضعف التسبيح وعلى الأخير مثله (والله أكبر يملأ ما بين السماء والأرض) قال بعض الأفاضل: أن التسبيح والتحميد والتكبير وغيرها من الأعمال يتجسم في الآخرة ويوزن، وقد مر ومن طريق العامة: «الحمد لله يملأ الميزان» قال المازري الحمد ليس بجسم فيقدر بمكيال ويوزن بمعيار فقيل هو كناية عن تكثير العدد أي حمدا لو كان مما يقدر بمكيال ويوزن بميزان املاء، وقيل هو لتكثير اجوره، وقيل هو على التعظيم والتفخيم لشأنه وقد جاء من

ص:296

طرق العامة: «أن الميزان له كفتان كل كفة طباق السماوات والأرض» وجاء أيضا: أن الحمد لله يملاءه، وقيل القول الأول وهو أنه لتكثير العدد أظهر لمجيى سبحان الله عدد خلقه وظاهره أنه لتكثير العدد.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن ضريس الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: مر رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل يغرس غرسا في حائط له، فوقف له وقال: ألا أدلك على غرس أثبت أصلا وأسرع إيناعا وأطيب ثمرا وأبقى؟ قال: بلى فدلني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت وأمسيت فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإن لك إن قلته بكل تسبيحة عشر شجرات في الجنة من أنواع الفاكهة وهن من الباقيات الصالحات، قال: فقال الرجل: فإني اشهدك يا رسول الله أن حائطي هذا صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين أهل الصدقة فأنزل الله عز وجل آيات من القرآن: (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى).

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير العبادة قول: لا إله إلا الله.

* الشرح:

قوله: (مر رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل يغرس غرسا) الغرس المغروس والجمع أغراس وغرس الشجر وأغرسه أنبته في الأرض.

(فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر - إلى آخره) في طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس» يريد أن هذا الذكر أحب إلي من أن يكون لي الدنيا فأنفقها في سبيل الله وإلا فالدنيا من حيث هي لا تعدل عند الله تعالى ولا عند أوليائه جناح بعوضة.

ص:297

باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي المغرا، عن الفضيل ابن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوشك دعوة وأسرع إجابة دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب.

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن محبوب، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدر الرزق ويدفع المكروه.

3 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى: (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله) قال: هو المؤمن يدعوا لأخيه بظهر الغيب فيقول له الملك: آمين، ويقول الله العزيز الجبار: ولك مثلا ما سألت وقد اعطيت ما سألت بحبك إياه.

* الشرح:

قوله: (هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر بالغيب فيقول له الملك: آمين.) أي في حال الغيب وخص الدعاء بظهر الغيب لأنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص والأخ شامل للواحد والجماعة من المؤمنين أحياء كانوا أم أمواتا، والظاهر من الملك هو الموكل لكتب أعماله وحفظه عن الشياطين كما دل عليه الخبر الآتي، وقيل المراد به ملائكة السماء، وقيل إذا قال الموكل به ذلك قاله من فوقه حتى ينتهي إلى ملائكة السماء، قيل المراد به الملائكة المستغفرون لمن في الأرض كما جعل الله ملائكة تصلي على من يصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) وملائكة تدعو لمن ينتظر الصلاة كذلك جعل ملائكة تؤمن على دعاء المؤمنين، وما منهم إلا وله مقام معلوم.

وقوله «ولك مثلاه» الظاهر أنه خبر ويحتمل الدعاء ولا ينافي ذلك ما يجيء من أنه نودي من العرش ولك مائة ألف ضعف; لأن الضعف بمقتضى دعائه والزائد تفضل منه تعالى لمن يشاء أو لأن الضعف أقل المراتب ومائه ألف ضعف أكثرها وبينهما مراتب متفاوتة بحسب تفاوت مراتب الداعي والمدعو له، ويحتمل أن يكون علة الضعف أن الدعاء للغير يتضمن عملين صالحين:

أحدهما الدعاء والضراعة إلى الله تعالى والثاني دعاؤه لأخية ومحبته له وطلب الخير له ولذلك كان هذا الدعاء مستجابا يؤجر عليه مرتين، ثم بعض السلف إذا كان أراد أن يدعو لنفسه بشيء دعا

ص:298

لأخيه المسلم بتلك الدعوة طمعا لحصول المطلوب مع زيادة لما رأى أنها مستجابة، ويدل عليه فعل عبد الله ابن جندب كما سيجيء، وكان بعضهم يقول هذا خلاف الاولى والاولى أن يدعو لنفسه ولغيره ثم الدعاء على الغير ليس مثل الدعاء له في تأمين الملك وطلب المثلين عليه والمعروف في آمين المد وتخفيف الميم، وحكى ثعلب فيه القصر وأنكره غيره، وقال إنما جاء مقصورا في الضرورة، وحكى بعضهم فيه المد وشد الميم، وقيل هي لغة شاذة خطىء قائلها ومعناها اللهم استجب وقد وقع الحث على قولها بعد الدعاء من طرق العامة أيضا، روى عن أبي زهير النميري وكان من الصحابة فإذا دعا أحدنا قال: اختمه بآمين فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة، قال أبو زهير: ألا أخبركم عن ذلك خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات مرة فإذا رجل قد ألح في المسئلة فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «قد أوجب أن أختمه فقال رجل من القوم: بأي شيء تختمه؟ فقال: «بآمين فإنه أن ختم بآمين قد أوجب».

واختلفوا في أنها هل هي دعاء أم لا، فقيل بالثاني لأنها اسم للدعاء (1) وهو اللهم استجب والاسم مغاير لمسماه، وقيل بالأول وهو الحق لأنها اسم فعل وأسماء الأفعال أسماء لمعاني الأفعال لا لألفاظها كما حققه الشيخ الرضي ومن أدلته أن العرب تقول صه مثلا ويريد معنى اسكت، ولا يخطر بباله لفظة اسكت بل قد لا يكون مسموعة له أصلا.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبيد الله بن عبد الله الواسطي عن درست ابن أبي منصور، عن أبي خالد القماط قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): أسرع الدعاء نجحا للإجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب يبدأ بالدعاء لأخيه فيقول له ملك موكل به: آمين ولك مثلاه.

5 - علي بن محمد، عن محمد بن سليمان، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد التميمي، عن حسين بن علوان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات إلا رد الله عز وجل عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة، إن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا رب هذا الذي كان يدعو لنا فشفعنا فيه فيشفعهم الله عز وجل فيه فينجو.

ص:299


1- (1) قوله: «لأنها اسم للدعاء» والصحيح أنها بمعنى «كذلك فليكن» وليس دعاء إذ قد يقع بعد الخبر وهو نظير «هنيئا مريئا» و «سقيا ورعبا» مما يتكلم وبأمثاله من لا يعتقد بالله والدعاء والاستجابة ولذلك لا يجوز في الصلاة ويعد من كلام الآدميين. (ش)
* الشرح:

قوله: (فيسحب) أي فيجر، سحبه كمنعه جره على وجه الأرض ومنه سحب ذيله فانسحب.

* الأصل:

6 - علي، عن أبيه، قال: رأيت عبد الله بن جندب في الموقف فلم أر موقفا كان أحسن من موقفه ما زال مادا يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض فلما صدر الناس قلت له: يا أبا محمد ما رأيت موقفا قط أحسن من موقفك قال: والله ما دعوت إلا لإخواني وذلك أن أبا الحسن موسى (عليه السلام) أخبرني أن من دعا لأخيه يظهر الغيب نودي من العرش ولك مائة ألف ضعف، فكرهت أن أدع مائة ألف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا.

* الشرح:

قوله: (فلما صدر الناس) أصل الصدر الانصراف يقال صدر الناس إذا انصرفوا وأصدرته إذا صرفته.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا; عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة، عن ثوير قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب أو يذكره بخير قالوا: نعم الأخ أنت لأخيك تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بخير قد أعطاك الله عز وجل مثلي ما سألت له وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه ولك الفضل عليه وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له:

بئس الأخ أنت لأخيك كف أيها المستر على ذنوبه وعورته وأربع على نفسك وأحمد الله الذي ستر عليك وأعلم أن الله عز وجل أعلم بعبده منك.

* الشرح:

قوله: (كف أيها المستر على ذنوبه وعورته) يجوز في المستر كسر التاء وفتحاء والتشديد للمبالغة والتكثير، والعورة للعيب.

(وأربع على نفسك) ربع كمنع وقف وتحبس ومنه قولهم أربع عليك أو على نفسك يعني قف على نفسك واقتصر عليها.

ص:300

باب من تستجاب دعوته

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عيسى بن عبد الله القمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ثلاثة دعوتهم مستجابة: الحاج، فانظروا كيف تخلفونه والغازي في سبيل الله، فانظروا كيف تخلفونه، والمريض، فلا تغيظوه ولا تضجروه.

* الشرح:

قوله: (ثلاثة دعوتهم مستجابة الحاج فانظروا (1) كيف تخلفونه) في أهله وماله وداره وعقاره

ص:301


1- (1) قوله: «الحاج فانظروا» في هذا الباب والباب الذي يليه جواب قاطع لشبهة الملاحدة واخوتهم من أهل الظاهر فإن الطائفتين متفقتان على نفي العلل الروحانية والموجودات الغيبية ولا تعترفان بشيء غير ما يدركه حواسهم وأما شبهتهم في هذا المقام فما يرون من عدم استجابة الدعوات كثيرا والأصل في الجواب أن الله تعالى أمر بالدعاء ووعد الإجابة بقوله: (أدعوني استجب لكم) ولكن القضية مهملة لا كلية إذ لم يقل أستجيب كل ما تدعون في جميع الحالات والشرائط بل حكم في الجملة بأن الدعاء طريق إلى المقصود كما أن التجارة سبيل إلى الرزق وورد فيها أحاديث كثيرة وآيات. وقد يتجر الإنسان ولا يربح ولا يرزق كذلك قد يدعو ولا يستجاب وليس الدعاء علة تامة للإجابة كما أن الدواء ليس علة تامة لدفع المرض ولا التجارة للرزق وهنا عدد جماعة يستجاب دعاؤهم وجماعة لا يستجاب. وأما الملاحدة فطر يقتهم إنكار كل سبب غير طبيعي وبعض من يتظاهر بالإسلام منهم فسر الدعاء بالتوجه إلى الله لا طلب شيء منه والاستجابة بتوجه الله تعالى إليه لا بقضاء حاجته وأهل الظاهر يزعمون تأثير التلفظ بألفاظ خاصة في دفع المرض مثلا نظير تأثير المسهل فكما أن للدواء المسهل أثرا مع الالتفات إليه والجهل به وحضور القلب وعدمه وكفر الطبيب الأمر به وإسلامه كذلك للألفاظ الدعائية أثرا طبيعيا في كل حال ولا يعلمون أن في الدعاء تأثيرا نفسانيا روحانيا يتوقف على الإخلاص والتوجه والإيمان بالله وحسن الظن بل اليقين به كما قلنا سابقا والشاك في ذلك لا يدعو أحدا حتى يستجاب له قود يستلزم استجابة الدعاء خرق عادة الطبايع والغلبة عليها وللنفوس في ذلك درجات ومراتب مثلا الدعاء لشفاء مريض أو توسعة رزق أو دفع عدو وأمثال ذلك وإن كانت بخرق الأسباب لكنه ليس كالدعاء لزوال الجبال وصيرورتها ذهبا أو لفلق البحر وأمثال ذلك والنفوس في القدرة على الغلبة على الآثار الطبيعية مختلفة فقد يمكن لبعضهم شفاء مريض ولا يمكن له فلق البحر وإن كان كلاهما خرق الطبيعة ورابطة النفوس مع الله تعالى والملائكة المتوكلين بالطبائع والهادين لها مختلفة البتة ولا يخفى على أحد أن الوثبة شيء مخالف للطبيعة والصعود إلى الجبال كذلك فبعض الناس يثب ذراعين وبعضهم أربعة وبعضهم يصعد إلى فرسخ وبعضهم أقل والطيور تقاوم جاذبية الأرض مع اختلافهم كذلك إذا استلزم الدعاء المعارضة مع الأسباب الطبيعية ومدافعتها اختلف مراتب الإجابة باختلاف همم النفوس. (ش)

وفيه ترغيب في حسن مراعاة أحواله.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلي بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن الرب تبارك وتعالى: دعوة الإمام المقسط، ودعوة المظلوم يقول الله عز وجل: لأنتقمن لك ولو بعد حين، دعوة الولد الصالح لو الدية ودعوة الوالد الصالح لولده ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فيقول:

ولك مثله.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إياكم ودعوة المظلوم فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عز وجل إليها فيقول:

ارفعوها حتى استجيب له، وإياكم ودعوة الوالد فإنها أحد من السيف.

* الشرح:

قوله: (حتى ينظر الله عز وجل إليها) يريد به نظر العناية وإرادة القبول.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي يقول: اتقوا الظلم فإن دعوة المظلوم تصعد إلى السماء.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له.

* الشرح:

قوله: (من قدم أربعين من المؤمنين) يجوز تخفيف الدال وتشديدها، والثاني أظهر; لأن في الاجتماع مدخلا عظيما في استجابة الدعاء.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن طلحة النهدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش: الوالد لولده والمظلوم على من ظلمه والمعتمر حتى يرجع والصائم حتى يفطر.

ص:302

* الشرح:

قوله: (أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء أو تصير إلى العرش) «حتى» غاية لعدم الرد لا للرد ولفظة «أو» بمعنى «إلى أن» أو للعطف، والفتح أما كناية عن قبول الدعاء وصعوده إلى السماء أو محمول على الحقيقة.

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ليس شيء أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعا موسى (عليه السلام) وأمن هارون (عليه السلام) وأمنت الملائكة (عليهم السلام) فقال الله تبارك وتعالى: «قد اجيبت دعوتكما فاستقيما» ومن غزى في سبيل الله استجيب له كما استجيب لكما يوم القيامة.

* الشرح:

قوله: (ومن غزى في سبيل الله استجيب له) عطف على قوله «قد أجيبت دعوتكما».

ص:303

باب من لا تستجاب دعوته

اشاره:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حسين بن مختار، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صحبته بين مكة والمدينة فجاء سائل فأمر أن يعطى ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء الرابع فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يشبعك الله، ثم التفت إلينا فقال: أما إن عندنا ما نعطيه ولكن أخشى أن نكون كأحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة: رجل أعطاه الله مالا فأنفقه في غير حقه ثم قال: اللهم ارزقني فلا يستجاب له، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها وقد جعل الله عز وجل أمرها إليه، ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله عز وجل له السبيل إلى أن يتحول عن جواره ويبيع داره.

* الأصل:

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن عبد الله ابن إبراهيم، عن جعفر بن إبراهيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالإقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ثم قال: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟. محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي الحكم، عن عمران بن أبي عاصم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (ثم قال (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)) الإسراف سرف المال الزائد على القدر الجائز شرعا وعقلا، والقتر والقتور التضيق يقال قتر على عياله قترا وقتورا من باب قعد وضرب ضيق في النفقة وأقتر اقتارا وقتر تقتيرا مثله، والقوام بالفتح العدل والاعتدال.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان عن الوليد بن صبيح قال: سمعته يقول: ثلاثة ترد عليهم دعوتهم: رجل رزقه الله مالا فأنفقه في غير وجهه ثم قال: يا رب ارزقني، فيقال له: ألم أرزقك؟ ورجل دعا على امرأته وهو لها ظالم فيقال

ص:304

له: ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل جلس في بيته وقال يا رب ارزقني فيقال له: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق؟.

* الشرح:

قوله: (وهو لها ظالم) بسبب الدعاء عليها; لأن دعاءه عليها مع قدرته على التخلص بوجه آخر ظلم.

ص:305

باب الدعاء على العدو

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) جارا لي وما ألقى منه قال: فقال لي: ادع عليه، قال ففعلت فلم أر شيئا فعدت إليه فشكوت إليه، فقال لي: ادع عليه، قال فقلت: جعلت فداك قد فعلت فلم أر شيئا، فقال: كيف دعوت عليه؟ فقلت: إذا لقيته دعوت عليه، قال: فقال:

ادع عليه إذا أقبل و [إذا] استدبر، ففعلت فلم ألبث حتى أراح الله منه.

* الشرح:

قوله: (ادع عليه إذا أقبل وإذا استدبر) الظاهر من الاستدبار ضد الإقبال وإرادة الغيبة احتمال بعيد.

2 - وروي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إذا دعا أحدكم على أحد قال: «اللهم أطرقه ببلية لا اخت لها وأبح حريمه».

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي جارا من قريش من آل محرز قد نوه باسمي وشهرني كلما مررت به قال: هذا الرافضي يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد قال: فقال لي فادع الله عليه إذا كنت في صلاة الليل وأنت ساجد في السجدة الأخيرة من الركعتين الاوليين فاحمد الله عز وجل ومجده وقل: «اللهم فلان بن فلان قد شهرني ونوه بي وغاظني وعرضني للمكاره، أللهم اضربه بسهم عاجل تشغله به عني، أللهم وقرب أجله واقطع أثره وعجل ذلك يا رب الساعة الساعة»، قال: فلما قدمنا الكوفة قدمنا ليلا فسألت أهلنا عنه قلت: ما فعل فلان؟ فقالوا: هو مريض فما انقضى آخر كلامي حتى سمعت الصياح من منزله وقالوا: قد مات.

* الشرح:

قوله: (نوه باسمي) نوه باسمه تنويها رفع ذكره (اللهم اضربه بسهم عاجل) أي ببلية عاجلة سماها سهما على سبيل الاستعارة (وقرب أجله) الأجل محركة غاية الوقت في الموت وحلول مدة العمر.

ص:306

(واقطع أثره) الأثر بالتحريك الخبر وأيضا أثر القدم في الأرض، وفيه دعاء عليه بالموت لأن من مات لم يبق له خبر في الأحياء ولا يرى لأقدامه أثر في الأرض أو دعاء عليه بالزمانة فإن من زمن انقطع مشيه وانقطع أثره.

* الأصل:

4 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن التيمي، عن علي بن أسباط، عن يعقوب بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له العلاء بن كامل: إن فلانا يفعل بي ويفعل فإن رأيت أن تدعوا الله عز وجل فقال: هذا ضعف بك قل: «أللهم إنك تكفي من كل شيء ولا يكفي منك شيء فاكفني أمر فلان بم شئت وكيف شئت و [من] حيث شئت وأني شئت».

* الشرح:

قوله: (فإن رأيت أن تدعوا الله عز وجل) الجزاء محذوف أي دعوت عليه (فقال هذا ضعف بك) حث على الدعاء عليه على وجه المبالغة ولعل هذا إشارة إلى فعل فلان به وحمل ضعف عليه من باب حمل السبب على المسبب.

(قل أللهم إنك تكفي من كل شيء ولا يكفي منك شيء) أي تغنيني من كل شيء ولا يغنيني منك شيء وفيه توسل تام إليه عز وجل في الكفاية عن المهمات ورفع البليات فلذلك قال:

(فاكفني أمر فلان) طلب قيامه عز وجل مقامه في دفع عدوه، وفي النهاية كفاه الأمر إذا أقام مقامه فيه (بم شئت وكيف شئت وحيث شئت) حيث يثلث آخره.

(وأنى شئت) «بم» إشارة إلى سبب الأخذ، و «كيف» إلى كيفيته، و «حيث» إلى مكانه، و «أنى» إلى زمانه، فهو هنا بمعنى متى للزمان لا بمعنى كيف ولا بمعنى أين لئلا يلزم التكرار.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عثمان، عن المسمعي قال: لما قتل داود بن علي المعلى بن خنيس قال أبو عبد الله (عليه السلام): لأدعون الله على من قتل مولاي وأخذ مالي. فقال له داود بن علي: إنك لتهددني بدعائك، قال حماد: قال المسمعي:

فحدثني معتب أن أبا عبد الله (عليه السلام) لم يزل ليلته راكعا وساجدا فلما كان في السحر سمعته يقول وهو ساجد: «أللهم إني أسألك بقوتك القوية وبجلالك الشديد الذي كل خلقك له ذليل أن تصلي على محمد وأهل بيته أن تأخذه الساعة الساعة».

فما رفع رأسه حتى سمعنا الصيحة في دار داود بن علي فرفع أبو عبد الله رأسه وقال: إني

ص:307

دعوت الله بدعوة بعث الله عز وجل عليه ملكا فضرب رأسه بمرزبة من حديد انشقت منها مثانته فمات.

* الشرح:

قوله: (لما قتل داود بن علي المعلى بن خنيس) معلى مولى أبي عبد الله (عليه السلام) وفي مدحه وذمه اختلاف بين أصحاب الرجال روي عن ابن أبي نجران، عن حماد بن ناب، عن الخثعمي قال: لما أخذ داود بن علي عن المعلى بن خنيس حبسه فأراد قتله فقال له معلى: أخرجني إلى الناس فإن لي دينا كثيرا ومالا حتى أشهد بذلك فأخرجه إلى السوق فلما اجتمع الناس قال: يا أيها الناس أنا معلى بن خنيس فمن عرفني فقد عرفني اشهدوا إن ما تركت من مال عين أو دين أو أمة أو عبيد أو دار أو قليل أو كثير فهو لجعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: فشد عليه صاحب شرطة داود فقلته.

قال: فلما بلغ ذلك أبا عبد الله (عليه السلام) خرج يجر ذيله حتى دخل على داود بن علي وإسماعيل ابنه خلفه فقال: يا داود قتلت مولاي وأخذت مالي فقال: ما أنا قتلته ولا أخذت مالك فقال: والله لأدعون على من قتل مولاي وأخذ مالي فقال ما قتلته ولكن قتله صاحب شرطتي فقال: باذنك أو بغير اذنك؟ فقال: بغير إذني فقال: يا إسماعيل شأنك به فخرج إسماعيل والسيف معه حتى قتله في مجلسه.

(اللهم إني أسئلك بقوتك القوية) القوة والقدرة متقاربان وفي وصف القوة بالقوية إشارة إلى كمالها واستيلائها على جميع الممكنات وعدم تطرق العجز إليها.

(وبجلالك الشديد) أي القوي الغالب المرتفع العالي على كل شيء والجلال العظمة ومن أسمائه تعالى الجليل، قال في النهاية هو الموصوف بنعوت الجلال الحاوي لجميعها وهو راجع إلى كمال الصفات كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات والعظيم إلى كمال الذات والصفات وهذا الدعاء مذكور في كتاب الرجال للفاضل الاستر آبادي وفيه «ومحالك الشديد» وفي النهاية:

المحال بالكسر الكيد، وقيل المكر وقيل القوة والشدة، وميمه أصلية ورجل محل أي ذو كيد (بعث الله عز وجل عليه ملكا فضرب رأسه بمرزبة من حديد - إلى آخره) في القاموس: الارزبة والمرزبة مشددتان أو الأولى فقط عصية من حديد، وفي الصحاح: الارزبة التي يكسر بها المدر فإن قلتها بالميم خففت وقلت المرزبة، وفي الجزري: مرزبة بكسر الميم وفتح الزاي والمحدثون يروونها بتشديد الباء والصواب تخفيفها وأما أهل اللغة فلا يعرفون سوى التخفيف، وإنما يكون التشديد في ارزبة بالهمز وهي مطرقة الحديد الكبيرة التي يدق بها النحاس والحديد عند خروجهما من النار، والمثانة العضو الذي يجتمع فيه البول داخل الجوف.

ص:308

باب المباهلة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن أبي مسروق، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: إنا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم) فيقولون: نزلت في امراء السرايا، فنحتج عليهم بقوله عز وجل: (إنما وليكم الله ورسوله) إلى آخر الآية فيقولون: نزلت في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل:

(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فيقولون: نزلت في قربى المسلمين، قال: فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذه وشبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: وكيف أصنع؟ قال: أصلح نفسك ثلاثا - وأظنه قال: وصم - واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبان فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثم أنصفه وابدأ بنفسك وقل: «أللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقا وادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما» ثم رد الدعوة عليه فقل: «وإن كان فلان جحد حقا وادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما» ثم قال لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فو الله ما وجدت خلقا يجيبني إليه.

* الشرح:

قوله: (نزلت في امراء السرايا) في النهاية السرايا جمع السرية وهي طائفة من الجيش تبلغ أقصاه أربعمائة تبعث إلى العدو سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية وليس بالوجه; لأن لام السر راء وهذه ياء.

(إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة) في النهاية البهلة بضم الباء وتفتح اللعنة، والمباهلة الملاعنة وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا لعنة الله على الظالم منا (قلت: وكيف أصنع؟) سأل عن كيفية المباهلة لعلمه بأنها عمل له كيفية مخصوصة.

(قال: أصلح نفسك ثلاثا) أي ثلاث أيام قبل المباهلة بالتوبة والاستغفار والدعاء والخضوع

ص:309

لله تعالى (وأظنه قال: وصم) أي في الأيام الثلاثة.

(واغتسل) عند الخروج والظاهر أنه عطف على أصلح لا على صم ليكون داخلا في المظنون وإن كان محتملا (وابرز أنت وهو إلى الجبان) الجبان والجبانة بفتح الجيم وشد الباء الصحراء ويسمى بهما المقابر لأنها يكون في الصحراء تسمية للشيء باسم موضعه. (فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه) من يده اليمنى.

(ثم أنصفه) الإنصاف العدل وهو يقتضي تقديم نفسه كما قال (وابدأ بنفسك) في الدعاء عليها بالهلاك على تقدير انكارها للحق.

(فأنزل عليه حسبانا) وهو بالضم الصاعقة ويطلق أيضا على العذاب والبلايا (أو عذابا أليما) غيره وإنما لم يكتف به للدلالة على التعميم ورفع توهم التخصيص بنوع منه.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن مخلد أبي الشكر، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الساعة التي تباهل فيها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن إسماعيل، عن مخلد أبي الشكر، عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (الساعة التي تباهل فيها ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) لأنه وقت استجابة الدعاء وينبغي طلب هذا الوقت للمباهلة إن أمكن وإلا فيجوز في غيره.

* الأصل:

3 - أحمد، عن بعض أصحابنا في المباهلة قال: تشبك أصابعك في أصابعه ثم تقول: «اللهم إن كان فلان جحد حقا وأقر بباطل فأصبه بحسبان من السماء أو بعذاب من عندك». وتلاعنه سبعين مرة.

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المباهلة قال: تشبك أصابعك في أصابعه ثم تقول: «أللهم إن كان فلان جحد حقا وأقر بباطل فأصبه بحسبان من السماء أو بعذاب من عندك». وتلاعنه سبعين مرة.

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عبد الحميد، عن أبي جميلة، عن بعض أصحابه قال: إذا جحد الرجل الحق فإن أراد أن يلاعنه قال: «اللهم رب السماوات السبع

ص:310

ورب الأرضين السبع ورب العرش العظيم إن كان فلان جحد الحق وكفر به فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما».

* الشرح:

قوله: (وتلاعنه سبعين مرة) يعني إن لم يقع الاستجابة في المرة الاولى لاعنه مرة ثانية وهكذا واحتمال كون هذا العدد في مجلس واحد بعيد.

ص:311

باب ما يمجد به الرب تبارك وتعالى نفسه

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل ثلاث ساعات في الليل وثلاث ساعات في النهار يمجد فيهن نفسه، فأول ساعات النهار حين تكون الشمس هذا الجانب يعني المشرق مقدارها من العصر يعني من المغرب إلى الصلاة الاولى، وأول ساعات الليل في الثلث الباقي من الليل إلى أن ينفجر الصبح يقول: «إني أنا الله رب العالمين، إني أنا الله العلي العظيم إني أنا الله العزيز الحكيم، إني أنا الله الغفور الرحيم، إني أنا الله الرحمن الرحيم، إني أنا الله مالك يوم الدين، إني أنا الله لم أزل ولا أزال، إني أنا الله خالق الخير والشر، إني أنا الله خالق الجنة والنار، إني أنا الله بدئ كل شيء وإلي يعود، إني أنا الله الواحد الصمد، إني أنا الله عالم الغيب والشهادة، إني أنا الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، إني أنا الله الخالق البارىء المصور لي الأسماء الحسنى، إني أنا الله الكبير المتعال» قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) من عنده: والكبرياء رداؤه فمن نازعه شيئا من ذلك أكبه الله في النار، ثم قال: ما من عبد مؤمن يدعوا بهن مقبلا قلبه إلى الله عز وجل إلا قضى حاجته، ولو كان شقيا رجوت أن يحول سعيدا.

* الشرح:

قوله: (حين تكون الشمس) أي حين يكون الشمس من جانب المشرق إلى الصلاة الأول وهي الظهر مقدارها حين يكون من جانب المغرب وقت العصر إلى الغروب وهو قريب من ثمن الدور ومثله في آخر الليل إلى طلوع الفجر فإنه قال: أول ساعات الليل في الثلث الباقي إلى أن ينفجر الصبح ولم يقل أولها من الثلث الباقي أو أول الثلث الباقي ولو قال ذلك لكان المقدار قريبا من سدس الدور وهو أكثر من ثلاث ساعات، وفيه دلالة على أن ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس داخل في النهار.

(يقول: إني أنا الله رب العالمين) الله أشهر أسمائه تعالى وأعلاها محلا في الذكر والدعاء ولذا ابتدأ به في القرآن المجيد وفي فقرات هذا التمجيد وهو اسم للذات الواجب بالذات المستحق

ص:312

لجميع المحامد والكمالات، والرب قيل: هو مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ كل شيء إلى كماله اللايق به شيئا فشيئا والوصف به للمبالغة كزيد عدل. وقيل صفة مشبهة من ربه يربه فهو رب ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه لينتقل من حد النقص إلى حد الكمال، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى من المجردات والجسمانيات، وفيه دلالة على افتقار الممكن إلى المؤثر في البقاء; لأن التربية بالمعنى المذكور لا يكون إلا في حال البقاء بواسطة الإبقاء (إني أنا الله العلي العظيم) العلي المتنزه عن صفات الممكن وقد يكون بمعنى العالي فوق خلقه بالغلبة والقدرة عليهم وبمعنى المتعالي عن الأشباه والأنداد والعظيم ذو العظمة وهو راجع إلى كمال الذات والصفات كما مر.

(إني أنا الله العزيز الحكيم) العزيز الغالب الذي لا يغلب ولا يعادله شيء، والحكيم الذي يعلم الأشياء كما هي أو يحكم خلقها ويتقنها بلطف التدبير وحسن التقدير وقد مر. (إني أنا الله الغفور الرحيم) أي كثير المغفرة للسيئات، وعظيم التجاوز عن العقوبات، وشديد الرحمة بالتائبين، ومفيض الخير إلى النادمين.

(إني أنا الله الرحمن الرحيم) أي ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلق في الدنيا بإيصال الأرزاق وتيسير الأسباب ودفع البليات وقضاء الحاجات، وللمؤمنين في الآخرة بإعطاء جنات عالية وعيون جارية ونعم باقية وتفضلات زاكية.

(إني أنا الله مالك يوم الدين) الدين الجزاء أي مالك الامور كلها والمتصرف فيها يوم الجزاء إذ لا مالك فيه غيره. حذف المفعول به وأقيم الظرف مقامه وجعل مفعولا به على سبيل الإتساع والتجوز (إني أنا الله لم أزل ولا أزال) إذ لا بداية لوجوده ولا نهاية له فيكون أزليا وأبديا (إني أنا الله خالق الخير والشر) أي مقدرهما أو خالق النور والظلمة أو خالق الحياء والموت أو خالق الغنى والفقر والصحة وغيرها من الصفات المتضادة.

(إني أنا الله خالق الجنة والنار) الظاهر أن خالقا من حيث هو مضاف صفة لله لا خبر بعد خبر وحينئذ يجب أن يكون بمعنى الماضي ليكون الإضافة معنوية مفيدة للتعريف لا بمعنى الحال أو الاستقبال فيفهم منه أن الجنة والنار مخلوقتان، وهذا يجري في سائر الإضافات الواقعة في هذا التمجيد (إني أنا الله بدئ كل شيء وإلي يعود) البديء كبديع الأول كالبدء والله سبحانه أول كل شيء بالعلية والية عوده بعد الفناء وبالحاجة حال البقاء.

(إني أنا الله الواحد الصمد) المتفرد في الذات والصفات والمقصود للخلائق في الحوائج والمهمات (إني أنا الله عالم الغيب والشهادة) المراد بهما الآخرة والدنيا، أو ما غاب عن الحس

ص:313

وما حضر أو السر والعلانية أو عالم المجردات وعالم الجسمانيات.

(إني أنا الله الملك القدوس) أي المتصرف بالأمر والنهي في المخلوقات والمنزه عن العيب والنقص وصفات الممكنات.

(السلام المؤمن المهيمن) من أسمائه تعالى «السلام» وهو في الأصل مصدر ووصفه تعالى به للمبالغة ومعناه السلامة عما يلحق الخلق من العيب والفناء والحاجة والغنى، وقيل للجنة دار السلام; لأن أهلها سالمون من الآفات، أو لأنها داره عز وجل، ومن أسمائه تعالى «المؤمن» لأنه الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان بمعنى التصديق أو يؤمنهم في القيامة عذابه فهو من الأمان، والأمن ضد الخوف، ومن أسمائه «المهيمن» قيل: هو الرقيب الحافظ لكل شيء، وقيل هو الشاهد على الخلق، وقيل المؤتمن، وقيل القائم بامور الخلق وتدبيرهم، وقيل أصله المؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة هو مفيعل من الأمانة.

(العزيز الجبار المتكبر) «العزيز» المنيع الذي لا يغلب أو لا يعادله شيء، أو لا مثل له ولا نظير، والجبار من أبنية المبالغة ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي وغيرهما من الامور التي ليس لهم فيها اختيار ولا قدرة على تغييرها، وقيل: هو العالي فوق خلقه: وقيل: هو الذي يجبر مفاقر الخلق وكسرهم ويكفيهم أسباب الرزق ويصلح أحوالهم والمتكبر العظيم من الكبر بالكسر وهي العظمة وهي عبارة عن كمال الذات والصفات، وقيل: هو المتعالي عن صفات الخلق، وقيل: المتكبر على عتاة خلقه.

(إني أنا الخالق البارىء المصور لي الأسماء الحسنى) هي التي لا نقص فيها ولا في مفهومها قال الشيخ في المفتاح: قد يظن أن الثلاثة مترادفة لأنها بمعنى الإيجاد والإنشاء فذكرها للتأكيد وليس كذلك بل امور متخالفة. ألا ترى أن البنيان يحتاج إلى تقدير في الطول والعرض، وإلى ايجاد بوضع الأحجار والأخشاب على نهج خاص وإلى تزيين ونقش وتصوير فهذه امور ثلاثة مترتبة يصدر عنه جل شأنه في إيجاد الخلائق من كتم العدم فله سبحانه باعتبار كل منها اسم على ذلك الترتيب.

(إني أنا الله الكبير) في العدة الكبير السيد، يقال لكبير القوم سيدهم وفي النهاية الكبير العظيم فهو والمتكبر متقاربان ألا أن في المتكبر دلالة على الزيادة.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن عبد الله بن بكير، عن عبد الله بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى يمجد نفسه في كل يوم وليلة ثلاث مرات فمن مجد الله بما مجد به نفسه ثم كان في حال شقوة حوله الله عز وجل إلى سعادة يقول: «أنت

ص:314

الله لا إله إلا أنت رب العالمين، أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم، أنت الله لا إله إلا أنت العزيز [العلي]، الكبير أنت الله لا إله إلا أنت مالك يوم الدين، أنت الله لا إله إلا أنت الغفور الرحيم، أنت الله لا إله إلا أنت العزيز الحكيم، أنت الله لا إله إلا أنت منك بدء الخلق وإليك يعود، أنت الله [الذي] لا إله إلا أنت لم تزل ولا تزال، أنت الله [الذي] لا إله إلا أنت خالق الخير والشر، أنت الله لا إله إلا أنت خالق الجنة والنار، أنت الله لا إله إلا أنت أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أنت الله لا إله إلا أنت (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) - إلى آخر السورة - أنت الله لا إله إلا أنت الكبير، والكبرياء رداؤك».

:315

باب من قال لا إله إلا الله

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما من شيء أعظم ثوابا من شهادة أن لا إله إلا الله، إن الله عز وجل لا يعد له شيء ولا يشركه في الامور أحد.

* الشرح:

قوله: (ما من شيء أعظم ثوابا من شهادة أن لا إله إلا الله عز وجل) لأنها كلمة الإخلاص والتوحيد وينفي به الشريك والأنداد ويوصفه بالصفات اللائقة به سبحانه ويحكم باحتياج كل موجود سواه إليه على أنها أصل لجميع العبادات لا اعتداد بها ولا يترتب الثواب عليها إلا بعد هذه الكلمة الشريفة، ومن طرق العامة عنه (صلى الله عليه وآله) «أفضل ما قلته وقاله النبيون من قبلي لا إله إلا الله» قال بعض العامة: قيل أنه اسم الله الأعظم وهي كلمة الإخلاص، ثم الظاهر أنه لا يشترط في داخل الإسلام النطق بلفظة أشهد أن لا إله إلا الله فلو قال الله واحد وقال لا شريك له كفى» وأما كون النطق بذلك شرطا في حصول الثواب المذكور فمحتمل (لا يعدله شيء) في كمال الذات والصفات (ولا يشركه في الامور) أي صفات الأحوال (أحد) من الموجودات.

* الأصل:

2 - عنه، عن الفضيل بن عبد الوهاب، عن إسحاق بن عبد الله، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قال: لا إله إلا الله. غرست له شجرة في الجنة من ياقوتة حمراء، منبتها في مسك أبيض، أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج وأطيب ريحا من المسك، فيها أمثال ثدي الأبكار، تعلوا عن سبعين حلة.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير العبادة قول: لا إله إلا الله.

وقال: خير العبادة الاستغفار وذلك قول الله عز وجل في كتابه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك).

* الشرح:

قوله: (غرست له شجرة في الجنة من ياقوتة حمراء) من بيانية أو ابتدائية، وفي بعض

ص:316

الروايات «أن أرض الجنة بيضاء فأغرسوها بالتسبيح والتهليل والتحميد ونحوها».

(منبتها في مسك أبيض) وصف لأرض الجنة في طيبها وريحها (أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج وأطيب ريحا من المسك) أي ثمرتها أحلى - إلى آخره أو وصف للشجرة باعتبار ثمرتها (فيها أمثال ثدي الأبكار) أي في الشجرة أثمار مشبهة بثدي الأبكار في الهيئة والمقدار وكان المراد بها الرمان، والثدي بالفتح يذكر ويؤنث والتذكير أكثر وقيل: يؤنث والتذكير مجاز.

وقوله: (تعلو من سبعين حلة) من حلل الجنة ترشيح ووصف للثدي بالنور والضياء وللحلة بالرقة والصفاء للترغيب والتنشيط، والجملة حال عن الثدي.

(وقال خير العبادة قول: لا إله إلا الله - والاستغفار) يحتمل أن يكون المراد أن مجموع التوحيد والاستغفار من حيث المجموع خير العبادة لكن فيه شيء لأنك قد عرفت أن التوحيد وحده خير العبادة فما الفائدة في ضم الاستغفار معه والحكم على المجموع بالخيرية، ويمكن الجواب بأن الخيرية تقبل التشكيك فهذا الفرد منها أكمل من السابق، ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد منهما خير العبادة أما الأول فلما عرفت مما ذكرنا وأما الثاني فلأن الاستغفار في نفسه عبادة لكونه غاية الخشوع والتذلل والرجعة إليه سبحانه ومع ذلك سبب لمحو الذنوب الصغيرة والكبيرة جميعا الذي يوجب طهارة النفس وحصول القرب إليه سبحانه; لأن المعصية مانعة منه وأما غيره من العبادات وإن كان مكفرا للذنوب لكن ليس بهذه المثابة.

ص:317

باب من قال لا إله إلا الله والله أكبر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، رفعه، عن حريز، عن يعقوب القمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثمن الجنة لا إله إلا الله والله أكبر.

* الشرح:

قوله: (ثمن الجنة لا إله إلا الله والله أكبر) أي أكبر من كل شيء أو أكبر من أن يوصف والبايع هو الله سبحانه، والمشتري هو العبد، والثمن هو هذه الكلمة الشريفة مع شرائطها ومن شرائطها الإقرار بالرسالة والولاية لأهلهما.

باب من قال لا إله إلا الله وحده وحده وحده

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال جبرئيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): طوبى لمن قال من امتك: «لا إله إلا الله وحده وحده وحده».

* الشرح:

قوله: (طوبى لمن قال - إلى آخره) طوبى اسم شجرة في الجنة وهي الطيب قلبت الياء واوا لضمة قبلها ويقال طوباك وطوبى لك والمقصودان الجنة لمن قال ذلك تسمية للمحل باسم الحال أو طيب العيش له وتكرير وحده للمبالغة والتأكيد أي منفردا في الذات والصفات لا نظير له ولا مثل وكان لم يزل ولم يكن معه شيء، وفي النهاية هو منصوب عند أهل البصرة على الحال أو المصدر، وعند أهل الكوفة على الظرف كأنك قلت أوحدته برؤيتي ايحادا أي لم أر غيره.

ص:318

باب من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له - عشرا -

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عمرو بن عثمان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن عبد الله بن المغيرة، عن ابن مسكان، عن أبي بصير ليث المرادي، عن عبد الكريم بن عتبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من قال عشر مرات قبل أن تطلع الشمس وقبل غروبها: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» كانت كفارة لذنوبه ذلك اليوم.

* الشرح:

قوله: (من قال عشر مرات قبل أن تطلع الشمس وقبل غروبها) من طريق العامة «عنه (صلى الله عليه وآله) قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» قال الآبي: فيه دلالة على أن العرب تسترق.

واعلم أنه إذا رتب الثواب على عدد معين فالظاهر أنه لا يترتب على أقل وأكثر وبه صرح ابن طاووس (قدس سره) وغيره وقد مثل له بأنه إذا قال لك صادق القول عد من هذا المقام عشرة أذرع فأين انتهى كان فيه كنز فلا شبهة في أنه لا يمكن تحصيله في تسعة أو في أحد عشر ثم قيل إن الأولى تمام العدد من غير فصل بكلام أجنبي فلو فصله كان الأولى اعادته ومع ذلك لابد من توجه النفس إليه وربط القلب به; لأن التوجه روح العبادة.

(كانت كفارة لذنوبه ذلك اليوم) يحتمل أن يراد باليوم اليوم مع ليلته فيكون ما قاله قبل طلوع الشمس كفارة لذنوب الليل وما قاله قبل غروبها كفارة لذنوب اليوم، ولو خص اليوم لبقي ذنوب الليل بلا كفارة، ثم الظاهر من الذنوب جميعها صغيرة كانتا وكبيرة ولا يبعد تخصيصها بالصغيرة لأن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة أو فضل الله تعالى ويؤيد هذا التخصيص قوله في الخبر الآتي: «ولم تحط به كبيرة من الذنوب».

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عمن ذكره، عن عمر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من صلى الغداة فقال قبل أن ينقض ركبتيه عشر مرات: «لا

ص:319

إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت ويميت ويحيي [وهو حي لا يموت] بيده الخير وهو على كل شيء قدير» وفي المغرب مثلها، لم يلق الله عز وجل عبد بعمل أفضل من عمله إلا من جاء بمثل عمله.

* الشرح:

قوله: (لم يلق الله عز وجل عبد بعمل أفضل من عمله إلا من جاء بمثل عمله) فيه إشكال; لأن ظاهر الاستثناء يفيد أن عمل من جاء بمثل عمله أفضل من عمله والمثلية يقتضي المساواة وبينهما منافاة اللهم إلا أن يراد بالأفضل الفضل ويتعلق القصد بنفي المساواة كما يقال ليس في البلد أفضل من زيد ويراد نفي المساواة وأن زيدا أفضل ممن عده فيكون المقصود لم يلق الله عز وجل عبد يعمل عملا مساويا لعمله في الفضيلة والكمال إلا من جاء بمثل عمله.

ص:320

باب من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعيد، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» كتب الله له ألف ألف حسنة.

* الشرح:

قوله: (كتب الله له ألف ألف حسنة) أي كتب الملك إلا أنه نسب الفعل إلى الأمر.

باب من قال عشر مرات في كل يوم: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عبد العزيز العبدي، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في كل يوم عشر مرات: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا». كتب الله له خمسة وأربعين ألف حسنة ومحا عنه خمسة وأربعين ألف سيئة ورفع له خمسة وأربعين ألف درجة.

وفي رواية اخرى وكن له حرزا في يومه من السلطان والشيطان ولم تحط به كبيرة من الذنوب .

* الشرح:

قوله: (إلها واحدا أحدا) الواحد الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر والأحد الفرد الذي لا يتجزى ولا يقبل الانقسام فالواحد هو المتفرد بالذات في عدم المثل والأحد هو المتفرد بالمعنى، قوله: (كتب الله له خمسة وأربعين ألف حسنة ومحا عنه خمسة وأربعين ألف سيئة ورفع له خمسة وأربعين ألف درجة) جزاء الشرط وهو قوله من قال والظاهر أن ذلك القول سبب

ص:321

لهذه الامور الثلاثة كما يدل عليه الشرطية فعلى هذا إن لم يكن له سيئة لا يبعد القول بأنه يعوض عن محو السيئة حسنة ولم أر بذلك تصريحا من الأصحاب وجزم بذلك الخطابي من علماء العامة ولعل المراد بالسيئة الصغيرة لا الأعم منها ومن الكبيرة وإن جاز العفو عن الكبيرة أيضا عن غير توبة للرواية الآتية، وقال بعض العامة محو الكبائر مشروط بالتوبة (وفي رواية اخرى وكن له حرزا في يومه من السلطان والشيطان) يعني أنه تعالى يحفظه في يومه ذلك فلا يقع منه زلة ولا وسوسة وقد يقال هذا مشروط بالقبول فمن قاله وصدرت منه زلة أو وقع منه ظلم فهو دليل على أنه تعالى لم يقبله منه.

ص:322

باب من قال يا الله يا الله - عشر مرات -

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن أيوب بن الحر أخي اديم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال: يا الله يا الله - عشر مرات - قيل له: لبيك ما حاجتك.

* الشرح:

قوله: (من قال: يا الله يا الله عشر مرات قيل له: لبيك ما حاجتك) إن كان القائل هو الله سبحانه فقوله «ما حاجتك» للإستنطاق وإن كان غيره من الملائكة يحتمل أن يكون الاستفهام على حقيقته وأن يكون للإستنطاق أيضا.

ص:323

باب من قال لا إله إلا الله حقا حقا

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى الأرميني، عن أبي عمران الخراط، عن الأوزاعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في كل يوم: «لا إله إلا الله حقا حقا لا إله إلا الله عبودية ورقا، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا». أقبل الله عليه بوجهه ولم يصرف وجهه عنه حتى يدخل الجنة.

* الشرح:

قوله: (من قال في كل يوم لا إله إلا الله حقا حقا) أي حق حقا فهو مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر لتأكيد مضمون جملة والتكرير للمبالغة في التأكيد.

(لا إله إلا الله عبودية ورقا) وفي القاموس العبودية والعبادة الطاعة، وفي الكنز الرق الملك والعبد أي أثبت له الألوهية ونفيتها عن غيره لأجل أني عبد مطيع له وهو أهل للعبادة والطاعة والإذعان والانقياد دون غيره.

(لا إله إلا الله إيمانا وصدقا) أي آمنت به إيمانا وصدقت فيه صدقا والجمع بينهما للإشعار بالتوافق بين اللسان والقلب، ويمكن تفسير بمثل السابق والله يعلم.

(أقبل الله عليه بوجهه ولم يصرف عنه وجهه حتى يدخل الجنة) أي أفاض عليه الرحمة والبركات ويسدده في جميع حالاته ولم يكله إلى نفسه ولم يصرف عنه شيئا من ذلك حتى يدخل الجنة والحاصل ان هذا القائل محفوظ بحفظ الله معصوم بعصمة الله حتى يدخل الجنة ولا حاجة فيه إلى التأويل.

ص:324

باب من قال يا رب يا رب

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، محمد بن عيسى، عن أيوب بن الحر أخي اديم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال عشر مرات: «يا رب يا رب» قيل له: لبيك ما حاجتك.

* الشرح:

قوله: (من قال عشر مرات يا رب يا رب) في ذكر الرب استعطاف لما فيه من الدلالة على تربيه كل شيء وتكميله وحفظه واخراجه من حد النقص إلى الكمال، وهو مجرب في قضاء الحاجات ودفع البليات ولذلك توسل الأنبياء في دفع النوازل والبلايا كما نطق به القرآن الكريم.

2 - أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حمران قال: مرض إسماعيل بن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): قل: يا رب يا رب - عشر مرات - فإن من قال ذلك نودي لبيك ما حاجتك.

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن معاوية، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال: «يا رب يا الله يا رب يا الله» حتى ينقطع نفسه قيل له: لبيك ما حاجتك.

باب من قال لا إله إلا الله مخلصا

* الأصل:

1 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا ، عن الوشاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي الحسن السواق، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا أبان إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث: من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنة، قال: قلت له: إنه يأتيني من كل صنف من الأصناف أفأروي لهم هذا الحديث؟ قال: نعم يا أبان إنه إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين فتسلب لا إله إلا الله منهم إلا من كان على هذا

ص:325

الأمر.

* الشرح:

قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنة) قيل لما دلت ظاهر الآيات والروايات على نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة واقتضى هذا الحديث أمنهم تعين فيه التأويل صونا لظاهر الشرع عن التناقض فتأوله بعضهم أن ذلك كان قبل نزول الفرائض وأما بعده فالعاصي بالمشيئة.

أقول: هذا التأويل وإن كان مستبعدا من جهة قوله «إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث»; لأن الغرض منه الترغيب في هذه الكلمة الشريفة ولا شبهة في أنهم نشأوا بعد نزول الفرائض، ومن جهة عموم من شهد لكنه قد مر في باب بعد باب أن الإيمان قبل الإسلام ما يؤيده حيث قال الباقر (عليه السلام) في حديث طويل «ثم بعث الله عز وجل محمدا (صلى الله عليه وآله) وهو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا أدخله الله الجنة باقراره وهو إيمان التصديق ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على ذلك إلا من أشرك بالرحمن» وأوله بعضهم بحمله على من مات ولم يعص.

أقول: ويؤيده أن لهذا الحكم أعنى ترتب وجوب دخول الجنة على الشهادة بالتوحيد شروط أشار (عليه السلام) إلى بعضها بقوله إلا من كان على هذا الأمر» وبعضها الشهادة على الرسالة وهو غير مذكورة، فيحتمل أن يكون عدم العصيان أيضا من الشروط وأوله البخاري بمن مات وهو ثابت يريد أن من كان آخر كلامه هذه الكلمة الشريفة وجبت له الجنة لأنها مكفرة للذنوب الذي صدرت قبلها. وأقول لا يحتاج الحديث إلى التأويل; لأن المؤمن العاصي إن غفر له ابتداء يلتحق بغير العاصي فيدخل الجنة مثله وإن نفذ فيه الوعيد يدخل النار على ما شاء الله ثم لابد من دخول الجنة فوجوب دخول الجنة على ظاهره إذ لابد للقائل بالشهادتين من دخولها إما ابتداء أو بعد الجزاء وفي قوله (عليه السلام) «من شهد» إشارة إلى أن مجرد القول من غير القصد والاعتقاد لا يكفي في ترتب الجزاء; لأن الشهادة لا تكون إلا من صميم القلب، والظاهر أن قوله مخلصا حال مؤكدة من فاعل شهد; لأن المراد بالإخلاص هنا أن لا يعتقد له شريكا لا أن لا يقصد بذلك ثوابا; لأن المقصود من الحديث هو التحريص بذلك القول لأجل هذا الثواب كما لا يخفى.

ص:326

باب من قال ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن هشام ابن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا دعا الرجل فقال بعد ما دعا: «ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله».

قال الله عز وجل: استبسل عبدي واستسلم لأمري اقضوا حاجته.

* الشرح:

قوله: (فقال بعد ما دعا ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله) أي ما شاء الله كان أو أشاء ما شاء.

قيل الحول هنا الحركة يعني لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله، وقيل الحيلة وقيل القدرة أي لا قدرة على شيء ولا قوة إلا بمعونة الله وتوفيقه، وقيل التحول والانتقال يعني لا تحول لنا عن المعاصي ولا قوة لنا على الطاعات إلا بعون الله وتوفيقه، وهذا المعنى رواه المصنف في كتاب التوحيد عن الباقر (عليه السلام) ومثله مروي عن الصادق (عليه السلام) فهو أولى بالإرادة، وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معنى هذه الكلمة: فقال إنا لا نملك مع الله شيئا ولا نملك إلا ما ملكنا فمتى ملكنا ما هو أملك به منا كلفنا ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا، ونقل بعض الأفاضل عن بعض المحققين من أهل اللغة أنه قال الحال لما يختص به الإنسان من الامور المعتبرة في نفسه وجسمه ونياته والحول ما له القوة في أحد هذه الاصول الثلاثة، ومنه قيل لا حول ولا قوة إلا بالله، أقول: المعنى الذي ذكره (عليه السلام) ما يدركه من هذه العمارة فرسان ميدان الفصاحة والبلاغة وهو زائد على منطوقه اللغوي وفي هذه الكلمة الشريفة تسليم للقضاء والقدر وإظهار للفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة منه في جميع الامور وابراز لعجز البشر بسلب القدرة والحركة في الطاعات والخيرات عنهم واثباتهما للملك العلام وتوقيرا وتعظيما له ودلالة على التوحيد الخفي لأنه إذا نفي الحيلة والحركة والقوة والاستطاعة عن غيره سبحانه وأثبتها له على الحصر الحقيقي وبينه أنها بإيجاده واستعانته وتوفيقه لزمه القول بأنه لم يخرج شيء من ملكه وملكوته وأنه لا شريك له تحقيقا لمعنى الحصر، وفي طرق العامة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعبد الله بن قيس: «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: لا حول ولا قوة إلا بالله» قال المازري: وفي ضبط هذه الكلمة خمس لغات: فتح الكلمتين بلا تنوين ورفعهما منونتين وفتح الاولى ونصب الثانية ورفعها منونة،

ص:327

والخامس عكس الرابع، قال المطرزي: والأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة: بسمل إذا قال بسم الله، وسبحل إذ قال سبحان الله، وحمدل إذا قال الحمد الله، وهلل إذا قال لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال حي على الفلاح، وجعفل إذا قال صعلت فداك ويجري على قياس صيعل حيصل إذا قال: حي على الصلاة وزاد الثعلبي طبلق إذا قال أطال الله بقاك، ودمعز إذا قال أدام الله عزك، ورد ذلك بأن قياس حيصل على حيعل غير صحيح; لأن حيعل تعمهما لأنهما من حي على ولو كان كما قال لقيل حيفل بالفاء في حي على الفلاح ولم يقولوه وهذا الباب مسموع ولو كان على القياس لقيل جعلف في جعلت فداك وطلبق في أطال الله بقاك; لأن اللام قبل الفاء والقاف، وقال المازري: الحوقلة بتقديم القاف هو الذي حكاه الأزهري وذكره الهروي بتقديم اللام والأول هو المشهور فالحاء من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله وعلى الثاني فالحاء واللام من الحول والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف. (استبسل عبدي) أي وكل امره إلي أو وطن نفسه علي. يقال ابسله واستبسله لعمله وبه إذا وكله إليه ونفسه له إذا وطنها عليه.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من قال: «ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله» - سبعين مرة - صرف عنه سبعين نوعا من أنواع البلاء أيسر ذلك الخنق، قلت: جعلت فداك وما الخنق؟ قال: لا يعتل بالحبون فيخنق.

* الشرح:

قوله: (من قال ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله سبعين مرة) أي في مجلس واحدا وفي يوم بليلته على احتمال (صرف عنه سبعين نوعا من أنواع البلاء) وإن قضيت عليه وابرمت ولكن لم تبلغ مرتبة الإمضاء (أيسر ذلك الخنق) الخنق بالخاء المعجمة والخناق كغراب داء في الحلق يأخذ النفس ويمنعه من الخروج والدخول إلى الرية والقلب ومنشأوه غلبة الدم أو السوداء (قلت:

جعلت فداك وما الخنق؟) الواو في الحكاية دون المحكي وعطف الإنشاء على الاخبار إذا كان له محل من الإعراب جائز.

(قال: لا يعتل بالحبون فيخنق) لا يعتل في بعض النسخ بالفاء يقال فتله يفتله لواه كفتله فهو فتيل ومفتول والأنسب لا يعتل بالعين من الإعتدال، والحبون بالحاء المهملة المضمومة والباء الموحدة جمع الحبن بالكسر كالحمول جمع حمل وهو خراج كالدمل وما يعترى في الجسد

ص:328

فيقيح ويرم الحبن محركة داء في البطن يعظم منه ويرم كذا في القاموس. واعلم أن هذا القول يفسر ما اشتمل عليه الكلام السابق وهو صرف عنه الخنق ويفهم منه الجواب عن السؤال المذكور وهو أن الخنق هو الحبن.

باب من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الصمد، عن الحسين بن حماد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قال في دبر صلاة الفريضة قبل أن يثني رجليه: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذو الجلال والإكرام وأتوب إله» - ثلاث مرات - غفر الله عز وجل له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.

* الشرح:

قوله: (استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم) في العدة الفهدية «الحي الفعال المدرك وهو حي في نفسه لا يجوز عليه الموت والفناء وليس بمحتاج إلى حياة بها يحيى، والقيوم القائم بلا زوال ويقال هو القيوم على كل شيء بالرعاية من قمت بالشيء إذا توليته بنفسك وتوليت حفظه واصلاحه تدبيره». وفي كتاب إكمال الإكمال «القيوم فيعول من القيام للمبالغة ومنه قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس) قيل: قال ابن عباس: القيوم الذي لا يزول ويرجع إلى البقاء، وقال غيره القائم: بكل شيء أي الذي يدبر أمر الخلائق ويرجع إلى الحفظ، والمعنيان يتوجهان في الآية والحديث.

(ذو الجلال والإكرام) وصف له بعظمة الذات وكمال الصفات والإكرام إلى جميع الممكنات.

ص:329

باب القول عند الإصباح والإمساء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن غالب بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (وظلالهم بالغدو والآصال) قال: هو الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وهي ساعة إجابة.

* الشرح:

قوله: ((وظلالهم بالغدو والآصال)) الظلال جمع ظل وهو هنا الشخص والآصال جمع أصيل وهو ما بين الغروب والعصر أي يسجد وينقاد لله تعالى أشخاصهم في هذين الوقتين، وفسره (عليه السلام) بالدعاء فيما، وقال بعض المفسرين الظل الفييء، والمراد انقياد أفيائهم فيهما بالمد والتقليص وضمير هي في قوله: (وهي ساعة إجابة) راجع إلى القبل والتأنيث باعتبار الخبر.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن إبليس عليه لعائن الله يبث جنود الليل من حيث تغيب الشمس وتطلع فأكثروا ذكر الله عز وجل في هاتين الساعتين وتعوذوا بالله من شر إبليس وجنوده وعوذوا صغاركم في تلك الساعتين فإنهما ساعتا غفلة.

* الشرح:

قوله: (إن إبليس عليه لعائن الله) لعائن بالفتح جمع لعان بالكسر كشمائل جمع شمال وفي القاموس لعنة كمنعه طرده وأبعده فهو لعين وملعون والاسم اللعان.

(يبث جنود الليل) كان فيه حذفا وهو وجنود النهار بقرينة السياق.

(من حيث تغيب الشمس وتطلع) حيث للمكان كحين للزمان ويثلث آخره، وفي بعض النسخ حين بدل حيث، (فإنهما ساعتا غفلة) وفيهما أول جبلات الشياطين وصدماتهم والغفلة محركة اسم من غفل عنه غفولا إذا تركه وسها عنه.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن

ص:330

ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن رزين صاحب الأنماط، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: من قال: « أللهم إني اشهدك واشهد ملائكتك المقربين وحملة عرشك المصطفين أنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم وأن محمدا عبدك ورسولك وأن فلان بن فلان إمامي ووليي وأن أباه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليا والحسن والحسين وفلانا وفلانا - حتى ينتهي إليه - أئمتي وأوليائي على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه ابعث يوم القيامة، وأبرأ من فلان وفلان وفلان. فإن مات في ليلته دخل الجنة.

* الشرح:

قوله: (وإن فلان بن فلان إمامي ووليي) الظاهر أنه كناية عن الصاحب المنتظر والضمير في قوله (حتى ينتهي إليه) راجع إليه وكان ذكره أولا باعتبار أنه أعظم مقصد للمؤمنين إذ هو شفاء لغيظ صدورهم بالغلبة على أعدائهم الكافرين وذكره أخيرا باعتبار مرتبة وجوده وللمبالغة في التوسل به (عليه السلام) والله أعلم.

قوله: (على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث) هذا القول اما بالنظر إلى رسوخ اعتقاده والاعتماد عليه أو للطلب من الله تعالى أن يجعله كذلك (وأبرأ من فلان وفلان وفلان) ويسميهم بأسمائهم ولا ينفع التولي بدون البراءة منهم كما دل عليه بعض الاخبار.

(فإن مات في ليلة دخل الجنة) ظاهره أنه يدخلها بلا عقوبة وقد يقال أن المذكور أصل الإيمان وهو بدون الاعمال لا يوجب الدخول في الجنة ابتداء لأن العاصي في المشيئة فلا بد من حمل الدخول على الدخول في الجنة وأن كان بعد الجزاء وقد ذكرناه سابقا.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، وبكر بن محمد، عن أبي إسحاق الشعيري، عن يزيد بن كلثمة، عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر (عليهم السلام) قال: تقول إذا أصبحت: « أصبحت بالله مؤمنا على دين محمد وسنته ودين علي وسنته ودين الأوصياء وسنتهم وآمنت بسرهم وعلانيتهم وشاهدهم وغائبهم وأعوذ بالله مما استعاذ منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي والأوصياء وأرغب إلى الله فيما رغبوا إليه ولا حول ولا قوة إلا الله».

* الشرح:

قوله: (آمنت بسرهم وعلانيتهم) لعل المراد بالسر الاعتقاديات وبالعلانية الأقوال أو العمليات أو الأعم منهما ومن الأمور الشرعية المختصة بهم والمشتركة بينهم وبين المنكرين لهم

ص:331

(وشاهدهم وغائبهم) الشاهد الموجود والغائب الماضي إلى جوار الله تعالى.

* الأصل:

5 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن علي بن الحسين صلوات الله عليهما كان إذا أصبح قال: «أبتدىء يومي هذا بين يدي نسياني وعجلتي بسم الله وما شاء الله» فإذا فعل ذلك العبد أجزأه مما نسي في يومه.

* الشرح:

قوله: (أبتدىء يومي هذا بين يدي نسياني وعجلتي بسم الله وما شاء الله) بدأ به كمنع ابتداء وبدأ الشيء وأبداه وأبتداه فعله ابتداء والعجلة والعجل محركتين السرعة يعني ابتدىء وأقدم بين يدي نسياني عن الخيرات وسرعتي فيها هاتين الكلمتين الشريفتين وفي الأولى توسل بالذات الواجب وجوده لذاته المستجمع لجميع كمالاته وصفاته، وفي الثانية تفويض للأمر إليه واذعان بأنه لا يقع في ملكه شيء إلا أن مشيئته في فعل العباد غير حتمية وتعلقها بالطاعة بالذات وبالمعصية بالعرض لأنه أراد انطباق علمه بالمعلوم وهي تستلزم إرادة المعلوم بالعرض فمشيئته المتعلقة بالطاعة بالذات من وجه وبالعرض من وجه آخر. ومشيئة المتعلقة بالمعصية بالعرض فقط ومنه يظهر سر ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد أشار إليه أهل العصمة عليهم السلام وأوضحناه في الشرح التوحيد.

(فإذا فعل ذلك أجزأه مما نسي في يومه) وكفاه وقام مقام المنسى وفي النهاية أجزأني الشيء أي كفاني فضمير المفعول راجع إلى العبد وضمير الفاعل المستتر إلى فعل ذلك.

* الأصل:

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن عمر ابن شهاب وسليم الفراء، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال هذا حين يمسي حف بجناح من أجنحة جبرئيل (عليه السلام) حتى يصبح: «أستودع الله العلي الأعلى الجليل العظيم نفسي ومن يعنيني أمره، أستودع الله نفسي المرهوب المخوف المتضعضع لعظمته كل شيء» - ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله: (أستودع الله العلي الأعلى) العلي المنزه عن صفات المخلوقين والأعلى الغالب كقوله

ص:332

تعالى: (لا تخف أنك أنت الأعلى) (الجليل العظيم) الجلال هو العظمة وهو منصرف إلى جلال القدرة والعظيم هو ذو العظمة وهو منصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر.

(نفسي ومن يعنيني أمره) يعنيني بالنونين بينهما ياء مثناة تحتانية ومعناه يقصدني، ويهمني ويشغلني من عناه فلان إذا قصده وأهمه وشغله.

(استودع الله نفسي المرهوب المخوف المتضعضع لعظمته كل شيء) المرهوب وما بعده صفة لله والفصل لا يضر، والفرق بينه وبين المخوف أن الرهبة بملاحظة عظمة الله من حيث هي والخوف بملاحظتها مع ملاحظة التقصير والتضعضع الخضوع والذل والافتقار والجار متعلق بالثلاثة من باب التنازع.

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحجال، عن علي بن عقبة، وغالب بن عثمان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أمسيت قل: «اللهم إني أسألك عند إقبال ليلك وإدبار نهارك وحضور صلواتك وأصوات دعائك أن تصلي على محمد وآل محمد» وإدع بما أحببت.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد، فقل في خيرا واعمل في خيرا أشهد لك به يوم القيامة فإنك لن تراني بعدها أبدا.

قال: وكان علي (عليه السلام) إذا أمسى يقول مرحبا بالليل الجديد والكاتب الشهيد اكتبا على اسم الله، ثم يذكر الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد) ذلك القول أما بلسان الحال أو المقال وينبغي للمؤمن أن يسمعه بأذن القلب ويعمل بمقتضاه.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عبد الله بن بكير، عن شهاب بن عبد ربه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تغيرت الشمس فاذكر الله عز وجل وإن كنت مع قوم يشغلونك فقم وادع.

* الشرح:

ص:333

قوله: (إذا تغيرت الشمس) باصفرارها وقت العصر قريبا من الغروب.

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث تناسخها الأنبياء من آدم (عليه السلام) حتى وصلن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أصبح يقول: «أللهم إني أسألك إيمانا تباشر به قلبي ويقينا حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ورضني بما قسمت لي».

ورواه بعض أصحابنا، وزاد فيه «حتى لا احب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا وصلى الله على محمد وآله».

* الشرح:

قوله: (ثلاث تناسخها الأنبياء) نسخ الكتاب كمنع كتبه عن معارضه كانتسخه واستنسخه وتناسخوه نسخ بعض عن بعض وتناوله على سبيل الإرث والمنقول منه النسخة بالضم.

(اللهم إني أسئلك) بالنصرة والتوفيق والهداية الخاصة (ايمانا تباشر به قلبي) وهو الإيمان المستقر فيه وإنما طلبه لأن الإيمان المستودع قد يزول بأدنى تدليسات الشيطان ويطير بأدنى نفخاته (ويقينا) هو العلم بالحق مع العلم بأنه لا يكون غيره فهو مركب من عملين كما صرح به المحقق الطوسي في أوصاف الاشراف.

(حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي) أي ما قضى أو قدر أو خط لي في اللوح المحفوظ من المصائب والنوائب والخيرات الدنيوية والأخروية وان كان للعبد مدخل في بعضها وفيه إقرار بالقضاء والقدر وتفويض للأمور إليه عز وجل.

(ورضني بما قسمت لي) الرضى بالقسمة شكر للنعمة وسبب لحفظ العتيد وجلب المزيد وطمأنينة النفس وكل ذلك سبب لتمام الدين ونظام الدنيا.

(حتى لا أحب تعجيل ما أخرت) من متاع الدنيا وزهراتها (ولا تأخير ما عجلت) من نوائب الأزمنة ومصيباتها (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث) تعليق الاستغائة على هذا الصفات استعطاف وفي حذف المستغاث له دلالة على التعميم ويمكن تخصيصه بالشدائد الحاضرة وتخصيص قوله (أصلح لي شأني) كله بالتقصيرات الماضية والشأن الخطب والامر والحال وتخصيص قوله (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا) بالاحوالات الماضية.

ص:334

* الأصل:

11 - و [روي] عن أبي عبد الله (عليه السلام): «الحمد لله الذي أصبحنا والملك له وأصبحت عبدك وابن عبدك وابن أمتك في قبضتك، أللهم ارزقني من فضلك رزقا من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب واحفظني من حيث أحتفظ ومن حيث لا أحتفظ أللهم ارزقني من فضلك ولا تجعل لي حاجة إلى أحد من خلقك، أللهم ألبسني العافية وارزقني عليها الشكر يا واحد يا أحد يا صمد يا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا الله يا رحمن يا رحيم يا مالك الملك ورب الأرباب وسيد السادات ويا الله [يا] لا إله إلا أنت اشفني بشفائك من كل داء وسقم فإني عبدك وابن عبدك أتقلب في قبضتك».

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي أصبحنا والملك له) الاصباح الدخول في الصبح والواو للحال والملك بالضم معروف والمراد به هنا ما سواه تعالى وقد يطلق على السلطان والعظمة والمحمود عليه هو الاصباح المقيد أو هو القيد والأول نعمة لنا والثاني كون الملك له تعالى صفة له وكل واحدة منهما يستحق الحمد عليها.

(وأصبحت عبدك وابن عبدك وابن أمتك في قبضتك) الظاهر أن الجملة حال عن فاعل أصبحت وانما عدل عن التكلم إلى الغيبة لما في لفظ العبد من التواضع والتذلل والاستعطاف ما ليس في أنا. والقبضة وضمه أكثر ما قبضت عليه من شيء وجمعته في كفك وهي كناية عن تسلطه تعالى على العبد واحاطته بأموره وقدرته على التصرف فيه كيف يشاء بلا مانع ولا دافع (من كل داء وسقم) يمكن حمل الداء على المرض النفساني والسقم على المرض الجسماني.

* الأصل:

12 - عنه، عن محمد بن علي، رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يقول: «أللهم إني وهذا النهار خلقان من خلقك، أللهم لا تبتلني به ولا تبتله بي، أللهم ولا تره مني جرأة على معاصيك ولا ركوبا لمحارمك، أللهم اصرف عني الأزل واللأواء والبلوى وسوء القضاء وشماتة الأعداء ومنظر السوء في نفسي ومالي».

قال: وما من عبد يقول حين يمسي ويصبح: «رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (صلى الله عليه وآله) نبيا وبالقرآن بلاغا وبعلي إماما» - ثلاثا - إلا كان حقا على الله العزيز الجبار أن يرضيه يوم القيامة.

ص:335

قال: وكان يقول (عليه السلام) إذا أمسى: «أصبحنا لله شاكرين وأمسينا لله حامدين فلك الحمد كما أمسينا لك مسلمين سالمين».

قال: وإذا أصبح قال: «أمسينا لله شاكرين وأصبحنا لله حامدين والحمد لله كما أصبحنا لك مسلمين سالمين».

* الشرح:

قوله: (اللهم لا تبتلني به ولا تبتله بي) كأنه طلب ان لا يصدر منه المعاصي فيه ولا ينزل فيه المصائب إليه كما يشعر ما بعده وبالجملة طلب حسن المعاشرة وعدم كون كل منهما بلية للاخر (اللهم اصرف عنى الأزل واللاواء والبلوى) الأزل بالفتح الضيق والشدة والجدب وبالكسر الكذب والداهية واللأواء واللاي كسعى الابطاء والاحتباس والشدة والبلوى اسم لما يبتلى ويختبر به من المحنة والبلية والغم من بلوته وابتليته واختبرته.

(وسوء القضاء) السوء بالضم اسم من ساءه سوءا إذا فعل به ما يكره والمراد به الآفات والبليات وغيرها مما تعلقت به القضاء ومتعلق القضاء قد يدفع بالدعاء كما مر.

(وشماتة الأعداء) وهي الفرح والسرور بذل الغير وهوانه وبليته.

(ومنظر السوء في نفسي ومالي) الظاهر أن المنظر ما نظرت إليه وان اضافته بيانية وسوء النفس شامل للعيوب النفسانية والجسمانية والعاهات البدنية وسوء المال شامل للحرام والحقوق المالية، ويحتمل أن يكون مصدرا ميميا بمعنى النظر.

(وبالقرآن بلاغا) البلاغ بالفتح الكفاية والاسم من الابلاغ والتبليغ وهما الإيصال وقد يقوم مقامهما ويفيد مفادهما (وكان يقول (عليه السلام) إذا أمسى) أي دخل وقت المساء.

(أصبحنا لله شاكرين وأمسينا لله حامدين) أصبح وأمسى هنا أما لاقتران مضمون الجملة بهذين الوقتين أو بمعنى صار لإفادة الانتقال من حال إلى حال مجردا عن ملاحظة الوقت أو تامة ولله على الأولين متعلق بما بعده وتقديمه لقصد الحصر أو الاهتمام وعلى الأخير حال كما بعده أو متعلق به والتقديم لما ذكر وإنما قدم الشكر على الحمد لأن العرفي منه أعظم من الحمد واللغوي أهم لكونه في مقابل النعمة وأعم باعتبار صدوره من كل واحد من الموارد الثلاثة (فلك الحمد كما أمسينا لك مسلمين سالمين) أشار إلى أن هاتين النعمتين يعني الكون من أهل الإسلام أو التسليم والانقياد والكون من أهل السلامة من الآفات يقتضيان الحمد له رعاية لحسن المعاملة وأداء لحق النعمة.

ص:336

(وإذا أصبح قال أمسينا لله شاكرين وأصبحنا لله حامدين) إنما غير الأسلوب فقال في السابق أولا أصبحنا وقال هنا أمسينا لرعاية تقديم ما هو المقدم في الواقع في الموضعين.

* الأصل:

13 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول إذا أصبح: «بسم الله وبالله وإلى الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، اللهم إليك أسلمت نفسي وإليك فوضت أمري وعليك توكلت يا رب العالمين، أللهم احفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي ومن قبلي، لا إله إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بالله نسألك العفو والعافية من كل سوء وشر في الدنيا والآخرة، أللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن ضغطة القبر ومن ضيق القبر، وأعوذ بك من سطوات الليل والنهار، أللهم رب المشعر الحرام ورب البلد الحرام، ورب الحل والحرام أبلغ محمدا وآل محمد عني السلام، أللهم إني أعوذ بدرعك الحصينة وأعوذ بجمعك أن تميتني غرقا أو حرقا أو شرقا أو قودا أو صبرا أو مسما أو ترديا في بئر أو أكيل السبع أو موت الفجأة أو بشيء من ميتات السوء ولكن أمتني على فراشي في طاعتك وطاعة رسولك (صلى الله عليه وآله) مصيبا للحق غير مخطيء، أو في الصف الذي نعتهم في كتابك (كأنهم بنيان مرصوص) اعيذ نفي وولدي وما رزقني ربي بقل أعوذ برب الفلق - حتى يختم السورة وأعيذ نفسي وولدي وما رزقني ربي بقل أعوذ برب الناس - حتى يختم السورة - ويقول: الحمد لله عدد ما خلق الله والحمد لله مثل ما خلق والحمد لله ملء ما خلق الله والحمد لله مداد كلماته والحمد لله زنة عرشه والحمد لله رضا نفسه ولا إله إلا الله الحليم الكريم ولا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات والأرضين وما بينهما ورب العرش العظيم، أللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء ومن شماتة الأعداء وأعوذ بك من الفقر والوقر وأعوذ بك من سوء المنظر في الأهل والمال والولد» ويصلي على محمد وآل محمد عشر مرات.

* الشرح:

قوله: (بسم الله) ابتداء (وبالله) أي بذاته أستعين (وإلى الله) أرجع (وفي سبيل الله) استقيم (وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)) استقر فالجار في هذه المواضع متعلق فعل مقدر وتقديره بعده لقصد الحصر والعطف من باب عطف الجملة على الجملة كما في حمدا له وشكرا له.

(اللهم إليك أسلمت نفسي) أي سلمتها إليك لا إلى غيرك فعليك حفظها واصلاحها.

ص:337

(واليك فوضت أمري) في النهاية فوض إليه الامر تفويضا رده إليه وجعله الحاكم فيه ومن فوض أمره إلى الله هداه إلى الخيرات ووقاه من السيئات.

(وعليك توكلت يا رب العالمين) أي اعتمدت في أموري عليك وألجأتها إليك لعجزي عن القيام بها وثقتي بكفايتك إياها.

(أللهم احفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يمني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي ومن قبلي) السالك إلى الله خائف من قطع الطريق من الشيطان ومن نفسه الامارة بالسوء والشيطان يأتيه من الجهات الست بالوساوس والشبهات والنفس تعرض عليه سلوك سبيل المشتهيات فهو من قرته إلى قدمه مغمور في بحار الظلمات ومدخون بالادخنة الثائرة من نيران الشهوات ظلمات بعضها فوق بعض فلم ير للتخلص منها مساغا إلا بأن يلجأ إلى الله سبحانه ويطلب منه الحفاظ من جميع تلك الجهات وما يخاف منه من قبل نفسه، ولذلك قال: ومن قبلي وإنما أخره مع أن الاحتراز عن العدو الداخلي أولى من الاحتراز عن العدو الخارجي، لأن دفع الخارج إذا كان منه فساد الداخل أهم ولعل السر في تقديم الأمام والخلف وتأخير الفوق والتحت وتوسيط اليمين والشمال أن اتيان العدو في الأولين أغلب إلا أن القوى يأتي من الأمام والضعيف من الخلف وفي الأخيرين نادر جدا وفي الوسطين غالب بالنسبة إلى الأخيرين فالأولى في طلب الحفظ أن يقدم الأهم فالأهم وإنما آثر «عن» على «من» في الوسطين طلبا لتجاوز الحفظ منهما إلى الأولين للمبالغة في حفظهما حيث طلبه أولا صريحا.

وثانيا ضمنا (وأعوذ بك من سطوات الليل والنهار) هي النوائب النازلة فيهما والإضافة باعتبار الظرفية (اللهم رب المشعر الحرام ورب البلد الحرام ورب الحل والاحرام) في بعض النسخ « والحرام» والوجه في تخصيص أمثال هذه الأشياء بالمربوبية مع أنه رب كل شيء; المبالغة في تعظيم الخالق بإضافة كل عظيم إلى ايجاده ولذلك قد يقال رب السماوات والأرض ورب النبيين والمرسلين ورب الجبال والبحار ورب المشرق والمغرب ورب العالمين وغير ذلك مما جاء في القرآن والحديث ولم يأت فيما يستحقر ويستفذر كالحشرات والكلاب والقرود إلا على وجه العموم (اللهم اني أعوذ بدرعك الحصينة) درع الحديد يؤنث وقد يذكر والمراد بهاذمة الإسلام أو وقاية الله تعالى أو كلمة التوحيد مع شرائطها (وأعوذ بجمعك) هم الملائكة والرسل والأنبياء والأوصياء والصلحاء.

(أن تميتني غرقا - إلى آخره) مفعول مطلق والأصل اماته غرق حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب باعرابه وكذا نظائره، والشرق بالتحريك مصدر شرق فلان بالماء كفرح

ص:338

إذا غص به حتى يموت، وفي الكنز شرق گلو ماندن چيزى. والقود محركة القصاص وموت الصبر هو القتل مع الحبس، يقال قتل فلان صبرا إذا حبس على القتل حتى يقتل والصف الذين وصفهم الله في كتابه صف المجاهدين ولما كان الصف يصدق عل الكثير وصفهم بصيغة الجمع والبنيان مصدر بناه ولذلك لا يجمع والمرصوص الملزق بعضه ببعضه والمدغم جزؤه في جزء بحيث يعسر هدمه شبه الصف به في التلازق والتلاصق وعدم الفرجة بينهم والولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة بالكسر وولد بالضم.

(ويقول الحمد لله عدد ما خلق الله والحمد لله مثل ما خلق والحمد لله ملء ما خلق) الظاهر أنه إذا قال ذلك يثاب مثل ثواب من حمده تلك العدة وقد صرح به بعض العامة أيضا وقال بعضهم:

يثاب بأكثر من ثواب من حمده زائدا على مرة واحدة وهو تحكم.

(والحمد لله مداد كلماته - إلى آخره) من طرق العامة (سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) قال عياض: مداد مصدر بمعنى المدد والمدد ما يكثر به الشيء قالوا: واستعماله هنا مجاز لأن كلماته تعالى لا تنحصر بعدد، والمراد المبالغة في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق ثم ارتى إلى ما هو أعظم وعبر عنه بهذا اللفظ الذي لا يحصيه عدد، وزنة عرشه التي لا يعلمنها إلا هو، وقيل: مداد كلماته مثلها في العدد وقيل: مثلها في أنا لا تنفد. وقيل: مثلها في الكثرة والأظهر أن ذلك كناية عن الكثرة لا أنها مثلها في العدد ولا في الكثرة لأن كلماته تعالى غير متناهية فلا يلحق بها المتناهي في العدد والكثرة. وقال القرطبي: معنى قوله «ورضا نفسه» رضاه عمن رضى عنه من النبيين والصديقين والصالحين. (اللهم أعوذ بك من درك الشقاء) هذا أيضا في طرق العامة قال في النهاية: الدرك اللحاق والوصول إلى الشيء أدركته ادراكا ودركا، وقال صاحب كتاب اكمال الإكمال الدرك بفتح الراء اسم الادراك كالثخن من الاثخان وضبطه بعضهم بسكونها على أنه مصدر قال: درك الشقاء في الدنيا التعب وفي الآخرة سوء الخاتمة. وقال الشيخ في المفتاح: الدرك بالتحريك يطلق على المكان وطمعاته ويقال النار دركات والجنة درجات ويطلق أيضا على أقصى قعر الشيء، (ومن شماتة الأعداء) استعاذ منها برفع ما يفضى إليها.

(وأعوذ بك من الفقر والوقر) المراد بالفقر الفقر الذي لا يكون معه صبر ولا ورع حتى وقع فيما لا يليق بأهل الدين والمروة، أو المراد به فقر القلب الذي يفضى إلى فقر الآخرة والوقر بالفتح والسكون ثقل السمع كذا في النهاية وفي القاموس الوقر ثقل في الاذان أو ذهاب السمع كله وقد وقر كوعد ووجل، ومصدره وقرا بالفتح والقياس بالتحريك.

ص:339

* الأصل:

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما من عبد يقول إذا أصبح قبل طلوع الشمس: «الله أكبر الله أكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا والحمد لله رب العالمين كثيرا، لا شريك له وصلى الله على محمد وآله» إلا ابتدرهن ملك وجعلهن في جوف جناحه وصعد بهن إلى السماء الدنيا فتقول الملائكة: ما معك؟ فيقول: معي كلمات قالهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا، فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له، قال: وكلما مر بسماء قال لأهلها مثل ذلك، فيقولون: رحم الله من قال هؤلاء الكلمات وغفر له حتى ينتهي بهن إلى حملة العرش، فيقول لهم: إن معي كلمات تكلم بهن رجل من المؤمنين وهي كذا وكذا، فيقولون: رحم الله هذا العبد وغفر له انطلق بهن إلى حفظه كنوز مقالة المؤمنين فإن هؤلاء كلمات الكنوز حتى تكتبهن في ديوان الكنوز.

* الشرح:

قوله: (ما من عبد يقول إذا أصبح قبل طلوع الشمس: «الله أكبر الله أكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا والحمد لله رب العالمين كثيرا) روى مسلم باسناده عن ابن عمر قال: «بينا نصلى مع رسول لله (صلى الله عليه وآله) إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذا من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: عجبت لها وفتحت لها أبواب السماء، قال ابن عمر ما تركتهن منذ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك».

قيل انتصاب كبيرا باضمار فعل دل عليه ما قبله أي كبرت كبيرا أو ذكرت كبيرا، وقيل على أنه حال مؤكدة وقيل على القطع وقيل على التميز ورد عليهما بأن النصب على القطع أنى يكون فيما يصح أن يكون صفة ولا تصح الصفة هنا وبأن النصب على التمييز هنا لا يصح لأن تمييز أفعل التفضيل شرطه أن يكون مغايرا للفظه نحو أحسن عملا. وكثيرا منصوب على الصفة لمصدر محذوف أي حمدا كثيرا وفي ظاهر قوله: «ألا بتدرهن ملك» دلالة على أن الملائكة يتنافسون في رفع أعمال العباد فيفهم أن الرافع لأعمالهم غير منحصر في الحفظة. (فإن هؤلاء كلمات الكنوز) الإضافة بيانية وتسميتها بالكنز من باب إدخال الشيء في جنس وجعله أحد أنواعه على التغليب فالكنز إذا نوعان: المتعارف وهو المال الكثير الذي يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، وغير المتعارف وهو هذه الكلمات الجامعة بين التكبير والتسبيح والتحميد والتوحيد والصلاة على

ص:340

النبي (صلى الله عليه وآله) وكونها كنزا عبارة عن كون أجرها مدخرا لقائلها.

* الأصل:

15 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة. عن غير واحد من أصحابه عن أبان بن عثمان، عن عيسى بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أصبحت فقل: «اللهم إني أعوذ بك من شر ما خلقت وذرأت وبرأت في بلادك وعبادك، اللهم إني أسألك بجلالك وجمالك وحلمك وكرمك كذا وكذا».

* الشرح:

(فقل اللهم إني أعوذ بك من شر ما خلقت وذرأت وبرأت) أي خلقت فمعنى الثلاثة واحد ويمكن أن يراد بالأول ما ليس فيه روح فإنه قد يصدر منه الضر والشر وبالثاني الجن والإنس وبالثالث سائر الحيوانات (في بلادك وعبادك) متعلق بقوله أعوذ بك وتعلقه بالافعال المذكورة بعيد (اللهم إني أسئلك بجلالك وجمالك) أي بعظمتك وبهائك وحسن فعالك أو بصفاتك الجلالية وهي السلبية وصفاتك الجمالية وهي الثبوتية.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن عليا صلوات الله عليه وآله كان يقول إذا أصبح: «سبحان الله الملك القدوس - ثلاثا - اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ومن تحويل عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن درك الشقاء ومن شر ما سبق في الليل، أللهم إني أسألك بعزة ملكك وشدة قوتك وبعظيم سلطانك وبقدرتك على خلقك» ثم سل حاجتك.

* الشرح:

(ومن فجأة نقمتك) الفجأة بالضم والمد وقوع الشيء بغتة من غير تقدم سبب، وقرأه بعضهم بالفتح والسكون من غير مد على المرة والنقمة مثل الكلمة والرحمة والنعمة والعقوبة. (ومن شر ما سبق في الليل) من البلايا والنازلة فيه الطالبة لأهلها أو المقدرة فيه النازلة في النهار. (ولكن قل كما أقول لك) دل على أنه لا ينبغي إضافة شيء إلى الدعاء المأثور وان كان في الإضافة زيادة ثناء ولها حسن موقع لأن الفضل المرتب عليه لا يدرك بالعقل بل بالسمع فلا يغير ولعل لهذا الترتيب الخاص تأثيرا لبعض الأمور كما أن لهذا العدد أعنى عشر مرات تأثيرا.

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن الحسين بن المختار، عن العلاء ابن كامل قال:

ص:341

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول عند المساء: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت ويميت ويحيى وهو على كل شيء قدير. قال: قلت: بيده الخير، قال: إن بيده الخير ولكن قل كما أقول [لك] عشر مرات، وأعوذ بالله السميع العليم حين تطلع الشمس وحين تغرب عشر مرات.

* الأصل:

18 - علي، عن أبيه، عن حماد، بن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يقول بعد الصبح:

«الحمد لله رب الصباح، الحمد لله فالق الإصباح (1) - ثلاث مرات - اللهم أفتح لي باب الأمر الذي فيه اليسر والعافية، اللهم هيىء لي سبيله وبصرني مخرجه اللهم إن كنت قضيت لأحد من خلقك علي مقدرة بالشر فخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وعن تحت قدميه ومن فوق رأسه واكفنيه بما شئت ومن حيث شئت وكيف شئت».

* الشرح:

قوله: (يقول بعد الصبح) هو الفجر أو أول النهار والجمع الأصباح كالقفل والأقفال (الحمد لله رب الصباح) (2) أي لمالكه أو مربية المبلغ له إلى غايته وكماله المقدرة.

(الحمد لفالق الأصباح) (3) أي لخالقه أو شاقه عن ظلمة الليل وسواده من فلقه كضربه إذا خلقه وشقه وفي الكنز فالق شكافنده وآفريننده والصبيحة والأصباح والصباح واحد.

(اللهم افتح باب الأمر الذي فيه اليسر والعافية) اليسر ضد العسر وهو اللينة والسهالة والرخاء وطيب العيش، والعافية شاملة لعافية الدنيا وهي السلامة من الآفات وعافية الآخرة وهي النجاة من العقوبات.

(اللهم هيىء لي سبيله) أي سبيل ذلك الأمر وطريقه الموصل إليه وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء وصورته (وبصرني مخرجه) بفتح الميم أو ضمها وعلى التقديرين أما مصدر بمعنى الخروج أو الإخراج أو أسم مكان وهو الأنسب وإنما طلب ذلك لتحصل له بصيرة تامة فيما هو محل لخروج ذلك الأمر من الأسباب والوسائل وغيرها.

(اللهم إن كنت قضيت لأحد من خلقك على مقدرة بالشر فخذه) المقدرة مثلثة الدال القدرة والقوة، في الدعاء على رفع القضاء دلالة على البداء وقد مر أن الدعاء يرد القضاء وأن كأم مبرما.

* الأصل:

19 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن أبي

ص:342


1- (1) كذا.
2- (1) كذا.
3- (2) كذا.

إسماعيل السراج، عن الحسين بن المختار، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قال إذا أصبح:

«اللهم إني أصبحت في ذمتك وجوارك، اللهم إني أستودعك ديني ونفسي ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي وأعوذ بك يا عظيم من شر خلقك جميعا وأعوذ بك من شر ما يبلس به إبليس وجنوده». إذا قال هذا الكلام لم يضره يومه ذلك شيء وإذا أمسى فقاله لم يضره تلك الليلة شيء إن شاء الله تعالى.

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أصبحت في ذمتك وجوارك) الذمة بالكسر العهد والأمان والكفالة والضمان والجوار بالكسر الأمان واعطاء الذمة وبالفتح معناه بالفارسية همسايگى وهذا تمثيل أو كناية عن القرب. (وأعوذ بك من شر ما يبلس به إبليس وجنوده) أبلس تحير وتحزن وسكت وتدهش ويئس ومنه سمى إبليس لتحيره في أمره ويأسه من رحمة الله وكان أسمه عزازيل وقيل إبليس أعجمي ولعل المراد بالموصول العجب والتكبر وإضلال الخلق.

* الأصل:

20 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا صليت المغرب والغداة فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» - سبع مرات - فإنه من قالها لم يصبه جذام ولا برص ولا جنون ولا سبعون نوعا من أنواع البلاء، قال: وتقول إذا أصبحت وأمسيت: «الحمد لرب الصباح، الحمد لفالق الإصباح - مرتين - الحمد لله الذي أذهب الليل بقدرته وجاء بالنهار برحمته ونحن في عافية» ويقرأ آية الكرسي وآخر الحشر وعشر آيات من الصافات و «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون، سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتك غضبك لا إله إلا أنت سبحانك إني عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وتب علي إنك أنت التواب الرحيم».

* الشرح:

قوله: (ويقرأ آية الكرسي) قال الشيخ في المفتاح: إلى هم فيها خالدون (وآخر الحشر) من

ص:343

قوله: (لو أنزلنا هذا القرآن) إلى آخر السورة.

(وعشر آيات من أول الصافات) ذكرها الشيخ من أولها إلى (شهاب ثاقب).

(ويحيي الأرض بعد موتها) قال في النهاية قيل الموت في كلام العرب يطلق على السكون يقال ماتت الريح إذا سكنت والموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة فمنها ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات كقوله تعالى: (يحيي الأرض بعد موتها) ومنها زوال القوة الحسية كقوله تعالى (يا ليتني مت قبل هذا) ومنها زوال القوة العاقلة وهي الجهالة كقوله تعالى: (أفمن كان ميتا فأحييناه) و (إنك لا تسمع الموتى) ومنها الحزن والخوف المكدر للحياة كقوله تعالى: (ويأتيه الموت من كل مكان) (وما هو بميت) ومنها المنام كقوله تعالى: (والتي لم تمت في منامها)، وقيل المنام الموت الخفيف والموت النوم الثقيل وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك. (سبقت رحمتك غضبك) لأنه تعالى خلق الخلق رحمة منه كما قال: «رحمتي وسعت كل شيء وغضبه إنما نشأت من سوء أعمالهم ولأن كل من يتوجه إليه الرحمة والغضب يتوجه إليه الرحمة إن شاء الله تعالى. (وتب على) في القاموس تاب العبد إلى الله توبة رجع عن المعصية وهو تائب وتواب وناب الله عليه وفقه للتوبة أو رجع به من التشديد إلى التخفيف أو رجع عليه بفضله وقبوله وهو تواب على عباده.

* الأصل:

21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«اللهم لك الحمد أحمدك وأستعينك وأنت ربي وأنا عبدك أصبحت على عهدك ووعدك وأومن بوعدك وأوفي بعهدك ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أصبحت على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة إبراهيم ودين محمد، على ذلك أحيا وأموت إن شاء الله، اللهم أحيني ما أحييتني به وأمتني إذا أمتني على ذلك، وابعثني إذا بعثتني على ذلك أبتغي بذلك رضوانك واتباع سبيلك، إليك ألجأت ظهري وإليك فوضت أمري، آل محمد أئمتي ليس لي أئمة غيرهم، بهم أئتم وإياهم أتولي وبهم أقتدي، اللهم إجعلهم أوليائي في الدنيا والآخرة واجعلني اوالي أولياء هم واعادي أعداءهم في الدنيا والآخرة وألحقني بالصالحين وآبائي معهم.

* الشرح:

قوله: (اللهم لك الحمد); لأن المحامد كلها لك ومنك (أحمدك) بجميع محامدك

ص:344

(وأستعينك) في اموري كلها حتى في حمدك.

(وأنت ربي وأنا عبدك) في الإقرار بالربوبية والعبودية استعطاف; لأن الرب من شأنه التربية والعبد من شأنه الحاجة إليها.

(أصبحت على عهدك ووعدك) أراد العهد المأخوذ على العباد بالإقرار بالتوحيد والرسالة والولاية والطاعة والوعد بالثواب والجزاء في دار البقاء فلذلك قال (وأومن بوعدك) أي أصدق بأنه حق لا خلف فيه.

(وأوفي بعهدك ما استطعت) ومن العهد الوفاء به كما قال تعالى: (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) باثابتكم على الوفاء وإنما قيد الوفاء بالاستطاعة; لأن منازل الوفاء غير محصورة ومراتب الرجال في الاستطاعة غير معدودة فكل يطلب ما هو ميسر له.

(أصبحت على فطرة الإسلام) الإضافة بيانية وهي الإقرار بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وهي ما أخذ عليهم من العهد القديم وهم في ظهور آبائهم بقوله: (ألست بربكم قالوا بلى) وهو الإقرار بالتوحيد (وكلمة الإخلاص) هي كلمة التوحيد أو كلمة الشهادة بالرسالة أيضا وسميتا كلمة مع أنهما كلمتان للتنبيه على أنه لا يعتبر أحديهما بدون الاخرى ولا يتحقق الإخلاص إلا بهما فهما بمنزلة كلمة واحدة.

(وملة إبراهيم ودين محمد (صلى الله عليه وآله)) دينه (صلى الله عليه وآله) ما جاء به وهو مشتمل على ملة إبراهيم وهي الاصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع مثل وجوب وجوده تعالى توحده وصفاته وتنزهه عن صفات المخلوقين وحشره للخلائق للثواب والعقاب وغيرها (وآبائي معهم) الواو للعطف أي الحق آبائي معهم أو للحال.

* الأصل:

22 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال: قل: «الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره الحمد لله كما يحب الله أن يحمد، الحمد لله كما هو أهله، اللهم أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمدا وآل محمد وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمدا وآل محمد وصلى الله على محمد وآل محمد».

* الشرح:

قوله: (قل: الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره) أي يفعل كل ما يشاء بلا مانع

ص:345

ولا يفعل غيره كل ما يشاء لوجوده مانع أو لا يفعل عز شأنه كل ما يشاء غيره لعدم مصلحة فيه.

وفاعل «ولا يفعل» على الأول غيره وعلى الثاني هو الله تعالى.

* الأصل:

23 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عبد الرحمن بن حماد الكوفي، عن عمرو بن مصعب، عن فرات بن الأحنف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مهما تركت من شيء فلا تترك أن تقول في كل صباح ومساء: «اللهم إني أصبحت أستغفرك في هذا الصباح وفي هذا اليوم لأصل رحمتك وأبرأ من أهل لعنتك، اللهم إني أصبحت أبرء إليك في هذا اليوم وفي هذا الصباح ممن نحن بين ظهرانيهم من المشركين ومما كانوا يعبدون، إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، اللهم اجعل ما أنزلت من السماء إلى الأرض في هذا الصباح وفي هذا اليوم بركة على أوليائك وعقابا على أعدائك، واللهم وال من والاك وعاد من عاداك، اللهم أختم لي بالأمن والإيمان كلما طلعت شمس أو غربت، اللهم اغفر لي ولوالدي وأرحمهما كما ربياني صغيرا، اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات اللهم إنك تعلم منقلبهم ومثواهم، واللهم احفظ إمام المسلمين بحفظ الإيمان وانصره نصرا عزيزا وافتح له فتحا يسيرا واجعل له ولنا من لدنك سلطانا نصيرا، اللهم العن فلانا وفلانا والفرق المختلفة على رسولك وولاة الأمر بعد رسولك والأئمة من بعده وشيعتهم وأسألك الزيادة من فضلك والإقرار بما جاء من عندك والتسليم لأمرك والمحافظة على ما أمرت به لا أبتغي به بدلا ولا أشتري به ثمنا قليلا، اللهم أهدني فيمن هديت وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضي عليك ولا يذل من واليت تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت تقبل مني دعائي وما تقربت به إليك من خير فضاعفه لي أضعافا [مضاعفة] كبيرة وآتنا من لدنك [رحمة و] أجرا عظيما، رب ما أحسن ما ابتليتني وأعظم ما أعطيتني وأطول ما عافيتني وأكثر ما سترت علي فلك الحمد يا إلهي كثيرا طيبا مباركا عليه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربي كما يحب ويرضي وكما ينبغي لوجه ربي ذي الجلال والإكرام.

* الشرح:

قوله: (ممن نحن بين ظهرانيهم) في القاموس بين ظهريهم وظهرانيهم ولا يكسر النون وبين أظهرهم أي وسطهم وفي منتظمهم وفي النهاية المراد أنه أقام بينهم على سبيل الاستظهار والإستناد إليهم وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيدا ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه فهو

ص:346

مكنوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل بين أظهرهم ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا (بركة على أوليائك) البركة محركة النماء والزيادة والشرف والكرامة والخير والسعادة (اللهم اختم لي بالأمن والإيمان كلما طلعت شمس أو غربت) أي أختم لي بالأمن من شر الشيطان وأذى أهل العدوان وآفات الزمان وبالإيمان بك وبرسولك وأوصياء رسولك مع رعاية الشرائط والأركان عند كل طلوع الشمس وغروبها وقد طلب كونه على الوصفين في جميع أوقات عمره (اللهم إنك تعلم منقلبهم ومثواهم) المثوى المنزل من ثوى بالمكان إذا أقام فيه وقد يكون بمعنى المصدر ولعل المراد إنك تعلم إنقلابهم وسكونهم أو محلهما وبالجملة تعلم جزئيات امورهم في حال الحركات والسكنات فأصرفهم إلى ما هو خير لهم وقهم عما هو شر لهم وأغفر لهم عما صدر منهم من الزلات، ويمكن أن يكون المراد بهما انقلاب قلوبهم وحركتها في طلب الحق وسكونها عند الوصول إليه والله أعلم.

(اللهم أحفظ إمام المسلمين بحفظ الإيمان) الباء للسببية والإضافة إلى المفعول أي احفظه بسبب حفظك أو حفظه الإيمان وأهله إذ لو لا الإمام لبطل الإيمان والإسلام (والأئمة من بعده) العطف على الولاة للتفسير والتأكيد.

(ولا اشترى به ثمنا قليلا) أي لا استبدل ذلك بالثمن القليل، يعني متاع الدنيا كما استبدلوه به وفرقوا الامة وأضلوهم بذلك، وفيه استعارة تبعية وترشيح.

(اللهم أهدني فيمن هديت) من أوليائك عديت الهداية ب «في» لتضمينه معنى الدخول وكون «في» بمعني إلى أو مع بعيد والمراد بالهداية الخاصة كما في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وهي كشف السرائر على الضمائر وإيصالها إلى حقائق الأشياء كما هي وإيصال المستعدين إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة وتلك مرتبة لا ينالها إلا أولياء الله تعالى (تباركت) أي تقدست وتنزهت عن الأشياء والأضداد والأمثال أو ثبت على مالك من صفات الكمال وسمات الجلال من برك البعير إذا ناخ في موضع فلزم وثبت عليه (وتعاليت) عن صفات المخلوقين وافك المفترين، والمتعالي من جل عنهما وهو متفاعل من العلو، وقد يكون بمعنى العالي وهو الذي ليس فوقه شيء من الرتبة والشرف والحكم.

(سبحانك رب البيت) في إضافته إلى البيت تعظيم له حيث إن البيت أعظم ما ابتلى به خلقه وأذل به رقاب الكبراء فضلا عن الضعفاء.

(تقبل منى دعائي) الدعاء وغيره من العبادات وإن كان في غاية الكمال في ذاته لكنه بالنسبة إلى قدس الحق ناقص محتاج إلى التضرع في قبوله ولذلك قال خليل الرحمن مع كون عمله في

ص:347

غاية الكمال (ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم).

(ما أحسن ما ابتليتني) المشهور أن الابلاء يكون في الخير والشر والأنعام والإحسان من غير فرق بين فعلهما تقول بليت الرجل وأبليته بالإحسان ومنه قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) وقال القتيبي: يقال من الخير أبليته أبليه ابلاء ومن الشر بلوته أبلوه بلاء، والمراد بالابلاء هنا هو الأبلاء بالخير «وما» الثانية أما مصدرية أو موصولة أو موصوفة والعائد إليها محذوف وفي هذا التعجب مع تفخيم ما دلالة على تعظيم الابلاء وقس عليه نظائره.

(فلك الحمد يا الهي) لتلك النعماء الجليلة والآلاء الجزيلة.

حمدا (كثيرا طيبا) طاهرا من النقص والرياء مباركا عليه، الظاهر أن ضمير المجرور راجع إلى الحمد وأن المعنى أديم له الشرف والبركة والتنزه عن النقص ومنه قولك «وبارك على محمد وآل محمد» أي أدم له ما أعطيته من الشرف والكرامة.

(ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء ربي كما يحب ويرضى) ورضي. الملء بالكسر والسكون اسم ما يأخذه الاناء إذ امتلأ وبالفتح مصدر ومن طريق العامة أيضا «لك الحمد ملء السماوات والأرض» قال في النهاية هذا تمثيل; لأن الكلام لا يسع الأماكن والمراد به كثرة العدد يقول: لو قدر أن يكون كلمات الحمد أجساما لبلغت من كثرتها أن تملاء السماوات والأرض.

ويجوز أن يكون المراد به تفخيم شأن كلمة الحمد ويجوز أن يريد بها أجرها وثوابها.

(وكما ينبغي لوجه ربي) أي لذاته أو صفاته والناس يتوجهون اليهما في جميع الامور.

* الأصل:

24 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من قال: «ما شاء الله كان، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». مائة مرة حين يصلي الفجر لم ير يومه ذلك شيئا يكرهه.

* الشرح:

قوله: (حين يصلي الفجر) لعل المراد به بعد فريضة الفجر (فمن قالها دفع الله عنه مائة نوع من أنواع البلاء) قد مر قبيل ذلك في رواية علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه: «من قال ذلك سبع مرات لم يصبه جذام ولا برص ولا جنون ولا سبعون نوعا من أنواع البلاء» ومثله في حديث سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهو المتقدم على هذا الحديث بلا فصل. فالنسبة يقتضى أن يكون المدفوع بالسبع مرات سبعة أنواع من البلايا أو يكون المدفوع بمائة مرة ألف نوع

ص:348

من البلايا ليرتفع التنافي بين الأخبار والجواب أن أنواع البلايا المدفوعة بمائة مرة أشد وأعظم من الأنواع المدفوعة بسبع كما يشعر به قوله (عليه السلام) أدنى نوع منها الجذام والبرص والشيطان والسلطان، وفي السبع قال: لم يصبه جنون ولا جذام ولا برص ولا سبعون نوعا من البلاء حيث يفهم منه أن الجنون والجذام والبرص أعظم نوع من هذه الأنواع وإذا اختلف البلايا في الشدة والضعف بطلت النسبة المذكورة.

* الأصل:

25 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في دبر صلاة الفجر ودبر صلاة المغرب سبع مرات: «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». دفع الله عز وجل عنه سبعين نوعا من أنواع البلاء أهونها الريح والبرص والجنون وإن كان شقيا محي من الشقاء وكتب في السعداء.

26 - وفي رواية سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله إلا أنه قال: أهونه الجنون والجذام والبرص وإن كان شقيا رجوت أن يحوله الله عز وجل إلى السعادة.

27 - عنه، عن ابن فضال، عن الحسن بن جهم، عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله إلا أنه قال: يقولها ثلاث مرات حين يصبح وثلاث مرات حين يمسي لم يخف شيطانا ولا سلطانا ولا برصا ولا جذاما، ولم يقل: سبع مرات. قال أبو الحسن (عليه السلام): وأنا أقولها مائة مرة.

28 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا صليت الغداة والمغرب فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» - سبع مرات - فإنه من قالها لم يصبه جنون ولا جذام ولا برص ولا سبعون نوعا من أنواع البلاء.

29 - عنه، عن محمد بن عبد الحميد. عن سعد بن زيد قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): إذا صليت المغرب فلا تبسط رجلك ولا تكلم أحدا حتى تقول مائة مرة: «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ومائة مرة في الغداة فمن قالها دفع الله عنه مائة نوع من أنواع البلاء أدنى نوع منها البرص والجذام والشيطان والسلطان.

30 - عنه، عن عبد الرحمن بن حماد، عن عبد الله بن إبراهيم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إذا أمسيت فنظرت إلى الشمس في غروب وإدبار فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الحمد لله الذي يصف ولا يوصف ويعلم ولا يعلم ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أعوذ بوجه الله الكريم وباسم الله العظيم من شر ما ذرأ وما برأ ومن شر ما تحت الثرى ومن شر ما ظهر وما بطن ومن شر ما كان في

ص:349

الليل والنهار ومن شر أبي مرة وما ولد ومن شر الرسيس ومن شر ما وصفت وما لم أصف، فالحمد لله رب العالمين» ذكر أنها أمان من السبع ومن الشيطان الرجيم ومن ذريته.

قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إذا أصبح: «سبحان الله الملك القدوس - ثلاثا - اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ومن تحويل عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن درك الشقاء ومن شر ما سبق في الكتاب، اللهم إني أسألك بعزة ملكك وشدة قوتك وبعظيم سلطانك وبقدرتك على خلقك».

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي يصف ولا يوصف) أي يصف الأشياء بصفاتها ولا يوصف بشيء من صفاتها لاستحالة اتصافه بصفات الممكن. أو لا يوصف بصفه أصلا إذ لا صفة له حتى يوصف بها وكل ما يتخيل من الصفات فهو راجع إلى السلب، فإن قولنا هو عالم قادر مثلا راجع إلى أنه ليس بجاهل ولا عاجز كما مر في كتاب التوحيد.

(ويعلم ولا يعلم) أي يعلم الأشياء وحقائقها كما هي لاستحالة الجهل عليه ولا يقدر أحد أن يعلم كنه ذاته ولا حقيقة صفاته.

(ومن شر أبي مرة وما ولد ومن شر الرسيس) أبو مرة كينة إبليس والرسيس الكاذب أو المفسد قال في النهاية أهل الرس هم الذين يبتدؤون الكذب ويوقعونه في أفواه الناس، وقال الزمخشري: هم المفسدون من رس بين القوم إذا أفسد. (وبقدرتك على خلقك) ذكر السؤال ولم يذكر المسؤول للتعميم أو الاختصار أو للحوالة على علمه تعالى أو على السائل بأن يذكر مقصوده.

* الأصل:

31 - عنه، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها سنة واجبة مع طلوع الفجر والمغرب تقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» - عشر مرات - وتقول: «أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون، إن الله هو السميع العليم» - عشر مرات - قبل طول الشمس وقبل الغروب فإن نسيت قضيت كما تقضي الصلاة إذا نسيتها.

* الشرح:

قوله: (إن الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها سنة واجبة) أي سنة مؤكدة (مع طلوع

ص:350

الفجر والمغرب) في بعض النسخ الشمس بدل الفجر هو الأظهر والظاهر أن مع بمعنى عند وأنه مع مدخوله تفسير للقبل وتحديد له، ويمكن أن يكون المراد استحباب الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ووجوبه يعني تأكيد استحبابه عند طلوع الفجر أو الشمس وعند غروبها والله أعلم.

(يحيي ويميت ويميت ويحيي) دل على الأحياء في القبر; لأن الحياة الأولى في الدنيا والحياة الأخيرة في الآخرة والموت الأول في الدنيا والموت الثاني لا محالة في القبر ولا يتحقق ذلك إلا بعد الحياة فيه.

قوله: (أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين) في القاموس الهمز الغمز والضغط والنخس والدفع والضرب والعض والكسر والهامز والهمزة الغماز، وفسر النبي (صلى الله عليه وآله) همز الشيطان بالموتة أي الجنون لأنه يحصل من نخسه وغمزة وفي النهاية في حديث الإستعاذة من الشيطان « إما همزة فالموتة» الهمز والنخس والغمز وكل شيء دفعته فقد همزته والموتة الجنون والهمز أيضا الغيبة والوقيعة في الناس وذكر عيوبهم وقد همز يهمز فهو هماز وهمزة للمبالغة (إن الله هو السميع العليم) فيسمع دعاء الداعين ويعلم مقاصدهم وعجزهم فيستجيب لهم كما قال: (ادعوني استجب لكم) وفيه حث على حسن الظن بقبول الدعاء (فإن نسيت) أن تقوله في وقته المذكور.

(قضيت) متى ذكرت كما تقضى الصلاة) عند ذكرها (إذا نسيتها) في وقتها، والتشبيه لتأكيد القضاء عند الذكر لا للوجوب.

* الأصل:

32 - عنه، عن محمد بن علي، عن أبي جميلة، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قل: «أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون، إن الله هو السميع العليم». وقل «لا إله إلا الله وحده لا شريك يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» قال: فقال له رجل: مفروض هو؟ قال: نعم مفروض محدود تقوله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب - عشر مرات - فإن فاتك شيء فاقضه من الليل والنهار.

* الشرح:

قوله: (قال: نعم مفروض محدود) أي محدود في وقت وزمان وفي القاموس الفرض كالضرب التوقيت ومنه فمن فرض فيهن الحج وما أوجبه الله تعالى كالمفروض والقراءة، والسنة فرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي سن والعطية المفروضة وما فرضته على نفسك فوهبته أوجدت به لغير ثواب لغير أي إرادة جزاء به.

33 - عنه، عن إسماعيل بن مهران، عن رجل، عن إسحاق بن عمار، عن العلاء ابن كامل قال:

ص:351

قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من الدعاء ما ينبغي لصاحبه إذا نسيه أن يقضيه يقول بعد الغداة: «لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحييء ويميت ويميت ويحيي وهو حي لا يموت بيده الخير [كله] وهو على كل شيء قدير». - عشر مرات - ويقول: «أعوذ بالله السميع العليم» - عشر مرات - فإذا نسي من ذلك شيئا كان عليه قضاؤه.

* الأصل:

34 - عنه، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التسبيح، فقال: ما علمت شيئا موظفا غير تسبيح فاطمة (عليها السلام) وعشر مرات بعد الفجر تقول: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد [يحيي ويميت] وهو على كل شيء قدير» ويسبح ما شاء تطوعا.

* الشرح:

قوله: (ما علمت شيئا موظفا غير تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعشر مرات) لعل حصر الموظف فيه من باب التأكيد والمبالغة فيه وإلا فالموظف غيره كثير.

* الأصل:

35 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل ابن جابر، عن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): من قال حين يطلع الفجر: «لا إله إلا الله وحد لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت و [يميت ويحيي] وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» - عشر مرات - «وصلى على محمد وآل محمد» - عشر مرات - وسبح خمسا وثلاثين مرة، وهلل خمسا وثلاثين مرة، وحمد الله خمسا وثلاثين مرة لم يكتب في ذلك الصباح من الغافلين وإذا قالها في المساء لم يكتب في تلك الليلة من الغافلين.

36 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الفضيل قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أسأله أن يعلمني دعاء فكتب إلي: تقول إذا أصبحت وأمسيت: «الله الله الله ربي الرحمن الرحيم لا اشرك به شيئا» وإن زدت على ذلك فهو خير، ثم تدعو بما بدا لك في حاجتك فهو لكل شيء بإذن الله تعالى يفعل الله ما يشاء.

37 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تدع أن تدعو بهذا الدعاء ثلاث مرات إذا أصبحت وثلاث مرات إذا أمسيت:

«اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد» فإن أبي (عليه السلام) كان يقول: هذا من الدعاء المخزون.

ص:352

* الشرح:

قوله: (هذا من الدعاء المخزون) أي المخزون في خزانة مقالة المؤمنين التي في ضبط الملائكة المقربين.

* الأصل:

38 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه، عن محمد بن سنان، عن أبي سعيد المكاري عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: ما عنى بقوله: (وإبراهيم الذي وفى)؟ قال: كلمات بالغ فيهن، قلت: وما هن؟ قال: إذا أصبح قال: «أصبحت وربي محمود أصبحت لا اشرك بالله شيئا ولا أدعو معه إلها ولا أتخذ من دونه وليا» - ثلاثا - وإذا أمسى قالها ثلاثا، قال: فأنزل الله عزوجل في كتابه (وإبراهيم الذي وفى) قلت: فما عنى بقوله في نوح: (إنه كان عبدا شكورا)؟ قال: كلمات بالغ فيهن، قلت: وما هن؟ قال: كان إذا أصبح قال: «أصبحت اشهدك ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فإنها منك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ذلك ولك الشكر كثيرا». كان يقولها إذا أصبح ثلاثا وإذا أمسى ثلاثا، قلت: فما عنى بقوله في يحيى:

(وحنانا من لدنا وزكاة) قال: تحنن الله، قال: قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال: كان إذا قال:

يا رب، قال الله عزوجل لبيك يا يحيى.

* الشرح:

قوله: (وإبراهيم الذي وفى) قال: كلمات بالغ فيهن) هي كلمات فرضها على من التزمها وبالغ بالوفاء بها قال بعض المفسرين: وفى بالصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود حتى قال جبرئيل (عليه السلام) هو في الهواء بعد الرمي إليها: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

قوله: (أصبحت وربي محمود) أي محمود بحمد الخلائق له أو بحمدي له.

(فما عنى بقوله: في نوح (إنه كان عبدا شكورا) قال: كلمات بالغ فيهن) قال القاضي: كان يحمد الله تعالى على مجامع حالاته وفيه إيماء إلى ان نجاته ونجاة من معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به، وقيل الضمير لموسى (عليه السلام).

(قلت فما عنى بقوله: في يحيى: (وحنانا من لدنا وزكاة)) عطف على الحكم في قوله (وآتيناه الحكم صبيا) والمراد بالزكاة الطهارة النفسانية من الأرجاس الشيطانية والأخباث الجسمانية. (قال: تحنن الله) التحنن العطف والترحم والإشتياق والبركة والصوت وتفسيره (عليه السلام) بالبلية يناسب الجميع، وقال بعض المفسرين: المراد به رحمته على والديه أو رحمة الله عليه، ولا يبعد إرادة الجميع لأن الآية الواحدة قد يتضمن وجوها متعددة.

ص:353

باب «الدعاء عند النوم والانتباه»

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، والحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، جميعا، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال حين يأخذ مضجعه ثلاث مرات: «الحمد لله الذي علا فقهر والحمد لله الذي بطن فخبر والحمد لله الذي ملك فقدر والحمد لله الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء وهو على كل شيء قدير». خرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته امه.

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي علا فقهر) أي علا كل شيء في الرتبة والشرف والعلية والحكم وليس فوقه شيء يقهر جميع ما عداه وغلب على جميع ما سواه فيفعل بهم ما يشاء ويحكم بهم ما يريد (والحمد لله الذي بطن فخبر) أي احتجب عن الأبصار والأوهام فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم، أو علم بواطن الأشياء كما علم ظاهرها يقول بطنت الأمر إذا عرفت باطنه فخبر دقائق الأشياء وسرائرها وعلم غوامضها وضمائرها من الخبر وهو العلم يقال فلان خبير أي عالم بكنه الشيء وطبيعته مطلع على آثاره وحقيقته.

(والحمد لله الذي ملك فقدر) أي ملك رقاب الممكنات وزمامها وقوامها ونظامها فقدر على إيجادها وإبقائها وإصلاحها وإفنائها.

(والحمد لله الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء) يجوز أن يراد بالموتى من اتصف بالموت قبل تعلق الروح والوجود به ومن اتصف به عند انقضاء الآجال في الدنيا ومن اتصف به بعد رد الروح إليه في القبر للسؤال فالأحياء في ثلاثة مواضع: في الدنيا وفي القبر وفي البعث وإماتة الأحياء في مقامين: في الدنيا وفي القبر كما قالوا (أمتنا اثنتين) وأما قولهم (وأحييتنا اثنتين) فالمراد به الإحياء بعد الموت الذي وجدوه وهو الإحياء في القبر والبعث والله أعلم. (خرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته امه) ظاهر التشبيه يفيد انه يخرج من الكبائر أيضا ولا يبعد لأن غفران الكبائر بلا توبة يجوز عندنا إلا ما أخرجه الدليل.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أوى أحدكم إلى

ص:354

فراشه فليقل: «اللهم إني احتبست نفسي عندك فاحتبسها في محل رضوانك ومغفرتك وإن رددتها [إلى بدني] فارددها مؤمنة عارفة بحق أوليائك حتى تتوفاها على ذلك».

3 - حميد بن زياد، عن الحسين بن محمد، عن غير واحد، عن أبان بن عثمان، عن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان يقول عند منامه: «آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، اللهم احفظني في منامي وفي يقظتي».

* الشرح:

قوله: (وكفرت بالطاغوت) الطاغوت الشيطان والأصنام والكاهن وكل ما عبد من دون الله وكل رئيس في الضلالة وأقدمهم من أقدم أولا على تخريب الدين.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن محمد بن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ألا اخبركم بما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول إذا آوى إلى فراشه؟ قلت: بلى، قال: كان يقرأ آية الكرسي ويقول: «بسم الله آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، اللهم احفظني في منامي وفي يقظتي».

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الاحتلام ومن سوء الأحلام وأن يلعب بي الشيطان في اليقظة والمنام».

* الشرح:

قوله: (أعوذ بك من الاحتلام ومن سوء الأحلام) احتلام الجماع في النوم والأحلام جمع الحلم بالضم وبضمتين وهي الرؤيا وهذا الدعاء منه (عليه السلام) للتعليم أو لإظهار العجز والتواضع والافتقار إليه تعالى.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد جميعا، عن القاسم بن عروة، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) إذا أخذت مضجعك فكبر الله أربعا وثلاثين واحمده ثلاثا وثلاثين وسبحه ثلاثا وثلاثين وتقرأ آية الكرسي والمعوذتين وعشر آيات من أول الصافات وعشرا من آخرها.

* الشرح:

قوله: (تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام)) هذه الرواية دلت بحسب الذكر على تقديم

ص:355

التحميد على التسبيح عند النوم وصحيحة محمد بن عذافر الواردة فيه على الإطلاق صريحة في ذلك وكذا رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) وان كانت ضعيفة فلذلك ذهب كثير من الأصحاب إلى أن التحميد مقدم على التسبيح مطلقا، ونقل عن الصدوق وأبيه وابن الجنيد رضي الله عنهم أن التسبيح مقدم على التحميد لما روي في الفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال له ولفاطمة (عليهما السلام) في آخر حديث طويل إذا أخذتما منامكما فكبرا أربعا وثلاثين تكبيرة وسبحا ثلاثا وثلاثين تسبيحة واحمدا ثلاثا وثلاثين.

ولا يخفى ما فيه لأن الواو لا يدل على الترتيب كما بين في موضعه ولو دل لوقع التعارض بينه وبين حديث هشام المذكور هنا فبقيت روايتا ابن عذافر وأبي بصير سالمتين عن المعارض على ان ما في الفقيه يمكن حمله على التقية لأنه موافق لمذهب العامة. روى مسلم عن علي (عليه السلام) قال: ان فاطمة (عليها السلام) اشتكت ما تلقى من الرحا في يدها، وفي غير مسلم أنها جرت بالرحى حتى مجلت يدها وقمت البيت حتى أغبر شعرها وخبزت حتى تغير وجهها فانطلقت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لتطلب خادمة فلم تجده ولقيت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) أخبرته عائشة بمجىء فاطمة فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال النبي (صلى الله عليه وآله): على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري فقال: «ألا اخبركما ألا اعلمكما خيرا مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا لله أربعا وثلاثين وتسبحاه ثلاثا وثلاثين وتحمداه ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم».

* الأصل:

7 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن داود بن فرقد، عن أخيه أن شهاب بن عبد ربه سأله أن يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) وقال: قل له: إن امرأة تفزعني في المنام بالليل، فقال: قل له: اجعل مسباحا وكبر الله أربعا وثلاثين تكبيرة وسبح الله ثلاثا وثلاثين تسبيحة واحمد الله ثلاثا وثلاثين وقل: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي، بيده الخير وله إختلاف الليل والنهار، وهو على كل شيء قدير» - عشر مرات -.

* الشرح:

قوله: (اجعل مسباحا) هو اسم لما يسبح به ويعلم عدده كالمفتاح لما يفتح به والمسبار لما يسبر به الجرح أي يمتحن غوره.

(وله إختلاف الليل والنهار) أي تعاقبهما أو إختلاف مقدارهما باعتبار دخول كل منهما في

ص:356

الآخر في وقتين بل في وقت واحد من جهتين.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه أتاه ابن له ليلة فقال له: يا أبه اريد أن أنام، فقال: يا بني قل: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله، أعوذ بعظمة الله وأعوذ بعزة الله وأعوذ بقدرة الله وأعوذ بجلال الله وأعوذ بسلطان الله، إن الله على كل شيء قدير وأعوذ بعفو الله وأعوذ بغفران الله وأعوذ برحمة الله من شر السامة والهامة ومن شر كل دابة صغيرة أو كبيرة بليل أو نهار ومن شر فسقة الجن والإنس ومن شر فسقة العرب والعجم ومن شر الصواعق والبرد، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك» قال معاوية: فيقول الصبي الطيب عند ذكر النبي: [الطيب] المبارك، قال: نعم يا بني الطيب المبارك.

* الشرح:

قوله: (وأعوذ برحمة الله من شر السامة والهامة) في مصباح اللغة الهامة ما له سم يقتل كالحية قاله الأزهري والجمع الهوام مثل دابة ودواب، وقد يطلق الهوام على ما لا يقتل كالحشرات ومنه حديث كعب بن عجرة وقد قال (عليه السلام): «أيؤذيك هوام رأسك» والمراد القمل على الاستعارة بجامع الأذى، والسامة من الخشاش ما يسم ولا يقتل بسمه كالعقرب والزنبور وهي اسم فاعل، والجمع سوام مثل دابة ودواب.

قوله: (قال معاوية: فيقول الصبي الطيب عند ذكر النبي: [الطيب] المبارك) قوله فيقول استفهام والإخبار بعيد والطيب اما منصوب على انه مقول القول، أو مرفوع على أنه صفة للصبي، والمبارك على الأول صفة للنبي وعلى الثاني مقول القول.

(قال: نعم يا بني الطيب المبارك) أي قل الطيب المبارك عند ذكر النبي فقل: «اللهم صل على محمد الطيب المبارك عبدك ورسولك».

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن مفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) إن استطعت أن لا تبيت ليلة حتى تعوذ بأحد عشر حرفا؟ قلت: أخبرني بها؟ قال: قل «أعوذ بعزة الله وأعوذ بقدرة الله وأعوذ بجلال الله وأعوذ بسلطان الله وأعوذ بجمال الله وأعوذ بدفع الله وأعوذ بمنع الله وأعوذ بجمع الله وأعوذ بملك الله وأعوذ بوجه الله وأعوذ برسول

ص:357

الله (صلى الله عليه وآله) من شر ما خلق وبرأ وذرأ». وتعوذ به كلما شئت.

10 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن خالد بن نجيح قال:

كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا أويت إلى فراشك فقل: «بسم الله وضعت جنبي الأيمن [لله] على ملة إبراهيم حنيفا لله مسلما وما أنا من المشركين».

* الشرح:

قوله: (فقل بسم الله وضعت جنبي الأيمن لله) قد تواترت الروايات معنى من طرق الخاصة والعامة على استحباب النوم على الجنب الأيمن. قال عياض: لما في التيامن من البركة وفي اسمه الخير، وأيضا في النوم على الأيمن سرعة التيقظ لأن القلب في الجانب الأيسر، فإذا نام كذلك يبقى القلب معلقا إلى جهة الأيمن وإذا نام على الأيسر إستغرقه النوم ولا ينتبه إلا بعد حين، وأما الدعاء المذكور فلأنه تجديد عهد إذ قد يموت في نومته تلك.

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قام أحدكم من الليل فليقل: «سبحان رب النبيين وإله المرسلين ورب المستضعفين والحمد لله الذي يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير». يقول الله عزوجل: صدق عبدي وشكر.

* الشرح:

قوله: (ورب المستضعفين) المروي انهم الأئمة (عليهم السلام) والتعميم ممكن.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا قمت بالليل من منامك فقل: «الحمد لله الذي رد علي روحي لأحمده وأعبده» فإذا سمعت صوت الديك فقل: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبقت رحمتك غضبك، لا إله إلا أنت وحدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فإذا قمت فانظر في آفاق السماء وقل: «اللهم لا يواري منك ليل داج ولا سماء ذات أبراج ولا أرض ذات مهاد ولا ظلمات بعضها فوق بعض، ولا بحر لجي تدلج بين يدي المدلج من خلقك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، غارت النجوم ونامت العيون وأنت الحي القيوم لا تأخذك سنة ولا نوم سبحان ربي رب العالمين وإله المرسلين والحمد لله رب العالمين».

ص:358

* الشرح:

قوله: (فإذا سمعت صوت الديك فقل: سبوح قدوس) في النهاية يرويان بالضم والفتح أقيس والضم أكثر استعمالا وهما من أبنية المبالغة والمراد بهما التنزيه عن العيوب والنقايص ومن طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله فانها رأت ملكا» قال عياض: إنما أمرنا بالدعاء حينئذ لتؤمن الملائكة وتستغفر وتشهد للداعي بالتضرع والإخلاص، وقال القرطبي ولرجاء القبول.

(فانظر إلى آفاق السماء) أي ما ظهر من نواحيها والنظر اما لملاحظة الوقت أو لمشاهدة عظمة آثار الرب (وقل اللهم لا يواري منك ليل داج) الداجي المظلم وفي مفتاح الشيخ «ساج» من سجى بمعنى ركد واستقر، والمعنى لا يستر عنك ليل مظلم أو ليل راكد ظلامه مستقر قد بلغ الغاية في الظلمة (ولا سماء ذات أبراج) فسرت بالبروج الإثنى عشر التي تسير فيها السيارات وتكون فيها الثوابت وبمنازل القمر وبالكواكب العظام وبأبواب السماء.

(ولا أرض ذات مهاد) الظاهر أن مهادا هنا جمع مهد أو مهدة (1) بالضم فيهما وهو ما ارتفع من الأرض أو ما انخفض منها في سهولة واستواء، والمعنى لا يستر عنك أرض ذات أتلال عالية وجبال راسية أو ذات أقطاع مستقيمة ممهدة وأمكنة مستوية ومنبسطة (ولا ظلمات بعضها فوق بعض) فلا يستر عنك شيء وان دق واحتجب بحجب ظلمانية كحسيس نملة على سطح صخرة في ليل مظلم مع سحاب متراكم (ولا بحر لجي) أي بحر عظيم متلاطم كثير الماء بعيد الغور منسوب إلى اللج، أو اللجة بضم اللام فيهما وشد الجيم وهو معظم الماء ويجوز كسر اللام في لجي باتباع الجيم (تدلج بين يدي المدلج من خلقك) أدلج بتخفيف الدال إذا سار في الليل كله أو في أوله أو في آخره وبتشديدها إذا سار في آخره ومعناه تتوجه إلى من يتوجه إليك وتتقرب إلى من يتقرب منك بالفرائض والنوافل، نظير ما روي «من يقرب إلي شبرا تقربت إليه باعا» ثم ان التقرب والتوجه الحسيين محالان على الله سبحانه لأنهما من خواص الحيوانات فهما كنايتان عن الإثابة والرعاية والهداية والمحافظة والإحسان وأنواع الإكرام. وقال الشيخ في المفتاح معناه ان رحمتك وتوفيقك وإعانتك لمن توجه إليك وعبدك صادرة عنك قبل توجهه وعبادته لك إذ لولا رحمتك وتوفيقك وإيقاعك ذلك في قلبه لم يخطر ذلك بباله فكأنك سريت إليه قبل أن يسري هو إليك.

ص:359


1- (1) وفعل بالضم يجمع على فعال بالكسر وأفعال وفعول وفعله بكسر الفاء وفتح العين كخف على خفاف وقرء على أقراء وقروء وقرط على قرطة وفعله يجمع على فعال كبرمة على برام، وأما المهاد بمعنى البساط والفراش فهو مفرد يجمع على أمهدة ومهد كحمار على أحمرة وحمر (منه (رحمه الله)).

(تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) الخائنة اما مصدر كالكافية والعاقبة أو اسم فاعل أي تعلم خيانة الأعين وهي النظر إلى ما لا يجوز والغمز بها أو تعلم النظر الخائنة الصادرة منها، وخفايا الصدور مخاطراتها ومضمراتها.

(غارت النجوم) أي أخذت في الهبوط وشرعت في السقوط، أو غربت وكان المراد بالنجوم النجوم التي طلعت في أول الليل (ونامت العيون) كأنه تأسف عن الغفلة عن مشاهدة هذا الصنع الغريب والتدبير العجيب.

(وأنت الحي القيوم) أي الفعال المدرك للأشياء كما هي والقائم على كل شيء برعايته وحفظه وإصلاحه وتدبيره وفيه حث على إدراك لذة المناجاة وتحصيل أسباب النجاة في هذه الأوقات (لا تأخذك سنة ولا نوم) قدم السنة وهو مبادي النوم عليه كما قدمه عزوجل في كتابه الكريم مع أن القياس في النفي الترقي من الأعلى إلى الأدنى لتقدمها عليه طبعا فوقع الترتيب في النفي على نحو وقوعه عند عروضه للحيوان.

* الأصل:

13 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج: قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا قام آخر الليل يرفع صوته حتى يسمع أهل الدار ويقول: «اللهم أعني على هول المطلع ووسع علي ضيق المضجع وارزقني خير ما قبل الموت وارزقني خير ما بعد الموت».

* الشرح:

قوله: (اللهم أعني على هول المطلع) المطلع بتشديد الطاء وفتح اللام مكان الإطلاع من مكان عال وموضعه من إشراف إلى إنحدار، وفي النهاية: المراد به موقف القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

* الأصل:

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه رفعه قال: تقول إذا أردت النوم: «اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها».

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي اسامة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر له ما عمل قبل ذلك

ص:360

خمسين عاما، وقال يحيى: فسألت سماعة، عن ذلك فقال: حدثني أبو بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ذلك، وقال: يا أبا محمد أما إنك إن جربته وجدته سديدا.

* الشرح:

قوله: (وقال يا أبا محمد أما أنك ان جربته وجدته سديدا) فاعل قال أبو بصير وأبو بصير كنية لسماعة بن مهران، ويفهم منه أن لقاريها على العدد المذكور إذا واظبها تحصل حالات غريبة وكمالات عجيبة يجدها الذوق ويدركها الشوق ولا يبعد اجراء مثل هذا الحكم في غيرها من الأدعية المأثورة عن أهل العصمة (عليهم السلام) والله أعلم.

* الأصل:

16 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، جميعا عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا آوى إلى فراشه قال:

«اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت» فإذا قام من نومه قال: «الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور». وقال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من قرأ عند منامه آية الكرسي ثلاث مرات والآية التي في آل عمران: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة). وآية السخرة وآية السجدة وكل به شيطانان يحفظانه من مردة الشياطين، شاؤوا أو أبوا ومعهما من الله ثلاثون ملكا يحمدون الله عزوجل ويسبحونه ويهللونه ويكبرونه ويستغفرون له إلى أن ينتبه ذلك العبد من نومه وثواب ذلك له.

* الشرح:

قوله: (قال اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت) قيل معناه بك يكون ذلك فالاسم هو المسمى كقوله تعالى: (سبح اسم ربك) فان المنزه هو المسمى، وقيل: من أسمائه تعالى المحيي والمميت ومعنى كل اسم من أسمائه واجب له فهو سبحانه يحيي ويميت لا يتصف غيره بذلك فكأنه قال: باسمك المحيي أحيى وباسمك المميت أموت.

(الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني) حمده بالإحياء لأن الإحياء نعمة يستحق الحمد به (وإليه النشور) السابق دليل عليه لأن الإحياء بعد موت النوم نشور أصغر يمكن الإستدلال به على النشور الأكبر فلذلك ذكره بعده.

قوله:: ((شهد الله أنه لا إله إلا هو)) بنصب الآثار الدالة على توحيده فان كل ذرة من ذرات العالم شاهدة عليه، أو بإنزال الآيات الدالة عليه، أو بقوله في القرآن الكريم: (أنا الله لا إله إلا أنا)

ص:361

(وآية السخرة) (عليهم السلام) (ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) - إلى آخرها وإنما سميت سخرة لدلالتها على تسخير الله تعالى للأشياء وتذليلها (وآخر السجدة): (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا أنهم في مرية من لقاء ربهم ألا انه بكل شيء محيط).

(وكل به شيطانان يحفظانه من مردة الشياطين) هذا من جملة تسخيراته تعالى حيث جعل عدو وليه حافظا له (شاؤوا أو أبوا) أي شاء الشيطانان أو المردة حفظه أو أبوا وكرهوا وضمير الجمع على الأول باعتبار أن الاثنين أقله ومثل هذه العبارة شايع فيمن فعل فعلا وهو ثقيل عليه (وثواب ذلك له) هذا لا ينافي قوله تعالى: (أن ليس للإنسان إلا ما سعى) لأن ذلك من آثار سعيه كما أن الخيرات الصادرة من المؤمنين من آثار سعيه وإيمانه.

* الأصل:

17 - أحمد بن محمد الكوفي، عن حمدان القلانسي، عن محمد بن الوليد، عن أبان، عن عامر بن عبيد الله بن جذاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلا تيقظ في الساعة التي يريد.

* الشرح:

قوله:: (ما من أحد يقرأ آخر الكهف): (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) - إلى آخر السورة وكونه سببا للتيقظ أمر مجرب.

* الأصل:

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): من أراد شيئا من قيام الليل وأخذ مضجعه فليقل: «[بسم الله] اللهم لا تؤمني مكرك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين، أقوم ساعة كذا وكذا». إلا وكل الله عزوجل به ملكا ينبهه تلك الساعة.

* الشرح:

قوله: (اللهم لا تؤمني مكرك) أصل المكر الخداع وهو على الله سبحانه محال وإذا نسب إليه تعالى يراد به الإستدراج أو الجزاء بالغفلات والإيقاع بالبليات والعقوبة بالسيئات (ولا تنسني ذكرك) نسيان العبد ذكره تعالى لازم لسلب اللطف والتوفيق والنصرة والإعانة عنه فقصد بنفي اللازم نفي الملزوم من باب الكناية (ولا تجعلني من الغافلين) عن ذكرك وطاعتك بالإمداد والتوفيق لها.

ص:362

باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي حمزة قال:

رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يحرك شفتيه حين أراد أن يخرج وهو قائم على الباب، فقلت: [إني] رأيتك تحرك شفتيك حين خرجت فهل قلت شيئا؟ قال: نعم إن الإنسان إذا خرج من منزله قال حين يريد أن يخرج: الله أكبر، الله أكبر - ثلاثا - «بالله أخرج وبالله أدخل وعلى الله أتوكل» - ثلاث مرات - «اللهم افتح لي في وجهي هذا بخير وأختم لي بخير، وقني شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها (إن ربي على صراط مستقيم) لم يزل في ضمان الله عزوجل حتى يرده إلى المكان الذي كان فيه.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب، عن أبي حمزة مثله.

* الشرح:

قوله: (الله أكبر، الله أكبر - ثلاثا -) أي قال: الله أكبر ثلاث مرات. (بالله أخرج) أي أخرج مستعينا بذاته أو متبركا باسمه.

(وعلى الله أتوكل) في الخروج والدخول وفي جميع الامور (وثلاث مرات) أي قال الكلمات الثلاثة المذكورة ثلاث مرات (اللهم افتح لي في وجهي هذا بخير واختم لي بخير) أراد أن يكون خير الابتداء متصلا بخير الانتهاء، أو طلب الخير في الذهاب والخير في العود (وقني شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها) الوصف للتوضيح والتعميم والإشارة إلى الترقب بحصول الوقاية بل إلى تحققها. (ان ربي على صراط مستقيم) في ذكر قيامه على الحق وهو الصراط المستقيم توقع لنصرته على طاعته وتوفيقه له.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة الثمالي قال: أتيت على باب علي بن الحسين (عليهما السلام) فوافقته حين خرج من الباب فقال: «بسم الله آمنت بالله وتوكلت على الله». ثم قال: يا أبا حمزة إن العبد إذا خرج من منزله عرض له الشيطان فإذا قال: «بسم الله» قال الملكان: كفيت فإذا قال: «آمنت بالله» قالا: هديت، فإذا

ص:363

قال: «توكلت على الله» قالا: وقيت، فيتنحى الشيطان فيقول بعضهم لبعض: كيف لنا بمن هدي وكفي ووقي؟ قال: ثم قال: «اللهم إن عرضي لك اليوم» ثم قال: يا أبا حمزة إن تركت الناس لم يتركوك وإن رفضتهم لم يرفضوك، قلت: فما أصنع قال: أعطهم [من] عرضك ليوم فقرك وفاقتك.

* الشرح:

قوله: (فوافقته) بتقديم الفاء على القاف أي صادفته وفاجأت لقاءه (فقال: بسم الله) أي أمشي أو أخرج أو أطلب الحاجة مستعينا ومتبركا أو متوسلا بذاته أو باسمه إذ لإسمه من الآثار والخواص ما لايعده العادون، ولا يبلغه الواصفون، ولا يدركه العارفون (آمنت بالله) إقرار بإيمان ثابت، والإقرار به من كمال الإيمان أو جزئه كما بينا في موضعه أو بإيمان حادث بأن الحافظ مطلقا خصوصا في السفر وبعد الخروج من المنزل هو الله تعالى (وتوكلت على الله) أي فوضت اموري كلها إليه خصوصا الخروج وما يرد بعده.

(ثم قال: اللهم ان عرضي لك اليوم) العرض بالكسر في النهاية العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب، وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير (ثم قال:

يا أبا حمزة ان تركت الناس لم يتركوك وان رفضتهم لم يرفضوك) المراد بالترك ترك المحاورة معهم والوقيعة فيهم وبالرفض الاعتزال عنهم وعدم المجالسة معهم وليس المقصود من الشرط هنا ثبوت الجزاء عند ثبوته وانتفاؤه عند انتفائه كيف وترتبه على نقيض الشرط أولى من ترتبه على الشرط، بل المقصود أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأوقات لأنه إذا ترتب على وجود الشرط وكان ترتبه على نقيضه أولى يفهم استمرار وجوده سواء وجد الشرط أو لم يوجد فيكون متحققا دائما.

(قلت) إذا كان الناس كذلك (فما أصنع) معهم (قال أعطهم من عرضك ليوم فقرك وفاقتك) يعني إذا ذموك وعابوك فلا تجازهم فان ذلك يوجب زيادة خشونتهم وذمهم بل أعطهم من عرضك على سبيل القرض في ذمتهم لتستوفيه منهم يوم حاجتك في القيامة.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي حمزة قال:

استأذنت على أبي جعفر (عليه السلام) فخرج إلي وشفتاه تتحركان فقلت له، فقال: أفطنت لذلك يا ثمالي؟ قلت: نعم جعلت فداك. قال: إني والله تكلمت بكلام ما تكلم به أحد قط إلا كفاه الله ما أهمه

ص:364

من أمر دنياه وآخرته، قال: قلت له: أخبرني به قال: نعم من قال حين يخرج من منزله: «بسم الله حسبي الله توكلت على الله، اللهم إني أسألك خير اموري كلها وأعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته.

4 - عنه، عن علي بن الحكم، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قال حين يخرج من باب داره: «أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر هذا اليوم الجديد الذي إذا غابت شمسه لم تعد من شر نفسي ومن شر غيري ومن شر الشياطين ومن شر من نصب لأولياء الله ومن شر الجن والإنس ومن شر السباع والهوام ومن شر ركوب المحارم كلها، اجير نفسي بالله من كل شر» غفر الله له وتاب عليه وكفاه الهم وحجزه عن السوء وعصمه من الشر.

* الشرح:

قوله: (أعوذ بما عاذت به ملائكة الله) أي أعوذ بأسمائه الحسنى، وفي الفقيه: «أعوذ بالله مما عاذت منه ملائكة الله» والموصول فيه عبارة عن المعصية والمخالفة. واستعاذة الملائكة تدل على إقتدارهم على المخالفة وان لم يقع كما في الأنبياء وحملها على التواضع والتذلل ممكن (ومن شر الشياطين) تفسير وتفصيل لقوله: «ومن شر غيره» لأنه مجمل شامل لجميع ما بعده (ومن شر من نصب لأولياء الله) أي نصب حربا وعداوة ويندرج في الأولياء الشيعة.

(غفر الله له) أي ذنوبه كلها كما هو الظاهر وهو خبر لمن قال.

(وتاب عليه) أي وفقه للتوبة وعدم العود إلى الذنوب وقبل توبته منها (وكفاه الهم) هم الدنيا والآخرة، أو هم ما أراده بخروجه (وحجزه عن السوء) بعد الخروج في الحضر والسفر أو في عمره (وعصمه من الشر كذلك) ولعل المراد بالسوء المكاره الزمانية والنوائب اليومية، وبالشر المعاصي والشرور الحيوانية والزلات النفسانية.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إذا خرجت من منزلك فقل: «بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير ما خرجت له وأعوذ بك من شر ما خرجت له اللهم أوسع علي من فضلك وأتمم علي نعمتك واستعملني في طاعتك واجعل رغبتي فيما عندك وتوفني على ملتك وملة رسولك (صلى الله عليه وآله)».

* الشرح:

قوله: (اللهم أوسع علي من فضلك) «من» للتعليل أو ابتدائية (وأتمم علي نعمك) نعمه تعالى على العباد غير محصورة وكل واحدة منها دنيوية أو اخروية قابلة للزيادة إلى أن تبلغ

ص:365

حد التمام والكمال والله سبحانه يحب أن يسأله العبد إتمامها على وجه التضرع والابتهال (واستعملني في طاعتك) بالتوفيق لها والإعانة عليها (واجعل رغبتي فيما عندك) من السعادة والكرامة والجنة ونعيمها بصرف القلب إلى ما يوجب الوصول إليها.

(وتوفني على ملتك) بالثبات عليها وحسن العاقبة وهو أمر يخاف من فوته العارفون فضلا عن غيرهم.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن أبي خديجة قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا خرج يقول: «اللهم بك خرجت ولك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، اللهم بارك لي في يومي هذا وارزقني فوزه وفتحه ونصره وطهوره وهداه وبركته واصرف عني شره وشر ما فيه، بسم الله وبالله والله أكبر والحمد لله رب العالمين، اللهم إني قد خرجت فبارك لي في خروجي وأنفعني به». قال: وإذا دخل في منزله قال ذلك.

* الشرح:

قوله: (اللهم بك خرجت) أي خرجت مستعينا بك في اموري أو متمسكا بحولك وقوتك لا بحولي وقوتي (ولك أسلمت) اللام إما للتعليل أو للاختصاص والإسلام إما بمعنى الدخول في الدين وقبوله أو بمعنى الإذعان والانقياد.

(وعليك توكلت) في اموري كلها لتكفيني وتتولى إصلاحها (واصرف عني شره وشر ما فيه) لعل المراد بشره البلايا النازلة فيه من قبل الله تعالى. وبشر ما فيه شر المخلوقات (وإذا دخل في منزله قال ذلك) بتغيير ما على الظاهر بأن يقول: بك دخلت إني قد دخلت فبارك لي في دخولي.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) إذا خرج من منزله قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، خرجت بحول الله وقوته لا بحول مني ولا قوتي بل بحولك وقوتك يا رب متعرضا لرزقك فأتني به في عافية».

* الشرح:

قوله: (بل بحولك وقوتك) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب والوجه فيه كما في: (إياك نعبد). (فأتني به في عافية) لك أن تجعل الظرفية مجازية بتشبيه ملابسة رزقه للعافية في الاجتماع معها بملابسة المظروف للظرف فيكون لفظة «في» استعارة تبعية ولك أن تعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من الرزق والعافية ومصاحبة أحدهما الآخر بالهيئة المنتزعة من المظروف والظرف وإصطحابهما فيكون الكلام استعارة تمثيلية تركب كل من ظرفيها لكنه لم يصرح من الألفاظ التي

ص:366

بإزاء المشبه به إلا بكلمة «في» فان مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تبع له يلاحظ معه في ضمن ألفاظ منوية فلا يكون لفظة «في» استعارة بل هي على معناها الحقيقي، ولك أن تشبه العافية بما يكون محلا وظرفا للشيء على طريقة الاستعارة بالكناية ويكون ذكر كلمة «في» قرينة وتخييلا.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، عن عمر بن يزيد قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): من قرأ قل هو الله أحد حين يخرج من منزله عشر مرات لم يزل في حفظ الله عزوجل وكلائته حتى يرجع إلى منزله.

* الشرح:

قوله: (لم يزل في حفظ الله وكلائته) الكلاء بالكسر والمد الحفظ والحراسة وفعله كمنع وقد تخفف همزتها وتقلب ياء.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم، عن صباح الحذاء قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): إذا أردت السفر فقف على باب دارك واقرأ فاتحة الكتاب أمامك وعن يمينك وعن شمالك وقل هو الله أحد أمامك وعن يمينك وعن شمالك وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق أمامك وعن يمينك وعن شمالك. ثم قل: «اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي بلاغا حسنا» ثم قال: أما رأيت الرجل يحفظ ولا يحفظ ما معه ويسلم ولا يسلم ما معه ويبلغ ولا يبلغ ما معه.

* الشرح:

قوله: (فقف على باب دارك) تلقاء الوجه الذي تتوجه إليه كما هو المذكور في الفقيه (واقرأ فاتحة الكتاب أمامك) قيل ليس فيه النفث كما ذكره بعض بل الأحوط تركه لتشبهه بالسحر كما في قوله تعالى: (من شر النفاثات في العقد).

(اللهم احفظني واحفظ ما معي) من الآفات والبليات والمكاره الجسمانية والروحانية (وسلمني وسلم ما معي) الظاهر أنه تأكيد لما قبله وهو كثير في الأدعية والقول بأن معناه سلمني من المعصية والمخالفة وتخصيص الموصول بالخدم والعبيد بعيد كتخصيص الحفظ بالحفظ عن المكاره الأرضية وتخصيص التسليم بالتسليم عن الآفات السماوية (وبلغني وبلغ ما معي بلاغا حسنا) أي بلغني وما معي إلى المقصود والمكان المقصود تبليغا حسنا بلا نقص ولا تعب، والبلاغ إما بالفتح وهو اسم لما يتبلغ ويتوسل به إلى المقصود والمراد به هنا التبليغ بإقامة الاسم مقام

ص:367

المصدر كما في قولك: أعطيته عطاء، وبالكسر للمبالغة في التبليغ من بالغ الأمر مبالغة وبلاغا إذا اجتهد فيه ولم يقصر.

(ويسلم ولا يسلم ما معه) هذا الفعل وما بعده من الأفعال إما مجرد معلوم من السلامة أو مزيد مجهول من التسليم.

* الأصل:

10 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن غير واحد، عن أبان، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه كان إذا خرج من البيت قال: «بسم الله خرجت وعلى الله توكلت. لا حول ولا قوة إلا بالله».

* الشرح:

قوله: (إذا خرج من البيت) في سفر أو حضر كما في الخبر الآتي.

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن موسى بن القاسم، عن صباح الحذاء، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: يا صباح لو كان الرجل منكم إذا أراد سفرا قام على باب داره تلقاء وجهه الذي يتوجه له فقرأ الحمد أمامه وعن يمينه وعن شماله، والمعوذتين أمامه وعن يمينه وعن شماله وقل هو الله أحد أمامه وعن يمينه وعن شماله وآية الكرسي أمامه وعن يمينه وعن شماله، ثم قال:

«اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل». لحفظه الله وحفظ ما معه وسلمه وسلم ما معه وبلغه وبلغ ما معه، أما رأيت الرجل يحفظ ولا يحفظ ما معه ويبلغ ولا يبلغ ما معه ويسلم ولا يسلم ما معه.

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إذا خرجت من منزلك في سفر أو حضر فقل: «بسم الله آمنت بالله توكلت على الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله». فتلقاه الشياطين فتنصرف وتصرف الملائكة وجوهها وتقول: ما سبيلكم عليه وقد سمى الله وآمن به وتوكل عليه وقال: «ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله».

* الشرح:

قوله: (فتلقاه الشياطين) لاغوائه وإضراره (فتنصرف وتصرف الملائكة وجوهها) هذه الرواية بعينها في الفقيه وفيه: «فتلقاه الشياطين وتضرب الملائكة وجوهها» وهو أظهر.

ص:368

باب الدعاء قبل الصلاة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: من قال هذا القول كان مع محمد وآل محمد إذا قام قبل أن يستفتح الصلاة: «اللهم إني أتوجه إليك بمحمد وآل محمد واقدمهم بين يدي صلاتي وأتقرب بهم إليك فاجعلني بهم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين، مننت علي بمعرفتهم فاختم لي بطاعتهم ومعرفتهم وولايتهم، فإنها السعادة واختم لي بها، فإنك على كل شيء قدير»، ثم تصلي فإذا انصرفت قلت: «اللهم اجعلني مع محمد وآل محمد في كل عافية وبلاء واجعلني مع محمد وآل محمد في كل مثوى ومنقلب، اللهم اجعل محياي محياهم ومماتي مماتهم واجعلني معهم في المواطن كلها ولا تفرق بيني وبينهم، إنك على كل شيء قدير».

* الشرح:

قوله: (من قال هذا القول كان مع محمد وآل محمد إذا قام من قبل أن يستفتح الصلاة) من متعلق بقال. وإذا قام ظرف له على الظاهر أو لكان على احتمال، والمراد بالقيام على الأول القيام للصلاة، وعلى الثاني القيام للنشور.

(اللهم إني أتوجه إليك) أي أقبل بظاهري وباطني إليك (بمحمد وآل محمد) الباء للسببية أو الاستعانة (وأقدمهم بين يدي صلاتي) الصلاة هدية وتحفة من العبد إلى الله تعالى ولابد في إيصالها إليه وقبوله لها من توسطهم (عليهم السلام) كما يتوسل مقرب السلطان في إيصال التحف إليه.

(وأتقرب بهم إليك) أي أتقرب بتوسطهم أو بتصديقهم ومتابعتهم إليك (فاجعلني بهم) أي بسبب تصديقهم ومتابعتهم أو بسبب توجههم وإقبالهم.

(وجيها) أي ذا جاه ومنزلة، والوجيه سيد القوم (في الدنيا والآخرة) أما في الدنيا فبالعلم والعمل والتمسك بالسنة النبوية والطريقة العلوية وأما في الآخرة فبالمقامات الرفيعة والدرجات العلية (ومن المقربين) منك ومنهم والقرب درجة فوق الدرجات وفيها توجد أنواع من التفضلات والتكريمات وإليها يرشد قوله: (ولدينا مزيد).

ص:369

(مننت علي بمعرفتهم) أي بتصديقهم وهذه المنة سبب لقوله إني أتوجه إليك إلى آخره ولذا ترك العطف لما بينهما من كمال الاتصال والإستئناف محتمل (فاختم لي بطاعتهم) في الأقوال والأعمال والعقائد كما قلت: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم).

(ومعرفتهم وولايتهم) طلب الختم بهذه الامور والخروج من الدنيا عليها لأن معرفتهم بدونها وهي المعرفة المستودعة الزائلة عند الموت لا تنفع ولذلك تجد العارفين متضرعين في طلب حسن العاقبة (فأنها السعادة) الضمير راجع إلى الطاعة والمعرفة والولاية وتعريف الخبر بالحصر الدال على أن ما سواها وهو المعرفة الغير الثابتة ليست بسعادة.

(اختم لي بها) أي بما ذكر من الامور الثلاثة وبالسعادة والمآل واحد وهذا تأكيد للسابق للمبالغة والاهتمام ببقائها وثباتها (اللهم اجعلني مع محمد وآل محمد في كل عافية وبلاء) طلب ذلك لأن المعرفة التامة والمتابعة الكاملة والمحبة الصادقة تقتضي المشاركة في العافية والبلاء والشدة والرخاء (واجعلني مع محمد وآل محمد في كل مثوى ومنقلب) أي في كل محل أقاموا فيه وكل مقام انقلبوا فيه أو في كل إقامة وسكون وكل انقلاب وحركة وبالجملة طلب أن تكون حركاته وسكونه موافقة لحركاتهم وسكونهم ولولا ذلك لدخل النقص في المتابعة ووقع الفراق بين المحب والمحبوب في الجملة.

(اللهم اجعل محياي محياهم ومماتي مماتهم) المحيا والممات مفعل من الحياة والموت ويقعان على المصدر والزمان والمكان والأول أظهر. المعنى اجعل حياتي مثل حياتهم في التعرض للخيرات والأعمال الصالحات وموتي مثل موتهم في استحقاق الرضوان والغفران والدرجات والشفاعات وقيل المحيا الخيرات التي تقع في حال الحياة منجزة، والممات الخيرات التي تصل إلى الشخص بعد الموت كالتدبير والوصية بشيء وغير ذلك مما ينتفع به الناس.

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: تقول قبل دخولك في الصلاة: «اللهم إني اقدم محمدا نبيك (صلى الله عليه وآله) بين يدي حاجتي وأتوجه به [إليك] في طلبتي فاجعلني بهم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين، اللهم اجعل صلاتي بهم متقبلة وذنبي بهم مغفورا ودعائي بهم مستجابا يا أرحم الراحمين».

* الأصل:

3 - عنه، عن أبيه، عن عبد الله بن القاسم، عن صفوان الجمال قال: شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) استقبل القبلة قبل التكبير وقال: «اللهم لا تؤيسني من روحك ولا تقنطني من رحمتك ولا تؤمني

ص:370

مكرك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون» قلت: جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك، فقال: إن من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله.

* الشرح:

قوله: (اللهم لا تؤيسني من روحك) اليأس القنوط أيأسته وآيسته قنطته والروح بالفتح الراحة والنسيم الطيبة والرحمة والأولان أولى بالإرادة هنا تحرزا عن التكرار والمراد بهما نسيم الجنة والراحة فيها والقنوط منهما ومن الرحمة بسبب المعصية وان كانت عظيمة بعد الإيمان كفر بالله العظيم كما نطق به القرآن الكريم: (ولا تؤمني مكرك) كالإستدراج ونحوه مثل أن يسكن قلبه ولا يخاف عقوبته من المعصية ويعتقد أنه مغفور قطعا فان ذلك تكذيب للوعيد وليس هذا من باب حسن الظن بالله فان حسن الظن به أن يعمل ويستغفر ويظن أنه مقبول وقد مر تفصيل ذلك في شرح كتاب الكفر والإيمان.

ص:371

باب الدعاء في أدبار الصلوات

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله البرقي، عن عيسى بن عبد الله القمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول إذا فرغ من الزوال «اللهم إني أتقرب إليك بجودك وكرمك وأتقرب إليك بمحمد عبدك ورسولك وأتقرب إليك بملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين وبك، اللهم أنت الغني عني وبي الفاقة إليك، أنت الغني وأنا الفقير إليك أقلتني عثرتي وسترت علي ذنوبي فاقض اليوم حاجتي ولا تعذبني بقبيح ما تعلم مني، بل عفوك وجودك يسعني» قال: ثم يخر ساجدا ويقول: «يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة يا بر يا رحيم؟ أنت أبر بي من أبي وامي ومن جميع الخلائق أقلبني بقضاء حاجتي مجابا دعائي، مرحوما صوتي، قد كشفت أنواع البلاء عني».

* الشرح:

قوله: (يقول إذا فرغ من الزوال) الظاهر انه فريضة الظهر والنافلة محتملة (اللهم إني أتقرب إليك بجودك وكرمك) لا بعملي وطاعتي، وفيه اعتراف بالتقصير وتوسل بأشرف الوسائل للتقرب فان الجود والكرم على الإطلاق يقتضيان إعطاء السائل ما سأله.

(ثم يقول يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة) وهو تعالى أهل لأن يتقى من عقوبته ومخالفته وأهل لأن يغفر ذنوب عباده.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال إذا صلى المغرب ثلاث مرات: «الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره» اعطي خيرا كثيرا.

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره) مر تفسيره بوجهين (أعطى خيرا كثيرا) في الدنيا والآخرة والخير كلي شامل لأنواع الخيرات المطلوبة فيهما.

ص:372

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، رفعه قال: يقول بعد العشائين:

«اللهم بيدك مقادير الليل والنهار ومقادير الدنيا والآخرة ومقادير الموت والحياة ومقادير الشمس والقمر ومقادير النصر والخذلان ومقادير الغنى والفقر، اللهم بارك لي في ديني ودنياي وفي جسدي وأهلي وولدي، اللهم ادرأ عني شر فسقة العرب والعجم والإنس، واجعل منقلبي إلى خير دائم ونعيم لا يزول».

* الشرح:

قوله: (اللهم بيدك مقادير الليل والنهار) اليد كناية عن القدرة والحفظ والأمر، والمقدار مبلغ الشيء المقدر بتقدير معين يعني تقدير الليل والنهار بمقادير مخصوصة مختلفة وتعاقبهما واختلافهما طولا وقصرا وزيادة ونقصانا وظلمة وضياء إنما هو منوط بقدرتك وإختيارك.

(ومقادير الدنيا والآخرة) بانقطاع الاولى وتغير أحوالها ودوام الثانية وثبات درجاتها ودركاتها ومقدار اجورها وعقوباتها (ومقادير الموت والحياة) بتفاوت الأسباب والأعمار المقدرة على وفق الحكمة (ومقادير الشمس والقمر) على تفاوت الحركات والأنوار والزيادة والنقصان والطلوع والغروب والخسوف والكسوف والاقتران والافتراق (ومقادير النصر والخذلان) على تفاوت مراتبهما للمؤمنين والكافرين.

(ومقادير الغنى والفقر) في الكمية والكيفية والزيادة والنقصان كل ذلك لحكمة مقتضية له، وفيه رد على الملاحدة والدهرية والفرق المبتدعة الناسبة إيجاد السفليات وأكثر العلويات إلى غيره تعالى وعلى كل من نسب الإيجاب إليه تعالى إذ الموجب لا يصدر عنه أفعال مختلفة متضادة تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(اللهم بارك لي في ديني) أي زد لي في ديني بالعلم والعمل بما فيه أو أثبت وأدم لي ما أعطيتني في ديني من التشريف والكرامة بمتابعة رسولك وأوليائك (واجعل منقلبي إلى خير دائم) المنقلب بضم الميم وفتح اللام اسم مكان أو مصدر والأخير هو المراد هنا بقرينة تعديته ب «إلى».

* الأصل:

4 - عنه، عن بعض أصحابه، رفعه، قال: من قال بعد كل صلاة وهو آخذ بلحيته بيده اليمنى:

«يا ذا الجلال والإكرام ارحمني من النار» - ثلاث مرات - ويده اليسرى مرفوعة وبطنها إلى ما يلي

ص:373

السماء ثم يقول: «أجرني من العذاب الأليم». [ثلاث مرات] ثم يؤخر يده عن لحيته، ثم يرفع يده ويجعل بطنها مما يلي السماء، ثم يقول: «يا عزيز يا كريم يا رحمن يا رحيم». ويقلب يديه ويجعل بطونهما مما يلي السماء، ثم يقول: «أجرني من العذاب [الأليم]» - ثلاث مرات - «صل على محمد وآل محمد والملائكة والروح» غفر له ورضي عنه ووصل بالاستغفار له حتى يموت جميع الخلائق إلا الثقلين الجن والإنس، قال: إذا فرغت من تشهدك فارفع يديك وقل: «اللهم اغفر لي مغفرة عزما جزما لا تغادر ذنبا ولا أرتكب بعدها محرما أبدا وعافني معافاة لا بلوى بعدها أبدا واهدني هدى لا أضل بعده أبدا وانفعني يا رب بما علمتني واجعله لي ولا تجعله علي وارزقني كفافا ورضني به يا رباه وتب علي يا الله يا الله يا الله يا رحمن يا رحمن يا رحمن يا رحيم يا رحيم يا رحيم، ارحمني من النار ذات السعير وابسط علي من سعة رزقك واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك واعصمني من الشيطان الرجيم وأبلغ محمدا (صلى الله عليه وآله) عني تحية كثيرة وسلاما واهدني بهداك وأغنني بغناك واجعلني من أوليائك المخلصين وصلى الله على محمد وآل محمد آمين».

قال: من قال هذا بعد كل صلاة رد الله عليه روحه في قبره وكان حيا مرزوقا ناعما مسرورا إلى يوم القيامة.

* الشرح:

قوله: (ثم يرفع يده ويجعل بطنها مما يلي السماء) الظاهر أنه يجعل بطن اليمنى فقط إلى السماء كما يشعر به ما بعده. (غفر له ورضى عنه) فلا يعذبه أبدا فهو خبر بمنزلة الجزاء لقوله: من قال بعد كل صلاة.

(ووصل بالاستغفار له حتى يموت) ذلك الداعي وجميع الخلائق إلا الثقلين (الجن والإنس ) أقول على سبيل الاحتمال الضمير المستتر في وصل عائد إلى الله تعالى والمفعول محذوف وجميع الخلائق فاعل الاستغفار والاستثناء من الخلائق يعني وصل الله تعالى مغفرته لذنوبه الثابتة باستغفار جميع الخلائق له بخصوصه فيما بقي من عمره حتى يموت لإفهامهم بحاله إلا الثقلين لعدم معرفتهما له بخصوصه لغرض يتعلق بنظامه أو نظام الكل كالعجب وغيره من المفاسد والله يعلم. (اللهم اغفر لي مغفرة عزما) الظاهر أن «عزما» تميز وهو القطع في الأمر والجد فيه والقوة خلاف الوهن ولعل المغفرة لا على جهة العزم هي المعلقة بشرط أو صفة أو وقت أو بنوع من الذنب.

ص:374

(وعافني) من الأمراض الروحانية والجسمانية الدنيوية والاخروية (معافاة لا بلوى بعدها أبدا) في الدنيا والآخرة (واهدني هدى لا أضل بعده أبدا) طلب الثبوت على الهداية والهداية الخاصة التي للأولياء أو الإيصال إلى المطلوب فانه لا يتصور الضلالة بعده أبدا (وانفعني يا رب بما علمتني) من الامور الدينية بالعمل به والتعليم والإرشاد.

(واجعله لي ولا تجعله علي) يعني اجعل ما علمتني بحيث ينفعني بأن توفقني للعمل به ولا تجعله علي بحيث يضرني بترك العمل به فان العالم بلا عمل محجوج بالعلم معاقب بزيادة ما يعاقب به الجاهل كما دل عليه بعض الأخبار.

(وارزقني كفافا) الكفاف بفتح الكاف مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان سمي بذلك لأنه يكف عن سؤال الناس ويغنى عنهم (ارحمني من النار ذات السعير) أي ذات اللهب والوصف للتوضيح لا للتقييد لأن نار جهنم ذات لهب دائما كما في القرآن المجيد.

(واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) أي اهدني إلى الحق الذي اختلف فيه من الاصول والفروع فقبله بعض وأنكره بعض، وقوله: «بإذنك» متعلق بالهداية أو بالاختلاف على احتمال لأنه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلا بإذن الله تعالى كما مر في كتاب التوحيد مشروحا.

(واهدني بهداك) الهدى بضم الهاء وفتح الدال القرآن والبيان والدلالة والإرشاد يقال هداه الله تعالى إذا أرشده وبصره طريق معرفته وعرفه ما لابد له في بقائه ووجوده وكماله في النشأتين.

(وإغنني بغناك) أي أغنني بغنى من عندك حتى لا أحتاج إلى غيرك (واجعلني من أوليائك المخلصين) بفتح اللام من أخلصه الله إذا جعله خالصا من الرذائل أو متميزا عن غيرهم في السعادة من خلص إذا تميز، أو سالما من المكاره الاخروية من خلص إذا سلم ونجا، أو واصلا إلى قربه تعالى من خلص فلان إلى فلان إذا وصل إليه. أو بكسرها من أخلص لله إذا طلب بعمله وجه الله تعالى وترك الرياء والسمعة أو أخلص نفسه من المهلكات والخبائث كما أخلصته النار من الذهب وغيره.

* الأصل:

5 - عنه، عن بعض أصحابه رفعه قال: تقول بعد الفجر «اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون رضاك، ولك الحمد حمدا لا أمد له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك، اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان، اللهم لك الحمد كما أنت أهله، الحمد لله بمحامده كلها على نعمائه كلها حتى ينتهي الحمد إلى حيث ما يحب ربي ويرضى» وتقول بعد الفجر قبل أن تتكلم: «الحمد لله ملء الميزان ومنتهى

ص:375

الرضا وزنة العرش وسبحان الله ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش والله أكبر ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش ولا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى الرضا وزنة العرش» تعيد ذلك أربع مرات، ثم تقول: [اللهم] أسألك مسألة العبد الذليل أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تغفر لنا ذنوبنا وتقضي لنا حوائجنا في الدنيا والآخرة في يسر منك وعافية».

* الشرح:

قوله: (اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك) طلب أن يكون حمده كحمده تعالى لذاته في الخلود أو أن يكون أجره خالدا (ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون رضاك) رضاه عبارة عن الإحسان والإكرام وفيه رجاء لأن يكون ثواب حمده غير متناه لأن عدم نهاية الحمد عند إحسانه وإكرامه بسببه مستلزم لعدم نهايتهما.

(ولك الحمد حمدا لا أمد له دون مشيئتك) الأمد الغاية وفيه طلب لأن يكون الحمد بغير غاية عند تعلق مشيئته تعالى بصدوره وبالجملة طلب أن يكون تعلق المشيئة به على هذا الوصف ويمكن أن يكون المراد عدم الغاية من جهة البداية تفضلا بإرادة المشيئة الأزلية وان كان الحمد حادثا كتعلق المشيئة به (ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك) طلب لأن يكون الحمد خالصا له عاريا عن الرياء والسمعة لأنه الذي يترتب عليه رضاه تعالى.

(اللهم لك الحمد) أي حمد على الوجه المذكور لك لا لغيرك وفيه إجمال بعد تفصيل وجمع بعد تفريق وهو فن من الصناعة البديعية.

(وإليك المشتكى) أي إليك الشكاية من الغربة والفرقة والوحدة والوحشة وغيبة الإمام وغيرها من البلايا الواردة في الدنيا (وأنت المستعان) في الامور والشدائد كلها (اللهم لك الحمد كما أنت أهله) فيه إظهار عجز من حمد هو أهله وإنما غاية كمال العبد هي التضرع بأن يجعل حمده شبيها بحمد هو أهله ويثيبه به من باب التفضل.

(الحمد لله بمحامده كلها على نعمائه كلها) يحمده إجمالا بجميع ما يحمد به على جميع ما يحمد عليه للأشعار بأن حمده تفصيلا فيهما محال وقد ذكرنا سابقا إختلاف الأقوال في كمية ثوابه، وقال بعض الأفاضل: قد يكون التفصيل في الدعاء في بعض المواضع أبلغ وقعا للنفوس وألذ وقد يكون الإجمال والاختصار أبلغ وأنفع ولذلك بين الشرع كلا الطريقين.

(حتى ينتهي الحمد إلى حيث ما يحب ربي ويرضى) حيث هنا للمقام الأعلى من المحبة والرضا بقرينة المقام (ويقول بعد الفجر: الحمد لله ملء الميزان) من طرق العامة: «للميزان كفتان

ص:376

كل كفة طباق السماوات والأرض والحمد يملاءه» وقيل: يملأه لو كانت أجساما وقيل المقصود منه تكثير العدة وقيل تكثير اجوره وقيل: تعظيم شأنه، وقد مر.

(ومنتهى الرضا) لكونه في غاية الكمال المترتب عليها نهاية الرضا. (وزنة العرش) لعل المراد به العرش الجسماني وهو الفلك الأعظم. (وتقضي لنا حوائجنا في الدنيا والآخرة) حوائج الدنيا ما يحتاج إليه في التعيش والبقاء وحوائج الآخرة ما ينفع فيها من الخيرات كلها. (في يسر منك وعافية) الظرف متعلق بتقضي أو حال عن ضمير المتكلم «ومنك» صفة ليسر، ويسر مترتب على قضاء حوائج الدنيا «وعافية» على قضاء حوائج الآخرة أو كل مترتب على كل.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه، عن محمد بن الفرج قال: كتب إلي أبو جعفر أبن الرضا (عليهما السلام) بهذا الدعاء وعلمنيه وقال: من قاله في دبر صلاة الفجر لم يلتمس حاجة إلا تيسرت له وكفاه الله ما أهمه: «بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآله (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) فوقاه الله سيئات ما مكروا، (لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) (حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] ما شاء الله لا ما شاء الناس، ما شاء الله وإن كره الناس، حسبي الرب من المربوبين حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرزاق من المرزوقين حسبي الذي لم يزل حسبي منذ قط حسبي الله الذي لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم» وقال: إذا انصرفت من صلاة مكتوبة فقل: «رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا وبفلان وفلان أئمة اللهم وليك فلان فاحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته وامدد له في عمره واجعله القائم بأمرك والمنتصر لدينك وأره ما يحب وما تقر به عينه في نفسه وذريته وفي أهله وماله وفي شيعته وفي عدوه وأرهم منه ما يحذرون وأره فيهم ما يحب وتقر به عينه واشف صدورنا وصدور قوم مؤمنين» قال: وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول إذا فرغ من صلاته: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وإسرافي على نفسي وما أنت أعلم به مني، اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أجمعين ما علمت الحياة خيرا لي فأحيني، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية وكلمة الحق في الغضب والرضا

ص:377

والقصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا ينقطع وأسألك الرضا بالقضاء وبركة الموت بعد العيش وبرد العيش بعد الموت ولذة المنظر إلى وجهك وشوقا إلى رؤيتك ولقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم إني أسألك عزيمة الرشاد والثبات في الأمر والرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عافيتك وأداء حقك وأسألك يا رب قلبا سليما ولسانا صادقا وأستغفرك لما تعلم وأسألك خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم فإنك تعلم ولا نعلم وأنت علام الغيوب».

* الشرح:

قوله: (وأفوض أمري إلى الله) قيل التفويض نوع لطيف من التوكل وهو أن يفعل العبد ما أمره الله تعالى ويكل اموره الدنيوية والاخروية إليه ولا يبالي ما وقع عليه من البلايا.

قوله: (ان الله بصير بالعباد) عالم بأحوالهم الظاهرة والباطنة ومنافعهم ومضارهم فلا يخفى عليهم كرب المكروبين فيزيله ان كانت في إزالته مصلحة.

قوله: ((فوقاه الله سيئات ما مكروا)) كل من فوض أمره إلى الله عند مكر الخلائق وإرادتهم إيصال السوء إليه وقطع الطمع عن معاونة غيره وعلم أنه تعالى عالم بأحوالهم وأسرارهم (فوقاه الله سيئات) مكرهم وشدائد قصودهم ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) فيه إقرار بتوحيده المطلق وتنزيهه عن النقص والعجز وبالظلم لنفسه المشعر بأن ما لحقه من البلية والغم إنما هو من أجل عمله وكسبه، وهذا الإقرار الدال على كمال العبودية والعجز والانقطاع عن الخلق مقتض لإزالة البلية والغم كما قال عز شأنه:

((فاستجبنا له ونجيناه من الغم)) الضمير لذي النون، وغمه ألم التقام الحوت أو غم الخطيئة وهي المهاجرة عن قومه بدون إذنه وتنجيته بأن أمر الحوت بقذفه إلى الساحل بعد أربع ساعات أو بعد ثلاثة أيام كما قيل (وكذلك) أي كما نجينا يونس (ننجي المؤمنين) المغمومين إذا دعوا الله بهذا الكلام أو مطلقا مخلصين والآية في سورة الأنبياء وهي مجربة لدفع الغموم (حسبنا الله) أي فحسبنا وكافينا في قضاء حوائجنا ورفع غمومنا.

(ونعم الوكيل) لمن وكل إليه أمره والبحث في هذا العطف والجواب عنه مشهوران وان شئت معرفة ذلك فارجع إلى ما ذكره التفتازاني والشريف في المطول وحاشيته (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) أي فرجع المجاهدون عن بدر متلبسين بنعمة عظيمة وعافية وأمن من الأعداء وبفضل كثير من الله من الغنيمة والثواب الأخروي.

ص:378

(لم يمسسهم سوء) من الأعداء والآية في سورة آل عمران وهي مجربة في دفع شر الأعداء ورفع الهموم. (ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) في الأول إقرار بأن كل شيء وجوده وعدمه وبقاؤه وفناؤه بمشيئة الله تعالى وفي الثاني اعتراف بالعجز وان كل ما حصل له من الخيرات وكل ما رفع عنه من المكروهات فهو بحول الله وقوته وأقداره ومعونته.

(ما شاء الله لا ما شاء الناس) أي ما شاء الله كان قطعا لما فيه مصلحة، لا ما شاء الناس إذ قد لا يكون فيه مصلحة (ما شاء الله وان كره الناس) كالأمراض والبلايا والفقر وغيرها وفيه إشارة إلى الرضا بالقضاء (حسبي منذ قط) في القاموس قط مشددة مجرورة بمعنى الدهر مخصوصة بالماضي أي فيما مضى من الزمان أو فيما انقطع من العمر ومنذ مبني على الضم ومذ مبني على السكون ويكسر ميمهما وهما إذا كان يليهما اسم مجرور بمعنى الماضي حرفا جر بمعنى من والمعنى حسبي الله وكفاني من أول العمر إلى الآن ومنه أتوقع الكفاية فيما بقي.

(واجعله القائم بأمرك والمنتظر لدينك) الطلب في أمثال هذا مما كان المطلوب حاصلا للتأكيد وإظهار الرضا والشغف والسرور.

(وأره ما يحب وما تقر عينه في نفسه اه) قيل أقر الله عينه من القرار وهو السكون يعني بلغه امنيته حتى ترضى نفسه وتسكن عينه فلا تستشرف إلى غيره والمشهور أنه من القرة كناية عن الفرح والسرور. قال الشيخ في الأربعين: قرة العين برودتها وانقطاع بكائها ورؤيتها ما كانت مشتاقة إليه والقرة بالضم ضد الحر والعرب تزعم أن دمع الباكي من شدة السرور بارد ودمع الباكي مع الحزن حار فقرة العين كناية عن الفرح والسرور والظفر بالمطلوب، عينه تقر بالكسر والفتح قرة بالفتح والضم.

(اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت) قيل: يحتمل فيما مضى، ويحتمل فيما مضى وفيما يأتي ودعاؤه بذلك مع علمه بأنه مغفور له ومع أنه معصوم من جميع الذنوب على ما هو الحق إشفاق وتعليم للأمة. وقيل: خوف مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وقيل يحتمل: أنه بحسب المقامات يرى مقامه في زمان دون مقامه في زمان آخر فيستغفر من مقامه الأول، وقيل طلب: لامته إلا أنه نسبها إلى نفسه للإشعار بأن مغفرة ذنوبهم مغفرة له، أو طلبها لنفسه بناء على أن الكفار كانوا معتقدين بأنه مذنب في دعوى الرسالة فجعل رفع ذلك الإعتقاد منهم بمنزلة المغفرة أو بناء على أنه عد خلاف الاولى ذنبا.

(اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر) على صيغة الفاعل وهذا في كتب العامة أيضا ومعناه تقدم ما تشاء وتؤخر ما تشاء على مقتضى الحكمة لأن بعض معلولاته مقدم على بعض في الشرف

ص:379

والرتبة والزمان وغير ذلك، وقال ابن الأثير: ومن أسمائه تعالى المقدم والمؤخر لأنه يقدم بعض الأشياء ويؤخر بعضها ويضع كلا في موضعه فمن إستحق التقديم قدمه ومن إستحق التأخير أخره.

وقال بعضهم: أنت منزل الأشياء منازلها فتقدم من تشاء بطاعتك وتأخر من تشاء لخذلانك، وقال بعضهم: أنت المقدم بلا بداية وأنت المؤخر بلا نهاية وأنت المقدم القديم وأنت المؤخر الباقي أو أنت الأول بالابتداء والآخر بالانتهاء، وقال القرطبي: هذان الإسمان من أسمائه تعالى المزدوجة كالقابض والباسط، قال العلماء: لا يؤتى بها إلا كذلك، فلا يقال أنت المقدم وحده كما لا يقال القابض وحده.

(لا إله إلا أنت) فلا مقدم ولا مؤخر غيرك فهو تأكيد لما قبله (بعلمك الغيب) أي أسألك به «ما علمت - إلى آخر -» مفعول السؤال والباء للسببية أو القسم والغيب بالنصب مفعول العلم وجره بالوصف له بعيد ولا حاجة إلى مفعول ثان كما قيل.

(اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية)، قال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف:

الخوف والخشية وان كانا في اللغة بمعنى واحد إلا أن بين خوف الله وخشيته في عرف أرباب القلوب فرقا هو: أن الخوف تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات والتقصير في الطاعات، والخشية حالة تحصل عند الشعور بعظمة الحق وهيئته وخوف الحجب عنه، والمراد بالخشية في السر والعلانية ما أشار إليه شيخ العارفين في الأربعين وهو: أن يظهر آثارها في الصفات والأفعال من كثرة البكاء ودوام التحرق وملازمة الطاعات وقمع الشهوات حتى يصير جميعها مكروها لديه كما يصير العسل مكروها عند من عرف أن فيه سما قاتلا مثلا وإذا احترقت جميع الشهوات بنار الخوف ظهر في القلب الذبول والخشوع والانكسار وزال عنه الكبر والحقد والحسد وصار كل همه النظر في خطر العاقبة فلا يتفرغ لغيره ولا يصير له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والاحتراز من تضيع الأنفاس والأوقات ومؤاخذة النفس في الخطوات والخطرات وأما الخوف الذي لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار فلا يستحق أن يطلق عليه اسم الخوف وإنما هو حديث نفس ولهذا قال بعض العارفين: إذا قيل لك هل تخاف الله فاسكت عن الجواب فإنك ان قلت: لا كفرت، وان قلت: نعم كذبت.

(وكلمة الحق في الغضب والرضا) وهي من توابع العدل وسلامة النفس من الآفات إذ هما يقتضيان مراعاة الحق في حال الغضب والرضا وعدم التجاوز عنه إلى الباطل كما هو مقتضى الحمية الجاهلية.

(والقصد في الفقر والغنى) القصد الإعتدال والمقتصد المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي

ص:380

الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير وهو متفاوت في الفقير والغني فقصد الفقير تقتير للغني وقصد الغني تبذير للفقير.

(وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع) إما من باب التفضل أو التوفيق لما يوجبهما (وأسألك الرضا بالقضاء) قد تقرر في الشرع أنه لا يقع شيء خيرا كان أو شرا إلا بقضاء الله تعالى وان الرضا به واجب، لا يقال كل من القضاء بالكفر والرضا بذلك القضاء رضا بالكفر وهو قبيح لأنا نقول إذا عرفت معنى القضاء والرضاء به علمت انه لا نقص فيهما أصلا بل هما عين الحكمة ونفس الكمال وذلك لأنه تعالى إذا علم في الأزل كفر فلان باختياره وقضى به ليطابق علمه بالمعلوم فلا نقص فيه ولا في الرضا به بل النقص في عدمهما فليتأمل.

(وبركة الموت بعد العيش) اريد ببركة الموت الفرح والسرور والراحة ومشاهدة السعادة بعده وبالعيش الحياة الطيب وما يكون به الحياة ويعاش به على الوجه الحلال.

(وبرد العيش بعد الموت) العيش البارد عيش لا تعب ولا مشقة ولا عسر فيه أو عيش ثابت مستقر من قولهم: برد لي على فلان حق أي ثبت وإستقر وكل محبوب عندهم بارد.

(ولذة النظر إلى وجهك) أي إلى رحمتك أو إلى أنبيائك ورسلك وأوصيائهم وهم وجه الله إذ الناس بهم يتوجهون إليه، قد تقدم تفصيل التوجه بهم في الأصول (وشوقا إلى رؤيتك ولقائك) أي رؤية المقربين منك ولقائهم أو رؤية تفضلاتك وألطافك ولقائها، أو رؤية تجلياتك ولقائها، والشوق إلى ذلك يبعث على الطاعة والأعمال الصالحة.

(من غير ضراء مضرة) في الدين أو الدنيا أيضا، والضر ضد النفع والضراء الحالة التي تضر كالبلية والفاقة ونحوهما وهي نقيض السراء وهما بنائان للمؤنث ولا مذكر لهما.

(ولا فتنة مضلة) عن الحق، والفتنة بالكسر مصدر بمعنى الاختبار أو اسم وهي البلية والمحنة والعذاب والمال والأولاد وغيرهما مما يختبر به وإنما قيدها والضراء بالوصف لأن المقصود هو الحفظ منه وإلا فالإنسان ما دام في الدنيا لا يخلو عنهما.

(اللهم زينا بزينة الإيمان) الظاهر أن الإضافة بيانية، وان المراد بالإيمان الكامل ويحتمل أن يراد بالإيمان أصل التصديق، وبزينتها الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة التي لها مدخل في كماله والمقصود طلب التوفيق والنصرة والمعونة منه تعالى.

(واجعلنا هداة مهتدين) (1) مهتدين مفعول ثان أو صفة للأول والمقصود هو الجمع بين الهداية والإرشاد وقبول الهداية من أهلها إذ لا كمال في أحدهما بدون الآخر.

ص:381


1- (1) كذا.

(اللهم اهدنا فيمن هديت) من الأنبياء المقربين والرسل المكرمين والعباد الصالحين ولعل التعدية بفي لتضمين معنى الدخول أو الإندراج.

(اللهم إني أسألك عزيمة الرشاد) الرشاد بالفتح الاهتداء مصدر رشد كنصر وفرح إذا اهتدى إلى المطلوب والعزيمة مصدر بمعنى الإرادة والجد والقطع يقال عزم على الأمر يعزم عزما وعزيمة إذا أراد فعله وقطع عليه وجد فيه ولما كان الرشاد بدون العزيمة عليه متزلزلا مستودعا طلب العزم عليه ليصير مستقرا بالغا حد الكمال.

(والثبات في الأمر والرشد) الأمر شامل كل ما هو حق من أحوال المبدأ والمعاد والأحكام وغيرها والرشد والرشاد بمعنى ذكره بعد الأمر من باب ذكر الخاص بعد العام للاهتمام لأنه أصل لجميع ما ذكر، وإنما طلب الثبات فيهما لأنهما بدونه مستودع لا خير فيه. (وأسألك شكر نعمتك) تفصيلا فيما علمت وإجمالا فيما لم أعلم، والشكر وان كان فعل العبد لكن التوفيق والأقدار من فعله عزوجل.

(وحسن عافيتك) في الدنيا من البليات والمكروهات والشبهات وفي الآخرة من العقوبات (وأداء حقك) من الواجبات والمندوبات، ويندرج فيه حقوق الإخوة والرعية والولاية وكل ما يطلق عليه اسم الحق لأنه كله حق الله تعالى من حيث أنه قرره على عباده.

(وأسألك يا رب قلبا سليما) من الرذائل والآفات الشكوك والشبهات (ولسانا صادقا) في الشريعة البيضاء منزها عن الكذب والافتراء (وأستغفرك لما تعلم) من الذنوب وان لم أعملها (وأسألك خير ما تعلم) وان كان شرا عندي كما قلت: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) (وأعوذ بك من شر ما تعلم) وان كان خيرا عندي بحسب الظاهر كما قلت: (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) (فإنك تعلم ولا نعلم) تعليل لما ذكر من المعاملة بما هو الأصلح لنا في علمه.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن سيف بن عميرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى يوسف وهو في السجن، فقال له: يا يوسف قل في دبر كل صلاة: «اللهم اجعل لي فرجا ومخرجا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب».

* الشرح:

قوله: (اللهم اجعل لي فرجا ومخرجا) مصدر أو مكان (وارزقني من حيث

ص:382

أحتسب ومن حيث لا أحتسب) فبالجزء الأول أخرجه من السجن وبالجزء الثاني أعطاه السلطنة.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عبد العزيز، عن بكر بن محمد، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال هذه الكلمات عند كل صلاة مكتوبة حفظ في نفسه وداره وماله وولده: «أجير نفسي ومالي وولدي وأهلي وداري وكل ما هو مني بالله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأجير نفسي ومالي وولدي وكلما هو مني برب الفلق من شر ما خلق. إلى آخرها وبرب الناس - إلى آخرها - وآية الكرسي - إلى آخرها -».

* الشرح:

قوله: (بالله الواحد الأحد) قال صاحب العدة الله أشهر أسمائه تعالى في الذكر والدعاء، تسمت به سائر الأسماء والواحد هو المنفرد بالذات وأحد هو المنفرد بالمعنى والصمد هو السيد الذي يصمد إليه في الامور ويقصد في الحوائج والنوازل (الذي لم يلد ولم يولد) نفى عنه الافتقار والتغير في الأحوال والإتصاف بالشهوات والتشابه بالحيوانات وإتخاذ الزوجة والأولاد والاحتياج إلى الآباء والأجداد كما قال الفرق الباطلة الملائكة بنات الله، ومريم زوجة الله وعيسى ابن الله وعزير ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(ولم يكن له كفوا أحد) قال صاحب العدة: الواحد يطلق على من يعقل وعلى غيره، والأحد لا يطلق إلا على من يعقل انتهى. ويمكن أن يراد به هنا معنى الواحد من باب التغليب أو يقال ان نفي المماثلة عن ذوي العقول يستلزم نفيها عن غيرهم بطريق أولى.

(برب الفلق) هو بالتحريك ضوء الصبح وإنارته أو الصبح نفسه أو المراد به جميع الموجودات لأنه تعالى فلق أي شق ظلمة العدم بنور الإيجاد وفيه إشعار بأن من قدر أن يزيل ظلمة الليل عن هذا العالم بنور الصبح أو ظلمة العدم بنور الإيجاد قدر أن يزيل عن العائذ ما يخافه.

قال القاضي: لفظ الرب ههنا أوقع من سائر أسمائه لأن الإعادة من الضار تربية (وبآية الكرسي إلى آخرها) إلى هم فيها خالدون كما صرح به الشيخ في المفتاح، وظاهر كلامه أنه يقول الله لا إله إلا هو وقال بعض الأفاضل يقول: وبالله لا إله إلا هو.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: من قال في دبر

ص:383

الفريضة: «يامن يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء أحد غيره» - ثلاثا - ثم سأل اعطي ما سأل.

* الشرح:

قوله: (يامن يفعل ما يشاء) لأن كل ما يشاء فيه حكمة ومصلحة وله عليه قدرة قاهرة. (ولا يفعل ما يشاء أحد غيره) قد مر أن له تفسيرين.

* الأصل:

10 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن سعيد بن يسار قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): إذا صليت المغرب فأمر يدك على جبهتك وقل: «بسم الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والغم والحزن» - ثلاث مرات -.

* الشرح:

قوله: (اللهم أذهب عني الهم والحزن) الهم ما يقدر الإنسان على رفعه كالإفلاس أو ما ليس له سبب معلوم أو ما هو قبل نزول المكروه أو ما هو من أجل الدنيا، والحزن ما لا يقدر الإنسان على رفعه كذهاب المال بالغصب وموت الولد، أو ما له سبب معلوم أو ما بعد نزول المكروه أو ما هو من أجل الآخرة.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد الجعفي، عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت كثيرا ما أشتكي عيني فشكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ألا اعلمك دعاء لدنياك وآخرتك وبلاغا لوجع عينيك؟ قلت: بلى، قال: تقول في دبر الفجر ودبر المغرب:

«اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد عليك صل على محمد وآل محمد واجعل النور في بصري والبصيرة في ديني واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والسلامة في نفسي والسعة في رزقي والشكر لك أبدا ما أبقيتني».

* الشرح:

قوله: (كنت كثيرا ما أشتكي عيني) أي أشتكي من عيني إلى الله وفي الكنز: الإشتكاء گله كردن وناله كردن، والبلاغ الكفاية. (واجعل النور في بصري) يمكن أن يكون جعل النور في البصر كناية عن الهداية إلى الصراط المستقيم حتى لا يزيغ عنه أبدا ويجوز أن يراد به التوفيق في رؤية ما يجوز رؤيته والمنع عما لا يجوز فان ذلك يصلح القلب ويشرح الصدر ويزيد في الفهم ورؤية الحرام بضد ذلك، ويحتمل أن يراد به القوة البصرية الموجبة للرؤية والمقصود الدعاء في طلب

ص:384

سلامة العين وحفظها عن زوال نورها.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: حدثني أبو جعفر الشامي قال: حدثني رجل بالشام يقال له: هلقام بن أبي هلقام قال: أتيت أبا إبراهيم (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك علمني دعاء جامعا للدنيا والآخرة وأوجز، فقال: قل في دبر الفجر إلى أن تطلع الشمس:

«سبحان الله العظيم وبحمده أستغفر الله وأسأله من فضله». قال هلقام: لقد كنت من أسوء أهل بيتي حالا فما علمت حتى أتاني ميراث من قبل رجل ما ظننت أن بيني وبينه قرابة وإني اليوم لمن أيسر أهل بيتي وما ذلك إلا بما علمني مولاي العبد الصالح (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (سبحان الله العظيم وبحمده) قال عياض: هذا الكلام على إختصاره جملتان: إحديهما سبحان الله; لأن سبحان مصدر والمصدر يدل على فعله فكأنه قال اسبح سبحان الله التسبيح الكثير، والثانية بحمده لأنه متعلق بمحذوف تقديره اثني عليه بحمده.

ص:385

باب الدعاء للرزق

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد جميعا، عن القاسم بن عروة، عن أبي جميلة، عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) أن يعلمني دعاء للرزق، فعلمني دعاء ما رأيت أجلب للرزق منه، قال: قل: «اللهم ارزقني من فضلك الواسع الحلال الطيب، رزقا واسعا حلالا طيبا بلاغا للدنيا والآخرة صبا صبا، هنيئا مريئا، من غير كد ولا من من أحد من خلقك إلا سعة من فضلك الواسع فإنك قلت: (واسألوا الله من فضله) فمن فضلك أسأل ومن عطيتك أسأل ومن يدك الملاء أسأل».

* الشرح:

قوله: (اللهم ارزقني من فضلك الواسع) الفضل ضد النقص والمراد به هنا العطاء الكامل ووصفه بالواسع للدلالة على كثرته وشموله للبر والفاجر.

(الحلال الطيب) الحلال ضد الحرام وهو شامل للحلال في ظاهر الشريعة والحلال في نفس الأمر وهو قوت النبيين كما سيجئ والمراد به هنا هو الأول والتعميم محتمل، والطيب الحلال فهو التأكيد وقد يراد به الطاهر وهو حينئذ للتأسيس على الظاهر.

(رزقا واسعا حلالا طيبا) مفعول به أو مفعول مطلق على احتمال والرزق ما ينتفع به بالتغذي وغيره حلالا كان أم حراما وتقييده هنا بالحلال مؤيد له، ويمكن أن يكون وصفه بالحلال للتوضيح والتفسير لا للتقييد جمعا بينه وبين ما روي عن الباقر (عليه السلام) في حديث إلى أن قال: «فان الله قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما فمن اتقى وصبر أتاه رزقه من حله ومن هتك حجاب ستر الله عزوجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة». (بلاغا) أي كافية.

(للدنيا والآخرة) بأن يكف عن الناس ويغني عنهم في الدنيا ويتسبب للقوة على العمل وطلب الأجر وللآخرة برعاية حال الفقراء، وهذا كالتفسير لقوله: «واسعا» (صبا صبا) أي رزقا مصبوبا، من صبه صبا فصب إذا أراقه والتكرير للمبالغة في تواتره وإدراره. (هنيئا مريئا) الهنىء السائغ وأيضا ما يأتيك بلا تعب والمرىء الطعام المنحدر عن المعدة الغير الثقيل عليها وكأنه كناية

ص:386

عن أن لا يكون معه عاهة جسمانية ولا آفة روحانية.

(من غير كد) أي من غير تعب ومشقة في تحصيله وهو وصف لرزقا كالسوابق أو حال عنه (ولا من من أحد من خلقك) بأن لا يكون منهم ولا من إمدادهم وإعانتهم مطلقا، أو مع منتهم علي ولو كان، بناء على ان للرزق أسبابا فليكن بلا منة لأن عدمه خير من وجوده معها والأول أنسب بقوله: (إلا سعة من فضلك الواسع) أي لكن سعة فالإستثناء منقطع. (ومن يدك الملاء أسأل) الملاء بالفتح الغني ومنه الملي وهو الغنى وفعله كمنع وكرم وأما الملاءة بالكسر فهو اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلاء ويمكن إرادته هنا على سبيل التشبيه للأشعار بأن المطلوب ما يملأ ظرف الطمع والرجاء.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن يونس، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لقد استبطأت الرزق فغضب ثم قال لي: قل: «اللهم إنك تكفلت برزقي ورزق كل دابة، يا خير مدعو ويا خير من أعطى ويا خير من سئل ويا أفضل مرتجى افعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (اللهم إنك تكلفت برزقي) أي ضمنته في قولك: (ونحن نرزقهم) وقولك: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وقولك (وفي السماء رزقكم وما توعدون) وأمثال ذلك.

(يا خير مدعو ويا خير من أعطى ويا خير من سئل) تفضيله تعالى على الغير في هذه الأفعال بالنظر إلى عادة الناس وضعف عقولهم حيث يثبتون أصل تلك الأفعال في الجملة لغيره أيضا فحثهم على الرجوع إليه بأنه أكمل فيها من غيره لأن النفس إلى الأكمل أرغب وإلا فلا نسبة بين الخالق والخلق ولا بين فعله وفعلهم حتى يجري فيهم معنى التفضيل.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: أبطأ رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) عنه ثم أتاه فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أبطأ بك عنا؟ فقال: السقم والفقر، فقال له: أفلا اعلمك دعاء يذهب الله عنك بالسقم والفقر؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: قل: «لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم] توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ [صاحبة ولا] ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا». قال:

فما لبث أن عاد إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله قد أذهب الله عني السقم والفقر.

ص:387

* الشرح:

قوله: (ولم يكن له ولي من الذل) أي لم يكن له ناصر ومعين في إيجاد العالم أو حفظه وتدبيره لأن ذلك من آثار الذل والافتقار فهو سبحانه منزه عنهما.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ادع في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد: «يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك الواسع فإنك ذو الفضل العظيم».

* الشرح:

قوله: (ادع في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد: «يا خير المسؤولين) في هذا الدعاء اهتمام عظيم حيث خص بالصلاة المكتوبة لأنها أحق بالإجابة وبحال السجود لقوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقوله: «من فضلك» أي من مجرد فضلك من غير ملاحظة استحقاق فإني لست بأهل له وإلا فالرزق كله من الله تعالى وأكد ذلك بقوله: (فإنك ذو الفضل العظيم) أي لا لأني أستحق ذلك.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن أبي جميلة، عن أبي بصير قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) الحاجة وسألته أن يعلمني دعاء في طلب الرزق فعلمني دعاء ما إحتجت منذ دعوت به، قال:

قل في [دبر] صلاة الليل وأنت ساجد: «يا خير مدعو ويا خير مسؤول ويا أوسع من أعطى ويا خير مرتجى ارزقني وأوسع علي من رزقك وسبب لي رزقا من قبلك، إنك على كل شيء قدير».

* الشرح:

قوله: (قل في صلاة الليل وأنت ساجد - اه) قال الشيخ: صلاة الليل في الأحاديث يطلق على الثمان وعلى الإحدى عشرة بإضافة الشفع والوتر وعلى الثلاثة عشرة بإضافة ركعتي الفجر وعلى هذا كل سجدة من سجدات الثلاث عشرة محل هذا الدعاء وذكره في الثمان أحسن (وسبب لي رزقا من قبلك) سبب بالبائين الموحدتين من التسبيب وهو الإجراء والإرسال، وأما بالياء المثناة

ص:388

التحتانية من التسبيب وهو الإعطاء والإرسال فهو أيضا مناسب لكنه لم يوجد في النسخ التي رأيناها.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي داود، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني ذو عيال وعلي دين وقد اشتدت حالي فعلمني دعاء ادعوا الله عزوجل به ليرزقني ما أقضي به ديني وأستعين به على عيالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عبد الله توضأ وأسبغ وضوءك ثم صل ركعتين تتم الركوع والسجود ثم قل: «يا ماجد يا واحد يا كريم [يا دائم] أتوجه إليك بمحمد نبيك نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله)، يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي ورب كل شيء أن تصلي على محمد وأهل بيته وأسألك نفحة كريمة من نفحاتك وفتحا يسيرا ورزقا واسعا، ألم به شعثي وأقضي به ديني وأستعين به على عيالي».

* الشرح:

قوله: (وأسبغ وضوءك) الإسباغ الإكمال ولعل المراد به المشتمل على جميع الواجبات واشتماله على المندوبات أيضا محتمل (ثم قل) بعد الفراغ من الصلاة (يا ماجد) هو الواسع الكريم الذي وسع غناه مفاقر عباده ووسع رزقه جميع خلقه، يقال رجل ماجد إذا كان كريما سخيا واسع العطاء، وقيل هو الكريم العزيز، وقيل هو المفضال الكثير الخير، وقيل هو شريف ذاته وحسن فعاله والكل متقارب.

(يا واحد يا كريم) هو الواحد بالوحدة الحقيقية المنافية للشركة في الذات والصفات والتكثر والتعدد والتركب الذهني والخارجي وهو الكريم المطلق الجامع لأنواع والخير والشرف والفضائل والجود والإعطاء الذي لا ينفد.

(أتوجه إليك بمحمد نبيك) أي أجعله وسيلة بيني وبينك وشفيعا في إنجاز طلبتي ونيل سؤلي وقضاء حاجتي، ثم صرف الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وإستشفعه ليقبل شفاعته ويصير شفيعا له (فقال: يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي ورب كل شيء) فيه من آداب حسن الدعاء ما لا يخفى لأن من جعل أحدا شفيعا في مطلب إلى أحد لابد له من الرجوع إليهما في طلب قبول الشفاعة (أن تصلي على محمد وأهل بيته) متعلق بقوله «أتوجه إليك» وإنما توسل بهم في طلب الصلاة عليهم مع أنه تعالى يصلي عليهم قطعا لإظهار العجز والانكسار والإشعار بأن

ص:389

هذا الطلب من حيث أنه صدر منه لا يستحق القبول بدون التوسل بهم، وفي بعض النسخ «يصلي» على الغيبة وهو حينئذ متعلق بقوله: «يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى الله» إلا أن في قوله:

«على محمد وأهل بيته» عدولا عن الخطاب إلى الغيبة لقصد التبرك أو الإستلذاذ أو الاهتمام هذا غاية الجهد في ربط هذه الفقرة بما قبله فليتأمل.

(وأسألك نفحة كريمة من نفحاتك) عطف على قوله أتوجه إليك والتوسل بهم معتبر هنا أيضا، والنفحة بالحاء المهملة هبوب الريح وريح المسك وهي مستعارة للعطية والرحمة وفي طريق العامة: «ان لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» والكريمة والشريفة النفيسة الطيبة الخالصة عن النقص.

(وفتحا يسيرا) لأبواب الرزق بلا تعب ولا مشقة. (ورزقا واسعا) يغنيني عن الخلق ويقوم بحوائجي كلها كما وصفه للكشف بقوله: (ألم به شعثي) لمه جمعه والشعث محركة انتشار الأمر وتفرقه.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن أبان، عن أبي سعيد المكاري وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الدعاء: «يا رازق المقلين، يا راحم المساكين، يا ولي المؤمنين، يا ذا القوة المتين صل على محمد وأهل بيته وارزقني وعافني واكفني ما أهمني».

* الشرح:

قوله: (يا رازق المقلين) الإقلال قلة الجدة ورجل مقل وأقل فقير وفيه بقية. (يا راحم المساكين) رحمته عامة وتعلقها بالمسكين أقرب لأن احتياجه إليها أولى.

(يا ولي المؤمنين) الولي الناصر والمحب والمتولي لأمور غيره وهو سبحانه وان كان متوليا لأمور الخلائق كلهم إلا أن توليه لأمور المؤمنين أكمل.

(ويا ذا القوة المتين) المتين صفة للمضاف لا للمضاف إليه وفي النهاية هو سبحانه متين أي قوي شديد لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب والمتانة الشدة فهو من حيث انه بالغ القوة وتامها قوى ومن حيث أنه شديد القوة متين وإنما عطف هنا لتحقق شرط صحته وهو تحقق المناسبة والمغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه للإتحاد في المضاف والاختلاف في المضاف إليه فيهما بخلاف السوابق لإتحادهما فيها فتأمل.

ص:390

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: نظر أبو جعفر (عليه السلام) إلى رجل وهو يقول: «اللهم إني أسألك من رزقك الحلال»، فقال أبو جعفر (عليه السلام): سألت قوت النبيين قل: «اللهم إني أسألك رزقا واسعا طيبا من رزقك».

* الشرح:

قوله: (نظر أبو جعفر (عليه السلام) إلى رجل وهو يقول: «اللهم ارزقني من رزقك الحلال» فقال أبو جعفر (عليه السلام): سألت قوت النبيين) ومسلكه دقيق وسبيله ضيق.

(قل: «اللهم إني أسألك رزقا واسعا طيبا من رزقك») الحلال والطيب وان كانا متقاربين بل متساويين في اللغة إلا أن المستفاد من هذا الحديث وما بعده أن بينهما فرقا في عرف الأئمة (عليهم السلام) وكان الفرق هو أن الطيب ما هو طيب في ظاهر الشرع سواء كان طيبا في الواقع أم لا، والحلال هو حلال وطيب في الواقع لم تعرضه النجاسة والخيانة قطعا ولم تناوله أيدي المتغلبة أصلا في وقت من الأوقات ولا ريب في أنه قوت الأنبياء وأنه نادر جدا وطريقه ضيق والطالب له طالب لضيق معيشته وأما ما وقع في بعض الأدعية من طلبه فالمراد به ما هو بمعنى الطيب.

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال:

قلت للرضا (عليه السلام): جعلت فداك ادع الله عزوجل أن يرزقني الحلال فقال: أتدري ما الحلال؟ قلت:

الذي عندنا الكسب الطيب، فقال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: الحلال هو قوت المصطفين، ثم قال: قل: «أسألك من رزقك الواسع».

* الأصل:

10 - عنه، عن بعض أصحابه، عن مفضل بن مزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قل: «اللهم أوسع علي في رزقي وامدد لي في عمري واجعل لي ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري».

* الشرح:

قوله: (وامدد لي في عمري) زيادة عمر المؤمن عطية يتدارك بها ما فات ويقدم بها على ما هو آت ولا ينافي طلبها ما روي أن المؤمن يحب الموت وإن «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» لأنه غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار فان المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان وكرامة من الله تعالى فليس شيء أحب إليه من الموت ومما أمامه فأحب الموت وأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه والكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله تعالى فليس

ص:391

شيء أكره إليه من الموت ومما أمامه وكره الموت وكره لقاء الله وكره الله لقاءه.

(واجعلني ممن تنتصر به لدينك) أي اجعلني ممن تنتقم به من الأعداء لإظهار دينك بالتوفيق والأمر والنهي والجهاد مع إمام هاد ولو بالرجعة عند ظهور الصاحب (عليه السلام).

(ولا تستبدل بي غيري) أي لا تهلكني بالتولي من طاعتك والمخالفة بمعصيتك ولا تأت من يطيعك بدلا مني وان كنت مستحقا لذلك ولا تجعلني مصداقا لقولك: (وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

* الأصل:

11 - عنه، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) دعاء في الرزق: «يا الله يا الله يا الله أسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي على محمد وآل محمد وأن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك وأن تبسط علي ما حضرت من رزقك».

* الشرح:

قوله: (يا الله يا الله يا الله) كرر الجلالة لأن من شأن المستصرخين تكرير اسم الصريخ للإشعار بشدة النازلة وقوة الحاجة إلى الإغاثة والإعانة.

(أسألك بحق من حقه عليك عظيم) وهو النبي والولي صلوات الله وسلامه عليهما لأنهما مظهر وجوده وصفاته وكماله ولو لم يكونا لم يعرفه أحد بل لم يكن في الوجود إلا هو.

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد العطار، عن يونس بن يعقوب، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد استبطأنا الرزق فغضب ثم قال: قل:

«اللهم إنك تكفلت برزقي ورزق كل دابة فيا خير من دعي ويا خير من سئل ويا خير من أعطى ويا أفضل مرتجى افعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنا قد استبطأنا الرزق - آه) مر هذا الحديث في الثاني من هذا الباب باسناد آخر عن يونس عن أبي بصير مع تغيير يسير.

* الأصل:

13 - أبو بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك حسن المعيشة معيشة أتقوى بها على جميع حوائجي وأتوصل بها في الحياة إلى

ص:392

آخرتي من غير أن تترفني فيها فأطغى أو تقتر بها علي فأشقى، أوسع علي من حلال رزقك وأفض علي من سيب فضلك، نعمة منك سابغة وعطاء غير ممنون، ثم لا تشغلني عن شكر نعمتك بإكثار منها تلهيني بهجته وتفتني زهرات زهوته ولا بإقلال علي منها يقصر بعملي كده ويملأ صدري همه، أعطني من ذلك يا إلهي غنى عن شرار خلقك وبلاغا أنال به رضوانك وأعوذ بك يا إلهي من شر الدنيا وشر ما فيها، لا تجعل الدنيا علي سجنا ولا فراقها علي حزنا، أخرجني من فتنتها مرضيا عني، مقبولا فيها عملي إلى دار الحيوان ومساكن الأخيار وأبدلني بالدنيا الفانية نعيم الدار الباقية، اللهم إني أعوذ بك من أزلها وزلزالها وسطوات شياطينها وسلاطينها ونكالها ومن بغي من بغى علي فيها، اللهم من كادني فكده ومن أرادني فأرده وفل عني حد من نصب لي حده واطف عني نار من شب لي وقوده واكفني مكر المكرة وافقأ عني عيون الكفرة واكفني هم من أدخل علي همه وادفع عني شر الحسدة واعصمني من ذلك بالسكينة وألبسني درعك الحصينة وأخبأني في سترك الواقي وأصلح لي حالي وصدق قولي بفعالي وبارك لي في أهلي ومالي».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك حسن المعيشة) المعيشة الحسنة هي الكفاف فهو ما يكفي في الحوائج الضرورية ولا يزيد عنه زيادة توجب الاغترار والعصيان وتورث الافتخار والطغيان كما أشار إليها بقوله:

(معيشة أتقوى بها على جميع حوائجي) بدل عما تقدم، والجمع المضاف يفيد العموم، وفي ذكر الجميع مبالغة فيه.

(وأتوصل بها في الحياة إلى آخرتي) طلب ما زاد عن حوائج الدنيا ليصرفه في وجوه البر تحصيلا لثواب الآخرة ثم نفي الزيادة السابغة وأشار إلى أن المطلوب هو التوسط بين الزيادة الموجبة للطغيان والقلة المقتضية للشقاوة والحرمان بقوله:

(من غير أن تترفني فيها فأطغى أو تقتر بها علي فأشقى) الترفة بالضم النعمة والطعام الطيب وأترفته وترفته تتريفا أنعمته والمترف بضم الميم وفتح الراء المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، والشقاء بالقصر والمد الشدة والعسر وفعله كرضى ولما كانت المعيشة وهي ما يعاش به صادقة على الحرام أيضا احترز عنه بقوله:

(أوسع علي من حلال رزقك) تخصيصا لها بالفرد الحلال ولا دلالة فيه على أن الحرام من

ص:393

رزق الله لأن الظاهر أن الإضافة بيانية.

(وأفض علي من سيب فضلك نعمة منك سابغة) الإفاضة صب الماء وإفراغه، والسيب العطاء ومصدر ساب الماء إذا جرى، والفضل الجود والإضافة من باب جرد قطيفة ومن للابتداء أو التعليل وتشبيه النعمة بالمطر مكنية والإفاضة تخييلية وسيب الفضل ترشيح يعني أفرغ على من فضلك الجاري على الخلق نعمة كاملة وافية للدنيا والآخرة.

(عطاء غير ممنون) أي غير محسوب ولا مقطوع كذا في القاموس أو غير ممنون على يمن به أحد من خلقك. (ثم لا تشغلني) الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ وفعله كمنع واشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة كذا في القاموس.

(عن شكر نعمتك) هذه وغيرها ويندرج في الشكر عليها الإتيان بطاعاته والاجتناب عن منهياته. (بإكثار منها) الباء للسببية وأشار بذلك إلى أن مطلوبه هو الكفاف لا زائد عليه. (تلهيني بهجته) اللهو اللعب والإعجاب وحب الباطل والغفلة عن الحق وألهاه بعثه على اللهو وأوقعه فيه، والبهجة الحسن والنضارة والفرح والسرور والإضافة إلى السبب، والضمير للإكثار والجملة صفة له.

(ولا تفتني) فتنه وأفتنه أوقعه في الفتنة والضلال عن الحق والخروج عن الطاعة.

(زهرات زهوته) الزهرة وتحرك النبات ونوره أو الأصفر منه ومن الدنيا متاعها وحسنها وبهجتها ونضارتها وزينتها والزهوة الكبر والفخر والخيلاء والضمير للإكثار والإضافة الثانية مثل السابقة الاولى بالعكس.

(ولا بإقلال علي منها) عطف على قوله بإكثار و «لا» زائدة للتأكيد أي لا تشغلني عن شكر نعمتك بإقلال منها. (يقصر بعملي كده ويملأ صدري همه) الضمير المجرور في الموضعين راجع إلى الإقلال والكد المشقة والشدة والإلحاح في الطلب والهم الحزن وهمه الأمر هما وأهمه حزنه فهو مهموم أي محزون والمستتر في يقصر راجع إلى الإقلال وقد طلب الكفاف من غير زيادة ونقصان في هذا القول وهو: «لا تشغلني اه» للتحرز عن الحزن وترك حقوق الله وفي القول السابق وهو: «من غير أن تترفني اه» للتحرز عن الضيق والشدة وترك حقوق الناس بالطغيان والتكبر ونحوهما فلا تكرار.

(أعطني من ذلك يا إلهي غنى عن شرار خلقك) ذلك إشارة إلى حلال رزقك أو سيب فضلك وشرار جمع شرير كفصال جمع فصيل وإنما طلب الغنى عن الشرار لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض في أمر المبدأ والمعاد والمعاش وليس لأحد منهم غنى عن الآخر بالكلية فغاية المرام طلب الغنى عن اللئام والشرار دون الكرام والأخيار.

ص:394

(وبلاغا أنال به رضوانك) نيل الرضوان بالطاعة والطاعة بالقدرة والقدرة بالبلاغ وهو قدر ما يكفي في التعيش والبقاء من غير زيادة ونقصان ولذلك طلبه لتحصيل الغايات المذكورة. (وأعوذ بك يا إلهي من شر الدنيا وما فيها) العطف للتفسير أو المراد بشر الدنيا شر متاعها وزينتها الخادعة أو شر النوازل والنوائب الكاسرة. وبشر ما فيها شر الخلائق الفاسقة. (لا تجعل الدنيا علي سجنا) بضنك العيش وتواتر النوائب والبلايا.

(ولا فراقها علي حزنا) بالميل إليها والحب لها وكثرة النعماء وإنما فصل لأنه تأكيد للسابق وهو ما طلبه من الكفاف محترزا من الإكثار وإقلال. (أخرجني من فتنتها) هي كل ما يشغل القلب عن ذكر الله. (مرضيا عني مقبولا فيها عملي) حالان عن المفعول.

(إلى دار الحيوان) في بعض النسخ «دار الخلود» (ومساكن الأخيار) هي الجنة أو أعلى درجاتها وإنما فصله عما مر لأنه تأكيد لقوله «أعوذ بك».

(وأبدلني بالدنيا الفانية نعيم الدار الباقية) في القاموس بدل الشيء محركة الخلف منه وأبدله منه أي اتخذه بدلا منه وعلى هذا فقوله أبدلني من باب الحذف والإيصال أي أبدل لي والباء بمعنى من والحروف الجارة قد يقع بعض منها في موضع آخر والمطلوب هو التوفيق لرفض زوائد الدنيا والعمل بما يوجب نعيم الآخرة.

(اللهم إني أعوذ بك من أزلها وزلزالها) الأزل بالفتح والسكون الضيق والشدة وبالكسر والسكون الكذب والداهية والزلزال التحريك زلزله زلزلة وزلزالا مثلثة: حركه والزلزال البلايا كذا في القاموس. (وسطوات شياطينها وسلاطينها ونكالها) السطو والسطوة: الصولة والقهر والبطش.

والنكال بالفتح العقوبة التي تنكل الناس أي تنحيهم وتمنعهم عن فعل ما جعلت له جزاء.

(من بغي من بغى علي فيها) بغى عليه بغيا علا وظلم وعدل عن الحق وإستطال وكذب.

(اللهم من كادني فكده) الكيد المكر والخبث والخدعة والحيلة والمراد بكيده تعالى الجزاء من باب المشاكلة.

(ومن أرادني فأرده) أي من أرادني بالسوء فأرده بالدفع أو بإيصاله إليه والجزاء له على نحو ما مر. (وفل عني حد من نصب لي حده) الفل بفتح الفاء الكسر والثلم وفعله كمد. والحد الحدة والسورة. (وأطف عني نار من شب لي وقوده) الإطفاء الإذهاب، أطفأت النار أذهبت لهبها.

والشب الإيقاد شب النار أوقدها فتلألأ ضياء ونورا والوقود بالفتح الحطب والنار ولهبها وبالضم إيقادها أو الضمير للموصول والنار استعارة لما له من الصفات الذميمة المهلكة كالحقد والحسد والعداوة والغيظ والغضب والمقاتلة.

ص:395

(واكفني مكر المكرة) طلب كفايته تعالى من مكرهم إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إليه. (وافقأ عني عيون الكفرة) فقأ العين كمنع قلعها طلب منه تعالى صرف عيونهم عنه أو إذلالهم على سبيل الكناية. (واكفني هم من أدخل علي همه) الهم القصد وفي على دلالة على الضرر والمطلوب صرف قصده وإرادته عنه واحتمال إرادة الحزن والغم من الهم وجعل إضافته إلى ضمير الموصول لأدنى ملابسة بعيد. (وادفع عني شر الحسدة) الحاسد من يتمنى زوال النعمة عن الغير بالوصول إليه أو مطلقا وهو بتلك الخصلة الذميمة يتفكر في كيفية الإزالة ويتدبر في كل سبب من أسبابها ويتوسل بكل شيء من كل وجه وينبعث من ذلك شرور غير محصورة توجب خراب الديار والأعمار والأموال من غير أن يكون للمحسود شعور بذلك فالإلتجاء إليه تعالى لدفع شره من أهم الامور وأولاها.

(واعصمني من ذلك بالسكينة) أي بما يسكن قلبي من شره ولعل المقصود بالفقرة الاولى سلب إرادة الحاسد عن إيصال المكروه إليه، وبالفقرة الثانية إعطاء المحسود ما يسكن قلبه ويأمن من وصول شر الحاسد إليه. (وألبسني درعك الحصينة) وهي حفظه المانع من وصول الشر إليه وتأثيره فيه من باب الاستعارة.

(وأحيني في سترك الواقي) من الشرور والمكاره، الستر بالكسر هو الساتر، وبالفتح المصدر والأول أنسب، وفي الاحياء إشارة إلى أن الشرور قاتلة مهلكة وفي بعض النسخ «وأخبأني» وهو أمر من خبأه كمنعه إذا ستره.

(وأصلح لي حالي) بيني وبينك وبيني وبين خلقك، وفي هذه العبارة الوجيزة طلب للخيرات الدنيوية والاخروية كلها.

(وصدق قولي) طلب الموافقة بين القول الصادق والفعل إذ الأول بدون الثاني مذموم كما قال عزوجل: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) وقال: (لم تقولون ما لا تفعلون).

(وبارك لي في أهلي ومالي) أي زدهما من البركة وهي النمو والزيادة أي أثبتهما وأدمهما لي، من برك البعير إذا أناخ في موضع ولزمه.

ص:396

باب الدعاء للدين

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل بن دراج، عن وليد بن صبيح، قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) دينا لي على أناس، فقال:

قل: «اللهم لحظة من لحظاتك تيسر على غرمائي بها القضاء وتيسر لي بها الاقتضاء إنك على كل شيء قدير».

* الشرح:

قوله: (قل: اللهم لحظة من لحظاتك) أي ألحظ لحظة أو أسألك لحظة وهي النظر بشق العين الذي يلي الصدغ والمراد هنا نظر الرحمة والتوفيق.

* الأصل:

2 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) رجل فقال: يا نبي الله الغالب علي الدين ووسوسة الصدر، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) قل: «توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا». قال : فصبر الرجل ما شاء الله، ثم مر على النبي فهتف به فقال: ما صنعت؟ فقال: أدمنت ما قلت لي يا رسول الله فقضى الله ديني وأذهب وسوسة صدري.

* الشرح:

قوله: (قل: توكلت على الحي الذي لا يموت) هذا الدعاء كما له مدخل في قضاء الدين له مدخل أيضا في قضاء جميع المهمات إذ الوكيل المطلق العالم القادر بفعل جميع ما فيه سلاح الموكل ورضاه وقد مر شرحه.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله قد لقيت شدة من وسوسة الصدر وأنا رجل مدين معيل محوج فقال: كرر هذه الكلمات: «توكلت على الحي

ص:397

الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا». فلم يلبث أن جاءه فقال: أذهب الله عني وسوسة صدري وقضى عني ديني ووسع علي رزقي.

* الشرح:

قوله: (وأنا رجل مدين معيل محوج) الدين ما له أجل وما لا أجل له فقرض، والمدين بالفتح من عليه الدين وبالضم من يأخذه من أدان إذا أخذ دينا، والمعيل بالضم من كثر عياله من أعول فلان إذا كثر عياله، والمحوج بضم الميم وكسر الواو المحتاج من الحوج وهو الاحتياج، يقال أحوج فلان إذا احتاج.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن موسى بن بكر، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) كان كتبه لي في قرطاس: «اللهم أردد إلى جميع خلقك مظالمهم التي قبلي، صغيرها وكبيرها في يسر منك وعافية وما لم تبلغه قوتي ولم تسعه ذات يدي ولم يقو عليه بدني ويقيني ونفسي فأده عني من جزيل ما عندك من فضلك ثم لا تخلف علي منه شيئا تقتصه من حسناتي، يا أرحم الراحمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن الدين كما شرع وأن الإسلام كما وصف وأن الكتاب كما انزل وأن القول كما حدث وأن الله هو الحق المبين، ذكر الله محمدا وأهل بيته بخير، وحيا محمدا وأهل بيته بالسلام».

* الشرح:

قوله: (اللهم أردد إلى جميع خلقك مظالمهم التي قبلي صغيرها وكبيرها في يسر منك وعافية) المظلمة بفتح الميم وكسر اللام ما لا حد على غيره من الحقوق المالية والبدنية، و «في» للظرفية المجازية أو بمعنى مع، والتعليل محتمل لأن اليسر والعافية علة غائية للرد، ثم الظاهر من طلب رده تعالى المظلمة إلى المظلوم أن يرضيه من قبله مع احتمال أن يراد به طلب التوفيق لردها فيما يمكنه وبما بعده مما لا يمكنه التدارك طلب الإرضاء وهو قوله:

(وما لم تبلغه قوتي) لضعفها أو لقوة المظلوم. (ولم تسعه ذات يدي) المراد بالذات هنا النفس كما قيل في قولهم: ذات ليلة، والإضافة بيانية أو المراد بها الأحوال كما فسرت بها في قولهم:

ذات بينكم، أو المراد بها هنا الأموال والإضافة بتقدير في أو لامية.

(ولم يقو عليه بدني) لما فيه من الضعف المانع من تحمل مثل الجناية على المظلوم.

ص:398

(ويقيني ونفسي) لما فيهما من الضعف المانع من تسليم البدن إلى المظلوم. (فأده عني من جزيل ما عندك من فضلك) خبر لما والضمير له والفاء لكونه متضمنا لمعنى الشرط و «من فضلك» بيان لما عندك أو بدل لقوله: «من جزيل ما عندك».

(ثم لا تخلف علي منه شيئا يقتصه من حسناتي) يوم الجزاء وقد ثبت ان حسنات الظالم تضاف إلى حسنات المظلوم فان وفى وإلا فتضاف سيئات المظلوم إلى سيئات الظالم وفي بعض النسخ تقتضه بالضاد المعجمة. (وأن الدين كما شرع) شرع لهم كمنع سن والدين والشريعة والشرع ما سن لهم الرسول بأمر الله تعالى وفرض عليهم الأخذ به، ولفظة «ما» في كما موصولة، والمقصود أن دينه تعالى وهو ما جاء به الوحي مماثل لما سنه النبي (صلى الله عليه وآله) من غير زيادة ونقصان، وليس القصد فيه التشبيه الدال على المغايرة وقس عليه ما بعده. (وذكر الله محمدا وأهل بيته بخير) الظاهر أنه بحسب المعنى أمر عدل عنه إلى الخبر للتنبيه على وقوعه.

ص:399

باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي إسماعيل السراج، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة قال: قال محمد بن علي (عليهما السلام): يا أبا حمزة ما لك إذا أتى بك أمر تخافه أن لا تتوجه إلى بعض زوايا بيتك يعني القبلة فتصلي ركعتين ثم تقول:

«يا أبصر الناظرين ويا أسمع السامعين ويا أسرع الحاسبين ويا أرحم الراحمين» - سبعين مرة - كلما دعوت بهذه الكلمات [مرة] سألت حاجة.

* الشرح:

قوله: (يا أبصر الناظرين ويا أسمع السامعين - اه) إطلاق الناظر والسامع والحاسب والراحم عليه وعلى غيره إنما هو من باب الاشتراك في اللفظ دون المعنى إذ لا شركة بينه وغيره في المعنى أصلا، فان البصر والسمع فيه مثلا عبارة عن عدم خفاء المبصرات والمسموعات الجلية والخفية عن ذاته وفي غيره عبارة عن حضورهما عند آلاته.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن ثابت، عن أسماء قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصابه هم أو غم أو كرب أو بلاء أو لأواء فليقل: «الله ربي ولا اشرك به شيئا، توكلت على الحي الذي لا يموت».

* الشرح:

قوله: (من أصابه هم أو غم أو كرب أو بلاء أو لأواء فليقل - اه) البلاء الشر والفتنة في النفس والولد والمال وغيرها واللأواء الشدة والمحنة والثلاثة الأول الحزن وهي متحدة ويمكن الفرق بأن المراد بالغم الحزن بسبب معلوم أو لأمور الدنيا أو لفوات مرغوب والهم الحزن لا لسبب معلوم أو لامور الآخرة أو لنزول مكروه، والمراد بالكرب بالفتح والكربة بالضم - الحزن الذي يأخذ النفس لشدته.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:400

إذا نزلت برجل نازلة أو شديدة أو كربه أمر فليكشف عن ركبتيه وذراعيه وليلصقهما بالأرض وليلزق جؤجؤه بالأرض ثم ليدع بحاجته وهو ساجد.

* الشرح:

قوله: (وليلزق جؤجؤه إلى الأرض) الجؤجؤ كهدهد الصدر والجمع الجواجي.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن الحسن بن عمار الدهان عن مسمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما طرح إخوة يوسف يوسف في الجب أتاه جبرئيل (عليه السلام) فدخل عليه فقال:

يا غلام ما تصنع ههنا؟ فقال: إن إخوتي ألقوني في الجب قال: فتحب أن تخرج منه؟ قال: ذاك إلى الله عزوجل، إن شاء أخرجني، قال: فقال له: إن الله تعالى يقول لك: ادعني بهذا الدعاء حتى اخرجك من الجب فقال له: وما الدعاء؟ فقال: قل: «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا». قال: ثم كان من قصته ما ذكر الله في كتابه.

* الشرح:

قوله: (لما طرح اخوة يوسف يوسف في الجب) الجب بالضم البئر أو الكثيرة الماء البعيدة القعر (فقال: قل: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي مما أنا فيه) من الشدة والضيق والغم (فرجا ومخرجا) دل على أن الداعي ينبغي أن يضم إلى المطلوب الصلاة على النبي وآله صلوات الله عليهم وأن يقدم عليه تحميده تعالى وتمجيده والثناء عليه لأنه أدخل في حصول المطلوب، وقوله «لك الحمد» إشارة إلى أن جميع المحامد له لإختصاص جميع أفراد الحمد به. والمنان من أبنية المبالغة ومعناه المنعم المعطي مطلقا من غير رعاية استحقاق. من المن بمعنى العطاء لا من المنة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن أبي إسماعيل السراج، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) إن الذي دعا به أبو عبد الله (عليه السلام) على داود بن علي حين قتل المعلى بن خنيس وأخذ مال أبي عبد الله (عليه السلام): «اللهم إني أسألك بنورك الذي لا يطفي وبعزائمك التي لا تخفى وبعزك الذي لا ينقضي وبنعمتك التي لا تحصى وبسلطانك الذي كففت

ص:401

به فرعون عن موسى (عليه السلام)».

* الشرح:

قوله: (ان الذي دعا به أبو عبد الله (عليه السلام) على داود بن علي حين قتل المعلى بن خنيس) ذكرنا حكايته في باب الدعاء على العدو. (اللهم إني أسألك بنورك الذي لا يطفى - إلى آخره) أي لا يذهب من طفئت النار بالهمزة كسمع إذا ذهب لهبها لعل المراد بالنور الرسول أو علمه تعالى أو قدرته من باب الاستعارة والترشيح. (وبعزائمك التي لا تخفى) العزيمة القدرة والقوة كما في النهاية وقد يطلق أيضا على الجد في الأمر والثبات فيه وعلى الحقوق الواجبة. (وبعزك الذي لا ينقضي) العز والعزة: الشدة والغلبة والعزيز من أسمائه تعالى وهو الغالب القوى الذي لا يغلب.

(وبنعمتك التي لا تحصى) كما قال عز وجل: (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها). (وبسلطانك الذي كففت به فرعون عن موسى) السلطان قدرة الملك والحجة وإنما ذكر الثناء والتحميد على الله تعالى دون المطلوب وهو الدعاء على داود لأن المقصود هنا بيان ما ينبغي تقديمه على المطلوب.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الهم قال: تغتسل وتصلي ركعتين وتقول: «يا فارج الهم يا كاشف الغم يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما فرج همي واكشف غمي يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أعصمني وطهرني وأذهب ببليتي» واقرأ آية الكرسي والمعوذتين.

* الشرح:

قوله: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) قيل: هما إسمان بنيا للمبالغة من رحم والأول أبلغ من الثاني; لأن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني، وتلك الزيادة إما باعتبار الكمية ولذلك يقال رحمن الدنيا لأنه يعم الأبرار والفجار، ورحيم الآخرة لأنه يخص الأبرار، وكذلك يقال: رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الاخروية كلها جسام في ذاتها وبالنسبة إلى النعم الدنيوية، أقول: ويشكل هذا بمثل رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إلا أن يخص الثاني بما ليس جليلا فيهما أو بما سوى الكفار أو يقال اطلقا على معنى واحد.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا خفت أمرا فقل: «اللهم إنك لا يكفي منك أحد وأنت تكفي من كل أحد من

ص:402

خلقك فاكفني كذا وكذا.

وفي حديث آخر قال: تقول: «يا كافيا من كل شيء ولا يكفي منك شيء في السماوات والأرض، اكفني ما أهمني من أمر الدنيا والآخرة وصلى الله على محمد وآله» وقال أبو عبد الله (عليه السلام): من دخل على سلطان يهابه فليقل: «بالله أستفتح وبالله أستنجح وبمحمد (صلى الله عليه وآله) أتوجه، اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لي حزونته فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك ام الكتاب». وتقول أيضا «حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وأمتنع بحول الله وقوته من حولهم وقوتهم وأمتنع برب الفلق من شر ما خلق ولا حول ولا قوة إلا بالله».

* الشرح:

قوله: (اللهم إنك لا يكفي منك أحد وأنت تكفي من كل أحد من خلقك) قوله «من خلقك» بيان لكل أحد أو بدل من كل أحد، والظاهر أن من فيه وفي منك للبدل كما في قوله تعالى:

(أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) وفي الكنز كفاية بس بودن والمعنى لا يكفي ولا يحسب أحد بدلا منك وتكفي أنت وتحسب بدلا من كل أحد. وفيه إشعار بالانقطاع عن الغير والإلتجاء إليه عزوجل في رفع المكاره وطلب المنافع.

قوله: (تقول: يا كافيا من كل شيء) في القاموس كافيك من رجل حسبك ونصب المنادي لكونه شبه مضاف.

قوله: (بالله أستفتح وبالله أستنجح) الإستفتاح الإستنصار ومنه قوله تعالى: (ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) والإستنجاح طلب نجح الحاجة أي الظفر بها والوصول إليها عجالة تقول فلان إستنجح الحاجة فأنجحها الله أي طلب الظفر بها وتنجزها فأظفره الله بها. (وبمحمد (صلى الله عليه وآله) أتوجه) أي بهم أتوجه إليك واقدمهم بين يدي الحاجات. (اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لي حزونته) الصعوبة العسر. والحزونة الغلظة ولعل المراد بالاولى العقوبة والبطش وبالثانية الغلظة في القول والخشونة في الطبع وبتذليل الاولى وتسهيل الثانية رفعهما أو تبديلهما باليسر واللطف. (تمحو ما تشاء وتثبت وعندك ام الكتاب) وهو اللوح المحفوظ المكتوب فيه كل ما هو كائن من المحتوم وغيره مما يمحى ويثبت على وفق الحكمة والمصلحة وفيه إشارة إلى مضمون الآية الكريمة، وتوقع بأن تبدل أسباب الخوف والشرور بأسباب الأمن والسرور. (وتقول أيضا: حسبي الله) في جلب المنافع والمقاصد ودفع المكاره والمفاسد. (لا إله إلا هو) أشار بالتوحيد المطلق إلى أنه لا رب سواه ولا ملجأ إلا إياه وفيه استعطاف في تحصيل المطالب.

ص:403

(عليه توكلت) تقديم الظرف للحصر والدلالة على تفويض الامور إليه والانقطاع عن غيره (وهو رب العرش العظيم) هو الفلك الأعظم المطاف للملائكة أو علمه بجميع الأشياء من باب التشبيه لإستقرارها فيه. (وأمتنع بحول الله وقوته من حولهم وقوتهم) الامتناع الكف عن الشيء والممتنع القوي الذي يمنع من يريده بسوء وفي الكنز امتناع وايستادن وقوى گشتن، والحول القوة والعطف للتفسير أو الدفع كما قيل فيما روي «اللهم بك أصول وبك أحول». (وأمتنع برب الفلق من شر ما خلق) قيل الفلق الصبح وتخصيصه للتنبيه على أن من قدر أن يزيل عن هذا العالم ظلمة الليل بعمود الصبح قدر أن يزيل العائذ ما يخافه بضده.

* الأصل:

8 - عنه، عن عدة من أصحابنا، رفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان من دعاء أبي (عليه السلام) في الأمر يحدث: «اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لي وارحمني وزك عملي ويسر منقلبي واهد [ء] قلبي وآمن خوفي وعافني في عمري كله وثبت حجتي واغفر خطاياي وبيض وجهي واعصمني في ديني وسهل مطلبي ووسع علي في رزقي فإني ضعيف وتجاوز عن سيىء ما عندي بحسن ما عندك ولا تفجعني بنفسي ولا تفجع لي حميما وهب لي يا إلهي لحظة من لحظاتك، تكشف بها عني جميع ما به إبتليتني وترد بها علي ما هو أحسن عاداتك عندي، فقد ضعفت قوتي وقلت حيلتي وانقطع من خلقك رجائي ولم يبق إلا رجاؤك وتوكلي عليك وقدرتك علي يا رب إن ترحمني وتعافني كقدرتك علي إن تعذبني وتبتلني، إلهي ذكر عوائدك يؤنسني والرجاء لإنعامك يقويني ولم أخل من نعمك منذ خلقتني وأنت ربي وسيدي ومفزعي وملجئي والحافظ لي والذاب عني والرحيم بي والمتكفل برزقي وفي قضائك وقدرتك كل ما أنا فيه فليكن يا سيدي ومولاي فيما قضيت وقدرت وحتمت تعجيل خلاصي مما أنا فيه جميعه والعافية لي فإني لا أجد لدفع ذلك أحدا غيرك ولا أعتمد فيه إلا عليك، فكن يا ذا الجلال [والإكرام] عند أحسن ظني بك ورجائي لك وارحم تضرعي وإستكانتي وضعف ركني وامنن بذلك علي وعلى كل داع دعاك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله».

* الشرح:

قوله: (كان من دعاء أبي عبد الله (عليه السلام) في الأمر يحدث) من الهم والكرب والشدة والنازلة وغير ذلك، وفي لفظة «من» اشعار بأنه كان له (عليه السلام) أدعية وأن هذا من جملتها.

(اللهم صل على محمد وآل محمد) افتتح بالصلاة وإختتم بها لأن الدعاء المحفوف بها لا يرد

ص:404

(واغفر لي) ما كان لي من الزلات.

(وارحمني) بترك معاصيك فيما بقي من الحياة (وزك عملي) من النقائص والمفسدات (ويسر منقلبي) في سبل الطاعات (وآمن خوفي) من المخلوقات (وعافني في عمري) كله من البليات (وثبت حجتي) هي الدليل والبرهان، والمراد بها هنا الأعمال الصالحة والأقوال الصادقة والإيمان يعني ثبتها في الدنيا وعند جواب الملكين في القبر وعند الحساب والميزان.

(واغسل خطاياي) بالعفو والغفران، وفي بعض النسخ «واغفر» وفي الأصل استعارة تبعية بتشبيه الإزالة بالغسل واستعارة الفعل بتبعيته.

(وبيض وجهي) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، قيل: بياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الحزن فيه، وقيل: يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصفحة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه ويمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك (واعصمني في ديني) من الخطاء والزلل في العقل والقول والعمل.

(وسهل مطلبي) في أمر الدين والدنيا (ووسع علي في رزقي) طلب الكفاف أو أزيد من طرق الحلال ويندرج فيه رزق العيال.

(فإني ضعيف) أي فقير أو غير قادر على تحصيله وإكتسابه (وتجاوز عن سيىء ما عندي بحسن ما عندك) طلب التجاوز عن السيئات وتبديلها بالحسنات والله سبحانه يبدلها تفضلا لمن يشاء والسيىء أصله سيوء بفتح السين وسكون الياء وكسر الواو فقلبت الواو ياء وادغمت (ولا تفجعني بنفسي ولا تفجع لي حميما) الحميم كأمير القريب وقد يكون للجمع والمؤنث والفجيعة الرزية الموجعة والمصيبة المؤلمة وقد فجعه المصيبة كمنعه أوجعته كفجعته تفجيعا (وهب لي يا إلهي لحظة من لحظاتك) اللحظة النظر بشق العين مما يلي الصدغ من باب الرفق وهي كناية عن اللطف والرحمة.

(تكشف بها) أي تزيل بتلك اللحظة وترفع (عني جميع ما به إبتليتني) من النوازل والنوائب، و «به» متعلق بالفعل المتأخر (وترد بها علي) بتشديد الياء.

(ما هو أحسن عاداتك عندي) وهو الإحسان والإنعام والسلامة من البلية وهي أحسن عاداته، وفي التفضيل دلالة على أن ضدها أيضا حسن (فقد ضعفت قوتي) عن تحمل ما ورد علي من المكاره والنوازل (وقلت حيلتي) أي قوتي أو تدبيري وتفكري في تحصيل ما يرفع تلك المكاره عني فلم يبق إلا صرف الرجاء إلى أحد يرفعها.

(وانقطع من خلقك رجائي) لعجزهم عن صرف ما أوردته علي ووجهته إلي ولعلمي بأن

ص:405

الرجوع إليهم نقص في الدين وضعف في اليقين (ولم يبق إلا رجاؤك وتوكلي عليك) في رفع النوائب وعن تحصيل المطالب (وقدرتك علي يا رب) الواو للحال وفي ذكر الرب استعطاف لأن التربية تقتضي توقع رفع المضار وجلب المنافع منه تعالى (ان ترحمني) أي على أن ترحمني بإفاضة الخيرات والمرغوبات وتعافيني من الآفات والمكروهات (كقدرتك على أن تعذبني) بمنع المرغوبات.

(وتبتليني) بالبليات فلا يعسر عليك التحويل ولا يصعب عليك التبديل. (إلهي ان ذكر عوائدك يؤنسني بك) والعوائد جمع العائدة وهي المعروفة والصلة والعطف والمنفعة.

(والرجاء لإنعامك يقويني) على السؤال منك إذ كان كل ذلك بلا استحقاق مني والغرض منه زيادة بسط الرجاء في نيل المقصود.

(ولم أخل من نعمك منذ خلقتني) الظاهر أن المراد بإبتداء خلقه ابتداؤه في العالم الجسماني وهو عند نزوله في الرحم مع احتمال ابتدائه في العالم النوراني وعلى التقديرين نعماؤه تعالى عليه غير محصورة (وأنت ربي وسيدي الفرق بينهما أنه تعالى رب من حيث التربية البالغة وسيد من حيث أنه مالك على الإطلاق فهما متخالفان في المفهوم متساويان في التحقق. هذا في الواجب وأما غيره فبينهما عموم من وجه.

(ومفزعي وملجئي) المفزع من يغيث غيره وينصره في الحوادث من فرغه كمنع وفرح إذا أغاثه ونصره والملجأ من يستند إليه غيره ويعتضد به في دفع المكاره. (والحافظ لي) الحفظ الحراسة، يقال: حفظ ماله إذا حرسه ورعاه من التلف والضياع ووصول يد التغلب إليه، وهو سبحانه حافظ لعبده ولولا حفظه لأهلكته النفس الأمارة وشياطين الجن والإنس (والذاب عني) مهام الحوادث والنوازل.

(والرحيم بي) بأنحاء العطايا والنوائل والمتكفل برزقي) فيه اعتراف بالنعم وشكر له وطلب للزيادة لأن الكريم إذا تكفل برزق أحد يؤتيه على وجه الكمال خصوصا بعد الطلب. (وفي قضائك وقدرتك كل ما أنا فيه) من الامور الحادثة، قال في النهاية: القضاء أصله القطع والفصل يقال قضى يقضي فهو قاض إذا حكم وفصل وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق، وقال الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وإتمامه وكلما أحكم عمله أو أتم أو ختم أو أدى أو أوجب أو أعلم أو أنفذ أو أمضى فقد قضى وقد جاءت هذه المعاني كلها في الحديث ومنه القضاء المقرون بالقدر والمراد بالقدر التقدير وبالقضاء الخلق

ص:406

كقوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) أي خلقهن والقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر; لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والثاني بمنزلة البناء وهو القضاء فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه. (فليكن يا سيدي ومولاي) المراد بالمولى هنا الرب أو السيد أو المالك أو المنعم أو الناصر.

(فكن يا ذا الجلال عند أحسن ظني بك ورجائي لك) لما بسط الرجاء وأحسن ظنه به في قبوله طلب منه تعالى أن يحقق رجاءه ويصدق ظنه ومعنى حسن ظن العبد به أن لا يتكل بعمله وان اجتهد بل يظن أنه تعالى يقبله بفضله فيظن بالغفران حين يستغفر وبالقبول حين يتوب ويعمل وبالكفاية حين يستكفي وبالإجابة حين يدعو ولا يتكل بالعمل ولا يغتر بجودته، وقد روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: قال الله تعالى: «لا يتكل العاملون على أعمالهم فانهم وان اجتهدوا فيها كانوا مقصرين غير بالغين كنه عبادتي ولكن برحمتي فليثقوا وبفضلي فليرجوا وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا فان رحمتي عند ذلك تدركهم فإني أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسميت» - نقلنا بعض مضمون الحديث -.

(وارحم تضرعي) في طلب الحاجات بقضائها. (وإستكانتي) أي ذلي وخضوعي يقال:

إستكان إذا ذل وخضع أي صار له كون خلاف كونه كما يقال: استحال إذا تغير من حال إلى حال إلا أن استحال عام في كل حال وإستكان خاص.

(وضعف ركني) أي قوتي أو جوارحي وأركان كل شيء جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها كأركان البيت أو عشيرتي وغيرهم ممن استند إليهم في أمري.

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن إسماعيل بن يسار، عن بعض من رواه قال: قال: إذا أحزنك أمر فقل في آخر سجودك: «يا جبرئيل يا محمد، يا جبرئيل يا محمد - تكرر ذلك - إكفياني ما أنا فيه فإنكما كافيان واحفظاني بإذن الله فإنكما حافظان».

* الشرح:

قوله: (إذا أحزنك أمر) أحزنه بالحاء المهملة والزاي المعجمة والنون جعله حزينا فهو محزون وبالباء الموحدة نابه وأصابه ويؤيد الأخير ما رواه مسلم في باب الدعاء وفسره العياض والمازري بأنه بالحاء المهملة والزاي المعجمة والباء الموحدة بمعنى نابه وأصابه.

(فقل في سجودك: يا جبرئيل يا محمد، يا جبرئيل يا محمد - تكرر ذلك -) التكرار ان كان عبارة

ص:407

عن ذكر الشيء مرة بعد اخرى كما هو المعروف فقد حصل بالمذكور فقوله: «تكرر ذلك» بمنزلة قوله: تقول ذلك مرتين وان كان عبارة عن إعادة مجموع الذكرين فلابد من إعادته ثانية والتكرار إلى انقطاع النفس أو إلى أي قدر شاء محتمل.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أعين، عن بشير بن سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: ما ابالي إذا قلت هذه الكلمات لو اجتمع علي الإنس والجن: «بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللهم إليك أسلمت نفسي وإليك وجهت وجهي وإليك ألجأت ظهري وإليك فوضت أمري، اللهم احفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي وما قبلي وادفع عني بحولك وقوتك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك».

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير مثله.

* الشرح:

قوله: (بسم الله) أتحصن وأستظهر (وبالله) أستعين وأقتدر (ومن الله) موتي وحياتي (وإلى الله) نصرتي ونجاتي (وفي سبيل الله) سكوني وحركاتي.

(وعلى ملة رسول الله) قيامي وثباتي. واعلم أن تقدير هذه الامور من باب الاحتمال وان وجدت ما هو أنسب فلك أن تقدره.

(اللهم إليك أسلمت نفسي ووجهت وجهي) الوجه كالنفس الذات والأولى أن يراد به القصد والعمل لأن الجمع بينهما يدل على المغايرة والغرض منه إظهار العجز في حفظها يعني لا قدرة لي في حفظها وتدبيرها وجلب النفع لها ودفع الضر عنها.

(وإليك ألجأت ظهري) أي إليك أسندت ظهري للتقوية وهذا كناية عن طلب القوة منه لأن من استند إلى شيء غرضه التقوى به.

(وإليك فوضت أمري) أي رددت أمري كله إليك لتتولى إصلاحه وتكفيني همه، يقال: فوض إليه الأمر تفويضا إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه والتقديم في جميع ذلك لقصد الحصر (اللهم احفظني بحفظ الإيمان) الظاهر أن إضافة الحفظ إلى الإيمان إضافة المصدر إلى المفعول وأن الباء للمصاحبة وأن المطلوب حفظ البدن عن المكاره وحفظ الإيمان عن النواقض وبحفظهما يتم نعمة الدنيا والآخرة ونظامهما.

ص:408

(من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي وما قبلي) مبالغة في حفظه من جميع الجهات التي يمكن ورود المكاره فيها من الخارج، وقوله: (ما قبلي) بكسر القاف وفتح الباء إشارة إلى الحفظ من المكاره والمفاسد النازلة من قبل النفس والقوى البدنية، والوجه في إتيان «من» في بعض المواضع و «عن» في بعضها ما ذكرناه سابقا.

* الأصل:

11 - عنه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال لي رجل: أي شيء قلت حين دخلت على أبي جعفر بالربذة؟ قال: قلت: «اللهم إنك تكفي من كل شيء ولا يكفي منك شيء فاكفني بما شئت وكيف شئت ومن حيث شئت وأنى شئت».

* الشرح:

قوله: (قال لي رجل أي شيء قلت حين دخلت على أبي جعفر بالربذة) هي بالتحريك قرية معروفة قرب المدينة بها قبر أبي ذر الغفاري.

* الأصل:

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن علي بن ميسر قال: لما قدم أبو عبد الله (عليه السلام) على أبي جعفر أقام أبو جعفر مولى له على رأسه وقال له: إذا دخل علي فاضرب عنقه، فلما دخل أبو عبد الله (عليه السلام) نظر إلى أبي جعفر وأسر شيئا فيما بينه وبين نفسه، لا يدري ما هو، ثم أظهر: «يامن يكفي خلقه كلهم ولا يكفيه أحد اكفني شر عبد الله بن علي» قال:

فصار أبو جعفر لا يبصر مولاه وصار مولاه لا يبصره، فقال أبو جعفر: يا جعفر بن محمد لقد عنيتك في هذا الحر فانصرف فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) من عنده فقال أبو جعفر لمولاه: ما منعك أن تفعل ما أمرتك به؟ فقال لا والله ما أبصرته ولقد جاء شيء فحال بيني وبينه، فقال له أبو جعفر:

والله لئن حدثت بهذا الحديث أحدا لأقتلنك.

* الشرح:

قوله: (فصار أبو جعفر لا يبصر مولاه وصار مولاه لا يبصره) الظاهر أن ضمير لا يبصره راجع إلى أبي جعفر المنصور وعوده إلى أبي عبد الله وان كان صحيحا لكنه بعيد جدا. (لقد عنيتك) عنا عناء: نصب وتعب وأعناه وعناه وتعناه تعنية أتعبه.

* الأصل:

13 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن أحمد بن أبي داود، عن عبد الله

ص:409

ابن عبد الرحمن، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ألا أعلمك دعاء تدعو به، إنا أهل البيت إذا كربنا أمر وتخوفنا من السلطان أمرا لا قبل لنا به ندعو به.

قلت: بلى بأبي أنت وامي يا بن رسول الله، قال: قل: «يا كائنا قبل كل شيء ويا مكون كل شيء ويا باقي بعد كل شيء صل على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (لا قبل لنا به) القبل بكسر القاف وفتح الباء الطاقة وفي القاموس: ما لي به قبل أي طاقة (قل يا كائنا قبل كل شيء) أشار بذلك إلى حدوث الممكنات كلها ردا على من زعم ثبوت قديم غيره عزوجل وإلى أنه تعالى قديم أزلي إذ لو كان حادثا لكان قبله شيء موجد له فلا يكون هو قبل كل شيء هذا خلف.

(ويا مكون كل شيء) إلا ما أخرجه النص، وفيه رد على من نسب تكوين السفليات وأكثر العلويات إلى غيره. (ويا باقي بعد كل شيء) دل على فناء الأشياء وبقائه بعدها وهو وارث كل شيء. ويمكن أن يكون إشارة إلى أنه الباقي نظرا إلى ذاته وأما الممكن فهو من حيث أنه ممكن يستوي وجوده وعدمه نظرا إلى ذاته فانه هالك كما قال عز وجل: «كل شيء فإن» و: (كل شيء هالك إلا وجهه) وقد صرح به بهمنيار في التحصيل وفيه حينئذ إشارة إلى أبديته. وكان في نهاية ابن الأثير أيضا إشارة إليها حيث قال: الباقي في أسمائه تعالى هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ينتهي إليه ويعبر عنه بأنه أبدي الوجود.

* الأصل:

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن مهزيار قال: كتب محمد بن حمزة الغنوي إلي يسألني أن أكتب إلى أبي جعفر (عليه السلام) في دعاء يعلمه يرجو به الفرج فكتب إلي: أما ما سأل محمد بن حمزة من تعليمه دعاء يرجو به الفرج فقل له: يلزم «يامن يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء اكفني ما أهمني مما أنا فيه» فإني أرجو أن يكفي ما هو فيه من الغم إن شاء الله تعالى. فأعلمته ذلك فما أتى عليه إلا قليل حتى خرج من الحبس.

* الشرح:

قوله: (يسألني أن أكتب إلى أبي جعفر (عليه السلام)) هو الجواد محمد بن علي (عليهما السلام) (فكتب إلي أما ما سأل) الظاهر أنه كتب إليه قبل أن يكتب علي بن مهزيار فهذا من العلامة. مما هو فيه ليس من تتمة

ص:410

الدعاء بل بيان للموصول، والظاهر أنه لو قال الداعي اكفني ما أهمني (مما أنا فيه) وجعله جزءا من الدعاء كان جائزا.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي حمزة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول لابنه: يا بني من أصابه منكم مصيبة أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليسبغ الوضوء ثم يصلي ركعتين أو أربع ركعات ثم يقول في آخرهن: «يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى وشاهد كل ملاء وعالم كل خفية ويا دافع ما يشاء من بلية ويا خليل إبراهيم ويا نجي موسى ويا مصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) أدعوك دعاء من إشتدت فاقته وقلت حيلته وضعفت قوته، دعاء الغريق الغريب المضطر الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين» فإنه لا يدعو به أحد إلا كشف الله عنه إن شاء الله.

* الشرح:

قوله: (يا بني من أصابه منكم مصيبة أو نزلت به نازلة) ان اريد بالمصيبة الحزن كما في الكنز وبالنازلة الشديدة كما في القاموس أو الأمر المكروه الذي ينزل بالإنسان كما في النهاية فالفرق واضح، وان اريد بهما الأمر المكروه فلا فرق إلا باعتبار المفهوم أو باعتبار أن يراد بأحديهما المكروه النازل من الخلق وبالأخرى المكروه النازل من الخالق أو بوجه آخر من الاعتبارات (أو أربع ركعات) يحتمل الوصل والفصل بتسليمة والثاني أولى لأنه الغالب في المندوبة. (ثم يقول في آخرهن) يحتمل قبل الركوع من الأخيرة بعد القراءة. ويحتمل السجدة الأخيرة. (يا موضع كل شكوى) شكى أمره إلى الله شكوى وينون إذا أخبر ما أصابه من المكروه ليزوله وفي الكنز شكوى گله كردن.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أخي سعيد عن سعيد بن يسار قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يدخلني الغم فقال: أكثر من [أن ت] قول: «الله الله ربي لا أشرك به شيئا» فإذا خفت وسوسة أو حديث نفس فقل: «اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، عدل في حكمك، ماض في قضاؤك، اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل القرآن نور بصري وربيع قلبي وجلاء حزني وذهاب همي، الله الله ربي لا اشرك به شيئا».

ص:411

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) المراد بكل اسم الأسماء الحسنى كلها أو أسماء الأعظم كلها أو الجميع وقد مر في كتاب الحجة أن الاسم الأعظم كثير بعضه معلوم للخواص وبعضه مستأثر عنده تعالى لا يعلمه إلا هو، والظاهر أن أو للتنويع لا للترديد.

(وأن تجعل القرآن نور بصري) طلب التوفيق للنظر إلى القرآن دائما أو للعمل بأحكامه والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته (وربيع قلبي) طلب سرور القلب وإرتياحه بالتفكر في أسرار القرآن ومن طرق العامة: «اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي» قال ابن الأثير:

جعله ربيعا لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان ويميل إليه.

* الأصل:

17 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة الأحزاب: «يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين ويا كاشف غمي اكشف عني غمي وهمي وكربي، فانك تعلم حالي وحال أصحابي واكفني هول عدوي».

* الشرح:

قوله: (ليلة الأحزاب) الأحزاب المتحزبون من الأعراب في قضية الخندق وليلتها هي التي دعا فيها النبي (صلى الله عليه وآله) تضرعا وخشوعا فاستجاب سبحانه وأرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهزمهم وحده من غير قتال.

* الأصل:

18 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن إبراهيم بن أبي إسرائيل، عن الرضا (عليه السلام) قال: خرج بجارية لنا خنازير في عنقها فأتاني آت فقال: يا علي قل لها: فلتقل:

«يا رؤوف يا رحيم يا رب يا سيدي» - تكرره - قال: فقالته فأذهب الله عز وجل عنها. قال: وقال هذا الدعاء الذي دعا به جعفر بن سليمان.

* الشرح:

قوله: (قال خرج بجارية لنا خنازير في عنقها) هي قروح تحدث في الرقبة ويهلك غالبا.

* الأصل:

19 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) دعاء

ص:412

وأنا خلفه فقال: «اللهم إني أسألك بوجهك الكريم واسمك العظيم وبعزتك التي لا ترام وبقدرتك التي لا يمتنع منها شيء أن تفعل بي كذا وكذا». قال: وكتب إلي رقعة بخطه قل: «يامن علا فقهر وبطن فخبر، يامن ملك فقدر، ويا من يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير صل على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا» ثم قل: «يا لا إله إلا الله ارحمني بحق لا إله إلا الله ارحمني».

وكتب إلي في رقعة اخرى يأمرني أن أقول «اللهم ادفع عني بحولك وقوتك، اللهم إني أسألك في يومي هذا وشهري هذا وعامي هذا بركاتك فيها وما ينزل فيها من عقوبة أو مكروه أو بلاء فاصرفه عني وعن والدي بحولك وقوتك، إنك على كل شيء قدير، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحويل عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن شر كتاب قد سبق، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إنك على كل شيء قدير، وإن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك بوجهك الكريم) الوجه الذات والكريم في وصفه تعالى هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه والجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل.

(واسمك العظيم) وصف اسمه بالعظيم للكشف والتوضيح لا للتقييد والتخصيص لأن كل اسمه عظيم وحمله على الاسم الأعظم بعيد.

(وبعزتك التي لا ترام) بتخفيف الميم أي لا تطلب ولا يقصد إذ لا سبيل للعقل إليها من الروم وهو القصد والطلب وأما تشديد الميم ليكون مفاعلة من الرمة بالكسر بمعنى البلى والهشم فهو غير موافق للرواية وان كان له وجه.

(وبقدرتك التي لا يمتنع منها شيء) من الممكنات إذ ليس في وسعه الإباء منها، قال الشيخ في المفتاح: فيه إشارة إلى عدم صدق الشيئية على الممتنعات.

(وكتب إلي رقعة بخطه) في القاموس الرقعة بالضم التي تكتب. (قل: يامن علا فقهر وبطن فخبر - اه) قد مر شرح هذه الكلمات الشريفة في أول باب الدعاء عند النوم والانتباه فلا نعيده (ثم قل: يا لا إله إلا الله ارحمني) هذه الكلمة الشريفة لدلالتها على التوحيد المطلق كأنها صارت علما له عزوجل فلذلك صح دخول حرف النداء عليها فكأنه قال: يا الله الذي ليس إله سواه إرحمني.

(اللهم إدفع عني بحولك وقوتك) الحول بمعنى القوة فالعطف للتفسير أو بمعنى التحويل يعنى

ص:413

ادفع عني المكاره بتحويلك إياها وقدرتك على التصرف فيها بالمحو والإثبات أو بمعنى الحذق وهو جودة النظر وان كان بعيدا يعنى إدفعها عنى بعلمك بها ونظرك إليها وقوتك على دفعها.

(ومن فجأة نقمتك) الفجأة بالضم والمد وقوع الشيء بغتة والنقمة ككلمة والنعمة: العقاب.

(ومن شر كتاب قد سبق) الإضافة بتقدير في. والكتاب اللوح المحفوظ والعارف كما يستعيذ من نزول الشر كذلك يستعيذ من تقديره في الأزل بل هو أولى بالاستعاذة لأنه الأصل الأول ثم تقديره قد يكون في معرض البداء وقد يمكن دفعه بالدعاء.

* الأصل:

20 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عمر بن يزيد: «يا حي يا قيوم، يا لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث فأكفني ما أهمني ولا تكلني إلى نفسي». تقول مائة مرة وأنت ساجد.

* الشرح:

قوله: (عن عمر بن يزيد: «يا حي يا قيوم) عمر بن يزيد مشترك بين السابري والكوفي يرويان عن أبي عبد الله (عليه السلام) والأول عن الكاظم (عليه السلام) أيضا ولم يعلم أن الدعاء منقول عن المعصوم أو لا.

والله سبحانه حي أي فعال مدرك لا يجوز عليه الموت والفناء. وقيوم يقوم بنفسه مطلقا لا بغيره ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا بقاؤه ولا قوام أحواله إلا به.

* الأصل:

21 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، عن إبراهيم بن حنان، عن علي بن سورة، عن سماعة قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): إذا كان لك يا سماعة إلى الله عزوجل حاجة فقل: «اللهم إني أسألك بحق محمد وعلي فان لهما عندك شأنا من الشأن وقدرا من القدر، فبحق ذلك الشأن وبحق ذلك القدر أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا».

فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن ممتحن إلا وهو يحتاج إليهما في ذلك اليوم.

* الشرح:

قوله: (فان لهما عندك شأنا من الشأن وقدرا من القدر) الشأن الخطب والأمر والحال. والقدر المنزلة والمرتبة. وقوله:

(فانه إذا كان يوم القيامة - إلى آخره) دليل لقوله لهما عندك شأن وقدر وتنكيرهما للتعظيم.

ص:414

* الأصل:

22 - علي بن محمد، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن أبي القاسم الكوفي، عن محمد بن إسماعيل، عن معاوية بن عمار والعلاء بن سيابة وظريف بن ناصح قال: لما بعث أبو الدوانيق إلى أبي عبد الله (عليه السلام) رفع يده إلى السماء، ثم قال: «اللهم إنك حفظت الغلامين بصلاح أبويهما فاحفظني بصلاح آبائي محمد وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي، اللهم إني ادرء بك في نحره وأعوذ بك من شره».

ثم قال للجمال: سر، فلما استقبله الربيع بباب أبي الدوانيق قال له: يا أبا عبد الله ما أشد باطنه عليك لقد سمعته يقول: والله لا تركت لهم نخلا إلا عقرته ولا مالا إلا نهبته ولا ذرية إلا سبيتها، قال: فهمس بشيء خفي وحرك شفتيه، فلما دخل سلم وقعد فرد عليه السلام ثم قال: أما والله لقد هممت أن لا أترك لك نخلا إلا عقرته ولا مالا إلا أخذته، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أمير المؤمنين إن الله ابتلى أيوب فصبر وأعطى داود فشكر وقدر يوسف فغفر وأنت من ذلك النسل ولا يأتي ذلك النسل إلا بما يشبهه، فقال: صدقت قد عفوت عنكم، فقال له: يا أمير المؤمنين إنه لم ينل منا أهل البيت أحد دما إلا سلبه الله ملكه، فغضب لذلك وإستشاط فقال: على رسلك يا أمير المؤمنين إن هذا الملك كان في آل أبي سفيان فلما قتل يزيد حسينا سلبه الله ملكه فورثه آل مروان، فلما قتل هشام زيدا سلبه الله ملكه فورثه مروان بن محمد، فلما قتل مروان إبراهيم سلبه الله ملكه فأعطاكموه فقال: صدقت هات ارفع حوائجك فقال: الإذن، فقال: هو في يدك متى شئت، فخرج فقال له الربيع: قد أمر لك بعشرة آلاف درهم، قال: لا حاجة لي فيها، قال: إذن تغضبه فخذها ثم تصدق بها.

* الشرح:

قوله: (اللهم إنك حفظت الغلامين بصلاح أبويهما) هما الغلامان المذكوران في القرآن العزيز في قصة موسى وخضر (عليهما السلام) وحفظهما يفهم من حفظ كنزهما بالأولوية.

(اللهم إني ادرء بك في نحره) أي ادفع. (فلما استقبله الربيع) هو الربيع الحاجب من أصحاب الصادق (عليه السلام). (بباب أبي الدوانيق) اسمه محمد بن علي وكنيته أبو جعفر ولقبه منصور وهو الثاني من خلفاء بني العباس وفي المغرب اشتهر بالدوانيقي وبأبي الدوانيق لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة قسط على كل واحد منهم دانق فضة وأخذه وصرفه إلى الحفر.

(أما والله لقد هممت أن لا أترك لك نخلا إلا عقرته) في القاموس عقر النخلة قطع رأسها

ص:415

فيبست فهي عقيرة. (فغضب لذلك وإستشاط) إستشاط عليه التهب غضبا.

(فقال على رسلك) الرسل بالكسر الرفق والتؤدة والتأني قال الجوهري: افعل كذا على رسلك بالكسر أي اتئد فيه.

* الأصل:

23 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أعين، عن قيس بن سلمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يقول: ما ابالي إذا قلت هذه الكلمات لو اجتمع علي الجن والإنس: «بسم الله وبالله ومن الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، اللهم إليك أسلمت نفسي، وإليك وجهت وجهي وإليك ألجأت ظهري وإليك فوضت أمري، اللهم احفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ومن تحتي ومن قبلي وادفع عني بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله».

* الشرح:

قوله: (علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أعين، عن قيس بن سلمة) قد مر هذا الإسناد والمسند مع الشرح قبيل ذلك إلا أن فيما مر بشر بن سلمة وهو الأصوب.

ص:416

باب الدعاء

الدعاء للعلل والأمراض

قوله: (الدعاء للعلل والأمراض) العطف للتفسير أو تخصيص العلة بما في بعض الأعضاء والمرض بما في جميعها وهي إما للكفارة عن السيئات أو للتنبيه عن الغفلات أو لرفع الدرجات وأحاديث هذا الباب وغيرها من الآيات والروايات دالة على استحباب الدعاء لدفع الأمراض والأسقام، والظاهر أنه لا خلاف فيه عندنا وإليه ميل بعض العامة وقال المازري هو الذي أجمع عليه علماء الفتوى وذهب إليه طائفة من الزهاد وأرباب المعارف إلا أن ترك الدعاء إستسلاما للقضاء أفضل، وقال آخرون: ان دعا للمسلمين فحسن، وان دعا لنفسه فالأولى تركه وقال آخرون:

ان وجد في نفسه نشاطا للدعاء استحب وإلا فلا، ودليل العلماء على الاستحباب من الكتاب والسنة.

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران وابن فضال، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان يقول عند العلة: «اللهم إنك عيرت أقواما فقلت: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) فيا من لا يملك كشف ضري ولا تحويله عني أحد غيره صل على محمد وآل محمد واكشف ضري وحوله إلى من يدعو معك إلها آخر لا إله غيرك».

* الشرح:

قوله: ((قل ادعوا الذين زعمتم من دونه)) أي زعمتم آلهة والأصنام داخلة من باب التغليب.

والزعم بالضم والفتح قريب من الظن وكثيرا ما يقال في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ.

* الأصل:

2 - أحمد بن محمد، عن عبد العزيز بن المهتدي، عن يونس بن عبد الرحمن، عن داود بن زربي قال: مرضت بالمدينة مرضا شديدا فبلغ ذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فكتب إلي: قد بلغني علتك

ص:417

فاشتر صاعا من بر ثم استلق على قفاك وانثره على صدرك كيفما انتثر وقل: «اللهم إني أسألك باسمك الذي إذا سألك به المضطر كشفت ما به من ضر ومكنت له في الأرض وجعلته خليفتك على خلقك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تعافيني من علتي». ثم استو جالسا وأجمع البر من حولك وقل مثل ذلك، وأقسمه مدا مدا لكل مسكين وقل مثل ذلك، قال داود: ففعلت ذلك فكإنما نشطت من عقال وقد فعله غير واحد فانتفع به.

* الشرح:

قوله: (فاشتر صاعا من بر) الظاهر أن الإشتراء غير لازم إذا كان مالكا بدونه وفي القاموس:

الصاع الذي يكال به ويدور عليه أحكام المسلمين أربعة أمداد والمد رطل وثلث والرطل ويكسر إثنتى عشرة أوقية الأوقية أربعون درهما، والدرهم ستة دوانيق، والدانق قيراطان. والقيراط طسوجان، والطسوج حبان، والحبة سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم، وفي الأربعين للشيخ (رحمه الله): المد لا يزيد على مائتين واثنين وتسعين درهما شرعية وهي على ما حسبناه لا يكاد يزيد على ربع المن التبريزي في زماننا هذا.

(وقل اللهم إني أسألك باسمك الذي إذا سألك به المضطر كشفت ما به من ضر) أي قل ذلك في حال النثر أو قبله أو بعده والأول أظهر والموصول مع صلته صفة كاشفة للإسم فهو شامل لجميع أسمائه الحسنى ويحتمل أن يكون للتقييد فالمراد به الاسم الذي له زيادة مناسبة لدفع العلة وإنما لم يصرح بالمعين ليشمل التوصل بالجميع وهو أبلغ في إنجاح المقصود، ثم الظاهر أن المريض مع القدرة على الأفعال المذكورة ينبغي أن يفعلها بنفسه وإلا بغيره، وأن «إذا» للاستقبال وإدخاله على الماضي للدلالة على تحقق مضمون الشرط ووقوعه، ويمكن أن يكون بمعنى الماضي للدلالة على ما صدر من الأنبياء والصالحين وكشف الله الضر عنهم مثل أيوب ويونس (عليهما السلام) أو غيرهما وربما يشعر به ظاهر ما بعده.

(فكأنما نشطت من عقال) أي خرجت منه من نشط من المكان إذا خرج منه أو حللته على أن من زائدة من نشطته إذا حللته حلا رفيقا فلا يرد ما أورده صاحب النهاية من أنه كثيرا ما يجئ في الرواية كإنما نشطت من عقال وليس بصحيح ويقال نشطت العقدة إذا عقدتها وأنشطها إذا أحللتها.

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن نعيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

اشتكى بعض ولده فقال: يا بني قل: «اللهم اشفني بشفائك وداوني بدوائك وعافني من بلائك فإني عبدك وابن عبدك».

ص:418

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطية، عن يونس ابن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك هذا الذي قد ظهر بوجهي يزعم الناس أن الله عزوجل لم يبتل به عبدا له فيه حاجة فقال لي: لا، لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا - ويمد يده - ويقول: (يا قوم اتبعوا المرسلين). قال: ثم قال: إذا كان الثلث الأخير من الليل في أوله فتوضأ وقم إلى صلاتك التي تصليها فإذا كنت في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فقل: وأنت ساجد: «يا علي يا عظيم يا رحمن يا رحيم يا سامع الدعوات ويا معطي الخيرات صل على محمد وآل محمد وأعطني من خير الدنيا والآخرة ما أنت أهله واصرف عني من شر الدنيا والآخرة ما أنت أهله وأذهب عني هذا الوجع - وسمه - فإنه قد غاظني و [أ] حزنني» وألح في الدعاء. قال: فما وصلت إلى الكوفة حتى أذهب الله به عني كله.

* الشرح:

قوله: (أن الله عزوجل لم يبتل به عبدا له فيه حاجة) أي لم يبتل عبدا خلقه لعبادته أو سلب الحاجة فيه كناية عن طرحه وعدم الاعتناء به لأن عدم حاجتنا في شيء يستلزم طرحنا إياه وعدم إلتفاتنا إليه وإعتنائنا به فلا يرد انه تعالى لا حاجة له إلى أحد من عباده. (فقال لي لا) أي ليس الأمر كما زعموه.

(لقد كان مؤمن آل فرعون) الظاهر أنه فرعون موسى والأنسب بما بعده أنه فرعون أنطاكية الذي أرسل إليه عيسى (عليه السلام) رسله وفرعون لقب كل متكبر جبار وان اشتهر في الأول. والمؤمن المذكور كان من أهل أنطاكية ولذلك نسب إليه وهم قتلوه بعد نصحه لهم وإظهار إيمانه. (مكنع الأصابع) كنع كمنع كنوعا إنقبض وإنضم وكفرح يبس وتشنج والأكنع الأشل ومن رجعت أصابعه إلى كفه وظهرت رواجبه وقد كنعت أصابعه كنعا إذا تشنجت ويبست ويده كنع تكنيعا أشلها.

(فقل وأنت ساجد يا علي يا عظيم) معنى العظيم في وصفه تعالى أنه جاوز قدره عن حدود العقول حتى لا يتصور الإحاطة بكنه ذاته وحقيقة صفاته.

(فانه قد غاظني وحزنني) الغيظ الغضب أو الشدة أو سورته وأوله غاظه يغيظه فإغتاظ.

والحزن بالضم خلاف السرور وحزنه الأمر حزنا وأحزنه جعله حزينا وحزنه تحزينا جعل فيه حزنا فهو محزون ومحزن وحزين. وحزنا بكسر الزاي وضمها.

ص:419

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، جميعا، عن حنان بن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا رأيت الرجل مر به البلاء فقل:

«الحمد لله الذي عافاني مما إبتلاك به وفضلني عليك وعلى كثير من خلقه». ولا تسمعه.

* الشرح:

قوله: (الحمد لله الذي عافاني مما إبتلاك به وفضلني - إلى آخره) المعافاة والتفضيل من النعم الجليلة التي توجب حمده تعالى والثناء عليه والشكر له من حيث أنه منعم مفضل من غير استحقاق وليس ذلك لأجل السرور ببلية المخاطب ليكون شماتة ولا لأجل التفاخر عليه ليكون إستكبارا عليه وإستحقارا له، والظاهر أن النهي في قوله «لا تسمعه» للتحريم لأن اسماعه يوجب كسر قلبه وزيادة حزنه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن محمد بن عيسى، عن داود بن زربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تضع يدك على الموضع الذي فيه الوجع وتقول ثلاث مرات: «الله الله ربي حقا لا اشرك به شيئا، اللهم أنت لها ولكل عظيمة ففرجها عني».

* الشرح:

قوله: (تضع يدك على الموضع الذي فيه الوجع) اليمنى أو اليسرى والأولى أولى فإن كان في موضع لم يبلغ الاولى ضع الاخرى.

(يقول ثلاث مرات الله الله ربي حقا) أي تقول مجموع الدعاء ثلاث مرات على الظاهر أو لفظ الجلالة على احتمال. وقوله: «حقا» مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر أي حق حقا يعني ثبت ثبوتا لا ريب فيه وفي ذكر الرب استعطاف لأن التربية مقتضية لجلب النفع للمربوب ودفع الضر عنه. (لا أشرك به شيئا) لا في الربوبية ولا في الالتجاء وفيه زيادة بسط الرجاء إليه لكونه ملجأ لا غيره.

(اللهم أنت لها ولكل عظيمة) أي أنت معد لدفع هذه البلية ولكل بلية عظيمة وأنت عدتي عند شدتي. (ففرجها عني) تفريج البلية كشفها ورفعها يقال فرج الله الغم يفرجه إذا كشفه كفرجه تفريجا.

* الأصل:

7 - عنه، عن محمد بن عيسى، عن داود، عن مفضل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) للأوجاع تقول:

ص:420

«بسم الله وبالله كم من نعمة لله في عرق ساكن وغير ساكن على عبد شاكر وغير شاكر». وتأخذ لحيتك بيدك اليمنى بعد صلاة مفروضة وتقول: «اللهم فرج عني كربتي وعجل عافيتي واكشف ضري» - ثلاث مرات - واحرص أن يكون ذلك مع دموع وبكاء.

* الشرح:

(نقول: «بسم الله وبالله) أي بسم الله أستعيذ وأستشفي وبالله أستعين وأستكفي وفيه إيماء إلى التوسل بالاسم والمسمى جميعا.

(كم من نعمة لله) «كم» خبرية للتكثير ومرفوعة محلا على الابتداء و «نعمة» مجرور على التميز، و «من» زائدة و «الله» خبر يعني لله تعالى نعمة كثيرة غير محصورة. (في عرق ساكن أو غير ساكن) حتى لو تحرك الساكن أو سكن المتحرك لأختل نظام البدن وفسدت أحواله وبطلت أفعاله وعرضت أنواع من الأوجاع والأسقام وأنحاء الأمراض والآلام. (على عبد شاكر وغير شاكر) أشار بذلك إلى أن حصول تلك النعمة لهم ليس من باب الاستحقاق وليس الغرض منه مجرد الأخبار بل مد الرجاء إلى رفع الأوجاع حيث ان إحسانه غير مختص بالأولياء.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير. عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن رجل قال:

دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكوت إليه وجعا بي فقال: قل: «بسم الله» ثم أمسح يدك عليه وقل:

«أعوذ بعزة الله وأعوذ بقدرة الله، وأعوذ بجلال الله. وأعوذ بعظمة الله، وأعوذ بجمع الله، وأعوذ برسول الله، وأعوذ بأسماء الله من شر ما أحذر ومن شر ما أخاف على نفسي» تقولها سبع مرات، قال: ففعلت فأذهب الله عزوجل [بها] الوجع عني.

* الشرح:

قوله: (وأعوذ بجمع الله) وهم الملائكة المقربون والأنبياء المرسلون والأوصياء الصالحون والمجاهدون في سبيله وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده من باب ذكر الخاص بعد العام لمزيد الاهتمام.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، عن عون قال: أمر يدك على موضع الوجع ثم قل: «بسم الله وبالله ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم امسح عني ما أجد». ثم تمر يدك اليمنى وتمسح موضع الوجع - ثلاث مرات -.

ص:421

* الشرح:

قوله: (أمر يدك على موضع الوجع ثم قل) دل على أن الإمرار مقدم على الدعاء ومتأخر عنه وأن المقاربة غير معتبرة وأن في المتقدم يكفي مرة ولو باليسرى والأولى أن يكون باليمنى كالمتأخر. (اللهم امسح عني ما أجد) أي أقطعه وأكشفه وأزله وادفع (وتمسح موضع الوجع ثلاث مرات) المسح كالمنع والتمسح إمرار اليد على الشيء لأذهابه.

* الأصل:

10 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن محمد بن أخي غرام عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تضع يدك على موضع الوجع ثم تقول «بسم الله وبالله [و] محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم امسح عني ما أجد» وتمسح الوجع - ثلاث مرات -.

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عيسى، عن عمه قال: قلت له: علمني دعاء أدعو به لوجع أصابني، قال: قل وأنت ساجد: «يا الله يا رحمن [يا رحيم] يا رب الأرباب وإله الآلهة ويا ملك الملوك ويا سيد السادة اشفني بشفائك من كل داء وسقم فإني عبدك أتقلب في قبضتك».

* الشرح:

قوله: (فإني عبدك وأتقلب في قبضتك) قبضه بيده يقبضه تناوله وأمسكه والقبضة بالفتح والضم أكثر ما يقبض عليه وهو المقبوض، والمراد يتقلبه فيها كونه مقهورا في قدرته متحولا في إرادته يفعل به ما يشاء ويحكم فيه ما يريد وفيه وفي ذكر العبد استعطاف وتخضع وترقب للرحمة لأن العبد والذليل لا يتوقع الرحمة إلا من المولى والعزيز.

* الأصل:

12 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا دخلت على مريض فقل: «اعيذك بالله العظيم رب العرش العظيم من شر كل عرق نفار ومن شر حر النار» - سبع مرات -.

* الشرح:

قوله: (من شر كل عرق نفار) بالعين المهملة من نعر العرق كمنع إذا فار منه الدم أو صوت لخروجه أو إذا علا به الدم وارتفع، وفي بعض النسخ «نفار» بالفاء من نفر العرق ينفر نفورا إذا هاج

ص:422

وورم (ومن حر النار) لعل المراد بالنار الحمى من باب الاستعارة والوجه هو الإحراق ويمكن أن يراد بها نار جهنم بناء على ان الحمى من فيحها.

* الأصل:

13 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا اشتكى الإنسان فليقل: «بسم الله وبالله ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعوذ بعزة الله وأعوذ بقدرة الله على ما يشاء من شر ما أجد».

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي، عن هشام الجواليقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «يا منزل الشفاء ومذهب الداء أنزل علي ما بي من داء شفاء».

15 - محمد بن يحيى، عن موسى بن الحسن، عن محمد بن عيسى، عن أبي إسحاق صاحب الشعير، عن حسين الخراساني وكان خبازا قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وجعا بي فقال: إذا صليت فضع يدك. موضع سجودك ثم قل: «بسم الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشفني يا شافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما، شفاء من كل داء وسقم».

* الشرح:

قوله: (لا يغادر سقما) أي لا يترك من المغادرة وهو الترك.

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

مرض علي صلوات الله عليه فأتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: قل: «اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك، وصبرا على بليتك وخروجا إلى رحمتك».

17 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ينشر بهذا الدعاء: تضع يدك على موضع الوجع وتقول: «أيها الوجع اسكن بسكينة الله وقر بوقار الله وانحجز بحاجز الله واهدأ بهدء الله، اعيذك أيها الإنسان بما أعاذ الله عزوجل به عرشه وملائكته يوم الرجفة والزلازل» تقول ذلك سبع مرات ولا أقل من الثلاث.

* الشرح:

قوله: (أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ينشر بهذا الدعاء) في القاموس النشرة بالضم رقية يعالج بها المجنون والمريض وقد نشر عنه وفي النهاية هي ضرب من الرقية يعالج به من كان يظن به مس من الجن سميت نشرة لأنه ينشر به عنه أي يكشف ويزال، وقال الحسن: النشرة من السحر وقد نشرت عنه

ص:423

تنشيرا. ويقول: (أيها الوجع) نداء الوجع لتنزيله منزلة من له صلاحية النداء وإجراء أحكامه عليه مع إمكان خلق الحس فيه وسماعه إياه. (اسكن بسكينة الله) أي بطمأنينته أو برحمته من السكن بالتحريك وهو الرحمة تفسيرها بالطمأنينة مذكورة في النهاية أيضا (وقر بوقار الله) الوقار بالفتح الحلم والرزانة وقد وقر يقر وقارا.

(وإنحجز بحاجز الله) الحاجز المانع والإنحجاز قبول المنع حجزه يحجزه منعه وكفه وإنحجز. (وأهدء بهدء الله) هدء كمنع هدءا بفتح الهاء وسكون الدال وهدوءا بضمها سكن وأهدأته أسكنته. (اعيذك أيها الإنسان) هذا إذا كان الداعي غير المريض ظاهر وان كان هو فالنداء للاختصاص ومجرد بيان المقصود بكاف الخطاب.

(بما أعاذ الله عزوجل به عرشه وملائكته يوم الرجفة والزلازل) «ما» عبارة عن حفظه تعالى لعرشه وملائكته عن التحرك والاضطراب وإلقاء الطمأنينة إليهم في ذلك اليوم وهو يوم ذكر الله تعالى في سورة الحاقة.

* الأصل:

18 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمار بن المبارك، عن عون بن سعد مولى الجعفري، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تضع يدك على موضع الوجع وتقول: «اللهم إني أسألك بحق القرآن العظيم الذي نزل به الروح الأمين وهو عندك في ام الكتاب علي حكيم أن تشفيني بشفائك وتداويني بدوائك وتعافيني من بلائك» - ثلاث مرات - وتصلي على محمد وآله.

* الشرح:

قوله: (وهو عندك في ام الكتاب علي حكيم) بدل عن ام الكتاب ولعل المراد به علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ قلبه الشريف يتولد منه أسرار الكتاب وأنواع الحكمة.

* الأصل:

19 - أحمد بن محمد، عن العوفي، عن علي بن الحسين، عن محمد بن عبد الله بن زرارة عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: عرض بي وجع في ركبتي، فشكوت ذلك إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال: إذا أنت صليت فقل: «يا أجود من أعطى ويا خير من سئل ويا أرحم من إسترحم، إرحم ضعفي وقلة حيلتي وعافني من وجعي». قال: ففعلته فعوفيت.

* الشرح:

قوله: (واعفني من وجعي) عافاه الله وأعفاه بمعنى والاسم العافية وهي دفاع الله عن العبد.

ص:424

باب الحرز والعوذة

* الأصل:

1 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن غير واحد، عن أبان، عن ابن المنذر قال:

ذكرت عند أبي عبد الله (عليه السلام) الوحشة، فقال: ألا اخبركم بشيء إذا قلتموه لم تستوحشوا بليل ولا نهار: «بسم الله وبالله وتوكلت على الله وإنه من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا، اللهم اجعلني في كنفك وفي جوارك واجعلني في أمانك وفي منعك»، فقال:

بلغنا أن رجلا قالها ثلاثين سنة وتركها ليلة فلسعته عقرب.

* الشرح:

قوله: (باب الحرز والعوذة) العوذة بالضم الرقية والتعويذ والحرز بالكسر العوذة وما يحفظ به الشيء تقول أحرزت الشيء إحرازا إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ. (لم تستوحشوا بليل ولا نهار) الباء بمعنى «في» والوحشة بمعنى ضد الإنس والهم والخوف والخلوة والإستيحاش وجدان الوحشة وفي الكلام حذف لا يخفى.

(أنه من يتوكل على الله فهو حسبه) في امور الدين والدنيا وفيه تصديق بوعده وإذعان بأن المتوكل في كفايته. (ان الله بالغ أمره) أي أمره بالغ نافذ يبلغ أين اريد به بلا مانع ولا دافع. وفيه تصديق بأنه لا راد له. (قد جعل الله لكل شيء قدرا) من الذات والصفات والزمان والبقاء وكل ذلك كان مقدرا في علمه الأزلي وقد مر سابقا.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محسن بن أحمد، عن يونس بن يعقوب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قل: «أعوذ بعزة الله، وأعوذ بقدرة الله، وأعوذ بجلال الله، وأعوذ بعظمة الله، وأعوذ بعفو الله، وأعوذ بمغفرة الله، وأعوذ برحمة الله، وأعوذ بسلطان الله الذي هو على كل شيء قدير، وأعوذ بكرم الله، وأعوذ بجمع الله من شر كل جبار عنيد وكل شيطان مريد، وشر كل قريب أو بعيد أو ضعيف أو شديد، ومن شر السامة والهامة والعامة، ومن شر كل دابة صغيرة أو كبيرة بليل أو نهار، ومن شر فساق العرب والعجم، ومن شر فسقة الجن والإنس».

* الشرح:

قوله: (أعوذ بجلال الله، وأعوذ بعظمة الله) الجلال راجع إلى كمال الصفات

ص:425

والعظمة إلى كمال الذات والصفات وكثيرا ما يطلق الجلال على العظمة والعطف حينئذ للتفسير.

(ومن شر السامة والهامة والعامة) الهامة كل ذات سم يقتل والجمع الهوام فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وان لم يقتل كالحشرات وأما العامة فلعل المراد به البلية التي تعم أكثر الناس كالطاعون ونحوه. والعامة أيضا القيامة والخلائق خلاف الخاصة.

(ومن شر كل دابة صغيرة أو كبيرة) في الحجم أو في الإضرار وهذا من باب التعميم بعد التخصيص. (بليل أو نهار) حال عن شر أو عن دابة وتعلقه بأعوذ بعيد.

(ومن شر فساق العرب والعجم، ومن شر فسقة الجن والإنس) يمكن تخصيص الفساق بالكفرة وتخصيص الفسقة بالفسقة من أهل الدين.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): رقى النبي (صلى الله عليه وآله) حسنا وحسينا فقال: «أعيذكما بكلمات الله التامة وأسمائه الحسنى كلها عامة من شر السامة والهامة، ومن شر كل عين لامة، ومن شر حاسد إذا حسد». ثم التفت النبي (صلى الله عليه وآله) إلينا فقال: هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله: (رقى النبي (صلى الله عليه وآله) حسنا وحسينا) الرقية العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات رقاه يرقيه فهو راق. الظاهر أنه لا نزاع في جوازها بين العامة والخاصة والروايات فيه من الطريقين كثيرة ولكن هذا إذا كان بالقرآن وبأسمائه تعالى وبصفاته وباللفظ العربي أو غيره إذا كان مفهما وأما لا ترجمة له ولا يمكن الوقوف عليه فقال صاحب النهاية: لا يجوز استعماله، ثم الظاهر عندنا أنها أولى للخواص وغيرهم.

وقال صاحب النهاية: الأولى للخواص والأولياء تركها وأما العوام ومن لم يصبر فلهم التداوي والمعالجات والرقية: (فقال أعيذكما بكلمات الله التامة) قيل هي القرآن ووصفه بالتام لأنه ليس فيه نقص ولا عيب لا لفظا ولا معنى كما يكون في كلام الناس أو لأنه تام النفع ينفع المتعوذ به ويحفظه من الآفات ويكفيه من المكروهات أو لأنه تام شامل لجميع ما يحتاج إليه الخلق مما كان أو ما يكون وما هو كائن. وقيل هي كلمة حق شافية نافعة للمتعوذ ولا يبعد أن يراد بها الأنبياء والأوصياء حقيقة أو مجازا باعتبار أنهم يفسرون كلمات الله تعالى.

ص:426

(وأسمائه الحسنى) تشمل أسماء الذات والصفات ووصفها بالحسنى لتنزهها عن النقص وتمامها في قضاء الحوائج ورفع المكاره.

(كلها عامة) لما كان الجمع المضاف للعموم والغالب في العام هو التخصيص رفع توهم التخصيص بقوله: «كلها»، ثم لما كان الكل قد يراد به الكل المجموعي رفع توهم إرادة المجموع من حيث المجموع بقوله: «عامة» للتنبيه على أن المراد به الكل الافرادي، وإن العوذة وقعت بكل واحد واحد من أسمائه تعالى على سبيل الاستقلال لأن الحكم في العام متعلق بكل فرد منه.

(ومن شر كل عين لامة) أي ذات لمم، واللمم بالتحريك: الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه كذا في النهاية وفي القاموس العين اللامة المصيبة بسوء أو هي كل ما يخاف من فزع أو شر ويمكن أن يستدل به على أن إصابة العين حق ثابت كما هو المعروف بين الناس وأنكرها جماعة وقالوا: أن العين لا تأثير لها.

ويرد عليهم أن ما ليس بمحال ولا يؤدي إلى مخالفة دليل هو جائز فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجعل له عوذة وجب اعتقاده، وقال بعض المثبتين: أن العاين ينبعث من عينه قوة سمية يتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد لا يستنكر هذا كما لا ينكر انبعاث ذلك من الأفعى والعقرب فيهلك اللديغ وقال بعضهم: تنبعث من العين جواهر لطيفة غير مرئية تتصل بالمعيون وتتحلل مسام جسده فيضره.

(ومن شر حاسد إذا حسد) أي إذا أظهر حسده وإنما قيل به لأن الحسد حيث هو إنما هو يضر الحاسد دون المحسود لإغتمامه بنعمته وسروره وإنما يضر المحسود إظهاره لأنه يؤدي إلى القتل والنهب والسعاية ونحوها وهي شرور تابعة له فلابد من الإستعاذة منها.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن بكير، عن سليمان الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إذا أمسيت فنظرت إلى الشمس في غروب وإدبار فقل: «بسم الله وبالله والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا، والحمد لله الذي يصف ولا يوصف ويعلم ولا يعلم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأعوذ بوجه الله الكريم وباسم الله العظيم من شر ما برأ وذرأ ومن شر ما تحت الثرى، ومن شر ما بطن وظهر، ومن شر ما وصفت وما لم أصف، والحمد لله رب العالمين» وذكر أنها أمان من كل سبع ومن الشيطان الرجيم وذريته وكل ما عض أو لسع ولا يخاف صاحبها إذا تكلم بها لصا ولا غولا، قال: قلت له: إني صاحب صيد السبع وأنا أبيت في الليل في الخرابات

ص:427

وأتوحش، فقال لي: قل إذا دخلت: «بسم الله أدخل». وأدخل رجلك اليمنى وإذا خرجت فأخرج رجلك اليسرى وسم الله فإنك لا ترى مكروها.

* الشرح:

قوله: (والحمد لله الذي يصف ولا يوصف) أي يصف الأشياء وينعتها بما هو لها من الصفات والكيفيات وغيرها، ولا يوصف هو حيث انه لا صفة له ومن ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كمال توحيده نفي الصفات عنه». (ويعلم ولا يعلم) أي يعلم الأشياء من جميع الوجوه ولا يعلم هو بوجه لا بكنه ذاته ولا بحقيقة صفاته.

(يعلم خائنة الأعين) أي ما يخونون فيه من مسارقة النظر إلى ما لا يحل والخائنة بمعنى الخيانة وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعل.

(ومن شر ما برأ وذرأ) أي خلق والظاهر أن العطف للتفسير، ويمكن أن يراد بالأول ذوو العقول وبالثاني غيرهم من أنواع الحيوان.

(ولا يخاف صاحبها إذا تكلم بها لصا ولا غولا) في القاموس الغول بالفتح الصداع والسكر والمشقة وبالضم الهلكة والداهية والسعلاة والجمع أغوال وغيلان والحية والجمع أغوال وسحرة الجن والمنية وشيطان يأكل الناس أو دابة رأتها العرب وعرفتها وقتلها تأبط شرا ومن يتلون ألوانا من السحرة والجن أو كل ما زال به العقل; إذا عرفت هذا فنقول: دل هذا على وجود الغول وأضراره للناس ولعل المراد به نوع من الشياطين كما صرح به المازري أو نوع من الجن، وقال بعض العامة لا وجود له لما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله): «لا عدوى ولا غول» رد (عليه السلام) بذلك قول العرب بأن المرض يتعدى من المريض إلى الصحيح وأن الغيلان تترأى للناس في الفلوات فتتغول تغولا أي تتلون تلونا وتتصور بصور شتى تضلهم عن الطريق وتهلكهم وقد ذكروا ذلك في أشعارهم وأبطل (صلى الله عليه وآله) ذلك وبين انتفاء حقيقتها وفيه نظر لأنهم ان أرادوا بالغول غير النوعين المذكورين مما هو أمر تخييلي لا وجود له كما هو المعروف بن العامة فلا نزاع فيه وان أرادوا هذين النوعين فإنكار وجودهما مكابرة وما تمسكوا به لا يدل على عدم الوجود لأن المراد به على ما صرحوا أكثرهم نفي ما تزعم العرب أن الغيلان تتصور بصور مختلفة وتضلهم عن الطريق فتهلكهم يعني أن الغول لا يستطيع أن يتصور بصور مختلفة وتضل أحدا، ويشهد له الحديث الآخر من طرقهم: «لا غول ولكن الغال سحرة الجن» أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل كذا فسره ابن الأثير والمازري ويدل على وجودها حديث: إذا تغولت الغيلان فتبادروا بالأذان» قال ابن الأثير: أي أطفئوا شرها بذكر الله

ص:428

وحديث أبي داود: «كان لي ثمرة في سهوة كانت الغول تجىء وتأخذ» وفي بعض نسخهم «تأكل» وقال الطحاوي: ويحتمل ان الغول كانت تفعل ذلك فدفعها الله سبحانه عن عباده، قال بعضهم: ولا يبعد هذا ويكون من خصائص بعثته (صلى الله عليه وآله) كإستراق السمع.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن قتيبة الأعشى قال: علمني أبو عبد الله (عليه السلام) قال: قل: «بسم الله الجليل اعيذ فلانا بالله العظيم من الهامة والسامة واللامة والعامة ومن الجن والإنس ومن العرب والعجم ومن نفثهم وبغيهم ونفخهم، بآية الكرسي». ثم تقرأها ثم تقول في الثانية: «بسم الله اعيذ فلانا بالله الجليل...» - حتى تأتي عليه -.

* الشرح:

قوله: (ومن نفثهم وبغيهم ونفخهم) في كنز اللغة نفث ونفخ دميدن از دهن وفي النهاية النفث بالفم وهو شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق وفسر النفخ أيضا بالكبر لأن المتكبر يتعاظم ويجمع نفسه فيحتاج أن ينفخ. (ثم تقول في الثانية) أي في المرة الثانية فتقول مرتين مع تغيير في أول الثانية كما أشار إليه.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن عمار، قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إني أخاف العقارب، فقال: انظر إلى بنات نعش الكواكب الثلاثة الوسطى منها بجنبه كوكب صغير قريب منه تسميه العرب السها ونحن نسميه أسلم، أحد النظر إليه كل ليلة وقل ثلاث مرات: «اللهم رب أسلم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسلمنا» قال: إسحاق فما تركته منذ دهري إلا مرة واحدة فضربتني العقرب.

* الشرح:

قوله: (انظر إلى بنات نعش الكواكب الثلاثة) في القاموس بنات نعش الكبرى سبعة كواكب أربعة منها نعش وثلاث بنات وكذلك الصغرى تنصرف نكرة لا معرفة والسها كوكب خفي في بنات النعش الصغرى والكوكب الأول منها الذي هو آخرها قائد والثاني الذي إلى جانبه السها عناق بالفتح والثالث الحور بالتحريك.

* الأصل:

7 - أحمد بن محمد، عن علي بن الحسن، عن العباس بن عامر، عن أبي جميلة، عن سعد

ص:429

الإسكاف قال: سمعته: يقول: من قال هذه الكلمات فأنا ضامن له ألا يصيبه عقرب ولا هامة حتى يصبح: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ ومن شر ما برأ ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم».

* الشرح:

قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) لإحتياج الكل ورجوعهم إليها ونفاذ حكمها عليهم شاؤوا أو كرهوا وقد مر تفسير تلك الكلمات.

(ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها) كناية عن كمال اقتداره عليها والوصف للتأييد والتعميم لا للتقييد والتخصيص. (أن ربي على صراط مستقيم) فيعلم الداخل فيه والخارج عنه فيجزى كلا بما يليق به أو فيجب أن يقصد ذلك الصراط دون غيره.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض مغازيه إذ شكوا إليه البراغيث أنها تؤذيهم فقال:

إذا أخذ أحدكم مضجعه فليقل: «أيها الأسود الوثاب الذي لا يبالي غلقا ولا بابا عزمت عليك بام الكتاب ألا تؤذيني وأصحابي إلى أن يذهب الليل ويجيء الصبح بما جاء» - والذي نعرفه - إلى أن يؤوب الصبح متى ما آب.

* الشرح:

قوله: (في بعض مغازيه) هي جمع المغزى وهو موضع الغزو وقد يكون الغزو نفسه.

(عزمت عليك بأم الكتاب) أي أقسمت عليك بأم الكتاب وهي القرآن لاشتماله على جميع ما في اللوح المحفوظ والكتب السماوية وهنا احتمال آخر.

(أن لا تؤذيني وأصحابي) هذا الخطاب إما أن يؤثر بالخاصية أو يلقى من مضمونه في نفوسها الحيوانية فينزجرن أو يسمعونه ويفهمون منطوقه. (إلى أن يذهب الليل ويجىء الصبح بما جاء) أي مع ما جاء من طلوع الشمس وضوء النهار وغيرهما مما يقع فيه أو الباء للتعدية (- والذي نعرفه - إلى أن يؤوب الصبح متى ما آب) بدلا لقوله: «إلى أن يذهب الليل» إلى آخره والظاهر أنه من كلام الراوي.

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن سنان عن

ص:430

أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا لقيت السبع فقل: «أعوذ برب دانيال والجب من شر كل أسد مستأسد».

* الشرح:

قوله: (فقل أعوذ برب دانيال والجب) دانيال اسم أعجمي غير منصرف للمعجمة والعلمية والجب بالضم البئر أو التي لم تطو أو لم يحفره الناس.

قوله: (من شر كل أسد مستأسد) في القاموس استأسد صار كالأسد وعليه اجترأ.

* الأصل:

10 - محمد بن جعفر أبو العباس، عن محمد بن عيسى، عن صالح بن سعيد، عن إبراهيم ابن محمد بن هارون أنه كتب إلى أبي جعفر (عليه السلام) يسأله عوذة للرياح التي تعرض للصبيان فكتب إليه بخطه بهاتين المعوذتين وزعم صالح أنه أنفذهما إلى إبراهيم بخطه «الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله الله أشهد أن محمدا رسول الله، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ولا رب لي إلا الله، له الملك وله الحمد لا شريك له، سبحان الله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، اللهم ذا الجلال والإكرام، رب موسى وعيسى وإبراهيم الذي وفى، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط لا إله إلا أنت سبحانك مع ما عددت من آياتك وبعظمتك وبما سألك به النبيون وبأنك رب الناس، كنت قبل كل شيء وأنت بعد كل شيء، أسألك باسمك الذي تمسك به السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنك، وبكلماتك التامات التي تحيي به الموتى أن تجير عبدك فلانا من شر ما ينزل من السماء وما يعرج إليها وما يخرج من الأرض وما يلج فيها، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» وكتب إليه أيضا بخطه: «بسم الله وبالله وإلى الله وكما شاء الله، واعيذه بعزة الله وجبروت الله وقدرة الله وملكوت الله، هذا الكتاب من الله شفاء لفلان، [ابن] عبدك وابن أمتك عبد الله صلى الله على محمد وآله».

* الشرح:

قوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) من فعله وفعل العبد مطلقا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن مشيئة فعله عبارة عن إقداره عليه وبعبارة اخرى لو لم يشأ لم يقدر ولو لم يقدر لم يكن فلو لم يشاء لم يكن والأظهر انه تعالى علم فعله أزلا خيرا كان أو شرا فشاء وجوده ليطابق علمه بالمعلوم، وتعلق مشيئته بالشر بالعرض لحصول المطابقة، وبالخير كذلك وبالذات أيضا فليتأمل:

(يا رب موسى وعيسى وإبراهيم الذي وفى) بما رآه في المنام من ذبح الولد أو بما عهد إليه: (إله

ص:431

إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) طلب إقباله أولا متصفا بالربوبية وثانيا متصفا بالالوهية لما في الأول من طلب العفو والرحمة وفي الثاني من إظهار العجز والعبودية وخص هؤلاء الأكابر بالذكر لأنه كلما كانت التربية وإظهار العجز أفضل وأتم كان الرجاء في حصول المطلوب أكمل وأعظم وترك الوصل لكمال المناسبة ولما ناداه بالنداء البعيد توهما لبعده المعنوي فشاهده حاضرا خاطبه بقوله:

(لا إله إلا أنت) إبتهاجا وتقربا منه بالتوحيد المطلق والفرق بينه وبين التوحيد السابق كالفرق بين ضمير المخاطب وبين العلم في التعريف ولذلك نزهه ثانيا بقوله:

(سبحانك مع ما عددت من آياتك) الظرف حال عن كاف الخطاب وعددت بفتح التاء على الظاهر أو بضمها على احتمال والآيات هي المعدودة في القرآن أو فيما سبق.

(وبعظمتك وبما سألك به النبيون وبأنك رب الناس) الظروف معطوفة على الظرف السابق والمراد بالموصول صفاته الخاصة أو الربوبية فان الأنبياء عند البلايا نادوه بالرب كما نطق به القرآن الكريم.

(كنت قبل كل شيء وأنت بعد كل شيء) بالذات لا بالزمان فمنك أخذه وابتداؤه وإليك عوده وإنتهاؤه. (أسألك باسمك الذي تمسك به السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنك) تمسك بالبناء للفاعل أو المفعول وما به الإمساك العلى أو الرفيع أو الحفيظ أو القادر.

(وبكلماتك التامات) مر تفسيرها. (ان تجير عبدك فلانا) وتسميه (من شر ما ينزل من السماء - إلى آخره) المقصود هو: الإجارة من شر كل ما يتصور منه الشر في عالم الإمكان.

(وجبروت الله وقدرة الله وملكوت الله) الجبروت فعلوت من الجبر وهو القهر وهو سبحانه جبار أي قهار يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي يقال: جبر الخلق وأجبرهم وجبر أكثر، وقيل: هو العالي فوق خلقه ومنه يقال: للنخلة جبارة وهي العظيمة العالية الطويلة التي تفوت يد المتناول والملكوت فعلوت من الملك وهو بعد الزيادة صارت مختصا بملك الله الشامل للمجردات والماديات كلها.

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لقيت السبع فاقرأ في وجهه آية الكرسي وقل له: «عزمت عليك بعزيمة الله وعزيمة محمد (صلى الله عليه وآله) وعزيمة سليمان بن داود (عليهما السلام) وعزيمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة الطاهرين من بعده» فإنه ينصر عنك إن شاء

ص:432

الله. قال: فخرجت فإذا السبع قد اعترض فعزمت عليه وقلت له: إلا تنحيت عن طريقنا ولم تؤذنا، فنظرت إليه قد طأطأ [ب] رأسه وأدخل ذنبه بين رجليه وانصرف.

12 - عنه، عن جعفر بن محمد، عن يونس، عن بعض أصحابنا، عن أبي الجارود، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في دبر الفريضة: «أستودع الله العظيم الجليل نفسي وأهلي وولدي ومن يعنيني أمره وأستودع الله المرهوب المخوف المتضعضع لعظمته كل شيء نفسي وأهلي ومالي وولدي ومن يعنيني أمره». حف بجناح من أجنحة جبرئيل (عليه السلام) وحفظ في نفسه وأهله وماله.

* الشرح:

قوله: (وأستودع الله المرهوب المخوف) رهبه ورهب منه خافه وهو مرهوب باعتبار عظمته ومخوف باعتبار التقصير في عبادته. (المتضعضع لعظمته كل شيء) تضعضع خضع وذل وإفتقر (ويعنيني أمره) بالعين المهملة والياء المثناة التحتانية بين نونين عناه الأمر يعنوه ويعنيه عناية وعناية أهمه واعتنى به أهم بشأنه.

13 - عنه، رفعه قال: من بات في دار أو بيت وحده فليقرأ آية الكرسي وليقل، «اللهم آنس وحشتي وآمن روعتي وأعني على وحدتي».

* الأصل:

14 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن يزيد من مرة، عن بكير، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي ألا أعلمك كلمات إذا وقعت في ورطة أو بلية فقل: «بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». فإن الله عزوجل يصرف بها عنك ما يشاء من أنواع البلاء.

* الشرح:

قوله: (إذا وقعت في ورطة أو بلية فقل) الورطة كل غامض والهلكة وكل أمر يعسر النجاة منه.

ص:433

باب الدعاء عند قراءة القرآن

* الأصل:

1 - قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) يدعوا عند قراءة كتاب الله عزوجل: «اللهم ربنا لك الحمد أنت المتوحد بالقدرة والسلطان المتين، ولك الحمد أنت المتعالي بالعز والكبرياء وفوق السماوات والعرش العظيم، ربنا ولك الحمد أنت المكتفي بعلمك والمحتاج إليك كل ذي علم، ربنا ولك الحمد يا منزل الآيات والذكر العظيم، ربنا فلك الحمد بما علمتنا من الحكمة والقرآن العظيم المبين، اللهم أنت علمتناه قبل رغبتنا في تعلمه وإختصصتنا به قبل رغبتنا بنفعه، اللهم فإذا كان ذلك منا منك وفضلا وجودا ولطفا بنا ورحمة لنا وإمتنانا علينا من غير حولنا ولا حيلتنا ولا قوتنا، اللهم فحبب إلينا حسن تلاوته وحفظ آياته وإيمانا بمتشابهه وعملا بمحكمه وسببا في تأويله وهدى في تدبيره وبصيرة بنوره، اللهم وكما أنزلته شفاء لأوليائك وشقاء على أعدائك وعمى على أهل معصيتك ونورا لأهل طاعتك، اللهم فاجعله لنا حصنا من عذابك وحرزا من غضبك وحاجزا عن معصيتك وعصمة من سخطك ودليلا على طاعتك ونورا يوم نلقاك نستضيء به في خلقك ونجوز به [على] صراطك ونهتدي به إلى جنتك، اللهم إنا نعوذ بك من الشقوة في حمله والعمى عن عمله والجور في حكمه والعلو عن قصده والتقصير دون حقه، اللهم احمل عنا ثقله وأوجب لنا أجره وأوزعنا شكره واجعلنا نراعيه ونحفظه، اللهم اجعلنا نتبع حلاله ونجتنب حرامه ونقيم حدوده ونؤدي فرائضه، اللهم ارزقنا حلاوة في تلاوته ونشاطا في قيامه ووجلا في ترتيله وقوة في استعماله في آناء الليل و [أطراف] النهار.

اللهم واسقنا (1) من النوم باليسير وأيقظنا في ساعة الليل من رقاد الراقدين ونبهنا عند الأحايين التي يستجاب فيها الدعاء من سنة الوسنانين، اللهم اجعل لقلوبنا ذكاء عند عجائبه التي لا تنقضي، ولذاذة عند ترديده، وعبرة عند ترجيعه، ونفعا بينا عند إستفهامه، اللهم إنا نعوذ بك من تخلفه في قلوبنا وتوسده عند رقادنا ونبذه وراء ظهورنا ونعوذ بك من قساوة قلوبنا لما به وعظتنا، اللهم إنفعنا بما صرفت فيه من الآيات وذكرنا بما ضربت فيه من المثلاث وكفر عنا بتأويله السيئات وضاعف لنا به جزاء في الحسنات وارفعنا به ثوابا في الدرجات ولقنا به البشرى بعد الممات، اللهم اجعله لنا زادا تقوتنا به في الموقف وفي الوقوف بين يديك، وطريقا

ص:434


1- (1) في بعض النسخ «واشفنا».

واضحا نسلك به إليك، وعلما نافعا نشكر به نعماءك، وتخشعا صادقا نسبح به أسماءك فإنك اتخذت به علينا حجة قطعت به عذرنا وإصطنعت به عندنا نعمة قصر عنها شكرنا، اللهم اجعله لنا وليا يثبتنا من الذلل، ودليلا يهدينا لصالح العمل وعونا وهاديا يقومنا من الميل وعونا يقوينا من الملل، حتى يبلغ بنا أفضل الأمل، اللهم اجعله لنا شافعا يوم اللقاء، وسلاحا يوم الارتقاء، وحجيجا يوم القضاء ونورا يوم الظلماء، يوم لا أرض ولا سماء، يوم يجزى كل ساع بما سعى، اللهم اجعله لنا ريا يوم الظماء، وفورا يوم الجزاء من نار حامية، قليلة البقيا على من بها إصطلى وبحرها تلظى، اللهم اجعله لنا برهانا على رؤوس الملاء يوم يجمع فيه أهل الأرض وأهل السماء، اللهم ارزقنا منازل الشهداء وعيش السعداء ومرافقة الأنبياء إنك سميع الدعاء».

* الشرح:

قوله: (ربنا لك الحمد) قدم الظرف ولم يذكر المحمود به والمحمود عليه للتخصيص والتعميم والإشعار بإنحصار جميع المحامد فيه واستحقاقه للحمد من جميع الجهات. (أنت المتوحد بالقدرة) على جميع الممكنات بالإيجاد والإبقاء والإفناء لا يشاركك فيها أحد.

(والسلطان المتين) المتين القوي الشديد والسلطان الحجة وقدرة الملك ويضم لامه والوالي الحاكم يؤنث ويذكر وهو على الأولين عطف على القدرة وعلى الأخير على المتوحد. (أنت المتعال بالعز والكبرياء) العز القوة والشدة والغلبة، والكبرياء العظمة والملك وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله سبحانه وتعالى; أي المتعالي عن الخلق في الرتبة والحكم أو عن صفاتهم أو عن إفك المفترين بما له من العز والكبرياء. (وفوق السماوات والعرش العظيم) بالاستيلاء والقدرة لا بالتمكن والاستقرار.

(ربنا ولك الحمد) الواو للإستيناف (أنت المكتفي بعلمك) المحيط بجميع المعلومات فلا تحتاج في الإحاطة بها إلى التعلم من غيرك.

(والمحتاج إليك كل ذي علم) عطف جملة على جملة أو مفرد على مفرد. وذو علم لا يصدق على الله سبحانه; لأن علمه عين ذاته. (يا منزل الآيات والذكر العظيم) اريد به القرآن وبالآيات آياته أو الرسول أو من قام مقامه أو معجزاته.

(ربنا فلك الحمد على ما علمتنا من الحكمة) وهي العلم بما جاء به الرسول من أمر المبدأ والمعاد والأحكام وغيرها. (والقرآن العظيم المبين) أي المظهر للحق أو الفارق بينه وبين الباطل والمراد بتعليمه تعالى توفيقه للتعلم أو تعليم النبي والوصي لأن تعليمهم تعليمه. (اللهم أنت

ص:435

علمتناه قبل رغبتنا في تعلمه) التعليم فينا قبل التعلم وبعد الرغبة فيه ومن ألطافه تعالى ان بدأ بتعليمنا قبل رغبتنا في التعلم ورغبنا فيه.

(واختصصتنا به قبل رغبتنا في نفعه) هذا أيضا من لطف الله تعالى علينا حيث خصصنا به قبل رغبتنا في نفعه ورغبنا فيه بذكر الثواب والجزاء وأيضا أنزل القرآن ولم يكن لنا علم به فضلا عن تعلمه ونفعه وعن الرغبة فيهما.

(اللهم فإذا كان ذلك) أي إنزال القرآن علينا وتعليمنا إياه وإختصاصنا به قبل رغبتنا في تعليمه ونفعه (منا منك) يقال من عليه منا إذا أنعم عليه وإصطنع عنده صنيعا. (وفضلا) أي زيادة في الإحسان إذ إحسانه تعالى علينا غير محصور. (وجودا) أي إحسانا كثيرا بالغا حد الكمال، قال صاحب العدة: الجواد هو المنعم الكثير الإنعام والإحسان، والفرق بين الجود والكرم أن الكرم هو الإعطاء مع السؤال والجود هو الإعطاء من غير سؤال وقيل بالعكس (ولطفا بنا) أي رفقا بنا مع إستحقاقنا للأخذ يقال: لطف به وله يلطف لطفا إذا رفق به (ورحمة لنا) الرحمة وتحرك الرقة والمغفرة والتعطف كالرحمة كذا في القاموس.

(وإمتنانا علينا) في كنز اللغة إمتنان منت نهادن ونعمت دادن وفيه مبالغة وزيادة في المن فلا تكرار. (من غير حولنا) الحول الحركة يقال: حال الشخص يحيل إذا تحرك أي من غير تقلبنا وحركتنا إلى طلب ذلك منك وهو مع ما عطف عليه حال عن اسم كان أو خبر له. (ولا حيلتنا) هي الحذق وجودة النظر والقوة على التصرف يعني لم يكن ذلك من نظرنا وتصرفات عقولنا في الاحتيال إلى الوصول.

(ولا قوتنا) لعجزنا عن تصور تلك النعمة الجليلة إبتداء فضلا عن طلبها وتحصيلها.

(اللهم فحبب إلينا حسن تلاوته) بالترتيل كما أمرتنا به وهو جزاء للشرط.

(وحفظ آياته) عن التبديل والتحريف والزيادة والنقصان.

(وإيمانا بمتشابهه وعملا بمحكمه) ان كان المطلوب منه العمل والعمل شامل للقلب أيضا والمحكم في اللغة المضبوط المتقن، وفي الاصطلاح ما اتضح معناه، وقيل: معناه ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه بخلافه فهو ما يتضح معناه أو ما يحتمل وجوها متعددة ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. والمراد بالإيمان به التصديق بأنه من عند الله تعالى وبأنه يجب رد تأويله إلى أهله وبأنه لا يجوز تأويله وتعيين المراد منه بالرأي والقياس، وأما من كفر بالله فمنهم من أوله برأيه كأكثر المخالفين ومنهم من تبعه إبتغاء للفتنة وطلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام كالزنادقة والقرامطة، ومنهم من تبع ظاهره كالمجسمة والمشبهة حيث جمعوا ما في القرآن مما دل

ص:436

ظاهره على الجسمية والصورة والمشابهة بالخلق واعتقدوا انه تعالى جسم ذا صورة ويشابه بالخلق تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. (وسببا في تأويله) السبب ما يتوسل به إلى الشيء والمراد به هنا أهل العلم أو الطريق الذي بينوه والضمير عائد إلى المتشابه أو إلى القرآن والأول أظهر والثاني أنسب كما لا يخفى. (وهدى في تدبيره) التدبير النظر في عاقبة الأمر والتفكر في صلاحه و «في» بمعناها أو بمعنى «إلى» والهداية راه يافتن وراه نمودن لازم ومتعد، والفاعل على الثاني هو الله تعالى أو الرسول ووصيه ومن أخذ منهم.

(وبصيرة بنوره) البصر محركة حس العين ومن القلب خاطره ونظره والباء متعلقة به يقال بصر به إذا نظر إليه وأدركه ويحتمل أن يكون للسببية أي بصيرة في الامور بسبب نوره وعمله (اللهم وكما أنزلته شفاء لأوليائك) حيث قبلوه فنجوا من مرض الغواية والجهالات. (وشقاء على أعدائك) حيث أنكروه مع اشتماله على توبيخهم وتعذيبهم بأنواع العقوبات.

(وعمى على أهل معصيتك) حيث لا ينظرون إلى ظواهر آياته ولا يعقلون زواجر بيناته (ونورا لأهل طاعتك) حيث يهتدون به إلى سبيل الطاعات وينظرون إلى وجوه الخيرات. (اللهم فاجعله لنا حصنا من عذابك) شبهه بالحصن في أنه من دخله بالتصديق به والعمل بما فيه كان آمنا (وحرزا من غضبك) الحرز العوذة والموضع الحصين الذي يحفظ من دخله من المكاره. والغضب حالة للنفس محركة لها نحو الانتقام أو انفعال النفس من تلك الحالة بالتحرك إليه وإذا نسب إليه تعالى فالمراد به لازمه وهو العقوبة والانتقام.

(وحاجزا عن معصيتك) في زماننا هذا. (وعصمة من سخطك) فيما بقي من عمرنا.

(ودليلا على طاعتك) بالتوفيق للمتابعة وسلوك سبيل الطاعة فلا يرد أن القرآن دليل على طاعته فلا وجه لطلب كونه كذلك. (ونورا يوم يلقاك) وهو يوم القيامة ويوم الموت أيضا وسيجئ في فضل القرآن أنه نور يوم القيامة يقود من صانه إلى الجنة.

(نستضيء به في خلقك) الظاهر أنه حال عن فاعل يلقاك وانفصاله عما قبله وإرادة الإستضاءة به في الدنيا احتمال بعيد كما لا يخفى.

(ونجوز به على صراطك) وهو الجسر المضروب على جهنم في غاية الدقة وحمله على دين الحق محتمل ومن جاز عليه جاز على ذلك بسهولة.

(ونهتدي به إلى جنتك) أي إلى طريقها في الآخرة أو في الدنيا أيضا والأولى متوقفة على الثانية والثانية مستلزمة للاولى.

(اللهم إنا نعوذ بك من الشقوة في حمله) بعدم الرعاية لمبانيه والتفكر في معانيه والعمل بما

ص:437

فيه. (والعمى عن علمه) بالجهل به والإعراض عنه والعمى بالقصر ذهاب بصر العين وبصيرة القلب وعدم إدراكه للحق وبالمد السحاب والمراد به هنا لو ثبت الحجاب المانع من الإدراك.

(والجور في حكمه) بالتجاوز عنه وعدم قبوله.

(والعلو عن قصده) أي التجاوز عن مقصوده واستقامة طريقه والاعتماد به وأصل القصد استقامة الطريق والاعتماد والاقتصاد ضد الإفراط. (والتقصير دون حقه) وهو استماع ما نطق به والاقتفاء له كما ينبغي. (اللهم احمل عنا ثقله) الثقل كعنب ضد الخفة، ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل وثقال كسحاب وغراب، ولما كانت النفس لميلها إلى الكسالة والبطالة قد تثقل عليها الطاعات وتحمل ما في القرآن من الخيرات طلب من الله تعالى رفع ذلك عنها وتوفيقها للسداد والثبات.

(وأوجب لنا أجره) يحفظه عن النقص وعروض المفسدات.

(وأوزعنا شكره) أي ألهمنا شكره وأولعنا به يقال أوزعه الله بالشيء إذا ألهمه وأولعه به (واجعلنا نراعيه ونحفظه) طلب التوفيق لحفظه بعد طلبه لمراعاتها وهي النظر إلى مقاصدها وما يصير إليه أمره يقول: راعيت الأمر إذا نظرت إلى ما يصير وهذا أولى من تفسير المراعاة بالمحافظة لأن التأسيس خير من التأكيد.

(واشفنا من النوم باليسير) جعل النوم الكثير مرضا واليسير منه وهو ما وقع في ست ساعات تقريبا شفاء له ولابد من هذا القدر لإستراحة النفس وخروج القوى من التعب والكلال. (وأيقظنا في ساعة الليل) الإضافة اما بتقدير اللام أو «في» أو «من».

(من رقاد الراقدين) الرقاد والرقود بضمهما النوم كالرقد أو الرقاد مختص بالليل والأنسب من رقادنا إلا أنه اضيف إلى الراقدين للتنبيه على أن المراد به رقاد الليل لأنه وقت إستراحة الخلائق ونومهم. (ونبهنا عند الأحايين التي يستجاب فيها الدعاء من سنة الوسنانين) الأحايين جمع أحيان جمع حين وهو وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر والوسانين جمع الوسنان وهو النائم أو الذي ليس بمستغرق في نومه. والوسن النوم أو أوله وقد وسن يوسن سنة فهو وسن ووسنان، والهاء في السنة عوض من الواو المحذوفة.

(اللهم اجعل لقلوبنا ذكاء عند عجائبه التي لا تنقضي) الذكاء بالفتح والمد شدة قوة النفس المعدة لإكتساب التصورات والتصديقات النظرية من ذكت النار ذكاء إذا إشتد لهبها وارتفع إشتعالها وعجائب القرآن نكاته ولطائفه المندرجة في الأسلوب والمباني وأسراره ودقائقه المندرجة في المقصود والمعاني التي بعضها فوق بعض، والمراد بعدم انقضائها عدم انقطاعها في عقولنا حتى إذا بلغ سرا من أسراره وجد فوقه سرا آخر إلى ما شاء الله.

ص:438

(ولذاذة عند ترديده) لذة وبه لذاذا ولذاذة وجده لذيذا، ولذ هو صار لذيذا ومن إعجاز القرآن أن تكراره يوجب اللذة وزيادة ميل القلب إليه بخلاف غيره.

(وعبرة عند ترجيعه) الترجيع التكرير. والعبرة بالكسر الإتعاظ بما يتعظ به والاعتبار مما يعتبر منه والتعجب مما يتعجب منه لما فيه من الحسن والغرابة من إعتبر منه إذا تعجب وبالفتح الحزن والدمعة أيضا إلا أن الدمعة لا يناسب السياق كما لا يخفى.

(ونفعا بينا عند إستفهامه) بحصول المطالب الجليلة والمقاصد العظيمة والأسرار الدقيقة وتنور القلوب وميلها من الدنيا إلى الآخرة.

(اللهم إنا نعوذ بك من تخلفه في قلوبنا) بعدم دخول معانيه فيها أو بعدم ثباتها إستقرارها فيها (وتوسده عند رقادنا) الوسادة بالتثليث المتكاء والمخدة، توسده جعله وسادة وهو كناية عن إمتهانه وطرحه عند النوم وترك تلاوته والتدبر فيه، يقال: هو لا يتوسد القرآن أي لا يمتهنه ولا يطرحه بل يحمله ويعظمه ويقرؤه.

(ونبذه وراء ظهورنا) كناية عن صرف الوجه عنه وعن قراءته والتفكر فيه والعمل به. (ونعوذ بك من قساوة قلوبنا لما به وعظتنا) وعظه وعظا وعظة وموعظة ذكره ما يلين القلب من الثواب والعقاب وحسن الطاعة وقبح المعصية وقسا قلبه قسوا وقسوة وقساوة صلب وغلظ بحيث لا يقبل الوعظ ولا يتأثر به والقساوة من أعظم أبواب الشقاوة.

(اللهم انفعنا بما صرفت فيه من الآيات) تصريف الآيات تبيينها وهي الآيات الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وعظمته واستحقاقه للعبادة وهي في القرآن كثيرة وقد قال في مواضع منه بعد ذكر عجائب صنعه: (ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون).

(وذكرنا بما ضربت فيه من المثلاث) مثل به كنصر مثلا ومثلة كنصرا ونصرة إذ اسود وجهه أو قطع أنفه أو إذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه والاسم منه المثلة بضم الثاء وسكونها واحدة المثلات، ولعل المراد بها هنا العقوبات النازلة على الامم السابقة بسبب المخالفات. (وكفر عنا بتأويله السيئات) أول الكلام تأويلا دبره وقدره وفسره على الوجه المطلوب منه. (وضاعف لنا به جزاء في الحسنات) أي بسبب تلاوته وتدبره والعمل بما فيه أو بسبب حكمه حيث حكم بأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وإرجاع الضمير إلى التأويل يخالف سائر الضمائر في الجمل المتعاطفة ويوجب خلو المعطوف عن ضمير في المعطوف عليه.

(وارفعنا به ثوابا في الدرجات) أي درجات الجنة والكرامة أو درجات القرب والسعادة.

ص:439

والرفع ضد الخفض والوضع و «في» متعلق به على الظاهر و «ثوابا» بالنصب على التمييز والمقصود طلب الرفع في الدرجات من حيث الأجر والمثوبات.

(ولقنا به البشرى بعد الممات) لقاه الشيء ألقاه إليه ومنه قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن) أي يلقى إليك وحيا من الله تعالى. والبشرى بالضم ما يعطيه البشير.

(اللهم اجعله لنا زادا تقوتنا به في الموقف) القوت المسكة من الرزق التي يتوقف عليها الحياة قاته فاقتات والمراد به القوت الروحاني الذي به الحياة الأبدية والمعارج النفسانية والترقي إلى الدرجات العلية وفي بعض النسخ تقوينا من التقوية.

(وطريقا واضحا نسلك به إليك) القرآن طريق واضح قطعا وإنما المقصود طلب التوفيق لسلوكه. (وعلما نافعا نشكر به نعماك) العلم النافع هو المعمول بمقتضاه والعمل شكر، فالمطلوب هو التوفيق للعمل به.

(وتخشعا صادقا نسبح به أسماءك) طلب أن يجعله سببا للتخشع وهو التخضع والتذلل في القلب أو البدن أو الصوت أو الجميع وغايته تنزيه أسمائه تعالى عن النقص والمدلولات التي لا يليق بذاته فان أسماءه تعالى وان كانت تامة لكنها لا تخلو من الدلالة على المعاني والمفهومات والغايات التي يجب تنزيهه تعالى عنها وقد مر توضيح ذلك في كتاب التوحيد.

(فانك اتخذت به علينا حجة - اه) القرآن حجة على الخلق قاطع لعذرهم من التقصير بعده ونعمة لهم لأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم في الدنيا والآخرة. والقصر كالعنب خلاف الطول وفعله ككرم وفيه إظهار للعجز عن أداء حق شكر تلك النعمة والبلوغ إلى غايته لكن ينبغي أن لا يترك الميسور بالمعسور.

(اللهم اجعله لنا وليا يثبتنا من الذلل) أثبته إثباتا إذا أقره فاستقر وعرفه حق المعرفة والذلل جمع الذلول من الذل بالكسر وهو ضد العقوبة، ولعل المراد أن يثبتنا من هذا الصنف لا من ضده.

وفي بعض النسخ «من الزلل» بالزاي المعجمة.

(ودليلا يهدينا لصالح العمل) ليس المطلوب أصل الدلالة إذ هي ثابتة بل تأثيرها والتوفيق لقبولها. (وعونا وهاديا يقومنا من الميل) الميل بالتحريك هنا العدول والانحراف عن الحق إلى الباطل كالميل بالتسكين.

(وعونا تقوينا من الملل) الملل بالتحريك السأمة والملال من تحمل الحق والعمل به. (حتى يبلغ بنا أفضل الأمل) وهو رجاء القرب والسعادة أو العمل الموجب لهما.

(اللهم اجعله لنا شافعا يوم اللقاء) وهو يوم الموت وهو القيامة الصغرى أو يوم الحشر وهو

ص:440

القيامة الكبرى.

(وسلاحا يوم الارتقاء) الظاهر أنه هذه الدنيا لأنه يوم الارتقاء إلى درجات الأعمال والصعود من حضيض النقص إلى أوج الكمال وإطلاق السلاح وهي آلة الحرب على القرآن من باب الاستعارة إذ به يجاهد الإنسان شياطين الجن والإنس ويدفع عنه صدماتهم وحملاتهم.

(وحججا يوم القضاء) القضاء الحكم، والحجة الدليل والبرهان والغلبة يقال: حجه وعليه إذا غلبه بالحجة وهو حجج أي محاج مغالب بالحجة فعيل بمعنى مفاعل وقد ثبت ان كل أحد يوم القيامة يتمسك بنجاة نفسه بما يظن انه حجة له وان كل خير يحتج لصاحبه وان القرآن حجيج لأهله ينفعه وينجيه من الشدائد وسيأتي توضيح ذلك في أول كتاب فضل القرآن ان شاء الله تعالى.

(ونورا يوم الظلماء) الظلما بضم وضمتين، والظلماء بالفتح وسكون اللام والمد ذهاب النور وقد يشبه الخير بالنور والشر بالظلمة ولما كان يوم القيامة يوم بروز الكامنات وكان الشر فيه أكثر سمي يوم الظلماء ولما كان إطلاق يوم الظلماء على اليوم الشديد الذي كثر فيه الشر مطلقا شائعا لغة أو عرفا خصه بيوم القيامة وقال:

(يوم لا أرض ولا سماء) لتبدلهما كما نطق به القرآن الكريم ولا يعلم حقيقة ذلك الغير إلا الله والراسخون في العلم.

(يوم يجزى كل ساع بما سعى) من خير وشر وتضعيف الحسنات والثواب الراجع إلى الموت من أجل دعاء المؤمنين والمؤمنات لأجل إيمانه أيضا من ثمرة سعيه.

(اللهم اجعله لنا ريا يوم الظماء) الري بالكسر اسم من روى الماء واللبن كرضى ريا بالفتح والظمأ بالفتح والسكون والهمز مصدر ظمى كفرح إذا عطش أو إشتد عطشه وبالكسر اسم منه (وفوزا يوم الجزاء من نار حامية) الحامية هي التي إشتدت حرارتها، قيل: نار جهنم أشد حرا من نار الدنيا بسبعين درجة، والفوز النجاة فاز منه نجى وفي أكثر النسخ نورا بالنون ولعله تصحيف (قليلة البقيا) البقيا بالضم والسكون الرحمة والشفقة اسم من أبقيت عليه إبقاء إذا رحمته وأشفقت عليه ويفهم من لفظ القلة عرفا المبالغة في شدتها كما يقال قليل الترحم على خلق الله للمبالغة في أنه غضوب. ويمكن أن يكون إيماء إلى أنها قد ترحم بعضا وتخف حرارتها له وهو من شاء الله أن يكون عقوبته أخف من عقوبة غيره.

(على من بها إصطلى وبحرها تلظى) الجار في الموضعين متعلق بما بعدها والصلاء بالكسر والمد النار والإصطلاء افتعال من صلى النار كرضى إذا تسخن بها، واللظى كالفتى النار غير منصرفة للعلمية والتأنيث لأنها علم جهنم، والتلظي التلهب والإضطرام.

ص:441

(اللهم اجعله لنا برهانا على رؤوس الملاء) أي حجة ودليلا لنا على مطلوبنا من نيل السعادة والكرامة والثواب والجزاء في دار البقاء أو من ظهور صحة الإيمان والتصديق به وبك وبرسولك وأوليائك في يوم الجزاء.

(اللهم ارزقنا منازل الشهداء) الذين يشهدون للخلق وعليهم يوم القيامة واستشهدوا في سبيل الله. (وعيش السعداء) في الدنيا والآخرة والثاني أظهر والتعميم أجدر. (ومرافقة الأنبياء) فيهما. (إنك سميع الدعاء) تسمعه بلا جارحة وان خفى أو تجيبه وتقبله يقال: اسمع دعائي أي أجب أو أقبل لأن غرض السائل هو الإجابة والقبول.

ص:442

باب الدعاء في حفظ القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عمن ذكره، عن عبد الله بن سنان، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تقول: «اللهم إني أسألك ولم يسأل العباد مثلك أسألك بحق محمد نبيك ورسولك وإبراهيم خليلك وصفيك وموسى كليمك ونجيك وعيسى كلمتك وروحك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وقرآن محمد (صلى الله عليه وآله) وبكل وحي أوحيته وقضاء أمضيته وحق قضيته وغني أغنيته وضال هديته وسائل أعطيته.

وأسألك باسمك الذي وضعته على الليل فأظلم، وباسمك الذي وضعته على النهار فاستنار، وباسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت ودعمت به السماوات فاستقلت ووضعته على الجبال فرست، وباسمك الذي بثثت به الأرزاق وأسألك باسمك الذي تحيي به الموتى وأسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن ترزقني حفظ القرآن وأصناف العلم وأن تثبتها في قلبي وسمعي وبصري وأن تخالط بها لحمي ودمي وعظامي ومخي وتستعمل بها ليلي ونهاري برحمتك وقدرتك فانه لا حول ولا قوة إلا بك يا حي يا قيوم».

قال: وفي حديث آخر زيادة: «وأسألك باسمك الذي دعاك به عبادك الذين استجبت لهم وأنبياؤك فغفرت لهم ورحمتهم وأسألك بكل اسم أنزلته في كتبك وبإسمك الذي إستقر به عرشك وبإسمك الواحد الأحد الفرد الوتر المتعال الذي يملأ الأركان كلها، الطاهر الطهر المبارك المقدس الحي القيوم نور السماوات والأرض الرحمن الرحيم الكبير المتعال وكتابك المنزل بالحق وكلماتك التامات ونورك التام وبعظمتك وأركانك». وقال في حديث آخر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أراد أن يوعيه الله عزوجل القرآن والعلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل ماذي ثم يغسله بماء المطر قبل أن يمس الأرض ويشربه ثلاثة أيام على الريق فإنه يحفظ ذلك إن شاء الله.

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك ولم يسأل العباد مثلك) لإنتفاء المثل لا لإنتفاء السؤال لأن كثيرا من

ص:443

العباد سألوا الغير زلة وخطاء وفيه إظهار العجز والمسكنة والافتقار إليه بحمل السؤال والقيام بين يديه. (أسألك بحق محمد نبيك ورسولك) الرسول أخص من النبي كما مر في كتاب الحجة (وإبراهيم خليلك وصفيك) الخليل الصديق من الخلة بالضم وهي الصداقة والمحبة المختصة التي لا خلل فيها أو التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه وقيل: من الخلة وهي الحاجة والفقر لأنه رفع حاجته إلى الله تعالى لا إلى غيره، والصفى أخص منه لأنه الذي يصافي الود ويخلصه مع صفاء ظاهره وباطنه عن النقائص كلها من الصفو نقيض الكدر ومنه صفو الشيء مثلثة وهو ما صفا منه.

(وموسى كليمك ونجيك) فعيل بمعنى مفاعل والثاني أخص لأن كل مناج مكالم دون العكس. (وعيسى كلمتك وروحك) سمى عيسى كلمة الله لأنه انتفع به وبكلامه أو لأنه وجد بكلمة كن من غير أب وروح الله من باب تسمية الشيء باسم ما يتعلق به ويجاوره إذ الروح ما به حياة الأنفس والإضافة للاختصاص والتشريف كبيت الله أو لأنه صدر منه بلا توسط ما يجري مجرى الأصل والمادة أو لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب وبهما فسر قوله تعالى: (وروح منه) وإنما توسل لحصول المرام أولا بهؤلاء الكرام لأنهم وسائط لمعرفة الله تعالى وحصول الفيض منه.

(وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى وقرآن محمد (صلى الله عليه وآله)) قدم محمدا (صلى الله عليه وآله) في السؤال الأول لتقدمه بحسب الشرف والرتبة ولأنه سبب لوجود الموجودات وبروز كمال الممكنات، وأخره وقرآنه في هذا السؤال لتأخرهما بحسب الوجود في الأعيان وللتنبيه على أنه ينبغي للطالب من التوسل به أولا وآخرا.

(وبكل وحي أوحيت) الوحي الإشارة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقي إلى الغير يقال: وحيت إليه وأوحيته.

(وقضاء أمضيته) القضاء الحكم والإمضاء إنفاذه فالإمضاء إتمام القضاء وهو يتعلق بفعله وفعل العبد أيضا وقد مر تحقيقه في الاصول.

(وحق قضيته) يشمل حقه وحق العباد. (وغنى أغنيته) يشمل الغنى المعروف بين الناس والغنى الاخروي. (وضال هديته) الهداية العامة أو الخاصة المقرونة بالتوفيق لقبول الحق والهداية وهي أنسب وحينئذ إطلاق الضال باعتبار ما كان.

(وسائل أعطيته) وان لم يستحقه وفيه بسط رجاء لحصول مطلوبه وتحقق مأموله. (وباسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت) في الهواء والماء من غير نزول ولا رسوب مع عظمة الحجم وثقالة الجسم. (ودعمت به السماوات) أي جعلته دعامة لها وأقمتها به وهي عماد البيت

ص:444

والخشب المنصوب للتعريش. (فاستقلت) أي ارتفعت مع عظمة حجمها وإشتراكها لسائر الأجسام في الجسمية المقتضية للنزول.

(ووضعته على الجبال فرست) رسى الشيء يرسو إذا ثبت ويفهم من عدم تكرار الاسم في هذه الثلاثة أنها مستندة إلى واحد. (وباسمك الذي بثثت به الأرزاق) أي نشرتها لأصناف المرزوقين وأشخاصهم على وفق ما يناسبهم، يقال بثثت الشيء بالتخفيف فانبث أي نشرته فانتشر وبثثته بالتشديد للمبالغة. (وباسمك الذي تحيي به الموتى) بعد تبدد أجسادهم وتكسر عظامهم وتفرق أجزائهم. الظاهر أن المراد بالاسم هنا الاسم الأعظم وهو كثير كما مر في الاصول وان لكل واحد تعلقا خاصا بشيء وأثرا معينا فيه وأن المراد بوضعه فيه هو ذلك التعلق، ويمكن أن يراد به القادر وهو وان كان واحدا بالذات لكنه متعدد بالحيثيات فانه باعتبار تعلق قدرته بإظلام الليل مغاير له باعتبار تعلقها بإضاءة النهار، وقس على ذلك. والوضع المذكور إشارة إلى تلك الحيثية المغايرة والله يعلم. (وأسألك بمعاقد العز من عرشك) (1) المعاقد جمع المعقد اسم مكان يعقد به الشيء ولعل المراد به خصال العرش التي إستحق بها العز أو صفاته تعالى المعقود بها عز عرشه كالقدرة والقوة وحقيقة معناه بعز عرشك وبما عقد به عزه وهو من صفات العرش أو صفاته تعالى.

(ومنتهى الرحمة من كتابك) الكتاب رحمة للعباد ومنتهاها كناية عن تمامها الشامل للبداية والنهاية. (أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد) أي تعظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإعلان شريعته وفي الآخرة بتشفيعه لامته وتضعيف أجره ومثوبته وإعلاء مرتبته ودرجته.

(وأن ترزقني حفظ القرآن) من ظهر القلب أو الأعم منه ومن محافظته بالعمل بأحكامه وحسن تلاوته والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه والتدبر فيه وفي أسراره.

(وأصناف العلم) المذكور فيه وعلوم القرآن أنواع كثيرة وأصناف غير محصورة بعضها متعلق بأحوال المبدأ والمعاد، وبعضها بكيفية خلق آدم وأحوال العباد وبعضها بإيجاد الأرضين

ص:445


1- (1) كتب في هامش بعض النسخ قوله: (وأسألك بمعاقد العز من عرشك) المعاقد جمع معقد اسم مكان أي ما يعقد به والمراد هنا ما يعقد به العز أي الملائكة الجلالية وهم القاهرون فوق العباد الحاكمون يوم المعاد والعباد تحت سطوات عزهم محرقة مقهورة ووراء لمعات جلالهم مستهلكة مغلوبة وبهم يظهر قدرة الله وقوته وعظمته وجلاله وكبرياؤه وسطوته وسلطانه وهم من عرش الرحمن ومظاهر عز لحضرة السبحان أي المقربين له المنقادين لأمره لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون والمسؤول به ههنا اللذون وقعوا حجابا للمحجوبين ونقابا للمبعدين وسدوا شديدا طريق الملحدين والكافرين وحاصل المعنى إني أسألك صفاتك الجلالية التي هي من عرشك أي ملائكتك المقربين ويمكن أن يكون المراد من العرش الجسم الكلي أي فلك الأفلاك فيكون المراد على هذا الملائكة الحاملين لعرش الرحمن الحافين حوله (نمقه الفقير مهدي).

والسماوات إلى غير ذلك مما يعجز عن عده فحول العلماء ويتحير في أدنى مراتبه عقول العقلاء (وأن تثبتها في قلبي وسمعي وبصري وأن تخالط بها لحمي ودمي وعظامي ومخي) إثباتها في هذه الجوارح عبارة عن جعلها ملكة راسخة فيها، ويمكن أن يكون فيه إشارة إجمالية إلى أصناف العلم لأن بعضها علوم عقلية صرفة وبعضها علوم آلية، فمنها ما يحصل من طريق السمع ومنها، ما يحصل من طريق البصر، ومنها ما يحصل بالمخالطة من طريق الذوق ومنها ما يحصل من طريق الشم ومنها ما يحصل من طريق اللمس ومنها ما يحصل من طرق الحواس الباطنة (وتستعمل بها ليلي ونهاري) سؤال عن توفيق العمل بها وفي تعليق العمل بالليل والنهار وتجوز باعتبار وقوعه فيهما.

(برحمتك وقدرتك) متعلق بقوله: «ترزقني» إلى آخره أو بقوله: «تستعمل» والأول أشمل والثاني أظهر وفي الجمع بين الرحمة والقدرة إيماء إلى تحقق المطلوب لأنهما كالعلة التامة له.

(فانه لا حول ولا قوة إلا بك يا حي يا قيوم) علة للسؤال المذكور وإستعطاف لحصوله بالانقطاع إليه عزوجل وفي النداء أيضا توقع لحصوله لأن الحي هو الفعال المدرك لا يفوته شيء مما أراد والقيوم هو القائم على كل شيء بالرعاية والحفظ والإصلاح والتدبر فيه وفي أحواله.

(قال: وفي حديث آخر زيادة) فاعل قال أبان مع الواو، والصادق (عليه السلام) مع عدمها كما في بعض النسخ، وقوله: «في حديث آخر زيادة» على الأول مبتدأ وخبر والجملة مقول القول وقوله: «زيادة» على الثاني مقول القول وقوله: في حديث آخر» ظرف له أو متعلق بزيادة ثم أشار إلى الزيادة بقوله:

(وأسألك) أي هي وأسألك على حذف المبتدأ وإضافة الزيادة إليه محتملة وفي محل الإضافة تأمل وكأنه بعد قوله: «ومنتهى الرحمة من كتابك» فليتأمل.

(باسمك الذي دعاك به عبادك الذين استجبت لهم) دل على ان التوسل إجمالا بالاسم الذي يستجاب به الدعاء مؤثر في الاستجابة وان لم يعلم بعينه لكن الظاهر أن تأثيره مع العلم به أقوى وأشد يظهر ذلك للمتوسل بالاسم الأعظم مع العلم وعدمه.

(وأنبياؤك فغفرت لهم ورحمتهم) دلت الآيات الكريمة على أن ذلك الاسم هو الرب.

(وبكل اسم أنزلته في كتبك) فيه توسل بأسمائه كلها إجمالا وكونه كالتوسل بها تفصيلا أم لا محل كلام ذكرناه سابقا.

(وبإسمك الذي إستقر به عرشك) ان اريد به الفلك الأعظم فالمراد بإستقراره استقراره في مكانه المقدر له وهو أعلى الارتفاعات من غير نزول ولا صعود وان اريد به عالم الملك والملكوت فالمراد استقرار كل شيء في مرتبته.

ص:446

(وبإسمك الواحد الأحد) وصفان للإسم أو بدلان وهما إسمان يشملهما نفي الإبعاض والإجزاء والفرق بينهما: أن الواحد هو المنفرد بالذات والأحد هو المنفرد بالمعنى كذا في العدة (الفرد الوتر المتعال) الفرد هو المنفرد بربوبيته والوتر هو الموجود وحده لا موجود معه، والمتعال المتنزه عن صفات المخلوقين أو معناه العالي فوق خلقه بالقدرة عليهم.

(الذي يملأ الأركان كلها) أركان كل شيء جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها ولعل المراد هنا أركان مجموع الكائنات من حيث المجموع وأركان كل واحدة منها ومعنى يملأها يغلبها من ملأه إذا غلبه والملاء بالتحريك الغلبة أو يملأها علما وقدرة من ملاء الماء الإناء فامتلاء على سبيل التمثيل.

(الطاهر الطهر المبارك المقدس الحي القيوم) الطاهر المتنزه عن الأشياء والأنداد والأمثال والأضداد والصاحبة والأولاد والحدوث والزوال والسكون والانتقال والطول والعرض والدقة والغلظة والحرارة والبرودة وبالجملة هو طاهر عن معاني المخلوقات متعال عن صفات الممكنات كذا في العدة. والمطهر المنزه عن إمكان الإتصاف بشيء من المعاني المذكورة والمبارك بالكسر المثيب المديم لما أعطاه من الوجودات والخيرات والتشريفات الدنيوية والاخروية من بارك بمعنى أثبت وأدام ومنه في الصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله) وبارك على محمد وآل محمد، أو ذو البركة والزيادة للخير والثواب لمن يشاء وبالفتح المقدس وهو المنزه عن العيوب والنقائص ومن تبارك الله أي تقدس وتنزه.

(ونور السماوات والأرض) في كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم اختلف في النور، فقيل:

جسم وقيل: عرض وإذا انحصر النور في أنه جوهر أو عرض استحال أن يكون سبحانه نورا لاستحالة أن يكون جوهرا أو عرضا، ثم النور لغة اسم لهذه الأنوار الفائضة عن الشمس والقمر والكواكب والنار على الأرض والجدران وغيرهما ويمتنع أن يكون سبحانه نورا بهذا التفسير لاستحالة أن يكون ذاته تعالى هذه الأضواء وإذا امتنع أن يكون نورا بكل تفسير من تفاسير النور تعين تأويل قوله: (الله نور السماوات والأرض) فقال محيي الدين: منورهما أي خالق أنوارهما، وقيل: معناه هادي أهلهما، وقيل: معناه مدبر أمرهما وقال الأصيلي: معناه منور آفاقهما بالنجوم والقلوب بالدلائل والمنور بهذه المعاني صفة فعل لا صفة ذات. أقول: يمكن أن يكون إطلاق النور عليه سبحانه باعتبار أن به ظهور وجودات الأشياء من بطن العدم.

(الرحمن) في الدنيا للكل بإكمال المهيات ولوازمها وآثارها وإعطاء الأرزاق وما يحتاج إليه في

ص:447

الوجود والبقاء.

(الرحيم) في الآخرة للمؤمنين بالتفضلات ورفع الدرجات. (الكبير المتعال) عن صفات المخلوقين أو عن الوصول إلى كنه ذاته وصفاته عقول العارفين والكبير هو العظيم ذو الكبرياء والعظمة وهي عبارة عن كمال الذات والوجود.

(وكتابك المنزل بالحق) عطف على اسمك. (وكلماتك التامات) مر تفسيرها. (وبعظمتك) عظمته عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول حتى لا يتصور الإحاطة بكنه ذاته والعظمة في الأجسام كبر الطول والعرض والعمق والله تعالى جل قدره عن ذلك.

(وأركانك) لعل المراد بها صفاته الذاتية، ولا يبعد أن يراد بها الأنبياء والرسل والأوصياء (عليهم السلام) والإضافة للتشريف.

(من أراد أن يوعيه الله عزوجل القرآن والعلم) أي يجعله واعيا حافظا لهما بالفهم والعمل، يقال: وعاه إذا عقله وفهمه وعمله.

(فليكتب هذا الدعاء) المذكور (في إناء نظيف) من النجاسة والوسخ (بعسل ماذي) الماذي العسل الأبيض الجديد أو الخالص الجيد.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

أعلمك دعاء لا تنسى القرآن: «اللهم ارحمني بترك معاصيك أبدا ما أبقيتني وارحمني من تكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن المنظر فيما يرضيك عني، والزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني اللهم نور بكتابك بصري واشرح به صدري وفرح به قلبي وأطلق به لساني واستعمل به بدني وقوني على ذلك وأعني عليه، إنه لا معين عليه إلا أنت، لا إله إلا أنت» قال: ورواه بعض أصحابنا، عن وليد بن صبيح، عن حفص الأعور، عن أبي عبد الله (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (اللهم ارحمني بترك معاصيك أبدا) باللطف والتوفيق لتركها. (ما أبقيتني) تأكيد لأبدا، «ما» زمانية كما في قوله: «ما دمت حيا».

(وارحمني من تكلف ما لا يعنيني) أي ما لا يهمني يقال عناه الأمر يعنوه ويعنيه عناية وعناية أهمه وإعتنى به إهتم. (وارزقني حسن المنظر فيما يرضيك عني) من العلم والعمل وسبل الخير

ص:448

كله والمنظر إما مصدر ميمي بمعنى النظر أو اسم مكان وهو ما نظرت إليه، يقال: هو حسن المنظر أي يعجبك إذا نظرت إليه والظرف على الأول متعلق به وعلى الثاني متعلق بارزقني. (والزم قلبي حفظ كتابك) كما علمتني بالقراءة والتعلم والتفهم والتدبر والعمل بما فيه. (وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني) وهو التلاوة بالترتيل وأداء الحروف وحفظ الوقوف وإظهار الحركات والسكنات مع التدبر في حسن مبانيه ولطف معانيه وصرف القلب إلى أسراره.

(اللهم نور بكتابك بصري) طلب التوفيق للنظر إليه أو زيادة نور البصر بالنظر إليه. (واشرح به صدري) شرح كمنع كشف وفتح ووسع والمراد بشرح الصدر كشف الحجب عن وجوه المعقولات الأسرار الإلهية أو توسيعه للمناجاة الربانية وإزالة الجهالات والرذائل النفسانية (وفرح به قلبي) تفريح القلب كناية عن توسيعه لقبول الحق والعلوم الربانية وإتصافه بالفضائل النفسانية الباعثة لتحمل المشاق والتكليفات الجسمانية.

(وأطلق به لساني) طلب التوفيق لتلاوته وقراءته. (وإستعمل به بدني) أو بسببه أو بما فيه من الأحكام وفيه طلب التوفيق للعمل.

(وقوني على ذلك) طلب كمال القوة تحرزا من الكلال والضعف فيها. (وأعني عليه) طلب الإعانة عليه بعد طلب التقوية تمسكا بحول الله وقوته لا حول ولا قوة إلا بالله.

ص:449

باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن إسماعيل بن سهل، عن عبد الله بن جندب، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قل: «اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بنشطي لمعاصيك، وخر لي في قضائك، وبارك [لي] في قدرك حتى لا احب تأخير ما عجلت ولا تعجيل ما أخرت، واجعل غناي في نفسي ومتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارثين مني وانصرني على من ظلمني وأرني فيه قدرتك يا رب وأقر بذلك عيني».

* الشرح:

قوله: (اللهم اجعلني أخشاك) طلب الخشية يستلزم طلب كمال العلوم والمعرفة كما قال تعالى شأنه: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ولذلك قال:

(كأني أراك) طلبا لتوفيق الوصول إلى مقام المشاهدة وهو مقام رفيع لا يبلغه إلا خاص الخواص كالأنبياء والأوصياء والأولياء وغيرهم ممن أخذت باعه العناية الأزلية وهذا المقام أن يبلغ العبد في أعماله وأفكاره بحيث يستغرق في بحار المكاشفة كأنه يرى الله سبحانه كما قال (صلى الله عليه وآله):

«جعلت قرة عيني في الصلاة» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما عبدت إلها لم أره» حين سئل هل رأيت الله؟، وليس المراد بهذه الرؤية رؤية البصر بل المراد بها رؤية البصيرة التي لا تكشف عن حقيقتها العبارة وهناك مقامان آخران: أحدهما مقام المراقبة وهو أن يخشى الله كأن الله سبحانه يراه، والآخر وهو أدونهما بل لا نسبة بينه وبينهما أن لا يبلغ هذين المقامين ولكن ينطبق أفعاله وأقواله على قوانين الشرع وهو الموفق والمعين.

(وأسعدني بتقواك) وهي ترك كل ما يؤثم. (ولا تشقني بنشطي لمعاصيك) الشقاوة ضد السعادة أشقاه الله جعله شقيا وحكم بشقاوته، والنشط بالفتح والسكون طيب النفس لشيء والتذاذها نشط كسمع نشطا ونشاطا بالفتح فيما طابت نفسه للعمل وغيره والباء للسببية ولعل المقصود إزالة المسبب وهو الحكم بالشقاوة بإزالة سببه والتوفيق لها.

(وخر لي في قضائك) أي اجعل لي في قضائك للأشياء وحكمك عليها خيرا من خار الله لك

ص:450

في الأمر إذا جعل لك فيه الخير.

(وبارك لي في قدرك) بارك من البركة بمعنى الزيادة يعني زد لي في تقديرك للامور رزقا وغيره مما يصلح به أمري في الدنيا والآخرة. (حتى لا احب تأخير ما عجلت ولا تعجيل ما أخرت) لكون كل واحد من المعجل والمؤخر خيرا وبركة لي على ذلك التقدير.

(واجعل غناي في نفسي) غناها عبارة عن رضاها بالمقدر والكفاف ورفض زوائد الدنيا والطمع فيها وفيما في يد أهلها وصرف غنائها إلى أمر الآخرة وما يوجب النجاة من أهوالها وهذه النفس غنية في الدنيا والآخرة مطمئنة مندرجة في قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).

(ومتعني بسمعي وبصري) طلب التوفيق لإستماع الآيات ومشاهدة الآثار الواضحات الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته ليستدل بها على المطالب العالية الموجبة للسعادة الأبدية (واجعلهما الوارثين مني) مثله في طريق العامة قال ابن الأثير: أي أبقيهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، وقيل: أراد بقاؤهما وقوتهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية فيكون السمع والبصر وأرثي سائر القوى والباقين بعدها.

(وانصرني على من ظلمني) نصره إذا أعانه على عدوه وفيه طلب للإقتدار على الانتقام ممن ظلمه بالمثل أو على دفع الظلم. (وأرني فيه قدرتك يا رب) تأكيد للسابق أو طلب لإنتقامه تعالى منه سريعا عاجلا (وأقر بذلك عيني) القرة والقرار مصدران والأول بمعنى البرودة والثاني بمعنى الثبات والسكون يقال: قرت عينه تقر كسمع وضرب قرة إذا بردت دمعتها وقرارا إذا ثبتت وسكنت عن الاضطراب في النظر والإشراف فقوله: «أقر» إن كان من الأول فمعناه أبرد بذلك دمعة عيني وهو كناية عن الفرح والسرور لأن دمعة السرور باردة وان كان من الثاني معناه أثبت وأسكن بذلك عيني عن الاستشراف إلى غيرك طلبا للمغيث لحصول الأمنية وما كنت متشوقا إليه.

* الأصل:

2 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي سليمان الجصاص، عن إبراهيم بن ميمون قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اللهم أعني على هول يوم القيامة وأخرجني من الدنيا سالما وزوجني من الحور العين واكفني مؤونتي ومؤونة عيالي ومؤونة الناس وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين».

* الشرح:

قوله: (اللهم أعني على هول يوم القيامة) بالتفضل والعفو أو بالتوفيق للإحتراز عن

ص:451

الزلات الموجبة للهول في ذلك اليوم وهو الفزع والخوف والأمر الشديد وقد هاله يهوله فهو هائل ومهول.

(وأخرجني من الدنيا سالما) من الذنوب التي بيني وبينك بالعفو أو بالتوفيق للتوبة ومن التبعات التي بيني وبين خلقك بالتخلص منها إما بالتعويض منك أو بالأداء مني أو بالتحليل منهم (وزوجني من الحور العين) هن نساء أهل الجنة واحدتهن حوراء بالفتح وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها.

(واكفني مؤونتي ومؤونة عيالي ومؤونة الناس) المؤونة كل ما يحتاج إليه والتمون كثرة النفقة على العيال مانه إذا أنفق عليه وقام بكفايته والكفاية قيام شخص مقام آخر في قضاء حوائجه وفي القاموس يقال كفاه الأمر إذا قام مقامه فيه.

(وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) أي بتوفيقك للعمل بما عملوا وتقبله بقبول حسن فذكر السبب وأراد المسبب وإنما حملنا على ذلك لأن رجاء شيء بدون التمسك بسببه سفه كما دل عليه بعض الروايات.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قل: «اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك وأعوذ بك من كل سوء أحاط به علمك، اللهم إني أسألك عافيتك في أموري كلها، وأعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك) سأله كذا وعن كذا وبكذا بمعنى طلبه ف «من» إما بمعنى عن أو بمعنى الباء ويحتمل أن يكون لبيان الجنس أو للتبعيض لأن طلب جميع الخيرات الدنيوية والاخروية طلب محال. (وأعوذ بك من كل سوء أحاط به علمك) السوء بالفتح مصدر ساء سوءا إذا فعل به ما يكره وبالضم وهو الأنسب هنا اسم منه وهو كل آفة ومكروه وفي الفقيه: «من كل شر». (اللهم إني أسألك عافيتك في اموري كلها) امور الدنيا والآخرة والعافية مصدر عافاه الله عافية إذا دفع عنه المكروه والمراد بالامور إما الجنس الشامل للمحبوبة والمكروهة أو المختص بالمحبوبة فعلى الأول طلب دفع الامور المكروهة عنه وعلى الثاني طلب دفع الآفات عنه ليحصل له الامور المحبوبة على وجه الكمال.

(وأعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) العوذ إما منهما طلبا للتفضل أو من أسبابهما طلبا للتوفيق على ترك تلك الأسباب.

ص:452

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن علي بن زياد، قال: كتب علي بن بصير يسأله أن يكتب له في أسفل كتابه دعاء يعلمه إياه يدعو به فيعصم به من الذنوب جامعا للدنيا والآخرة فكتب (عليه السلام) بخطه: «بسم الله الرحمن الرحيم، يامن أظهر الجميل وستر القبيح ولم يهتك الستر عني، يا كريم العفو، يا حسن التجاوز يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة يا صاحب كل نجوى ويا منتهى كل شكوى يا كريم الصفح، يا عظيم المن يا مبتدىء كل نعمة قبل استحقاقها، يا رباه يا سيداه يا مولاه يا غياثاه صل على محمد وآل محمد وأسألك أن لا تجعلني في النار». ثم تسأل ما بدا لك.

* الشرح:

قوله: (فكتب (عليه السلام) بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم) ليست التسمية في العدة. (يامن أظهر الجميل) من أفعال العباد في الدنيا والآخرة. (وستر القبيح) منها فيهما نقل صاحب العدة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن جبرئيل (عليه السلام) نزل عليه بهذا الدعاء من السماء ونزل عليه ضاحكا مستبشرا فقال: السلام عليك يا محمد، فقال: وعليك السلام يا جبرئيل.

فقال: ان الله عزوجل بعث إليك بهدية قال: وما تلك الهدية يا جبرئيل؟ قال: كنز من كنوز الجنة أكرمك الله بها قال: وما هي يا جبرئيل: قال قل: «يامن أظهر الجميل وستر القبيح - اه» مع إختلاف يسير كما سنشير إليه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجبرئيل: ما ثواب هذه الكلمات؟ قال: هيهات هيهات انقطع العمل لو اجتمع ملائكة سبع سماوات وملائكة سبع أرضين إلى أن يصفوا ثواب ذلك إلى يوم القيامة ما وصفوا من كل جزء جزءا واحدا فإذا قال العبد: «يامن أظهر الجميل وستر القبيح» ستره الله ورحمه في الدنيا وجمله في الآخرة وستر الله عليه ألف ستر في الدنيا والآخرة وإذا قال: «يامن لم يؤاخذ بالجريرة ولم يهتك الستر» وفي هذا الكتاب: «ولم يهتك الستر عني» لم يحاسبه الله تعالى يوم القيامة ولم يهتك ستره يوم تهتك الستور وإذا قال: «يا عظيم العفو» وفي هذا الكتاب:

«يا كريم العفو» غفر الله له ذنوبه ولو كانت خطيئته مثل زبد البحر وإذا قال: (يا حسن التجاوز) تجاوز الله عنه حتى السرقة وشرب الخمر وأهاويل الدنيا وغير ذلك من الكبائر وإذا قال: «يا واسع المغفرة» فتح الله له سبعين بابا من الرحمة فهو يخوض في رحمة الله تعالى حتى يخرج من الدنيا وإذا قال: «ويا باسط اليدين بالرحمة» وفي العدة بدون الواو بسط الله يده بالرحمة عليه وإذا قال:

ص:453

«يا صاحب كل نجوى ويا منتهى كل شكوى» وفي العدة «ومنتهى» بدون حرف النداء أعطاه الله من الأجر ثواب كل مصاب وسالم وكل مريض وضرير وكل مسكين وكل فقير وكل صاحب مصيبة إلى يوم القيامة وإذا قال: «يا كريم الصفح» أكرمه الله كرامة الأنبياء وإذا قال: «يا عظيم المن» أعطاه الله يوم القيامة منيته ومثل منية كل الخلائق وإذا قال: «يا مبتدىء كل نعمة قبل استحقاقها» وفي العدة: «يا مبتدءا بالنعم قبل استحقاقها» أعطاه الله من الأجر بعدد من شكر نعماءه وإذا قال: «يا رباه يا سيداه» وفيها: «يا ربنا ويا سيدنا» قال الله تعالى: اشهدوا ملائكتي قد غفرت له وأعطيته من الأجر بعدد من خلقته في الجنة والنار والسماوات السبع والشمس والقمر والنجوم وقطر الأمطار وأنواع الخلق والجبال والحصى والثرى وغير ذلك والعرش والكرسي» وإذا قال: «يا مولاه» وفيها: «يا مولانا» أملأ الله قلبه من الإيمان وإذا قال: «يا غياثاه» وفيها: «يا غاية رغبتنا» أعطاه الله تعالى رغبته ومثل رغبة الخلائق وهذا الثواب بما في العدة أنسب وإذا قال: «صل على محمد وآل محمد وأسألك أن لا تجعلني في النار» وفيها: «أسألك يا الله أن لا تشوه خلقي» بدون التصلبية والواو.

قال الجبار: «استعتقني عبدي من النار أشهدوا ملائكتي إني قد أعتقته من النار وأعتقت أبويه وأخوته وأهله وولده وجيرانه وشفعته في ألف رجل ممن وجبت له النار وأجرته من النار». ثم قال جبرئيل (عليه السلام): فعلمهن يا محمد المتقين ولا تعلمهن المنافقين فإنها دعوة مستجابة لقائلهن ان شاء الله.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي عبد الله البرقي وأبي طالب عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «اللهم أنت ثقتي في كل كربة وأنت رجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل عنه القريب ويشمت به العدو وتعييني فيه الامور أنزلته بك وشكوته إليك راغبا فيه عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيتنيه فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حاجة ومنتهى كل رغبة، فلك الحمد كثيرا ولك المن فاضلا».

* الشرح:

قوله: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب) الكرب بالفتح الحزن الشديد يأخذ بالنفس كالكربة، والثقة مصدر بمعنى الإيمان: يقال وثق به كورث ثقة إذا ائتمنه والحمل للمبالغة أو المصدر بمعنى المفعول وفيه إظهار للانقطاع عن الغير وله مدخل تام في حصول المطالب. (وأنت رجائي في كل

ص:454

شدة) الرجاء ضد اليأس والحمل كما مر.

(وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة) الظرف وهو لي وفي متعلق بثقة والتقديم لرعاية السجع دون الحصر وفي بعض النسخ و «لي» بمعنى الناصر وقوله: «ثقة» حينئذ خبر بعد خبر ونصبه على التميز أو الحال بعيد. والعدة بالضم ما أعددته وهيأته ليوم الحاجة وحوادث الدهر. (كم من كرب) كم خبرية للتكثير.

(يضعف عنه الفؤاد) لكثرته. (وتقل فيه الحيلة) لعظمته مع ضعف القوة عن استعمال الحيلة لدفعه. (ويخذل عنه القريب) الظاهر أن «يخذل» مبني للمفعول و «عن» للتعليل وفي الكنز:

مخذول خوار وبد بخت شده.

(ويشمت به العدو) الشماتة الفرح ببلية العدو وفعلها من باب علم. (وتعييني فيه الامور) أعياه أذله وأخضعه و «في» إما للتعليل أو بمعنى الباء أو بمعنى مع والظرفية المجازية محتملة.

* الأصل:

6 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان، عن عيسى بن عبد الله القمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قل: «اللهم إني أسألك بجلالك وجمالك وكرمك أن تفعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك بجلالك وجمالك وكرمك) الجلال العظمة والجمال الحسن والمراد به حسن أفعاله وكمال أوصافه وقد فسر في النهاية الجميل فيما روي من: «ان الله جميل يحب الجمال» بأنه حسن الأفعال كامل الأوصاف. والكرم الجود وفي النهاية: الكريم هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه وهو الكريم المطلق، والكريم الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل.

* الأصل:

7 - عنه، عن ابن محبوب، عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال لي: أكثر من أن تقول: «اللهم لا تجعلني من المعارين، ولا تخرجني من التقصير». قال: قلت: أما المعارين فقد عرفت فما معنى «لا تخرجني من التقصير»؟ قال: كل عمل تعمله تريد به وجه الله عزوجل فكن فيه مقصرا عند نفسك، فإن الناس كلهم في أعماله فيما بينهم وبين الله عزوجل مقصرون.

* الشرح:

قوله: (قلت أما المعارين فقد عرفت) أنهم الذين لم يستقر الإيمان والدين في قلوبهم فكأنه عارية عندهم يؤخذ منهم ويسلب عنهم يوما والمعارين اسم مفعول من إستعاره ثوبا فأعاره إياه

ص:455

والعارية مشددة الياء وقد تخفف كأنها منسوبة إلى العار لأن طلبها عار.

(فما معنى لا تخرجني من التقصير) لما كان ظاهر هذا الكلام طلب ترك الإجتهاد في العمل وهو ليس بمراد سأل عن المراد منه فأشار إليه (عليه السلام).

(وقال: كل عمل تعمله تريد به وجه الله عزوجل) وهو عمل الآخرة وإحترز به عن عمل الدنيا فانه لا ينبغي أن يعد نفسه في ترك الجد فيه مقصرة.

(فكن فيه مقصرا عند نفسك) واعترف بالتقصير فيه وان بالغت في تصحيحه وإجتهدت في تكميله (فان الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون) غير عابدين حق عبادته.

(إلا من عصمه الله) من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وهم مع ذلك اعترفوا بالتقصير تذللا وإستكانة وإستحقارا بالنظر إلى عظمته وإحسانه واستحقاقه لما هو أهله.

* الأصل:

8 - عنه، عن ابن محبوب، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أعين قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لقد غفر الله عزوجل لرجل من أهل البادية بكلمتين دعا بهما، قال: «اللهم إن تعذبني فأهل لذلك أنا، وإن تغفر لي فأهل لذلك أنت». فغفر الله له.

9 - عنه، عن يحيى بن المبارك، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن عمه، عن الرضا (عليه السلام) قال: «يامن دلني على نفسه وذلل قلبي بتصديقه، أسألك الأمن والإيمان في الدنيا والآخرة».

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن أبي حمزة، عن أبيه، قال:

رأيت علي بن الحسين (عليهما السلام) في فناء الكعبة في الليل وهو يصلي فأطال القيام حتى جعل مرة يتوكأ على رجله اليمنى ومرة على رجله اليسرى ثم سمعته يقول بصوت كأنه باك: «يا سيدي تعذبني وحبك في قلبي؟ أما وعزتك لئن فعلت لتجمعن بيني وبين قوم طال ما عاديتهم فيك».

* الشرح:

قوله: (يا سيدي تعذبني وحبك في قلبي) الواو للحال والاستفهام للإنكار وحمله على الحقيقة بعيد، والمراد بالعذاب عذاب الآخرة فلا ينافي ورود البلايا في الدنيا لرفع الدرجات على أن البلايا لأجله لا يسمى تعذيبا.

(أما وعزتك لئن فعلت لتجمعن بيني وبين قوم طال ما عاديتهم فيك) كأنه (عليه السلام) أراد أن المعاداة يوجب الافتراق والتعذيب يوجب الاجتماع وهما لا يجتمعان لأن تنافي اللوازم يستلزم تنافي الملزومات وإرادة أن الجمع يوجب شماتة العدو وأنت لا ترضى بها بعيدة.

ص:456

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن بعض أصحابنا، عن داود الرقي قال: إني كنت أسمع أبا عبد الله (عليه السلام) أكثر ما يلح به في الدعاء على الله بحق الخمسة يعني: رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم.

12 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب، عن إبراهيم الكرخي قال:

علمنا أبو عبد الله (عليه السلام) دعاء وأمرنا أن ندعو به يوم الجمعة: «اللهم إني تعمدت إليك بحاجتي وأنزلت بك اليوم فقري ومسكنتي فأنا [اليوم] لمغفرتك أرجا مني لعملي ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي فتول قضاء كل حاجة هي لي بقدرتك عليها وتيسير ذلك عليك ولفقري إليك فإني لم اصب خيرا قط إلا منك ولم يصرف عني أحد شرا قط غيرك وليس أرجو لآخرتي ودنياي سواك ولا ليوم فقري يوم يفردني الناس في حفرتي وأفضي إليك يا رب بفقري».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني تعمدت إليك بحاجتي) تعمده قصده والباء للمصاحبة. (وأنزلت بك اليوم فقري ومسكنتي) يحتمل أن يراد بالفقر المعنى المعروف أعني عدم شيء من متاع الدنيا وان يراد به فقد ما يوجب الثواب الأخروي وإطلاقه على هذا المعنى أيضا متعارف في الشرع كما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «الفقر الموت الأحمر فقيل له: الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال: لا; ولكن من الدين» ويؤيد الثاني التفريع بعده وللمسكنة أيضا معنى معروف يحتمل أن يكون هو المراد ويحتمل غيره وهو الذي أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «مسكين ابن آدم مكتوم الأجل مكنون العلل محفوظ العمل تؤلمه البقة تقتله الشرقة تنتنه العرقة» فقد فسر (عليه السلام) مسكنته بستة أشياء: لا يدرك متى يكون وقت موته فانه مكتوم مستور منه ومن غيره لاقتضاء مصلحة عامة ذلك، وعلله وأمراضه مكنونة مستورة عنه لا يعلم متى يصير مريضا، وأعماله محفوظة بالنقير والقطمير (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، ويؤذيه أقل شيء حتى البق، يؤلمه، ويشرق بالماء أي يغص به فيهلك والشرقة الغصة، ويصير بدنه نتنا بأقل عرق يسيل منه، وبالجملة مسكنته عبارة عن عجزه.

(فأنا اليوم لمغفرتك أرجا مني لعملي) أراد أن رجاء النجاة أو الدرجة الرفيعة للمغفرة أزيد وأقوى من الرجاء للعمل لأن الوعد بالمغفرة حق ثابت والتقصير في العمل متحقق وقبوله غير

ص:457

معلوم ولفظ اليوم فيما رأيناه من النسخ نسخة وفي الصحيفة السجادية: «بمغفرتك وبعملي» بالباء.

(ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي) إذ مراتب المغفرة والرحمة غير محصورة والذنوب محصورة وغير المحصور أوسع من المحصور وهو في اللفظ إخبار وفي المعنى إظهار لرجائهما (فتول قضاء كل حاجة هي لي) في ذكر المبتدأ وهو «هي» تكرار لذكر الحاجة مع إفادة ثبوتها ولو لم يذكره فهم الثبوت دون التكرار ولا ريب في أن ذكر الحاجة مكررا أدخل في الرجاء وأقرب إلى القضاء.

(بقدرتك عليها) لإمكانها ونفاذ قدرتك على جميع الممكنات. (وتيسير ذلك) أي القضاء.

(عليك) لعدم الاحتياج فيه إلى استعمال الروية والآلات بل هو مترتب على مجرد الإرادة والفعل المترتب عليه في غاية السهولة. (ولفقري إليك) هذه الثلاثة وهي كمال قدرته على قضاء الحاجة وتيسيره عليه وصرف وجه الفقر إليه موجبة لقضاء الحاجة ولذلك توسل بها. (فإني لم أصب خيرا إلا منك قط) دليل على قوله فتول قضاء كل حاجة هي لي لأنه إذا كان أصابه الخير وصرف الشر دائما منه لا من غيره كان قضاء الحاجات متوقعا منه قطعا.

(وليس أرجو لآخرتي ودنياي سواك) المقصود بسط الرجاء إليه وطلب حصول المرجو.

(ولا ليوم فقري) أي ليس أرجو ليوم فقري سواك و «لا» زائدة لتأكيد النفي وقوله في الآخر «بفقري» متعلق بيفردني أو بأفضى والباء للمصاحبة أي مع فقري.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عطية، عن يزيد الصايغ قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): ادع الله لنا، فقال: «اللهم ارزقهم صدق الحديث وأداء الأمانة والمحافظة على الصلوات، اللهم إنهم أحق خلقك أن تفعله بهم اللهم وافعله بهم».

* الشرح:

قوله: (اللهم ارزقني صدق الحديث) في الامور الدينية والدنيوية. (وأداء الأمانة) الإلهية والبشرية. (والمحافظة على الصلوات) الواجبة والمندوبة والمراد بمحافظتها فعلها في أوقاتها بشرائطها وأركانها.

* الأصل:

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: «اللهم من

ص:458

علي بالتوكل عليك والتفويض إليك والرضا بقدرك والتسليم لأمرك، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت يا رب العالمين».

* الشرح:

قوله: (اللهم من علي بالتوكل عليك) المن الإنعام يقال: من عليه منا إذا أنعم وإصطنع عنده صنيعة والتوكل على الله في الامور. الجاؤها إليه والاعتماد فيها عليه، وهو نعم الوكيل لأنه القيم الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم القادر المستقل بفعل الأمر الموكول إليه.

(والتفويض إليك) التفويض الرد يقال: فوض إليه الأمر تفويضا إذا رده إليه وجعله الحاكم فيه، ولعل المعتبر في مفهومه رد الاختيار إليه وسلبه عن نفسه بالكلية لا في مفهوم التوكل وهو بهذا الاعتبار يمتاز عن التوكل.

(والرضا بقدرك) القدر وقد يسكن تقدير الامور ويطلق أيضا على تلك الامور المقدرة كما يشعر به كلام ابن الأثير وأورد عليه بأن الكفر والفسق من الامور المقدرة والرضا بهما كفر وفسق والجواب عنهما في شرح كتاب العلم.

(والتسليم لأمرك) التسليم الانقياد وفسره الصادق (عليه السلام) بالإخبات وهو الخشوع والتواضع.

* الأصل:

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن سجيم، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وهو رافع يده إلى السماء: «رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا، لا أقل من ذلك ولا أكثر» قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا بن أبي يعفور إن يونس بن متى وكله الله عزوجل إلى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب، قلت فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ قال: لا ولكن الموت على تلك الحال هلاك.

* الشرح:

قوله: (رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا) طرف بعينه حرك جفنها والمرة منه طرفة (فأحدث ذلك الذنب) كأنه الخروج من بين قومه بدون إذنه عزوجل حين شاهد إنكارهم له وقرب موعدهم عذابهم.

(قلت فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ قال: لا) ليس هذا كفر جحود وهو ظاهر ولا كفر مخالفة لأنه لم يترك ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه وإنما فعل ما لم يؤذن به لظنه أنه جائز وهو عند الله عظيم

ص:459

(ولكن الموت على تلك الحال هلاك) الهلاك في اللغة الموت والضلالة والثاني هو المراد هنا، وترك الأولى ضلالة بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء موجب لنقصان درجتهم.

* الأصل:

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد رفعه قال: أتى جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: إن ربك يقول لك: إذا أردت أن تعبدني يوما وليلة حق عبادتي فارفع يديك إلي وقل: «اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدا لا أمد له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك، اللهم لك الحمد كله ولك المن كله ولك الفخر كله ولك البهاء كله ولك النور كله ولك العزة كلها ولك الجبروت كلها ولك العظمة كلها ولك الدنيا كلها ولك الآخرة كلها ولك الليل والنهار كله ولك الخلق كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، اللهم لك الحمد حمدا أبدا، أنت حسن البلاء، جليل الثناء، سابغ النعماء، عدل القضاء، جزيل العطاء، حسن الآلاء، إله في الأرض وإله في السماء، اللهم لك الحمد في السبع الشداد ولك الحمد في الأرض والمهاد ولك الحمد طاقة العباد ولك الحمد سعة البلاد ولك الحمد في الجبال الأوتاد ولك الحمد في الليل إذا يغشى ولك الحمد في النهار إذا تجلى ولك الحمد في الآخرة والاولى ولك الحمد في المثاني والقرآن العظيم وسبحان الله وبحمده والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون، سبحان الله وبحمده، كل شيء هالك إلا وجهه، سبحانك ربنا وتعاليت وتباركت وتقدست، خلقت كل شيء بقدرتك وقهرت كل شيء بعزتك وعلوت فوق كل شيء بارتفاعك وغلبت كل شيء بقوتك وإبتدعت كل شيء بحكمتك وعلمك وبعثت الرسل بكتبك وهديت الصالحين بإذنك وأيدت المؤمنين بنصرك وقهرت الخلق بسلطانك، لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، لا نعبد غيرك ولا نسأل إلا إياك ولا نرغب إلا إليك، أنت موضع شكوانا ومنتهى رغبتنا وإلهنا ومليكنا».

* الشرح:

قوله: (وقل اللهم لك الحمد حمدا خالدا مع خلودك) إما أن يراد بالحمد ثوابه فطلب بقاء الثواب وخلوده ببقائه سبحانه وخلوده وإما أن يراد به حقيقة الحمد فطلب أن يكتبه من الحامدين في أبد الآبدين فكأنما صدر عن الحامد بهذه العبارة حمدا غير متناه كما يشعر به قوله: (ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك) أي عند علمك فان الظاهر منه تكثر أفراد الحمد وعدم

ص:460

تناهيه كما أن معلوماته تعالى غير متناهية وإنما قلنا الظاهر ذلك لاحتمال أن يراد حمدا لا منتهى لثوابه ثم إرتفع وقال:

(ولك الحمد حمدا لا أمد له دون مشيئتك) فأحال الأمر فيه على المشيئة وليس للحمد وراء ذلك منتهى فأشار إلى أن حمد الله سبحانه أعز عن أن يصوره الحسبان أو يكفيه الزمان والمكان ولم ينته أحد من الخلق منتهاه وبهذه الرتبة إستحق (صلى الله عليه وآله) أن يسمى أحمد.

(ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إلا رضاك) طلب هذا الفرد من الجزاء لأن قليله أعظم من الجميع عند العارفين كما قال عز وجل: (ورضوان من الله أكبر) ولأن حصوله مستلزم لحصول الجميع. (اللهم لك الحمد كله) لأن المحامد كلها لك ومنك وإليك.

(ولك المن كله) المن الإحسان والعطاء بلا طلب الجزاء ومن أسمائه تعالى المنان لأنه المحسن المعطي بلا سبق استحقاق ولا طلب جزاء، وإحسان الغير وعطاؤه راجعان إليه لأنه الموفق والمعين له على ذلك.

(ولك الفخر كله) الفخر ادعاء العظم والكبر والشرف وكل ذلك له بحسب الذات والوجود والصفات على الإطلاق.

(ولك البهاء كله) البهاء الحسن ولعل المراد أن حسن الذات والصفات والأفعال كله لك لتنزهك عن الإمكان والحدوث والنقص والحاجة إلى الغير وكمال أفعالك وإبتنائها على الحكمة والمصلحة. (ولك النور كله) أي نور الحجب أو نور الأجرام النورانية أو نور الهداية إذ بنور هدايته يبصر ذو العماية ويرشد ذو الغواية ولو اريد بالنور هو الله سبحانه باعتبار أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره لورد ان لفظ «لك» و «كله» مناف له.

(ولك العزة كلها) العزة القوة والشدة والغلبة وله العزة بهذه المعاني كلها وإما العزة لغيره ممن وهبها له مع كونها عين ذل بالنسبة إلى عزته التي لا تغلب ولا تضعف ولا تقهر فهي راجعة إليه لأنها منه. (ولك الجبروت كلها) الجبروت فعلوت من جبره إذا قهر لقهره على العباد بالأمر والنهي وعلى الممكنات كلها بما أراد من المنهيات ولوازمها وآثارها أو من جبر العظم المكسور إذا أصلحه لإصلاحه الممكنات وإخراجها من النقص إلى الكمال أو من جبره إذا أحسن إليه وأغناه بعد فقر لإحسانه إلى الممكنات وإغنائها بعد فقرها.

(ولك العظمة كلها) العظمة بمعنى تجاوز قدره عن الإحاطة بكنه ذاته وصفاته مختصة به وكل عظمة سواها مع كونها أمرا إضافيا له ومنه تعالى.

(ولك الدنيا كلها ولك الآخرة كلها) إذ لا مالك لهما ولا متصرف فيهما إيجادا وإبقاء أو منعا

ص:461

وإعطاء غيرك لا شريك لك.

(ولك الليل والنهار كله) إذ خلقتهما وتعاقبهما واختلافهما في الظلمة والنور والمقدار وتداخل بعض كل منهما في الآخر في أوقات مختلفة بل في وقت واحد وإنما هي بتقديرك وتدبيرك. (ولك الخلق كله) أي المخلوق من المجردات والماديات أو إيجاده تقديره لك لا شريك لك فيه. (وبيدك الخير كله) كل ما صدر منه فهو خير وكل خير فهو منه وبقوته وتوفيقه (وإليك يرجع الأمر) أمر العباد كله.

(علانيته وسره) لأن علمك بالسر كعلمك بالعلانية فتجزيهم بما عملوا ان خيرا فخير وان شرا فشر. (اللهم لك الحمد حمدا أبدا) أكده طلبا لهذا الفرد الذي لا انقطاع له ولا لجزائه وهو تأكيد للسابق.

(أنت حسن البلاء) من البين انه تعالى لا يفعل عبثا ولا يظلم أحدا ولا يفعل فعلا تعود الفائدة إليه ومن هذه المقدمات يعلم أن كل ما أبلى به العباد وإختبرهم به مما هو خير أو شر في ظاهر نظرهم فهو حسن في نفس الأمر وفيه مصالح جمة لهم في الدنيا والآخرة.

(جليل الثناء) الثناء وصف يمدح به والجليل العظيم وعظمته ارتفاع قدره بحيث لا يصل إليه عقول العقلاء ولا يحيط به ألسنة الأذكياء قال سيد الأنبياء: «لا احصي ثنا عليك أنت كما أثنيت على نفسك». (سابغ النعماء) سبوغها تمامها وكمالها وإتساعها فانظر كيف بسط خوان النعمة والإحسان على بساط الوجود وعالم الإمكان.

(عدل القضاء) حكمه في التكوين والتكليف والثواب والعقاب وغيرها عدل لا جور فيه أصلا لتنزهه عنه. (جزيل العطاء) الجزيل الكثير والعطا وقد يمد، ما يعطى كالعطية وقد بلغت كثرته حدا لا يبلغ العد والإحصاء (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

(حسن الآلاء) وهي النعم وقد أشار سابقا إلى سبوغها وهنا إلى حسنها ونضارتها فلا حاجة إلى تخصيص السابقة بالظاهرة وهذه بالباطنة أو بالعكس مع أنه لا وجه له. (إله في الأرض وإله في السماء) إله فعال بمعنى مألوه أي معبود فيهما مستحق للعبادة مع أهلهما وفيه أقوال اخر ذكرناه في شرح التوحيد.

(اللهم لك الحمد في السبع الشداد) الشداد جمع شديدة أي قوية محكمة لا تتغير ولا تتأثر بمر الدهور أو مرتفعة من شد النهار إذا إرتفع. (ولك الحمد في الأرض المهاد) وصف الأرض بما هو من صفات جنسها للتأكيد في التعميد وحصر الحمد في السماء والحمد في الأرض فيه عزوجل لا ينافي حمد الملائكة للمؤمنين وثنائهم وحمد بعض أهل الأرض بعضا لأن هذا أيضا له

ص:462

حقيقة إذ هو المولى للنعم والمعطي للخيرات والموفق لها.

(ولك الحمد طاقة العباد) أخبر بأن الحمد في قدر طاقة العباد مختص به إختصاصا حقيقيا وهو له أهل ولعل الغرض منه ان ثناءه بذلك القدر أو طلب أو يكون موازنا له. (ولك الحمد سعة البلاد) أي في سعة البلاد وهو مثل ما مر في اعتبار الوجهين ويحتمل أن يكون من قبيل قولهم: لك الحمد ملء الأرض فكنى عن كثرته بأنه لو كان جسما لكان مكانه سعة البلاد. (ولك الحمد في الجبال الأوتاد) للأرض كيلا تهتز ولا تتحرك والجبال تحمده (وان من شيء إلا يسبح بحمده) على ان لها أهلا يحمدونه وبعد التنبيه باختصاص الحمد به تعالى في كل الأمكنة نبه باختصاص الحمد به في كل الأزمنة فقال: (ولك الحمد في الليل إذا يغشى) كل ما يمكن إدراكه بالبصر أو الشمس أو النهار.

(ولك الحمد في النهار إذا تجلى) أي انكشف من ظلمة الليل أو تبين ووضح بطلوع الشمس (ولك الحمد في الآخرة والاولى) لأن خير الآخرة والدنيا كلها منك والمحامد فيها كلها لك.

(ولك الحمد في المثاني والقرآن العظيم) المثاني سورة الحمد على الأشهر وهو المروي عن الأئمة (عليهم السلام) وفيه أقوال اخر مذكورة في القاموس وفي مجمع البيان وإنما سميت به لأنها تثنى في الصلاة، وقيل: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة لما حولت القبلة ولم يثبت ذلك والظاهر أنها مكية فقط وعلى هذا ذكر القرآن من باب ذكر الكل بعد الجزء ومن باب ذكر العام بعد الخاص بناء على ان القرآن يطلق على الكل وعلى كل جزء منه.

(وسبحان الله وبحمده) أي انزهه تنزيها عن جميع النقائص وأنا متلبس بحمده على التوفيق للتنزيه أو جميع الأحوال.

(والأرض جميعا) أي جميع أصنافها وهو السبع أو جميع أبعاضها (قبضته يوم القيامة) قبضه بيده يقبضه تناوله بها والقبضة بالفتح وهو يضم ما قبضت عليه وهو المقدار المقبوض بالكف (والسماوات مطويات بيمينه) قال المفسرون: فيه تنبيه على عظمة الله تعالى وكمال قدرته على إفناء العالم وتخريبه وأنهما أهون شيء عليه على سبيل التخييل والتمثيل من غير اعتبار القبضة حقيقة ومجازا والمقصود أن الأرض جميعها تحت قدرته يقلبها كيف يشاء ثم ان الذي يقبضه القابض بكفيه تحت قدرته وإن طي السماوات مقدور له كما ان طي القرطاس ونحوه مقدور لنا وذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار.

(سبحانه وتعالى عما يشركون) من اعتبار الشريك له أو وصفه بما لا يليق به.

(كل شيء هالك إلا وجهه) أي ذاته فان الوجه الذاتي ينافي الهلاك وأما الممكن لعدم اقتضاء

ص:463

ذاته الوجود فهو في مرتبة ذاته هالك وان اتصف بالوجود ويمكن أن يراد بالوجه ما يتوجه به العبد إلى الله فانه ثابت باق وكل ما سواه فهو هالك فان.

(سبحان ربنا) سبحان بمعنى التنزيه إذا اضيف إلى المفعول وبمعنى التنزه إذا اضيف إلى الفاعل والأول أولى لأنه أكثر والثاني هنا أنسب بما عطف عليه. (وتعاليت) عن إدراك الأوهام والعقول ذاتك وصفاتك. (وتباركت) أي تقدست عن اتصاف المخلوقات بصفاتك وتطهرت عن تشابه ذواتهم بذاتك أو ثبت ذاتا وصفاتا (كذا؟) لبقاء ذاتك ودوام صفاتك من غير تبدل وتغير من برك بروكا إذا ثبت. (وتقدست) أي تطهرت عن الإتصاف بصفات المخلوقات وتنزهت عن التشابه بالممكنات (وخلقت كل شيء) من المجردات والجسمانيات. (بقدرتك) وفيه رد على من زعم انه لم يخلق إلا واحدا ومن زعم أن فعله بالإيجاب. (وقهرت كل شيء بعزتك) القهر الغلبة والعزة القوة والشدة وهو سبحانه قاهر غالب على جميع الممكنات بالإيجاد والإعدام والإبقاء والإفناء ووضع كل شيء في حدوده وتدبير ما أراد من خواصه وآثاره بعزته التي لا تدفع وغلبته التي لا تمنع.

(وعلوت فوق كل شيء بإرتفاعك) قدرا ورتبة ووجودا وعلة لا مكانا لأنه تعالى ليس بمكاني وفي ذكر الفوق فائدة: وهو أنه تعالى فوق كل شيء; بيان ذلك أن فوق كل شيء أعلاه ومنتهاه كالسطح للبيت فلو حذف لفهم أنه علا وصعد كل شيء ولا يستلزم ذلك البلوغ فوقه والعلو عليه بخلاف ما إذا ذكر كما يظهر ذلك بالتأمل في قولك: علوت سطح البيت وعلوت البيت.

(وغلبت كل شيء بقدرتك) هذا قريب من قوله: «وقهرت كل شيء بعزتك» وتخصيص القهر بالإيجاد والإبقاء والغلبة بالإعدام والإفناء بعيد والتأكيد محتمل ومثله في الأدعية كثير (وإبتدعت كل شيء بحكمتك وعلمك) الابتداع الاختراع وهو الإيجاد بلا مادة ولا مدة ولا مثال ولا تعليم ولا تعلم والعلم أعم من الحكمة لأن إدراك الشيء علم به وإذا إعتبر معه إدراك إتقانه وأحكامه ومصالحه وحسن عاقبته وغير ذلك مما اعتبر به تمامه وكماله فهو حكمة، ومن ثم قيل: الحكمة عبارة عن معرفة أفضل العلوم والحكيم من يحكم الأشياء ويتقنها وقيل: من يحسن دقائق الصناعات ويتقنها.

* الأصل:

17 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قال: [لي] أبو عبد الله (عليه السلام) إبتداء منه يا معاوية: أما علمت أن رجلا أتى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فشكى الإبطاء عليه في الجواب في دعائه فقال له: فأين أنت عن الدعاء السريع الإجابة؟

ص:464

فقال له الرجل: ما هو؟ قال: قل: «اللهم إني أسألك باسمك العظيم الأعظم الأجل الأكرم المخزون المكنون النور الحق البرهان المبين الذي هو نور مع نور ونور من نور ونور في نور ونور على نور ونور فوق كل نور ونور يضيىء به كل ظلمة ويكسر به كل شدة وكل شيطان مريد وكل جبار عنيد، ولا تقر به أرض ولا تقوم به سماء ويأمن به كل خائف ويبطل به سحر كل ساحر وبغي كل باغ وحسد كل حاسد، ويتصدع لعظمته البر والبحر ويستقل به الفلك حين يتكلم به الملك فلا يكون للموج عليه سبيل وهو اسمك الأعظم الأعظم الأجل الأجل النور الأكبر الذي سميت به نفسك وإستويت به على عرشك، وأتوجه إليك بمحمد وأهل بيته أسألك بك وبهم أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (قل اللهم أني أسألك باسمك العظيم الأعظم الأجل الأكرم المكنون المخزون) وصفه بالعظيم نظرا إلى ذاته وبالتفضيل نظرا إلى غيره وتلك العظمة والزيادة لا يعلم حدهما ولا قدرهما إلا الله. ثم الاسم الأعظم كثير واحد منه لا يعلمه إلا هو والبواقي يعلمها الأنبياء على التفصيل المذكور في كتاب التوحيد، ثم الظاهر أن المراد منه هنا هو الأول بقرينة وصفه بالمخزون المكنون إذ المتبادر منه أنه المخزون عند الله المستور عن الخلق كلهم، ويمكن أن يراد به الثاني أو الأعم ويراد بالمخزون المخزون عند أهله وبالمكنون المستور عن غير أهله. (النور الحق البرهان المبين) وصفه بثلاثة أوصاف: الأول أنه نور لأنه مظهر لآثار غريبة وأفعال عجيبة وظهور تلك الآثار والأفعال به كظهور المبصرات بالشمس.

الثاني أنه حق ثابت في الواقع ليس بمجرد الاعتبار والوهم والخيال وبالجملة ليس تأثيره كتأثير بعض المؤثرات الوهمية والخيالية، الثالث أنه البرهان المبين أي الحجة الظاهرة لأهله فيما أراد واريد إذا تمسك به ألا ترى أن آصف سليمان كيف حقق دعواه به والأنبياء كيف أظهروا المعجزات بالتوسل به أقل من طرفة عين. (الذي هو نور مع نور ونور من نور ونور في نور ونور على نور ونور فوق كل نور) النور معروف وقد مر، وكثيرا ما يطلق على ما يبين الأشياء وعلى ما يتسبب للخير وعلى ما يتوسل به إلى المطالب الحقة ومن ثم يطلق على الله تعالى في لسان الشرع وألسنة الحكماء حتى قيل انه نور الأنوار لأنه يصدر منه الأنوار كلها، وعلى الاسم الأعظم وعلى غيره من أسمائه تعالى وعلى ما هي مباديه من الخيرات وعلى نبينا والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وعلى القرآن الكريم. إذا عرفت هذا فنقول لعل المراد منه في قوله: «مع نور» نبينا والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وفي

ص:465

قوله: «من نور» الله جل شأنه ومن ابتدائية لأنه نشأ منه وفي قوله «في نور» القرآن الكريم، وفي قوله:

«على نور» الآثار والخيرات والمطالب الحاصلة بالتوسل به والمبالغة في نوريته محتملة، وفي قوله «فوق كل نور» سائر الأسماء الحسنى هذا ما خطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.

(ونور يضييء به كل ظلمة - اه) هي معروفة ويمكن أن يراد بها الجور أو الفتنة أو الشرور أو الشبهة على سبيل الحقيقة أو التشبيه والاستعارة والإضاءة ترشيح، ومريد بمعنى مارد وهو العاتي المتمرد الشديد وعتيد بمعنى عاتد وهو المايل عن طريق الحق المخالف الراد له مع العلم والمعرفة به وفعله كنصر وسمع وكرم.

(وتقر به أرض ولا تقوم به سماء) القرار الثبات والسكون يقال قر بالمكان يقر به بالفتح والكسر قرارا إذا ثبت وسكن، والظاهر أن «به» متعلق بالفعل المذكور وأن الباء للسببية أو بمعنى مع وأنه يفهم منه بحسب المقام أن عدم قرار الأرض وعدم قيام السماء عند الدعاء به على زوالهما من غير حاجة إلى تقديره، وقال بعض أفاضل المتأخرين: «به» متعلق بفعل مقدر لا بالمذكور تقديره لا تقر أرض ولا تقوم سماء إذا دعى به عليهما، ولا يخفى بعده لأن حذف الشرط وإرادته وإبقاء جزء منه غير معروف والله يعلم.

(ويأمن به كل خائف - اه) المراد أن شأنه ذلك ان أراد العالم به ولكنه قد لا يريد لمصلحة أو طلب أجر كما لم يرد نبينا (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مع شدة أحوالهم وبالجملة العالم به لا يفعل كل ما هو قادر عليه.

(ويتصدع لعظمته البر والبحر) كما تصدع لآصف وموسى (عليهما السلام). (ويستقل به الفلك حين يتكلم به الملك فلا يكون للموج عليه سبيل) الفلك بالضم السفينة ويذكر وهو للواحد والجمع والفرق بينهما بالاعتبار كما حقق في موضعه، والمراد باستقلاله ارتفاعه من قولهم: استقل الطائر إذا إرتفع أو ذهابه من قولهم: استقل القوم إذا ذهبوا وإرتحلوا. (وهو اسمك الأعظم الأعظم الأجل الأجل) التكرير للتأكيد في عظمته أو للتخصيص بالأعظم المخزون عنده تعالى.

(النور الأكبر) من أن يوصف ويدرك ذاته ونوره وعظمته أو من الأنوار كلها. (الذي سميت به نفسك) ليس الغرض من التسمية به أن يدعو هو نفسه به لأنه لا حاجة له إلى ذلك كما مر في كتاب التوحيد ولا أن يدعوه الخلق به بخصوصه لأنهم لا يعلمونه بل لأغراض اخر منها أن يدعوه بها مجملا كما في هذا الدعاء وغيره ويتحصل من الدعاء به كذلك أنواع من المطالب كما لا يخفى على ذوي البصائر. (واستويت به على عرشك) الظاهر أن الباء للتعدية أي جعلته مستوليا على عرشك يجري حكمه وأثره عليه لا للاستعانة ولا للمصاحبة لأنه تعالى منزه عنهما ولعل المراد

ص:466

بالعرش عالم الملك وهو عالم الإمكان كله وحمله على الفلك الأعظم محتمل والله أعلم.

(أسألك بك وبهم) دل على كمال شرف محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حيث قرنهم بذاته تعالى في السؤال بعد السؤال بالاسم الأعظم.

* الأصل:

18 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن خلف بن حماد، عن عمرو بن أبي المقدام قال: أملأ علي هذا الدعاء أبو عبد الله (عليه السلام) وهو جامع للدنيا والآخرة، تقول بعد حمد الله والثناء عليه:

«اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الحليم الكريم، وأنت الله لا إله إلا أنت العزيز الحكيم وأنت الله لا إله إلا أنت الواحد القهار، وأنت الله لا إله إلا أنت الملك الجبار وأنت الله لا إله إلا أنت الرحيم الغفار، وأنت الله لا إله إلا أنت شديد المحال وأنت الله لا إله إلا أنت الكبير المتعال، وأنت الله لا إله إلا أنت السميع البصير وأنت الله لا إله إلا أنت المنيع القدير، وأنت الله لا إله إلا أنت الغفور الشكور وأنت الله لا إله إلا أنت الحميد المجيد (1)، وأنت الله لا إله إلا أنت الغفور الودود وأنت الله لا إله إلا أنت الحنان المنان، وأنت الله لا إله إلا أنت الحليم الديان وأنت الله لا إله إلا أنت الجواد الماجد، وأنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد وأنت الله لا إله إلا أنت الغائب الشاهد، وأنت الله لا إله إلا أنت الظاهر الباطن وأنت الله لا إله إلا أنت بكل شيء عليم، تم نورك فهديت وبسطت يدك فأعطيت ربنا وجهك أكرم الوجوه وجهتك خير الجهات وعطيتك أفضل العطايا وأهنؤها تطاع ربنا فتشكر وتعصى فتغفر لمن شئت، تجيب المضطر [ين] وتكشف السوء وتقبل التوبة وتعفو عن الذنوب لا تجازى أياديك ولا تحصى نعمك ولا يبلغ مدحتك قول قائل، اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وروحهم وراحتهم وسرورهم وأذقني طعم فرجهم وأهلك أعداءهم من الجن والإنس، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واجعلنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإجعلني من الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون، وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وبارك لي في المحيا والممات والموقف والنشور والحساب والميزان وأهوال يوم القيامة وسلمني على الصراط وأجزني عليه وارزقني علما نافعا ويقينا صادقا وتقى وبرا وورعا وخوفا منك وفرقا يبلغني منك زلفى ولا يباعدني عنك وأحببني ولا تبغضني وتولني ولا تخذلني وأعطني من جميع خير الدنيا والآخرة ما علمت منه وما لم أعلم وأجرني من السوء كله بحذافيره ما علمت منه وما لم أعلم».

ص:467


1- (1) في نسخة «وأنت الله لا إله إلا أنت الغني الحميد».
* الشرح:

قوله: (وهو جامع للدنيا والآخرة) لاشتماله على مصالحهما ومنافعهما والاحتراز عن مضارهما وما يليق بالواجب من صفات الكمال ونعوت الجلال.

(تقول بعد الحمد والثناء) قد مر أنه ينبغي تقديم التحميد والتمجيد على الدعاء بطلب المقاصد والمطالب ومر أيضا بعضه وأفضله التحميد المذكور في أول الصحيفة السجادية.

(اللهم أنت الله) أنت مبتدأ أو خبر، وهو أولى لإفادة الحصر فقوله: (لا إله إلا أنت) على الأول تأسيس وعلى الثاني تأكيد للحصر.

(الحليم الكريم) أي متأن عن عقوبة العاصي غير مستعجل فيها وجواد لا ينفد عطاؤه وهو بيان للمستثنى لا للإيضاح إذ لا إبهام فيه بل لأن يجعل الثناء بالتوحيد لازما واقعا محققا لا شبهة فيه وقس عليه البواقي.

(العزيز الحكيم) أي الغالب القوي الذي لا يغلب والحاكم القاضي بالحق أو الذي يحكم الأشياء ويتقنها والحكيم على الأول بمعنى فاعل وعلى الثاني بمعنى مفعل.

(الواحد القهار) هو الواحد الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه غيره أو الذي لا نظير له ولا مثل ولا يتجزى ولا ينقسم وهو القهار أي الغالب على جميع الخلائق مبالغة من قهره إذا غلبه.

(الملك الجبار) لأنه مالك رقاب الممكنات ونواصيها يحكم فيها ما يشاء كيف يشاء وجبر الخلائق على ما أراد من أمر أو نهي أو جبر نقائص حقائق الممكنات بوجوداتها أو علا فوقهم بحيث لا يتناوله أيدي الأفكار والأوهام.

(الرحيم الغفار) بوصول فيض رحمته إلى العالمين وبلوغ نعمة مغفرته إلى المذنبين ففيض رحمته معد للعالمين وخوان مغفرته مبسوط للمذنبين.

(شديد المحال) أي شديد المكائد والاهلاك أو العقوبة على أعدائه ووصفه تعالى به باعتبار المتعلق وفي القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعقال والعذاب والعداوة والقوة والشدة والإهلاك، محل به مثلثة الحاء محلا ومحالا كاده.

(الكبير المتعال) أي العظيم المتعالي عن صفات الخلق من الكبر بالكسر وهو العظمة يقال كبر ككرم أي عظم فهو كبير.

(السميع البصير) العليم بالمسموعات والمبصرات بذاته لا بتوسط الآلة كالإنسان ونحوه فالسمع والبصر فيه عزوجل نوعان من مطلق العلم والتسمية باعتبار المطلق.

(المنيع القدير) المنيع في حقه تعالى القوي الذي يمنع عن أهل طاعته ويحوطهم وينصرهم

ص:468

وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد ويعطيه ما يريد والقدير أبلغ من القادر لما فيه من المبالغة في نفاذ كل ما أراد بحيث لا راد لإرادته ولا مضاد لقدرته.

(الغفور الشكور) هما من أبنية المبالغة يعني يستر ذنوب العباد وعيوبهم ويغطي خطاياهم وذنوبهم ويشكر قليلا من أعمالهم ويجعله كثيرا ويضاعف لهم الجزاء ويعطيهم جزيلا. (الحميد المجيد) في النهاية الحميد المحمود على كل حال يعني في السراء والضراء والشدة والرخاء، والمجد في كلام العرب الشرف الواسع وهو ماجد مفضال كثير الخير شريف، والمجيد فعيل منه للمبالغة وقيل: هو الكريم الفعال وقيل: إذا قرن شرف الذات حسن الفعال سمي مجيدا وفعيل أبلغ من فاعل فكأنه يجمع معنى الجليل والوهاب والكريم. (وأنت الله لا إله إلا أنت الغني الحميد) في العدة الغني هو المستغني عن الخلق بذاته فلا يعرض له الحاجات وبكماله وقدرته عن الآلات والأدوات وكل ما سواه محتاج إليه في وجوده فهو الغني المطلق، وهذه الفقرة مكتوبة في الأصل معلمة النسخة.

(الغفور الودود) في النهاية الودود فعول بمعنى مفعول من الود والمحبة يقال: وددت الرجل أوده ودا إذا أحببته. فالله تعالى مودود أي محبوب في قلوب أوليائه، أو هو فعول بمعنى فاعل أي أنه يحب عباده الصالحين أي يرضى عنهم.

(الحنان المنان) هما من أبنية المبالغة، والأول معناه الرحيم لعباده أو الذي يقبل على من أعرض عنه من الحنان بالفتح والتخفيف وهو الرحمة من الحنين وهو الشوق إلى الشيء والميل إليه والتعطف عليه، والثاني معناه المنعم المعطي من المن وهو العطاء لا من المنة أو المحسن إلى من لا يطلب الجزاء عليه.

(الحليم الديان) الحليم ذو الصفح والأناة وهو الذي لا يغيره جهل الجاهلين ولا عصيان العاصين، والديان من الدين بمعنى الجزاء وهو الذي يدين العباد ويجزيهم بأعمالهم وقيل: من الدين بمعنى القهر والديان القهار وهو الذي دان كل شيء على ما أراد أي قهرهم عليه فأطاعوه كما قالت السماوات والأرض (أتينا طائعين)، واعلم أن الدين في اللغة أيضا الغلبة والإستعلاء والملك والحكم والتدبير، ويمكن أن يكون الديان منه بهذه المعاني أيضا.

(الجواد الماجد) قال صاحب العدة: الجواد المنعم المحسن الكثير الإنعام والإحسان، والفرق بينه وبين الكريم أن الكريم الذي يعطي مع السؤال والجواد، الذي يعطي من غير سؤال وقيل: بالعكس.

(الواحد الأحد) الواحد المنفرد بالذات والأحد المنفرد بالمعنى وبعبارة اخرى الواحد الأحد

ص:469

الفرد الذي لم يزل بلا تجزية ولا تركيب ولا تعدد ولا تكثر، ولا يجمع هذين الوصفين إلا لله سبحانه إذ لكل موجود سواه نظير وشبيه - ولو ببعض الوجوه - وجزء وتكثر وان كان بسيطا ومن ثم قيل: لا وحدة في عالم الإمكان.

(الغائب الشاهد) أي الغائب عن مدارك العقول والأوهام والشاهد العالم الذي لا يعزب عنه شيء كما صرح به ابن الأثير في النهاية، ثم قال: إذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم وإذا اضيف إلى الامور الباطنة فهو الخبير وإذا اضيف إلى الامور الظاهرة فهو الشهيد ويمكن أن يراد به الشاهد على الخلق يوم القيامة أو الشاهد عند كل شيء بآثار قدرته وآثار عظمته.

(الظاهر الباطن) أي الظاهر بالحجج والدلائل والأعلام. والباطن المتحجب عن إدراك الحواس والعقول والأوهام فهو ظاهر جلي بوجود ذاته وباطن خفي بكنه ذاته وحقيقة صفاته، وقيل: المراد بظهوره أنه ظهر فوق كل شيء وعلا عليه وببطونه أنه داخل كل شيء يعني أن علمه ببواطن الأشياء كعلمه بظواهرها.

(بكل شيء عليم) رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات ومن زعم أنه يعلمها بالإجمال دون التفصيل وتحقيقه كما مر في كتاب التوحيد.

(تم نورك فهديت) عبادك إلى ما فيه صلاحهم ونظامهم في الدنيا والآخرة ولعل المراد بالنور القرآن الكريم وبتمامه اشتماله على جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا وكل ما كان وما يكون وما هو كائن، أو آيات وجوده وبراهين قدرته أو محمد (صلى الله عليه وآله) وتمامه بلوغه غاية الكمال.

(وبسطت يدك فأعطيت) كل ما يليق به ويصلح به أمره. وبسط اليد كناية عن غاية الجود والكرم يقال: فلان كريم اليد إذا كان سمحا جوادا، ويمكن أن يراد باليد النعمة مجازا وبسطها ظاهر. (ربنا وجهك أكرم الوجوه) أي ذاتك وصفاتك أكرم الذوات والصفات وأجلها ويمكن أن يراد بالوجه ما يتوجه به إلى الله وهم النبي والأئمة (عليهم السلام).

(وجهتك خير الجهات) الجهة مثلثة الجانب والناحية كذا في القاموس والتفضيل فيها باعتبار تقدير الفعل وفرضه في المفضل عليه.

(وعطيتك أفضل العطايا وأهنؤها) أهنأ اسم تفضيل من هنأني الطعام فهو هنىء أي سائغ أو آت من غير تعب ولا مشقة، أما أنها أفضل فلأنها من جواد عظيم ومنعم كريم عوائد نعمه منشورة للإنس والجان وموائد كرمه مبسوطة في ساحة الإمكان، وأما انها أهنأ فلأنها غير منكدرة بالمنة ولا منقصة بالضنة ولا محصلة بالمشقة لحصول أكثرها من غير أن يخطر بالبال وبعضها بمجرد السؤال.

(تطاع ربنا فتشكر) أي فتثيب بالطاعة مع أنك أهل لها بالذات وهي حق لك فالإثابة تفضل منك لا

ص:470

حق عليك.

(وتعصى ربنا فتغفر لمن شئت) مع أن العصيان يقتضي العقوبة والخذلان فالمغفرة أيضا تفضل منك وتجاوز عن حقك. وقوله: «لمن شئت» لدفع الاغترار بالاعتداء وللإيقاع بين الخوف والرجاء. (وتجيب المضطرين) كما هو المجرب والمذكور في الكتاب المبين وفي الكنز إجابة جواب دادن.

(وتكشف السوء) أي ترفعه والسوء بالضم ما يكرهه الطبع ويثقل عليه من النوائب والمصائب والبلايا وغيرها وأما السوء بالفتح فمصدر ساءه سوءا إذا فعل به ما يكره.

(وتقبل التوبة) هي الندامة على الذنب والعزم على عدم العود إليه واختلفوا في أن قبولها واجب عليه أمن لا والبحث فيه في علم الكلام.

(وتعفو عن الذنوب) قيل: العفو الصفح عن الذنب وترك مجازاة المذنب وقيل: العفو محو الذنوب مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته ومحته وهو أرفع وأعلى من المغفرة لأن غفر الذنوب وهو سترها قد يحصل مع بقاء أصلها بخلاف العفو وهو المحو فانه إزالة لها رأسها وقلع لأثرها جملة.

(لا تجازي أياديك) الأيادي جمع الأيدي جمع اليد بمعنى النعمة والإحسان ولا ريب في أنها غير محصورة ولا في أن جزاء غير المحصور بمعنى الإتيان بالطاعة والحمد والشكر في مقابل كل واحد واحد غير مقدور للعبد على أن كل واحدة من نعمة تعالى لكونها أمرا عظيما لا يعلم قدرها إلا هو لا يمكن مقابلتها بالجزاء على قدرها.

(ولا تحصى نعمك) كما قال تعالى: (وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وان أردت أن تحقق لك ذلك فانظر إلى شيء من نعمائه عليك وهو أصل وجودك وأعضائك وجوارحك ومنافعها فإنك تجد نفسك عاجزة عن إحصائها قال المحقق الطوسي: شرحت خواص ما وجدت من أعضاء الإنسان ومنافعها في أزيد من الف ورقة وما ذكرت عشرا من أعشارها.

(ولا يبلغ مدحتك قول قائل) المدحة بالكسر ما يمدح به والسر فيه أن المحامد غير محصورة لا يمكن الإحاطة بها على أن كلا من القول اللفظي والنفسي ممكن له حدود وكيفيات وصور ومفهومات لا يمكن وصفه تعالى به نعم هو دليل على مدحه في نفس الأمر لا يحيط به ألسنة المادحين ولا يبلغ إليها عقول العارفين.

(اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم) بكشف غمهم وظهور دولتهم بظهور القائم المنتظر (عليه السلام). (وروحهم وراحتهم وسرورهم) الروح بالفتح الراحة فالعطف للتفسير وحمله

ص:471

على راحة الشيعة والإضافة باعتبار أن راحتهم راحتهم (عليهم السلام) بعيد وقراءة الروح بالضم وتفسيره بأمر النبوة أو حكم الله تعالى وأمره أبعد وعطف السرور على ما قبله من باب عطف المسبب على السبب.

(وأذقني طعم فرجهم) تشبيه الفرج بالعسل في ميل الطبع إليه ورغبته فيه مكنية وإثبات الطعم له وهو الحلاوة من تخييلية والإذاقة ترشيح.

(وأهلك أعداءهم من الجن والإنس) المطلوب إهلاكهم الآن أو بسيف صاحب الزمان وأنصاره من أهل الإيمان أظهر وأهم.

(وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) يمكن أن يراد بالحسنة الاولى الجهاد مع إمام عادل وبالثانية ثواب المجاهدين وأن يراد بالاولى متابعته وبالثانية مصاحبته، وقال الشيخ أبو الفتوح في تفسيره: روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أن الاولى زوجة صالحة والثانية حور العين. وعذاب النار زوجة سليطة مؤذية» وقال الحسن البصري: الاولى العلم والعبادة، والثانية الجنة.

وقال مقاتل الاولى الرزق الواسع والثانية المغفرة والثواب، وقال عطية: الاولى العلم والعمل والثانية الثواب والمساهلة في الحساب، وقيل: الاولى التوفيق والعصمة والثانية النجاة والرحمة، وقيل: الاولى الولد الصالح والثانية صحبة الأنبياء والصلحاء وقيل: الاولى المال والنعمة والثانية تمام النعمة وهو النجاة من العقوبة والدخول في الجنة، وقيل الاولى الإخلاص والثانية الخلاص، وقيل الاولى والثانية كلاهما حسن العاقبة انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام الشريف بحر لا ينزف، يندرج فيها خيرات الدنيا والآخرة. (واجعلنا) بالتوفيق للخيرات والاجتناب عن المنهيات. (من الذين لا خوف عليهم) في الآخرة من نزول الهوان ووصول الخذلان. (ولا هم يحزنون) فيها من فوات الثواب ولحوق العقاب وهم قوم آمنوا بالله وزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. (واجعلني من الذين صبروا) على تحمل البليات والمصيبات ومشاق التكليفات وأذى الفاسقين والفاسقات.

(وعلى ربهم يتوكلون) في جميع الامور وهم الذين علموا أن الصبر على ما ذكر سبب للكرامة والثواب وأن التوكل موجب للتفرق للعبادة والتخلص من الاضطراب فصبروا على ذلك فصاروا من المكرمين وتوكلوا على الله وإشتغلوا بالعبادة فصاروا من المقربين الذين يغبط الناظرون مرتبتهم ويتمنى العارفون منزلتهم.

(وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وهو القول بالتوحيد والرسالة والولاية.

وفيه طلب لحسن العاقبة التي يخاف منها العارفون ويضطرب في أمره الزاهدون كما في قوله تعالى

ص:472

حكاية عن الصالحين: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) و «في» متعلق بالثابت أو ب «ثبتني» أو بهما على سبيل التنازع.

(وبارك لي في المحيا والممات والموقف) البركة الزيادة والدوام والثبات والسعادة أي أسعدني في هذه الأوقات أو زد أو ثبت وأدم لي فيها التشريف والكرامة، والموقف موقف القيامة وحمله على القبر محتمل لأنه محل الوقوف إلى البعث.

(وسلمني على الصراط وأجزني عليه) سلم من السقوط بالكسر وسلمه الله منه والصراط جسر ممدود على جهنم والأشقياء يتساقطون منه والسعداء يمرون عليه على التفاوت في السرعة والبطوء بقدر التفاوت في الكمال.

(وارزقني علما نافعا) هو العلم بالدين وبما هو المطلوب فيه مع العمل بمقتضاه.

(ويقينا صادقا) هو الإعتقاد الجازم بما هو حق في الواقع وإحترز بالقيد عن الإعتقاد بالباطل فانه يقين عند الجهلة غير صادق، ويحتمل أن يراد باليقين الصادق اليقين المستقر الراسخ في القلب إذ إطلاقه على غير الراسخ كاذب.

(وتقى وبرا وورعا) تقى بالتنوين مصدر تقول: تقيت الشيء أتقيه تقى إذا حذرته والمراد به الاحتراز به من المعاصي. والبر بالكسر الصلة والإتساع في الإحسان إلى الناس والطاعة لله تعالى.

والورع محركة الهدى وحسن الهيئة والكف عن المحرمات والمشتبهات والحلال الذي يؤدي إلى احديها وأعلى مراتبه الكف عن كل ما يشغل القلب عن الله تعالى. (وخوفا منك) قال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف: هو تألم النفس من العقاب بارتكاب المنهيات والتقصير في الطاعات كما في أكثر الخلق وقد يحصل بمعرفة عظمة الحق ومشاهدة هيئته كما في الأنبياء والأولياء. (وفرقا يبلغني منك زلفى ولا يباعدني عنك) زلفى كحبلى القربة والمنزلة كالزلفة بالضم، ومنك متعلق بها والإبلاغ الإيصال والفرق بالتحريك الفزع الشديد والخوف ولعل المطلوب الخوف المحرك إلى فعل الطاعات وترك المنهيات وهو المقرون بالرجاء فانه بدونه سبب للقنوط الموجب للبعد عنه تعالى.

(وأحببني ولا تبغضني) حبه تعالى للعبد الإحسان إليه والإكرامن عليه وبغضه له تبعيده عن رحمته وتعذيبه بنقمته. (وتولني ولا تخذلني) تولاه اتخذه وليا وخذله ترك نصرته ووكله إلى نفسه. (وأعطني من جميع خير الدنيا والآخرة ما علمت منه وما لم أعلم) ما مفعول ثان للإعطاء والعائد إليه محذوف وضمير منه راجع إلى الخير أو إلى الجميع وإنما طلب الإعطاء من

ص:473

جميع الخير يعني من كل نوع منه بعضه لا جميعه لأن جميع للجميع كما ذكرناه سابقا.

(وأجرني من السوء كله بحذافيره) كله تأكيد للشمول دفعا لإرادة عدمه وحذافيره تأكيد آخر لدفع استبعاد الشمول مع كثرة أنواع السوء وأفراده. والحذافير بالفتح جمع الحذفار بالكسر وهو جانب الشيء وأعلاه يقال: أعطاه بحذافيره أي بأسره أو بجوانبه أو بأعاليه.

* الأصل:

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألا تخصني بدعاء؟ قال: بلى، قال: قل: «يا واحد يا ماجد يا أحد يا صمد يامن لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يا عزيز يا كريم يا حنان يا منان يا سامع الدعوات يا أجود من سئل ويا خير من أعطى يا الله يا الله يا الله» قلت: ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «[نعم] لنعم المجيب أنت» ونعم المدعو ونعم المسؤول أسألك بنور وجهك وأسألك بعزتك وقدرتك وجبروتك وأسألك بملكوتك ودرعك الحصينة وبجمعك وأركانك كلها وبحق محمد وبحق الأوصياء بعد محمد أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا».

* الشرح:

قوله: (ألا تخصني بدعاء) أخصه بالشيء فضله (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول نعم المجيب أنت) في بعض النسخ «نعم لنعم المجيب أنت».

(ونعم المدعو ونعم المسؤول) كأنه (عليه السلام) نقله للترغيب في التأسي به (صلى الله عليه وآله) وكونه جزء هذا الدعاء بعيد عن سياق الكلام.

(وأسألك بنور وجهك) يحتمل أن يراد بالوجه ذاته وفي القاموس الوجه نفس الشيء والإضافة لامية إذ به تعالى ظهور الوجودات والموجودات كلها وأن يراد به محمد (صلى الله عليه وآله) وهو نور كما صره به في القاموس ودلت عليه الأخبار، أو علمه والإضافة بيانية أو لامية.

(ودرعك الحصينة) في القاموس درع حصين وحصينة محكمة، ولعل المراد بها - والله أعلم - دينه المحكم الذي لا يطرء عليه نسخ وتغيير قطعا. أو صفاته المحكمة التي لا يتصف بالنقص والزوال أصلا، أو درع النبي (صلى الله عليه وآله) هي السيف والمغفر والدروع وغيرها من آلات الحرب المحكمة عند أهلها وهو الآن عند الصاحب (عليه السلام).

(وبجمعك وأركانك كلها) لعل المراد بالجمع الأنبياء والملائكة (عليهم السلام) قال في المغرب الجمع

ص:474

الجماعة تسمية بالمصدر يقال: رأيت جمعا من الناس وبالأركان الأوصياء والأولياء (عليهم السلام) وما بعده من باب ذكر الخاص بعد العام لكمال الاهتمام.

* الأصل:

20 - عنه، عن بعض أصحابه، عن حسين بن عمارة، عن حسين بن أبي سعيد المكاري وجهم ابن أبي جهمة، عن أبي جعفر (رجل من أهل الكوفة كان يعرف بكنيته) قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): علمني دعاء أدعو به فقال: نعم، قل: «يامن أرجوه لكل خير ويا من آمن سخطه عند كل عثرة، ويا من يعطي بالقليل الكثير، يامن أعطى من سأله تحننا منه ورحمة، يامن أعطى من لم يسأله ولم يعرفه صل على محمد وآل محمد وأعطني بمسألتي من جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة فإنه غير منقوص ما أعطيتني وزدني من سعة فضلك يا كريم».

* الشرح:

قوله: (يامن أرجوه لكل خير) من خير الدنيا والآخرة، وينبغي أن يقوم القائل قلبه في ذلك القول لئلا يكون كاذبا، والظاهر أن تمسكه بالأسباب مع اعتماده على مسبب الأسباب لا ينافي ذلك. (ويا من آمن سخطه عند كل عثرة) لا لإستحقارها ولا لتوهم عدم علمك بها أو عجزك عن الأخذ بها حاشا، بل لحلمك عن الأخذ وصفحك عن الانتقام، والعثرة في الأصل المرة من العثار ثم شاع استعمالها في عثرة النفس في الخطايا ووقوعها فيها تشبيها للمعقول المحسوس في عدم الإستقامة لقصد الإيضاح.

(ويا من يعطي بالقليل) من العمل. (الكثير) من الثواب كما نطق به القرآن الكريم، وفي ذكر الأمن من العثرة وإعطاء الكثير بالقليل بسط رجاء لحصول المطلوب. (يامن أعطى من سأله تحننا منه ورحمة) التحنن الترحم والتلطف، وفي الكنز تحنن مهربانى كردن.

(يامن أعطى من لم يسأله ولم يعرفه) أكثر عطاياه كذلك فإنك لو تأملت وجدت أكثرها من غير سؤال ومعرفة وفيه أيضا بسط رجاء بما ذكر ونعم ما قيل:

اى كريمى كه از خزانه غيب * گبر وترسا وظيفة خود دارى دوستان را كجا كنى محروم * تو كه با دشمنان نظر دارى (وأعطني بمسألتي) الباء للسببية والمسألة والسؤال واحد. (فانه غير منقوص ما أعطيتني) الفاء للتعليل والظاهر أن الضمير المنصوب للشأن وأن المسؤول مبتدأ خبره مقدم للحصر يعني أن ما أعطيتني قبل السؤال لا نقص فيه بحسب الكم والمقدار والكيف وذلك بعثني على السؤال

ص:475

وطلب الزيادة ففيه شكر للواصل وطلب لحصول غير الحاصل ووسيلة له كما قال:

(وزدني من سعة فضلك) فيه إيماء إلى أن عطاياه كلها من باب التفضل بدون الاستحقاق، وفي ذكر السعة إشارة إلى كمال الرجاء بحصول المطلوب.

* الأصل:

21 - وعنه، رفعه إلى أبي جعفر (عليه السلام) أنه علم أخاه عبد الله بن علي هذا الدعاء: «اللهم ارفع ظني صاعدا ولا تطمع في عدوا ولا حاسدا واحفظني قائما وقاعدا ويقظانا وراقدا، اللهم اغفر لي وارحمني واهدني سبيلك الأقوم وقني حر جهنم واحطط عني المغرم والمأثم واجعلني من خيار العالم».

* الشرح:

قوله: (اللهم ارفع ظني صاعدا) أي ظني بالرحمة والمغفرة والإحسان، وصعوده عبارة عن الصدق والقبول وعدم الخيبة والخسران.

(ولا تطمع في عدوا ولا حاسدا) بصرف قلوبهم ودفع همتهم «ولا تطمع» من أطمع يقال:

طمع فيه طمعا وأطمعه فيه غيره. (واحفظني قائما وقاعدا) أي قائما بوظائف الطاعات وقاعدا عنها والمراد بهما المعنى المعروف.

(ويقظانا وراقدا) أي في حالتي التذكر والغفلة والمراد بهما أيضا المعنى المعروف. (اللهم اغفر لي) ما سلف من الذنوب. (وارحمني) عن الإتيان بمثلها فيما بقي من عمري. (واهدني سبيلك الأقوم) وهو الدين القويم والصراط المستقيم أي ثبتني فيه أو وفقني لرعاية حقوقه كلها بالعلم والعمل. (وقني حر جهنم) بالتوفيق للتجنب عن مقتضياته أو بالتفضل بعد حفظ أصل الإيمان (واحطط عني المغرم والمأثم) في النهاية المأثم الأمر الذي يأثم به الإنسان وهو الإثم نفسه وضعا للمصدر موضع الاسم والمغرم مصدر وضع موضع الاسم ويريد به مغرم الذنوب وقيل: المغرم كالغرم وهو الدين.

(واجعلني من خيار العالم) بالتوفيق للعمل بعملهم والاقتداء بأثرهم والعالم بفتح اللام وكسرها محتمل.

* الأصل:

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عثمان بن عيسى وهارون بن خارجة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ارحمني مما لا طاقة لي به ولا صبر لي

ص:476

عليه».

* الشرح:

قوله: (ارحمني مما لا طاقة لي به ولا صبر لي عليه) الموصول شامل لفعل الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات فان كل ذلك والصبر عليه ثقيل على النفس إلا بلطف الله تعالى وتوفيقه.

* الأصل:

23 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن ابن سنان، عن حفص، عن محمد بن مسلم قال: قلت له: علمني دعاء فقال: فأين أنت عن دعاء الإلحاح، قال: قلت: وما دعاء الإلحاح؟ فقال: «اللهم رب السماوات السبع وما بينهن ورب العرش العظيم ورب جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ورب القرآن العظيم ورب محمد خاتم النبيين، إني أسألك بالذي تقوم به السماء وبه تقوم الأرض وبه تفرق بين الجمع وبه تجمع بين المتفرق وبه ترزق الأحياء وبه أحصيت عدد الرمال ووزن الجبال وكيل البحور»، ثم تصلي على محمد وآل محمد، ثم تسأله حاجتك وألح في الطلب.

* الشرح:

(فأين أنت عن دعاء الإلحاح) ألح على الشيء إذا لزمه وصبر عليه وتثبت فيه. (اللهم رب السماوات السبع) أي مربيها، ومبلغها إلى كمالها، ومالكها وحافظها.

قوله: (إني أسألك بالذي تقوم به السماء) وهو ذاته تعالى أو علمه وقدرته. (وألح في الطلب) بالتثبت والتوسل بالوسائل التي هي مقبولة عنده سبحانه كالأئمة (عليهم السلام).

* الأصل:

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن كرام، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله 7 أنه كان يقول:

«اللهم املأ قلبي حبا لك وخشية منك وتصديقا وإيمانا بك وفرقا منك وشوقا إليك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم حبب إلي لقاءك واجعل لي في لقائك خير الرحمة والبركة وألحقني بالصالحين ولا تؤخرني مع الأشرار وألحقني بصالح من مضى واجعلني مع صالح من بقي وخذ لي سبيل الصالحين وأعني على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم ولا تردني في سوء استنقذتني منه يا رب العالمين، أسألك إيمانا لا أجل له دون لقائك، تحييني وتميتني عليه وتبعثني عليه إذا بعثتني وابرأ قلبي من الرياء والسمعة والشك في دينك اللهم أعطني نصرا في

ص:477

دينك وقوة في عبادتك وفهما في خلقك وكفلين من رحمتك وبيض وجهي بنورك واجعل رغبتي فيما عندك وتوفني في سبيلك على ملتك وملة رسولك، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والجبن والبخل والغفلة والقسوة والفترة والمسكنة.

وأعوذ بك يا رب من نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع ومن صلاة لا تنفع واعيذ بك نفسي وأهلي وذريتي من الشيطان الرجيم، اللهم إنه لا يجيرني منك أحد ولا أجد من دونك ملتحدا، فلا تخذلني ولا تردني في هلكة ولا تردي بعذاب، أسألك الثبات على دينك والتصديق بكتابك واتباع رسولك، اللهم اذكرني برحمتك ولا تذكرني بخطيئتي وتقبل مني وزدني من فضلك إني إليك راغب، اللهم اجعل ثواب منطقي وثواب مجلسي رضاك عني واجعل عملي ودعائي خالصا لك، واجعل ثوابي الجنة برحمتك واجمع لي جميع ما سألتي وزدني من فضلك إني إليك راغب اللهم غارت النجوم ونامت العيون وأنت الحي القيوم، لا يواري منك ليل ساج ولا سماء ذات أبراج ولا أرض ذات مهاد ولا بحر لجي ولا ظلمات بعضها فوق بعض تدلج الرحمة على من تشاء من خلقك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أشهد بما شهدت به على نفسك وشهدت ملائكتة واولوا العلم لا إله إلا أنت العزيز الحكيم ومن لم يشهد على ما شهدت به على نفسك وشهدت ملائكتك واولو العلم فاكتب شهادتي مكان شهادته، اللهم أنت السلام ومنك السلام، أسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تفك رقبتي من النار».

* الشرح:

قوله: (اللهم املأ قلبي حبا لك - اه) حتى لا يكون فيه موضع لغير هذه الامور وفيه طلب لتنزيه القلب عن غيره تعالى وتفريغه عما سواه. (اللهم حبب إلي لقاءك) أي لقاء رحمتك بالموت والبعث وحب اللقاء من صفة الا لأولياء كما نطق به القرآن الكريم.

(واجعل في لقاءك خير الرحمة والبركة) وهو الفرد الكامل الذي لأوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (والحقني) بعد الموت.

(بصالح من مضى) من الأنبياء والرسل وأوصيائهم (عليهم السلام) وغيرهم. (واجعلني) في حال الحياة.

(مع صالح من بقي) وهذه الجملة كالتفسير لما تقدمها.

(وخذ لي سبيل الصالحين) في الكنز أخذ فرا گرفتن وشروع كردن ورفتن والأخير هو المراد هنا والباء للتعدية يعني اذهب بي في سبيلهم وسيرني فيه.

ص:478

(وأعني على نفسي) في دفع هواها وترك مشتهاها. (بما تعين به الصالحين على أنفسهم) من القوة والقدرة والتوفيق واللطف والنصرة.

(ولا تخزني مع الأشرار) هذا غير موجود في بعض النسخ. (ولا تردني في شر استنقذتني منه) المراد بالشر البلية والكفر والشك في الحق وأهله وغيرها مما يفسد نظام الدنيا والدين أو كمالهما. (أسألك إيمانا لا أجل له دون لقائك أي إيمانا ثابتا مستقرا دائما لا ينقطع قبل الموت ولا بعده، والأجل الوقت المضروب المحدود لشيء في المستقبل.

(تحييني - إلى آخره) تأكيد للسابق ولذا ترك العاطف. (وابرأ قلبي من الرياء والسمعة والشك في دينك) الرياء فعل الخير لغير الله سبحانه أو له ولغيره والسمعة بالفتح ويضم ويحرك ما فعل من الخير ونوه بذكره ليسمعه الناس ويحمدوا عليه وبينهما مع تقاربهما في كون الفعل للغير تفاوت من وجهين. أحدهما أن المقصود في الرياء رؤية الغير ليعتقد بفاعله، والمقصود في السمعة هو إسماع الغير ليذكروه وينشروه ويحمدوا فاعله عليه وثانيهما أن الرياء مصدر والسمعة اسم والشك في الدين شامل للشك في أصل الدين والشك في شيء من أجزائه وأحكامه وآدابه والشك في صاحبه وواضعه وقيمه. (اللهم أعطني نصرا في دينك) بالتوفيق لترويجه ونشر أحكامه وآدابه بين الخلق والعمل به وحفظه عن الزيادة والنقصان.

(وقوة في عبادتك) من الواجبات والمندوبات في آناء الليل وساعات النهار. (وفهما في خلقك) وهو جودة تهيؤ الذهن لإكتساب المطالب بسهولة وسرعة انتقاله من المبادئ إلى المقاصد. (وكفلين من رحمتك) الكفل بالكسر الضعف وقد يقال للحظ والنصيب والكفلان أحدهما في الدنيا بسلوك سبيل الحق وإنتظام الأحوال فيه والآخر في الآخرة بسلوك سبيل الجنة والدخول فيها أو كلاهما في الآخرة أحدهما للنصرة في الدين والآخر للاجتهاد في العمل أو أحدهما التخلص من النار والآخر الدخول في الجنة أو أحدهما الدخول في الجنة والتنعم بنعيمها والآخر التلذذ باللذات الروحانية ومشاهدة أنوار العظمة الإلهية والتشرف بالفيوضات الربانية المعدة للأولياء الطالبين لوجه الله المعرضين عما سواه. (وبيض وجهي بنورك) يوم تسود فيه الوجوه وهو نور الطاعة والعبادة، أو نور من فيضه تعالى تنضر به وجوه المؤمنين، وتشرق كالشمس المضيئة ففيه طلب للنضرة والحسن والجمال.

(واجعل رغبتي فيما عندك) من التفضلات الجليلة والمثوبات الجزيلة والكرامات الجميلة وعلامة ذلك الاشتغال بأنحاء العبودية وقطع الطمع عما في أيدي الناس من الزهرات الدنيوية (وتوفني في سبيلك على ملتك وملة رسولك) أي توفني وأنا على هذا الوصف. وسبيل الله عام

ص:479

يقع على كل عمل خالص يتقرب به إلى الله تعالى ويطلق كثيرا ما على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه. والملة بالكسر الدين.

(اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم) الكسل التثاقل عن الشيء والفتور فيه والهرم محركة أقصى الكبر وإنما إستعاذ (عليه السلام) منهما لأن الأول يوجب ثقل الحق والفتور في أدائه والثاني يوجب الخرف وإختلال الحواس والعقل وعدم العلم وتشويه المنظر وكثرة المشقة وهذا منه (عليه السلام) تعليم للامة. (والجبن والبخل) الجبن صفة للنفس توجب عدم الإقدام على الشيء والبخل صفة لها يوجب منعها عن إعطاء ما ينبغي واستعاذ (عليه السلام) منهما لما فيهما من التقصير عن القيام بالحقوق وترك الغلظة على أهل المعاصي إذ بشجاعة النفس يقيم الحدود والحقوق وينصر المظلوم، وبالكرم يؤدي حقوق المال ويواسي منه ويلم به شعث المساكين، ثم استعاذته (عليه السلام) من أمثال هذه الامور مما علم براءة ساحة عصمته عنها يشعر بجواز الدعاء فيما علمت السلامة منه وذلك لأن للدعاء فائدتين: الاولى تحصيل المطلوب، والثانية كونه عبادة وإظهارا للعجز والعبودية فإن انتفت الأولى تبقى الثانية، ودعاؤه (عليه السلام) من هذا القبيل مع ما فيه من أنه تعليم للامة. (والغفلة والقسوة) الغفلة صفة للقلب يوجب ترك الحق وعدم ذكر الموت وما بعده والميل إلى الباطل وحب الدنيا، والقسوة الصلابة والغلظة، والقلب القسي القلب الغليظ الردي الذي يقرب من الشر ويبعد من الخير.

(والفترة والمسكنة) الفترة ضد الحدة وهو ضعف القلب عن تحصيل العلم والعمل والقيام بالأحكام والحدود، ورعاية الحقوق والمسكنة فقر النفس عن متاع الآخرة أو عن متاع الدنيا الذي يؤدي عدمه إلى انكسار الظهر وسوء المآل والفقر الممدوح هو القدر الكفاف واختلف الأخبار في مدح الفقر وذمه ومحلهما ما ذكرناه آنفا في شرح الاصول.

(وأعوذ بك يا رب من نفس لا تشبع) من متاع الدنيا كلما وجدت منه شيئا طلبت الزيادة وتعلقت بآمال بعيدة في تحصيلها.

(ومن قلب لا يخشع) الخشوع الخضوع والصبر والسكون والتذلل وهو وصف للقلب ثم يسري أثره في الجوارح فيقوم كل منها على ما هو مطلوب منه.

(ومن دعاء لا يسمع) أي لا يستجاب ولا يعتد به ولا يقبل لفقد شرائط القبول، فكأنه غير مسموع. (ومن صلاة لا تنفع) لنقص في شيء من أركانها وشرائطها.

(لا يجيرني منك أحد) إن أردت الأخذ والعقوبة هذا وان كان خيرا لكن المقصود منه هو الاعتراف بالتقصير وطلب الإجارة منه.

ص:480

(ولا أجد من دونك ملتحدا) أي ملتجأ، وأصل الإلحاد الميل والملتحد إلى أحد مائل إليه، وفيه أيضا اعتراف بالتقصير وطلب للتجاوز عنه. (فلا تخذلني بالرد في الالتجاء ولا بترك النصرة في الامور. (ولا تردني في هلكة) هي محركة الهلاك والمراد به الهلاك بالمعاصي والذنوب والغرض طلب التوفيق والنصرة في تركها.

(ولا تردني بعذاب) في الآخرة والدنيا من سوء عملي والباء بمعنى في أو للسببية بتقدير الاستحقاق. (إني إليك راغب) الظرف متعلق بما بعده والتقديم للحصر الحقيقي، وليس المقصود إفادة الحكم أو لازمه لأن المخاطب عالم السر والخفيات، بل المطلوب إظهار التوقع لحصول المرغوب. (اللهم غارت النجوم) في الكنز الغور چيزى بزمين فرو بردن، ومنه قوله تعالى: (أصبح ماؤكم غورا) وقولهم: غارت الشمس إذا غربت، والغور أيضا الإنخفاض يعني غابت النجوم وإنخفظت وهبطت عن نصف النهار بعد ما أخذت في الارتفاع والمراد بها النجوم الطالعة عند غروب الشمس، والغرض هو الثناء عليه جل شأنه بالتصرف والتدبير فيها والتحسر عن غفلة الناس عنها كما أومأ إليه بقوله:

(ونامت العيون) فتعطلت عن مشاهدة تلك الغرائب والتفكر في هذه العجائب.

(وأنت الحي القيوم) أي الفعال المدرك للموجودات أو الدائم القائم بحفظها وتدبيرها حتى لا يتصور وجود شيء ولا بقاؤه ولا زواله إلا به، قال القاضي: القيوم فيعول من قام بالأمر إذا حفظه (لا يواري منك ليل ساج) المواراة الستر وساج اسم فاعل من سجى بمعنى ركد واستقر يعني لا يستر منك ليل راكد ظلامه مستقر قد بلغ غايته كذا في المفتاح: ويمكن أن يكون من سجى بمعنى غطى قال ابن الأثير في النهاية ومنه الليل الساجي لأنه يغطي بظلامه وسكونه يعني لا يستر منك شيئا ليل يغطي الأشياء بظلامه.

(ولا سماء ذات أبراج ولا أرض ذات مهاد) وفي المفتاح المهاد جمع مهد أي ذات أمكنة مستوية ممهدة انتهى، وفيه تأمل، ويمكن أن يكون جمع مهدة بالضم كبرام جمع برمة بالضم للقدر والمهدة ما إرتفع من الأرض أو ما انخفض منها في سهولة واستواء وإنما وصف السماء والأرض بما هو من خواص جنسهما للمبالغة والتأكيد لشمولهما لجميع أفرادهما. (ولا بحر لجي) في المفتاح لجي بضم اللام وقد تكسر وتشديد الجيم المكسورة أي عظيم وفي النهاية لجة البحر معظمه. (ولا ظلمات بعضها فوق بعض) كظلمة بطن الحوت وظلمة جسده وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة السحاب الساترة لأنوار الكواكب فان هذه الظلمات المتراكمة لا تستر منه ما في بطن الحوت.

(تدلج الرحمة على من تشاء من خلقك) في النهاية يقال: أدلج بالتخفيف إذا سار من أول

ص:481

الليل وأدلج بالتشديد إذا سار من آخره والاسم منهما أدلج وأدلج بالضم والفتح ومنهم من يجعل الادلاج السير في الليل كله وفي المفتاح الادلاج السير في الليل وربما يختص بالسير في أوله.

أقول: وربما يختص بالسير في السحر والمعنى على أي تقدير تسير رحمتك وإعانتك وتوفيقك ولطفك إلى من تشاء من خلقك ولولا ذلك لم يصدر من أحد خير والغرض منه إظهار الشكر على تلك النعمة وطلب الزيادة عليها.

(تعلم خائنة الأعين) في النهاية الخائنة بمعنى الخيانة وهي من المصادر التي جاءت على لفظ الفاعل كالعافية والمراد بخيانة الأعين غمزها والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه.

(وما تخفي الصدور) من المضمرات والخاطرات التي لم يظهر أثرها من الجوارح.

(أشهد بما شهدت به على نفسك) لعله التوحيد في قوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة واولوا العلم) (اللهم أنت السلام) في النهاية قيل: معناه سلامته مما يلحق الخلق من العيب والفناء والسلام السلامة يقال: سلم يسلم سلاما وسلامة ومنه قيل: للجنة دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات (ومنك السلام) أي السلامة من الآفات والقبائح.

* الأصل:

25 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبا ذر أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جبرئيل (عليه السلام) في صورة دحية الكلبي وقد إستخلاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رآهما انصرف عنهما ولم يقطع كلامهما فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمد هذا أبو ذر قد مر بنا ولم يسلم علينا أما لو سلم لرددنا عليه، يا محمد إن له دعاء يدعو به، معروفا عند أهل السماء فسله عنه إذا عرجت إلى السماء، فلما إرتفع جبرئيل جاء أبو ذر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما منعك يا أبا ذر أن تكون سلمت علينا حين مررت بنا؟ فقال: ظننت يا رسول الله أن الذي [كان] معك دحية الكلبي قد استخليته لبعض شأنك، فقال:

ذاك جبرئيل (عليه السلام) يا أبا ذر وقد قال: أما لو سلم علينا لرددنا عليه فلما علم أبو ذر أنه كان جبرئيل (عليه السلام) دخله من الندامة حيث لم يسلم عليه ما شاء الله فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما هذا الدعاء الذي تدعو به؟ فقد أخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن لك دعاء تدعو به، معروفا في السماء، فقال: نعم يا رسول الله أقول: «اللهم إني أسألك الأمن والإيمان بك والتصديق بنبيك والعافية من جمع البلاء والشكر على العافية والغنى عن شرار الناس».

* الشرح:

قوله: (في صورة دحية الكلبي) في النهاية هو دحية بن خليفة أحد الصحابة كان

ص:482

جميلا حسن الصورة ويروى بكسر الدال وفتحها، وفي كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم: كان دحية الكلبي حسن الصورة ولذلك تمثل جبرئيل (عليه السلام) بصورته وكان من كبار أصحابه (صلى الله عليه وآله) وبقى إلى خلافة معاوية وأرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قيصر سنة ست وآمن قيصر وأبت بطارقته أن يؤمنوا، فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ثبت الله ملكه، وفيه منقبة عظيمة لأبي ذر وجواز رؤية الملائكة على صورة الآدميين ولكنهم لا يعلمون أنهم ملائكة لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم في صورهم الأصلية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يراه في صورة دحية وقد رآه أيضا في صورته الأصلية مرارا وفيه ان الله سبحانه يجعل صور الملائكة (عليهم السلام) متى شاء في أي صورة شاء وإنما كان يريه في صورة الإنسان ليوانس به ولا يهوله لعظم خلقه كذا قال المازري.

(اللهم إني أسألك الأمن) من الشيطان والنفس والعذاب في الدنيا والآخرة وما يوجبه (والإيمان بك والتصديق بنبيك) في رسالته وما جاء به والمقصود هو الثبات أو الزيادة.

(والعافية من جميع البلاء) كالفتنة ومصائب الدهر ونوازلها والفقر الموجب لثقل القلب وكسر الظهر ونحوها (والشكر على العافية) في الدين والبدن.

(والغنى عن شرار الناس) التقييد للإحتراز عن خيارهم لأن طلب الغنى عنهم غير مستحسن إذ الإنسان مدني بالطبع يحتاج بعضهم إلى بعض، يدل على ذلك ما مر في باب فضل فقراء المسلمين من ان رجلا قال لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ادع الله أن يغنيني عن خلقه، قال (عليه السلام) ان الله متم رزق من شاء على يدي من شاء ولكن سل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه.

* الأصل:

26 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة قال: أخذت هذا الدعاء من أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال: وكان أبو جعفر يسميه الجامع: «بسم الله الرحمن الرحيم أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، آمنت بالله وبجميع رسله وبجميع ما أنزل به على جميع الرسل وأن وعد الله حق ولقاءه حق وصدق الله وبلغ المرسلون والحمد لله رب العالمين وسبحان الله كلما سبح الله شيء وكما يحب أن يسبح، والحمد لله كلما حمد الله شيء وكما يحب الله أن يحمد، ولا إله إلا الله كلما هلل الله شيء وكما يحب الله أن يهلل، والله أكبر كلما كبر الله شيء وكما يحب أن يكبر، اللهم إني أسألك مفاتيح الخير وخواتيمه وسوابغه وفوائده وبركاته وما بلغ علمه علمي وما قصر عن إحصائه حفظي.

اللهم أنهج لي أسباب معرفته وافتح لي أبوابه وغشني ببركات رحمتك ومن علي بعصمة عن

ص:483

الإزالة عن دينك وطهر قلبي من الشك ولا تشغل قلبي بدنياي وعاجل معاشي عن آجل ثواب آخرتي واشغل قلبي بحفظ ما لا تقبل مني جهله وذلل لكل خير لساني وطهر قلبي من الرياء ولا تجره في مفاصلي واجعل عملي خالصا لك.

اللهم إني أعوذ بك من الشر وأنواع الفواحش كلها ظاهرها وباطنها وغفلاتها وجميع ما يريدني به الشيطان الرجيم وما يريدني به السلطان العنيد، مما أحطت بعلمه وأنت القادر على صرفه عني، اللهم إني أعوذ بك من طوارق الجن والإنس وزوابعهم وبوائقهم ومكائدهم ومشاهد الفسقة من الجن والإنس وأن استزل عن ديني فتفسد علي آخرتي وأن يكون ذلك منهم ضررا علي في معاشي أو يعرض بلاء يصيبني منهم لا قوة لي به ولا صبر لي على إحتماله، فلا تبتلني يا إلهي بمقاساته فيمنعني ذلك عن ذكرك ويشغلني عن عبادتك، أنت العاصم المانع الدافع الواقي من ذلك كله، أسألك اللهم الرفاهية في معيشتي ما أبقيتني، معيشة أقوى بها على طاعتك وأبلغ بها رضوانك وأصير بها إلى دار الحيوان غدا ولا ترزقني رزقا يطغيني ولا تبتلني بفقر أشقى به مضيقا علي، أعطني حظا وافرا في آخرتي ومعاشا واسعا هنيئا مريئا في دنياي ولا تجعل الدنيا علي سجنا، ولا تجعل فراقها علي حزنا أجرني من فتنتها، واجعل عملي فيها مقبولا وسعيي فيها مشكورا، اللهم ومن أرادني بسوء فأرده بمثله، ومن كادني فيها فكده، واصرف عني هم من أدخل علي همه وأمكر بمن مكر بي فإنك خير الماكرين وافقأ عني عيون الكفرة الظلمة والطغاة الحسدة، اللهم وأنزل علي منك سكينة، وألبسني درعك الحصينة، واحفظني بسترك الواقي، وجللني عافيتك النافعة، وصدق قولي وفعالي وبارك لي في ولدي وأهلي ومالي، اللهم ما قدمت وما أخرت وما أغفلت وما تعمدت وما توانيت وما أعلنت وما أسررت فاغفره لي يا أرحم الراحمين».

* الشرح:

قوله: (وكان أبو جعفر (عليه السلام) يسميه الجامع) في النهاية الجامع من الدعاء هو الذي يجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة أو يجمع الثناء على الله تعالى وآداب المسألة. (آمنت بالله) تأكيد لما سبق لأنه يدل على الإيمان ولذا ترك العاطف.

(وإن وعد الله حق ولقاءه حق) عطف على اسم ان أي أشهد ان ما وعد به من ثواب المؤمن وعقاب الكافر وغير ذلك من الأخبار حق وصدق والمراد باللقاء الموت أو البعث. (وصدق الله) عطف على أشهد.

ص:484

(والحمد لله رب العالمين) حمده بالربوبية لأن تعليق الحمد بالوصف يشعر العلية أو بنعمة التبليغ أو بالتوفيق للشهادة والإيمان والتصديق أو بالجميع أو به وبغيره من الآلاء.

(وسبحان الله كلما سبح الله شيء - اه) دل على أنه يسبح كلما سبحه شيء من الأشياء وإن من شيء إلا وهو يسبحه فيفيد أنه يسبحه في جميع الحالات والأوقات والظاهر أنه يؤجر بعدد تسبيح كل شيء. وفيه أقوال اخر ذكرناه سابقا وقد ذكر الشيخ في المفتاح هذه التسبيحات على الوجه المذكور مع زيادة في باب التعقيب.

(اللهم إني أسألك مفاتيح الخير وخواتيمه) المفاتيح جمع المفتاح وهو آلة الفتح والخواتيم هنا جمع الختام بالكسر وهو ما يختم به على الشيء من الطين ونحوه وفيه مكنية بتشبيه الخير بالمال المخزون وتخييلية بإثبات المفتاح له وترشيح بذكر الختام، ثم المراد بالمفتاح إما معناه المعروف كما هو المشهور بين المتأخرين من أهل العربية أو أسباب الخير على سبيل التشبيه كما هو رأي صاحب المفتاح والمطلوب نزول الخير وعدم زواله، ويمكن أن يكون مفاتيح الخير كناية عن أوائله وخواتيمه عن أواخره بناء على أن الختام جاء بمعنى آخر أيضا والمقصود حينئذ طلب الخير كله من أوله إلى آخره. (وسوابغه وفوائده وبركاته) طلب بعد طلب الخير امورا ثلاثة: الأول الفرد الكامل من كل نوع منه يقال: هو سابغ أي كامل تام واسع واف، الثاني فوائده المقصودة منه فان حصول الخير لا يستلزم حصولها كما ترى في الغني البخيل والصحيح التارك لما يطلب من الأصحاء فاحتيج إلى السؤال، الثالث بركته أي زيادته وسرايته إلى آخر فان الخير قد يسري إلى الخير كالشر إلى الشر أو ثباته ودوامه وعدم طريان النقص والزوال عليه.

(وما بلغ علمه علمي وما قصر عن إحصائه حفظي) علمي فاعل بلغ وعلمه مفعول ولعل أصله علمك إياه حذف الفاعل واضيف المصدر إلى المفعول وإنما لم يقل: وما بلغه علمي للتنبيه على ان المطلوب ما هو خير في علمه تعالى وبلغه أيضا علمي بأنه لا خير لا ما هو خير في علمي فقط لاحتمال أن لا يكون ذلك خيرا في الواقع وبالجملة قسم ما هو خير في علمه تعالى على قسمين: قسم بلغه علم الداعي أيضا، وقسم لم يبلغ وهو طلب كل واحد منهما فليتأمل.

(اللهم انهج لي أسباب معرفته) أي ابن وأوضح من نهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته والسبب كل ما يتوصل به إلى شيء ومنه الطريق.

(وافتح لي أبوابه) فيه مكنية وتخييلية وترشيح، وفي جميع الباب إيماء إلى أن المقصود أنواع الخير كلها. (وغشني بركات رحمتك) الغشاء الغطاء والتغشية التغطية أي غطني ببركات رحمتك، فنصب بركات بنزع الخافض.

ص:485

(ومن علي بعصمة عن الإزالة عن دينك) العصمة بالكسر المنع والزوال والذهاب والاستحالة، زال عنه وأزاله غيره واللام في الإزالة عوض عن المضاف إليه المفعول وهو ياء المتكلم وفاعله محذوف وهو كل مزيل من المعاصي.

(وطهر قلبي من الشك) فيك وفي تدبيرك ودينك وغيرها من الحقوق. (ولا تشغل قلبي بدنياي وعاجل معاشي) اريد بالأول الحاصل وبالثاني غير الحاصل وكون العطف للتفسير وإرادتهما في كليهما محتمل. في الكنز معاش: دنيا وزندگانى.

(عن آجل ثواب آخرتي) أي عن العمل له. (واشغل قلبي بحفظ ما لا تقبل مني جهله) من العقائد الحقة والقصد إلى الخيرات والفكر لما بعد الموت والعمل له.

(وذلل لكل خير لساني) اللسان له تصرف في المعدومات والموجودات والمعقولات والمحسوسات فله سبيل إلى الخيرات كلها دنيوية كانت أو اخروية فلذلك خصه بالذكر وطلب تذليله دون سائر الحواس. (وطهر قلبي من الرياء ولا تجره في مفاصلي) الرياء تدخل في القلب أولا وفي سائر الأعضاء ثانيا لأن فسادها تابع لفساد القلب وفيه مبالغة في طلب التوفيق لرفعه عن أحوال جميع الجوارح. (واجعل عملي خالصا) لك لا اريد به سواء لا بالانفراد ولا بالاشتراك (اللهم إني أعوذ بك من الشر) شر الخلائق والنوائب.

(وأنواع الفواحش كلها ظاهرها وباطنها) أي جليها وخفيها أو بدنيها وقلبيها والفاحشة كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال.

(وغفلاتها) الإضافة للملابسة باعتبار أن الفواحش مسببة عن الغفلات من وجه وأسباب لها من وجه آخر (اللهم إني أعوذ بك من طوارق الجن والإنس) طوارق جمع طارقة لا طارق لأن فاعل الوصف لا يجمع على فواعل وكل آت في الليل بخير أو شر طارق سمي به لحاجته إلى طرق الباب وهو دقه، والمراد به هنا الطارق بالشر.

(وزوابعهم وبوائقهم ومكائدهم) الزابعة بالزاي والباء الموحدة والعين المهملة من اشتد غيظه وغضبه وعربد وساء خلقه ودام على الكلام المؤذي ولم يستقم وزوبعة اسم شيطان رئيس للجن والبائقة الشر والظلم والخصومة والداهية والهجوم بها على الغير حتى يكسره ويهضمه والمكيدة والكيد المكر والخدعة والخبث والحرب والحيلة لإيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يعلم (ومشاهد الفسقة من الجن والإنس) المشاهد جمع المشهد وهو محضرهم ومن ابتدائية لا لبيان الجنس إذ بعض الفريقين ليس بفاسق.

(وان استزل عن ديني فتفسد علي آخرتي) الواو للعطف على طوارق الجن والفاء سببية دالة

ص:486

على ان ما قبلها سبب لما بعدها وتفسد مبني للفاعل من الفساد أو من الإفساد، وآخرتي على الأول فاعله وعلى الثاني مفعوله وفاعله مستتر راجع إلى الزلة.

(وأن يكون ذلك منهم ضررا على ما في معاشي) أي في حياتي والواو للعطف على أن استزل وضمير منهم راجع إلى الفسقة أو إلى الطواق والمآل واحد وذلك إشارة إلى الزلة لا إليهما لأن ذكر ما يتعلق بالجملة الاولى بعد الفراغ منها والإتيان بالاخرى مستبعد بل غير جائز ثم المراد بالضرر اما الزلة المذكورة أو ما يترتب عليها إذ الزلة عن الدين توجب تسلط الفسقة من الجن والإنس إلى صاحبها وسهولة تأثيرهم فيه وسرعة قبوله منهم بخلاف ما إذا كان قويا ثابتا في الدين ويتولد منه ضررا كثيرا.

(ويعرض بلاء يصيبني منهم لا قوة لي به) أي بدفعه. (ولا صبر لي على إحتماله) لا قوة إما استئناف أو حال عن ضمير المتكلم أو صفة ثانية لبلاء ولعل النكتة في إيراد أحد الوصفين جملة فعلية والآخر اسمية هي التنبيه على ان الإصابة متجددة آنا فآنا والقوة منتفية بالمرة على سبيل الاستمرار، ثم الظاهر ان البلاء أيضا ضرر فلو حملنا الضرر على المعنى الأول والبلاء على ما يترتب على الزلة كما هو ظاهر العبارة فالفرق واضح، وإلا فلا ويمكن أن يراد بالضرر الضرر الديني والبلاء البلاء الدنيوي فليتأمل.

(فلا تبتليني يا إلهي بمقاساته) قاساه كاد وتحمل مشقته وفي الكنز مقاساة. رنج چيزى كشيدن (أسألك اللهم الرفاهية في معيشتي ما أبقيتني) الرفاهية مخففة رغد الخصب ولين العيش وسعته وهي الكفاف أو فوقه.

(معيشة أقوى بها على طاعتك) معيشة بالجر بدل لمعيشتي وبالنصب مصدر لها أو بدل أو بيان للرفاهية وفيه إشارة إلى بعض فوائد تلك المعيشة وهو صرف القوة الحاصلة بها في الطاعة دون المعصية. (وأبلغ بها رضوانك) ضمير التأنيث راجع إلى معيشة لا إلى طاعة وان كان البلوغ بسببها لئلا تخلو الجملة الوصفية عن ضمير الموصوف والمراد بدار الحيوان الجنة لأنها دار حياة أبدية. (ولا ترزقني رزقا يطغيني) وهو الكثير الشاغل للقلب عنه تعالى وعن العمل للآخرة والباعث على الطغيان ويفهم منه أن المراد بالمعيشة المطلوبة الكفاف.

(ولا تبتليني بفقر أشقى به) وهو الفقر الباعث للكفر والسؤال عن الخلق وكسر الظهر وزوال الصبر (مضيقا علي) الظاهر أنه حال عن فاعل لا تبتليني أو عن فقر.

(وأعطني حظا وافرا في آخرتي) بالتفضل أو بالتوفيق للعمل له. (ومعاشا واسعا) اريد به الكفاف وهو تأكيد لما سبق.

ص:487

(هنيئا مريئا في دنياي) الهنىء الطيب المساغ الذي لا ينغضه والمرىء محمود العاقبة الذي لا يضر ولا يؤذي كذا ذكره الفاضل الأردبيلي.

(ولا تجعل الدنيا علي سجنا) كناية عن طلب رفع الفقر وضنك العيش وسوء الحال وأذى الخلائق وألم النوائب وشدة المنصائب.

(ولا تجعل فراقها علي حزنا) كناية عن طلب النصرة على العمل لما بعد الموت وصرف القلب عن الركون إلى الدنيا والمحبة لها فان ترك العمل فيها والميل إليها يستلزمان حزنا طويلا وغما كثيرا عند فراقها. (ومن كادني فيها فكده - اه) اريد بكيده تعالى مكره وصرف الكيد والمكر أو جزاء أهلهما والتسمية من باب المشاكلة.

(وافقأ عني عيون الكفرة) فقأ العين كمنع قلعها أو أعورها أقبح عور، ولعله كناية عن صرف همتهم بالنظر إليه لقصد الإضرار له وإلقاء المكروه عليه.

(اللهم وأنزل علي منك سكينة) إحتفظ بها قلبي وجوارحي عن الاضطراب وأسكن بها في سبيل الخير والرشد والصواب، والسكينة الوقار والتأني في الحركة والسير ويمكن أن يراد بها الرحمة (وألبسني درعك الحصينة) أي المحكمة المانعة عن سهام المكاره، ولعل المراد بها حفظه تعالى. (واحفظني بسترك الواقي) عن المعاصي والذنوب، والستر بالكسر ما يستر به وبالفتح مصدر. (وجللني عافيتك النافعة) عافيته أن يسلم من الأسقام والبلايا وهي الصحة ضد المرض، والمراد بها السلامة من الأسقام القلبية والبدنية والأمراض الروحانية والجسمانية، والوصف إما للتوضيح بناء على أن عافية الله تعالى كلها نافعة أو للتخصيص بالفرد الكامل منها وهو النافع من جميع الوجوه أو للتنبيه على ان المطلوب العافية التي تكون معها الأفعال المطلوبة من أهل العافية والصحة.

(وصدق قولي وفعالي) الإضافة فيهما تفيد العموم والتصديق ضد التكذيب ولما كان بينه وبين صدقهما تلازم هنا لم يبد أن يكون كناية عن كون جميع أقواله صادقة موافقة للمزازين العدلية وجميع أقواله مطابقة للقوانين الشرعية، ويمكن أن يكون المقصود طلب التوفيق للموافقة بين القول والفعل وافراد القول وجمع الفعل باعتبار ان مورد الأول واحد ومورد الثاني متعدد. (وامدد لي في عمري) طلب الزيادة فيه للزيادة في امور الآخرة وتحصيل خيراتها وقد روي أن بقية عمر المؤمن عطية بها يتدارك ما فات ويراعي ما هو آت، ولا ينافي ذلك ما روي من أن المؤمن يحب لقاء الله تعالى ولا يكره الموت لأن ذلك حين الاختصار ووقت الارتحال.

* الأصل:

27 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين،

ص:488

عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قل: «اللهم أوسع علي في رزقي وامدد لي في عمري واغفر لي ذنبي واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري».

* الشرح:

(واجعلني ممن تنتصر به لدينك) من أعدائك ولو بعد الرجعة في عهد الصاحب (عليه السلام) وفي الكنز: انتصار داد ستاندن وكينه خواستن وباز داشتن مكر.

(ولا تستبدل بي غيري) أي لا تمح اسمي في المنتصرين ولا تثبت غيري بدلا مني والغرض منه طلب التوفيق للثبات على الامتثال وعدم التولي عنه لئلا يكون مصداقا لقوله: (وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

* الأصل:

28 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه يقول: «يامن يشكر اليسير ويعفو عن الكثير وهو الغفور الرحيم اغفر لي الذنوب التي ذهبت لذتها وبقيت تبعتها».

* الشرح:

قوله: (يامن يشكر اليسير) من العمل أي يقبله ويضاعف أجره. (ويعفو عن الكثير) من الذنوب بالتوبة وعدمها لمن يشاء. (وهو الغفور الرحيم) أي الساتر لذنوب عباده وعيوبهم وهو أبلغ من العفو لأن العفو لا يستلزم الستر.

(اغفر لي الذنوب التي ذهب لذتها وبقيت تبعتها) تبعة الشيء بكسر الباء ما يتبعه ولا يفارقه من تبعت الرجل كفرح إذا مشيت خلفه، ولعل المراد هنا العقوبة أو استحقاقها ووصف الذنوب بما ذكر للتوضيح وإظهار التحسر والتأسف والندامة عليها وتذكر الغير وزجره عن الإتيان بمثلها.

* الأصل:

29 - وبهذا الإسناد، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان من دعائه يقول:

«يا نور يا قدوس يا أول الأولين ويا آخر الآخرين يا رحمن يا رحيم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، واغفر لي الذنوب التي تحل النقم واغفر لي الذنوب التي تهتك العصم واغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، واغفر لي الذنوب التي تديل الأعداء واغفر لي الذنوب التي تعجل الفناء واغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء واغفر لي الذنوب التي تظلم الهواء واغفر لي الذنوب التي تكشف الغطاء واغفر لي الذنوب التي ترد الدعاء واغفر لي الذنوب التي ترد غيث السماء».

ص:489

* الشرح:

قوله: (يا نور يا قدوس) هو نور لأنه ظاهر به ظهور كل شيء والظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نورا أو لأن به اهتدى أهل السماوات والأرضين إلى مصالحهم ومراشدهم كما يهتدي بالنور، أو لأنه منور النور وخالقه وأطلق عليه اسمه. كذا في العدة والنهاية. والقدوس من أبنية المبالغة ومعناه الطاهر من العيوب والنقائص.

(يا أول الأولين ويا آخر الآخرين) يجده الذهن أول عند انتقاله من أول الأسباب إلى آخرها وآخر عند انتقاله من آخرها إلى أولها، وبعبارة اخرى أول عند انتقاله من الأسباب إلى المسببات وآخر عند انتقاله من المسببات إلى الأسباب فهو أول عند كونه آخر، وبالعكس، ولا تفارق بينهما إلا بلحاظ العقل، ويكن أن يكون الأولية باعتبار إيجاد الأشياء والآخرية باعتبار إفنائها وهو الباقي الوارث بعد فنائها.

(اغفر لي الذنوب التي تغير النعم) كالبخس في المكيال والميزان، وقد روي أنه يورث تبديل الخصب والرخاء والأمن بالقحط وشدة المؤونة وجور السلطان، ولا يبعد أن الذنوب كلها تغير النعم (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

(واغفر لي الذنوب التي تحل النقم) النقم ككلم وعنب جمع النقمة بالفتح وبالكسر وكفرحه وهي المكافاة بالعقوبة كالزنا والسرقة وغيرهما مما يوجب الحمد.

(واغفر لي الذنوب التي تهتك العصم) العصم كعنب جمع العصمة وهي خصلة مانعة من المعصية، شبهها بالساتر بقرينة الهتك والذنوب إذا كثرت وتراكمت وتهتكها وترفعها بالمرة حتى لا يبالي المذنب بأي ذنب ورد ولا بأي واد هلك، وقد يصدر الهتك من ذنب واحد كشرب الخمر.

(واغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء) الذنوب كلها يمكن أن يصير سببا لنزول البلية سيما إذا بلغت القوة الشهوية والغضبية مرتبة الإفراط فيها وذلك ظاهر في المنهمكين فيها المأخوذين بأنواع من البلاء.

(واغفر لي الذنوب التي تديل الأعداء) أي تغلبهم وتنصرهم علينا من الدالة وهي الغلبة وذلك كمخالفة الرعية للحاكم العادل وترك متابعته ومخالفة المؤمنين بعضهم بعضا فإنها توجب الوهن فيهم والضعف في الحاكم وعدم قدرته على دفع الأعداء وعند ذلك يقوى الأعداء وتكون الغلبة لهم وقد روي عن الباقر (عليه السلام): «إنهم لم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم وأخذوا بعض ما في أيديهم».

ص:490

(واغفر لي الذنوب التي تعجل الفناء) كقطيعة الرحم واليمين الكاذبة، وقد روي أنهما لتذران الديار بلاقع من أهلها.

(واغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء) كالكفر والقنوط من رحمة الله واليأس من روحه والنفاق وإنكار الحق مع العلم بأنه حق.

(واغفر لي الذنوب التي تظلم الهواء) وهي الكبائر المظلمة الموبقة، والهواء بالمد الجو وهو ما بين الأرض والسماء وقد يطلق على القلب الخالي من الخير وكل خال هواء ومنه قوله تعالى:

(وأفئدتهم هواء) وبالقصر هو النفس ومتمنياته والأول هنا أظهر والثاني أنسب والثالث بعيد.

(واغفر لي الذنوب التي تكشف الغطاء) وهي الكبائر الكثيرة وقد روي: «أن على كل عبد أربعين جنة من أجنحة الملائكة تستره فإذا فعل أربعين كبيرة ثم اشتغل بعد ذلك بالقبيح يوحي الله عزوجل إليهم أن ارفعوا أجنحتكم عنه فعند ذلك ينهتك ستره في السماء وستره في الأرض فيقول الملائكة يا رب هذا عبدك بقي مخترق الستر فيوحي الله عزوجل إليهم لو كانت لله فيه حاجة ما أمركم أن ترفعوا أجنحتكم عنه» هذا بعض مضمون الحديث المذكور في باب الكبائر.

(واغفر لي الذنوب التي ترد الدعاء) وهي كثيرة إذ كل ذنب يحتمل أن يكون رادا له ولذلك عدوا الاستغفار والتوبة من شرائط قبوله ومن جملة شرائط تلك الذنوب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو المروي عن الباقر (عليه السلام).

(واغفر لي الذنوب التي ترد غيث السماء) هذه أيضا كثيرة ومنها منع الزكاة وقد روي عن الباقر (عليه السلام): «أنهم لم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا».

* الأصل:

30 - عنه، عن محمد بن سنان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «يا عدتي في كربتي ويا صاحبي في شدتي ويا وليي في نعمتي ويا غياثي في رغبتي». قال: وكان من دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام): «اللهم كتبت الآثار وعلمت الأخبار واطلعت على الأسرار فحلت بيننا وبين القلوب فالسر عندك علانية والقلوب إليك مفضاة، وإنما أمرك لشيء إذا أردته أن تقول له كن فيكن». فقل: «برحمتك لطاعتك أن تدخل في كل عضو من أعضائي ولا تفارقني حتى ألقاك».

وقل: «برحمتك لمعصيتك أن تخرج من كل عضو من أعضائي فلا تقربني حتى ألقاك وارزقني من الدنيا وزهدني فيها ولا تزوها عني ورغبني فيها يا رحمن».

* الشرح:

قوله: (يا عدتي في كربتي) العدة بالضم ما أعدته وهيأته لحوادث الدهر من المال

ص:491

والسلاح وغيرهما والكربة بالضم الحزن الشديد.

(ويا صاحبي في شدتي) في ذكر الصاحب إيماء إلى علمه بحاله وشدائده مع توقع رفعها منه.

(ويا وليي في نعمتي) وفيه أيضا إيماء إلى توقع رفع الحزن والشدائد لأنه ولي كل نعمة ورفعها نعمة واضحة. (ويا غياثي في رغبتي) فيك بدفع الشدائد والأحزان والغياث بالكسر فرياد رس وأصله الغواث صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها.

(اللهم كتبت الآثار) جمع الأثر بالتحريك وهو ما بقي من رسم الشيء والمراد به ما أسسه كل شخص وبقي بعده من خير أو شر، وفي النهاية الأثر الأجل ويحتمل أن يراد به الأجل وسمي به لأنه يتبع العمر.

(وعلمت الأخبار) أي أخبار من كان ومن يكون ومن هو كائن وأخبار أهل الجنة وأهل النار وأخبار السماء والأرض وأخبار المخلوقات كلها.

(واطلعت على الأسرار) أي علمتها تقول اطلعت على باطن أمره وهو افتعلت إذا علمته.

(فحلت بيننا وبين قلوبنا) لعل المراد بقوله بيننا المواد الجسمانية والقوى البدنية وبالقلوب العقول المجردة النورانية المائلة إلى الله عزوجل بإذنه، وبكونه تعالى حائلا بينهما أنه مانع من استيلاء الاولى على الثانية ولولا منعه تعالى لاستولت القوى الجسمانية على القوة العقلانية التي من شأنها الرئاسة البدنية فيصير الأمير مأمورا والرئيس مرؤوسا وبطل النظام ومنه يظهر سر قولنا: «لا حول ولا قوة إلا بالله».

(فالسر عندك علانية) هذا ناظر إلى قوله اطلعت على الأسرار. (والقلوب إليك مفضاة) أي موصولة اسم مفعول من أفضيت إلى الشيء إذا وصلت وفيه تنبيه على أن وصول القلب إليه عزوجل من لطفه وعونه وهذا ناظر إلى قوله: «فحلت - إلى آخر» إذ لو لم يكن حائلا يتحقق الإفضاء.

(ان يقول له كن فيكون) كما نطق به القرآن الكريم وكلمة كن كناية عن التسخير بمجرد الإرادة لا ان هناك لفظا وصوتا.

(فقل برحمتك لطاعتك - اه) القول هنا بمعنى: الحكم والقضاء لا بمعنى اللفظ والنطق باللسان قال في النهاية: القول يستعمل في معنى الحكم.

(وارزقني من الدنيا وزهدني فيها) طلب الكفاف والزهد فيما زاد أو في محبته أو في صرف العمر في تحصيله. (ولا تزوها عني ورغبتي فيها) زويت الشيء عنه صرفته ونحيته عنه والواو للحال عن ضمير المتكلم والمقصود صرف هذا القيد يعني أن صرفتها عني لمصلحة فاصرف عني

ص:492

رغبتي فيها. وكون المطلوب عدم صرف الكفاف الذي فيه الرغبة بعيد.

* الأصل:

31 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن عبد الرحمن بن سيابة قال: أعطاني أبو عبد الله (عليه السلام) هذا الدعاء: «الحمد لله ولي الحمد وأهله ومنتهاه ومحله، أخلص من وحده واهتدى من عبده وفاز من أطاعه وأمن المعتصم به، اللهم يا ذا الجود والمجد والثناء الجميل والحمد، أسألك مسألة من خضع لك برقبته ورغم لك أنفه وعفر لك وجهه وذلل لك نفسه وفاضت من خوفك دموعه وترددت عبرته واعترف لك بذنوبه وفضحته عندك خطيئته وشانته عندك جريرته وضعفت عند ذلك قوته وقلت حيلته وإنقطعت عنه أسباب خدائعه واضمحل عنه كل باطل وألجأته ذنوبه إلى ذل مقامه بين يديك وخضوعه لديك وإبتهاله إليك أسألك اللهم سؤال من هو بمنزلته أرغب إليك كرغبته وأتضرع إليك كتضرعه وابتهل إليك كأشد إبتهاله.

اللهم فارحم إستكانة منطقي وذل مقامي ومجلسي وخضوعي إليك برقبتي، أسألك اللهم الهدى من الضلالة والبصيرة من العمى والرشد من الغواية، أسألك اللهم أكثر الحمد عند الرخاء وأجمل الصبر عند المصيبة وأفضل الشكر عند موضع الشكر والتسليم عند الشبهات، وأسألك القوة في طاعتك والضعف عن معصيتك والهرب إليك منك والتقرب إليك رب لترضى والتحري لكل ما يرضيك عني في إسخاط خلقك إلتماسا لرضاك، رب من أرجوه إن لم ترحمني، أو من يعود علي إن أقصيتني، أو من ينفعني عفوه إن عاقبتني، أو من آمل عطاياه إن حرمتني، أو من يملك كرامتي إن أهنتني، أو من يضرني هوانه إن أكرمتني رب ما أسوء فعلي وأقبح عملي وأقسى قلبي وأطول أملي وأقصر أجلي وأجرأني على عصيان من خلقني، رب وما أحسن بلاءك عندي وأظهر نعماءك علي، كثرت علي منك النعم فما احصيها وقل مني الشكر فيما أوليتنيه فبطرت بالنعم وتعرضت للنقم وسهوت عن الذكر وركبت الجهل بعد العلم وجزت من العدل إلى الظلم وجاوزت البر إلى الإثم وصرت إلى الهرب من الخوف والحزن فما أصغر حسناتي وأقلها في كثرة ذنوبي، وما أكثر ذنوبي وأعظمها على قدر صغر خلقي وضعف ركني، رب وما أطول أملي في قصر أجلي وأقصر أجلي في بعد أملي وما أقبح سريرتي في علانيتي، رب لا حجة لي إن احتججت ولا عذر لي إن اعتذرت ولا شكر عندي إن ابتليت وأوليت إن لم تعني على شكر ما أوليت، رب ما أخف ميزاني غدا إن لم ترجحه وأزل لساني إن لم تثبته واسود وجهي إن لم تبيضه، رب كيف لي بذنوبي التي سلفت مني قد هدت لها أركاني، رب كيف أطلب شهوات

ص:493

الدنيا وأبكي على خيبتي فيها ولا أبكي وتشتد حسراتي على عصياني وتفريطي، رب دعتني دواعي الدنيا فأجبتها سريعا وركنت إليها طائعا ودعتني دواعي الآخرة فتثبطت عنها وأبطأت في الإجابة والمسارعة إليها كما سارعت إلى دواعي الدنيا وحطامها الهامد وهشيمها البائد وشرابها الذاهب رب خوفتني وشوقتني واحتججت علي برقي وكفلت لي برزقي فآمنت [من] خوفك وتثبطت عن تشويقك، ولم أتكل على ضمانك وتهاونت باحتجاجك.

اللهم فاجعل أمني منك في هذه الدنيا خوفا وحول تثبطي شوقا وتهاوني بحجتك فرقا ثم رضني بما قسمت لي من رزقك يا كريم، [يا كريم] أسألك باسمك العظيم رضاك عند السخطة والفرجة عند الكربة والنور عند الظلمة والبصيرة عند تشبه الفتنة، رب اجعل جنتي من خطاياي حصينة ودرجاتي في الجنان رفيعة وأعمالي كلها متقبلة وحسناتي مضاعفة زاكية، وأعوذ بك من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن ومن رفيع المطعم والمشرب ومن شر ما أعلم ومن شر ما لا أعلم، وأعوذ بك من أن أشتري الجهل بالعلم والجفاء بالحلم والجور بالعدل والقطيعة بالبر والجزع بالصبر والهدى بالضلالة والكفر بالإيمان».

ابن محبوب، عن جميل بن صالح أنه ذكر أيضا مثله وذكر أنه دعاء علي بن الحسين صلوات الله عليهما وزاد في آخره «آمين رب العالمين».

* الشرح:

قوله: (الحمد لله ولي الحمد وأهله ومنتهاه ومحله) وصفه تعالى بكل واحد من هذه المفهومات والأربعة مغاير لوصفه بغيره بالاعتبار إذ هو ولي الحمد من حيث كمال ذاته وصفاته وشرافة وجوده على الإطلاق، وأهله من حيث بسط عوائد كرمه عوائد نعمه على ساحة الإمكان، ومنتهاه من حيث ان الحمد ينتهي إليه ولا يجاوزه إذ ليس فوقه شيء، ومحله من حيث إثبات الحمد والمحامد كلها له. (أخلص من وحده) بنفي الشريك والند والضد والمثل والتركيب والتجزية في الذهن والخارج ونفي الصفات، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كمال الإخلاص نفي الصفات عنه» وقد مر وجهه وتحقيقه في كتاب التوحيد.

(واهتدى) إلى السعادة الأبدية والمثوبات الإلهية. (من عبده) خالصا مخلصا لوجهه الكريم. (وفاز) بالكرامات الأبدية واللذات الروحانية والجذبات الإلهية. (من أطاعه) في أوامره ونواهيه ومواعظه ونصائحه بالإذعان والإيمان بها والتسليم والانقياد لها.

(وأمن) من عذاب الآخرة وأهوالها. (المعتصم به) في القاموس اعتصم بالله وامتنع بلطفه المعصية. (أسألك اللهم مسألة من خضع لك برقبته) على الخضوع بالرقبة لأن أغلب ظهوره كظهور

ص:494

ضده وهو التكبر بها. (ورغم لك أنفه) رغم لله أنفه بكسر الغين وفتحها ورغم الأنف ورغما بضم الراء وفتحها إذا ساخ في الرغام بالفتح وهو التراب ثم استعمل في الذل وأرغم الله أنفه إذا ألصقه بالرغام ثم استعمل في الإذلال وحمل الرغم هنا على الأصل ظاهر وعلى الذل محتمل. (وعفر لك وجهه) في الصحاح: العفر بالتحريك التراب عفره بالتراب يعفره عفرا أو عفره تعفيرا أي مرغه كاعفره. (وترددت عبرته) في القاموس العبرة بالفتح الدمعة قبل أن يفيض أو تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء.

(وفضحته عندك خطيئته) في الصحاح: الخطيئة الذنب أو ما تعمد منه كالخطء بالكسر والخطأ ما لم يتعمد. (وشانته عندك جريرته) أي عابته وقبحته والجريرة ذنب وجناية جرهما الإنسان على نفسه وغيره.

(فضعفت عند ذلك قوته) لأن الخطيئة والجريرة توجبان ضعف القوة في الدين ووهن الإعتقاد واليقين سيما إذا بلغت إلى حد الفضيحة. (وقلت حيلته) هي في اللغة الحذق وجودة النظر والقوة على التصرف يعني قلت جودة تفكره في ابدار الأعذار وقوة تصرفه في التخلص من النكال والبوار حيث انه ليس له عذر مقبول ولا مفر معقول.

(وإنقطعت عنه أسباب خدائعه) جمع خديعة وهي اسم من خدعه كمنعه خدعا ويكسر ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم، والمراد بأسبابها طغيان القوة الشهوية والغضبية وغيرهما من قوى النفسانية والحيوانية الداعية إلى الشرور وبإنقطاع تلك الأسباب خمودها وذبولها لكبر السن ونحوه. (واضمحل عنه كل باطل) من الأسباب والمسببات ومقتضيات القوة البهيمية والسبعية التي حكم ببطلانها الموازين الإلهية والقوانين النبوية، والإضمحلال الذهاب والانحلال ومنه اضمحلت السحاب إذا ذهبت وتفرقت بالريح.

(وألجأته ذنوبه إلى ذل مقامه بين يديك) المقام بالفتح مصدر وبالضم اسم مكان أو زمان ولعل إضافة الذل إليه بتقدير «في» ثم المقام بين يديه من حيث هو عز لكنه من حيث أنه نشأ منه الذنوب ذل عظيم.

(وخضوعه لديك) عطف على ذلك أو مقامه والأول أظهر. (وإبتهاله إليك) الابتهال التضرع والمبالغة في السؤال والاجتهاد في الطلب وشاع استعماله أيضا في رفع اليدين ومدهما إلى السماء حتى تتجاوزا عن الرأس عند ظهور الدمعة والبكاء كما مر.

(أسألك اللهم سؤال من هو بمنزلته - اه) الظاهر أنه تأكيد لقوله: «أسألك اللهم سؤال من خضع لك برقبته» كما يشعر به ترك العطف وفائدته التكرير والتقرير ان اريد بالموصول الثاني عين الأول

ص:495

على سبيل الكناية أو دفع احتمال عدم الشمول والعموم ليفيد أن سؤال له مساو لسؤال كل من هو بمنزلته أو متصف بصفته. (فارحم إستكانته) من الكون أي صار له كون خلاف كونه كاستحال إذا تغير من حال إلى حال وقد مر.

(أسألك اللهم الهدى من الضلالة - إلى آخره) في المواضع الثلاثة للمبدل كما قيل في قوله تعالى: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) والمراد بالهدى الوصول إلى سبيل الحق والدخول فيه بقرينة الضلالة التي هي الخروج منه والدخول في سبيل الباطل، والعمى عدم البصيرة المستلزم للجهالة ولوازمها والغواية بالفتح الضلالة والخيبة أيضا، والرشد خلافها بالمعنيين والفرق بينهما بالمعنى الأخير خفي إلا أن يراد بها الضلالة الشديدة فتكون من باب ذكر الخاص بعد العام للاهتمام، قال ابن الأثير: الغي الضلال والانهماك في الباطل.

(وأسألك اللهم أكثر الحمد عند الرخاء) هو الله سبحانه يستحق الحمد عند الشدة كما يستحقه عند الرخاء كما نطقت به الروايات ودلت عليه الصحيفة السجادية وإنما خص الرخاء بالذكر لأنه أكثر ولأنه في أكثر الناس سبب للبطر والغفلة فطلب كثرة الحمد عنده أهم.

(وأجمل الصبر عند المصيبة) هو حبس النفس عن الجزع والشكوى وعن الانتقام أيضا لو كانت المصيبة واردة من قبل الناس وفيه فوائد كثيرة في الدنيا ومثوبات جزيلة في الآخرة (وأفضل الشكر عند موضع الشكر) موضعه النعمة قال في النهاية: الشكر مثل الحمد إلا أن الحمد أعم منه فإنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة وعلى معروفه ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته والشكر مقابل النعمة بالقول والفعل والنية فيثني على المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ويعتقد انه مولاها.

(والتسليم عند الشبهات) عطف على أفضل أو على الشكر والتسليم وهو الإذعان والانقياد عند الشبهات والتوقف عند المشكلات إلى أن يرفع إلى العالم بوجه المراد أمر مطلوب من العباد ولازم على أهل الدين والرشاد لئلا يقعوا على الحرام والفساد كما دل عليه الخبر ونطق به الأثر.

(والهرب إليك منك) أي من عقوبتك. والهرب بالتحريك الفرار.

(والتقرب إليك رب لترضى) طلب التقرب تفضلا منه أو طلب التوفيق لما يوجبه واللام في «لترضى» متعلق بقوله: «أسألك القوة» وتعليل له، لا بقوله: «أسألك اللهم أكثر الحمد - إلى آخره» فانه بعيد. ولا بالتقرب فقط فانه تخصيص بلا مخصص.

(والتحري لكل ما يرضيك - اه) من القول والفعل والاعتقاد والتحري القصد والطلب والاجتهاد والعزم كذا في النهاية وفي القاموس: تحراه تعمده وطلب ما هو أحرى بالإستعمال

ص:496

وقوله: (التماسا لرضاك) أي طلبا له علة للتحري أو للإسخاط.

(أو من يعود على أن أقصيتني) العود النفع والعطف، ومنه العائدة يقال هذا: الشيء أعود عليك من كذا أي أنفع وفلان ذو عائدة أي ذو منفعة وتعطف والإقصاء الإبعاد يقول أقصيته إذا أبعدته وطردته (رب ما أسوء فعلي وأقبح عملي) تعجب مما جعل فعله سيئا وعمله قبيحا لعظمته وخفاء سببه «ما» بمعنى شيء مبتدء وما بعدها خبره أو موصولة وما بعدها صلتها والخبر محذوف والمعنى على الأول شيء عظيم لا يدركه ذاته ولا وصفه ولا سببه أسوء فعلي شيء عظيم أو استفهامية وما بعدها خبرها فكأنه للجهل بالنسبة أو لتحيره استفهم عنه والاستفهام وقد يستفاد منه التعجب نحو (وما أدراك ما ليلة القدر) (وما أدراك ما يوم الدين) وقس عليه البواقي.

(وأقسى قلبي) حتى يترك ما ينفعه ويوجب حياته وقوته ويرتكب ما يضره ويوجب موته وعقوبته.

(وأطول أملي وأقصر أجلي) فيه تعجب، وطول الأمل في الامور الدنيوية التي لا يمكن حصولها فيه وعلى فرض حصولها لا حاجة إليها.

(وما أحسن بلاءك عندي) البلاء والمحنة العطية (وأظهر نعماك علي) النعما بالضم والقصر والنعماء بالفتح والمد اسم لما أنعم الله عليك كالنعمة بالكسر.

(وقل مني الشكر فيما أوليتنيه) من المعروف والنعمة وفي الكنز ايلاء بخشيدن.

(وبطرت بالنعم) البطر محركة النشاط والأشر وهو شدة المرح والطغيان بالنعمة وفعله كفرح.

(وصرت إلى الهرب من الخوف والحزن) وفي بعض النسخ «إلى اللهو» وهو العلب والانس أيضا ومنه لهت المرأة إلى حديثه إذا أنست به.

(فما أصغر حسناتي وأقلها في كثرة ذنوبي) وصف الحسنات بالصفر بحسب المقدار وبالقلة بحسب العدد ولم يقل في عظم ذنوبي وكثرتها إقتصارا بالقرينة، وفي للظرفية مجازا للمقايسة كما في قولك: خيره قليل في شره أي بالقياس إليه.

(وما أكثر ذنوبي وأعظمها على قدر صغر خلقي وضعف ركني) ركن كل شخص جوارحه وجوانبه التي يستند إليها ويقوم بها وأيضا عشيرته الذين يستند إليهم كما يستند إلى الركن من الحائط والأول هنا أنسب والثاني متحمل وفيه تعجب في تعجب من حمل هذا الخلق الصغير الضعيف تلك الأثقال الكثيرة والأحمال العظيمة الثقيلة التي لا يقدر على تحملها الأقوياء. (رب وما أطول أملي في قصر أجلي وأقصر أجلي في بعد أملي) أيضا مبالغة في التعجب حيث أراد تحصيل ما يقتضي زمانا طويلا في زمان قصير وتطبيق زمان قصير بزمان طويل.

ص:497

(وما أقبح سريرتي في علانيتي) فيه أيضا مبالغة في التعجب حيث أنه أفسد سريرته مع الخالق وأصلح علانيته مع الخلق وذلك النفاق والمخادعة فصار بذلك مصداقا لقوله تعالى (يخادعون الله وهو خادعهم).

(رب لا حجة لي ان احتججت) لأنها داحضة بعد التعريف والبيان. (ولا عذر لي ان اعتذرت) لأنه مقطوع بعد التوضيح والبيان. (ولا شكر عندي ان ابتليت وأوليت) يجوز بناء الفعلين للفاعل والمفعول وهو أظهر، والابتلاء كما يكون بالمحنة والعطية كذلك يكون بالمحنة والبلية وهي أولى بالإرادة هنا للفرار عن وسمه التكرار وفيه دلالة على أنه تعالى يستحق الشكر في الحالين.

(ان لم تعني على شكر ما أوليت) بالتوفيق له وصرف القوة إليه والفعل يحتمل الوجهين والعائد إلى الموصول محذوف ولم يذكر الابتلاء إما للاختصار أو للتغليب أو لأن الابتلاء أيضا إيلاء (رب ما أخف ميزاني غدا) لقلة حسناتي وصغرها وكثرة سيئاتي وعظمها. (ان لم ترجحه) بالتفضل أو لمحو بعض السيئات وإسقاطه أو بتثقيل الخفيف وتخفيف الثقيل وهما أيضا تفضل.

(كيف لي بذنوبي التي سلفت مني) كيف استفهام عن الأحوال وقد يقع للتعجب منه وهو المراد هنا أي حال لي بسبب تلك الذنوب أو معها.

(وقد هدت لها أركاني) الواو للحال وهدت على البناء للمفعول بمعنى كسرت يقال هذا البناء يهده هدا كسره وضعضعه وهدته المصيبة ضعفت أركانه أي جوارحه وهذه الجملة الحالية سبب لما ذكر من الحالة العجيبة.

(وكيف أطلب شهوات الدنيا وأبكي على خيبتي فيها) المراد بالبكاء معناه حقيقة مع إمكان أن يراد به الحزن كناية.

(ولا أبكي وتشتد حسراتي على عصياني وتفريطي) الظاهر أن تشتد عطف على أبكي وكونه حالا عن فاعله محتمل وقوله: «على عصياني» متعلق به وبأبكي على سبيل التنازع وفيه تعجب من انعكاس حاله حيث طلب الدنيا وبكى على عدم نيلها ولم يطلب الآخرة ولم يبك على الإتيان بما يوجب خرابها مع أن الدنيا دار الفرار والآخرة دار القرار.

(رب دعتني دواعي الدنيا) هي الشهوات الدنياوية والرغبات النفسانية والشيطانية والقوى الجسمانية. (فأجبتها سريعا) من غير إبطاء ولا توان.

(وركنت إليها طائعا) من غير كراهة ولا تثاقل. (ودعتني دواعي الآخرة) أي الأوامر الإلهية والنبوية والمثوبات الجزيلة الباقية الاخروية.

ص:498

(فتثبطت عنها) أو تعوقتها وإشتغلت عنها بغيرها يقال ثبطه عن مراده تثبيطا إذا عوقه وشغله عنه فتثبط. (وحطامها الهامد) شبه متاع الدنيا بالحطام وهو بالضم ما تكسر من اليبس ووصف الحطام بالهامد وهو النبات البالي اليابس للمبالغة في ذمه وتكسره وعدم نضارته وخروجه عن حد الانتفاع به. (وهشيمها البائد) الهشم الكسر والهشيم المكسور فعيل بمعنى مفعول والبائد الهالك من باد يبيد إذا هلك وفي تشبيه متاع الدنيا به مبالغة في التنفير عنه لذهاب مائه وعدم روائه وقلة نضرته وزوال خضرته، ويمكن أن يكون الهشيم بمعنى الهاشم للإشعار بأنه مع كونه هالكا في نفسه كما مر مهلك لمن تمسك به وركن إليه.

(وشرابها الذاهب) الشراب بالفتح ما يشرب من الماء وغيره من المايعات، وفي بعض النسخ «سرابها» بالسين المهملة وهو ما تراه نصف النهار كأنه ماء وليس بماء، شبه به متاع الدنيا في انه ليس بشيء والمبالغة في التنفير عنه مؤيدة له والذاهب مؤيد للأول لإفادته بحسب الظاهر انه شيء لا اعتناء به لأنه ذاهب منقطع.

(رب خوفتني) من مخالفتك وعقوبتك. (وشوقتني) إلى طاعتك ومثوبتك. (واحتججت علي برقي) أي بأني عبد مملوك لك يجب على طاعتك كما يجب على العبد طاعة مولاه.

(وكفلت برزقي) كما صرحت به في مواضع من القرآن الكريم والكافل الضامن كالكفيل وقد كفل به كضرب ونصر وكرم وعلم ضمنه.

(فأمنت خوفك) الخوف يوجب فعل الطاعات وترك المنهيات والأمن يوجب عكس ذلك فهو كناية عن ترك ما ينبغي فعله وفعل ما ينبغي تركه.

(وتثبطت عن تشويقك) فاشتغلت بما يوجب سخطك وعقوبتك. (ولم أتكل على ضمانك) برزقي فاضطربت في تحصيله وإكتسابه من أي وجه كان مشتغلا به عن أمر الآخرة.

(وتهاونت بإحتجاجك) علي بالعبودية وتركت ما وجب علي من عبادتك وطاعتك.

(اللهم فاجعل أمني في هذه الدنيا خوفا) الفاء زائدة أو استئناف والجار والمجرور متعلق بالأمن وفائدته الاحتراز عن الآخرة فان المطلوب فيها هو العكس.

(أسألك باسمك العظيم) الوصف للمدح أو التوضيح إذ كل اسمه عظيم ولا يبعد أن يراد به الفرد الكامل وهو الاسم الأعظم لأن المطلق ينصرف إليه.

(رضاك عند السخطة) طلب تحويل عذابه بالإحسان أو ما يرضيه عند ما يسخطه والسخط كقفل وعنق وجبل خلاف الرضا سخط كفرح غضب أسخط أغضبه.

(والفرجة عند الكربة) في القاموس الفرجة مثلثة التفصي من الغم فرج الله الغم يفرجه كشفه

ص:499

وأخرجه. (والنور عند الظلمة) لعل المراد بهما العلم والجهل أو الطاعة والمعصية أو الهدى والضلالة أو الخير والشر كل ذلك على سبيل الاستعارة.

(والبصيرة عند تشبه الفتنة) الشبه بالكسر والتحريك المثل وأشباه ذلك أمثاله وتشابها وإشتبها أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا والشبهة بالضم الالتباس والتشبيه التلبيس يقال: تشبه عليه الأمر تشبها إذا التبس عليه وامور مشتبهة ومشبهة ملتبسة مشكلة وللفتنة معان منها الضلال ومنها الإذلال ومنها إختلاف الناس في الآراء، ويطلق أيضا على المذاهب المختلفة الحاصلة من الآراء والظاهر أن إضافة التشبيه إلى الفتنة إضافة المصدر إلى المفعول والمقصود طلب البصيرة القلبية الفارقة بين الحق والباطل عند تلبيس أهل التشبيه فتنتهم بصورة الحق ويمكن أن يكون الفتنة فاعلا للتشبيه مجازا للملابسة بينها وبين الفاعل الحقيقي وكان الفتنة تلبس نفسها بالحق فالإضافة حينئذ مجاز عقلي.

(رب اجعل جنتي من خطاياي حصينة) أي غير متأثرة بتسويلات النفس وتدليسات الشيطان والجنة بالضم الترس ولعل المراد بها التقوى الواقية المانعة من الخطأ والمعصية.

(وحسناتي مضاعفة زاكية) أي طاهرة من الخلل والنقص أو نامية وقد روي ان العمل القليل الخالص قد ينمو بلطف الله تعالى حتى يصير كجبل احد.

(أعوذ بك من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن) كلها تأكيد للشمول ودفع لتوهم التخصيص الشائع في العموم والمراد بظاهرها وجليها وهو ما علم أنه فتنة بظاهر النظر كالقتال والسبي والنهب والهرج والمرج والعداوة العلانية ونحوها مما علم فساده نظرا إلى ظاهر الشريعة وباطنها خفيها وهو ما علم أنه فتنة بالنظر الدقيق والفكر العميق كبعض شبهات المخالفين ومعاداة المنافقين ومكائد الماكرين وأمثالها.

(ومن رفيع المطعم والمشرب) وان كان حلالا لأن في حلاله حسابا وفي حرامه عقابا ولأنه يوجب الغفلة والقسوة والدخول في زمرة المتنعمين والخروج عن زي المساكين وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» وروي أنه (صلى الله عليه وآله) لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام.

(والهدى بالضلالة) الظاهر ان فيه قلبا وفي المصباح أو الضلالة بالهدى وهو يؤيده ويمكن التوجيه بإرادة البيع من الإشتراء وان كان بعيدا لكونه مخالفا للسابق واللاحق.

* الأصل:

32 - ابن محبوب قال: حدثنا نوح أبو اليقظان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ادع بهذا الدعاء:

ص:500

«اللهم إني أسألك برحمتك التي لا تنال منك إلا برضاك والخروج من جميع معاصيك [إلا برضاك] والدخول في كل ما يرضيك والنجاة من كل ورطة والمخرج من كل كبيرة أتى بها مني عمدا وزل بها مني خطاء أو خطر بها علي خطرات الشيطان أسألك خوفا توقفني به على حدود رضاك وتشعب به عني كل شهوة خطر بها هواي واستزل بها رأيي ليجاوز حد حلالك، أسألك اللهم الأخذ بأحسن ما تعلم وترك سييء كل ما تعلم أو أخطىء من حيث لا أعلم أو من حيث أعلم، أسألك السعة في الرزق والزهد في الكفاف والمخرج بالبيان من كل شبهة والصواب في كل حجة والصدق في جميع المواطن، وإنصاف الناس من نفسي فيما علي ولي، والتذلل في إعطاء النصف من جميع مواطن السخط والرضا وترك قليل البغي وكثيره في القول مني والفعل وتمام نعمتك في جميع الأشياء والشكر لك عليها لكي ترضى وبعد الرضا، وأسألك الخيرة في كل ما يكون فيه الخيرة بميسور الامور كلها لا بمعسورها يا كريم يا كريم يا كريم وافتح لي باب الأمر الذي فيه العافية والفرج وافتح لي بابه ويسر لي مخرجه، ومن قدرت له علي مقدرة من خلقك فخذ عني بسمعه وبصره ولسانه ويده، وخذه عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن قدامه وامنعه أن يصل إلي بسوء، عز جارك وجل ثناء وجهك ولا إله غيرك، أنت ربي وأنا عبدك، اللهم أنت رجائي في كل كربة وأنت ثقتي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، فكم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويشمت فيه العدو وتعيى فيه الامور أنزلته بك وشكوته إليك راغبا إليك فيه عمن سواك قد فرجته وكفيته، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حاجة ومنتهى كل رغبة فلك الحمد كثيرا ولك المن فاضلا».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك برحمتك التي لا تنال منك إلا برضاك) في الكنز الرحمة مهربانى ودوستى نمودن والوصف لتخصيص الرحمة بما هو للخواص وهي التي تنال بها السعادة الأبدية والتقربات الربانية ودرجات الجنة العالية وأما التي تنال بها معرفة طريق الخير والشر والوصول إلى المطالب الدنيوية فهي عامة للمؤمن والكافر والصالح والطالح غير متوقفة على الرضا وما عطف عليه. (والخروج من جميع معاصيك) بعدم فعلها أصلا أو بالتوبة الخالصة منها بعده وهو بالجر عطف على رضاك وكذا المعطوفات بعده.

(والدخول في كل ما يرضيك) من الأعمال الحسنة الظاهرة والعقائد الصحيحة الباطنة.

(والنجاة من كل ورطة) الورطة كل غامض والهلكة وكل أمر يعسر النجاة منه أو ورطة ألقاه فيها.

ص:501

(والمخرج من كل كبيرة) هي كثيرة وتفصيلها في محلها وعند بعض الأصحاب كل الذنوب كبيرة والصغير بالإضافة والمخرج مصدر بمعنى الخروج.

(أتى بها مني عمدا وزل بها مني خطاء) مني في الموضعين متعلق بما بعده واسناد الإتيان والزلة إلى عمد وخطاء اسناد مجازي ومجاز عقلي كاسناد الفعل إلى السبب.

(أو خطر بها على خطرات الشيطان) أي اهتز بسببها وساوس الشيطان من قولهم خطر الرمح يخطر وخطر بسيفه إذا هزه وحركة متعرضا للمبارزة واسناده إلى خطرات الشيطان اسناد إلى السبب مجازا وفيه تشبيه ضمنا للشيطان بالمحارب المبارز والمعصية بسيفه الصارم بالإهلاك.

(أسألك خوفا توقفني به على حدود رضاك) لا تجاوزها إلى مواضع سخطك وفيه إيماء إلى أن الوقوف على ما ذكر من لطف الله تعالى كما أن حصول الخوف بملاحظة التقصير من لطفه وبه الاستعانة والتوفيق. (وتشعب به عني كل شهوة خطر بها هواي) عطف على توقفني والشعب كالمنع التفريق يقول: شعبت الشيء إذا فرقته والشهوة شاملة للحرام والمباح الذي لا يحتاج إليه والخوف سبب لرفض الشهوات الموجبة للغفلة من الله تعالى وعن أمر الآخرة.

(واستزل بها رأيي) عطف على خطر والرأي نظر القلب والاعتقاد، ويمكن أن يراد به القلب والنفس تسمية للمحل باسم الحال.

(ليجاوز حد حلالك) ويدخل في حرامك الجار متعلق باستزل وخطر وفاعل يجاوز راجع إلى كل واحد من الرأي والهوى.

(أسألك اللهم الأخذ بأحسن ما تعلم) من أنواع الخير وأفراده والمقصود أحسن فرد من كل وأكمله. (وترك سيىء كل ما تعلم) من أنواعه وأفراده والمطلوب ترك جميعها وسيىء الأمر القبيح والسيئة الخصلة القبيحة وأصلهما سيوء وسيوئة قلبت الواو ياء وأدغمت.

(أو أخطىء من حيث لا أعلم أو من حيث أعلم) أخطىء على صيغة المتكلم والظاهر أنه عطف على تعلم فيندرج تحت الترك.

(أسألك السعة في الرزق) هو كل ما يجوز الانتفاع به والمطلوب قدر الكفاف بقرينة قوله:

(والزهد في الكفاف) هو بفتح الكاف ما يكون بقدر الحاجة ويكف عن السؤال والجار والمجرور في محل النصب على أنه حال عن الزهد لا متعلق به وفي للمصاحبة وبمعنى مع وعلى التقديرين إندفع توهم خلاف المقصود.

(والمخرج بالبيان من كل شبهة) في الأمور الدنيوية أو الدينية أو المبدأ أو المعاد والباء للسببية، والبيان: الإفصاح والإيضاح والشبهة ما إمتزج من الحق والباطل وألبس المجموع بصورة

ص:502

الحق ولذلك سمي شبهة لإشتباهه بالحق وأما الباطل الصرف الذي لا يكون معه شيء من الحق فليس بشبهة إذ لا يخفى على العاقل وجه فساده.

(والصواب في كل حجة) الحجة ان كانت بمقدمات صادقة وصورة صحيحة وشرائط معتبرة كانت حقا وصوابا والحاصل منها يقينا وصدقا وإلا كانت شكا وشبهة لا حجة وبرهانا إلا عند أصحاب الجهل المركب، والمقصود هنا طلب التوفيق للاولى والتحرز من الثانية والفرار من الجهل المركب.

(والصدق في جميع المواطن) مواطن السر والعلانية والمحاورة والامور الدنيوية والدينية والمبدأ والمعاد. (وإنصاف الناس من نفسي فيما علي ولي) الإنصاف العدل يقال أنصفهم من نفسه إذا عدل معهم وعاملهم بالعدالة فيما عليه من اعطاء حقوقهم كما هي وفيما له من أخذ حقه كما هو من غير زيادة.

(والتذلل في إعطاء النصف من جميع مواطن السخط والرضا) التذلل إما من الذل بالكسر وهو ضد الصعوبة ومنه الذلول أو من الذل بالضم وهو الهون ومنه الذليل، والنصف والنصفة محركتين اسم من الإنصاف والمطلوب هو التسهيل أو التوفيق للمذلة لله في الإتيان بما يقتضيه العدالة في حال السخط على أحد والرضا عن رجل بحيث يأمن المسخوط عن ظلمه وجوره وييأس المرضى من تعصبه وحميته.

(وترك قليل البغي وكثيرة في القول مني والفعل) البغي الخروج عن طاعة من يجب طاعته وأصله مجاوزة الحد والفعل شامل للفعل القلبي أيضا وبالجملة كل عضو من الإنسان أمر بشيء ونهى عن شيء وكل واحد من ترك الأول وفعل الثاني بغي.

(وتمام نعمتك في جميع الأشياء) التي طلبتها أو لم أطلبها وتمامها كمالها، وفي بعض النسخ «نعمك» بصيغة الجمع.

(والشكر لك عليها) طلب التوفيق له لأنه طاعة والطاعة لا تحقق إلا بتوفيق الله تعالى ونصرته والشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل فيثني على المنعم بلسانه ويتعب نفسه في طاعته ويعتقد أنه مولاه. (لكي ترضى وبعد الرضا) كي حرف تعليل دالة على سببية ما قبلها لما بعدها والمضارع بعدها منصوب بها أو بإضمار أن واللام الداخلة عليها زائدة للتأكيد لأنهما بمعناها، ورضاه تعالى عن العبد عبارة عن الإحسان إليه، ومن البين أن الشكر سبب للإحسان كما قال عزوجل: (لئن شكرتم لأزيدنكم) ولعل قوله: «بعد الرضا» عطف على «ترضى» بتقدير فعل مثله للإشعار بأن المطلوب هو الإحسان بعد الإحسان على سبيل الاستمرار ولديه مزيد. (وأسألك الخيرة) هي

ص:503

بكسر الخاء وسكون الياء ويفتح ما فيه الخير اسم من خار الله لك في الأمر إذ جعل لك فيه خيرا.

(في كل ما يكون فيه الخيرة) «ما» موصولة أو موصوفة وفائدتها الاحتراز عما ليس فيه خيرة أصلا كالكفر والشرك وشرب الخمر والزناء وأمثالها والجار والمجرور متعلق بالسؤال وظرف له وفائدته التصريح بأن المطلوب هو الخيرة في كل شيء يوجد فيه الخير ويتحقق فيه الخيرة لا في شيء معين ولا في شيء ما.

(بميسور الامور كلها لا بمعسورها) ظرف للسؤال أيضا أو حال عن الخيرة في الاولى والباء بمعنى «في» أو للملابسة لإفادة أن المطلوب كون الخيرة في الامور الميسورة التي يسهل حصولها من غير تعب لا في الامور المعسورة التي لا تحصل إلا بمشقة وكلفة.

(يا كريم يا كريم يا كريم) كرره للمبالغة والإلحاح وذكر هذا الاسم الشريف لأنه أنسب بمقام السؤال وإجابة السائل.

(وإفتح لي باب الأمر الذي فيه العافية والفرج) أي العافية من المكاره الآتية والفرج من المكاره الواقعة والتعميم فيهما ممكن ومن تلك المكاره الذنوب والخطايا والأمراض والبلايا وضيق المعيشة في الدنيا.

(وافتح لي بابه ويسر لي مخرجه) تأكيد لما سبق والضمير المجرور فيهما راجع إلى الأمر ولعل المراد ببابه ومخرجه أسبابه وشرائطه على سبيل التشبيه إذ الأمر الممكن بأسبابه وشرائطه يدخل من حد الكمون إلى البروز ويخرج من درجة الخفاء إلى الظهور.

(ومن قدرت له علي مقدرة) القدر القضاء والحكم يقال: قدر الله ذلك عليه كنصر وضرب قدرا بالتحريك وقد يسكن وقدره عليه وله تقديرا إذا قضى وحكم والمقدرة مثلثة الدال القوة والقدرة: (فخذ عني بسمعه وبصره ولسانه ويده) أخذ هذه الجوارح منه كناية عن اغفاله عن أفعاله ورفع الأذى والتأثير والضرر المتصورة من قبلها ولم يذكر الرجل لدخولها في قوله: (وخذه عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن قدامه) وهو كناية عن سد طرق أضراره من جميع الجهات.

(وامنعه أن يصل إلي بسوء) هذا ثمرة لأخذه على الوجه المذكور، ويمكن أن يكون المراد منع إرادة إيصال السوء وصرف قلبه عنه.

(عز جارك) الجار الذي أجرته من أن يظلمه أحد والمستجير إلى الله عزوجل عزيز محفوظ في الدنيا من أذى الأشرار وفي الآخرة من عذاب النار.

(وجل ثناء وجهك) الجلالة العظمة والثناء بالفتح وصف بمدح والوجه الذات يعني عظم وصف ذاتك بصفاتك الذاتية والفعلية بحيث عجز عنه ألسنة الواصفين وإفهام العارفين.

ص:504

(ولا إله غيرك أنت ربي وأنا عبدك) فلا دافع عني غيرك ولا ملجأ لي سواك كما أشار إليه بقوله: (اللهم أنت رجائي في كل كربة) وهي الحزن الشديد الذي يأخذ النفس ويضعف به القلب.

(وأنت ثقتي في كل شدة) الثقة الإيتمان يقال وثقت به أثق بالكسر إذا ائتمنه، والحمل للمبالغة أو المصدر بمعنى المفعول كالسابق.

(وأنت لي) الظرف متعلق بثقة وعدة قدم للحصر. (في كل أمر نزل بي) من نوازل الدهر (ثقة وعدة) هي ما أعددته وهيأته ليوم الحاجة ورفع شدائده.

(فكم من كرب يضعف عنه الفؤاد) كم أخبار عن كثرة لا تحصى، والفؤاد بالضم والهمز القلب وفي نسبة الضعف إلى القلب الذي هو أمير البدن إشعار إلى هجومه على جميع الجوارح.

قوله: (وتقل فيه الحيلة) أي حذاقة النفس وتصرفها في وجوه التخلص منه لتحيرها وعدم إهتدائها إليها. (ويشمت فيه العدو) شمت كفرح لفظا ومعنى والشماتة من بلية أعظم منها.

(وتعييني فيه الامور) عى بالأمر وعيى كرضى إذا لم يهتد بوجهه أو عجز منه ولم يطق على أحكامه وأعياه هو إذا عجزه وصيره بحيث لا يهتدي إلى وجه مصالحه، و «في» للظرفية المجازية أو بمعنى الباء السببية يعني أعجزتني بسببه اموري فلم أقدر على إحكامها ولم أهتد إلى وجه مصالحها. وفي بعض النسخ «تعبى» كترضى واسناد العجز إلى الامور اسناد إلى ملابس ما هو له وهو صاحبها.

(أنزلته بك وشكوته إليك راغبا إليك فيه عمن سواك قد فرجته وكفيته) في محل الرفع على أنه خبر لقوله: «فكم من كرب» وفي مضمون هذه الجملة مع أنه شكر لتلك النعمة الجزيلة وهي كشف الكروب الكثيرة في الأزمنة الماضية جلب للمزيد وإستعطاف وترقب لرفع الكربات الحاضرة لأن المعتاد بالإحسان متوقع له في جميع الأزمان وفي حصر الرغبة إليه سبحانه إيماء إلى بعض شرائط استجابة الدعاء لأن الراغب إلى غيره أيضا يجعله شريكا له تعالى فيكله الله سبحانه إليه. (فأنت ولي كل نعمة) ظاهرة وباطنة جلية وخفية وجودية وعدمية وفيه حصر للشكر فيه عزوجل لإختصاص النعمة به.

(وصاحب كل حاجة) صرف وجوه الحاجات إليك وطالبها في قضائها متضرع بين يديك.

(ومنتهى كل رغبة) إذ رغبات الراغبين منتهية إليك ومطايا الآمال واقفة لديك والغرض من هذا الخبر ونحوه إظهار التوقع لحصول الغرض المطلوب لا إفادة الحكم ولازمه.

(فلك الحمد كثيرا ولك المن فاضلا) عن قدر الحاجة أو كثيرا والمن الإعطاء وإصطناع المعروف ونصب الإسمين على المصدرية أي حمدا كثيرا ومنا فاضلا وتقدم الظرف للحصر.

ص:505

* الأصل:

33 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: قل: «اللهم إني أسألك قول التوابين وعملهم ونور الأنبياء وصدقهم ونجاة المجاهدين وثوابهم وشكر المصطفين ونصيحتهم وعمل الذاكرين ويقينهم وإيمان العلماء وفقههم وتعبد الخاشعين وتواضعهم وحكم الفقهاء وسيرتهم وخشية المتقين ورغبتهم وتصديق المؤمنين وتوكلهم ورجاء المحسنين وبرهم اللهم إني أسألك ثواب الشاكرين ومنزلة المقربين ومرافقة النبيين.

اللهم إني أسألك خوف العاملين لك وعمل الخائفين منك وخشوع العابدين لك ويقين المتوكلين عليك وتوكل المؤمنين بك، اللهم إنك بحاجتي عالم غير معلم وأنت لها واسع غير متكلف أنت الذي لا يحفيك سائل ولا ينقصك نائل ولا يبلغ مدحتك قول قائل، أنت كما تقول وفوق ما تقول، اللهم اجعل لي فرجا قريبا وأجرا عظيما وسترا جميلا، اللهم إنك تعلم أني على ظلمي لنفسي وإسرافي عليها لم أتخذ لك ضدا ولا ندا ولا صاحبة ولا ولدا، يامن لا تغلطه المسائل، يامن لا يشغله شيء عن شيء ولا سمع عن سمع ولا بصر عن بصر ولا يبرمه إلحاح الملحين أسألك أن تفرج عني في ساعتي هذه من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب إنك تحيي العظام وهي رميم وإنك على كل شيء قدير، يامن قل شكري له فلم يحرمني وعظمت خطيئتي فلم يفضحني ورآني على المعاصي فلم يجبهني وخلقني للذي خلقني له فصنعت غير الذي خلقني له فنعم المولى أنت يا سيدي وبئس العبد أنا وجدتني ونعم الطالب أنت ربي وبئس المطلوب [أنا] ألفيتني، عبدك وابن عبدك وابن أمتك بين يديك ما شئت صنعت بي.

اللهم هدأت الأصوات وسكنت الحركات وخلا كل حبيب بحبيبه وخلوت بك، أنت المحبوب إلي فاجعل خلوتي منك الليلة العتق من النار يامن ليست لعالم فوقه صفة يامن ليس لمخلوق دونه منعة يا أولا قبل كل شيء ويا آخرا بعد كل شيء يامن ليس له عنصر ويا من ليس لآخره فناء ويا أكمل منعوت ويا أسمح المعطين ويا من يفقه بكل لغة يدعى بها ويا من عفوه قديم وبطشه شديد وملكه مستقيم أسألك باسمك الذي شافهت به موسى يا الله يا رحمن يا رحيم، يا لا إله إلا أنت، اللهم أنت الصمد أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تدخلني الجنة برحمتك».

* الشرح:

قوله: (اللهم إني أسألك قول التوابين وعملهم) اريد بالقول القول اللفظي والنفسي

ص:506

وهو الندامة من الذنوب والعزم على عدم العود إليها وبعملهم ما يترتب عليه من تدارك ما مضى والاجتهاد فيما يأتي لا الذنوب السابقة باعتبار أن التوبة سبب للمحبة كما قال عز وجل: (أن الله يحب التوابين) وهذا باب واحد من تدليسات اللعين لإغواء المؤمنين القاصرين، وأما الكاملون فيعلمون أن المحبة بترك الذنوب أشد وأقوى وأن تركه أهون وأسهل من التوبة بعده لوجوه ذكرناها في محلها.

(ونور الأنبياء وصدقهم) اريد بنورهم علمهم أو هدايتهم أو بصيرتهم أو عملهم كل ذلك من باب الاستعارة، وبصدقهم صدقهم قولا وعملا وإعتقادا فان الصدق كما يجري في القول باعتبار مطابقته للواقع كذلك يجري في العمل والاعتقاد بذلك الاعتبار.

(ونجاة المجاهدين وثوابهم) الموعود في القرآن العظيم من جنات وعيون ومقام كريم، والمراد بنجاتهم نجاتهم من قيد النفس الأمارة بالسوء وسوسة الشيطان الرجيم وأهوال يوم القيامة والعذاب الأليم.

(وشكر المصطفين ونصيحتهم) لله ولعباده والنصح الخلوص وهو إرادة الخير للمنصوح له ومعنى النصيحة له تعالى صحة الإعتقاد في وحدانيته وما يصح له ويمتنع عليه والإخلاص النية في عبادته والتصديق بكتابه والعمل به والحث عليه ومعنى النصيحة لعباده هدايتهم إلى منافعهم وإرشادهم إلى مصالحهم وجذبهم عن طرق الضلالة إلى سبيل الهداية والمراد بالمصطفين الرسل أو الأعم.

(وعمل الذاكرين ويقينهم) المراد بالذاكر الذاكر باللسان والذاكر بالقلب وهو الذاكر عند الأمر فيبتدر وعند النهي فينزجر وعند المصيبة فيصطبر، وبعملهم نفس هذه الأذكار أو ما يترتب عليها وباليقين العلم بالحق مع العلم بأنه لا يكون غيره ولذلك، قال المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف: اليقين مركب من علمين.

(وإيمان العلماء وفقههم) المراد بإيمانهم الإيمان المستفاد من البرهان المفيد لليقين وأما إيمان غيرهم فهو ظني أو تقليدي ناقص أو مستودع، وبالفقه العلم بالدين وما اشتمل عليه السنة النبوية والكتاب المبين والعمل به مع بصيرة قلبية داعية إلى الآخرة زاجرة عن الدنيا والركون إليها.

(وتعبد الخاشعين وتواضعهم) لله ولرسوله والأئمة المعصومين ولسائر المؤمنين والتواضع ضد التكبر ومن أفراده والامتثال بالأوامر والنواهي والإتعاظ بالمواعظ والنصائح والخشوع السكون والتذلل وهو وصف يتصف به القلب والبصر واللسان وغيرها من الجوارح وصاحب هذا الوصف متقيد بسائر أوصاف الكمال غير متجاوز منها إلى أضدادها. (وحكم الفقهاء وسيرتهم) اريد

ص:507

بالفقهاء العالمون بالشريعة كما هي وحكمهم مطابق لحكم الله قطعا وبالسيرة السنة والطريقة والهيئة الحسنة فالمطلوب استقامة القلب وربطه بالحق والحكم به واستقامة الظاهر مثلهم.

(وخشية المتقين ورغبتهم) الخشية الخوف الحاصل من العلم بعظمته تعالى ولذلك قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهي مقتضية للتقوى من الله وترك محرماته والرغبة إليه في التوفيق لمرضاته (وتصديق المؤمنين وتوكلهم) اريد بالمؤمنين الكاملين في الإيمان وهم الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به الرسول وعملوا الصالحات وتركوا المنهيات وهذبوا الظاهر والباطن وساروا بشراع التوكل ورفض الأغيار إلى حضرة القدس وساحة الجبار. (ورجاء المحسنين وبرهم) رجاء أحد بالسعادة الأبدية والمثوبات الاخروية والتقرب بالحضرة الربوبية سبب للإحسان والبر بنفسه وبغيره والإحسان قد يفسر بما يقتضيه مقام المشاهدة وهو أن تعبد الله كأنك تراه وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «لم أعهد ربا لم أره» وقد يفسر بما يقتضيه مقام المراقبة وهو أن تعبده معتقدا بأنه يراك وهذا دون الأول وقد يفسر بالإخلاص في النية في جميع الأعمال فان العامل بدونه ليس محسنا والإحسان على جميع التفاسير يقتضي تجويد العمل والإتيان بجميع ما له مدخل في كماله والاحتراز عن كل ما له تأثير في نقصانه.

(اللهم إني أسألك ثواب الشاكرين ومنزلة المقربين ومرافقة النبيين) طلب ذلك من باب التفضل بعد تحقق الاستعداد بصحة الإيمان والعمل في الجملة وطلب التوفيق مثل أعمالهم الموجبة لهذه الدرجات العلية. (اللهم إني أسألك خوف العاملين لك) خوفهم خوف التقصير في العمل أو خوف عدم قبوله وذلك يوجب الإجتهاد فيه وفي رعاية جهات حسنه.

(وعمل الخائفين منك) أي من عقوبتك بالمخالفة والمطلوب دوام العمل وخلوصه وجودته لضرورة أن عمل الخائف منها متصف بهذه الصفات.

(وخشوع العابدين لك) المراد بالعابدين له من اشتغل جميع جوارحه وأعضائه بما أمرت به وبما هو مطلوب له تعالى، ولا ريب في ثبوت الخشوع لهم وإلا لأشتغل بعض جوارحهم بما هو غير مطلوب منه تعالى هذا خلف والمطلوب هو العبادة بهذا الوصف.

(ويقين المتوكلين عليك) اليقين سبب للتوكل إذ التوكل وهو تفويض العبد اموره إلى الله تعالى والاعتماد فيها عليه متوقف على اليقين بأنه تعالى واحد لا شريك له ولا ضد له ولا ند له وأنه عالم بالأشياء كلها وأنه قادر على جميع المقدورات وأنه حكيم عادل لا يجور في حكمه أصلا وأن رسوله صادق وما جاء به الرسول حق، ومن حصل له اليقين بهذه الامور وإستنار قلبه به ولم

ص:508

يعارضه الوهم والجبن حصلت له حالة شريفة وهي في جميع اموره بالله سبحانه وتفويضها إليه وإنقطاعه عن غيره من الأسباب والوسائط وهذا معنى التوكل ثم إذا حصل له معنى التوكل كما هو حقه ورأى بالمعاينة امورا منتظمة على نحو ما أراده حصل له يقين آخر فوق الأول، والفرق بينهما كالفرق بين علم اليقين وعين اليقين، والوجه في توقف التوكل على اليقين بالامور المذكورة أنه; لولا اليقين بالأول يجوز أن يكون له مانع في تحصيل مقاصده فلا يكون مستقلا فيه; ولولا اليقين بالثاني يجوز أن يكون جاهلا ببعض مطالبه ولولا الثالث يجوز أن يكون عاجزا في تحصيل بعضها; ولولا الرابع يجوز أن يكون غير محكم في بعضها; وجائرا في بعضها، ولولا الخامس يجوز أن يكون ما جاء به الرسول من الحث على التوكل وغيره باطلا وعلى كل واحد من هذه التقادير لا يحصل له الوثوق فلا يحصل التوكل.

(وتوكل المؤمنين بك) المطلوب هو التوكل التام إذ المراد بالمؤمنين الكاملون في الإيمان والمتصفون بالإيقان ولا ريب أن توكلهم في حد الكمال أما غيرهم فلا توكل لهم أو هو ناقص.

(اللهم إنك بحاجتي عالم غير معلم) صفة للعالم أو خبر بعد خبر ومعلم مفعول من التعليم وكونه من الإعلام محتمل والغرض منه أن علمك بالحال كفاني عن السؤال أو الإشعار بثبوت الحاجة في نفس الأمر وتوقع رفعها بناء على أن العالم بحاجة أحد من جهة التعليم أو الإعلام قد يتوهم أو يظن كذبه فلا يبالغ في رفعها ولا يقبل عليه والظرف متعلق بما بعده وتقديمه ليس للحصر لفساده بل للاهتمام برفع الحاجة سريعا أو الإشعار بأنها لشدتها نصب عينه وظهر قلبه فلا يتبادر في الذهن إلا إليها.

(وأنت لها واسع غير متكلف) في القاموس الواسع ضد الضيق وفي الأسماء الحسنى الكثير العطاء الذي يعطي لما يسأل والمحيط بكل شيء الذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته كل شيء، والمتكلف المتجشم تكلفه إذا تجشمه. وفي النهاية الواسع في أسماه تعالى هو الذي وسع غناء كل فقير ورحمته كل شيء، والتكلف التجشم يقول تكلف: الشيء إذا تجشمه على مشقة، وفي الكنز واسع فراخ وبخشنده واحاطه كننده وتكلف رنج چيزى كشيدن واز خود چيزى نمودن كه آن نباشد، يعني أنه واسع للحاجات محيط بها جواد قادر على قضائها من غير تعب ومشقة فيه.

(وأنت الذي لا يحفيك سائل) أحفاه ألح عليه وبرح به في الإلحاح تبيريحا يعني أجهده وأواه، والمراد أن الحاح السائل لا يشق عليك ولا يجهدك لأنه مطلوب عندك.

(ولا ينقصك نائل) وهو العطاء كالنوال والتنكير للتكثير أو للتعظيم والنقص لازم ومتعد والمضاف قبل الكاف محذوف يعني لا ينقص مالك أو خزائنك العطاء الكثير. (ولا يبلغ مدحتك

ص:509

قول قائل) مر بيانه في الدعاء الجامع.

(أنت كما تقول وفوق ما نقول) لأن كل ما تقول هو ممكن مكيف بكيفية لفظية ومصور بصورة عقلية، والله سبحانه فوقه وإليه يشير قول سيد المرسلين: «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». (اللهم اجعل لي فرجا) من الضيق وسوء الحال والمعصية. (قريبا) من هذه الساعة. (وأجرا عظيما) في الآخرة.

(وسترا جميلا) من الذنوب حتى لا أرتكبها فيما بعده ولا يطلع أحد على ما سبق منها مع العفو عنها. (اللهم إنك تعلم أني على ظلمي لنفسي) بترك الطاعات. (وإسرافي عليها) بفعل المنهيات، و «على» في الموضعين دليل على الإفراط، ولا يبعد أن يكون الاولى بمعنى مع.

(لم أتخذ لك ضدا ولا ندا) الضد والند بالكسر فيهما النظير والمثل، ولا يبعد أن يراد بالأول المثل الذي يضاده في أموره ويخالفه ويغلبه وبالآخر المثل مطلقا. أو المثل المخالف الذي لا يغلبه أو يريد من أحدهما العاقل وبالآخرة غيره والمراد بهما ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله مطلقا (ولا صاحبة ولا ولدا) كما زعمت النصارى واليهود وطائفة من المشركين في مريم وعيسى وعزير والملائكة، وقد توسل بالتوحيد المطلق في قضاء الحاجات ورفع الزلات ناظرا إلى قوله تعالى: (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

(يامن لا تغلطه المسائل) أي المسائل المختلة، والمطالب المتداخلة الممتزجة من شخص واحد ومن الأشخاص كلهم ولو في آن واحد والغلط محركة أن تعمى الشئ فلا تعرف وجه الصواب فيه وفعله كفرح وأغلطه غيره أوقعه في الغلط وغلطه تغليطا إذا قال له غلطت كذا في القاموس والصحاح. (يامن لا يشغله شيء عن شيء) في أفعاله وغيرها.

(ولا سمع عن سمع ولا بصر عن بصر) أي لا يشغله سمع صوت عن سمع صوت آخر وان تمازجت الأصوات وتداخلت وحصلت من المجموع مركب كدوي النحل ولا بصر شيء عن بصر شيء آخر وان تمازجت المبصرات كالصفرة بالحمرة والحمرة بالسواد والسواد بالبياض واللبن بالماء أو لا يشغله مسموع عن مسموع ولا مبصر عن مبصر على أن يكون المصدر بمعنى المفعول .

(ولا يبرمه إلحاح الملحين) أبرمه إذا أمله وأضجره، والإلحاح المبالغة في السؤال والإصرار عليه. (أسألك أن تفرج عني) المكاره والغموم وحذف المفعول للدلالة على العموم.

(في ساعتي هذه) اريد بهذه الساعة الساعة القريبة من وقت السؤال لأن المطلوب في وقت السؤال غير حاصل. (من حيث أحتسب) حصول الفرح فيه. (ومن حيث لا أحتسب) وقد روي

ص:510

أن أكثر حصول مطالب العبد وفرحه من حيث لا يحتسبه.

(إنك تحيي العظام وهي رميم وإنك على كل شيء قدير) كسر الهمزة أظهر وفتحها بتقدير لام التعليل جائز وهو مع كونه ثناء له بالقدرة القاهرة بمنزلة التعليل لما سبق وإظهار لتوقع حصول المطالب معها. (يامن قل شكري) على نعمائه ظاهرا وباطنا، (فلم يحرمني) منها تفضلا مع تحقق سبب الحرمان.

(وعظمت خطيئتي) بالمخالفة في امتثال الأوامر والنواهي، (فلم يفضحني) بهتك الأستار خصوصا عند الأبرار. (ورآني على المعاصي فلم يجبهني) جبهه كمنعه ضرب جبهته ورده أو لقيه بما يكره وإستقبله به.

(وبئس العبد أنا وجدتني) فتح التاء في وجدتني أظهر من ضمها والظاهر أنه على التقديرين استئناف لا محل له من الإعراب فكأنه قيل: ما سبب هذا الذم العام؟ فأجاب: بأنك وجدتني بهذا الوصف وهو الذم العام أو بما يوجبه كذلك ألفيتني ومعناه وجدتني.

(عبدك وابن عبدك وابن أمتك بين يديك) في هذا مع كونه غاية الخضوع والتذلل المطلوبين في مقام الدعاء استعطاف وإسترحام لأن هذه الأوصاف تقتضي العطف والترحم.

(ما شئت صنعت بي) معناه خبر كاللفظ أو أمر وفيه على التقديرين إظهار للرضا والتسليم.

(هدأت الأصوات) أي سكنت.

(وسكنت الحركات) لفراغهم عن المعاملة والمحاورة وإستقرارهم في بسط الاستراحة.

(وخلا كل حبيب بحبيبه) لأن كل شخص مائل إلى من يحبه من نوعه وصنفه كما هو المعروف من أفراد الحيوان والإنسان. (وخلوت بك أنت المحبوب إلي) تعريف الخبر باللام يفيد الحصر ولا ريب أن المحبوب الحقيقي للمؤمن ليس إلا هو.

(فاجعل خلوتي منك الليلة العتق من النار) أي نار جهنم أو نار ألم الفراق. والليلة ظرف للجعل أو للخلوة وحمل الخلوة على العتق من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة في السببية. (يامن ليست لعالم فوقه صفة) من الصفات مثل العلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية والمقصود نفي أن يكون فوقه عالم إذ لو كان لكانت له صفة ضرورة أن الموجود لا يخلو منها وإذ ليست فليس لأن انتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم وبالجملة لما كان للعلم مراتب كان المتبادر في الوهم أن فوق كل ذي علم عليم أشار بما هو في الواقع ونفي أن يكون فوقه عالم بنفي لازمه وهو الصفة على وجه العموم.

(يامن ليس لمخلوق دونه منعة) في القاموس فلان في عز ومنعة محركة ويسكن أي معه من

ص:511

يمنعه من عشيرته وفي النهاية: ليست له منعة بفتح النون أي قوة تمنع من يريده بسوء، وفي الصحاح قيل: المنعة بالتحريك جمع مانع مثل كافر وكفرة، ودونه إما صفة لمخلوق للتوضيح دون التخصيص أو متعلق بمنعة والمعنى على الأول ليس لمخلوق هو دونه تعالى من يمنع الله أو قوة تمنعه إذا أراده بسوء، وعلى الثاني ليس له منعة دون الله ونصرته تمنع من يريده بسوء. (يا أولا قبل كل شيء) نون المنادي لأنه لم يقصد المعين من حيث هو معين وتوضيحه انه تعالى معلوم من جهة الوجود وآثاره وغير معلوم من جهة حقيقة ذاته وصفاته فقد يقصد من حيث أنه غير معلوم وينون كما فيما نحن فيه وقد يقصد من حيث أنه معلوم ويجري عليه حكم المفرد المعرفة فيقال:

يا أول ويا آخر وإنما قال: «قبل» بدلا عنه أو وصفا له لتصحيح الربط بما بعده وظهور محل لإعرابه وللتنبيه على أن أوليته حقيقة لا أول له «لا» إضافية.

(ويا آخر بعد كل شيء) أراد بالشيء غيره تعالى كما قيل في قوله تعالى: (والله على كل شيء قدير) وهذه العناية معتبرة في السابق أيضا وفي ذكر بعد إيماء إلى أنه تعالى كما هو آخر كل فرد من أفراد الأشياء كذلك هو بعد المجموع من حيث المجموع والأول يستلزم الثاني كما ترى في الجزء الأخير من المركب.

(يا من ليس له عنصر) أي علة فاعلية وأجزاء مادية وصورية، وفي النهاية العنصر بضم العين وفتح الصاد الأصل وقد تضم الصاد، والنون مع الفتح زائدة عند سيبويه لأنه ليس عنده فعلل بالفتح وفيه إشارة إلى أنه ليس لأوله ابتداء.

(ويا من ليس لآخره فناء) وفيه إشارة إلى أنه أبدي وفي السابق إلى أنه أزلي. (ويا أكمل منعوت) لكون نعته في نهاية الكمال بخلاف نعت غيره وفي النهاية النعت وصف الشيء بما هو فيه من حسن ولا يقال في القبيح إلا أن يتكلف متكلف فيقال: نعت سوء والوصف يقال في الحسن والقبيح. (ويا أسمح المعطين) كناية عن سرعة إجابته وحبه للسائل وسماع صوته وان كان خفيا وجزالة عطائه.

(ويا من يفقه بكل لغة يدعى بها) فقهه كعلمه فهمه وعلمه والظاهر ان الباء زائدة للمبالغة في التعدية وفيه جواز الدعاء المخترع ولو في الصلاة وقد صرح بعض الأصحاب بجوازه فيها. (ويا من عفوه قديم) كعفوه عن آدم وزوجته.

(وبطشه شديد) كبطشه على إبليس والامم الماضية وفيه توقيف للنفس بين الخوف والرجاء مع رجحانه لأن قدم العفو يقتضي التعويد به. (وملكه مستقيم) أي ما ملكه من المخلوقات مستقيم الأحوال والنظام بحيث لا يكون ملك أتقن مما دبره ولا نظام أحسن مما قدره إذ سلطانه

ص:512

ثابت لا يزول ودائم لا يزال. (أسألك باسمك الذي شافهت به موسى) في القاموس شافهه أدنى شفته من شفته والبلد والأمر أدناه وشفهه كمنعه ضرب شفته وشغله وألح عليه في المسألة وهذا كناية عن نهاية قربه وكلامه بلا واسطة.

(يا الله يا رحمن يا رحيم) يحتمل أن يكون هذا هو الاسم المذكور. (يا لا إله إلا أنت) أي يا لا الله إلا أنت. (اللهم أنت الصمد) أي المقصود لجميع المخلوقات والمرجع في جميع الحاجات .

* الأصل:

34 - محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الوليد، عن يونس قال: قلت للرضا (عليه السلام) علمني دعاء وأوجز، فقال: قل: «يامن دلني على نفسه وذلل قلبي بتصديقه أسألك الأمن والإيمان».

* الشرح:

قوله: (علمني دعاء وأوجز) أي أسرع واقتصر، وكلام وجيز أي خفيف مقتصد مشتمل على جل المقاصد أو كلها وهذا الدعاء كذلك.

(فقال قل يا من دلني على نفسه) يندرج فيه الدلالة على المبدأ وما يصح له وما يمتنع عليه.

(وذلل قلبي بتصديقه) يندرج فيه تصديقه وتصديق رسوله وتصديق جميع ما ثبت أنه جاء به رسوله إذ بانتفاء شيء منها لا يتحقق تصديقه.

(أسألك الأمن) في الدنيا والآخرة من مكارههما (والإيمان) اريد به الإيمان الكامل المقرون بامتثال الأوامر والنواهي فلا تكرار.

* الأصل:

35 - علي بن أبي حمزة، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين كان لي مال ورثته ولم أنفق منه درهما في طاعة الله عزوجل ثم اكتسبت منه مالا فلم أنفق منه درهما في طاعة الله فعلمني دعاء يخلف علي ما مضى ويغفر لي ما عملت أو عملا أعمله، قال: قل، قال: وأي شيء أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل كما أقول:

«يا نوري في كل ظلمة ويا انسي في كل وحشة ويا رجائي في كل كربة ويا ثقتي في كل شدة ويا دليلي في الضلالة أنت دليلي إذا انقطعت دلالة الأدلاء فإن دلالتك لا تنقطع ولا يضل من هديت أنعمت علي فأسبغت ورزقتني فوفرت وغذيتني فأحسنت غذائي وأعطيتني فأجزلت بلا استحقاق لذلك بفعل مني ولكن ابتداء منك لكرمك وجودك فتقويت بكرمك على معاصيك

ص:513

وتقويت برزقك على سخطك وأفنيت عمري فيما لا تحب فلم يمنعك جرأتي عليك وركوبي لما نهيتني عنه ودخولي فيما حرمت علي أن عدت علي بفضلك ولم يمنعني حلمك عني وعودك علي بفضلك وإن عدت في معاصيك فأنت العواد بالفضل وأنا العواد بالمعاصي، فيا أكرم من اقر له بذنب وأعز من خضع له بذل، لكرمك أقررت بذنبي ولعزك خضعت بذلي فما أنت صانع بي [في] كرمك وإقراري بذنبي وعزك وخضوعي بذلي افعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله».

تم كتاب الدعاء ويتلوه كتاب فضل القرآن.

* الشرح:

(ولم أنفق منه درهما في طاعة الله) أراد صرف كله في المعصية. (فعلمني دعاء يخلف علي ما مضى) أي يرد الله علي بسببه مثل ما مضى من الأموال يقال: أخلف الله عليه أي رد عليه مثل ما ذهب إلا أنه نسب الفعل إلى السبب مجازا ولو عاد ضمير يخلف إلى الله لزم خلو الجملة الوصفية عن ضمير الموصوف. (ويغفر لي ما عملت) من المعاصي فقد طلب دعاء يصير سببا للرد والمغفرة (أو عملا أعمله) عطف على دعاء وأراد به غيره من الأعمال الموجبة للمغفرة بل الرد أيضا. (قال: قل، قال: وأي شيء أقول؟) بدأ المخاطب إلى السؤال عن المقول إما لإظهار الشعف والسرور أو لأنه (عليه السلام) سكت عنه لبعض الامور.

(قال: قل كما أقول: يا نوري في كل ظلمة) أراد بالنور الهادي وبالظلمة الجهالة والعدول عن منهج الصواب على سبيل التشبيه ومن هدايته حصلت الندامة للسائل عما فعل حتى سأل ما سأل.

(ويا انسي في كل وحشة) في الكنز انس خو گرفتن وآرام گرفتن، ووحشت رميدن ودورى جستن، يعني سكوني إليك وإستقراري بين يديك في الوحشة من النفس الأمارة والشيطان وشرار الناس والفرار منهم.

(أنت دليلي إذا انقطعت دلالة الأدلاء) لعدمهم أو لعدم ظهورهم أو لعدم إمكان الوصول إليهم أو ليأسهم من قبول الدلالة. (ولا يضل من هديت) ضل عن الطريق حار وضل الشيء ضاع ولعل المراد بالهداية الهداية الخاصة التي للأولياء باللطف والتوفيق لسلوك سبيل الخير. (أنعمت علي فأسبغت - إلى آخره) لعل المراد باسباغها إتمامها وإكمالها بحيث لا يكون في شيء منها خلل ونقص في حد ذاتها وبتوفيرها جعلها واسعة على قدر الحاجة غير ناقصة عنه وبإحسان الغذاء جعله من الطيبات كقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) وبإجزال العطاء جعله كثيرا زائدا

ص:514

عن قدر الحاجة وبهذا ظهر الفرق بين الفقرات والتأكيد محتمل. (بلا استحقاق لذلك تفعل مني) الجار متعلق بالأفعال الأربعة على سبيل التنازع وتفعل على صيغة الخطاب وفي بعض النسخ «بفعل بي» بالباء الموحدة التحتانية والفاء بعدها. (فلم يمنعك جرأتي عليك) الجرأة كالجرعة الشجاعة جرء ككرم فهو جرىء أي شجاع مبارز. (وركوبي لما نهيتني عنه) ركب الذنب كسمع ركوبا إقترفه كارتكبه فاللام زائدة.

(ودخولي فيما حرمت علي) هذا أعم من السابق لشموله ركوب المنهيات وترك الواجبات جميعا. (ان عدت علي بفضلك) مفعول يمنعك يعني أفعالي القبيحة المذكورة التي هي أسباب للمنع والحرمان لم تمنعك من رجوعك إلي بالفضل والإحسان وإهداء الأيادي الجسيمة والعطايا العظيمة. (ولم يمنعني حلمك عني) بالتأني وعدم العجلة في المؤاخذة.

(وعودك علي بفضلك وان عدت في معاصيك) مع أن هذه النعمة الجزيلة والكرامة الجميلة أسباب للحياء والانزجار عنها وما هذا إلا لكمال الوقاحة، وفي لفظة «في» وجمع مدخولها إيماء إلى الاستقرار والإحاطة.

(فأنت العواد بالفضل) العواد بالفتح والشد للمبالغة. (فيا أكرم من أقر له بذنب) «اقر» على البناء للمفعول من الغائب. (وأعز من خضع له بذنب) في بعض النسخ «بذل» وهو الأنسب بقوله:

خضعت بذلي. (فما أنت صانع بي كرمك) الموصول مع صلته مبتدء وكرمك خبر وفي بعض النسخ «بي» بالباء بدل «في».

(وإقراري بذنبي لعزتك) (1) في بعض النسخ «وعزتك». (وخضوعي بذلي) الواو في الموضعين أو الثلاثة للقسم. (افعل بي ما أنت أهله) من الكرم والتفضل والإحسان. (ولا تفعل بي ما أنا أهله) من البعد عن الرحمة والعقوبة والخذلان.

تم كتاب الدعاء ويتلوه كتاب فضل القرآن من كتاب الكافي.

ص:515


1- (1) كذا.

فهرس الآيات

(اجتنبوا كثيرا من الظن الحجرات: 12... 163

(ادعوني استجب لكم غافر: 60... 231 - 260

(أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون الواقعة: 63... 143

(إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا النساء: 98... 105

(إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان)». النحل: 106... 223

(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الانعام: 82... 98

(الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون البقرة: 156... 274

(الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) النجم: 31... 182

(الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا

ربنا وسعت كل غافر: 7... 169

(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون

في الرعد: 25... 47 - 46

(الله نور السماوات والأرض) النور: 35... 233 - 447

(الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الحشر: 23... 315

(إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه

بئس الشراب وساءت مرتفقا الكهف: 29... 50

(إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم الانفطار: 13 - 14... 213

(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين

في النساء: 97... 112

(إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون البقرة: 6... 66 - 68

(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) النور: 19... 9 - 163

(إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين غافر: 60... 228 - 231 - 245

(ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء: 48... 509

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الرعد: 11... 193 - 489

(إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا الانسان: 3... 57

(ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح الأنفال: 19... 403

ص:516

(ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام الأعراف: 54... 361

(إن ربي على صراط مستقيم هود: 56... 363

(ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون الرعد: 4... 439

(إنك لا تسمع الموتى النمل: 79... 287

(إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم العنكبوت: 24... 67

(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب النساء: 16... 181

(إنما يخشى الله من عباده العلماء فاطر: 28... 450 - 507

(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر: 10... 164

(إنه كان عبدا شكورا)؟ الاسراء: 3... 352

(أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة التوبة: 38... 403 - 495

(أصبح ماؤكم غورا الملك: 30... 480

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم النساء: 59... 309 - 370

(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه الجاثية: 23... 243 - 95

(أفمن هو قائم على كل نفس الرعد: 33... 329

(أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم الملك: 22... 146

(ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان يس: 60... 95

(أن الله يحب التوابين البقرة: 222... 506

(أوفوا بعهدي أوف بعهدكم البقرة: 40... 97 - 344

(أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) محمد: 23... 46

(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم البقرة: 85... 70

(حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء آل عمران: 173... 377

(خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم التوبة: 102... 105 - 108

(ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

البقرة: 61... 34

(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). الجمعة: 4... 295

(رب أرني كيف تحيى الموتى البقرة: 260... 96

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت

ص:517

الوهاب آل عمران: 8... 138 - 472

(سبح اسم ربك الاعلى: 1... 361

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل

شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا انه بكل شيء محيط فصلت: 53... 361

(سوف أستغفر لكم ربي يوسف: 98... 248

(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة آل عمران: 18... 361 - 481

(فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة: 152... 66

(فاستجبنا له ونجيناه من الغم) الأنبياء: 88... 378

(فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك). محمد: 19... 316

(فإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله البقرة: 284... 154

(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل آل عمران: 174... 378

(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك يونس: 94... 74

(فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك محمد: 19... 293

(فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى الليل: 5... 297

(فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازنه فأمه القارعة: 6... 221

(فأنزل الله سكينته على رسوله الفتح: 26... 294

(فبأي آلاء ربك تتمارى). النجم: 55... 73

(فقضاهن سبع سماوات في يومين فصلت: 12... 406

(فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين السجدة: 17... 287

(فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) المؤمنون: 76... 251

(فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم البقرة: 85... 66

(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - إلى قوله - كأنما يصعد في السماء)». الانعام:

125... 144

(فوقاه الله سيئات ما مكروا) غافر: 45... 378

(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئكم حم د: 22... 46

(قد اجيبت دعوتكما يونس: 89... 265

(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم الاسراء: 56... 417

(قل كل يعمل على شاكلته) الاسراء: 84... 164

ص:518

(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى الكهف: 109... 362

(قل يا أيها الذين هادوا أن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس الجمعة: 6... 214

(كأنهم بنيان مرصوص الصف: 4... 337

(كل شيء هالك إلا وجهه القصص: 88... 410

(كلوا من طيبات ما رزقناكم طه: 81... 514

(لئن أشركت ليحبطن عملك). الزمر: 65... 101 - 221

(لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ولئن كفرتم إن عذابي

لشديد إبراهيم: 7... 70 - 503

(لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين) الأنبياء: 87... 378 - 377

(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار الانعام: 103... 292

(لا تغلوا في دينكم المائدة: 77... 74

(لا يسمعون إلى الملاء الأعلى الصافات: 8... 289

(لا ينال عهدي الظالمين البقرة: 124... 97

(لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا التوبة: 88... 108

(لم تقولون ما لا تفعلون الصف: 2... 396

لو أنزلنا هذا القرآن - الآية الحشر: 21... 187

(لو أنزلنا هذا القرآن الحشر: 21... 343

ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما). الأحزاب: 43... 271

(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الانعام: 160... 269 - 272

(وآتيناه الحكم صبيا مريم: 12... 353

(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا التوبة: 102... 221

(وإبراهيم الذي وفى) النجم: 37... 352

(وإذا الوحوش حشرت التكوير: 5... 186

(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به النساء: 83... 33 - 35

(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب البقرة: 86... 264

(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) البقرة: 84... 70 - 66

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم البقرة: 34... 56

ص:519

(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة الأعراف: 205... 286

(واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان مريم: 54... 24

(واسألوا الله من فضله النساء: 32... 386

(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما الفرقان: 67... 304

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا العنكبوت: 69... 347

(والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) البقرة: 268... 264

(وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم محمد: 38... 391 - 488

(وان من شيء إلا يسبح بحمده) الاسراء: 44... 462

(وتبتل إليه تبتيلا المزمل: 8... 250

(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا النمل: 14... 68

(وحنانا من لدنا وزكاة مريم: 13... 352

(ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف: 156... 86

(وظلالهم بالغدو والآصال الرعد: 15... 330

(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) البقرة: 266... 382

(وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها النساء: 140... 47

(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على

الكافرين البقرة: 89... 66

(ولا أعلم ما في نفسك المائدة: 116... 287

(ولا تجسسوا الحجرات: 12... 21

(ولا تركنوا الذين ظلموا فتمسكم النار هود: 113... 95

(ولا تمنن تستكثر المدثر: 6... 282

(ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم الحجرات: 12... 16

(ولقد همت به وهم بها لو لا أن رأى برهان ربه يوسف: 24... 258

(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال البقرة: 155... 130

(ولو أن قرآنا الرعد: 31... 187

(ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين البقرة:

251... 199

(وما أدراك ما يوم الدين الانفطار: 17... 496

ص:520

(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الشورى: 30... 197 - 190

(وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على

الله يسير) الحديد: 22... 198

(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين سب: 39... 260

(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين الأعراف: 102... 96 - 97

(ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على

وجهه خسر الدنيا والآخرة الحج: 11... 128 - 93 - 129

(ومنهم من يلمزك في الصدقات أن أعطوا - الآية التوبة: 58... 124

(ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم الحج: 25... 121

(ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله المائدة: 11... 58 - 62

(ومن يؤمن بالله يهد قلبه) التغابن: 11... 143

(ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله الشورى: 26... 298

(ويقتلون الأنبياء بغير حق آل عمران: 112... 34

(هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر

النمل 40... 66 - 69

(هو الأول والآخر والظاهر والباطن الحديد: 3... 291

(هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن التغابن: 2... 59

(هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن التغابن: 2... 105 - 108

(هو الذي يصلي عليكم وملائكته الأحزاب: 43... 271 - 274

(يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)؟ هود:

76... 40

(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى الفجر: 28... 451

(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا) الأحزاب: 41... 281 - 282

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم النساء: 59... 131

(يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا التحريم: 8... 168

(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)». الصف:

2... 24

(يا قوم اتبعوا المرسلين يس: 20... 418

ص:521

(يا ليتني مت قبل هذا مريم: 23... 343

(يخادعون الله وهو خادعهم النساء: 142... 497

(يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) النساء: 142.... 286

(يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا الصف: 8... 87

ص :522

فهرس المطالب

باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم...3

باب التعيير...6

باب الغيبة والبهت...8

باب الرواية على المؤمن...13

باب الشماتة...14

باب السباب...15

باب التهمة وسوء الظن...19

باب من لم يناصح أخاه المؤمن...22

باب خلف الوعد...24

باب من حجب أخاه المؤمن...25

باب من استعان به اخوه فلم يعنه...27

باب من منع مؤمنا شيئا من عنده أو من عند غيره...28

باب من أخاف مؤمنا...30

باب النميمة...31

باب الإذاعة...33

باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق...36

باب في عقوبات المعاصي العاجلة...39

باب مجالسة أهل المعاصي...41

باب أصناف الناس...51

باب الکفر...55

باب وجوه الکفر...66

باب دعائم الكفر وشعبه...73

باب صفة النفاق و المنافق...81

ص:523

باب الشرک...92

باب الشک...96

باب الظلال...103

باب المستضعف...112

باب المرجون لأمر الله...118

باب أصحاب الأعراف...119

باب فی صنوف أهل الخلاف ...120

باب المؤلفة قلوبهم...122

باب في ذكر المنافقين والضلال وابليس في الدعوة ...126

باب في قوله تعالى : (ومن الناس من يعبد الله على حرف ) ...127

باب أدني ما يكون به العبد مؤمنة أو كافرة أو ضالا ...131

باب ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله ...135

باب المعارين ... 137

باب في علامة المعار ...140

باب سهو القلب ... 141

باب في ظلمة قلب المنافق وإن أعطى اللسان ونور قلب المؤمن ...145

باب في تنقل أحوال القلب ...148

باب الوسوسة وحديث النفس... 154

باب الإعتراف بالذنوب والندم عليها ... 157

باب ستر الذنوب ...161

باب من يهم بالحسنة أو السيئة ... 162

باب التوبة...167

باب الإستغفار من الذنب ...174

باب فيما أعطى الله ع وجل آدم 7 وقت التوبة ...178

باب اللمم...182

باب في أن الذنوب ثلاثة...185

باب تعجيل عقوبة الذنب ...189

ص:524

باب في تفسير الذنوب ...193

باب نادر...195

باب نادر أيضا...197

باب إن الله يدفع بالعامل عن غير العامل ... 199

باب إن ترك الخطیئة من طلب التوبة ...200

باب الإستدراج...201

باب محاسبة العمل...203

باب من يعيب الناس.. 217

باب أنه لا يؤاخذ المسلم بما عمل في الجاهلية ...219

باب أن الكفر مع التوبة لا تبطل العمل ...221

باب المعافين من البلاء ... 222

باب مارفع عن الامة ... 223

باب إن الإيمان لا يضر معه سيئة والكفر لا ينفع معه حسنة ... 226

کتاب الدعاء

باب فضل الدعاء والحث عليه ...228

باب أن الدعاء سلاح المؤمن... 233

باب أن الدعاء برد البلاء والقضاء...236

باب أن الدعاء شفاء من كل داء ...239

باب أن من دعا استجيب له...240

باب إلهام الدعاء...240

باب التقدم في الدعاء ...241

باب اليقين في الدعاء ...242

باب الاقبال في الدعاء ...242

باب الإلحاح في الدعاء والتلبث ... 244

باب تسمية الحاجة في الدعاء...246

باب الأوقات والحالات التي ترجى فيها الإجابة ...247

ص:525

باب الرغبة والرهبة والتضرع ...250

باب البكاء ...253

باب الثناء قبل الدعاء ...257

باب الإجتماع في الدعاء...262

باب العموم في الدعاء ... 264

باب من أبطأت عليه الإجابة ...264

باب الصلاة على النبي محمد وأهل بيته عليهم السلام... 267

باب ما يجب من ذكر الله ع وجل في كل مجلس ... 276

باب ذكر الله ع وجل كثيرة ...281

باب أن الصاعقة لا تصبب ذاكرا ... 284

باب الاشتغال بذكر الله عز وجل ...285

باب ذكر الله ع رجل في السر ...285

باب ذكر الله عز وجل في الغافلين ...288

باب التحميد والتمجيد...289

باب الإستغفار ... 293

باب التسبيح والتهليل والتكبير...295

باب الدعاء للإخوان بظهر الغيب ...298

باب من تستجاب دعوته...301

، من لا تستجاب دعوته ...304

باب الدعاء على العدو ...306

باب المباهلة...309

باب ما يمجد به الرب تبارك وتعالى نفسه ...312

باب من قال لا إله إلا الله ...316

باب من قال لا إله إلا الله والله أكبر ...318

باب من قال لا إله إلا الله وحده وحده وحده ...318

باب من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له . عشرة ...319

باب من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. 321

ص:526

باب من قال عشر مرات في كل يوم : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...321

باب من قال لا إله إلا الله حقا حقا ...324

باب من قال يا رب يا رب ...325

باب من قال لا إله إلا الله مخلصة ... 325

باب من قال ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ... 327

باب من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ... 329

باب القول عند الإصباح والإمساء ...330

باب الدعاء عند النوم والإنتباه ... 354

باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله...363

باب الدعاء قبل الصلاة ...369

باب الدعاء في أدبار الصلوات...372

باب الدعاء للرزق ...386

باب الدعاء للدين ...397

باب الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف ... 400

باب الدعاء...417

الدعاء للعلل والأمراض...417

باب الحرز والعوذة ...425

باب الدعاء عند قراءة القرآن ...434

باب الدعاء في حفظ القرآن... 443

باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة...450

فهرس الآيات ...516

ص:527

المجلد 11

اشاره:

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

اشاره:

جمیع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الثّانیة

1929ه. 2008م

الطبعة الثّانیه المصّیحة المنقّحة

بیروت - لبنان طریق المطار. خلف غولدن بلازا تلفن:01/540000_01455559

- فاکس: 850717

850717 : Beyrout Liban - Rue Arport Tel: 01/455559 - 01/540000 - fax-

www.dartourath.com

Email:info@dartourath.com

ص: 2

كتاب فضل القرآن

اشاره:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن الحسين بن عبد الرحمن، عن سفيان الحريري، عن أبيه عن سعد الخفاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا سعد تعلموا القرآن، فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق، والناس صفوف عشرون ومائة ألف صف، ثمانون ألف صف امة محمد، وأربعون ألف صف من سائر الأمم، فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل، فيسلم فينظرون إليه ثم يقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم، إن هذا الرجل من المسلمين نعرفه بنعته وصفته غير أنه كان أشد اجتهادا منا في القرآن، فمن هناك اعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نعطه، ثم يتجاوز حتى يأتي على صف الشهداء فينظر إليه الشهداء ثم يقولون: لا إله إلا الله الرب الرحيم إن هذا الرجل من الشهداء نعرفه بسمته وصفته غير أنه من شهداء البحر فمن هناك، اعطي من البهاء والفضل ما لم نعطه، قال: فيتجاوز حتى يأتي [على] صف شهداء البحر في صورة شهيد فينظر إليه شهداء البحر فيكثر تعجبهم ويقولون: إن هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته وصفته غير أن الجزيرة التي اصيب فيها كانت أعظم هولا من الجزيرة التي اصبنا فيها، فمن هناك اعطي من البهاء والجمال والنور ما لم نعطه، ثم يجاوز حتى يأتي صف النبيين والمرسلين في صورة نبي مرسل، فينظر النبيون والمرسلون إليه فيشتد لذلك تعجبهم ويقولون:

لا إله إلا الله الحليم الكريم، إن هذا لنبي مرسل نعرفه بسمته وصفته غير أنه اعطي فضلا كثيرا، قال: فيجتمعون فيأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيسألونه ويقولون: يا محمد من هذا؟ فيقول لهم: أو ما تعرفونه؟ فيقولون: ما نعرفه هذا ممن لم يغضب الله عليه، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حجة الله على خلقه. فيسلم ثم يجاوز حتى يأتي على صف الملائكة في سورة ملك مقرب، فتنظر إليه الملائكة، فيشتد تعجبهم، ويكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله، ويقولون: تعالى ربنا وتقدس إن هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته وصفته غير أنه كان أقرب الملائكة إلى الله عزوجل مقاما، فمن هناك البس من النور والجمال ما لم نلبس، ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة تبارك وتعالى فيخر تحت العرش فيناديه تبارك وتعالى: يا حجتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيقول الله تبارك وتعالى: كيف رأيت عبادي؟ فيقول:

يا رب منهم من صانني وحافظ علي ولم يضيع شيئا ومنهم من ضيعني واستخف بحقي وكذب

ص:3

بي وأنا حجتك على جميع خلقك، فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب، ولأعاقبن عليك اليوم أليم العقاب. قال: فيرفع القرآن رأسه في صورة أخرى. قال: فقلت له: يا أبا جعفر في أي صورة يرجع؟ قال: في صورة رجل شاحب متغير يبصره أهل الجمع، فيأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه ويجادل به أهل الخلاف، فيقوم بين يديه، فيقول: ما تعرفني؟ فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد الله، قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأول ويقول: ما تعرفني؟ فيقول: نعم، فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك وأنصبت عيشك وفي سمعت الأذى ورجمت بالقول في، ألا وإن كل تاجر قد استوفى تجارته وأنا وراءك اليوم، قال: فينطلق به إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقول: يا رب يا رب عبدك وأنت أعلم به قد كان نصبا بي مواظبا علي، يعادي بسببي ويحب في ويبغض، فيقول الله عزوجل:

أدخلوا عبدي جنتي واكسوه حلة من حلل الجنة وتوجوه بتاج، فإذا فعل به ذلك عرض على القران، فيقول له هل رضيت بما صنع بوليك؟ فيقول: يا رب إني أستقل هذا له فزده مزيد الخير كله، فيقول: وعزتي وجلالي وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلن له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له ولمن كان بمنزلته، ألا أنهم شباب لا يهرمون وأصحاء لا يسقمون، وأغنياء لا يفتقرون، وفرحون لا يحزنون، وأحياء لا يموتون. ثم تلا هذه الآية (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى) قال:

قلت: جعلت فداك يا أبا جعفر وهل يتكلم القرآن؟ فتبسم ثم قال: رحم الله الضعفاء من شيعتنا إنهم أهل تسليم، ثم قال: نعم يا سعد والصلاة تتكلم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى، قال: سعد فتغير لذلك لوني، وقلت: هذا شيء لا أستطيع [أنا] أتكلم به في الناس، فقال أبو جعفر: وهل الناس إلا شيعتنا فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقنا، ثم قال: يا سعد اسمعك كلام القرآن؟ قال: سعد:

فقلت: بلى صلى الله عليك، فقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال ونحن ذكر الله ونحن أكبر.

* الشرح:

قوله: (يا سعد تعلموا القرآن) هو في اللغة مصدر بمعنى الجمع والقراءة، وفي العرف كلام منزل للإعجاز بسورة منه وسمي قرآنا لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، والغرض من هذا الحديث هو الحث على مدارسته وممارسته وتعلمه وفهمه وحفظه وتذكر ما فيه من الأمور الغريبة والأسرار العجيبة بقدر الوسع والإمكان، ثم التوقع لشفاعته في يوم يشفع لمحبيه من أهل الإيمان، وقد نقل عن بعض المشايخ أنه قال: كنت أحب

ص:4

قراءة القرآن وأكثر منها، ثم أني اشتغلت بكتابة الأحاديث والعلم فقلت قراءتي وتلاوتي فنمت ليلة فرأيت قائلا يقول:

إن كنت تزعم حبي فلم جفوت كتابي * أما تدبرت فيه من لذيذ خطابي فانتبهت فزعا وعدت إلى قراءتي.

(فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق) تصويره بالصورة المذكورة أمر ممكن كتصوير الأعمال والأعراض بالأجسام كما نطقت به رواياتنا وروايات العامة، وذهب إليه المحققون من الطرفين فوجب أن لا يستبعد ولا ينكر تعلق القدرة القاهرة به، قال صاحب كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم: القرآن يصور بصورة ويجيء بها يوم القيامة، ويراها الناس كما تجعل الأعمال صورا، وتوضع في الميزان، ويقع فيها الوزن والقدرة صالحة لإيجاد كل ممكن والإيمان به واجب. انتهى كلامه بعبارته وإنما كان صورته أحسن الصور لأنه كلام رب العزة وهو أحب الخلق إليه فألبسه صورة هي أحسن الصور وأحبها لديه، وأيضا حسن الصورة في يوم القيامة تابع للكمال وكل كمال صوري ومعنوي موجود فيه هذا، وقيل: هذه الصورة هي صورة المسلمين على تقدير رعايته حق الرعاية والإتيان بجميع ما فيه ولكن لما لم يتيسر لهم جميع ذلك رأوه بصورتهم التي كانت لهم على تقدير الإتيان.

والظاهر أن صورة خاتم الأنبياء أحسن منه، لأن وجوده تابع لوجوده، ولولا وجوده (صلى الله عليه وآله) لم يوجد أحد من الممكنات، فوجوده أحب إليه عز وجل من جميع الممكنات. (والناس صفوف) وكذا الملائكة كما يوميء إليه والواو للحال.

(مائة وعشرون ألف صف) (كذا) بيان لصفوف أو خبر بعد خبر (ثمانون ألف صف امة محمد (صلى الله عليه وآله)) الأمة يطلق على شيعته وأتباعه وعلى عموم أهل دعوته، فيندرج فيها أصناف أهل الكفر وأكثر استعمالها في الأحاديث المعنى الأول، ولا يبعد أن يكون المراد هنا هو المعنى الثاني (وأربعون ألف صف من سائر الأمم) الكلام في الأمة كالسابق.

(فيأتي على صف المسلمين) أي من هذه الأمة على الظاهر والتعميم محتمل، والمراد بهم بعضهم الواقفون في صف واحد بقرينة الشهداء، وفي على دلالة على الإشراف والإستعلاء الموجب لرؤية الجميع. (في صورة رجل فيسلم فينظرون إليه) في التسليم بشارة لأن السلامة من الآفات دليل واضح على النجاة.

(ثم يقولون: لا إله إلا الله الحليم الكريم) فيه مع قصد التوحيد تعجب من صنعه وتوقع لكرمه وعفوه عن التقصير في العمل بالنسبة إلى عمل من رأوه كما صرحوا به.

(إن هذا الرجل من المسلمين) قالوا ذلك لأنهم رأوه في صفهم (نعرفه بنعته وصفته) خبر آخر

ص:5

والنعت وصف الشيء بما فيه من حسن، ولا يقال في القبيح. والصفة وصف الشيء بما فيه من حسن أو قبح، فهي أعم من النعت، والمراد هنا الأول ولعل المقصود أنا نعرفه بهذا الوصف، وهو كونه من المسلمين (غير أنه كان أشد اجتهاد منا في القرآن) أي في تعلمه ومدارسته والعمل بما فيه وفيه دلالة على ما ذكرنا من أن حسن الصورة تابع لكمال العلم.

(ثم يجاوز حتى يأتي على صف الشهداء) الظاهر أنهم كل من قتل بين يدي الإمام وشمول كل من له ثواب الشهداء محتمل.

(نعرفه بسمته وصفته) في المغرب السمت الطريق ويستعار لهيئة أهل الخير، فيقال: ما أحسن سمته (فيكثر تعجبهم) منشأ التعجب مشاهدة أمر غريب عظيم القدر فائق في الحسن والبهاء رائق في النور والضياء مع خفاء سببه وحقيقته.

(إن هذا لنبي مرسل) في ظننا بسبب كونه في صورة نبي مرسل، كما مر فلا يلزم الكذب (نعرفه بسمته وصفته) وهي كونه من صنف الأنبياء والمرسلين (غير أنه أعطي فضلا كثيرا) امتاز به عن سائر الأنبياء.

(ويقولون: يا محمد من هذا؟) الذي يمتاز عن سائر الأنبياء بالحسن والبهاء سألوا عن أصله ونسبه واسمه (فيقول لهم: أو ما تعرفونه؟) الاستفهام للتعجب والواو للعطف على محذوف يعني أتسألون عنه وما تعرفونه.

(فيقولون: ما نعرفه) بخصوصياته الموجبة لتعينه (هذا من لم يغضب الله عليه) يعني إنما نعرفه بهذا الوجه الذي لا يفيد تعيينه وهو أنه لم يفعل شيئا يوجب غضب الله عليه ولو كان ترك الأولى فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا حجة الله على خلقه فعلموا أنه القرآن لشيوع اطلاق الحجة عليه أو أبهم (عليه السلام) لمصلحة اطلاق الحجة على غيره أيضا شائع، ووجه كون القرآن حجة الله على العباد أنه يخبرهم بكل ما أراد الله تعالى منهم مما له مدخل في نظام دينهم ودنياهم.

(ويقولون تعالى ربنا وتقدس) أي تعالى في الشرف والرتبة عن وصف الواصفين ونعت الناعتين وتطهر عن النقائص والتشابه بالمخلوقين.

(ثم يجاوز حتى ينتهي إلى رب العزة) أي إلى عرشه أو محل مناجاته نظيره قول إبراهيم (عليه السلام):

(إني ذاهب إلى ربي) أي معبد ربي أو محل عبادته وقول موسى (عليه السلام): (عجلت إليك رب لترضى) أي إلى محل مناجاتك وهو الطور.

(واشفع تشفع) شفع كمنع شفاعة طلب العفو عن ذنب أحد وشفعته تشفيعا قبلت شفاعته

ص:6

(كيف رأيت عبادي؟) في صونك وحفظك وتلاوتك ومدارستك وامتثال ما أمرت به ونهيت عنه.

(فيقول: يا رب منهم من صانني) عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين (وحافظ علي) بالتلاوة وضبط الآيات والمعاني الظاهرية والباطنية والأوامر والنواهي والمواعظ كلها، وتعدية (حافظ) ب (على) لتضمينه معنى القيام ونحوه.

(ولم يضيع شيئا) لقيامه على العمل والاجتهاد ودوامه على الامتثال والانقياد.

ومنهم من ضيع) بترك العمل والمتابعة (واستخف بحقي) بترك الدراية والمحافظة (وكذب بي) بالتحريف والتبديل والإنكار.

وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني) أقسم بعزته القاهرة وعظمته الكاملة ومرتبة الفائقة (لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب) وهو الذي لا نقص فيه والظاهر أن (على) للتعليل كاللام كما قيل في قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم).

(ولأعاقبن عليك اليوم أليم العقاب) وصف العقاب باللأليم وهو المؤلم للمبالغة في شدته (فقال في صورة شاحب متغير) الشاحب بالشين المعجمة والحاء المهملة من تغير لونه من جوع أو هزال أو سفر أو غيره والوصف للتوضيح وكأن هذه الصورة هي التي حدثت بملامسة العصاة وهي موجودة أيضا في هذه الدار إلا إنها لا تراها الأبصار والصورة السابقة صورته الحقيقية التي ناشية بذاته وكمالاته، وقيل: سبب رجوعه إلى هذه الصورة سماعه الوعيد الشديد وهو وإن كان على غيره لكنه لا يخلو من التأثير في من اطلع عليه.

(يبصره أهل الجمع) على وصف التغير لكونه في موضع عال كالشمس المنكسفة وفي بعض النسخ فينكره (فيأتي الرجل من شيعتنا) من بيان للرجال أو حال عنه (الذي كان يعرفه) أريد بمعرفته معرفة تلاوته وقراءته وظاهره وباطنه بالتدبر والتفكر على قدر الإمكان كما يشعر به قوله:

(ويجادل به أهل الخلاف) من الكفار وأهل الإسلام بالإعجاز وفروع العقائد وأصولها التي من جملتها الولاية لأهلها.

(فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك وانصبت عيشك) السهر ترك النوم في الليل، سهر كفرح إذا لم ينم ليلا وأسهره غيره، وانصب التعب نصب كفرح تعب، وأنصبه غيره أتعبه، والعيش الحياة وما يعاش به ويكون به الحياة، والظاهر أن إسناد الإسهار إلى القرآن وهو سبب له مجاز عقلي كتعلقه بالليل، وتعلق الإنصاب بالعيش.

(وفي سمعت الأذى) أي في شأني ومتابعة حكمي وإجراء أمري سمعت من أعدائي وأعدائك الأذى والمكروه من القول.

(ورجمت بالقول في) الرجم القذف واللعن والشتم والطرد والرمي بالحجارة.

ص:7

(ألا وأن كل تاجر قد استوفى تجارته) يعني كل عامل يأخذ اليوم جزاء عمله ونفعه كاملا أنه شبهه بالتاجر في أنه يشتري بعمله الثواب والعقاب.

(وأنا وراءك اليوم) الوراء الخلف، والقدام ضد، يعني أنا خلفك أو قدامك نحفظك من الأهوال والمكاره، ونسوقك إلى الجنة (فزده مزيد الخير كله) المزيد والزيادة بمعنى وفي ذكره إيماء إلى طلب الزيادة الموعودة في قوله تعالى (ولدينا مزيد) مع ما فيه من المبالغة كما في التأكيد (لأنحلن له اليوم خمسة أشياء) نحله ينحله كنصره نحلا بالضم أعطاه، والاسم النحلة بالكسر والضم وهي العطاء والعطية، وأنحله أعطاه مالا خصه بشيء منه كنحله بالتشديد فيهما، فيجوز في الفعل المذكور ثلاثة أوجه.

(مع المزيد له) دل على أن المزيد غير ما أعطاه سابقا وغير هذه الخمسة، ولعل المراد به النعماء الغير المحصورة في الجنة أو تجليات الحق وأنواره كما يكون للأنبياء والأوصياء.

(ولمن كان بمنزلته) عطف على له في قوله «لأنحلن له» لا في قوله «سمع المزيد له» مع احتماله ويظهر الفرق بالتأمل (إلا أنهم شباب لا يهرمون) الشباب الفتيان وأيضا جمع شاب وهو المراد هنا (وأحياء لا يموتون) لعل المراد بالحياة الحياة الطيبة، وهي التي لا تعب ولا مشقة ولا كدرة معها، فلا يرد أن أهل النار أيضا أحياء لا يموتون، فإن حياتهم مكدرة شبيهة بالموت (ثم تلا هذه الآية (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) تشبيه الموت بالمطعوم مكنية والذوق، وهو إدراك طعم الشيء تخييلية وقد يجعل كناية عن العلم كالشم في قولنا فلان لم يشم هذه المسئلة والضمير للجنة والاستثناء إما متصل يعني لا يعلمون في الجنة الموت الواقع في أحد الأزمنة ولا يتعقلونه إلا الموتة الأولى، وهي التي بعد الحياة الدنيوية والقبرية أو منقطع يعني لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، أو أمكن ذوقها ولكنه ممتنع لأن الموتة التي قدر وقوعها وذوقها في زمان ماض لا يمكن وقوعها وذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، والمقصود على التقديرين نفي الموت منهم وثبوت الحياة الأبدية لهم.

ورام بعض المفسرين، ومنهم القاضي جعل الاستثناء متصلا، فقالوا: تارة الضمير للآخرة والموت أول أحوالها، وقالوا: تارة للجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده، فكأنه فيها.

وظني أن فيهما تكلفا، أما في الأول فلأن الظاهر بل المتعين أن الضمير للجنة وأما في الثاني فلأن مجاز المشارفة والظرفية المجازية خلاف الظاهر.

(قال: قلت جعلت فداك يا أبا جعفر، وهل يتكلم القرآن؟) قوله «وجعلت فداك» ليس في بعض النسخ والواو إما زائدة أو للعطف على مقدر - أي أتقول ذلك - وهل يتكلم القرآن، والظاهر أن المراد بالتكلم باللسان، وأن سعدا لم يشك فيه بعد سماعه من المعصوم (عليه السلام)، وإنما سأل لتقريره

ص:8

وتثبيته ذلك في الذهن لكونه أمرا مستبعدا بين الناس، فلذلك قال: لا أستطيع أتكلم به في الناس، أو قال ذلك تعجبا وفزعا، ثم استبعادهم لا وجه له لأنه من استحضر أن نسبة الكائنات إلى قدرة الله سبحانه سواء لا يستغرب شيئا من ذلك، وقال بعض المعاصرين: تكلم القرآن عبارة عن إلقائه على السمع ما يفهم منه المعنى، وهذا هو معنى حقيقة الكلام، ولا يشترط صدوره من لسان لحمي، وكذا تكلم الصلاة فإن من أتى بالصلاة بحقها أو حقيقتها نهته الصلاة عن متابعة أعداء الدين وغاصبي حقوق الأئمة الراشدين الذين من عرفهم عرف الله، ومن ذكرهم ذكر الله، وفيه أن التكلم بهذا المعنى لا يستبعده أحد.

(فقال: نعم يا سعد) أي نعم القرآن يتكلم فقوله (والصلاة تتكلم) عطف على الجملة الدالة عليها نعم (ولها صورة وخلق تأمر وتنهى) الظاهر أن لها صورة كصورة الإنسان وخلقا كخلقهم، إلا أنها لا ترى في هذه الدار لكونها دار كمون ودار تكليف.

(قال سعد: فتغير لذلك لوني) دل على أنه فهم من التكلم ما ذكرنا لا ما ذكره المعاصر وإلا لما كان للاستبعاد والتغير وجه ولا لقوله:

(وقلت: هذا شيء لا أستطيع أنا أتكلم به في الناس) وجه لأن الشيعة كلهم قائلون بتكلمه على ما ذكره ذلك المعاصر، وكذا العامة إلا في الولاية ونحوها.

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): وهل الناس إلا شيعتنا) الاستفهام للإنكار أي ليس الناس الموصوفون بحقيقة الإنسانية إلا شيعتنا وهم يقبلون منا وإما غيرهم فهم نسناس وبهائم في صورة الناس، فطمع القبول منهم كطمعه منها.

(فمن لم يعرف الصلاة) بالوصف المذكور وهو أنها تتكلم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى (فقد أنكر حقنا) لرده قولنا بأنها بذلك الوصف وبإنكاره تكلمه بحقنا.

(والفحشاء والمنكر رجال) تنكيرهم للتحقير أو للتكثير وأوائلهم أولهم بهذا الاسم لأن كل من سواهم من الخلفاء الأموية والعباسية والجابرين إلى يوم القيامة واتباعهم نشأوا من جورهم.

(ونحن ذكر الله) لأن الناس بنا يذكرون الله ويعبدونه.

(ونحن أكبر) من أن يذكر وصفنا الواصفون ويعرف قدرنا العارفون، وقد دلت على أنه لا يمكن معرفة وصفهم وحقيتهم روايات أخر مذكورة في محلها.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال:

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الناس إنكم في دار هدنة، وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود،

ص:9

فأعدوا الجهاز لبعد المجاز.

قال: فقام المقداد بن الأسود، فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.

* الشرح:

قوله: (أيها الناس أنكم في دار هدنة) يصلح أن يكون أمرا للأخبار بعده بالمصالحة مع الأشرار، ولكن له تفسير آخر يأتي ذكره.

(وأنتم على ظهر سفر) الظهر الصلب، وأيضا الإبل التي يحمل عليها ويركب والإضافة لامية وفيه على الأول مكنية وتخييلية وعلى الثاني استعارة تحقيقية بتشبيه الليل والنهار بالظهر، واستعارته لهما وفيه على التقادير مبالغة في شدة السير وسرعته والوغول فيه، كما أشار إليه بقوله:

(والسير بكم سريع) السير الذهاب والاذهاب يقال: سار يسير إذا ذهب وساره غيره إذا أذهبه كسار به، وفاعل السير الظهر، والباء على الأول للتعدية، وعلى الثاني للمبالغة فيها، ثم أشار إلى تحقق ذلك وظهوره لمن له بصيرة بقوله: (وقد رأيتم الليل والنهار) وتعاقبهما (والشمس والقمر) ودورهما.

(يبليان كل جديد) كما هو المشاهد في الحيوانات والنباتات وغيرهما من المكونات، وحسبك النظر إلى نفسك من بدء وجودك إلى كمال الشيخوخة (ويقربان كل بعيد) ألا ترى أن كل ما هو في الحال كان بعيدا في زمان نوح مثلا، وكل ما يقع في الاستقبال سيصير حالا، وما ذلك إلا بتعاقب الليل والنهار ودوران الشمس والقمر.

(ويأتيان بكل موعود) ألا ترى كيف أتيا بغاية آجال آبائك وأجدادك وكل من كان في الأعصار السابقة ولا يتفكر في أنهما سيأتيان بغاية أجلك وبما وعد الله تعالى للمطيعين والعاصين، ثم أشار إلى ما هو كالنتيجة لهذا الكلام البليغ والمقصود منه بقوله:

ص:10

(فأعدوا الجهاز لبعد المجاز) أي لبعد الطريق وطول السفر المفتقر إلى تحمل الزاد الكافي فيه. وجهاز المسافر بالكسر والفتح ما يحتاج إليه في سفره، والمراد به هنا الطاعات والعبادات المفروضة والمندوبة.

(وما دار الهدنة) سأل عن تفسيرها لكونها مبهمة محتملة لوجوه (قال: دار بلاغ) إلى حين (وانقطاع) منها إلى الآخرة والبلاغ بالفتح اسم لما يتبلغ ويتوصل به إلى الشيء المطلوب، وبالكسر مصدر بمعنى الإجتهاد يقال: بالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد. (فإذا التبست عليكم الفتن) في الدين بعدي بافتراء المفترين وانتحال المبطلين.

(كقطع الليل المظلم) شبه الفتن بها في كونها مظلمة سوداء، تعظيما لشأنها أو في أنها ساترة للمقصود مانعة من الاهتداء إليه. والوجه في المشبه به حسي وفي المشبه عقلي (فعليكم بالقرآن) أي ألزموا أحكامه وما نطق به ولا تتعدوه.

(فإنه شافع) لمن تمسك به وعمل بما فيه (مشفع) مقبول الشفاعة والمشفع بشد الفاء المفتوحة من تقبل شفاعته، وبكسرها من يقبل الشفاعة.

(وما حل مصدق) المحل الجدال والسعاية. محل به إذا سعى به إلى السلطان، يعني أنه مجادل مخاصم لمن رفضه وترك العمل بما فيه أوساع يسعى به إلى الله عز وجل مصدق فيما يقول. (ومن جعله أمامه) بأن يقر به ويعتقد بحكمه ويعمل ما فيه (قاده إلى الجنة) وأنزله في المقام اللائق بحسب اجتهاده.

(ومن جعله وراء ظهره) بإنكاره أو ترك العمل بما فيه (ساقه إلى النار) نسبة القود والسوق إليه مجاز كنسبة الفعل إلى السبب أو حقيقة باعتبار أنه يصور بصورة إنسانية في القيامة كما مر (وهو الدليل) يدل الحائرين في بيداء الضلالة والجهالة.

(إلى خير سبيل) يوصل إلى الكرامة والسعادة (وهو كتاب) رفيع الشأن عظيم القدر لا يبلغ كنه حقائقه إلا الراسخون في العلم.

(فيه تفصيل وبيان وتحصيل) لاشتماله على تفاصيل العلوم والأخلاق والآداب وغيرها، وبيان كل ما يتم به نظام الخلق في الدنيا، وتحصيل الأمور يعني تحقيقها واثباتها من حصلت الأمر إذا حققته وأثبته.

(وهو الفصل) أي الفاصل بين الحق والباطل (ليس بالهزل) لأنه جد كله والهزل واللعب من واد واحد، وهو ضد الجد.

(وله ظهر وبطن) من طريق العامة (ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن) قال ابن الأثير في النهاية: قيل: ظهرها لفظها، وبطنها معناها، وقيل: أراد بالظهر ما ظهر تأويله وعرف معناه، وبالبطن ما

ص:11

بطن، وقيل: قصصه في الظاهر أخبار، وفي الباطن عبر وتنبيه وتحذير وغير ذلك، وقيل: أراد بالظهر التلاوة وبالبطن التفهم والتفهيم.

أقول: يمكن أن يراد بالظهر ما يدل عليه اللفظ من المفهومات اللغوية وبالبطن ما يندرج تحت تلك المفهومات من الحقائق واللطائف والدقائق والأسرار التي بعضها فوق بعض، ولا يعرف جميعها إلا الطاهرون الراسخون في العلم.

(فظاهره حكم) الحكم بالضم القضاء، والحاكم منفذ الحكم والمنع، ومنه حكمة اللجام بالتحريك، وهي حديدة في فم الفرس تمنعه من مخالفة راكبه، والإحكام الإتقان، وفي الكنز حكم استوار كار شدن، ومنه الحكيم لأنه يحكم الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل يعني أن ظاهره، وهو ألفاظه وعباراته وأسلوبه وآياته حاكم قاض لنا وعلينا، أو كلام مانع من الجهل والسفه، وينهى عنهما أو محكم متقن لا إختلاف فيه ولا اضطراب.

(وباطنه) علم بتفاصيل الأشياء من المواعظ والأمثال والأحكام والأخلاق وأحوال المبدء والمعاد وغير ذلك مما ينتفع به الناس ويستقيم به نظامهم في الدنيا والآخرة.

(وظاهره أنيق) الأنق محركة الفرح والسرور والكلاء أنق كفرح والشيء أحبه وبه أعجب يعني أن ظاهره حسن معجب لاشتماله على أسلوب عجيب، وتركيب غريب، ومزايا فاخرة، ونكات ظاهرة، يتحير في حسنه الفصحاء، ويتعجب منه البلغاء.

(وباطنه) عميق لا يصل إلى قعره عقول العلماء، ولا يبلغ إلى أصله فحول الحكماء.

(له نجوم وعلى نجومه نجوم) إما مصدر بمعنى الطلوع والظهور، يقال: نجم الشيء ينجم بالضم نجوما، إذا طلع وظهر أو جمع نجم بمعنى الكوكب أو الأصل أو الوقت المضروب بحضور الشيء، والمقصود على التقادير أن معانيه مترتبة غير محصورة يظهر بعضها من بعض ويطلع بعضها عقيب بعض. (لا تحصى عجايبه) العجب الشيء الذي عظم موقعه عند الناس.

(ولا تبلى غرايبه) لأن غرائبه وهي المزايا والأسرار الخارجة عن طوق البشر البعيدة عن أفهامهم وأوهامهم، كلما أدركت مرة بعد أخرى كانت جديدة معجبة للنفس موجبة للنشاط بها والميل إليها.

(مصابيح الهدى) الهدى بضم الهاء وفتح الدال الرشاد والدلالة، والمصباح السراج، والجمع باعتبار السور والآيات، والإضافة لامية وإطلاقها على القرآن من باب الاستعارة.

(ومنار الحكمة) أي محل ظهورها والإضافة لامية، وأصله منور من النور، وهو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، والحكمة قيل: هي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وشاع إطلاقها على العلم بالشرائع النبوية.

ص:12

(ودليل على المعرفة) أي معرفة الرب وصفاته الذاتية والفعلية أو الأعم الشامل لمعرفة ما يراد من الإنسان وما يتم به نظامهم في الدارين، وفي بعض النسخ (دليل على المغفرة).

(لمن عرف الصفة) هي إما مصدر يقال: وصف الشيء يصف وصفا وصفه إذا بين حاله وذكر أوصافه، أو نعت وهو حال الشيء وخواصه وآثاره، يعني القرآن دليل على المعرفة لمن عرف وصف القرآن للأشياء، ونطقه بأحوالها التي من جملتها الولاية إذ لا يتم المعرفة بدون معرفتها، أو لمن عرف نعته وصفته من الغرائب والعجائب والمزايا المندرجة فيه، والله أعلم.

(فليجل جال بصره) أي بصره القلبي ليدرك جواب الكلام وأطرافه وحقائق مدلولاته وأسراره، وقوله: (فليجل) إما من الجلاء، يقال: جلا السيف والمرآة أصقلهما، أو من الإجالة وهي الإرادة يقال: أجاله وبه أداره، وجال إذا دار، وفي جال قلب أصله جائل كما في شاكي السلاح.

(وليبلغ الصفة نظره) إما من البلوغ، وهو الوصول أو من الإبلاغ وهي الإيصال، فإن فعل ذلك (ينج من عطب) أي من هلاك لتميزه بين الحق والباطل والضلالة والهداية وثباته في سبيل الرشاد بمتابعة أهل العصمة والولاية.

(ويتخلص من نشب) النشب بالتحريك علوق العظم ونحوه في الحلق وعدم نفوذه فيه، وهو مهلك غالبا لسد مجرى النفس، فهو كناية عن الهلاك، ويمكن أن يراد به نشب الضلالة والجهالة والغواية على تشبيهها بطعام ذا غصة في الإضرار والإهلاك، ثم علل ذلك بقوله: (فإن التفكر) في الأسرار الإلهية واللطائف القرآنية.

(حياة قلب البصير) أي سبب لحياته، فالحمل للمبالغة، وذلك لأن التفكر سبب للعلم، والعلم سبب للحياة، كما أن الجهل سبب للموت، وإليهما يرشد قوله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه) والبصر محركة من العين حسها، ومن القلب نظره وخاطره وإدراكه بصر به كفرح وكرم صار بصيرا، أي مبصرا، والمراد به هنا العالم أو الفطن الذكي، وإضافة القلب إليه إما لامية أو بيانية وفي الجمع بينهما فائدة، وهي أنه لو لم يذكر القلب لتوهم أن المراد بالبصير البصير بالعين، ولو لم يذكر البصير لتوهم أن التفكر سبب لحياة قلب الجاهل والغبي أيضا، وليس كذلك.

(كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور) أي بنور المصباح أو المشعل والظرفان يتعلقان بيمشي أو بالمستنير أو بهما على سبيل التنازع أو الأول بالأول والثاني بالثاني أو بالعكس، وفيه تشبيه معقول بمحسوس على سبيل التمثيل لقصد الإيضاح.

(فعليكم بحسن التخلص) أي بحسن النجاة من الباطل (وقلة التربص) أي قلة الانتظار

ص:13

والمكث عند الشبهات، لأن الشبهة مرض مهلك والفرار من المهلكات واجب، وإنما التربص الضروري هو قدر أن يحصل العلم بالحق، ويكفي فيه أدنى تفكر، وقد مر شرحه في آخر كتاب العقل.

* الأصل:

3 - علي، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة بن مهران، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه، وهو الصادق البار، فيه خبركم، وخبر من قبلكم، وخبر من بعدكم، وخبر السماء والأرض، ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم).

* الشرح:

قوله: (إن الله العزيز الجبار) أي الذي غلب على جميع الخلائق بالإيجاد والإفناء وجبر مفاقر العباد بكفاية أسباب المعاش والأرزاق، وأصلح نقائص حقائق الممكنات بإفاضة الوجود، وما يتبعه من الخيرات والكمالات (أنزل عليكم كتابه، وهو الصادق البار) لأنه صادق في جميع ما نطق به، ومتسع إحسانه إلى جميع الأنام، وسائق قائد لهم إلى دار السلام (فيه خبركم) خطاب للموجودين الحاضرين والغائبين على سبيل التغليب.

(وخبر من قبلكم وخبر من بعدكم) يعني فيه أخبار كل واحد واحد وبيان أحواله المختص به والمشتركة بينهم، وبين جماعة من المصائب والنوائب، وما يصدر منه، وما يرد عليه، وما يتعلق به ويراد منه على الخصوص أو العموم.

(وخبر السماء والأرض) يعني فيه خبر جوهر السماء وسكانها وحركات الأفلاك ودورانها وأحوال الملائكة ومقاماتها وحركات الكواكب ومداراتها ومنافع تلك الحركات وتأثيراتها إلى غير ذلك من الأمور الكائنة في العلويات، وفيه خبر جوهر الأرض وكيفية إيجادها وانتهائها، وخبر ما في سطحها وأرجائها، وما في تحتها وأهوائها، وخبر ما فيها من المعدنيات، وما في جوف فلك القمر من البسائط والمركبات إلى غير ذلك من الأحوال المتعلقة بالسفليات.

(ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك) أي عما في القرآن من العلوم والحقائق والأسرار والدقائق، وما كان وما يكون وما هو كائن. (لتعجبتم منه) لسمو حاله وعلو كماله ونهاية لطافته وغاية غرابته، والحاصل أنكم متعجبون منه لو علمتم ما فيه، واحتمال أنكم تتعجبون ممن يخبر عما فيه فكيف لا تتعجبون منه مع أنه مخبر عنه أيضا بعيد، لأن التعجب بعد العلم لا يستلزم التعجب قبله فتأمل.

* الأصل:

ص:14

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي، ثم امتي، ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي).

* الشرح:

قوله: (ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي) هذا خبر وفي الحقيقة أمر بمتابعتهما، والتمسك بهما لئلا يضلوا، وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي سعيد الخدري، ومسلم في صحيحه بإسناده إلى زيد بن أرقم عنه (صلى الله عليه وآله) مثله ذكرناه في كتاب الحجة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى، فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور).

* الشرح:

(إن هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى) الإضافة الأولى لامية والثانية الظرفية، والدجى بالضم الظلمة وإطلاقها على الشبهة والبدعة من باب الاستعارة، كإطلاق للمنار والمصباح وهما محل النور والضوء، يعني العلم على ما في القرآن من الآيات التي أعظمها الأئمة عليهم السلام (فليجل جال.. اه) قد مر تفسيره قبيل ذلك.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه: اعلموا أن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاته).

* الشرح:

قوله: (إن القرآن هدى النهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة) كان تامة والجهد المشقة والفاقة الفقر والحاجة، والظاهر أن على متعلق بهدى ونور، وبمعنى في للظرفية كما في قوله تعالى (ودخل المدينة على حين غفلة) يعني أن القرآن هدى للمؤمنين في النهار ونور لهم في الليل المظلم في حال شدة ومشقة من التباس الفتن وتوارد الشبهات، إذ يهديهم إلى الحق

ص:15

وسلوك سبيله، وفي حال الفقر والفاقة إذ يحملهم على الصبر لجزيل الأجر، أو يدفعها عنهم بالخاصية أو بعض الآيات والسور الموجبة لزيادة الرزق، وفيه حث على التزام قراءته والتذكر فيه في الليل والنهار بذكر فائدتين أحديهما: للأخروية، والأخرى للدنيوية، هذا ما خطر بالبال، والله أعلم.

* الأصل:

7 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليه السلام)، قال: (شكا رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وجعا في صدره، فقال (صلى الله عليه وآله): استشف بالقرآن، فإن الله عزوجل يقول: (وشفاء لما في الصدور)).

* الشرح:

قوله: (استشف بالقرآن) أي بقراءته مطلقا، أو على قصد الشفا، وإطلاق القرآن يقتضي أن كل آية وكل سورة شفاء، وقد روي الإستشفاء ببعض الآيات وبعض السور في خصوص بعض الأمراض، والحمد مجرب للجميع خصوصا سبعين مرة (إن الله عز وجل) يقول في وصف القرآن:

(وشفاء لما في الصدور) عمومه شامل لجميع الأمراض الصدرية من الأوجاع والأحزان والهموم والجهالات وغيرها ولا وجه لتخصيصها بالجهل.

* الأصل:

8 - أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن الخشاب، رفعه، قال: قال أبو - عبد الله (عليه السلام): لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبدا، ولا إلى بني امية أبدا ولا في ولد طلحة والزبير أبدا، وذلك أنهم نبذوا القرآن، وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة، وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار).

* الشرح:

قوله: (لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبدا.. اه) أشار (عليه السلام) إلى أن أمر الإمامة والخلافة التي هي الرئاسة العظمى، إنما يرجع إلى من علم القرآن ظاهره وباطنه وعمل به وهو علي (عليه السلام) وأهل العصمة من أولاده، لا إلى المذكورين أولادهم الجاهلين بالقرآن، النابذين له وراء ظهورهم، المعطلين لأحكامه وحدوده، التابعين لأهواء نفوسهم الأمارة، الضالين المضلين، وذلك ظاهر، لأن خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون مثله عالما بالقرآن عاملا به، ليكون

ص:16

مرجعا للخلائق في جميع ما يحتاجون إليه.

(القرآن هدى من الضلالة) «من» هنا إما لابتداء الغاية، أو بمعنى في كما في قوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) يعني أن القرآن يهدي من الضلالة، أو فيها إلى الحق ويبين سبيله (وتبيان من العمى) التبيان الكشف والإيضاح، والعمى الضلالة والجهالة، يعني أن القرآن يكشف الحق من الجهل ويوضحه.

(واستقالة من العثرة) العثرة العثار من المشي والسقوط على الوجه، واستعيرت هنا للسقوط في الذنوب، والمراد بالإستقالة طلب التجاوز عنها من الإستقالة في البيع، وهي طلب فسخه ورفع عقده، والمداومة على القرآن سبب للحفظ عنها ورفع ما وقع منها.

(ونور من الظلمة) يدفع ظلمة الشبهة والجهالة عمن تمسك به (وضياء من الأحداث) جمع الحدث، وهو الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنة، يعني أنه ضياء يعرف به المعروف من المنكر ويفرق بينهما.

(وعصمة من الهلكة) لأنه يبين ما يوجب الهلاك والعقاب ويحفظ صاحبه منه (ورشد من الغواية) الغواية الضلال والانهماك في الباطل، والرشد خلافها، يعني أنه يرشد الخلائق إلى الحق والصواب وسبيل الهداية ويزجرهم عن الباطل والغي وسلوك سبيل الغواية.

(وبيان من الفتن) يظهر المقصود بأبلغ وجه ويميزه من الفتن وهي كل ما يصرف عنه (وبلاغ من الدنيا والآخرة) البلاغ الإيصال أي موصل من الدنيا بالمنع من الركون إليها والرغبة فيها إلى أمر الآخرة والحث على ما يوجب رفع الدرجة فيها.

(وفيه كمال دينكم) أي ما يوجب كماله ومنه ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما روي في تفسير قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) أنه أكمله بولايته (عليه السلام).

(وما عدل عن القرآن أحد إلا إلى النار) العدول عنه يشمل إنكاره، وانكار بعضه كإنكار مخالفينا ولاية علي (عليه السلام)، وترك العمل بما فيه، فإن كل ذلك ذنب عظيم يوجب الدخول في النار.

* الأصل:

9 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنة ويزجر عن النار).

* الشرح:

قوله: (يأمر بالجنة ويزجر عن النار) أي يأمر بما يوجب الدخول في الجنة، ويزجر عما يوجب الدخول في النار، وهذا في المعنى أمر بالامتثال بأمره ونهيه والمداومة عليه.

* الأصل:

ص:17

10 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن سعد الإسكاف قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعطيت السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة، وهو مهيمن على سائر الكتب، فالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود (عليهم السلام)).

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعطيت السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة) في مجمع البيان الطوال: جمع «طولى» تأنيث «الأطول». وهي سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع التوبة، لأنهما تدعيان القرينتين، ولذلك لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وقيل: السابعة سورة يونس، وإنما سميت هذه السور الطوال لأنهما أطول سور القرآن، والمثاني قيل: هي جمع مثنى كمعنى ومعاني، وقال الفراء: جمع مثناة، وهي أيضا سبع سور: سورة يونس، وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل وإنما سميت مثاني لأنها تثنت الطول، أي تلتها فكان الطول المبادي، والمثاني لها ثواني، وقيل المثاني: سور القرآن طوالها وقصارها من قوله تعالى: (كتابا متشابها مثاني) ووجه التسمية أنها يثنى فيه الحدود والأمثال، وقيل هي سورة الحمد، وهو المروي عن الأئمة (عليهم السلام) سميت بذلك لأنها تثنى في كل صلاة وكل سورة تكون مائة آية أو فويق ذلك أو دوينه، وهي أيضا سبع سور بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون. وقيل: المئون ما ولى السبع الطول والمثاني بعدها، وهي التي يقصر من المئين وتزيد عن المفصل سميت مثاني لأن المئين مبادئها وهي مثانيها، والمفصل ما بعد الحواميم إلى آخر القرآن، وهو ثمان وستون سورة طواله من سور محمد (صلى الله عليه وآله) إلى النبأ، ومتوسطاته منه إلى الضحى، وقصاره منه إلى آخر القرآن وسمي مفصلا لكثرة الفصول ببسم الله الرحمن الرحيم.

وفي النهاية السابعة من الطول، وهي التوبة ولم يذكر الأنفال لا إنفرادا ولا إنضماما معها.

وفي القاموس المثاني القرآن أو ما ثني به منه مرة بعد مرة أو الحمد أو البقرة إلى براءة أو كل سورة دون الطول ودون المئين وفوق المفصل أو سورة الحج والنمل والقصص والعنكبوت من النور والأنفال ومريم والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص ومحمد (صلى الله عليه وآله) ولقمان والغرف والزخرف والمؤمن والسجدة والأحقاف والجاثية والدخان والأحزاب.

أقول: في قوله من قال إن المثاني بعد المئين؟ وأقصر منها نظر لأنه إن أراد أنها أقصر بحسب

ص:18

الآية ورد عليه أن سورة يونس أقل بحسب الآية من بني إسرائيل والكهف والأنبياء والمؤمنون وهود والنحل أقل بحسبها من المؤمنون وسورة يوسف بحسبها مساو لبني إسرائيل والكهف والأنبياء وأقل من المؤمنون، وإن أريد أنها أقل بحسب الكتابة، ورد عليه أن سورة الرعد والحجر أكثر بحسب الكتابة من بني إسرائيل إلى آخر المثاني وهو المؤمنون، وسورة إبراهيم أقل بحسبها من سورة الأنبياء والحج والمؤمنون.

(وهو مهيمن على سائر الكتب) أي شاهد عليها ولولا شهادته لما علم أنها كتب سماوية لعدم بلوغها حد الإعجاز.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يجيىء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة، فيمر بالمسلمين فيقولون: هذا الرجل منا فيجاوزهم إلى النبيين، فيقولون: هو منا فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين، فيقولون: هو منا حتى ينتهى إلى رب العزة عزوجل فيقول: يا رب فلان بن فلان أظمأت هواجره وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمأ هواجره، ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم، فيقول فيتبعونه فيقول للمؤمن: إقرأ وارقه، قال: فيقرء ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها.

* الشرح:

قوله: (اظمأت هواجره وأسهر ليله في دار الدنيا) الهواجر جمع الهاجرة، وهي نصف النهار عند إشتداد الحر أو من زوال الشمس إلى العصر سمي بذلك لأن الناس يهاجرون فيه من شدة الحر ويستكنون في بيوتهم، وإسناد الإظماء والإسهار إلى القرآن إسناد مجازي، لكونه سببا لهما وكذا تعلقهما بالهواجر، والليل تعلق مجازي لكونهما ظرفا لهما.

(وفلان ابن فلان لم أظمأ هواجره ولا أسهر ليله) قيل: هذا مجاز عقلي بالاتفاق، ولا يصدق عليه تعريفه لأنه إسناد الشيء إلى غير ما هو له وإيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه وفيه نفي الإسناد ونفي التعلق، وأجيب بأن المتصف بالتجوز هو الإسناد والتعلق بحسب الذات مع قطع النظر عن النفي والإثبات، فكما أنهما متصفان بالتجوز في حال الإثبات كذلك متصفان به في حال النفي، (فيقول للمؤمن:) الذي عمل به في الليل والنهار (اقرأ وارقه) رقى إليه كرضى صعد كارتقى وترقى، والهاء للوقف (قال: فيقرأ ويرقى) أي يقرأ آية ويصعد درجة فوق الأولى وهكذا.

(حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها) الفعلان وهما يبلغ وينزل، إما من البلوغ

ص:19

والنزول، أو من الإبلاغ والإنزال، وكل رجل على الأول فاعل، وعلى الثاني مفعول.

* الأصل:

12 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن يونس بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النعم وديوان فيه الحسنات وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات، فتستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان السيئات فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة، فيقول: يا رب أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي، ويطيل ليلة بترتيلي، وتفيض عيناه إذ تهجد، فأرضه كما أرضاني، قال: يقول العزيز الجبار: عبدي ابسط يمينك فيملأها من رضوان الله العزيز الجبار، ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنة مباحة لك، فأقرأ واصعد، فإذا قرأ آية صعد درجة).

* الشرح:

قوله: (إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة) في مصباح اللغة الديوان جريدة الحساب، ثم أطلق على موضع الحساب، وهو معرب، والأصل دوان فأبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف، ولهذا يرد في الجمع إلى أصله دواوين وبالتصغير دويوين لأن التصغير وجمع التكسير يردان الأسماء إلى أصولها، ودونت الديوان أي وضعته وجمعته.

(فتستغرق النعم عامة الحسنات) أي جميعها، وفي لفظ الاستغراق إيماء إلى أنه يبقى بعض النعم، بل أكثرها بلا مقابل له من الحسنات أي جميعها.

(ويطيل ليله بترتيلي) في الصحاح الترتيل في القراءة الترسل والتبيين بغير بغي وكلام رتل بالتحريك أي مرتل، وفي القاموس الرتل محركة حسن تناسق الشيء، والحسن من الكلام، والطيب من كل شيء، ورتل الكلام ترتيلا أحسن تأليفه، وترتل فيه ترسل. وفي النهاية الترتيل الجودة، وتبيين الحروف بحيث يتمكن السامع عندها، وقال بعض الأصحاب: هو حفظ الوقوف وأداء الحروف أي كمال أدائها.

والإطالة كناية عن السهر وترك النوم، لأن الليل عند الساهر طويل. (وتفيض عيناه إذا تهجد) التهجد النوم في الليل، والإستيقاظ فيه ضد والمراد هنا هو الثاني. (فأرضه كما أرضاني.. إلى آخره) تلاوته وترتيله من جملة الحسنات التي قوبلت بالنعماء لكن شفاعته المقبولة سبب للنجاة وعلو الدرجات ورفع السيئات، ولعل بسط اليمين وملؤها من الرضوان، وملء الشمال من الرحمة

ص:20

من باب التمثيل لأن كل من أخذ شيئا من غيره أخذه بيمينه وشماله.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي). وكان (عليه السلام) إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها حتى كاد أن يموت.

* الشرح:

قوله: (لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) أراد أن من كان معه القرآن بالتلاوة والتدبر في آياته والتفكر فيما فيه من أسراره وأحكامه وقصصه وحكاياته لا يستوحش من الوحدة ولا يهتم بالانقطاع عن الخلق، والظاهر أن المراد بالموت المعنى المعروف مع احتمال أن يراد به انقطاع الخلق كلهم عنه إذ فيه موت نفوسهم بالضلالة والجهالة. (وكان إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها حتى كاد أن يموت) خوفا من ملاحظة عظمة المالك وكمال كبريائه وجبروته ومشاهدة شدائد ذلك اليوم وأهواله وأحوال الخلائق فيه.

* الأصل:

14 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن إسحاق بن غالب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا جمع الله عزوجل الأولين والآخرين إذا هم بشخص قد أقبل لم ير قط أحسن صورة منه، فإذا نظر إليه المؤمنون وهو القرآن قالوا: هذا منا هذا أحسن شيء رأينا، فإذا انتهى إليهم جازهم، ثم ينظر إليه الشهداء، حتى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم كلهم حتى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم حتى ينتهي إلى الملائكة فيقولون: هذا القرآن فيجوزهم ثم ينتهي حتى يقف عن يمين العرش فيقول الجبار: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأكرمن اليوم من أكرمك، ولاهينن من أهانك).

* الشرح:

قوله: (ثم ينظر إليه الشهداء حتى إذا انتهى إلى آخرهم.. اه) هذا لا ينافي ما دل عليه الخبر الأول من أنهم لا يعرفونه، وأنهم يقولون هذا منا، لوجهين: الأول أنهم لم يعرفوه في بادي النظر، فقالوا ذلك ثم بعد التفكر أو الإلهام عرفوه، وقالوا: هو القرآن، ومثل ذلك كثير شائع. والثاني أن القائل بعضهم والقائل الثاني بعض آخر، وبالجملة لا منافاة عند مغايرة الوقتين أو مغايرة القائلين.

ص:21

باب فضل حامل القرآن

اشاره:

1اشاره - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي، عن سليمان بن الجعفر الجعفري، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلال النبيين والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكانا [عليا]).

* الشرح:

قوله: (إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين) المراد به من تعلمه وحفظه وواظب على تلاوته والعمل بما فيه، فإن كل ذلك يصدق عليه أن من أهل القرآن بل صدقه على العامل أولى من صدقه على القارئ، لأن العمل هو المقصود بالذات، والقراءة تابعة وصدقة على القارئ العامل أولى من صدقه على أحدهما.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة).

* الشرح:

قوله: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة) من طريق العامة «مثل الماهر بالقرآن مثل السفرة» في النهاية هم الملائكة جمع سافر، والسافر في الأصل الكاتب سمي به لأنه يبين الشيء يوضحه، قوله تعالى: (بأيدي سفرة كرام بررة) وفي كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم هو الملائكة سموا بذلك لنزولهم بما يقع به الصلاح بين الناس تشبيها بالسفير، وهو الذي يصلح بين الرجلين، وقيل: لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام بالوحي، وقيل: هم الكتبة من الملائكة، لأنهم ينتسخون الكتب من اللوح المحفوظ، وقيل: هم الأنبياء، لأنهم سفراء بينه تعالى وبين عباده.

والمراد بكونهم كراما أنهم أعزاء على الله تعالى أو متعطفون على المؤمنين، مستغفرون لهم.

وبكونهم بررة أنهم مطيعون له تعالى، فاعلون للخيرات، منزهون عن النقائص والسيئات. والظاهر

ص:22

أن المراد بكونه الحافظ للقرآن معهم أنه معهم في درجتهم ومنازلهم في الآخرة ورفيق لهم فيها لاتصافه بصفتهم في جملة كتاب الله عز وجل، وقيل: المراد أنه عامل بعملهم كما يقال: فلان مع بني فلان، أي في الرأي والمذهب، كما قال لوط (عليه السلام): (ونجني ومن معي).. الآية.

* الأصل:

3 - وبإسناده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تعلموا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللون، فيقول له القرآن: أنا الذي كنت أسهرت ليلك، وأظمأت هواجرك، وأجففت ريقك، وأسلت دمعتك أؤول معك حيثما الت، وكل تاجر من وراء تجارته، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر، وسيأتيك كرامة [من] الله عزوجل فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويعطى الأمان بيمينه، والخلد في الجنان بيساره، ويكسى حلتين، ثم يقال له: إقرأ وارق، فكلما قرأ آية صعد درجة ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن).

* الشرح:

قوله: (وكل تاجر من وراء تجارته) يطلب ربحها لنفسه بنفسه في هذا اليوم وهو حاجته (وأنا لك اليوم من وراء تجارة كل تاجر) أطلب لك كل ربح يطلبه كل تاجر من تجارته، هذا محض الاحتمال، والله أعلم بحقيقة الحال.

(فيؤتى بتاج ويوضع على رأسه) التاج الإكليل، وهو ما يصاغ للملوك، ويرصع بالجواهر والجمع تيجان، والياء في الأصل واو.

(ويعطى الأمان) من العذاب والخذلان (بيمينه والخلد في الجنان بيساره) أي يعطى كتاب الأمان والخلد أو يعطى الأمان والخلد في ملكته فاستعار اليمين والشمال لأن الأخذ والقبض بهما.

(ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين) وقد يخفف العذاب عنهما إن كانا كافرين، كما يشعر به كلام بعض الأكابر.

(ويقال: هذا لما علمتماه القرآن) الظاهر أن «ما» مصدرية والقرآن مفعول ثان للتعليم، قال بعض المفسرين: إذا قال الولد عند التعلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكان أبواه معذبين رفع الله تعالى عنهم العذاب ببركة تعلم الولد.

* الأصل:

4 - ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن منهال القصاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من قرأ

ص:23

القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله عزوجل مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غيره عاملي فبلغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا، فيعطى الأمن بيمينه، والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم. قال: ومن قرأ كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عزوجل أجر هذا مرتين).

* الشرح:

قوله: (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن) لعل المراد أن تكون القراءة دأبه وعادته، وأن تكون من باب التفهم والتدبر، لا مجرد المرة ولا مجرد النطق مع إحتماله.

(اختلط القرآن بلحمه ودمه) يعني يؤثر في ظاهره وباطنه، ويوجب استقامة أعضائه، وقلبه وجوارحه، وتستقر فيها المواعظ الربانية والنصائح القرآنية استقرارا تاما، لعدم اعوجاجها بالمعاصي المانعة من قبول الحق بعد، ومن ثم اشتهر أن التعلم في الصغر كالنقش في الحجر.

(وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة) أي كان مانعا يمنع عنه ذلك اليوم أهواله ومكارهه، وحذف المفعول للدلالة على التعميم.

(قال: ومن قرأ كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عز وجل أجر هذا مرتين) هذا الحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة، روى مسلم بإسناده عن عائشة، قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران» وفي رواية أخرى «والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران» قيل: المراد بالتتعتع التردد فيه لقلة حفظه، والأجران أحدهما في قراءة حروفه والآخر في تعبه ومشقته، وليس المراد أنه أكثر أجرا من الماهر، بل الماهر أكثر أجرا لأنه مع السفرة عليهم السلام وله أجور كثيرة وكيف يلتحق من لم يعتن بكتاب الله بمن اعتنى به حتى مهر فيه، وقيل: أحد الأجرين تعاهد المشقة في تعلمه والآخر تعاهدها من شدة حفظه ورجحه على الأول بأن به يظهر الفرق بينه وبين من لم يكن له مشقة لا بالأول إذ لكل قارىء أجران أحدهما للتعلم والحفظ، وإن لم يكن فيهما مشقة والآخر لأجل القراءة.

أقول: ظاهر رواياتنا وروايتهم هو الأول.

ص:24

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، وحميد بن زياد، عن الخشاب، جميعا عن الحسن بن علي بن يوسف، عن معاذ بن ثابت، عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أحق الناس بالتخشع في السر والعلانية لحامل القرآن، وإن أحق الناس في السر والعلانية بالصلاة والصوم لحامل القرآن، ثم نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعك الله، ولا تعزز به فيذلك الله، يا حامل القرآن تزين به لله يزينك الله [به]، ولا تزين به للناس فيشينك الله به، من ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه ولكنه لا يوحى إليه، ومن جمع القرآن فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه، ولا يغضب فيمن يغضب عليه، ولا يحد فيمن يحد، ولكنه يعفو ويصفح، ويغفر، ويحلم لتعظيم القرآن، ومن اوتي القران فظن أن أحدا من الناس اوتي أفضل مما اوتي، فقد عظم ما حقر الله وحقر ما عظم الله).

* الشرح:

قوله: (إن أحق الناس بالتخشع في السر والعلانية) أي في الباطن بتقويم النفس بالأخلاق الفاضلة والعقائد الحقة الراسخة، وفي الظاهر بتسديد الجوارح والأعضاء بالأعمال الفاضلة، والأفعال الكاملة. (لحامل القرآن) المراد به القارئ العالم المتدبر فيه، العامل به، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).

(وإن أحق الناس في السر والعلانية) لعل المراد بهما هنا حالة الانفراد والاجتماع (بالصلاة والصوم) وغيرهما من العبادات.

(لحامل القرآن) أذله مرتبة المراقبة بالعبادات والمحافظة عليها والأمر بها والنهي من ضياعها لما شاهد فيه من الوعد والوعيد، والأمر والتهديد، ودرجات المطيعين، ودركات الفاسقين، وعقوبات العاصين (يا حامل القرآن تواضع به) أي بسبب القرآن وحمله لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين. (يرفعك الله) في الدنيا والآخرة فتكون من المقربين (ولا تغزز به) عند الخلائق (فيذلك الله) فيهما فتكون من الهالكين.

(يا حامل القرآن تزين به) أي بالقرآن وترتيله وجواهر أسراره وحلل حقائقه ولطائف رقائقه (يزينك الله) بحلل الجنان وكرائم الإحسان، أو يمدحك في أعلى عليين وزمرة المقربين وفي الكنز زين آراستن ومدح كردن.

ص:25

(ولا تزين به للناس) طلبا للعزة والتقرب والمدح والإحسان منهم (فيشينك الله به) أي يعيبك الله به عند الصالحين، ويقبحك عند إكرام الحاملين العاملين لله، وفي الكنز شين عيب كردن.

(ومن ختم القرآن فكأنما أدرجت النبوة في جنبيه) يعني في قلبه، لأن آثار النبوة وهي كل ما أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله) دخل في قلبه تفصيلا وإجمالا فوقع التشابه.

(لكنه لا يوحى إليه) كما أوحى إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فحصل به التميز والتفارق، ثم أشار إلى بعض خواص حامل القرآن وصفاته التي ينبغي أن يكون عليها بقوله:

(ومن جمع القرآن) قراءة وعلما وعملا به (فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه) بالإستخفاف والاستهزاء، والتجبر، والتكبر، والغلظة في القول، والمعاشرة، وترك الحقوق، وأمثال ذلك، بل شأنه الملاينة والمداراة عملا بقوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما) والنول بالفتح الحظ والنصيب وما ينبغي (ولا يغصب فيمن يغصب عليه ولا يحد فيمن يحد) «في» في الموضعين بمعنى مع أو على، و «يحد» في بعض النسخ بالحاء المهملة والدال المشددة من الحدة بالكسر وهي الطيش والنزق والوثوب والخفة عند الغضب، وفي بعضها بالجيم والدال المخففة من الوجد وهو الغضب، ويقال: وجد عليه يجد وجدا وجدة وموجدة إذا غضب، ولعل المراد بقوله: «لا يغضب» زجر عن إجراء أحكامه صونا للكلام عن التكرار. والله أعلم.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، عن عبيس بن هشام قال: حدثنا صالح القماط، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الناس أربعة، فقلت: جعلت فداك وما هم؟ فقال: رجل اوتي الإيمان ولم يؤت القرآن، ورجل اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان، ورجل اوتي القرآن واوتي الإيمان، ورجل لم يؤت القرآن ولا الإيمان. قال: قلت: جعلت فداك فسر لي حالهم، فقال: أما الذي اوتي الإيمان ولم يؤت القرآن فمثله كمثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وأما الذي اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان فمثله كمثل الاس ريحها طيب وطعمها مر، وأما من اوتي القرآن والإيمان فمثله كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، وأما الذي لم يؤت القرآن ولا الإيمان فمثله كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها).

* الشرح:

قوله: (قال الناس أربعة) التأنيث باعتبار الجامعة، أو المراد أربعة أصناف (فقلت: جعلت فداك وما هم؟) سأل عن صفاتهم وخواصهم التي يتميز بها كل صنف عن الآخر. (فقال: رجل أوتي

ص:26

الإيمان ولم يؤت القرآن) أريد بالإيمان التصديق بالله ورسوله وبما جاء به الرسول، وعدم إتيان القرآن شامل لعدم قدرته على قراءته وعدم قراءته مع القدرة عليها، وعدم اتخاذ قراءته دأبا وعادة. (ورجل اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان) كالمنافق الذي يقرأ القرآن.

(ورجل أوتي القرآن وأوتي الإيمان) وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتخذ القراءة دأبا وعادة. (ورجل لم يؤت القرآن ولا الإيمان) كالمنافق الذي لا يقرأ القرآن.

(قال: قلت: جعلت فداك فسر لي حالهم؟) سأل بعد معرفتهم بالصفات المذكورة عن تفسير حالهم بمثال جزئي طلبا لزيادة الانكشاف.

(فقال: أما الذي أوتي الإيمان ولم يؤت القرآن فمثله كمثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها) لعل المراد أنه لا ريح لها ريح فائق مشتهي، وإلا فللتمرة ريح في الجملة.

(وأما الذي اوتي القرآن ولم يؤت الإيمان فمثله كمثل الاس ريحها طيب وطعمها مر) الاس شجر معروف واحدتها آسة.

(وأما من اوتي القرآن والإيمان فمثله كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) الأترج بضم الهمزة والراء بينهما تاء مثناء ساكنة وآخرها جيم ثقيلة، وقد تخفف ويزاد قبلها نون ساكنة ويقال بحذف الألف مع الوجهين.

(وأما الذي لم يؤت الإيمان ولا القرآن فمثله كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها) مثل هذا الحديث موجود في كتب العامة روى مسلم بإسناده عن أنس عن أبي موسى الأشعري: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس فيها ريح وطعمها مر» قال صاحب كتاب إكمال الإكمال: وجه التشبيه في التمثيل بالأترجة مجموع الأمرين طيب الطعم وطيب الرائحة لا أحدهما على التفريق، كما في بيت امرئ القيس:

كان قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي ولما كان طيب الطعم وطيب الرائحة في النفس المؤمنة عقليان، وكانت الأمور العقلية لا تبرز عن موصوفها ألا بتصويرها بصورة المحسوس المشاهد شبه (عليه السلام) بالأترجة الموجود فيها ذلك حسا تقريبا للفهم والإدراك، فطيب الطعم في النفس المؤمنة الإيمان، لأنه ثابت في النفس هي به طيبة باطنا كثبوته في الأترجة، وطيب الرائحة فيها يرجع إلى قراءته القرآن لأن القراءة قد يتعدى نفعها بالغير فينتفع بها المستمع كما أن طيب رائحة الأترجة يتعدى وينتفع بها المستروح أي الشام،

ص:27

بقي أن يقال لم خص التمثيل بما يخرج من الشجر من الثمار، ثم خص الأترجة دون غيرها مع وجود الأمرين في غيرها كالتفاحة؟ فيقال: في الجواب عن الأول خص الثمار للشبه الذي بينها وبين الأعمال لأن الأعمال ثمار النفوس، ويقال: في الجواب عن الثاني أما لأن وجود الأمرين في الأترجة أظهر، وأما لبقائها وعدم سرعة تغيرها، وأما لأن الجن لا يقرب البيت الذي فيه الأترجة فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا يقر به الشياطين، وأما لأن غلاف حبها أبيض فناسب قلب المؤمن، وأما لأنها أفضل الثمار كما أن المؤمن أفضل الإنسان ووجه كونها أفضل الثمار أنها جامعة للصفات المطلوبة قبل الأكل وبعده وأنها في ذاته تنقسم على الطبائع، أما قبل الأكل فكبير الجرم وحسن المنظر صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وطيب الريح، ولين اللمس اشتركت فيه الحواس الأربع: البصر، والذوق، والشم، وأما بعد الأكل فالالتذاذ بذوقها وطيب النكهة، ودباغ المعدة قوة الهضم، وأما انقسامها على الطبائع فقشرها حار يابس، ولحمها حار رطب، وحامضها بارد يابس، وبزرها حار مجفف، مع ما فيها من المنافع التي يذكرها الأطباء في المفردات، ثم قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح، لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح، فقد يذهب الريح من الجوهر ويبقى طعمه.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني، جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري قال: قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل؟ قال: (الحال المرتحل.) قلت: وما الحال المرتحل؟ قال: (فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره وقال: قال رسول الله 9: من أعطاه الله القرآن فرأى أن رجلا اعطي أفضل مما اعطي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا).

* الشرح:

قوله: (قال قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) أي الأعمال أفضل؟ قال: الحال المرتحل قلت: وما الحال المرتحل؟ قال: فتح القرآن وختمه) هذا مجمل فسره بقوله: (كلما جاء بأوله ارتحل في آخره). الحال بشد اللام النازل من حل المكان إذا نزل به والمرتحل بكسر الحاء المنتقل والإرتحال الإنتقال، وكان آخره ظرف للانتقال منه إلى أوله ولو كانت «في» بمعنى «من» لكان أظهر، ومثل هذا الحديث موجود في كتب العامة قال ابن الأثير: (هو الذي يختم القراءة بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوله شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه، ثم يفتح سيره) أي يبتدء به ولذلك قراء مكة إذا

ص:28

ختموا القرآن بالتلاوة ابتدأوا وقرأوا الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة إلى قوله (هم المفلحون) ثم يقطعون القراءة ويسمون فاعل ذلك الحال المرتحل، أي أنه ختم القرآن وابتدأ بأوله ولم يفصل بينهما بزمان.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن سليمان بن رشيد، عن أبيه، عن معاوية بن عمار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (من قرأ القرآن فهو غني ولا فقر بعده وإلا ما به غنى).

* الشرح:

قوله: (من قرأ القرآن فهو غني لا فقر بعده وإلا ما به غنى) لعل المراد من قرأ القرآن ودارسه فهو غني عن غيره، لاشتماله على أقسام العلوم وأصناف الحقائق كلها وليس بعده فقر يحوجه إلى الغير وإن لم يقرأ ما به غنى عن غيره والغير لا يغنيه منه شيئا بل ربما يضله وفي حديث العامة «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» قال ابن الأثير: أي من لم يستغن بالقرآن عن غيره، ويحتمل أن يراد بالغنى الغنى الأخروي بسبب تلك العبادة، وهي القراءة وما يتبعها من الأخلاق الصالحة والأعمال الفاضلة وما يترتب عليها من المثوبات الجزيلة والتفضلات الجميلة يؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الغنى والفقر يظهران بعد العرض» يعني بعد العرض على الله يوم القيامة.

* الأصل:

9 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن أبي نجران، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: يا معاشر قراء القرآن اتقوا الله عزوجل فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنكم مسؤولون، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي).

* الشرح:

قوله: (يا معاشر قراء القرآن، اتقوا الله عز وجل فيما حملكم من كتابه) أمر قارىء القرآن وحامله بالاجتناب عن عقوبة الله وسخطه في شأن القرآن بالانقياد لأوامره ونواهيه، والإتعاظ بنصائحه ومواعظه، والتسليم لأحكامه وحدوده والامتثال بها، والقيام على إجرائها على الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورغب فيه بأن كل أحد مسؤول يوم القيامة عما أمر به، فالنبي (صلى الله عليه وآله) مسؤول عن تبليغ الرسالة، وقد بلغها كما أمر، والقراء والعلماء مسؤولون عن حفظ ما بلغه (صلى الله عليه وآله) من القرآن والسنة.

ص:29

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول لرجل: (أتحب البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال:

ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد، فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع الله به من درجته فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثم يرقى. قال حفص: فما رأيت أحدا أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر (عليهما السلام) ولا أرجا الناس منه وكانت قراءته حزنا، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا.

* الشرح:

قوله: (فما رأيت أحد أشد خوفا على نفسه من موسى بن جعفر ولا أرجا الناس منه) يعرف خوف أحد ورجاؤه من علاماتها، وعلامة شدة الرجاء الإتيان عن كل ما يؤثم ويوجب البعد عن الحق، بل عن ترك خلاف الأولى، وعلامة شدة الخوف التحرز عن كل ما يؤثم ويوجب البعد عن الحق بل عن ترك خلاف الأولى وعلامة شدة الرجاء الإتيان بالطاعات والخيرات كلها والإقبال إليها والعكوف عليها مع غاية الخضوع والتضرع والابتهال.

(كانت قراءته حزنا) أي موجبا لحزن القلب ورقته، وقد يجعل الحزن كناية عن البكاء. (فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنسانا) لعل المراد أنه كان يبين الحروف، ولا ينثرها نثر الرمل، وهو معنى الترتيل كما سيجيء، وفيه إشعار بأنه لم يكن يقرأ بالصوت المشتمل على النغمة، وإن كان جائزا لما سيجيء.

* الأصل:

11 - علي. عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(حملة القرآن عرفاء أهل الجنة والمجتهدون قواد أهل الجنة والرسل سادة أهل الجنة).

* الشرح:

قوله: (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة) أي رؤساءهم جمع عريف وهو القيم بأمور القبيلة.

(والمجتهدون قواد أهل الجنة) القواد بالضم، والقادة جمع القائد، والمجتهدون هم الذين عملوا الكتاب والسنة النبوية ظاهرهما وباطنهما واستنبطوا ما هو المقصود منهما وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الراسخون في العلم، ثم العلماء التابعون لهم. (والرسل سادة أهل الجنة) لما أعطاهم الله تعالى من زيادة الفضل والشراف والكرامة حتى صاروا بذلك سادات أهل الجنة وسلاطينهم وغيرهم من المذكورين أمراء ورؤساء على تفاوت مراتبهم وتفاضل درجاتهم.

ص:30

باب من يتعلم القرآن بمشقة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بشمقة منه وقلة حفظ له أجران).

* الشرح:

قوله: (من شدد عليه في القرآن) أي من شدد عليه في تعلمه وتعليمه وتحفظه وقراءته (كان له أجران) وقد مر تفسيرهما.

(ومن يسر عليه كان مع الأولين) أي من يسر عليه في تعلمه وحفظه وتلاوته كان مع الأولين الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد سماعهم من غير توان ولا تراخ أو مع الأنبياء الأولين ويؤيده قوله (صلى الله عليه وآله): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وفيه دلالة على أن الميسر عليه أكثر أجرا من المشدد عليه.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن الصباح بن سيابة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من شدد عليه في القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين).

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد، عن سليم الفراء، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه).

* الشرح:

قوله: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه) الذي يسبق إلى الأفهام من تعلم القرآن وتعليمه غالبا تحفظه بدوام الدرس والتلاوة وحملها على إطلاقها بحيث يتناول ضبطه تحفظا وتلاوة وفهما وتفقها ودراية أنسب ويدل عليه بعض أخبارنا. وكان هذا هو الأغلب عليهم في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ويؤيده ما روى من طرق العامة عن ابن مسعود قال: «كان أقرأنا للقرآن أعلمنا به ما كان أحدنا يحفظ خمس آيات فيجاوزها حتى يعلم علمها».

ص:31

باب من حفظ القرآن ثم نسيه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، عن أبي إسحاق ثعلبة بن ميمون، عن يعقوب الأحمر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

جعلت فداك إني كنت قرأت القرآن ففلت مني فادع الله عزوجل أن يعلمنيه، قال: فكأنه فزع لذلك، فقال: (علمك الله هو وإيانا جميعا) قال: ونحن نحو من عشرة، ثم قال: (السورة تكون مع الرجل قد قرأها، ثم تركها فتأتيه يوم القيامة في أحسن صورة وتسلم عليه فيقول: من أنت فتقول أنا سورة كذا وكذا فلو أنك تمسكت بي وأخذت بي لأنزلتك هذه الدرجة فعليكم بالقرآن) ثم قال:

(إن من الناس من يقرء القرآن ليقال: فلان قارىء، ومنهم من يقرء القرآن ليطلب به الدنيا ولا خير في ذلك، ومنهم من يقرء القرآن لينتفع به في صلاته وليله ونهاره).

* الشرح:

قوله: (فقلت مني) من تفلت وأفلت وانفلت بمعنى. قوله (ثم قال إن من الناس من يقرء القرآن ليقال فلان قارىء ومنهم من يقرأ.. اه) دل على أن ثواب القراءة ليس إلا لمن قرأ القرآن اخلاصا لله تعالى ودل عليه أيضا أحاديث «إنما الأعمال بالنيات» ويؤيده ما رواه مسلم في حديث طويل «رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن أتى به يوم القيامة قال فما فملت فيها؟ قال تعلمت القرآن وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارىء، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقى في النار» قال الأبي قراءته ليتخلص به من الجهل من وجوه قراءته محبة لله تعالى، وقال ابن رشد الوعيد إنما هو لمن أصل قراءته الرياء فأما من كان أصل قراءته لله تعالى وعلى ذلك عقد فلا يضره الخطرات التي تقع بالقلب ولا يملك دفعها وإنما هي من الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد شيئا من ذلك فلا يكسله عن التمادي في فعل الخير وليدرأ الشيطان عن نفسه ما استطاع ويجرد النية لله تعالى.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عمير، عن أبي العزا، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من نسي سورة من القرآن مثلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة في الجنة فإذا رآها

ص:32

قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي؟ فيقول: أما تعرفني؟ أنا سورة كذا وكذا ولو لم تنسني رفعتك إلى هذا.

* الشرح:

قوله: (ولو لم تنسني لرفعتك إلى هذا) إشارة إلى الدرجة باعتبار المقام أو المنزل.

* الأصل:

3 - ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

إن علي دينا كثيرا وقد دخلني ما كان القرآن يفلت مني، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (القرآن، القرآن، إن الآية من القرآن والسورة لتجيىء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فيقول: لو حفظتني لبلغت بك هاهنا.

* الشرح:

قوله: (إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة.. اه) يحتمل أن يحمل هذا على ظاهره من أن الدرجات منازل بعضها فوق بعض، وهذه صفة منازل أهل الجنة كما ورد من طرقنا وطرق العامة، وفي بعض أخبارهم «أنهم يتراؤون كالكوكب الدري» ويحتمل أن يريد به كثرة النعيم وعظمة أهل الإحسان ورفعة قدر الجزاء مما لم يخطر على قلب بشر، وإن أنواع النعيم يتباعد ما بينهما في الفضل تباعد ما بين السماء والأرض.

* الأصل:

4 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا، عن محسن بن أحمد، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن الرجل إذا كان يعلم السورة ثم نسيها، أو تركها ودخل الجنة أشرفت عليه من فوق في أحسن صورة فتقول: تعرفني؟ فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا وكذا لم تعمل بي وتركتني أما والله لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة وأشارت بيدها إلى فوقها).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي بن عبد الله، عن العباس بن عامر، عن الحجاج الخشاب، عن أبي كهمس الهيثم بن عبيد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قرأ القرآن ثم نسيه - فرددت عليه ثلاثا - أعليه فيه حرج؟ قال: (لا).

* الشرح:

قوله: (فرددت عليه ثلاثا أعليه فيه حرج؟ قال: (لا) يعني ليس فيه أثم، ولا ينافي

ص:33

ذلك فوات أجر عظيم عنه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن يعقوب الأحمر، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إنه أصابتني هموم وأشياء لم يبق شيء من الخير إلا وقد تفلت مني منه طائفة حتى القرآن لقد تفلت مني طائفة منه، قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثم قال: (إن الرجل لينسى السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات فنقول: السلام عليك، فيقول: عليك السلام من أنت؟ فتقول: أنا سورة كذا وكذا ضيعتني وتركتني أما لو تمسكت بي بلغت بك هذه الدرجة) ثم أشار بأصبعه، ثم قال: (عليكم بالقرآن فتعلموه فإن من الناس من يتعلم القرآن ليقال: فلان قارىء، ومنهم من يتعلمه فيطلب به الصوت، فيقال: فلان حسن الصوت، وليس في ذلك خير، ومنهم من يتعلمه فيقوم به في ليله ونهاره ولا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه)

* الشرح:

قوله: (ثم أشار بأصبعه) ضمير المرفوع والمجرور راجعان إلى السورة باعتبار القرآن، ويحتمل عودهما إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، ويؤيد الأول قوله سابقا، وأشارت بيدها إلى فوقها.

ص:34

باب في قراءته

* الأصل:

1 - علي، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية).

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، عن حفص بن غياث، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: (آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها).

* الشرح:

قوله (آيات القرآن خزائن.. الخ) إذ فيها أنواع من جواهر المعاني والأسرار والحقائق وأصناف من فرائد اللطائف والفوائد والدقائق ولذلك كان القرآن مع قلة لفظه وصغر حجمه مشتملا على جميع ما كان وما هو كائن، وما يكون إلى يوم القيامة. وفيه.

ص:35

باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الفضيل ابن عثمان، عن ليث بن أبي سليم، رفعه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورا كما فعلت اليهود والنصارى، صلوا في الكنائس والبيع وعطلو بيوتهم، فإن البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره واتسع أهله، وأضاء لأهل السماء كما تضييء نجوم السماء لأهل الدنيا).

* الشرح:

قوله: (نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن) العبادة مثل التلاوة والصلاة والدعاء ونحوها بحسب الحقيقة نور عند ذوي البصيرة الكاملة، وإنما اختفى نورانيتها عن الأكثر في هذه النشأة لمصالح لا يعلمها إلا هو، فقوله: (نوروا بيوتكم) على حقيقته، والظاهر من التلاوة حقيقتها.

ويمكن أن يراد بها الصلاة من باب تسمية الشيء باسم أشرف أجزائه ليكمل التناسب مع قوله: (كما فعلت اليهود والنصارى صلوا في الكنائس.. اه) ففيه - حينئذ - حث على فعل الصلاة في البيوت، ولا يبعد حملها على النافلة فإن السر فيها أفضل بخلاف المكتوبة، فإنها في المسجد أفضل كما دل على هذا التفصيل بعض الروايات، والحث على فعل بعض الصلاة في البيت، وقع من طرق العامة أيضا روى مسلم بإسناده عن ابن عمر، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا»، وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا»، وقد خص أكثرهم الصلاة بالنافلة لما رووه من حديث «صلاة أحدكم في البيت أفضل إلا المكتوبة»، وقال بعضهم:

المراد بها الفرض، وإنما أمر بفعلها في البيت ليقتدى بهم من لا يخرج بهم من النساء والعبيد والمرضى، وقال: والمتخلف عن الجماعة للصلاة في جماعة دونها ليس بمتخلف.

(ولا تتخذوها قبورا كما فعلت اليهود والنصارى.. اه) يعني لا تتخذوها مهجورة من التلاوة وهو من التمثيل البديع، لأنه شبه النائم بالميت وشبه البيت الذي لا تلاوة فيه بالقبر الذي لا تتأتى العبادة من ساكنه، لأن العمل إنما يكون من الحي ويمكن أن يكون تشبيه البيت بالقبر في معنى الظلمة، بل هو الظاهر بالنظر إلى قوله: «نوروا بيوتكم» إلى قوله فيما بعد: «وأضاء».

ص:36

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن يتراءاه أهل السماء كما يتراءا أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء)،

* الشرح:

قوله: (قال: إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن) ليلا ونهارا.

(يتراءاه أهل السماء) أي ينظرون ويرون، كذا في النهاية أو المراد أن بعضهم يريه بعضا كما يتراءاه أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء تشبيه، معقول بمحسوس لقصد الإيضاح، وفي النهاية الكوكب الدري الشديد الإنارة كأنه نسب إلى الدر تشبيها بصفاته، وقال الفراء: الكوكب الدري عند العرب هو العظيم المقدر، وقيل هو: أحد الكواكب الخمسة السيارة.

* الأصل:

3 - محمد، عن أحمد، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضيىء لأهل السماء كما يضيىء الكواكب لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن، ولا يذكر الله عزوجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين.

ص:37

باب ثواب قراءة القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن معاذ بن مسلم، عن عبد الله ابن سليمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ القرآن قائما في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأ في صلاته جالسا كتب الله له بكل حرف خمسين حسنة، ومن قرأ في غير صلاته كتب الله له بكل حرف عشر حسنات). قال ابن محبوب: وقد سمعته عن معاذ على نحو مما رواه ابن سنان.

* الشرح:

قوله: (كتب الله له بكل حرف مائة حسنة.. اه) أريد به الحرف التهجي دون الكلمة، والآية كما سيجيء.

* الأصل:

2 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن فتكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحي عنه عشر سيئات).

* الشرح:

قوله: (فيكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات، ويمحي عنه عشر سيئات) هذا المجموع أكثر من وجه مما ذكر من أنه يكتب له بكل حرف عشر حسنات، وكتابة الكل من باب التفضل، وللتفضل مراتب.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم أو غيره، عن سيف بن عميرة، عن رجل، عن جابر، عن مسافر، عن بشر بن غال الأسدي، عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: (من قرأ آية من كتاب الله عزوجل في صلاته قائما يكتب له بكل حرف مائة حسنة فإذا قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرف عشر حسنات وإن استمع القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهارا صلت عليه الحفظة

ص:38

حتى يسمي، وكانت له دعوة مجابة، وكان خيرا له مما بين السماء إلى الأرض). قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأ؟ قال: (يا أخا بني أسد، إن الله جواد ماجد كريم، إذا قرأ ما معه أعطاء الله ذلك.

* الشرح:

قوله (وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح.. اه) الظاهر من ختمه ليلا قراءة كله فيه مع احتمال أن يكون اتمامه فيه، والظاهر من الملائكة العموم مع احتمال إرادة الموكلين على أمور بني آدم أو الحفظة، وذكر الحفظ في آخر الحديث لا يؤيد الأخير، لأن الختم في الليل أشق فلا يبعد أن يكون أجره أكمل.

قوله: (فمن لم يقرأ) هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها «فمن لم يقدر أن يقرأ» وهو بالجواب أنسب.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن النضر بن سعيد، عن خالد بن ماد القلانسي، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من ختم القرآن بمكة من جمعة إلى جمعة أو أقل من ذلك أو أكثر وختمه في يوم جمعة كتب له الاجر والحسنات من أول جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها، وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك).

* الشرح:

قوله: (عن نضر بن سعيد) هو غير مذكور في رجال الوسيط للاسترآبادي وفي بعض النسخ «عن النضر بن سويد» ويؤيده أن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب يروي عنه، وفي بعضها عن النضر بن شعيب، والمؤيد أنه يروي عن خالد بن ماد، وإنه في هذا السند بعينه في فهرست الشيخ وأسانيد الفقيه.

(ومن ختم القرآن بمكة) وإن كان في غير المسجد (من جمعة إلى جمعة) بأن يبتدء في جمعة ويختم في جمعة بعدها (أو أقل من ذلك) بأن يبتدأ في الأربعاء مثلا ويختم في جمعة بعدها (أو أكثر) بأن يبتدء في جمعة مثلا ويختم في جمعة ثالثة فقوله: (وختمه في يوم جمعة) تفسير للختم في الجميع (كتب له من الأجر والحسنات من أول جمعة كانت في الدنيا إلى آخر جمعة تكون فيها) لعل المراد أنه كتب له أجر ختم كل جمعة في الدنيا من أولها إلى آخرها، ويحتمل أجر كل عبادة وقعت في كل جمعة في الدنيا، واشتراك الفروض الثلاثة في هذا الأجر لا

ص:39

يوجب التساوي من جميع الوجوه لجواز التفاوت بينهما في الفضل باعتبار قلة الزمان وكثرته وجودة التدبر والترتيل وعدمها.

(وإن ختمه في سائر الأيام فكذلك) فإن ختمه في يوم الاثنين مثلا كتب له من الأجر والحسنات من أول يوم اثنين في الدنيا إلى آخر يوم اثنين فيها.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن محمد بن مروان، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر، والقنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب، والمثال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل احد، وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض).

* الشرح:

قوله: (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين) عدم كتب الأول من الغافلين فضيلة شريفة له، ولا يستلزم ذلك من كتبه من الذاكرين على أنه لو استلزم لأمكن أن يكون المراد الذاكرين في الجملة، والمراد بالذاكرين في الثاني الذاكرون كثيرا.

(ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين) هم المطيعون لله والقائمون بوظائف طاعته، من القنوت بمعنى الطاعة والقيام (ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين) هم الذين قاموا بوظائف العبادات القلبية والبدنية مع التذلل وسكون القلب إلى الله عز وجل.

(ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين) هم الذين ظفروا بالطاعات والخيرات ونجوا من المهلكات والعقوبات.

(ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين) هم الذين بذلوا الوسع في أمر الدين وطلب اليقين وإقامة الشرع وحفظه، والاجتهاد افتعال من الجهد وهو الطاقة.

(ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر) أي من حسنة (القنطار خمسة عشرة ألف مثقال من الذهب والمثقال أربعة وعشرون قيراطا) فالقنطار ثلاثمائة ألف قيراط وستون ألف قيراط يحصل

ص:40

ذلك بضرب خمسة عشر ألف في أربعة وعشرين، والمقصود من ذكر هذا العدد أن له حسنات بقدره وسماها قراريط باعتبار أن الأعمال توزن (أصغرها بقدر جبل احد وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض) هذا التفاوت مع أن القراريط متساوية في الوزن والمقدار إما باعتبار النمو فبعضها ينمو حتى يبلغ وزنه أو مقداره جبل احد، وبعضها ينمو حتى يبلغ وزنه أو مقداره ما بين السماء والأرض، على حسب تفاوت الأحوال والأوقات، وأما باعتبار أن القيراط المستعمل في بيان كمية الثواب غير ما هو المتعارف عند الناس لغة وعرفا وتساوي الأوزان والمقدار معتبر في هذا دون الأول، وهذا الوجهان ذكرهما صاحب كتاب إكمال الإكمال لشرح مسلم، ثم قال: وكان صاحب الصحاح أشار إلى الوجه الأخير بقوله، والقيراط نصف دانق، وأما القيراط الذي جاء في الحديث فقد جاء تفسيره فيه أنه مثل جبل احد.

أقول: وبهذا يمكن أن يوجه أيضا قوله (عليه السلام): «والمثقال أربعة وعشرون قيراطا» مع أن المعروف أنه عشرون قيراطا. واعلم أن للقنطار تفسيرا آخر سيجيء بينهما تخالف، ويمكن دفعه كما سنشير إليه.

* الأصل:

6 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن علي بن حديد، عن منصور، عن محمد بن بشير، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: وقد روي هذا الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من استمع حرفا من كتاب الله عزوجل من غير قراءة كتب الله له حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة ومن قرأ نظرا من غير صوت كتب الله بكل حرف حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة ومن تعلم منه حرفا ظاهرا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات). قال: (لا أقول بكل آية ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما) قال: (ومن قرأ حرفا ظاهرا وهو جالس في صلاته كتب الله له خمسين حسنة، ومحا عنه خمسين سيئة، ورفع له خمسين درجة، ومن قرأ حرفا وهو قائم في صلاته كتب الله له بكل حرف مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، ورفع له مائة درجة، ومن ختمه كان دعوة مستجابة مؤخرة أو معجلة. قال: قلت: جعلت فداك ختمه كله؟ قال: (ختمه كله).

* الشرح:

قوله: (وقد روى هذا الحديث) الذي يذكره، وروي على البناء للمفعول، والظاهر هو أنه من كلام المصنف قال في بعض النسخ قال وقد روي والقائل أحد من الرواة.

ص:41

(من استمع حرفا من كتاب الله عز وجل من غير قراءة) قوله: من غير قراءة تقييد إذ لو استمع وقرأ كان له أجر الاستماع والقراءة أو لتأكيد محتمل.

(ومن قرأ نظرا غير صلاة... اه) أي نظرا إلى القرآن بالعين أو المراد بالنظر التدبر والتفكر فيه، وفي بعض النسخ «من غير صوت».

(ومن تعلم حرفا ظاهرا.. اه) إما تميز للتعلم أو صفة ل (حرفا)، والمراد به على الأول ظاهر القلب، وعلى الثاني الحرف الملفوظ عند القراءة دون المستور، والله أعلم.

(قال: لا أقول بكل آية ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما) لما كان الحرف في اللغة تطلق على حرف التهجي وعلى الطرف، والطرف يصدق على الجملة والآية أيضا، لأن كلا منهما في طرف من الأخرى بين أن المراد هو الأول.

(ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخرة أو معجلة) تفصيل للدعوة بكونها متعلقة بأمر الآخرة أو بأمر الدنيا أو للإستجابة بأنها متحققة قطعا بالاستقبال أو بالفعل.

* الأصل:

7 - منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعت أبي (عليه السلام) يقول: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ختم القرآن إلى حيث يعلم).

* الشرح:

قوله: (ختم القرآن إلى حيث يعلم) أي يعلم القارئ كلا أو بعضا، فإذا علم بعضه وقرأه ولم يقدر على غيره فله أجر ختم القرآن كله يدل عليه رواية بشر بن غالب الأسدي المذكورة في هذا الباب، وفي بعض النسخ «ختم القرآن إلى ربي حيث يعلم» لعل المراد به ما ذكرناه، وفي بعضها ربي بدل إلى ربي، والظاهر أن ضمير يعلم - حينئذ - راجع إلى الرب، ولعل المراد أن بجميع معلوماته عز وجل في القرآن، لأن معلومه شيء وكل شيء في القرآن، فمن قرأ كله فقد أحاط بجميع معلوماته تفصيلا وإجمالا، وفيه ترغيب في ختمه كله، والله أعلم.

ص:42

باب قراءة القرآن في المصحف

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن يعقوب بن يزيد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(من قرأ القرآن في المصحف متع ببصره، وخفف عن والديه وإن كانا كافرين).

* الأصل:

2 - عنه، عن علي بن الحسين بن الحسن الضرير، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إنه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عزوجل به الشياطين).

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(ثلاثة يشكون إلى الله عزوجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه).

* الأصل:

4 - علي بن محمد، عن ابن جمهور، عن محمد بن عمر بن مسعدة، عن الحسن بن راشد عن جده، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قراءة القرآن في المصحف تخفف العذاب عن الوالدين ولو كانا كافرين).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن معاوية بن وهب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرؤه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: (بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل، أما علمت أن النظر في المصحف عبادة).

* الشرح:

قوله (أما علمت أن النظر في المصحف عبادة) فالقاريء في المصحف له أجران: أحدهما للنظر فيه، والآخر للقراءة.

ص:43

باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (ورتل القرآن ترتيلا) قال: (قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: بينه تبيانا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة).

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (ورتل القرآن ترتيلا) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بينه تبيانا) أشار إلى أن الترتيل أداء الحروف عن مخارجها وإظهارها متميزة بحيث يقرع السمع ويمكن عدها.

(ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل)، هذ القرآن هذا أسرع في قراءته كما يسرع في قراءة الشعر، والهذ سرعة القطع ونصبه على المصدر، واعلم أنه لا خلاف بين العلماء في أن الهذ المفضى إلى لف الكلمات وعدم إقامة الحروف لا يجوز لأنه لحن، وأما بعد إقامتها فالأفضل عند علمائنا وعند أكثر العامة الترسيل والترتيل، لأنه من تحسين القراءة المأمور به في الآية، ولأنه المستفيض من كلام أهل البيت (عليهم السلام)، ولأنه مظنة التدبر والوقوف على حدوده، ورجح بعض العامة الهذ تكثيرا للأجر بعدد الكلمات، وقال مالك: من الناس من إذا هذ خف عليه، وإذا رتل خطأ، ومنهم من لا يحسن الهذ وكل واسع ولا يخفى أن من اختار الهذ لاحظ له إلا التلاوة، وأما من وفقه الله تعالى لتلاوته بتفكر وتدبر وتفهم لمعانيه واستنباط لأحكامه فلا مرية أن تلاوته وإن قلت أفضل من ختمات لا تدبر فيها.

(ولكن افزعوا قلوبكم القاسية) الإفزاع الإخافة يعني أخيفوا قلوبكم القاسية الغليظة الغافلة بالتدبر فيه والتفكر في أوامره ونواهيه وزواجره ووعده ووعيده وما نطق به من إهلاك الأمم الماضية بالمخالفة، ومن البين أن ذلك لا يحصل بدون الترتيل، وفي بعض النسخ اقرعوا بالقاف في بعضها افرغوا بالغين المعجمة.

* الأصل:

ص:44

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن نزل بالحزن فاقرؤوه بالحزن).

* الشرح:

قوله: (إن القرآن نزل بالحزن) لاشتماله على ما يوجب الحزن من أحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب وأحوال الأمم الماضية وإهلاكهم ومسخهم وغير ذلك مما يتطاير عند سماعه قلوب أولي الألباب، والمراد بالحزن إما ضد السرور أو رقة القلب.

وقوله: (فاقرؤوه بالحزن) معناه اقرؤوه بصوت يوجب الحزن، وإنما أمر بذلك لأنه يوجب للنفس خشية وخضوعا وميلا إلى الآخرة ويؤثر في قلوب السامعين.

* الأصل:

3 - علي بن محمد، عن إبراهيم الأحمر، عن عبد الله بن حماد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجئ من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، وقلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم).

* الشرح:

قوله: (اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها) اللحن هنا اللغة يعني اقرؤوا القرآن بلغات العرب بأداء الحروف وإظهارها وحفظ الوقوف رعاية الحركات والسكنات وبصوت مناسبة لأصواتهم.

(وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر) اللحون جمع اللحن كالألحان، والمراد هذا التطريب في القراءة والخطأ فيها.

(فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء) قيل: الترجيع ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، وقيل: هو يتفاوت بضروب الحركات في الصوت، وقيل: هو مد الصوت في القراءة (والنوح والرهانية) مثل ما يفعله بعض المتصوفة.

(لا يجوز تراقيهم) أي لا يجوز القرآن حناجرهم ولا يصل إلى قلوبهم، وفي المغرب التراقي جمع الترقوة وهي عظام وصل بين نقرة النحر والعاتق من الجانبين، ويقال لها بالفارسية: چنبر گردن (قلوبهم مقلوبة) كالكوز المقلوب لا يستقر فيها شيء.

(وقلوب من يعجبه شأنهم) أيضا مقلوبة، واعلم أن قراءة القرآن بإخراج الحروف من مواضعها

ص:45

واعتبار صفاتها بدون تلبسها بصوت حسن حسن ومع تلبسها به أحسن بما ستعرفه وستعرف أيضا مفهومه وقراءته بالتغني به حرام عندنا، وعند أكثر العامة وعرفه جماعة من أصحابنا بأنه الترجيع المطرب فلا يتحقق مهيته بدون الترجيع والإطراب ولا يكفي أحدهما، ورده بعضهم إلى العرف فما سماه أهل العرف غناء حرم طرب أو لم يطرب، ولا يخلو من قوة لأن الشائع في مثله مما لا نعرف مغزاه لغة ولم يعرف مقصوده شرعا هو الرجوع إلى العرف.

وقال بعض العامة: قراءة القرآن بالتغني قراءته بالألحان، وهي قراءته بطريق أهل علم الموسيقى في الألحان، أي في النغم والأوزان حسبما رتبوه في صنعة الغناء، وسمع عارفها قاريا يقرأ فاستحسن قراءته، وقال أنه يقرأ من نغمة كذا، وقيل: هي قراءته بالتطريب والترجيع وتحسين الصوت، ثم قال: واختلفوا في قراءته بالألحان، فقال الشافعي مرة لا بأس به، ومرة مكروه، وقال بعض أهل مذهبه: مراده أنه إن أفرط في المد واشباع الحركة حتى تولد عن الفتحة ألف، وعن الضمة واو وعن الكسرة ياء أو ادغم في غير موضع الإدغام كره وإلا جاز، وقال بعض آخر منهم إذا انتهى إلى ذلك فهو حرام يفسق فاعله ويعزر ويأثم المستمع، وهو مراد الشافعي بالكراهة، وكيف يؤخذ في كلام الله تعالى بأخذ أهل الألحان في النشد والغزل. انتهى.

أقول: تفسير الغناء بما مر وإن لم يثبت من جهة الشرع لكن الاحتياط والتقوى يوجبان الاحتراز عنه عما دون ذلك، وإما قراءته بالترجيع فظاهر بعض الروايات الآتية تشعر برجحانها، حيث وقع الأمر به، وظاهر هذه الرواية يشعر بأنه أعم من الغناء، فلا يكون راجحا على الإطلاق، بل هو راجح في فرد وحرام في فرد آخر، فلابد للعامل به من التميز بين الفردين، وهو في غاية الإشكال، فالأولى بل الواجب على غير المميز تركه.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن حسن بن شمون قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ذكرت الصوت عنده فقال: (إن علي بن الحسين 8 كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك لما احتمله الناس من حسنه). قلت: ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون).

* الشرح:

قوله: (إن علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن فربما مر به المار فصعق) أي غشي عليه أو

ص:46

صاح صيحة شديدا، وسر ذلك أن الأصوات الطيبة والأحان الموزونة والنغمات المناسبة لها مدخلا عظيما في نشاط النفس وفرح الروح، ولها تأثيرا عظيما، فمنها ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما يندم، ومنها ما يضحك، ومنها ما يبكي، ومنها ما يصعق، ومنها ما يزعج القلب إلى الحق ويحركه من بلاد الغربة إلى الوطن الأصلي، ويختلف الإنزعاج بالنسبة إلى الأشخاص بحسب قوة الاستعداد وضعفه، فلا استحالة عقلا أن يوجب الصعقة وغيرها، وقد يقع مثل ذلك عند المصائب الشديدة، وأية مصيبة أعظم من خروج الروح من موطنها الأصلي، وفراقها من الكرامات الأبدية، واحتباسها في سجن هذه الدار والبلية.

(من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك) أي من حسن صوته (لما احتمله الناس من حسنه) دل هذا الخبر على جواز تحسين الصوت بالقراءة، ودلت الأخبار الآتية على رجحانه، وكذا دل عليه أيضا، ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» قال بعض العامة: معنى ما أذن ما استمع، والمراد بالشيء المسموع والمضاف مقدر قبل نبي أي لصوت نبي. والحاصل أنه ما استمع الله لصوت كما استمع لصوت نبي، والمراد بالاستماع إجزال ثواب القارئ أو الرضا به، ومعنى قوله: «يتغنى بالقرآن» عند الشافعية، والأكثر يحسن الصوت بالقرآن، وعند ابن عباس يستغني به عن الناس، وقال مرة يستغني به عن غيره من الكتب، وعن سفيان بن عيينة يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت فعلى أن المراد به تحسين الصوت، فهو من الغناء المحمود، وكل من رفع صوته ومده ووالى به فهو عند العرب غناء، وعلى أنه من الاستغناء فهو من الغنى ضد الفقر وهو مقصور، والمراد بتحسين الصوت تزيينه بالترتيل والجهر والتحزين والترقيق فهو مستجب ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم انتهى، فقد ظهر مما ذكرنا أن أخبار العامة والخاصة متفقة في الدلالة على رجحان تحسين الصوت بالقرآن وعلى حسن صوت النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن لابد من ترك الإفراط فيه لئلا يبلغ حد الإلحان والغناء ولا يمكن ذلك إلا للعارف بوجوه التحسين.

(قلت ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن) أي ولم يكن من باب الاستفهام ولعل غرضه من هذا السؤال أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أحسن صوتا منه (عليه السلام) وكان يقرء ويرفع صوته بالقراءة ويسمعه الصحابة ولم يصعق أحد من حسن صوته فكيف لحسن الصوت نحو هذا التأثير؟ (فقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون) فلم يظهر من حسن صوته ما

ص:47

يصعقهم ولذلك أيضا ما كلم الناس قط إلا بقدر عقولهم وهذا الجواب أحسن مما قاله بعض العامة من أن الغشى لضعف العقل عن تحمل ما ورد عليه وعقول الصحابة لما كانت أكمل لم يطرء عليهم الغشى، لأن كون عقول كلهم أكمل من عقول غيرهم ممنوع.

* الأصل:

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سليم الفراء، عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أعرب القرآن فإنه عربي.

* الشرح:

قوله (اعرب القرآن فإن عربي) إما من أعرب كلامه إذا ظهر إعرابه ولم يلحن فيها، أو من أعرب بكلامه إذا أفصح به ولم يلحن في حروفه ومواده وهذا مثل ما سبق من قوله (عليه السلام) «واقرؤوا القرآن بألحان العرب».

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل أوحى إلى موسى بن عمران 7: إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين).

* الشرح:

قوله (وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين) الحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزين وحزن، فوصف الصوت بالحزن على سبيل المبالغة، لأن الحزين في الحقيقة صاحب الصوت، ويحتمل أن يكون الصوت مضافا إليه بتقدير اللام، وعلى التقديرين يحتمل أن يجعل الحزن كناية عن البكاء، وعلى التقدير الأول يمكن أن يجعل بمعنى الرقة، قال في الصحاح:

فلان يقرء التحزين إذا رق صوته، فالوصف - حينئذ - على سبيل الحقيقة.

* الأصل:

7 - عنه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لم يعط امتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ).

* الشرح:

قوله (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يعط أمتي أقل من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ) الجمال بالفتح حسن الخلق والخلق والحفظ قلة الغفلة عن القرآن أو عن الحق مطلقا، ولعل المراد

ص:48

أن هذه الخصال الشريفة أقل ما أعطيت الأمة المجيبة من الخصال العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، والله يعلم.

* الأصل:

8 - عنه، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن من أجمل الجمال الشعر الحسن، ونغمة الصوت الحسن).

* الشرح:

قوله (من أجمل الجمال الشعر الحسن للمرء) الظاهر فتح الشين والكسر محتمل لما في بعض الروايات (أن من طيب عيش المرأة شعره الذي يتغنى به). والمراد بحسنه اشتماله على المرغبات في أمر الآخرة أو على مدح أهل الذكر.

(ونغمة الصوت الحسن) في القراءة، والنغم محركة ويسكن الكلام الخفي الواحدة بهاء، يقال: فلان حسن النغمة، إذا كان حسن الصوت في القراءة.

* الأصل:

9 - عنه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن).

* الشرح:

(وحلية القرآن الصوت الحسن) روى الصدوق في العيون بإسناده، عن الرضا (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، ويزيد في الخلق ما يشاء».

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن موسى بن عمر الصيقل، عن محمد ابن عيسى، عن السكوني، عن علي بن إسماعيل الميثمي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما بعث الله عزوجل نبيا إلا حسن الصوت).

* الأصل:

11 - سهل [بن زياد] عن الحجال، عن علي بن عقبة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه، يسمعون قراءته، وكان أبو جعفر (عليه السلام) أحسن الناس صوتا).

ص:49

* الشرح:

قوله: (كان علي بن الحسين (عليهم السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان السقاؤون يمرون، فيقفون ببابه يسمعون قراءته) فيه حث على تحسين الصوت بالقرآن، وعلى الإصغاء إلى سماع الصوت الحسن به، فإن سماعه يزيد حسنا في العقائد، ويوجب الخشوع، ورقة القلب وميله إلى الآخرة والخيرات.

* الأصل:

12 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الأسدي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان بن عثمان، عن محمد بن الفضيل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يكره أن يقرأ (قل هو الله أحد) بنفس واحد).

* الشرح:

قوله: (يكره أن يقرأ (قل هو الله أحد) بنفس واحد) لما فيه من ترك التعظيم والتفكر فيما فيه من الأسرار الغريبة الإلهية.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان، فقال: إنما ترائي بهذا أهلك والناس قال: (يا أبا محمد اقرأ قراءة ما بين قراءتين تسمع أهلك، ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله عزوجل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا).

* الشرح:

قوله: (ورجع بالقرآن صوتك) دل على استحباب ترجيع الصوت بالقرآن، كما دل عليه ما رواه مسلم عن عبد الله بن مغفل «إن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأ عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته»، وقال في رواية أخرى «على ناقته». ثم قال معاوية فقرأ ابن مغفل، ورجع حكاية لقراءته، ولولا أني أخاف أن يجتمع الناس لحكيت قراءته.

وفي الصحاح: ترجيع الصوت: ترديده في الحلق كقراءة أصحاب الألحان، وقال في المغرب رجعه ردده، ومنه الترجيع في الأذان، لأنه يأتي الشهادتين خافضا بهما صوته، ثم يرجعهما رافعا بهما صوته وفسره بذلك أيضا الطبري من علماء العامة ونقل ذلك البخاري أيضا، وأنه قال في صفته «آ» ثلاث مرات، وقال ابن الأثير في النهاية: قيل: هو تقارب ضروب الحركات في الصوت،

ص:50

وقد حكى ابن مغفل ترجيعه بمد الصوت في القراءة نحو اآالآآ لاه، وقال ابن حجر هو تقارب ضروب الحركات في القراءة وأصله الترديد وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسر في حديث ابن مغفل «اآا» بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى. وأنكر ترجيع القرآن جماعة من العامة وقالوا: ترجيعه (صلى الله عليه وآله) محمول على إشباع المد أو على حصوله بهز الناقة وتحركها وتنزيها، ولذلك ورد في حديث آخر أنه كان لا يرجع ووجهه أنه لم يكن - حينئذ - راكبا، فلم يحدث في قراءته ترجيع.

أقول: للترجيع مراتب بعضها الغناء، كما دل عليه قوله (عليه السلام) في الحديث السابق «سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء» فمن عرف مراتبه وميز بينها وعرف مرتبة الغناء، فالظاهر أنه يجوز له ما دون هذه المرتبة ولكن التميز بينها مشكل جدا، والترجيع أكثر ما يبلغ الغناء كما هو المتعارف من قراءة أهل الحزب، ولا سيما عند إرادة الفراغ لما فيها من الخروج عن التلاوة، فالاحتياط تركه إلا ما علم قطعا أنه لا يضر بالتلاوة.

ص:51

باب فيمن يظهر الغشية عند [قراءة] القرآن

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن إسحاق الضبي: عن أبي عمران الأرمني، عن عبد الله بن الحكم، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: إن قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أوحد ثوابه صعق أحدهم حتى يرى أن أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك؟ فقال: (سبحان الله ذاك من الشيطان ما بهذا نعتوا، إنما هو اللين والرقة والدمعة والوجل).

أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان عن أبي عمران الأرمني، عن عبد الله بن الحكم، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.

* الشرح:

قوله: (إن قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن) أي قرؤوها (أو حدثوا به) أي تعريفه وبيانه وهو عطف على شيئا وكونه ماضيا مجهولا لا معطوفا على ذكروا بعيد جدا.

(صعق أحدهم) أي غشي عليه (حتى يرى أن أحدهم) يرى مبني للمفعول من أراه أرائة أي يظن أو من الرؤية، وأحدهم من باب وضع الظاهر موضع الضمير.

(لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك) لزوال العقل والحس (فقال: سبحان الله) استعجاب أو استبعاد مما ذكر أو تنزيه لله تعالى أن يكون ذلك من قبله وهو أنسب بقوله:

(ذاك من الشيطان) لتصرفه فيه حتى جعله على هذه الحالة أو لإغوائه حتى يتصنع ذلك لإظهار كماله عند الناس (ما بهذا نعتوا) أي ما بهذا وصف الذين لهم أهلية التأثر من القرآن (إنما هو) أي نعتهم ووصفهم:

(اللين والرقة والدمعة والوجل) قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذ تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) وقال: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم).. إلى قوله (ويخرون للأذقان ويبكون ويزيدهم خشوعا) وهذه الأوصاف وهي الوجل وزيادة الإيمان والخشوع والبكاء والخرور للأذقان لا تنفك عن اللين والرقة والدمعة؟ والظاهر أنه لا منافاة بين هذا الخبر وما مر من خبر السكوني الدال على صعق المار من حسن صوت علي بن الحسين (عليهما السلام) بالقراءة لجواز أن يكون هذا التأثير لصوت الإمام دون غيره، ويؤيده ما مر في ذلك الخبر من أن الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس من حسنه على أنه يمكن أن يكون المراد بهذا الخبر هو الحث على ضبط النفس حتى لا تبلغ تلك الحالة الموجبة لزوال العقل

ص:52

والحرمان عن ثواب سماع الأسرار القرآنية.

باب في كم يقرأ القرآن ويختم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن الحسين بن المختار، عن محمد بن عبد الله قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أقرء القرآن في ليلة؟ قال: (لا يعجبي أن تقرأه في أقل من شهر).

* الشرح:

قوله: (لا تعجبني أن تقرأه في أقل من شهر) والأدب أن تجزأه ثلاثين جزءا، وتقرء كل يوم وليلة جزء واحد بترتيل، وترسل، وتفكر في معانيه الظاهرة والباطنة، ويقف عند آية فيها ذكر الجنة، وآية فيها ذكر النار، وتطلب الأولى وما يوجب الدخول فيها، وتتعوذ من الثانية وما يوجب الوصول إليها مع تضرع، وخشوع، وبكاء على قدر الإمكان.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه، عن علي بن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير: جعلت فداك أقرء القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال:

(لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: ها وأشار بيده، ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقا وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور وكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل. إن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها واسأل الله عزوجل الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار.

* الشرح:

قوله (قال ففي ثلاث قالها وأشار بيده) «هاء» كلمة تنبيه للمخاطب ينبه على ما يساق إليه من الكلام كذا في النهاية وكأنه (عليه السلام) أشار بيده إلى الرخصة ويؤيده حديث آخر الباب والإشارة إلى السكوت محتملة والرخصة حينئذ مستفاد من قوله:

(ثم قال يا أبا محمد ان لرمضان حقا وحرمة) التنكير للتعظيم أو للتكثير (ولا يشبهه شيء عمن الشهور) لكثرة العبادة المطلوب فيه ومن جملتها تلاوة القرآن فتلاوته في كل ثلاث حسن وفي كل شهر أو أقل منه أو أكثر من ثلاث أحسن كما أشار بقوله:

(وكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل) لرعاية الترتيل والتفكر فيه

ص:53

كما أشار إليه بقوله (إن القرآن لا يقرأ هذرمة) هي السرعة في الكلام والمشي ويقال للتخليط هذرمة كذا في النهاية (ولكن يرتل ترتيلا) فيه آداب التلاوة في الصلاة وغيرها ومثله موجود من طرق العامة أيضا، روى مسلم عن حذيفة قال «قرأ النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلاة مترسلا وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ» قال المازري: مذهبنا استحباب هذه الآداب في غير الصلاة وفي الصلاة للإمام والمأموم والفذ.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن يعقوب بن شعيب عن حسين بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: في كم أقرء القرآن؟ فقال: (إقرأه أخماسا، إقرأه أسباعا، أما إن عندي مصحفا مجزى أربعة عشر جزءا).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: إن أبي سأل جدك عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدك: (في كل ليلة)، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدك: في شهر رمضان، فقال له أبي: نعم ما استطعت فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثم ختمته بعد أبي فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ختمة ولعلي (عليه السلام) اخرى ولفاطمة (عليها السلام) اخرى، ثم للأئمة (عليهم السلام) حتى انتهيت إليك فصيرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال فأي شيء لي بذلك؟ قال: (لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة). قلت: الله أكبر [ف] لي بذلك؟! قال: (نعم). ثلاث مرات.

* الشرح:

قوله: (عن علي بن المغيرة عن أبي الحسن (عليه السلام).. اه) هو أبو الحسن الأول والمراد بالحال في قوله منذ صرت في هذا الحال التشيع أو العمل المذكورة، وفي هذا الخبر دلالة على جواز الختم أو أكثر في ليلة واحدة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة قال:

سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر فقال له: جعلت فداك اقرأ القرآن في ليلة؟ فقال: (لا). فقال في ليلتين؟ فقال: (لا). حتى بلغ ست ليال فأشار بيده، فقال: ها، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا

ص:54

محمد إن من كان قبلكم من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ القرآن في شهر وأقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوذت بالله من النار).

فقال أبو بصير: اقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟ فقال: (لا). فقال في ليلتين؟ فقال: (لا)، فقال في ثلاث؟ فقال: (ها) وأومأ بيده، (نعم. شهر رمضان لا يشيهه شيء من الشهور. له حق وحرمة. أكثر من الصلاة ما استطعت).

* الشرح:

(يا أبا محمد ان [من كان قبلكم] من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ القرآن في شهر وأقل) هذا نحو ما تقدم من الإرشاد إلى القصد في التلاوة وفي كتاب إكمال الإكمال: للسلف في ختم القرآن عادات مختلفة فبعضهم كان يختم في كل شهر وبعضهم في كل عشرين وبعضهم في كل عشرة وأكثرهم في سبعة وكثير منهم في ثلاث وبعضهم في يوم وليلة وبعضهم في كل ليلة وبعضهم في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وبعضهم ثماني ختمات.

ص:55

باب أن القرآن يرفع كما أنزل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إن الرجل الأعجمي من امتي ليقرأ القرآن بعجمته فتعرفه الملائكة على عربيته).

* الشرح:

قوله: (إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمته) أي يلحن في الحروف والحركات ولا يخرجها عن مخارجها ولا يراعي صفاته المميزة لعدم الاقتدار عليها.

(فترفعه الملائكة على عربيته) في الكنز عجمة: «عربى نا بودن كلام وكند زبانى». وفي القاموس: العجم بالضم والتحريك خلاف العرب ورجل وقوم أعجم الأعجم لا يفصح كالأعجمي.

وفي الصحاح: الأعجم من لا يقدر على الكلام أصلا والأعجم أيضا الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وفي النسبة يقال: لسان أعجمي وكتاب أعجمي ولا يقال: رجل أعجمي فننسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى دوار ودواري.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: (لا اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم).

* الشرح:

قوله: (إنا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها) هكذا في النسخ كلها والأصوب ليست ولعل السؤال من آيات مسموعة عنهم (عليهم السلام) في قرآن علي (عليه السلام) ليست في هذا القرآن (ولا نحسن أن نقرأها) أي آيات القرآن.

(كما بلغنا عنكم) من الترتيل والترسل وأداء الحروف ورعاية الصفات وهذا سؤال آخر (فهل نأثم) بعدم قراءة الآيات في قرآنكم إذ ليست في هذا القرآن وبعدم الترتيل في آيات هذا القرآن إذ لا نقدر عليه.

(فقال لا أقرؤوا كما تعلمتم) في هذا القرآن باللسان الأعجمي (فسيجيئكم من يعلمكم) حق التعليم وهو الصاحب (عليه السلام) أو الملك في القبر، وقد روي أن الشيعة بعد الموت يتكلمون بالعربية وأن الملك يعلمهم القرآن هذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال، والله أعلم.

ص:56

باب فضل القرآن

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بدر، عن محمد بن مروان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ (قل هو الله أحد) مرة بورك عليه ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى أهله وعلى جيرانه ومن قرأها اثنى عشر مرة بنى الله له اثنى عشر قصرا في الجنة فيقول الحفظة: اذهبوا بنا إلى قصور أخينا فلان فننظر إليها، ومن أقرأها مائة مرة غفرت له ذنوب خمسة وعشرين سنة ما خلا الدماء والأموال ومن قرأها أربعمائة مرة كان له أجر أربعمائة شهيد كلهم قد عقر جواده وأريق دمه ومن قرأها ألف مرة في يوم وليلة ولم يمت حتى يرى مقعده في الجنة أو يرى له).

* الشرح:

قوله: (من قرأ (قل هو الله أحد) مرة بورك عليه) أي زيد في تشريفه وكرامته وإحسانه ولطفه وتوفيقه يقال: بارك الله فيك ولك وعليك وباركك وقال تعالى (أن بورك من في النار).

(ومن قرأها ألف مرة في يوم أو ليلة لم يمت حتى يرى مقعد من الجنة) أي يرى في المنام منزلة منها، وفي بعض النسخ «في» بدل «من» أو تراءى له يظهر مقعده له بالكشف في حال الاحتضار أو قبله على احتمال وفي النهاية: تراءا إلى الشيء أي ظهر حتى رأيته.

* الأصل:

2 - حميد بن زياد، عن الحسين بن محمد، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لما أمر الله عزوجل هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش وقلن: أي رب إلى أين تهبطنا إلى أهل الخطايا والذنوب فأوحى الله عزوجل إليهن أن اهبطن فوعزتي وجلالي لا يتلوكن أحد من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كل يوم إلا نظرت إليه - بعيني المكنونة - في كل يوم سبعين نظرة أقضي له في كل نظرة سبعين حاجة وقبلته على ما فيه من المعاصي وهي أم الكتاب و (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) وآية الكرسي وآية الملك).

* الشرح:

قوله: (لما أمر الله تعالى هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش) أي

ص:57

توسلن بعلم الله تعالى بما يقع في دار الغرور وعالم السرور أو تعلقن بالعرش الجسماني الذي هو مطاف الملائكة المقربين، وقد مر أن القرآن يتصور بمثل جسداني وهيكل إنساني فنسبة التعلق إليه صحيحة وهنا شيء لابد في توضيحه من تقديم مقدمة، وهي أنه روى أن القرآن نزل جملة واحدة في أول ليلة من شهر رمضان وأنه نزل إلى الأرض تدريجا لا جملة واحدة، فقال السيد المحقق ابن طاووس: أنه نزل جملة واحدة من بعض المقامات العالية بأمر الله جل شأنه إلى مقام آخر ثم نزل من هذا المقام تدريجا إلى الأرض فلا منافاة بين نزوله جملة ونزوله تدريجا.

أقول: سيجيء في باب النوادر ما يدل على ذلك التوجيه وأن هذا المقام هو البيت المعمور إذا عرفت هذا فتقول: يحتمل أن يراد بهبوط هذه الآيات هبوطها أول مرة وهو هبوطها في ضمن الكل وقوله «إلى الأرض» باعتبار أن هذا الهبوط آيل إلى هبوطها إلى الأرض بالآخرة وسبب له في الجملة وحينئذ فالظاهر من قوله. «يتلوكن» تلاوة مجموعها من حيث المجموع وترتب الجزاء المذكور أعني قوله تعالى (نظرت إليه.. اه) على تلاوة المجموع لا على تلاوة كل واحد منها، ويحتمل أن يراد بهبوطها هبوطها مرة ثانية إلى الأرض وظاهر أن هذا الهبوط كان تدريجيا وأن هبوط هذه الآيات لم يكن دفعة واحدة ولم ينقل أحد حينئذ، فالظاهر أن الجزاء المذكور يترتب على تلاوة كل واحدة على حدة إذ الظاهر حينئذ أن زمان تعلق كل واحدة بالعرش غير زمان تعلق الأخرى به وكذلك الوحي إليها بذلك الجزاء غير الوحي إلى الأخرى به فليتأمل.

* الأصل:

3 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن محمد بن سكين، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

(من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم، وإن مات كان في جوار محمد النبي (صلى الله عليه وآله)).

* الشرح:

قوله: (من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عليه السلام)) قيل المسبحات سور أولها سبح أو يسبح أو سبحان واعلم أن ظاهر مضمون الشرط يفيد أن ادراك القائم (عليه السلام) يتحقق بتحقق القراءة مرة واحدة وكذلك الجوار ولكن الظاهر بحسب المقام حيث أن المقصود الحث على قراءتها والترغيب في أخذها دأبا وعادة هو أن الإدراك والجوار يتحققان بالتكرار والعادة والظاهر أن تركها في بعض الأحيان لا يضر بالتكرار المستلزم للإدراك والجوار، ثم الظاهر أن المراد

ص:58

بإدراك القائم (عليه السلام) بأنه القائم (عليه السلام) والسبب في ذلك إما لاشتمال المسبحات على ذكر القائم وصفاته وأحواله وأن لم يعلمها بخصوصها وأما بالخاصية وكذلك السبب في غيرها من السور والآيات المترتب عليها ثواب وجزاء معين.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن طلحة، عن جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ (قل هو الله أحد) مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسين سنة).

* الأصل:

5 - حميد بن زياد، عن الخشاب، عن ابن بقاح، عن معاذ، عن عمرو بن جميع رفعه إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه شيطان ولا ينسى القرآن).

* الشرح:

قوله: (من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها) الظاهر أن آية الكرسي من قوله (الله.. إلى العلي العظيم) والآيتين بعدها من قوله (لا كراه إلى هم فيها خالدون) وثلاث آيات من آخرها أي آخر البقرة، روي مسلم أربع روايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة واحدة كفتاه» قوله: كفتاه قيل: معناه أجزأتا عنه من قيام الليل أو كفتاه ومنعتاه من أن يكون ممن ترك القراءة أو كفتاه أذى الشيطان، وقيل: كفتاه أي منعتاه شر الجن والإنس ويبعد أن يكون من الكفاية أي كفتاه ملازمة التلاوة وقيل: كفتاه عن الآفات وقيل: كفتاه عن الجميع. قال ابن الحجر: المراد بالآيتين قوله تعالى (آمن الرسول) إلى آخر السورة. فآخر الآية الأولى «المصير» ومن ثمة إلى آخر السورة آية واحدة وأما «ما اكتسبت» فليس رأس آية باتفاق القراء. انتهى.

أقول: والمراد بثلاث آيات كما في روايتنا هذه «آمن الرسول.. إلى آخر السورة» يجعل «ما اكتسبت» آخر الآية الثانية واتفاق القراء على خلافه لا يقدح لأن ذلك من طرق العامة أو المراد بها قوله (لله ما في السماوات) إلى آخر السورة.

* الأصل:

ص:59

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر، يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله ومن قرأها مرات غفرت له على نحو ألف ذنب من ذنوبه).

* الأصل:

7 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن يعقوب ابن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبي صلوات الله عليه يقول: (قل هو الله أحد) ثلث القرآن (وقل يا أيها الكافرون) ربع القرآن).

* الشرح:

قوله: ((قل هو الله أحد) ثلث القرآن) كان المراد أن له أجرا مقدرا يملكه القارئ من باب الاستحقاق إلا أنه تعالى يضاعف ثوابه من باب التفضل بقدر أجر يستحقه قارىء الثلث وإن كان لقارىء الثلث أيضا ثواب مضاعفا بمقتضى الوعد الصادق وبالجملة ثوابه مع التضعيف مثل أجر الثلث بدونه وكذا ثوابه ثلاث مرات معه مثل أجر ختمة بدونه وإن كان ثواب الثلث والختم بالتضعيف وبدونه أكثر من أجره باعتبار الاستحقاق بدونه وحينئذ لا يرد أن كون أجره مرة كأجر الثلث وثلاث مرات كأجر الختم خلاف الإجماع والمنقول من «أن أفضل الأعمال أحمزها» وأنه لو كان كذلك لآثروا قراءته على قراءة الثلث والكل طلبا للتسهيل والله يعلم، واعلم أن مثل هذا الحديث رواه مسلم عن قتادة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل (قل هو الله أحد) جزءا من أجزاء القرآن».

وعن أبي هريرة «ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أحشدوا أي اجتمعوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فحشد من حشد فقرأ (قل هو الله)» وهم اختلفوا في توجيه ذلك وقال بعضهم: كان ثلث القرآن لأنه ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات و (قل هو الله أحد) مشتملة على الصفات فهي ثلثه بهذا الاعتبار، وقال بعضهم: ثواب قراءتها يعدل ثواب ثلث القرآن دون تضعيف أي يعدل ثواب ثلث ختمه ليس فيها (قل هو الله أحد)، وقال بعضهم: إنما قال ذلك لرجل بعينه قصده، وقيل: لمن ردد قرأتها فحصل له من قراءتها قدر قراءة ثلث القرآن ولا يخفى عليك بعد هذين القولين وتنافيهما لحديث احشدوا لقراءته (صلى الله عليه وآله) مرة واحدة، وقال بعضهم: معنى يعدل ثلث القرآن أن ما رتب من الثواب على ختمه واحدة ثلثه لها وثلثاه لبقيتها وليس معناه أن من قرأها وحدها يكون له مثل ثواب

ص:60

ثلث كل القرآن ولو كان كذلك لآثر العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال في الصلاة ولم يفعلوا وقد أجمعوا على أن من قرأها ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيى الليل ختم القرآن وهذا كالثواب المترتب على الصلاة أكثره للنية وباقيه لغيرها من قيام وقعود وغيرهما لحديث «نية المؤمن خير من عمله» وفيه نظر لأن الإجماع المذكور غير مسلم بل من كررها ثلاثا يكون له ثواب ختمه وعدم إثار العلماء قراءتها على قراءة السور الطوال لأن المطلوب الثواب والتدبر والإتعاظ واقتباس الأحكام.

((قل يا أيها الكافرون) ربع القرآن) لعل الوجه فيه أن القرآن نزل على أربعة أرباع ربع في المؤمنين وربع في الكافرين وربع في السنن والأمثال وربع في الفرائض والأحكام وهذه السورة مشتملة على ربع الكافرين وسائر الوجوه المذكورة للتوحيد جارية هنا أيضا.

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن الحسن بن الجهم، عن إبراهيم بن مهزم، عن رجل سمع أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (من قرأ آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج إن شاء الله ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضروه ذو حمة وقال: من قدم (قل هو الله أحد) بينه وبين جبار منعه الله عزوجل منه، يقرأها من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فإذا فعل ذلك رزقه الله عزوجل خيره ومنعه من شره، وقال: إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن من حيث شئت ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء - ثلاث مرات).

* الشرح:

قوله: (من قرأ آية الكرسي) الظاهر إلى (هم فيها خالدون) وهي تجمع أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة.

(عند منامه) حين أخذ مضجعه أو أراد النوم (لم يخف الفالج: إن شاء الله) ذلك اليوم، والليلة أو مطلقا إذا اعتاد قراءتها أو مطلقا. والفالج داء معروف يرخى بعض البدن لإنصباب خلط بلغمي تنسد منه مسالك الروح.

(ومن قرأها في دبر كل فريضة لم يضره ذو حمة) الحمة بالضم والتخفيف وقد تشدد السم ويطلق على أبرة العقرب والزنبور وناب الحية للمجاورة لأن السم يخرج منها وأصلها حموا وحمى بوزن صرد والهاء فيها عوض من الواو أو لياء.

* الأصل:

9 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن إسحاق بن عمار، عن أبي

ص:61

عبد الله (عليه السلام) قال: (من قرأ مائة آية يصلي بها في ليلة كتب الله عزوجل له بها قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي آية في غير صلاة لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية في يوم وليلة في صلاة النهار والليل كتب الله عزوجل له في اللوح المحفوظ قنطارا من [ال] حسنات والقنطار ألف ومائتا وقية، والوقية أعظم من جبل احد).

* الشرح:

قوله: (من قرأ مائة آية) حيث شاء (يصلي بها في ليلة) في نافلة وكذا إن قرأ سورة مشتملة على مائة آية في فريضة.

(كتب الله له بها قنوت ليلة) أي عبادتها أو صلاتها أو قيامها بالطاعة (ومن قرأ مائتي آية) حيث شاء على الترتيب أو مطلقا إذا كانت كل واحدة تامة.

(لم يحاجه القرآن يوم القيامة) أي لم يخاصمه فيما ضيعه وأعرض عنه (ومن قرأ خمسمائة آية في صلاة النهار والليل) في فريضة أو نافلة أو فيهما.

(كتب الله له عز وجل في اللوح المحفوظ قنطارا من حسنات والقنطار ألف ومائتا أوقية والوقية أعظم من جبل احد) هذا التفسير للقنطار يخالف التفسير المذكور في باب ثواب قراءة القرآن وهو أن القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب المثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل احد وأكبرها ما بين السماء والأرض، وفسره هنا بألف ومائتي أوقية، قال في الصحاح:

الأوقية في الحديث أربعون درهما وكذلك كان فيما مضى فأما اليوم فما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء والأوقية عندهم وزن عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم وهو أستار وثلثا أستار فالقنطار بالتفسير المذكور هنا ثمانية وأربعون ألف درهم وهو أكثر من القنطار المذكور سابقا وكل قنطار درهم وثلاثة أسباع درهم ويمكن أن يقال ليس المراد بالأوقية هنا - يعني في تقدير الثواب - الأوقية المتعارفة عند الناس لغة وعرفا أعني ما قدروها بأربعين درهما بل المراد بها ما هو أعظم من جبل احد وقد أشرنا إلى نظير ذلك سابقا فليتأمل.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن حسان، عن إسماعيل بن مهران، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من مضى به يوم واحد فصلى فيه بخمس صلوات ولم يقرأ

ص:62

فيها ب (قل هو الله أحد) قيل له: يا عبد الله لست من المصلين).

* الشرح:

قوله: (من مضى به يوم واحد فصلى فيه خمس صلوات) مفروضات (ولم يقرأ فيها ب (قل هو الله أحد) قيل له: يا عبد الله لست من المصلين) في هذا اليوم والمقصود نفي الكمال وفيه مبالغة على قراءته في الصلوات وعلى أنه لا ينبغي أن يترك في الصلوات اليومية كلها وقد وقع النهي في بعض الروايات عن قراءة سورة واحدة في الركعتين إلا سورة التوحيد وفي روايات العامة أيضا دلالة على ذلك روى مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «سلوه لأي شيء فعل ذلك»؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أخبروه أن الله يحبه».

* الأصل:

11 - وبهذا الإسناد، عن الحسن بن يوسف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة ب (قل هو الله أحد)، فإنه من قرأها جمع الله له خير الدنيا والآخرة، وغفر له ولوالديه وما ولدا).

* الشرح:

قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) إيمانا كاملا لا يتصف بالنقص (فلا يدع أن يقرأ) أمر أو خبر (في دبر الفريضة) الظاهر المتبادر هو الترغيب إلى قراءتها بعد الفراغ منها وقد ذكر فضل التعقيب به في بعض الروايات واحتمال الحث على قراءتها بعد الحمد كما في السابق بعيد.

* الأصل:

12 - عنه، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إن سورة الانعام نزلت جملة شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله) فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عزوجل فيها في سبعين موضعا ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها).

* الشرح:

قوله: (فعظموها أو بجلوها) أمر أو خبر، والتبجيل التعظيم فالعطف للتفسير والتأكيد ويحتمل أن يكون من البجل بالتحريك وهو الحث والكفاية أي اجعلوها بالمداومة عليها كفاية لأموركم.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام). ان النبي (صلى الله عليه وآله) صلى على سعد بن معاذ فقال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألفا وفيهم جبرئيل (عليه السلام) يصلون عليه فقلت له: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءته (قل هو الله أحد) قائما وقاعدا

ص:63

وراكبا وماشيا وذاهبا وجائيا).

* الشرح:

قوله: (لقد وافى من الملائكة سبعين ألفا) (كذا) أي أتاهم يقول: وافيت القوم إذا أتيتهم أو أشرف وأطلع عليهم.

* الأصل:

14 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد بن بشير، عن عبيد الله الدهقان، عن درست، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قرأ (ألهكم التكاثر) عند النوم وقي فتنة القبر).

* الشرح:

قوله: (من قرأ (ألهكم التكاثر) عند النوم وقى فتنة القبر) هي ما يمتحن به الميت في القبر من ضغطه ومسائلة منكر ونكير وغير ذلك مما يؤذيه.

* الأصل:

15 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عبد الله بن الفضل النوفلي رفعه قال: (ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن).

* الشرح:

قوله: (ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن) الظاهر أن قرئت مبني للمفعول والتأنيث باعتبار السورة والحمد شفاء من كل داء وسيجئ من لم يبرأه الحمد لم يبرأه كل شيء وهذا أمر متفق عليه بين العامة والخاصة روى مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري «أن ناسا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوا، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرء الرجل فأعطي قطيعا من غنم فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب فتبسم، وقال: (ما أدريك أنها رقية) ثم قال:

«خذوا منهم» وفي بعض رواياتهم حين قال له: وما أدريك أنها رقية يعني أي شيء أعلمك أنها رقية قال: يا رسول الله شيء ألقى في روعي قبل وكان الرجل أخذ ذلك من أنها خصت بأمور ومشتملة على علوم القرآن من الثناء على الله تعالى والأمر بالعبادة والإخلاص فيها والاعتراف بالعجز على القيام بشيء منها إلا بإعانة الله تعالى وهم قد اختلفوا فقيل: أن كلها رقية نظرا إلى ظاهر

ص:64

الرواية المذكورة وقيل: موضع الرقية منها (إياك نعبد وإياك نستعين).

* الأصل:

16 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجبا).

* الأصل:

17 - عنه، عن أحمد بن بكر، عن صالح، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: (ما من أحد في حد الصبي يتعهد في كل ليلة قراءة (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) كل واحدة ثلاث مرات و (قل هو الله أحد) مائة مرة فإن لم يقدر فخمسين إلا صرف الله عزوجل عنه كل لمم أو عرض من أعراض الصبيان والعطاش وفساد المعدة وبدور الدم أبدا ما تعوهد بهذا حتى يبلغه الشيب فإن تعهد نفسه بذلك أو تعوهد كان محفوظا إلى يوم يقبض الله عزوجل.

* الشرح:

قوله: (ما من أحد في حد الصبي يتعهد في كل ليلة قراءة (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)) المعوذتان من القرآن لدلالة الرواية من العامة والخاصة عليه أما من طرق الخاصة فلما سيجيء من رواية صابر مولى بسام قال أمنا أبو عبد الله (عليه السلام) في صلاة المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال (هما من القرآن) وأما من طرق العامة فلما رواه مسلم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم أر مثلهن قط (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس)) ولم يقل أحد بخلاف ذلك إلا ما نقل عن ابن مسعود ولم يثبت وما نقل عن بعض أن لفظة قل ليست من السورتين وإنما أمر أن يقول فقال وقال بعض العامة والإجماع وكتبها في المصحف يرده، وقيل: قوله «لم ير مثلهن» معناه أنه لم يكن سورة آياتها كلها تعويذ من شر الأشرار غيرهما ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يتعوذ من شر الجن والإنس بغيرهما فلما نزلتا ترك التعوذ بما سواهما ولما سحر استشفى بهما، وقيل: معناه لم «ير مثلهن» في الفضل ولا بما نقل في الحمد وآية الكرسي ونحوهما لأنه عام مخصوص.

(كل واحد ثلاث مرات) بأن يقرأ الأولى ثلاث مرات ثم الثانية كذلك أو يقرأهما متواليتين ثم يستأنف كذلك مرتين.

(و (قل هو الله أحد) مائة مرة فإن لم يقدر فخمسين) لعل المراد بعدم القدرة حصول المشقة

ص:65

أو المانع أو كلال النفس وتضجرها (إلا صرف الله عز وجل عنه كل لمم) اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه وأيضا صغار الذنوب ومقاربة معصية من غير إيقاع فعل ونوازل الدهر ومخاطرات النفس ووسوسة الشيطان.

(أو عرض من أعراض الصبيان) وهي ما يعرضهم فيه من الجن وغيره من الآفات. والعرض بالتحريك ما يعرض الإنسان من مرض ونحوه.

(والعطاش وفساد المعدة وبدورة الدم أبدا ما تعوهد بهذا حتى يبلغه الشيب) العطاش بالضم: داء يصيب الإنسان ويشرب ولا يروي، والمعدة ككلمة وبالكسر موضع الطعام قبل انحدار إلى الأمعاء وهي للإنسان بمنزلة الكرش للأظلاف والأخفاف، والبدورة والبدور كما في بعض النسخ الإسراع والحدة ولعل المراد بها غلبته بحيث لا يقدر على معالجته ودفعه.

(فإن تعهد نفسه بذلك أو تعوهد) بأن يقرأ هوءان قدر أو يقرأ عليه إن لم يقدر وكون الترديد من الراوي وإن ناسبه السابق بعيد.

(كان محفوظا) من المكاره المذكورة أو مطلقا (إلى يوم يقبض الله عز وجل نفسه) دل على أن المراد بقوله «حتى يبلغه الشيب» آخر العمر.

* الأصل:

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أحمد المنقري قال: سمعت أبا إبراهيم (عليه السلام) يقول: (من استكفى بآية من القرآن من الشرق إلى الغرب كفى إذا كان بيقين).

* الشرح:

قوله: (من استكفى بآية من القرآن.. اه) يعني من طلب الكفاية من شر أهل الشرق إلى الغرب كفى من شرهم (إذا كان بيقين) وهو أصل لحصول المطالب بالدعاء والقراءة وغير موجود في بعض النسخ.

* الأصل:

19 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن بكر بن محمد الأزدي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العوذة قال: (تأخذ قلة جديدة فتجعل فيها ماء ثم تقرأ عليها (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ثلاثين مرة ثم تعلق وتشرب منها وتتوضأ ويزداد فيها ماء إن شاء الله).

* الشرح:

قوله: في العوذة قال: (تأخذ قلة جديدة) العوذ الالتجاء وبالهاء الرقية، والقلة

ص:66

بالضم، الحب العظيم أو الجرة العظيمة أو عامة أو من الفخار والكوز الصغير ضد كذا في القاموس (تجعل فيها ماء ثم تقرأ (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ثلاثين مرة) الأولى أن يكون القراءة متوالية من غير نفث ولا نفخ ولا نقل وثم هنا لمجرد الترتيب من غير اعتبار مهلة.

(ثم يعلق) في الكنز التعليق «در آويختن» (ويزداد فيها ماء إن شاء) ليمتزج بالباقي ويؤثر للمجموع تأثيره.

* الأصل:

20 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إدريس الحارثي، عن محمد بن سنان، عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا مفضل احتجز من الناس كلهم ب (بسم الله الرحمن الرحم) و ب (قل هو الله أحد) اقرأها عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرات واعقد بيدك اليسرى ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده.

* الشرح:

(احتجز من الناس كلهم) أي امتنع من شرهم من الحجز بمعنى المنع (ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وب (قل هو الله أحد)) الظاهر وحدة التسمية والتعدد محتمل.

(اقرأها عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ومن فوقك ومن تحتك) الظاهر هو الترتيب المذكور مع احتمال تقديم القراءة بين اليدين على اليمين، ثم اليسار على الخلف، ولعل المعتبر في الفوق والتحت رفع الرأس وخفضه وفي الجهات الباقية التوجه بالوجه ومقاديم البدن إليها مع احتمال الاكتفاء بالقصد في الجميع (ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده) نفى أو نهى أي لا تفارق قراءة التوحيد وعقد اليسري والتخصيص بأحدهما بعيد.

* الأصل:

21 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن جعفر، عن السياري، عن محمد بن بكر عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال: (والذي بعث محمد 9 بالحق وأكرم أهل بيته ما من شيء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو ضالة أو آبق إلا وهو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه) قال: فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عما يؤمن من الحرق والغرق؟ فقال: اقرأ هذه الآيات (الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) (وما قدروا الله حق

ص:67

قدرة) - إلى قوله - سبحانه تعالى (وعما يشركون) فمن قرأها فقد أمن الحرق والغرق) قال:

فقرأها رجل واضطرمت النار في بيوت جيرانه وبيته وسطها فلم يصبه شيء، ثم قام إليه آخر فقال:

يا أمير المؤمنين إن دابتي استصعبت علي وأنا منها على وجل، فقال: (اقرأ في اذنها اليمنى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)) فقرأها فذلت له دابته وقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إن أرضي أرض مسبعة وإن السباع تغشى منزلي ولا تجوز حتى تأخذ فريستها.

فقال: إقرأ (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) فقرأهما الرجل فاجتنبته السباع ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني ماء أصفر فهل من شفاء؟ فقال: (نعم بلا درهم ولا دينار ولكن اكتب على بطنك آية الكرسي وتغسلها وتشربها وتجعلها ذخيرة في بطنك فتبرأ بإذن الله عز وجل) ففعل الرجل فبرأ باذن الله، ثم قام اليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضالة؟ فقال: (إقرأ يس في ركعتين وقل: يا هادي الضالة رد علي ضالتي) ففعل فرد الله عز وجل عليه ضالته، ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الآبق؟ فقال: (اقرأ (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج) - إلى قوله: - (ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور). فقالها الرجل فرجع إليه الآبق، ثم قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن السرق فإنه لا يزال قد يسرق لي الشيء بعد الشيء ليلا؟ فقال له: (اقرأ إذا أويت إلى فراشك (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) - إليه قوله: (وكبره تكبيرا) ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من بات بأرض قفز فقرأ هذه الآية (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) - إلى قوله: تبارك الله رب العالمين) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين) قال: فمضى الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرأ هذه الآية فتغشاه الشيطان وإذا هو آخذ بخطمه فقال له صاحبه: أنظره واستيقظ الرجل فقرأ الآية فقال الشيطان لصاحبه: أرغم الله أنفك احرسه الآن حتى يصبح فلما أصبح رجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبره وقال له: رأيت في كلامك الشفاء والصدق، ومضى بعد طلوع الشمس، فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض.

* الشرح:

قوله: (من حرق أو غرق أو سرق) هذه الثلاثة بفتح الراء وقد تسكن في الأولين وتكسر في

ص:68

الأخير مصادر وقد يطلق الأول على النار أيضا.

(الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) هذه الآية في سورة الأعراف وصدرها (إن ولي الله الذي) وفي عدم ذكره إيماء إلى جواز الاقتصار في التعويذ على ما ذكر والظاهر أن ذكره أولى (وما قدروا الله حق قدره) في سورة الزمر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) وقد مر تفسيره، والظاهر أن الأثر وهو الأمن من الحرق والغرق مترتب على مجموع الآيتين وترتبه على كل واحدة منهما أيضا محتمل.

(ولقد جاءكم رسول)) التنكير للتعظيم (من أنفسكم) أي من نوعكم وهو صفة لرسول أو متعلق بجاء (عزيز عليه ما عنتم) ما مصدرية أي شاق شديد عليه ولحوق الإثم والهلاك والفساد والمشقة بكم (حريص عليكم) أي على إيمانكم بالله وصلاحكم وهدايتكم إليه.

(بالمؤمنين) منكم (رؤوف رحيم) ذكر الرحمة بعد الرأفة وهي أشد الرحمة من باب ذكر العام بعد الخاص (فإن تولوا) عنك وأعرضوا عن الإيمان بك (فقل حسبي الله) أي يكفي عنكم وينصرني عليكم.

(لا إله إلا هو) كالدليل على السابق ((عليه توكلت) في جميع الأمور فلا أرجو غيره ولا أطلب النصر إلا منه (وهو رب العرش العظيم) أي الملك العظيم أو الجسم المحيط.

(ولكن اكتب على بطنك آية الكرسي) إلى (العلي العظيم) والأولى (إلى هم فيها خالدون) والأفضل أن يكون الكتابة بتربة الحسين (عليه السلام) لما روي من أنه شفاء.

(وتغسلها وتشريها وتجعلها ذخيرة في بطنك) الذخيرة ما يبقى ويحفظ من الطعام والشراب مثلا لوقت الحاجة إليه والظاهر أن «في» للتعليل والظرفية محتملة (اقرأ يس في ركعتين) يعني بعد الحمد على الظاهر.

(وقل) بعد الفراغ من الركعتين أو قبله على احتمال (: يا هادي الضالة) يعني إلى طريق الصواب وهو طريق العود إلى صاحبها.

(حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين) نظيره في كتب العامة قال أبو عبد الله شارح مسلم: شرط حصول تلك الحراسة والتباعد القبول. فمن قاله ورأى خلاف ذلك فهو دليل على أن الله سبحانه لم يقبله وكذا غيره من الأذكار.

(وإذا هو آخذ بخطمه) بخطمه بالباء الموحدة في أكثر النسخ وهو من الدابة مقدم أنفها وفيها، وفي بعضها بالياء المثناة التحتانية على صيغة المضارع يقال: خطمه يخطمه إذا ضرب أنفه وخطمه صک69

بالخطام إذا جعله على أنفه وإذا جر ليضع عليه الخطام وفي بعضها بلحيته.

(فقال الشيطان لصاحبه: أرغم الله أنفك أحرسه الآن حتى يصبح) لعل المراد بصاحبه الذي أمره بالإنظار هو الملك ولو أريد به الشيطان لورد أن الحراسة فعل الملك دون الشيطان كما مر ويمكن دفعه بأنه لا منافاة بين إثبات الحراسة للملك سابقا وللشيطان هنا فليتأمل (فإذا هو بأثر شعر الشيطان مجتمعا في الأرض) دل على أن الشيطان جسم له شعر ويمكن أن يراد بالشعر شعر ذلك الرجل الساقط منه لجذب الشيطان وإضافته إليه لأدنى ملابسة.

* الأصل:

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن سلمه بن محرز قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء).

* الأصل:

23 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (من قرأ إذا أوى إلى فراشه: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) كتب الله عزوجل له براءة من الشرك).

* الأصل:

24 - علي من إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن أبيه، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت الأرض زلزالها) فانه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله عزوجل بزلزلة أبدا ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت، وإذا مات نزل عليه ملك كريم من عند ربه فيقعد عند رأسه فيقول: يا ملك الموت ارفق بولي الله فإنه كان كثيرا ما يذكرني ويذكر تلاوة هذه السورة، وتقول له السورة مثل ذلك ويقول ملك الموت: قد أمرني ربي أن أسمع له وأطيع ولا اخرج روحه حتى يأمرني بذلك فإذا أمرني أخرجت روحه، ولا يزال ملك الموت عنده حتى يأمره بقبض روحه وإذا كشف له الغطاء فيرى منازله في الجنة فيخرج روحه من ألين ما يكون من العلاج، ثم يشيع روحه إلى الجنة سبعون ألف ملك يبتدرون بها إلى الجنة).

* الشرح:

قوله: (لا تملوا من قراءة (إذا زلزلت الأرض).. الخ) دل على أن الجزاء المذكور مترتب على إكثار القراءة وأخذها عادة فإذا مات يعني إذا حضره الموت.

ص:70

باب النوادر

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن عبيس بن هشام، عمن ذكره، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قراء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدر به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده وأقامه إقامة القدح فلا كثر الله هؤلاء من حملة القرآن ورجل، قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه، فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل الله عزوجل من الأعداء وبأولئك ينزل الله عزوجل الغيث من السماء فوالله لهؤلاء في قراء القرآن أعز من الكبريت الأحمر).

* الشرح:

قوله: (فاتخذه بضاعة) هي بالكسر قطعة من المال تعد للتجارة يعني اتخذ القرآن رأس ما يطلب منه المنافع والأرباح عند الناس.

(واستدر به الملوك.. اه) استدر الشيء إذا استجلبه يعني استجلب بسبب القرآن المال من الملوك واستطال بسببه على الناس لكثرة المال وعزة السلاطين له.

(ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه) وكلماته وحركاته وسكناته وغيرهما مما يعد من المحسنات اللفظية والاعتبارات العربية.

(وضيع حدوده) بترك ما نطق به من الأوامر والنواهي والأخلاق والمواعظ والآداب والأمثال (وإقامة القدح) القدح بالكسر السهم قبل أن يراش وينصل وهذا تأكيد لحفظ الحروف وتضييع الحدود جميعا إذ فيه حفظ لبعض الحقوق وترك لأعظمها كما في القدح وكذا إن قرأ القدح بالتحريك لأنه انتفع به من بعض الوجوه وضيعه من وجه آخر حيث جعله وراء ظهره كما ينتفع أحد من القدح ويشرب منه ثم يعلقه في آخر رحله عند ترحاله ويجعله خلفه وإليه أشار (صلى الله عليه وآله) بقوله:

«ولا تجعلوني كقدح الراكب».

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب،

ص:71

عن أبي حمزة، عن أبي يحيى، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام).

* الشرح:

قوله (نزل القرآن أثلاثا.. اه) الغرض منه هو الإخبار عما في الواقع مع الحث على الإقرار بالولاية والبراءة من أعدائها والإتعاظ بالعبر والأمثال والعمل بالسنن والفرائض والأحكام وينبغي أن يعلم أن مثل هذا التقسيم وهو تقسيم الكل إلى الأجزاء قد يتفاوت بحسب الاعتبار ولا يجب فيه التساوي في المقدار. نعم لابد من عدم خروج جزء منه فلو دخل جزء في جزء أو عد جزئين جزءا لصح فلذلك دخل الثلث الأول من هذا التقسيم في الربع الأخير من التقسيم الثاني إذ فصل ما بينكم يشمله وجعل هذا الثلث جزئين في التقسيم الثالث حيث قال (عليه السلام) (ربع فينا وربع في عدونا) ومن هذا تبين أنه لا منافاة بين هذا التقسيم والتقسيمين الباقيين له وأنه لا يرد أن القرآن سبعة عشر ألف آية كما سيجيء وآيات الفرائص والأحكام خمسمائة فكيف يكون ثلثه؟.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن علي بن عقبة، عن داود بن فرقد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم).

* الأصل:

4 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن إسحاق بن عمار عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، عن منصور بن العباس، عن محمد ابن الحسن السري، عن عمه علي بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك) وآخره (إذا جاء نصر الله).

* الشرح:

قوله: (إن أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك)) مثله في رواية العامة وفيه دلالة على أن البسملة جزء من هذه السورة وتأويل الشاطبي بأنه دليل على أنه

ص:72

لابد منها لا على أنه جزء من السورة بعيد جدا وفي بعض رواياتهم أن أول ما نزل (اقرأ باسم ربك) واستدل بعضهم بذلك على أن البسملة ليست من السورة لأن اقرأ أول سورة نزلت ثم قال فيه دلالة على بطلان مذهب الشافعي وهو أن البسملة آية من كل سورة أقول فيه نظر من وجهين: الأول أن المذكور في الرواية أن (اقرأ باسم ربك) أول ما نزل وليس فيها أنه أول سورة نزلت فيجوز أن يكون البسملة نزلت بعد ذلك وقد صح عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا نزلت آية يقول: (اجعلوها في موضع كذا) ولعله قال في البسملة: (اجعلوها في كل سورة فهي جزء منه.) ومما يدل على ذلك أنهم قالوا أول ما نزل اقرأ إلى قوله تعالى (ما لم يعلم) ثم نزل (يا أيها المزمل) و (يا أيها المدثر) فكما أن بقية السورة نزلت بعد ذلك ثم ضم مع ما نزل أولا ثم صار جزءا للسورة فكذلك نزول البسملة بعد ضمها إلى ما نزل أولا لا ينافي أن يكون جزءا من السورة والثاني: يجوز أن يكون (اقرأ باسم ربك) علما للسورة التي أولها البسملة فلا دلالة في الرواية على أن البسملة ليست جزءا من السورة قطعا.

(وآخره) أي آخر ما نزل (إذا جاء نصر الله) اختلف العامة في أول سورة (1) نزلت كاملة فقيل:

براءة وقيل (إذا جاء نصر الله) وكانوا يسمونها بسورة التوديع واختلفوا في وقت نزولها على أقوال:

أشبهها أنها نزلت في حجة الوداع، ثم نزل بعدها (اليوم أكملت لكم دينكم) فعاش بعدها ثمانين يوما ثم نزلت بعدها آيت الكلالة (يستفتونك.... في الكلالة) فعاش بعدها خمسين يوما ثم نزل بعدها (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما وقيل: سبعة أيام.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وإنما انزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله):

نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وأنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان).

* الشرح:

قوله: (وإنما انزل) القرآن (في عشرين سنة) الغرض منه بيان طول زمان النزول لا تحديد زمانه

ص:73


1- 1 - في بعض النسخ «آخر سورة».

بحسب الواقع أو أهمل ذكر الكسر بحسب المتعارف وإلا فهو أنزل في ثلاثة وعشرين سنة.

(وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان) هذا مع قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) دليل واضح على أن ليلة القدر ثلاث وعشرين من شهر رمضان ويدل عليه روايات أخر.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عيسى، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تتفأل بالقرآن).

* الشرح:

قوله: (لا تتفأل بالقرآن) التفاؤل مهموز فيما يسر ويسوء يقال: تفألت بالتشديد وتفألت بالتخفيف وتفايلت بالقلب وقد أولع الناس بترك همزة تخفيفا وقالوا الفال بوزن المال والفأل بالقرآن متصور بوجوه الأول أن يقصد مطلبا ويسمع مقارنا له آية يستنبطه منها الخير والشر أو من أول حرف منها كما يفعله أصحاب الحروف الناظرون إلى خواصها، الثاني أن يفتح المصحف ويستنبط الخير والشر من الآية الأولى في الصفحة اليمنى أو من أول حرف منها، الثالث أن يفتحه ويعد اسم الله في الصفحة اليمنى ويعد بعدده أوراقا من اليسرى وبعدده سطورا من اليسرى وينظر إلى أية بعد تلك السطور أو إلى أول حرف منها ولعل النهي عنه محمول على الكراهية جميعا بينه وبين ما دل على الجواز مع أن الخلف والسلف عملوا به ولم ينكر عليهم من يعتد به وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف في آية الإستقسام بالأزلام ومن المعاصرين من حمل النهي على التحريم وخصه بذكر الأمور الغيبية وبيان الأشياء الخفية هذا حال التفأول بالقرآن وأما التفأول بديوان الشعراء كما هو المتعارف عند العوام فالظاهر أنه حرام وأنه من الأزلام والله يعلم.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن محمد بن الوراق قال: عرضت على أبي عبد الله (عليه السلام) كتابا فيه قرآن مختم معشر بالذهب وكتب في آخره سورة بالذهب فأريته إياه فلم يعب شيئا إلا كتابة القرآن بالذهب وقال: (لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة).

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن ياسين الضرير عن حريز،

ص:74

عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال تأخذ المصحف في الثلث الثاني من شهر رمضان فتنشره وتضعه بين يديك وتقول: «اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه وفيه اسمك الأعظم الأكبر واسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» وتدعو بما بدا لك من حاجة.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمر وابن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان).

* الشرح:

قوله: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) سمي شهر رمضان ربيع القرآن وشبهه بربيع الأزمنة وهو أول ما يظهر فيه النور والكمأة إلى أن يدرك الثمار والوجه نشاط القلوب في شهر رمضان وميلها إلى تلاوة القرآن ومشاهدة أسراره كنشاطها وميلها إلى مشاهدة الربيع ومشاهدة أزهاره وأنواره وأثماره أو نمو أجر التلاوة وثواب القراءة فيه زيادة على غيره من الشهور كنمو النباتات والأشجار والأثمار والله يعلم.

* الأصل:

11 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن سنان أو عن غيره، عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد؟ فقال (عليه السلام): (القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به).

* الشرح:

قوله: (القرآن جملة الكتاب) القرآن في الأصل مصدر بمعنى الجمع تقول قرأت الشيء قرآنا إذا جمعته، ثم نقل إلى هذا الكتاب لأنه جمع القصص والأمثال، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والسور وغيرهما من الأسرار التي لا تحصيها.

قوله: (الفرقان المحكم الواجب العمل به) الفرقان في الأصل مصدر بمعنى الفرق ثم نقل إلى الواجب العمل به على الوجه المطلوب لأنه فارق فاصل بين الواجب والحرام وغيرهما من الأحكام وقد يطلق على جملة الكتاب أيضا لأنه فاصل بين الحق والباطل والمراد بالمحكم الحكم المتقن الباقي إلى آخر الدهر.

* الأصل:

12 - الحسين بن محمد، عن علي بن محمد، عن الوشاء، عن جميل بن دراج، عن محمد بن

ص:75

مسلم، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيىء من قبل الرواة.

* الشرح:

قوله: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) (1) لعل المراد القرآن نزل بلغة واحدة على قراءة واحدة هي لغة قريش وقراءتهم يدل عليه قوله تعالى:

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) والنبي (صلى الله عليه وآله) كان قريشيا وإنما جاء إختلاف القراءة في اللغاة من قبل الرواة كما تعرفه بعيد ذلك.

* الأصل:

13 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن الفضيل بن يسار، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: (كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد).

ص:76


1- 1 - قوله: (لكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة) هذه الرواية موافقة لمقتضى العقل والعادة في نقل الكتب ورواياتها والأشعار والخطب وغيرها إذا لم نرى كتابا أو قصيدة أو خطبة حفظ الرواة واتفقوا على جميع ألفاظها وحركاتها وتقديمها وتأخيرها وزيادتها ونقصانها مهما اهتموا بضبطها وحفظها من أولها إلى آخرها يعلم ذلك المتتبعون للكتب القديمة بل الغال إختلاف النسخ في سطور وصفحات أقل أو أكثر من أن المصنف لم يعمل كتابه وشعره إلا على وجه واحد ولو ادعى أن حفظ جميع الرواة لجميع الألفاظ محال لم يبعد لكن لما كان العلم بما هو الواقع محالا لم يؤمر أحد بتحصيله واختياره وجاز الاكتفاء بإحدى الروايات والقرآن احفظ ما بقي وأقل ما وقع الخلاف فيه ولعل إختلاف القراءة فيه مما لا يعبأ به لكونه تافها جدا وشرط ما يقرء أن يكون متواترا عن أحد الأئمة الذين اتفقوا على اتقانهم وضبطهم ممن يعلم أنهم لم يقرؤوا إلا بما تواتر لديهم. وهذا غاية ما يمكن فيه التحري ولذا اتفق المسلمون قاطبة على عدم قبول غير المتواتر وإن القرآن لا يثبت بإخبار الآحاد ولا طريق لنا إلى قراءة أمثال ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما إلا بطريق الآحاد لعدم شهرة قراءتهم بين الأنام وإنما نقل ما نقل عنهم شاذا وأما قراءة السبعة فكانت مشهورة متداولة في مشارق الأرض ومغاربها من عهدهم إلى زماننا بحيث يمتنع تواطؤ الناقلين عنهم على الكذب عمدا أو سهوا كما يمتنع تواطؤ الناقلين مواضع المشاعر وقبور الأئمة وحدود مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) والمسجد الحرام والمسعى وعرفات ومنى وحفظ أيام الأسابيع ولو كنا في زمن الأئمة عليهم السلام وأمكننا تحصيل التواتر على قراءة ابن مسعود مثلا لجاز لنا اختيارها في عرض سائر القراءات لاحتمال وجود القراءة الأولى التي نزل بها جبرئيل فيها وفي غيرها على السواء ولكن لم يبق لنا طريق متواتر إلا إلى السبع ولا يبعد عندي تواتر العشر أيضا وأما ما سواها فلا يجوز لنا قطعا والقراءة المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) منقولة لنا أيضا بطريق الآحاد ولا نثق بصحة النسبة والله العالم. (ش)
* الشرح:

قوله: (فقال: كذبوا أعداء الله) التركيب من باب (وأسروا النجوى الذين ظلموا) في أن الظاهر يدل من الضمير أو فاعل والضمير علامة الجمعية.

قوله: (ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد) لا بأس أن نشير إلى بعض رواياتهم واختلاف علمائهم وأن طال لإيضاح المقام (1) وللإحاطة بأطراف الكلام فنقول روى مسلم سبع روايات على أن القرآن نزل على سبعة أحرف منها ما رواه عن عمر يقول: سمعت هشام ابن حكيم حزام يقرء سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم كببته بردائه فجئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله اني سمعت هذا يقرء سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أرسله يقرأ). فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال: (هكذا أنزلت) ثم قال لي: (اقرأ) فقرأت فقال: (هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) ومنها ما رواه عن أبي بن كعب قال: «أن جبرئيل (عليه السلام) أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: (اسأل الله تعالى معافاته ومغفرته وإن أمتي لا يطيق ذلك) ثم أتاه الثانية فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين فقال: (اسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا يطيق ذلك).

ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا يطيق ذلك) ثم جاءه الرابعة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا» قال العامة: سبب إنزاله عليها التسهيل والتخفيف على الأمة فلذا قال فاقرؤوا ما تيسر منه» وقال: «أمتي لا يطيق ذلك» واختلفوا فقيل:

ص:77


1- 1 - قوله: «وإن طال لإيضاح المقام» ولكن ليس للتطويل فائدة معتد بها لأن الرواية إن كانت صحيحة أو ضعيفة والمراد من السبع سبع قراءات أو سبع لغات أو سبعة أقسام من أصناف المطالب أو غيرها لم يؤثر في تكليفنا في القراءة بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله) إذ الحصول على الواقع محال كما قلنا والاختلاف قليل جدا ولا محيص عن القراءة بهذه القراءات المشهورة فإن اكتفينا بالمتواتر فهو وإلا فيجب تجويز كل ما روي بطريق الآحاد والشواذ ويعظم الخرق ويزيد الاختلاف على ما هو موجود أضعافا مضاعفة وطبع المسلم الموحد يأبى ذلك قطعا. وقد بينا ذلك بالتفصيل في حواشي الوافي فراجع إليه. واعلم أن أمثال هذا الاختلاف في القراءات لو وقعت في غير القرآن من الكتب والأشعار لا يعد اختلافا أصلا مثلا في قول امرئ القيس: «وقوفا بها صحبي على مطيهم» أو مطيهم بضم ياء مطيهم أو فتحها وكذا «الأعم صباحا أيها الطلل البالي» أو «ألا أنعم صباحا» لا يعد إختلافا وإنما الاختلاف المنظور فيها زيادة جملة أو نقصانها أو تبديل كلمة بمغايرتها في الكتابة والتلفظ ولذلك يصح لنا أن ندعي أنه ليس في القرآن إختلاف إذ لو قلنا أن فيه ما في سائر الكتب لذهب الوهم إلى ما هو المتعارف فيها من الاختلاف وليس كذلك (ش)

ليس المعنى الحصر في السبعة لأن بعض الكلمات تقرأ على أكثر من سبعة أوجه وإنما هو توسعة وتسهيل وقال الأكثر هو حصر للعدد في السبعة لأن الزيادة على السبعة وفي بعض الكلمات إما لا يثبت وأما يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء كما في المد والإمالة ونحوهما. واختلفوا أيضا فقالت طائفة منهم: المراد بالأحرف السبعة اللغات لما نقل عن ابن عباس أنه قال «نزل القرآن على سبع لغات» وهؤلاء قد اختلفوا فقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبعة مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوزان، وبعضه بلغة اليمن وغيرهم، وبعض هذه اللغات أسعد بها من بعض وأكثر نصيبا وقال ابن حجر: المراد أن القرآن نزل على سبعة أوجه يجوز أن يقرء بكل وجه منها وليس المراد أن كل كلمة وجملة منه تقرأ على سبعة أوجه بل المراد أن غاية ما ينتهي إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة سبعة فتقرأ الكلمة بوجه وبوجهين إلى سبعة، وقيل: اللغات السبعة كلها من مضر وهم سبع قبائل هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش وقال أبو حاتم السجستاني: نزل القرآن بلغة هذيل وقريش وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر وقال ابن قتيبة اللغات السبعة كلها في بطون قريش واحتج بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) والنبي (صلى الله عليه وآله) كان قريشيا وبذلك جزم أبو علي الأهوازي ونقل أبو اسامة عن بعض شيوخهم أنه نزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم بإستعمالها على خلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحد منهم الإنتقال من لغة إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية وطلب تسهيل فهم المراد مع اتفاق المعنى وعلى هذا ينزل اختلافهم في القراءة.

وقال ابن حجر: وتتمة ذلك أن يقال أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعي في ذلك السماع عن النبي (صلى الله عليه وآله) ويشير إليه قول كل من عمر وهشام في الحديث المذكور: أقرأني النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعا له وقال الصحابي: الأحرف السبعة إنما كانت في أول الأمر لاختلاف لغات العرب ومشقة تكلمهم بلغة واحدة فلما كثر الناس والكتب عادت إلى قراءة واحدة وقيل: أجمعوا على أن ليس المراد كما تقدم أن كل لفظ منه يقرأ على سبعة أوجه بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل عبد الطاغوت (ولا تقل لهما أف) وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن القرآن نزل سبع لغات للتوسعة على القارئ بأن يقرأه بأي لغة أراد منها على البدل من صاحبها وذلك للتسهيل إذ لو أخذوا بأن يقرؤوه على لغة واحدة

ص:78

لشق عليهم فلذلك جوز لهم أن يقرؤوه بلغات متعددة وقال بعضهم: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات واختلف هؤلاء على أقوال فقيل: هي في المعاني يعني أنه نزل القرآن على سبعة أصناف من المعاني واحتج بحديث ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (كان الكتاب الأول منزلا من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال) ورد أولا بعدم ثبوت هذا الحديث من طريق معتبر وثانيا بأن قوله: (زاجر) وما بعده استيناف كلام آخر أي هو يعني القرآن زاجر لا تفسير للأحرف أو تفسير للأبواب لا للأحرف يعني أن القرآن سبعة أبواب من أبواب الكلام وقيل: هي في إختلاف اللفظ واتحاد المعنى مثل أقبل وأسرع عجل وهلم وتعال وقد جاء هذا مبينا في قوله تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) مضوا فيه مروا فيه وقيل: هي في صفة التلاوة الإظهار والإدغام والتخفيف والتفخيم والترقيق والمد والإمالة لأن العرب كانت تختلف لغاتها في هذه الوجوه فسهل الله سبحانه ويسر أن يقرأ كل بلغته.

وقيل هي: تبديل خواتم الآي كجعل سميع بصير مكان غفور رحيم وقال محيي الدين: هذا القول فاسد لأنه استقر الإجماع على منع التغيير في القرآن ولو شدد إنسان ما هو مخفف لبادر الناس إلى الإنكار فكيف بتبديل كثيره وكذلك القول الثاني لإجماع المسلمين على امتناع تبديل آيات الأحكام بآيات الأمثال ورجح القول الثالث وقال ابن قتيبة: المراد التغاير في سبعة أشياء الأول ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل «ولا يضار كاتب ولا شهيد» بنصب الراء ورفعها. الثاني ما يتغير بتغير الفعل مثل «بعد بين أسفارنا» و «باعد بين أسفارنا» بصيغة الطلب والفعل الماضي. الثالث ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ننشرها بالراء والزاي. الرابع ما يتبدل بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل طلح منضود وطلع منضود. والخامس ما يتغير بالتقدم والتأخر مثل وجاءت سكرة الموت بالحق وجاءت سكرة الحق بالموت. السادس ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى) هذا في النقصان وأما في الزيادة فكما في قراءة من قرأ (وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين). السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة كما في العهن المنفوش والصوف المنقوش وقال بعضهم: المراد بسبع أحرف وجوه القراءة التي اختارها القراء وهي السبعة المشهورة وقال صاحب المغرب هذا أحسن الأقوال فيها وهو ظاهر كلام الباقلاني وقال أبو أسامة ظن قوم أن القراءة السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ويقرب منه قول ابن عمار وقال محمد بن أبي صغرة القراءات السبع التي يقرأها الناس اليوم إنما هي حرف

ص:79

واحد من تلك الأحرف السبعة ويقرب منه قول مكي بن أبي طالب حيث قال: هذه القراءات التي يقرأ بها الناس اليوم وصحت روايتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم قال: وأما ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم وابن كثير وابن عامر وحمزة وكسائي وأبي عمرو هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما يثبت عن غيرهم من الأئمة ووافق خط المصحف لا يكون قرآنا وهذا غلط عظيم فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين كأبي عبيد القسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل بن إسحاق القاضي قد ذكروا اضعاف هؤلاء قال ابن حجر ذكر أبو عبيد في كتابه خمسه عشر رجلا من كل مصر ثلاثة أنفس فذكر من مكة ابن كثير وابن محيصن وحميد الأعرج ومن أهل المدينة أبا جعفر وشيبة ونافعا، ومن أهل البصرة أبا عمرو وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي إسحاق ومن أهل الكوفة يحيى بن وثاب وعاصما والأعمش.

ومن أهل الشام عبد الله بن عامر ويحيى بن الحرث قال: وذهب عني اسم الثالث ولم يذكر في الكوفيين حمزة ولا الكسائي بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة ولم يجتمع عليه جماعتهم قال: وأما الكسائي فكان ينجزي القراءات فأخذ من قراءة الكوفيين بعضا وترك بعضا وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلا ولم يذكر فيهم ابن عامر ولا حمزة ولا الكسائي، وذكر الطبري في كتابه اثنين وعشرين رجلا، ثم قال مكي وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير وبالمدينة على قراءة نافع واستمروا على ذلك فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة مع أن في أئمة القراءة من هو أجل منهم قدرا وأكثر منهم عددا أن الراة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا فلما تقاصرت الهمم به اقتصورا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وينضبط القراءة به فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي جعفر وشيبة وغيرهم وقد صنف ابن جبير المكي وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة اقتصر من كل مصر إماما وإنما اقتصر على ذلك، لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى هذه الأمصار كانت خمسة.

ويقال أنه وجه سبعة هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ومصحفا إلى البحرين لكن لما لم يسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من غير البحرين

ص:80

واليمن قاريين كمل بهما العدد فصادف ذلك العدد الذي ورد الخبر به وهو «ان القرآن أنزل على سبعة أحرف» فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسئلة ولم يكن له فطنة فظن أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع ولا سيما قد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة فقالوا قرأ بحرف نافع وبحرف ابن كثير فتأكد الظن بذلك وليس الأمر كما ظنه والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أن الذي يصح سنده في السماع ويستقيم وجهه في العربية ويوافق خط المصحف وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه ويراد بالاتفاق ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم وقال وربما يراد بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين قال وأصح القراءة سنة قراءة نافع وعاصم وأفصحها قراءة أبي عمرو والكسائي. وقال البغوي المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنسخ في المصاحف وجمع الناس عليه وأذهب ما سوى ذلك قطعا لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعدوا في اللفظ إلى ما هو خارج من الرسم، ويقرب منه قول الباجي حيث قال لا سبيل إلى تغيير حرف من تلك الحروف التي في هذا المصحف لأن عثمان والصحابة حرقوا المصاحف الأول ما سوى هذا المصحف ولو كان فيها شيئا من بقية تلك الحروف التي أنزل عليها القرآن لم يحرقوه وأيضا حرقوه لأنها كانت على غير ترتيب هذا المصحف المتفق على ترتيبه.

وبالجملة اتفقت العامة على أن القرآن نزل على سبعة أحرف وان اختلفوا في تفسيرها وتعيينها حتى نقل عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولا. وبالغ الصادق (عليه السلام) في الرد عليهم وقال: أنه نزل على حرف واحد والاختلاف إنما جاء من قبل الرواة فالتبس ذلك الحرف المنزل بغيره على الأمة لأجل ذلك فيجوز لهم القراءة بأحد هذه الحروف حتى يظهر الأمر كما دل عليه الحديث الآتي عن سفيان بن السمط قال: «سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن تنزيل القرآن قال: (اقرؤوا كما علمتم)» ودل عليه أيضا أخبار أخر.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة).

وفي رواية اخرى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (معناه ما عاتب الله عزوجل به على نبيه (صلى الله عليه وآله) فهو يعني به ما قد مضى في القرآن مثل قوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) عنى بذلك غيره).

ص:81

* الشرح:

قوله: (نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة) الجارة بالتخفيف ضرة المرأة من المجاورة بينهما والمراد أنه نزل بعض آيات القرآن وهو أيضا قرآن على سبيل التعريض وهو توجيه الخطاب إلى شخص وإرادة غيره لكونه أدخل في النصح وأقرب إلى القبول أو لغرض آخر ومنه قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله): (لئن أشركت ليحبطن عملك) فإنه تعريض لغيره.

قوله: (معناه) أي معنى نزول القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة (ما عاتب الله به عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله)) العتب الموجدة والملامة كالعتاب والمعاتبة والظاهر أنه مبتدء وخبره ما في آخر الحديث وهو قوله: «عني بذلك غيره» (فهو يعني به ما قد مضى في القرآن) أي أوحى فيه.

(مثل قوله: (ولولا ثبتناك)) خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله) (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) الظاهر أن قوله «فهو» إلى آخر كلام الراوي أو المصنف وقع بعد المبتدء وقبل الخبر تفسيرا للمبتدء وتمثيلا له وإن ضمير «هو» و «يعني» راجع إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وضمير «به» إلى الموصول (عنى بذلك غيره) لتنزهه (صلى الله عليه وآله) عن الركون إليهم وذلك إشارة إلى الموصول والله يعلم.

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله ابن جندب، عن سفيان بن السمط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن تنزيل القرآن قال: (اقرؤوا كما علمتم).

* الشرح:

قوله: (اقرؤوا كما علمتم) القرآن نزل على حرف واحد من غير إختلاف فيه ولا يعلمه إلا أهل الذكر عليهم السلام، والاختلاف إنما جاء من قبل الناس فأمر (عليه السلام) بقراءته على وجه علموه لنا إلى أن يخرج الصاحب (عليه السلام)، فإذا خرج حمل الناس على ما أنزله تعالى على رسوله كما سيجيء.

* الأصل:

16 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إلي أبو الحسن (عليه السلام) مصحفا وقال: (لا تنظر فيه) ففتحته وقرأت فيه (لم يكن الذين كفروا) فوجدت فيها اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فبعث إلي (ابعث إلي بالمصحف).

* الشرح:

قوله: (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إلي أبو الحسن (عليه السلام) مصحفا وقال لا تنظر فيه.. الخ) أحمد بن محمد بن أبي نصر معروف بالبزنطي ثقة جليل القدر وكان له اختصاص بأبي

ص:82

الحسن الرضا وأبي جعفر عليهما السلام وكان عظيم المنزلة عندهما وكان هذا المصحف المدفوع إليه هو الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفات النبي (صلى الله عليه وآله) وأخرجه وقال: (هذا هو القرآن الذي أنزله سبحانه). ورده قومه ولم يقبلوه وهو الموجود عند المعصوم ومن ذريته كما دل عليه الأخبار وفي هذا الخبر دلالة على وجود مصحف غير هذا المشهور بين الناس وعلى وجود التحريف والتغيير والحذف فيما أنزله الله تعالى من القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله) ورفعه لا يضر لإعتضاده بأخبار أخر من طرقنا وهي كثيرة مذكورة في كتاب الروضة وغيره، وقد دل الأخبار من طرقهم أيضا على وقوع التغيير لأنهم رووا أن القرآن نزل على سبعة أحرف وقد فسره كثير منهم بأن المراد بالأحرف لغات العرب وبأن العرب كانوا يقرؤونه بلغاتهم إلى عهد عثمان فلما ملك عثمان أمر الأمة أمر الصحابة بجمع مصحف غير المصاحف التي جمعوها قبل ذلك فلما امتثلوا بأمره حرق المصاحف الأول، وقال أبو عبد الله الأبي من علمائهم: إنما حرقها لأنها كانت على غير ترتيب المصحف الذي اتفقوا على ترتيبه أو لأن بعض ما فيها لم يكن من القرآن أو لأنه القرآن ثم نسخ ولم يعلم بعضهم نسخه فقرأه على ما أنزل وحمل عليه قراءة ابن مسعود (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى) وأمثال ذلك كثير فهي إما أن يكون من القرآن أو لم يكن وعلى التقديرين لزم التحريف وإدخال الصحابة ما ليس بقرآن من القرآن مستبعد جدا وثبوت النسخ في أمثال ذلك إما أن يكون باعتقاد بعضهم أو بإجماعهم أو بالنقل والأول ليس بحجة والثاني ليس بمتحقق قطعا لأن إنكار بعضهم لفعله وضربه لابن مسعود مشهور، والثالث يستبعد وقوعه مع غفلة مشاهير الصحابة عنه وعلى تقدير تحققه فلا يجري في الجميع لأنه لم يدع أحد نقل النسخ في جواز القراءة بسبع لغات وليس في المصحف المشهور بين الناس إلا بعض اللغات دون جميعها فليتأمل.

* الأصل:

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبي (عليه السلام): (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر).

* الشرح:

قوله: (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر) يحتمل وجهين: الأول أن يراد بالضرب المعنى المعروف فإن كان من باب الاستخفاف فهو كفر جحود وإلا فهو كفر النعمة وترك الأدب.

الثاني أن يستعمل الرأي في المجمل والمؤول والمطلق والعام والمجاز والمتشابه وغيرها من

ص:83

المعضلات ويجمع بينها بإعتبارات خيالية وإختراعات وهمية ويستنبط منها أحكاما يعمل بها ويفتي بها من غير أن يكون له مستند صحيح ونقل صريح عن أهل الذكر عليهم السلام، وقد نقل عن الصدوق أنه قال في كتاب معاني الأخبار «سألت محمد بن الحسن عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن يجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى».

* الأصل:

18 - عنه، عن الحسين بن النضر، عن القاسم بن سليمان، عن أبي مريم الأنصاري، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (وقع مصحف في البحر فوجدوه وقد ذهب ما فيه ألا هذه الآية (ألا إلى الله تصير الامور).

* الشرح:

قوله: (وقد ذهب ما فيه إلا هذه الآية إلا (إلى الله تصير الأمور)) فيه إظهار شرفه وكماله لانبائه عن فناء كل شيء ورجوعه إلى الله وحثه إلى غاية هو غاية الغايات المطلوبة من الإنسان وهو الفناء في الله المتوقف على رفض ما سواه بالمرة تقويم الظاهر والباطن بكل ما هو مطلوب منهما.

* الأصل:

19 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان، عن ميمون القداح قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (اقرأ) قلت: من أي شيء أقرأ؟ قال: (من السورة التاسعة) قال: فجعلت ألتمسها فقال: (أقرأ من سورة يونس) قال: فقرأت (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) قال: (حسبك) قال: (قال رسول الله 9: إني لاعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن).

* الشرح:

قوله: (عن أبان بن ميمون القداح) هكذا في النسخ وهو غير مذكور في كتب الرجال التي رأيناها وكتب في بعض النسخ المعتبرة «عن» بدل ابن ولعل المراد بأبان حينئذ أبان بن تغلب بن رياح وكان ثقة جليل القدر عظيم المنزلة قاريا فقيها لغويا وله قراءة مفردة مشهورة عند القراء وقال له أبو جعفر (عليه السلام) «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك» كذا في كتب الرجال.

قوله: (قال قال: لي أبو جعفر (عليه السلام) (اقرأ) قلت من أي شيء؟ أقرأ قال من السورة التاسعة.. اه) وهي سورة التوبة ولعل سبب أمره بالقراءة أنه اشتهى أن يسمعه من غيره أو ليعلمه طريق الأداء أو

ص:84

لأنه أبلغ في قبوله التفهيم لأنه يتفرغ في الشغل بالقراءة وتخصيصه ابن القداح يحتمل أنه لم يحضره غيره أو لم يحضره أعلم منه أو لحسن صوته وجودة قراءته ثم الظاهر أنه قرأ من أول السورة إلى قوله: (ولا ذلة) فلما بلغها قال له حسبك ويمكن أن يحتج به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من المقاطع والفصل لأن الآية لم تستقل وتمامها بما بعدها، ويحتمل أن يكون قوله «حسبك» تنبيها على ما في الآية، والإحسان هو الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات وان تعبده كأنك تراه وأنه يراك والمراد بالحسنى المثوبات الحسنى وبالزيادة التفضلات زائدة على تلك المثوبات، والرهق الغشية رهقة كفرح رهقا غشيه والقتر والقترة محركتين الغبرة. (قال: قال:

رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن) لاشتماله على الحزن والغم من عقوبات يوم القيامة وعقباته وشدائده وأهواله ووخامة الأمم الماضية وعقوباتهم في الدنيا بالمخالفة ولذلك قال الله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) وهذا القول لكونه صادقا ويفيد تحقق الجزاء قطعا على تقدير تحقق الشرط مع أن الشرط متحقق بالنسبة إلى الإنسان ولا يتصدع قلبهم منه لا يظهر أن قلوبهم أصلب وأقسى من الصخرة الصماء كما نطق به القرآن الكريم.

* الأصل:

20 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن الحجال، عمن ذكره، عن أحدهما (عليهما السلام) قال:

سألته عن قول الله عز وجل: (بلسان عربي مبين) قال: (يبين الألسن ولا تبينه الألسن).

* الشرح:

قوله: (سألته عن قول الله عز وجل «بلسان عربي مبين» قال: يبين الألسن ولا يبينه الألسن) قيل المراد أن القرآن لا يحتاج إلى الاستشهاد بأشعار العرب وكلامهم بل الأمر بالعكس لأنه أفصح الكلام وفيه أن الله سبحانه أخبر بأنه بلسان العرب فلو وقع فيه ما لا يوافق لسانه بحسب الظاهر وتمسك به المنكرون في القدح والتكذيب لابد من الاستشهاد لإخراجه من الكذب والأصوب أن المبين من الإبانة بمعنى القطع، وإن القرآن يقطع بالفصاحة والبلاغة البالغة حد الإعجاز ألسنة الفصحاء والبلغاء عن المعارضة والإتيان بمثله ولا يقطعه ألسنتهم بالمعارضة.

* الأصل:

21 - أحمد بن محمد بن أحمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن محمد بن الوليد، عن أبان، عن عامر بن عبد الله بن جذاعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما من عبد يقرأ آخر الكهف إلا تيقظ في

ص:85

الساعة التي يريد).

* الأصل:

22 - أبو علي الأشعري وغيره، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد ابن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سليم مولاك ذكر أنه ليس معه من القرآن إلا سورة يس، فيقوم من الليل فينفد ما معه من القرآن أيعيد ما قرأ؟ قال: (نعم لا بأس).

* الأصل:

23 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم (عليه السلام) قرأ كتاب الله عزوجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي (عليه السلام) وقال أخرجه علي (عليه السلام) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله [الله] على محمد (صلى الله عليه وآله) وقد جمعته من اللوحين. فقالوا هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: (أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا، إنما كان علي أن اخبركم حين جمعته لتقرؤوه).

* الشرح:

قوله: (قد جمعته من اللوحين) اللوح كل صحيفة عريضة خشبا أو كتفا وقد كانوا في صدر الإسلام يكتبون فيه لقلة القراطيس و «من» إما ابتدائية أو بمعنى في فعلى الأول كان مكتوبا قبل الجمع فيهما وعلى الثاني جمع فيهما، وحمل اللوحين في الأول على القلبين الطاهرين قلبه وقلب النبي (صلى الله عليه وآله) وهما بمنزلة اللوح المحفوظ بعيد جدا.

* الأصل:

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن سعيد بن عبد الله الأعرج قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يقرأ القرآن ثم ينساه ثم يقرأ ثم ينساه أعليه فيه حرج؟ فقال: لا.

* الأصل:

25 - علي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أبي (عليه السلام): (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر).

* الأصل:

26 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى،

ص:86

جميعا، عن ابن محبوب، عن جميل، عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلته فقد أكثر وأطاب ولم يكتب بها من الغافلين وإني لأركع بها بعد عشاء الآخرة وأنا جالس وإن والدي (عليه السلام) كان يقرؤها في يومه وليلته ومن قرأها إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قبل رجليه قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقوم علي فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة، وإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد أوعاني سورة الملك، وإذا أتياه من قبل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقرأ بي في كل يوم وليلة سورة الملك.

* الأصل:

27 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن فرقد والمعلى بن خنيس قالا: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا فضل القرآن فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

(إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال). فقال ربيعة: ضال؟ فقال: (نعم ضال) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (أما نحن فنقرأ على قراءة أبي).

* الشرح:

قوله: (ومعنا ربيعة الرأي) في المغرب هو كان فقيه أهل المدينة (أما نحن فنقرأ على قراءة أبي) ضبط أبي في بعض النسخ بضم الهمزة وفتح الباء وشد الياء، فقيل: أنه عليه السلام قال ذلك تقية من ربيعة.

* الأصل:

28 - علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن القرآن الذي جاء به جبرئيل 7 إلى محمد 9 سبعة عشر ألف آية).

* الشرح:

قوله: (إن القرآن الذي جاء به جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) سبعة عشر ألف آية) قيل: في كتاب سليم بن قيس الهلالي (1) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفات رسول الله (صلى الله عليه وآله) لزم بيته وأقبل على

ص:87


1- 1 - قوله: «قيل في كتاب سليم» أقول: أما كلمة سبعة عشر ألف آية في هذا الخبر فكلمة «عشر» زيدت قطعا من بعض النساخ أو الرواة وسبعة ألاف تقريب كما هو معروف في إحصاء الأمور لغرض آخر غير بيان العدد كما يقال أحاديث الكافي ستة عشر ألف والمقصود بيان الكثرة والتقريب لا تحقيق العدد فإن عدد آي القرآن بين الستة والسبعة آلاف، والعجب من هذا القائل الذي لا أعرفه ومن جماعة يعمدون إلى كتاب غير ثابت الصحة، ثم إلى كلمات منه كانت في معرض التغيير والتصحيف ورأوا الاختلاف فيها أكثر من مائة مرة ثم يطمئن أنفسهم بالمشكوك ويعتمدون عليه ويجعلونه دليلا على ثبوت التغيير في القرآن العظيم الذي تداولته آلاف ألوف من النفوس، وهل يتصور من عاقل أن يجعل كتاب سليم بن قيس مقدما على القرآن وأليق بالاعتماد وأولى بالقبول منه وقد حكم جل محققي الطائفة بكونه مجعولا ورأوا من إختلاف نسخة ما لا يحصى واشتماله على ما هو خلاف المعلوم بالتواتر، ولا أدري ما أقول فيمن يتظاهر بالخروج عن معتاد النفوس السالمة وأما دفع تواتر التحريف فقد بيناه في حاشية الوافي تفصيلا فلا نطيل بالتكرار. (ش)

القرآن يجمعه ويؤلفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد وكان ثمانية عشر ألف آية. انتهى.

وقال صاحب إكمال الإكمال شارح مسلم نقلا عن الطبرسي: أن آي القرآن ستة آلاف وخمسمائة منها خمسة آلاف في التوحيد وبقيتها في الأحكام والقصص والمواعظ.

أقول: كان الزائد على ذلك مما في الحديث سقط بالتحريف وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها تم كتاب فضل القرآن بمنه وجوده ويتلوه كتاب العشرة من كتاب الكافي تصنيف محمد بن يعقوب رحمه الله تعالى.

ص:88

كتاب العشرة

باب ما يجب من المعاشرة

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن حديد، عن مرازم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس إن أحدا لا يستغني عن الناس حياته والناس لابد لبعضهم من بعض).

* الشرح:

كتاب العشرة

اشاره:

العشرة بالكسر الصحبة والخلطة من المعاشرة وهي المصاحبة والمخالطة.

قوله: (عليكم بالصلاة في المساجد) جماعة وفرادى والمراد بالصلاة الفريضة لأن النافلة في المنزل أفضل (وحسن الجوار للناس) بأن تحفظ الجار غايبا وتكرمه شاهدا وتنصره مظلوما وتستر عيوبه وتغفر ذنوبه وتخلص بصحبته وتقيل عثرته ولا تسلمه عند شدائده، وبالجملة تفعل ما يرضيه وتترك ما يؤذيه.

(وإقامة الشهادة) لهم وعليهم (وحضور الجنائز) ذكر في هذا الخبر من الحقوق أربعا بعضها واجب وبعضها مندوب (أنه لابد لكم من الناس) أي من مخالطتهم ومعاشرتهم ومعاملتهم ثم أكد ذلك بقوله: (أن أحدا لا يستغني عن الناس حياته) أي في حال حياته وبقائه في الدنيا.

(والناس لابد لبعضهم من بعض) ومن ثمة قيل: الناس [مدنين] بالطبع يحتاج بعضهم إلى بعض في التمدن والتعيش والبقاء، إذا لا يقدر أحد على إصلاح جميع ما يحتاج إليه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وغيرها وفيه دلالة على أفضلية الاجتماع والتآلف.

ص:89

من رجح العزلة مطلقا فقد أخطأ وما دل على رجحانها ينبغي حمله على الاعتزال من شرار الناس وأهل البدعة تحرزا عن الدخول فيما هم فيه وصرح بعضهم بأن العزلة أفضل بشرط رجاء السلامة بتحصيل منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى.

* الأصل:

2 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال: (تؤدون الأمانة إليهم وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم).

* الشرح:

قوله: (فقال: تؤدون الأمانة إليهم) وإن كانوا كفارا (وتقيمون الشهادة لهم وعليهم وتعودون مرضاهم وتشهدون جنائزهم) ذكر في هذا الخبر أيضا من الحقوق أربعا وجمع بين الواجب وغيره فإن أداء الأمانة وإقامة الشهادة واجبان لدلالة القرآن والسنة عليه وعيادة المريض مستحبة إلا إذا لم يقم أحد بأمره فيجب القيام على الكفاية لئلا يموت جوعا وعطشا، وأصل العيادة لتفقد الأحوال والقيام بها وشهود الجنائز فرض كفاية إلا أن لا يوجد من العدد ما يقوم به فيتعين.

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، ومحمد بن خالد، جميعا عن القاسم بن محمد، عن حبيب الخثعمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (عليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم مساجدكم وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره).

* الشرح:

قوله: (عليكم بالورع) في الدين بفعل الطاعات وترك المنهيات والتمسك بالآداب الشرعية والآثار النبوية (والاجتهاد) لله في العلم والعمل وإصلاح النفس وإرشاد الخلق.

(وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم) هذا هو الإنصاف التابع للإستقامة في القوة الشهوية والعقلية والغضبية ولعل المراد بالناس الفرقة الناجية لأن المحبة وهي أمر قلبي غير مطلوبة بالنسبة إلى غيرهم وإنما المطلوب مع غيرهم حسن المعاشرة بحسب الظاهر لدفع الضرر وتكميل النظام (أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره) الحياء حالة نفسانية مانعة

ص:90

من القبايح للفرار من اللوم، وفيه ترغيب في رعاية حقوق الجار سيما إذا كان أحد الجارين مراعيا لها لأن معاملة الإحسان بالإحسان أحسن وأتم ومعاملته بالإساءة أقبح وألوم.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: (تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهن فتصنعون ما يصنعون فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن أبي اسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام وأوصيكم بتقوى الله عزوجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله)، أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برا أو فاجرا، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائر كم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم فان الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، فوالله لحدثني أبي (عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنه لادانا للأمانة وأصدقنا للحديث).

* الشرح:

قوله: (وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع) التقوى: كف النفس عما يؤثم، والورع: كفها عنه وعما يشغله عنه تعالى وإن كان حلالا.

(كان يأمر بأداء الخيط والمخيط) الخيط السالك والمخيط كمنبر الإبرة.

(صلوا عشائركم) عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته لأنه يعاشرهم ويعاشرونه من العشرة وهي الصحبة والخلطة (قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك) هذا بعض فوايد تلك الخصال ولها فوائد كثيرة في الدنيا والآخرة مذكورة في محلها.

(فيكون زينها آداهم للآمانة) آداهم بعد الألف يقال: فلان آدى منك للأمانة إذا كان أحسن أداء.

ص:91

باب حسن المعاشرة

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):

(من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل).

* الشرح:

قوله: (من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل) يدك اسم تكون والعليا عليهم خبره وجعلها صفة لليد عليهم خبره بعيد، وهو كناية عن الإحسان وإيصال النفع الديني والدنيوي إليهم بقدر الإمكان.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن حفص، عن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) والبيت غاص بأهله فيه الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق فلم أجد موضعا أقعد فيه فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) وكان متكئا قال: (يا شيعة آل محمد اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه ومن لم يحسن صحبة من صحبه ومخالقة من خالقه ومرافقة من رافقه ومجاورة من جاوره وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

* الشرح:

قوله: (اعلموا أنه ليس منا) أي من زمرتنا وشيعتنا أو من مذهبنا وملتنا (من لم يملك نفسه عند غضبه) مبادي الغضب - وهو حركة النفس نحو الانتقام بسبب الطغيان في القوة الغضبية - داخلة تحت قدرة العبد فلابد له من الأقدام على دفعها بملاحظة الآيات والروايات الدالة على ذم الغضب وحسن المعافات.

(ومن لم يحسن صحبة من صحبه) في السفر أو الحضر ومن حسنها طلاقة الوجه والبشاشة والسلام والكلام والمصافحة والمؤاكلة معه وتحصيل ما يحتاج إليه ورفع ما يغتم منه والإنتظار له إذا نزل والإرتحال معه إذا ارتحل، ونقل عن بعض المسافرين أنه قال: أدركنا المطر ليلة في صحراء فدعاني صاحبي وأجلسني إلى جنب حائط ثم أحنى علي متكئا بيديه على الحائط يظلني من

ص:92

المطر حتى سكن المطر.

(ومخالقة من خالقه ومرافقة من رافقه) خالقهم عاشرهم بحسن خلق. في الكنز: مخالقت با كسى خوش خلقي نمودن ومرافقت با كسى همراهى كردن ويارى كردن وگرمى نمودن) (ومجاورة من جاوره) المجاورة بالجيم في النسخ التي رأيناها يقال جاوره مجاورة إذا صار جاره وإذا استجاره وفي الكنز: «مجاورة همسا يكى كردن ودر زنهار كسى شدن». والمراد بالمجاورة على الأول رعاية حقوق الجار وعلى الثاني إجارته وانقاذه عن المكاره كلها، والقراءة بالحاء المهملة محتملة (وممالحة من مالحه) الممالحة المؤاكلة في الكنز: «ممالحة با كسى همنمكى كردن».

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (إنا نريك من المحسنين) قال: (كان يوسع المجلس ويستقرض للمحتاج ويعين الضعيف).

* الشرح:

قوله: (في قول الله تعالى) حكاية عن أخوة يوسف: (إنا نريك من المحسنين) قالوا ذلك حين أخذهم لسرقة الصاع وهم توصلوا بإحسانه العام وجعلوه شفيعا في استخلاصه وأخذ أحدهم مكانه.

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن علاء بن الفضيل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: عظموا أصحابكم ووقروهم ولا يتهجم بعضكم على بعض ولا تضاروا ولا تحاسدوا وإياكم والبخل كونوا عباد الله المخلصين).

* الشرح:

قوله (عظموا أصحابكم ووقروهم) التوقير التعظيم فالعطف للتأكيد والمبالغة في الإتيان بجميع أنحائه وتخصيص أحدهما بفعل ما يوجب التعظيم والآخر بترك ما يوجب التحقير بعيد (ولا يتهجم بعضهم على بعض) أي لا يدخل عليه بغتة وغفلة من غير اذن حذرا من المخافة ورؤية ما يكرهه وقد كان الاستيذان دأب الأنبياء والصالحين.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن داود بن أبي يزيد وثعلبة وعلي بن عقبة، عن بعض ما رواه، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: (الانقباض من الناس مكسبة للعداوة).

ص:93

باب من يحب مصادقته ومصاحبته

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن الحسن، عن محمد بن سنان، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه ولكن انتفع بعقله واحترس من سيىء أخلاقه ولا تدعن صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله ولكن انتفع بكرمه بعقلك وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق).

* الشرح:

قوله: (لا عليك أن تصحب ذا العقل) وإن كان سئ الخلق غير كريم فإنك (وإن لم تحمد كرمه) في بعض النسخ لم تجد (ولكن انتفع بعقله) في أمر المعاش والمعاد (واحترس من سييء أخلاقه) ولا تتبعه. وفيه إرشاد إلى متابعته في مقتضيات العقل وترك متابعته في مقتضيات الأخلاق الذميمة (ولا تدعن صحبة الكريم) وإن لم يكن له عقل.

(فإن لم تنتفع بعقله) لضعفه (لكن انتفع بكرمه بعقلك) واكتسب نوائله لنفسك وخصلة كرمه بعقلك (وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق) لأنه ليس كريما لتنتفع بكرمه ولا عاقلا لتنتفع بعقله مع أن في صحبة مفاسد من وجوه شتى:

الأول: أن يشغلك عن طاعة الله وذكره ومناجاته واستكشاف أسراره في خلق السماوات والأرض وما بينهما لأن ذلك يستدعي فراغا ولا فراغ مع صحبته.

الثاني: إمكان مسارقة طبعك عن رذائل أخلاقه وقبايح أعماله.

الثالث: إمكان وقوعك في الفتن والمصيبات التي لا ينفك عنها غالبا.

الرابع: أنه ربما يؤذيك تارة بالغيبة ومرة بسوء الظن والتهمة وتارة بالإقتراحات والأطماع الكاذبة التي يشكل الوفاء عليها وتارة بالنميمة والكذب فربما يسمع منك قولا أو يرى منك ما لا يوافقه فيتخذه ذخيرة عنده ليوم يكون له فيه فرصة لتداركه.

الخامس: أن رؤية الأحمق والثقيل ثقيلة، وكذا سماع كلماته الركيكة ومشاهدة أطواره وأخلاقه القبيحة، وقد قيل: قال بعض الحمقاء للأعشى: لم أعشيت عينك.

فقال: لئلا ننظر إلى الثقلاء والحمقاء، وقال جالينوس: لكل شيء حمى وحمى الروح النظر إلى

ص:94

الثقلاء.

وبالجملة مفاسد صحبته أكثر من أن تحصى.

* الأصل:

2 - عنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن محمد بن الصلت، عن أبان، عن أبي العديس قال:

قال أبو جعفر (عليه السلام): (يا صالح اتبع من يبكيك وهو لك ناصح ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش وستردون إلى الله جميعا فتعلمون).

* الشرح:

قوله (اتبع من يبكيك وهو لك ناصح) بزهادته وعبادته وتلاوته وموعظته وحسن أفعاله وزواجر أمثاله والمراد باتباعه التزام ملازمته ومجالسته ومصاحبته واقتفاء آثاره وأطواره.

(ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش) حيث يريد فساد حالك واشتغال بالك عن أمر الآخرة بذكر الهزليات ونقل المضحكات المفسدة للدين.

* الأصل:

3 - عنه، عن محمد بن علي، عن موسى بن يسار القطان، عن المسعودي، عن أبي داود، عن ثابت بن أبي صخرة، عن أبي الزعلي قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): انظروا من تحادثون فإنه ليس من أحد ينزل به الموت إلا مثل له أصحابه إلى الله إن كانوا خيارا فخيارا وإن كانوا شرارا فشرارا، وليس أحد يموت إلا تمثلت له عند موته).

* الشرح:

قوله: (انظروا من تحادثون) أمر باعتبار حال المصاحب في الصلاح والفساد والعلم والعمل والإثم للتمسك بذيل المصلح والتحرز عن المفسد وعلل ذلك ترهيبا وترغيبا بقوله:

(فإن ليس أحد يموت إلا مثل له أصحابه إلى الله) أي مثل أصحابه الذين يسيرون إلى الله ويحشر هو معهم (إن كانوا خيارا فخيارا) يبشرهم ويبشرونه فيفرح ويكرم.

(وإن كانوا شرارا فشرارا) يوبخهم ويوبخونه فيتحير ويندم (وليس أحد يموت) من محبينا ومنكرينا (إلا تمثلت له عند موته) أما المحبون فلتكريمهم وإبشارهم وأما المنكرون فلتوبيخهم وانذارهم وهذا كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) وتمثلهما متواتر عندنا معنى.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض الحلبيين، عن عبد الله بن مسكان،

ص:95

عن رجل من أهل الجبل لم يسمه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (عليك بالتلاد وإياك وكل محدث لا عهد له ولا أمان ولا ذمة ولا ميثاق وكن على حذر من أوثق الناس عندك).

* الشرح:

قوله: (عليك بالتلاد وإياك وكل محدث لا عهد له.. اه) التلاد والتالد من المال القديم الأصلي الذي ولد عندك نقيض الطارف ولعل فيه حث على مصاحبة الإمام القديم وهو من كانت إمامته عن النبي (صلى الله عليه وآله) دون الحادث بعده عند الناس وعلى مصاحبة من علم صلاحه بالتجربة مرارا دون غير المجرب وعلى مصاحبة الشيوخ الذين علموا الخير والشر بالتجربة دون الشبان الذين ليست لهم تجربة وكانت طبايعهم مايلة إلى الشرور.

(وكن على حذر من أوثق الناس عندك) فلا تظهر عليه كل سرك فإنه يتغير عليك، أو لا تأخذ صديقا بدون الاختبار نظرا إلى ظاهر الوثوق.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أحب إخواني إلي من أهدى إلي عيوبي).

* الشرح:

قوله: (أحب إخواني إلي من أهدى إلي عيوبي) وذلك لأن الإنسان يحب نفسه فلا يرى عيوبه فإذا أظهرها له صديقه بمقتضى الصداقة والنصيحة تركها طلبا لكماله وذلك من أجل منافع الصداقة وعظمها. وفيه حث للصديقين على إظهار كل منهما عيب صاحبه وعلى عد ذلك الإظهار عطية وهدية لا منقصة موجبة للتفارق والعدوان كما هو شأن أكثر أبناء الزمان.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن عبيد الله الدهقان، عن أحمد بن عائذ، عن عبيد الله الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة فأولها أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثاني أن ترى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - أن لا يسلمك عند النكبات).

* الشرح:

قوله: (لا يتحقق الصداقة إلا بحدودها) وهي أمور بتحقق مهية الصداقة بكل

ص:96

واحدة منها (فمن كانت فيه هذه الحدود كلها أو شيء منها) واحد واثنان أو ثلاث أو أربع.

(فانسبه إلى الصداقة وإن كانت متفاوتة في الشدة والضعف ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة) ولا تتخذه صديقا ولا يتحقق العلم بوجود تلك الحدود وعدمه في أحد إلا بمجالسة متعددة ومخالطة متكررة ومصاحبة باطنية ومعاشرة ظاهرية أو بشهادة حاله مع اشتهاره بالاتصاف بها عند المعتمدين.

(فأولها) أي أول الحدود ورجوع الضمير إلى الصداقة بعيد والتذكير هنا باعتبار لفظ الحد والتأنيث في البواقي باعتبار إرادة الخصلة منه.

(أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة) لعل المراد أن يكون كل قوله موافقا لضميره وإلا لكان نفاقا منافيا للصداقة لا أن لا يكتم سرا من أسراره إذ كتمان بعض السر من باب الحزم قد يكون مطلوبا كما دل عليه بعض الروايات.

(والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه) فيريد ويكره لك ما يريد ويكره لنفسه.

(والثالثة: أن لا يغيره عليك ولاية أو مال) بأن يكون صداقته بعد وجدان الحكومة والمال كما يكون قبله بلا تفاوت وهي نادرة.

(والرابعة: أن لا يمنعك شيئا يناله مقدرته) هي مثلثة الدال القدرة والغنا واليسار وهي أيضا نادرة.

(والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات) النكبة بالفتح المصيبة وما يصيب الإنسان من الحوادث والإسلام هنا الخذلان والإلقاء إلى الهلكة يقال: أسلم فلان فلانا إذا خذله ولم ينصره أو إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه وقوله: «وهي تجمع هذه الخصال» جملة معترضة بين المبتدء والخبر والظاهر أنه من كلام الصادق (عليه السلام) ويحتمل أن يكون من الراوي وشمولها للخصال المذكورة يظهر بأدنى تأمل.

ص:97

باب من تكره مجالسته ومرافقته

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عمرو بن عثمان، عن محمد ابن سالم الكندي، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا صعد المنبر قال: (ينبغي للمسلم أن يتجنب مواخاة ثلاثة: الماجن الفاجر والأحمق والكذاب فأما الماجن الفاجر فيزين لك فعله ويحب أنك مثله ولا يعينك على أمر دينك ومعادك ومقاربته جفاء وقسوة ومدخله ومخرجه عار عليك، وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه. وربما أراد منفعتك فضرك فموته خير من حياته وسكوته خير من نطقه وبعده خير من قربه، وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش، ينقل حديثك وينقل إليك الحديث كلما أفنى أحدوثة مطرها بأخرى مثلها حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق ويفرق بين الناس بالعداوة فينبت السخائم في الصدور، فاتقوا الله عزوجل وانظروا لأنفسكم).

* الشرح:

قوله: (الماجن الفاجر) مجن مجونا صلب وغلط ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه والفاجر هو المنبعث في المعاصي والمحارم.

(والأحمق والكذاب) الأحمق قليل العقل ضعيف الرأي والكذاب كثير الكذب المعروف به وهو الذي صار الكذب عادة له يدل عليه ما رواه ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الكذاب هو الذي يكذب في الشيء؟ قال: «لا ما من أحد إلا أن يكون ذلك منه ولكن المطبوع على الكذب».

(ومقاربته جفاء وقسوة ومدخله ومخرجه عار عليك) الحمل في الثلاثة من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة، وفي الكنز: «جفا ستم كردن وقرار نگرفتن چيزى بر جاى خود» ولعل وجه الجفاء أنه لما لم يبال بما قال وما فعل وشق ستر الديانة لا يحفظ حق الصداقة فيقول ويفعل ما يؤذيه ويبيعه باليسير ويهتك عرضه بالحقير، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه» ووجه القسوة أنه قسى القلب والقساوة مسرية ووجه العار ظاهر (وربما أراد منفعتك فضرك) في الدين والدنيا لعدم علمه بأن كلامه حق أو باطل وفعله

ص:98

حسن أو قبيح فيتكلم بالباطل ويفعل القبيح لقصد المنفعة وهو يضرك ولذلك ورد النهي عن الاستشارة بالأحمق (كلما افنى أحدوثة مطرها بأخرى مثلها) الأحدوثة ما يتحدث به. والمطر الإسراع مطرت الطير يمطر مطرا إذا أسرع في هويها والخيل إذا جاءت يسبق بعضها بعضها وفي بعض النسخ مطها أي مدها (حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق) ولذلك تركوا العمل برواية الكذابين وهنا حكاية مناسبة وهي أن جماعة وخلوا في بيئة فانفرد واحد في ناحية فنادى السبع فاجتمعوا عليه فوجدوه كاذبا فتفلوا في وجهه ورجعوا ثم فعل وفعلوا ذلك مرتين والمرة الرابعة وهي مرتبة صدقه لم يصدقوه ولم يجتمعوا عليه فافترسه السبع.

(ويعرف بين الناس بالعداوة) يعرف بالعين المهملة والفاء وفي بعض النسخ يفرق من التفريق وفي بعضها يغري من الإغراء (فينبت السخائم في الصدور) السخيمة الحقد والضغن والغضب.

* الأصل:

2 - وفي رواية عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينغبي للمرء المسلم أن يواخي الفاجر فإنه يزين له فعله ويحب أن يكون مثله ولا يعينه على أمر دنياه ولا أمر معاده ومدخله إليه ومخرجه من عنده شين عليه).

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن محمد بن يوسف عن ميسر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا ينبغي للمرء المسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابه عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال عيسى بن مريم 7: إن صاحب الشر يعدي وقرين السوء يردي فانظر من تقارن).

* الشرح:

قوله: (إن صاحب الشر يعدي) أي يظلم صاحبه من أعدى عليه إذا ظلمه أو يسري شره إليه من أعداه الداء يعديه أعداء إذا أصابه مثل ما يصاحب الداء أو صرفه عن الحق وشغله بالباطل من عداء عن الأمر بالتخفيف والتشديد إذا صرفه وشغله.

(وقرين السوء يردي) ردى كرضى ردى هلك وأرداه أهلكه والإضافة في قرين السوء على

ص:99

الأول لامية وعلى الثاني بيانية (فانظر من تقارن) يعني فانظر أولا إلى صفات رجل واختبره مرارا فإذا وجدته أهلا للأخوة والصداقة فاتخذه صديقا لأن أخذ الصديق قبل الاختبار يؤدي سريعا إلى الفراق ومفاسده كثيرة.

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، ومحمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن موسى قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا عمار إن كنت تحب أن تستب لك النعمة وتكمل لك المروءة وتصلح لك المعيشة، فلا تشارك العبيد والسفلة في أمرك فإنك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن نكبت خذلوك، وإن وعدوك أخلفوك).

* الشرح:

قوله: (إن كنت تحب أن تستتب لك النعمة) استتيب لك الأمر أي تهيأ واستقام واستمر (فلا تشارك العبيد والسفلة في أمرك) في الصحاح السافل نقيض العالي والسفالة بالفتح النذالة والسفلة بكسر الفاء السقاط من الناس يقال هو من السفلة ولا تقل هو سفلة لأنها جمع والعامة تقول: رجل سفلة من قوم سفل قال ابن السكيت: وبعض العرب تخفف فيقول: فلان من سفلة الناس فينقل كسرة الفاء إلى السين (حب الأبرار للأبرار وثواب للأبرار) الظاهر أن المراد بالأبرار المحب والمحبوب كلاهما فعلى هذا يتعدد ثوابهما على قدر تعددهما.

* الأصل:

6 - قال: وسمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (حب الأبرار للأبرار ثواب للأبرار وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار وبغض الفجار للأبرار زين للأبرار وبغض الأبرار للفجار خزي على الفجار).

* الشرح:

قوله: (وحب الفجار للأبرار فضيلة للأبرار) إذ ليس مما يتوقعه البار ولا من مقتضيات البر والفجور بل من فضل الله عز وجل حيث جعل قلب الفاجر مايلا إليه نافعا له في بعض الأمور الدنيوي (وبغض الفجار للأبرار زين للأبرار) إذ هو ما يقتضيه البر والفجور ويتوقعه البار لإنقطاع الربط بالمرة (وبغض الأبرار للفجار خزي للفجار) لم يذكر حب الأبرار لهم للتنبيه على أنه ينبغي أن لا يكون وقد دل على الأمرين قول خليل الرحمن: (بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) إلى يوم القيامة.

ص:100

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن عذافر، عن بعض أصحابهما، عن محمد بن مسلم وأبي حمزة عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قال لي أبي علي بن الحسين صلوات الله عليهما: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، فقلت: يا أبة من هم عرفنيهم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عزوجل في ثلاثة مواضع قال الله عزوجل: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وقال عزوجل:

(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) وقال في البقرة: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون).

* الشرح:

قوله: (قال: إياك ومصاحبة الكذاب) المصاحبة شاملة للمجالسة والمخالطة والمحادثة والمرافقة والكذاب كما يطلق على من يأتي بخبر لا يطابق الواقع كذلك يطلق على من يرغب في أمر لا أصل له ومنه قول العرب: كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد تكون وذلك مما يرغب الرجل فيما لا يعنيه ويبعثه على التعرض له.

(فإنه بمنزلة السراب) الضمير المنصوب راجع إلى الكذاب أو إلى الكذب المستفاد منه والسراب الأول اللامع في المغازة وقت الهاجرة شبيه بالماء سمي سرابا لانسرابه وجريانه في مرأى العين ويطلق أيضا على ما لا حقيقة له وأشار إلى وجه الشبه بقوله:

(يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب) إذ كل منهما يقرب لك البعيد وهو ما ليس بواقع في نفس الأمر بإخباره وإحضاره في مرأى العين ويبعد القريب لعدم صفاء اللفظ وبقاء النطق به وانسرابه وجريانه في مرأى العين فالقريب حينئذ هو الذي قرباه ويمكن أن يكون في طرف المشبه الحق لأن تقريب الباطل يستلزم تبعيد الحق والله يعلم.

(وإياك ومصاحبة الفاسق) مفاسد مصاحبته كثيرة أشار إلى بعضها بقوله:

ص:101

(فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك) الأكلة بالفتح المرة من الأكل وبالضم اللقمة والقرص من الخبز وذلك لأنه لا زاجر له من القبيح فإذا قصرت فيه بهذا القدر من الطعام يذمك عند الناس أو يذهب إلى عدوك فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه بجائزة فيهتك ستر المصاحبة (وإياك ومصاحبة البخيل) الذي يبخل في الفرائض المالية فضلا عن مندوباتها.

(فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه) أحوج خبر تكون وضمير إليه للبخيل وما مصدرية زمانية يعني يخذلك في وقت كونك محتاجا إليه أشد احتياج فكيف في غير هذا الوقت (وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه) بترك حقوقها اللازمة.

(فإني وجدته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع) وأول من دخل فيه بنو أمية وبنو عباس حيث قطعوا أرحام النبي (صلى الله عليه وآله) وهي رحمهم بالقتال والظلم والتجاذب للخلافة.

(قال الله تعالى: (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) من القطع أو التقطيع للمبالغة (أرحامكم) أن توليتم معترضة وأن تفسدوا وما عطف عليه خبر عسى والاستفهام للتقرير والتوبيخ يعني يتوقع منكم قطعا أن توليتم أمور الناس أو أعرضتم عن الدين بالفساد في الأرض وقطع الأرحام لضعفكم في الدين وحرصكم إلى الدنيا وميلكم إلى الجور، ثم أشار إلى ثمرة عملهم وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على بعدهم من الحق بقوله (أولئك الذين) الموصوفون بالصفات المذكورة.

(لعنهم الله) وبعدهم عن الرحمة الشاملة لمن يستعد قبولها (فأصمهم) عن اسماع الحق (وأعمى أبصارهم) الظاهرة والباطنة عن إدراكه الاهتداء إلى سبيله (وقال تعالى) في سورة الرعد (الذين ينقضون عهد الله) المأخوذ عليهم بقوله: (ألست بربكم قالوا: بلى) أو بالعقل الدال على وجوده وتوحيده وصدق رسوله وما جاء به بعد مشاهدة المعجزات أو بإرسال الرسل وإنزال الكتب الدالة على أمر المبدء والمعاد والحلال والحرام وغيرها مما يتم به نظام الدارين وكمال السعادتين.

(من بعد ميثاقه) أي من بعد احكامه تعالى ذلك العهد بالآيات والكتب أو بعد أحكامهم إياه بالإقرار والقبول والإذعان (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) كترك صلة الأرحام وموالاة أهل الولاية وغيرهما مما يوجب الوصل بينه تعالى وبين العبد.

(ويفسدون في الأرض) بالظلم والجور وتحريك الفتن هذا في القرآن موجود وفي نسخ هذا الكتاب مكتوب مضروب.

(أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) عذاب النار أو قبح عاقبة الدنيا.

ص:102

* الأصل:

8 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن موسى بن القاسم قال: سمعت المحاربي يروى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة مجالستهم تميت القلب:

الجلوس مع الأنذال والحديث مع النساء والجلوس مع الأغنياء).

* الشرح:

قوله: (ثلاثة مجالستهم تميت القلب) أي تغفلهم عن أمر الآخرة وتميله إلى الشهوات وزهرات الدنيا لضعف عقولهم وشدة ميلهم إلى الدنيا فلا يأمن الجليس من الاغترار بخدائعهم.

والأنذال: جمع النذل وهو الخسيس من الناس المحتقر في جميع أحواله، وقد نذل ككرم فهو نذل ونذيل أي خسيس محتقر.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عمن ذكره، رفعه، قال: قال لقمان (عليه السلام) لابنه: (يا بني لا تقترب فتكون أبعد لك ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها، وإن ابن آدم يحب مثله، ولا تنشر بزك إلا عند باغيه كما ليس بين الذئب والكبس خلة كذلك ليس بين البار والفاجر خلة، من يقترب من الزفت يعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرقه، من يحب المراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ومن لا يملك لسانه يندم).

* الشرح:

قوله: (قال: لقمان لابنه يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان) هذا الكلام من المتشابهات ولعل معناه لا تقترب من الفاجر فيكون اقترابه أبعد لك من الخير أو يكون عدم اقترابه أبعد لك من الشر ولا تبعد من البار فتهان وتخزى في الدنيا والآخرة أو معناه لا تقترب من الناس اقترابا تاما ولا تبعد منهم والمقصود هو الحث على الإعتدال في المخالطة معهم أو معناه لا تقترب من الصديق كثيرا ليكون أبعد لك من زوال المحبة والصداقة ولا تبعد منه كثيرا فتهان والمشهور «زر غبا تزدد حبا» والله يعلم.

(إن كل دابة تحب مثلها وأن ابن آدم يحب مثله) أي كل صنف من الدابة، وكل صنف من بني آدم يحب مثله وهذا كالتأكيد للسابق.

(ولا تنشر برك إلا عند باغيه.. اه) البر الصلة والإحسان والطاعة وكل وصف يتصف به البار،

ص:103

والباغي الطالب وفيه حث على مصاحبة البار دون الفاجر. وفي بعض النسخ «بزك» بالزاي المعجمة وهو الثياب والمتاع، والمراد به المعاني المذكورة والمآل واحد الخلة بالكسر الصداقة والمحبة والزفت بالكسر القار.

(ومن لا يملك لسانه يندم) ميدان اللسان في الخير والشر واسع فمن لا يملك لسانه ولا يتفكر في صحة قوله وفساده ولا في عاقبته يتكلم كثيرا بما يعود ضرره إليه أو إلى أحد من المؤمنين فيندم ولا ينفعه الندم قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لسان العاقل ولاء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه» ومن ثم قال بعض الأفاضل: لا تتكلم بلسانك وما تكسر به أسنانك.

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن بن أبي نجران، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): (المرء على دين خليله وقرينه).

* الشرح:

قوله: (المرء على دين خليله وقرينه) أي عند الناس أو في نفس الأمر لأنه يعدي.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحجال، عن علي بن يعقوب الهاشمي، عن هارون بن مسلم، عن عبيد بن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إياكم ومصادقة الأحمق فإنك أسر ما تكون من ناحيته أقرب ما يكون إلى مساءتك).

* الشرح:

قوله: (ومصادقة الأحمق فإنك أسر ما تكون من ناحيته أقرب ما يكون إلى مساءتك) لأن الأحمق شأنه أن لا يضع شيئا في موضعه فربما يطلب شيئا يزعم أنه خير وهو شر عليك.

ص:104

باب التحبب إلى الناس والتودد إليهم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن أعرابيا من بني تميم أتى النبي 9 فقال له: أوصني، فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك).

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (مجاملة الناس ثلث العقل).

* الشرح:

قوله (مجاملة الناس ثلث العقل) المجاملة المعاملة بالجميل فلعل السر في كونه ثلث العقل تكميل القوة والحكمة العلمية والحكمة العملية ينقسم إلى ما بين الخالق وبين العبد وإلى ما بينه وبين المخلوق والمجاملة من هذا القسم.

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول (صلى الله عليه وآله): ثلاث يصفين ود المرء لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه ويدعوه بأحب الأسماء إليه).

* الأصل:

4 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (التودد إلى الناس نصف العقل).

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (التودد إلى الناس نصف العقل).

* الشرح:

قوله: (التودد إلى الناس نصف العقل) لأن العقل نصفان: عقل المعاد ونصف عقل المعاش وهذا هو هكذا في شرح النهج.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن

ص:105

منصور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيديا كثيرة).

* الشرح:

قوله: (من كف يده عن الناس) بأن يترك مجاملتهم ومعاملتهم ومخالطتهم ومودتهم وحسن الأخلاق معهم فإنما يكف عنهم يدا واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة وهي أيدي ذلك الرجل وأتباعه وحشمه وأحباؤه وأولاده وأنصاره وأقرباؤه فكيف إذا كف يده عن جماعة.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن صالح بن عقبة، عن سليمان بن زياد التميمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (عليهما السلام): القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه والبعيد من بعدته المودة وإن قرب نسبه، لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد وإن اليد تغل فتقطع وتقطع فتحسم).

* الشرح:

قوله: (لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد وإن اليد تغل) غلو غلولا وأغل خان في الفيء على الخصوص ويراد به هنا مطلق الخيانة.

(فتقطع وتقطع فتحسم) يحتمل أن يراد بالقطع الأول قطع البعض وبالثاني قطع الكل وأن يكون العطف للتفسير والتأكيد والحسم القطع والكي، قال في القاموس: العرق قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه، وفي التمثيل تنبيه على المهاجرة عن القريب وإن كان شاقه باعتبار القرابة النسبية لكن لابد منها إن كان خائنا فاسقا.

ص:106

باب إخبار الرجل أخاه بحبه

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن عمر، عن أبيه، عن نصر بن قابوس قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا أحببت أحدا من إخوانك فأعلمه ذلك فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: (رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).

* الشرح:

قوله: (إذا أحببت أحدا من إخوانك فأعلمه ذلك) إعلام المحبة موجب لثباتها في الطرفين وحصولها للآخر إن لم تكن وهو مجرب، وقد أخبرني بعض أخواني بها وبالغ في صدقة فلم أنسه منذ أخبرني بها وأنا أخبرت بعضا آخر ثم لقيته بعد سنين كثيرة فأخبرني بأنه لم ينسني منذ أخبرته بها.

(فإن إبراهيم (عليه السلام) قال (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) على الخلة وبهذا التقرير يتضح التقريب والذي يدل عليه ما رواه الصدوق في الباب الخامس عشر من كتاب العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى عليهما السلام، فقال المأمون له (عليه السلام): أخبرني عن قول إبراهيم (رب أرني...) الآية، قال الرضا (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إني اختار من عبادي خليلا أن سألني أحياء الموتى أجبته فوقع في نفسه (عليه السلام) أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى قال: أولم تؤمن بي قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي على الخلة».

* الأصل:

2 - أحمد بن محمد بن خالد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعا، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أحببت رجلا فأخبره بذلك فإنه أثبت للمودة بينكما).

ص:107

باب التسليم

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): السلام تطوع والرد فريضة).

* الشرح:

قوله: (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): السلام تطوع والرد فريضة) البداية بالسلام سنة بإجماع الأمة ولا عبرة بقول بعض العامة أنه لا خلاف في أنه سنة أو فرض كفاية أن أراد به ما هو الظاهر وأول كلامه القرطبي بأنه ليس قوله أو فرض كفاية مخالفا للإجماع على أنه سنة لأن معناه إقامة السنة وإحياؤها فرض كفاية، ثم الرد فريضة عينية أن كان المسلم عليه واحدا معينا ولو كانوا جماعة لظاهر قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) إن وجوب الرد عيني لتبادره منه لكن الأخبار الواردة في الباب الثاني من هذا الباب وإجماع الأمة إلا أبو يوسف من علماء العامة فإنه قال: لا يرد إلا الجميع هو أنه كفائي يسقط رد واحد منهم وجوب الرد عن الباقين، وهنا زيادة تحقيق سنذكره إن شاء الله تعالى، ثم أن قوله تطوع والرد فريضة مختص بما إذا كان المسلم والمسلم عليه بالغين مكلفين ولو كانوا صبيين مميزين أولا أو كان أحدهما صبيا والآخر بالغا فلا تطوع ولا فرض، وقيل: بوجوب الرد إذا كان المسلم مميز أو المسلم عليه مكلفا وهذا على تقدير كون أفعال المميز شرعيا ظاهر والاحتياط واضح.

* الأصل:

2 - وبهذا الإسناد قال: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) وقال: (إبدؤوا بالسلام قبل الكلام فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه).

* الشرح:

قوله: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) لأن ترك السنة الموكدة والاستخفاف بها وبالمؤمن خصوصا إذا كان بالتجبر يقتضي مقابله التارك بالإستخفاف.

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أولى الناس بالله وبرسوله من بدأ بالسلام).

ص:108

* الشرح:

قوله: (أولى الناس بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله) من بدأ بالسلام) أي أولى الناس برحمة الله وإكرامه وأقربهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحبهم وأحسنهم مقاما وأفضلهم وأكثرهم ثوابا من بدأ بالسلام لأنه البادي بإظهار التودد والتآلف وطلب الخير والسلامة المطلوبة شرعا، ويفهم منه أن الابتداء بالسلام أفضل من رده مع أنه واجب.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (كان سلمان رحمه الله يقول: افشوا سلام الله فان سلام الله لا ينال الظالمين).

* الشرح:

قوله: (كان سليمان (عليه السلام)) في بعض النسخ سلمان (رحمه الله) بدون الياء بعد اللام (يقول: افشوا السلام فإن سلام الله لا ينال الظالمين) سلام الله هو الرحمة والسلام من الآفات في الدنيا والمكاره في الآخرة والمراد بإفشاء السلام أن السلام على كل من تلقاء من المسلمين خصوصا الفقراء والمساكين عرفته أولم تعرفه ولم تخص به جماعة دون آخرين وإن كانوا من الظالمين، فإن السلام لا ينفعهم ولا يضرك بل ينفعك إذ تستوجب به كمال نظامك ومغفرة ذنوبك وحسن مقامك بينهم ومما ينبغي الإشارة إليه أنه هل يجوز لنا أن نقول قال زيد عليه السلام: كذا فالذي يقتضيه الدليل جواز ذلك وعليه علماؤنا وأكثر العامة قال أبو محمد الجويني: لا يجوز ذلك لأن السلام تحية مختصة بالأنبياء كالصلاة فلا يقال علي عليه السلام: كما لا يقال: علي صلى الله عليه وآله أقول: دعوى الإختصاص لا دليل عليها لا من طرقنا ولا من طرقهم وقد بسطنا الكلام عليه فيما سبق.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل يحب إفشاء السلام).

* الأصل:

6 - عنه، عن ابن فضال، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله عزوجل قال:

[إن] البخيل من يبخل بالسلام).

ص:109

* الشرح:

قوله: (البخيل من يبخل بالسلام) إعطاء السلام أسهل من إعطاء المال فالبخل بالسلام أشد وأقبح من البخل بالمال حتى كان البخيل منحصر فيه.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم أحدكم فليجهر بسلامه لا يقول: سلمت فلم يردوا علي ولعله يكون قد سلم ولم يسمعهم فإذا رد أحدكم فليجهر برده ولا يقول المسلم: سلمت فلم يردوا علي، ثم قال:

كان علي 7 يقول: لا تغضبوا ولا تغضبوا افشوا السلام واطيبوا الكلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ثم تلا 7 عليهم قول الله عزوجل: (السلام المؤمن المهيمن).

* الشرح:

قوله: (ثم كان صلوات الله عليه يقول لا تغضبوا ولا تغضبوا) نهى عن الغضب والإغضاب مطلقا لأن تركهما من أعظم أسباب حسن النظام أو عن الغضب بترك الجواب إذا لم يجهر بالسلام وعن إخفاء الجواب الموجب للإغضاب.

(افشوا السلام وأطيبوا الكلام) تأكيد للسابق على الاحتمالين ولذا ترك العاطف. والنيام بالفتح والتخفيف والتشديد جمع نائم، وأما بالكسر فهو النعاس والرقاد (تدخلوا الجنة بسلام) أي متلبسين بسلامة من الآفات والمكاره كلها.

(ثم تلا (عليه السلام) قوله تعالى: (السلام المؤمن المهيمن) من أسمائه تعالى السلام لسلامته من النقص والآفات أو لأنه مسلم عباده من المهالك أو لأنه مسلم عليهم في الجنة فهو على الأول من أسماء التنزيه كالقدوس وعلى الثاني راجع إلى القدرة وعلى الثالث إلى الكلام ومن أسمائه المؤمن من الإيمان التصديق لأنه يصدق وعده أو من الأمن ضد الخوف يؤمنهم في القيامة عذابه ومن أسمائه المهيمن لأنه الراقب الشهيد، وفي ذكر هذه الآية إيماء إلى أنه تعالى يحب سلام العباد بعضهم بعضا ويجزيهم له يوم الجزاء.

* الأصل:

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (البادي بالسلام أولى بالله وبرسوله).

* الأصل:

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان، عن الحسن

ص:110

بن المنذر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (من قال: السلام عليكم فهي عشر حسنات، ومن قال: [ال] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي عشرون حسنة، ومن قال: [ال] سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاثون حسنة.

* الشرح:

قوله: (من قال: سلام عليكم فهي عشر حسنات.. اه) قال بعض العامة: السلام اسم من أسمائه تعالى أو معنى السلام عليكم كما يقال: الله معك أي حفيظ عليك والظاهر أن المراد بالسلام هنا معنى السلامة من الآفات والنجاة من النار، وقد فسره بذلك كثير من الفضلاء ورحمته سبحانه عبارة من ألطافه وإحسانه وإكرامه وإنعامه والمراد بالبركة هنا إما زيادة الخير أو الثبات على ذلك من قولهم: بركت الإبل إذا ثبت على الأرض أو التطهير من المعايب وتضاعيف الحسنات هنا من باب «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» فكل كلمة من الكلمات الثلاث حسنة، ثم الظاهر أنه يصح السلام بكل صيغة صحيحة متعارفة في الشرع والعرف بالقواعد المقررة في العربية مثل سلام عليك سلام عليكم بالتنكير والإفراد والجمع وإن كان المخاطب واحدا، والجمع أولى وأفضل كما دل عليه ما بعد هذا الخبر ومثله تعريف السلام في الصيغتين وتقديمه أفضل لتقدمه في القرآن والإخبار وتأخيره أيضا جائز مثل وعليك السلام وقال بعض العامة: يكره أن يقدم لفظ عليكم على لفظ السلام وجاء في رواياتهم النهى عنه وأنها تحية الموتى فقيل معنى كونها تحية الموتى أنها من عادة الشعراء في رثائهم الموتى وخطابهم مثل:

عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما ولا يعني أنها السنة في تحية الموتى فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) فحياهم بتحية الاحياء وقيل: وجه الكراهة إن عادة العرب تقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضبه، وقوله تعالى: (وإن عليك لعنتي) ورد بأن الله تعالى في آية اللعان قدم اللعنة والغضب على الاسم وقيل: السلام اسم الله فهو أولى بالتقديم وهذا أحسن لو سلم عن المعارضة فإنه قدم عليكم على الاسم الصادر عن الرحمة وهل يتحقق السلام والتحية بمثل السلام بحذف الخبر كما هو المتعارف بين بعض الناس فالظاهر نعم لأنه مندرج تحت القانون ويحتمل العدم لعدم كونه متعارفا شرعا وعرفا ويتفرع عليه وجوب الرد وعدمه.

* الأصل:

10 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن منصور بن

ص:111

حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ثلاثة ترد عليهم رد الجماعة وإن كان واحدا: عند العطاس يقال:

يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره، والرجل يسلم على الرجل فيقول: السلام عليكم والرجل يدعو للرجل فيقول: عافاكم الله وإن كان واحدا فإن معه غيره).

* الشرح:

قوله: (ثلاثة ترد عليهم رد الجماعة وإن كان واحدا) أي تخاطبهم خطاب الجماعة فيشمل الابتداء والجواب.

(عند العطاس يقول: يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره) أي بحسب الظاهر فلا ينافي ما في آخر الحديث فإن معه غيره يعني معه غيره من الملائكة والمؤمنين والمؤمنات بحسب القصد والواقع.

* الأصل:

11 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، رفعه قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول: (ثلاثة لا يسلمون، الماشي مع الجنازة، والماشي إلى الجمعة، وفي بيت حمام).

* الشرح:

قوله: (ثلاثة لا يسلمون) محمول على الكراهة (الماشي مع الجنازة والماشي إلى الجمعة وفي بيت حمام) ولعل السر في الأولين أنه ينافي التعجيل المطلوب فيهما أو المراد أنهما لا يبتدئان بالسلام على غيرهما بل ينبغي العكس لفضل المشي مع الجنازة وإلى الجمعة وفي الأخير أنه يوجب النظر إلى ما يكره والاطلاع عليه والله أعلم.

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من التواضع أن تسلم على من لقيت).

* الشرح:

قوله: (من التواضع أن تسلم على من لقيت) وإن وقعت الملاقاة في اليوم مرارا كما دلت عليه رواية أبي عبيدة المذكور في باب المصافحة عن أبي جعفر (عليه السلام).

* الأصل:

13 - أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل، عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السلام)

ص:112

قال: (مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجاوزا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم (عليه السلام) إنما قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت).

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن من تمام التحية للمقيم المصافحة وتمام التسليم على المسافر المعانقة).

* الشرح:

قوله: (وتمام التسليم على المسافر المعانقة) عند قدومه وظني أنه مروي وقد مر فضل المعانقة في بابها.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (يكره للرجل أن يقول: حياك الله ثم يسكت حتى يتبعها بالسلام).

* الشرح:

قوله (يكره للرجل أن يقول: حياك الله ثم يسكت حتى يتبعها بالسلام) الحياة البقاء ضد الموت والحياء بالفتح والقصر الخصب والرخاء والملك والتحية وهي السلام ومعنى حياك الله أبقاك من الحياة أو رزقك رزقا حسنا أو ملكك وفرحك أو سلام عليك من الحيا بالمعاني المذكور.

ص:113

باب من يجب ان يبدأ بالسلام

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير).

* الشرح:

قوله: (يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير) أما بداية الصغير على الكبير فلأن للكبير على الصغير فضلا في السن فحصل له بذلك مزية التقدم بالتحية نعم لو كان للصغير فضائل نفسانية مثل العلم والأدب دون الكبير لا يبعد القول بالعكس لأن مراعاة الفضل البدني يقتضي مراعاة الفضائل النفسانية بالطريق الأولى ولأن العالم له نسبة مؤكدة إلى النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) دون الجاهل ومن اعتبر حال بعض الأئمة وبعض الأنبياء (عليه السلام) علم أن تقدمهم على غيرهم مع صغر سنهم إنما كان لأجل كمالاتهم وحمل الصغير والكبير على الصغير المعنوي والكبير المعنوي مستبعد، وأما بداية المار على القاعد فلأن القاعد قد يقع في نفسه خوف من القادم فإذا ابتدء القادم بالسلام أمن أو لأن القاعد لو أمر بالبداية على المارين شق عليه لكثرة المارين بخلاف العكس وأما بداية القليل على الكثير فلفضيلة الجماعة وأيضا لو بدأت الجماعة على الواحد خيف منه الكبر ويحتمل غير ذلك والله تعالى يعلم.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (القليل يبدؤون الكثير بالسلام والراكب يبدأ الماشي وأصحاب البغال يبدؤون أصحاب الحمير وأصحاب الخيل يبدؤون أصحاب البغال).

* الشرح:

قوله: (والراكب يبدأ الماشي.. اه) اما بداية الراكب الماشي فلأن الراكب فضلا دنيويا فعدل الشرع بينهما فجعل للماشي فضيلة أن يبدأ بالسلام، واما لأن الماشي قد يخاف من الراكب فإذا سلم عليه أمن أو لأنه لو ابتدأ الماشي بالسلام على الراكب خيف من الراكب الكبر وهذه التعاليل

ص:114

يجري فيما بعد أيضا.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن ابن بكير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد وإذا لقيت جماعة جماعة سلم الأقل على الأكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة).

* الشرح:

قوله: (وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة) هذا من الآداب سواء كان الواحد أفضل وأعلم من الجماعة أم لا لما مر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بقوم فسلم عليهم، نعم لو سلم الجماعة على الواحد إذا كان أفضل منهم كان لهم مع ثواب فضيلة التقدم بالسلام ثواب فضيلة التعظيم للعالم.

* الأصل:

4 - سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(يسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد).

* الأصل:

5 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كان قوم في مجلس ثم سبق قوم فدخلوا فعلى الداخل الأخير إذا دخل أن يسلم عليهم).

* الشرح:

قوله: (إذا كان قوم في مجلس ثم سبق قوم فدخلوا فعلى الداخل أخيرا أن يسلم عليهم) أي على أهل المجلس جميعا الكائنين فيه والسابقين في الدخول سواء استقر السابقون في القعود أم لا، وسواء فصل بينهم وبين الأخير زمان أم لا.

ص:115

باب إذا سلم واحد من الجماعة أجزأهم وإذا رد واحد من الجماعة أجرأ عليهم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن ابن بكير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم).

* الشرح:

قوله: (إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم) دل هذا وما بعده على أن وجوب الرد كفائي إذا رد أحد من جماعة كفى وهو مذهب جماعة من أصحابنا وأكثر العامة ويؤيده أنه سلم سلاما واحدا فليس له إلا عوض واحد فإذا تحقق خرجوا من العهدة وعليه يحمل قوله تعالى: (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) إلا أن يحمل الأمر على الندب لعدم وجوب الأحسن وهو ضعيف لأن الجواب غير منحصر في الأحسن بل هو مردد بين المثل والأحسن ثم رد واحد منهم إنما يكفي لو كان داخلا في المجموع المسلم عليهم وكان مكلفا بالجواب فلو لم يكن داخلا أو كان داخلا ولم يكن مكلفا لا يسقط جوابه عن الباقين لأنه قد وجب الرد عليهم ولم يأت أحد بذلك الواجب إذ لا يجب على غير الداخل ولا على غير البالغ، وقال الفاضل الأردبيلي: يمكن أن يقال لو سلم على جماعة يدخل فيهم غير البالغ وهو مقصود بالسلام أيضا يكفي رده عن الباقين إذ المسلم كأنه ما أوجب الرد بل جاء بكلام يريد عوضه بواجب وغير واجب فيكفي غير الواجب.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال:

(إذا سلم الرجل من الجماعة أجزأ عنهم).

* الأصل:

3 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم وإذا رد واحد أجزأ عنهم).

ص:116

باب التسليم على النساء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله 9 يسلم على النساء ويرددن عليه السلام وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ويقول: أتخوف أن تعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر).

* الشرح:

قوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسلم على النساء ويرددن عليه السلام وكان أمير المؤمنين (عليه السلام).. اه) دل هذا الخبر على جواز السلام على النساء وإن كانت شابة وعلى جواز ردهن وسماع صوتهن ويؤيده الأصل وتكلم فاطمة عليها السلام مع سلمان وبلال وغيرهما من الأصحاب وهو الظاهر من مذهب بعض الأصحاب، وظاهر عبارات أكثر الأصحاب أن صوتهن عورة واستماعه حرام وان سلامهن على الأجنبي حرام، وكذا سلامه عليهن وأن الجواب في الصورتين ليس بمشروع لأن الشارع لا يأمر برد الجواب عن الحرام وأنه ليس ذلك بتحية شرعا فلا يوجب الأجر والعوض ويدل عليه ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لا تبدؤوا النساء بالسلام» وما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا تسلم على المرأة» ويمكن حمل النهي فيهما على الكراهة مطلقا أو عند توهم الفتنة أو إذا كانت شابة للجمع بين الأخبار ويؤيده ما في آخر هذا الحديث لأن الظاهر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد بما نسب إلى نفسه غيره، واختلف العامة أيضا فأجاز مالك والجمهور السلام على المسنة وكرهوا على الشابة خوف الفتنة من مكالمتها وردها وقال بعضهم: يسلم عليهن ولا يرددن لأنه إذا سقط عنهن الأذان والإقامة والجهر بالقراءة سقط عنهن الرد، وقال بعضهم: لا يسلم الرجال على النساء ولا النساء على الرجال، وقال المازري: إذا كانت النساء جماعة يسلم عليهن وإن كانت واحدة مسنة لا تشتهي يسلم عليها وتسلم هي وإن كانت تشتهي أو شابة لا يسلم عليها ولا تسلم هي ومن سلم منهما لم يستحق جوابا.

ص:117

باب التسليم على أهل الملل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

قال: (دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السام عليكم فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليكم، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما رد على صاحبيه فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا إخوة القردة والخنازير، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شأنه، قالت: يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم السام عليكم؟ فقال: بلى أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم. فإذا سلم عليكم مسلم فقولوا: سلام الله عليكم وإذا سلم عليكم كافر فقولوا: عليك.

* الشرح:

قوله (دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السلام عليكم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم.. اه) نظير ذلك في كتب العامة كثير منها ما روي عن عروة عن عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا السام عليكم فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله: «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت: ألم تسمع ما قالوا قال: قد قلت وعليكم» وفي حديث آخر «قد قلت عليكم» ولم يذكر الواو، وفي حديث آخر «قاتل ألم تسمع ما قالوا قال بلى قد سمعت ورددت عليهم وأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا» قال القرطبي: السام الموت ومنه الحديث «لكل داء دواء إلا السام) فقيل: يا رسول الله ما السام؟ فقال: «الموت» وفيه دلالة على الإنتصار للسلطان وأهل الفضل ووجوب ذلك على حواشيهم والمسلمين، وقال القتادة:

المراد بالسام السامة أي تسئمون دينكم مصدر سئمت سامة وساما مثل رضاعا، وقال المازري: في زجره (عليه السلام) لعائشة وقوله: أن الله يحب الرفق في الأمر كله دلالة على عظمة خلقه وكمال حلمه وعلى الحث على الحلم والصبر والرفق ما لم يدع إلى المخاشنة، والفحش ما يقبح من القول وفيه أمر عام بترك الجفاء في الكلام بالنسبة إلى كافة الناس وبالتثبيت والرفق وعدم الاستعجال باللعن والطعن

ص:118

وغيرهما وقد كان (صلى الله عليه وآله) يستألف الكفار بالأموال الظاهرة فكيف بالكلام الخشن.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تبدؤوا أهل الكتاب بالتسليم وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم.

* الشرح:

قوله (لا تبدؤوا أهل الكتاب بالتسليم.. اه) دل على تحريم ابتدائهم بالتسليم ولا ينافي ذلك ما سيجيء في هذا الباب، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت أن احتجت إلى متطبب وهو نصراني أن أسلم عليه وأدعوا له؟ قال: «نعم ولا ينفعه دعاؤك» لأن هذا محمول على حال الضرورة والاحتياج إليه والتحريم على حال الاختيار وكذا لا ينافي ما مر «افشوا سلام الله فإن سلام الله لا ينال الظالمين» لأن هذا عام مخصوص بهذا الحديث وقوله «فقولوا وعليكم» بالواو وفي الرواية المتقدمة على هذه الرواية «فقولوا عليك» وفي رد الرسول (صلى الله عليه وآله) عليكم وفي الرواية المتأخرة عليها قل: عليك ويقول: عليكم بدون الواو وروايات العامة أيضا مختلفة في بعضها بالواو وفي بعضها بدونها والمعنى بدون الواو ظاهر لأن المقصود حينئذ أن الذي تقولون علينا مردود عليكم، وأما مع الواو فمشكل لأن الواو يقتضي اثبات ما قالوا على نفسه وتقريره عليها حتى يصح العطف فيدخل معهم فيما دعوا به ولهذا قال محيى الدين البغوي نقلا عن بعضهم والمختار في الرد عليكم بدون الواو.

وقال ابن الأثير: قال الخطابي: عامة المحدثين يروون وعليكم بإثبات واو العطف وكان ابن عيينة يرويه بغير واو وهو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه نفسه مردودا عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم فيما قالوه لأن الواو تجمع بين الشيئين والمثبتون للواو اختلفوا فقال بعضهم: إنها للإستيناف لا للعطف فلا يقتضي المشاركة. وقال عياض: هذا بعيد والأولى أن يقال: الواو على بابها من العطف غير أنا نجاب فيهم ولا يجابون فينا كما دل عليه الحديث ثم قال: حذف الواو أحسن معنى واثباتها أصح رواية وأشهر. أقول: ما اختاره ليس بأولى لأن المفسدة هي قبول المجيب دعاءهم على نفسه وتقريره عليها وقبوله المشاركة وهي باقية غير مدفوعة بما ذكره، ثم أقول: يمكن أن يقال: إذا علم أنهم قالوا: السام عليك يجيب بعليكم دون واو كما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا علم أنهم قالوا: السلام عليك كما هو المعروف في التحية يجيب وعليكم

ص:119

فيقبل سلامهم على نفسه ويقررها عليها ويأتي بلفظ يفيد ذلك إلا أن ذلك لا ينفعهم وفائدته مجرد الرفق وتأليف القلوب وكذا يصح أن يجيب بعليك دون واو وبذلك يتحقق الجمع بين الروايات. ثم ان الأمر بردهم على سبيل الرخصة والجواز دون الوجوب وان احتمل نظرا إلى ظاهره كما نقل عن ابن عباس والشعبي وقتادة من علماء العامة واستدلوا بعموم الآية (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) حيث قالوا: بأحسن منها للمسلمين وقوله: (أو ردوها) لأهل الكتاب، والحق أن كليهما للمسلمين لعدم وجوب الرد بالأحسن للمسلمين اتفاقا بل الواجب أحد الأمرين إما الرد بالأحسن أو بالمثل.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني والمشرك إذا سلموا على الرجل وهو جالس كيف ينبغي أن يرد عليهم؟ فقال: (يقول: عليكم).

* الأصل:

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا سلم عليك اليهودي والنصراني والمشرك فقل:

عليك).

* الأصل:

5 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا فادعه ومره فليكف عن آلهتنا ونكف عن آلهة، قال:

فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعاه، فلما دخل النبي (صلى الله عليه وآله) لم ير في البيت إلا مشركا فقال:

السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاؤوا له فقال: أو هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال أبو جهل: نعم وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون: لا إله إلا الله، قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هرابا وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله تعالى في قولهم: (ص والقرآن ذي الذكر) - إلى قوله - (إلا اختلاف).

* الشرح:

قوله: (فادعه ومر فليكف عن آلهتنا ونكف عن آلهة) الظاهر أن الواو في قولهم

ص:120

ونكف عن آلهة للحال عن فاعل يكف أو بمعنى الفاء لا للعطف على يكف لأنه لا يخلو عن مناقشة ودفعه بأن التقدير ومره ومرنا أن يكف إلى اه بعيد فليتأمل.

(لم ير في البيت إلا مشركا) غير أبي طالب أو المراد لم ير في البيت من الواردين إلا مشركا أو المراد بالمشرك المشرك بحسب الواقع أو الظاهر وقد كان أبو طالب يخفي إيمانه منهم ويريهم أنه مشرك والله أعلم.

(فقال: السلام على من ابتع الهدى) فيه بيان لكيفية التسليم على أهل الملل الباطلة وإنما لم يسلم على أبي طالب وحده مع أنه كان مسلما لئلا يفهموا بذلك إسلامه (ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاء له) خبره تخبيرا بمعنى أخبره.

فقال: أو هل له في كلمة خير لهم من هذا؟) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدر ولهم متعلق بمحذوف وخير خبر مبتدء والتقدير أقالوا هذا وهل لهم رغبة في كلمة هي خير لهم من هذا الذي طلبوه.

(فوضعوا أصابعهم في آذانهم) تحاشيا من استماع هذه الكلمة الشريفة الدالة على التوحيد المطلق (وخرجوا هرابا) بضم الهاء وشد الراء للمبالغة في الهرب.

(وهم يقولون ما سمعنا بهذا) الذي يقول والواو للحال (في الملة الآخرة) هي ملة آبائهم أو ملة عيسى التي هي آخر الملل لأن النصارى كانوا على التثليث (ان هذا إلا اختلاق) أي كذب اختلقه وافتراه.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تقول في الرد على اليهودي والنصراني: سلام).

* الشرح:

قوله: (تقول في الرد على اليهودي والنصراني: سلام) يحتمل أن يكون سلام بفتح ويؤيده قوله تعالى: (سأستغفر لك ربي) وقوله تعالى: (وقل سلام فسوف تعلمون) والوجه في جواز ذلك انه لم يقصد بهذا السلام التحية وإنما قصد به المباعدة والمشاركة ويحتمل أن يكون بكسر السين ويؤيده مذهب بعض العامة من أنه ينبغي أن يقول في الرد عليكم السلام بكسر السين والسلام بالكسر الحجارة.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي

ص:121

الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت إن احتجت إلى متطبب وهو نصراني أن اسلم عليه وأدعو له؟ قال:

(نعم لا ينفعه دعاؤك).

8 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): أرأيت إن احتجت إلى الطبيب وهو نصراني [أن] اسلم عليه وأدعو له؟ قال: (نعم إنه لا ينفعه دعاؤك).

9 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد ابن عرفة، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أدعو لليهودي والنصراني قال: تقول له: (بارك لك في دنياك).

* الأصل:

10 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني قال: (من وراء الثوب فإن صافحك بيده فاغسل يدك).

* الشرح:

قوله: (فإن صافحك بيده فاغسل يدك) وجوبا مع الرطوبة وندبا مع عدمها والظاهر أن للمؤمن ثواب المصافحة كما أن له ثواب الجماعة لو صلى خلف من لا يقتدى به.

* الأصل:

11 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عباس بن عامر، عن علي بن معمر، عن خالد القلانسي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألقى الذمي فيصافحني قال: (أمسحها بالتراب وبالحائط). قلت: فالناصب؟ قال: (اغسلها).

* الشرح:

قوله: (اسمحها بالتراب أو بالحائط) بدون الرطوبة تطييبا للقلب وأما معها فالظاهر وجوب الغسل كما مر.

* الأصل:

12 - أبو علي الأشعري، عن محمد عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل صافح رجلا مجوسيا قال: (يغسل يده ولا يتوضأ).

* الشرح:

قوله: (يغسل يده ولا يتوضأ) أما غسل اليد وجوبا مع الرطوبة وندبا بدونها فظاهر وأما عدم الوضوء فلأنه ليس بمبطل له كملاقاة النجاسات بالبدن.

ص:122

باب مكاتبة أهل الذمة

* الأصل:

1 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن بن علي، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن أبي بصير قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له الحاجة إلى المجوسي أو إلى اليهودي أو إلى النصراني أو أن يكون عاملا أو دهقانا من عظماء أهل أرضه فيكتب إليه الرجل في الحاجة العظيمة أيبدأ بالعلج ويسلم عليه في كتابه وإنما يصنع ذلك لكي تقضى حاجته؟ قال: (أما ان تبدأ به فلا ولكن تسلم عليه في كتابك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كان يكتب إلى كسرى وقيصر).

* الشرح:

قوله: (أو دهقانا.. اه) الدهقان بضم الدال وكسرها: القوى على التصرف مع حدة والتاجر وزعيم فلاحي العجم ورئيس الأقليم والقرية، والعلج بالكسر: الرجل من كفار العجم وغيرهم وقوله (عليه السلام):

«أما أن تبدأ به فلا» محمول على الكراهة جمعا بينه وبين ما دل على جواز تقديم اسمه كحديث ابن سنان.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكتب إلى رجل من عظماء عمال المجوس فيبدأ باسمه قبل اسمه؟ فقال:

(لا بأس إذا فعل لاختيار المنفعة).

باب الاغضاء

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن محمد الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عنده قوم يحدثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): (وأنى لك بأخيك كله - وأي الرجال المهذب -).

* الشرح:

قوله: (فوقع فيه وشكاه) وقع فلان في فلان سبه وثلبه وذكر عيوبه ولعل الوقوع فيه من باب إظهار التظلم كما يشعر به قوله «وشكاه» وهو جائز عند الحاكم.

قوله: (فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وأنى ذلك بأخيك كله) أنى بمعنى أين للإستبعاد يعني من أين

ص:123

لك أخوك كل الأخ أي الكامل في الأخوة المنزه عما يوجب النقص فيها ثم آكد ذلك بقوله (وأي الرجال المهذب) يعني الرجل المهذب الخالص عن العيب والنقص نادر جدا مستبعد وجوده فلابد للصديق من الأغضاء والإغماض عن عيوب صديقه لئلا يبقى بلا صديق.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، ومحمد بن سنان، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تفتش الناس فتبقى بلا صديق).

* الشرح:

قوله: (لا تفتش الناس فتبقى بلا صديق) يعني أن وجدت صديقا صالحا بحسب ظاهر حاله فحسبك صداقته فلا تفتش في باطن أمره فإنك إن فتشت تجده فاسدا فتتركه وتبقى بلا صديق والبقاء بلا صديق غير مستحسن لأن الإنسان في السراء والضراء والشدة والرخاء والتعيش والبقاء محتاج إليه.

باب نادر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلاء بن الفضيل وحماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (انظر قلبك فإذا أنكر صاحبك فإن أحد كما قد أحدث).

* الشرح:

قوله: (انظر قلبك فإذا انكر صاحبك) أي أبغضه وهو لا محالة أبغضك أيضا (فإن أحدكما أحدث) سببه فإن بغضك له أمر ممكن ولكل ممكن سبب فإن كان احداثه منه سببا لبغضك له كان إحداثه منك أيضا سببا لبغضه لك لعدم الفرق، وهذا التعليل في غاية اللطف في الدلالة على أن البغض من الطرفين.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، الحسن بن يوسف، عن زكريا بن محمد، عن صالح بن الحكم قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال:

الرجل يقول: أودك فكيف أعلم أنه يودني؟ فقال: (امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك).

ص:124

* الشرح:

قوله: (امتحن قلبك فإن كنت توده فإنه يودك) أريد بالود الحب في الله وهو بين الطرفين ولا يزول إلا الله وأما الود المجازي لأغراض الدنيا فهو قد لا يكون من الطرفين وكثيرا ما يزول لعدم حصول تلك الأغراض.

* الأصل:

3 - أبو بكر الحبال، عن محمد بن عيسى القطان المدائني قال: سمعت أبي يقول: حدثنا مسعدة ابن اليسع قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام): إني والله لأحبك فأطرق ثم رفع رأسه فقال:

(صدقت يا أبا بشر، سل قلبك عما لك في قلبي من حبك فقد أعلمني قلبي عما لي في قلبك).

* الشرح:

قوله: (صدقت يا أبا بشر سل قلبك عما لك في قلبي من حبك فقد اعلمني قلبي عما لي في قلبك) يريد أن حبك لي مستلزم لحبي لك وبالعكس فإذا سألت قلبك الذي وجد الأول استدل به على وجود الثاني فيخبرك به كما أن قلبي الواجد للثاني استدل به على وجود الأول فأخبرني به.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): لا تنسني من الدعاء، قال: ([أ] وتعلم أني أنساك؟) قال: تفكرت في نفسي وقلت: هو يدعو لشيعته وأنا من شيعته، قلت: لا، لا تنساني، قال: (وكيف علمت ذلك؟) قلت:

إني من شيعتك وإنك لتدعو لهم. فقال: (هل علمت بشيء غير هذا؟) قال: قلت: لا، قال: (إذا أردت أن تعلم مالك عندي فانظر [إلى] مالي عندك.

5 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انظر قلبك فإن أنكر صاحبك فاعلم أن أحدكما قد أحدث.

* الشرح:

قوله (وينصح له إذا غاب) بأن يمنع عنه المغتاب ويجلب له ولأهله المنافع ويدفع عنهم المضار (ويسمته إذا عطس) قال ابن الأثير التسميت بالسين والشين، والمعجمة أعلاهما يقال شمت فلانا وشمت عليه تشميتا فهو مشمت واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله تعالى وقيل معناه أبعدك الله من الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك، واشتقاق المهملة من السمت وهو الهيئة الحسنة أي جعلك الله على سمت حسن لأن هيئته تتزعج للعطاس. وقال القرطبي شمت وسمت والمعجمة أعلا. وقال ابن الأنباري كل داع بالخير مشمت ومسمت، وقال ثعلب والأصل المهملة من السمت وهو القصد وحسن المودة ومنه

ص:125

الحديث «دعا لفاطمة وسمت عليها».

باب العطاس والتسميت

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر ابن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن جراح المدائني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (للمسلم على أخيه من الحق أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض وينصح له إذا غاب ويسمته إذا عطس يقول:

«الحمد لله رب العالمين لا شريك له» ويقول له: «يرحمك الله» فيجيبه فيقول: «يهديكم الله ويصلح بالكم» ويجيبه إذا دعاه ويتبعه إذا مات).

باب العطاس والتسميت

* الشرح:

(يقول: الحمد لله رب العالمين لا شريك له) الظاهر أن يقول: حال عن فاعل عطس وضميره للعاطس فيفيد أن استحباب التسميت مشروط بقول العاطس ذلك وساقط بدونه ونظيره موجود في كتب العامة قال القرطبي: تسميت العاطس فرض كفاية وشرطه أن يقول العاطس: الحمد لله ولا يبعد القول بأن التسميت مستحب مطلقا لظواهر الروايات الآتية ويتأكد إذا قال العاطس ذلك (ويجيبه إذا دعاه) إلى طعامه وغيره من الأمور المشروعة كالإعانة والنصرة ونحوهما.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا عطس الرجل فسمتوه ولو كان من وراء جزيرة، وفي رواية اخرى ولو من وراء البحر).

* الشرح:

قوله: (إذا عطس الرجل فسمتوه ولو من وراء جزيرة) دل على تأكد استحبابه والأحوط أن لا يترك، وقال عياض: اختلف في حكم التسميت فمذهب مالك وهو قول جماعة أنه فرض كفاية وقال بعض أهل الظاهر: أنه فرض عين وذهب الأكثر إلى أنه مستحب.

* الأصل:

3 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن مثنى، عن إسحاق ابن يزيد ومعمر بن أبي زياد وابن رئاب قالوا: كنا جلوسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا عطس رجل فما رد عليه أحد من القوم شيئا حتى ابتدأ هو فقال: (سبحان الله ألا سمتم إن من حق المسلم على

ص:126

المسلم أن يعوده إذا اشتكى وأن يجيبه إذا دعاه وأن يشهده إذا مات وأن يسمته إذا عطس).

4 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فعطس: فقلت له: صلى الله عليك، ثم عطس، فقلت: صلى الله عليك ثم عطس فقلت:

صلى الله عليك وقلت له: جعلت فداك إذا عطس مثلك يقال له كما يقول بعضنا لبعض: يرحمك الله؟ أو كما نقول؟ قال: نعم أليس تقول: (صلى الله على محمد وآل محمد؟) قلت: بلى قال:

(ارحم محمد وآل محمد؟) قال: بلى وقد صلى الله عليه ورحمه وإنما صلواتنا عليه رحمة لنا وقربة.

* الشرح:

قوله: (عن صفوان بن يحيى قال: كنت عند الرضا (عليه السلام) فعطس فقلت له صلى الله عليك ثم عطس فقلت له صلى الله عليك ثم عطس فقلت صلى الله عليك) دل على استحباب التسميت في الثالثة كما دل عليه أيضا حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في آخر الباب إلا أنه دل أيضا على عدمه بعدها وهو أيضا مذهب مالك، قال صاحب كتاب إكمال الإكمال: ذهب مالك إلى أنه يسمت ثلاثا ثم يمسك، ثم قال: وإن تكرر العطاس سقط التسميت وليقل في الثالثة والرابعة: انك مزكوم وقيل:

في الثانية أيضا لما رواه مسلم ان رجلا عطس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: (يرحمك الله) ثم عطس أخرى فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (الرجل مزكوم). قال المازري: يعني أنك لست ممن يسمت بعد هذا لأن هذا لذي بك مرض، ثم أورد عليه بأنه ان كان مريضا كان أحق بالدعاء له وأجاب بأنه يستحب أن يدعى له بالعافية لا بدعاء العاطس.

(وقلت: جعلت فداك إذا عطس مثلك من أهل العصمة عليهم السلام نقول له كما يقول بعضنا لبعض يرحمك الله أو كما نقول) الترديد من الراوي ولعل بناء السؤال على أن مثلكم مرحومون قطعا فلا فائدة في طلب الرحمة لهم لأنه تحصيل الحاصل (قال: نعم) قولوا كما تقولون لغيرنا ثم أشار إلى أن الفائدة لكم لا لنا مع البيان. (وقال: أليس يقول صلى الله عليه وآل محمد قلت بلى) الاستفهام للتقرير وكذا في قوله (ارحم) أي أرحم الله (محمد وآل محمد) ثم بادر (عليه السلام) إلى الجواب والتقرير. (فقال: بلى وقد صلى) أي وقد صلى عليه ورحمه ففائدة صلواتنا عليه ورحمتنا له لا تعود إليه لحصولهما له من الله تعالى على وجه الكمال.

(وإنما صلواتنا عليه رحمة لنا وقربة) إلى الله تعالى وإليه (صلى الله عليه وآله) فكذلك صلواتكم لنا رحمة وقربة لكم وقد صرح بذلك الشهيد الثاني في شرح اللمعة حيث قال وغاية السؤال بها أي بالصلاة عائد إلى المصلي لأن الله تعالى قد أعطى نبيه (صلى الله عليه وآله) من المنزلة والزلفى لديه ما لا يؤثر فيه صلاة

ص:127

مصل كما نطقت به الأخبار وصرح به العلماء الأخيار.

* الأصل:

5 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (التثأب من الشيطان والعطسة من الله عزوجل).

* الشرح:

قوله: (سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: التثأب من الشيطان والعطسة من الله عز وجل) روى مسلم بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «التثأب من الشيطان» وفي رواية أخرى له: «إذا تثأب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل» قال عياض: التثأب بشد الهمزة والاسم الثوباء بالمد، وقال ابن دريد: أصله من ثأب الرجل فهو مثؤوب إذا استرخى وكسل وقيل: التثأب بالهمز التنفس الذي ينفتح منه الفم وإنما نسبه إلى الشيطان لأنه من تكسيله وسببه وقيل: أضيف إليه لأنه يرضيه وقيل:

إنما ينشأ من امتلاء وثقل النفس وكدورة الحواس ويورث الغفلة والكسل وسوء الفهم ولذاكره الله تعالى وأحبه الشيطان وضحك منه. والعطاس لما كان سببا لخفة الدماغ، واستفراغ الفضلات وصفاء الروح وتقوية الحواس كان أمره بالعكس ولكونه من الشيطان قيل: إنه ما تثأب نبي قط.

* الأصل:

6 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد قال: سألت العالم (عليه السلام) عن العطسة وما العلة في الحمد لله عليها؟ فقال: (إن لله نعما على عبده في صحة بدنه وسلامة جوارحه وأن العبد ينسى ذكر الله عزوجل على ذلك وإذا نسي أمر الله الريح فتجاوز في بدنه ثم يخرجها من أنفه فيحمد الله على ذلك فيكون حمده عند ذلك شكرا لما نسي).

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن جعفر ابن يونس، عن داود بن الحصين قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأحصيت في البيت أربعة عشر رجلا فعطس أبو عبد الله (عليه السلام) فما تكلم أحد من القوم فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): (ألا تسمتون ألا تسمتون، من حق المؤمن على المؤمن إذا مرض أن يعوده وإذا مات أن يشهد جنازته وإذا عطس أن يسمته - أو قال: يسمته - وإذا دعا أن يجيبه).

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام): ألا تسمتون ألا تسمتون) بالتكرير وفي بعض النسخ بدونه وفي بعضها بالمهملة وفي بعضها بالمعجمة، وإلا بالفتح والشد حرف تخصيص والتخفيف على أن يكون الهمزة للاستفهام والتوبيخ محتمل.

ص:128

* الأصل:

8 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (نعم الشيء العطسة تنفع في الجسد وتذكر بالله عزوجل). قلت: إن عندنا قوما يقولون: ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في العطسة نصيب فقال: (إن كانوا كاذبين فلا نالهم شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)).

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله، فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام) وقال: (نقصنا حقنا)، ثم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وأهل بيته)، قال: فقال: الرجل، فسمته أبو جعفر.

* الشرح:

قوله: (عطس رجل عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: الحمد لله رب العالمين فلم يسمته أبو جعفر (عليه السلام) وقال: نقصنا حقنا.. اه) نقصه ونقصه بالتخفيف والتشديد بمعنى ولعل في نقصنا حذف وإيصال أي نقص منا أو علينا والحاصل لم يعطنا حقنا وهو الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم وفيه دلالة على أن استحباب التسميت موقوف على تحميد العاطس والصلاة النبي وآله عليهم السلام فلو لم يأت بذلك لم يستحق التسميت، ومن طرق العامة أيضا دلالة على أنه لا يستحب إذا لم يأت من عطس بالحمد روى مسلم عن أنس بن مالك قال: «عطس عند النبي (صلى الله عليه وآله) رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته عطس فلان فشمته وعطست أنا فلم تشمتني فقال أن هذا حمد الله عز وجل وإنك لم تحمد الله عز وجل.

* الأصل:

10 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسماعيل البصري، عن الفضيل بن يسار قال:

قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن الناس يكرهون الصلاة على محمد وآله في ثلاثة مواطن: عند العطسة وعند الذبيحة وعند الجماع، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (ما لهم ويلهم نافقوا لعنهم الله).

11 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) إذا عطس فقيل له: يرحمك الله قال: (يغفر الله لكم ويرحمكم الله) وإذا عطس عنده إنسان قال: (يرحمك الله عز وجل).

12 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، أو غيره، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عطس غلام لم يبلغ الحلم عند النبي (صلى الله عليه وآله): فقال: الحمد لله، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (بارك الله فيك).

ص:129

13 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا عطس الرجل فليقل: الحمد لله [رب العالمين] لا شريك له وإذا سمت الرجل فليقل: يرحمك الله وإذا رد [دت] فليقل: يغفر الله لك ولنا، فإن رسول الله 9 سئل عن آية أو شيء فيه ذكر الله فقال: كلما ذكر الله فيه فهو حسن).

* الشرح:

قوله: (فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل عن آية) يقال عند العطسة (أو شيء فيه ذكر الله فقال: كلما ذكر الله فيه فهو حسن) لا خلاف بين الأمة أن تحميد العاطس والتسميت له ورده للمسمت مطلوب والظاهر على التخيير في عبارات جميع ذلك مثل أن يقول العاطس: الحمد لله أو يضيف إليه رب العالمين أيضا على كل حال أو غير ذلك ومثل أن يقول المسمت هذه العبارات أو يرحمك الله أو يرحمنا وإياكم إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على ثناء الواجب والدعاء بالخير للعاطس.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن الحسين بن نعيم، عن مسمع بن عبد الملك قال: عطس أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: (الحمد لله رب العالمين ثم جعل أصبعه في أنفه فقال: رغم أنفي لله رغما داخرا).

15 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من قال إذا عطس: (الحمد لله رب العالمين على كل حال لم يجد وجع الأذنين والأضراس).

16 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد أو غيره، عن ابن فضال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (في وجع الأضراس ووجع الأذان إذا سمعتم من يعطس فابدؤوه بالحمد).

17 - علي بن إبراهيم [عن أبيه] عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عثمان، عن أبي اسامة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (من سمع عطسة فحمد الله عزوجل وصلى على النبي وأهل بيته (صلى الله عليه وآله) لم يشتك عينه ولا ضرسه،) ثم قال: (إن سمعتها فقلها وإن كان بينك وبينه البحر).

18 - أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي نجران، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (عطس رجل نصراني عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: القوم هداك الله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فقولوا: يرحمك الله، فقالوا له: إنه نصراني؟ فقال: لا يهديه حتى يرحمه).

19 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال

ص:130

(رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا عطس المرء المسلم ثم سكت لعلة تكون به قالت الملائكة عنه: الحمد لله رب العالمين، فإن قال: الحمد لله رب العالمين، قالت الملائكة: يغفر الله لك. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): العطاس للمريض دليل العافية وراحة للبدن.

20 - محمد بن يحيى، عن محمد بن موسى، عن يعقوب بن يزيد، عن عثمان بن عيسى، عن عبد الصمد بن بشير، عن حذيفة بن منصور، [عن أبي عبد الله (عليه السلام)] قال: قال: (العطاس ينفع في البدن كله ما لم يزد على الثلاث فإذا زاد على الثلاث فهو داء وسقم).

* الشرح:

قوله: (العطاس ينفع البدن كله ما لم يزد على الثلاث فإذا زاد على الثلاث فهو داء وسقم) كالزكام ونحوه وفيه مع حديث آخر الباب دلالة على ترك التسميت في الرابعة وما بعدها وحمله على الرخصة ونفي التأكيد غير مستبعد وفي رواية العامة دلالة على سقوطه في الثانية وأقوالهم في الثالثة والرابعة كما مر والأولى التسميت في جميع المراتب لظاهر قول الصادق (عليه السلام) فيما مر وان يسمته إذا عطس والأولى أيضا أن يضيف العاطس إلى التحميد في الرابعة وما بعدها العافية.

* الأصل:

21 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) قال: (العطسة القبيحة).

* الشرح:

قوله (العطسة القبيحة) هي المشتملة على الصوت الشديد المستنكر له في السمع يعني أنها مندرجة تحت الآية الا ان الآية مختصة بها وفيه ارشاد للعاطس إلى مراعاة الاعتدال فيها.

* الأصل:

22 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن ابن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من عطس ثم وضع يده على قصبة أنفه ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمدا كثيرا كما هو أهله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم خرج من منخره الأيسر طائر أصغر من الجراد وأكبر من الذباب حتى يسير تحت العرش يستغفر الله له إلى يوم القيامة 23 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه رواه، عن رجل من العامة قال:

ص:131

كنت أجالس أبا عبد الله (عليه السلام) فلا والله ما رأيت مجلسا أنبل من مجالسة قال: فقال لي ذات يوم: من أين تخرج العطسة؟ فقلت: من الانف، فقال لي: أصبت الخطاء، فقلت: جعلت فداك من أين فقال:

(من جميع البدن كما أن النطفة تخرج من جميع البدن ومخرجها من الإحليل) ثم قال: أما رأيت الإنسان إذا عطس نفض أعضاؤه وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام).

* الشرح:

قوله (وما رأيت مجلسا أنبل من مجالسه) أي أفضل أو أنجب وأعظم وأكبر من النبل وهو الفضل والنجابة والكبار وفعله ككرم.

(وصاحب العطسة يأمن الموت سبعة أيام) لخروج الريح المنتشر في الأعضاء وحصول خفه البدن وصفاء الروح واستقامة المزاج وميله إلى الإعتدال في الجملة.

* الأصل:

24 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تصديق الحديث عند العطاس).

25 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان الرجل يتحدث فعطس عاطس فهو شاهد حق).

26 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري عن ابن القداح، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تصديق الحديث عند العطاس.

27 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محسن بن أحمد، عن أبان ابن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا عطس الرجل ثلاثا فسمته ثم اتركه).

* الشرح:

قوله: (تصديق الحديث عند العطاس) لعل السر فيه أن العطسة رحمة من الله تعالى للعبد ويستبعد نزول الرحمة في مجلس يكذب فيه خصوصا عند صدور الكذب فإذا قارنت الحديث دلت على صدقه.

باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (إن من إجلال الله عزوجل إجلال

ص:132

الشيخ الكبير).

* الشرح:

قوله: (إن من إجلال الله تعالى إجلال الشيخ الكبير) أي توقيره وتعظيمه في جميع الأحوال والأوقات بالسلام والكلام والاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة والمعاونة والمصادقة والنصرة والمداراة والمحبة وترك كل ما يؤذيه من المخاصمة والمناقشة والمماراة وغيرها من الأمور المنافية للعظمة كل ذلك لكونه أكبر سنا وأضعف بدنا وأعظم تجربة وأكيس حزما وأقدم إسلاما وأكثر عبادة وأقرب خروجا من الدنيا ورجوعا إلى المولى.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرف فضل كبير لسنه فوقره أمنه الله من فزع يوم القيامة).

* الأصل:

3 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من وقر ذا شيبة في الإسلام أمنه الله عز وجل من فزع يوم القيامة).

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا الخطاب يحدث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ثلاثة لا يجهل حقهم إلا منافق معروف [ب] النفاق: ذو الشيبة في الإسلام وحامل القرآن والإمام العادل).

5 - عنه، عن أبيه، عن أبي نهشل، عن عبد الله بن سنان قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (من إجلال الله عزوجل إجلال المؤمن ذي الشيبة ومن أكرم مؤمنا فبكرامة الله بدأ ومن استخف بمؤمن ذي شيبة أرسل الله إليه من يستخف به قبل موته).

* الأصل:

6 - الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعد بن مسلم، عن أبي بصير وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (من إجلال الله عز وجل إجلال ذي الشيبة المسلم).

باب اكرام الكريم

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخل رجلان على أمير المؤمنين (عليه السلام): فألقى لكل واحد منهما وسادة فقعد عليها أحدهما وأبي الآخر فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (اقعد عليها فإنه لا يأبى الكرامة إلا حمار). ثم

ص:133

قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه).

* الشرح:

قوله: (فإنه لا يأبى الكرامة إلا الحمار) ترغيب في قبول الكرامة والتشريف والتعظيم وتنبيه على أنه لا يردها إلا الأحمق الخسيس اللئيم خصوصا إذا كانت من الشريف الكريم ولا يبعد إدراج التحف والهدايا في هذا النحو من الإكرام لشمول التعليل وعموم الدليل.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه).

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن عبد الله العلوي، عن أبيه، عن جده قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لما قدم عدي بن حاتم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أدخله النبي (صلى الله عليه وآله) بيته ولم يكن في البيت غير خصفة ووسادة من ادم فطرحها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعدي بن حاتم).

* الشرح:

قوله: (لما قدم عدي بن حاتم إلى النبي (صلى الله عليه وآله).. اه) عدي بن حاتم الطائي كان رئيس قبيلة بني طي وكان من مشاهير العرب وكان هو وقومه مشركين يعبدون الأصنام فقاتلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) وغلبهم وكسر أصنامهم وأخذ غنائمهم وهرب عدي إلى الشام ثم تفكر في أن محمدا إما سلطان أو نبي مرسل وعلى التقديرين لابد من صحبته فرجع إلى المدينة فأكرمه النبي (صلى الله عليه وآله) وأدخله بيته كما ذكر فلما رأى شيئا من أخلاق النبوة وآثارها وأسرارها أسلم. والخصفة بالخاء المعجمة واحدة الخصف بالتحريك فيهما من الخصف بالفتح والتسكين وهو ضم الشيء إلى الشيء ويطلق على الثوب الغليظ جدا وعلى الحصير المنسوج من خوص النخل ولعله المراد هنا. والوسادة بفتح الواو وكسرها المتكأ والمخدة والادم بضمتين جمع أديم كرغف ورغيف وهو الجلد أو أحمره أو مدبوغة وبالضم والسكون للجمع.

باب حق الداخل

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيئة إذا دخل وإذا خرج. وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم في بيته فهو أمير عليه حتى يخرج).

ص:134

* الشرح:

قوله: (إن من حق الداخل على أهل البيت أن يمشوا معه هنيئة إذا دخل وإذا خرج) هنئة بالتخفيف والترحيك معناها شيء وهنيئة مصغر هنة وأصلها هنيوة أي شيء يسير قلبت الواو ياء وأدغمت ويروي هنيهة بإبدال الياء هاء والمراد بالمشي معه عند الخروج المشايعة وعند الدخول الاستقبال وفي من دلالة على أن حقوق الداخل كثيرة المذكورة بعضها.

(وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم في بيته فهو أمير عليه حتى يخرج) أي الداخل أمير على صاحب البيت حتى يخرج من بيته فينبغي لصاحب البيت أن يطيعه في مقاصده المشروعة ويسعى في أداء حقوقه وإرجاع ضمير هو إلى الأخ بناء على أن له أيضا حقا على الداخل بعيد جدا.

باب المجالس بالأمانة

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد، جميعا عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (المجالس بالأمانة).

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المجالس بالأمانة).

* الشرح:

قوله: (المجالس بالأمانة) نهى عن إعادة ما يجري في المجالس من قول أو فعل فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه فإنه يجب عليه حفظه فإنه قد يترتب على إفشائه مفاسد كثيرة.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (المجالس بالأمانة وليس لأحد أن يحدث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه إلا أن يكون ثقة أو ذكر له بخير).

* الشرح:

قوله: (وليس لأحد أن يحدث بحديث يكتمه صاحبه إلا بإذنه) عموما أو خصوصا لشخص ومع ذلك لابد من كتمانه إن كان في إظهار سوء عاقبة لا يعلمه صاحبه.

(إلا أن يكون فقها أو ذكرا له بخير) فإن إظهارهما لا يحتاج إلى الإذن إلا أن يكون في إظهاره الفقه ضرر. وفي بعض النسخ «ثقة» بدل فقها.

ص:135

باب في المناجاة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن مالك ابن عطية، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما فإن في ذلك [م] ما يحزنه ويؤذيه).

* الشرح:

قوله: (إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى منهم اثنان دون صاحبهما فإن ذلك مما يحزنه ويؤذيه) وكذلك الجماعة دون الواحد للاشتراك في العلة، ثم حزنه إما لكتمان السر عنه وعدم ايتمانه بحفظه أو لتوهمه أنهما يقولان في حقه شيئا مما يكرهه أو لتخصيص البر ومكاره الأخلاق وحسن المبرة ولطف المعاشرة بغيره فيقدر في نفسه أنهما لم يرياه أهلا لان يشركون يشركوه في حديثهم وذلك يوحش صدره ويوجب حزنه إلى غير ذلك من تسويلات النفس وأحاديث الشيطان، لا يبعد تخصيص ذلك بما إذا لم يحتاجا إلى السر شرا أو عرفا أو لم يعلما عدم حزن الخارج إذ لو اضطرا إليه في أمر الدين أو الدنيا أو علما أنه لم يحزنه كما إذا كان الخارج خادما أو عبدا لا يتوقع أن يكون من أهل السر، فالظاهر أنه لا يكره وفي مفهوم الشرط دلالة على أنه إذا كان القوم أربعة أو أكثر جاز مناجاة الاثنين دون صاحبهما لانتفاء العلة وهي الحزن والإيذاء لأن كل واحد من الصاحبين قد يقدر في نفسه أن محل الأسرار عنه هو الآخر فلا يدخل في واحد منهما حزن وإذاء مثل ما يدخل في الواحد، ثم أن هذا الحكم باق إلى يوم القيامة غير مختص عندنا بالسفر ولا بمكان الخوف ولا بزمان خلافا للعامة فإنه قال بعضهم: هذا خاص بالسفر وبالمواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه ويخاف غدره وأما في الحضر والعمارة فلا، وقال بعضهم: كان ذلك في أول الإسلام حين كان المنافقون يفعلونه بمحضر المؤمنين ليحزنوهم قال الله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان.. الآية) وقال عبد الله بن عمرو ومالك: على العموم وهو الحق.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد أبي عبد الله، عن محمد بن علي، عن يونس بن يعقوب، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (إذا كان ثلاثة في بيت فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما

ص:136

فإن ذلك مما يغمه).

* الأصل:

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عرض لأخيه المسلم [المتكلم] في حديثه فكأنما خدش وجهه).

* الشرح:

قوله: (من عرض لأخيه المسلم المتكلم في حديث فكأنما خدش في وجهه) عرض له ظهر وبرز وعرضت له الشيء بالتخفيف فيهما أظهرته وأبرزته والمعنى على الثاني وهو الأظهر من أبرز كلاما في كلام وأدخل فيه ومنعه عن اتمامه فكأنما خدش في وجه أخيه وفعل ما يشينه لأنه عمل ما يوجب استخفافه واحتقاره وكسر قلبه ووضع قدره، وعلى الأول من برز له في حديثه السر ليسمعه خدش في وجه نفسه لأن ذلك موجب لاستخفاف نفسه وكلاهما مذموم شرعا أو عقلا.

ص:137

باب الجلوس

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن النوفلي، عن عبد العظيم بن عبد الله بن الحسن العلوي رفعه قال: (كان النبي (صلى الله عليه وآله) يجلس ثلاثا: القرفصا وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيديه ويشد يده في ذراعه وكان يجثوا على ركبتيه وكان يثنى رجلا واحدة ويبسط عليها الأخرى ولم ير (صلى الله عليه وآله) متربعا قط.

* الشرح:

قوله: (قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) يجلس ثلاثا) أي ثلاث جلسات.

(القرفصا وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيديه ويشد يده في ذراعه) وفاعل قال غير معلوم يحتمل أن يكون كلام المعصوم والمصنف وغيره وفي القاموس: القرفصا مثلثة القاف والفاء مقصورة والقرفصا بضم القاف والراء على الاتباع أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه على بطنه ويحتبى بيديه يضعهما على ساقيه أو يجلس على ركبتيه منكبا ويلصق بطنه على فخذيه ويتأبط كفيه. وفي الصحاح: القرفصة أن يجمع الإنسان ويشد يديه ورجليه والقرفصا ضرب من القعود يمد ويقصر فإذا قيل: قعد فلان القرفصا فكأنك قلت: قعد قعودا مخصوصا وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنيه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبي بالثوب يكون يداه مكان الثوب عن أبي عبيد وقال أبو المهدي: هو أن يجلس على ركبتيه منكبا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه وهي جلسة الاعراب.

(وكان يجثو على ركبتيه) جثى كدعا ورمى جثوا وجثيا بضمهما جلس على ركبتيه ففيه تجريد (وكان يثني رجلا واحدة ويبسط عليها الأخرى) وهو التورك.

(ولم ير (صلى الله عليه وآله) متربعا قط) تربع في مجلسه جلس مربعا وهو أن يقعد على وركيه ويمد ركبته اليمنى إلى جانب يمينه وقدمه اليسرى إلى جانب يساره ويمد ركبته اليسرى إلى جانب يساره وقدمه اليسرى إلى جانب يمينه.

* الأصل:

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي حمزة الثمالي قال: رأيت

ص:138

علي بن الحسين (عليهما السلام) قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه فقلت: إن الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون: إنها جلسة الرب، فقال: (إني إنما جلست هذه الجلسة للملالة والرب لا يمل ولا تأخذه سنة ولا نوم).

* الشرح:

قوله: (عن أبي حمزة الثمالي قال: رأيت علي بن الحسين عليهما السلام قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه) وهي التورك والتربع وتمتار عنهما بوضع الرجل على الفخذ.

(فقلت: إن الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون: هذا جلسة الرب) أراد بالناس اليهود أو الأعم منهم ومن العامة القائلين: بأنه تعالى جسم، والغرض من السؤال إما مجرد حكاية قولهم أو الشك في أصل الكراهة لا في استنادها إلى العلة المذكورة لأن أبا حمزة ثابت بن دينار من أكابر الشيعة وثقاتهم وقد روى أنه في زمانه مثل سلمان في زمانه فلا يشك أنه ليس للرب جلسة.

(فقال: اني إنما جلست هذه الجلسة للملالة) من جلسات اخر والتحول من نوع منها إلى آخر سبب للاستراحة (والرب لا يمل أبدا) لأن الملال تابع لضعف المزاج والقوى الجسمانية وهو على الله سبحانه محال.

(ولا تأخذه سنة ولا نوم) السنة النعاس وقيل: فتور يتقدم النوم والهاء فيها عوض عن الواو المحذوفة. والنوم حال يعرض للحيوان لاسترخاء أعصاب الدماغ من الرطوبات والأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الإحساس ولعل المراد بيان فساد قولهم بأن اتصافه تعالى بالجلوس مستلزم لاتصافه بالملال، والسنة والنوم واللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله.

* الأصل:

3 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مرازم، عن أبي سليمان الزاهد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من رضي بدون التشرف من المجلس لم يزل الله عزوجل وملائكته يصلون عليه حتى يقوم).

* الشرح:

قوله: (من رضى بدون التشرف من المجلس لم يزل الله تعالى وملائكته يصلون عليه حتى يقوم) صدر المجلس وأعلاه وإن كان للعالم وأهل الكمال لكنه إن جلس دونه تواضعا لله وللمؤمنين وهضما لنفسه وحفظا لها من التفاخر والتجبر استحق الصلاة والرحمة.

* الأصل:

4 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص:139

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله): أكثر ما يجلس تجاه القبلة).

* الشرح:

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ما يجلس تجاه القبلة) في حال الاجتماع والانفراد فلابد من التأسي فيه وفيه فوائد جمة لا تخفى على العارف والظاهر أن «ما» مصدرية.

* الأصل:

5 - أبو عبد الله الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان قال: جلس أبو عبد الله (عليه السلام) متوركا رجله اليمنى على فخذه اليسرى فقال له رجل: جعلت فداك هذه جلسة مكروهة، فقال: (إنما هو شيء قالته اليهود، لما أن فرغ الله عز وجل من خلق السماوات والأرض واستوى على العرش جلس هذه الجلسة ليستريح فأنزل الله عز وجل (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) وبقي أبو عبد الله (عليه السلام) متوركا كما هو.

* الشرح:

قوله: (فأنزل الله تعالى لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) هذه الآية الشريفة إلى آخرها رد عليهم لدلالتها على أنه منزه عن الوسن والنوم والتحيز والحلول والتغير والفتور والمناسبة بالأشباح وقبول ما تقبله ذوات الأمزجة والأرواح إلى غير ذلك من مسائل التوحيد.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل).

* الشرح:

قوله: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل) هذا الجلوس مع اشتماله على الهضم والتواضع أبعد من الأذية والكلفة وأقرب من الدعة والألفة والاستراحة من مؤونة الزحام وسهولة التصرف والقعود والقيام ومراعاة حق الوارد من التوسعة والتفسح والإكرام.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يحيى، عن طلحة ابن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل) قال: (وكان لا يأخذ على بيوت السوق

ص:140

كراء).

* الشرح:

قوله: (سوق المسلمين كمسجدهم) التشبيه يفيد أن الحكم في المشبه به كان معروفا مشهورا ويمكن أن يكون المقصود إفادة الحكم فيهما لا إلحاق غير المشهور بالمشهور وأشار إلى وجه الشبه أو إلى الحكم بقوله: (فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل) لأنه لسبقه اختص به وملك الانتفاع فهو أحق به ما دام فيه ولا يجوز لأحد أن يقيمه ويجلس فيه ولا خلاف فيه عندنا وإليه ميل أكثر العامة لما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «لا يقيمن الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه» وقال بعضهم:

النهي للكراهة لأنه غير مملوك له قبل الجلوس فكذا بعده ولا يخفى ضعفه نعم لو قام إعراضا أو تواضأ للغير ليجلس فيه جاز ذلك للغير فإذا جلس فهو أحق به ما دام فيه.

قوله: (وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء) الكراء بالكسر والمد الأجرة والسوق يشرك فيه الناس بحق المرور ويجوز الجلوس فيه وضرب البيوت من الشعر والكرباس ونحوهما للتجارة بشرط أن لا يمنع المارة ولا يضرهم ولا كراء لها لأن السوق ليس ملكا لأحد بخصوصه.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ينبغي للجلساء في الصيف أن يكون بين كل اثنين مقدار عظم الذراع لئلا يشق بعضهم على بعض في الحر).

* الشرح:

قوله: (ينبغي للجلساء في الصيف أن يكون بين كل اثنين مقدار عظم الذراع لئلا يشق بعضهم على بعض في الحر) من الحرارة والرائحة الكريهة من العرق وغيره وروي أيضا «إن حريم المؤمن في الصيف مقدار باع» ولعل المراد أن الباع وهو مقدار مد اليدين حريم مجموع الجانبين فيكون في كل جانب ذراعات وعلى التقديرين بين الروايتين اختلاف ويمكن الجمع بأن ذلك باعتبار ضيق المكان وسعته وقيل: الذراع في صلاة الجماعة والباع في غيرها وقيل: إن هذا الحريم من باب الاستحسان فيتخير.

* الأصل:

9 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يجلس في بيته عند باب بيته قبالة الكعبة.

ص:141

باب الاتكاء والاحتباء

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإتكاء في المسجد رهبانية العرب، إن المؤمن مجلسه مسجده وصومعته بيته).

* الشرح:

قوله: (الإتكاء في المسجد) انتظارا للصلاة وغيرها من الطاعات (رهبانية العرب) وهي بفتح الراء منسوبة إلى رهبنة النصارى بزيادة الألف وأصلها من الخوف من الرهبة حيث كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة من أهلها وتعهد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه ويترك اللحم ويلبس المسوح وغير ذلك من أنواع التعذيب وأنحاء المشقة فنفاها (صلى الله عليه وآله) عن هذه الأمة وألزمهم لزوم المساجد والإنتظار فيها للصلاة وغيرها من العبادات والطاعات.

(إن المؤمن مجلسه مسجده) للعبادة والإنتظار له.

(وصومعته بيته) عند الفراغ من العبادة للاستراحة والصومعة بيت للنصارى ويقال لبيت:

الخلوة أيضا.

* الأصل:

2 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

الاحتباء في المسجد حيطان العرب).

* الشرح:

قوله: (الاحتباء في المسجد حيطان العرب) الاحتباء هو أن يضم الإنسان ساقيه إلى بطنه يجمعهما به مع ظهره ويشده عليهما وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب وشبهه بالحيطان لأنه يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار.

* الأصل:

3 - محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الاحتباء حيطان

ص:142

العرب).

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحتبي بثوب واحد؟ فقال: (إن كان يغطي عورته فلا بأس).

* الشرح:

قوله: (إن كان يغطي عورته فلا بأس) بأن يكون طويلا يبلغ ذيله الأرض عند رفع الركبتين ويفهم منه البأس عند عدم التغطية سواء كان هناك ناظر أم لا.

* الأصل:

5 - عنه، عن محمد بن علي، عن علي بن أسباط، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(لا يجوز للرجل، أن يحتبي مقابل الكعبة).

ص:143

باب الدعابة والضحك

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سألت أبي الحسن (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟ فقال: (لا بأس ما لم يكن)، فظننت أنه عنى الفحش، ثم قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأتيه الأعرابي فيهدي له الهدية ثم يقول: مكانه أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان إذا اغتم يقول:

ما فعل الأعرابي ليته أتانا).

* الشرح:

قوله: (الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون فقال: لا بأس.. اه) المزح الدعابة وقد مزح يمزح مزحا كمنع يمنع والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا إما المزاح بالكسر فهو مصدر مازح وهما يتمازحان واعلم أن أصل المزاح جائز ومزاح النبي (صلى الله عليه وآله) مع العجوز وكذا مزاح الوصي أمير المؤمنين معروف بالروايات الدالة على جواز متكثرة مستفيضة فعلى هذا ما ورد في ذمه مأول مثل ما نقله السيد الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ما مزح رجل مزحة إلا مج عن عقله مجة» واستعار (عليه السلام) قوله مج من مج فلان الماء من فيه أي رمى به قليلا قليلا أراد أن العقل يأمر بالوقار واشتغال الأوقات بالطاعات والأذكار فإذا داعب وخالف فكأنه مجه والتأويل فيه على أحد الوجهين أحدهما أنه (عليه السلام) تكلم بهذا الكلام في المقام المقتضي للنهي عن المزاح وثانيهما ان المنهي عنه ما يسقط الوقار والمهابة، وأما ما سلم من هذا وهو الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله) يفعله وكذلك الوصي (عليه السلام) على الندرة لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو سنة مستحبة يعظم الاحتياج إليه، وبالجملة الضحك جائز ما لم يؤد إلى خلاف الشرع فإنه حرام وإلى خلاف مروءة فإنه مكروه ولكن يكره الإكثار منه لأنه يميت القلب وصفة أهل البطالة المستحسن منه اللائق بأهل الفضل التبسم وهو كان أكثر ضحكه (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن شريف بن سابق، عن الفضل بن أبي قرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ما من مؤمن إلا وفيه دعابة). قلت: وما الدعابة؟ قال: (المزاح).

ص:144

* الشرح:

قوله: (ما من مؤمن إلا وفيه دعابة) الدعابة بالضم والتخفيف اللعب والمزاح ورجل دعابة بالفتح والشد كثير المزاح واللعب، ودعب ككتف ودعيب كقنفذ وداعب لاعب مازح (قلت وما الدعابة قال: المزاح) لما كان الدعابة يطلق أيضا على معان أخر ولو مجازا في بعضها كالأسود والأحمق والضعيف الذي يهزيء منه والنشيط سأل عن المراد عنه فأجاب (عليه السلام) بأن المراد هو المزاح.

* الأصل:

3 - عنه، عن محمد بن علي، عن يحيى بن سلام، عن يوسف بن يعقوب، عن صالح بن عقبة، عن يونس الشيباني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (كيف مداعبة بعضكم بعضا؟) قلت: قليل، قال: (فلا تفعلوا فإن المداعبة من حسن الخلق وإنك لتدخل به السرور على أخيك ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يداعب الرجل يريد أن يسره).

* الأصل:

4 - صالح بن عقبة، عن عبد الله بن محمد الجعفي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (إن الله عزوجل يحب المداعب في الجماعة بلا رفث).

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى يحب المداعب في الجماعة بلا رفث) الرفث الفحش والقول القبيح.

* الأصل:

5 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن الحسن بن كليب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ضحك المؤمن تبسم).

* الشرح:

قوله: (ضحك المؤمن تبسم) التبسم أقل الضحك وأحسنه ومن خصال الكرام وهو الذي لم يبلغ حد القهقهة وهي من خصال اللئام.

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كثرة الضحك تميت القلب). وقال: (كثرة الضحك تميث الدين كما يميث الماء الملح).

* الشرح:

قوله: (كثرة الضحك تميت القلب) أي تفسده وتهلكه بالجهل والغفلة عن الحق

ص:145

والميل إلى الباطل وفي بعض النسخ تميث بالثاء المثلثة أي تذيبه يقال: مثثت الشيء أموثه إذا أذبته.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ([إن] من الجهل الضحك من غير عجب) قال: وكان يقول: (لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ولا يأمن البيات من عمل السيئات).

* الشرح:

قوله: (إن من الجهل الضحك من غير عجب) العجب محركة ما يتعجب منه الإنسان لحسنه أو قبحه مع عظم موقعه عنده وخفاء سببه عليه ولا خفاء في أن من ضحك بدونه فهو جاهل ضعيف العقل سخيف الرأي وأن العاقل لا يضحك من قليله فكيف مع عدمه.

(وكان يقول: لا تبدين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة) أبديت الشيء أظهرته فمن زائده أو الإبداء متضمن للكشف و «لا» فيه وفيما بعده للنهي والواضحة الأسنان لاتصافها بالوضح وهو البياض (ولا يأمن البيات من عمل السيئات) المراد بالبيات هنا نزول العذاب والبلاء في الليل أو مطلقا بغته من غير علم وشعور به.

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه).

* الشرح:

قوله: (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه) كان التحذير عن كثرة المزاح أو عن أصله إذا كان قبيحا أو مع لئيم فإنه الذي يذهب بماء الوجه ويوجب سقوط العزة والوقار والمهابة ونزول الذلة والحقارة والمهانة.

* الأصل:

9 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماره).

* الشرح:

قوله: (إذا أحببت رجلا فلا تمازحه ولا تماره) إذا لممارات والمجادلة وكثرة المزاح والمداعبة

ص:146

تورث البغضة والعداوة وتوجب العزلة والمفارقة.

* الأصل:

10 - عنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(القهقهة من الشيطان).

* الشرح:

قوله: (القهقهة من الشيطان) التبسم من صفات أهل النجدة والصالحين وأما القهقهة فهي من قهقة الرجل إذا رجع في ضحكه أو اشتد ضحكه فهي من صفات الجاهلين الغافلين وإنما نسبها إلى الشيطان لأنها تنشأ من تزيينه وتحسينه للباطل وإغفاله لهم عن الحق.

* الأصل:

11 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن عنبسة العابد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (كثرة الضحك تذهب بماء الوجه).

* الأصل:

12 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن ابن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إياكم والمزاح فانه يجر السخيمة ويورث الضغينة وهو السب الأصغر).

* الشرح:

قوله: (وإياكم والمزاح فإنه يجر السخيمة) وهي الحقد في النفس.

(ويورث الضغينة) وهي الحقد والعداوة والبغضاء (وهو السب الأصغر) كثيرا ما يجر إلى السب الأكبر، واعلم أن المزاح مشروع مطلوب إلا أنه يتفاوت باعتبار الكمية والكيفية والأزمنة والمقام والأشخاص والعاقل اللبيب يعلم كيفية استعماله بحسب تلك الاعتبارات بخلاف غيره فلذلك ورد الأمر به تارة والنهي عنه أخرى.

* الأصل:

13 - محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن خالد بن طهمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إذا قهقهت فقل حين تفرغ: اللهم لا تمقتني).

* الشرح:

قوله: (إذا قهقهت فقل حين تفرغ: اللهم لا تمقتني) في المصباح مقته من باب قتل أبغضه أشد البغض من قبيح.

* الأصل:

14 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن داود بن فرقد وعلي بن

ص:147

عقبة وثعلبة، رفعوه إلى أبي عبد الله وأبي جعفر أو أحدهما (عليهما السلام) قال: (كثرة المزاح تذهب بماء الوجه وكثرة الضحك تمج الايمان مجا).

* الشرح:

قوله: (كثرة الضحك تمج الإيمان مجا) أي ترميه من الصدر وتقذفه من القلب من مج الشراب من الفم إذا رماه والمقصود أنها تنقض الإيمان وتنقصه.

* الأصل:

15 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن عنبسة العابد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (المزاح السباب الأصغر).

16 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه ومهابة الرجال).

17 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن أبي العباس، عن عمار ابن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تمار فيذهب بهاؤك ولا تمازح فيجترأ عليك).

18 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عمار بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تمازح فيجترأ عليك).

19 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال في وصية له لبعض ولده - أو قال: قال أبي لبعض ولده -: (إياك والمزاح فإنه يذهب بنور إيمانك ويستخف بمروءتك).

20 - عنه، عن ابن فضال، عن الحسن بن الجهم، عن إبراهيم بن مهزم، عمن ذكره، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: (كان يحيى بن زكريا (عليه السلام) يبكي ولا يضحك وكان عيسى بن مريم (عليهما السلام) يضحك ويبكي وكان الذي يصنع عيسى (عليه السلام) أفضل من الذي كان يصنع يحيى (عليه السلام)).

* الشرح:

قوله: (كان يحيى بن زكريا يبكي ولا يضحك.. اه) كثرة بكائه مشهورة وشدة حزنه معروفة وفي كتب السير والتفاسير مذكورة قيل: البكاء لغفران الذنوب فما وجه بكاء المعصوم المنزه عنها وأجيب عنه بأن العارفين يبكون شوقا إلى المحبوب والمذنبين يبكون خوفا من الذنوب ولذا قال بعض العرفاء: البكاء رشحات قراب القلوب عند حرارة الشوق والعشق، على أن بكاء المعصوم يمكن أن يكون بملاحظة شدائد القيامة بالنظر إلى ضعفاء الأمة.

ص:148

باب حق الجوار

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، ومحمد بن يحيى، عن الحسين بن إسحاق، عن علي بن مهزيار، عن علي بن فضال، عن فضالة بن أيوب، جميعا، عن معاوية بن عمار، عن عمر بن عكرمة قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: لي جار يؤذيني؟ فقال: (ارحمه)، فقلت:

لا رحمه الله، فصرف وجهه عني، قال: فكرهت أن أدعه، فقلت: يفعل بي كذا وكذا [ويفعل بي] ويؤذيني، فقال: (أرأيت إن كاشفته انتصفت منه؟). فقلت: بلى اربى عليه فقال: (إن ذا ممن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فإذا رأى نعمة على أحد فكان له أهل جعل بلاءه عليهم وإن لم يكن له أهل جعله على خادمه فإن لم يكن له خادم أسهر ليله وأغاظ نهاره، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه رجل من الأنصار فقال: إني اشتريت دارا في بني فلان وإن أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ولا آمن شره، قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) وسلمان وأبا ذر - ونسيت آخر وأظنه المقداد - أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثا، ثم أومأ بيده إلى كل أربعين دارا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).

* الشرح:

قوله: (عن عمر بن عكرمة) عمر بدون الواو كأبيه عكرمة بالكسر مجهول وفي بعض النسخ بالواو وهو غير ثابت.

(فقال: أرحمه فقلت: لا رحمه الله فصرف وجهه عني) طلب منه الرحمة العفو لجاره على سبيل الشفاعة والندب فأساه الأدب بترك المطلوب والإتيان بضده فلذلك صرف وجهه عنه (قال:

فكرهت أن أدعه) أي أتركه ولم أذكر شيئا من أفعاله القبيحة.

(فقلت: يفعل بي كذا وكذا ويؤذيني) إشارة إلى بعض قبايحه المنافية لحق الجوار وفي بعض النسخ «كذا وكذا ويفعل بي..».

(فقال: أرأيت) أي أخبرني (إن كاشفته انتصفت منه) أي أن أظهرت العداوة له استوفيت منه حقك وعدلت (فقلت: بلى أربى عليه) في الكنز: «أربا نوا دادن وإحسان كردن» يعنى بل أزيد في الإحسان إليه والحاصل أن الصادر مني هو الإحسان دون المكاشفة.

ص:149

(فقال: إن ذا ممن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله) «ذا» إشارة إلى الجار ووجه التفريع أن ايذاء أحد لجاره غالبا اما بسبب إيذاء الجار له أو للحسد وحيث انتفى الأول تحقق الثاني فإذا رأى أي راء أو الحاسد مطلقا.

(نعمة على أحد فكان له) أي لذلك الأحد (أهل جعل) أي الحاسد (بلاءه عليهم) أي على أهل ذلك الأحد المحسود ويؤذيهم مبالغة لإيذاء المحسود.

(وإن لم يكن له أهل جعله) أي بلاءه (على خادمه وإن لم يكن له خادم أسهر ليله وأغاظ نهاره) ضمير المجرور عائد إلى الأحد المحسود وتعلق الاسهار والاغاظة بالليل والنهار تعلق مجازي والأصل أسهره في ليله وأعاظه في نهاره بالإيذاء له وإيصال المكاره هذا من باب الاحتمال والله يعلم.

(وإن أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ولا آمن شره) جوازا منصوب على التميز يجوز فيه الحركات الثلاث والكسر أفصح.

(لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه) البوائق جمع البائقة وهي الداهية والغائلة والشر والظلم.

والظاهر أنه خبر لادعاء ويمكن أن يراد به نفي الإيمان الكامل إذ الإيمان عند أهل العصمة كأنه هذا حتى كان غيره ليس بإيمان وإنما أولناه بذلك لما مر في كتاب الكفر والإيمان من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أدنى ما يكون العبد مؤمنا أن يعرفه الله تعالى نفسه فيقر له بالطاعة. ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ويعرفه أمامه وحجته على أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة فقيل يا أمير المؤمنين وان جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال نعم إذا أمر أطاع وإذا نهى انتهى» إن قلت:

من لم يأمن جاره بوائقه إن وقعت منه إذاية أو تسبب فيها فالأمر واضح وإن لم يقع فغايته أنه هم بها فيعارض ما مر في باب من هم بالسيئة والحسنة ان من هم سيئة ولم يعمل لم تكتب عليه، قلت: أو لا عدم الكتابة لا يدل على عدم نقص الإيمان به، وثانيا أن المراد بمن لم يأمن جاره بوائقه من أوصل بوائقه وأذاه إلى جاره على أن الهم الذي لا يكتب إنما هو الهم الذي لم يقع متعلقه بالخارج كالهم بشرب الخمر ولم يشرب وهذا وقع متعلقه بالخارج لتأذى جاره بتوقعه ذلك كالمحارب يخيف السبيل ولم يصب.

(ثم أومأ بيده.. اه) الظاهر أنه أومأ النبي (صلى الله عليه وآله) وهذا الخبر على تقدير صحته حجة لمن ذهب إلى الجار بأربعين دارا من كل جانب وسيجئ في الباب الآتي أيضا ونذكر الأقوال هناك إن شاء الله تعالى.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى، عن طلحة بن زيد،

ص:150

عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (قرأت في كتاب علي 7 أن رسول الله 9 كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار كحرمة أمه) الحديث مختصر.

* الشرح:

قوله: (وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه) فيه مبالغة عظيمة في حرمة الجار لأن حرمة الأم مقرونة بحرمة الله تعالى والروايات في احترام الجار متظافرة من طرق الخاصة والعامة قال أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله): «الله الله في جيرانكم فإنه وصية نبيكم وما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم» وفي خبر العامة «لا تحقرن جارة جارتها ولو فرس شاة» قيل: هو من النهي عن الشئ والأمر بضده كناية عن التحاب والتواد كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة والفرس عظم قليل اللحم والترغيبات في الإشفاق على الجار ودفع المضار عنهم كثيرة وفي الفقيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ما زال جبرئيل (عليه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ومثله في كتاب مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» قال القرطبي: لما أكثر جبرئيل (عليه السلام) من الوصية عليه غلب على ظنه (صلى الله عليه وآله) أن الله سيحكم بالإرث بين الجارين وقيل: إنما خرج الكلام بذلك مخرج التأكيد والمبالغة ورجح الأبى هذا بأنه لو غلب على ظنه ذلك لوقع لأن ظنونه (صلى الله عليه وآله) صادقة واقع متعلقها وما ذكره ابن الحاجب في باب الإجتهاد في كتابه الأصلي من اجتهاده ليس هو بمعصوم فيه لم يزل الشيوخ ينكرونها عليه قديما وحديثا، ثم قال: وهذا الحديث يدل على أنه لا شفعة للجار لأنه خرج مخرج أخص أوصاف الاتصاف وأخص أوصافه الإرث ولو كان في غير ذلك بينه أقول وفيه دلالة على المبالغة في مراعاة أولي الأرحام.

* الأصل:

3 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن إبراهيم بن أبي رجاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حسن الجوار يزيد في الرزق.

* الشرح:

قوله: (حسن الجوار يزيد في الرزق) من حسن الجوار أن تعينه في أموره وتقرضه ان احتاج اليه وتهديه بهدية من الأطعمة والأشربة والفواكه وغيرها وتدفع عنه كربه وظلمه وان لا ترفع بناء مشرفا على داره ولا تنظر إلى حرمه وجواريه ولا تمنع وضع خشبة على جدارك ولا تمنعه

ص:151

الماعون وأن تستر عورته وعيوبه إلى غير ذلك من المحاسنات القولية والفعلية.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط، عن عمه يعقوب بن سالم، عن إسحاق بن عمار، عن الكاهلي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إن يعقوب (عليه السلام) لما ذهب منه بنيامين نادى يا رب أما ترحمني أذهب عيني واذهبت ابني؟ فأوحى الله تبارك وتعالى لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشيوتها وأكلت وفلان وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئا).

* الشرح:

قوله: (ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت وفلان وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئا) الظاهر صائمان ولم تنلهما والأفراد بتأويل كل واحد وفيه تأديب على ترك إصابة الجار بمعروف قليلا كان أو كثيرا والجار غنيا كان أو فقيرا ولو لم يكن عنده إلا القليل المحتقر فليهده ولا يترك الهدية لأجل احتقاره والمهدي له مأمور بقبوله والمكافأة عليه ولو بالشكر لأنه وإن كان محتقرا فهو دليل المحبة وفي كتاب مسلم «عن أبي ذر قال أن خليلي (صلى الله عليه وآله) أوصاني إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» قال القرطبي: هذا تنبيه لطيف على تيسير الأمر على البخيل إذ الزيادة إنما هي شيء لا ثمن له إذ لم يقل أكثر لحمها إذ لا يتسير ذلك على كل أحد وأعني بالإكثار غير المفسد.

* الأصل:

5 - وفي رواية اخرى قال: (فكان بعد ذلك يعقوب (عليه السلام) ينادي مناديه كل غداة من منزله على فرسخ: ألا من أراد الغداء فليأت إلى يعقوب، وإذا أمسي نادى: ألا من أراد العشاء فليأت إلى يعقوب).

* الأصل:

6 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إسحاق بن عبد العزيز، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاءت فاطمة (عليها السلام) تشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض أمرها فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كربة (1) وقال: تعلمي ما فيها فإذا فيها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت).

ص:152


1- 1 - في بعض النسخ «كريسة» مصغر الكراسة وهي الجزء من الصحيفة.
* الشرح:

قوله: (فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كربة) (1) الكرب بالتحريك أصول النخل الغلاظ أمثال الكتف والواحد بهاء.

(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) الضيف القادم ويقع على الواحد والكثير والذكر والأنثى ويجمع على أضياف وضيوف وضيفان ويقال ضفته وتضيفته إذا نزل به وضيفته إذا أنزلته، والمراد بإكرامه تعظيمه ورعاية حقوقه والتكلم معه والاستفسار عن حاله وإظهار حسن الخلق معه ولا ينقبض وجهه لديه ولا يشتم ولا يضرب خدمه عنده لئلا يضجر والضيافة ليست بواجبة فالأمر للاستحباب المؤكد ولكنها من أخلاق النبيين وآداب المرسلين وإجادة الطعام مستحبة ما لم تبلغ حد التكلف والإسراف لأنهما مذمومان اما الإسراف فظاهر وأما التكلف فلما فيه من المشقة ولأنه يمنع من الإخلاص والسرور بالضيف وربما ينجر ذلك إلى حد يتأذى الضيف بذلك فهو ينافي اكرامه المأمور به بخلاف إجادة الطعام مما لا يتعذر عليه ولم يبلغ حد المشقة فإنها من السنة فقد ذبح إبراهيم (عليه السلام) لاضيافه عجلا.

(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت) المراد بالخير ما يثاب عليه سواء كان واجبا أو مندوبا فالأمر لمطلق الطلب الراجح، والمراد بالسكوت السكوت عما لا يثاب عليه فيدخل في المسكوت عنه المباح والحرام والمكروه فالنهي أيضا لمطلق الطلب عن الكف ولذلك قيل هذا الخطاب من باب التهييج أي من صفة المؤمن الكامل أن يتكلم بما يثاب عليه أو يسكت لأمن سكت نجا، والحق أن المباح يكتب لما ذكر آنفا، ونقل عن ابن عباس أنه لا يكتب إذ لا يجازى عليه والجواب عنه قد ذكراه آنفا فتدبر.

* الأصل:

7 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد خالد، عن أبيه، عن سعدان وعن أبي مسعود، قال:

قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (حسن الجوار زيادة في الأعمار، وعمارة الديار).

* الشرح:

قوله: (حسن الجوار يعمر الديار وينسي في الأعمار) نسأه كمنعه وأنسأه أخره والحديث محمول على ظاهره لأن العمر مما يزيد وينقص، واختلف العامة فقال عياض والطيبي: المراد بتأخير الأجل بقاء الذكر الجميل بعده فكأنه لم يمت دون تأخير الأجل لأن الأجل لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم: معنى الزيادة في العمر أنه بالبركة فيه بتوفيقه إلى أعمال الطاعة وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة والتوجيه ببقاء ذكره بعد الموت ضعيف ورد بعضهم هذين القولين بأن

ص:153


1- 1 - في بعض النسخ «كرية» مصغر الكراسة وهي الجزء من الصحيفة.

العمر يزيد وينقص إذ قد يكون قد سبق في أم الكتاب أنه إن فعل كذا وكذا فعمره كذا وإن لم يفعله فكذا.

* الأصل:

8 - عنه، عن النهيكي، عن إبراهيم عن عبد الحميد، عن الحكم الخياط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(حسن الجوار يعمر الديار ويزيد في الأعمار).

* الأصل:

9 - عنه، عن بعض أصحابه، عن صالح بن حمزة، عن الحسن بن عبد الله، عن عبد صالح (عليه السلام) قال: قال: (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى).

* الأصل:

10 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن عبيس بن هشام، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسن الجوار يعمر الديار وينسى في الأعمار).

* الأصل:

11 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن حفص، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال - والبيت غاص بأهله -: (اعلموا أنه ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره).

* الأصل:

12 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (المؤمن من آمن جاره بوائقه). قلت: وما بوائقه؟ قال: (ظلمه وغشمه).

* الشرح:

قوله: (ظلمه وغشمه) الغشم بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين الجور والظلم.

* الأصل:

13 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكا عليه أذى من جاره فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اصبر، ثم أتاه ثانية فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) اصبر، ثم عاد إليه فشكاه ثالثة فقال النبي (صلى الله عليه وآله) للرجل الذي شكا: إذا كان عند رواح الناس إلى الجمعة فأخرج متاعك إلى الطريق حتى يراه من يروح إلى الجمعة، فإذا سألوك فأخبرهم. قال: ففعل فأتاه جاره المؤذي له فقال: رد متاعك فلك الله علي أن لا أعود).

* الأصل:

ص:154

14 - عنه، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي الحسن البجلي، عن عبيد الله الوصافي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، قال: (وما من أهل قرية يبيت [و] فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة).

* الشرح:

قوله: (ما آمن بي من مات شبعان وجاره جايع) فيه حث على تفقد أحوال الجار وإكرامه وإطعامه لما فيه من حسن العشرة وجلب المحبة والألفة ودفع الحاجة المفسدة عنه إذ قد يكون الجار لضعفه وكثرة عياله وصغار ولده لا يقدر على تحصيل ما يكفيه وقد يكون يتيما وأرملة ثم أنه لو لم يقدر على القيام بمطالب الجميع كان عليه تقدير الأقرب فالأقرب ولو كان الأبعد ذا رحم فلا يبعد القول بتقديمه.

* الأصل:

15 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من القواصم الفواقر التي تقصم الظهر جار السوء، إن رأى حسنة أخفاها وإن رأى سيئة أفشاها).

* الشرح:

قوله: (من القواصم الفواقر) الفاقرة الداهية الشديدة الكاسرة يقال: فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره.

* الأصل:

16 - عنه، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة، تراك عيناه ويرعاك قلبه، إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشر سره).

ص:155

باب حد الجوار

* الأصل:

1 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن عمر بن عكرمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).

* الشرح:

قوله: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار بن عمر بن عكرمة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل أربعين دار أجيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله) كان هذا الحديث هو المذكور في صدر الباب السابق وفيه اقتصار على المتن والسند. واعلم أن ما دل عليه هذا الحديث والذي بعده من أن الجوار أربعون دارا من كل جانب مذهب طائفة من أصحابنا وذهب جماعة منهم الشهيد الأول في اللمعة إلى أنه أربعون ذراعا، وقال الشهيد الثاني: الأقوى في الجيران الرجوع إلى العرف لأن مستند الأول رواية عامية روتها عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «الجار إلى أربعين دارا» والثاني وإن كان مشهورا مستنده ضعيف وكأنه «ره» غفل عن هاتين الروايتين وجعل مستند الأول رواية عائشة.

* الأصل:

2 - وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (حد الجوار أربعون دارا من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله).

ص:156

باب حسن الصحابة وحق الصاحب في السفر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان قال:

أوصاني أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: (اوصيك بتقوى الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الصحابة لمن صحبت ولا قوة إلا بالله).

* الشرح:

قوله: (وحسن الصحابة لمن صحبت) في السفر والحضر بالحلم والرفق والصفح كظم الغيظ وحسن الخلق وكف الأذى وحفظ السر والدعوة إلى الزاد والقيام بالخدمة في الصحة والمرض وقضاء الحوائج والاقتراض عند الحاجة والإرشاد إلى المصالح والتكلم والمزاج بما يوجب إنبساط القلب.

2 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليه فافعل).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله 9: ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عزوجل أرفقهما بصاحبه).

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن عدة من أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حق المسافر أن يقيم عليه أصحابه إذا مرض ثلاثا).

5 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام):

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) صاحب رجلا ذميا فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ فقال: اريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى، فقال له الذمي: فقد تركت الطريق؟ فقال له: قد علمت: قال: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله) فقال له الذمي: هكذا قال؟ قال: نعم، قال الذمي لا جرم إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة فأنا أشهدك أني على دينك ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما عرفه أسلم).

ص:157

باب التكاتب

* الأصل:

1 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، وسهل بن زياد، جميعا، عن ابن محبوب عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (التواصل بين الاخوان في الحضر التزاور وفي السفر التكاتب).

* الشرح:

قوله: (التواصل بين الأخوان في الحضر التزاور وفي السفر التكاتب) التواصل مطلوب عقلا وشرعا لحسن النظام وتحقق الإلتيام وبه ينتظم أمور الدين والدنيا بين الأنام وهو يتحقق في الحضر بالتزاور وبسط بساط الوفاق وفي السفر بالتكاتب وإظهار السلامة والمحبة والإشتياق والتألم بالفراق.

* الأصل:

2 - ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (رد جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام، والبادي بالسلام أولى بالله ورسوله).

* الشرح:

قوله: (رد جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام) هذا من باب الحاق النظير بنظيره في الحكم إذ السلام تحية وتحفة من الحاضر والكتاب تحفة وتحية من الغائب فكما يجب رد السلام بالسلام يجب رد الكتاب بالكتاب، وأيضا رعاية حقوق الأخوة وكمال المروءة وثبات الألفة مقتضية لرد الكتاب بالكتاب.

ص:158

باب النوادر

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشاء، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، قال: ولم يبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجليه بين أصحابه قط وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله 9 يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قال بيده فنزعها من يده).

* الشرح:

قوله: (وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية) اللحظات النظرات وفي تسوية النظر فوائد منها عدم انكسار قلوب بعضهم ومنها ميل القلوب إلى الناظر لحسن خلقه ولطف سيرته ومنها حصول المروءة وزيادة المحبة بين المنظورين لأن تخصيص بعضهم بزيادة الالتفات يورث العداوة بينهم وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لبعض عماله:

«واخفض للرعية جناحك وواس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة».

قوله: (قال بيده فنزعها من يده) في النهاية: العرب يجعل القول عبارة عن جميع الأفعال ويطلقه على ا غير اللسان والكلام فيقول: قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقالت له العينان:

سمعا وطاعة أي أو مات وقال بالماء على يده أي قلب وقال بثوبه أي رقعة كل ذلك على سبيل المجاز والاتساع.

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (إذا كان الرجل حاضرا فكنه وإذ كان غائبا فسمه).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إذا أحب أحدكم أخاه المسلم فليسأله، عن اسمه، واسم أبيه واسم قبيلته وعشيرته فإن من حقه الواجب وصدق الإخاء أن يسأله عن ذلك وإلا فإنها معرفة حمق).

* الشرح:

قوله: (وصدق الإخاء) الإخاء بالكسر والمد مصدر كالمواخاة يقال: آخاه مؤاخاة وأخاه إذا

ص:159

اتخذه أخا وصديقا وفي الكنز: «أخا بأهم برادرى داشتن».

(وإلا فإنها معرفة حمق) الحمق ككتف الأحمق وهو قليل العقل وسخيف الرأي والحمق بضمتين جمع الأحمق وضمير التأنيث راجع بقرينة المقام إلى المعرفة الحاصلة بمجرد النظر إلى شخصه وهذه المعرفة غير مختصة بالعاقل لثبوتها للأحمق الجاهل وغيره من الحيوانات.

* الأصل:

4 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن علي بن جعفر، عن عبد الملك بن قدامة، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لجلسائه: تدرون ما العجز قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: العجز ثلاثة أن يبدر أحدكم بطعام يصنعه لصاحبه فيخلفه ولا يأتيه. والثانية أن يصحب الرجل منكم الرجل أو يجالسه يحب أن يعلم من هو ومن أين هو فيفارقه قبل أن يعلم ذلك، والثالثة أمر النساء يدنو أحدكم من أهله فيقضي حاجته وهي لم تقض حاجتها) فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يتحوس ويمكث حتى يأتي ذلك منهما جميعا. قال: وفي حديث آخر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن من أعجز العجز رجل لقى رجلا فأعجبه نحوه فلم يسأله عن اسمه ونسبه وموضعه).

* الشرح:

قوله: (فقال: العجز ثلاثة) لعل المراد به العجز عن الإتيان بالآداب الشرعية والضعف عن الوفاء بحسن المصاحبة وأداء حقوق المعاشرة والمخالطة.

(فقال: يتحوس ويمكث حتى يأتي ذلك منهما جميعا) يتحوس أي يتحبس ويبطيء ومنه تحوس المسافر إذا أبطيء وأقام مع إرادة السفر وتحوس فلان إذا تحبس وأبطاء في أمره وفي بعض النسخ بالشين المعجمة أي يتنحى عن الحركة ويتأنى فيها.

* الأصل:

5 - وعنه عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: (لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك أبق منها فإن ذهابها ذهاب الحياء).

* الشرح:

قوله: (لا تذهب الحشمة بينك وبين أخيك.. اه) الحشمة بالكسر وهي الإنقباض عن بعض الأمور حياء وإذا ذهب الحياء منهما بالمرة وبطلت العزة والحرمة صدرت منهما أفعال وأقوال

ص:160

شبيهة بأفعال الأراذل واللئام وأقوالهم.

* الأصل:

6 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن إسماعيل، عن عبد الله بن واصل عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تثق بأخيك كل الثقة فإن صرعة الاسترسال لن تستقال).

* الشرح:

قوله: (لا تثق بأخيك كل الثقة) قال الحكماء: وجب اختبار الرجل ثم اختياره للصداقة إذ اختياره قبل اختباره ينجر سريعا إلى وحشة الفراق وذل الإنكسار ثم بعد اختياره لابد من الحزم وعدم الوثوق به كل الوثوق فلا يظهر عليه جميع الأسرار بل يحفظ منها ما يخاف اللوم وسوء العاقبة من افشائه وانتشاره.

(فإن صرعة الاسترسال لن تستقال) في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض صرعة كمنعه والصرعة بالكسر للنوع ومنه المثل سوء الإستمساك خير من حسن الصرعة، ويروي بالفتح بمعنى المرة، وبالضم من يصرعه الناس، وكهمزة من يصرعهم. والاسترسال الاستيناس والانبساط والطمأنينة فيما يحدثه. والاستقالة طلب فسخ البيع وهذا كمثل يقال لمن دخل في أمر من غير تأمل وروية فوقع في محنة وبلية لا طريق إلى دفعها وإقالتها ولا سبيل إلى علاجها وإزالتها.

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن معلى بن خنيس وعثمان بن سليمان النخاس، عن مفضل بن عمر، ويونس بن ظبيان قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (اختبروا إخوانكم بخصلتين فإن كانتا فيهم وإلا فاعزب ثم اعزب ثم اعزب: محافظة على الصلوات في مواقيتها والبر بالإخوان في العسر واليسر).

ص:161

باب(فضل البسمله)

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لا تدع بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان بعده شعر).

* الشرح:

قوله: (لا تدع بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان بعده شعر) سواء كتبته أو قرءته والنهي للتنزيه الدال على الاستحباب.

* الأصل:

2 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن الحسن بن علي، عن يوسف بن عبد السلام، عن سيف بن هارون مولى آل جعدة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك ولا تمد الباء حتى ترفع السين).

* الشرح:

قوله: (عن سيف بن هارون مولى آل جعدة) جعدة بالفتح والسكون اسم رجل وآل جعدة حي، وسيف بن هارون غير مذكور فيما رأيناه من كتب الرجال والمراد بكونه مولاهم أنه غير العربي ونشأ فيهم منتسب إليهم.

(اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك) أي حسن موضعه وهو الصدر، ويحتمل أن يراد بالكتاب المصدر ويجعل الجودة وصفا لكتب البسملة بإظهار الحروف وترصيفها وغير ذلك «مما له مدخل في جودتها».

(ولا تمد الباء حتى ترفع السين) كما هو المعروف في المصاحف وقبل استحباب رفع السين قبل مد الباء مخصوص بخط الكوفي.

* الأصل:

3 - عنه، عن علي بن الحكم، عن الحسن بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: (لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم لفلان ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان).

* الشرح:

ص:162

قوله: (لا تكتب) في داخل الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم لفلان) بل اكتب إلى فلان (ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان) ليعرف من غير فتح سيما إذا كان مختوما والفرق أن المراد بالأول إبلاغ الدعاء والسلام والأحوال وإرسالها إليه ومن الثاني هو الإعلام بأن الكتاب لمن. ومفاد هذا الحديث وتاليه واحد.

* الأصل:

4 - عنه، عن محمد بن علي، عن النضر بن شعيب، عن أبان بن عثمان، عن الحسين بن السري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا تكتب داخل الكتاب لأبي فلان واكتب «إلى أبي فلان» واكتب على العنوان لأبي فلان).

5 - عنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبدأ بالرجل في الكتاب، قال: (لا بأس به، ذلك من الفضل، يبدأ الرجل بأخيه يكرمه).

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يبدأ بالرجل في الكتاب) بأن يكتب بعد التسمية من فلان إلى فلان.

* الأصل:

6 - عنه، عن علي بن الحكم، عن أبان بن الأحمر، عن حديد بن حكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا بأس بأن يبدأ الرجل باسم صاحبه في الصحيفة قبل اسمه).

* الشرح:

(قال: لا بأس) بذلك (ذلك من الفضل يبدأ الرجل بأخيه يكرمه) قال بعض العامة: الأولى بداية الإنسان بنفسه في الدعاء ونحوه من أمور الآخرة يرشد إليه قوله تعالى حكاية (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) بخلاف حظوظ الدنيا فإن الأدب أن يبدأ باسم غيره وأما الرسائل فقيل بتقديم المكتوب إليه إلا أن يكون الكاتب الأمير أو الأب لابنه أو السيد لعبده وقيل بتقديم نفسه كيف كان ومنه كتبه (صلى الله عليه وآله) محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم وقوله (عليه السلام) في هذا الخبر والذي بعده «لا بأس» يشعر بالتساوي بين الأمرين والله يعلم.

* الأصل:

7 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن مرازم بن حكيم قال: أمر أبو عبد الله (عليه السلام) بكتاب في حاجة فكتب ثم عرض عليه ولم يكن فيه استثناء فقال: (كيف رجوتم أن يتم هذا وليس

ص:163

فيه استثناء انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه).

* الشرح:

قوله: (ولم يكن فيه استثناء) ينبغي لمن قال: أفعل أو سأفعل ونحوها أن يقول: إن شاء الله متصلا به أو منفصلا إذا ذكر بعد النسيان لأن له مدخلا عظيما في تيسير المقصود.

* الأصل:

8 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه كان يترب الكتاب وقال: (لا بأس به).

* الشرح:

قوله: (أنه كان يترب الكتاب وقال: لا بأس به) يترب أما من الإتراب أو من التتريب قال الجوهري ترب الشيء بالكسر أصابه التراب وتربت الشيء تتريبا فتترب أي تلطخ بالتراب وأتربت الشيء جعلت عليه التراب. وفي الحديث أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة وفي مجمع البحار معنى الحديث اجعلوا عليه التراب أو أسقطوا على التراب اعتمادا على الله تعالى في إيصاله إلى المقصد أو ذروا التراب على المكتوب أو خاطبوا في الكتاب خطابا في غاية التواضع للمكتوب إليه.

* الأصل:

9 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية أنه رأى كتبا لأبي الحسن (عليه السلام) متربة.

ص:164

باب النهي عن احراق القراطيس المكتوبة

* الأصل:

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الملك بن عتبة، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن القراطيس تجتمع هل تحرق بالنار وفيها شيء من ذكر الله؟ قال: (لا، تغسل بالماء أولا قبل).

* الشرح:

قوله: (يمحوه الرجل بالتفل) ان احتاج إلى محوه والتفل بالضم البصاق.

* الأصل:

2 - عنه، عن الوشاء، عن عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (لا تحرقوا القراطيس ولكن امحوها وخرقوها).

3 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الاسم من أسماء الله يمحوه الرجل بالتفل قال: (امحوه بأطهر ما تجدون).

4 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

امحوا كتاب الله [تعالى] وذكره بأطهر ما تجدون ونهى أن يحرق كتاب الله ونهى أن يمحى بالأقلام).

* الشرح:

قوله: (امحو كتاب الله وذكره باطهر ما تجدون) إن كان محوه مطلوبا بأن وقع فيه الغلط أو وقع في غير موضعه أو وقع في موضع يوطأ ونحو ذلك.

(ونهى عن أن يحرق كتاب الله ونهى أن يمحي بالأقلام) النهي الأول للتحريم والثاني للتنزيه.

وفي نسخة بالاقدام والظاهر أنه تحريف.

* الأصل:

5 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن إسحاق بن عمار، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في الظهور التي فيها ذكر الله عزوجل قال: (اغسلها).

* الشرح:

ص:165

قوله: (في الظهور) أي الجلود التي فيها ذكر الله تعالى (قال: اغسلها) إن كانت غير مذكاة أو كانت هي والمداد نجسة أو وجد شيئا آخر من أسباب المحو التي ذكرنا بعضها.

* الأصل:

تم كتاب العشرة ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

* الشرح:

هذا آخر كتاب العشرة وبه تم قسم الأصول من الكافي) نحمد الله ونشكره على جزيل نعمائه وجميل فعاله وعلى أن وفقنا لإتمام هذا الأثر القيم الخالد وذلك من فضله ومنه.

ولرواد الفضيلة والأجلاء الذين وازرونا في هذا المشروع لا سيما الأستاذ العظم العلامة الحجة (الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني) دامت بركاته، شكر متواصل غير مقطوع ولا ممنوع.

علي أكبر الغفاري عفا الله عنه

ص:166

كتاب الروضة

* الشرح:

(بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الروضة) وهي في اللغة: البستان ومستنقع الماء أيضا مستعارة لهذا الكتاب بتشبيه ما فيه من المسائل الشريفة والخصايل العجيبة والفضايل الغريبة بهما في البهجة والصفا والنضارة والبهاء أو في كونه سببا لحياة النفوس كالماء.

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثني علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال عن حفص المؤذن، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.

قال: وحدثني الحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، عن القاسم ابن الربيع الصحاف، عن إسماعيل بن مخلد السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام). قال: (خرجت هذه الرسالة من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:

فاسألوا ربكم العافية وعليكم بالدعة والوقار والسكينة وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزه عنه الصالحون قبلكم وعليكم بمجاملة أهل الباطل تحملوا الضيم منهم وإياكم ومما ظنتهم دينوا بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنه لابد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم

ص:167

فإذا ابتليتم بذلك منهم فإنهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر ولولا أن الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم وفي صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض فان أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق، فيعصمكم الله من ذلك فاتقوا الله وكفوا ألسنتكم إلا من خير.

وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه كان خيرا لكم عند ربكم من أن تذلقوا ألسنتكم به فان ذلق اللسان فيما يكره الله وما [ي] - نهى عنه مرادة للعبد عند الله ومقت من الله وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) يعني لا ينطقون (ولا يؤذن لهم فيعتذرون).

وإياكم وما نهاكم الله عنه أن تركبوه وعليكم بالصمت إلا فيما ينفعكم الله به من أمر آخرتكم ويأجركم عليه وأكثروا من التهليل والتقديس والتسبيح والثناء على الله والتضرع إليه والرغبة فيما عنده من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عما نهى الله عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهله خلودا في النار من مات عليها ولم يتب إلى الله ولم ينزع عنها، وعليكم بالدعاء فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة [له] فارغبوا فيما رغبكم الله فيه وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله فانه من انتهك ما حرم الله عليه ها هنا في الدنيا حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنة أبد الأبدين.

واعلموا أنه بئس [الحظ] الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها. ويل لأولئك ما أخيب حظهم وأخسر كرتهم وأسوء حالهم عند ربهم يوم القيامة، استجيروا الله أن يخزيكم (1) في مثالهم أبدا وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.

ص:168


1- 1 - كذا وفي بعض النسخ «يجيركم».

فاتقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا [عليكم] الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عزوجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم، مصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل (عليه السلام) على نبيكم (صلى الله عليه وآله) سمعتم قول الله عزوجل لنبيكم (صلى الله عليه وآله): (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) ثم قال: (وإن يكذبوك) (لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا) فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل - أصل الخلق - من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فانه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عن ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار.

وقال: أيتها العصابة المرحومة المفلحة إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء وجعل القرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسمع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الامة بسؤالهم وهم الذين من سألهم، وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم، أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله باذنه إلى جميع سبل الحق وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظله فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم. وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان لأنهم جعلوا أهل الايمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين وحتى جعلوا ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم

ص:169

الله في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عزوجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعدما قبض الله عزوجل رسوله (صلى الله عليه وآله) وبعده عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ولرسوله 9 فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسمعه والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته هل يستطيع اولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحدا ممن أسلم مع محمد (صلى الله عليه وآله) أخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟ فإن قال: نعم، كذب على الله وضل ضلالا بعيدا وإن قال: لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه، فقد أقر بالحجة على نفسه وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قال الله وقوله الحق (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد قبض الله محمد (صلى الله عليه وآله) وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافا لأمر محمد (صلى الله عليه وآله) فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمد (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه.

وقال: دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين تفتتح الصلاة فان الناس قد شهروكم بذلك والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال: أكثروا من أن تدعوا الله فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه وقد وعد الله عباده المؤمنين بالاستجابة والله مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهما به في الجنة فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار فان الله أمر بكثرة الذكر له والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير، فأعطوا لله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته فان الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه فان الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحق: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) واعلموا أن ما أمر الله به أن تجتنبوه فقد حرمه واتبعوا آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا فان أضل الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله، وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم، تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم وإياكم وسب أعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدوا بغير علم وقد ينبغي لكم أن

ص:170

تعلموا حد سبهم لله كيف هو؟ إنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله ومن أظلم عند الله ممن استسب لله ولأولياء الله فمهلا مهلا فاتبعوا أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقال: أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم! عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده وسنتهم، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل، لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله):

المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء، ألا إن اتباع الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار ولن ينال شيء من الخير عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا لأن الصبر والرضا من طاعة الله، واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحب وكره ولن يصنع الله بمن صبر ورضي عن الله إلا ما هو أهله وهو خير له مما أحب وكره، وعليكم بالمحافظة على الصلوات والصلاة والوسطى وقوموا لله قانتين كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم، وعليكم بحب المساكين المسلمين فانه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين الله والله له حاقر ماقت وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أمرني ربي بحب المساكين المسلمين [منهم]» واعملوا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة حتى يمقته الناس والله له أشد مقتا، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين فان لهم عليكم حقا أن تحبوهم فان الله أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) بحبهم فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين.

وإياكم والعظمة والكبر، فان الكبر رداء الله عزوجل:، فمن نازع الله رداءه قصمه الله عزوجل وأذله يوم القيامة، وإياكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين فانه من بغي صير الله بغيه على نفسه وصارت نصرة الله لمن بغي عليه ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله، وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا فان الكفر أصله الحسد. وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو الله عليكم ويستجاب له فيكم فان أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة» وليعن بعضكم بعضا فان أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «إن معونة المسلم خير وأعظم أجرا من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام» وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بالشيء يكون لكم قبله وهو معسر فإن أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: «ليس لمسلم أن يعسر مسلما ومن أنظر معسرا أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله».

وإياكم أيتها العصابة المرحومة المفضلة على من سواها، وحبس حقوق الله قبلكم يوما بعد

ص:171

يوم وساعة بعد ساعة فانه من عجل حقوق الله قبله كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل، وإنه من أخر حقوق الله قبله كان الله أقدر على تأخير رزقه ومن حبس الله رزقه لم يقدر أن يرزق نفسه فأدوا إلى الله حق ما رزقكم يطيب الله لكم بقيته وينجز لكم ما وعدكم من مضاعفته لكم الأضعاف الكثيرة التي لا يعلم عددها ولا كنه فضلها إلا الله رب العالمين.

وقال: اتقوا الله أيتها العصابة وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الأمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام، المسلمين لفضله، الصابرين على أداء حقه، العارفين بحرمته، واعملوا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام فهو محرج الإمام، فإذا فعل ذلك عند الإمام أحرج الإمام إلى أن يلعن أهل الصلاح من أتباعه، المسلمين لفضله، الصابرين على أداء حقه، العارفين بحرمته، فإذا لعنهم لاحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم وصارت اللعنة من الله ومن الملائكة ورسله على اولئك.

واعلموا أيتها العصابة أن السنة من الله قد جرت في الصالحين قبل. وقال: من سره أن يلقى الله وهو مؤمن حقا فليتول الله ورسوله والذين آمنوا وليبرأ إلى الله من عدوهم ويسلم لما انتهى إليه من فضلهم لأن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك، ألم تسمعوا ما ذكر الله من فضل أتباع الأئمة الهداة وهم المؤمنون قال: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا) فهذا وجهه من وجوه فضل أتباع الأئمة فكيف بهم وفضلهم؟ ومن سره أن يتم الله له إيمانه حتى يكون مؤمنا حقا حقا فليف لله بشروطه التي اشترطها على المؤمنين فانه قد اشترط مع ولايته وولاية رسوله وولاية أئمة المؤمنين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإقراض الله قرضا حسنا واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله إلا وقد دخل في جملة قوله، فمن دان الله فيما بينه وبين الله مخلصا لله ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا فهو عند الله في حزبه الغالبين وهو من المؤمنين حقا، وإياكم والاصرار على شيء مما حرم الله في ظهر القرآن وبطنه وقد قال الله تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) - إلى ها هنا رواية القاسم بن الربيع - يعني المؤمنين قبلكم إذا نسوا شيئا مما اشترط الله في كتابه عرفوا أنهم قد عصوا الله في تركهم ذلك الشيء فاستغفروا ولم يعودوا إلى تركه فذلك معنى قول الله: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).

واعملوا أنه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عما نهى عنه، فمن اتبع أمره فقد أطاعه

ص:172

وقد أدرك كل شيء من الخير عنده ومن لم ينته عما نهى الله عنه فقد عصاه فإن مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار.

واعملوا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له، فجدوا في طاعة الله، إن سركم أن تكونوا مؤمنين حقا حقا ولا قوة إلا بالله. وقال: وعليكم بطاعة ربكم ما استطعتم فان الله ربكم اعلموا أن الاسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له ومن سره أن يبلغ إلى نفسه في الاحسان فليطع الله فإنه من أطاع الله فقد أبلغ إلى نفسه في الاحسان.

وإياكم ومعاصي الله أن تركبوها فانه من انتهك معاصي الله فركبها فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه وليس بين الاحسان والإساءة منزلة، فلأهل الاحسان عند ربهم الجنة ولأهل الإساءة عند ربهم النار، فاعملوا بطاعة الله واجتنبوا معاصيه واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه واعلموا أن أحدا من خلق الله لم يصب رضا الله إلا بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمد صلوات الله عليهم. ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلا عظم أو صغر واعملوا أن المنكرين هم المكذبون وأن المكذبين هم المنافقون وأن الله عزوجل قال للمنافقين وقوله الحق: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) ولا يعرفن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس أخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله من أهلها فان من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الانس والجن وإن لشياطين الانس حيلة ومكرا وخدائع ووسوسة وبعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الأنس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والانكار والتكذيب فيكونون سواء كما وصف الله تعالى في كتابه من قوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءا). ثم نهى الله أهل النصر بالحق أن يتخذوا من أعداء الله وليا ولا نصيرا فلا يهولكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله به حيلة شياطين الانس ومكرهم من أموركم تدفعون أنتم السيئة بالتي هي أحسن فيما بينكم وبينهم، تلتمسون بذلك وجه ربكم بطاعته وهم لا خير عندهم لا يحل لكم أن تظهروهم على اصول دين الله فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئا عادوكم عليه ورفعوه عليكم وجهدوا على هلاككم واستقبلوكم بما تكرهون ولم يكن لكم النصفة منهم في دول

ص:173

الفجار، فاعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل فانه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل ألم يعرفوا وجه قول الله في كتابه إذ يقول: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) أكرموا أنفسكم عن أهل الباطل ولا تجعلوا الله تبارك وتعالى - وله المثل الأعلى - وإمامكم ودينكم الذي تدينون به عرضة لأهل الباطل فتغضبوا الله عليكم فتهلكوا، فمهلا مهلا يا أهل الصلاح لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته فيغير الله ما بكم من نعمة، أحبوا في الله من وصف صفتكم وابغضوا في الله من خالفكم وابذلوا مودتكم ونصيحتكم [لمن وصف صفتكم] ولا تبتذلوها لمن رغب عن صفتكم وعاداكم عليها وبغالكم الغوائل.

هذا أدبنا أدب الله فخذوا به وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم، ما وافق هداكم أخذتم به وما وافق هواكم طرحتموه ولم تأخذوا به، وإياكم والتجبر على الله واعلموا أن عبدا لم يبتل بالتجبر على الله إلا تجبر على دين الله، فاستقيموا لله ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. أجارنا الله وإياكم من التجبر على الله ولا قوة لنا ولكم إلا بالله.

وقال (عليه السلام): إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل - أصل الخلق - مؤمنا لم يمت حتى يكره الله إليه الشر ويباعده عنه ومن كره الله إليه الشر وباعده عنه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبرية فلانت عريكته وحسن خلقه وطلق وجهه وصار عليه وقار الاسلام وسكينته وتخشعه وورع عن محارم الله واجتنب مساخطه ورزقه الله مودة الناس ومجاملتهم وترك مقاطعة الناس والخصومات ولم يكن منها ولا من أهلها في شيء، وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل - أصل الخلق - كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقر به منه فإذا حبب إليه الشر وقربه منه ابتلي بالكبر والجبرية فقسا قلبه وساء خلقه وغلظ وجهه وظهر فحشه وقل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها وركب معاصي الله وأبغض طاعته وأهلها فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر سلوا الله العافية واطلبوها إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، صبروا النفس على البلاء في الدنيا فان تتابع البلاء فيها والشدة في طاعة الله وولايته وولاية من أمر بولايته خير عاقبة عند الله في الآخرة من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من نهى الله عن ولايته وطاعته فان الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم الله في كتابه في قوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) وهم الذين أمر الله بولايتهم وطاعتهم والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم وهم أئمة الضلالة الذين قضى الله أن يكون لهم دول في الدنيا على أولياء الله الأئمة من آل محمد يعملون

ص:174

في دولتهم بمعصية الله ومعصية رسوله (صلى الله عليه وآله) ليحق عليهم كلمة العذاب وليتم أن تكونوا مع نبي الله (صلى الله عليه وآله) والرسل من قبله فتدبروا واما قص الله عليكم في كتابه مما ابتلى به أنبياءه وأتباعهم المؤمنين، ثم سلوا الله أن يعطيكم الصبر على البلاء في السراء والضراء والشدة والرخاء مثل الذي أعطاهم، وإياكم ومماظة أهل الباطل وعليكم بهدي الصالحين ووقارهم وسكينتهم وحلمهم وتخشعهم وورعهم عن محارم الله وصدقهم ووفائهم واجتهادهم لله في العمل بطاعته فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم تنزلوا عند ربكم منزلة الصالحين قبلكم.

واعلموا أن الله إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحق وعقد قلبه عليه فعمل به فإذا جمع الله له ذلك تم له إسلامه وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا وكله إلى نفسه وكان صدره ضيقا حرجا، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت وهو على تلك الحال كان عند الله من المنافقين وصار ما جرى على لسانه من الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه ولم يعطه العمل به حجة عليه يوم القيامة، فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للاسلام وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحق حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم ولا قوة إلا بالله والحمد لله رب العالمين.

ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا، ألم يسمع قول الله عزوجل لنبيه (صلى الله عليه وآله):

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)؟ والله لا يطيع الله عبد أبدا إلا أدخل الله عليه في طاعته اتباعنا ولا والله لا يتبعنا عبد أبدا إلا أحبه الله ولا والله لا يدع أحد اتباعنا أبدا إلا أبغضنا ولا والله لا يغضنا أحد أبدا إلا عصى الله ومن مات عاصيا لله أخزاه الله وأكبه على وجهه في النار والحمد لله رب العالمين.

* الشرح:

(محمد بن يعقوب الكليني) هذا كلام الرواة عنه أو كلامه بلسانهم أو أخبار عنه بطريق الغيبة «عن محمد بن إسماعيل» عطف على قوله «عن ابن فضال» لأن في مرتبته ولرواية إبراهيم بن هاشم عنه وعطفه على «علي» بعيد جدا كما لا يخفى (كتب بهذه الرسالة) هي بالفتح والكسر الكتاب والمكتوب الذي يرسل إلى الغير.

(وأمرهم بمدارستها) أي بقراءتها وتعليمها وتعلمها (والنظر فيها) بالتفكر والتدبر أو بالبصر أو بهما (وتعاهدها) أي اتيانها مرة بعد أخرى وتجديد العهد بها (والعمل بها) فيما يتعلق بالعمل أو

ص:175

أريد به ما يشمل الإعتقاد بحقيتها أيضا.

(قال: وحدثني الحسن بن محمد) الواو للعطف على «حدثني» وكانت في المنقول لا في كلام الناقل وإلا لدخلت على قال.

واعلم أن الحديث وإن كان ضعيفا بأسانيده الثلاثة عند المتأخرين لكنه غير مضر لأن أثر الصحة في مضمونه لايح مع تأيده بالعقل والنقل.

(بسم الله الرحمن الرحيم) دل على رجحان التسمية في صدر المكاتيب والرقاع تيمنا وتشرفا وتعظيما لمضمونها (أما بعد) التسمية الاستعانة بالله تعالى في جميع الأمور (فاسئلوا ربكم العافية) من الأسقام والبلايا أو من الذنوب أو من أذى الناس قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «فنسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة الأبدان».

(وعليكم بالدعة والوقار والسكينة) الدعة الراحة والرفاهية في العيش أمر بالتزامها لا باعتبار أكثار المال بل لإصلاح الحال فإن من أصلح بينه وبين الخلق صديقا كان أو عدوا طاب عيشه وترفه حاله واستقر باله، والوقار بالفتح: رزانة النفس بالله وسكونها إليه وفراغها عن غيره قال الله تعالى:

(ما لكم لا ترجون لله وقارا) والسكينة سكون الجوارح وهي تابعة للوقار لأن من شغل قلبه بالله اشتغلت جوارحه بما طلب منها وفرغ عن كل ما يليق بها وهذا أحسن من القول بترادفها.

(وعليكم بالحياء والتنزه عما تنزع عنه الصالحون قبلكم) الحياء: كيفية نفسانية مانعة من القبيح والتقصير في الحقوق خوفا من اللوم وقد يتخلق به من لم يجبل عليه وهو الحياء المكتسب وإطلاقه على ما هو مبدأ الانفعال من الإتيان بالحقوق على سبيل المجاز كما ذكرناه في شرح أحاديث العقل، والمراد بالصالحين من الأنبياء والأوصياء أو الأعم منهم وبما تنزه المنهيات وترك المأمورات والأخلاق الردية والآداب الذميمة وارتكاب أمور الدنيا التي لا حاجة إليها وبالجملة كل ما يصد عن السير إلى الله تعالى.

(وعليكم بمجاملة أهل الباطل) المجاملة بالجيم: المعاملة بالجميل ولما كان هنا مظنة أن يقولوا: كيف نجاملهم؟ أجاب على سبيل الإستيناف بقوله:

(تحملوا الضيم) أي الظلم (منهم) ولا تقابلوهم بالانتقام فإن الانتقام منهم في دولتهم لقلة ناصركم يوجب زيادة الظلم عليكم، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: الظاهر قراءتها بالحاء المهملة فإن الظاهر قوله: «تحملوا الضيم» بيان لها وكذا قوله فيما يأتي: «وتصبرون عليهم» بيان لقوله: «فتحاملونهم» ويمكن قراءتها بالجيم كما في بعض النسخ وعليه فقس.

(وإياكم ومماظتهم) حذر عن منازعتهم ومناقشتهم في أمور الدين والدنيا لأنها تميت القلب

ص:176

وتثير العداوة واضطراب القلب بإستماع الشبهات وهي مذمومة مع أهل الحق فكيف مع أهل الباطل ولذلك قال سبحانه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) إما نصحية من استعد منهم لقبولها فيكفيه أدنى الإشارة وأقل البيان ومن لم يستعد له لم ينفعه السيف والسنان كما ورد في بعض الروايات.

(دينوا فيما بينكم وبينهم) في الأمور المختلفة لأنها محل التقية، والدين بالكسر العادة والعبادة والمواظبة أي عودوا أنفسكم بالتقية أو اعبدوا الله أو أطيعوه بها أو واظبوا عليها فقوله فيما بعد:

(بالتقية) متعلق بدينوا ثم أشار إلى زمان الحاجة إليها بقوله:

(إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام) أي خاصمتموهم في الكلام المتعلق بأصول الدين وفروعه أو الأعم منه ومن المحاورات وأصل المنازعة الجذب والقلع كان أحد المتخاصمين يجذب الآخر ويقلعه ثم أشار إلى جواز المجالسة وما بعدها بل على رجحانها بقوله (فإنه لابد لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم) لأجل التقية أو لأن الإنسان مدني بالطبع يحتاج في تحصيل مطالبته وتكميل مآربه إلى بني نوعه ولا يتم ذلك إلا بالمجالسة وإذا تحققت تحققت المنازعة والمخاصمة في (الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها) في قوله عز وجل: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) قال الصادق (عليه السلام) «بما صبروا على التقية». وفي قوله: (يدرؤن بالحسنة السيئة). وفي قوله: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال (عليه السلام): «الحسنة التقية والسيئة الإذاعة» وفي قوله: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) قال (عليه السلام): «التي هي أحسن التقية» وفي قوله: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) والظاهر أنه لا خلاف في وجوب التقية عند الحاجة إليها وأن تاركها آثم ولكن أثمه لا يوجب دخول النار لما روي عن أبي جعفر (عليه السلام): «في رجلين من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما: ابرئا من أمير المؤمنين (عليه السلام) فبرئ واحد منهما وأبى الآخر فخلى سبيل الذي برئ وقتل الآخر فقال (عليه السلام): أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة» وقد أوضحنا ذلك في محله.

(فإذا ابتليتم بذلك منهم) الظاهر أن جزاء الشرط محذوف أي فاعملوا بالتقية ولا تتركوها بدليل ما قبله وما بعده وأن قوله:

(فإنم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر) من القول والشتم والغلظة ونحوها دليل على الجزاء المذكور وقائم مقامه وأمثال ذلك كثيرة في كلام الفصحاء والبلغاء، ويحتمل أيضا أن يكون

ص:177

جزاء الشرط (ولولا أن الله تعالى يدفعهم عنكم) بتقرير التقية أو يصرف قلوبهم (لسطوا بكم) السطو: القهر والبطش. يقال: سطا عليه وبه وفي كنز اللغة «السطو بعنف گرفتن وشكستن» (وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم) لأن ما يبدون من بحر عداوتهم يلقيه بالتموج وبعبارة أظهر قصدهم إيصال كل فرد من أفراد الإيذاء وافراد الايذاء غير محصورة قطعا وما يبدونه قليل، والبغض ضد الحب كالعداوة والبغضة والبغضاء شدته ثم استأنف كلاما من باب التأكيد مشتملا على سبب المفارقة الروحانية والمصابرة على فعالهم فقال:

(مجالسكم ومجالسهم واحدة) لتحقق الدواعي وهي جلب النفع ودفع الضرر والتشارك في الجسمية والاحتياج في الوجود والبقاء إلى التعاون في أمور الدنيا فلذلك كانت مجالستهم مطلوبة بشروطها وهي الملاينة والمداراة والتقية لئلا يقع ضد ما هو المطلوب منها.

(وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف) لأن ذوات أرواحكم وصفاتها نورانية ومن عليين وذوات أرواحهم وصفاتها ظلمانية ومن سجين ولا يقع الايتلاف بين النور والظلمة ولذلك قال خليل الرحمن: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) ويحتمل أن يراد بالاختلاف الاختلاف الواقع في عالم الأرواح لأن أرواح المؤمنين كانت مايلة إلى الحق والطاعة وأرواح الكفار كانت مايلة إلى الباطل والمعصية فمن ثم وقع الاختلاف والتعارف بينهما ولا يقع الايتلاف أبدا كما روي: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وفيه تنبيه على أن اتحاد المنازل في العالم الجسماني لا يستلزم اتحادها في العالم الروحاني ولا بالعكس (لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم) لأن الشيء لا يحب ضده ولا يميل إليه ولذلك ترى كلا من صاحب الخير والشر يميل إلى الجنة مثله ويحبه.

(غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله) المراد بالحق جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله وأمره بتبليغه وأعظمه الولاية وقد أكرمكم بجميع ذلك جعلكم على بصيرة منه ولم يجعلهم من أهله لسلب التوفيق عنهم لإبطالهم الفطرة الأصلية الداعية إلى الخير (فتجاملونهم وتصبرون عليهم) لأنكم على خصال شريفة منها المجاملة والمصابرة (وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء) لفقدهم جل الفضائل بل كلها إلا ما شذ ومن المعلوم أن بقاء المخالطة متوقف على الصبر والمجاملة بين الطرفين أو بتحققهما من أحدهما ولا يتصوران فيهم لما ذكر فوجبا عليكم لأنهما مطلوبان منكم ولعلمكم بأن فيهما فوائد كثيرة كنجدة النفس وإبقاء النظام وحوالة الانتقام إلى الله وترقب أجر الصابرين وتوقع الأمن من القتل والأسر والبهت سيما إذا كان الظالم قويا وتوقع صداقته وترحمه بمشاهدة العجز والانكسار وفي ضدهما مفاسد كثيرة

ص:178

ولذلك صبر جميع الأنبياء والأوصياء على ما وصل إليهم من جهلاء الأمة ثم أشار إلى أن كل واحد منهم لا يكتفي بما عنده من قصد الإيذاء والصد عن الحق بل هم يتعاونون فيه لشدة الاهتمام به بقوله:

(وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض) الحيلة المكر والروية في الأمور والتصرف فيها للتوصل بها إلى المقصود والوسواس بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، والوسوسة الصوت الخفي يقال وسوس الرجل بلفظ ما سمى فاعله إذا تكلم بكلام خفي يكدره وهو فعل لازم ورجل موسوس بالكسر ولا يقال بالفتح ولكن وسوس له أو إليه أي يلقى إليه الوسوسة ثم علل ذلك بقوله:

(فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق) إذ اهتمامهم بالصد المتوقف على الاستطاعة يقتضي الإجتهاد في تحصيلها من كل وجه ومن التعاون ثم أشار إلى أن تلك الحيل لا تنفعهم ولا تضركم بقوله (يعصمكم الله من ذلك) لأنه إما خير أو دعاء وعلى التقديرين لا يضر كيدهم مع عصمة الله تعالى (فاتقوا الله) لأنها حرز من المكاره الدنيوية ومن يتق الله يجعل له مخرجا وطريقا إلى المثوبات الأخروية إن الله يحب المتقين.

(وكفوا ألسنتكم إلا من خير) وهو ما ينفع في الآخرة وفي الدنيا أيضا بشرط أن لا بكون مخالفا للعقل والنقل وبه يخرج غير النافع ان كان مباحا.

(وإياكم أن تذلقوا ألسنتكم) أي تحدوها يقال: ذلق السكين بالذال المعجمة كنصر وفرح وذلقه واذلقه) إذا حده.

(بقول الزور والبهتان والإثم والعدوان) المراد بالزور الكذب والباطل والتهمة وتدخل شهادة الزور قال الله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) والبهتان والبهت الكذب في حق أحد والافتراء عليه وكل ما قلت مما لم يكن فيه فهو من قول الزور والكذب المطلق والإثم أريد به القول المقتضي له كالغيبة والأقوال الفاحشة ونقلها ونقل الأقوال الكاذبة والعدوان الظلم ولعل المراد به الأمر بالظلم كالقتل والضرب والحبس ونحوها، وبالجملة حذر عن مقابح اللسان وأصولها الأربعة المذكورة وكل ما سواها مندرح تحت واحد منها ثم علل التحذير المذكور وحفظ اللسان بذكر مفاسده ومنافعه بقوله:

(فإنكم إن كففتم ألسنتكم عما يكرهه الله مما نهاكم عنه) تنزيها وتحريما كان خيرا لكم عند ربكم في الدنيا والآخرة والتفضيل باعتبار فرض الخير وتقديره في المفضل عليه وذلك شايع والمراد به أصل الفعل.

(من أن تذلقوا ألسنتكم فإن ذلق اللسان) أي حديد اللسان أو حدته والأخير أنسب بالأخبار المذكورة (فيما يكره الله) وهو اللغو من الكلام ومنه إكثار المباح (وفيما ينهى عنه) وهو المحرم

ص:179

منه كالشتم والقذف ونحوهما (مرداة للعبد عند الله) بالكسر أو الفتح اسم آلة أو مكان من ردى كرضي إذا هلك وأصله مردية كمفعلة قلبت الياء الفاء.

(ومقت من الله) مقته تعالى للعبد عبارة عن سلب الإحسان والإفضال والتوفيق إلى الخيرات ووكوله على نفسه المشتاقة إلى الطغيان والعصيان وترك القربات حتى تؤديه إلى الجهالة والبطالة والخسارة والعقوبات.

(وصم وعمي وبكم) الصم بالفتح والصم محركة انسداد الأذن وثقل السمع، والعمى ذهاب البصر كله، والبكم محركة الخرس أو مع عي وبله، أو أن يولد لا ينطق وإنما حملناها على المصدر دون الجمع كما في الآتي ليصح حملها على اسم إن ولا يصح في الجمع إلا بتكلف بعيد وحمل هذه الأخبار على اسم إن من باب حمل المسبب على السبب للمبالغة (يورثه الله إياه يوم القيامة) الضمير الأول راجع إلى ذلق اللسان والثاني إلى كل واحد من الأمور الثلاثة وإنما سماها ميراثا لأنها ثمرة ذلاقة لسانه تصل إليه بعد فنائها (فتصيروا) بهذه الخصال المذمومة (كما قال الله: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)) الصم جمع الأصم والبكم جمع الأبكم، والعمى جمع الأعمى والمراد بهم في الدنيا من لا يسمع نداء الحق فكأنه لا سمع ولا يتكلم به فكأنه لا نطق له ولا يبصر طريقه فكأنه لا بصر له وفي الآخرة من لا يسمع نداء الرحمة ولا يقدر على التكلم بالمعذرة ولا يبصر وجه الجنة فلذلك قال: (يعني لا ينطقون) في الآخرة بالمعذرة لانتفائها فلذلك قال: (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) لاستحالة أن يكون لهم معذرة لا يؤذن لهم التكلم بها وقال بعض المفسرين: معناه لا يرجعون من الضلالة إلى الهدى وتفسيره (عليه السلام) أحسن منه بدليل ما بعده، وإنما خص التفريع بالبكم لأنه يعلم منه حال جاريه بالمقايسة أو أريد بهما الحقيقة (وإياكم وما نهيكم عنه أن تركبوه) أي تقترفوه من ركبت الذنب اقترفته أو تتبعوه من ركبت الأثر تبعته أو تعلوه من ركبت الفرس علوته وقد شبه المنهي عنه بالمركوب في أنه يصل صاحبه إلى مقام البعد من الحق كما يشبه الطاعة به في الإيصال إلى مقام القرب ولما كانت عرصة اللسان وسبعة وهو يحكي عن أحوال المبدء والمعاد والشرايع والأشياء الموجودة والموهومة وعقائد القلوب وأفعال الجوارح كانت خطيئاته غير محصورة وزلاته غير معدودة فلذلك بالغ حفظه مكررا وقال:

(وعليكم بالصمت في كل شيء إلا فيما ينفعكم الله به في أمر آخرتكم) وفي بعض النسخ «من» بدل «في» (ويأجركم عليه) مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والنصيحة وإرشاد الخلق وغير ذلك فإنه راجح بل قد يكون واجبا، ولما أمر بالتكلم بالنافع إجمالا أشار إلى بعضه تفصيلا بقوله:

ص:180

(وأكثروا من التهليل) وهو قول: لا إله إلا الله (والتقديس والتسبيح) وهما التطهير والتنزيه عن العيوب والنقائص والثاني تأكيد ويمكن أن يراد بأحدهما إذ اجتمعا تنزيه الصفات وبالاخر تنزيه الذات عن الشريك والتركيب.

(والثناء على الله) قيل: المفهوم من الصحاح والكشاف وغيرهما من الكتب أن الثناء هو الإتيان بما يدل على التعظيم والتمجيد كلاما كان أو غيره إلا أن في المجمل خصه بالكلام الجميل وهو أنسب بهذا المقام.

(والتضرع إليه) في طلب الحاجات والتوفيق للطاعات والقبول لها وحفظ النفس عن المنهيات وعدم الركون إليها وطلب العافية وخير الخاتمة.

(والرغبة فيما عنده) مع الإتيان بما يوجب الوصول إليه لأن الرغبة في الشيء من غير تمسك بأسبابه حماقة كما دل عليه بعض الأخبار.

(من الخير الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد) أحد فاعل الفعلين على سبيل التنازع والقدر والتقدير بيان قدر الشيء وكميته وكيفيته، يقال: قدرت الشيء قدرا من باب ضرب وقتل وقدرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين والمراد بالخير نعيم الجنان وما فوقها وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإذا كان كذلك فكيف يقدر أحد يقدر قدره ويبين مقداره ويبلغ كنهه؟! (فاشغلوا ألسنتكم بذلك.. إلى آخره) الشغل بالضم وضمتين ضد الفراغ. شغله كمنعه وأشغله لغة، و «ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الكلام النافع وإكثار التهليل وما بعده، وفيه إشارة إلى وجه الفرار من الكلام الباطل بجعل اللسان مشغولا بما ذكر دائما أو في أكثر الأوقات فإن شغله بذلك مانع من صدور ضده ضرورة لأن ما ذكر حينئذ يصير عادة وهي أيضا مانعة منه، ثم أن أريد بأقاويل الباطل ما يوجب الخروج من الإيمان فالخلود ظاهر، وإن أريد بها ما لا يوجبه فالمراد بالخلود طول الزمان واستعماله فيه شايع.

(من مات عليها ولم يتب إلى الله) توبة خالصة يوجب الخروج تبعتها وعدم الرجوع إليها كما أشار إليه بقوله:

(ولم ينزع عنها) فإن التوبة بدون ذلك غير نافعة بل هي استهزاء، وينبغي لمن ابتلي بالمعصية أن يذكر الله تعالى ويتداركها بالتوبة ولا يؤخرها فإن تأخيرها معصية أخرى وأحسن التوبة توبة الشبان وهي تورث محبة الله تعالى وأما توبة الشيوخ وهي وإن كانت مقبولة أيضا لكنه بعد في مقام التقصير، وقد قيل: إن الشيخ الهرم إذا تاب قالت له الملائكة الآن وقد خمدت حواسك وبردت

ص:181

أنفاسك.

(وعليكم بالدعاء) لأنفسكم ولأخوانكم بظهر الغيب فإن الدعاء لهم في نجاح حوائجهم كما دلت عليه الروايات ففي بعضها «لكم مثلا ما دعوتم لهم» وفي بعضها «مائة ألف ضعف».

(فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج) الدنيوية والأخروية، النجاح بالفتح الظفر بالمطلوب واصابته والحوايج جمع الحاجة على غير قياس أو مولدة.

(عند ربهم بأفضل من الدعاء) المقصود أن الدعاء أفضل من غيره في إصابة الحوايج وذلك ظاهر لأنه من عرف أنه تعالى كريم رحيم قادر بمصالح العباد وغيرها وأنه لا ينفعه المنع ولا يضره الإعطاء ورجع إلى العقل والنقل والتجربة والوعد علم أنه إذا رفع حاجته المشروعة إليه تعالى بقلب تقي نقي ونية خالصة كانت مقرونة بالإجابة وأما غيره من الوسائل مثل الاعتماد بالكسب والرجوع إلى الخلق فلا علم له بترتب الحاجة عليه وعلى تقدير ترتبها فهو وسيلة أيضا بأذن الله تعالى فالدعاء أفضل منه وأصل لجميع الحاجات.

(والرغبة إليه) في الخيرات كلها (والتضرع) إليه في تحصيلها (والمسئلة له) هي والسؤال واحد (فارغبوا فيما رغبكم الله فيه) من الأمور النافعة لكم.

(وأجيبوا الله إلى ما دعاكم إليه) من الدعاء بقوله (ادعوني استجب لكم) وغيره، أو الأعم منه ومن غيره والأول أنسب بالمقام والثاني أنسب بقوله:

(لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله) فإن الفلاح والنجاة منه متوقف على إجابته في جميع ما دعاه إليه ولما نهى عن مناهي اللسان نهى عن المناهي مطلقا واكثارها بقوله:

(وإياكم وإن تشره أنفسكم إلى شيء مما حرم الله عليكم) صغيرا كان أو كبيرا ظاهرا كان أو باطنا. والشره غلبة الحرص وفعله من باب فرح.

(فإنه من انتهك.. اه) الإنتهاك التناول على وجه المبالغة من النهك وهو مبالغة في كل شيء (وهاهنا) ظرف للإنتهاك وفيها [في الدنيا] بدل منه وكرامتها كزيارة الملائكة والفيوضات الإلهية كما قال (ولدينا مزيد) أو الأعم مما ذكر.

(القائمة الدائمة لأهل الجنة) لعل المراد بقيامها ثباتها وعدم زوالها وبدوامها استمرارها بلا تخلل انقطاع أو العطف للتفسير.

(أبد الآبدين) كأرضين والجمع باعتبار القطاعات ولو كانت موهومة والأبد الزمان الذي لا نهاية له والإضافة للمبالغة وفي دوامها.

(واعلموا أنه بئس الخطر لمن خاطر الله بترك طاعة الله وركوب معصيته) الخطر الحظ

ص:182

والنصيب وما يتراهن عليه المتراهنان والمخاطرة المراهنة، ولعل المراد أن من خاطر الله واستبق إلى الخطر الذي أخرجته النفس الأمارة وهو ترك الطاعة وفعل المعصية وانتهى إليه ولا محالة كان معه علمه تعالى حتى انطبق على المعلوم فهو ذو حظ قبيح في الدنيا والآخرة وأما من خاطره واستبق إلى ما جعله تعالى خطرا للعباد وهو فعل الطاعة وترك المعصية وانطبق علمه تعالى بذلك على المعلوم فهو ذو حظ جميل وثواب جزيل ومن الطاعة والمعصية بل أصلهما الإقرار بولاية علي (عليه السلام) وإنكارها ويحتمل أن يراد بالمخاطرة لازمها وهو المبارزة.

وأما حملها على المخاطرة من الخطور والمذاكرة أي من ذكر الله تعالى وذكره سبحانه بهذه الخصلة الذميمة فهو بعيد (فاختار أن ينتهك محارم الله في لذات دنيا منقطعة زايلة عن أهلها على خلود نعيم في الجنة ولذاتها وكرامة أهلها) «في» متعلق بينتهك أو بالمحارم و «منقطعة» صفة للدنيا ولذاتها. «على» متعلق باختار أي اختار هذا الرجل لفقد بصيرته وغلبة شهوته وتوهمه أن الحاضر الفاني خير من الغائب الباقي أن يتناول ما حرمه الله تعالى لذات الدنيا المنقطعة الزايلة بزوال الدنيا أو بالموت أو قبله في حال الحياة أيضا ويؤثره على نعيم الجنة وما يوجب الوصول إليها مع أن تلك اللذات وإن كانت حلالا ينبغي تركها فكيف إذا كانت حراما لبقاء خسارتها بعد زوالها كما أشار إليه بقوله:

(ويل لأولئك) الويل حلول الشر والفضيحة وكلمة العذاب أو واد في جهنم أو بئر فيها أو باب لها، ولاحظ في الموصول الأفراد سابقا والجمع هنا نظرا إلى اللفظ والمعنى.

(ما أخيب حظهم) الخيبة الحرمان و «ما» للتعجب أي أي شيء عظيم قبيح لا يدرك حقيقة قبحه عقول العقلاء يجعل حظهم خائبا من الوصل إليهم أن أريد به الحظ المقدر لهم في الجنة بشرط الطاعة أو من رحمة الله أن أريد به الحظ الواصل إليهم بالمعصية ويستلزم ذلك خيبتهم منها أيضا وقس عليه قوله: (أخسر كرتهم) أي رجوعهم إلى الله تعالى فإن خسران الكرة مستلزم لخسرانهم أيضا وإسناد الخيبة إلى الحظ والخسران إلى الكرة اسناد مجازي.

(وأسوء حالهم عند ربهم يوم القيامة) حين شاهدوا ما أعد لهم من العقوبة والخذلان ورأوا ما وصل إلى الصالحين من الكرامة والإحسان.

استجيروا الله أن يخزيكم في مثالهم أبدا) أي اطلبوا من الله أن يجيركم ويعيذكم من أن يخزيكم في صفاتهم مثل ترك الولاية ورفض الهداة والعقايد الداثرة والأعمال الخاسرة والظاهر أن يخزيكم من الخزي، يجزيكم من الجزاء تصحيف.

(وأن يبتليكم بما ابتلاهم به) من الميل إلى الباطل وحب أهله والفرار من الحق وبغض أهله

ص:183

فأبطلوا بذلك فطرتهم الأصلية وقوتهم الفطرية واستحقوا الخذلان وسلب التوفيق وهو معنى البتلاء فيهم وفيه تنبيه على أنه ينبغي لطالب الحق أن لا يثق بنفسه ولا بعمله لأن النفس أمارة بالسوء والعمل لا يخلو من التقصير فيه بل يرجع إلى ربه ويلوذ به ويطلب منه أن يجيره من صفة أهل الباطل باللطف والتوفيق والامداد وصرف همته عنها.

(ولا قوة لنا ولكم إلا به) أي لا قوة لنا على طاعة الله والفرار من معصيته والنجاة من صفة أعدائه وما ابتلاهم به إلا بمعونته وتوفيقه وهذه أعظم كلمة يقولها العبد لإظهار الفقر إليه وطلب المعونة منه على ما يحاول من الأمور وهو حقيقة العبودية.

ثم أشار إلى أنه وإن انتفى عنكم ابتلاء الفاسقين لكن ثبت فيكم ابتلاء الصالحين والفرق بينهما ظاهر لأن الأول يوجب زيادة الكفر والخذلان والثاني يوجب كمال القرب والإيمان فقال (فاتقوا الله) من العقوبة والمخالفة بالصبر على الطاعة والبلية الواردة عليكم لرفع درجتكم واعلاء منزلتكم (أيتها العصابة الناجية) من العقوبة الأبدية بولاية علي أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (عليهم السلام)، والعصب محركة خيار القوم وقوم الرجل الذي يتعصبون له والعصابة بالكسر ما بين العشرة إلى الأربعين وإنما سماهم بها لشرافتهم وتعصبهم في الدين مع قلتهم (إن أتم الله لكم ما أعطاكم به) من الإيمان به وبرسوله وبأئمة الهدى (فإنه لا يتم الأمر) أي أمر الدين والثبات عليه والثواب والجزاء الأوفى:

(حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم) من الابتلاء والامتحان والشدايد كما قال عز وجل (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب) (حتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم) بالمصائب والمحن والنوائب والفتن والأمراض والأسقام والبلايا والآلام والجهاد مع الكفار وتلف الأموال والنقص والنهب والغصب وأداء الحقوق الواجبة والمندوبة والإنفاق في وجوه البر كما قال عز شأنه: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين).

(وحتى تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا) أي كلاما كثيرا يؤذيكم بالسب والشتم واللعن والقذف والتحريش والغيبة والبهتان ونحوها.

(فتصبروا) على ذلك كما صبر الصالحون قبلكم (وتعركوا بجنوبكم) أي تحملوا الأذى منهم بجنوبكم كما يحمل البعير حمله يقال هو يعرك الأذى بجنبه أي يتحمله وفيه إشارة إلى قوله تعالى:

(لنبلونكم في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا

ص:184

أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور).

(وحتى يستذلوكم) بكل وجه يمكن أو المراد يروكم أذلاء يقال استذله أي رآه ذليلا (ويبغضوكم) البغض ضد الحب وأشد العداوة وفعله من باب كرم ونصر وفرح.

(وحتى يحملوا عليكم الضيم) من كل جهة توجبه (فتحملوا منهم) من التحمل بحذف احدى التائين يقال حملة الأمر تحميلا فتحمله تحملا.

(تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة) الجملة في محصل النصب على الحال من فاعل تحملوه والإلتماس الطلب وذلك إشارة إلى الصبر على ما ذكر وتحمل الضيم والوجه الذات والجانب والثواب، والدار الآخرة الجنة ومنازلها الرفيعة التي أعدت للصابرين.

(وحتى تكظموا الغيظ في الأذى في الله) أي في سبيل الله، وكظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه وحبس النفس فيه مهما أمكن ولفظ «في» الثاني متعلق بالأذى و «في» الأول متعلق بتكظموا أو بالغيظ وهي للظرفية مجازا أو بمعنى الباء في الأخير.

(تجترمونه إليكم) حال من فاعل تكظموا والإجترام بالجيم الكسب وفي القاموس اجترم لأهله كسب وإلى بمعنى اللام أو بمعناها مع تضمين معنى الضيم ونحوه والضمير راجع إلى الكظم وفيه تنبيه على أنه من جملة الأعمال الصالحة وقيل الإجترام وفي الجناية القاموس: اجترم عليهم وإليهم جريمة جنى جناية مصداق وذلك كله في كتاب الله أشار بذلك إلى ما دخل على الصالحين من الابتلاء والافتتان والأذى والاستدلال وتكذيب الحق مع صبرهم وكظم غيظهم.

(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) المقصود منه هو الترغيب في الصبر الكامل باعتبار أنه من خصايل أولي العزم دون إلحاق الناقص بالكامل (ولا تستعجل لهم) بالانتقام منهم والدعاء عليهم والإعراض عنهم.

(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا) الجزاء محذوف وما بعد الفاء قائم مقامه ودال عليه وفيه تسكين لقلبه المقدس على أذى قومه وإن كان ساكنا كما يفعل ذلك المحب بحبيبه (فقد كذب نبي الله) فعليكم الأسوة به.

(فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل أصل الخلق من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل) الأمر واحد الأمور وهو الفعل والموصول صفة له (الخلق) أما بمعنى الإيجاد والتقدير واللام في له للعاقبة كما قيل في قوله (عليه السلام) «لدوا للموت وابنوا للخراب» أو للغاية المجازية وإلا فالغاية الحقيقية هي العبادة كما قال عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا

ص:185

ليعبدون) والمراد بأصل الخلق الوجود الظلي وهو عالم الأرواح أو الأعم منه والوجود العيني «من الكفر» بيان للموصول وهو شامل لكفر الجحود والمخالفة وتكذيب أهل الحق وإيذائهم ومعاداتهم وبغضهم وجميع قبايحهم المذكورة وغيرها وفي قوله: «الذي سبق في علم الله» إيماء إلى أن علمه تعالى بصدور الكفر منهم اختيارا سبب لخلقهم له لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم.

(ومن الذين سماهم الله في كتابه) في قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يدعون إلى النار) الظاهر أنه عطف على فيهم وفي لفظة من إشعار بأن أمر الله نشأ من سوء أعمالهم وقبح أفعالهم ولعل المراد بذلك الأمر شدة العقوبة أو سوء الخاتمة أو ختم القلوب أو جعلهم أئمة ضلال باعتبار حبهم للرئاسة وصرف همتهم وتحصيلها وتخليته تعالى بينه وبين ما أرادوا وعدم جبرهم على تركها فكأنه جعلهم أئمة، والفرق بين المعطوف عليه والمعطوف أن الأول أعم من الثاني لصدقه على التابع والمتبوع بخلاف الثاني فإنه صادق على المتبوع فقط (فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه) جزاء لقوله: «فإن سركم أمر الله» والضمائر للأمر وقد عرفت شموله لجميع صفاتهم القبيحة، ودبر كل شيء عقبه يقال تدبر الأمر تدبر أو دبره تدبيرا إذا نظر في عاقبته ورأى فيها ما لم يره في صدره وإنما أمر بتدبر وعقله أي إدراكه ونهى عن الجهل به ابتداء ونسيانه بعد معرفته مبالغة في الإحاطة به والعلم بحقيقته وغايته كما هي، ووجه السرور بما ذكر أنهم أعداء ونكال العدو وخذلانه موجب للسرور، ووجه ترتب الجزاء عليه أن السرور بنكال العدو يقتضي التدبر في سببه ليمكن التخلص منه والفرار عنه، ثم علل الأمر بالتدبر فيه وفي غيره مما يجب العلم به بذكر ما يتعلق على ضده من المفاسد فقال: (فإنه من يجهل هذا وأشباهه) فيه وفي غيره مما يجب العلم به بذكر ما يتعلق على ضده من المفاسد فقال (فإنه من يجهل هذا وأشباهه) في وجوب معرفته كما دل عليه قوله:

(مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه) لأن جاهل هذا كثيرا ما يدخل فيه ويترك دين الله وجاهل أشباهه يترك الامتثال بالأوامر والنواهي فاستوجب سخط الله (وأكبه الله على وجهه في النار) استيجاب الأول أبدى دون الثاني وفي الإكباب مبالغة في التعذيب والإذلال، يقال: كبه وأكبه إذا ألقاه على وجهه فأكب هو فكب متعد وأكب متعد ولازم على خلاف المعهود، وفيه تنبيه على أنه ينبغي لأهل الحق أن يعلموا ما يخرجهم عن دينه وما يكمل به دينهم.

(إن الله أتم لكم ما أتاكم من الخير) هو دين الإسلام وإتمامه وإكماله بولاية علي (عليه السلام) وهو إشارة

ص:186

إلى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) يعني بولاية علي (عليه السلام) أو هو ذكر كل ما يحتاج إليه العباد فيه وهذا تمهيد لما يجيء من أنه لا يجوز فيه القول بالهوى والرأي والقياس بل يجب الرجوع إلى العالم (عليه السلام) (واعملوا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس) أي ليس الأخذ بما ذكر من علم الله المنزل إلى رسوله (صلى الله عليه وآله) أوليس من علمه بأنه حق في دينه ومما أمر به أحدا. وإذا كان كذلك فهو باطل اخترعه أهله لزعمه أن دين الله ناقص لم ينزل فيه جميع ما يحتاج إليه الأمة وفوض تكميلة إليهم ولئلا ينسب الجهل اليه بالسكوت عما لا يعلم ثم أشار إلى أن جميع ما يحتاجون اليه قد أنزله الله تعالى في القرآن بقوله:

(قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء) حال عن الله أو استيناف لبيان أنهم لا يحتاجون إلى الأخذ بما ذكر لأن القرآن تبيان كل شيء يحتاجون إليه أولا، ثم العلم كله وإن كان في القرآن لكن لا يعلمه كل أحد بالتجربة والاتفاق بل إنما يعلمه جماعة مخصوصون كما أشار إليه بقوله:

(وجعل للقرآن ولعلم القرآن أهلا) يعلمه ويدفع من لفظه ومعناه تحريف المبطلين مع احتمال أن يكون العطف للتفسير. ثم أشار إلى أنه لا يجوز لأهل علم القرآن الأخذ بما ذكر فقال (لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه كله) كما آتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس) فإذا لم يجز ذلك لهم مع كمال نفوسهم وقوة عقولهم وشمول علمهم الأحكام وعللها كيف يجوز ذلك لغيرهم، ثم أشار بعد التصريح بعدم جواز أخذهم بما ذكر إلى عدم احتياجهم إلى الأخذ به أيضا بقوله:

(أغناهم الله تعالى عن ذلك بما آتاهم الله من علمه) دل على أن هذا العلم موهبي والضمير للقرآن أو لله تعالى.

(وخصهم به ووضعه عندهم) فلا يشاركهم غيرهم وهم يحفظونه ولا ينسونه أبدا (كرامة من الله أكرمهم بها) مفعول له لآتاهم أو ما عطف عليه والإستيناف محتمل.

(وهم أهل الذكر) الذكر القرآن أو محمد (صلى الله عليه وآله) (الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم) في قوله:

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ثم رغب في الرجوع إليهم بقوله:

(وهم الذين من سألهم، وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم، أرشدوه) إلى مسؤله، الواو للحال دون الاعتراض لأن هذه الجملة لها محل من الإعراب (وأعطوه من علم القرآن) لا من الهوى والرأي والقياس.

(ما يهتدي به إلى الله باذنه) أي بتوفيقه أو بعلمه أنه يقبل الهداية وفيه حينئذ كما في الجملة

ص:187

الحالية إشارة إلى أن إرشادهم للسائل واهتدائه لا يكونان إلا مقرونا بعلمه تعالى في الأزل بتصديقه واستعداده بقبول الهداية، ثم أشار بقوله:

(وإلى جميع سبل الحق) إلى أنهم كما يرشدون السائل إلى ما سأله كذلك يرشدونه إلى جميع سبل الحق لأنهم أدلاء يدلون العباد إذا وجدوهم مصدقين لهم إلى طرق الخيرات كلها مع السؤال وبدونه ولما ذكر الراغبين فيهم والمصدقين لهم في علم الله تعالى وأنهم لا يأخذون بالهوى والرأي والقياس كما لا يأخذ بها أئمتهم أشار إلى الراغبين عنهم والمكذبين لهم في علمه تعالى والأخذين بما ذكر مثل أئمتهم بقوله:

(وهم الذين لا يرغب عنهم ولا عن مسئلتهم وعن علمهم الذين أكرمهم الله به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة) هي عالم الأرواح الصرفة أو عالم الذر وهو عالم المثال وإطلاق الظل على الروح والمثال مجاز تشبيها لهما بالظل في عدم الكثافة وتقريبا لهما إلى الفهم.

(فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر) بعد الوجود في الأعيان (وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم) لما ذكرناه سابقا، ويفهم منه أن المصدق بأئمة الحق في الأعيان هو المصدق لهم في علم الله وتحت الأظلة، والمكذب لهم فيها هو المكذب لهم هناك ويدل عليه أيضا صريح كثير من الروايات ثم ذكر للأخذ بها غايتين أشار إلى أوليهما وهي توجب الغلط في الأصول بقوله (حتى دخلهم الشيطان) دخولا تاما يقتضي كفرهم (لأنهم جعلوا أهل الإيمان) المذكورين (في علم القرآن) والظرف متعلق بأهل الإيمان باعتبار أنه عبارة عن المؤمنين (عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين) والظرف يحتمل الأمرين وأشار إلى الثانية وهي توجب الغلط في الفروع بقوله: (وحتى جعلوا) عطف على قوله: «حتى دخلهم» (ما أحل الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا) كما هو شأن أصحاب الرأي والقياس لأن قلوبهم المنقلبة مائلة إلى القلب في أمر الله وأحكامه.

(فذلك أصل ثمرة أهوائهم) ذلك إشارة إلى رغبتهم عن سؤال أهل الذكر وإعراضهم عنه وإضافة الأولى لامية والثانية بيانية والمراد بأهوائهم مهويات نفوسهم ومشتهياتها كجعل المؤمن كافرا وجل الكافر مؤمنا وجعل الحلال حراما وبالعكس وبغض المؤمن ومعاداته وقتله وأسره ونهب ماله وتكذيب الحق وتصديق الباطل ونحوها، وبالجملة رغبتهم عن سؤال أهل الذكر أصل بنو عليه جميع أهوائهم المذكورة وغيرها إذ لو رغبوا في سؤالهم وتمسكوا بأقوالهم وأعمالهم وعقايدهم لم يقع منهم شيء من ذلك كما لم يقع من الشيعة، ويحتمل أن يكون الإضافة الثانية أيضا لامية إلا أنه لا يفيد صريحا أن الأهواء أيضا من ثمرة ذلك.

ص:188

(وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل موته) أي أوصاهم بولاية وصيه ورعايتها وحفظها في مواضع عديدة منها يوم الغدير.

(فقالوا: نحن بعد ما قبض الله رسوله يسعنا) «يسعنا» خبر لنحن وبعد متعلق به أو بقالوا أي لم يكتفوا بالرغبة عن سؤال أهل الذكر بل قالوا: يجوز لنا.

(أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس) وهو رأيهم في خلافة الأول متمسكين بإجماعهم عليها وهو غير متحقق بالاتفاق كما ذكرنا في كتاب الحجة وعلى تقدير تحققه ليس بحجة.

(بعدما قبض الله تعالى رسوله) متعلق بيسعنا أو بأخذ أو بإجتمع أو بالجميع على سبيل التنازع وهو في بعض الاحتمال تأكيد للسابق (وبعد عهده) وهو عهد الولاية.

(مخالفا لله ولرسوله) حال عن فاعل اجتمع وتلك المخالفة كفر بهما لإنكار قولهما.

(فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه) من التفضيلية متعلق بأجرا وأبين على سبيل التنازع وذلك إشارة إلى الرأي المذكور والمقصود أن كل من أخذ من هذه الأمة بذلك الرأي وزعم أنه يجوز له الأخذ فهو أجرأ على الله أو أبين ضلالة وخروجا عن سبيل الحق من غيره مطلقا سواء كان ذلك الغير من هذه الأمة أم من غيرها لأنه أنكر قولهما مع علمه به وأخذه بخلافه وهو كفر بالله العظيم بخلاف من لم يأخذ من هذه الأمة بذلك الرأي فإنه لو خالفهما في أفعاله لم يكن بذلك كفرا وجحودا، وأما من أنكر قولهما في نصب الخلافة من غير هذه الأمة فإنه وأن كان كافرا أيضا لكن إنكاره ليس مسبوقا بالعلم والفرق بين الإنكار مع العلم وعدمه واضح، ثم قال تأكيدا لما ذكر وتمهيدا لما يأتي:

(والله إن الله على خلقه أن يطيعوه ويتبعوا أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته) لأن وجوب طاعته ومتابعة أمره مطلق غير مقيد بحياة محمد (صلى الله عليه وآله) ولا بشخص دون آخر فيجب عليهم ذلك في حياته وبعد موته فمن أنكره بعد موته فهو كافر منكم بالرسالة والغرض المطلوب منها (هل يستطيع أولئك أعداء الله) الذين أخذوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) برأيهم ونصبوا إماما خلافا لأمره، والاستفهام على حقيقته لا على الإنكار لأنه غير مناسب لسياق الكلام وأعداء الله بدل عن أولئك للتصريح بأنهم خرجوا بذلك عن الدين وصاروا من الكافرين المعاندين، توضيح المقام يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن قول الرسول قول الله تعالى وأن متابعته واجبة وأن وجوبها غير مقيد بحياته وأن الأخذ بالرأي على خلافه في حياته غير جائز وكل ذلك أمر بين لا ينكره أحد إلا من خرج عن دين الإسلام وأنكر الرسالة، وليس الكلام معه.

(أن يزعموا.. اه) الزعم بالضم والفتح الظن ويطلق غالبا على ما لا أصل ولا سند له (مع رسول

ص:189

الله (صلى الله عليه وآله) ومخالفة له) في أكثر النسخ وهو حال عن فاعل أخذ.

(فإن قال: نعم) أي فإن قال قائل منهم: نعم يجوز ذلك والظاهر قالوا عدل إلى الأفراد للتشبيه على أن اعتباره أولى من الجميع في مقام النصح كما قال عز وجل (قل انما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة).

(فقد كذب على الله) لما ذكرنا من المقدمات (وضل ضلالا بعيدا) أكد الفعل بالمصدر والمصدر بالبعد المفرط للمبالغة في خروجه بذلك عن حد الإسلام كما خرج الثاني بإنكار عدول المفرد إلى التمتع وإنكار صلح الحديبية وإنكار الأمر بإحضار الدوات والقلم.

(وإن قال: لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه) لم يكن إما بدل لقوله لا أو جزاء الشرط والتقدير على الأول لم يكن له ذلك مع الرسول خلافا لأمره وعلى الثاني لم يكن له ذلك بعد موته وقوله: (فقد أقر بالحجة على نفسه) على الأول جزاء الشرط وعلى الثاني متفرع على الجزاء ووجه الإقرار أن القول بعدم جواز الأخذ بالرأي في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) على خلاف أمره يستلزم القول بعدم جوازه بعد موته هو ظاهر لا ينكره إلا كافر وإبداء الفرق بينهما بأنه (صلى الله عليه وآله) كان مجتهدا وأن قول الميت كالميت يوجب بطلان دينه بعده بالمرة ولا يقدم على التزامه إلا ملحدا. ووجه آخر هو أن الدين واحد والتكليف واحد لا تختلف في حياته وبعد موته فلا يجوز التمسك بالرأي والقياس بعد موته خلافا لأمره كما لا يجوز ذلك في حياته.

(وهو ممن يزعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أنه حال عن فاعل أقر وإشارة إلى أن الاعتراف بوجوب طاعته واتباع أمره في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) مستلزم للاعتراف به بعد موته كما أن الاعتراف بعدم جواز الاخذ بالرأي في حياته مستلزم للاعتراف بعدم جوازه بعد موته وفي لفظ الزعم إيماء إلى أنه يلزمه ذلك وإن لم يكن مذهبا له، ولما أشار إلى الدليل إلزامي أو عقلي على المطلوب أراد أن يشير إلى دليل تحقيقي أو نقلي عليه فقال (وقد قال الله وقوله الحق) وهو جملة حالية أو إعتراضية: (وما محمد إلا رسول) لا يجاوز الرسالة إلى التبري من الموت أو القتل.

(قد خلت من قبله الرسل) بالموت أو القتل (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) قال القاضي: هذا إنكار لارتدادهم على أعقابهم عن الدين بموته أو قتله بعد علمهم بموت الرسل أو قتلهم وبقاء دينهم متمسكا به.

(ومن ينقلب على عقبيه) بإرتداده (فلن يضر الله شيئا) بل يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) على نعمة الإسلام بالثبات عليه (وذلك لتعلموا.. اه) ذلك إشارة إلى قول الله تعالى

ص:190

ذلك القول ومحصله أن الآية تدل على وجوب متابعة أمره في حياة محمد (صلى الله عليه وآله) وبعد موته وعلى عدم جواز الأخذ بالرأي مخالفا لأمره في حياته وبعد موته فمن أنكر شيئا من ذلك فهو مرتد خارج عن الإسلام.

(وقال) (عليه السلام): (دعوا رفع أيديكم في الصلاة الأمرة واحدة حين تفتتح الصلاة) والأمر بترك رفع اليدين في الصلاة مع أنه عندنا مستحب عند كل تكبرة والقول بالوجوب نادر إنما هو للتقية كما صرح به (عليه السلام) في قوله:

(فإن الناس قد شهروكم بذلك) أي برفع اليدين ويوجب ذلك لحوق الضرر العظيم بكم وبامامكم، وشهر اما بتخفيف الهاء أو تشديدها.

(والله المستعان) في رفع كيد الأعداء وإضرارهم وإنما استثنى الرفع في الإفتتاح لأن العامة كلهم قائلون أيضا بإستحبابه كما صرح به المازري وإنما اختلفوا في غيره فأشهر الروايات عند مالك سقوطه وقال ابن القصار: لا يستحب الرفع في شيء من الصلاة وظاهره عدم الاستحباب في الإفتتاح أيضا وعلى أي تقديرهم كانوا يتركون الرفع رغما للشيعة وخلافا لهم ويجعلونه من علامة الرفض وليس مختصا بالرفع بل هم يتركون الصلاة على آل النبي (صلى الله عليه وآله) وتسطيح القبور التسنيم رغما لهم مع وجود الدلايل عليهما عنهم كما صرح به صاحب الكشاف وإذا كانوا كذلك وجب علينا ترك الرفع عند الخوف منهم.

(وقال) (عليه السلام): (أكثروا من أن تدعوا الله) أمر بإكثار الدعاء وهو يتحقق بالاشتغال به دائما أو في أكثر الأوقات ويورث جلاء القلب وقرب الحق ثم علل ذلك ورغب فيه بقوله:

(فإن الله يحب من المؤمنين أن يدعوه.. اه) فذكر أنه تعالى يحب من عباده المؤمنين ويستجيب لهم كما قال: (ادعوني أستجب لكم) ويصيره عملا يوجب علو الدرجة في الجنة وأما دعاء الكافرين وإن كان مستجابا فهو مبغوض وليس بعمل ينفعه يوم القيامة.

(فأكثروا ذكر الله.. اه) كل عبادة لها حد إلا ذكر الله تعالى فإنه مطلوب على قدر الاستطاعة والقدرة منه فإن الله تعالى أمر بكثرة الذكر له بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) وبقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والمراد به ذكره باللسان والقلب وعند المصيبة والطاعة والمعصية وفي جميع الأحوال.

(والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين) أي مثيب له، سمي ثواب الذكر ذكرا لوقوعه في صحبته، أو المراد أنه ذاكر له في الملاء الأعلى وزمرة الروحانيين ويراد بخير فيما يأتي هذا المعنى أيضا.

ص:191

(فاعطوا الله من أنفسكم الإجتهاد في طاعته) الطاعة شاملة للذكر وغيره بل كل طاعة ذكر كما يرشد إليه قوله تعالى: (أقم الصلاة لذكري) ثم رغب فيها بقوله:

(فان الله لا يدرك شيء من الخير) الأخروي بالاستحقاق (عنده إلا بطاعته) أما الخير الدنيوي فقد يدركه الكافر أيضا والخير الأخروي بالتفضل قد يدرك بدون الطاعة إلا أن يقال منشأه الطاعة أيضا (واجتناب محارمه التي حرم الله في ظاهر القرآن وباطنه) باطنه لا يعلمه كل أحد فلابد أن يرجع إلى العالم به ولعل المراد بالمحرمات الباطنة ولاية أئمة الجور يدل على ذلك ما ذكره المصنف في باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل بإسناد عن محمد بن منصور قال: «سألت عبد صالحا (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) قال فقال: إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله تعالى في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق».

ثم استشهد لذلك بقوله: (فإن الله تعالى قال في كتابه وقوله الحق: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) دل الاستشهاد على أن ظاهر الإثم ما ظهر تحريمه من ظاهر القرآن، وباطن الإثم ما ظهر تحريمه من باطنه وهو على تأويل العبد الصالح ولاية أئمة الجور وقيل: ظاهر الإثم ما يعلن أو ما يصدر بالجوارح وباطنه ما يسر أو ما يصدر بالقلب وقيل: غير ذلك.

(واعلموا أن ما أمر الله به أن يجتنبوه فقد حرمه) على أن الأوامر القرآنية للوجوب إلا ما أخرجه الدليل وتخصيص الأمر بصيغة اجتنبوا أو حمل التحريم على الأعم من معناه الحقيقي والتنزيهي محتمل بعيد، ويمكن أن يراد بالأمر باجتناب الطاغوت.

(واتبعوا آثار سول الله وسنته فخذوا بها) أمر باتباع آثاره وسنته على وجه العموم وأعظمها أثرا الولاية كما يرشد إليه قوله:

(ولا تتبعوا أهوائكم وآرائكم) في أصول الدين وفروعه خصوصا في الأمة (فتضلوا) من الحق، ثم علل ذلك بقوله:

(فإن أضل الناس عند الله من ابتع هواء ورأيه بغير هدى من الله) الظرف حال عن فاعل أتبع أي متمسكا بغير هاد منصوب من قبل الله تعالى يدل على ذلك ما رواه أيضا في باب من دان الله عز وجل بغير إمام من الله بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله عز وجل (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) قال: يعني من اتخذ دينه رأيه بغير إمام من أئمة الهدى. وتعميمه بشموله آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته محتمل.

ص:192

(وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم) المراد بالإحسان إليها الإتيان بما ينفعها يوم القيامة وتهذيب الظاهر والباطن عن الأخلاق والأعمال الفاسدة وتزيينها بالأخلاق والأعمال الفاضلة.

(فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) رغب في الإحسان وترك الإساءة بأن النفع والضرر راجعان إليكم لا إلى غيركم والعلم به محرك عظيم إلى الإحسان لأن كل أحد يطلب النفع له ويدفع الضر عنه (وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم) جاملوا بالجيم أو الحاء المهملة كما مر وفيه إشارة إلى حسن المعاشرة معهم ظاهرا ولابد منه فإن النفوس العاصية المطيعة لإبليس وجنوده إن وقع الافتراق منهم بالمرة أو وقع المخالطة معهم على وجه الشقاق وإظهار العداوة وثبوا لما فيهم من الغواية والضلالة والغلظة وخشونة الوجه وقلة الحياء إلى الأذى والضرب والشتم والقتل والنهب والمعاشر على هذا الوجه فرد من الطاعة مضافا إلى الرب ظاهرا وباطنا وبه يتم نظام الدين والدنيا جميعا كما أشار إليه بقوله:

(تجمعوا مع ذلك طاعة ربكم) تجمعوا مجزوم بالشرط المقدر بعد الأمر وذلك إشارة إلى الأمر المستفاد من الكلام السابق والمراد بالطاعة التقية أو الأعم منها ومن غيرها (وإياكم وسب أعداء الله..) إلخ أي أئمة الجور وأتباعهم.

(حيث يسمعونكم) دل على جواز الشتم حيث لا يسمعونه ويجوز أن يقرأ بضم الياء من أسمعه إذا شتمه فدل على النهي عن شتمهم مع شتمهم إياكم فكيف مع عدمه.

(فيسبوا الله عدوا بغير علم) هذه العبارة يحتمل وجهين أحدهما ما ذكر الفاضل الأمين الأسترآبادي: وهو أنهم يسبون من رباكم ومن علمكم السب ومن المعلوم أن المربي والمعلم هو الله تعالى بواسطة النبي وآله عليهم السلام فينتهي سبهم إلى الله من غير علمهم به وثانيهما أنهم يسبون أولياء الله كما دل عليه بعض الروايات صريحا ودل عليه أيضا ظاهر هذه الرواية كما أشار إليه بقوله: (وقد ينبغي لكم أن تعلموا حد سبهم لله) أي معناه كيف هو.

(أنه من سب أولياء الله فقد انتهك سب الله) أي دخل فيه وتناوله وقد عد سبهم سب الله تعظيما لهم من ذلك ونظيره في آخر كتاب التوحيد.

(ومن أظلم عند الله ممن استسب الله ولأوليائه) قال الفاضل الأسترآبادي: فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز السب حيث يسمعون مطلقا عند الخوف والأمن.

(فمهلا مهلا) منصوب مقدر والتكرير للمبالغة، والمهل بالتسكين الرفق بالتحريك الثاني ويطلق على الواحد والاثنين والجمع المذكر والمؤنث (فاتبعوا أمر الله) في جميع الأمور ومنها الولاية والمجاملة مع الناس والتقية منهم.

ص:193

(وقال: أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم) الدنيوي والأخروي والجملة الوصفية إما دعائية أو خبرية وإشارة إلى أنه ينبغي التوسل بالله وحفظه في جميع الأمور وعدم الاعتماد بحولهم وقوتهم (عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده.. آه) أي بأحاديثه وأحاديث الأئمة عليهم السلام أو بطريقتهم وهي عدم التكلم في الدين بالرأي والقياس.

(وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله): المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله..

آه) لأن القليل المداوم عليه إذا كان موافقا للقانون الشرعي يوجب القرب ويوصل إلى المطلوب بخلاف الكثير المخالف له; واسم التفضيل على معناه بفرض الفعل في المفضل عليه (إلا أن اتباع الأهواء) كما هو شأن أتباعهم (بغير هدى من الله) تأكيد لأن اتباع الأهواء والبدع يكونان بغير هدى من الله قطعا (ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار) فيه ترغيب في ترك الآراء المخترعة والأهواء المبتدعة معللا بأن اتباعهما ضلالة وأن الضلالة توجب الدخول في النار لان التمسك بها يقود إلى حمل أثقال الخطايا وقد ذكر نظير ذلك في كتب العامة روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «إن شر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة» قال المازري: البدعة ما أحدثت ولم يسبق لها مثال وحديث كل بدعة في النار من العام المخصوص لأن من البدع واجب كترتيب الأدلة على طريقة المتكلمين للرد على الملاحدة ومنها مندوب كبناء المدارس والزوايا. ومنها مباح كالبسط في أنواع الأطعمة والأشربة.

أقول: هذا إن فسرت البدعة بما ذكروا أما إن فسرت بما خالف الشرع أو بما نهى عنه الشارع فلا تصدق على الأمور المذكورة.

(ولن ينال شيء من الخيرات عند الله إلا بطاعته والصبر والرضا) أي الصبر على المصائب والمكاره وفعل الطاعات وترك المنهيات والرضا بقضاء الله لأن الصبر والرضا من طاعة الله ونيل الخير بالطاعة أمر مسلم لا يحتاج إلى تعليل والقول بأنه ينال بالصبر والرضا حينئذ لا يتم إلا ببيان أنهما من الطاعة فالتعليل لبيان ذلك وحينئذ ذكرهما بعد الطاعة من قبيل ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام (واعلموا أنه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به) العائذ إلى الموصول وهو المفعول الأول محذوف. محبوب أن عدي إلى الثاني بإلى ومكروه إن عدى بالباء في الأغلب وقد يقوم كل منهما مقام الآخر كما يجيء فقوله: (على ما أحب وكره) لف ونشر مرتب والمراد بالإيمان الإيمان الكامل بدليل ان من لم يبلغ مرتبة الرضا لم يخرج معن أصل الإيمان، وفيه دلالة على أنه كما لابد في كماله من الرضا بالمكروه كذلك لابد فيه من الرضا بالمحبوب مثل الصحة والأمن والغنى ونحوها على تفاوت درجاتها (ولن يصنع الله بمن

ص:194

صبر ورضى عن الله إلا بما هو أهله وهو خير له) من خلافه لأنه تعالى عالم بمصالح العبد يصنع له ما هو يصلح له فإن أفقره كان خيرا له وإن أغناه كان خيرا له وكذلك جميع الحالات المتضادة وفيه دلالة على أن الخيرية مشروطة بالرضا والصبر وإلا فجرت عليه المقادير وهو محروم عن أجر الصابرين.

(مما أحب وكره) الظاهر أنه بيان للموصول وتعلقه بخير بعيد من حيث المعنى، ويؤيده أنه وقع «فيما» بدل «مما» في بعض النسخ.

(عليكم بالمحافظة على الصلوات) بإيقاعها مع شرائطها في أوقاتها (والصلاة الوسطى) أي الفضل أو الواقعة في الوسط فيها أقوال على عدد اليومية والمشهور أنها العصر ولعل السر في اخفائها هو الترغيب في محافظة جميعها.

(وقوموا لله قانتين) ظاهر الصدوق أنه القنوت المعروف وأنه واجب، وظاهر ابن أبي عقيل وجوبه في الجهرية والمشهور أنه مندوب وقيل: المراد به الخشوع والإطاعة والدعاء مطلقا (كما أمر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم وإياكم) دل على أن خطاب القرآن شامل للحاضرين والغائبين وقت النزول من باب التغليب كما صرح به بعض أرباب الأصول فهو حجة على من خصه بالأول وأجرى الحكم في الغائب بالإجماع.

(وعليكم بحب المساكين المسلمين) الحب: ميل القلب وهو مطلوب لجميع المسلمين وتخصيص المساكين بالذكر لزيادة الاهتمام بحالهم أو للكشف والإيضاح فإن المسلمين وهم المؤمنون كلهم مساكين في دولة الباطل على تفاوت درجاتهم ومن المحبة لهم أن تحب لهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك.

هر كسى را لقب مكن مؤمن * گرچه از سعى جان وتن كاهد تا نخواهد برادر خود را * آنچه از بهر خويشتن خواهد (فإنه من حقرهم وتكبر عليهم) حقره حقرا كضربه ضربا وحقره تحقيرا إذا أذله وأهانه. وتكبر عليهم إذا تعظم وترفع عليهم بأن يرى نفسه أعظم وأرفع منهم والتحقير والتكبر متلازمان مهلكان خصوصا إذا ظهر آثارهما بالجوارح واللسان.

(فقد زل عن دين الله) أي عن أصله أو عن كماله إن سلمت عاقبته (والله له حاقر ماقت) يفعل به ما يوجب ذله وأهانته ويعاقبه ويسلب عنه رحمته وقد كرر الأمر بحب المسلمين المؤمنين لأنهم عياله وعيال الله وغرباء فقراء في هذه الدار فاقتضى المقام المبالغة فيه لشده الاهتمام والإغتمام بحالهم.

ص:195

(واعلموا أن من حقر أحدا من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه والمحقرة) وهي بالفتح المذلة (حتى يمقته الناس) أو المراد بهم الأنبياء والأوصياء والصلحاء أو الأعم لأن الفساق و المتكبرين يمقتون المتكبر، والفاسق قد يذم الفاسق وهو غافل عن فسقه.

(فإن لهم عليكم حقا أن تحبوهم) أي بأن تحبوهم وحذف الجار في مثله قياس وهو بدل عن حقا وهو من الغاوين الذين أوعد الله عليهم بالنار قال: (فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) (وإياكم والعظمة والكبر) العطف للتفسير أو العظمة عبارة عن اعتبار كمال ذاته ووجوده وصفاته والكبر هذا مع اعتبار فضله على الغير.

(فإن الكبر رداء الله) شبه الكبر وهو العظمة بحسب الذات والصفات والرفعة على الغير من جميع الجهات بالرداء في الإحاطة والشمول فهي موجودة في المشبه تخييلا وفي المشبه به تحقيقا أو في الإختصاص لأن رداء كل شخص مختص به لا يشاركه غيره والمقصود من هذا التشبيه إخراج المعقول إلى المحسوس لقصد الإيضاح والإفهام.

(فمن نازع الله رداءه قصمه الله) أي كسره (وأذله يوم القيامة) وفي الخبر: «أنه يجعل في صورة الذر يتوطأه الناس حتى يفرع الله من الحساب».

(وإياكم أن يبغى بعضكم على بعض فإنها ليست من خصال الصالحين) ضمير التأنيث راجع إلى البغي باعتبار الخصلة وهو الظلم والميل عن الحق والترفع والاستطالة والكذب والخروج عن طاعة الإمام وأصله المجاوزة عن الحد.

(فإنه من بغى صير الله بغيه على نفسه) لعود ضرره إليها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم).

(وإياكم أن يحسد بعضكم بعضا) بتمني زوال نعمته ما لا كان أو حالا (فإن الكفر أصله الحسد) كما كفر إبليس بإنكار السجود لآدم حسدا له. وكفر بعضهم بغصب الخلافة وإنكار الولاية كذلك والحاسد كافر بالله العظيم لنسبة الجور إليه في القسمة وكافر بنعمته لتحقيرها وكافر بمخالفة الأمر بترك الحسد، ومفاسد الحسد أكثر من أن تحصى.

(وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم) الإعانة إذا عدى بعلى للضر وبنفسه للنفع كما سيجيء (إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة) دل على جواز الدعاء على الظالم لأن التحذير من قبوله إقرار له وقد وقع الأمر بالدعاء عليه في بعض الأخبار ولا فرق في ذلك بين من عم ظلمه ومن خص بواحد ولا بين من يكون ظلمه متجاوزا عن الحد ومن لا يكون، ولا بين أن يكون الظالم مؤمنا أو

ص:196

كافرا إلا أن الأولى ترك الدعاء على الظالم المؤمن عم ظلمه أو لا لأنه أوفر للأجر (وإياكم وإعسار أحد.. اه) الإعسار: طلب الحق من الغريم على عسره وضيق حاله والإعسار أيضا الافتقار ومنه المعسر بمعنى المفتقر كما سيجيء.

(ومن أنظر معسرا أظله الله بظله) أي بظل عرش أو برحمته شبهها بالظل في نجاة من استقر فيها من حر الشدائد واستعار لفظه.

(يوم لا ظل إلا ظله) أي رحمته كما قال تعالى: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) (وحبس حقوق الله قبلكم) أمر بأداء الحقوق الموقتة في أوقاتها والمشروطة بشروطها والمطلقة والثابتة في أول أوقات إمكانها وهي أعم من الواجبات والمندوبات.

(كان الله أقدر على التعجيل له إلى مضاعفة الخير في العاجل والآجل) من كان لله كان الله له والخير في العاجل أعم من الطاعة والنعمة في الأجل الثواب والرحمة وهو يدل على أن أداء حقوق الله سبب زيادة الرزق كما قال: (من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (فأدوا إلى الله حق ما رزقكم) من النعماء الظاهرة والباطنة التي لا يمكن احصاؤها وحق ذلك هو الطاعة والشكر والوفاء به سبب لبقاء الواصل، وحصول غير الحاصل، كما قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وزوال النعمة عذاب أيضا وقد قيل: إن النعمة صيد والشكر قيد.

(وإن استطعتم أن لا يكون منكم محرج الإمام فإن محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل الصلاح من أتباع الإمام، المسلمين لفضله الصابرين على أداء حقه العارفين بحرمته) في النهاية: أحرجه بالحاء المهملة أوقعه في الحرج، وفي الصحاح: أحرجه إليه ألجأه، وفيه سعى به إلى الوالي إذا وشى به أي نقل أمره إليه ونمه ليؤذيه والظاهر أن المراد بالمحرج هنا من يسعى بأهل الصلاح وينهى حاله إلى الإمام بإذاعة السر والإتيان بالمعصية الموبقة ونحوها، واحتمال سعايته إلى الوالي الجائر بعيد لأنه فيما بعد: «فإذا فعل ذلك عند الإمام» ينافيه في الجملة فعلى الأول لعن الإمام إياه باعتبار ما افتراه الساعي ولما لم يكن هو على ما إفتراه يرجع اللعن إلى الساعي وأما على الثاني فلأن الجائر يؤذيه ولما لم يكن له ناصر يدفع أذاه عنه (واعلموا أنه من نزل بذلك المنزل عند الإمام) هو منزل السعاية والغمز ونسبة السوء إلى المؤمن الصالح وهذا كما هو قبيح عند الإمام كذلك قبيح مطلقا.

(يلعن الإمام أهل الصلاح) لعدم نصرتهم إياه وتخاذلهم له ويعود اللعن إلى الساعي في

ص:197

الحقيقة.

(فإذا لعنهم لاحراج أعداء الله الإمام صارت لعنته رحمة من الله عليهم.. اه) الإمام فاعل لعنهم ومفعول لإحراج على سبيل التنازع وإضافة الإحراج إلى الأعداء إضافة المصدر إلى الفاعل والمراد بهم الساعون بأهل الصلاح إلى الإمام أو إلى الجائر على الاحتمال ويحتمل أن يكون فاعل لعنهم ضمير راجع إلى الإمام.

(قال: ومن سره أن يلقى الله وهو مؤمن حقا حقا.. اه) تأكيد لمضمون جملة أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي ايمانا حقا والتكرير لزيادة التأكيد.

(فليتول الله ورسوله والذين آمنوا وليبرء إلى الله من عدوهم) المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين وأولاده الطاهرون عليهم السلام وفيه دلالة على أن أصل الإيمان لا يتحقق بدون أمور أربعة وأن البراءة من عدوهم جزء منه كما دل عليه غيره من الأخبار.

(ويسلم لما انتهى إليه من فضلهم) أي يصدقه تصديقا جازما وإن لم يعرف حقيقته.

(لأن فضلهم لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك) تعليل لما سبق وإشارة إلى أن فضلهم البالغ إليه وإن كان في غاية الكمال التي يستبعده ضعفاء العقول ينبغي أن لا ينكره بل يسلمه ويذعنه لأن ما بلغ إليه ليس في حد الكمال بالنسبة إلى ما هو لهم في الواقع من الفضل والجمال (لم تسمعوا ما ذكر الله من فضل أتباع الأئمة الهداة) الاستفهام للتقرير ووصف الأئمة بالهداة للمدح أو للتقييد بإخراج أئمة الضلالة (وهم المؤمنون) التابعون لهم في العقائد والأعمال والأخلاق والتعريف للحصر.

(قال: (أولئك)) قال الله ومن يطع الله ورسوله فأولئك (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) الإشارة للموصول وهم المطيعون لله وللرسول في جميع الأمور وأعظمها النهي عن طاعة الأئمة الغواة والأمر بطاعة الأئمة الهداة فقد ظهر أن الآية في فضل أتباعهم والفرق بين الفرق الأربعة أن كل لاحق أعم مطلقا من السابق إن أريد بالشهداء في العباد وأما إن أريد بهم الشهداء في الجهاد فالنسبة بينهم وبين من قبلهم أعم من وجه، ويمكن أن يراد بالثلاثة الأخيرة الأئمة الهداة وذكر هذه الصفات للدلالة على اتصافهم بها وللمفسرين فرق آخر بين هؤلاء لا يخلوا من تكلف.

(وحسن أولئك رفيقا) في معنى التعجب ورفيقا نصب على التميز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقا كذا في تفسير القاضي

ص:198

(فهذا وجه من وجوه فضل اتباع الأئمة) أشار إلى أن هذا فضل واحد وأن لهم فضائل كثيرة غير محصورة.

(فكيف بهم وفضلهم) أي فكيف يبلغ بذواتهم وحقيقة فضلهم أحد والاستفهام للإنكار.

(ومن سره أن يتم الله له إيمانه.. اه) دل على أن الإيمان هو التصديق بالولايات المذكورة وأن الأعمال خارجة عنه وشروط لكماله كما دل عليه أيضا روايات أخر (أقام الصلاة) حذفت التاء من المصدر للتخفيف من ثقل الإضافة.

(وإقراض الله قرضا حسنا) بفعل الطاعات والإحسان إلى الخلق وإقراضهم والإنفاق في وجوه البر وصلة الإمام. روى المصنف في باب صلة الإمام بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال «ما من شيء أحب إلى الله من إخراج الدرهم إلى الإمام وإن الله ليجعل له الدرهم في الجنة مثل جبل أحد، ثم قال إن الله يقول في كتابه: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) قال: وهو والله صلة الإمام خاصة» ولعل المقصود من قوله خاصة أن الآية نزلت قصدا وبالذات في صلة الامام ولا ينافي تعميمها بإدخال جميع ما ذكر فيها، والمراد بحسنه خلوصه عن غير وجه الله مع طيب النفس من غير من ولا أذى وغير ذلك من موجبات النقص وإنما سمي قرضا لأن الفاعل يأخذ العوض وهو الأجر الجزيل والثواب الجميل منه تعالى.

(واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن) مر تفسيره آنفا (فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله إلا وقد دخل في جملة قوله) الفسر الإبانة وكشف الغطاء كالتفسير والفعل كضرب ونصر ومما حرم بيان لما فسر أو لشيء والأول أظهر والثاني أشمل، والمراد بالجملة على الأول الفواحش يعني أن هذا المجمل شامل لجميع المحرمات في الآيات والروايات وعلى الثاني أقام الصلاة إلى آخره فإنه شامل لجميع الطاعات أيضا.

(فمن دان الله فيما بينه وبين الله مخلصا لله) أي من عنده سرا أو في الدين الذي بينه وبين الله تعالى لا في دين الرأي والقياس حال كونه مخلصا لله منزها لعمله أن يكون لغير الله فيه شرك ونصيب.

(ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا) الذي ذكر من الولايات وشروطها والترخيص عدم الاستقصاء، رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو أي لم يستقص ولم يبلغ الغاية فالمراد بعدم الترخيص في الترك هو المبالغة في عدمه.

(فهو عند الله في حزبه الغالبين) على النفس الأمارة بالكسر أو على المذاهب الباطلة بالحجة، أو على الأعداء بالغلبة وهم حزب الإمام المنتظر أو الأعم ومن حزب الأنبياء والرسل كما قال

ص:199

تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).

(إلى ها هنا رواية القاسم بن الربيع) وما يأتي رواية حفص المؤذن وإسماعيل بن جابر وإنما لم يقل إلى ها هنا رواية إسماعيل بن مخلد السراج لأنه لو قال ذلك لفهم أنه لم يروا الباقي وذلك ليس بمعلوم لجواز روايته وعدم نقله للقاسم أو نقله له وإختصار القاسم على القدر المذكور.

(يعني المؤمنين قبلكم إذا نسوا شيئا.. اه) الظاهر أنه كلام المصنف لتفسير الآية المذكورة والنسيان كناية عن الترك ما دل عليه ما بعده وفسره أبو جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) بالترك، وبالجملة إطلاقه على الترك شايع فلا يرد أن النسيان ليس بعصيان.

(واعلموا أنه إنما أمر ونهى ليطاع - إلى آخره) أعظم الأمر والنهي الامر بطاعة الأئمة الهداة والنهي عن طاعة الأئمة الغواة.

(واعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم إلا طاعتهم له فجدوا في طاعة الله) الظاهر أن ملك اسم ليس ومن خلقه متعلق بأحد واحتمال جعله اسم ليس بزيادة من وجعل ملك مجرورا بدلا عن لفظه ومرفوعا بدلا عن محله بعيد فكأنه رغب كل واحد في العلم بأن كل بلية بينه وبين الله كانت طاعتهم له ليجتهد فيها ولا يتخلف في السباق عنهم والأظهر أن ملك بدل من الخلق وأن اسم ليس محذوف أي ليس بين الله وبين أحد من الخلائق شيء نافع إلا الطاعة فجدوا فيها.

(وقال: عليكم بطاعة ربكم ما استطعتم) أمر (عليه السلام) في هذا الحديث بطاعة الرب مكررا لاقتضاء المقام المبالغة فيه لأن القايل بالحق قليل واللسان عن الصدق كليل والناس معتكفون على العصيان وراغبون في المعصية والطغيان.

(فإن الله ربكم) أخرجكم من العدم وأفاض علكيم الوجود وتوابعه من الكمالات وأعطاكم نعمه ظاهرة وباطنة ورباكم في جميع الحالات وكل ذلك يقتضي طاعتكم له بقدر الإمكان (واعلموا أن الإسلام هو التسليم والتسليم هو الإسلام) أي الإسلام هو التسليم لله ولرسوله ولأولي الأمر والانقياد لهم في الأوامر والنواهي وليس هو بمجرد القول وفي تعريفها باللام وتوسيط الضمير دلالة على الحصر والتأكيد فيه هذا بناء على التلازم بينهما ويمكن حمله على إتحاد الحقيقة يعني أن عرفت معنى الإسلام والتسليم وحقيقتهما فهذا ذاك فمن سلم فقد أسلم ومن لم يسلم فلا إسلام له لأن وجود اللازم على وجود الملزوم وعدمه على عدمه وعلى القول بالاتحاد

ص:200

فالأمر ظاهر.

(ومن سره أن يبلغ إلى نفسه في الإحسان فليطع الله.. اه) الإبلاغ الإيصال يقال: أبلغ إليه شيئا أي أوصله إليه وفي زائدة للتأكيد مثل (اركبوا فيها بسم الله مجريها) أو هي كإلى متعلقة بيبلغ بتضمين معنى الإجتهاد أو بمفعول مقدر أي من سره أن يوصل إلى نفسه إجتهادا في الإحسان فليطع الله في أوامره ونواهيه ويحتمل أن يراد بالإبلاغ المبالغة وهي الإجتهاد يقال: بالغ في كذا إذا اجتهد فيه، وإلى حينئذ متعلقة بالإحسان وتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا ونحوه جائز (وإياكم ومعاصي الله أن تركبوها) أي تتبعوها من ركبت الأثر إذا تبعته أو تعلوها بتشبيه المعصية بالدابة في إيصال صاحبها لي منزل الشقاوة ونسبة الركوب إليها مكنية وتخييلية.

(وليس بين الإحسان والإساءة منزلة فلأهل الإحسان عند ربهم الجنة) ولأهل الإساءة عند ربهم النار كما قال تعالى: (فريق في الجنة وفريق في السعير) قال الأمين الأسترآبادي: قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار بأن الناس ثلاثة أصناف منهم من هو تحت المشية فالظاهر أن مراده (عليه السلام) أن الذي أبرم الله أمره قسمان.

أقول: يريد أن الذي وقع الحتم فيه قسمان لا ثالث لهما لأنه إما مقر بالولايات المذكورة متمسك بشروطها أو منكر لشيء منها فالأول محسن والثاني مسيء وأما المستضعف وهو من لم يقر ولم ينكر فهو خارج عن المقسم فلا يرد أنه قسم ثالث (واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد) أي لا يصرف ولا يكف عنكم أحد ممن ذكر شيئا من عقوبة الله إلا برضاه عنكم ولم يذكر الاستثناء لظهوره ولدلالة التفريع عليه وهو قوله: (فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فيطلب متضرعا إلى الله) أي فليرغب إليه من طلب إليه رغب.

(أن يرضى عنه) المراد بطلب الرضا طلب وسيلة له وهي طاعة الله وطاعة الرسول وطاعة ولاة الأمر بعده فإنه أن صدر منه حينئذ ما يوجب سخط الله من ترك بعض الطاعات أو فعل بعض المنهيات وتدركه الرحمة والشفاعة بإذن الله لرضائه عنه من وجه آخر فاستحق بذلك قبولهما.

(واعلموا أن أحدا من خلق الله لم يصب رضا الله بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمد (صلى الله عليه وآله)) طاعتهم مع كونها سببا للرضا سبب أيضا لبقاء النظام بالتناصر والتعاون وقمع طمع الناكثين والمارقين والقاسطين والمنافقين الذين ليس لهم من الإسلام نصيب.

(ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلا عظم أو صغر) المراد بالفضل العظيم ما لا يصل إليه الفهم ويستبعده العقل ولا يعرف حقيقته، والصغير ما هو خلاف ذلك والظاهر أن قوله:

ص:201

«ومعصيتهم» عطف على اسم «أن» وقوله «لم ينكر» على خبرها وفيه شيء لأن كثيرا من الناس أنكروا فضلهم بل نصبوا عداوتهم، ولعل المراد بعدم إنكار أحد عدم الإنكار ولو حين الاحتضار ولدلالة بعض الروايات على أن المنكرين يعترفون بفضلهم حينئذ أو المراد به العلم بفضلهم وإن لم يصدقوا به أو المراد أنه ينبغي عدم إنكار فضلهم أو المراد بالخلق الأنبياء والأوصياء وأهل المعرفة من الأمم السابقة ومن هذه الأمة والله أعلم.

(واعلموا أن المنكرين هم المكذبون.. اه) يريد أن منكر واحد منهم ومنكر فضلهم مكذب لله ولرسوله في الأمر بطاعتهم ومنافق داخل (في الدرك الأسفل من النار) قيل: أي الطبقة السفلى من جهنم وقيل وهي توابيت من نار تطبق على أهلها (ولن تجد لهم نصيرا) ينصرهم ويدفع عنهم العقوبة بالشفاعة ونحوها، وفيه دلالة على خلودهم في النار.

(ولا يعرفن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس) «من أحد» متعلق بلا يعرفن على صيغة المجرد المجهول والمراد بهم المخالفون وألزم صفة لأحد والمراد به القائل بولاية على وأولاده الطاهرين عليهم السلام أي لا يفعل أحد منكم عندهم ما يعرف به وتميز عنهم وفيه ترغيب في التقية للإحتراز من ضررهم.

(ممن أخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله من أهلها) إنما نسب الإخراج من صفة الحق وهي القول بالولاية إلى الله تعالى لعلمه أزلا بعدم اتصافها واضطراب قلبه من قبولها فأخرجه منها ولم يجعله من أهلها جبرا لأن الجبر مناف للحكمة، ومنه يظهر الزامه تعالى قلب أحد طاعته وصفة الحق لأنه لما علم منه قبولها إختيارا وفقه لقبولها ونصره عليه وهذا معنى الإلزام فانتفى الجبر في الموضعين وملك كل أحد ماله باختياره.

(فإن لم يجعله الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن فإن لشياطين الإنس حيلة ومكرا وخدايع ووسوسة بعضهم إلى بعض) الظاهر أنه تعليل لقوله: «لا يعرفن أحد منكم» من أحد من الناس لتضمنه معنى الشيطنة التي تقتضي الحذر منهم بالتقية وحينئذ يكون قوله: «فإن الشياطين الإنس» بيانا وتفصيلا لما تضمنه معنى الشيطنة وإنما قلنا الظاهر ذلك لأنه يحتمل أن يكون تفصيلا وبيانا لإثبات معنى آخر للمخرجين من صفة الحق وهو التمرد والشيطنة والقول المذكور حينئذ تعليل لقوله: «لا يعرفن» ثم أن أريد بمن الموصولة الإنس والجن فحمل شياطين الإنس والجن عليهم ظاهر، وإن أريد به الإنس فحمل شياطين الجن عليهم من باب التشبيه في التمرد والشيطنة والمراد بالحيلة استعمال الحذق والتصرف في الأمور للتوصل بها إلى المقصود وبالمكر إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يعلم الخديعة هذا المعنى أو تلبيس شبهات باطلة

ص:202

بلباس الحق لإنخذاع الغير بها وبالوسوسة مشاورة بعضهم بعضا في تحصيل أسباب الغلبة والإضرار ولما كان هذا مظنة أن يقال ما غرضهم من الحيلة وما عطف عليها أجاب على سبيل الإستيناف بقوله:

(يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله) وهو الدين الذي أنزله إلى رسوله وأكمله للناس بولاية علي (عليه السلام) والمراد بالنظر فيه العلم به والتصديق بحقيته.

(إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والإنكار والتكذيب.. اه) مفعول له ليريدون والأصل أن يستوون هم وأهل الحق عدل عن الضمير إلى الظاهر لقصد دمهم صريحا بنسبة العداوة إليهم ولعدم حاجة صحة العطف إلى الضمير الفصل والمراد بالشك دينهم الباطل أو الشك في دين الحق وبالإنكار الإنكار لقول الله تعالى وبالتكذيب التكذيب لقول رسوله في التنصيص بالولاية.

(فلا يهولنكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله من حيلة شياطين الإنس ومكرهم من أموركم) في القاموس: هاله يهوله هولا: أفزعه كهوله فاهتال فعلى هذا يجوز في لا يهولنكم تخفيف الواو وتشديدها ورده عن الأمر صرفه عنه فارتد هو وضمير الجمع الفاعل المحذوف راجع إلى أعداء الله أو إلى شياطين الإنس ولعل النهي راجع إلى الإهتيال والارتداد المقصودين من الفعلين وقوله: «من حيلة شياطين الإنس» متعلق بالفعلين و «من» إما ابتدائية أو للتعليل أو بمعنى الباء والأصل من حيلتهم عدل عن الضمير إلى الظاهر لنسبة الشيطنة إليهم وتوبيخهم عليها ومن أموركم متعلق بمكرهم ومن كالمذكورة في المعاني الثلاثة أو بمعنى في أي لا تخافوا ولا ترتدوا عن نصرة الحق من أجل حيلتهم ومكرهم من أموركم واخيالهم في صرفكم عنها فإنهم شياطين الإنس «وأن كيد الشيطان كان ضعيفا».

(تدفعون عنهم السيئة بالتي هي أحسن.. اه) لعل المراد بالسيئة عداوتهم وإضرارهم وبالتي هي أحسن التقية وفيه ترغيب، في دفع ضررهم بها.

(لا يحل لكم أن تظهروهم على أصول دين الله) هي الولاية وعدم الجبر والتفويض وزيادة الصفات وجواز الرؤية ونحوها أو الأعم منها ومن الأحكام المختصة بالشيعة مثل وجوب المسح واستحباب القنوت ورفع اليدين بالتكبيرات المندوبة وأشباهها.

(فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئا) من الأمور المخصوصة بكم (عادوكم عليه) وآذوكم به بل ربما قتلوكم (ورفعوه عليكم) إلى الجائر أو إلى الناس بالتشهير والإفشاء (وجهدوا على هلاككم) بقدر الإمكان (واستقبلوا بما تكرهون) من الأقوال الغليظة وغيرها.

ص:203

(ولم يكن لكم النصفة منهم في دون الفجار) النصف والنصفة محركتين والإنصاف داد دادن والمنصف داد دهنده يعني أنهم وحاكمهم يجورون عليكم ولا يعدلون فيكم وفيه ترغيب بالتقية منهم وعدم إظهار ما يخالف مذهبهم عندهم لأنهم حينئذ يجتهدون على هلاككم وليس لكم من يدفع الظلم عنكم.

(اعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل) المنزلة موضع النزول والدرجة يعني وجب عليكم معرفة منزلتكم فيما بين الناس وهي الإيمان بالله وما يليق به وبالرسول وما جاء به وبالولاية ومن اتصف بها، وإظهار أصول الدين وأحكامه على أهلها والاتصاف بآدابه وأخلاقه والامتثال بأوامره ونواهيه ليحصل لكم التميز بينها وبين منزلة أهل الباطل والتمكن من التحرز عنها وإنطباق الدليل عليه وهو قوله:

(فإنه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل) ظاهر لأن أهل الحق ينبغي أن يكونوا مع الحق فلا ينبغي لهم الاتصاف بالباطل كأهله، وهنا احتمال أخر وهو أنه يجب عليكم معرفة منزلتكم فيما بينكم وهي ما ذكر ومنزلتكم فيما بين أهل الباطل وهي حسن المعاشرة معهم ظاهرا والتقية منهم للإحتراز من ضررهم إلا أن في انطباق الدليل المذكور عليه خفاء إلا أن يراد بأهل الباطل في الدليل أعم من أهل الخلاف وتارك التقية لأن تاركها أيضا في باطل والله أعلم.

(لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل) دليل لقوله لا ينبغي وبيان لشرافة منزل أهل الحق وخساسة منزل أهل الباطل عنده تعالى لأن منزل أهل الحق جنات النعيم أعدها لعباده المؤمنين الذين تمسكوا في الدين بالأئمة الطاهرين ومنزل أهل الباطل نار ذات عقارب وأغلال وذات سلاسل وأنكال فلا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا منزلهم.

(لم يعرفوا وجه قول الله عز وجل في كتابه: إذ يقول أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) وهذا وصف أهل الباطل وبيان لضعف عقولهم حيث لم يعرفوا معنى الآية فإن قلت: أكثرهم أهل اللسان فكيف لم يعرفوا معناها؟ قلت:

المراد أنهم لاذهانهم السقيمة وأفكارهم العقيمة أخطأوا في المقصود منها فزعموا أنهم المؤمنون الصالحون المتقون وأن من عداهم ممن رفض طريقتهم هم الفجار المفسدون فقلبوا المقصود لفساد قلبهم ذلك مبلغهم من العلم ولذلك أدرج لفظ الوجه لأن وجه الكلام هو السبيل المقصود منه.

(أكرموا أنفسهم عن أهل الباطل) لعله استيناف ولذلك ترك العاطف كأنهم قالوا إذا أوجب علينا النزول في منزلتنا والفرار من منزلتهم فكيف نصنع إذا كنا معهم فأجاب بما ذكر يعني عظموا

ص:204

أنفسكم وشرفوها عن ظلم أهل الباطل وجورهم بالموافقة في العمل تقية منهم (فلا تجعلوا لله تعالى وله المثل الأعلى) أي الشرف الأعلى من جميع الوجوه والواو للعطف (وإمامكم ودينكم الذي تدينون به) أي تعبدون ربكم وتطيعونه.

(عرضه لأهل الباطل) العرضة بالضم المنصوب تقول جعله عرضة للناس أي نصبة لهم فلا يزالون يقعون فيه ويذكرون عيوبه وفي كنز: «اللغة العرضة در ميان انداخته».

(فتغضبوا الله عليكم) بفعل ما يوجب غضبه وعقوبته (فتهلكوا) على صيغة المجهول من الإهلاك أو المعلوم من الهلاك، وفعله كضرب ومنع وعلم.

(لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته) كما قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (فيغير الله ما بكم من نعمة) متفرع على الترك وقد جرت سنة الله أن لا يغير ما بقوم من النعمة حتى يغيروا ما عليهم من الطاعة كما وقع ذلك في كثير من الأمم الماضية.

(أحبوا في الله من وصف صفتكم) أي في سبيل الله أو بسبب الله، منشأ تلك المحبة هي الاشتراك في دين الحق واتحاد المطلوب والطريق الموصل إليه والرفاقة فيه واتحاد الأصل لأن المؤمنين أخوة بل هم كنفس واحدة وكونها في الله مشروط بأن لا يشوب بشيء من أغراض الدنيا فإنه لا اعتناء بها ولاثبات لها وقس على ذلك البغض في الله.

(وابذلوا مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم) النصيحة إرادة الخير للمنصوح له ويعتبر في حقيقتها الخلوص عن الغش والمراد ببذلها إرشاده إلى الخير وببذل المودة بذل آثارها ولوازمها ومن جملتها دفع المكاره والشر عنه وجلب المنافع والخير له.

(وبغاكم الغوايل) أي الدواهي والمكاره وفي دستور: «اللغة الغائلة بدى».

(هذا أدبنا أدب الله) لأنه بأمره ووحيه وهو شامل للمحاسن والمحامد كلها وفي كنز: «اللغة الأدب كار پسنديده» ولكل عضو منه نصيب فأدب العين النظر إلى المصنوعات مثل الإستدلال بها على وجود الصانع وقدرته وحكمته وأدب السمع استماع الآيات وغيرها من الكلام الحق وأدب التكلم التكلم بما ينبغي والسكوت عن غير من الفضول وأدب القلب معرفة الله وما يليق به ومعرفة الرسول والاحكام والأخلاق والاتصاف بها وقس على ذلك.

(فخذوا به وتفهموه واعقلوه) أمر أولا: بالأخذ به وهو تناوله وقبوله بالقلب.

وثانيا: بتفهمه وهو معرفته ومعرفة حسنه وكماله.

وثالثا: بعقله وهو الغور فيه وإدراك حسن عاقبته أو إمساكه وحفظه من عقلت الشيء إذا أمسكته وحفظته وهذه أمور ثلاثة لابد منها في كل مطلوب (ولا تنبذوه وراء ظهوركم) النبذ الرمي ونبذه

ص:205

كناية عن عدم الالتفات إليه دائما.

(ما وافق هداكم أخذتم وما وافق هواكم طرحتموه ولم تأخذوا به) الهدى القرآن والطريق المستقيم أيضا والهوى مشتهيات النفس وأمانيها وهو الهها ومعبودها كما قال عز شأنه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) والإضافة فيهما لامية والخبر بمعنى الأمر على الظاهر وفيه إشارة إجمالية إلى أنه يجب على كل عاقل أن يزن ما ورد عليه بميزان العقل والشرع فما وافق الحق يأخذه وما وافق الباطل يتركه.

(وإياكم والتجبر على الله) حذر عن التجبر على الله لأنه مهلك والمراد به ترك الامتثال بأوامره ونواهيه وآدابه وأحكامه ومواعظه نصايحه أو المراد به التجبر على أولياء الله أو على الناس كلهم.

(واعلموا أن عبدا لم يبتل بالتجبر على الله إلا تجبر على دين الله) وهو ظاهر لأن التجبر بالمعنيين المذكورين يوجب ترك ما اشتمل عليه دين الله وأيضا المتجبر يترك كل كمال وفضيلة حفظا لمرتبته كما هو شأن الجبارين.

(فاستقيموا لله) بالثبوت على ولايته وولاية الرسول والأئمة عليهم السلام والانقياد لأوامرهم ونواهيهم وآدابهم (ولا ترتدوا على أعقابكم) بإنكار شيء من ذلك بعد إذ هديتم.

(فتنقلبوا خاسرين) كما هو حال المخالفين. وذلك هو الخسران المبين.

(أجارنا الله وإياكم من التجبر على الله) هذا دعاء لنفوسهم القدسية ولمن تبعهم إلى يوم الدين، والتجاء إلى الله من التخلص عن هذه الخصلة الذميمة.

(ولا قوة لنا ولكم إلا بالله) أي لا قوة في الطاعة والتحلي بالفضائل والتخلي من الرذائل وترك التجبر إلا بعون الله، وفيه انقطاع عن الغير بل عن نفسه والتجاء إلى الله تعالى وطلب لتوفيقه على الخيرات كلها وإظهار للعجز والمسكنة والافتقار إليه في جميع الأمور.

(وقال: إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل الخلق مؤمنا) المراد بالخلق الإيجاد أو التقدير وبأصل الخلقة الوجود الظلي والعيني وقوله: «مؤمنا» حال عن مفعول خلقه أو تميز عن النسبة فيه واللازم على التقديرين أن يكون خلق العبد مقرونا بإيمانه في علم الله ولا يلزم أن يكون إيمانه من فعله تعالى كما في قولك: ضربت زيدا قائما إذا كان قائما حالا عن زيد وهذا العبد المؤمن إذا ارتكب شرا وإن كان كفرا في بعض الأزمان بإغواء النفس الأمارة والشيطان (لم يمت حتى يكره الله إليه الشر) كره الشر تكريها صيره لديه كريها وذلك لأنه لحسن استعداده ونداء الملك الموكل بقلبه يهتدي إلى الخير وحسنه وحسن عاقبته ويعرف الشر وقبحه وقبح خاتمته فيميل إلى الخير ويحبه ويكره الشر ويبغضه وحينئذ يباعده الله منه بلطفه وتوفيقه وحيلولته بينه وبين الشر مع تأثر قلبه

ص:206

اللطيف من دعاء الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأرواح القديسين.

(ومن كره الله إليه الشر وباعده منه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبرية) المراد بالكبر أن يعتقد العبد أنه أعظم من غيره وليس لأحد حق عليه بالجبرية بسكون الباء مع كسر الجيم وفتحها أن يظهر بأقواله وأفعاله وكلاهما من المهلكات لأنهما من أخص صفاته تعالى ومن ادعاهما فقد جعل لله شريكا.

(فلانت عريكته) أي نفسه وطبيعته، دل التفريع كالتجربة على أن حصول اللينة متوقف على زوال الكبر إذ المتصف به خشن فظ غليظ القلب وهذه الأمور تنافي اللينة فلعدمه مدخل في حصولها ويتبعها كثير من الفضايل.

(وحسن خلقه) وهو إنما يحصل من الإعتدال بين الإفراط والتفريط في القوة العقلية والشهوية والغضبية ويعرف ذلك بمخالطة الناس بالجميل والتودد والصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والمراعاة والمواساة والرفق والحلم والاحتمال لهم والإشفاق عليهم وبالجملة هو تابع لإستقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة.

(وطلق وجهه) بانبساطه وتهلله عند لقاء المؤمنين (وصار عليه وقار الإسلام وسكينته) مر تفسيرهما والفرق بينهما، ويمكن الفرق بينهما بوجه آخر وهو أن الوقار سكون النفس في مقتضى القوة الشهوية، والسكينة سكونها في مقتضى القوة الغضبية ويؤيده أن المحقق الطوسي عد الأول من أنواع العفة الحاصلة بإعتدال القوة الأولى، وعد الثاني من أنواع الشجاعة الحاصلة بإعتدال القوة الثانية.

(وتخشعه) وهو التذلل والتضرع وإنما أضاف الثلاثة إلى الإسلام لأنها من أعظم ما يقتضيه الإسلام ولها فوائد جمة وإن كان الكل كذلك ثم الخضوع، والخشوع والتواضع متقاربة في المعنى ويمكن الفرق بينهما بأن لينة القلب من حيث أنها توجب الخوف والخشية والعمل خشوع، ومن حيث أنها توجب الإنكسار والافتقار خضوع ومن حيث أنها توجب إنحطاط الرتبة عن الغير وتعظيمه تواضع.

(وورع عن محارم الله واجتنب مساخطه) هذا من آثار الحياء والحياء من آثار اللينة لأن اللين ينفعل قلبه سريعا عن إرادة المحارم والمساخط فيكف نفسه عنهما خوفا من اللوم وذلك الانفعال هو الحياء والكف هو الورع (ورزقه الله مودة الناس) المراد بهم الشيعة إذ لا ينبغي المودة لغيرهم.

(ومجاملتهم) في المعاملات والمحاورات والإحسان إليهم وفعل ما هو جميل لهم وهي من لوازم المودة. والرزق كلما ينتفع به فإطلاقه على المودة والمجاملة حقيقة ولهما منافع كثيرة لأن

ص:207

العاقل يعلم أن مودته ومجاملته لهم يستلزم مودتهم ومودة اتباعهم وخدمهم وحواشيهم ومجاملتهم له فيجلب لنفسه من مودة واحد ومجاملته مودة أشخاص كثيرة ومجاملتهم له وميل قلوبهم إليه وأنسهم به ومدافعتهم عنه وبذلك يتم نظامه وصلاح حاله في الدنيا وفي الآخرة (وترك مقاطعة الناس والخصومات) لأنها موجبة لنفارهم عنه وإضرارهم إياه وبعدهم عنه وعداوتهم له وبذلك يفسد نظامه والمراد بالناس كلهم ولذلك أتى باسم الظاهر (ولم يكن منها ولا من أهلها في شيء) أي لم يكن ثابتا في شيء من المقاطعة والخصومات، صغيرها وكبيرها، جليلها، وحقيرها، ولا في شيء من صفة أهلها من التباغض والتحاسد والتشاتم والتفاحش ونحوها.

(وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل أصل الخلق كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقربه منه) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: معناه التخلية بينه وبين شيطانه وإخراج الملك عن قلبه وهذا من باب جزاء العمل في الدنيا كما وقع التصريح به في الأحاديث وفي كلام ابن بابويه (فإذا حبب إليه الشر وقربه منه) بالتخلية وسلب اللطف والتوفيق لسوء استعداده وفساد قلبه (ابتلى بالكبر والجبرية) المندرج فيهما جميع الرذائل النفسانية.

(فقسا قلبه) أي صلب وغلظ واسود بحيث لا يهتدي إلى الخير ولا يقبله (وساء خلقه) لأن المتصف بالكبر والجبرية بترك محاسن الأخلاق كلها مثل السلم والكلام والتواضع والإنصاف والملاينة والمداراة ونحوها ويتصف بأضدادها لزعمه أنها منافية، لمرتبته وموجبة لإنكسار عظمته (وغلظ وجهه) كناية عن عبوسة وتصعره وعدم انبساطه وبشاشته.

(وظهر فحشه) هو ما اشتد قبحه من الذنوب ويندرج فيه الغيبة والبهتان وسائر أكاذيب اللسان (وقل حياؤه) فلا يبالي وقوع شيء من القبايح والظاهرة والباطنة.

(وكشف الله ستره) لعل المراد بالستر هو الحجاب بين الذنوب وبين المقربين فإذا كشفه فضحه عندهم فيبغضونه ويلعنونه والله سبحانه ستار يستر ذنوب العبد إذا لم يتجاوز عن الحد أو المراد به لطف الحق وتوفيقه الحاجز بين العبد والمعصية أو الملك الموكل بقلبه لدلالته على الخيرات فإذا رفعه منه وقع في الشرور والفرق بينه وبين التخلية كالفرق بين اللازم والملزوم لأن كشف الستر مستلزمة للتخلية.

(فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر) «بعد» بالضم والتنوين مبتدأ و «ما» زائدة للمبالغة في التعظيم والظرف خبر، والفعل محتمل والمقصود أن بينهما مباينة في الذات والصفات لأن ذات المؤمن وصفاته نورانية وذات الكافر وصفاته ظلمانية فلا جامع بينهما (سلوا الله العافية) من حال الكافر أو من الذنوب والأسقام أيضا.

ص:208

(صبروا النفس على البلاء في الدنيا) تصبر النفس حملها على الصبر، والبلاء بالفتح الامتحان وشاع استعماله فيما يختبر به مثل التكاليف والأمراض والمصائب والفقر وتحمل الأذى ونحوها ومما يسهل الصبر النظر فيما ورد على الصلحاء من البلاء مما يعجز عن إدراك كميته عقول الأعلام وعن بيان كيفيته بيان الأقلام من تدبر فيه وفي حسن عاقبته وصبرهم عليه تيقن أن ذلك ليس لأجل استحقاقهم واستحقارهم بل لرفع درجتهم وإعلاء منزلتهم تلقاء بالقبول تأسيا بهم (فإن تتابع البلاء فيها والشدة في طاعة الله وولايته وولاية من أمر بولايته خير عاقبة عند الله في الآخرة من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من نهى الله عن ولايته) الشدة بالنصب عطف على التتابع واحتمال نصبها على المعية بعيد كاحتمال جرها عطفا على البلاء والولاية بالفتح النصرة وبالكسر السلطان والإمارة، وزهرة الدنيا زينتها وبهجتها وكثرة خيرها وغضارة عيش الدنيا طيبها ولذتها يقال: إنهم لقى غضارة من العيش أي في خصب وخير، و «في» متعلق بملك الدنيا ومن متعلق بخير والتفضيل باعتبار فرض الفعل وتقديره في المفضل عليه والمقصود أن المشقة في الدنيا مع الطاعة خير من الراحة فيها مع المعصية أما الطاعة فظاهرة وأما المشقة فلأن فيها ثواب وفي الراحة حساب، ولو قال: في طاعة الله لفهم أن المشقة في الدنيا خير من الراحة فيها وليس ذلك بمقصود وإنما المقصود ما ذكر لترغيب أهل الحق في الصبر على المشقة والطاعة وبيان أنهما خير من الراحة والمعصية التي من جملتها ترك الولاية ورفض طاعة الإمام (عليه السلام)، ولما أمر بصبر النفس على البلاء والطاعة وولاية من أمر الله بولايته ورفض ولاية من نهى الله عن ولايته أراد أن يشير على وجه المبالغة إلى تحقيقه وسببه وبيان من اتصف بالولاية الأولى ومن اتصف بالولاية الثانية وبيان شيء من أحوالهما والغاية المترتبة على جميع ذلك.

(فقال: إن الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم الله في كتابه في قوله وجعلناهم أئمة) بتطهير ظاهرهم وباطنهم عن الأرجاس كلها ونصبهم للخلافة والإمامة وهي كالرسالة من قبله تعالى إذ هي متوقفة على قدرة كاملة مانعة من الخطأ مطلقا ولا يعلم تلك القوة إلا هو.

(يهدون بأمرنا) لا بأمر الناس، يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم وقد مر في كتاب الحجة تفسيره بذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو يهدون بسبب أمرنا لهم بالهداية لا يحب الدنيا ورئاسة أهلها أو بسبب أمرنا فيهم وهو اللطف والعصمة المانعة من الزلل أو إلى أمرنا وهو ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله).

(وهم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم) في قوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وفي قوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا.. )الآية.

ص:209

(والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم) بقوله: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) فإن الغرض منه النهي عن اعتقاد ولايتهم وبقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) فإنه وإن ورد لسبب خاص يتناول النهي عن اعتقاد ولاية كل عدو لله.

(هم أئمة الضلالة) يقدمون أمرهم وحكمهم قبل حكم الله ويتخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) فيضلون ويضلون كما مر في كتاب الحجة تفسيره بذلك عنه (عليه السلام).

(الذين قضى الله لهم أن يكون لهم دول في الدنيا) هي مثلثة جمع الدولة بالضم في المال والجاه وبالفتح في الحرب. وقيل هما فيهما سواء (على أولياء الله الأئمة من آل محمد) أي حكم بذلك وأمر به وفي هذا القضاء حكمة لا يعلمها إلا هو ولا يبعد أن يكون فيها إختبارهم وإختبار هذه الأمة بهم كإختبار جميع الأمم بالشيطان ليتميز الخبيث منهم من الطيب وله الحكم وهو المستعان، والظاهر أن الموصول الأول وهو قوله: (والذين نهى الله) مبتدأ والموصول الثاني وهو قوله: (الذين قضى الله) صفة لائمة الضلالة وقوله: (يعملون في دولتهم بمعصية الله ومعصية رسوله (صلى الله عليه وآله)) خبر المبتدأ ويحتمل أن يكون الموصول الثاني بيانا وتفسيرا للموصول الأول وأن يكون خبرا وحينئذ قوله يعملون حال عن ضمير لهم أو استيناف كأنه قيل ما يصنعون في دولتهم فأجاب بما ذكر.

(ليحق عليهم كلمة العذاب) وهي أمر الله به أو الآيات الدالة عليه كما يقال كلمة التوحيد ويراد بها الكلام الدال عليه أي فعل ما فعل وقضى ما قضى لتحق تلك الكلمة عليهم وعلى أتباعهم حقا مطابقة للإيمان أو ليثبت ثبوتا ظاهرا لا يخفى استحقاقهم له عليهم ولا على غيرهم، إذ قد جرت حكمة الله تعالى أن لا يعذب أحدا بسبب علمه بما يوجب استحقاقهم له وحكمة الله تعالى أن لا يعذب له حتى يتحقق المعلوم في الخارج ويطابق علمه به ويظهر استحقاقه للخلق.

(وليتم أن تكونوا مع نبي الله تعالى محمد (صلى الله عليه وآله) والرسل من قبله) صلوات الله عليهم لعل المراد بقوله: «ليتم» ليحق وإنما عدل إليه للتفنن ووجهه يعلم مما ذكر، ويمكن أن يكون فيه إيماء إلى أن علمه تعالى بإستحقاقهم للثواب كاف في الإثابة ولأعمالهم مدخل في تمامها وكمالها ويؤيده ظاهر بعض الآيات والروايات.

(فتدبروا ما قص الله عز وجل عليكم في كتابه الكريم مما ابتلى به أنبياءه عليهم السلام وأتباعهم المؤمنين) يظهر ذلك بالتأمل في أحوال الماضين من المؤمنين كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء كانوا أثقل الخلايق عناء وأجهدهم بلاء وأضيقهم حالا وأقلهم مالا، اتخذهم الفراعنة عبيدا وآذوهم شديدا وساموهم سوء العذاب وراموهم إلى أشد العقاب فلم تبرح الحال

ص:210

بهم في الهلكة وقهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع ولا وسيلة إلى دفاع وقد جرت سنة الله في عباده الصالحين بالاختبار والامتحان والتمحيص وما يلقاها إلا الصابرون الفائزون وهم خير عاقبة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة وهم المؤمنون المفلحون فتأس بهم عند نزول البلاء وقل: مرحبا بشعار الصالحين.

(ثم سلوا الله أن يعطيكم الصبر على البلاء في السراء والضراء) الصبر وإن كان من فعل البعد ولذلك وقع التكليف به لكن التوفيق والقوة المعدة له من فعله تعالى، والضراء الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما (والشدة والرخاء) لعل المراد بالفقرة الأولى ما يتعلق بالبدن مثل الصحة والسلامة والأمراض ونحوها وبالثانية ما يتعلق بالمال كضيق العيش وسعته وفي الرخاء والسراء أيضا ابتلاء لكثرة ما يطلب فيهما وقد ذكرنا توضيح ذلك في أول كتاب الكفر والإيمان.

(مثل الذي أعطاهم) من الصبر والتوفيق له والقوة عليه والعائد إلى الموصول محذوف.

(وإياكم ومماظة أهل الباطل) هي شدة المخاصمة والمنازعة مع طول اللزوم في أمر الدين والدنيا وقد ذكرنا مفاسدها آنفا.

(وعليكم بهدى الصالحين) الهدى بفتح الهاء وفد تكسر وسكون الدال السيرة والطريقة والهيئة وأما ضم الهاء وفتح الدال هنا بمعنى الرشاد فبعيد، ثم ذكر للصالحين ثمانية أوصاف هي أمهات الفضايل وأمر بالاقتداء بهم فيها أولها الوقار وهو أصل للسبعة الباقية لأن الوقار سكون النفس بالله وعدم اضطرابها لشيء مما سواه وهو في الحقيقة يتحقق بالإعتدال في القوة العقلية والشهوية والغضبية فإذا تحقق هذا حصلت سكينة الأعضاء وصفة الحلم الموجب للعفو عن الأنام والصفح عن الانتقام، وصفة التخشع لله ولرسوله ولجميع المؤمنين، وصفة الورع عن المحارم، وصدق اللسان في الأقوال كلها، والوفاء بعهد الله وعهد الناس، والاجتهاد في العمل لله خالصا ثم رغب في الأمور المذكورة بقوله:

(فإنكم إن لم تفعلوا ذلك) المذكور من الصبر على البلاء والاحتراز عن المماظة والاتصاف بسيرة الصالحين.

(لم تنزلوا عند ربكم منزلة الصالحين قبلكم) لأن تلك المنزلة المقررة للصلحاء لا ينزلها من لم يتصف بصفاتهم.

(وأعلموا أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا) لعل المراد بالخير اللطف والتوفيق لاستعداد العبد في قبولهما، أو خلق حب الحق وكراهة الباطل في قلبه - عند الفاضل الأمين الأسترآبادي - أو

ص:211

الأذن في دخول الجنة - عند بعض المفسرين - أو الهداية إليها في الآخرة بسبب إيمانه في الدنيا وهذا مروي عن الرضا (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) أو المراد بالإرادة العلم وصح إطلاقها عليه كما ذكره بعض المحققين وعلى التقادير لا يرد أنه تعالى أراد خير العباد كلهم فلا وجه للتخصيص ببعضهم.

(شرح صدره للإسلام) أي بكشف الحجب المانعة منه حتى يقبله أو يبسطه ويوسعه لقبوله وقبول أحكامه ومعارفه والتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه ولا محالة يصير عالما بها ولذلك قال:

(فإذا أعطاه ذلك) أي شرح الصدر اللازم لإرادة الخير والمستلزم للعلم (نطق لسانه بالحق وعقد قلبه عليه) عقدا ثابتا لا يزول بالشبهات وغيرها والمراد بالحق ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) والإقرار بالولاية وذلك لظهور أن النطق به وعقد القلب عليه فرع العلم فتأمل.

(إذا جمع الله تعالى له ذلك) المذكور وهو إرادة الخير وشرح الصدر والنطق بالحق والعقد عليه والعمل به وإنما نسب الجميع إليه سبحانه مع أن أكثر ذلك فعل العبد باعتبار توفيقه إياه ثم إسلامه دل على أن حق العمل خارج عن حقيقته متمم له موجب لكماله.

(وكان عند الله عز وجل إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقا حقا) مفعول مطلق لفعل مقدر تأكيد للحق المستفاد من مضمون الجملة لرفع احتمال الباطل، والحال يذكر ويؤنث فلذلك ذكره هنا وأنثه فيما يأتي.

(وإذا لم يرد الله تعالى بعبد خيرا) يعرف ذلك بما مر وإنما لم يرد ذلك له لإبطاله الاستعداد الفطري والعقل النظري بسوء أعماله واعراضه عن الإيمان بالله وبمن أمر بطاعته.

(وكله إلى نفسه) أي خلاه مع نفسه جزاء لعمله والنفس أمارة بسوء (فكان صدره ضيقا حرجا) الحرج الضيق أو أشد أفراده فعلى الأول تأكيدا وعلى الثاني تأسيس ومبالغة في عدم قبوله للحق وإنكاره لأهله.

(فإن جرى على لسانه حق) على سبيل الاتفاق أو لغرض من الأغراض (لم يعقد قلبه) لعدم اعتقاده به إذا لم يعقد قلبه عليه.

(لم يعطه الله العمل به) ولم يوفقه له ضرورة أن العمل قد يتوقف على الإعتقاد به (فإذا اجتمع ذلك عليه حتى يموت) دل على قبول توبته إن تاب، وإنما لم ينسب الجمع هنا إلى الله تعالى كما في السابق لأن ذلك من سوء صنيعه وعوج تدبيره (وهو على تلك الحال) باقيا على الباطل (كان عند الله من المنافقين) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (وصار ما جرى على لسانه من

ص:212

الحق الذي لم يعطه الله أن يعقد قلبه عليه) لإنقلاب قلبه عنه.

(ولم يعطه العمل به) بسبب خذلانه وسلب توفيقه عنه ووكوله إلى نفسه وهو معنى الإضلال في قوله تعالى (يضل الله من يشاء).

(حجة عليه يوم القيامة) لتصوره إياه مع عدم اعتقاده به فيلوم نفسه متأسفا بفواته.

(فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام.. اه) أمر بالاتقاء من عقوبة الله وخذلانه والتحرز من صفات المنافقين بالسؤال المذكور للإشعار بأن ذلك لا ينال إلا بتوفيق الله والاستعانة به، واعلم أن فعل العبد وإن كان منه لكن يتوقف حصوله على أسباب ومسببات وشرائط متكثرة لو انتفت واحدة منها أو انتقصت لم يتحقق الفعل أو انتقص، وأكثرها من الله تعالى وبعضها وإن كان من العبد يتوقف على توفيق ولطف واستعانة به كما روى «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها» مثلا كف بصرك عن المحارم يتوقف على العلم بنفعه وضرر ضده والقدرة عليه وإلهام حتى تنتهي إلى الكف وكل ذلك من الله تعالى إلا الأخير وهو الإرادة الجازمة المقارنة للفعل وقد ذكرنا في كتاب التوحيد جملة منها على سبيل الإجمال ولكن لا تجب علينا معرفة تفاصيل ذلك وإنما الواجب علينا عقلا ونقلا وتجربة أن نعرف أنا نحتاج في أفعالنا إلى التوسل بالله تعالى والاستعانة به وطلب التوفيق واللطف منه كما في هذه الرواية وغيرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأخبار العلوية فلذلك كرر (عليه السلام) الأمر بالتوسل به والسؤال عنه والاستعانة منه والله ولي التوفيق.

(وإن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين قبلكم) الانقلاب الرجوع والمنقلب بضم الميم وفتح اللام أما مكان أو زمان أو مصدر أي يجعل مرجعكم أو رجوعكم إلى الله تعالى في جميع الأوقات أو في وقت الاحتضار أو في القيامة مثل مرجع الصالحين أو رجوعهم في الاشتمال على السرور والكرامة والروح والراحة المعرى عن الحسرة والندامة.

(ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا) أشار إلى أن محبة الله تعالى لعبده مسببة عن طاعة الله ومتابعة الأئمة عليهم السلام استشهد لذلك بقوله:

(ألم يسمع قول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله): «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) تطبيقه على المدعى من جهة أن متابعته متابعة النبي (صلى الله عليه وآله) أو سبب لها وهي سبب لمحبة الله تعالى للعبد.

ص:213

صحيفة علي بن الحسين عليهما السلام وكلامه في الزهد

* الأصل:

2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي حمزة قال: ما سمعت بأحد من الناس كان أزهد من علي بن الحسين (عليهما السلام) إلا ما بلغني من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال أبو حمزة: كان الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا تكلم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته، قال أبو حمزة: وقرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين (عليهما السلام) وكتبت ما فيها ثم أتيت علي بن الحسين صلوات الله عليه فعرضت ما فيها عليه فعرفه وصححه وكان ما فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا، واحذروا ما حذركم الله منها وأزهدوا فيما زهدكم الله فيه منها ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان، والله إن لكم مما فيها عليها [ل] - دليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها، إنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمتنبه، إن الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله، فليس يعرف تصرف أيامها وتقلب حالاتها وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله ونهج سبيل الرشد وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد فكرر الفكر واتعظ بالصبر فازدجر، وزهد في عاجل بهجة الدنيا وتجافى عن لذاتها ورغب في دائم نعيم الآخرة وسعى لها سعيها وراقب الموت وشنىء الحياة مع القوم الظالمين، نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة البصر، وأبصر حوادث الفتن وضلال البدع وجور الملوك الظلمة، فلقد لعمري استدبرتم الامور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق فاستعينوا بالله وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع فاطيع.

ص:214

فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله والوقوف بين يديه وتا الله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه وحثه الخوف على العمل بطاعة الله وإن أرباب العلم وأتباعهم: الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه وقد قال الله تعالى:

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) فلا تلتمسوا شيئا مما هذه الدنيا بمعصية الله واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله واغتنموا أيامها واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله فان ذلك أقل للتبعة وأدنى من العذر وأرجا للنجاة، وقدموا أمر الله وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الامور كلها، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت من زهرة الدنيا بين يدي الله وطاعته وطاعة اولي الأمر منكم. واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا وهو موقفكم، ومسائلكم فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسائلة والعرض على رب العالمين، يومئذ لا تكلم نفس إلا باذنه. واعملوا أن الله لا يصدق يومئذ كاذبا ولا يكذب صادقا ولا يرد عذر مستحق ولا يعذر غير معذور، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل فاتقوا الله عباد الله واستقبلوا في إصلاح أنفسكم وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها، لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله وضيع من حقوق الله، واستغفروا الله وتوبوا إليه فانه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة ويعلم ما تفعلون. وإياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنه من خالف أولياء الله ودان بغير دين الله واستبد بأمره دون أمر ولي الله كان في نار تلتهب، تأكل أبدانا قد غابت عنها أرواحها وغلبت عليها شقوتها، فهم موتى لا يجدون حر النار ولو كانوا أحياء لوجدوا مضض حر النار، واعتبروا يا أولى الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته وسيرى الله عملكم ورسوله ثم إليه تحشرون، فانتفعوا بالعظة وتأدبوا بآداب الصالحين.

* الشرح:

(صحيفة علي بن الحسين عليهما السلام وكلامه في الزهد) الزهد ترك الدنيا وصرف الإرادة عنها والفرار عن متاعها ومناهيها وقيل: الزهد ثلاثة أحرف:

فالزاء ترك الزينة والهاء ترك الهوى والدال ترك الدنيا، وقيل: هو صرف الهمة إلى الله تعالى ورفض حلال الدنيا فضلا عن حرامها، وقال علي بن الحسين عليهما السلام: إن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).

ص:215

(كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين) في النهاية: كفاه الله الأمر إذا قام مقامه فيه والفرق بين الثلاثة أن الظالم الخارج عن الدين مكره وخدعته لقصد إخراج الغير منه تابع لفساد قوته العقلية، والحاسد بغيه وعداوته في زوال نعمة الغير على الأنحاء الممكنة وإرادتها لنفسه تابع لفساد قوته الشهوية، والجبار تسلطه وبطشه تابع لفساد قوته الغضبية والكل خارج عن حد العدل داخل في رذيلة الإفراط.

(أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا المائلون إليها المفتتنون بها المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غدا) الطاغوت: الطاغي المتمرد عن أمر الله وكل ما عبد من دون الله ويأتي للواحد والجمع والمراد به هنا الراغب المنهمك في الدنيا وجمع أسبابها كسلطان الجور ومن دونه على تفاوت درجاتهم فلا يضلنكم ولا تمدن عينيك إلى ما هم فيه من كثرة النعم والتسلط على الغير فإنها حجب حائلة بين العبد والرب لو كانت مباحة فكيف إذا كانت محرمة، والحطام بالضم: «خرد وشكسته وريزه چيزى» والهامد: البالي المسود المتغير، واليابس من النبات والهشيم: «كياه ريزنده خشك درهم شكسته وضعيف»، والهاشم: الكاسر والبائد الزائل الهالك، و «غدا» ظرف له أو للهامد أيضا وهو كناية عن وقت الموت أو قبله في أقرب الأوقات أو بعده يوم القيامة أو الجميع والمراد بالحطام والهشيم متاع الدنيا سماه بهما ووصفه بما ذكر تحقيرا له وتنفيرا عنه على سبيل الاستعارة ووجه المشابهة أن معناهما وهو النبات اليابس كما أنه لا نفع له بالنسبة إلى ما تبقى خضرته ونضرته ويكون ذا ثمرة كذلك متاع الدنيا بالنسبة إلى الأعمال الصالحة النافعة الباقية في الآخرة على أن في الهشيم لو كان بمعنى الهاشم إشارة إلى معنى آخر وهو أنه يكسر عقله في الدنيا وقدره في الآخرة كما أن في وصفه بالبائد إشارة إلى انقطاعه وزواله سريعا فلا ينبغي أن يتوجه العاقل إلى الكاسر له والزائل عنه وقد ذكر للطواغيت وأتباعهم أوصاف أربعة مترتبة:

الأول: الرغبة في الدنيا وهي بمنزلة إرادتها بعد تصور منافعها الزائلة، والثاني: الميل إليها وهي بمنزلة العزم لها.

والثالث: الافتتان بها أي إصابة فتنتها وقبول ضلالها حتى يذهب العقل الداعي إلى الخيرات الأخروية ويحصل القوة الداعية إلى الدنيا وجمع زخارفها.

والرابع: الإقبال عليها وصرف العمر في تحصيلها وضبطها.

(وأحذروا ما حذركم الله منها) ضمير الموصول محذوف وضمير التأنيث راجع إلى الدنيا ورجوعه إلى الموصول باعتبار إرادة الدنيا والمعصية منه لا يناسب قوله: (وأزهدوا فيما زهدكم الله فيه منها) كما لا يخفى وآيات التحذير والتزهيد أكثر من أن تحصى.

ص:216

(ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) الركون الميل والسكون وفعله من باب علم ونصر ومنع والمراد أن الدنيا مذمومة من هذه الجهة وهي الرضا بذاتها واتخاذها وطنا ودار إقامة كما يتخذها كذلك أبناء الدنيا وإلا فهي ممدوحة من حيث أنها محل للعبادة واتخاذ زاد الآخرة وما فيها سبب للقوة عليهما وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:

«ولنعم دار من لم يرض بها دارا ومحل من لم يوطنها محلا».

(والله أن لكم مما فيها عليها لدليلا وتنبيها من تصريف أيامها وتغير انقلابها ومثلاتها وتلاعبها بأهلها) لعل المراد من تصريف أيامها ذهاب قوم ومجئ آخرين، لا في الذاهبين رجوع إلى الدنيا ولا في الآخرين سكون فيها ويتغير انقلابها تغير الأمن والصحة والرخاء والسراء ونحوها إلى الخوف والسقم والشدة والضراء وبالعكس، وبمثلاتها صورها وأشكالها وشدائدها وهي جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء بمعنى العقوبة والشدائد ويتلاعبها بأهلها عرض زينتها وأسبابها عليهم فإذا ركنوا إليها أدبرت عنهم كما أدبرت عن الماضين أو البأس أسبابها الخسيسة بالصور الحسنة وتزيينها عند أهلها وهذا العمل شبيه بالملاعبة وفي الصيغة الدالة على وقوع الفعل من الطرفين دلالة على وقوعه منها على وجه الكمال وهذا العمل كما يسمى ملاعبة كذلك يسمى خدعة وغرارا على سبيل المكنية والتخييلية وفيه ترغيب لتنبيه اللبيب في الإتعاظ من تصاريفها وتقلبها على أهلها وتغيراتها وعدم ثباتها على وجه واحد كما تشهد عليه الديار الخاوية والمنازل الخالية فإن المنتبه إذا عرف هذه الأمور اتعظ بها وعبر منها ولا يركن إليها.

(أنها لترفع الخميل وتضع الشريف وتورد أقواما إلى النار غدا) بإعطاء لذاتها الموجبة للدخول فيها ونسبة أمثال هذه الأفعال إلى الدنيا باعتبار أنها سبب متأدي لها والمراد بالخميل من خفي ذكره وصوته والساقط الذي لا نباهة له، وهذه الفقرة يحتمل أن يكون بيانا لما قبلها فإن مضمونها شبه الملاعبة.

(وفي هذا معتبر ومختبر وزاجر) أي ما ذكر من تصريف أيام الدنيا إلى آخره اعتبار وإختبار أو محل لهما، زاجر عن الميل إليها لمنتبه عاقل. وخصصه بالذكر لكونه المقصود بالخطاب وكل ذلك ظاهر لأن الدنيا ماضية بأهلها على طريقة واحدة وحالها مع القرون الباقية كحالها مع القرون الماضية والمنتبه إذا نظر إلى آفات الدنيا وتغيراتها والعقوبات النازلة فيها على اتخذها دار إقامة وشاهد أن كل ذلك أمور باطلة وأظلال زائلة ظهر في قلبه نور يمنعه عن التقحم فيها والركون إليها.

(أن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن) الظاهر أن من بيانية للأمور مع احتمال أن يكون ابتدائية لبيان منشأها والإضافة من باب جرد قطيفة، وفي بعض النسخ «من

ص:217

ملمات الفتن» والملمة: النازلة من نوازل الدهر والمراد بالفتنة: فتنة الخلفاء وبني أمية وأضرابهم وأتباعهم الجارية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا وكونها فتنة ومحنة ظاهر لشدتها على الإيمان وأهله وكثرة بلوى أهل الدين فيها بالقتل والأذى ونحوهما ويكفي في عظمتها هتكهم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقتلهم الحسين (عليه السلام) وذريته وأصحابه وشيعته وسب أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمانين سنة وما أحدثوا من البلاء على شيعتهم إلى غير ذلك من منكراتهم المعروفة الجارية إلى آخر الدهر وإنما وصفها بالظلمة لأن الواقع فيها لا يجد إلى الناصر سبيلا وإلى سبيل الخلاص دليل كالساير في الظلمة وحمل الفتنة على الأعم محتمل.

(وحوادث البدع) البدعة كل ما أحدث في الدين مما لم يكن في عهد سيد المرسلين وصفها بالحدوث للكشف والإيضاح وقد أحدث العادلون عنه أحكاما غير محصورة خارجة من قانون الشرع وقع به الهرج والمرج وأنواع الشرور على أهل الإيمان (وسنن الجور) هو الظلم والضلال عن طريق الحق والسنة إذا أطلقت يراد بها ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا أضيفت يراد بها معنى تقتضيه الإضافة فالمراد بها هنا طريقة الجاير وسيرته الخبيثة كغصب الفيء والأموال وقتل النفوس والإضلال وغير ذلك من أنواع الظلم والعدوان وأنحاء البغي والطغيان. (وبوائق الزمان) أي غوائله وشروره واحدها بايقة وهي الداهية وكل ما يصعب على النفس تحمله (وهيبة السلطان) هاب الشيء يهابه إذا أخافه والهيبة المخافة وإضافتها إضافة المصدر إلى المفعول.

(ووسوسة الشيطان) لمن وجده أهلا لها ومستعدا لقبولها ليرده عن طريق الحق بالارتداد كما رد بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كثيرا من الصحابة والتابعين والشيعة ولم يبق منهم على دين الحق إلا أعناق الإسلام وأعراق الإيمان.

(لتثبط القلوب عن تنبهها) أي تشغلها وتعوقها لكمال حيرتها ودهشتها عن فطنتها ويقظتها أو عن إدراكها وجه فسادها وكيفية التخلص منها وهذا في اللفظ خبر وفي المعنى زجر عن تثبط القلوب بأمثال هذه الموانع عن الحق ومعرفة أهله بالتفكر في أن هذه الأمور خارجة من القوانين العدلية وزمانها قليل منصرم وعقوبة مخالفة الحق وأهله شديدة دائمية.

(وتذهلها عن موجود الهدى) أي تنسيها عن الهدى الموجود بينهم وهو الإمام المنصوب من قبل الله تعالى أو دينه الحق والقرآن الكريم وعرفة أهل الحق وهم الأوصياء وأتباعهم ولعل الذهول المفهوم من الإذهال كناية عن الترك والخروج من الحق إلى الباطل (إلا قليلا ممن عصم الله) وهم الذين آمنوا بالله وبرسوله وبالأئمة عليهم السلام في الميثاق وقد مر في كتاب الحجة أن من آمن بهم في الدنيا ولم يؤمن بهم في العهد الأول كان إيمانه غير مستقر ويخرج من الدنيا بغير إيمان.

ص:218

(وعاقبة ضرر فتنتها) ضررها الخروج من الدين وعاقبته الدخول في النار والإضافة بيانية (نهج سبيل الرشد) أي سلكه والرشد الهداية والاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه (وسلك طريق القصد) وهو طريق العدل وضد الإفراط كالإقتصاد. (بالزهد) في فضول الدنيا وزوائدها وإن كانت حلالا (فكرر الفكر في أحوالها) وانتقل إلى مآلها وتكراره يوجب ملكة الاعتبار وقوة الإزدجار.

(واتعظ بالصبر فازدجر) الإتعاظ: قبول الوعظ من الواعظ الأمين والإزدجار: منع النفس من الميل إلى الدنيا أي اتعظ من أحوال الماضين أو من أحوال الدنيا مع أهلها متلبسا بالصبر على مكارهها ونوازلها فازدجر من الركون إليها والوقوف عليها وجعل الباء صلة للإتعاظ بعيد.

(وزهد في عاجل بهجة الدنيا) بهجة الدنيا نعيمها وحسنها وزينتها وإضافة العاجل إليها اما بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف.

(وتجافى عن لذتها) التجافي من الجفاء وهو البعد عن الشيء (ورغب في دائم نعيم الآخرة) الذي لا ينقطع طول الزمان.

(وسعى لها سعيها) في ذكر المصدر وإضافته إلى الآخرة مبالغة وترغيب في السعي والاجتهاد لها والإتيان بأسبابها ومنافعها على قدر الإمكان.

(وراقب الموت) مراقبة الموت وإنتظاره يزعج النفوس إلى الاستعداد لأمور الآخرة وقطع طريق الجنة وسلوك سبيلها ومما يعين على مراقبته أن يتصور أيام عمره فراسخ وساعاته أميالا وأنفاسه خطوات فكم من شخص بقيت له فراسخ وآخر بقيت له أميال وآخر بقيت له خطوات ولما لم يكن له علم ببقاء شيء من ذلك فليجوز وجود الموت في الآن الموجود هو فيه وليتعوذ بالله من وروده على غير عدة.

(وشنيء الحياة مع القوم الظالمين) شنأه كمنعه وسمعه شنئا أبغضه وذلك لعلمه بأن في الميل إليهم فساد الدين وفي الرغبة عنهم هلاك النفس مع كراهته مشاهدة معصية الرب.

(نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة) ظاهرة وباطنة وهذا كالتأكيد للسابق ولذا ترك العاطف (حديدة النظر) يبلغ نظره إلى أقصى ما فيها من المفاسد والمقابح.

(وأبصر حوادث الفتن) المذكورة وغيرها مما في الاعصار السابقة والحاضرة (وضلال البدع) الحادثة في الدين من ابتدع المضلين.

(وجور الملوك الظلمة) بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من سيرتهم الخبيثة وسنتهم السيئة.

(فقد لعمري استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة) أي فقد استدبرتم، حذف الفعل لوجود المفسر وقد لتقريب الماضي إلى الحال لإحضار مضمونه عند

ص:219

المخاطب وهو أدخل في التحريص على التفكر فيه واللام للابتداء والخبر محذوف وجوبا لقيام جواب القسم مقامه أي لواهب عمري على حذف المضاف أو المراد به صورة القسم تأكيدا لمضمون الكلام وترويجه وليس المراد به القسم حقيقة فلا يرد أنه لا يقسم بغير الله والعمر بالضم والفتح وفي القسم بالفتح فقط البقاء والزمان المقدر له، والركم بالسكون جمع شيء فوق آخر حتى يصير ركاما مركوما كركام الرمل وارتكم الشيء وتراكم اجتمع.

(والانهماك فيما تستدلون به) عطف على الفتن أو على الأمور احتمال بعيد واللام عوض عن الإضافة أي انهماكهم ولجاجهم وتماديهم فيما يستدلون به من غيهم وبدعهم وبغيهم وفسادهم في الأرض وما ورد عليهم بسبب ذلك من الإستيصال والنكال والعقوبات الدنيوية فإنكم إذا تأملتم في قوم نوح وعاد وشداد وثمود وفي قوم لوط وفرعون وقارون وهود إلى غير ذلك مما اشتمل عليه القرآن الكريم والخبر وذكره أرباب الأثر والسير يمكنكم الإستدلال به (على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض) بغير الحق فإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وازدجار لأهل الاعتبار. (فاستعينوا بالله) على التجنب منهم ومن صفاتهم، أو على دفع الشدائد كلها فإن الانقطاع إلى الله وإلى معونته مادة كل مطلوب ووسيلة كل مرغوب والسعيد من استعان به في جلب الفوائد ورفع الشدائد (وارجعوا إلى طاعة الله وطاعة من هو أولى بالطاعة) وهم النبي والأوصياء عليهم السلام.

(ممن اتبع فاطيع) كالخلفاء وأضرابهم في الجور والتفريع يدل على أن الاتباع غير الإطاعة وهو كذلك لأن الأول اعتقاد أنه حق والثاني اقتفاؤه في أقواله وأفعاله وسيرته المبتدعة والمراد بالاتباع اتباع الأولين وبالإطاعة إطاعة الآخرين كالأغنام يعد وبعضهم عقب بعض (فالحذر الحذر) أي ألزمو الحذر والاحتراز من موافقة الغواة وأهل البدع والبغي والفساد أو من مخالفة الله ومخالفة من وجبت طاعته أو من جميع القبايح أو من الجميع والتكرير للتأكيد (من قبل الندامة والحسرة) حيث لا تنفعان وهو وقت الموت وما بعده والفرق بينهما أن الندامة على فعل ما لا ينبغي والحسرة على ترك ما ينبغي.

(والقدوم على الله والوقوف بين يديه) للحساب والجزاء والعطف للتفسير ويمكن أن يكون القدوم في البرزخ الوقوف في الحشر.

(وتالله ما صدر قوم عن معصية الله إلا إلى عذابه) أي ما رجعوا عن معصية لله تعالى وما فرغوا منها إلا إلى عذابه، فيدل مقارنة العذاب للمعصية من غير مفارقة بينهما ولا مهلة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين.

ص:220

(وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم وساء مصيرهم) إيثارهم إما بطلب الزائد عن قدر الحاجة أو بطلبه من شبهة أو من غير حل أو بمنع الحقوق خوفا من النقص أو بطلبها المفضى إلى التقصير في العمل للآخرة أو إلى تركه رأسا أو إلى إنكاره وإنكار أهله سيما الإمام الهادي، وسوء المنقلب متفاوت وكل لاحق أسوء منقلبا من السابق.

(وما العلم بالله والعمل إلا الفان مؤتلفان) وفي المصباح: ألفته من باب علم آنسته وأحببته واسم الفاعل أليف مثل عليم وآلف مثل عالم، وفي القاموس: الألف بالكسر والألف ككتف الأليف وعلى هذا يجوز في الفان مد الألف وكسرها وفتحها مع كسر اللام، وفي وصفهما بالإيتلاف مبالغة في وجود الألفة بينهما حتى لا يرضى أحدهما وجوده بدون الآخر كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه».

(فمن عرف الله خافه) لظهور أن من عرف عظمته وكبرياءه وغناه عن الخلق وغضبه وقهره وكمال قدرته عليهم وعلى تعذيبهم واهلاكهم من غير أن يسأله سائل أو يمنعه مانع أو يعود إليه ضرر وعرف كمال إحتياجهم إليه في الوجود والبقاء في جميع الحالات حصلت له حالة نفسانية موجبة لاضطرابه تحت الهيبة وهذه الحالة تسمى خوفا ولها مراتب غير محصورة بحسب تفاوت مراتب المعرفة.

(وحثه الخوف على العمل بطاعة الله) لأن الخوف يحرك الخائف إلى ما يوجب القرب والاستعداد لفيضه ورفض ما يورث البعد عنه والاستحقاق لفيضه فيعمل بطاعته ويطهر ظاهره وباطنه عن الرذايل الموجبة للعقوبة والخذلان وبزينهما بالفضايل الموجبة للأمن والأمان (وأن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله وعملوا له ورغبوا إليه) الموصول خبر ان والمراد بأرباب العلم الأئمة عليهم السلام أو علماء الشيعة أيضا وبأتباعهم الشيعة وأما غيرهم فلم يعرفوا الله ولم يعملوا له لأن أصولهم فاسدة وطاعتهم باطلة.

(وقد قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء)) هم العلماء الربانيون الذين لهم معرفة بالله وبدينه على وجه يمنعهم من الركون إلى الدنيا وشهواتها ويزجرهم عن متابعة النفس ومشتهياتها ويبعثهم على عمل الآخرة وهم الموصوفون بالخشية وغيرها من الكمالات، ثم الخوف والخشية في اللغة بمعنى واحد فتم الاستشهاد بالآية إلا أن بينهما في عرف العارفين فرقا كما أشار إليه المحقق الطوسي في أوصاف الأشراف وهو أن الخوف ألم النفس من المكروه والمنتظر والعقاب المتوقع بسبب احتمال فعل المنهيات وترك الطاعات، والخشية: حالة نفسانية تنشأ من الشعور بعظمة الرب وهيبته وخوف الحجاب عنه بسبب الوقوف على النقصان والتقصير

ص:221

في أداء حقوق العبودية ورعاية الأدب فهي خوف خاص وإليه يرشد قوله تعالى: (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب).

(فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله) نهى عن اكتساب المعصية مطلقا ومنها الدنيا المانعة من الطاعة أو المفيضة إلى ترك الطهارة كبعض الأسفار للتجارة (واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله) في أوقاتها بشرايطها.

(واغتنموا أيامها) إذ لا يمكن التدارك بعد الفراغ من الدنيا وضمير التأنيث لها وللطاعة (واسعوا لما فيه نجاتكم غدا) من عذاب الله من المفروضات والمندوبات.

(فإن ذلك أقل للتبعة وأدنى من العذر) أي أقرب منه والتبعة بفتح التاء وكسر الباء على أحد من حق الغير سمي بها لأن صاحبه يتبعه ويطلبه ويطلب منه، وفيه تنبيه على أن العبد وإن اجتهد في الطاعة هو بعد في مقام التقصير إلا أن عذره لقلة تبعته قريب من القبول. (وأرجى للنجاة من العقوبة) وفيه إشعار بأن العامل المطيع لا ينبغي له الجزم بنجاته والاعتماد بعمله وإنما له رجاء النجاة كما دلت عليه الآيات والروايات والله سبحانه لا يخيب رجاءه إن شاء الله.

(وقدموا أمر الله.. اه) أمر بتقديم أمر الله تعالى وطاعة الإمام المنصوب من قبله على جميع الأمور الدنيوية وإن كانت مباحة ولا يتحقق ذلك إلا بمراقبة العبد جميع حركاته وسكناته (ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت.. اه) من الأولى بيان للأمور أو ابتدائية لها وكذا الثانية يعطفها على الأولى من غير عاطف وتركها شايع ويحتمل أن يكون الثانية بيانا لطاعة الطواغيت أو ابتدائية لها والمراد بزهرة الدنيا متاعها سمي بها لحسنه وزينته ونضارته وكثرة خيره عند أهله وقد نهى (عليه السلام) عن تقديم طاعة الطواغيت من الجن والإنس وتقديم زهرات الدنيا ومتاعها على أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر كما هو شأن أكثر الناس ذلك يوجب الدخول في النار وغضب الجبار كما نطق به الآيات والروايات.

(واعلموا أنكم عبيد الله ونحن معكم) أي بين أظهركم إن أريد به المعية في الوجود أو عالمون بأحوالكم وأعمالكم وقد مر في الأصول أنهم عليهم السلام يعلمونها وفيه على الأول إشارة إلى أنه ينبغي تصحيح جميع الأعمال والأخلاق.

(يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا) أي يحكم علينا من جهة الهداية والإرشاد وعليكم من جهة الطاعة والانقياد سيد متول لأمور الخلائق، حاكم عليهم غدا صبح يوم القيامة لا يرد أحد حكمه.

(وهو موقفكم ومسائلكم) عن دينكم وإمامكم وعقائدكم وأعمالكم ومكسب أموالكم ومصرفها لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يسألها.

(فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسائلة والعرض على رب العالمين) أي فأعدوا الجواب

ص:222

النافع لكم وحاسبوا أنفسكم قبل الوقوف بين يدي الله عز وجل وقبل المسائلة والعرض عليه ولعل الغرض من الأمر بإعداد الجواب هو الحث على الإتيان بما فيه رضاه وفي ذكر الرب ترغيب فيه لأن من أخرجكم من العدم إلى الوجود ورباكم من حد النقص إلى الكمال استحق منكم الإتيان بمراضيه والاجتناب من مناهيه.

(يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه) هذه الكلمة الشريفة محركة إلى الخيرات كلها فإن كل أحد يتشبث يوم القيامة بأمر ينجيه من العذاب مثل الشفاعة والطاعة والإحسان إلى الخلق وغيرها مما فيه رضاه تعالى وكلفه به فإنه كان صادقا يؤذن له ويصدق وإلا فلا كما أشار إليه بقوله (واعلموا أن الله لا يصدق يومئذ كاذبا) فإن الكذب غير مصدق خصوصا في ذلك اليوم الذي لا رواج للكذب فيه وهو يوم بروز الكامنات وظهور الفاضحات ولا يكذب صادقا فيما توسل به كيف وهو يوم ينفع الصادقين صدقهم ولا يرد عذر مستحق لقبوله كمن ترك الصلاة قائما وصلاها جالسا أو موميا أو مع النجاسة لعدم القدرة أو تبرء من الإمام ظاهرا أو لم يظهر الإيمان للتقية وأمثال ذلك مما له عذر.

(ولا يعذر غير معذور) عذرته فيما صنع عذرا من باب ضرب رفعت منه اللوم فهو معذور أي غير ملوم والاسم العذر أي يلوم ويعاقب من ليس له عذر في ترك ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله وطاعة ولي الأمر بعدها إذ ليس له حجة وعذر على الله بعد البيان وإنما الحجة لله عليه كما أشار إليه بقوله: (له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل) فمن أعرض عنهم ورجع إلى الطاغوت واتبع هواه في زهرات الدنيا وأصول الدين وفروعه محجوج معاقب يوم التناد وملوم معاقب على رؤوس الأشهاد ولما كانت التقوى أعظم ما ينتفع به العبد في الدنيا والآخرة حث عليها بقوله: (فاتقوا الله عباد الله بلزوم خوفه) في مراعاة حقوقه وحقوق خلقه، والتقوى: ملكة واقية للعبد عما يورث الندامة يوم القيامة وموصلة له إلى أرفع المقام وأشرف الكرامة كما قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

(واستقبلوا في إصلاح أنفسكم) فيما بينكم وبين الخالق والمخلوق وحقيقته تهذيب النفس عن الرذائل وتزيينها بالفضائل، وتعدية الاستقبال في باعتبار تضمينه بمعنى السعي أو الشروع أو هي بمعنى على كما في قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل).

(وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها) أول الطاعة معرفتهم والتصديق بما يليق بهم ثم الانقياد والتسليم لهم في الأوامر والنواهي ثم الاستعانة بهم والتوصل إليهم في جميع الأمور.

(لعل نادما قد ندم فيما فرط بالأمس في جنب الله وضيع من حقوق الله) الجنب يطلق على

ص:223

الأمر وعلى معظم الشيء والولاية معظم أمر الله وحقوقه. ولعل كلمة رجاء وطمع وشك وإنما رجا (عليه السلام) وجود نادم من التفريط والتضييع فيما مضى من الحقوق اللازمة لقلة وجوده، وقيل: معناه أنه يمكن أن يندم نادم يوم القيامة على ما فرط وضيع في الدنيا وإمكان ذلك كاف في الحذر فكيف مع تحققه.

(واستغفروا الله وتوبوا إليه) الاستغفار: طلب الغفر وهو الستر من الذنوب خوفا من مخالفة رب العالمين وإكشاف القبايح عند المقربين وهو سبب للعوض في الدنيا بإنزال البركات وفي الآخرة برفع الدرجات كما قال الله تعالى حكاية: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) والتوبة: الندم على الذنب وتركه لقبحه والعزم على عدم العود إليه مع تدارك ما أمكن تداركه من الأعمال الفائتة ورد المظالم إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه (فإنه يقبل التوبة ويعفوا عن السيئة) كما دلت عليه الآيات والروايات وإجماع أهل الإسلام ولعل المراد بقبولها إسقاط العقاب المرتب على الذنب الذي تاب منه تفضلا ورحمة بعباده كما ذهب إليه الأشاعرة والشيخ الطوسي في الإقتصاد والعلامة في بعض كتبه الكلامية وعلى هذا قوله: (ويعفو عن السيئة) التي تاب منها وقال المعتزلة: إن قبول التوبة واجب على الله تعالى حتى لو عاقب بعدها كان ظلما وتوقف المحقق في التجريد ومال الشيخ في الأربعين إلى الأول حيث قال: ومختار الشيخين هو الظاهر ودليل الوجوب مدخول (ويعلم ما تفعلون) فيه وعد بالثواب بفعل الطاعات ووعيد بالعقاب بفعل المنهيات وترغيب في تركها لأن المرايد لها إذا علم أن عليه رقيبا يتركها حياء.

(وإياكم وصحبة العاصين) إلا مع إرادة نصحهم مع توقع التأثير وذلك للفرار من اللعن والعذاب النازل عليهم ولئلا يميل الطبع إلى طبعهم.

(ومعونة الظالمين) في ظلمهم أو فيما يعود إليه أو يوجبه والأحوط ترك معونتهم مطلقا لعموم الآية والرواية (ومجاورة الفاسقين) بالسكنى في دارهم أو في جوارهم أو في بلادهم كما يظهر من بعض الروايات (احذروا فتنتهم) الفتنة الإضلال والفضيحة والمحنة والعذاب والإثم وهذا ناظر إلى الأولين أو إلى الأخير أيضا.

(وتباعدوا من ساحتهم) أي ناحيتهم وفناء ديارهم وهو ناظر إلى الأخير.

(واعلموا أنه من خالف أولياء الله) برد أقوالهم أو أفعالهم أو عقايدهم أو أوامرهم ونواهيهم وآدابهم أو بالشك فيها والأولياء هم السالكون طريق الحق بالمحبة الصادقة والرغبة التامة وهم الأئمة عليهم السلام. (ودان بغير دين الله) أي من أخذ دينا مغايرا لدين الله أو عبد الله وأطاعه بغير دينه الذي جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) (واستبد بأمره دون أمر ولي الله) انفرد بأمره وعمل برأيه متجاوزا

ص:224

عن أمر ولي الله غير متمسك به.

(كان في نار تلتهب) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: كان بالتشديد ليكون من الحروف المشبهة بالفعل والمراد أن حاله هكذا ي الدنيا في نظر أولياء الله، أقول الجزاء حينئذ غير مرتبط بالشرط وتقدير العائد خلاف الظاهر والظاهر أن كان ناقصة وأنه شبه أعماله القبيحة وأخلاقه الذميمة وعقايده الفاسدة بالنار في الإهلاك واستعار لفظ النار لها ورشح بذكر الإلتهاب أو سماها نارا مجازا مرسلا باعتبار أنها تصير نارا في القيامة. قال الشيخ في الأربعين: نقلا عن بعض العارفين مع تصويبه أن الحيات والعقارب والميزان في القيامة بعينها تلك الأعمال والأخلاق والعقائد الباطلة وإن اسم الفاعل في قوله تعالى: (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) للحال وعلى حقيقته لا للاستقبال كما قيل وأن قبايحهم الخلقية والعملية والاعتقادية محيطة بهم في هذه النشأة وهي بعينها جهنم التي ستظهر عليهم في النشأة الأخروية بصورة النار وعقاربها وحياتها، ويحتمل أن يراد بالنار البعد والحرمان والسخط والخذلان على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل من باب تسمية السبب باسم المسبب. (تأكل أبدانا) أي تحرقها أو تحكها أو تفسدها بتشبيه النار بالأكل في الفناء والإفساد وإثبات الأكل لها مكنية وتخييلية.

(قد غابت عنها أرواحها) من باب نسبة الجمع إلى الجمع بالتوزيع والمراد بغيوبها فسادها بالمهلكات (وغلبت عليها شقوتها) الشقوة بالكسر ضد السعادة والشقوة الغالبة هي المخرجة عن الإيمان. (فهم موتى لا يجدون حر النار) كما لم يجده الميت لفقد شرطه وهو الروح والشعور وبالجملة كما أنه لابد في إدراك المعقولات من شعور خاص كذلك لابد في إدراك المحسوسات أيضا من شعور خاص ولم يوجد فيهم لأنهم بمنزلة الموتى مع أن الحكمة مقتضية لعدم وجدانه (ولو كانوا أحياء) كما يكون يوم القيامة (لوجدوا مضض حر النار) كما يجدون فيه والمضض محركة الألم والوجع (فاعتبروا يا أولي الأبصار) خطاب للشيعة وإنما أمرهم بالاعتبار من أحوالهم للفرار من مآلهم. (واحمدوا الله على ما هداكم) دل على أن الهداية موهبة من الله تعالى يلقيها في القلب ويوفق من قبلها.

(واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته) لأن قدرته دائمة أبدية فلا مفر لكم إلى غيره ففروا إلى الله، أو المراد منه سلب القدرة والقوة عن النفس والتمسك بقدرة الله وقوته في جميع الأمور (وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون) فيه وعد ووعيد وترغيب في العمل الصالح وتنفير عن القبايح روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن الرضا عليهم السلام «إن أعمال العباد تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السلام قرأوا قوله تعالى: (اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قالوا: المؤمنون علي بن أبي طالب والأئمة

ص:225

عليهم السلام وفي رواية أخرى «فلا تسوؤا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسروه». (فانتفعوا بالعظة) هي بالكسر المنع من الدخول فيما منعه الله تعالى وحرمه. (وتأدبوا بآداب الصالحين) أدبه فتأدب أي علمه فتعلم أو الأدب كل ما فيه صلاح النفس سمي أدبا لأنه تعالى دعاهم إليه.

* الأصل:

3 - أحمد بن محمد بن أحمد الكوفي وهو العاصمي، عن عبد الواحد بن الصواف، عن محمد ابن إسماعيل الهمداني، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه ويقول: أوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة الطالب الراجي وثقة الهارب اللاجي واستشعروا التقوى شعارا باطنا واذكروا الله ذكرا خالصا تحيوا به أفضل الحياة وتسلكوا به طريق النجاة، انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها فإنها تزيل الثاوي الساكن وتفجع المترف الآمن ولا يرجى منها ما تولى فأدبر ولا يدري ما هو آت منها فينتظر، وصل البلاء منها الرخاء والبقاء منها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، والبقاء فيها إلى الضعف والوهن، فهي كروضة اعتم مرعاها وأعجبت من يراها، عذب شربها، طيب تربها، تمج عروقها الثرى، وتنطف فروعها الندي، حتى إذا بلغ الشعب إبانه واستوى بنانه هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق فأصبحت كما قال الله:

(هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا) انظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم وقلة ما ينفعكم.

* الشرح:

(قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي أصحابه ويقول: أوصيكم بتقوى الله) بالتجنب عن المعاصي والتنزه عما يشغل القلب عنه تعالى وهي أكمل ما ينفع في الدنيا والآخرة ولذلك بعد الوصية بها ذكر لها غايتين للترغيب فيها الأول أنها لعظم ثوابها في الآخرة يتمنى الناظر إليها منزلة صاحبها، الثانية أنها واقية تقي صاحبها عن المكاره والعقوبات الدنيوية والأخروية وإلى الأولى أشار بقوله: (فإنها غبطة الطالب الراجي) الغبطة بالكسر: النعمة والمسرة وحسن الحال من غبطته كضربته وسمعته إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ما يكون له من غير أن يزول عنه فأنت غابط وذاك مغبوط ولعل المقصود أن التقوى غبطة لطالب لقاء الله الراجي له ونعمة عظيمة توجب علو منزلته ورفع درجته إلى حد يتمنى الناظر إليه منزلته وإنما جعلنا الطالب مغبوطا لا غابطا لأن إضافة الغبطة إليه بتقدير اللام المفيدة للاختصاص تقتضي ذلك وأشار إلى الثانية بقوله: (وثقة الهارب اللاجي) الثقة مصدر بمعنى: الأحكام والاعتماد وغير مصدر بمعنى المحكم والمعتمد، والظاهر أن المراد هنا هو الثاني يعني أن التقوى ثقة للهارب من المكاره والعقوبات في الدنيا والآخرة واللاجي إلى

ص:226

الله منها وإلى هاتين الغايتين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله: «فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة وفي غد الطريق إلى الجنة» أراد باليوم مدة الحياة وبالغد القيامة يعني أن التقوى في حال الحياة حرز من المكاره وفي الآخرة حرز من العقوبات والشدائد كما ينطق به قوله تعالى:

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) حيث دل على أن التقوى مناط للخروج من المضائق والمفاسد والوصول إلى المنافع والفوائد ثم أمر بالتزامها بقوله: (واستشعروا التقوى شعارا باطنا) الشعار بالكسر وقد يفتح الثوب الذي تلى الجسد لأنه يلي شعره واستشعره لبسه وشعارا إما حال عن التقوى أو مفعول بتضمين معنى الجعل والإتخاذ وإطلاقه على التقوى على وجه استعارته من الثوب لها والوجه ملازمة الجسد والإحاطة به مع الإشعار بلزوم خفائها وخلوصها عن الرياء والسمعة كخفاء الشعار بالدثار وفي وصفه بالباطن لقصد الإيضاح إيماء إليه ثم أمر بعد الحث على التقوى بما هو عبادة وأصل لجميع العبادات بل هو روح لها بقوله:

(واذكر الله) بالقلب واللسان وعند الطاعة والمعصية (ذكرا خالصا) من الرياء والسمعة فإنكم إن ذكرتموه (تحيوا به أفضل الحياة) في الجنة مع الأبرار أو أراد به حياة القلب بروح الأذكار (تسلكوا به طريق النجاة) من العقوبات وهي طريق الجنة فإن الذكر مع كونه عبادة وسببا لسلوك طريقتها سبب أيضا لكمال غيره من العبادات الباعثة للنجاة (انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها) أمر بترك الدنيا واحتقارها إلا بمقدار الضرورة، علل ذلك بذكر معايبها المنفرة عنها بقوله:

(فإنها تزيل الثاوي الساكن) أي تزيل المقيم الساكن المطمئن إليها عما ركن إليه منها (وتفجع المترف الأمن) الفجع: الإيجاع والإيلام فجعه كمنعه أوجعه كفجعه والترفة بالضم: النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف أترفته النعمة أطعمته والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء والمتنعم لا يمنع من تنعمه الحياء. أي الدنيا تفجع المتنعم بها الذي خدعته بأمانيها بسلب ما ركن إليه وأمن عليه زوال ماله وتغير حاله أو المراد بالأمن الأمن من الموت وما بعده فإن المترف الغافل حال إنهماكه في لذات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه (ولا يرجى منا ما تولى فأدبر) أي أعرض وولى الدبر من شباب وصحة ومال وعمر ونحوها.

(ولا يدري ما هو آت منها فينتظر) إذ لا علم بالمستقبل منها من خير فينتظر وروده ولا من شر فيحترز منه (وصل البلاء منها بالرخاء والبقاء منها إلى فناء) وصل الشيء بالشيء وصلا وصلة بلغة وانتهى إليه وفيه تحريك للغافل بأن لا يرضى بالرخاء المتصل بالفناء.

(فسرورها مشوب بالحزن) أي مختلط مشبك به وفي بعض النسخ مشرب والإشراب: خلط لون بلون آخر كان أحد اللونين سقي اللون الآخر والتشريب مثله مع المبالغة والتكثير، والمراد به

ص:227

هنا مطلق الخلط وهذا ناظر إلى وصل البلاء بالرخاء.

(والبقاء فيها إلى الضعف والوهن) كما قال عز وجل: (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) ولعل العطف للتفسير ويمكن أن يراد بالضعف ضعف القوى والحواس وبالوهن وهن العظم وسائر الأعضاء وهذا ناظر إلى وصل البقاء بالفناء.

(فهي كروضة اعتم مرعاها) اعتم النبت بشد الميم: اكتهل أي أتم طوله وظهر نوره (وأعجت من يراها) بحسن منظرها وكمال زينتها.

(عذب شربها) استعار الشرب بالكسر وهو الماء للذات الدنيا ورشحها بذكر العذب في ميل الطبع إليها (طيب تربها) لما فيه من أنواع الأشجار والأزهار والأثمار وغيرها مما يعجب النفس ويبعث الميل إليها.

(تمج عروقها الثرى وتنطف فروعها الندى) الثرى بفتح الثاء والراء: الندى التراب الندى أو الذي إذا بل لم يصر طينا لازبا ولعل المراد هو الأول والمج الرمي يقال: مج الرجل الماء من فمه من باب نصر إذا رماه. ونطف الماء من باب نصر وضرب إذا قطر قليلا قليلا أو إذا سال والمقصود بيان كثرة مائها بحيث ترميه عروقها وفروعها وإنما قلنا: لعل لأنه لو أريد الثاني لكان له أيضا وجه وهو أي عروقها ترمي التراب عن جنبيها وتنقب فيه لقوتها.

(حتى إذا بلغ العشب أبانه) العشب بالضم: الكلاء ما دام رطبا وأبان الشيء وقت ظهوره وكماله والنون أصلية فيكون فعالا بكسر الفاء وقيل: هي زايدة وهو فعلان من أب الشيء إذا تهيأ للذهاب.

(واستوى بنانه) وتم قوته (هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق) حت الورق بتشديد التاء فركها وقشرها فانحتت وتحاتت أي سقطت والورق محركة من الشجر معروفة والواحدة بهاء وتطلق على جمال الدنيا وبهجتها أيضا، وتفرق من التفريق وعطف على تحت والمراد به تفريق انتظامها وإزالة اجتماعها حتى كان لم تكن كما أشار إليه بقوله: (كما قال الله تعالى (هشيما)) أي مهشوما مكسورا (تذروه الرياح) أي اطارته من مكانه إلى أمكنة متفرقة (وكان الله على كل شيء مقتدرا) في غاية الاقتدار على إيجاده وإفنائه بلا مانع يمنعه ولا دافع يدفعه (انظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم وقلة ما ينفعكم) ختم الكلام بعد ذم الدنيا والركون إليها بالنهي عن الاغترار بكثرة ما يعجبكم منها وعلله بقلة ما ينفعكم منها وقوله: «في كثرة» بدل لقوله: «في الدنيا» أو «في» بمعنى على أو مع والله ولي التوفيق.

ص:228

خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

4 - محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي، عن الحسين بن النضر الفهري، عن أبي عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها فقال: يا جابر ألا أوقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلى يا بن رسول الله.

قال: فلا تختلف إذا اختلفوا يا جابر إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيامه، يا جابر اسمع وع، قلت: إذا شئت، قال: اسمع ودع وبلغ حيث انتهت بك راحلتك إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه فقال: الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده وحجب العقول أن تتخيل ذاته لامتناعها من الشبه والتشاكل بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته ولا يتبعض بتجزئة العدد في كماله، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن ويكون فيها لا على وجه الممازجة، وعلمها لا بأداة، لا يكون العلم إلا بها وليس بينه وبين معلومه علم غيره به كان عالما بمعلومه، إن قيل: كان فعلى تأويل أزلية الوجود وإن قيل: لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم، فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره علوا كبيرا.

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه وأشهد أن لا إله إلا الله حده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط بالشهادة تدخلون الجنة بالصلاة تنالون الرحمة، أكثروا من الصلاة على نبيكم (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.

أيها الناس إنه لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح من التوبة ولا لباس أجمل من العافية ولا وقاية أمنع من السلامة ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقناعة ولا كنز أغنى من القنوع ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة مفتاح التعب والاحتكار مطية النصب والحسد آفة الدين والحرص داع إلى التقحم في الذنوب وهو داع إلى الحرمان والبغي سائق إلى الحين والشره جامع لمساوي العيوب

ص:229

رب طمع خائب وأمل كاذب ورجاء يؤدي إلى الحرمان وتجارة تؤول إلى الخسران، ألا ومن تورط في الامور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفضحات النوائب وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن.

أيها الناس إنه لا كنز أنفع من العلم، ولا عز أرفع من الحلم، ولا حسب أبلغ من الأدب ولا نسب أوضع من الغضب، ولا جمال أزين من العقل، ولا سوأة أسوء من الكذب، ولا حافظ أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.

أيها الناس [إنه] من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته، ومن نسي زلله استعظم زلل غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن حمل ما لا يطيق عجز.

أيها الناس إنه لا مال [هو] أعود من العقل، ولا فقر [هو] أشد من الجهل ولا واعظ [هو] أبلغ من النصح، ولا عقل كالتدبر، ولا عبادة كالتفكر، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا وحشة أشد من العجب، ولا ورع كالكف عن المحارم، ولا حلم كالصبر والصمت.

أيها الناس في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه: شاهد يخبر عن الضمير، حاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع يدرك به الحاجة، وواصف يعرف به الأشياء، وأمير يأمر بالحسن، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز تسكن به الأحزان، وحاضر تجلى به الضغائن، ومونق تلتذ به الأسماع.

أيها الناس إنه لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل وأعلموا أيها الناس إنه من لم يملك لسانه يندم، ومن لا يعلم بجهل، ومن لا يتحلم لا يحلم، ومن لا يرتدع لا يعقل، ومن لا يعقل يهن، ومن يهن لا يوقر، ومن لا يوقر يتوبخ، ومن يكتسب مالا من غير حقه يصرفه في غير أجره، ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم، ومن لم يعط قاعدا منع قائما، ومن يطلب العز بغير حق يذل، ومن يغلب بالجور يغلب، ومن عاند الحق لزمه الوهن، ومن تفقه وقر، ومن تكبر حقر، ومن لا يحسن لا يحمد.

أيها الناس إن المنية قبل الدنية، والتجلد قبل التبلد، والحساب قبل العقاب، والقبر خير من الفقر، وغض البصر خير من كثير من النظر، والدهر يوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فبكليهما تمتحن - وفي نسخة: وكلاهما سيختبر -.

أيها الناس أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها فإن سنح له

ص:230

الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة - وفي نسخة: أخذته الغرة، - وإن جددت له نعمة أخذته العزة، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء - وفي نسخة: جهده البكاء - وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد.

أيها الناس إنه من قل ذل، ومن جاد ساد، ومن كثر ماله رأس، ومن كثر حلمه نبل، ومن أفكر في ذات الله تزندق، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته.

فسد حسب من ليس له أدب، إن أفضل الفعال صيانة العرض بالمال، ليس من جالس الجاهل بذي معقول، من جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال، لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لإقلاله. أيها الناس لو أن الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج واللئيم الملهوج.

أيها الناس إن للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط، وفطنة الفهم للمواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطر، وللقلوب خواطر للهوى، والعقول تزجر وتنهى، وفي التجارب علم مستأنف، والاعتبار يقود إلى الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك ما تكرهه لغيرك، وعليك لأخيك المؤمن مثل الذي لك عليه، لقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبر قبل العمل فإنه يؤمنك من الندم، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول، ومن حصن شهوته فقد صان قدره، ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة، وليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة، ومن عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة، وأشرف الغنى ترك المنى، والصبر جنة من الفاقة، والحرص علامة الفقر، والبخل جلباب المسكنة، والمودة قرابة مستفادة، ووصول معدم خير من جاف مكثر، والموعظة كهف لمن وعاها، ومن أطلق طرفه كثر أسفه، وقد أوجب الدهر شكره على من نال سؤله، وقل ما ينصفك اللسان في نشر قبيح أو إحسان، ومن ضاق خلقه مله أهله، ومن نال استطال، وقل ما تصدقك الأمنية، والتواضع يكسوك المهابة، وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق، كم من عاكف على ذنبه في آخر أيام عمره.

ومن كساه الحياء ثوبه خفي على الناس عيبه، وانح القصد من القول فإن من تحرى القصد خفت عليه المؤن، وفي خلاف النفس رشدك، من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد، ألا وإن من كل جرعة شرقا وإن في كل أكلة غصصا، لا تنال نعمة إلا بزوال اخرى. ولكل ذي رمق قوت ولكل حبة آكل وأنت قوت الموت.

ص:231

اعلموا أيها الناس إنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها، والليل والنهار يتنازعان، وفي نسخة: اخرى يتسارعان - في هدم الأعمار.

يا أيها الناس كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، إن من الكرم لين الكلام، ومن العبادة إظهار اللسان وإفشاء السلام، إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم، ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يؤوب، لا ترغب فيمن زهد فيك، رب بعيد هو أقرب من قريب، سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار، ألا ومن أسرع في المسير أدركه المقيل، استر عورة أخيك لما يعلمها فيك، اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك، من غضب على من لا يقدر على ضره طال حزنه وعذب نفسه، من خاف ربه كف ظلمه - وفي نسخة: من خاف ربه كفي عذابه - ومن لم يزغ في كلامه أظهر فخره، ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة، إن من الفساد إضاعة الزاد، ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غدا، هيهات هيهات وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعيم وما شر بشر بعده الجنة وما خير بخير بعده النار وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية، وعند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر تصفية العمل أشد من العمل، وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد هيهات لولا التقى لكنت أدهى العرب.

أيها الناس: إن الله تعالى وعد نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) الوسيلة ووعده الحق ولن يخلف الله وعده ألا وإن الوسيلة على درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الأمنية لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة، إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة لؤلؤة، إلى مرقاة ياقوتة، إلى مرقاة زمردة، إلى مرقاة مرجانة، إلى مرقاة كافور، إلى مرقاة عنبر، إلى مرقاة يلنجوج، إلى مرقاة ذهب، إلى مرقاة غمام، إلى مرقاة هواء، إلى مرقاة نور قد أنافت على كل الجنان ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يومئذ قاعد عليها، مرتد بريطتين ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله، عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة قد أشرق بنوره الموقف وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته وعلي ريطتان ريطة من ارجوان النور وريطة من كافور، والرسل والأنبياء قد وقفوا على المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا، وقد تجللهم حلل النور والكرامة، لا يرانا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا، وعجب من ضيائنا وجلالتنا، وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (صلى الله عليه وآله) غمامة بسطة البصر يأتي منها النداء: يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي العربي ومن كفر فالنار موعده، وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسول (صلى الله عليه وآله) ظلة منها النداء: يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي، والذي له الملك الأعلى لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقه بالإخلاص لهما والاقتداء بنجومهما، فأيقنوا يا أهل

ص:232

ولاية الله ببياض وجوهكم وشرف مقعدكم وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاء بما كنتم تعملون وما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبرا أمته بالمرسل الوارد من بعده ومبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وموصيا قومه باتباعه ومحليه عند قومه ليعرفوه بصفته وليتبعوه على شريعته ولئلا يضلوا فيه من بعده، فيكون من هلك [أ] وضل بعد وقوع الإعذار والإنذار عن بينة وتعيين حجة.

فكانت الأمم في رجاء من الرسول وورود من الأنبياء ولئن أصيبت بفقد نبي بعد نبي على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل، ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن الله ختم به الإنذار والإعذار وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به ولا قربة إليه إلا بطاعته، وقال في محكم كتابه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته فكان ذلك دليلا على ما فوض إليه وشاهدا له على ما اتبعه وعصاه وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم، فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه والترغيب في تصديقه والقبول لدعوته: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) فاتباعه (صلى الله عليه وآله) محبة الله ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنة وفي التولي عنه والاعراض محادة الله وغضبه وسخطه والبعد منه مسكن النار وذلك قوله: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) يعني الجحود به والعصيان له فان الله تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحاده وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين وشد بي أزر رسوله وأكرمني بنصره وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته فقال (صلى الله عليه وآله) وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل:

أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وامه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وامه ولا كنت نبيا فاقتضى نبوة ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون (عليهما السلام) حيث يقول:

(اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) وقوله (صلى الله عليه وآله) حين تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حجة الوداع ثم صار إلى غدير خم فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه وأخذ بعضدي حتى رئي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي

ص:233

عداوة الله.

وأنزل الله عزوجل في ذلك اليوم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصا لي وتكرما نحلنيه وإعظاما وتفضيلا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) منحنيه وهو قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين)، في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع ولئن تقمصها دوني الأشقيان ونازعاني فيما ليس لهما بحق وركباها ضلالة واعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا. يتلاعنان في دورهما ويتبرأ كل واحد منهما من صاحبه يقول لقرينه إذا التقيا: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، فيجيبه الأشقى على رثوثة: يا ليتني لم أتخذك خليلا، لقد أضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا، فأنا الذكر الذي عنه ظل السبيل الذي عنه مال والإيمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب، ولئن رتعا في الحطام المنصرم والغرور المنقطع وكانا منه على شفا حفرة من النار لهما على شر ورود، في أخيب وفود، وألعن مورود، يتصارخان باللعنة ويتناعقان بالحسرة مالهما من راحة ولا عن عذابهما من مندوحة، إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان، يقيمون لها المناسك وينصبون لها العتائر ويتخذون لها القربان ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ويستقسمون بالأزلام، عامهين عن الله عز ذكره، حائرين عن الرشاد، مهطعين إلى العباد، وقد استخوذ عليهم الشيطان، وغمرتهم سوداء الجاهلية ورضعوها جهالة وانفطموها ضلالة فأخرجنا الله إليهم رحمة وأطلعنا عليهم رأفة وأسفر بنا عن الحجب نورا لمن اقتبسه وفضلا لمن اتبعه وتأييدا لمن صدقه.

فتبوؤا العز بعد الذلة والكثرة بعد القلة وهابتهم القلوب والأبصار وأذغنت لهم الجبابرة وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة وكرامة منشورة وأمن بعد خوف وجمع بعد كوف وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان وأولجانهم باب الهدى وأدخلناهم دار السلام وأشلمناهم ثوب الإيمان وفلجوا بنا في العالمين وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين من حام مجاهد ومصل قانت، ومعتكف زاهد، يظهرون الأمانة ويأتون المثابة حتى إذا دعا الله عزوجل نبيه (صلى الله عليه وآله) ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب وانتكصوا على الأدبار وطلبوا بالأوتار وأظهروا الكتائب وردموا الباب وفلوا الديار وغيروا آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورغبوا عن أحكامه وبعدوا من أنواره واستبدلوا بمستخلفه بديلا اتخذوه وكانوا ظالمين وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممن اختار رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمقامه وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف ألا وإن أول

ص:234

شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضى ولم يستخلف فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام وعن قليل يجدون غب ما يعلمون وسيجدون التالون غب ما أسسه الأولون ولئن كانوا في مندوحة من المهل وشفاء من الأجل وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور وسكون من الحال وإدراك من الأمل فقد أمهل الله عزوجل شداد بن عاد وثمود بن عبود وبلعم بن باعور وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة وأمدهم بالأموال والأعمار وأتتهم الأرض ببركاتها ليذكروا آلاء الله وليعرفوا الإهابة له والإنابة إليه ولينتهوا عن الاستكبار فلما بلغوا المدة واستتموا الأكلة أخذهم الله عزوجل واصطلمهم فمنهم من حصب ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أحرقته الظلة ومنهم من أودته الرجفة ومنهم من أردته الخسفة (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

ألا وإن لكل أجل كتابا فإذا بلغ الكتاب أجله لو كشف لك عما هوى إليه الظالمون وآل إليه الأخسرون لهربت إلى الله عزوجل مما هم عليه مقيمون وإليه صائرون. ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون وكباب حطة بني إسرائيل وكسفينة نوح في قوم نوح إني النبأ العظيم والصديق الأكبر وعن قليل ستعلمون ما توعدون وهل إلا كلعقة الآكل ومذقة الشارب وخفقة الوسنان، ثم تلزمهم المعرات خزيا في الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون فما جزاء من تنكب محجته وأنكر حجته، وخالف هداه، وحاد عن نوره واقتحم في ظلمه واستبدل بالماء السراب وبالنعيم العذاب وبالفوز الشقاء وبالسراء الضراء وبالسعة الضنك، إلا جزاء اقترافه وسوء خلافه فليوقنوا بالوعد على حقيقته وليستيقنوا بما يوعدون، (يوم تأتي الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا) - إلى آخر السورة -.

* الشرح:

قوله (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهي خطبة الوسيلة) لاشتمالها على ذكر الوسيلة ومقامها وكيفيتها ومن عليها.

عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها) أي أحرقني وأوجعني اختلافهم واختيار كل صنف منهم مذهبا حتى صاروا فرقا كثيرة مختلفة في الأصول والفروع.

(فقال: يا جابر ألا أوقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا ومن أي جهة تفرقوا) قيل

ص:235

وقفه عليه قبل ذلك لا في هذه الخطبة. أقول: ذكر (عليه السلام) فيها اختلاف الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ورجوعهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى خلفاء الجور وصار ذلك محلا لاختلاف الشيعة وسببا له إذ لو رجعوا إليه لما ادعى الكاذب الإمامة ولم يطمعها أحد ولما حصل الاختلاف بينهم فاختلاف الصحابة معنى يقتضي اختلاف الشيعة ومحله وسببه.

(قلت بلى يا بن رسول الله. قال فلا تختلف إذا اختلفوا) لكثرتهم أو لشبهتهم وتلبيسهم كما اختلف لذلك كثير من الناس (يا جابر: إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيامه) لأنه مكذب له فيما جاء به والمكذب له جاحد وذكر الصاحب (عليه السلام) على سبيل التمثيل، (يا جابر اسمع وع) أمر بالمحافظة والفهم بعد السماع لأن السماع لا ينفع بدونهما ثم أمر بتبليغه لينشر بين أهله (قلت: إذا شئت) بفتح التاء بمنزلة إن شاء الله لأن مشيئته مشيئة الله تعالى وفي إذا دلالة على وقوع المشيئة المستفاد في الأمر والجزاء محذوف بقرينة المقام أي إذا شئت أسمع أو بضم التاء واذن بالتنوين كما قيل.

(إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الناس بالمدينة) في مسجدها على رؤوس الأشهاد كما سيصرح به (حين فرغ من جمع القرآن وتأليفه) وجاء به للصحابة فلم يقبلوه لاشتماله على ما ينافي مذهبهم صريحا وهو عند الصاحب (عليه السلام).

(فقال: الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده) لأن الأوهام لا تدرك إلا المعاني الجزئية المعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية كالوضع والتحيز والمقدار ونحوها والله سبحانه ليس شيئا من هذه الأمور فلا يمكن للأوهام أن تدركه وتطلع على حقيقته نعم لها أن تنال وجوده لظهوره في صورة وجودها ووجود سائر مدركاتها وعوارض وجوداتها والتغيرات اللاحقة بها من جهة ما هو صانعها وموجدها إذ الوهم عند مشاهدة هذه المدركات المشخصة يحكم بذاته أو بمعونة العقل بوجوده تعالى لحاجتها إلى موجد ومقيم ومغير، ونسبة هذا الحكم إلى الوهم على الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن العقل لما حكم بوجوده بتوسط هذه المعاني الجزئية مع مشاركة الوهم نسب الحكم به إليه وللعقل طريق آخر للحكم بوجوده وهو المفهومات الكلية والمعقولات العارية عن التشخصات فإنه يجعلها عنوانات للحكم بوجوده ومن هنا تسمعهم ينسبون الحكم بوجوده تارة إلى الوهم وتارة إلى العقل وظهر لك الفرق بينهما ولا يخفى عليك أن حمل الأوهام هنا على العقول أو الأعم منهما كما ظن غير معقول أما أولا فلأنه مجاز لا قرينة له لجواز حملها على الحقيقة وأما ثانيا فلأنها في مقابل العقول ولما بين (عليه السلام) أن الأوهام قاصرة عن إدراكه تعالى بذاته وصفاته أشار إلى أن العقول المدركة للكليات قاصرة عن إدراكه أيضا لسد باب من يدعي إدراكه لأن الإدراك لا يخلو من أحد هذين الوجهين فإذا امتنعا امتنع فقال:

ص:236

(وحجب العقول أن تتخيل ذاته) أي تدركها وعبر عنه بالتخيل للتنبيه على أن العقل في عدم قدرته على إدراك ذاته كالخيال إذ الصور العقلية كالصور الخيالية في الحدوث والتجزي والتحليل والتحيز والاتصاف بالعوارض والافتقار إلى محل وعلة، وقدس الحق منزه عن جميع ذلك وإنما غاية عرفان العقل له أن يحكم بوجوده بالعنوانات العقلية ويعرفه بصفاته الإضافية والسلبية ثم علل المنع والحجب بقوله: (لامتناعها من الشبه والتشاكل) في التحليل والتوصيف والتصوير والتحيز والحلول والحاجة والتكيف والتشبه بالخلق وكل ذلك ممتنع في ذاته تعالى وبالجملة إدراك العقل والوهم حقيقة ذاته وصفاته يستلزم تشاكله وتشابهه بالخلق في الأمور المذكورة ونحوها وهي ممتنعة في حقه تعالى بل (هو الذي لا يتفاوت في ذاته) إشارة إلى نفي التركيب عنه مطلقا لأن كل مركب من أجزاء ذهنية أو خارجية له تفاوت في ذاته وذاتياته بالعموم والخصوص والمغايرة المباينة ونحوها أو إلى نفي اتصافه بصفات الخلق وتحقق التشابه بينه وبينهم لأن ذلك يوجب تحقق التفاوت في ذاته وأنه باطل بيان ذلك أن هويته المستفادة من قوله «بل هو» ذاتية مطلقة غير مضافة إلى الغير ومن كان كذلك فهو هو دائما من غير تبدل وتغير في ذاته وهويته فلو طرأ عليه المعاني وصفات الخلق لزم انتقاله من هويته الذاتية إلى هويته الإضافية فلزم التفاوت في ذاته وأنه محال ولما نفى التركيب واتصافه بصفات الخلق أشار إلى نفي اتصافه بصفات كماله كما زعمه طائفة من المبتدعة بقوله:

(ولم يتبعض بتجزية العدد في كماله) أي في صفات كماله أو بسببها لأن كلها عين ذاته وقد مر معنى العينية في كتاب التوحيد والمراد بتجزية العدد تحليله بأجزائه المستلزم للكثرة وإنما نفى التبعض والتجزى للتنبيه على أنه يلزم القائلين لزيادة الصفات أن يكون الواجب مجموع الصفة والموصوف لأن الواجب كامل بالاتفاق والبرهان والكامل هذا المجموع لا كل واحد منها بانفراده بالضرورة والقول بأن المجموع واجب الوجود أقبح وأشنع للزوم التركيب والحدوث والإمكان والافتقار من جهات شتى وإن كان القول بأن الواجب أحدهما دون الآخر أيضا باطلا بالضرورة.

(فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن) لاستحالة أن يكون له مكان ويكون البعد والفراق بينه وبينها مكانيا كما هو بين الأشياء المتباعدة بحسب الأمكنة بل المراد بمفارقته للأشياء مباينة ذاته وصفاته عن مشابهة شيء منها وهذه أمر سلبي اعتبره العقل له تعالى بعد الحكم بوجوده ولما كانت هنا مظنة أن يتوهم القاصرون من عدم كونه في مكان أنه غافل عن المكان وعما فيه كما يفعل عنها الخلق أشار إلى دفعه بقوله:

(ويكون فيها لا على وجه الممازجة) أي المداخلة والحواية كما يقتضيهما الظرفية بل بالعلم والإحاطة بها وبما فيها فقوله: لا على وجه الممازجة، قرينة صارفة للظرفية عن مقتضاها إلى ما

ص:237

ذكرنا ولما كان في وهم القاصر أن علمه تعالى بالمكان والمكانيات كعلمنا بها في الافتقار إلى الحواس والآلات دفعه بقوله:

(وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها) لأن علمه تعالى بالمحسوسات ليس من جهة الحواس والآلات الجسمانية والقوى البدنية كعلمنا بها وذلك لأنه منزه عن الصفات الجسمانية والأدوات البدنية ولاستحالة افتقاره في علمه إلى الغير لأنه من خواص الإمكان وفي قوله «لا يكون العلم إلا بها» إيماء إلى أن نفي كون علمه تعالى بأداة إنما يحتاج إليه في العلم بالمحسوسات لأنه محل الوهم لا مطلقا.

(وليس بينه وبين معلومه علم غيره.. اه) بالتنوين والتوصيف أي ليس بينه وبين معلومه علم مغاير له تعالى بسببه كان عالما بمعلومه بل ذاته تعالى علم بمعلوماته ولو قرىء علم بالإضافة كان معناه ليس بينهما علم مغاير له تعالى بعلم ذلك العالم كان عالما بمعلومه وهو حينئذ رد على من ذهب إلى أنه يعلم الأشياء بصورها الحالة في المبادي العالية والعقول المجردة أو على من ذهب إلى أن إيجاده للخلق ليس من باب الاختراع والاهتداء، توضيحه أنه ليس إنشاؤه للخلق على وجه التعليم من الغير بحيث يشير عليه وجه الصواب حتى يكون أقرب إليه كما أشار إليه جل شأنه بقوله (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) وأشار إليه أمير المؤمنين في بعض خطبه بقوله «مبتدع الخلائق بعلمه بلا اقتداء ولا تعليم».

(إن قيل: كان فعلى تأويل أزلية الوجود) لما فهم من قولنا: فلان كان موجودا، حدوث وجوده في الزمان الماضي لدلالة «كان» عليه، أشار عليه الصلاة والسلام إلى نفي ذلك بأن المراد به أزلية وجوده. والأزل عبارة عن عدم الأولية والابتداء وذلك أمر يلحق واجب الوجود لما هو بحسب الاعتبار العقلي وهو ينافي لحوق الابتداء والأولية لوجوده لاستحالة اجتماع النقيضين (وإن قيل:

لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم) لما فهم من قولنا: لم يزل موجودا كون وجوده في الزمان وعدم زواله عنه، أشار إلى نفي ذلك - إذ لا زمان لوجوده - بأن معناه نفي العدم عنه وأن وجوده ليس مسبوقا.

(فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه واتخذ إلها غيره) أشار إلى أن من لم يعرفه على الوجه المذكور واعتقد أنه تعالى يدرك بالعقل والوهم بكنه ذاته وصفاته ويشابه الخلق بوجه من الوجوه أو يدخل التفاوت والتجزية في ذاته أو يحيط به المكان أو يعلم الأشياء بعلم زائد أو بعلم عالم آخر أو يلحق الزمان بوجوده إلى غير ذلك مما لا ينبغي له فقد اتخذ إلها غيره وعبد من لم يستحق العبودية فهو شرك بالله العظيم.

(نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه وأوجب قبوله على نفسه) حمده بعد الحمد على سبيل الدوام والثبات بما يدل على التجدد والاستمرار في جميع الأوقات للتنبيه على لزوم

ص:238

الاهتمام بحمده ويتجدد إرادته في جميع الآنات لأنه من أعظم الطاعات والقربات فلا ينبغي أن يكون مغفولا عنه في شيء من الساعات وأشار بالوصف الأول له إلى طلب كماله بالإخلاص الشافي النفس عن الرذايل الموجب للرضا والاختصاص وبالوصف الثاني إلى رجاء قبوله الموجب لمزيد الامتنان في الدنيا والرضوان في الآخرة. وهو حجة على من أنكر وجوب شيء عليه.

(وأشهد أن لا إله إلا الله) قالوا: هذه الكلمة أشرف كلمة منطبقة على جميع مراتب التوحيد (وحده لا شريك له) حال بتأويل منفردا وتأكيدا للحصر (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) قدم العبودية لتقدمها في الواقع ولتحقق معنى الترقي ولئلا يكون ذكرها بلا فائدة وإنما لم يقل: نشهد، كما قال نحمد للتنبيه على قلة المشارك في الأول وكثرته في الثاني (وإن من شيء إلا يسبح بحمده).

(شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل) أي كل واحدة من هاتين الشهادتين من صميم القلب وإذعانه وهي ترفع القول إلى درجة القبول كما قال سبحانه: (إليه يصعد الكلم الطيب) وهي التي صدرت من جهة الإذعان وصميم القلب لا بمجرد التقول بها وهذه الشهادة موجبة لتضاعف العمل لأن إخلاصها أصل لقبول الأعمال والعبادات وسبب لتضاعف الحسنات ولو لم تكن لم تقبل الأعمال فضلا عن المضاعفة.

(خف ميزان ترفعان منه وثقل ميزان توضعان فيه) قال الشيخ في الأربعين: ثقل الميزان كناية عن كثرة الحسنات ورجحانها على السيئات وقد اختلف أهل الإسلام في أن وزن الأعمال الوارد في الكتاب والسنة هل هو كناية عن العدل والإنصاف والتسوية أو المراد به الوزن الحقيقي فبعضهم على الأول لأن الأعراض لا يعقل وزنها وجمهورهم على الثاني للوصف بالخفة والثقل في القرآن والحديث.

والموزون صحائف الأعمال أو الاعمال نفسها بعد تجسمها في تلك النشأة، ثم قال: الحق أن الموزون في النشأة الأخرى هو نفس الأعمال لا صحايفها وما يقال من أن تجسم العرض طور خلاف طور العقل فكلام ظاهري عامي والذي عليه الخواص من أهل التحقيق أن سنخ الشيء أي أصله وحقيقته أمر مغاير بصورته التي يتجلى بها على المشاعر الظاهرة ويلبسها لدى المدارك الباطنة وأنه يختلف ظهوره في تلك الصور بحسب اختلاف المواطن والنشآت فيلبس في كل موطن لباسا ويتجلبب في كل نشأة بجلباب كما قالوا: إن لون الماء لون إنائه وأما الأصل الذي يتوارد هذه الصور عليه ويعبرون عنه تارة بالسنخ ومرة بالوجه وأخرى بالروح فلا يعلمه إلا علام الغيوب

ص:239

فلا بعد في كون الشيء في موطن عرضا وفي آخر جوهرا، ألا ترى إلى الشيء المبصر فإنه إنما يظهر لحس البصر إذا كان محفوفا بالجلابيب الجسمانية ملازما لوضع خاص وتوسط بين القرب البعد المفرطين وأمثال ذلك وهو يظهر بالحس المشترك عريا من تلك الأمور التي كانت شرط ظهوره لذلك الحس، ألا ترى إلى ما يظهر في اليقظة من صورة العلم فإنه في تلك النشأة أمر عرضي ثم أنه يظهر في النوم بصورة اللبن فالظاهر في الصورتين سنخ واحد تجلى في كل موطن بصورة وتحلى في كل نشأة بحلية وتزيا في كل عالم بزي ويسمى في كل مقام باسم فقد تجسم في مقام ما كان عرضا في مقام آخر.

(وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط) الحصر إما للمبالغة في توقف الأمور الثلاثة عليهما أو لأن غيرهما من الأعمال الصالحة سبب لرفع الدرجة في الجنة، ثم المراد بهما أن لهما هذه الفضيلة بشروطها ومن شروطها الإقرار بالولاية بل له مدخل في تحقيق حقيقتها عند أهل الحق.

واعلم أن الصراط الموعود به في القرآن والسنة حق يجب الإيمان به وإن اختلف الناس في حقيقته فظاهر الشريعة والذي عليه جمهور المسلمين ومن أثبت المعاد الجسماني يقتضي أنه جسم في غاية الدقة والحدة ممدود على جهنم وهو طريق إلى الجنة يجوزه من أخلص لله ومن عصاه سلك عن جنبيه أحد أبواب جهنم وقيل: هو دين الإسلام والحق أن كلا القولين صادق ويؤيده ما ذكره بعض العلماء من أنه روي عن الحسن العسكري (عليه السلام) «إن الصراط صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير واستقام ولم يعدل إلى شيء من الباطل» وصراط الآخرة هو طريق المؤمنين إلى الجنة لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة والناس في ذلك متفاوتون فمن استقام على هذا الصراط وتعود سلوكه مر على صراط الآخرة مستويا ودخل الجنة أما قوله (عليه السلام): «فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير» ما ذهب إليه بعض الحكماء في تفسير الصراط وقالوا: هو الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة كالسخاوة بين التبذير والبخل والشجاعة بين التهور والجبن والاقتصاد بين الإسراف والتقصير والتواضع بين التكبر والمهانة والعفة بين الجمود والشهوة والعدالة بين الظلم والانضلام فالأوساط بين هذه الأوصاف المتضادة هي الأخلاق المحمودة ولكل واحد منها طرفا تفريط وإفراط هما مذمومان والصراط المستقيم وهو الوسط (وبالصلاة تنالون الرحمة) المراد بالصلاة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وبالرحمة القرب والكرامة، ورفع الدرجة (أكثروا من الصلاة على نبيكم) ذكر أم لم يذكر ومرجع الإكثار العرف واختلف الأمة في وجوبها فقال بعض العامة وجبت في العمر مرة، وقال بعضهم: في كل مجلس، وقال بعضهم: كلما ذكر، منهم

ص:240

الزمخشري وهو منقول عن ابن بابويه من أصحابنا: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) قيل: المراد بالتسليم الانقياد له.

وقيل: السلام عليك أيها النبي وهو المنقول من الزمخشري والقاضي في تفسيرهما ومن الشيخ في تبيانه، واستدل بهذه الآية من قال بجواز استعمال المشترك في معنييه فإن الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وهي مستعملة فيهما وأجاب المانع أولا بأن المراد بالصلاة هنا معنى واحد وهو الاعتناء بإظهار الشرف ولو مجازا وثانيا بتقدير فعل للأول أي: إن الله يصلي، ومثله شايع.

(أيها الناس أنه لا شرف أعلى من الإسلام) يعني متابعة الشريعة والإعراض عن الطبيعة وظاهر أنه لا شرف أعلى من شرف الإسلام إذ هو في الدنيا والعقبى.

(ولا كرم أعز من التقوى) في كنز اللغة: الكرم بزرگوارى والمراد أن التقوى كرم فيها غاية عزة ليست في غيرها والعزة إما العظمة أو القدرة أو الغلبة والتقوى مستلزم لجميع ذلك لأنها تحمى أولياء الله محارمه وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم وتربط الأبدان بالعبادات من الصيام والصلاة ونحوها فصاروا بذلك من أهل العظمة والقدرة والغلبة لأنهم حزب الله وحزبه هم الغالبون.

(ولا معقل أحرز من الورع) المعقل كمنزل الملجأ والحصن يعني أن الورع عن محارم الله وعن ملاذ الدنيا أحرز حصن وأقوى ملجأ في دفع المخاطرات ومنع أسباب العقوبات ورد سهام الشيطان وكيد أرباب الطغيان لأن تلك المفاسد إنما تنشأ من الميل إلى الدنيا والورع بمعزل عنها.

(ولا شفيع أنجح من التوبة) النجح بالضم والنجاح بالفتح الظفر بالشيء والذب يظفر بالتوبة النصوح بما لا يظفر به أحد من الشفاعة ونحوها لأن التوبة ماحية للذنوب كلها والشفاعة قد لا يتحقق ومع تحققها قد لا تقبل ومع قبولها قد لا تكون إلا بعد عقوبة شديدة في مدة طويلة (ولا لباس أجمل من العافية) أي العافية من الأسقام والبلاء والشدة والضراء والذنوب والكروب أجمل لباس وزينة والوجه في تشبيه العافية باللباس وهو الحسن والزينة في المشبه به حسي وفي الشبه عقلي.

(ولا وقاية أمنع من السلامة) عن إيذاء الناس وبغضهم وغير ذلك مما يوجب التنافر بينهم وهي أمنع وقاية لدفع شرورهم.

(ولا مال أذهب بالفاقة من الرضا بالقناعة) الرضا بالقناعة والاختصار بالواصل وعدم الاعتماد بغير الحاصل أقوى في إذهاب الفاقة من المال لأن القانع لا يفتقر إلى الغير إلى سؤاله بخلاف غير القانع فإنه في فقر وفاقه دائما وإن كان له مال.

(ولا كنز أغنى من القنوع) أغنى من غنى بالكسر إذا ثبت وبقي يعني أن القنوع وهو الرضا

ص:241

بالقوت أثبت وأبقى من الكنز لأنه لا ينقص ولا يغني بخلاف الكنز.

(ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة) البلغة ما تبلغ به من العيش، الكفاف من الرزق القوت وهو ما كف عن الناس وأغنى عنهم والدعة الخفض والسكون والراحة والتبوؤ النزول والاتخاذ يقال: تبوأ منزلا نزله واتخذه، والمراد به النزول في الراحة والسعة والتزامهما.

(والرغبة مفتاح التعب) شبه الرغبة بالمفتاح من حيث أن الرغبة في الزيادة عن الكفاف وإرادتها آلة فتح باب التعب لأن في تحصيلها وحفظها تعبا شديدا مع عدم الحاجة إليها وفيه زجر عنها ومنع من تحملها، قال بعض المحققين: فيه إشارة إلى مسألة وهي أن الإتيان بالفعل الاختياري لا يتصور إلا لمن رغب فيه أولا وقد برهن عليه في موضعه.

(والاحتكار مطية النصب) الاحتكار اللجاجة والظلم والاستبداد بالشيء وإساءة المعاشرة واحتباس الغلة لانتظار الغلاء والكل مناسب وتشبيه الاحتكار بالمطية من حيث أن النصب يرد عليه فكأنه يركب.

(والحسد آفة الدين) أي مرض مفسد له لأن الحاسد يضاد إرادة الله تعالى في التقسيم والتدبير والإفضال والإنعام ويحتقر نصيبه ويكفر به ويلتذ طبعه بمضار الناس وزوال نعمتهم ويغتم بمصالحهم ومنافعهم ويشتغل بالهم والحزن بمشاهدة انتظام أحوالهم ويصرف الفكر في تحصيل أسباب زوالها حتى لا يفرغ لتحصيل ما يعود نفعه إليه من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وحفظ ما حصل له من الملكات الخيرية والصور العلمية وكل ذلك موجب لفساد الدين ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».

(والحرص داع إلى التقحم في الذنوب) لأن الحريص لا يبالي الدخول في المحارم من المكاسب والمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والحرص على المباح أيضا مذمومة ألا ترى أن أبانا آدم (عليه السلام) لما حمله الحرص على الأكل من الشجرة مع كونه مباحا لحقه وذريته ما لحقه من المحنة والمصايب التي يعجز عن تحملها الجبال الرواسي.

(وهو داع إلى الحرمان) الظاهر أن الضمير راجع إلى التقحم في الذنوب لأن الدخول فيها بلا روية وإلقاء النفس عليها من غير مبالاة داع إلى الحرمان من الرزق ولكن يكون ذلك غالبا في المؤمن الممتحن وقد روي: «إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم فإن لم يفعل به ذلك ابتلاه بالحاجة فإن لم يفعل ذلك شدد عليه بالموت ليكافيه بذلك الذنب» ويحتمل أن يعود الضمير إلى الحرص لأن الحرمان عن المطلوب لازم للحرص إذ مراتب الحرص على الأمور غير محصورة وحصول تلك الأمور كلها متعسر جدا فالحريص دائما في ألم الحرمان.

ص:242

(والبغي سائق إلى الحين) البغي الزنا والخروج طاعة الإمام والاستطالة والكذب. والحين بفتح الحاء المهملة الهلاك والمحنة والبغي بالمعاني المذكورة مستلزم لهما كما دلت عليه روايات أخر.

(والشر جامع لمساوي العيوب) في كنز اللغة: شر سوء وبدى ومساوى بديها والمقصود أن الشر أمر كلي يندرج فيه جميع أفراد المساوي والعيوب كما أن ضده وهو الخير كلي جامع لجميع المحاسن والمتصف بالمحاسن والمساوي يشمله الوعد والوعيد في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقال بعض المحققين: كل واحد من الخير والشر إما مطلق كالعقل وعدمه وإما مقيد كالمال ونحوه وفي النسخ المصححة «الشره» بالهاء وفتح الراء وهي غلبة الحرص.

(رب طمع خائب) الطمع بما في أيدي الناس مع كونه مهانة ظاهرة ومذلة حاضرة أكثره خائب والعاقل لا يرتكب العار مع الفوائد العظيمة فكيف ترتكبه مع عدمها.

(وأمل كاذب) الأمل في المقتنيات الفانية مع كونها مانعا من التوجه إلى الآخرة وسبب لزوال ما حصل من أحوالها في الذهن أكثره كاذب لا يحصل أبدا والعاقل لا يعقد قلبه عليه (ورجاء يؤدي إلى الحرمان) من المرجو وإن كان من الله كرجاء ثوابه والتجاوز عن عقابه مع الاستمرار في العصيان لأن ذلك الرجاء حماقة كما دل عليه بعض الروايات وكذا من الخلق فإن حصول المرجو منهم نادر جدا، وبالجملة الرجاء من الله حسن بشرط الطاعة ومن الخلق مذموم مطلقا واعلم أن الطمع والأمل والرجاء متقاربة في اللغة ويمكن الفرق بأن المطلوب من الطمع أقرب في الحصول من المرجو ويؤيده أن الحرص معتبر في مفهوم الطمع والحرص على الشيء لا يكون إلا إذا كان ذلك الشيء ممكنا قريب الوقوع والمرجو أقرب في الحصول من المأمول والله أعلم.

(وتجارة تؤول إلى الخسران) كما يكون في تجارة الدنيا كذلك يكون في تجارة الآخرة من كسب الأعمال والعقايد والأخلاق فإن العمل كثيرا ما لا يقع على الأمر المعتبر في ذاتياته وصفاته وشروطه ويحصل بذلك انحراف عن الدين وضلال عن الحق فيضيع العمل ويخسر كما في الخوارج وأضرابهم وفي هذه الفقرات توبيخ للناس على إدبارهم عن الآخرة وإقبالهم إلى الدنيا وتنفير لهم عنها بذكر الخيبة والكذب والحرمان والخسران وليست الدنيا كل من طلبها وجدها، عن النبي (صلى الله عليه وآله) «من جعل الدنيا أكثر همه فرق الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته منها إلا ما كتب له».

(ومن تورط في الأمور) أي وقع فيها فلم يسهل المخرج منها، والورطة الغامض والهلكة وكلما يعسر النجاة منه وأصله الهوة العميقة والوهدة من الأرض ثم استعيرت للأمر المذكور (غير

ص:243

ناظر في العواقب) يعرف حسنها وقبحها وصلاحها وفسادها.

(فقد تعرض لمفضحات النوائب) التي توجب فضيحته وإهانته وصعوبة التخلص منها، وفي بعض النسخ «المقطعات النوائب» والتركيب على الأول من باب جرد قطيفة. وعلى الثاني من باب لجين الماء بتشبيه النوائب بالمقطعات وهي الثياب التي قطعت كالقميص والجبة ونحوهما دون غير المقطوعة كالإزار ونحوه وإنما شبهها بها لكونها أشد اشتمالا وأقوى إحاطة ونقل الشيخ عن بعض أهل اللغة في الأربعين أن المقطعات جمع لا واحد لها من لفظه واحدها ثوب والحاصل أنه لا يقال: للجبة مثلا مقطعة بل يقال: لجملة الثياب مقطعات وللواحد ثوب كما صرح به الشهيد في شرح النفلية ويمكن أن يقرأ المفظعات بالفاء والظاء المعجمة جمع المفظعة بكسر الظاء من فظع الأمر بالضم فظاعة وهو فظيع أي شديد شنيع كما فسر بذلك بعض الأصحاب في دعاء الوضوء.

(وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن) شبه الذنب بالقلادة في لزومهم للمذنب لزوم القلادة للأعناق ووجه الذم العام أن الذنب مع كونه موجبا للعقوبة الأخروية والمذلة الأبدية يوجب نقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات في الدنيا والغرض منه هو الحث على رفع حجب النفوس التي هي الذنوب والمعاصي واستعدادها بذلك لقبول الرحمة بالتوبة والإقلاع من المعصية والانزجار عنها والتذكر للمبدء الأول وما أعد لأوليائه الأبرار في دار القرار.

(أيها الناس أنه لا كنز أنفع من العلم) شبه العلم بالكنز في الخفاء والنفع وميل الطبع إليه ورجحه عليه لكونه روح النفس وحياة القلب وكمال الإنسان وسببا لبقائه ونجاته مع زيادته بالإنفاق والغرض منه هو الحث على تحصيل علم الدين وما يتعلق به.

(ولا عز أرفع من الحلم) الحلم هو الأناة والتثبت في الأمور يحصل بالاعتدال في القوة الغضبية ويمنع النفس من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية والجزع عند الأمور الهائلة والطيش في المؤاخذة وصدور حركات غير منتظمة وإظهار للمزية على الغير والتهاون في حفظ ما يجب حفظه شرعا وعقلا وهو أرفع وأعظم ما يوجب العز في الآخرة برفع الدرجات وفي الدنيا عند الخلائق بوجوه الاعتبارات ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحلم عشيرة» يعني أن كما أن الرجل يتمنع بالعشيرة يتمنع بالحلم ويتوقر لأجله.

(ولا حسب أبلغ من الأدب) قيل: الأدب وضع الأشياء موضعها ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم والعمل، والحسب الشرف بالإباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم، وقيل: هو الشرف المكتسب في الرجل وإن لم يكن آباؤه أشرافا والغرض منه الترغيب إلى تحصيل الأدب لأنه أشرف الكمالات للإنسان وأكملها والتزهد في التفاخر بشرف الإباء لأنه اعتباري لا نصيب فيه للولد حقيقة، والإيماء إلى أن الآباء ينبغي أن يورثوا الآداب.

ص:244

(ولا نصب أوضع من الغصب) النصب والتعب والنصب بالضم والضمتين الداء والبلية والمحنة والغضب، وهو ثوران النفس وحركتها بسبب تصور المؤذي والضار إلى الانتقام، من أخس أفراد النصب وأقبحه لكثرة مفاسده من الأفعال الشنيعة والأقوال القبيحة والأخلاق الذميمة والحركات الخارجة عن القوانين الشرعية والعقلية.

(ولا جمال أزين من العقل) عد العقل جمالا وهو الحسن في الخلق والخلق ورجحه عليه في الرتبة لأن بالعقل يستقيم الظاهر والباطن ويتم الكمالات الدينية والدنيوية وكل خير يصلح التزين به تابع له والغرض منه هو الحث على تكميله بالعلوم والآداب.

(ولا سوء أسوأ من الكذب) لأن الكذب مع أنه ليس من خصلة الصالحين يوجب خراب الدنيا والدين وقتل النفوس وفساد النظام وهلاك الأموال وغيرها من المفاسد ألا ترى أن إبليس اللعين كيف أفسد بكذب واحد نظام آدم وأولاده إلى يوم الدين وأن الأول وناصره كيف أفسدا به دين سيد المرسلين.

(ولا حافظ أحفظ من الصمت) رغب إلى الصمت بذكر فائدته وهي أنه أقوى حافظ من آفات الدنيا وعذاب الآخرة لأن آفات اللسان ومعاصيه لكثرة موارده من الموجودات والمعدومات والموهومات وغيرها كثيرة جدا فمن صمت إلا عن خير نجا.

(ولا غايب أقرب من الموت) حث على ذكر الموت وانتظاره في كل نفس لاحتمال حضوره آنا فآنا كما روي في قوله تعالى: (وما تدري نفس بأي أرض تموت) أنها لا تدري بأي قدم تموت، والغرض منه هو الاستعداد له والعمل للآخرة والتحرز عن الاشتغال بالدنيا.

(أيها الناس من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره) أمر بالكف عن عيب غيره باعتبار ما يعلم من عيب نفسه اتحد العيب أو اختلف بل ينبغي أن يذم نفسه ويشتغل بالتدارك ورفعه إن أمكن ولو لم يعلم في نفسه عيبا فهو مع كونه عيبا فليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلى به غيره. قال الشهيد الثاني: وردت الرخصة في غيبة الفاسق المتجاهر بفسقه كالخمار والعشار والمخنث الذين ربما يفتخرون بفسوقهم ولا يستحيون منها قال النبي (صلى الله عليه وآله): «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» لكن تركها إلى السكوت ونصحه إن نفع أولى.

(ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره) الأسف محركة أشد الحزن، أسف كفرح وعليه غضب يعني من رضي بقسمه من رزق الله لا يتوقع الزائد عليه مما في يد غيره فلا يحزن بفواته والغرض منه الأمر بالرضا بما في يده وعدم الحزن على ما في يد غيره فلا يحزن بفواته من

ص:245

الزائد لأن في ذلك نسبة الجور إلى قاسم الأرزاق وتحقيرا لقسمته وكفرانا له وتوقع ما لا يحتاج إليه والتحزن بفواته وهو ألم شديد.

(ومن سل سيف البغي قتل به) يحتمل الظاهر والإضافة للملابسة ويحتمل أن يشبه البغي بالسيف وإضافته إليه للبيان والسل ترشيح.

(ومن حفر لأخيه بئرا) فيها تحذير عن مكر المؤمن وخدعته وإرادته والوسوسة به وإيقاعه عليه بأن مثل ذلك يقع على الماكر في الدنيا مع ما عليه في الآخرة كما قال تعالى: (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

(ومن هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته) قد جرت السنة بكشف عورة من كشف عورة غيره من المؤمنين في نفسه وعرضه روى عن النبي (صلى الله عليه وآله): «ألا لا تغابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فمن يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ويفضحه في جوف بيته».

(ومن نسي زلله استعظم زلل غيره) لأن استعظام زلل الغير وانحرافه عن سبيل الحق إنما هو لعظمة قبحه وقبح المخالفة ولا يرتكب ذلك إلا من نسي زلل نفسه وإلا لاشتغل بإصلاحها تحرزا من القبيح وخوفا من اللوم وحياء من الله.

(ومن أعجب برأيه ضل) أي من أعجب برأيه وعقله من جهة كمال اكتسبه في ظنه ضل عن طريق الحق لأن العجب ضلالة ومرض مهلك ومانع من الازدياد مع احتمال أن يكون رأيه فاسدا (ومن استغنى بعقله زل) عن المطلوب في أمور الدين والدنيا ولابد في الأول من المشورة مع العقلاء الأمناء وفي الثاني إلى الرجوع إلى صاحب الشريعة.

(ومن تكبر على الناس ذل) في الدنيا والآخرة عند المقربين والخلائق أجمعين وما يرى في بعض المتكبرين من استعظام الخلق له أمر اعتباري لا حقيقة له يرتكبه بعض المنافقين وأما العزة الحقيقة الباقية فإنها لله ورسوله وللمؤمنين الذين تنزهوا عن التكبر وكانوا من الخاشعين (ومن سفه على الناس شتم) السفه الخفة والطيش والاضطراب وإيذاء الناس وعدم تحمل شيء منهم وقد نفر عنه بذكر شيء من مفاسده وهو شتم الناس له ووقوعهم عليه والعاقل لا يرتكب ما لا يليق بذي المروة.

(ومن خالط الأنذال حقر) الأنذال وهي جمع النذل وهي الخسيس المحتقر من الناس عندهم في جميع أحواله.

(ومن حمل ما لا يطيق عجز) أي من حمل من الأعمال والمطالب والمعاملة والمعاجلة التي

ص:246

لا تكون في وسعه عجز عنها أو عن كمالها واستحق بذلك التحقير والإهانة ولا يرتكب ذلك إلا الأحمق كما قال (عليه السلام): «ومن الخرق العجلة قبل الإمكان» وقال «من عجز عن أعماله أدبر في أحواله» أي صارت أحواله متغيرة منكوسة منقلبة.

(أيها الناس، إنه لا مال أعود من العقل) أعود من العائدة وهي النعمة والمقصود أن العقل أنفع الأموال لأن نفعه في الدنيا والآخرة وبه كمال الإنسان فيهما بخلاف غيره من الأموال وفي عد العقل من أفراد المال تجوز واستعارة والوجه الانتفاع وفيه ترغيب في اكتساب العقل بالعلوم والآداب (ولا فقر أشد من الجهل) لأن الفقر عدم النافع وأشد النافع هو العلم ولا فقر أشد من الجهل لاشتراك الفقر والجهل في العجز عن تحصيل المرام وعجز الثاني أشد لأنه في الدنيا والعقبى وعجز الأول في الدنيا فقط وفي التنفير عن الجهل بجعله من أشد أفراد الفقر تنفير عن الفقر أيضا وهذا ينافي ما ورد من مدح الفقر والفقراء والترغيب فيه ويمكن دفعه أولا بأن المراد بالفقر هنا ما يكسر الظهر ويدفع الصبر وهو الذي وقع الاستعاذة منه في بعض الروايات، وثانيا بأن المراد به الفقر الظاهري مع الفقر الباطني والمتصف به من جمع فيه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وثالثا بأن المراد به الفقر المعروف المتنفر عند الناس وهذا القدر كاف في تشبيه الجهل به والتنفير عنه.

(ولا واعظ أبلغ من النصح) الواعظ يدعو إلى الخيرات ويمنع عن المنهيات ونصح القرآن والسنة أبلغ منه فهو أولى بالاستماع لأن النداء الرباني أولى بالاتباع من النداء الإنساني وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله: «كيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة»؟ أي كيف يحفظ الصوت الخفي من أصمته الصيحة الإلهية والنبوية؟ استعار (عليه السلام) النبأة لدعائه (عليه السلام) لهم وندائه إلى سبيل الحق والنصيحة لخطاب الله ورسوله وهي كناية عن ضعف دعائه بالنسبة إلى قوة دعاء الله تعالى وتقرير ذلك أن الصوت الخفي لا يسمع عند القوى لاشتغال الحواس به وكان كلامه (عليه السلام) أضعف في جذب الخلق إلى الحق من كلام الله وكلام رسوله فأجراه مجرى الصوت القوي وأجرى كلامه مجرى الصوت الخفي، واسناد الإصمام إلى الصيحة ترشيح له للاستعارة إذ من شأن الصيحة العظيمة الإصمام ذا قرعت السمع.

(ولا عقل كالتدبر) في العواقب ليسلم عن المكاره والنوايب والعقل قوة بها إدراك المعقولات والمحسوسات بتوسط الآلات وقد يطلق على الإدراك أيضا، والتدبر النظر في عاقبة الامر وهو دليل على العقل حتى أن من لا تدبر له لا عقل له، فلذلك فضله عليه ورغب فيه (ولا عبادة كالتفكر) في الأمور من حيث الصدور وعدمه إذ بالتفكر يشاهد صور المعقولات ويبصر وجوه العبادات فهو مع كونه عبادة أصل للبواقي والأصل أفضل من الفرع.

ص:247

(ولا مظاهرة أوثق من المشاورة) في الأمور مع الأصدقاء وأصحاب العقول والأذكياء فإن معاونة العقول أقرب من الوصول إلى المطلوب وأدخل في حصول الألفة بينهم ولذلك خاطب الله تعالى حبيبه مع كمال عقله ولطف جوهره بقوله: (وشاورهم في الأمر).

(ولا وحشة أشد من العجب) لأن المعجب لما رأى في نفسه من الفضل والكمال واعتنى به حتى أخرجه عن حد الاعتدال يستوحش من غيره وذلك الغير أيضا يستوحش منه ويتنفر عنه إلا إذا كان سلطانا أو ذا مال فتقرب منه الراغب في الدنيا مع الوحشة للضرورة وقد مر حقيقة العجب وبيان أنه من المهلكات في بابه.

(ولا ورع كالكف عن المحارم) الورع عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة المفيدة في الآخرة والغفلة معه عن الأمور الدنيوية والمصالح المتعلقة بجزئياتها ليست بضارة بل ربما كانت سببا للنجاة من عذاب الآخرة له أفراد متكثرة أفضلها الكف عن محارم الله خوفا من الله تعالى (ولا حلم كالصبر والصمت) لما كان الحلم هو ملكة العفو والصفح عن الأنام والتجاوز عن الانتقام لا يحصل إلا بالصبر على المكاره والشدايد والسكوت في مقام البطش عن المقابح والمفاسد عدهما أفضل منه لأن الأصل أفضل من الفرع، وإنما أورد (عليه السلام) هذه النصايح وما يأتي في صورة الأخبار للاهتمام بشأنها.

(أيها الناس في الإنسان عشر خصال يظهرها) مبتدأ لشاهد فعلى الأول المبتدأ محذوف وعلى الثاني فاعل يظهر ضمير راجع إلى الإنسان وهذه الخصال يحتاج إليها الإنسان في بقائه ونظامه والغرض من ذكرها وذكر آلاتها الترغيب في معرفة قدرها ومنعمها وشكرها وصرفها في وجوه البر وهي الوجوه التي طلبها المنعم.

(لسانه شاهد يخبر عن الضمير) فليكن ما في الضمير لا يضره غيره ولا يوجب وباله في الدنيا ونكاله في الآخرة.

(وحاكم يفصل بين الخطاب) الحق والباطل والبليغ وغيره ويمكن أن يراد بالفصل تقطيع الحروف وجعل بعضها خطابا وبعضها خطابا آخر واضح الدلالة على المقصود.

(وناطق يرد به الجواب) بعد السؤال عن أمور الدين والدنيا ولابد أن يكون الجواب على وجه الصواب (وشافع يدرك به الحاجة) لنفسه ولغيره ولابد أن تكون مشروعة لأن غيرها كفران للنعمة (وواصف يعرف به الأشياء) ذواتها وصفاتها تصورا وتصديقا تعليما وتعلما (وأمير يأمر بالحسن) العقلي والنقلي، الديني والدنيوي.

(وواعظ ينهى عن القبيح) نهي تحريم أو تنزيه كذلك (ومعز تسكن به الأحزان) من المصائب والنوائب والتعزية هي الحمل على الصبر بذكر ما يسهله.

ص:248

(وحاضر تجلى به الضغاين) الضغينة هي الحقد والعداوة والبغضاء ولعل المراد أنه حاضر يعرف وجوه الكلام يأتي به على وجه يكشف الضغاين عن القلوب.

(ومونق يلهي الأسماع) المونق المعجب من أنقه إيناقا أعجبه وألهاه عن كذا أشغله ووصفه بالإيناق باعتبار حاله وهو الكلام وفي بعض النسخ «تلتذ به الأسماع».

(أيها الناس لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل) دل على أن كتمان العلم والحق مع القدرة على إظهارهما مثل إفشاء الجهل والباطل في الحرمة وأما بدون القدرة فقد يجب الكتمان كما دلت عليه الروايات المتكثرة.

(واعلموا أيها الناس أنه من لم يملك لسانه يندم) يعني من لم يملك لسانه وأجراه في ميدانه وتكلم في كل طور من الأسرار والعلوم والمجادلة والمخاصمة والجرح والغيبة والتهمة والكذب والتكذيب والمضحكة والمزاح الكثير وكل ما لا يعني من غير تفكر في حسن حاله وقبح مآله يندم بالآخرة لما رآه من الإفساد وذل النفس واحتقارها وسفهها واستهزاء الحاضرين ومعاداة السامعين ولا ينفعه الندم وقد روي: «إن نجاة المؤمن من حفظ لسانه» وبالجملة في كثرة الكلام وإظهار ما ينبغي إخفاؤه وبال الدنيا ونكال الآخرة وإنما أمر بالعلم أو لا للاعتناء بمضمون هذه النصيحة وليس المقصود مجرد العلم به بل المراد به العمل بمقتضاه.

(ومن لا يعلم يجهل) يعلم مجهول من التعليم والتعليم إنما يكون من معلم رباني وفيه إشارة إلى أن الناس يحتاجون في رفع الجهل عنهم إليه، أو معلوم من العلم أي من ليس له حقيقة العلم فهو جاهل إذ لا واسطة بينهما فوجب تحصيله أو المراد من لم يعلم قدره فهو جاهل لأن العلم مستلزم لمعرفته وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ويؤيده قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره».

(ومن لا يتحلم لا يحلم) التحلم إظهار للحلم واستعماله إياه بنوع كلفة حتى يظن أنه متصف به وفيه ترغيب في التحلم لتحصيل الحلم لأن الحلم المكتسب إنما يحصل به حتى يصير ملكة (ومن لا يرتدع لا يعقل) ردعه عنه كمنعه كفه ورده فارتدع أي من لا يرتدع عن القبايح وطريق الضلال ولا يكف نفسه عنهما لا يعقل أصلا أو لا يعقل قبحها وفسادها وسوء خاتمتها إذ لو عقلها لارتدع عنها وفيه لوم للصحابة أيضا حيث تركوه وأقبلوا إلى الباطل (ومن لا يعقل يهن) بالاستخفاف والاستحقار والاستهزاء لأن غير العاقل سفيه مستحق لجميع ذلك في الدنيا والآخرة (ومن يهن لا يوقر) بالضرورة لأن الإهانة ضد للتوقير والتعظيم ووجود أحد الضدين يستلزم نفي الآخر.

(ومن لا يتوقر يتوبخ) وبخه توبيخا فتوبخ لامه وعذله وأنبه وهدده وقبول هذه المعاني لازم لعدم التوقير، وهذه المقدمات إذا اعتبرت انتاجها ينتج أن من لم يرتدع يتوبخ وفي بعض النسخ

ص:249

المعتبرة «ومن يتق ينج» بدلا للمذكور.

(ومن يكتسب مالا من غير حقه) الضمير للكسب أو للمال والأخير أولى ليوافق الضمائر الآتية (يصرفه في غير أجره) وإن أعطاه مسكينا أو أطعمه جائعا لأن الواجب عليه رده إلى صاحبه والغرض أنه لا آجر في صرفه وأما أنه يعاقب به فيعلم من مقام آخر.

(ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم) أي من لم يترك الدنيا والقبايح بالاختيار وهو ممدوح يتركها بالاضطرار وهو مذموم والعاقل لا يؤثر الذم على المدح لأمر يتركه بالاضطرار.

(ومن لم يعط قاعدا منع قائما) يحتمل وجهين الأول وهو الأظهر أن يكون الفعلان مجهولين يعني من لم يعط زائدا على القوت حال كونه قاعدا غير طالب له منع منه حال كونه قائما طالبا له لأن المقدر يأتيه طلبه أو لم يطلبه وغير المقدر لا يحصل وإن طلبه كما دل عليه بعض الروايات.

والثاني أن يكونا معلومين يعني من لم يعط قاعدا غير سائل منع قائما سائلا لاشتراكهما في علة المنع وهي البخل وفيه ترغيب في إعطاء غير السائل.

(ومن يطلب العز بغير حق يذل) عند الله في الدنيا والآخرة كما طلبه الخلفاء الثلاثة وأضرابهم (ومن يغلب بالجور يغلب) وقتا ما إما في الدنيا أو في الآخرة والإمهال في الجملة للاستدراج أو لغرض آخر لا ينفعه لأنه تعالى ينتقم منه (والله عزيز ذو انتقام) ولأن المظلوم من حزب الله وحزب الله هم الغالبون وفيه أيضا تعريض لمن غلبه بالخلافة.

(ومن عاند الحق لزمه الوهن) كما قال الله تعالى في وصف المنافقين: (يحسبون كل صيحة عليهم) وقال في وصف الكفار: (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) ويحتمل أن يكون المراد أن المطلوب إذا كان أمرا عظيما كإظهار دين الحق لا يمكن حصوله إلا بعد قوتهم وتظاهر بعضهم ببعض وفيه تنبيه على وجوب الألفة والاتحاد في الدين وعدم تشتت الآراء والتعاند فيه فإن ذلك يدعو إلى التفرق والتحزب ودخول الوهن والضعف عليهم وكل ذلك مناف لمطلوب الشارع ألا ترى أن الملك في تحصيل الملك يحتاج إلى تعاون العساكر وتآلفهم وتظاهرهم حتى يحصل له القوة وتتجلى له صورة النصر وفيه أيضا تعريض لمن ذكر.

(ومن تفقه وقر) دل على أن التوقير والتعظيم من لوازم التفقه في الدين والآيات والروايات الدالة عليه أكثر من أن تحصى ويكفي في ذلك أن الملائكة تضع أجنحتها له رضى به وأنه من ورثة الأنبياء وأنه يستغفر له جميع الموجودات حتى الحوت في البحر.

(ومن تكبر حقر) عند الله وعند الأنبياء والمرسلين بل عند جميع المخلوقين والله سبحانه

ص:250

يوصل إليه ضد ما قصده.

(ومن لا يحسن لا يحمد) الإحسان ضد الإساءة يعني من لا يحسن إلى الخلائق لا يكون محمودا عندهم وقد اشتهر أن الإنسان عبيد الإحسان وأن الإحسان وإن كان ثقيلا إلا أن فيه أثرا جميلا وإن ذا القرنين قال لأستاذه أرسطاطاليس: انصح لي، فقال: «ملكت البلاد بالفرسان فاملك القلوب بالإحسان».

(أيها الناس أن المنية قبل الدنية) المنية الموت والدنية الخصلة المذمومة يعني احتمال الموت قبل احتمال ما يعيبك وخير منه.

(والتجلد قبل التبلد) الجلد محركة الشدة والقوة والجليد القوى الشديد وجلد ككرم جلادة وتجلد تكلف الجلادة والتبلد ضد التجلد تبلد أي تحير في أمره مترددا وفي كنز اللغة: تجلد جلدي كردن، تبلد كند كشتن وبرهم زدن از پشيمانى ومتردد شدن از حيرت، ولعل المراد أن التجلد في الأمور المطلوبة عقلا ونقلا ينبغي أن يكون قبل التبلد فيها إذ التبلد يوجب فواتها وفيه لوم لمن تجلد في الباطل وتبلد في الحق وحث لخلص أصحابه على الثبات والمتابعة (والحساب قبل العقاب) بالضرورة فلا ينبغي تأخيره إلى القيامة لإمكان ظهور الخيانة عند المحاسبة فيها ولا يمكن التدارك حينئذ بل ينبغي تقديمه والاشتغال به في الدنيا بأن يراقب المكلف أعضاءه ويعطي كل عضو منها ما طلب منه ويمنعه عما نهى عنه فإن صدر منه خلاف ما ينبغي تداركه بالتوبة والقضاء والأداء والإبراء ونحوها وهكذا يراعي حاله حتى يخرج من الدنيا سالما من المحاسبة في العرض الأكبر.

(والقبر خير من الفقر) أي من الفقر القلبي والإفلاس الحقيقي وهو فقر الآخرة لوجود الأعمال الباطلة وفقد الأعمال الصالحة أو من الفقر المعروف الذي لا يكون معه شيء ولا صبر ولا ورع حاجز عن المهلكات.

(وغض البصر خير من كثير من النظر) أمر بغض البصر وترك النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه إذ أكثر المفاسد والخطر إنما يحصل من إرسال النظر.

(والدهر يوم لك ويوم عليك) بإعطاء المطالب ومنعها (فإذا كان لك فلا تبطر) البطر محركة النشاط والأشر والطغيان والتكبر وفعل الكل كفر.

(وإذا كان عليك فاصبر) لأن الصبر في مواطن المكاره والشدائد من صفات الأنبياء والأولياء وهو مع كونه سببا للمقامات العلية الدرجات الرفيعة سبب أيضا لسهولة المحنة ونزول الفرج (فبكلهما تمتحن) فأنت دايما في الاختبار أما بأسباب تبطر والبغي والاستكبار أو بأسباب الجزع والشكاية والاصطبار.

ص:251

وفي نسخة: (وكلاهما ستختبر) الاستخبار الاستعلام من الخبر بالكسر والضم العلم بالشيء كالاختبار وإفراد الفعل باعتبار اللفظ إن كان غائبا وإن كان خطابا يحتاج إلى إضمار.

(أيها الناس أعجب ما في الإنسان قلبه) كل ما في الإنسان من الجوارح والأعضاء والعروق الساكنة والمتحركة والعظام الصغيرة والكبيرة والأعصاب الغليظة والدقيقة والرباطات الدقيقة وغيرها مما يشتمل على قليل منها علم التشريح أمر عجيب ووضع غريب يدل على قدرة الصانع وحكمته وتدبيره بحيث يعجز عن دركه عقول العقلاء وعن فهمه فحول العلماء وأعجب ما فيه قلبه وهو الجوهر المجرد المسمى بالنفس الناطقة التي خلقت له ساير الجوارح والقوى ووجه كونه أعجب ما أشار إليه إجمالا بقوله: (وله مواد من الحكمة) النظرية والعملية لأن له قوة نظرية بها يدرك المعقولات الكلية والأسرار الإلهية وصور المجردات وحقايق الأشياء كما هي ويطير بأجنحة الكمال إلى عالم الروحانيات ويدرك أيضا صور المحسوسات ووجوه الصناعات بتوسط الآلات وقوة أخرى عليه بها بتصرف في البدن وقواه فيأمر اللسان بالتكلم فيتكلم ويأمر البصر بالإبصار فيبصر وهكذا وهو بهذه القوة مع الاستعانة بالأولى يتخلى من الرذايل ويتحلى بالفضايل إن كانت القوى تابعة له ومحصورة على ما يليق بها ويجعله نصيبا لها، ثم أشار إلى أنه مع كماله وشرفه وكونه من العالم العلوي أمير في هذا العالم الجسماني فقير عاجز للهوى والحواس والقوى بقوله:

(وأضداد من خلافها) منشأ هذه هو القوة العملية وأشار إلى تفسير الأضداد إجمالا وهي أحواله العارضة المتولدة بعضها من بعض بقوله:

(فإن سنح له الرجاء) من الدنيا وأهلها (إذ له الطمع) فيها (وإن هاج به الطمع) فيها وحركه إلى الرغبة إليها (أهلكه الحرص) عليها وهو عدم الرضا بالواصل وصرف العمر في تحصيل غير الحاصل وهذه الصفات مترتبة في الوجود ناشية من الإفراط في القوة الشهوية مذلة للنفس والنفس مع كونها من عالم القدس ونظرها إليه بالذات كثيرا ما تصير مغلولة أسيرة لها والنجاة من حبسها إنما تكون بردها إلى الوسط وتقريرها عليه.

(وإن ملكها اليأس) من الدنيا العالية أو السافلة (قتله الأسف) والحزن الشديد على فواتها والأسف على اليأس من الأولى أقبح من الثاني والكل دليل على ضعفه من حيث انقياده لتلك القوة المتجاوزة على الوسط إلى حد الإفراط والتفريط حتى أنه يغتم بفوات مطلوبها.

(وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ) غضبه حركته نحو الانتقام أو انفعاله عن تلك الحركة ومبدؤه الطغيان في القوة الغضبية والأنفة عن تحمل ما هو ثقيل عليه والغيظ ثمرة الغضب يحصل من احتقانه وغليان النفس منه وسبب قريب لطريان أحكامه (وإن أسعد بالرضا) أسعده أعانه والمراد أنه أعين بالرضا وتهيأت له مقاصد الدنيا على الوجه المرضي عنده.

ص:252

(نسي التحفظ) والتحرز عن مخاطرات النفس ومكائد الشيطان فيقع بذلك في مهاوي العصيان وفيه ترغيب في التيقظ وترك الغفلة في تلك الحالة.

(وإن ناله الخوف) من الخلق أو من فوات الدنيا (شغله الحذر) من المخوف عن أمر الآخرة وأما خوفه من الله والحذر من موجباته فهو من كماله وقوته.

(وإن اتسع له الأمن) في النفس والمال والجاه (استلبته الغرة) الشيطانية وأوقعته في موارد الشهوة النفسانية والاستمتاع بلذات الدنيا والاستلاب والاختلاس. والغرة بكسر الغين المعجمة الغفلة (وإن جددت له نعمة أخذته العزة) في نفسه وهي العجب أو على الغير فهي الكبر وكلاهما من جهة نقصه في القوة العقلية وأسره في يد القوى البدنية.

(وإن أفاد مالا) أفاده استفاده وأعطاه ضد، والمراد هنا الأول (أطغاه الغنى) جعله طاغيا عاصيا بالعجب والتكبر والتفاخر والضلال عن الحق كما قال عز وجل (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) (وإن عضته فاقة) وفقر وفيه مكنية وتخييلية.

(شغله البلاء) والمحنة والحزن على ما فاته خصوصا بعد حصوله عن الله وعن سلوك سبيله والعمل الخالص لوجهه.

(وفي نسخة: جهده البكاء) أي أتعبه لأن الفقير الطالب للدنيا المتعلق قلبه بها يبكي على فواتها كبكاء الثكلى وهذا أقبح من الأصل وأدل على كمال ضعفه.

(وإن أصابته مصيبة) في النفس والمال والحال (فضحه الجزع) والاضطراب الدال على خفته وسفاهته حتى يكشف مساويه عند الناس.

(وإن جهده الجوع) بكسر المزاج والطبيعة لقلة الغذاء (أقعد به الضعف) عن الحركات والأفعال اللايقة به، والغرض منه بعد إظهار عجزه وضعفه ترغيبه في رفع الجزاء برفع الشرط وتناول الغذاء على قدر يحتاج إليه في البقاء لا رفع الجزاء مع وجود الشرط كما في النصائح السابقة (وإن أفرط في الشبع) بأن جاوزه وهو حرام مع الضرر والأفضل دون الشبع.

(كظته البطنة) أي كربته وجهدته حتى عجز عن تحمله وهضمه، والبطنة بالكسر كثرة الأكل أو شيء يعتري من إمتلاء الطعام إنما قلنا: الأفضل دون الشبع، لأن الشبع وما فوقه يثقل البدن ويكدر الحواس ويجمد الشعور ولذلك قيل البطنة تذهب الفطنة وتورث القسوة والغلظة وقلة الأكل يوجب لطف الحواس وقلة الأبخرة المتعددة من التملي بالطعام والشراب وطهارة جوهر النفس من الحياة البدنية وكل ذلك سبب لاتصالها بعالمها واستشراقها الأنوار من الملأ الأعلى ثم أشار إلى

ص:253

كيفية التخلص من هذه الأضداد بقوله:

(فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد) فينبغي أن يكون بين هذا وذاك وهو الصراط المستقيم وسبيل الحق فإنه تحصل له حينئذ باعتدال القوى العقلية والشهوية والغضبية ملكة الحكمة والعفة والشجاعة وحصلت باشتباك هذه الأمور ملكة العدالة ويتأيد شرفه الذاتي بهذه الكمالات الشريفة وتمت خلافته في عالم الأبدان وتنقاد له جميع القوى والحواس حتى ينتهي سيره إلى منزل السعادة الأبدية.

(أيها الناس من قل ذل) القلة بالكسر ضد الكثرة وقل الشيء إذا لم يكثر وقله إذا أتى بقليل فالمعنى على الأول من قل ولم يكن له أنصار وأعوان ذل وهان عند الناس وفيه حث على اتخاذهم بالإحسان وحسن المعاشرة ليوم الحاجة كما يرشد إليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا: «أيها الناس أنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه» وعلى الثاني من قل عطاؤه ذل وقال بعض المحققين: الموجود في النسخ المصححة قل بالقاف والظاهر أنه بالفاء وبالقاف تصحيف قال في الصحاح: فله فانفل أي كسره فانكسر.

(ومن جاد ساد) أي جل قدره عند الناس متوليا لأمورهم يرجعون إليه وينقادون له وقد رغب في الجود بذكر بعض فوائده المرغوبة.

(ومن كثر ماله رأس) رأس رؤسا مثل قال قولا مشي متبخترا وأكل كثيرا ورأس يريس ريسا مشى متبخترا والشيء ضبطه والقوم اعتلا عليهم وقد نفر عن إكثار المال بذكر بعض خصاله المذمومة التابعة له.

(ومن كثر حلمه نبل) نبل ككرم نبالة فهو نبيل نجيب كريم حسيب وقد رغب في الحلم بذكر شيء من منافعه المطلوبة.

(ومن أفكر في ذات الله تزندق) الفكر بالكسر ويفتح إعمال النظر في الشيء ليعرفه فكر فيه وفكر وأفكر وتفكر بمعنى والزنديق بالكسر من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالله وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة يعني من نظر في ذات الله بالتحديد والتوصيف والتجزئة والتشبيه والتجسيم والمقدار والغاية والنهاية وأين هو وكيف هو ومتى هو فقد أنكر ربوبيته وكفر بالله العظيم.

(ومن أكثر من شيء عرف به) إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفيه ترغيب في الخير ليعرف به وفي بعض النسخ: «في شيء».

(ومن كثر مزاحه استخف به) إكثار المزاح والمطايبة في الأمر الجايز مذموم لما ذكر من الاستخفاف والاستهزاء والسخرية به وأما أصل المزاح فليس بمنهي عنه مع الأصدقاء والأحباء

ص:254

ومزاحه (عليه السلام) ومزاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشهوران حتى قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: «إني أمزح ولا أقول إلا حقا) ولذلك قال العلماء المنهي عنه من المزاح ما يسقط المهابة والوقار ودل على قلة العقل وخفته وأما الذي سلم من هذا فهو الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله) يفعله وكذلك الوصي على الندرة لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته وهو مستحب.

(ومن كثر ضحكة ذهبت هيبته) إكثار الضحك مذموم لذهاب هيبته وخوفه وتوقيره وتعظيمه عن القلوب وأما أصله فليس بمنهي عنه لما مر وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) إن ضحك لم يعل صوته لغلبة ذكر الموت وما بعده وكان أكثر ضحكه التبسم وقد يفتر أحيانا ولم يكن من أهل القهقهة (فسد حسب من ليس له أدب) إذ الحسب إنما يحصل بالأدب وإذ ليس فليس، ولو أريد بالحسب شرف الولد باعتبار شرف الآباء ففساده بعدم الأدب أيضا ظاهر.

(إن أفضل الفعال صيانة العرض بالمال) في النهاية العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينقض ويثلب وقال ابن قتيبة: عرض الرجل نفسه وبدنه لا غير، وفيه ترغيب في ترك المماطلة مع الغرماء وصرف المال بالإنفاق وصلة الأرحام وإخراج الحقوق المالية الواجبة والمندوبة وإعطاء الجائر مع الخوف منه تحرزا من اللوم والبخل والضرر وهتك السر ونحوها مما ينتقص به عرضه.

(ليس من جالس الجاهل بذي معقول) أي بذي علم لأن الجاهل منتهى غرضه التصرف في أحوال الدنيا وكيفية تحصيلها والتمتع بها والتكلم بالفضول ولا ينفذ بصره إلى أحوال الآخرة والعالم على عكس ذلك فبينهما تضاد والمتضادان لا يجتمعان في محل واحد وأيضا المجالسة تقتضي المكالمة والجاهل لا يقدر أن يتكلم في المعقولات والعالم يقدر أن يتكلم في أبواب الجهالات فلا محالة يجري مجراه وذلك يفسد نور علمه وأمر دنياه وعقباه وكأنه إلى هذا أشار بقوله: (ومن جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال) أي للتكلم بفضول ما يتحدث به المتجالسون الجاهلون من قولهم: قيل كذا وقال كذا، بناؤهما على أنهما فعلان ماضويان متضمنان للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خاليان من الضمير وإدخال حرف التعريف عليهما في قولهم القيل والقال وقيل القيل الابتداء والقال الجواب. وبالجملة أمر بالاستعداد لفضول الكلام وكثرته مبتديا ومجيبا وحكاية أقوال الناس والبحث عما لا يجدي نفعا بل يوجب ضياع العمر وجهد الكتبة وسواد القلب وسواد دفتر الأعمال والصعوبة في الآخرة وقال:

(لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لإقلاله) الإقلال قلة الجدة والفقر ورجل مقل أي فقير يعني أن الموت وروده على الغني والفقير ضروري لا يقدر أن يدفعه الغني بماله ولا الفقير بفقره

ص:255

وأقلاله وطلب الترحم منه إذ لا يرحم أحدا، وفيه حث على ذكر الموت وانتظاره والاستعداد لما بعده ورفض كل ما هو مانع من أمر الآخرة وتحصيل الزاد لها.

(أيها الناس لو أن الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج واللئيم الملهوج) الاشتراء خريدن وفروختن، ضد والمراد هنا الأول والكريم الشريف والأبلج الواضح المشرق والمراد به أهل العلم والعمل واللئيم ضد الكريم والملهوج من اللهج يقال: لهج بالشيء كفرح إذا أغرى به والإغرا در حرص افتادن ودر حرص انداختن كذا في كنز اللغة، وقد رغب في توقع الموت ورجحه على هذه الحياة بالنسبة إلى كل أحد إما إلى الكريم فلتخلصه من آلام الدنيا بسببه ووصوله إلى نعيم الأبد فلذلك قال سيد الوصيين حين ضرب بالسيف: «فزت ورب الكعبة» وأما بالنسبة إلى اللئيم الحريص في الدنيا فلتخلصه منها ومما يوجب زيادة العقوبة في الآخرة وحمل الاشتراء على المعنى الثاني باعتبار أن الكريم يحب البقاء للطاعات واللئيم يحب الدنيا بعيدا جدا لأن المقام يقتضي حب الموت والترغيب فيه.

(أيها الناس: إن للقلوب شواهد تجري النفس عن مدرجة أهل التفريط) عن للمجاوزة والمدرجة الطريق ولعل المراد بالشواهد الأدلة على الصراط المستقيم والهدايات إليه لأنها تشهد أنه حق وأن خلافه باطل، وفيه تنبيه على أنه لابد من قبول شهادتها بإجراء النفس فيه متجاوزا عن طريق أهل التفريط والتقصير مع الإيماء إلى أن تفريط الصحابة في حقه (عليه السلام) كان على علم ومعرفة منهم.

(وفطنة الفهم للمواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطر) الظاهر أنه مبتدأ وخبر عطفا على اسم إن وخبرها والعطف على الشواهد يقتضي خلو الموصول عن الإعراب ظاهرا والفطنة والفهم في اللغة معرفة الشيء بالقلب وفي العرف جودة تهيأ الذهن لقبول ما يرد عليه من العلوم والمعارف فالإضافة بيانية ولو أريد بالفطنة المعنى العرفي وبالفهم المعنى اللغوي أو كان الفهم بكسر الهاء كانت الإضافة لامية واللام في قوله: للمواعظ، صلة للفهم والموعظة كلام مشتمل على الأمر بالخيرات والزجر عن المنهيات والخطر بالخاء المعجمة ما يخطر بالبال من الهواجس النفسانية وبالظاء المعجمة الحرام ولعل المراد أن فطنة الذهن وفهمه للمواعظ القرآنية والنبوية ما يدعو النفس إلى الاحتراز عن المخاطرات الداعية إلى الخروج عن منهج السداد والنفور عن سبيل الرشاد وفيه توبيخ لمن ترك مقتضى فهمه وسلك سبيل البغي والعناد.

(وللقلوب خواطر للهوى) هو ميل النفس الأمارة بالسوء التابعة للقوى الشهوية والغضبية إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية إلى حد الخروج عن الحدود الشرعية وهو أشد جاذب للإنسان عن قصد الحق وأقوى ساد له عن سلوك سبيله.

ص:256

(والعقول تزجر وتنهى عنه) وقد مر في كتاب الأصول أن بين العقول الخالصة المائلة إلى العالم الأعلى وبين النفس الأمارة الراغبة في الدنيا تجاذب وأن التخلص منها إنما يحصل بكسر هاتين القوتين وإعطاء كل واحدة منهما ما يليق بها شرعا وعقلا.

(وفي التجارب علم مستأنف) أي علم جديد لأن العلوم أكثرها إنما تحصل بالتجربة وعرفها بعض المحققين بأنها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكررة معدة لليقين بسبب انضمام قياس خفي إليها [إن كان] وهو أنه لو كان هذا أمرا اتفاقيا لما كان دائما ولا أكثريا وهي مركبة من مقتضى الحس والعقل واجتماعهما وبهما يكمل العقل، ولذلك ورد في الخبر: «إن التجارب لقاح العقول» ومما علم به عدم اعتبار الدنيا وزهراتها ووفائها لأهلها كما قيل:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها فلم أرها إلا غرورا وباطلا * كما لاح ظهر الفلاة سرابها وليس الاحتياج إليها مختصا بالجاهل بل العالم أيضا يحتاج إليها ولذلك قالوا: لا يتم رأي العالم ما لم تنضم إليه التجربة وذلك أن العالم وإن علم وجه المصلحة في الأمر إلا أن ذلك الأمر قد يشتمل على بعض وجوه المفاسد الذي لا يطلع عليه إلا بالتجربة مرارا ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «رأي الشيخ أحب من جلد الغلام» قيل وجه ذلك أن المشايخ يكونون أولى بالتجربة وأكثر رأيهم صواب والشبان وإن كانوا أصحاب فطانة فكثيرا ما يخبطون إذ لا تجربة لهم وأكثر الأمور الدنيوية التجربيات.

(والاعتبار يقود إلى الرشاد) أي أبصار الدنيا والاعتبار بأحوالها الحاضرة والماضية وبما ورد على الناس بسبب مخالفة الدين وأهله وجعلها مادة للتفكر يقود إلى الهداية والرشاد ورفض الدنيا والأعمال الصالحة للآخرة والعلم بما هو المطلوب للإنسان لعلمه بأن الدنيا متكدرة وأحوالها متغيرة وزهراتها متصرمة وأن الحكمة في خلق بدنه وما فيها من الآلات والمنافع إنما هي استكمال نفسه بتحصيل العلوم الكلية والأعمال الصالحة الحسنة وفضائل الأخلاق النفسية بتصفح جزئيات ومقايسات بعضها إلى بعض كالاستدلال بحدوث الممكنات وعجائب المخلوقات على وجوده تعالى وحكمته وقدرته وجوده فتحصل الهداية إلى عالم الملك وأسرار الملكوت وإلى السعادة الأبدية التي هي قرب الحق ومن ههنا علم أن الاعتبار سبب مادي لجميع ذلك.

(وكفاك أدبا لنفسك ما تكرهه لغيرك) من الأمور الثقيلة عليه كما روي: «إن من حقوق المؤمن أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك» وهذا من أعظم الآداب الشرعية بل لا يتم إلا بتحقق جميعها أو من الأمور المذمومة شرعا لأن كراهتها سبب لأدب النفس وهو معرفة حقوق الله تعالى والإعراض عن تلك الأمور.

ص:257

(وعليك لأخيك مثل الذي لك عليه) حقوق المؤمن كثيرة منها إشباع جوعته ومواراة عورته وتفريج كربته وقضاء حاجته والسؤال عن حاله عند رؤيته والزيارة والدعاء له في غيبته والاجتهاد والرغبة في خدمته والخلافة في أهله وولده بعد موته والإتيان بمرضاته في جميع الأحوال والإعانة له بالنفس واللسان والمال وغير ذلك مما هو مذكور في كتاب الكفر والإيمان.

(ولقد خاطر من استغنى برأيه) أي من استغنى برأيه وهواه في أمور الدين والدنيا خاطر وذهب يمينا وشمالا وخرج عن طريق القصد من الخطر بمعنى الاهتزاز والاضطراب أو ألقى بنفسه في الهلكة.

يقال: خاطر بنفسه إذا ألقاها فيها وفي النهاية المحدثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعني أنهم يأخذون بآرائهم فيما يشكل من الحديث أو ما لم يأت فيه حديث ولا أثر انتهى.

وفيه رد على من جوز استعمال الرأي في باب المعارف والأسرار والأحكام ونصب الإمام فما ذهب إليه بعض الصوفية ومنهم الغزالي في كتاب الكيميا من أنه يجوز انكشاف العلوم والبلوغ إلى مرتبة النبوة بالرياضة والمجاهدة بلا توسط نبي وأن الفرق بينه وبين النبي أن النبي مأمور بالتبليغ دونه لأن النبي مثلنا في الإنسانية كما قال: (إنما أنا بشر مثلكم) وأن العلم بالمحسوسات حجاب بين العبد والرب، باطل لدلالة الروايات الصحيحة على بطلانه ولأن هذا الرجل ينبغي أن يكون نبيا صاحب الوحي أمر بالتبليغ أولا والعلم بالمحسوسات والانتقال منها إلى الصانع وما له من الحكمة والقدرة على ما قرره الشرع ليس بحجاب كيف وقد حث عليه عز شأنه في آيات كثيرة منها قوله:

(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض..) الآية ثم أنهم قالوا وجب الرجوع إلى المرشد وقد صرح به الغزالي في الكتاب المذكور فإن أرادوا بالمرشد النبي أو من أخذ الإرشاد منه فنعم الوفاق مع أنه مناقض لما مر أنه لا حاجة إلى توسط نبي وإن أرادوا غيره فهو أول البحث.

(والتدبر قبل العمل فإنه يؤمنك من الندم) هذه كلمة جامعة للنصايح كلها إذ العمل شامل للأقوال والأفعال والعقائد مطلقا والندامة أعم من ندامة الدنيا والآخرة والمدبر قبل العمل بسبب ملاحظة ما يترتب عليه لا يأتي بما يضره أو غيره ويورث الندامة فيهما ويحبس كل عضو على ما هو المطلوب منه ولا يتحقق ذلك إلا برعاية قانون الشرع وآدابه وبالله التوفيق.

(ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) لعل المراد أن من استقبل بالقلب الخالص عن الشبهات وجوه الآراء المختلفة المتفرقة ومقدماتها الوهمية والخالية وعرفها حق المعرفة عرف مواقع الخطأ فيها كما بين في موضعه مع أن مناط الرأي والقياس جمع المتشابهات في الحكم

ص:258

وتفريق المختلفات فيه والأمر بالعكس في كثير من المواضع، ويحتمل أن يراد بالوجوه الأدلة الشرعية المنصوبة على موارد الرأي والقياس الدالة على حكم مخالف لها فإن من استقبل إليها وعرفها عرف مواقع خطاء تلك الآراء وفيه على التقديرين زجر عن استعمال الرأي وحث على الرجوع إليه (عليه السلام) كما قال في بعض خطبه: «فاهدوا عني وانظروا ماذا يأتيكم به أمري».

(ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول) التعديل التقويم والتزكية والرأي في اللغة الاعتقاد مطلقا سواء كان له مستند شرعي أم لا وإن شاع عند المحدثين إطلاقه على الثاني ولعل المراد أن من أمسك عن الفضول من الأفعال والأقوال وهي ما لا ينفع وإن لم يكن موجبا للعقوبة عدلت عقول أهل العرفان رأيه واعتقاده وحكمت باستقامته وتزكيته لأن استقامة الظاهر بسبب استقامة الباطن ووجود المسبب دليل على وجود السبب.

(ومن حصر شهوته فقد صان قدره) لعل المراد بحصر الشهوة حبسها على القدر اللايق بها عقلا ونقلا وهو الوسط بين الأفراط والتفريط المقتضي للعفة المندرجة تحتها أنواع كثيرة من الفضائل كما ذكره المحقق في علم الأخلاق ويتبعها الاعتدال في القوة الغضبية والعقلية أما الغضبية فلأنها معينة للشهوية في تحصيل مطالبها بالغلبة والتسلط فإذا اعتدلت اعتدلت، وأما العقلية فلأن فسادها بفساد هاتين القوتين وغلبتهما عليها فإذا اعتدلتا اعتدلت ووقعت في الوسط المقتضي للعلم والحكمة ومن هنا ظهر أن حصر الشهوة يتسبب لصيانة القدر وحفظ المنزلة عند الخالق والخلائق إذ قدر الرجل إنما هو باعتبار الكمال الحاصل من الإعتدال في تلك القوى وفي بعض النسخ: «ومن حصن شهوته».

(ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته) في القاموس: القوم الجماعة من الرجال والنساء معا أو الرجال خاصة أو تدخل النساء على التبعية والأمن ضد الخوف وفعله من باب فرح يعني من أمسك لسانه عن الأقوال المضرة بالفعل أو بالقوة كان قومه منه في أمن ونال حاجته منهم ومن غيرهم لميل القلوب إليه وهما فائدتان له في الدنيا وفائدته في الآخرة كثيرة.

(وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال) أي يعلم جواهر الرجال وطبايعهم وكونها حسنة أو قبيحة محمودة أو لئيمة بتقلب أحوالهم في الدنيا وتغيرها وتبدلها فإن ذا الجوهر الشريف والطبع اللطيف والنية الصادقة والعزيمة الثابتة لا يتغير أعماله ولا تتبدل أحواله بل يكون كما كان الطريق المستقيم والمنهج القويم ولا ينقص شيئا من عبادته ولا يترك أمرا من عادته وإن سطا الدهر عليه وغلب وسلب منه ما كسب وانعكس حاله وانقلب وفيه ترغيب في البقاء على الطاعات والصبر على المصيبات.

(والأيام توضح لك السرائر الكامنة) قد شاع عند الفصحاء والبلغاء نسبة ذلك إلى الزمان

ص:259

تجوزا باعتبار أن الزمان من الأسباب المعدة لظهور الأسرار المستورة التي في علم الله تعالى من خير أو شر ولذلك قيل: الأمور مرهونة بأوقاتها وقد تتفاوت الأزمنة في الاستعداد لقبولها ففي بعضها يكون الشر أكثر سيما زمان ضعف الشريعة التي هي سبب نظام العالم أو الحياة الأبدية وفي بعضها يكون الخير أكثر وهو الزمان الذي تكون أحوال الخلق منتظمة فيه خصوصا زمان قوة الشريعة ولعل فيه إيماء إلى ما وقع من أمر الخلافة وانقلاب أحوال الصحابة وسلطنة بني أمية وبني عباس وتغيير قوانين الشرع وشيوع الجور والظلم على أهله وترجيح المسئ على المحسن والدني على الشريف والجائر على العادل والباطل على الحق والرذائل على الفضايل أو الأعم منها ومن نوائب الدهر وفيه ترغيب للمؤمنين في الصبر عليها والرضا بالقضاء.

(وليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة) هذا تمثيل متضمن لتشبيه زهرات الدنيا وزينتها وأسبابها الطالعة من مطالعها في سرعة زوالها وقلة الانتفاع بها واستعقابها ظلمة شديدة بالبرق الخاطف بالنسبة إلى من يخوض في الليل المظلم والغرض منه التنفير عنها وعن الركون إليها وصرف الفكر في تحصيلها والحث على الآخرة والأعمال الصالحة لها (ومن عرف الحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة) يعني المعروف بالحكمة النظرية والعملية وهي العلم بالقوانين الشرعية والعمل بها نظرت إليه العيون بالوقار له والهيبة منه لعظمته وكذلك كان حال الأنبياء والحكماء الراسخين في العلم والعمل وحمل الهيبة على هيبته من عظمة الله بعيد وفيه ترغيب في تحصيل الحكمة لما فيها من المنافع الدنيوية وأما المنافع الاخروية فظاهرة.

(وأشرف الغنى ترك المنى) الغنى ك «إلى» ضد الفقر وفي المصباح منى الله الشيء من باب رمى قدره والاسم المنا ك «العصا» وتمنيت كذا قيل: مأخوذ من المنا وهو القدر لأن صاحبه يقدر حصوله والاسم المنية والأمنية وجمع الأولى منى مثل غرفة وغرف وجمع الثانية الأماني وفيه استعارة حسية مرغبة في ترك المنى حيث شبهه بالغنى وجعله أشرف أفراده باعتبار أنه يوجب النفع والراحة والنجاة من التعب والهلاك في الدنيا والآخرة.

(والصبر جنة من الفاقة) فيه أيضا استعارة حسية مرغبة في الصبر حيث شبهه بالجنة وهي الترس ووجه التشبيه أن بالصبر يأمن من أصابه سهام الفاقة وثوران دواعي الاحتياج إلى ارتكباب المحرمات المورثة للهلاك والدخول في النار كما يأمن لابس الجنة من أذى الضرب والجرح الموجب للهلاك.

(والحرص علامة الفقر) في الآخرة لشغله عنها بالدنيا أو في الدنيا أيضا لأنه الفقير متشاركان في التعب والحزن والهم والاضطراب.

(والبخل جلباب المسكنة) الجلباب كسرداب وسمسار القميص وثوب واسع للمرأة دون

ص:260

الملحفة أو هو الخمار ولعل الإضافة من باب لجين الماء والوجه هو الإحاطة والشمول والمراد أن البخل الحاجز للبخيل عن الإنفاق على نفسه وعياله وأهل الحاجة مسكنة محيطة به في الدنيا والآخرة كما روي عنه (عليه السلام): «عجب للبخيل يستعجل الفقر الذي هرب منه ويفوته إلى الذي إياه طلب فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء».

(والمودة قرابة مستفادة) أي مودة الناس والتقرب إليهم بها وفعل ما يوده الناس لذلك الفعل قرابة مستفادة مكتسبة وهم كالأقارب يؤنسونه في السراء ويعينونه في الضراء وينصرونه في الشدة والرخاء ويجتهدون له في تحصيل المطالب ورفع النوائب ومن ثم قال (عليه السلام): «التودد نصف العقل» لأن العقل نصفان نصف عقل المعاد ونصف عقل المعاش والتودد منه (ووصول معدم خير من جاف مكثر) الوصول من الصلة والجفاء ضدها والمكثر من أكثر إذا أتى بكثير، والمعدم الفقير من أعدم الرجل افتقر، والمراد أن الفقير الوصول الحافظ لصلة الأرحام وغيرها خير من الجافي القاطع الكثير الإعطاء لأن الجفاء مذهب للعطاء والمحبة وميل القلوب إلى الوصول أكثر.

(والموعظة كهف لمن وعاها) أي الموعظة وهي ما اشتمل عليه الآيات العظيمة والسنة الكريمة من الوعد والوعيد وضرب الأمثال والتذكير بالقرون الماضية وأحوال الأمم الخالية والآراء المحمودة الجاذبة للقلوب القابلة إلى سبيل الحق كهف منيع وملجأ رفيع لمن وعاها وحفظها وتأثر قلبه اللطيف وذهنه الشريف بها فإنها تدفع عنه شهوات النفس ومكائد الشيطان وتمنعه عن السلوك في سبيل البغي وموارد العصيان وتجذبه إلى صراط الحق وطريق الجنان.

(ومن أطلق طرفه كثر أسفه) الطرف العين والطرف اللسان والفم والكل هنا مناسب وفي إطلاقه مفاسد كثيرة موجبة للأسف والحزن الطويل في الدنيا والآخرة.

(وقد أوجب الدهر شكره على من نال سؤله) لكونه نعمة غير مترقبة باعتبار تضييقه على المؤمن لا لتحقيره وإذلاله بل لتعظيمه وإجلاله كيلا يشغل بالدنيا عن الآخرة ويمكن أن يراد به دهره (عليه السلام) وما يشابهه في الشدة والصعوبة ويؤيده قوله (عليه السلام) في بعض خطبه: «أيها الناس قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد - إلى قوله - ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا» ونسبة الإيجاب وأمثاله إلى الدهر مجاز شايع عند العرب وإلا فالفاعل هو الله تعالى.

(وقل ما ينصفك اللسان في نشر قبيح أو إحسان) النصف بالكسر والسكون العدل كالإنصاف والوسط بين الموضعين أي قل ما يعدل بك اللسان ويقتصر على النصف عند البيان في نشر القبيح والإحسان والمدح والذم للإنسان بل هو في الأكثر في حد التفريط والإفراط والطغيان وهذا في المعنى أمر بحفظه وقد كرره لكثرة مفاسده.

(ومن ضاق خلقه مله أهله) الملالة الضجر والسآمة، مله ومل منه سأمه، والخلق بالضم

ص:261

والضمتين السجية والطبع والمروءة والدين وفي النهاية وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة الثواب والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة ولهذا تكررت الأحاديث في مدح الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع وفيه تنفير عن سوء الخلق وترغيب في تصفية النفس عنه وعن الأمور المؤدية إليه بذكر بعض مفاسده الدنيوية وأما مفاسده الاخروية فكثيرة.

(ومن نال استطال) أي من نال الدنيا وكثر حطامها لديه استطال على الغير وطلب العلو والترفع عليه وفيه تنفير عن الدنيا وما يلزمها من الاستطالة والكبر جميعا.

(وقل ما يصدقك الأمنية) يحتمل تخفيف الدال من صدقني فلان إذا كان صادقا في خبره فكأن الأمنية تخبرك بحصولها وهي غير صادقة غالبا فكذبها ولا تلتفت إليها كما يحتمل تشديدها بناء على أن في نفسك حصولها ولا تحصل غالبا فلا تصدقك وفيه على التقديرين مكنية وتخييلية.

(والتواضع يكسوك المهابة) أي خوفك من الله لعظمته أو خوف الناس منك لشرفك وعظمتك ولأنك بالتواضع لله ولأهله خايف من الله ومن خاف الله خاف منه كل شيء وفيه أيضا مكنية وتخييلية.

(وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق) الظاهرة للبدن والباطنة للنفس كالعلوم والمعارف والمراد بسعة الأخلاق إظهارها لكل أحد وجودها في كل شخص وهي سبب لزيادة الرزق أما بالخاصية أو باعتبار أنها جاذبة للقلوب إلى التعاون والتناصر.

(كم من عاكف على ذنبه في آخر أيام عمره) المراد بأيام العمر مدته وبآخرها نهايته وكم خبرية دالة على الكثرة وفيه إشعار بفساد أكثر الناس وتحذير لهم عن الذنوب وحيث لا يكون العمر معلوما يجوز أن يكون زمان الذنب آخره.

(ومن كساه الحياء ثوبه خفى على الناس عيبه) خفى كرضى خفاء فهو خاف إذا لم يظهر وذلك لانتفاء العيب لأن الحياء كما مر مرارا مانع من صدور ما يعاب به عقلا ونقلا خوفا من اللوم والظاهر أن المراد بثوب الحياء تغير حالة يعتري الإنسان بسبب الحياء والوجه في تشبيهه بالثوب هو الإحاطة والشمول وإسناد الفعل إلى الحياء مجاز عقلي.

(وانح القصد من القول فإن من تحرى القصد خفت عليه المؤن) أمر بطلب الاقتصاد من القول والتكلم بما فيه خير والتحرز عن غيره معللا بأن فيه النجاة من المشقات والشدايد اللازمة للأقوال الفاسدة في الدنيا والآخرة.

(وفي خلاف النفس رشدك) أي هدايتك واستقامتك على طريق الحق أمر بجهاد النفس الأمارة واللوامة حتى تصير مطمئنة سالكة لطريق الحق ومنهج الشرع حافظة لحدوده ومستمرة

ص:262

على ذلك حتى ترجع إلى المقصد الأولى والمرجع الأصلي ولا يتحقق ذلك إلا بوزن عقائدها وأعمالها وحركاتها وسكونها وميولها بميزان الشرع والعقل ومخالفة مقتضاها وكسر هواها وآلاتها البدنية وسد أبواب الإغواء والوساوس الشيطانية.

(من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد) أي من عرف الأيام وصنعها بأهلها من قلب أحوالهم وخيبة آمالهم ابتلائهم بالموت والآلام وتأديبهم بالأمراض والأسقام وأخذهم بالعقوبة والانتقام مع مشاهدة سرعة فنائها وعدم بقائها يرد قلبه عن حب الدنيا والميل إليها ولم يغفل عن الاستعداد لأمر الآخرة وما يوجب المقام الرفيع فيها.

(ألا وإن مع كل جرعة شرقا وإن في كل أكلة غصصا) الجرعة بالفتح والضم فالضم الاسم من الشرب اليسير والفتح المرة الواحدة، والأكلة بالفتح المرة الواحدة من الأكل وبالضم اللقمة والشرق والغصة الشجي وما اعترض من الماء والطعام في الحلق والمراد بالجرعة والأكلة متاع الدنيا وحطامها وبالشرق والغصص أن عيشها كدر وعذبها أجاج وحلوها صبر وصفوها متغير وحلالها مختلط بحرامها وخيرها بشرها وصحتها بسقمها وفرحها بألمها ونعمها بنقمها وحياتها بموتها وغير ذلك من المخاوف والنغصات التي لا يخلو منها أحد، وبالجملة شبه متاع الدنيا بالماء واللقمة إذ عليهما مدار الحياة فتشابها وأثبت لهم الشرق والغصة اللذين لا يساغ بهما الشارب والأكل بل يفضيان إلى هلاكهما وأومأ إلى تحققهما في المشبه أيضا لتنفير النفس عن قبوله وطلبه وتسكين قلب من تركه.

(لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى) تنفير عن الدنيا بزوال نعمها ولذاتها وعدم بقائها وثباتها وتوقف لاحقها على فوات سابقها إذ كل نوع من النعمة واللذة فإنما يتجدد شخص منها والالتذاذ بها بعد زوال مثله كلذة المأكول والمشروب والملبوس والمركوب وغيرها من الملاذ الجسمانية فإن نيلها يستدعي فوات أختها السابقة وما استلزم نيله مفارقة نعمة أخرى لا يعد في الحقيقة نعمة ملتذا بها فلابد للعاقل اللبيب من صرف عمره في تحصيل النعم الباقية من العلوم والمعارف والحكمة الإلهية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة النافعة في الدار الآخرة (ولكل رمق قوت) مقدر يأتيه قطعا والرمق محركة بقية الروح والحياة وآخر النفس خصه بالذكر للتنبيه على أن الحياة والقوت متلازمان لا يكون أحدهما بدون الآخر زجر للطالب عن الاهتمام به وصرف العمر في طلبه.

(ولكل حبة آكل) معلوم مقدر عند الله تعالى ولابد من أن ينالها وإن لم يطلبها ولا ينالها غيره وإن طلبها (وأنت قوت الموت) شبه الموت بالسبع في الإفناء والإهلاك ونبه بأنه لا خير في حياة تفنى كفناء الزاد.

(واعلموا أيها الناس أنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها) إلا ما أخرجه الدليل

ص:263

أو هو كناية عن الهلاك وهذا مع كونه ظاهرا كأنه مغفول عنه مجهول عند الأكثر فلذا احتاجوا إلى التذكير والتنبيه والزجر عن الركون إليها والاعتماد على البقاء فيها والحث على العمل لما ينفع في بطنها وبعد الخروج منها.

(والليل والنهار يتنازعان) أي يتسارعان من التنزع وهو التسرع أو يهتمان من النزعة بالفتح والكسر وهي الهمة أو يتخاصمان ويتجادلان كان كل واحد منهما يريد أن يصدر الهدم منه، وفي نسخة أخرى: (يتسارعان) بدل: يتنازعان، وفي أخرى: «يتسارعان».

(في هدم الإعمار) فيه مكنية وتخييلية وتنبيه للغافلين الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الرجوع إلى الآخرة غافلون.

(يا أيها الناس كفر النعمة لؤم) معرفة المنعم وقدر النعمة ومنها الولاية والاعتراف بأنها منه تفضلا شكر كما أن الإتيان بما يوافق ذلك الاعتراف ويدل عليه من الأقوال والأفعال المطلوبة للمنعم والموافقة لأوامره ونواهيه شكرا أيضا وترك شيء من ذلك كفران للنعمة وجحد للمنعم وتعظيمه وهو يوجب اللوم والتعنيف في الدنيا والآخرة والحمل للمبالغة.

(وصحبة الجاهل شؤم) فسر (عليه السلام) في بعض كلامه الجاهل بأنه من لا يضع الأشياء مواضعها، وقيل: هو من لا يعرف أحوال الموت وما بعده من سعادة الآخرة وشقاوتها وإنما يعرف الدنيا وما فيها، ولا خفاء في أن صحبته شؤم مطلقا سواء كان جهله مركبا أم بسيطا لأن طبعه لئيم وذهنه عقيم وفعله سقيم وقوله أليم وكل ذلك علة مسرية إلى الجليس وإن كان ذا عقل شريف وطبع نظيف ففي صحبته مضار غير معدودة وفي تركها منافع غير محدودة.

(إن من الكرم لين الكلام) عند معاملات الناس ووعظهم ومحاورتهم وهو من أجزاء التواضع وله تأثير عظيم في حسن المعاشرة وجذب القلوب وتحصيل الفوائد والكرم يطلق على سعة الخلق والخير والفضل والشرف والجود والعزة والصفح والعظمة والتنزه عن مخالفة الرب (ومن العبادة إطهار اللسان) في كنز اللغة: أطهار پاك كردن، يريد اطهاره عن الفضل من القول ووضعه في غير موضعه والغيبة والنميمة والشتم والهجو القذف ونحوه وكل ذلك في طرف الإفراط من العدل ومهلك في الدنيا والآخرة والظاهر أن الإظهار بالظاء المعجمة كما في بعض النسخ تصحيف ولو صح كان المراد باللسان القول الحق أو التكلم عن قومه حيث عجزوا عن البيان.

(وإفشاء السلام) مبتدئا ومجيبا والأول أفضل مجهرا به على البر والفاجر والوضيع والشريف والصغير والكبير إلا من أخرجه الدليل مثل اليهودي والنصراني وغيرهم من أرباب الملل الباطلة ولو بدؤوا بالسلام فقل: عليك أو سلام، كما دلت عليه الروايات وفي بعضها جواز السلام عليهم عند الحاجة إليهم إلا أنه لا ينفعهم.

ص:264

(إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم) الجاهل بالله واليوم الآخر المايل إلى الدنيا وأما الكريم فإنه يستنكف منها ويعدها عيبا شديدا ولذلك لم تكن من خصال الأنبياء والأوصياء والتابعين لهم.

(ليس كل طالب يصيب) نفر عن الدنيا وطلب حطامها بذكر غايتها وهو عدم الإصابة إما لفقد أسبابها أو لمصلحة أو لوجود مانع منها وأشد الموانع أن تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها ومجاذبتهم إياها ومن المعلوم أن ثوران الشهوة والغضب والحرص عند المجاذبة للشيء وقوة بعضهم سبب لتقويته على الآخرين ووجه التنفير أن شدة السعي والتعب على الشيء مع عدم إصابته مكروهة للسامعين.

(ولا كل غايب يؤوب) يحتمل وجهين أحدهما أن ما مضى من عمرك لا يرجع فاغتنم ما بقي وتدارك ما فات وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: «ولو اعتبرت ما مضى حفظت ما بقي» وثانيهما أن الدنيا بعد انصرافها لا ترجع فاغتنم حضورها واعمل فيها للآخرة.

(لا ترغب فيمن زهد فيك) دل بحسب المفهوم على الرغبة في راغب فيك يدل على الأمرين قوله (عليهم السلام) «زهدك في راغب فيك نقصان حظ ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس» والتجوز في الإسناد للمبالغة في السببية والوجه في الأول أن الراغب في شخص يبذل ماله لجهاته وله منه حظ ونصيب من جهات شتى إذا لم يزهد فيه وإن زهد فيه وأعرض عنه فات جميع ذلك فيكون ناقص الحظ والوجه في الثاني أن الراغب في الشخص المعرض عنه يصير حقيرا ذليلا بحسب ذاته وأفعاله وأقواله وسائر مقاصده وفيه إشارة إلى من ينبغي المخالطة معه ومن لا ينبغي.

(رب بعيد وهو أقرب من قريب) رب للكثير وفيه تنبيه على أن البعيد يصير بالإحسان والمحبة وحسن المعاشرة أقرب من القريب أو على أن الآخرة أقرب من الدنيا أو على أن الميت أقرب من الحي المصاحب لقرب الحي من الميت باللحاق وبعد الميت من الحي بالفراق (سل عن الرفيق قبل الطريق) فإنها مخوفة دقيقة واللصوص الظاهرة والباطنة كثيرة ولذا قال عز وجل: (وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله) وهو كناية عن وجوب متابعة أهل البيت عليهم السلام في سفر الآخرة أو الأعم الشامل للسفر المحسوس أيضا.

(وعن الجار قبل الدار) فيجب أن يعلم الشخص أولا حال من يصحبه فيقرب منه فإن كان حقيقا بالصحبة والجوار قرب وإلا بعد وهذا أيضا يحتمل الأمرين.

(ألا ومن أسرع في المسير أدركه مقيل) أي من أسرع إلى السير إلى الله والتزم مراد الله تعالى كان له مقيل حسن غدا كما هو معلوم في السفر الحسي.

(استر عورة أخيك لما يعلمها فيك) العورة كل ما يقبح ذكره ويذم به من العيوب الخلقية والخلقية والعملية فإذا علمتها من أخيك فاسترها منه لما تعلمها أنت أو لما يعلمها هو فيك ففي

ص:265

الأول تنبيه على أن من علم عيب نفسه ينبغي أن يشتغل عن عيب غيره وعلى الثاني على أنه يعامل معك مثل معاملتك معه فإن سترتها يسترها وإن أظهرتها يظهرها والإظهار مع ما فيه من المذلة توجب ثوران العداوة وانقطاع النظام والألفة وغير ذلك من المفاسد.

(اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك) الصديق الحبيب الخالص المحبة للواحد والجمع والمؤنث وهي بهاء أيضا ولابد لكل شخص من صديق في الرخاء للأنس بحضوره والاستلذاذ بصحبته وفي الضراء للإمداد والمعاونة فلو وقع منه زلة عمدا أو خطأ ينبغي الإغماض عنه والاغتفار له وإلا فلا تجد صديقا مرضيا من جميع الجهات. (من غضب على من لا يقدر على ضره طال حزنه وعذب نفسه) نفر عن الغضب عليه بذكر غايتين يتنفر عنهما الطبايع لأن الغضب مع عدم القدرة على إمضاء يوجب طول الحزن وعذاب النفس ومع ذلك يد ينتهض المغضوب عليه للانتقام وهو حزن وعذاب آخر.

(من خاف ربه كف ظلمه - وفي نسخة: - من خاف ربه كفى عذابه) لأن الخوف منه تعالى إنما هو لملاحظة عظمته، أو للتقصير في أداء حقوقه وكلاهما سبب للكف عن الظلم على نفسه وعلى غيره والكفاية من العذاب.

(ومن لم يزغ في كلامه أظهر فخره) لم يزغ مثل لم يقل من زاغ الرجل مال وحاد عن الشيء أولم يرغ من رغا يرغو إذا لم يفصح أو من رغى البعير إذا صوتت عند رفع الأحمال عليها أي من لم يمل في كلامه عما يوجب حسنه وفصاحته أو من أفصح في كلامه أو من لان قوله ولم يرفع صوته شديدا حتى يزجر السامعين أظهر فخره لأن جودة الكلام ولينه دليل على فخر المتكلم هذا من باب الاحتمال والله أعلم.

(من لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة) الخير مفهوم كلي يندرج تحته جميع ما أراد الله تعالى من العباد، والشر ضده: والمعنى من لم يعرفهما ولم يتميز بينهما كالجملة أو من لم يعرف الإحسان من الإساءة وقابله بها فهو والبهيمة سواء في البهيمية وعدم العقل وانقطاع حقيقة الإنسانية فيه وإن كان صورته صورة إنسان.

(إن من الفساد إضاعة الزاد) أي زاد الدنيا أو زاد الآخرة ففيه على الأول ترغيب في حفظ ما يحتاج إليه في البقاء والقيام بوظائف الطاعات وعلى الثاني في تحصيل الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة لما بعد الموت.

(ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غدا) لعل المراد أن الفاقة الأخروية وهي عدم ما يوجب السعادة الأبدية مصيبة عظيمة بحسب الذات وطول الزمان وكل مصيبة دنيوية صغيرة في جنبها فالفرار من هذه دون الأولى سفه أو الفرار في هذه للفرار من الأولى لازم.

ص:266

(هيهات هيهات) أي بعد عملكم بالآخرة وعظمة فاقتها وحقارة مصائب الدنيا بالنسبة إليها أو بعد نسبة هذه المصائب إليها إذ لا نسبة بين سريع الانقطاع وأبدي البقاء.

(وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب) أي ما تجاهلتم في أمر الدين وترك قوانينه وطلب ما ينجيكم من فاقة الآخرة إلا للمعاصي والذنوب المسودة لقلوبكم المانعة من طلب الآخرة وترك الدنيا ولو لم يكونا كانت قلوبكم منورة وجوارحكم مطهرة ورأيتم الآخرة بعين اليقين واشتغلتم بأمر الدين والغرض بالذات في أمثال هذه الفقرات هو الرد على من تركه (عليه السلام) وتمسك بالباطل والشبهات.

(فما أقرب الراحة من التعب) أي راحة الآخرة من تعب الدنيا أو بالعكس أو كلاهما في الدنيا كما قال عز وجل: (إن مع العسر يسرا) وفيه ترغيب في الصبر والصبر مفتاح الفرج (والبؤس من النعيم) البؤس بالضم الفقر والحاجة وهذا مثل السابق في الاحتمال والحمل على الصبر (وما شر بشر بعده الجنة وما خير بخير بعده النار) أراد بالشر شر الدنيا وما يثقل على النفس فيها والخير حطام الدنيا وما تميل النفس إليه فيها وكل واحد منهما في معرض الفناء فلا يضر الأول إذا كان بعده الجنة ولا ينفع الثاني إذا كان بعده النار.

(كل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية) صغر نعيم الدنيا وبلاؤها مع سرعة فنائها وعظمة نعيم الجنة وألم النار مع دوام بقائهما فلا تصرف عمرك في طلب الدنيا ونعمها ولا تحزن ببلائها وألمها إذا كان لك ما يوصلك إلى الجنان وينجيك من النيران (وعند تصحيح الضماير تبدو الكبائر) الضماير الأمور المستورة القلبية من العقايد والأخلاق وقد يطلق على القلوب وعلى الأمور المستورة مطلقا وتصحيحها في يوم القيامة وذلك يوم تبلى السرائر وعند ذلك يتميز الصحيح من السقيم والحق من الباطل ويظهر الفرق بينهما ظهورا تاما لا يشتبه على أحد ويجد كل ما أعد له وأما الدنيا فلكونها دار كمون (1) قد يدلس المدلسون ويدعون الحق ويذعن لهم القاصرون ويمكن أن يراد تصحيحها بالمحاسبة وكونها سببا لظهور الكبائر والفرار منها ظاهر.

(تصفية العمل أشد من العمل) هي جعله صافيا عن المقتضيات والمفسدات الداخلة والخارجة وخالصا لوجه الله تعالى غير ملحوظ فيه غيره حتى الفوز بالثواب والخلاص من العقاب هذه مرتبة علية ودرجة رفيعة لا يصل إليها إلا العارفون وقليل ما هم.

(وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد) النية هي القصد إلى إيقاع الفعل المأمور به شرعا وهذا وإن كان سهلا في بادي النظر لكنه صعب في نفس الأمر إذ النية ليست

ص:267


1- 1 - غموض.

مجرد القول ولا مفهومه الحاصل في الذهن بل المعتبر فيها حقيقة هو ميل القلب إلى المنوي ميلا تاما بحيث لا يعتريه ما يوجب فساده بالكلية كالرياء والسمعة وقت الفعل وبعده إلى آخر العمر ولا ما يوجب فساد كماله كالأخلاق الذميمة وآثارها وتوجه النفس إلى الغير عند الفعل فتحقق هذا الميل موقوف على تطهير القلب عن الرذايل وتزيينه بالفضايل وتنزيهه عن حب الدنيا والميل إليها ولا يتحصل ذلك إلا بمجاهدات نفسانية ورياضات بدنية في مدة طويلة، ولا خفاء في أن تخليص النية عن هذا الفساد أشد من طول الجهاد أما أولا فلأن مجاهدة النفس والشيطان مجاهدة عدو لا يزال مخادعا ولا ينال غرضه إلا بالخروج في زي الناصحين للأصدقاء ولا شك أن جهاد مثل هذا العدو أشد من جهاد عدو مظهر للعداوة.

وأما ثانيا فلأن جهاد العدو الظاهر يقع في العمر مرة أو مرتين لا دائما بخلاف العدو الخفي فلا ريب أنه أشق وأصعب وأما ثالثا فلأن جهاد العدو الظاهر أسهل لأن القوى البدنية كالغضب والشهوة تثوران عند محاربته طلبا لدفعه وتصيران تابعين للمجاهد فيما يراه ويأمر بخلاف جهاد العدو الخفي فإنهما تابعان للعدو ناصران له وأما رابعا فلأن مضرة العدو الظاهر دنياوية فانية ومضرة العدو الباطن أخروية باقية ومن كانت مضرته أشد وأعظم كان جهاده أكبر وأفخم ومن هنا ظهر سر ما روي: «نية المؤمن خير من عمله» لأنها أشق منه، (هيهات) أي بعد ظنكم بي.

(لا التقى لكنت أدهى العرب) الدهاء النكر والمكر والخدعة واستعمال الرأي في تحصيل المطالب الدنيوية وإن كان مخالفا للقوانين الشرعية وكان هذا الكلام صدر منه (عليه السلام) كالجواب لما كان يسمعه من أقوال الجاهلين بحاله ونسبتهم له إلى قلة التدبر وسوء الرأي في أمور الدنيا ونسبة غيره إلى جودة الرأي وحسن التدبر فيها لما بينهم من المشاركة في هذا العمل فمن كان فيه أتقن وأكمل كان عندهم أحسن وأفضل وغفلوا أنه (عليه السلام) كان في جميع حركاته على القوانين الشرعية ورفض ما كان عادتهم من استعمال الدهاء في الأمور الدنيوية فأفاد (عليه السلام) أن تمسكه بزمام الورع والتقوى منعه من الدهاء واستعمال كل فعل وقول وبطش مخالف للكتاب والسنة وإلا فهو أعرف بالدهاء وطرقه وكيفية استعماله من غيره ولم يكن ذلك مختصا به (عليه السلام) بل جاهل كل قوم يظن بعالمهم ذلك لأن العالم ملجم بلجام التقوى فطوره في معاملة الدنيا غير طورهم (أيها الناس إن الله تعالى وعد نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) الوسيلة) هي في الأصل ما يتوسل به إلى الشيء وجمعه الوسائل يقال: وسل إليه وسيلة وتوسل، وذكرت في الحديث مكررا وفسرت بالقرب من الله تعالى وبالشفاعة يوم القيامة وبالمنزل من منازل الجنة وهو المراد.

هنا كما سيصرح به (ووعده الحق) كل ما وعد به في الدنيا أو في الآخرة فهو حق مطابق للواقع ولن يخلف الله وعده أبدا لأن الخلف في الوعد كذب وهو على الله محال وهو كقوله تعالى: (إن

ص:268

الله لا يخلف الميعاد).

(ألا وإن الوسيلة أعلى درج الجنة) للجنة درجات يستقر فيها أهلها على تفاوت مراتبهم وأعلى درجاتها منازل الأنبياء والأوصياء وأعلى درجاتهم نبينا وأوصياؤه عليهم السلام والظاهر من العلو العلو الحسي ويحتمل العقلي باعتبار الشرف والرتبة. (وذروة ذوائب الزلفة) الزلفة القربة والمنزلة وتشبيهها بالصورة الحسنة في الرغبة وإثبات الذوائب لها وهي الخصلة المجتمعة من الشعر على الرأس مكنية وتخييلية والذروة بالضم والكسر الأعلى من كل شيء وإضافتها إلى الذوائب بيانية وحملها على الوسيلة من باب التشبيه بالسنام للبعير في العلو والارتفاع. والحاصل أن الوسيلة هي أعلى درجات القربة والمنزلة ويحتمل أن يشير بالذوائب إلى تفاوت درجات الزلفة وبذروتها إلى أعلى درجاتها ووجه المشابهة تدلي درجات القربة من الأعلى إلى الأسفل كتدلي ذؤابة الشعر عن الرأس.

(ونهاية غاية الأمنية) المراد بالغاية هنا المسافة الوهمية لأهل الأماني والوسيلة نهايتها إذ لا منزلة فوقها.

(حتى تتمنى لها ألف مرقاة) المرقاة ويكسر الدرجة والظاهر أن الضمير راجع إلى الوسيلة وأن مرقاتها ودرجاتها حسية في العلو، والعقلية محتملة كما مر.

(ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام) من أعوام الدنيا على الظاهر لأن العام عند الإطلاق ينصرف إليه الحضر بالضم العدو، احضر فهو محضر إذا عدى والجواد من الفرس الجيد المعجب السابق السريع والظاهر أن التحديد بهذه المسافة حقيقي والحمل على المبالغة محتمل (وهو ما بين مرقاة درة إلى مرقاة جوهرة.. اه) الظاهر أن الضمير راجع إلى حضر الفرس وأن التدريج من الأسفل إلى الأعلى حتى يكون مرقاة النور على المراتب والعكس محتمل وإن الدرة والجوهرة وباقي الأسماء محمولة على ظواهرها إذ ا استبعاد في وجودها بالنظر إلى إرادة الحق وقدرته الكاملة وحملها على أرض الجنة المشابهة بالمذكورات في الألوان والصورة أو المنثورة فيها هذه المذكورات أو المسماة بها محتمل، وهنا شيء وهو أن الموعود من المرقاة ألف والمذكور خمس عشرة وأن حضر الفرس بين المرقاتين في نسخة: مائة عام وفي آخر ألف عام، بين الأمرين تفاوت كثير ويمكن دفع الأول بأن في المذكور اقتصارا أو أن المذكور أسامي بعض الألف بأن ذكر من كل جملة اسم واحدة وبين كل مرقاتين من المعدودة جملة غير معدودة بأسمائها، مثلا بين مرقاة درة وجوهرة جميلة وهكذا، ويمكن دفع الثاني بأن الواقع أحدهما معينا، وأما دفعه بأن مائة عام حضر الفرس بين كل مرقاتين من الألف وألف عام حضر الفرس بين المرقاتين اللتين بينهما جملة فتتقارب النسختان ويندفع التفاوت الفاحش فبعيد والله يعلم حقيقة

ص:269

الحال، وفي القاموس: في فصل اللام والجيم يلنجوج عود البخور نافع للمعدة المسترخية جدا والغمام جمع الغمامة وهي السحابة أو البيضاء والهواء الفضاء المرتفع بين الأرض والسماء وكأن إضافة المرقاة إلى هذه الثلاثة باعتبار الاشتمال على الريح المخصوص واستقرار غمام الرحمة فوقها وارتفاعها والله يعلم حقيقة هذه الأشياء ونحن من أهل التسليم.

(قد أنافت على كل الجنان) أناف على كذا أشرف عليه وارتفع والظاهر أن ضمير التأنيث في أنافت وفي عليها في قوله: «ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يومئذ قاعد عليها» راجع إلى مرقاة نور بناء على أن التدريج من الأسفل إلى الأعلى واحتمال رجوعه إلى الوسيلة بعيد.

(مرتد بريطتين) في النهاية: الريطة كل ملاءة ليست بلفقتين، وقيل: كل ثوب رقيق والجمع ريط ورياط والملاءة الإزار والجمع ملاء بالضم والمد وقال بعضهم: إن الجمع ملا بالضم والقصر والواحد ممدود والأول أثبت.

(عليه تاج النبوة وإكليل الرسالة) التاج الإكليل فالعطف للتفسير والإكليل بالكسر شبه عصابة محيطة بالرأس مزينة بالجواهر.

(قد أشرق بنوره الموقف) موقف القيامة يفرج ويستبشر ويستضئ بنوره كل من آمن به وبوصيه والظاهر أن الوسيلة وإن كانت من الجنة مشرقة على أهل الموقف.

(وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته) لأن الوزير دون الأمير قريب منه والظاهر أن هذه الدرجة مرقاة هواء وهو مؤيد لما ذكرنا من أن وصف المرقاة به باعتبار الرفعة والله يعلم.

(وعلى ريطتان ريطة من أرجوان النور وريطة من كافور) الأرجوان بالضم الأحمر يعني أحديهما أحمر كالأرجوان والأخرى أبيض كالكافور.

(والرسل والأنبياء قد وقفا) في بعض النسخ «قد وقفوا» (على المراقي) الباقية على تفاوت درجاتهم (وأعلام الأزمنة وحجج الدهور عن أيماننا) اريد بهم الأئمة عليهم السلام لأنهم أعلام ظاهرة وحجج نيرة في العالم لدلالة الخلق على ما يتم به نظامهم في المعاش والمعاد وفيه دلالة على تقديمهم على سائر الأنبياء.

(وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسول (صلى الله عليه وآله) غمامة بسطة البصر) أي مد البصر ولعل المراد بالغمامة إما معناها الحقيقي وهي السحابة البيضاء أو طائفة من الملائكة مجتمعون كاجتماع الغمامة في جو السماء يأتي منها النداء:

(يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي.. اه) أي طيب العيش في هذا اليوم أو الجنة له لأنها يوجب طيب العيش (ومن كفر [به] فالنار موعده) أي من كفر بالنبي كفر جحود وكفر مخالفة بإنكار ما جاء به من الولاية وغيرها.

ص:270

(عن يسار الرسول (صلى الله عليه وآله) ظلة) في بعض النسخ: «ظلمة» فيها الاحتمالان المذكوران (له الملك الأعلى) وهي الجنة والسعادة العظمى.

(والاقتداء بنجومهما) المراد بها الأئمة عليهم السلام لأنهم نجوم يهتدى بهم أهل الأرض في نيه الجهالة (فأيقنوا يا أهل ولاية الله ببياض وجوهكم.. اه) المراد بولاية الله ولايته وولاية من أمر بولايته وفيه تبشير للتابعين له (عليه السلام) بقرب المنزلة وشرف المقام وتحريض لهم على المتابعة كما أن ما بعده إنذار للمخالفين ببعد المرتبة وسوء المقام وتخويف لهم عن المخالفة لعله يتذكر من يتذكر ويخشى.

(وما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبرا أمته.. اه) قد جرت سنة الله تعالى أن يخبر كل نبي من لدن آدم (عليه السلام) إلى خاتم الأنبياء أمته ووصيه برسول يأتي من بعده ويبشرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) ويذكر حليته وصفته عندهم (ليعرفوه بصفته) التي وصفه بها بينهم (وليتبعوه على شريعته) القويمة وطريقته المستقيمة التي منها الولاية لأوصيائه.

(ولئلا يضلوا فيه من بعد) أي في رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعد ظهوره، فالضميران راجعان إليه ولو رجع الأول إليه والثاني إلى النبي المخبر بصفته لزم تفكيك الضمير (فيكون من هلك) بإنكاره (وضل) بإنكار شيء مما جاء به كالولاية مثلا (بعد وقوع الإعذار والإنذار) من مخالفته وترك شريعته والإعذار بالكسر مصدر يقال: أعذر الله إليه إذا لم يبق منه موضعا للاعتذار فالهمزة للسلب.

(عن بينة وتعيين حجة) خبر يكون أي هلك عن بينة واضحة وحجة ظاهرة حتى لا يمكن له أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا من الغافلين ولذلك بعث الله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

(فكانت الأمم) الماضية (في رجاء من الرسل) أي من مجيء بعضهم عقب بعض آخر.

(وورود من الأنبياء) بعد من مضى منهم.

(ولئن أصيبت بفقد نبي بعد نبي على عظم مصائبهم وفجائعها بهم) العظم بضم العين وسكون الظاء أو بكسر العين وفتح الظاء، والفجايع جمع الفجيعة وهي الرزية (فقد كانت على سعة من الأمل) لعدم انقطاع الوحي وخبر السماء وورود الرسل.

(ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله).. إلى آخره) أشار إلى أن الناس ما أصيبوا بمصيبة أعظم منها إذا انقطع بموته النبوة وأنباء الأسرار وأخبار السماء لكونه خاتم الأنبياء فلا يصاب الناس بمثل تلك المصيبة أبدا فهي مسلية لهم عن المصيبة بمن سواه وما يسكن قلوب الناس عن هذه المصيبة العظيمة في الجملة هو التوسل بذيل من أقامه مقامه كما أشار إليه بعد هذا.

(وجعله بابه الذي بينه وبين عباده) لأنه (صلى الله عليه وآله) باب جنته وعلمه وحكمته وأسراره وتوحيده

ص:271

وشريعته ورحمته ومن أراد أن يصل إلى الله وجب عليه أن يتوسل إليه ويتمسك به ولفظ الباب مستعار (ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به) أي رقيبه وشاهده على عباده في أقوالهم وأعمالهم وعقائدهم (ولا قربة إليه إلا بطاعته) أي لا قربة لأحد إلى الله تعالى ولا وسيلة يتوسل بها إليه إلا بطاعته فيما أمر به ونهى عنه وأعظم ما جاء به هو نصب خليفة له. لئلا يضل أمته بعده فمن أنكر خليفته لم يطعه (ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) أي من تولى وأعرض عن طاعة الله أو عن طاعتك فما أرسلناك عليهم حفيظا تحفظهم عن التولي والإعراض جبرا وإنما عليك البلاغ فكأن ذلك دليلا على ما فوض الله إليه أي رد عليه أمر العباد وجعله الحاكم فيه فوجب عليهم الطاعة له والتسليم لأمره ونهيه والانقياد له في جميع ما جاء به من أصول الدين وفروعه ولا يجوز لهم التقول في شيء من ذلك برأيهم وفيه زجر لهم عما ارتكبوا من أمر الخلافة ونحوه من الأمور الدينية المخالفة للقوانين الشرعية.

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.. اه) المحبة ميل القلب إلى ما يوافق والله تعالى منزه عن أن يميل ويمال إليه فمعنى محبة العبد ربه طاعته وهي إنما تحصل باتباعه (صلى الله عليه وآله) كما أشار إليه بقوله:

(فاتباعه (صلى الله عليه وآله) محبة الله) ومعنى محبة الله عبده رضاه عنه وهو سبب لغفران ذنوبه وكمال فوزه بالسعادة العظمى وكمال نور إيمانه ووجوب الجنة له ويمكن أن يقال: معنى محبة العبد ربه هو الميل إليه حقيقة والذي يتنزه الله سبحانه عنه إنما هو الميل إليه في الحس لإشعاره بالجهة والمكان وليست المحبة الميل بالحس بل بالقلب ولا يمتنع ميل القلب إليه وتعلقه به كما يتعلق به المعرفة ولما كانت محبته بهذا المعنى أيضا لا تحصل إلا بمتابعة النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه وسيلة إليه ومبين لما يجوز ويمتنع عليه وجب على من أراد أن يشرب من رحيق المحبة أن يتمسك بعروة المتابعة التي لا انفصام لها ولا يخفى ما في جعل المتابعة واسطة بين محبة الطرفين من الإيماء إلى أنه (صلى الله عليه وآله) هو المحبوب على الإطلاق وفي المقام دقايق لا يخفى على العارفين (وفي التولي عنه والإعراض محادة الله) أي في التولي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإنكار رسالته وفي الإعراض عنه بإنكار ما جاء به الذي منه الولاية معاداة الله ومخالفته ومنازعته (وغضبه وسخطه والبعد منه) أي من رحمته وعدم نيلها أبدا والغضب والسخط إذا نسبا إليه تعالى يراد بهما سلب الإكرام والإحسان والعقوبة بالسلاسل والنيران.

(مسكن النار) أي كل واحد من الأمور المذكورة مسكنة في النار ونسبة الإسكان إليه مجاز باعتبار أنه سبب للدخول فيها يعني الجحود به والعصيان له إشارة إلى أن الكفر به شامل لكفر الجحود وكفر المخالفة بانكار ما جاء به، ولما أومأ مرارا إلى أن الخلافة حق له كما أشرنا إليه في بعض الفقرات المذكورة أراد أن يذكر شيئا من صفاته الكريمة ونعوته العظيمة الدالة على ذلك مع

ص:272

التفصيل والتصريح به فقال:

(فإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده) حيث كلفهم بطاعته والانقياد له والتسليم لحكمه كما كلفهم بطاعة رسوله (وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحاده) أشار (عليه السلام) إلى غاية شجاعته ونصرته للدين وصبره على الجهاد والقتال مع الكافرين وكان في قوة الحرب مشهورا بين العرب والعجم ولم يكن يعادله أو يقاربه أحد من الأمم وكان (عليه السلام) سيفا داميا وشجاعا حاميا قد تولى الحرب بنفسه النفيسة فخاض غمارها واصطلى نارها ورفع أوزارها وأجرى بالدماء أنهارها حتى قام الدين على ساقه غالبا مسرورا بعد ما كان من صدمات المشركين مغلوبا مقهورا (وجعلني زلفة للمؤمنين) لأنه حصل لهم بحبه قرب ومنزلة عند رب العالمين وحمل الزلفة للمبالغة إذ هو سبب لها.

(وحياض موت على الجبارين) الحياض بالحاء المهملة كناية عن المعارك لورود الموت وكثرة أسبابه فيها ومنه سمي الحوض حوضا لأن الماء يسيل إليه ويجتمع فيه وفي نسخة بالخاء المعجمة وهو مصدر يقال: خاض الماء يخوضه خوضا وخياضا دخله وعلى الاستيلاء والاستعلاء والجبار المتكبر العاتي الذي لا يرى لأحد عليه حقا والعظيم القوي والشجاع أي جعلني موتا على الجبارين إلا أنه أدرج لفظ الخياض للدلالة على سهولة ذلك والمراد بالموت إما إزهاق النفس بالقتل أو موتها بالمخالفة له (عليه السلام) والحمل على التقديرين للمبالغة.

(وسيفه على المجرمين) إطلاق السيف عليه على سبيل التشبيه بالقطع والإهلاك والإفناء (وشد بي أزر رسوله) الأزر الضعف والظهر وقد كان (عليه السلام) ظهيرا له (صلى الله عليه وآله) في المعارك كلها على أبطال العرب حين فشل الصحابة وجبنوا حتى قوي به ظهره واشتدت به قوته على الأعداء.

(وأكرمني بنصره) قد كان (عليه السلام) ناصرا له في جميع الأحوال خصوصا في حال هجوم الأعادي عليه والأبطال كما هو المشهور والمذكور في كتب السير والآثار.

(وشرفني بعلمه) المكنون المخزون مثل العلم بأسرار القضاء والقدر والتوحيد وبما كان وما يكون وما هو كاين وبأحوال القيامة والجنة والنار ومن فيها وأمثال ذلك.

(وحباني بأحكامه) أي أعطاني أحكامه الدينية يقال: حباه كذا وبكذا إذا أعطاه وأحباه العطية (وقد حشده المهاجرون والأنصار) أي اجتمعوا إليه يقال: حشده القوم فهو محشود إذا اجتمعوا وخدموه (وانغصت بهم المحافل) المحافل جمع المحفل بكسر الفاء وهو مجتمع الناس والانغصاص والامتلاء يقال: منزل غاص بالقوم إذا امتلأ بهم.

(أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.. اه) لا بأس أن نذكر ما نقله العامة في صحاحهم وحكموا بصحته ونذكر أقاويلهم وتأويلاتهم وما سنح لي وما ذكره أصحابنا

ص:273

في جوابهم ليظهر لك أطراف الكلام فنقول: روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي» وفي مسند أحمد بن حنبل من عدة طرق وفي صحيح البخاري وغيره من صحاحهم من عدة طرق أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما خرج إلى تبوك استخلف عليا مدينة وعلى أهله فقال علي: وما كنت أوثر أن تخرج إلا وأنا معك؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. واستدل أصحابنا رضوان الله عليهم بهذا الحديث المتواتر عند العامة والخاصة بالتنصيص على خلافته (عليه السلام) وتوضيحه أن النبي (صلى الله عليه وآله) أثبت لعلي (عليه السلام) جميع منازل هارون من موسى واستثنى النبوة فبقي الباقي على عمومه لأنه قضية الاستثناء ومن جملة منازل هارون من موسى أنه كان خليفة لموسى (عليه السلام) (اخلفني في قومي). وقوله تعالى حكاية عن موسى: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) قال الآبي في كتاب إكمال الإكمال عند شرح هذا الحديث: قال ابن العربي: إنما قال (صلى الله عليه وآله) ذلك تأنيسا وبيانا لفضله حين قال أهل النفاق: إنما خلفه كراهية فيه، فإن قيل:

إن هارون (عليه السلام) أفضل الناس بعد موسى فكذلك يكون علي رضي الله عنه، أجيب بأن هارون (عليه السلام) إنما كان أفضل الناس لأنه كان رسولا انتهى.

أقول: كما جاز أن يكون النبي أفضل من غيره لنبوته جاز أن يكون غير النبي أفضل من غيره لاختصاصه بفضيلة لم توجد في غيره. فالجواب المذكور تحكم. وقال الآبي قال الآمدي: لا يخفى أن عليا رضي الله عنه كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة بعضها كاف في استحقاق الإمامة وقد اجتمع فيه من حميد الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة حتى قيل: إنه من أشجع الصحابة وأعلمهم وأزهدهم وأنصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقربهم نسبا وصهرا منه كان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة وقد قال فيه رباني هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنه وسأله معاوية عنه قال: كان وكان، فلم يبق محمدة من محامد الدين والدنيا إلا وصفه بها مع ما ورد فيه من الآثار المنهية على مناقبه.

وذكر ابن عبد البر بإسناده إلى ضرار الصعداني وقال له معاوية: صف لي عليا يا ضرار؟ فقال: أعفني يا أمير المؤمنين. فقال: لا بد.

فقال: أما إذ ولابد من وصفه فكان والله شديد القوي، بعيد المدى، يقول فصلا، ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غريز الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان

ص:274

بيننا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري أبي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيك فعمرك قصير وخطرك قليل آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق» فبكى معاوية وقال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك كيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، ثم قال الآمدي: وهذه صفاته وأما إثبات إمامته فبإجماع الأمة عليها بعد قتل عثمان واتباعهم له ودخولهم تحت قضاياه بعده من غير منازع ولا مدافع انتهى.

أقول فانظر رحمك الله كيف اعتقد بالحق ثم أنكره من حيث لا يعلم لاتفاق جماعة من المنافقين على عبادة العجل وفي المقام زيادة بسط يطلب في علم الكلام، وقال الآبي: قال عياض:

احتجت بهذا الحديث الإمامية والروافض وسائر فرق الشيعة على أن الإمامة حق لعلي بعده وأنه (صلى الله عليه وآله) استخلفه بهذا اللفظ وشبهه على سائر الأمة بعده ثم اختلفوا فكفر بعضهم ساير الصحابة لتركهم الحق بتقديمهم غيره وكفر بعضهم عليا إذ لم يطلب حقه ومذهب هؤلاء أسخف من أن يرد عليه ولا خفاء في كفر القائلين بهذا لأن من كفر كل الأمة والصدر الأول فقد أبطل ثقل الشريعة وهدم الإسلام وأما غير هؤلاء فلا نكفرهم ثم اختلفوا فالإمامية وبعض المعتزلة يخطيهم وبعض المعتزلة لا يخطيهم لأنه يجوز تقديم المفضول على الفاضل ولا حجة في الحديث لأحد من الفريقين لأنه لم يستخلفه عموما بل على المدينة خاصة عند سفره لتبوك كما استخلف موسى هارون الذي شبه به عند سفره إلى المناجاة بقوله: «اخلفني في قومي» فلما رجع منها رجع هارون إلى حالته الأولى وكذلك علي رضي الله عنه فالمعنى أنت خليفتي على المدينة عند سفري كما كان هارون (عليه السلام) ومعنى «ولا نبي بعدي» أي بعد بعثتي وفي ظني أن ذلك تنبيه على ما اقترفه الرافضة من نبوة علي حتى تجاوز بعضهم إلى أن ادعى أنه الله سبحانه وقد أحرق علي رضي الله عنه بعض من قال ذلك فافتتن بذلك جماعة وقالوا الآن حققنا أنه الله لا يعذب بالنار إلا الله، وما دل عليه الحديث لا يحط من مزلة غيره، انتهى.

أقول: ليس في لفظ الحديث ما يشعر باختصاص استخلافه (عليه السلام) على أهل المدينة فقط ولا على حال حياته فقط ولا على عزله بعد الاستخلاف بل هو نص على عموم الاستخلاف وعدم العزل وكونه (عليه السلام) خليفة له (صلى الله عليه وآله) في سفر تبوك لا يقتضي تخصيص الخلافة العامة المستفادة من الحديث بذلك الوقت بوجه من الوجوه إذ لا منافاة بينهما. وبالجملة خلافته (عليه السلام) مثل خلافة هارون (عليه السلام) ولا

ص:275

تفاوت بينهما إلا في النبوة وكما كان خلافة هارون ثابتة له ما دام حياته من غير توسط عزل من موسى عليه السلام كذلك خلافة علي (عليه السلام) ثابتة له ما دام حياته من غير توسط عزل من النبي (صلى الله عليه وآله) وعدم بقاء خلافة هارون بعد موسى (عليه السلام) لموت هارون قبله لا يقتضي عدم بقاء خلافة علي (عليه السلام) بعد نبينا (عليه السلام) لما عرفت من أن كل واحد منهما كان خليفة في عمره وما ذكره من أن هارون كان خليفة لموسى في حال سفره فقط ولما رجع عزله ورجع هارون إلى حالته الأولى يعني عدم الخلافة كلمة هو قائلها، لأن دعوى اختصاص خلافة هارون بحال السفر وعزله بعد الرجوع من الدعاوي الباطلة لا مستند له بل خلافته كانت ثابتة له ما دام حياته كيف وقد سأل موسى (عليه السلام) ربه طلب خلافته ووزارته في بدء الرسالة لقوله (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي) وقال سبحانه (قد أوتيت سؤلك يا موسى) (1).

وقوله «ومعنى لا نبي بعدي» أي بعد بعثتي غرضه من هذا التقرير تخصيص خلافة علي (عليه السلام) بكونها في حياة النبي (عليه السلام) وبيان عدم دلالة لا نبي بعدي على ثبوتها بعد وفاته (صلى الله عليه وآله).

أقول: التقدير خلاف الظاهر من غير داع لما عرفت لثبوت عموم الخلافة على أن التقدير لا ينافيه لأنه إذا ثبت في حال الحياة ثبت بعد الوفاة أيضا إذ لم يتحقق العزل اللهم إلا أن يقال: رجوع النبي من السفر عزل لعلي (عليه السلام) عن الخلافة ولا يخفى سخافة هذا القول لأن الرجوع ليس بعزل لا عادة ولا عرفا ولا لغة.

قيل: هذا يوجب أن يكون إماما في حياة النبي والمنقول من السلف خلافه، أجيب بأن الظاهر يقتضي ذلك وفي الأصحاب من قال منزلة الإمامة ثابتة له في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما لم يسم إماما لوجود النبي (صلى الله عليه وآله) مع أن تسميته أمير المؤمنين في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وارد قد نقله كثير من العلماء، وامتناع اجتماع الخليفة والمستخلف في عصر واحد ممنوع ولا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا إذا كان أحدهما أصلا والآخر تابعا فإن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ينطق بالوحي وعلي (عليه السلام) كان باب مدينة علمه فإن قيل: قد استخلف النبي معاذ بن جبل وابن أم مكتوم وغيرهما ولم يوجب ذلك لهم إمامة فكذا علي (عليه السلام).

قلنا: نحن لا نثبت إمامته بمجرد استخلافه وجعله نايبا بل بالحديث المذكور ولم يرد مثل ذلك

ص:276


1- 1 - أقول: هذا كله بناء على صدور الحديث قبيل غزوة تبوك فقط، ولكن الصحيح أنه صدر من فم أبي القاسم صلوات المصلين عليه في أكثر من موضع منها عند ولادة الحسن ومنها عند ولادة الحسين عليهما السلام، ومنها عند مرض النبي (ص) ومنها في مرض موته في بيته، ومنها في أخر خطبتة خطبها في المدينة في المسجد، وقد فصلنا ذلك في كتابنا النصوص على آل محمد (صلى الله عليه وآله) (المصحح).

في شأنهم على أن الإجماع من الأمة على أن هؤلاء لا حظ لهم بعد الرسول في الإمامة فارق.

فإن قيل هذا: الاستخلاف كان مختصا بالمدينة فقط لا يقتضي ذلك الرئاسة العامة التي هي الإمامة. قلت: الحديث لا يدل على ذلك الاختصاص أصلا كما أشرنا إليه وعلى تقدير التسليم إذا ثبت له الخلافة وفرض الطاعة بالنص في بعض الأمة بعده ثبت له ذلك في جميعهم إذ لا قائل بالفصل فكان الإجماع مانعا من هذا القول.

قيل: دلالة الحديث على أن له منازل هارون كلها لا يدل على نفي إمامة الثلاثة قبله لأن لفظ بعدي يحتمل البعدية بلا فصل وبفصل فمن جعله إماما بعد عثمان فقد عمل بموجب الخبر، أجيب بأنه من حيث وضع اللغة محتملة لأمرين لكن صار المفهوم منه بحسب العرف البعدية بلا فصل إذ لو قال قائل هذا المال بعدي للفقراء تبادر إلى الأفهام أنه أراد بعد موته بلا فصل والتبادر دليل الحقيقة فيكون البعدية بلا فصل حقيقة عرفية، وكذا إذا قيل فلان جلس على سرير الملك بعد فلان فإنه لا يفهم منه إلا ذلك فكذا فيما نحن فيه وأيضا إذا سلم الخصم أن له جميع منازل هارون ومن منازل هارون أنه لم يعزله موسى (عليه السلام) عن الخلافة فكذا لم يعزل النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) عن الخلافة فإذا كانت خلافته ثابتة مستمرة في حال الحياة وفي حال الموت وبعد الموت فلم يبق بعد الموت محل لخلافة الثلاثة. ثم من قال بإمامته بعد الرسول بلا فصل وفرض طاعته كطاعة الرسول لم يكفر جميع الصحابة وجميع الصدر الأول وإنما كفر من بلغه النص وخالفه ولا دليل على امتناع تكفير بعض الصحابة بل الأحاديث الدالة على كفر بعضهم وخروجهم من الرحمة الإلهية موجودة من طرق العامة أيضا وقد نقلناها في مواضع من هذا الكتاب ومن جملتها الأحاديث الدالة على طرد بعضهم عن الحوض فيقول (صلى الله عليه وآله) «أصحابي أصحابي، فيقال: ما تدري ما فعلوا بعدك فيقول «سحقا سحقا». وأما تكفير بعضهم عليا (عليه السلام) لعدم طلبه حقه فهو ظاهر الفساد لأنه (عليه السلام) طلب حقه وهم لم يسمعوا منه وقد ذكروا في كتبهم ذلك ونقلناه منهم في بعض المواضع من هذا الكتاب، نعم لم يجادلهم بالسيف لقلة ناصره.

(وقوله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أنه مبتدأ خبره محذوف، أي في ولايتي أو في نحوه وأن هذه الجملة يفسرها ما بعدها وهو قوله: (قائلا في محفله).

(حين تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله)) أي ملاك أموره ومتوليها بعده وكل من ولي أمره فهو مولاه ووليه أو ملاك أمور الخلائق القائمون بها بعده من قبله وبالجملة ادعوا أن أمور الأمة والتدبير والتصرف فيها لهم.

(فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى حجة الوداع ثم صار) بعد الفراغ منها (إلى غدير خم) هو موضع على ثلاثة أميال من الجحفة بين الحرمين أو خم اسم غيضة هناك بها غدير ماء وفيها مسجد

ص:277

للنبي (صلى الله عليه وآله).

(فأمر فأصلح له شبه المنبر) قيل: أصلح له ذلك من جهازات الإبل روي أنه تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع أن يجعل عليا (عليه السلام) خليفته ووصيه بمحضر الخلائق ليبلغ الشاهد الغائب فلما أمره بذلك ضاق به صدره وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه فراجع ربه فلما بلغ غدير خم أوحى الله إليه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) فنزل وأمر باجتماع الناس فاجتمعوا وأصلح له شبه المنبر فعلاه وقال: من وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: الله ورسوله.

فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ثلاث مرات فوقعت حسكة النفاق في قلوب القوم وقالوا: ما أنزل الله تعالى هذا على محمد قط وما يريد إلا أن يرفع بضبع ابن عمه والحديث مشهور بين العامة والخاصة في غاية البسط ونهاية المبالغة، وفي قوله (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فعلي مولاه» إفادة ثبوت الولاية له (عليه السلام) على نحو ثبوتها له (صلى الله عليه وآله) من غير تفاوت وهي أنه سيد الأمة ومقتداهم ومالك أمورهم ومتوليها وأولى بالتصرف منهم فيها والمنعم عليهم بالعلم والتعليم والهداية والإرشاد، وفي الفائق قال ثعلب: معناه من أحبني وتولاني فليتوله وفيه قوله: «اللهم وال من والاه» معناه أحب من يحبه.

(وأنزل الله تعالى في ذلك اليوم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)) دل على أنها نزلت يوم غدير خم ودل عليه روايات أخر وهذا ينافي ما رواه المصنف في كتاب الحجة في باب ما نص الله تعالى ورسوله على الأئمة بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل «ثم نزلت الولاية وإنما آتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)، وروي مثله في طريق العامة روى مسلم عن ابن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: آية في كتابكم تقرؤونها لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. وأي آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) الآية. فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعرفات في يوم الجمعة ونحن معه، قال القرطبي: هو يوم عرفة في حجة الوداع. وقال مجاهد: نزلت يوم فتح مكة. ويمكن رفع المنافاة بأنها نزلت مرتين. إذا عرفت هذا فنقول: الولاية آخر فريضة نزلت ولم تنزل بعدها فريضة يدل عليه ما رواه المصنف باسناده في الباب المذكور عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كانت الفريضة نزلت بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) قال أبو جعفر (عليه السلام): يقول الله تعالى لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض» وذهب إليه أيضا مجاهد قال: ودينكم معناه شرايع دينكم لأنها نزلت نجوما وآخر ما نزل

ص:278

منها هذه الآية.

وكذا ذهب إليه ابن عباس قال: ولم ينزل بعد هذه الآية حكم ومعنى الآية بتفسير أهل البيت عليهم السلام (اليوم أكملت لكم دينكم) بولاية علي (عليه السلام) وأتممت عليكم نعمتي بإكمال الشرايع بإمامته ورضيت لكم الإسلام دينا بخلافته. والعامة لما لم يعرفوا ذلك اعترضوا على الآية بأنه تعالى لم يزل كان راضيا بدين الإسلام فلم يكن لتقييده باليوم.

فائدة: وأجاب عنه القرطبي بأن معنى قوله (رضيت لكم الإسلام دينا) أعلمتكم اليوم برضاي له دينا وإلا فهو سبحانه كان دائما راضيا بذلك فلا يرد أن لا فائدة للتقييد باليوم لأن رضاه وإن كان دائما لكن الإعلام برضاه وقع في ذلك اليوم، فاعرف قبح ذلك الاعتراض مع الجواب وكن من الشاكرين. وهو قوله:

(ثم ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) ثم ردوا بعد الموت أو بعد الحشر إلى الله أي إلى حكمه وجزائه وهو يتولى أمرهم يعدل بينهم ولا يحكم إلا بالحق وله الحكم يومئذ لا لغيره ويحاسبهم في أقل زمان حتى قيل: في مقدار حلب شاة، لا يشغله حساب عن حساب وهذه الأمور وإن كانت لله تعالى ظاهرا لكنها له (عليه السلام) باطنا وهو سبحانه يكلها عليه ويفوضها إليه وإنما نسبها إلى ذاته المقدسة لأنه الآمر ولأن حكمه (عليه السلام) حكم الله تعالى وكثيرا ما ينسب ما لوليه إلى ذاته تعالى كما مر نظيره في آخر كتاب التوحيد.

(في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع) أشار إجمالا إلى ما دل على علو قدره من المناقب والمفاخر والكمالات التي لم يكن قليل منها لجميع الأمة وقد اتفقت عليه العامة والخاصة كما مر في كتاب الحجة وأوضحنا من طريق العامة أيضا كما أشار إليه أيضا في بعض خطبه بقوله: «وينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير» كنى بالأول عن علوه وشرفه وفيضان العلوم والتدبيرات السياسية عنه واستعار لتلك الكمالات لفظ السيل وبالثاني إلى غاية أخرى من العلو إذ ليس كل مكان بحيث ينحدر عنه السيل وجب أن لا يرقى إليه الطير فكان ذلك علوا أزيد إذ لا تصل إليه عقول البشر ومن مناقبه هو العلم بكل شيء كما أشار إليه في بعض خطبه: والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه ولكن أخاف أن يكفروا في برسول الله (صلى الله عليه وآله). والحاصل أني أخاف أن يغلو في أمري ويفضلوني على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل كان يخاف أن يكفروا فيه بالله كما ادعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغايبة، ثم ذم ذما بليغا للخلفاء الثلاثة وأتباعهم وتفرقهم عنه وغصب الخلافة منه ومنازعتهم إياه واجتماعهم على من هو أولى منه مع الإشارة إلى أنهم كانوا من عبدة الأوثان فلم يكونوا مستحقين للخلافة وأمثال هذه الشكاية صدر منه (عليه السلام) في مواضع غير محصورة فقال:

ص:279

(ولئن تقمصها دوني الأشقيان) (1) اللام دليل على قسم محذوف تأكيد لمضمون الشرط والجزاء والقمص لبس القميص يقال: قمصه تقميصا فتقمص إذا لبسه وضمير التأنيث للأمر المعلوم وهو الخلافة وتشبيهها بالثواب مكنية ونسبة التقمص إليها تخييلية ودون بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والاشقيان الأول والثاني والمعنى والله لئن لبس الاشقيان الخلافة متجاوزين عني غير تابعين لي فيها (ونازعاني فيما ليس لهما بحق) ثابت من الله ومن رسوله ولا لهما أهلية له بل هو لي من قبلهما وبالاستحقاق.

(وركباها ضلالة واعتقداها جهالة) ضلالة وجهالة بالنصب على المفعول له أو على التميز لنسبة الفعلين ففيه على الأول تنبيه على أن ثمرة الفعلين هي الضلالة والخروج عن الدين والجهالة في أحكامه وتبديلها وتغييرها وعلى الثاني على أن المتحقق من الفعلين فيهما هو هذا الفرد أعني ركوب الضلالة والجهالة دون الآخر أعني ركوب الحق والعلم (فلبئس ما عليه وردا) في الدنيا من الجهالة والضلال.

(ولبئس ما لأنفسهما مهدا) في الآخرة من العقوبة والنكال وفي الذم العام دلالة على غاية فخامة ذلك ونهاية فظاعته بحيث لا يصل إليه عقول البشر ولا يحوم حوله طائر النظر.

(يتلاعنان في دورهما) وهي القبور وفي دار الآخرة أو جهنم أو الجميع.

(ويتبرأ كل واحد منهما من صاحبه) لشدة الغيظ منه بتحصيل الأسباب لإضلاله وتكميل البواعث لخسرانه ونكاله.

(يقول لقرينه) الذي كان يضله ويغويه دائما والقرين المقارن والمصاحب والشيطان المقرون للإنسان الذي لا يفارقه وقد كان صاحبه شيطانا له.

(إذا التقيا يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) أي بعد المشرق من المغرب غلب المشرق وثني وأضيف البعد إليهما أو بعد مشرقي رجوع الشمس وهما طرفا طول الأيام وقصرها، (فبئس القرين) أنت إذ أصابني ما أصابني بإغوائك وإضلالك.

(فيجيبه الأشقى على رثوثة) أي حال كونه على قبح منظر وسوء حال ورثاثة هيئة لتغير صورته وتكسر جثته بألم النار وشدة الغم في دار البوار.

(يا ليتني لم أتخذك خليلا لقد أضللتني عن الذكر بعد إذ جاءني) وتمكنت من الاقتداء به هذا كلامه عند اللقاء كما صرح به (عليه السلام) وأما عند مفارقته وزوال الاقتراب وتألمه بشدة العقوبة والعذاب

ص:280


1- 1 - ظاهر الفقرات أن هذه الخطبة كانت بعد انقضاء دولتهما فما مر في أول الخبر من أنها كانت بعد سبعة أيام من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) سهو من بعض الرواة.

وكمال غيظه عن صاحبه اللئيم فيقول ما ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم من باب الغيبة وهو قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان - يعني قرينه المضل له - للإنسان خذولا) يؤذيه بالوسوسة والاغواء والاضلال إلى الهلاك والعقوبة والنكال ثم يتركه ويخذله ولا ينفعه والخذول فعول الخذلان.

(فأنا الذكر الذي عنه ضل) بعد إذ جاءه وتمكن من الاقتداء به.

(والسبيل الذي عنه ضل) وتمنى الأخذ به حيث لا ينفعه التمني في قوله (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا).

(والإيمان الذي به كفر) في قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) وهو (عليه السلام) إيمان لأن الإيمان إنما يتحقق بالإقرار بولايته (والقرآن الذي إياه هجر) في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) سمي هجره هجر القرآن لأنه مترجم القرآن ولسانه ولأن من هجره هجر القرآن ومقتضاه من الأمر بولايته.

(والدين الذي به كذب) في قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين) سمي دينا لأن بولايته تمام الدين (والصراط الذي عنه نكب) في قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون).

(ولئن رتعا في الحطام المنصرم) الحطام النبات اليابس واستعارة للمال ومتاع الدنيا ووجه المشابهة قلة الانتفاع والبقاء وسرعة الزوال والفناء ووصفه بالانصرام وهو الانقطاع للمبالغة والتأكيد في عدم الاعتماد عليه وتشبيه الرجلين بالبهائم مكنية وإثبات الرتع لهما تخييلية وذكر الحطام ترشيح.

(والغرور المنقطع) الغرور بالفتح الدنيا سمي به لأنها توجب غرة أهلها وغفلتهم عن الآخرة وأما الغرور بالضم وهي الأباطيل جمع غارف يأباه تذكير المنقطع.

(وكانا منه على شفا حفرة من النار) الشفا طرف كل شيء وجانبه وأشفى عليه أشرف أي وكانا من الرتع في الحطام والغرور المقتضي لتركهما دين الحق وارتكاب الخلافة على طرف حفرة من نار جهنم لم يكن حاجز من الدخول فيها إلا الموت يقال: لمن فعل فعلا على غير أصل أو يتوقع منه عقوبة لكونه على غير قانون عقلي أو طريق شرعي: إنه على شفا حفرة من النار، ونحوه قوله تعالى:

(أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار..) الآية.

ص:281

(لهما على شر ورود) على الله تعالى يوم القيامة مع السلاسل والأغلال على أقبح الوجوه والأحوال وهو جزاء الشرط واللام زايدة للتأكيد.

(في أخيب وفود) الوفود إما مصدر بمعنى القدوم والورود أو جمع وافد وهم قوم يجتمعون ويردون البلاد أو يقصدون الأمراء للزيارة أو الاسترفاد يقال: وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفود ووفادة قدم وورد وهو وافد وهم وفود ووفد.

(وألعن مورود) يردان عليه وهو نار جهنم أو صديدها نزلهما منزلة الماء على سبيل التهكم لأن الماء يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار وصديدها بالضد وقيل مثل ذلك في قوله تعالى:

(وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) يقال: ورد يرده ورودا إذا حضره ليشرب والورد الماء الذي يرد عليه الواردون وهو مورود.

(يتصارخان باللعنة) أي لعنة كل واحد منهما على صاحبه والصراخ الصوت والصيحة الشديدة (ويتناعقان بالحسرة) على ما فرطا في ولاية ولي الله وقصرا في حقوقه والنعق الصيحة وفي التصارخ والتناعق إيماء إلى استمرار ذلك في جميع الأوقات تحقيقا لمعنى المقارنة (ما لهما من راحة) من الآلام والشدائد.

(ولا عن عذابهما من مندوحة) أي سعة وفسحة من النجاة عنه يقال: إنه لفي مندوحة من كذا أي في سعة منه ثم أشار إلى ما كان القوم عليه من الشرك وآثار الجاهلية وما أنعم الله عليهم بإرسال الرسول وإخراجهم عنها وكفرانهم بتلك النعمة الجليلة ورجوعهم إلى الجاهلية الأولى بقوله:

(إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان) أي خدمتها جمع سادن وهو الخادم المتولي لأمور الغير.

(يقيمون لها المناسك) هي جمع المنسك بفتح السين وكسرها وهو المذبح والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك والمتعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان ثم سميت أمور الحج كلها مناسك ثم اتسعت وسميت الطاعات والعبادات كلها مناسك وبه صرح الزمخشري في الفائق وبالجملة كلما يتقرب به العبد إلى الله تعالى يسمى مناسك وهم ظلموا أنفسهم فوضعوها في غير موضعها.

(وينصبون لها العتائر) أي الذبايح جمع العتيرة وهي الذبيحة التي كانوا في الجاهلية يذبحونها للأصنام ويصبون دمها على رؤوسها.

ويتخذون لها القربان) للتقرب منها (ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام) كما قال الله تعالى ردا وإنكارا لما أبدعوه في الجاهلية و: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة

ص:282

ولا حام) أما البحيرة وهي من البحر وهو الشق وفي تفسير القاضي: إن أهل الجاهلية إذا انتجب الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب وسموها البحيرة وفي النهاية: إن إبلهم إذا ولدت خمسا بحروا أذنه، وقالوا: اللهم إن عاش فقسى وإن مات فذكى فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة، وفي القاموس: إنهم كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن بحروها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال وسموها البحيرة أو هي التي خليت بلا راع أو التي إذا نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحروه فأكله الرجال والأنثى وإن كان أنثى بحروا أذنها فكان حراما عليهم لحمها ولبنها وركوبها فإذا ماتت حلت للنساء أو هي في النساء خاصة إذا نتجت خمسة أبطن بحرت وهي العزيزة أيضا وفي الأخيرين قيل: البحيرة بنت السائبة وحكمها حكم أمها وأما السائبة ففي الأول أن الرجل منهم كان يقول إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وفي الثاني: كان الرجل منهم إذا جاء من سفر أو برأ من مرض أو غير ذلك قال ناقتي سائبة فلا تمنع من ماء ولا مرعى ولا تحلب ولا تركب.

وقيل: البحيرة بنت السائبة كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف وتركوها مسيبة لسبيلها وسموها السائبة فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها وخلو سبيلها وحرم منها ما حرم من أمها وسموها البحيرة وفي الأخيرة السائبة المهملة والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب أي يترك لا يركب والناقة تسيب في الجاهلية لنذر أو نحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن أناث سيبت وكان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجيت دابته من مشقة أو جرب قال هي سايبة وكانت لا تمنع من ماء وكلاء ولا تركب.

وأما الوصيلة ففي النهاية: هي الشاة إذا ولدت ستة أبطن اثنين اثنين وولدت في السابعة ذكرا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها فاحلوا لبنها للرجال وحرموا على النساء، وقيل: إن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منها الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركت مع الغنم وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها ولم يذبح وكان لبنها حراما على النساء. وفي القاموس: الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن ومن الشاة التي وصلت سبعة أبطن عناقين وإن ولدت في السابعة عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء ويجري مجرى السائبة أو الوصيلة خاصة بالغنم كانت الشاة إذا ولدت الأنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا جعلوا لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم أو هي شاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها فإذا ولدت ذكرا قالوا: هذا قربان لإلهتنا.

وأما الحامي ففي القاموس: إنه الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود أو عشرة أبطن ثم هو حام حمى ظهره فيترك ولا ينتفع منه بشيء ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

ص:283

(ويستقسمون بالأزلام) الزلم محركة وكصرد قدح لا ريش عليه والجمع أزلام سهام ثلاثة كانوا يستقسمون بها في الجاهلية بيان ذلك أنهم إذا قصدوا فعلا مهما كالسفر والزواج وغيرهما ضربوا ثلاثة أسهم وجعلوها في وعاء، مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي والثالث غفل.

وفي النهاية مكتوب على أحدهما افعل وعلى الآخر لا تفعل ولم يذكر الثالث وهو الغفل كما ذكره القاضي وغيره فإن خرج الأول مضو على ذلك وإن خرج الثاني كفوا عنه وإن خرج الثالث أجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب ما قسم لهم بها وإليه أشار جل شأنه في أول سورة المائدة بقوله (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. - إلى قوله - وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم) أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح لأنه فسق قال القاضي: لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه وافتراء على الله إن أريد بربي الله وشرك إن أريد به الصنم وقال بعض المحققين منهم صاحب الكشاف: لأن فيه طلب علم الغيب من غير الله كاستعلام الخير والشر من الكهنة والمنجمين.

وأما طلبه منه تعالى ففيه كلام وقد أطبقوا على جواز الاستخارة بالقرآن.

أقول من قبيل الاستقسام بالأزلام ما اشتهر اليوم من الاستخارة بديوان بعض الشعراء ويمكن أن يراد به هنا وفي الآية استقسام الجزور بالأقداح العشرة على الأنصباء المعلومة والسهام العشرة على هذا الترتيب كما صرح به بعض الشعراء في نظمه إياها.

الفذ والتوأم والرقيب والنافس والمسبل * والحلس والمعلى والسفيح والمنيح والوغد والثلاثة الأخيرة لا نصيب لها وكانت على مخرجها قيامة الجزور ولكل واحد من السبعة السابقة نصيب بتزايد واحد على السابق حتى كان للمعلى النصيب الأعلى فمن أخرج واحدا منها أخذ نصيبه وجعل صاحب القاموس الحلس رابعا والنافس خامسا والمسبل سادسا أو خامسا.

(عامهين عن الله عز ذكره) أي غافلين عنه تعالى جاهلين عما أراد منهم، في النهاية العمة في البصيرة كالعمى في البصر فكما أن الأعمى لا يهتدي إلى مقاصده المحسوسة بالبصر لعدمه كذلك فاقد البصيرة لا يهتدي إلى مقاصده المعقولة لاختلال بصيرته، وفي القاموس: العمة محركة التردد في الضلال والتحير في منازعة أو طريق أو أن لا يعرف الحجة وفعله كمنع وفرح.

(جائرين عن الرشاد) أي مايلين عن طريق الحق ضالين عن منهج الصواب من جار عن الطريق يجور إذا مال وضل. وفي بعض النسخ: «حائرين» بالحاء المهملة أي راجعين من الحور بمعنى الرجوع.

(مهطعين إلى البعاد) الإهطاع الإسراع في العدو أي مسرعين إلى البعاد عن رحمة الله تعالى أو

ص:284

عن الخير أو عن سبيل الحق أو إلى الهلاك أو إلى الخيانة أو إلى اللعن والبعاد في الثلاثة الأولى من البعد ضد القرب وفي الثلاثة الأخيرة من البعد بهذه المعاني وكل ذلك لجهلهم بربهم وكتابهم نبيهم وشريعتهم ومراشد أمورهم ومصالحها.

(قد استحوذ عليهم الشيطان) أي استولى عليهم وألجمهم بلجامه وقادهم إلى سبيله لكون نفوسهم قابلة لذلك وهذه اللفظة أحد ما جاء على الأصل من غير إعلال خارجة عن أخواتها نحو استقال واستقام (وغمرتهم سوداء الجاهلية) الغمر التغطية يقال: غمره الماء إذا غطاه ففيه مكنية وتخييلية والمراد بالسوداء إما الجاهلية على أن يكون الإضافة بيانية أو الجهالة أو الخصلة الذميمة على أن تكون الإضافة بتقدير في، ووصفها بالسوداء للدلالة على حيرتهم فيها ولعل المراد أنهم كانوا غائصين في الجاهلية أو في جهالتها أو في خصالها الذميمة وهو كناية عن تصرفاتهم الباطلة على جهل منهم بما ينبغي لهم من وجوه التصرفات الصحيحة، ويمكن أن يكون المراد أنهم كانوا في شدة وبلية وذلك لأن العرب كانت حينئذ في شدائد من ضيق المعاش والنهب والغارات وسفك الدماء.

(ورضعوها جهالة) تشبيه الجهالة باللبن مكنية ونسبة الرضاع إليها تخييلية وفيه تنبيه على أنهم كانوا في أول العمر ساعين في طلب الجهالة راغبين في تحصيل لوازمها.

(وانتظموها ضلالة) في كنز اللغة: الانتظام بهم - باز دوختن - وهو يفيد أنه يجيء للتعدية والافتعال قد يجيء لها وإن كان غالبا للمطاوعة كالاحترام والاتهام ونحوهما ولعل المعنى انتظموا الجهالة بالضلالة ووصلوها بها وفيه تنبيه على أن ضلالتهم وخروجهم عن الدين ثمرة جهالتهم فيه وفي بعض النسخ «وانفطموا» أي انفطموا عن رضاع الجهالة من أجل غذاء الضلالة شبه الضلالة بالطعام بعد الفطام والمقصود بيان تمرنهم بالجهالة والضلالة حتى صار ذلك حاجبا لهم عن قبول الحق سابقا والرجوع عنه لاحقا.

(فأخرجنا الله إليهم رحمة) لنخرجهم من الظلمات إلى النور (واطلعنا عليهم رأفة) لنهديهم إلى سبيل الحق وننجيهم عن دار الغرور.

(وأسفر بنا عن الحجب نورا لمن اقتبسه وفضلا لمن اتبعه وتأييدا لمن صدقه) الإسفار الإضاءة والإشراق، والباء في «بنا» للسببية، والمراد بالحجب أغشية الجهالة المنصوبة على قلوب الكافرين وأغطية الغفلة المضروبة على عقول الغافلين حتى غفلوا عن الرب وصفاته وما ينتظم به أمر معاشهم ومعادهم وهي ناشئة من ظلمات الهيئات البدنية والمعارضات الوهمية والخيالية المانعة عن مشاهدة أنوار عالم الغيب والشهادة وهي قابلة للزيادة والنقصان والقوة والضعف وإليه أشار جل شأنه بقوله: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات

ص:285

بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) فمثلهم كرجل وقع في بحر لجي صفته كذلك فأشار به إلى مالهم في الدنيا من الأخطاء المهلكة والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية، والثاني موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والحقد والحسد والمباهاة والمفاخرة والسحاب هو الاعتقادات الباطلة والحالات الفاسدة التي صارت حجبا لبصيرتهم عن إدراك نور الحق إذ خاصية الحجاب أن يحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهرة وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن يكون ظلمات بعضها فوق بعض، و «نورا» وما عطف عليه منصوب على التميز وهو في المعنى فاعل لأسفر كما هو المقرر في النحو.

والمراد به إما القرآن أو الشريعة أو العلوم الحقة أي يبصر بنورها ذو العماية ويرشد بهداها ذو الغواية، والمراد بالفضل إما الإحسان بهداية القلوب بعدما كانت غائصة في ظلمات الذنوب أو العلم والفضيلة وهي الدرجة الرفيعة في الفضل والكمال أو النعمة الجسيمة ومنه الفواضل وهي الأيادي الجميلة والمراد بالتأييد التقوية والنصرة في الدين والإعانة في طلب اليقين من الأيد بمعنى القوة وملخص المعنى والله يعلم أسفر الحق أي أضاء وأشرق وكشف نوره وفضله وتأييده عن الحجب الظلمانية المذكورة بسبب وجودنا فوجودنا سبب لوصول تلك النعماء الجسيمة من الله تعالى إليهم ويمكن أن يكون أسفر باعتبار أنه بمعنى أضاء متعديا ونورا مفعوله والباء للسببية كما مر فإن أضاء قد يجيء للتعدية أيضا.

(فتبوؤا العز بعد الذلة) أي نزلوا في عز الدنيا والآخرة بالهداية بعد الذلة فيهما بالغواية والقتل والغارة والنهب والأسر وعبادة الأصنام ونحوها من أسباب الذلة، والكثرة بعد القلة لاجتماعهم على دين واحد حتى كأنهم صاروا شخصا واحدا بخلاف أحوالهم سابقا فإنهم كانوا على مذاهب مختلفة وآراء متشتتة وقلوب متفرقة ومنازل متباعدة حتى لا يقدر أن يبيت كل صنف منهم خوفا في بيوتهم وخيامهم ولكن في منازلهم ومقامهم.

(وهابتهم القلوب والأبصار) لكثرة الأعوان والأنصار حتى بلغت هيبتهم إلى الأقطار والأمصار كما دلت عليه السير والأخبار.

(وأذعنت لهم الجبابرة وطوايفها) في بعض النسخ «وطواغيتها» والظاهر أن إضافة الطوائف أو الطواغيت إلى ضمير التأنيث بتقدير اللام وأن المراد بهم الولاة المنصوبة من قبلها.

(وصاروا أهل نعمة مذكورة) في ألسنة العباد، هذا ناظر إلى الإذعان والانقياد (وكرامة منشورة) في البلاد هذا ناظر إلى الهيبة.

(وأمن بعد خوف) من أهل البغي والفساد هذا ناظر إلى العز (وجمع بعد كوف) من أهل

ص:286

العناد هذا ناظر إلى الكثرة.

والكوف القطع.

(وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان) قد كانت له مفاخر كثيرة وكان بينهم إلى عدنان عشرون بطنا روي عنه (صلى الله عليه وآله): إن الله اصطفى من العرب معدا واصطفى من معد بني النضر بن كنانة واصطفى هاشما من بني النضر واصطفاني من بني هاشم.

(وأولجناهم باب الهدى) إذ بهم خرج الناس من تيه الضلالة وظلم الغواية وبهم الجهالة ودخلوا باب الهداية واهتدوا إلى القوانين الشرعية والنواميس الإلهية والسياسات المدنية والأخلاق الفاضلة النفسانية (وأدخلناهم دار السلام) أي دار الإسلام وإن أريد الجنة فالتقدير أدخلناهم فيما يوجب دخولها لأن الإدخال في السبب إدخال في المسبب.

(وأشملناهم ثوب الإيمان) أي أعطيناهم إياه يقال: أشمله إذا أعطاه إياه والتركيب من باب لجين الماء والوجه هو الإحاطة والشمول والزينة.

(وفلجوا بنا في العالمين) أي غلبوا وظفروا أو ظهروا لأنهم كانوا في خمول الذكر في جهل الجاهلية وظلمة الكفر وبهدايتهم عليهم السلام خرجوا إلى نور الإسلام واشتهروا وظهروا في البأس كالساكن في الظلمة إذا خرج إلى ضوء النهار.

(وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين) الإبداء الإظهار فالأيام فاعله والإسناد مجاز والآثار مفعوله ولو كان الإبداء بمعنى الظهور أو الابتداء كانت الآثار فاعله والأيام ظرفا له. ثم أشار إلى بعض أنواع من آثار صلاحهم بقوله:

(من حام مجاهد) أي حام لنفسه وأصحابه من لحوق العار والضرر والإيذاء مجاهد في دين الحق مع المعاندين والأعداء.

(ومصل قانت) أي خاشع أو قائم أو ساكت عن الفضول أو داع أو قانت بالقنوت المعروف (ومعتكف زاهد) أي معتكف في المسجد على شروطه زاهد في الدنيا تارك لها أو قليل الأكل (يظهرون الأمانة) هي حفظ حقوق الخالق والمخلوق وفيه إيماء إلى أنهم لم يكونوا مستقرين فيها ولا موصوفين في نفس الأمر.

(ويأتون المثابة) هي المنزل لأن أهله يثوبون إليه أي يرجعون ومنه قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) أي مرجعا ومجتمعا، ولعل المراد بها بيت الشريعة أو بيت الله الحرام ويمكن أن يراد بها ما يورث الثواب من الأعمال الصالحة، ثم أشار إلى سرعة انتقالهم عن الحالات المذكورة لعدم رسوخها واستقرارها إلى حالات منافية لها كانت راسخة في طبايعهم في أيام الجاهلية والاستبعاد غير مسموع كما دلت عليه روايات العامة أيضا وقد ذكرنا بعضها في شرح الأصول.

ص:287

(حتى إذا دعا الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) ورفعه إليه) أي إلى رحمته ورضوانه (لم يك ذلك) أي المذكور من أحوالهم الدالة على استقامتهم ظاهرا.

(إلا كلمحة من خفقة) الخفقة تحريك الناعس رأسه والتاء للوحدة والتنكير للتقليل واللمحة زمان رؤية واحدة وكثيرا ما يعبر بها عن الزمان القليل جدا ولذلك فسرها بمقدار زمان النعاس القليل أو زمان اختلاس النظر منه وهذا من أحسن العبارات في إفادة قلة الزمان مع إشارة لطيفة إلى دخولهم حينئذ في غفلة النعاس.

(أو وميض من برقة) أي لمعانها يقال: ومض البرق يمض ومضا وميضا وومضانا إذا لمع خفيفا، ولم يعترض في نواحي الغيم وهذه أيضا من أحسن البيان لإفادة قلة الزمان مع إشارة خفية إلى اضطرابهم.

(إلى أن رجعوا على الأعقاب) فضلوا عن طريق الصواب والرشاد، وسلكوا سبيل الغي والفساد، وعدلوا بالخلافة عنه وعن أهل بيته عليهم السلام إلى خلافة أبي الفصيل والرجوع على الأعقاب كناية عن الرجوع عما كانوا عليه ظاهرا من الانقياد للشريعة وأمر الله تعالى ورسوله ووصيته بأهل بيته وقد صح من طرق العامة والخاصة أنهم لم يشتغلوا بعد رجوعه (صلى الله عليه وآله) إلى الحق بدفنه واشتغلوا بنصب الخليفة وعللوا ذلك بأنه لا يجوز بقاء الأمة بعده بلا إمام طرفة عين ولم يعلموا لجهلهم أنه يلزمهم ذلك لبقاء الأمة عندهم بلا إمام أكثر وأنه يلزم أن يكونوا أعلم منه (صلى الله عليه وآله) حيث لم يعلم أنه لا يجوز ذلك ومضى بلا نصب إمام، لا والله علموا جميع ذلك ولكن حب الدنيا والرئاسة حملهم عليه. من أضله الله فلا هادي له.

(وانتكصوا على الأدبار) النكوص الرجوع إلى وراء هو القهقري وبذلك قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا في عهده (صلى الله عليه وآله) من الخير وصلاح أهلها وأقبل منها ما كان مدبرا من الشرور التي أدبرت فيه وظهور الإسلام وإليه أشار (صلى الله عليه وآله) بقوله «الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ» وفيه تنبيه على أن رجوعهم عن الدين على هذا الوجه تمويه وتدليس منهم إذ لو أدبروا عنه بالكلية وتركوه من جميع الوجوه لم يحصل ما هو مطلوب لهم من الرئاسة لعدم تحقق الانقياد لهم من العرب وغيرهم من أهل الإسلام.

(وطلبوا الأوتار) جمع وتر وهو الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي ومنه الموتور الذي قتل له قتيل ولم يدرك بدمه وكأنه إشارة إلى سبب انحرافهم عنه (عليه السلام) وهو أنه جنى من كل قوم من العرب جنايات وقتل منهم جماعة في الحروب فصار ذلك سببا لميلهم عنه أو إشارة إلى ما وقع بينه وبين معاوية وأصحاب الجمل وأهل النهروان فإن كلهم نسبوا الجناية إليه من قتل عثمان وغيره مما لم يفعله فيكون حينئذ إخبارا بالغيب لأنه أخبر بما سيقع وقد وقع والإتيان

ص:288

بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه.

(وأظهروا الكتائب) جمع الكتيبة وهي القطعة العظيمة من الجيش وهذا أيضا يحتمل الأمرين الأول الجيوش التي سيخرجون عليه والثاني جيش أبي بكر لأنه صار سلطانا صاحب جيش يحارب بهم كل من خالفه (وردموا الباب) سدوه وأراد به ذاته المقدسة لأنه باب الله وباب الشريعة وباب مدينة العلم والمراد بسده منع الناس من الرجوع إليه والدخول فيه (وفلوا الديار) أي كسروا دار الإسلام والشريعة وغلبوا على أهلها قهرا وعنوة (وغيروا آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله)) وهي سنته وقوانينه التي قررها بأمر الله في بضع وعشرين سنة (ورغبوا عن أحكامه) من الحلال والحرام وغيرهما لأن بناء تصرفاتهم في الدين على القياسات والاجتهادات والاستنباطات المخالفة لمناط الأحكام الشرعية وقد كان المعروف من الأحكام ما عرفوه بآرائهم وإن كان منكرا في الشريعة والمنكر منها عندهم ما أنكره طباعهم وإن كان معروفا فيها.

(وبعدوا من أنواره) وهي العلوم الإلهية والأسرار القرآنية أو الأئمة الطاهرة فخرجوا بذلك من طاعة الله ورسوله ورجعوا إلى الضلال القديم والجهل الذي كانوا عليه.

(واستبدلوا بمستخلفه بديلا اتخذوه) فيه إيماء إلى أن منشأ الاستبدال إنما هو أهواؤهم من غير أن يكون له أصل صحيح أو سند صريح وكانوا ظالمين في هذا الاستبدال على أنفسهم ومن اتبعهم إلى يوم الدين (وزعموا أن من اختاروا.. اه) فيه تصريح ببطلان اختيارهم لأنه مضاد لاختيار الرسول (صلى الله عليه وآله) وأكثر مما يستعمل فيه الزعم في كلام الفصحاء الكذب والباطل والشك واعلم أن الأحاديث المشتركة بين العامة والخاصة وصريح كلام علمائهم المشهورين دلت على أنهم غصبوا الخلافة منه (عليه السلام) وظلموه قال أبو عبد الله الآبي في شرح مسلم: ونقل عن بعض أصحابه أيضا أنه لم يكن بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أحد يماثله (عليه السلام) أو يدانيه ويقاربه في صفات كماله وأنه كان في كل واحدة من صفات الكمال فائقا على جميع الأمة وأنه كان أولى باستحقاق الخلافة والإمامة من الجميع إلا أنه أجمعت الصحابة على أبي بكر مع أنه ذكر في الشرح المذكور أن كثيرا من الصحابة لم يبايعوا صاحبهم وعدهم بأسمائهم وظني أني ذكرتها في شرح الأصول.

أقول: لعل السبب لعدولهم عنه (عليه السلام) حب الدنيا والرئاسة وغلبة تصرفهم في أمور المسلمين وأموالهم وبيت المال وطمع الفاسقين منهم في الولايات الجزئية وشدة حسدهم وعداوتهم على أهل البيت عليهم السلام خصوصا على ذاته المقدسة حيث قتل من أقربائهم جمعا كثيرا واعتقادهم أن مخالفة حكم النبي (صلى الله عليه وآله) سهل كمخالفة حكم ساير الأمراء والسلاطين.

(وإن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني) الياء فيها للنسبة والجمع إن كان علما كالأنصار لا يرد إلى الواحد في النسبة والمراد به ذاته المقدسة (عليه السلام) وفي النهاية الرباني

ص:289

منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة وقيل: هو من الرب بمعنى التربية كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها والرباني العالم والراسخ في العلم والدين والذي يطلب بعلمه وجه الله تعالى وقيل: العالم العامل المعلم.

(ناموس هاشم بن عبد مناف) الناموس صاحب سر الملك والحاذق وقيل: صاحب سر الخير وفيه إشارة إلى مفاخر هاشم وقد كان في حسن الظاهر والباطن والكرم والأخلاق والعلم والعفاف مشهورا في العرب.

(ألا وإن أول شهادة زور) أي كذب وافتراء (وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله)) دل على أنهم ادعوا استخلافه ولم أطلع في رواياتهم ما يدل عليه إلا ما رووه من أنه (صلى الله عليه وآله) استخلفه عند اشتداد المرض على الصلاة بالقوم وفيه على تقدير صحته أنهم نقلوا أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) مع شدة مرضه جاء متكئا على علي (عليه السلام) وعباس إلى المسجد وعزله وصلى بالقوم فلعله استخلفه ثم عزله ليظهر أنه لا يستحق الخلافة للصلاة فضلا للخلافة العامة كما استخلفه في تبليغ سورة البراءة ثم عزله بنصب علي (عليه السلام) لذلك ومنهم من أخذته العصبية فقال لم يعزله واقتدى به وهذا افتراء ومخالف لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله..) الآية.

(فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان.. اه) حيث اجتمعت طائفة من الأنصار عليه في سقيفة بني ساعدة وأرادوا أن يأخذوا له البيعة فحضر الأول والثاني مع أتباعهم فقالوا: إنه (صلى الله عليه وآله) مضى ولم يستخلف أحد ولابد من خليفة لحفظ بيضة الإسلام وكل واحد من الفريقين يدعي أن يكون الخليفة منهم ويذكر لمطلبهم مرجحات حتى علت الأصوات واشتدت المناظرة فبادر عمر وبعض المنافقين إلى بيعة أبي بكر واستقر الأمر فيه طوعا وكرها.

(وعن قليل يجدون غب ما يعملون) الغب بالكسر عاقبة الشيء وفيه وعيد لهم بأنهم يجدون جزاء عملهم عند الموت وبعده (وسيجد التالون غب ما أسسه الأولون) وعيد للتالين عن متابعة هذه السنة المتبعة التي أسسها الأولون وكون المراد منهم من يعرف قبحها ويحترز عنها بعيدا جدا (ولئن كانوا في مندوحة من المهل) أي من رفق الله تعالى بهم أو من تأخيرهم أو من تقدمهم في الدنيا وخيراتها والمهل بالتسكين وقد يحرك والمهلة بالضم الرفق والتأخير وبالتحريك التقدم.

(وشفاء من الأجل) الأجل يطلق على مدة العمر وعلى غايته أيضا وهي وقت الموت ولعل المراد أنهم في صحة الأجسام والأبدان من تمام العمر على أن يكون الشفاء بالكسر والمد وهو الدواء والبرء من المرض كناية عنها أو في طرف من غايته على أن يكون الشفاء بالفتح والقصر ولكن رسم الخط يأباه أو على شقاوة منهم على أن يكون بالقاف كما في بعض النسخ والله يعلم.

ص:290

(وسعة من المنقلب) وهي بكسر اللام متاع الدنيا ونعيمها لأنه منقلب على أهلها وبفتحها انقلابهم فيه (واستدراج من الغرور) هو بالفتح الدنيا ومتاعها وبالضم مصدر بمعنى الغفول والخدعة والطمع بالباطل وجمع غار وهي الأباطيل وأصل الاستدراج الخدعة واستدراج الله تعالى العبد أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته (وسكون من الحال) هو ما كانوا عليه من رفاه الخاطر وطيب العيش وصحة المزاج وكثرة الأسباب والأموال ونصرة الأعوان والأنصار والمراد بسكونه ثبوته واستقراره لهم وعدم تغيره وانقلابه عليهم.

(وإدراك من الأمل) في لذات الدنيا من المنكوح والمأكول والمشروب والمسكن والملبوس والمركوب وغيرها من ملاذ الدنيا كما شأن السلاطين والأمراء والجبارين والمقبلين إليها التاركين لقواعد الدين وأحكامه والراجعين عن صاحبه وقد أتى (عليه السلام) بالشرط وحذف جزاءه لقرينة المقام أي فليعلموا أن الله تعالى لم يقصم جباري دهر وتاركي شرع إلا بعد تمهيل ورخاء ليستعدوا بذلك استعدادا تاما للأخذ والإهلاك والعقوبة الشديدة كما قال عز وجل (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) وأقام مقامه ما يدل عليه وهو قوله:

(فقد أمهل الله عز وجل شداد بن عاد وثمود بن عبود) قال الشيخ محمد (رحمه الله) عبود بفتح العين وشد الباء، من تاريخ المدينة، وذكر في القاموس: أيضا عبود كتنور، وفي نسخة: من تاريخ المدينة بالنون المخففة ولا يخفى أنه تصحيف.

(وبلعم بن بحور) في القاموس: بلعم كجعفر الأكول الشديد البلع ورجل معروف أو هو بلعام انتهى وكان أباه سمي بالبحور لكثرة ما له من تبحر في المال إذا كثر ماله أو لكثرة حمقة أو كذبه أو فضوله ومنه الباحر وهو الأحمق والمكذاب والفضولي وفي بعض النسخ «باعور» بدل بحور (وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة) النعمة كل ما يصح الانتفاع به فإن كان من شأنها أن تنالها الحواس فظاهرة وإلا فباطنة، أو المراد بالظاهر كل ما يحتاجون إليه في الحياة الدنيوية وبالباطنة كل ما يحتاجون إليه في الحياة الأخروية مثل إنزال الكتب وبعث الأنبياء وتقرير الحجة ونصب الأوصياء. أو المراد بالظاهرة بعث الرسول بالباطنة تكميل العقول.

(وأمدهم بالأموال والأعمار) وهما من جلايل النعماء أما الأول فلأنها دافعة للحاجات والبليات وباعثة على جلب المنافع والمرغوبات ووسيلة إلى تحصيل المطالب جلها بل كلها ولذلك من الله تعالى به في مواضع عديدة وأما الثاني فلأن طول العمر سبب لزيادة التجربة

ص:291

وتحصيل المعارف وتكميل النفس وتحصيل الثواب والتلذذ بنعيم الدنيا مع الغنى والشكر له وتحمل الصبر والمشقة وألم الغربة مع الفقر وكل ذلك نافع في الآخرة وسبب لرفع الدرجات (وأتتهم الأرض ببركاتها) أي بعطاياها لهم ولأنعامهم وهو كناية عن الخصب والرخاء فيها وإسناد الإتيان إلى الأرض مجاز باعتبار أنها سبب مادي لها (ليذكروا آلاء الله) الظاهرة والباطنة ويؤدوا شكرها طلبا للزيادة في الدنيا والفلاح في الآخرة كما قال الله تعالى (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) وفيه ايماء إلى أن ما فعله بهم ابتلاء منهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا وأكثر ذكرا، ولذكر الآلاء فوائد أشار إلى ثلاثة منها بقوله:

(وليعترفوا الإهابة) (كذا) ليعترفوا بالتعظيم والتوقير له على سبيل الكناية وعلى أن أهاب بمعنى هاب يقال: هاب الشيء يهابه إذا وقره وعظمه وفي بعض النسخ بالواو والأول أنسب لما ستعرفه (والإنابة إليه) للخوف من أخذه والطمع في رفده.

(ولينتهوا عن الاستكبار) على الله وعلى أوليائه بالمعصية والمخالفة وترك المتابعة وذكر الآلاء للسبب للانتهاء عنه إذ من ذكر آلائه تعالى على نفسه في بدء وجوده إلى كماله علم أنه عبد ذليل بين يدي رب جليل فيحصل له الذل والانكسار وملكة الانتهاء عن الاستكبار، ومما ذكرنا ظهر أن ترتبه على قوله ليذكروا كما يقتضيه ثم أظهر من ترتبه على سوابق هذا القول كما يقتضيه الواو.

(فلما بلغوا المدة) في وقت الموت أو الوقت المقدر لنزول العذاب عليهم (واستتموا الأكلة) هي بالفتح المرة من الأكل وبالضم اللقمة والقرصة والطعمة والمراد هنا الرزق.

(أخذهم الله تعالى) أخذ عزيز مقتدر (واصطلمهم) الاصطلام افتعال من الصلم وهو القطع المستأصل وقد أشار جل شأنه إلى جميع ذلك بقوله (أفرأيت أن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون).

(فمنهم من حصب) أي رمى بالحصباء من السماء وهي الأحجار الصغار كقوم لوط أو بريح عاصفة فيها حصباء كقوم عاد وقوم هود.

(ومنهم من أخذته الصيحة) وهلكوا جميعا كأهل مدين قوم شعيب (ومنهم من أحرقته الظلة) كأصحاب الأيكة وقد بعث إليهم شعيب كما بعث إلى مدين فكذبوه وعتوا عن أمر ربهم فسلط عليهم الحر سبعة أيام حتى غارت أنهارهم وأظلتهم السحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.

(ومنهم من أودته الرجفة) أي أهلكته كقوم صالح قال الله تعالى (فعقروا الناقة وعتو عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) الرجف والرجوف التحريك والاضطراب ومنه سميت الزلزلة رجفة لاضطراب الأرض

ص:292

بها والمراد بالرجفة هنا إما ما لحقهم في الأيام الثلاثة من التغير والاضطراب أو ما أتاهم من الصيحة في ضحوة اليوم الرابع فتقطعت قلوبهم.

(ومنهم من أردته الخسفة) في الأرض كقارون وأضرابه (وما كان الله ليظلمهم) أي يعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم من غير جرم كما هو شأن الظلمة (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) يفعل ما يوجب عذابهم واستيصالهم.

(ألا وإن لكل أجل كتابا) كتب فيه ذلك الأجل ولعله اللوح المحفوظ المرقوم فيه كل شيء وقيل: هو العلم الإلهي المعبر عنه بالكتاب المبين.

(فإذا بلغ الكتاب أجله) كناية عن انتهائه والظاهر أن جزاء الشرط هو قوله:

(لو كشف لك عما هوى إليه الظالمون) أي لو كشف الحجاب بينك وبين ما هبطوا إليه ونزلوا فيه من نار ذات لهب ألمها شديد وقعرها بعيد.

(وآل إليه الأخسرون) من شناعة عاقبتهم وفضاعة عقوبتهم وشدة نكالهم وعظمة وبالهم وتغير صورتهم وانكسار هيئتهم.

(لهربت إلى الله عز وجل) واستعذت به (مما هم عليه مقيمون) من الكفر بالله وبرسله وكتبه وشرائعه وترك أوامره ونواهيه، وفيه إحضار للصورة الماضية للتنبيه على ظهورها والتنفير منها (وإليه صائرون) مما يعجز عن وصفه البيان ويستوحش من ذكره اللسان، ولما ذكر (عليه السلام) أن زمرة من الجاهلين وجملة من الجبارين الذين أماتوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الشياطين وغلبوا العباد وخربوا البلاد وعسكرو العساكر وأظهروا المفاخر أمهلهم الله زمانا طويلا ثم أخذهم أخذا وبيلا، فصاروا إلى الآخرة وهم خاسرون وإلى العذاب وهم مشتركون، تذكرة للعالمين وتنبيها للغافلين عاد إلى إظهار حاله وبيان أنه الإمام للمؤمنين والخليفة بعد الرسول الأمين فقال:

(ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون) فهو خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله) ووزيره كهارون لموسى (عليه السلام) (وكباب حطة في بني إسرائيل) أمر بنو إسرائيل بعد التيه بدخول قرية بيت المقدس أو أريحا على اختلاف القولين من باب ساجدين لله تعالى عند الدخول قائلين: حطة، وهي فعلة من الحط كالجلسة بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة فأشار (عليه السلام) إلى أنه مثل هذا الباب في أن من تمسك به دخل في الدين وكان مطيعا لله تعالى ولرسوله ومغفورا والله سبحانه يزيد لمن يشاء منهم كما أشار إليه بقوله (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين).

(وكسفينة نوح في قوم نوح) حديث السفينة مشهور ووجه المشابهة أن من تمسك به نجا، ومن تخلف عنه هلك.

ص:293

(إني النبأ العظيم) الذي هم فيه مختلفون روى المصنف بإسناده عن عبد الله بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال: النبأ العظيم الولاية.

(والصديق الأكبر) الصديق فعيل للمبالغة في الصدق وهو الذي يصدق قوله بالعمل ووصفه بالأكبر للمبالغة أنه لم يصدر منه الخطأ أصلا من أول العمر إلى آخره ومن السرقات أن الأول سرق هذا الاسم كما سرق الخلافة مع أن جهله وصرف أعظم أجزاء عمره في عبادة الأصنام مشهور (وعن قليل سيعلمون ما يوعدون) (كذا) نعم كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون وفيه تنبيه على أن من أنكر حقه في هذه الدار يعلم حقيقة ذلك بعلم اليقين ويجد عقوبته في دار القرار (وهل هي) أي الدنيا أو خلافتهم.

(إلا كلعقة الأكل) لعقة كسمعة لحسة شبههما في التحقير والتقليل وقلة الانتفاع وزمانه باللعقة وهي بالضم ما تأخذه في الملعقة وبالفتح المرة الواحدة والغرض منه هو التنفير عنهما وعن ترك الآخرة بهما (ومذقة الشارب) وهي الشربة من اللبن الممذوق بالماء من المذق وهو المزج والخلط تقول: مذقت اللبن فهو مذيق إذا خلطته بالماء.

(وخفقة الوسنان) خفق رأسه حركة إذا نعس، والوسن محركة ثقل النوم أو أوله والنعاس، وسن كفرح فهو وسن ووسنان، كذا في القاموس وفي النهاية: الوسنان النائم الذي ليس بمستقر في نومه، والوسن أول النوم.

(ثم تلزمهم المعرات خزيا في الدنيا) المعرة مفعلة العرو هي الشدة وسوء الخلق والإثم والأذى والغرم والدية والجناية وكل ذلك لازم للخلافة مع الجهل، والخزي - رسوا شدن وخوار شدن وهلاك شدن -، يقال: خزى كرضى خزيا ذل وهان وافتضح ووقع في بلية وشهوة يذل بها (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) بحسب الكم والكيف والبقاء، والظاهر أن الواو للحال عن ضمير الجمع والعطف على تلزمهم محتمل.

(وما الله بغافل عما يعملون) فيه وعد ووعيد وحث على الخير وزجر عن الشر لأن العامل إذا علم أنه تعالى يعلم عمله ويجزيه بحسبه يجتهد في الخير ويجتنب عن الشر.

(فما جزاء من تنكب محجته) أي أعرض عن الطريق المستقيم والضمير إما راجع إلى الله تعالى أو إلى الموصول وهو أنسب وكذا في البواقي (وأنكر حجته) هي الدليل والبرهان ولعل المراد بها الرسول (صلى الله عليه وآله).

(وخالف هداته) (كذا) لعل المراد بهم الأئمة عليهم السلام (وحاد عن نوره) أي رجع وأعرض عنه ولعل المراد به القرآن أو الشريعة إذ هما كالنور في كشف الحجاب عن وجه المطلوب.

(واقتحم في ظلمه) أي دخل فيه بلا روية في سوء خاتمته ولا تفكر في قبح عاقبته.

ص:294

(واستبدل بالماء السراب) السراب ما تراه نصف النهار في فلاة من لمعان الشمس عليها فظن أنه ماء يسرب أي يجري وأراد (عليه السلام) بالماء نفسه القدسية فإنها بمنزلة الماء في كثرة الانتفاع وإحياء القلوب القابلة أو العلوم الشرعية وبالسراب من انتحل الخلافة أو الجهل.

(وبالنعيم العذاب) أراد بالنعيم نعيم الجنة أو ذاته الطاهرة النافعة كما فسر به في قوله تعالى:

(ثم لتسألن يومئذ عن النعيم).

(وبالفوز الشقاء) أي استبدل بالفوز بالسعادة والرحمة والرضوان بالشقاء الموجب للحسرة والخيبة والخسران (وبالسراء الضراء) السراء كما مر الحالة التي تسر والضراء نقيضها وهي الحالة التي تضره ولعل المراد بالأولى حالة النفس بسبب اتصافها بالإيمان وأركانه ولوازمه وبالثانية حالتها بسبب اتصافها بالكفر وأركانه ولوازمه.

(وبالسعة الضنك) أي استبدل بسعة العيش في الأخرة ضنكه وضيقه فيها لتركه أسباب الأول وتحصيله أسباب الثاني أو في الدنيا أيضا لأن سعة العيش فيها إنما هي بمتابعة الإمام العادل الدافع للظلم والجور عن النفس والمال والقسمة وضيقه بمتابعة الجائر الداعي إليها.

(إلا جزاء اقترافه وسوء خلافه) أي اقترافه ما ذكر من التنكب وما عطف عليه أو الأعم وسوء خلافه مع الرسول ووصيه وأفاد بالاستثناء أنه لا ظلم في ذلك الجزاء.

(فليوقنوا بالوعد على حقيقته) كل ما جاء به الرسول حق وله حقيقة ولا ينتفع أحد إلا بالتمسك بحقيقته وإلا فهو من أهل النفاق وقد ذكرنا توضيحه في باب حقيقة الإيمان واليقين من كتاب الأصول وفيه كفاية للمسترشد إلا أنا نقول هنا: الوعد حق ظاهر وله حقيقة باطنة والإيمان بالوعد لا ينفع إلا أن يكون مقرونا بالإيقان على حقيقته الذي يقتضي تأثر القلب بالخوف والخشية والرهبة الداعية إلى فعل الطاعات وترك المنهيات والتضرع إلى الله والفرار عن مخالفته فمن ادعى الإيمان بالوعد وقلبه غير متأثر به وتارك لمقتضاه فهو منافق شبيه بمن حمل الوعد على مجازه وهو مجرد التخويف كما يخوف أحد أحدا بما لا وجود له في الخارج.

(وليستيقنوا بما يوعدون يوم يأتي الصيحة بالحق) قال المفسرون: الصيحة النفخة الثانية وبالحق متعلق بها والمراد به البعث للجزاء (ذلك يوم الخروج) من الأرض للحساب والجزاء.

(إنا نحن نحيي ونميت) في الدنيا أو نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة، والواو لا تدل على الترتيب (وإلينا المصير) للجزاء بالأعمال والعقائد.

(يوم تشقق الأرض عنهم سراعا) أي مسرعين في الخروج والرجوع إلى الله (إلى آخر السورة):

(ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) وفي تضمين الآية الكريمة وعيد لهم بأنهم سيجدون جزاء ما كانوا يعملون.

ص:295

الخطبة الطالوتية

* الأصل:

5 - محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن أيوب الأشعري، عن عمرو الأوزاعي عن عمرو بن شمر، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الهيثم بن التيهان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب الناس بالمدينة فقال: الحمد لله الذي لا إله إلا هو، كان حيا بلا كيف ولم يكن له كان ولا كان لكانه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لكانه مكانا ولا قوي بعدما كون شيئا، ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا، ولا يشبه شيئا ولا كان خلوا عن الملك قبل إنشائه، ولا يكون خلوا منه بعد ذهابه، كان إلها حيا بلا حياة، ومالكا قبل أن ينشئ شيئا، ومالكا بعد إنشائه للكون، وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حد يعرف، ولا شيء يشبهه، ولا يهرم لطول بقائه، ولا يصعق لذعره، ولا يخاف كما تخاف خليقته من شيء لكن سميع بغير سمع، وبصير بغير بصر، وقوي بغير قوة من خلقه، لا تدركه حدق الناظرين ولا يحيط بسمعه سمع السامعين، إذا أراد شيئا كان بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ولا يسأل أحدا عن شيء من خلقه أراده، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فبلغ الرسالة وأنهج الدلالة (صلى الله عليه وآله).

أيها الامة التي خدعت فانخدعت وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت واتبعت أهواءها وضربت في عشواء غوايتها وقد استبان لها الحق فصدت عنه والطريق الواضح فتنكبته، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء بعذوبته وادخرتم الخير من موضعه وأخذتم الطريق من واضحه وسلكتم من الحق نهجه لتبهجت بكم السبل، وبدت لكم الأعلام، وأضاء لكم الإسلام فأكلتم رغدا وما عال فيكم عايل ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم، واتبعتم الغواة فأغوتكم وتركتم الأئمة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو العلم بعينه فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟ رويدا عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم، والذي فلق الحبة وبرأ

ص:296

النسمة لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ووصي نبيكم وخيرة ربكم ولسان نوركم والعالم بما يصلحكم فعن قليل رويدا ينزل بكم وما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم وسيسألكم عزوجل عن أئمتكم، معهم تحشرون، وإلى الله عزوجل غدا تصيرون، أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق وتنيبوا للصدق فكان أرتق للفتق وآخذ بالرفق اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين.

قال: ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: والله لو أن لي رجالا ينصحون لله عزوجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه.

قال: فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلا على الموت فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين. وحلق أمير المؤمنين (عليه السلام) فما وافى من القوم محلقا إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع يده إلى السماء فقال:

اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، توفني مسلما وألحقني بالصالحين، أما والبيت والمفضي إلى البيت - وفي نسخة: والمزدلفة والخفاف إلى التجمير - لولا عهد عهده إلي النبي الأمي (صلى الله عليه وآله) لأوردت المخالفين خليج المنية ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت وعن قليل سيعلمون.

* الشرح:

(خطبة الطالوتية) سمي بها لاشتمالها على طالوت وأصحابه كما تسمى السور القرآنية باسم بعض أجزائها (عن أبي الهيثم بن التيهان) في المغرب: تيهان فيعلان بالفتح من تاه وبه سمي والد أبي هيثم مالك بن تيهان وهو من الصحابة وقيل: التيهان بتشديد الياء وسكونها وهو من الأنصار كنية أبي الهيثم واسمه مالك بن مالك، وقيل: بل اسم أبيه عمرو بن الحارث وهو التيهان كان أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا والمشهور أنه شهد صفين معه (عليه السلام) وقتل بها، وقيل: توفي في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(الحمد لله الذي لا إله إلا هو) العايد إلى الموصول أو الموصوف محذوف ونسبة الحمد إلى اسم الذات وتعليقه بما يدل على التوحيد للدلالة على أنه يستحق الحمد بحسب الذات وأنه المتفرد بالاستحقاق لانحصار العلة فيه.

ص:297

(كان حيا بلا كيف) أما أنه حي فقد اتفقت ألسنة الأنبياء والأوصياء وزبر الحكماء والعقلاء ودلت الآيات الكريمة والروايات الصحيحة على أنه تعالي حي وهذا كاف في التصديق بحياته ولا يقدح عدم العلم بحقيقتها كما لا يقدح عدم العلم بحقيقة ذاته في العلم بوجوده ولأن علمه وقدرته وصدور أفعاله محكمة عنه دلت على أنه حي بالضرورة ولذلك قيل: حياته توجب صحة العلم والقدرة، وقال صاحب العدة: الحي هو الفعال المدرك وهو حي بنفسه لا يجوز عليه الموت والفناء ولا يحتاج إلى حياة بها يحيى، وقال القطب في درة التاج: حياته تعالى ادراك الأشياء وهو لما كان عالما بذاته ومعلوماته كما هي على الوجه الأتم الأبلغ كان حيا وليست حياته أمرا زائدا قائما به بل هي عين ذاته كالعلم وسائر صفاته.

وأما أنه بلا كيف فلأن الكيفيات على أقسامها مخلوقة محدثة والقديم الأزلي الكامل بالذات يمتنع أن يتصف بالمحدثات ولأنه لو اتصف بها لكان الواجب بالذات إما المجموع أو الموصوف بدون الصفة أو العكس والكل محال أما الأول فلأنه يوجب تركيبه وحدوثه وافتقاره إلى الأجزاء وموجدها وإلى المؤلف والتأليف والصورة وهو منزه عن جميع ذلك وأما الأخيران فلأنهما يوجبان النقص والافتقار إلى الحال والمحل والتغير من حال إلى حال وأنه محال (ولم يكن له) أي ولم يكن الكيف ثابتا له، والواو إما للعطف والتفسير أو للحال (كان ولا كان لكانه) أي لكونه ووجوده (كيف) كان أولا تامة أو ناقصة بتقدير الخبر أي كان موجودا في الأزل والواو للحال عن اسمه وثانيا ناقصة، وكيف بالرفع اسمه والظرف المقدم خبره يعني أنه كان أزلا والحال أنه ما كان لوجوده كيف لأن الكيف حادث وإذا كان كذلك فوجب أن لا يتصف به أبدا لأن أبده كأزله وأزله كأبده ولأن الكيف إن كان من صفات كماله لزم نقصه في الأزل لعدم اتصافه به وإن لم يكن منها كان نقصا له فيلزم النقص بالاتصاف به في الأبد والنقص عليه محال.

(ولا كان له أين) أي كان في الأزل ولا كان له أين لأن الأين أيضا حادث فيستحيل كونه فيه لمثل ما مر ويحتمل أن يكون المراد بالفقرتين أنه كان في الأزل وما كان له استعداد الاتصاف بالكيف ولا استعداد الحصول في الأين حتى ينتقل من الاستعداد إلى الفعل بعد إيجاد الكيف والأين (ولا كان في شيء) كالجزء في الكل والصفة في الموصوف والصورة في المادة والعرض في الموضوع والمقدار في الجسم والروح في البدن والمظروف في الظرف والجسم في الهواء وذلك لأن معنى الحلول في الشيء هو الحصول فيه على سبيل التبعية وهو عليه محال لأنه إن افتقر إلى ذلك المحل في وجوده وكماله لزم الاحتياج المنافي للوجوب الذاتي وإن لم يفتقر إليه في كماله كان الحلول فيه نقصا له لأن ما ليس بكمال فهو نقص وهو منزه عنه (ولا كان على شيء) بالاستقرار فيه ولا بعدمه كالملك على السرير والراكب على المركوب والسقف على الجدران والجسم على

ص:298

المكان والهواء على الماء والسماء على الهواء للزوم التشابه بالجسم والجسمانيات والافتقار والنقص والاختصاص ببعض الجهات وأنه محال (ولا ابتدع لكانه مكانا) لتقدس وجوده عن المكان وللزوم النقصان اللازم للإمكان وتوهم كون كل شيء في مكان باطل لأن المكان شيء ولا مكان له، وفي الابتداع إشعار بأنه لو كان له مكان لكان مكانه مبتدعا حادثا فلم يكن جل وعز قبل حدوثه في مكان فلا يكون بعده أيضا فيه لما مر (ولا قوى بعدما كون شيئا) ليس الغرض من تكوين الأشياء تحصيل القوة والاستعانة بها في سلطانه على غيره بل الغرض منه إظهار ربوبيته وحكمته وقدرته وإمضاء تقديره وتدبيره وعظمته (ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا) فلم يكونه لجبر ضعفه وتشديد قدرته ورفع العجز عنه كما يفعله الصانع منا لتحصيل القوة والقدرة على تحسين صناعته ورفع العجز منها عن نفسه لأنه إنما يحتاج إلى ذلك العاجز الناقص في القدرة والقوة والله سبحانه هو القادر القوي على الإطلاق (ولا كان مستوحشا) أي مغتما بتفرده والاستيحاش ضد الإستيناس (قبل أن يبتدع شيئا) فلم يبتدعه ليستأنس به ويدفع ألم الوحشة عن نفسه لأن الوحشة من لوازم التغير وتوابع المزاج ولواحق الحيوان الذي يأخذ من جنسه أو من غير جنسه أنيسا يستأنس به وقدس الحق منزه عن ذلك (ولا يشبه شيئا) لا في الذات ولا في الصفات لتنزهه عن المشابهة بخلقه إذ الوجوب الذاتي يتأبى عن المشابهة بما في عالم الإمكان.

(ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه، ولا يكون خلوا منه بعد ذهابه) لأنه تعالى لما ليس زمانا ولا زمانيا ولا مكانا ولا مكانيا ولا امتداد فيه كانت نسبته إلى ملكه وهو الموجودات العينية قبل إنشائها وحين إنشائها وبعد فنائها نسبة واحدة لا تقدم ولا تأخر فيها بل كلها حاضرة عنده لا باعتبار أنها كانت في الأزل أو تكون معه فيما لا يزال لبطلان ذلك بل باعتبار أنه لا يجري فيه زمان واحكامه وأن نسبته إلى الأزل والأبد والوسط واحدة فالعقل الصحيح إذا تجرد عن شبهات الأوهام ولواحق الزمان ولاحظ أنه لا امتداد في قدس وجود الحق يحكم حكما جازما بأنه لا يخلو من الملك قبل إنشائه وبعد فنائه ويمكن أن يراد بالملك سلطنته وتسلطه على ما سواه وبضميره المخلوق على سبيل الاستخدام والمقصود أنه لا يخلو من السلطنة قبل إنشاء الخلق وبعد ذهابه إذ سلطنته بعلمه وقدرته على الممكنات عند أرباب العصمة عليهم السلام سواء أوجدها أو لا، وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في باب الكون والمكان من كتاب الأصول.

(كان إلها) مستحقا للألوهية والعبودية في الأزل (حيا بلا حياة) زايدة قائمة بذاته بل هي عين ذاته باعتبار أنه يصدر منه أفعال الأحياء وفيه تنزيه لحياته عن التشابه بحياة خلقه فإنها صفة زائدة عن ذواتهم منشأ لعلمهم وقدرتهم وصدور الأفعال عنهم (ومالكا قبل أن ينشئ شيئا) لما عرفت أنه لا يخلو من الملك قبل إنشائه (ومالكا بعد إنشائه للكون) لما مر أيضا وللكون متعلق ب «مالكا»

ص:299

أو بالإنشاء ففيه على الأول إشعار بأنه مالك لوجود كل شيء وبيده أزمة بقائه وفنائه وعلى الثاني إيماء إلى الجعل البسيط بإفاضة الوجود وأما الجعل المركب فهو مسكوت عنه وفيه كلام طويل مذكور في موضعه وإنما كرر ذكر المالك لدفع استبعاد كونه مالكا قبل وجود المملوك وبعد فنائه (وليس لله كيف ولا أين) لما مر من أنهما مخلوقان فلو كانا له لزم افتقاره إلى خلقه به واتصافه به وانتقاله من حال إلى حال والكل محال وإنما كرر نفي الكيف والأين عنه لأن أكثر الخلق يتوهمونهما له (ولا حد يعرف) نفى عنه الحد العرفي وهو المتألف من أجزاء الماهية وخواصها والحد اللغوي وهو النهايات المحيطة بالجسم والجسمانيات لأن الأول مستلزم للتركيب والتوصيف والثاني من لواحق الكم وتوابعه (ولا شيء يشبهه) لأن المشابهة بين الشيئين إما في الحقيقة أو في أجزائها أو في عوارضها ولا يشبهه الممكن في شيء من ذلك أما الأول فظاهر وأما الأخيران فلأنه لا جزء ولا عوارض له.

(ولا يهرم لطول بقائه) لأن الهرم إنما يحصل بتغير المزاج وانفعاله وانكساره بطول الزمان وتوارد المصايب وكل ذلك ممتنع (ولا يصعق لذعره) الذعر بالضم الخوف والضمير راجع إليه عز وجل أي لا يفزع أو لا يموت أو لا يغشى عليه لخوفه من شيء لأنه قاهر على كل شيء قادر على إعدامه في أقل من طرفة عين فكيف يصعق خوفا منه؟ ولأن ذلك تابع للحياة الزائدة عن الذات فتزول بطريان أسباب الزوال وحياته ليست بزائدة (ولا يخاف كما تخاف خليقته من شيء) لأن الخوف تابع للانفعال وهو منزه عنه والنفي راجع إلى القيد والمقيد جميعا (ولكن سميع بغير سمع وبصير بغير بصر) لأن سمعه وبصره عبارة عن العلم بالمسموعات والمبصرات فهما نوعان من مطلق العلم (وقوى بغير قوة من خلقه) أي قوى بذاته لا بقوة زائدة هي خلقه أو بعض خلقه أو نشأت من خلقه فمن على الأول للتيين وعلى الثاني للتبعيض وعلى الثالث للابتداء والحاصل أنه لو كانت له قوة زائدة لزم إما اتصافه بخلقه أو الاستعانة به كما يستعين السلطان منا بقوة عساكره (لا تدركه حدق الناظرين) الحدق جمع الحدقة وهي العين أو الناظرة منها وفيه تنزيه له عن الرؤية بحاسة البصر لتنزهه عن الضوء واللون والجسمية ولواحقها من الجهة والأين وتوجيه البصر وإدراكه به (ولا يحيط بسمعه سمع السامعين) لأنه يسمع بذاته ما لا يسمع السامعون من الأصوات الخفية التي بلغت في الخفاء حدا لا يدركه حديد السمع كحسيس النملة على الصخرة الملساء وصوت جناح الجرجس في الهواء.

ثم أشار إلى تنزيه صنعه من الحاجة إلى الآلة والحيلة والمشورة والاستعانة وغيرها بقوله: (إذا أراد شيئا كان) ذلك الشيء كما أراد من غير تراخ ولا مهلة (بلا مشورة) من الغير ليعلم صلاح أمره وفساده (ولا مظاهرة) من أحد في الإيجاد ليجيء الفعل كاملا بانضمام القوتين (ولا مخابرة) هي

ص:300

أن يعطى الرجل أيضا أرضا غيره ليزرع فيها على النصف والثلث والربع وغيرها يعني أنه تعالى لم يفوض أمر ملكه وخلقه إلى غيره ليعمل فيه ويكون له نصيب منه إما للعجز عن العمل فيه أو لغرض آخر كما يقوله من زعم أنه تعالى واحد لا يصدر منه إلا الواحد وأن أمر الباقي مفوض إلى العقول العشرة وأن لها نصيبا في خلق عالم الروحانيات والجسمانيات ويحتمل أن يكون المخابرة من الخبر وهو العلم وهي أن يعطي كل واحد منهما الآخر ما عنده من العلم ليتحقق كمال الفعل بانضمام العلمين (ولا يسأل أحدا عن شيء من خلقه أراد) ليخبره بصلاحه وفساده وخيره وشره ويفتح عليه أبواب علمه وحكمته لأن السائل جاهل والله سبحانه عالم بجميع الأشياء لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء (لا تدركه الأبصار) أي أحداق العيون (وهو يدرك الأبصار) أي يحيط علمه بها وبمدركاتها.

ولهذه الآية تفسير آخر أدق وأحسن وهو ما رواه المصنف في باب الرؤية من الأصول بإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال سألت عن الله هل يوصف؟ فقال: «أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تقرأ قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) قلت: بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام». وفيه روايات أخر دالة على أن المراد منها أنه لا تدركه القلوب المجردة والعقول المقدسة ويلزم منه أن لا يدركه البصر أيضا لأن كل ما يدركه البصر يدركه العقل دون العكس ونفي العام يستلزم نفي الخاص وبالجملة في الآية دلالة على نفي إدراكه مطلقا وهذا أولى من نفي ادراكه بالعين.

(وهو اللطيف الخبير) أي العالم بلطائف الأمور وخفياتها والخبير بحقايقها وحقايق ظواهرها وبواطنها، ويمكن أن يكون من باب النشر المرتب أي وهو اللطيف فلا تدركه الأبصار وهو الخبير فهو يدرك الأبصار (أرسله بالهدى) أي بسبب هداية الخلق أو متلبسا بها أو بالقرآن أو بساير المعجزات (ودين الحق) الذي يوصل إليه وهو دين الإسلام أو الولاية لعلي عليه السلام وقد فسره بها أبو الحسن الماضي عليه السلام كما مر في باب النكت من كتاب الأصول (ليظهره على الدين كله) أي ليغلبه على الأديان كلها عند قيام القائم عليه السلام كما صرح به أيضا في الباب المذكور (ولو كره المشركون) إظهاره وغلبته على الأديان (فبلغ الرسالة) كما أمر به وذكره في معرض المدح لكونها أمانة عظم قدرها وقدر تبليغها (وأنهج الدلالة صلى الله عليه وآله) أي أوضح الدلالة على جميع ما يحتاج إليه الخلق من أمر المبدأ والمعاد والمعاش وغيرها وأعظم ما يحتاجون إليه معرفة الإمام بعده كيلا يضلوا.

(أيها الأمة التي خدعت) من النفس الأمارة وهواجسها ومن مردة الجن والإنس ووساوسها

ص:301

(فانخدعت) لاستعداد طبعها للقبول وميل نفسها إلى الفضول (وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت) فيه مبالغة في ذمهم لأن الإصرار على الانخداع مع معرفة الخدعة والخادع من كمال الشقاوة (واتبعت أهواءها) أي دواعي نفوسها إلى الشهوات الخارجة عن حدود الله الداعية إلى ترك أمر الله ورفض ولاية ولي الله (وضربت في عشواء غوايتها) الضرب السير والعشواء الظلمة أو ما بين أول الليل إلى ربعه وإضافتها إلى الغواية وهي الضلالة من قبيل لجين الماء أي وسارت في غوايتها وضلالتها التي هي كالظلمة في عدم الاهتداء إلى المقصود والمنع من الوصول إلى المطلوب، ولو كانت في بمعنى على كما في قوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) كان المراد بالعشواء الناقة التي لا ترى أمامها، والوجه عدم الإيصال إلى المطلوب (وقد استبان لها الحق) وهو ولايته وخلافته عليه السلام (فصدت عنه) أي صرفته أو تفرقت عنه واشمأزت عن قبوله (والطريق الواضح) وهي النصوص الدالة على الولاية (فتنكبته) أي عدلت عنه (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة) أي شق الحبة وخلق الإنسان وكان (عليه السلام) كثيرا ما يحلف به لدلالته على كمال الحكمة والقدرة لأن من تفكر في شق الحبة وجعل أسفلها عروقا تخرق الأرض مع لطافتها ودقتها بحيث لو دلكها الإنسان بأدنى قوة صارت كالماء وجعل أعلاها شعوبا صاعدة في الهواء مغتذية من الطين والماء منفصلة بالأغصان والأوراق والأثمار وجعل بعض الأثمار مختلفة في الطبايع كالأترج فإن قشره حار يابس ولحمه بارد رطب وحماضه بارد يابس وبذره حار رطب وجعل الأوراق مشتملة على خطوط مستقيمة ومعوجة صغار وكبار لحفظها ولوصول الماء والغذاء إلى جميع أطرافها وتفكر في خلق الإنسان وعجائب الصنع فيه التي يعجز عن إدراك قليل منها عقول الأذكياء علم أن الصانع عالم حكيم قاهر قادر على جميع الأشياء.

(لو اقتبستم العلم من معدنه) المعدن كمجلس منبت الجواهر من ذهب وفضة ونحوهما والمراد به هنا هو وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على سبيل الاستعارة لأنهم معادن العلوم الإلهية والأحكام الشرعية ومن صدورهم الطاهرة يخرج العلم وينتشر في العالم كما أن من المعادن تخرج الجواهر وتنتشر (وشربتم الماء بعذوبته) شبه العلم بالماء في الأحياء لأن العلم سبب لحياة القلوب بعد موتها كما أن الماء سبب لحياة الأرض وأطلق المشبه به على المشبه وذكر الشرب والعذوبة وهي الخلوص من الكدرة ترشيحا للإستعارة وتنبيها على أن النافع من العلم هو الخالص من كدرة الشبهات والقياسات.

(وادخرتم الخير من موضعه) لعل المراد بالخير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة النافعة في الدنيا والآخرة وكيفية التخلص من أضدادها (وأخذتم الطريق من واضحه) أي من موضع واضح منه وهو وسطه الذي يوصل سالكه إلى المطلوب وفيه تنبيه على

ص:302

خروجهم عنه يمينا وشمالا وإليه أشار عليه السلام في بعض كلامه «اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة» وفي بعض النسخ «وأخذتم من الطريق واضحه» وهو واضح (وسلكتم من الحق نهجه) النهج الطريق الواضح ولعل المراد به هو (عليه السلام) وبالحق كل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) (لتبهجت بكم السبل) سبل الإسلام وهي أركانه وقوانينه وسبب تبهجها وسرورها ومباهاتها بهم حينئذ أنها صارت منصورة مروجة عزيزة لكثرة أعوانها وأنصارها وفيه استعارة مكنية وتخييلية (وبدت لكم الأعلام) الداعية إلى الله وإلى خلقه وهي القوانين الشرعية القائدة إليه وهذه الأعلام بأيدي الدعاة إليه وهم الرسول ومن بعده من أهل بيته والتابعين لهم بإحسان (وأضاء لكم الإسلام) لكشف الحجاب عنه بإيضاح إمام عالم عادل وهو هو (عليه السلام) (وأكلتم رغدا) في القاموس:

عيشة رغد أو رغدا واسعة طيبة والفعل كمنع وكرم وقوم رغد ونساء رغد محركتين فقوله: رغدا، إما تمييز أو حال والمفعول مقدر أو الفعل بمنزلة اللازم لأن المقصود بيان كيفية الأكل لا بيان المأكول وهذا الأمر - وهو سعة الرزق وطيب العيش ونزول البركة في عصر الإمام العادل ونشر العدل بين الخلق - أمر تشهد له الآية والرواية والتجربة واتفقت عليه أرباب السير.

(وما عال فيكم عايل) العايل الفقير عال يعيل عيلة إذا افتقر وذلك لنزول البركة وشمول الرحمة ولأن الإمام العادل يقسم بيت المال والحقوق المالية الواجبة والمندوبة بينهم على السوية ويعطي كل واحد ما يحتاج إليه ولا يصنع ما صنع الخلفاء الثلاثة من إعطاء الفاسق والكافر والغني ومنع المؤمن والفقير وقد نقلوا أن عثمان أعطى الحكم بن العاص طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أموالا خارجة عن الحساب وكان فقراء المدينة وغيرهم محتاجين إلى قوت ليلة (ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد) فإن الإمام العادل يأخذ للمظلوم من الظالم على ما تقتضيه القوانين النبوية فيكف الظالم نفسه عن الظلم خوفا منه، وبالجملة الكف عن الظلم إما للخوف من الله ومن العقوبة الاخروية أو للخوف من السلطان، وأكثر الخلق بعيد من الأول فلابد من سلطان يخافون من سطوته والسلطان إن كان جائرا كثيرا ما يغمض عن الأخذ إما للرشوة أو لرعاية القرابة أو لغير ذلك فيشتغل الظالم بظلمه للأمن منه كما هو المعروف الآن وإن كان عالما بالقوانين الشرعية، والسياسة النبوية وعادلا يعدل بينهم ولا يترك حق أحد حصل لهم الخوف منه فيكفون عن الظلم، وطريق العدل مع المعاهد وهو رفع الظلم في النفس والمال عنه لعهده وعدم التقريب والمحبة له لكفره، إذ في عدم الأول نقض للعهد وفي وجود الثاني نقص في الدين.

(ولكن سلكتم سبيل الظلام) بمتابعة الإمام الظالم الجاهل وترك متابعة الإمام العالم العادل والمراد بالظلام الجهالات والوجه عدم اهتداء السالك فيها إلى المقصود (فاظلمت عليكم الدنيا برحبها) أي بسعتها لأفول نور الإيمان والعدل في آفاقها ودخول ظلمة الكفر والجور في أطرافها

ص:303

فصرتم متحيرين فيها كتحيركم في الجاهلية الأولى (وسدت عليكم أبواب العلم) كناية عن خفاء العلم عليهم لأن ظهوره إنما هو بالتعلم من العالم الرباني والسؤال عنه وهم قد عزلوه عن التعليم وأعرضوا عنه (فقلتم بأهوائكم) هذا من لوازم الجهل مع الاستنكاف عن ظهوره، وهكذا حال الجاهل المستنكف فإنه إذا سئل عن أمر مبهم أو ورد عليه أمر مشكل أوضحه بأهوائه الفاسدة وبينه بآرائه الكاسدة لئلا يقولوا: إنه جاهل (واختلفتم في دينكم) الذي اخترعتموه بالأهواء إذ الأهواء مستلزمة إلى الاختلاف قطعا لتفاوت الأشخاص فيها (فأفتيتم في دين الله بغير علم) مأخوذ من صاحب الوحي أو ممن أخذ منه فحصل بذلك دينكم المخترع (واتبعتم الغواة فأغوتكم) عن دين الله وأضلتكم عن سبيله، والذي ذكره (عليه السلام) معلوم لمن نظر في أصولهم وفروعهم فإنه يجد أكثرها مخالفة للكتاب والسنة وجهل الخلفاء أمر معروف ورجوعهم عن الخطأ في بعض الموارد إلى قوله (عليه السلام) مشهور حتى قال عمر مرارا «لولا علي لهلك عمر» وإلزام العجوزة له في كتبهم مذكور وكان الأول في المنبر يقول «أنا مثلكم فإن قلت صوابا فاتبعوني وإن أخطأت فاهدوني» وأما الثالث فهو الفاسق الأحمق الذي لم يعلم الهر من البر (وتركتم الأئمة) الهداة من أهل بيت نبيكم الذين أخذوا العلوم من مشكاة نبوته (فتركوكم) في الضلالة لشقاوة نفوسكم وقساوة قلوبكم وبطلان استعدادكم عن قبول الهداية لكمال الغواية.

(فأصبحتم تحكمون بأهوائكم) لجهالتكم بالدين وإعراضكم عن أهل العلم واليقين (إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر وإذا أفتوكم قلتم هو العلم بعينه فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه) الذكر القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله) وقد روي تفسيره به في الأصول وأهله أهل بيته (عليهم السلام) والمراد بالأمر الأمر الديني أو الأعم منه ومما كان وما يكون وما هو كائن، وإذا للشرط في الاستقبال وقد يأتي في الماضي أيضا ولعل المراد أن أهل الذكر كانوا مرجعكم فيما ورد عليكم من الأمر المبهم وأنتم تسألونهم عنه وهم إذا أفتوكم فيه وفسروه لكم صدقتموهم وقلتم - للمدح والتحسين -: هو العلم الحق الذي جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) بعينه من غير نقص وزيادة فكيف تسألونهم عنه وتقولون هذا القول والحال أنكم تركتموهم وأزلتموهم عن منزلتهم ونبذتموهم وراء ظهوركم كأن لم تعرفوهم وخالفتموهم فيما لهم من حق الولاية والخلافة التي بناؤها على العلم والحكمة التي عندهم، وفيه توبيخ وإنكار عليهم وتعجب من حالهم حيث جمعوا بين الضدين اللذين أحدهما من لوازم العقل والآخر من توابع الجهل والله أعلم.

(رويدا) تصغير رود بالضم وهو هنا إما مصدر أو صفة وكونه اسم فعل بمعنى أمهله بعيد ومعناه على الأول كما في كنز اللغة آهسته رفتن وعلى الثاني آهسته، ونصبه بفعل مقدر أي سيروا سيرا رويدا وإنما أمر به لأن سرعة السير في طريق الباطل توجب غاية البعد من الحق بخلاف البطء

ص:304

فإنه قد يفضي إلى الشعور به والرجوع عن الباطل (عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم) من الأعمال والأفعال والآراء والأهواء وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح (وتجدون وخيم ما أجترمتم) أي ما اكتسبتم من ترك الولاية والرجوع إلى الإمام العالم العادل، والوخامة الثقل يقال: وخم الطعام إذا ثقل فلم يستمرىء فهو وخيم وقد تكون الوخامة في المعاني يقال: هذا الأمر وخيم العاقبة أي ثقيل رديء (وما اجتلبتم من ولاية أهل الجور، وخلافتهم ولسان نوركم) أي قرآنكم أو شريعتكم وهو (عليه السلام) لسانهما لأنه ينطق بما هو المقصود منهما (فعن قليل رويدا ينزل بكم ما وعدتم) من العذاب بسبب المخالفة للكتاب والشريعة وقول النبي والوصي (عليهما السلام) (وما نزل بالأمم قبلكم) بسبب مخالفتهم لكتابهم ونبيهم وأوصيائه (وسيسألكم الله تعالى عن أئمتكم) الهداة والضلالة فيسألكم عن ترك المتابعة للأئمة الهداة من العلم والحجة أو يسألكم عن سبب المتابعة لأئمة الضلالة مع عدمها والأخير أنسب بقوله (معهم تحشرون) لأن حشرهم مع أئمة الضلالة كما دلت عليه الرواية والآية مثل قوله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم).

(وإلى الله عز وجل غدا تصيرون) فيه وعيد بأنهم سيجدون جزاء ما كانوا يعملون ثم أبدى عليه السلام عذره في ترك طلب الخلافة وعدم المنازعة والمقاتلة معهم وهو قلة الأنصار والمعاون بل عدم وجودهم أصلا ومن أقدم في تلك الحال على مقاتلة الأبطال بدون إذن الرسول والملك المتعال ألقى نفسه إلى التهلكة فكيف إذا وقع الأمر بتركه لمصلحة جليلة كما أشار إليه آخرا فقال:

(أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت) العدة بالكسر الجماعة وبالضم الاستعداد والأهبة والإضافة على الأول بيانية وعلى الثاني لامية والمشهور أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وقيل ثلاثة آلاف وقيل: ألف (أو عدة أهل بدر) ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على المشهور وزاد بعضهم أربعة وبعضهم اثنين، قيل: روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين أنه (عليه السلام) كان يقول: لو وجدت أربعين ذوي عزم (وهم أعداؤكم) متعطشون بدمائكم كأصحاب بدر وأصحاب طالوت بالنسبة إلى خصومهم والواو للحال ولابد من هذا القيد لأن المقاتلة لا تتمشى بدون قوم متصفين بالعداوة وفي بعض النسخ «وهم أعدادكم» بالدال وكأنه إشارة إلى أن مثلهم في العدد موجود فيكم لتكون تحريضا لهم في الاجتماع عليه والانقياد له في أمر المحاربة (لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق) أي حتى ترجعوا من الدين الباطل وهو الذي أخذتموه بأهوائكم إلى الدين الحق وهو ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) (وتنيبوا للصدق) وهو الولاية له (عليه السلام).

(فكان أرتق للفتق) الفتق شق عصا المسلمين ووقوع المنازعة بينهم في أمر الدين وأحكامه المبتنية على العلم واليقين والرتق ضد الفتق والظاهر أن ضمير كان راجع إلى الأول والإنابة (وآخذ بالرفق) الأخذ التناول والرفق ضد الخرق وهو اللين والتلطف وترك العنف والعجلة والخشونة

ص:305

والتفريع ظاهر لأن الإمام إذا كان عالما عادلا معصوما لم يقع بينهم شقاق في الدين ولا منازعة في شيء من أحكامه ولا عجلة وجور وعنف وخشونة على أحد بخلاف ما إذا كان ظالما جاهلا فإن الظلم والجهل منشآن للفتق والخرق ولواحقهما (اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت أحكم الحاكمين) لا راد لحكمك ولا حيف فيه، وقد حكم الله الملك الديان بذلهم وخذلانهم بسيف صاحب الزمان وبخزيهم وهوانهم عند الأبرار وسوء مآلهم في الآخرة بالدخول في النار.

(ثم خرج من المسجد فمر بصيرة) بكسر الصاد وسكون الياء المثناة التحتانية وهي حظيرة تتخذ للدواب من الحجارة وأغصان الشجر وجمعها أي يكون جميع حركاتهم وسكناتهم لله ولرسوله وموافقة للقوانين الشرعية لا يكون لهم تعلقا بالدنيا وحياتها (لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه) الذبان بالكسر جمع الذباب بالضم هو معروف والعرب في مقام ذم رجل ينسبونه إلى أمه خصوصا إذا اشتهرت بلقب خبيث (فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلا على الموت) على أن لا يفروا عند القتال وإن قتلوا (فقال أمير المؤمنين عليه السلام اغدوا بنا إلى أحجار الزيت) موضع بالمدينة (محلقين) أي لا بسين للحلقة وهي بسكون اللام السلاح مطلقا وقيل: هي الدروع خاصة ويحتمل أن يراد بالتحليق إزالة شعر الرأس وكأنه أمرهم به ليكون شعارا لهم وليخبرهم بالطاعة والامتثال لأمره والله أعلم (فما وافى من القوم محلقا إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر) والباقون تركوا التحليق أو تركوا الحضور (وجاء سلمان في آخر القوم) لم يعلم أنه كان محلقا أم لا بل الظاهر عدمه (فرفع يده إلى السماء فقال اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون) بإعراضهم عن نصحه وزجره عن عبادة العجل عند خروج موسى (عليه السلام) من بينهم حتى كادوا يقتلونه وفيه شكاية عن ترك الأصحاب نصرته وتقاعدهم عن متابعته، وبالجملة لم يكن له معين ولا دافع لهم عنه ولا مساعد إلا قليل من أهل بيته فضن بهم عن المنية فصبر على القذى وجرع ريقه على الشجى وحمل نفسه على كظم الغيظ.

وهنا كلام للمخالفين لا بأس أن نشير إليه فنقول: قال المخالفون: لو كان علي رضي الله عنه وصيا ومستحقا للخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بالوصاية لما جاز له أن يقعد عن طلبها بالسيف مع شجاعته وحيث قعد عنه ولم يطلبها بالسيف علم أنه لم يكن وصيا ولم يكن منكرا لخلافة من تقدمه.

أقول: لا حجة لهم في ذلك وما ذكروه أوهن من بيت العنكبوت أما أولا فلأن الله تعالى أمر بثبات الواحد على الاثنين وقد كان علي عليه السلام داخلا في هذا النص غير مستثنى ولا مأمور بأن يقاوم الألوف وحده بالاتفاق وأما ثانيا فلأن النبي (صلى الله عليه وآله) وأبا بكر فرا من مكة إلى المدينة فإذا جاز لهما ذلك فقد جاز لعلي (عليه السلام) وحده بالأولوية، وأما ثالثا فلأنه عليه السلام مع وجود النبي (صلى الله عليه وآله) استحصن بالخندق ولم يبرز للأحزاب وحده مع كونه شجاعا فإذا جاز له ذلك عند حضوره جاز له

ص:306

بعد مفارقته أيضا.

وأما رابعا فلأنه لا يجب على الشجاع بل لا يجوز القيام بالمحاربة على العدد الكثير بدون أمر الله تعالى إذا ظن أو علم الغلبة لهم ولعله (عليه السلام) علم أنه لا يقاومهم وحده وهو أعلم بنفسه منكم.

وأما خامسا فلأن العياض شارح مسلم نقل في حديث الإفك عن بعض علمائكم أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما لم يحد عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالافتراء على زوجته عائشة لأنه كانت منعة منه ويخشى من إقامته افتراق الكلمة وظهور الفتنة فإذا جاز للنبي (صلى الله عليه وآله) ترك الحد لخوف الفتنة مع كثرة أعوانه وأنصاره فقد جاز لعلي (عليه السلام) ترك المحاربة والمقاتلة مع عدم المعاون لمثل ذلك، وأما سادسا فلأنه يجوز أن يكون ترك المحاربة بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) لعلمه بمفاسد ذلك بالوحي، وأما سابعا فلأن هارون (عليه السلام) لما لم يقاتل السامري وأتباعه مع كثرة أعوانه لزم أن يكون السامري وأتباعه محقين في عبادة العجل على ما ذكرتم، وبالجملة ما ذكرتم من المزخرفات التي لا يرتضي به الجاهل فضلا عن العاقل.

(اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن.. اه) كأن الفاء فصيحة أي إن فعلوا ذلك فإنك تعلم والغرض منه بسط الشكوى إليه تعالى لعلمه بما هم فيه من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وشدة الشكيمة وإعراضهم عن متابعة الولي الحق ثم الاستعصام به تعالى والالتجاء إليه من مثل هذه البلية العظيمة الصادرة من النفوس الأمارة (أما والبيت والمفضي إلى البيت وفي نسخة والمزدلفة والخفاف إلى التحمير) الواو للقسم والمقسم به محذوف والبيت الكعبة والإفضاء المس يقالگ أفضى إلى الأرض إذا مسها براحته، والمزدلفة المشعر الحرام، والخفاف بالخاء المعجمة والفائين جمع الخف وهو النعل وقد يطلق على القدم مجازا، والتجمير رمي الجمرة بالأحجار أي أما ورب الكعبة ورب من مسها بكفه والمراد به النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه أفضل من مسها ورب المزدلفة والأقدام المتحركة إلى رمي الجمرة هذا ما خطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.

وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: والمعنى ورب الكعبة التي تفضي إلى البيت المعمور لأنهما متحاذيان وكأن المفضي كان في نسخته بدون الواو، ثم قال: وفي كثير من النسخ الخفاف بالخاء المعجمة والفائين بعدها ولم أقف على معنى يناسب ولعل صوابه الحقاف بالحاء المهملة والقاف والفاء بمعنى الرمال المستطيلة والله أعلم (لولا عهد عهده إلي النبي الأمي) أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة أو أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ لعلمه بما فيه أو إلى الأم في أصل ولادته لم يقرأ ولم يدرس ولم يكتب وهو من أوصاف كما له لدلالته أن كمالاته التي تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها كانت من فيض الحق لا من جهة الاكتساب، والمراد بالعهد هو الوصية بالصبر على ما فعلوا وترك المحاربة معهم لمصالح جليلة (لأوردت المخالفين خليج المنية) الخليج نهر يقتطع

ص:307

من النهر الأعظم والإضافة من باب لجين الماء والوجه أن المنية يذهب بهم كما أن الخليج يذهب عند طغيان سيله بما فيه، ويحتمل أن يراد بالمنية الموت الأحمر وهو القتل وبخليجها النهر الجاري من دمائهم والإضافة حينئذ لامية (ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت) الشآبيب جمع شؤبوب وهو الدفعة من المطر وغيره والصاعقة النار التي يرسلها الله تعالى مع الرعد الشديد واستعيرت للصوارم القاطعة التي هي من آلات الموت لجامع الإهلاك وإزالة الحياة والإضافة إما لامية أو لأدنى ملابسة والمراد بشآبيبها دفعاتها وتعاقب حركاتها عليهم (وعن قليل سيعلمون) فيه إشارة إجمالية إلى ما تجده نفوسهم الشريرة بعد مفارقتها من العذاب الأليم والغم الشديد والأحوال الموحشة في البرزخ وفي الآخرة التي يطير منها الألباب.

* الأصل:

6 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه أبو بصير وقد حفزه النفس فلما أخذ مجلسه قال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد ما هذا النفس العالي؟ فقال: جلعت فداك يا بن رسول الله كبرت سني ودق عظمي واقترب أجلي مع أنني لست أدري ما أرد عليه من أمر آخرتي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد وإنك لتقول هذا! قال: جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟! فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ويستحيي من الكهول؟ قال: قلت: جعلت فداك فكيف يكرم الشباب ويستحيي من الكهول؟ فقال: يكرم الله الشباب أن يعذبهم ويستحيي من الكهول أن يحاسبهم، قال: قلت: جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال: فقال: لا والله إلا لكم خاصة دون العالم، قال: قلت: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزا انكسرت له ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): الرافضة؟ قال: قلت: نعم قال: لا والله ما هم سموكم ولكن الله سماكم به، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلا من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم فلحقوا بموسى (عليه السلام) لما استبان لهم هداه فسموا في عسكر موسى الرافضة لأنهم رفضوا فرعون وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة وأشدهم حبا لموسى وهارون وذريتهما (عليهما السلام) فأوحى الله عزوجل إلى موسى (عليه السلام) أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فاني قد سميتهم به ونحلتهم إياه، فأثبت موسى (عليه السلام) الاسم لهم ثم ذخر الله عزوجل لكم هذا الاسم حتى نحلكموه، يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر، افترق الناس كل فرقة وتشعبوا كل شبعة فانشعبتم مع أهل بيت نبيكم (صلى الله عليه وآله) وذهبتم حيث ذهبوا واخترتم من اختار الله لكم وأردتم من أراد الله فأبشروا ثم أبشروا، فأنتم والله المرحومون المتقبل من محسنكم والمتجاوز عن مسيئكم، من لم يأت الله عزوجل بما أنتم عليه

ص:308

يوم القيامة لم يتقبل منه حسنة ولم يتجاوز له عن السيئة، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت:

جعلت فداك زدني، يا أبا محمد إن لله عزوجل ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يسقط الريح الورق في أو ان سقوطه وذلك قوله عزوجل: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم... ويستغفرون للذين آمنوا) استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني.

قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا وإنكم لم تبدلوا بنا غيرنا ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم حيث يقول جل ذكره: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) يا أبا محمد: فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني فقال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: (إخوانا على سرر متقابلين) والله ما أراد بهذا غيركم، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال: يا أبا محمد (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) والله ما أراد بهذا غيركم، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال: يا أبا محمد لقد ذكرنا الله عزوجل وشيعتنا وعدونا في آية من كتابه فقال: عزوجل: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) فنحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا هم أولوا الألباب، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال: يا أبا محمد والله ما استثنى الله عزوجل بأحد من أوصياء الأنبياء ولا أتباعهم ما خلا أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله) وشيعته فقال في كتابه وقوله الحق: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله) يعني بذلك عليا (عليه السلام) وشيعته، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله تعالى في كتابه إذ يقول: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) والله ما أراد بهذا غيركم، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني.

فقال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) والله ما أراد بهذا إلا الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال:

يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الآية النبيون ونحن في هذا الموضع الصديقون والشهداء وأنتم الصالحون فتسموا بالصلاح كما سماكم الله عزوجل: يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله إذ حكى عن

ص:309

عدوكم في النار بقوله: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار) والله ما عني ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس وأنتم والله في الجنة تحبرون وفي النار تطلبون، يا أبا محمد فهل سررتك؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، فقال: يا أبا محمد ما من آية نزلت تقود إلى الجنة ولا تذكر أهلها بخير إلا وهي فينا وفي شيعتنا وما من آية نزلت وتذكر أهلها بشر تسوق إلى النار إلا وهي في عدونا ومن خالفنا، فهل سررتك يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك زدني، قال: يا أبا محمد ليس على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا وسائر الناس من ذلك براء، يا أبا محمد فهل سررتك؟ وفي رواية اخرى فقال: حسبي.

* الشرح:

قوله (عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد) العدة الناقلة عن سهل: علي بن محمد بن علان ومحمد بن أبي عبد الله ومحمد بن الحسن ومحمد بن عقيل الكليني، والظاهر أن محمد بن أبي عبد الله هو محمد بن جعفر الأسدي الثقة (قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه أبو بصير) مشترك بين ليث بن البختري المرادي ويحيى بن القاسم المكفوف وكنيتهما أيضا أبو محمد (وقد حفزه النفس) الحفز بالحاء المهملة والزاي المعجمة بعد الفاء الحث والإعجال والموالاة بين الشيئين بلا مهلة (كبرت سني) السن مقدار العمر مؤنثة في الناس وغيرهم والمراد بكبرها طولها (ودق عظمي) الذي هو أصلب أعضاء البدن وعمودها فكيف غيرها ودقته كناية عن الوهن والضعف اللازمين لطول العمر.

(مع أنني لست أدري ما أرد عليه من أمر آخرتي) «ما» زائدة وفي بعض النسخ «مع أني» (فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد وإنك لتقول هذا) إنكارا لقوله «مع ما أنني.. إلى آخره» (قال جعلت فداك وكيف لا أقول) ذلك مع عدم علمي بمآل حالي وما أرد عليه من أمر الآخرة (فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ويستحيي من الكهول) الاستفهام إما للحقيقة أو للتوبيخ أو للتقرير فقال (يكرم الله الشباب أن يعذبهم ويستحيي من الكهول أن يحاسبهم) الكهل من الرجال من زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين وقيل من ثلاث وثلاثين إلى تمام الخمسين وقيل من زاد أربعا وثلاثين إلى أحدى وخمسين ولما لم يكن في كرمه تعالى وحيائه نقص لزم من عدم تعذيب الشباب عدم حسابهم لئلا يخجلوا ومن عدم حساب الكهول عدم تعذيبهم بل عدم حساب الشيوخ وتعذيبهم بالطريق الأولى فإذا تدخل الشيعة كلهم بلا تعذيب ولا

ص:310

حساب في الجنة وله الحمد أولا وآخرا (قال قلت جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد) كلهم ولما لم يكن في قوله (عليه السلام) يكرم الشباب منكم... إلى آخره دلالة على الحصر سأله عنه.

(قال فقال لا والله إلا لكم خاصة دون العالم) أي لا يكون هذا والله أو لا والله ليس هذا إلا لكم خاصة دون أهل العالم، وإنما لم يقل: دون أهل التوحيد، كما قال أبو بصير للتنبيه على أن غير الشيعة ليسوا من أهل التوحيد بل هم مشركون (قال قلت جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزا انكسرت له ظهورنا.. الخ) النبز بالتحريك اللقب وقد كثر استعماله فيما كان ذما ومنه قوله تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب) التنابز التداعي بالألقاب القبيحة وإنما قال أبو بصير ذلك لزعمه أن هذا لقب قبيح لا لشكه في دينه فرفع (عليه السلام) زعمه وبشره بأن هذا لقب حسن لكم ولمن كان على دين الحق ثم بين أن كل الخلق ملقب بهذا اللقب أما أنتم فلرفضكم دين الباطل وأما هؤلاء فلرفضهم دين الحق فهذا اللقب ممدوح لكم ومذموم لهم (افترق الناس كل فرقة وتشعبوا كل شعبة) التشعب التفرق والشعبة بالضم الفرقة والطائفة والمراد بكل فرقة وكل شعبة فرقة كثيرة وشعبة كثيرة وذلك لأن الباطل له طرق كثيرة فذهبت إلى كل طريق طائفة لتوافق عقولهم وتناسب آرائهم.

(فانشعبتم مع أهل بيت نبيكم) أي صرتم معهم شعبة واحدة (وذهبتم حيث ذهبوا) في الأصول والفروع وصرتم من أهل التسليم لهم وصرفتم عقولكم عن الأهواء والآراء كما صرفوا عقولهم إليها ولم يعلموا أنه لا يجوز ذلك بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كما لا يجوز معه (يا أبا محمد أن لله ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما يسقط الريح الورق في أوان سقوطه) في ذكر الظهر إيماء إلى تشبيه الذنوب بالأثقال والأحمال المحمولة على الظهر تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح، وفي صدر الكلام إيماء إلى أن طائفة من الملائكة مخصوصون بهذا العمل وفي آخره إلى أن ذنوب المؤمن غير مستحكمة لضعفها بمضادة الإيمان بخلاف ذنوب غيره فإنها مستحكمة لقوتها بمواد من الكفر (وذلك قوله عز وجل (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم... ويستغفرون للذين آمنوا) ذلك إشارة إلى اسقاط الملائكة ذنوب الشيعة، وجه دلالة الآية عليه أن إستغفار الملائكة لهم غير مردود بل هو سبب له وجود السبب دليل على وجود المسبب (استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق) المراد بكاف الخطاب كل من أقر بولاية علي عليه السلام ووصايته، وبهذا الخلق كل من أنكرها فيشمل كل من آمن وبه وأنكره من هذه الأمة ومن الأمم السابقة فإن ولايته عليه السلام مأخوذة على جميع الخلق من الأولين والآخرين كما دلت عليه الروايات فمن آمن به منهم فهو مغفور باستغفار الملائكة ومن أنكره فهو محروم منه.

(فقال من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) أي أقامو ظاهرا وباطنا وفي كنز اللغة:

صدق راست گفتن وراست شدن وراست داشتن والمراد به هنا هو المعنى الأخير (فمنهم من

ص:311

قضى نحبه) في القاموس: النحب الموت والأجل والنفس والنذر، وفي النهاية في حديث طلحة ممن قضى نحبه النحب النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب فوفى به وقيل النحب الموت كأنه ألزم نفسه أن يقاتل حتى يموت (ومنهم من ينتظر) أي نحبه (وما بدلوا تبديلا) وأما غير هؤلاء من المؤمنين فقد بدلوا العهد ونقضوه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فارتدوا وخرجوا عن الإيمان، والظاهر أن الجار والمجرور في المواضع الثلاثة مبتدأ على معنى بعضهم وما بعده خبر دون العكس لعدم الفائدة في الإخبار وإن كان العكس هو المعروف بين النحاة وقد صرح بذلك الشريف في هذه الآية وفي قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين..) الآية والشيخ في الحديث الخامس والثلاثين من الأربعين في قوله «وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر لو صرفته إلى غير ذلك لهلك» ولجواز العكس وبيان فائدته مجال من التوجيه فتأمل (ولو لم تفعلوا لعيركم الله كما عيرهم) أي لو لم تفعلوا الوفاء بالعهد وبدلتم بأولياء الله غيرهم كما بدلوا لدخلتم في التعيير أيضا.

(حيث يقول جل ذكره (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) عهد الولاية (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) الكاملين في الفسق بترك الولاية، وان مخففة وهي تدخل الجملتين ففي الإسمية تعمل وتهمل، وفي الفعلية يجب إهمالها وحيث وجدت إن وبعدها لام مفتوحة فاحكم بأنها مخففة (فقال (إخوانا على سرر متقابلين في جنات النعيم يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون) وهم مع أهل الولاية شركاء في هذه النعمة (فقال عز وجل هل (يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) يعني إنه لا مساواة بين العالم والجاهل وأنه لا يعلم الفرق بينهما إلا ذوو العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب الأوهام.

(فنحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون وشيعتنا هم أولوا الألباب) روي مثله أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) وسيجئ عن الصادق (عليه السلام) أيضا قبل حديث الصيحة أن الآية نزلت في وصف علي (عليه السلام) وذم أبي الفصيل يعني أن عليا عليه السلام لكونه عالما بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله ليس مثله وهو لا يعلم ذلك ويقول باطنا: إنه ساحر كذاب (يعني بذلك عليا وشيعته) لعل المراد بشيعته كل من أقر بولايته من لدن آدم إلى آخر الدهر فإذن ليس المرحوم إلا هو وشيعته وبقي المستثنى منه بعد الاستثناء على عمومه لعدم صدقه بعده على مؤمن ولا يتحقق الإغناء والنصرة في غيره، وروى المصنف بإسناده في كتاب الأصول عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية قال «نحن والله الذي يرحم الله ونحن والله الذي استثنى الله لكنا نغني عنهم» (قال لقد ذكركم الله عز وجل في كتابه إذ

ص:312

يقول (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) والله ما أراد بهذا غيركم) لأن المخاطبين بهذا الخطاب الشريف هم المؤمنون باتفاق الأمة لخروج غيرهم عن هذا التشريف والإيمان لا يتحقق بالعقل والنقل إلا لمن أقر بالأوصياء وولايتهم وهم الشيعة رضي الله تعالى عنهم (فقال (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) والله ما أراد بهذا إلا الأئمة عليهم السلام وشيعتهم) إضافة العباد تفيد الاختصاص والمراد بهم المخلصون له تعالى المطيعون لأمره بقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وهم الأئمة عليهم السلام وشيعتهم.

(قال: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)) لما ذكر الله تعالى أهل الكتاب والمنافقين وذمهم ونصحهم قال (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)، فأولئك إشارة إليهم ووعد لهم بمرافقة الأخيار في دار القرار بشرط الطاعة (من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) ترغيب إلى تحصيل ما يوجب رفاقتهم، ورفيقا نصب على التمييز أو الحال قيل: ولم يجمع لأنه يصدق على الواحد والجمع أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقا (فرسول الله صلى الله عليه وآله في الآية النبيون) الجمع للتعظيم أو لأن المصدق به مصدق بالجميع (ونحن في هذا الموضع الصديقون والشهداء) لصدق جميع أقوالهم وعقائدهم ووفائهم بجميع العهود وكونهم شهداء في بلاده على عباده أو كونهم شهداء بيد الأعداء (وأنتم الصالحون) فتسموا بالصلاح (كما سماكم الله عز وجل) ترغيب في الصلاح والاجتهاد في العمل والورع والتقوى قسم الله عز وجل العارفين بثلاثة أقسام لأن العارف إما صاحب الوحي وهو الأول أو وصيه وهو الثاني أو التابع لهما وهو الثالث ورغب غير العارف في الطاعة في صدر الآية طلبا لمرافقة هؤلاء الأخيار (إذ حكى عن عدوكم في النار) حال عن العدو بقوله (وقالوا مالنا لا نرى رجالا كنا) في الدنيا (نعدهم من الأخيار) عدوهم منها لزعمهم أن دينهم الباطل حق وأن دين الحق وهو دين هؤلاء الرجال باطل فاسترذلوهم وسخروا بهم وكذلك كان حال الكفرة بالنسبة إلى أهل الإيمان في قديم الأيام أيضا (اتخذناهم سخريا) بكسر الهمزة صفة ثانية لرجال وأما بفتحها كما في بعض القراءة على الاستفهام فهو توبيخ وإنكار لأنفسهم في سخرية هؤلاء بالرجال واسترذالهم، والسخرى بالضم والكسر والسخرية اسم من سخر منه وبه إذا هزأه واسترذله وأهانه (أم زاغت عنهم الأبصار) أي مالت عنهم فلا تراهم و «أم» معادلة لما لا ترى أي عدم رؤيتهم في جهنم إما لغيبتهم وعدم دخولهم فيها أو لزيغ الأبصار عنهم، ولعل صدور هذا القول منهم إما لتأسفهم أو لكمال دهشتهم من شدة عقوبتهم وإلا فقد علموا أن سبب دخولهم في النار ترك دين هؤلاء الرجال وفيه دلالة على أن أهل جهنم يرون كل من دخل فيها.

313

(والله ما عني ولا أراد بهذا غيركم) أي ما عني الله عز وجل ولا أراد بهذا القول أو بقوله:

(رجالا) غيركم وفي بعض النسخ «ما عنى الله» وفيه دلالة على أن الشيعة لا تدخل النار، ويدل على ذلك أيضا ما روي عن أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين عليهم السلام من قولهم «إنما الأئمة قوام الله على خلقه عرفاؤه على عباده لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» ويظهر منه أن المقر بالأئمة لا يدخل النار والمنكر لهم لا يدخل الجنة، وسر ذلك أن معرفة ولايتهم وحقيقة إمامتهم أعظم ركن من أركان الدين وأفخم أصل من أصول الإيمان فمن أقر بها فهو مؤمن ومن أنكرها فهو كافر (صرتم عند أهل هذا العالم) ما داموا فيه (شرار الناس) باعتبار أنكم تبعتم وصي نبيكم وتركتم عبادة العجل.

(وأنتم والله في الجنة تحبرون) الحبر بالكسر والفتح النعمة وسعة العيش، وحسن الهيئة والسرور يقال: أحبره إذا أسره أي والله أنتم مسرورون في الجنة بكثرة النعمة وسعة العيش وطيبه ولذته وحسن الجمال ونضارة الوجه ورضوان الحق (وفي النار تطلبون) يطلبكم أعداؤكم ولا يجدونكم وهذا أيضا عذاب آخر عليهم (قال يا أبا محمد ما من آية نزلت تقود إلى الجنة ولا يذكر أهلها بخير إلا وهي فينا وفي شيعتنا.. الخ) الحصر حقيقي لما ثبت من أحاديث أهل البيت عليهم السلام من أنه لا يدخل الجنة إلا شيعتهم ومن أقر بولايتهم من الأولين والآخرين ولا يدخل النار إلا من أنكرهم، وأيضا ثبت من طرق العامة والخاصة أن عليا عليه السلام قسيم النار والجنة وفي النهاية الأثيرية في حديث علي عليه السلام «أنا قسيم النار» أراد أن الناس فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق علي فهم على ضلال فنصف معي في الجنة ونصف علي في النار وقسيم فعيل بمعنى فاعل كالجليس والسمير قيل أراد بهم الخوارج وقيل كل من قاتله انتهى، وفي الفايق يعني أنا قاسمها فإن الناس في حقه على قسمين مهتدون وضالون فكأنه قاسم للنار فشطر لها من الضالين وشطر له من المهتدين (قال يا أبا محمد ليس على ملة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا وسائر الناس من ذلك براء) المراد بملة إبراهيم أصول شرايعه المشتركة كالتوحيد وأسراره وغير ذلك مما لا يطرأ عليه النسخ وهذه الفائدة مثل السوابق راجعة إلينا إلا أنها أرفعها وأسناها وأجلها وأعلاها لكونها غاية الكمالات البشرية المقتضية لسكون العبد تحت الهوية الإلهية وفتور اضطراب قلبه فلذلك لما بلغ الكلام إلى هذا المقام (قال: حسبي) لأنه ليس للعبد مطلب سواه ولا للمشتاق مقصد عداه.

ص:314

حديث أبي عبد الله (عليه السلام) مع المنصور في موكبه

* الأصل:

7 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير جميعا، عن أبي حمزة، عن حمران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال: إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه وهو على فرس بين يديه خيل ومن خلفه خيل وأنا على حمار إلى جانبه فقال لي: يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة وفتح لنا من العز ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم، قال: فقلت: ومن رفع هذا إليك عني فقد كذب.

فقال لي: أتحلف على ما تقول: قال: فقلت: إن الناس شجرة بغي يحبون أن يفسدوا قلبك علي فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا. فقال لي: تذكر يوم سألتك هل لنا ملك؟ فقلت:

نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منا دما حراما في شهر حرام في بلد حرام، فعرفت أنه قد حفظ الحديث، فقلت: لعل الله عزوجل أن يكفيك فاني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته ثم لعل غيرك من أهل بيتك يتولى ذلك فسكت عني فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال: جعلت فداك والله لقد رأيتك في موكب أبي جعفر وأنت على حمار وهو على فرس وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته فقلت بيني وبين نفسي: هذا حجة الله على الخلق وصاحب هذا الأمر الذي يقتدي به وهذا الآخر يعمل بالجور ويقتل أولاد الأنبياء ويسفك الدماء في الأرض بما لا يحب الله وهو في موكبه وأنت على حمار فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني ونفسي، قال: فقلت: لو رأيت من كان حولي وبين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه فقال:

الآن سكن قلبي.

ثم قال: إلى متى هؤلاء يملكون؟ أو متى الراحة منهم؟ فقلت: أليس تعلم أن لكل شيء مدة؟ قال: بلى، فقلت: هل ينفعك علمك أن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين؟ إنك لو تعلم حالهم عند الله عزوجل وكيف هي؟ كنت لهم أشد بغضا ولو جهدت أو جهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد ما هم فيه من الإثم لم يقدروا فلا يستفزنك الشيطان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، ألا تعلم أن من انتظر أمرنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غدا في زمرتنا، فإذا رأيت الحق قد مات وذهب أهله، ورأيت الجور قد شمل البلاد،

ص:315

ورأيت القرآن قد خلق وأحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الأهواء، ورأيت الدين قد انكفى كما ينكفي الماء، ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق، ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه، ورأيت الفسق قد ظهر، واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله، ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير، ورأيت الأرحام قد تقطعت، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله، ورأيت الغلام يعطي ما تعطي المرأة ورأيت النساء يتزوجن النساء، ورأيت الثناء قد كثر، ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه، ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد، ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع، ورأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن. مرحا لما يرى في الأرض من الفساد، ورأيت الخمور تشرب علانية ويجتمع عليها من لا يخاف الله عزوجل ورأيت الأمر بالمعروف ذليلا ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا.

ورأيت أصحاب الآيات يحقرون ويحتقر من يحبهم، ورأيت سبيل الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا، ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه، ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله، ورأيت الرجال يتسمنون للرجال والنساء للنساء، ورأيت الرجل معيشته من دبره ومعيشة المرأة من فرجها، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال، ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر وأظهروا الخضاب وامتشطوا كما تمتشط المرأة لزوجها وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم وتنوفس في الرجل وتغاير عليه الرجال، وكان صاحب المال أعز من المؤمن، وكان الربا ظاهرا لا يعير، وكان الزنا تمتدح به النساء، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن، ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا.

ورأيت البدع والزنا قد ظهر، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور، ورأيت الحرام يحلل ورأيت الحلال يحرم، ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب وأحكامه، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه، ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عزوجل، ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم ورأيت الولاية قبالة لمن زاد، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور، يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها وتعمل ما لا يشتهي وتنفق على زوجها، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدني من الطعام والشراب ورأيت الأيمان بالله عزوجل

ص:316

كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر ورأيت الشراب يباع ظاهرا ليس له مانع، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها، لا يمنعها أحد أحدا ولا يجترىء أحد على منعها، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه، ورأيت أقرب الناس من الولاة من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل، ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه، ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالأهواء، والمساجد قد زخرفت، ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب، ورأيت الشر قد ظهر والسعي بالنميمة، ورأيت البغي قد فشا، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضا، ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله، ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن، ورأيت الخراب قد أديل من العمران، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان، ورأيت سفك الدماء يستخف بها، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتسند إليه الامور، ورأيت الصلاة قد استخف بها.

ورأيت الرجل عنده المال الكثير ثم لم يزكه منذ ملكه، ورأيت الميت ينبش من قبره ويؤذى وتباع أكفانه، ورأيت الهرج قد كثر، ورأيت الرجل يمسي نشوان ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه، ورأيت البهائم تنكح، ورأيت البهائم يفرس بعضها بعضا، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شيء من ثيابه، ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه، ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين يطلب الدنيا والرئاسة، ورأيت الناس مع من غلب، ورأيت طالب الحلال يذم ويعير وطالب الحرام يمدح ويعظم، ورأيت الحرمين يعمل فيهما بما لا يحب الله لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح أحد، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين.

ورأيت الرجل يتكلم بشيء من الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع.

ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور، ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا يسلكه أحد، ورأيت الميت يهزأ به فلا يفزع له أحد، ورأيت كل عام يحدث فيه من الشر والبدعة أكثر مما كان، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الأغنياء، ورأيت المحتاج يعطى على الضحك وبه يرحم ولغير وجه الله، ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد ورأيت الناس يتسافدون كما تتسافد البهائم لا ينكر أحد منكرا تخوفا من الناس، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله ويمنع اليسير في طاعة الله، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين وكانا من

ص:317

أسوء الناس حالا عند الولد ويفرح بأن يفترى عليهما، ورأيت النساء قد غلبن على الملك وغلبن على كل أمر، لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى، ورأيت ابن الرجل يفتري على أبيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما ورأيت الرجل إذا مر به يوم ولم يكسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر كئيبا حزينا يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره، ورأيت السلطان يحتكر الطعام، ورأيت أموال ذوي القربى تقسم في الزور ويتقامر بها وتشرب بها الخمور، ورأيت الخمر يتداوى بها وتوصف للمريض ويستشفى بها، ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك التدين به، ورأيت رياح المنافقين [وأهل النفاق] قائمة ورياح أهل الحق لا تحرك، ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله، يجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق ويتواصفون فيها شراب المسكر. ورأيت السكران يصلي بالناس وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر أكرم واتقي وخيف وترك، لا يعاقب ويعذر بسكره، ورأيت من أكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع ورأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسوق والجرأة على الله، يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون، ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر، ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها، ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يراد بها وجه الله ويعطى لطلب الناس، ورأيت الناس همهم بطونهم وفروجهم، لا يبالوا بما أكلوا وما نكحوا، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم، ورأيت أعلام الحق قد درست، فكن على ذر واطلب إلى الله عزوجل النجاة واعلم أن الناس في سخط الله عزوجل وإنما يمهلهم لأمر يراد بهم فكن مترقبا واجتهد ليراك الله عزوجل في خلاف ما هم عليه فإن نزل بهم العذاب وكنت فيهم عجلت إلى رحمة الله وإن أخرت ابتلوا وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على الله عزوجل واعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين وأن رحمة الله قريب من المحسنين.

* الشرح:

(حديث أبي عبد الله عليه السلام مع المنصور في موكبه) الموكب بفتح الميم وكسر الكاف جماعة ركاب يسيرون برفق من غير سرعة لإظهار السكينة والوقار وهم أيضا القوم الركوب للزينة والتنزه وقيل: الموكب ضرب من السير (فقال: إني سرت مع أبي جعفر) وهو الثاني من خلفاء بني عباس بعد أخيه السفاح ولقب بالدوانيقي لبخله وفي بعض النسخ «مع أبي جعفر المنصور (وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل) أي جماعة فرسان أو أفراس والأول أولى والثاني إما محمول على الظاهر أو على حذف مضاف أي أصحاب خيل (وأنا على حمار إلى جانبه) لا لأنه

ص:318

لم يقدر على غيره بل للتذلل لله تعالى في مقابلة تكبر ذلك الطاغي عليه.

(فقال لي يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أن تفرح.. الخ) للقرابة النسبية ولإزالة بني أمية الذين كانوا أعداء لنبي هاشم وكانوا يسبون عليا عليه السلام (ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر) أي بأمر الخلافة (منا وأهل بيتك) بالنصب عطف على كاف الخطاب أي ولا تخبر الناس أن أهل بيتك أحق بهذا الأمر منا (فتغرينا بك وبهم) أي تهيجنا على الإيذاء والإضرار بك وبهم وفي كنز اللغة:

الإغواء در حرص انداختن وبرانگيختن (فقال: أتحلف على ما تقول) من أن الرافع كاذب أو من أنك لم تخبر أحدا بأنك أحق بهذا الأمر وعدم الإضرار بعدم الحلف مع طلب الطاغي إنما هو بلطف الله وحفظه وصرف قلبه عنه (فقلت: إن الناس شجرة بغي) أي ظلم وفساد وجور وعناد شبههم بالشجرة وبغيهم بالثمرة فكما أن الثمرة يتولد من الشجرة كذلك البغي والفساد يتولد من الناس (يحبون أن يفسدوا قلبك علي) فينقلون مني إليك ما يوجب تغيرك علي (فلا تمكنهم من سمعك) أي فلا تسمع قولهم في وعلله بقوله (فإنا إليك أحوج منك إلينا) لأن احتياجه عليه السلام إليه في حفظ دمه ودم شيعته ورعاية حقوقهم وترك الجور عليهم ومراعاة الصلة وهذا أمر متحقق ثابت وإما احتياجه إليه عليه السلام فقد كان في الأمور الدينية وقد أفسد الدين ولوازمه فكأنه لم يكن محتاجا إليه.

(فقال لي: تذكر يوم سألتك هل لنا ملك) سأل هذا الطاغي أبا جعفر (عليه السلام) أيضا فأجابه بما أجابه خلفه الصادق عليه السلام مع زيادة كما يجيىء في حديث الصيحة (فقلت نعم طويل عريض شديد) طويل بحسب المدة والزمان، عريض بحسب المساكن والبلدان، شديد بحسب القوة والسلطان (فلا تزالون في مهلة من أمركم) هو السلطنة (وفسحة من دنياكم) الفسحة بالضم السعة والمراد بها السعة في الأموال والبلاد (حتى تصيبوا منا دما حراما في شهر حرام في بلد حرام) وحينئذ تستحقون زوال دولتكم وفناء سلطنتكم ولا يكون لكم في الأرض ناصر ولا في السماء عاذر، قال بعض الأفاضل كأنه إشارة إلى المقتولين بفخ في ذي الحجة الحرام، وفخ من الحرم بين تنعيم ومكة، وقال الأمين الأسترآبادي: يمكن أن يكون المراد ما فعله هارون قتل في ليلة واحدة كثيرا من السادات. ويمكن أن يكون المراد قتلهم المقتولين بفخ وهو موضع قرب مكة انتهى، ونظير ما نحن فيه من طرق العامة عن الحسن بن علي عليهما السلام قال «إن هؤلاء أخافوني وهم قاتلي فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة» الفرم بالفتح والسكون خرقة الحيض وما يجيىء في حديث الناس يوم القيامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «إن الله عز ذكره أذن في هلاكه بني أمية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيام» ويفهم من جميع ذلك أنه لا يلزم أن يكون الزوال بعد فعلهم ذلك بلا فصل (فعرفت أنه قد حفظ الحديث) فيكف من إصابة دمائنا خوفا من زوال

ص:319

ملكه.

(فقلت: لعل الله عز وجل أن يكفيك) من الإصابة ومقتضاها (فإني لم أخصك بهذا) أي بزوال الملك من إصابة الدماء (وإنما هو حديث رويته) عن آبائي وفيه تبعيد لنفسه عن العلم بالغيب خوفا منه (لعل غيرك من أهل بيتك يتولى ذلك) أي أمر الخلافة أو إصابة الدماء ويجري فيه حكم الله تعالى بالتغير والزوال (قد دخلني من ذلك شك) في التوحيد وعدله أو في الولاية لوسوسة الخبيث بأن إعطاء الفاسق الدني اللئيم ومنع العادل الشريف الكريم جور في القسمة أو بأن المذلة تنافي الولاية كل ذلك لعدم علمه بالحكمة (حتى خفت على ديني) بالارتداد والزوال (وعلى نفسي) بالعقوبة والنكال ولما كان منشأ شكه تخيل الجور في القسمة أو تخيل الذل عليه السلام أشار إلى دفعه بقوله (لو رأيت من كان حولي الخ) وبين أن ما أعطاه خير مما أعطى المنصور لأن جنود الملائكة أشرف وأكرم من جنود شيطان الأنس وبذلك ظهر عزه واحتقار المنصور (فقال الآن سكن قلبي) بزوال الاضطراب وذهاب الوسوسة عنه.

(فقال: إلى متى هؤلاء يملكون؟ أو متى الراحة منهم؟) لعل الترديد من الراوي مع احتمال الجمع بأن يكون الأول سؤالا عن مدة ملكهم والثاني عن نهايته أو عن بداية ظهور الصاحب عليه السلام (فقلت: أليس تعلم أن لكل شيء) من الأمور الممكنة (مدة قال بلى) الاستفهام لتقرير المنفي ولذلك أجاب به (فقلت هل ينفعك علمك) الظاهر أن الاستفهام للإنكار لأن العلم بأن للجور مدة وللراحة مدة والعلم بنهاية الأولى وبداية الثانية لا ينفع في رفع الجور وحصول الراحة قبلهما بالفعل وأما بعدهما فترتفع الجور وتحصل الراحة سواء علم أم لم يعلم فلا نفع للعلم بهما فلا فائدة في السؤال عنهما، ثم رغب في انتظار الفرج والتوقع في حصوله على سبيل الاستيناف بقوله: (إن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين) لأنه تعالى إذا أراد شيئا يجيىء ذلك الشيء بلا تخلف ولا مهلة، والمراد بهذا الأمر إما زوال مدة ملكهم أو الراحة بظهور القائم عليه السلام ثم صرف الكلام إلى ذم الطاغي وأصحابه لتنفير المخاطب عما رآه من حسن ظاهرهم بقوله (إنك لو تعلم حالهم عند الله عز وجل وكيف هي كنت لهم أشد بغضا) لأن كل مالهم مما يدل على حسن ظواهرهم عند القاصرين فهي سموم قاتلة وحيات مهلكة وصور موحشة عند الصالحين ولما كان من المقرر أن كل شخص مجتهد في إضرار عدوه وراض بلحوق الإثم والعقوبة به حمل عليه السلام المخاطب على الرضا بما هم عليه من حيث أنهم أعداء له بقوله (ولو جهدت وجهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد مما هم فيه من الإثم لم يقدروا) لأن ما دخلوا فيه إثم وكفر يوجب الخلود في النار وعقوبة الأبد في دار البوار وكل ما سواه من العقوبة التي يوصله العدو إلى عدوه فإنما هي عقوبة دنيوية وهي سهل بالنسبة إلى العقوبة الاخروية. ثم نفر المخاطب

ص:320

عن الميل إلى مثل ما هم فيه بقوله (فلا يستفزنك الشيطان) أي فلا يستخفنك شيطان الجن والإنس من مقامك في الإيمان ولا يخرجنك مما أنت فيه من الدين والإيقان بالوسوسة وتزيين أمر مقتضي للخسران وفي بعض النسخ «فلا يغرنك» ثم أشار إلى أن ما عده جملة الناس عزة بكثرة الأموال والأنصار فهو أمر اعتباري لا حقيقة له وإن العزة الحقيقية الثابتة الباقية هي أمر آخر بقوله (فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) يعني أن العزة والغلبة لله تعالى لكونه مبدأ لجميع الممكنات المحتاجين إليه في جميع الجهات ولمن تقرب إليه بالوسايل المشروعة على تفاوت الدرجات وأما المنافقون والجاهلون فلشدة قساوتهم وقوة جهالتهم ظنوا أن العزة هي حصول أسباب الدنيا ولذلك كل من كانت الدنيا عنده أوفر وأكثر كان عندهم أعز وأغر، ثم حثه على أمرين أحدهما أصل من أصول الإيمان والآخر موجب للثبات عليه بقوله (ألا تعلم أن من انتظر أمرنا) وهو الخلافة الظاهرة القاهرة في عهد الإمام المنتظر عليه السلام (وصبر على ما يرى من الأذى والخوف) من أعدائنا الطالبين لدمائنا (هو غدا في زمرتنا) الزمرة بالضم الفوج والجماعة ثم أشار إلى بعض علامات ظهور الصاحب عليه السلام بقوله (فإذا مات الحق وذهب أهله) المراد بالحق القوانين الشرعية وبموته اندراسه ونقصه وبذهاب أهله وهو العالم به أو كونه غير ملتفت إليه (ورأيت الجور قد شمل البلاد) منشأه طغيان القوة الشهوية في جلب المنافع الدنيوية وإعانة القوة الغضبية لها في تحصيلها ودفع الموانع منها ولو بالضرب والشتم والقتل ونحوها مع ضعف القوة العقلية وعجزها عن مقاومتهما لفقدها ملكة العلم والحكمة الزاجرة عن القبايح (ورأيت القرآن قد خلق) خلق الثوب ككرم ونصر وسمع بلى، وهو كناية عن هجره وترك تلاوته والعمل بأحكامه (وأحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الأهواء) من غير نص صريح أو مستند صحيح كما فعله المبتدعة في مجمله ومتشابهه وغيرهما.

(ورأيت الدين قد انكفى كما ينكفي الإناء) أي بقي اسمه وضاع ما فيه من الأحكام وغيرها تقول كفأت الإناء أو أكفأته إذا كببته وقلبته لتفرغ ما فيه فانكفأ وفيه تشبيه للمعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح (ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق) لعل المراد بأهل الباطل الحكام الجائرون وبأهل الحق العلماء الراسخون وبالاستعلاء جريان أحكامهم عليهم أو عدم الطاعة لهم (ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه) إما لعدم الناهي واللائم لشمول الجهل للكل أو لوجوده مع ترك النهي واللوم لعدم اعتنائه بالدين ومخالفة رب العالمين.

وكل ذلك دليل واضح على ضعف الدين وتعاونهم على عدمه (ورأيت الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء) كناية عن اللواط والمساحقة، والفسق بالكسر الترك لأمر الله والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور وهو الزنا ونحوه والأخير أنسب لأن الظاهر أن

ص:321

العطف للتفسير.

(ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله) لإيمانه أو لضعف حاله (ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته) لعدم وجود الراد أو لوجوده مع عدم القدرة على الرد أو مع القدرة وعدم المبالاة بالكذب، والفرية الكذب عن عمد فذكرها بعد الكذب من باب ذكر الخاص بعد العام (ورأيت الصغير يستحقر الكبير) في السن أو الرتبة وهو من خلاف الآداب الشرعية المطلوبة للتخلق بالأخلاق الحسنة ولحفظ نظام الكل.

(ورأيت الأرحام قد تقطعت) أعظم الأرحام رحم محمد (صلى الله عليه وآله) ثم أرحام الناس وفي صلتها بالشفقة والرأفة والتقرب والإحسان باليد واللسان فوائد كثيرة في الدنيا والآخرة وفي قطعها مفاسد عظيمة فيهما ولذلك وقع الأمر بحفظها في الآيات والروايات كما في كتاب الأصول (ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد قوله) امتدحه امتداحا ومدحه كمنعه مدحا أحسن الثناء عليه، والمراد بالفسق كل ما هو قبيح شرعا ولا ريب في أن مدح الفاسق بفسقه أي نوع كان وضحك السامع منه ونشاطه باستماعه وعدم رد قوله دليل على ضعف دينه وفساد قلبه.

(ورأيت الغلام يعطي ما تعطي المرأة) فيه إشارة إلى فساد المفعول وذمه وفي السابق إشارة إلى فساد الفاعل وذمه فلا تكرار (ورأيت النساء يتزوجن بالنساء) كأن المراد به تزويج الخنثى بالخنثى أو بالمرأة وإن أريد بالتزويج المساحقة مع أنه بعيد لزم التكرار والله يعلم (ورأيت الثناء قد كثر) الروايات في ذم ثناء الناس كثيرة وهو من توابع الفساد في القوة الشهوية وميل النفس الأمارة إلى الدنيا وغلبتها على القوة العقلية الحاكمة بأن المستحق للثناء ليس إلا الله عز وجل وفي بعض النسخ «البناء» بالنون بعد الباء الموحدة المراد بكثرته الزائد على قدر الحاجة كما وكيفا (ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا ينهى عنه ولا يؤخذ على يديه) وجب نهي المسرف عن الإسراف فإن لم ينته وجب أخذ يديه من التصرف في ماله وإعطاء قوته اللايق به وإن لم يتحقق شيء من ذلك فقد اتفقوا على هدم الشريعة (ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد) في العلم والعمل والورع والتقوى وتحسين الأخلاق والناظر إليه ينبغي إليه التأسي به فإذا تعوذ من عمله فقد عد الخير شرا والشر خيرا وسعى في تخريب الدين وإغراء الناس بالصالحين (ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع) حفظ الجار ورفع الجور والأذى والظلم عنه واجب فمن يؤذي جاره ولا يمنعه أحد اتفقوا في الجور ورفع الأحكام وتبديل النظام.

(ورأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن، مرحا لما يرى في الأرض من الفساد) الفرح والمرح محركة السرور والبطر والأشر والاحتيال والتبختر والنشاط، وقيل: المرح أشد من الفرح والمراد بالفساد إما الفساد الناشئ من الكفر لكون الحاكم العادل مقهورا بسبب عدم الناصر له أو

ص:322

الفساد الناشئ من أهل الإسلام وفيه على التقديرين إشارة إلى ضعف في الدين وذم المسلمين.

(ورأيت الخمور تشرب علانية) المراد بالخمر كل ما أسكر سواء كان من العنب أم من البسر أم من التمر أم من غيرها وهو يذكر ويؤنث وشربها حرام مطلقا، سرا وعلانية، منفردا أو مجتمعا إلا أن الإعلان والاجتماع أقبح لما فيهما من التشهير والتحقير المنافيين لوجوب حفظ الشرع وتعظيمه (ورأيت الأمر بالمعروف ذليلا ورأيت الفاسق فيما لا يحب الله قويا محمودا) وفيه فساد لحكم الشارع وبطلان لدينه إذ حكمه ودينه عكس ذلك (ورأيت أصحاب الآيات يحتقرون ويحتقر من يحبهم) المراد بأصحاب الآيات أو أصحاب الآثار كما في بعض النسخ الأئمة عليهم السلام أو العلماء التابعون لهم أيضا والمحقر لهم كافر وإن كان من أهل ملتهم كما قد يفعل ذلك جهال هذه الملة بالنسبة إلى علمائهم.

(ورأيت سبيل الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا) الخير كل ما طلبه الشارع والشر كل ما أنكره وترك سبيل الأول وسلوك سبيل الثاني أعم من أن يكون مع العلم والجهل ومع الإقرار والإنكار إذ فيه أيضا قلب لحكم الشارع وأمره (ورأيت بيت الله قد عطل ويؤمر بتركه) أريد به بيت الله الحرام أو المسجد أيضا وليس للقادر المستطيع تركه ولا لأحد الأمر بتركه لأنه يوجب إبطال شعائر الإسلام (ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله) وذلك دليل على النفاق والاستهزاء بالشرع ومشتمل على التضاد وخال عن التأثير إذ بقوله يقول: افعل، وبفعله يقول: لا تفعل، ولذلك ورد الآية والرواية على ذمه (ورأيت الرجال يتسمنون للرجال والنساء للنساء) قال في النهاية: فيه - أي في الحديث - يكون في آخر الزمان قوم يتسمون أي يتكثرون ما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف وقيل أراد جمعهم الأموال وقيل: يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن (ورأيت الرجل معيشته من دبر ومعيشة المرأة من فرجها) المعيشة ما يعاش به من المطعم والمشرب وما يكون به الحياة وقد أشار هنا إلى خبث بعض الأزمنة من جهة الاكتساب بهذا العمل وفي السابق إلى خبثه من جهة هذا العمل فلا تكرار.

(ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال) ينبغي للنساء أن يسكن احفظ بيت من بيوتهن ولا يخرجن منه كما قال تعالى (وقرن في بيوتكن) فإن في خروجهن مفاسد كثيرة خصوصا إذا اتخذن مجالس معهن أو مع الرجال فإن الصالحات منهن قل ما يتخلصن من الفساد فضلا عن الفاجرات ولذلك كان أهل العزة والصلاح يمنعون الأجنبيات عن الدخول على نسائهم (ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر) في كنز اللغة: التأنيث مادة گردانيدن والمراد به عمل الأمرد والرجل ما تعمله النساء للرجال وترغيبهم إلى أنفسهن وقد أشار إلى بعض منه بقوله (وأظهروا الخضاب في اليد والرجل) لقصد الزينة وميل الرجال إليهم وامتشطوا الغداير للرجال

ص:323

كما تمتشط المرأة لزوجها ولعل تخصيص ولد العباس بالذكر للتمثيل أو لبيان الواقع وإلا فكل من تصنع به فهو مثلهم (وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم) يحتمل إعطاء الفاعل المفعول لتمكينه على ما أراد منه وإعطاء المفعول الحكام لتمكينهم له على عمله كما تعطي الفواحش من النساء (وتنوفس في الرجل وتغاير عليه الرجال) التنافس والمنافسة الرغبة في الشيء والانفراد به لكونه جيدا في نوعه والتغاير من الغيرة وهي الحمية والأنفة يقال: رجل غيور وامرأة غيور بلا هاء لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى والظاهر أن في الرجل قائم مقام الفاعل وأن ضمير عليه راجع إليه أي رغب في الرجل وهو مرغوب له لنوع من الحسن والجمال وتغاير عليه الرجال حسدا كما تغاير النساء على ضرتهن عند إرادة الزوج لها (وكان صاحب المال أعز من المؤمن) باعتبار ترجيح المال على الإيمان والدنيا على الآخرة لفساد الطبيعة وزوال البصيرة (وكان الربا ظاهرا لا يغير) بالغين المعجمة وفي بعض النسخ بالعين المهملة والأول أظهر (وكان الزنا تمتدح به النساء) وهو مضاد لحكم الله تعالى حيث أمر بالنهي عنه ومحرك لهن وللرجال على الفساد (ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال) المصانعة الرشوة والمداراة والمداهنة ولعل المراد أنها تعطيه مالا ليرضى به على زنائها (ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن) بإذنهن على الخروج والبروز والصحبة مع الرجال والميل إلى الملاهي والزنا ونحوها.

(ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا) لما رآه من زوال الدين واندراس الإيمان ورواج الكفر وظهور العصيان وعزة أهل الفجور وغلبة أهل الطغيان وهو محتقر ذليل بينهم لا يجد ناصرا يعينه ولا مغيثا يغيثه (ورأيت البدع والزنا قد ظهر) لطغيان القوة الشهوية وضعف القوة العقلية واتصافها بالجهل والبدعة خلاف ما نطق به الشرع على وجه العموم أو الخصوص.

(ورأيت الناس يعتدون بشهادة الزور) يعتدون إما بتخفيف الدال من الاعتداء وهو التجاوز عن الحد والخروج عن الوضع الشرعي أو بتشديدها من الاعتداد وفي بعض النسخ «يقتدون» بالقاف من الاقتداء وفي بعضها: بشاهد الزور.

(ورأيت الحلال يحرم ورأيت الحرام يحلل) إما عمدا لأخذ رشوة أو لغيرها من الأغراض النفسانية أو خطأ لظنه أن القياس والاستحسان ونحوهما من الأمور المخترعة حجة شرعية وهذه الرؤية غير مختصة بالعالم لأن الحكم قد يكون ضروريا يعرفه غيره أيضا (ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب وأحكامه) وإن وافق الرأي حكم الكتاب أو كان صاحب الرأي على ملة أهل البيت عليهم السلام بل استعمال الرأي منه أقبح (ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على الله) أي لا يترك بسبب الجرأة على الله بالزنا والقتل والنهب والسرقة ونحوها يقال: استخفى من الشيء إذا استتر وتوارى منه بالبعد والفرار عنه والغرض الأصلي من تقدير الليل وخلقه هو السكون عن

ص:324

الحركات والأفعال الموافقة للقوانين الشرعية وغيرها فكما أن من ارتكب الأولى كان في غاية الحرص في الدنيا كذلك من ارتكب الثانية كان في نهاية الشقاوة والجرأة على الله (ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه) لقوة أهل الباطل وضعف أهل الحق فلا يقدر المؤمن على إظهاره خوفا من الضرر على نفسه وعرضه وعياله وإخوانه وأما الإنكار بالقلب وهو الاعتقاد بوجوب ما يترك وتحريم ما يفعل وعدم الرضا به مع بغض التارك والفاعل لله تعالى فهو واجب على كل مؤمن غير مشروط بشيء.

(ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط الله عز وجل) كالزنا والشرب ومعونة الظالمين ونحوها والفرق بينه وبين ما سبق من قوله (ورأيت الرجل ينفق ماله في غير طاعة الله فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه) أن الغرض هنا بيان الفساد من جهة الإنفاق وفي السابق بيانه من جهة ترك النهي عنه وعدم الحجر (ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير) أن اريد بالكفر جحود الرب والرسالة أو الولاية كان المراد بالخير الإيمان بها وان أريد به أعم من المذكور ومن كفر المخالفة بترك المأمور به وفعل المنهي عنه ومن كفر النعمة بترك الشكر عليها كان المراد بالخيرات أيضا أعم مما ذكر ومن الطاعة والشكر على النعمة فيندرج الفاسق في الأول والصالح في الثاني ومنشأ صدور هذا الفعل من الولاة خروجهم من الدين أو ضعفهم فيه والغرض منه ترويج الكفر ورفعه وتحقير الحق ووضعه.

(ورأيت الولاة يرتشون في الحكم) أي يأخذون الرشوة وهي مثلثة الجعل (ورأيت الولاية قبالة لمن زاد) الولاية بالكسر الإمارة والقبالة بالفتح مصدر بمعنى الكفالة والضمان ثم صار اسما لما يتقبله العامل من المال وحملها على الولاية من باب حمل السبب على المسبب للمبالغة في السببية، وفي بعض النسخ «لمن أراد» (ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفي بهن) مع العلم بالتحريم أو عدمه أو عدم الإعتقاد بالتحريم أصلا.

(ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة) التهمة من الوهم وهو من خطرات القلب أو مرجوح طرفي المتردد فيه وقد تطلق على الظن وهو التردد والراجح بين طرفيه والاعتقاد الغير الجازم، والظنة بالكسر التهمة والشك (ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله) الظاهر أن يتغاير عطف على يقتل وأن الذكر مفعوله أي ورأيت الرجل يتغاير الذكر على رجل فيبذل لذلك الرجل نفسه وماله ويفديهما له والحاصل أنهما يتغايران عليه ويريد كل واحد انفراده به كما هو المعروف بين العشاق (ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء) لتحريصه على إتيان الرجال، ويعير يحتمل المجهول والمعلوم والأول أظهر لاحتياج الثاني إلى تقدير مفعول (ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور يعلم ذلك ويقيم عليه) الظاهر من الفجور هو الزنا ويحتمل الأعم منه

ص:325

وسمي ذلك الرجل مع العلم بفجورها ديوثا وهو الذي لا يغار على امرأته إما بحفظها منه أو بفراقها.

(ورأيت المرأة تقهر زوجها) أي تغلبه على ما أرادته (وتعمل ما لا يشتهي) من الزنا وغيره مما لا يجوز شرعا (وتنفق على زوجها) وهو يرضى بإنفاقها ويقبله والفساد هنا من الطرفين (ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدني من الطعام والشراب) في كنز اللغة: الكرى بكراية دادن چاروا غير آن، يقال: كراه وأكراه وكاراه دابته إذا آجرها فإن أريد به إكراء البضع فهو والرضا به والأكل منه حرام، وإن أريد به إكراء العمل فهو من خلاف المروة الذي لا يرضى به أهل الدين والشرف (ورأيت الإيمان بالله عز وجل كثيرة على الزور) اليمين الكاذبة حرام مطلقا خصوصا إذا بلغت حد الكثرة من شخص واحد أو من أشخاص متعددة فإنها تدل على عدم إيمانهم بالله وباليوم الآخر والوعد والوعيد.

(ورأيت القمار قد ظهر) القمار بالكسر كل ما له خطر كالنرد والشطرنج ونحوهما وكله حرام إلا ما استثنى كالسبق والرماية إلا أنه لا يسمى قمارا عرفا (ورأيت الشراب) يعني كل مسكر من أي جنس كان (يباع ظاهرا) وإن كان البايع مستحلا له ليس له مانع لعدم وجود المانع أو لعدم القدرة على المنع أو لعدم المبالاة به (ورأيت النساء يبذلن أنفسهن) بالعقد أو عدمه وبالأجرة أو عدمها (لأهل الكفر) مليا كان أو حربيا إذ العقد فاسد والأجرة سحت وهي زانية والولد من الزنا (ورأيت الملاهي قد ظهرت) اللهو اللعب والملاهي آلاته كالطنبور والدف والطبل وغيرها وقد تطلق الملاهي على أنواع اللهو في كنز اللغة: الملاهي بازيها (يمر بها لا يمنعها أحد أحدا) مع القدة على المنع (ولا يجتري أحد على منعها) لعدم القدرة عليه لغلبة الجور على العدل (ورأيت الشريف) وهو المؤمن مطلقا أو المؤمن الصالح العابد أو العلماء أو الأعم (يستذله الذي يخاف سلطانه) سواء كان من أهل ملته أم لا والأول أقبح وأشنع من الثاني والموصول فاعل ويخاف على صيغة المجهول أو المعلوم وضمير فاعله راجع إلى الشريف (ورأيت أقرب الناس من الولاة) وأعزهم لديهم (من يمتدح) أي يمدح ويثني (بشتمنا أهل البيت) وذلك إذا كانت الولاة خارجية أو ناصبية.

(ورأيت من يحبنا يزور) على صيغة المجهول من التزوير أي ينسب إلى الزور والكذب والافتراء (ولا تقبل شهادته) لاتصافه بالمحبة واتهامه بالتزوير كما هو المعروف عند المبتدعة فإنهم يردون شهادة الشيعة ويسمونها رافضية.

(ورأيت الزور من القول يتنافس فيه) أي يرغب فيه ويعتقد به كالمبتدعة قاطبة فإنهم يرغبون إلى قول الزور في الفروع والأصول وكالجهلة من الناس عموما فإن طبايعهم مائلة إلى الأقوال

ص:326

الكاذبة داعية على استماعها وترويجها (ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل) سر ذلك أن القرآن بحر عميق لا يصل إلى قعره إلا العارفون ولا يستخرج فرائده إلا العالمون بخلاف الباطل فإنه مبتذل يعرفه الجاهلون ومن البين أن كل ما تعجز النفس عن إدراكه فهو ثقيل عليها وكل ما تدركه بسهولة فهو خفيف عليها فإذا ذهب العلم والعلماء وبقي الجهل والجهلاء كان استماع القرآن عليهم ثقيلا واستماع الباطل خفيفا (ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه) الظاهر من الجار هو المعنى المعروف ويحتمل إرادة المصاحب به أيضا والذم إما راجع إلى الجار الأول باعتبار أن صدور الإكرام منه بسبب الخوف لا بدونه أو إلى الجار الثاني باعتبار قبح لسانه أو إليهما جميعا (ورأيت الحدود قد عطلت) بتركها أو ترك كميتها وكيفيتها (وعمل فيها بالأهواء) المستلزمة للاختلاف إذ الحدود متعينة والأهواء مختلفة والاتفاق نادر جدا.

(ورأيت المساجد قد زخرفت) بالذهب والنقش والصورة وظاهر كثير من الأصحاب أن تذهيب المساجد مطلقا وإن لم يكن بالنقش والتصوير والنقش مطلقا وإن لم يكن بالتذهيب والتصوير والتصوير مطلقا وإن لم يكن بالذهب وصورة حيوان حرام والاحتياط ظاهر (ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب) على الله والرسول وأولي الأمر وعلى سائر الناس وفي المحاورات (ورأيت الشر قد ظهر) أشار هنا إلى فساد أهل الزمان باعتبار ظهور الشر بينهم وأشار بقوله سابقا «وإذا رأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه» إلى فسادهم باعتبار عدم النهي عن المنكر عند ظهور الشر فلا تكرار (والسعي بالنميمة) أي ورأيت السعي بالنميمة قد ظهر والنميمة نقل الحديث من قوم إلى قوم للافساد وإثارة الشر بينهم وقد نم الحديث ينمه - وينمه من باب نصر وضرب - نما فهو نمام والاسم النميمة، ونم الحديث إذا ظهر فهو لازم ومتعد (ورأيت البغي قد فشا) بين الناس والبغي الظلم والتجاوز عن الحدود الشرعية والخروج عن طاعة الإمام العادل ومنه الفئة الباغية (ورأيت الغيبة تستملح) أي تعد مليحة حسنة مرغوبة وكل شيء حسن مرغوب فيه يقول العرب: هو مليح، والغيبة بالكسر أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه فإن لم يكن فيه فهو البهت والبهتان وإن ذكر في وجهه فبينهما عموم من وجه (ويبشر به الناس بعضهم بعضا) لئلا يغفل أخوه الفاسق عن هذه الفضيلة التي اكتسبها هو بزعمه (ورأيت طلب الحج والجهاد لغير الله) بل للسمعة والرياء وإظهار التجلد والشجاعة وكسب الدنيا وغيرها من التخيلات المفسدة للعبادة وكذا غيرهما من العبادات وذكرهما على سبيل التمثيل (ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن) بالضرب والشتم والقتل وغيرها إما لكفره أو لعدم علمه بأن ذلك لا يجوز شرعا أو مع علمه به وعدم اعتنائه بالشرع.

(ورأيت الخراب قد أديل من العمران) الإدالة الغلبة وكان ذلك لمهاجرة الناس من العمران إلى

ص:327

الخراب فرارا من الجور (ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان) البخس النقص والظلم والغبن وهما مفعال من الكيل والوزن والميم فيهما للآلة والذهب والفضة موزونان خاصة بالمثاقيل والدوانيق وأما غيرهما من الأجناس المقدرة بأحدهما فكل ما كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) مقدرا بأحدهما بني عليه وإلا فلكل بلد حكمه في اعتبارهما.

(ورأيت سفك الدماء يستخف بها) قتلا وجرحا بالاستحلال أو التهوين أو الإهدار (ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا) العرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي بعض النسخ بالغين المعجمة وذمه هنا من وجهين حب الدنيا وطلب الرئاسة وقد روي عنه عليه السلام: إن من طلب الرئاسة هلك، لضرورة أن الرئاسة حق العالم الرباني الخالص عن الفساد النفساني لأن التصرف والتدبير في أمور الخلق وإجراء الأحكام عليهم وإقامة العدل بينهم موقوف على العلم بالقوانين الشرعية كلها ومعرفة مراتب أحوال الناس وطهارة النفس واتصافها بجميع الكمالات وتنزهها عن جميع المهلكات فمن ملك الرئاسة من الجهلة أفسد الشرع ونظام الخلق في أول الوهلة (ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى وتسند إليه الأمور) يعني ذلك الرجل يشهر نفسه الأمارة وذاته المكارة بخبث اللسان التابع لفساد قواه وقوة هواه ليتقيه الناس من خبث لسانه ويسندوا إليه الأمور العرفية والدينية خوفا منه فيتم له أمر الرياسة كما هو شأن الرؤساء الجاهلين والأمراء الفاسقين.

(ورأيت الصلاة قد استخف بها بتركها) أو ترك شيء من شرائطها أو شيء من الأمور المعتبرة فيها أو عدم الإتيان بها في أوقاتها أو فعل ما ينافي كمالها أو عدم حضور القلب فيها (ورأيت الرجل عنده المال الكثير) وهو ما بلغ نصابا فصاعدا (لم يزكه منذ ملكه) لعدم اعتقاده بوجوبها أو لبخله عن إخراجها (ورأيت الميت ينبش من قبره) النبش إبراز الشيء المستور وكشف الشيء عن الشيء ومنه النباش وفي بعض النسخ ينشر (ويؤذى وتباع أكفانه) إيذاؤه عبارة عن غضب بيته وإخراجه منه وإحراق عظامه وأخذ أكفانه وأمثال ذلك وذكر البيع على سبيل التمثيل والاختصار لأن جميع التصرفات مثله (ورأيت الهرج قد كثر) قال عياض: الهرج الاختلاط، وقال ابن دريد:

الهرج الفتنة في آخر الزمان.

وقال صاحب القاموس: هرج الناس يهرجون وقعوا في فتنة واختلاط، وقال صاحب النهاية: فيه بين يدي الساعة هرج أي قتال واختلاط وقد هرج الناس يهرجون هرجا إذا اختلطوا وأصل الهرج الكثرة والاتساع، وقال صاحب الكنز: الهرج بسيار قتل كردن وگشتن وآشوب وفتنة شدن وسر گشته شدن، وروى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل».

ص:328

(ورأيت الرجل يمشي نشوان) في النهاية: الانتشاء أول السكر ومقدماته، وقيل: هو السكر نفسه ورجل نشوان بين النشوة (ويصبح سكران) السكر بضم السين وسكون الكاف حالة السكران، وفي كنز اللغة: سكران مست (لا يهتم بما الناس فيه) من خير وشر والاهتمام إما من هم بالأمر إذا عزم عليه ليفعله أو من همه الأمر هما فاهتم إذا حزنه، وفي كنز اللغة: اهتمام تيمار كردن وكوشيدن وشفقت داشتن واندوه خوردن، ولعل المراد أنه لا يعزم بما هم فيه من خير ليفعله أو لا يحزن بما هم فيه من شر ليدفعه عنهم وعن نفسه (ورأيت البهائم تنكح) لتجاوز القوة الشهوية عن حد العدل مع ضعف القوة العقلية عن معرفة قبح ذلك وسوء خاتمته وعن درك الأحكام الشرعية فينسلك في سلك البهائم.

(ورأيت البهائم يفرس بعضها بعضا) لعله إشارة إلى خروج يأجوج ومأجوج وأكل بعضهما بعضا فإنه من أشراط الساعة أو إلى كثرة الشرور حتى سرت إلى البهائم أو إلى عدم زجرها عن ذلك يقال: أفرس الرجل الأسد حماره إذا تركه له ليفترسه، وفي بعض النسخ «يورش بعضها بعضا» وهو الأظهر والتوريش التحريش وهو الإغراء بين البهائم (ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شيء من ثيابه) بالاختلاس أو السرقة أو الغصب (ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم) فلا يرحم على نفسه ولا على غيره ولا يبكي خوفا من الآخرة ولا يذكر الله تعالى بالقلب واللسان وكل ذلك من آثار قساوة القلب وهي صلابته وغلظته وشدته المانعة من إدراك الخير والميل إليه.

(ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه) السحت بالضم وبضمتين الحرام الذي لا يحل كسبه لأنه يسحت البركة ويذهبها أو ما خبث من المفاسد فلزم عنه العار (ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس) ويعتقدوا أنه عبد صالح ليسعوا في رفع حاجاته وتحصيل مقاصده ومتمنياته (ورأيت الفقيه يتفقه) أي يطلب الفقه ويتعلمه (لغير الدين يطلب الدنيا والرئاسة) جواز رئاسته بل وجوبها في بعض الأوقات وحصول الدنيا بسبب فقاهته من الجهات المشروعة لا يقتضي جواز قصده ذلك في التفقه (ورأيت الناس مع من غلب) من أهل الدنيا على الغير كما هو شأن الجهلة يميلون إلى الغالب الفاسق من السلاطين والأمراء ويعرضون عن الأولياء وإن كانوا من أوصياء الأنبياء (ورأيت طالب الحلال يذم ويعير، ورأيت طالب الحرام يمدح ويعظم) فإن أهل الدنيا إذا مالوا إلى دنياهم يحبون جمع المال وإن كان بالنهب والغصب وغيرهما من وجوه الحرام فمن خالف طوره طورهم يذمونه ويحقرونه ويسمونه سفيها أو ضعيفا ومن وافق طوره طورهم يمدحونه ويعظمونه ويسمونه عظيما رشيدا وهكذا حال أكثر الناس ولكن إذا بلغ ذلك حد الكمال كان من أشراط الساعة.

ص:329

(ورأيت الحرمين يعمل فيهما.. الخ) حرم مكة وحرم مدينة وقد يطلق عليهما وذكرهما بعد ذكر شمول الجور والشر للبلاد من باب ذكر الخاص بعد العام للاهتمام والتنبيه على أن الشر فيهما أقبح وترك النهي عن المنكر فيهما أشنع حتى عدت الصغيرة فيهما كبيرة موعودة بالنار ولذلك كره الفقهاء المقام فيهما.

(ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين) في القاموس: المعازف الملاهي كالعود والطنبور الواحد معزف كمنبر والعازف اللاعب بها والمغني، وفي المصباح: المعازف آلات تضرب والمعزف بكسر الميم نوع من الطنابير يتخذه أهل اليمن وفي النهاية العزف اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرهما مما يضرب، وقيل: لكل لعب عزف ووجه ذكر المعازف والملاهي فيهما بعد ذكرها وذكر ظهورها في البلاد ما عرفت (ورأيت الرجل من أهل العلم والمعرفة يتكلم بشيء من الحق) في الأصول والفروع وغيرهما من الأمور بين الناس (ويأمر بالمعروف) من يتركه (وينهى عن المنكر) من يفعله (فيقوم إليه من ينصحه في نفسه) أي بزعمه والا فهو بعيد عن حقيقة النصيحة إذ هي طلب الخير للمنصوح وهذا يطلب الشر له.

(فيقول: هذا عنك موضوع) زجرا له عن إظهار الحق ودفع الشر والذم هنا راجع إلى هذا الناصح لأنه خادع ضال مضل جاهل بأمر الله تعالى وأحكامه، صاد عن سبيله مفسد لدينه (ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور) لكون الشر أنفع وألذ وأقرب إلى نفوسهم الجاهلة وطبايعهم الباطلة من الخير بل إلى العالمة أيضا إلا أنها بعلمها النافع ولطفها المانع ونورها الساطع يدفع ظلمة الشر عنها وتلتزم ملازمة الأخيار وتجتنب مصاحبة الأشرار (ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا يسلكه أحد) لا يبعد أن يراد بطريق الخير في هذا القول طريق العلم وهي القوانين الشرعية وفي قوله سابقا: «ورأيت طريق الخير منقطعا» طريق العمل أو بالعكس لئلا يلزم التكرار ويمكن الفرق بوجه آخر فتأمل (ورأيت الميت يهزأ به فلا يفزع له أحد) أي يذكر بالخناء والفحش والخطأ والغيبة وغيرهما مما دل على قبح حاله فلا يفزع له ولا يغيثه ولا يدفع عنه أحد.

وفي النهاية الفزع الخوف في الأصل فوضع موضع الإغاثة والنصرة لأن من شأنه الإغاثة والدفع عن الحريم مراقب حذر (ورأيت كل عام يحدث فيه من الشر والبدعة أكثر مما كان) هذا من أشراط الساعة لأن القوى وطبايع الإنسان في آخر الزمان مترقبة في الفساد والطغيان ومن البين أنه إذا تكاملت العلل والأسباب جاءت المعلولات والمسببات على وجه الكمال.

(ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الأغنياء) بالتعظيم والتكلم والمصاحبة والمجالسة والمخالطة ويستنكفون في جميع ذلك من الفقراء.

ص:330

(ورأيت المحتاج يعطي على الضحك به) أي على السخرة به دون الرأفة والشفقة أو على فعله ما يضحك منه والله أعلم (ويرحم لغير وجه الله) كالرياء والسمعة ونحوهما.

(ورأيت الآيات في السماء) كالكسوف والخسوف والزلزلة من باب التغليب والريح المظلمة وغيرها من أخاويف السماء على المشهور بين الفقهاء من أن الصلاة لجميع ذلك واجبة (لا يفزع لها أحد) إلى الله بالتوبة والإنابة ولا يأتي بالفريضة لها جماعة ومنفردا (ورأيت الناس يتسافدون كما تتسافد البهايم) في الطرقات وعند الحاضرين مع عدم الاستحياء من الناظرين أو هو كناية عن الركوب على الظهور.

(ورأيت العقوق قد ظهر في الأرحام) أو في حقوق الأخوة أو في حقوق الوالدين وعلى هذا قوله (واستخف بالوالدين) للتفسير والتوضيح ويمكن أن يراد بالوالدين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) لأنهما والدان روحانيان لأهل العلم والإيقان، روى المصنف بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يفسر قوله تعالى: (أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير) بذلك كما مر في باب النكت من كتاب الحجة.

(ورأيت النساء قد غلبن على الملك) إما لأنها سلطان أو إليها ميل سلطان وهواه وهكذا كان حال كل عصر من أعصار سلاطين الجور إلا أن في آخر الزمان كان ذلك في غاية الشدة ونهاية الكمال (ورأيت ابن الرجل يفتري على أبيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما) هذا نوع خاص من العقوق فذكره بعدها على بعض الاحتمال للاهتمام بذمه (ورأيت الرجل إذا مر به يوم ولم يكتسب فيه الذنب العظيم) الوصف للتوضيح لأن كل ذنب عظيم كما صرح به بعض المحققين ويحتمل التقييد (من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شرب مسكر) التقابل بين الجميع ظاهر إلا بين الفجور وغشيان حرام، ويمكن أن يراد بالأول الكذب والافتراء وبالثاني الإتيان بحرام من غشيه كرضيه غشيانا إذا أتاه فيكون تعميما بعد تخصيص لأن الحرام يشمل الكذب وغيره وأن يراد بالأول الذنوب مطلقا وبالثاني الزنا من غشي امرأة إذا جامعها فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام (كئيبا حزينا) الكآبة تغير النفس بالإنكسار من شدة الهم والحزن يقال:

كأب كآبة واكتأب فهو كئيب ومكتئب (يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره) أي ساقط أو خسارة لزعمه أن فائدة العمر إنما هي هذه الرذائل وأن العمر هو الذي يصرف في تحصيلها (زين لهم سوء أعمالهم).

(ورأيت السلطان يحتكر الطعام) إحتكار الطعام - وهو حبسه ليقل فيغلوا - حرام مطلقا على الأشهر. وقال الشيخ (رحمه الله): إنه مكروه سواء كان الحابس سلطانا أم غيره وسواء اشتراه وحبسه أم حصل من ملكه وظاهر العلامة في المنتهى هو الأول وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام

ص:331

يدل على أن الحكم في الاشتراء وإنما خص السلطان بالذكر لأن حبسه أقوى إذ لا جابر عليه في البيع بخلاف غيره والمراد بالطعام الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح، ولحرمته شروط مذكورة في الفروع (ورأيت أموال ذوي القربى تقسم في الزور) الزور الكذب والشرك بالله والقوة والغلبة وفي بمعنى الباء أي بسبب كذبهم في أنها أموالهم أو بسبب شركهم بالله أو بسبب قوتهم واستيلائهم والمراد بذوي القربى الأئمة عليهم السلام الذين لهم قرابة مخصوصة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم المقصودون في الآية الكريمة لا بنو عبد المطلب كلهم كما ذهب إليه جمهور العامة ولا قريش كلهم كما ذهب إليه طائفة منهم وحكم الآية ثابت غير منسوخ عند الأمة إلا أبي حنيفة فإنه ذهب إلى أن حق ذوي القربى ساقط بعد النبي (صلى الله عليه وآله) والمراد بأموالهم الأنفال وسهامهم الثلاثة من الخمس.

(ورأيت الخمر يتداوى بها وتوصف للمريض ويستشفى بها) دل على أن التداوي بالخمر حرام وأنه لا يجوز للمريض الإستشفاء بها وإن حكم الطبيب الحاذق بأن فيها شفاء لمرضه، وأن التداوي بها لا يجوز شربا وطلاء انفرادا وتركيبا ويؤيده روايات آخر والله يعلم (ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك التدين به) أي بالمذكور من الأمر والنهي إما لعدم وجود عالم بهما لقيام الكل على الجهل أو لوجوده مع عدم قدرته عليهما خوفا منهم أو مع قدرته وعدم الاهتمام بهما (ورأيت رياح المنافقين دائمة) في بعض النسخ «قايمة» (ورياح أهل الحق لا تحرك) أي لا تتحرك بحذف إحدى التائين شبه الغلبة والقوة والنصرة والدولة بالريح واستعار لها لفظه والوجه انتشارها وسرعة سيرها في الأقطار، ورشحها بذكر الحركة (ورأيت الأذان بالأجر والصلاة) مع الناس وعلى الناس (بالأجر) ويجوز الارتزاق مع الحاجة من بيت المال من غير شرط.

(ورأيت المساجد محتشية) أي ممتلية من احتشى الشيء امتلأ (ممن لا يخاف الله) وإن كان من أهل الإيمان، والخوف كيفية نفسانية مانعة من ارتكاب القبايح (يجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق) من الأحياء والأموات، وفي تشبيه الغيبة بأكل لحومهم تنفير عنها (ويتواصفون شراب المسكر) بتخفيف الراء أي يذكرون فيها أوصاف الشراب المسكر وخواصه وفوائده وكيفية تأثيره في البدن والروح وحصول النشاط منه إلى غير ذلك من المرغبات فيه والمحركات إلى شربه، ويحتمل تشديد الراء أي يصفون شاربه ويمدحونه (ورأيت السكران يصلي بالناس وهو لا يعقل) مثل ما فعله وليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان من أمه حين كان واليا من قبله على أهل الكوفة صلى الصبح بالناس وهو سكران أربع ركعات فلما فرغ قال أيها الناس إن لي نشاطا إن شئتم أزيد لكم ركعات أخر (ولا يشان بالسكر) أن لا يعاب من الشين وهو العيب (وإذا سكر أكرم)

ص:332

سكر كفرح زال عقله (واتقي وخيف وترك لا يعاقب ويعذر بسكره) فيه توبيخ لأهل الدين بإكرامه وتعظيمه والإتقاء والخوف منه وترك عيبه ولومه وعقوبته بإقامة الحد عليه لأن الشارب وإن كان واليا ذا قوة ينزجر لو اجتمعوا في منعه واتفقوا عليه. فالفساد هنا نشأ من الكل كما في قوله (ورأيت من يأكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه) فإن الفساد من جهة أكل بعض وثناء آخرين له بالصلاح وفي بعض النسخ «يحدث» (ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله) لعدم علمهم به أو للارتشاء أو لغرض آخر (ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع) الخونة والخانة جمع الخاين وهو الذي يأخذ من المظلوم ويعطي الوالي الطامع ويقضي طمعه ويبيع آخرته بالدنيا لغيره وأما الناصح الأمين العادل فهو بعيد عن ذلك بمراحل فلذلك لا يأتمنه الوالي الطامع الجائر (ورأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسق والجرأة على الله يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون) كما يفعله الولاة والصدور في عصرنا هذا فإنهم يفتشون أحوال الناس ويجدون أجهلهم وأفسقهم ويأخذون منه ما أرادوا ويجعلونه مسلطا على أموال الناس ومواريثهم ويخلونه مع ما تشتهي نفسه الأمارة.

(ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى) الدافعة للرذايل الجالبة للفضايل (ولا يعمل القائل بما يأمر) ليس قصده من ذلك إقامة الدين وترويج الشرع المبين بل قصده الشهرة بين الناس وصرف وجوههم إليه وسعيهم في حوائجه وقيامهم بين يديه (ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها) بأن أخرت عن أوقاتها الفاضلة بلا عذر يقتضي التأخير (ورأيت الصدقة) الواجبة والمندوبة (بالشفاعة لا يراد بها وجه الله) أي ذات الله ورضاه وقربته أو أمر الله وإنما يعطي لطلب الناس المعروفين وقصد التقرب بهم أو الاستحياء من رد قولهم.

(ورأيت الناس همهم بطونهم وفروجهم لا يبالون بما أكلوا وما نكحوا) من الحلال أو من الحرام وهم حينئذ مطايا الخطيئات وزوامل الآثام ليست أحمالهم إلا خطيئات ولا أعمالهم إلا سيئات ومن ثم قال (عليه السلام): «أبعد ما يكون العبد من الله عز وجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه» (ورأيت الدنيا مقبلة عليهم) وهم حينئذ أهل غفلة ومعصية إذ الدنيا رأس كل فتنة وخطيئة ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: «مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع، يحذره الرجل العاقل ويهوى إليها الصبي الجاهل» إن شئت معرفة مفاسد الدنيا فارجع إلى كتاب الكفر والإيمان من الأصول.

(ورأيت أعلام الحق قد درست) وهي القوانين الشرعية والأحكام الإلهية أو العلماء الراسخون في العلم لأنهم أعلام يوصل التمسك بهم إلى الله تعالى روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا» وقال أيضا: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج».

ص:333

(فكن على حذر) من الله تعالى أو منهم أو من نفسك لئلا تصير مثلهم، وهو جزاء لقوله «فإذا رأيت الحق قد مات» وما عطف عليه (واطلب إلى الله عز وجل النجاة) منهم ومن أطوارهم أو من عقوبة الله تعالى أو مما أنت فيه من الشدائد (واعلم أن الناس في سخط الله عز وجل) لاتصافهم بما يوجب سخطه وغضبه عليهم في الدنيا والآخرة.

(وإنما يمهلهم لأمر يراد بهم) وهو الاستدراج ليأخذهم أخذا شديدا ويعذبهم عذابا أليما أو رجوعهم من المعاصي ويؤيده ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله «قد أمهلوا في طلب المخرج» قال المحققون: المراد أنهم أمهلوا في الدنيا لطلب رجوعهم إلى الطاعة وخروجهم من ظلمات الجهل وورطات المعاصي إلى نور الحق ومتسع الجود (فكن مترقبا) لأمرنا ومنتظرا لظهور دولتنا أو لنزول العذاب عليهم (واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه) من الأخلاق الرذيلة والأطوار الشنيعة والأحوال الفظيعة (فإن نزل بهم العذاب) الدنيوي (وكنت فيهم) فهلكت معهم (عجلت إلى رحمة الله فارغا) من شدائد الدنيا لأن الله تعالى يجزي في الآخرة كلا بأعماله.

(وإن أخرت ابتلوا) بعذاب الدنيا والآخرة (وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على الله عز وجل) التي توجب غضبه عليهم وسلمت منها واستوجبت الثواب الجزيل والأجر الجميل (واعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين) كما قال في القرآن المبين: (وإن رحمة الله قريب من المحسنين) الذين حفظوا حقوق الله تعالى وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه، وفيه حث على الإحسان لأنه منشأ لنيل الأجر والرحمة من الله تعالى.

ص:334

حديث أبي عبد الله (عليه السلام) مع المنصور في موكبه

* الأصل:

8 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن علي بن عيسى، رفعه، قال: إن موسى (عليه السلام) ناجاه الله تبارك وتعالى فقال له في مناجاته:

يا موسى لا يطول في الدنيا أملك فيقسو لذلك قلبك وقاسي القلب مني بعيد. يا موسى كن كمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وأمت قلبك بالخشية وكن خلق الثياب جديد القلب، تخفى على أهل الأرض وتعرف في أهل السماء، حلس البيوت، مصباح الليل واقنت بين يدي قنوت الصابرين وصح إلي من كثرة الذنوب صياح الهارب من عدوه واستعن بي على ذلك فاني نعم العون ونعم المستعان.

يا موسى إني أنا الله فوق العباد والعباد دوني وكل لي داخرون، فاتهم نفسك على نفسك ولا تأتمن ولدك على دينك، إلا أن يكون ولدك مثلك يحب الصالحين. يا موسى اغسل واغتسل واقترب من عبادي الصالحين.

يا موسى كن إمامهم في صلاتهم وأمامهم فيما يتشاجرون واحكم بينهم بما أنزلت عليك فقد أنزلته حكما بينا وبرهانا نيرا ونورا ينطق بما كان في الأولين وبما هو كائن في الآخرين.

أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم صاحب الأتان والبرنس والزيت والزيتون والمحراب ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيب الطاهر المطهر، فمثله في كتابك أنه مؤمن مهيمن على الكتب كلها وأنه راكع ساجد، راغب، راهب، إخوانه المساكين، وأنصاره قوم آخرون ويكون في زمانه أزل وزلزال، وقتل وقلة من المال، اسمه أحمد محمد الأمين من الباقين من ثلة الأولين الماضين، يؤمن بالكتب كلها ويصدق جميع المرسلين ويشهد بالإخلاص لجميع النبيين أمته مرحومة مباركة ما بقوا في الدين على حقائقه، لهم ساعات موقتات يؤدون فيها الصلوات أداء العبد إلى سيده نافلته، فبه فصدق ومنهاجه فاتبع فإنه أخوك.

يا موسى إنه أمي وهو عبد صدق، يبارك له فيما وضع يده عليه ويبارك عليه كذلك كان في علمي وكذلك خلقته، به أفتح الساعة وبأمته أختم مفاتيح الدنيا فمر ظلمة بني إسرائيل أن لا يدرسوا اسمه ولا يخذلوه، وإنهم لفاعلون، وحبه لي حسنة، فأنا معه وأنا من حزبه وهو من حزبي وحزبهم الغالبون، فتمت كلماتي لأظهرن دينه على الأديان كلها ولأعبدن بكل مكان ولأنزلن عليه قرآنا فرقانا شفاء لما في الصدور من نفث الشيطان فصل عليه يا بن عمران فإني أصلي عليه

ص:335

وملائكتي.

يا موسى أنت عبدي وأنا إلهك، لا تستذل الحقير والفقير ولا تغبط الغني بشيء يسير وكن عند ذكري خاشعا وعند تلاوته برحمتي طامعا وأسمعني لذاذة التوراة بصوت خاشع حزين، اطمأن عند ذكري وذكر بي من يطمئن إلي واعبدني ولا تشرك بي شيئا، وتحر مسرتي إني أنا السيد الكبير، إني خلقتك من نطفة من ماء مهين، من طينة أخرجتها من أرض ذليلة ممشوجة فكانت بشرا فأنا صانعها خلقا فتبارك وجهي وتقدس صنعي، ليس كمثلي شيء وأنا الحي الدائم الذي لا أزول.

يا موسى كن إذا دعوتني خائفا مشفقا وجلا، عفر وجهك لي في التراب واسجد لي بمكارم بدنك واقنت بين يدي في القيام وناجني حين تناجيني بخشية من قلب وجل، واحي بتوراتي أيام الحياة وعلم الجهال محامدي وذكرهم آلائي ونعمتي وقل لهم لا يتمادون في غي ما هم فيه فان أخذي أليم شديد.

يا موسى إذا انقطع حبلك مني لم يتصل بحبل غيري، فاعبدني وقم بين يدي مقام العبد الحقير الفقير، ذم نفسك فهي أولى بالذم ولا تتطاول بكتابي على بني إسرائيل، فكفى بهذا واعظا لقلبك ومنيرا، وهو كلام رب العالمين جل وتعالى.

يا موسى متى ما دعوتني ورجوتني فاني سأغفر لك على ما كان منك، السماء تسبح لي وجلا والملائكة من مخافتي مشفقون والأرض تسبح لي طمعا وكل الخلق يسبحون لي داخرون، ثم عليك بالصلاة، الصلاة فإنها مني بمكان ولها عندي عهد وثيق وألحق بها ما هو منها زكاة القربان من طيب المال والطعام فإني لا أقبل إلا الطيب يراد به وجهي.

وقرن مع ذلك صلة الأرحام فإني أنا الله الرحمن الرحيم والرحم أنا خلقتها فضلا من رحمتي ليتعاطف بها العباد ولها عندي سلطان في معاد الآخرة وأنا قاطع من قطعها وواصل من وصلها وكذلك أفعل بمن ضيع أمري.

يا موسى أكرم السائل إذا أتاك برد جميل أو إعطاه يسير فإنه يأتيك من ليس بإنس ولا جان، ملائكة الرحمن يبلونك كيف أنت صانع فيما أوليتك وكيف مواساتك فيما خولتك؟ واخشع لي بالتضرع واهتف لي بولولة الكتاب واعلم أني أدعوك دعاء السيد مملوكه ليبلغ به شرف المنازل، وذلك من فضلي عليك وعلى آبائك الأولين.

يا موسى لا تنسني على كل حال ولا تفرح بكثرة المال فان نسياني يقسي القلوب ومع كثرة المال كثرة الذنوب، الأرض مطيعة والسماء مطيعة والبحار مطيعة وعصياني شقاء الثقلين وأنا الرحمن الرحيم، رحمن كل زمان، آتي بالشدة بعد الرخاء وبالرخاء بعد الشدة وبالملوك بعد

ص:336

الملوك وملكي دائم قائم لا يزول ولا يخفى علي شيء في الأرض ولا في السماء وكيف يخفى علي ما مني مبتدؤه وكيف لا يكون همك فيما عندي وإلي ترجع لا محالة.

يا موسى اجعلني حرزك وضع عندي كنزك من الصالحات وخفني ولا تخف غيري إلي المصير.

يا موسى ارحم من هو أسفل منك في الخلق ولا تحسد من هو فوقك فان الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

يا موسى إن ابني آدم تواضعا في منزلة لينالا بها من فضلي ورحمتي فقربا قربانا ولا أقبل إلا من المتقين، فكان من شأنهما ما قد علمت فكيف تثق بالصاحب بعد الأخ والوزير.

يا موسى ضع الكبر ودع الفخر واذكر أنك ساكن القبر فليمنعك ذلك من الشهوات. يا موسى عجل التوبة وأخر الذنب وتأن في المكث بين يدي في الصلاة ولا ترج غيري، اتخذني جنة للشدائد وحصنا لملمات الامور.

يا موسى كيف تخشع لي خليقة لا تعرف فضلي عليها وكيف تعرف فضلي عليها وهي لا تنظر فيه وكيف تنظر فيه وهي لا تؤمن به وكيف تؤمن به وهي لا ترجو ثوابا وكيف ترجو ثوابا وهي قد قنعت بالدنيا واتخذتها مأوى وركنت إليها ركون الظالمين. يا موسى نافس في الخير أهله فان الخير كاسمه، ودع الشر لكل مفتون.

يا موسى اجعل لسانك من وراء قلبك تسلم وأكثر ذكري بالليل والنهار تغنم ولا تتبع الخطايا فتندم فان الخطايا موعدها النار.

يا موسى اطلب الكلام لأهل الترك للذنوب وكن لهم جليسا واتخذهم لغيبك إخوانا وجد معهم يجدون معك.

يا موسى الموت يأتيك لا محالة فتزود زاد من هو على ما يتزود وارد [على اليقين].

يا موسى ما اريد به وجهي فكثير قليله وما اريد به غيري قليل كثيره وإن أصلح أيامك الذي هو أمامك فانظر أي يوم هو فأعد له الجواب فإنك موقوف ومسؤول وخذ موعظتك من الدهر وأهله فان الدهر طويله قصير وقصيره طويل وكل شيء فان، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لكي يكون أطمع لك في الآخرة لا محالة فان ما بقي من الدنيا كما ولى منها وكل عامل يعمل على بصيرة ومثال فكن مرتادا لنفسك يا بن عمران لعلك تفوز غدا يوم السؤال فهنالك يخسر المبطلون.

يا موسى ألق كفيك ذلا بين يدي كفعل العبد المستصرخ إلى سيده فإنك إذا فعلت ذلك رحمت وأنا أكرم القادرين.

ص:337

يا موسى سلني من فضلي ورحمتي فإنهما بيدي لا يملكهما أحد غيري وانظر حين تسألني كيف رغبتك فيما عندي، لكل عامل جزاء وقد يجزى الكفور بما سعى.

يا موسى طب نفسا عن الدنيا وانطو عنها فإنها ليست لك ولست لها، مالك ولدار الظالمين؟ إلا لعامل فيها بالخير فإنها له نعم الدار.

يا موسى ما آمرك به فاسمع ومهما أراه فاصنع، خذ حقائق التوراة إلى صدرك وتيقظ بها في ساعات الليل والنهار ولا تمكن أبناء الدنيا من صدرك فيجعلونه وكرا كوكر الطير.

يا موسى أبناء الدنيا وأهلها فتن بعضهم لبعض فكل مزين له ما هو فيه والمؤمن من زينت له الآخرة فهو ينظر إليها ما يفتر، قد حالت شهوتها بينه وبين لذة العيش فأدلجته بالاسحار كفعل الراكب السائق إلى غايته يظل كئيبا ويمسي حزينا فطوبى له لو قد كشف الغطاء ماذا يعاين من السرور.

يا موسى الدنيا نطفة ليست بثواب للمؤمن ولا نقمة من فاجر فالويل الطويل لمن باع ثواب معاده بلعقة لم تبق وبلسعة لم تدم (1) وكذلك فكن كما أمرتك وكل أمري رشاد.

يا موسى إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت لي عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين ولا تكن جبارا ظلوما ولا تكن للظالمين قرينا.

يا موسى ما عمر وإن طال يذم آخره وما ضرك ما زوي عنك إذا حمدت مغبته يا موسى صرخ الكتاب إليك صراخا بما أنت إليه صائر فكيف ترقد على هذا العيون؟ أم كيف تجد قوم لذة العيش لولا التمادي في الغفلة والاتباع للشقوة والتتابع للشهوة؟ ومن دون هذا يجزع الصديقون.

يا موسى مر عبادي يدعوني على ما كان بعد أن يقروا إلي أني أرحم الراحمين، مجيب المضطرين وأكشف السوء وأبدل الزمان وآتي بالرخاء وأشكر اليسير وأثيب الكثير وأغني الفقير وأنا الدائم العزيز القدير، فمن لجأ إليك وانضوى إليك من الخاطئين فقل: أهلا وسهلا يا رحب الفناء بفناء رب العالمين واستغفر لهم وكن لهم كأحدهم ولا تستطل عليهم بما أنا أعطيتك فضله وقل لهم فليسألوني من فضلي ورحمتي فإنه لا يملكها أحد غيري وأنا ذو الفضل العظيم.

طوبى لك يا موسى كهف الخاطئين وجليس المضطرين ومستغفر للمذنبين، إنك مني بالمكان الرضي فادعني بالقلب النقي واللسان الصادق وكن كما أمرتك أطع أمري ولا تستطل على عبادي بما ليس منك مبتدأه وتقرب إلي فإني منك قريب فإني لم أسألك ما يؤذيك ثقله ولا

ص:338


1- 1 - كذا ولعل الصحيح لحسة.

حمله إنما سألتك أن تدعوني فأجيبك وأن تسألني فأعطيك وأن تتقرب إلي بما مني أخذت تأويله وعلي تمام تنزيله.

يا موسى انظر إلى الأرض فإنها عن قريب قبرك وارفع عينيك إلى السماء فان فوقك فيها ملكا عظيما وابك على نفسك ما دمت في الدنيا وتخوف العطب والمهالك (1) ولا تغرنك زينة الدنيا وزهرتها ولا ترض بالظلم ولا تكن ظالما فإني للظالم رصيد حتى أديل منه المظلوم.

يا موسى إن الحسنة عشرة أضعاف ومن السيئة الواحدة الهلاك، لا تشرك بي، لا يحل لك أن تشرك بي، قارب وسدد وادع دعاء الطامع الراغب فيما عندي، النادم على ما قدمت يداه فان سواد الليل يمحوه النهار وكذلك السيئة تمحوها الحسنة وعشوة الليل تأتي على ضوه النهار وكذلك السيئة تأتي على الحسنة الجليلة فتسودها.

* الشرح:

(حديث موسى عليه السلام) (قال: إن موسى عليه السلام ناجاه الله تبارك وتعالى) أي خاطبه وحدثه وساره والحديث مضمر قائله غير معلوم (يا موسى لا يطول في الدنيا أملك فيقسو بذلك قلبك وقاسي القلب مني بعيد) الأمل محركة الرجاء وطوله من أعظم مصائد الشيطان يصيد به قلوب الجهلة فإن المؤمل في مطالب الدنيا لا يزال يتجدد له أمارات خيالية على مطالب وهمية ويذهب فكره إلى كيفية تحصيلها وضبطها فيشتغل قلبه عن ذكر الله ويحصل فيه رين يمنعه من التوجه إليه وظلمة صارفة له من العمل للآخرة وما يوجب القرب منه تعالى وهذا معنى القساوة وأكثر هذه النصايح وأمثالها راجعة إلى الأمة من باب التعريض (يا موسى كن كمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى) المسرة مصدر كالسرور يقال: سره سرورا بالضم ومسرة أفرحه، وفي كنز اللغة: مسرة شادى كردن، أي كن ملزوما للطاعة وعدم المعصية كما أن مسرتي ملزومة لهما فإنهما سبب لها، وحملهما عليها من باب حمل السبب على المسبب للمبالغة ونسبة المسرة إليه تعالى من باب التمثيل أو أريد بها لازمها وهو الإحسان والإكرام وسيأتي مثل هذه العبارة في حديث عيسى (عليه السلام) وفيه كن لمسرتي باللام وهو أظهر والمآل واحد والله يعلم (وأمت قلبك بالخشية) أي أمت نفسك الأمارة عن الطمع في الدنيا ولذاتها وشهواتها بالخشية من عقوبة الله وبالخوف من مخالفته وهو أشد جاذب للخائف عن سبيل المعصية إلى مسلك الطاعة لأن الخائف من شيء هارب منه إلى جانب ضده، وأمانته بهذه المعنى توجب له حياة أبدية بالطاعة والورع

ص:339


1- 1 - كذا.

والتقوى وما ورد في بعض الروايات من الأمر بإحيائه أريد به إحياؤه بما ذكر.

(وكن خلق الثياب جديد القلب) بتغسيله عن الجهل والغفلة والرذايل وتزيينه بالعلم والذكر والفضائل على عكس ما عليه أبناء الزمان حيث يجعلون ثيابهم جديدة وقلوبهم كثيفة وكون ثوب أمير الأمة خلقا مطلوبا خصوصا إذا لم يجد غيره إلا بتصنع وتكلف لئلا يشق ذلك على ضعفائهم ولو وجد غيره على وجه مشروع كان لبسه أيضا جائز لئلا يعيروا بذلك كما مر كل ذلك في كتاب الحجة (تخفى على أهل الأرض وتعرف في أهل السماء) الظاهر أنه حال والأول ناظر إلى الأول والثاني إلى الثاني (حلس البيوت) أي كن حلس البيوت الحلس بالكسر ويحرك كساء يلقى على ظهر البعير تحت القتب وبساط يبسط في البيت، وفي بعض النسخ «جليس البيوت» بالجيم والياء بعد اللام أمره عليه السلام بلزوم البيت وعدم الخروج منه إلا بقدر الضرورة وحثه على العزلة للاشتغال بطاعة الله تعالى والبكاء والندم على خطيئته ومنافع عزلة العالم عن شرار الخلق كثيرة ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: «فطوبى لمن لزم بيته وأكل قوته واشتغل بطاعة ربه وبكى على خطيئته».

(مصباح الليل) الإضافة بتقدير «في» والمصباح استعارة له (عليه السلام) والوجه هو الإضاءة والإنارة والغرض هو التحريص على الاشتغال بالقيام في الليل لأن العابد فيها يضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض وكذلك البيت الذي يعبد فيه (واقنت بين يدي قنوت الصابرين) القنوت الطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام والكل هنا محتمل وله مراتب وأعظم مراتبه قنوت الصابرين على تحمل المشقات في العبادات لوجه الله تعالى.

(وصح إلى كثرة الذنوب صياح الهارب من عدوه) طلبا للمستغاث وهو كناية عن البكاء والتضرع والدعاء والإنابة إليه والاستعانة به (واستعن بي على ذلك) في الأمر بالاستعانة به إيماء إلى أن صرف النفس عن المهلكات وميلها إلى الطاعات إنما يتيسر بالاستعانة منه تعالى لأن النفس أمارة بالسوء (فإني نعم العون ونعم المستعان) ترغيب في الاستعانة به لأن المضطر إليها لا يتركها إذا علم أنه يعينه قطعا (يا موسى إني أنا الله) هذا الحكم وإن كان معلوما لكل عاقل لا مجال للإنكار فيه إلا أن العباد لما قصروا في رعاية حقوقه صاروا كأنهم منكرون له فلذلك وقع فيه التأكيد والحصر.

(فوق العباد والعباد دوني) بالقهر والغلبة والقدرة والقوة والعلية والشرف والكمال (وكل لي داخرون) أي صاغرون ذليلون من دخر كمنع وفرح دخورا صغر وذل وليس الغرض من هذا الخبر إفادة الحكم ولا لازمه بل الحث على طاعته وانقياده وامتثال أوامره ونواهيه ومواعظه ونصايحه (فاتهم نفسك على نفسك) بكشف سرك أو بكتمانه ولا تعتمد عليها فضلا عن غيرها ففيه مبالغة

ص:340

في كتمانه بإنك إذا لم تعتمد على نفسك مع أنها أولى بحفظ سرك فكيف تعتمد على غيرك وهذا نظير قول أبي الحسن (عليه السلام) في الترغيب والمبالغة في كتمانه: «إن كان في يدك هذه شيء فإن استطعت أن لا تعلم هذه فافعل» والفرق بين الفاعل والمفعولين بالاعتبار والحيثية ولهذا الكلام احتمال آخر بعيد وهو أن يراد بالنفس الثانية النفس المطمئنة وبالأولى النفس الأمارة وهي محل التهمة لأنها كثيرا ما ترى أن الشر خير والخير شر ويحكم على العابد بأن عبادته مقبولة قطعا واقعة على حد الكمال الموصل إلى المطلوب وهذا الوهم مبدأ للتعجب بالعبادة والتقاصر عن الازدياد والخروج عن التقصير وغير ذلك من المفاسد وكل ذلك من المهلكات (ولا تأتمن ولدك على دينك) مع أنه أقرب الناس منك وأشفقهم لك فغيره أولى بعدم الايتمان منه. وفيه حث على التقية والتقية دين جميع المرسلين والصالحين والأخبار فيه كثيرة بعضها مذكور في كتاب الأصول (إلا أن يكون ولدك مثلك يحب الصالحين) دل على جاز إظهار الدين للقابلين له والصالحين وهو كذلك ليبقى في الآخرين والروايات الدالة عليه بل على وجوبه أيضا كثيرة.

(يا موسى اغسل واغتسل واقترب من عبادي الصالحين) كأنه أمره (عليه السلام) بغسل الباطن من الرذايل والعيوب وغسل الظاهر من الأخباث والذنوب أو بالوضوء من الأصغر والغسل من الأكبر أو بالجميع وفيه ترغيب في مجالسة الصالحين ومخالطتهم وهم الذين يوجب ذكر الله تعالى رؤيتهم ويزيد في العلم منطقهم (يا موسى كن إمامهم في صلاتهم) أمر بالجماعة فيها أو بتعليم أحكامها أو بالجميع (وإمامهم فيما يتشاجرون) أي يتنازعون من أمور دينهم ودنياهم (واحكم بما أنزلت عليك) الظاهر أن وجوب الحكم بما أنزله الله تعالى غير مختص بالنبي والوصي وأن من حكم بالاجتهاد والرأي بغيره فهو من الفاسقين كما دل عليه القرآن المبين والتخصيص لابد له من مخصص إلا أن يدعى أن الحكم الاجتهادي المخالف أيضا مما أنزله الله تعالى. وهو كما ترى مع أنه أيضا يحتاج إلى دليل آخر (فقد أنزلته حكما بينا متضحا ظاهرا غير مشتبه.

(وبرهانا نيرا) حجة مشرقة دلالته ظاهرة على ما فيه من الأحكام وغيرها داعية للخلق إليها (ونورا ينطق بما كان في الأولين وبما هو كائن في الآخرين) النور هو الظاهر بنفسه لضيائه وشعاعه والمظهر لغيره لإضاءة انارته، شبهه بالنور واستعار له لفظه استعارة تحقيقية باعتبار الاهتداء به في سلوك سبيل الله إلى المطالب الحقيقية والأسرار اليقينية والأحكام الربوبية وشبه دلالته على ما كان فيه بنطق الناطق واستعار له لفظ ينطق استعارة تبعية والمراد بالأولين والآخرين الموجودون في عصره (عليه السلام) والذين يوجدون بعده إلى قيام شريعته أو من لدن آدم (عليه السلام) إلى آخر الدهر (أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق) الوصية العهد والأمر بحفظه والشفق محركة الشفقة والرأفة وحرص الناصح على صلاح المنصوح وهو شفيق ومشفق والتكرير للمبالغة أو

ص:341

المراد الشفيق المشفق على الناس (بابن البتول عيسى بن مريم) سميت مريم بتولا لانقطاعها عن الرجال ولم يكن لها شهوة فيها وأما فاطمة عليها السلام فسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا ونسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى (صاحب الإتان والبرنس) الإتان الحمارة الأنثى خاصة، والإتانة قليلة، وأما الحمار فيقع على الذكر والأنثى، والبرنس قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام وعن الأزهري كل ثوب رأسه منه تلتزق.

(والزيت والزيتون والمحراب) الزيت دهن والزيتون شجرته أو ثمرتها أيضا أو مسجد دمشق أو جبال الشام وكأنه عليه السلام كان يدهن بالأول ويأكل الثاني كما سيجيء في حديث نادر في وصف علي عليه السلام وأما كونه صاحب محراب فظاهر لكثرة صلاته ولزومه له ويحتمل أن يراد به محراب مسجد الأقصى والله أعلم (ومن بعده) عطف على ابن البتول وجعل الواو بمعنى مع بعيد جدا (بصاحب الجمل الأحمر) بدل لمن بعده وعطفه عليه بحذف العاطف بعيد أيضا أو متعلق بأوصيك على أن يكون «من» حرف جر (الطيب الطاهر المطهر) في النهاية: الطيب أكثر ما يرد بمعنى الحلال كما أن الخبيث كناية عن الحرام وقد يرد الطيب بمعنى الطاهر وفي القاموس:

الطيب الحلال وأطاب ولد بين طيبين وتزوج حلال ولعل المراد به الطيب في الولادة من جهة الآباء والأمهات لم يدنسهم الأخباث الجاهلية مثل الشرك والكفر والسفاح وغيرها والطاهر من العيوب الخلقية والخلقية والمطهر عن الذنوب الظاهرة والباطنة (فمثله في كتابك) أي صورته وصفته أو فضله وشرفه والظاهر أن الفاء بمعنى الواو وتقدير الشرط محتمل أي أن شئت وصفه فوصفه.

(أنه مؤمن مهيمن على الكتب كلها) أي مؤمن بحقيقة الإيمان والتصديق وهو رأس المؤمنين ورئيسهم من الأولين والآخرين أو مؤمن يؤمنهم في الدنيا من الخزي والوبال وفي الآخرة من العقوبة والنكال فهو على الأول من الإيمان وعلى الثاني من الأمان والأمن ضد الخوف أو نفاع وإطلاق المؤمن عليه من باب التشبيه كإطلاقه على النهر الفائض على وجه الأرض فيسقي الحرث والزرع ويحيي الأرض بعد موتها وهو صلى الله عليه وآله يحيي قلوب المؤمنين بما جاء من عند رب العالمين بعد موتها (ومهيمن على الكتب) السماوية أي رقيب أو شاهد عليها أو أمين على أن يكون أصله مؤيمن بهمزتين من الأمانة قلبت الثانية ياء ثم الأولى هاء أو قائم عليها من الهيمنة وهي القيام على الشيء (راكع ساجد) راكع تارة ساجد أخرى فقد وصفه بالقوة العملية بعد وصفه بالقوة العلمية (راغب) فيهما عند الله تعالى من المقامات العالية والتقربات الإلهية والمثوبات الاخروية (راهب) خائف من مشاهدة عظمته وحقوق ربوبيته مع ملاحظة التقصير في أداء حقوق عبوديته وكلما ازدادت تلك المشاهدة ازدادت الرهبة والخشية ولذلك قال الله تعالى (إنما يخشى

ص:342

الله من عباده العلماء) (إخوانه المساكين) هم المهاجرون أو الأعم وأنصاره قوم آخرون من غير عشيرته وقبيلته (ويكون في زمانه أزل وزلزال وقتل وقلة من المال) الأزل الضيق والشدة أزل الرجل يأزل من باب ضرب أزلا صار في ضيق وجدب والزلزال الحركة والاضطراب زلزلة زلزالا مثلثة حركة والقتل الجهاد أو الأعم، والمراد بزمانه زمان بعثته أو قبله أيضا فإن قبله أيضا كانت هذه الشدائد كما مر في الأصول (اسمه أحمد محمد) لكونه محمودا في أهل السماوات والأرضين (الأمين من الباقين) الظاهر أن الأمين صفة لمحمد وأن من متعلق به وأن المراد بالباقين خلائق آخر الزمان وهم الأمة المدعوة والأمين منهم في أمرهم وأمر الخالق هو صلى الله عليه وآله فلذلك جعله رسولا إليهم (من ثلة الأولين) صفة ثانية ومن للتبعيض والثلة بالضم الجماعة والإضافة إلى الأولين بيانية والمراد بهم الأنبياء والرسل عليهم السلام (يؤمن بالكتب كلها) بإيمانه بها آمنا بها وإلا لما علمنا أنها كتب سماوية وزبر إلهية لأنها لم يكن معجزة بخلاف القرآن العظيم فإنما علمنا أنه كتاب إلهي لكونه معجزا (ويصدق جميع المؤمنين والمرسلين) ونحن نصدقهم بتصديقه ألا يرى أن من لم يؤمن به أنكر بعضهم.

(ويشهد بالإخلاص لجميع النبيين) كما نطق به القرآن المبين وأخبار الأئمة الطاهرين ولفظ الإخلاص يفيد أن هذه الشهادة من صميم القلب كما هو المعتبر فيها (أمته مرحومة مباركة) أي ثابتة على الحق قائمة بأمره أو ذوو بركة ويمن وخير، والمراد بأمته أمته المجيبة بجميع ما جاء به وأعظمه الولاية (ما بقوا في الدين على حقايقه) لعل المراد بها أركانه التي بها يتحقق ويقوم مثل المعرفة بالله والرسول والولاية والتسليم لهم أو تصديقاته اليقينية المتعلقة بما جاء به الرسول فلو شك أحد في شيء منه أو أنكره لم يكن من الأمة المذكورة وفيه دلالة على أن المعتبر هو الخاتمة (لهم ساعات موقوتات) في بعض النسخ «موقتات» أي محدودات معينات يقال: وقت موقوت وموقت أي محدود (يؤدون فيها الصلوات) كل صلاة بوقتها (أداء العبد إلى سيده نافلته) النافلة العطية والغنيمة ولعل المراد بها فوائده ومكتسباته (فبه فصدق) الظاهر أن «به» متعلق بما بعده وأن التقديم لقصد الحصر أو الاهتمام وأن إحدى الفاءين زائدة أو متعلق بفعل مقدر أي فصدق به حذف لوجود المفسر له (ومنهاجه فاتبع فإنه أخوك) في الرسالة وهو تعليل للتصديق والاتباع جميعا وتحريص عليهما وتحريك للشفقة به ولعل المراد باتباع منهاجه سلوك سبيله في الانقطاع إلى الله تعالى والتوسل به في المهمات كلها أو التصديق بحقيقة شرعه وحقيته وصدق طريقته (يا موسى إنه أمي) منسوب إلى أم القرى وهي مكة أو إلى الأم لا يقرأ الكتاب ولا يعرف الخط وهذا من كماله (صلى الله عليه وآله) لئلا يقولوا: إن كمالاته الفائقة من جهة الاكتساب والتعلم (وهو عبد صدق) لصدق أقواله وأعماله وظاهره وباطنه أو لشدته وقوته وصلابته في الدين وفي القاموس: الصدق بالكسر

ص:343

الشدة ومنه رجل صدق (يبارك له فيما وضع يده عليه) من الطعام والشراب وغيرهما والبركة محركة النماء والزيادة والسعادة يقال: بارك الله لك وفيك وعليك (ويبارك عليه) أي يدام له ما أعطي من ذلك وغيره من التشريف والكرامة غير منقطع عنه وفي الدعاء: وبارك على محمد وآل محمد أي أدم لهم ما أعطيتهم من الشرف والكرامة والفخر والعز والفضل (كذلك كان في علمي وكذلك خلقته) أي مثل الوصف المذكور الذي عرفته كان هو في علمي الأزلي ومثل الوصف المذكور خلقته أي قدرته أو أوجدته لوجوب المطابقة بين العلم والمعلوم وفيه تنبيه على أن اتصافه بما ذكر أمر موهبي (وبه افتح الساعة) كأنه كناية عن حشره أولا (وبأمته أختم مفاتيح الدنيا) في كنز اللغة: ختم بآخر رسانيدن هر چيزى وفيه مكنية وتخييلية وإشارة إلى أن الدنيا تختم بأمته وليس بعدهم أمة يملكون مفاتيحها ويدخلون فيها (فمر ظلمة بني إسرائيل أن لا يدرسوا اسمه) أي لا يمحوه من التورية (ولا يخذلوه) بالعداوة وعدم النصرة إذا وجدوه (وأنهم لفاعلون) ما نهوا عنه فيكفرون بالله وبرسولهم وبخاتم الأنبياء بل بجميعهم لأن المنكر لواحد منهم منكر للجميع كما دلت عليه الروايات وظاهر بعض الآيات (وحبه لي حسنة) تكتب في ديوان من أحبه سوي حسنات أعماله ولا يبعد أن يكون حبه حسنات باعتبار استمراره وقتا فوقتا وعلى هذا تكون له حسنات غير محصورة خصوصا إذا أعطي بواحدة عشرا كما نطقت به الآية الكريمة (فأنا معه) معيته معنوية روحانية لا معية زمانية ومكانية (وأنا من حزبه) في النصرة والإعانة (وهو من حزبي) في النصرة لديني والطاعة لأمري (وحزبهم الغالبون) على الأعداء بالحجة والنصرة وضمير «حزبهم» لمحمد (صلى الله عليه وآله) والجمع للتعظيم أوله ولله تعالى أولهما وللأوصياء أيضا (فتمت كلماتي) يحتمل أن يراد بها أحكامه ومواعيده وأخباره بما قدر له من كونه مؤمنا مهيمنا وإظهار دينه وإنزال قرآنه وغير ذلك مما ذكر أولم يذكر. والمراد بتمامها بلوغها حد الكمال أو إبرامها وإحكامها بحيث لا يتطرق إليه التبدل والزوال أو انتهاؤها إليه لا تكون لأحد غيره إذ لا نبي بعده، ويحتمل أن يراد بها هو (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه عليهم السلام للانتفاع بهم وبكلامهم ولأنهم مترجمون لكلامه تعالى ووحيه وقد مر في كتاب الحجة تفسير الكلمات بهم في قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

(لأظهرن دينه على الأديان كلها) بنسخه إياها أو بظهور صاحب الأمر (عليه السلام) والأخير مروي (ولا عبدن بكل مكان) لزوال الكفر والشرك والملل الباطلة بسيف الصاحب (عليه السلام) (ولأنزلن عليه قرآنا فرقانا) هما مصدران في الأصل ثم صارا علمين لهذا الكتاب المبارك المنزل للإعجاز والهداية وإنما سمي بهما لكونه متلوا أو جامعا للحلال والحرام والوعد والوعيد والمواعظ والنصائح وكل ما كان وما يكون وما هو كائن وفارقا بين الحق والباطل (شفاء لما في الصدور من

ص:344

نفث الشيطان) كمرض الجهل والكفر والشك والنفاق والغي والضلال والنفث مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف يقال: نفث الشيطان شيئا في القلب إذا ألقاه فيه وهي بمنزلة الداء والقرآن بمنزلة الدواء والشفاء ولكن معرفة ذلك الدواء وكيفية استعماله إنما تحصل بتعليم أهل الذكر (عليه السلام) وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) حين وصف القرآن بأنه النور المقتدى به بقوله: «فاستنطقوه ولن ينطق لكم ولكن أخبركم عنه ألا أن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم» وسر ذلك أنه (عليه السلام) لسان القرآن ينطق بدواء داء القلوب وذلك الداء هو الرذائل المنقصة ودواؤه لزوم الفضائل العلمية والعملية المشتمل عليها القرآن الكريم، ونظام ما بينهم إشارة إلى ما اشتمل عليه من القوانين الشرعية والحكم السياسية التي بها نظام العالم (فصل عليه يا بن عمران فإني أصلي عليه وملائكتي) المشهور أن الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن المؤمنين الدعاء وهو طلب الرحمة، وقال الشهيد الثاني: أصل الصلاة الدعاء إلا أنها من الله تعالى الرحمة مجازا ورجحه على المشهور بأن المجاز خير من الاشتراك كما بين في الأصول ثم قال: وغاية السؤال بها عائدة إلى المصلي لأن الله تعالى قد أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من المنزلة والزلفى ما لا يؤثر فيه صلاة مصلي كما نطقت به الأخبار وصرح به العلماء الأخيار ولك أن تقول أن الصلاة لها تأثير في حصول السرور له (صلى الله عليه وآله) وهذا أيضا فائدة.

(يا موسى أنت عبدي وأنا إلهك) الغرض منه تحريكه إلى الإتيان بحقيقة العبودية ورعاية حقوق الألوهية والانقطاع عن الغير لا مجرد الأخبار بمضمونه (لا تستذل الحقير الفقير) يمكن أن يراد بالحقير له أعوان وأنصار وبالفقير من ليس له أموال وأسباب واستذلاله يتحقق بترك حقوق الأخوة وهي كثيرة كما مر في الأصول (ولا تغبط الغني بشيء يسير) أي لا تتمن مثل ما في يده من متاع الدنيا وهو شيء يسير بذاته وبالنسبة إلى مالك في الدنيا والآخرة (وكن عند ذكري خاشعا) في الباطن والظاهر بصرف كل منهما فيما طلب منه والفراغ عن غيره والذكر شامل لذكر القلب واللسان وسائر العبادات (وعند تلاوته برحمتي طامعا) برحمتي متعلق بما بعده والتقديم للاهتمام أو للحصر للتنفير عن الرياء والسمعة.

والظاهر أن الضمير المجرور راجع إلى الذكر وعوده إلى الكتاب وهو التورية بقرينة المقام محتمل بعيد (واسمعني لذاذة التورية) بصوت خاشع حزين.

اللذة نقيض الألم واللذاذة مصدر فعلها لازم ومتعد يقال: لذ بشيء لذاذة صار ذا لذة ولذذته أنا لذاذة التذذت به ووجدته لذيذا وفي كنز اللغة: لذاذة خوش مزه شدن وخوش مزه يافتن فإضافتها إلى التوراة على الأول إلى الفاعل وعلى الثاني المفعول ثم هي في الأصل للأكل والشرب وشاع استعمالها في كل ما يلتذ به مثل الصوت والكلام والزمان الخالي عن الشرور ونحوها فلا يرد أن

ص:345

اللذة مدركة بالذوق لا بالسمع وخشوع الصوت خضوعه وخفضه قال الله تعالى (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) أي خضعت وخفضت والهمس الصوت الخفي وحزن الصوت رقته، يقال: فلان يقرأ بالتحزين أي يرقق صوته ولو كان المراد بالحزن خلاف السرور كان اتصاف الصوت به مجازا لاتصاف صاحبه به بقراءة ما يوجب حزنه من أحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب وغيرها مما يتحير فيه أولوا الألباب أو كناية عن البكاء (اطمئن عند ذكري) كل قلب صحيح طالب للحق يطمئن عند ذكره ويسكن إليه ويستقر فيه ويتخلص من الاضطراب لوصوله إلى مطلوبه واتصاله به اتصالا معنويا فإذا لم يذكره أو ذكره ولم يحصل له الاطمئنان كان سقيما مضطربا متصفا بالنفاق غير دافع عنه علايق الإمكان وغواشي الأبدان الموجبة للاضطراب ولكل واحد من الاطمينان والاضطراب مقامات متفاوتة ودرجات متباعدة وأسباب متكثرة لا يليق بهذا المختصر ذكرها (وذكر بي من يطمئن إلي) ترغيب في تذكر من يتذكر ويطمئن قلبه إلى الله وتعليمه لأن منع التذكير والتعليم من القابل ظلم وأما غيره من لا رجاء في تذكيره وتعلمه واطمينانه أو خيف منه فهو جدير بالإعراض عنه.

(واعبدني ولا تشرك بي شيئا) شركا جليا وخفيا وقت العبادة وبعدها إذ العبادة الخالصة عنه هي التي لا يكون الغرض منها إلا الله ولا يقصد لها حامد سواه في وقت من الأوقات (وتحر مسرتي) أي ما يوجب سروري وفي تعميمه دلالة على طلب جميعه وهو إنما يكون بضبط جميع الحركات والسكنات وحصره على ما فيه رضاه، ثم رغب فيما ذكر بذكر أمرين مقتضيين للامتثال به أحدهما كمال قوته تعالى واستحقاقه لذلك والثاني كمال ضعف المخاطب واحتياجه إليه فأشار إلى الأول على سبيل المبالغة في التأكيد والحصر بقوله:

(فإني أنا السيد الكبير) هو السيد أي الملك الواجب الطاعة كما صرح به في العدة والكبير لا بالمقدار والجسمية بل بالاستغناء عن الغير بما له من الصفات الكمالية الذاتية والشرف والعلية وأشار إلى الثاني بقوله: (إني خلقتك من نطفة من ماء مهين) الثاني بدل للأول أو من بيان لنطفة والمهين الحقير والضعيف والقليل (من طينة أخرجتها من أرض ذليلة ممشوجة) من ابتدائية وذليلة من الذل بمعنى الهوان والحقارة وكل شيء غيره تعالى ذليل تحت أمره وقدرته، وممشوجة من المشج وهو الخلط وهي صفة ثانية لطينة، والمراد بها طينة خلق الله تعالى منها آدم عليه السلام كما نطق به القرآن الكريم وهي مخلوطة مأخوذة من حزن الأرض وما غلظ منها ومن سهلها وما لان منها ومن عذبها وما طاب منها ومن سبخها وما ملح منها وبالماء العذب والماء الأجاج فخلق منها صورة حسنة ذات أحناء وأضلاع وذات مفاصل وأعضاء ونفخ فيها من روحه كما صرح به أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه (فكانت بشرا) كاملا ناطقا عاقلا عالما مفكرا مدركا لما في

ص:346

عالم الملك والملكوت فايقا على الملائكة المقربين في العلم والمناظرة (فأنا صانعها خلقا) عظيما وهو تأكيد للسابق والتأسيس محتمل (فتبارك وجهي) أي تنزه ذاتي عن النقايص (وتقديس صنعي) أي تطهر عن العيوب والنواقص (ليس كمثلي شيء) الكاف زائدة أو المقصود نفي المثل على سبيل الكناية لأن نفي مثل مثله بعد العلم بوجوده تعالى مستلزم لنفي مثله والكناية أبلغ من التصريح (وأنا الحي الدائم الذي لا أزول) أي الفعال المدرك بنفسه لا بحياة قائمة به بها يدرك ويفعل في وصف الدوام بعدم الزوال والفناء دفع لتوهم حمله على مجازه وهو الزمان الكثير وهو حث على الطاعة والانقياد له لأن المطيع إذا علم أنه أبدى لا يخاف فوات مقصوده من الطاعة أبدا وهو مدرك إليها (يا موسى إذا دعوتني خايفا مشفقا وجلا) لعل الخوف بملاحظة عظمته وغناه عن الخلق والإشفاق بملاحظة التقصير في الدعاء والثناء ورعاية حقوقه والوجل من صد النفس الأمارة سبيله وقطع نفثات الشيطان طريقه أو من رد الدعاء لعدم كونه على الوجه اللايق به كما روي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه كان في التلبية وهو على راحلته فخر مغشيا فلما أفاق عليه السلام قيل له ذلك فقال: خشيت أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك. والتأكيد محتمل (عفر وجهك لي في التراب) العفر محركة ظاهر التراب ويسكن وعفره في التراب يعفره وعفره فانعفر وتعفر مرغه فيه أو دسه أو ضرب به الأرض وأكثر جزاء الشرط يتحقق بعده ويترتب عليه وقد يتحقق في حال تحققه ومعه كقولك: إذا جئتني فالبس ثيابك واركب فرسك، والظاهر هنا هو الثاني مع احتمال الأول (واسجد لي مكارم بدنك) هذا أعم من السابق لأنه يشمل غير الوجه أيضا وفيهما غاية التذلل ونهاية الخضوع والخشوع له تعالى «واقنت بين يدي في القيام» ذكر اليدين من باب التمثيل والقنوت قد مر تفسيره سابقا (وناجني حين تناجيني بخشية من قلب وجل» لا يتحقق ذلك إلا بحضور القلب وتوجهه إلى معرفته ومعرفة من يناجيه والظاهر أن الباء للمصاحبة أي مع خشيته أو الظرف حال من الفاعل أي متلبسا بها (وأحي بتوراتي أيام الحياة) أي بتلاوتها وإجراء أحكامها والعمل بما فيها والأيام مفعول الإحياء مجازا أو ظرف له والمفعول محذوف وهو قلبك (وعلم الجهال محامدي) هي ما يستحق أن يحمد ويثني عليه من الفضائل وهي الصفات الذاتية وأما الفواضل الواصلة إلى الغير فأشار إليها بقوله: (وذكرهم آلائي ونعمتي) العطف للتفسير أو المراد بالأولى النعماء الباطنة وبالثانية النعماء الظاهرة والغرض من التعليم والتذكرة المعرفة والقيام بوظايف الحمد والشكر ووجه تخصيص التعليم بالمحامد والتذكير بالآلاء أن المحامد يعني الصفات الذاتية إنما تعلم بالشرع وأما الآلاء فقد تعرف بالعقل والشرع مذكر (وقل لهم لا يتمادون في غي ما هم فيه) نهي في صورة الخبر وما هم فيه من المعصية وهي مستلزمة للغي والضلالة وسبب له فالإضافة وسبب له فالإضافة لامية كإضافة المسبب إلى السبب (فإن أخذي

ص:347

أليم شديد) وعيد للمذنبين المصرين وتحريك لهم إلى الإنابة والرجوع (يا موسى إن انقطع حبلك مني لم يتصل بحبل غيري) استعار الحبل لما يوجب القرب منه والوصول إليه والوجه أنه سبب لنجاة المتمسك به من وهدة الهوى إلى الدرجات العلى كالحبل ورشح بذكر الانقطاع وأشار بمضمون الشرط إلى أن حبله الموجب للقرب منه ما كان له خاصة فأما إذا انقطع بقصد غيره أيضا أو غيره وحده فهو حبل غيره لا حبله ولا ما اتصل به حبله فليس سببا للوصول إليه فلذلك فرع عليه طلب العبادة الخالصة بقوله: (فاعبدني) لا غيري بالاشتراك والانفراد فإن الرياء المشوب والخالص ليس لله فيه نصيب (وقم بين يدي للعبادة مقام العبد الفقير الحقير) الذي لا ملجأ له غير مولاه والمقام بضم الميم مصدر ميمي وفتحها على أنه اسم مكان بعيد.

(وذم نفسك فهي أولى بالذم) من الشيطان إذ لا حجة له في دعوته وإنما يدعوك إلى ما لا أصل له فتبعته نفسك الأمارة بالسوء ولذلك يقول الخبيث يوم القيامة على سبيل الإلزام: (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم..) الآية. وفيه حث على حفظ النفس الأمارة وتطويعها للنفس المطمئنة القدسية بحيث تصير مؤتمرة لها ومتصرفة تحت أحكامها العقلية ومنصرفة عما لا أصل له من اللذات الفانية (ولا تتطاول بكتابي على بني إسرائيل) أي لا تعلو ولا تترفع عليهم بكتابي المنزل إليك أو بالعلم به أو بتعليمه وكل هذا وإن كان نعمة جليلة وفضيلة عظيمة توجب علو المنزلة ورفع الدرجة لكن لا يجوز الإستعلاء والترفع به على الغير ولما فهم من هذا ضمنا ومما مر صريحا أنه كتاب كامل مفيد للكمال فرع عليه قوله (فكفى بهذا) أي بهذا الكتاب (واعظا لقلبك ومنيرا) لاشتماله على النصايح والمواعظ الإلهية والأحكام والأسرار الربانية والتي هي من أشعة الجلال والعظمة ولوامع الأنوار والحكمة فيكفي وعظه لقلبك الشريف الخبير وإنارته لطبعك اللطيف المستنير وفي وصفه بالمنير تشبيه له بالسراج لما فيه من العلوم الكاملة والأخلاق الفاضلة (وهو كلام رب العالمين) هذا بمنزلة التعليل للسابق لأن وصف ربوبيته يقتضي أن يكون كلامه المنزل لإصلاح المربوبين مشتملا على جميع ما يحتاجون إليه كافيا لوعظ قلوبهم وإنارة صدورهم.

(يا موسى متى ما دعوتني ورجوتني) حذف مفعول الفعلين للدلالة على التعميم والظاهر أن «متى» اسم شرط كما في قوله: متى أضع العمامة تعرفوني وأن «ما» زائدة (فإني سأغفر لك) بعد إجابة الدعاء وتحصيل الرجاء على ما كان منك من التقصير لأن الدعاء والرجاء حسنة والحسنة تدفع السيئة وفيه وعد للداعي والراجي بعد حصول مرجوه ومطلوبه بغفران ذنوبه (السماء تسبح لي وجلا) دلت الآيات الكريمة والروايات الصحيحة الصريحة والاعتبارات الذوقية على أن كل شيء من الممكنات صامتها وناطقها صغيرها وكبيرها جوهرها وعرضها يسبح له عز وجل قال الله تعالى (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن). (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا

ص:348

تفقهون تسبيحهم) قال المحققون والمفسرون أن تسبيح السماء والأرض والأشجار والأحجار ونحوها من المكونات الغير العاقلة عبارة عن تنزيهه تعالى بما هو فيهن من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث وبواعث الافتقار إلى الغير في الوجود والبقاء والكمالات وغيرها مما هو ملحوظ في الممكنات بلسان الحال حيث تدل بإمكانها وحدوثها وافتقارها على وجود الصانع القديم الواجب بالذات الغني عن الغير من جميع الجهات المنزه عن الاتصاف بصفات الممكنات تحقيقا للفرق بين الصانع والمصنوع وأن تسبيحهم هذا إنما يفقهه من له عقل صحيح ونظر صريح لا غيرهم وان الخطاب في قوله تعالى: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) لهذا الغير.

هذا، ويمكن أن يقال: لجميع الممكنات تسبيح بلسان القال أيضا ولا يبعد إعطاء هذه القدرة لهم من القدرة القاهرة الإلهية ويؤيده نطق الأحجار والحصا للنبي والوصي عليهما السلام وسماعه بعض الحاضرين ونطق الجوارح يوم القيامة كما نطق به القرآن المبين وظاهر قوله تعالى وجلا وتسبيحهم مع عدم الحاجة حينئذ إلى تخصيص الخطاب في قوله (ولكن لا تفقهون) بمن ليس له نظر صحيح ولا إلى حمل التسبيح في الآية على الحقيقة والمجاز أو على القدر المشترك بينهما والله يعلم (والملائكة من مخافتي مشفقون) لعل المراد أنهم من أجل مشاهدة العظمة والمهابة أو من أجل الخوف الحاصل لهم من مشاهدتهما مشفقون من نزول العذاب عليهم بسبب التقصير فيما أمروا به أو من زوال كمالاتهم المحتاجة إليه أو من سقوط منزلتهم لديه والفرق بين الوجهين أن مشاهدة العظمة سبب للإشفاق في الأول والخوف الحاصل منها سبب له في الثاني وفي الأول تجوز باعتبار أنه أريد بالمخافة وهي الخوف من مشاهدة العظمة نفس تلك المشاهدة مجازا وبه فسر بعض المفسرين قوله تعالى في وصف الملائكة: (هم من خشية ربهم مشفقون) نقل عن بعض أهل العرفان أن لله تعالى ملائكة حول العرش يسمون المخلصين تجري أعينهم مثل الأنهار من خشية الله فيقول لهم الرب جل جلاله: ملائكتي ما الذي يخيفكم، فيقولون: ربنا لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه لما ساغوا طعاما ولا شرابا ولا انبسطوا في فرشهم ولخرجوا إلى الصحراء يخورون كما يخور الثور (والأرض تسبح لي طمعا) في إحيائها بإرسال القطرات وإنزال البركات وفي نسبة الطمع إلى الأرض الموضوعة والوجل إلى السماء المرفوعة رعاية للمناسبة.

(وكل الخلق يسبحون لي داخرين) متذللين تحت ظل الحاجة إلى كمال قدرته صاغرين في الخشوع بين يدي رحمته.

والتسبيح هنا محمول على القدر المشترك بين النطق بالتنزيه المطلق والدلالة عليه لإسناده إلى ما يتصور منه النطق والى ما لا يتصور منه أو عليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه وعلى

ص:349

الاحتمال المذكور سابقا لا حاجة إلى شيء من التوجهين وفي نسبة التسبيح إلى جميع المخلوقين تحريك للناس أجمعين إليه لما أعطاهم من قلب صحيح ولسان فصيح وزيادة الإحسان والإنعام والإكمال توجب زيادة التسبيح والتقديس والإجلال (ثم عليك بالصلاة الصلاة) التكرير للتعظيم والاهتمام و «عليك» للإيجاب والإلزام (فإنها مني بمكان) قريب على منيع ومقام شريف سني رفيع، والتنوين العظيم.

(ولها عندي عهد وثيق) لعل المراد به أن من حفظها وحفظ حرمتها وفعلها في أوقاتها وراعى حدودها وأركانها وشرائطها جعله من عباده المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن من ضيعها وضيع حقوقها ضيعه تبارك وتعالى وجعله من الأخسرين، ثم أمر بأداء ما هو قريب من الصلاة في الفضل والأجر وهو الزكاة فقال: (وألحق بها ما هو منها) أي من الصلاة أو قريب منها وفي رواية: (إن من منع الزكاة وقفت صلاته حتى يزكي» وفي أخرى: «زكوا أموالكم تقبل صلاتكم» ولذلك قارنها عز وجل بالصلاة في القرآن (زكاة القربان) بيان للموصول أو بدل منه والقربان إما مصدر بمعنى القرب أو ما يتقرب به إلى الله تعالى، والإضافة إلى على الأول لامية من باب إضافة السبب إلى المسبب وعلى الثاني بيانية وحملة على ما كان معروفا في سالف الزمان بعيد (من طيب المال والطعام) لا من خبيثه ومعيوبه إلا إذا كان المال كله أو بعضه معيوبا فإنه يجوز المعيوب أو الموزع حينئذ (فإني لا أقبل إلا الطيب يراد به وجهي) الجملة حال عن الطيب والقبول مشروط بأمرين إخراج الطيب وقصد القربة.

(واقرن مع ذلك صلة الأرحام) في القاموس: الرحم بالكسر وككتف بيت منبت الولد ووعاؤه والقرابة أو أصلها أو أسبابها وقال بعض العلماء: المراد بالرحم قرابة الرجل من جهة طرفيه آبائه وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات والأخوة والأخوات وأولادهم، والظاهر أنه لا خلاف في وجوب صلتها في الجملة لدلالة ظاهر الآيات والروايات على العقوبة بتركها، وللصلة درجات متفاوتة بعضها فوق بعض وأدناها الكلام والسلام وجوابه وترك المهاجرة وتختلف أيضا باختلاف القدرة عليها والحاجة إليها فمن الصلة ما يجب ومنها ما يستحب ومن وصل بعض الصلة ولم يبلغ أقصاها هل هو واصل أو قاطع فيه تأمل، وفوائدها المستفادة من الأخبار كثيرة فإنها توجب زيادة العمر والمال والرزق والمحبة والعون عند الحاجة والتزكية في العمل والسماحة وتحسين الخلق وتطييب النفس وتعمير الديار والوقاية من مصارع السوء والعصمة من الذنوب (فإني أنا الله الرحمن الرحيم والرحم أنا خلقتها من رحمتي ليتعاطف بها العباد) أشار بالجلالة إلى ذاته المقدسة الملحوظة معها الألوهية المقتضية لانقياد كل شيء له فيما يريد ويكره للترغيب فيه وأشار بالرحمن الرحيم إلى اتصافه بالرحمة الكاملة التي وسعت كل

ص:350

شيء، ثم أشار إلى أنه خلق الرحم من رحمته للتوالد والتناسل فضلا على العباد وإحسانا إليهم ليتعاطف بعضهم بعضا ولم يخلق كل واحد من تراب كما خلق آدم عليه السلام منه لأن الأول أقوى في التعاطف فلابد من اتصاف الرحم بالرحمة والتعاطف لئلا يفوت نظامهم والغرض من خلقها.

(ولها عندي سلطان في معاد الآخرة) أي حجة مقبولة لا مرد لها وهي طلب الوصل منه تعالى لمن وصلها وطلب القطع لمن قطعها.

روى المصنف بإسناده عن الفضيل بن يسار قال قال أبو جعفر (عليه السلام) «إن الرحم معلقة يوم القيامة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني» وباسناده عن يونس بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أول ناطق من الجوارح يوم القيامة الرحم تقول: يا رب من وصلني في الدنيا فصل اليوم ما بينك وبينه ومن قطعني في الدنيا فاقطع اليوم ما بينك وبينه».

أقول: الرحم تصدق على رحم آل محمد (صلى الله عليه وآله) بل هي أعظمها وأحفظها روى المصنف بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول: «إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني وهي رحم آل محمد وهو قول الله عز وجل (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) ورحم كل ذي رحم» وفيه أيضا روايات آخر (وأنا قاطع من قطعها وواصل من وصلها) لعل المراد بوصله تعالى من وصلها رحمته لهم وعطفه عليهم بنعمه الدائمة الباقية أو وصله لهم بأهل ملكوته والرفيق الأعلى أو قربه منهم وشرح صدورهم لمشاهدة عظمته أو جميع أنواع الإكرام والإفضال.

(وكذلك أفعل بمن ضيع أمري) التكويني والتكليفي لأن من ضيع الغرض من التكوين والتكليف بالعصيان استحق العقوبة والخذلان (يا موسى أكرم السائل إذا أتاك) ولو كان راكبا أو على ثياب التجمل أو مجهول الحال إلا أن تكون العطية زكاة مفروضة فإنه لابد من تفتيش حاله (برد جميل أو إعطاء يسير) خصوصا إذا أتاك في الليل، لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «إذا طرقكم سائل ذكر بليل فلا تردوه» والمراد بالرد الجميل ما لا يؤدي إلى أذاه وكسر قلبه مثل أن يقول: الله يعطيك أو يعطينا الله وإياك ونحو ذلك وذكر اليسير للتسهيل وإلا فيجوز الكثير أيضا ويفهم من بعض الروايات أن أقل ما يعطى دون الدرهم وأكثره أربعة دوانيق والروايات المرغبة في إعطائه كثيرة ومنافعه جليلة وأجوره جزيلة حتى روي: «لو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا».

وروي: «لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم» إلا أنه أشار إلى بعض العلل والمرغبات فيه بقوله: (فإنه يأتيك) بصورة إنسان معروف أو غير معروف في الليل أو النهار (من ليس بإنس ولا جان) في الواقع (ملائكة الرحمن) بدل عن الموصول وفي ذكر الرحمن إشعار بأن ذلك من باب الرحمة والشفقة ليشكروا لك إن شكرت (يبلونك كيف أنت صانع فيما أوليتك) أي أعطيتك

ص:351

والظاهر أن يبلونك بتخفيف النون وسكون الواو، وضمها مع شد النون محتمل.

(وكيف مواساتك فيما خولتك) من النعم والتحويل الإعطاء والمواساة فيما خولتك من النعم والتخويل الإعطاء والمواساة أن تنيل غيرك من مالك وتجعله أسوة فيه وفي القاموس: واساه بماله مواساة أنال منه وجعله فيه أسوة ولا يكون ذلك إلا من كفاف وإن كان من فضله فليس بمواساة (واخشع لي بالتضرع) الباء للمصاحبة أي مع التضرع أو الظرف حال عن الفاعل ولعل المراد بالخشوع سكون القلب والجوارح إلى الله تعالى واشتغال كل واحد منهما بما طلب منه وإعراضه عما سواه والتضرع إظهار الذل والمسكنة والافتقار إليه باللسان (واهتف بولولة الكتاب) الهتف التصويب والنداء هتف إذا صوت ونادى، والولولة الدعاء بالويل وصوت متتابع به والاستغاثة والإعوال وهو الصياح ورفع الصوت بالبكاء (واعلم أني أدعوك) في الدنيا إلى ما هو خير لك أو في الآخرة إلى الحساب والثواب والجزاء أو فيهما (دعاء السيد مملوكه) المطيع له الذي لا ملجأ له إلا إليه (ليبلغ به شرف المنازل) العالية وفيه حث له على قبول دعائه وإجابته (وذلك من فضلي عليك وعلى آبائك الأولين) من الأنبياء والمرسلين أو الأعم منهم ومن المؤمنين، وفيه من عليه وتحريك له على الشكر.

(يا موسى لا تنسني على كل حال) حث على ذكره ظاهرا وباطنا في جميع الأحوال كحال الصحة والمرض والشدة والرخاء والفقر والغناء وغيرها من الأحوال الغير المحصورة للإنسان (ولا تفرح بكثرة المال) وإن حصل من طرق الحلال (فإن نسياني يقسي القلوب) تعليل للنهي الأول بأن نسيانه يوجب قساوة القلب وغلظته وظلمته المانعة عن إدراك الحق وما يوجب القرب منه (وفي كثرة المال كثرة الذنوب) تعليل للنهي الثاني بأن كثرة المال يوجب كثرة الذنوب كالعجب والتكبر والتجبر والتفاخر والتطاول على الغير والإسراف والتقتير وترك الحقوق المالية وصرف العقل عن تحصيل المعارف الإلهية والواجبات العقلية والنقلية وحث القوة الشهوية والغضبية على الطغيان وتحريك النفس الأمارة إلى المخالفة والعصيان وذلك ظاهر لمن نظر في أحوال أبناء الزمان (الأرض مطيعة والسماء مطيعة والبحار مطيعة) لا يصدر منها العصيان في وقت من الأوقات والمراد بطاعتها انقيادها في كل ما هو المقصود من إيجادها بخلاف الإنس والجن فإنهم يعصون الله في كثير ما هو المطلوب منهم ويكتسبون الشقاوة كما أشار إليه بقوله (وعصياني شقاء الثقلين) والسر فيه أن بواعث الطاعة والمعصية موجودة فيهم وموانع الأولى قوية فلذلك صاروا معركة للمجاهدة الكبرى وابتلوا بالمصيبة العظمى فإن نجوا من هذه البليات صاروا من أشرف المخلوقات والله ولي الخيرات ومنه الاستعانة في المهمات.

(وأنا الرحمن الرحيم رحمن كل زمان) تحريك على الرجوع إليه في المهمات والالتجاء إليه

ص:352

في البليات والاستعانة منه في التحرز عن المنهيات لأنه برحمته ينجي من يشاء من المهلكات (آتي بالشدة بعد الرخاء وبالرخاء بعد الشدة وبالملوك بعد الملوك) هذا من آثار رحمته إذ لولا الشدة بعد الرخاء حصلت الغرة والغفلة ولولا الرخاء بعد الشدة حصل اليأس والقنوط، ولولا موت الملوك ادعو الألوهية وظلموا ظلما عظيما إذ ذكر الموت زاجر لهم في الجملة وفيه أيضا تحريك على الرجوع إليه.

(وملكي دائم قائم لا يزول) لا يزول إما حال عن الفاعلين على سبيل التنازل أو خبر ثالث ووجه العدول إلى الفعل لإفادة الاستمرار الأبدي وفائدته ما مر سابقا وهي صرف الدوام والقيام عن توهم المجاز إلى الحقيقة، والمراد بقيام ملكه عدم عروض الاضطراب والتغير فيه بوجه ما وهذا غير مستفاد من دوامه إذ دوام الشيء لا ينافي وقوع الاضطراب فيه في الجملة والمراد بملكه سلطنته وقوته وقدرته على جميع الممكنات وهو بهذا المعنى ثابت له قبل وجودها وبعد عدمها كما مر في كتاب التوحيد.

(ولا يخفى على شيء في الأرض ولا في السماء) صغيرا كان أم كبيرا جليا كان أم خفيا ظاهرا كان أم باطنا، وفيه ترغيب في فعل الخيرات وترك المنهيات لأن العلم بأنه عالم بجميع الأشياء يكون داعيا للعبد إلى الإتيان بجميع ما كلف به على وجه الكمال (وكيف يخفى على ما مني مبتدؤه) أي ابتداؤه والاستفهام للإنكار والأمر في فعله تعالى واضح وكذا في فعل العباد لأن أكثر مقدماته من فعله تعالى كالعلم به والقوة والقدرة عليه والجزء الأخير من علته وهو الكف أو عدمه وإن كان فعل العبد ولكن الاقتدار عليه من فعله تعالى فوجب أن يكون له تعالى علم بذلك الفعل والترك، وفيه رد على من أثبت له العلم الإجمالي وعلى من نفى عنه العلم بالجزئيات وإن شئت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في أوايل كتاب التوحيد (وكيف لا يكون همك فيما عندي) من السعادة الأبدية والمثوبات الأخروية بفعل أسبابها (وإلي ترجع لا محالة) يقال: لا محالة منه بفتح الميم أي لابد ولا فراغ منه وكيف لإنكار النفي والتوبيخ فيه لأن العاقل القاصد لمنزل يسكن فيه أبدا يهييء جميع ما يحتاج إليه في ذلك المنزل من أسباب العيش ويجتنب عن جميع ما يضره فيه ومن ترك الأول وفعل الثاني كان محلا للتوبيخ (يا موسى اجعلني حرزك) أي ملجأك الدافع عنك البليات والمكروهات بالدعاء والتوسل قبل نزولها وبعده، وأصل الحرز بالكسر العوذة والموضع الحصين يقال: هذا حرز حريز أي حصن حصين متين حافظ لمن دخله.

(وضع عندي كنزك من الصالحات) المفروضات والمندوبات من الماليات وغيرها، وسماها كنزا لأنها مذخورة ليوم الحاجة كالكنز (خفني ولا تخف غيري إلي المصير) الخوف من عقوبة الله يقتضي الفرار من أسبابها لأن الخائف من الشيء يفر منه ومما يفضي إليه.

ص:353

(يا موسى ارحم من أسفل منك في الخلق) بجلب الخير له ودفع الضر عنه (ولا تحسد من هو فوقك) مالا وحالا بتمني زوال نعمته عنه (فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) الحاسد عدو المنعم، منكر لمصلحته وحكمته، وقائل بالجور في قسمته، وكافر بنعمته الواصلة إليه ومستحقر لها، وعدو للمنعم عليه متعرض للإضرار به على قدر الإمكان وضرره عليه أمر مجرب معلوم لمن نظر في كتب السير والآثار حتى خربت به البيوتات والديار وعدو نفسه وجسده كما أشار إليه بعض شراح نهج البلاغة أما لنفسه فلأنه يصرف فكرها في أمر المحسود حتى لا تفرغ للتصرف فيما يعود نفعه إليها وينسى ما حصل لها من الحسنات المنقوشة في جوهرها وتضمحل تلك الحسنات على طول الحسد واشتغال الفكر فيه وطول الحزن والهم بالكلية وأما لجسده فلأنه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر وسوء الاغتذاء ورداءة اللون وسوء السجية وفساد المزاج وتعطيل الجوارح عن الأعمال الحسنة.

إذا عرفت هذا فنقول استعار لفظ الأكل لكون الحسد ماحيا لما في النفس والجوارح من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة التي هي الحسنات ومانعا من صيرورتها ملكات وذلك بسبب استغراقه في حال المحسود واشتغاله به وشبه ذلك بأكل النار الحطب ووجه التشبيه ما يشترك فيه الحسد والنار من إفناء الحسنات والحطب واستهلاكهما.

(يا موسى إن ابني آدم) من صلبه هابيل وقابيل والقول بأنهما لم يكونا من صلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ضعيف (تواضعا) من المواضعة وهي الموافقة في أمر، لا من التواضع بمعنى التخاشع والتذلل والتخاضع لعدم تحقق هذا المعنى في أحدهما وهو قابيل (في منزلة لينالا بها من فضلي ورحمتي) لعل المراد بالمنزلة منزلة الكرامة والشرف والقرب بالحق (فقربا قربانا) كان قربان هابيل كبشا من أفضل أفراد غنمه فقبل بنزول النار البيضاء عليه وأكلها له وكان قربان قابيل من أخس أفراد زرعه وأرداه فلم يقبل.

والمراد بالقربان هنا ما يتقرب به إلى الله من الذبيحة وغيرها وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن مع أن المراد منه اثنان، وقيل: تقديره فقرب كل واحد منهما قربانا فلا يحتاج إلى التثنية (ولا أقبل إلا من المتقين) فقبل من هابيل لأنه كان من أهل التقوى لا من قابيل لمعصيته وخسة قربانه وعدم خلوص نيته.

قال جماعة منهم الفاضل الأردبيلي: فيه دلالة على أن قبول الطاعة مشروط بالتقوى وأن عبادة الفاسق غير مقبولة وإن كانت صحيحة إذا وقعت على وجهها، ثم قال هذا الفاضل: يمكن أن يقال:

المراد أن قبول العبادة مشروطة بالتقوى في تلك العبادة بأن يأتي بها بحيث لا تكون عصيانا مثل أن يقصد الرياء أو غيره من المفسدات، أو بالتقوي عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أن

ص:354

الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، وقال بعض المتأخرين يمكن أن يكون المراد أن التقوي شرط لقبول مثل هذه العبادة المخصوصة وهي القربان بهذا الوجه وكان من شأنهما ما علمت من قتل قابيل هابيلا حسدا عليه وكان ينبغي أن يقتل نفسه لأن سبب عدم القبول كان من قبله لا من قبل أخيه.

(فكيف تثق بالصاحب بعد الأخ والوزير) يعني لم تبق الوثوق بالأخ مع كمال قربه منك وحمله الثقل عنك فكيف تثق بغيره وفيه مبالغة في الحزم وإخفاء النعم عن الغير لكثرة أهل الحسد (يا موسى ضع الكبر ودع الفخر) الكبر رذيلة تحت الفجور مقابل التواضع وهو أن يعتقد الإنسان أنه أعظم من الغير بأن يرى لنفسه مرتبة من الحال والكمال أو المال والنسب وللغير مرتبة ثم يعتقد أن مرتبته فوق مرتبة ذلك الغير ويوجب ذلك نفحة وهزة وتعززا وتعظما وركونا إلى ما اعتقد من كمالها وشرفها على الغير ولو حصل لها هذه الأمور مع قطع النظر عن الغير كان ذلك عجبا، وآفات الكبر وثمراته الفاسدة من الأعمال الباطنة والظاهرة والتروك كثيرة غير محصورة ذكرنا بعضها في شرح الأصول، والفخر التمدح بالخصائل وإظهار السرور بالفضائل ونحوها والركون إليها لا من جهة إضافتها إلى الله عز وجل باعتبار أنها منه ومن جلائل نعمه عليه وأما لو ذكرها ونسبها إليه تعالى لإظهار شكره فليس ذلك بفخر ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): «أنا سيد أولاد آدم ولا فخر» (واذكر أنك ساكن القبر) في الحال أو في المآل والأول أظهر لأن اسم الفاعل في الاستقبال مجاز وقوله عليه السلام:

«موتوا قبل أن تموتوا» إشارة إلى هذا (فليمنعك ذلك من الشهوات) لأن ذكر الموت الذي هو هادم اللذات يمنع النفس عن الميل إلى الشهوات ويبعثها على المسارعة إلى الخيرات فكيف فرض حصوله بالفعل.

(يا موسى عجل التوبة وأخر الذنب) تعجيل التوبة من الذنوب والتقصير مطلوب لدلالة الآيات والروايات على أنها فورية ولأن رفع سواد الذنب قبل استقراره وتمكنه في لوح النفس أسهل مع إمكان ورود الموت قبلها بغتة وهو مستلزم لشدة الحسرة وطول الندامة يوم القيامة وكذا تأخير الذنب مطلوب فلعل الله يحول بينك وبينه ويصرف نفسك عنه برحمته ويمكن أن يكون تأخيره كناية عن تركه رأسا وصرف النفس عن الميل إليه قطعا، روي «إن ترك الذنب أسهل من التوبة عنه».

(وتأن في المكث بين يدي في الصلاة) المكث مثلثا ويحرك اللبث والتأني التلبث فالتأني في المكث تأكيد ومبالغة فيه روي: «إن ملكا موكل ينادي لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل» (ولا ترج غيري) صرف وجه الرجاء إليه لا إلى غيره في الأمور الأخروية مثل الثواب ورفع الدرجات وغيرهما ظاهر ولكن لابد من العمل لها لئلا يكون ذلك الرجاء سفها وحمقا كما دلت عليه

ص:355

الروايات وكذا في الأمور الدنيوية لأنها أما أسباب أو مسببات وزمام كلها بيد قدرته فلو كان في حصول المرجو مصلحة حصل له في أقرب الأوقات من غير أن يذل نفسه ويضطرب برجاء غيره، إذ قد لا يكون ذلك الغير محلا لرجائه أو كان ولا يقضيه أو يقتضيه ويمن عليه ولو لم يمن لم يخرج هو من ذل وانكسار وكل ذلك مكروه عند الله تعالى ولذلك ورد النهي عن إذلال المؤمن نفسه، ووردت الروايات على ترغيب المؤمن في طلب المطالب كلها، قليلها وكثيرها، عظيمها وحقيرها منه تعالى.

(اتخذني جنة للشدايد وحصنا لملمات الأمور) الأمور الملمة هي النازلة من نوازل الدهر ونوائبه الثقيلة على النفس ويتحقق الاتخاذ بالتوجه إليه عند نزولها وقبله، ففيه حث على الدعاء والتضرع والابتهال في جميع الأحوال.

(يا موسى كيف تخشع لي خليقة لا تعرف فضلي عليها؟) المراد بالخليقة الناس وبفضله نعمته وإحسانه ولطفه على عباده وهي باطنة وظاهرة والباطنة ما يكمل به كل شخص ويتم به ماهيته كالقوى وغيرها من الجوارح والأعضاء.

والظاهرة منها ما يتوقف عليها بقاء وجوده واستمراره المقدر من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها ومنها ما يتوقف عليه كمال نفسه الناطقة من الأخلاق والأعمال والأوامر والنواهي وإرسال الرسول وإنزال الكتاب والوعد بالثواب والعقاب وغيرها مما نطق به لسان الشرع، إذا عرفت هذا فنقول تخشع الناس وتذللهم لله تعالى متوقف على التصديق بفضله عليهم بالضرورة إذ لا يتخشع ولا يتذلل أحد لمن لا فضل له عليه ولا حاجة له إليه، ولهذا نفى التخشع عمن لم يكن له هذه المعرفة والتصديق، ثم هذا التصديق متوقف على تصور المحكوم به وهو الفضل وهذا التصور متوقف على الإيمان بالفضل والإقرار بوجوده وهذا الإقرار متوقف على الرجاء بالثواب اللازم للفضل وهذا الرجاء متوقف على رفض الدنيا وعدم اتخاذها دار استيطان فأشار إلى الأول وهو توقف هذا التصديق على تصور المحكوم به بقوله (وكيف تعرف فضلي عليها وتصدق به وهي لا تنظر فيه) أي في الفضل ولا تتصوره لإنتفاء التصديق بانتفاء التصور، وأشار إلى الثاني بقوله (وكيف تنظر فيه) أي في الفضل وتتصوره (وهي لا تؤمن به) أي لا تقر بوجوده وأشار إلى الثالث بقوله (وكيف تؤمن به وهي لا ترجو ثوابا) لأن الإقرار بوجود الفضل الذي من جملته الشرع يستلزم الرجاء بالثواب الموعود فيه وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، وأشار إلى الرابع بقوله:

(وكيف ترجو ثوابا وهي قد قنعت بالدنيا) وغفلت عن الآخرة (واتخذتها مأوى) أي دار استيطان ومسكن استقرار وركنت إليها ركون الظالمين الخارجين من الدين لأن الرجاء بالثواب يستلزم التمسك بأسبابه والعمل للآخرة وعدم القناعة بالدنيا والركون إليها وانتفاء اللازم دليل على

ص:356

انتفاء الملزوم، ويظهر من هذه المقدمات أن القانع بالدنيا الغافل عن الآخرة مسلوب عنه جميع ما تقدم لأن انتفاء الموقوف عليه والأسباب مستلزم لانتفاء الموقوف والمسببات وليس للدنيا وأهلها ذم أبلغ من هذا والله يعلم.

(يا موسى نافس في الخير أهله فإن الخير كاسمه) نافسه في الأمر شاركه في الرغبة فيه على وجه المباراة والمغالبة والخير اسم جامع لكل ما هو وسيلة للقرب منه تعالى ولابد من الرغبة فيه والاجتهاد في طلبه لأنه حسن خيرة من الله تعالى كاسمه من بين الأسماء والواضع لاحظ كمال المناسبة بينهما (ودع الشر لكل مفتون) به وبالدنيا على قدر ما تعلق به العلم الأزلي وجرى عليه القضاء الإلهي كما قال (صلى الله عليه وآله) «كل ميسر لما خلق له».

(يا موسى اجعل لسانك من وراء قلبك تسلم) أشار إلى أنه ينبغي عند إرادة القول من التثبت والتأمل فيما يريد النطق به وفيما لا ينبغي من القول بعد مراجعة الفكر وإلى أن غايته هي سلامته في نفسه وماله وسلامة الغير أيضا فيهما عن الآفات إذ مفاسد الكلام أكثر من أن تحصى وقد يفسد بكلام واحد البلاد والعباد وإلى مضمون ذلك أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «وإن لسان المؤمن من وراء قلبه وإن قلب المنافق من وراء لسانه» وقرن الأول بالإيمان للترغيب فيه والثاني بالنفاق للتنفير عنه (وأكثر ذكري بالليل والنهار تغنم) في الدنيا بشرح الصدر وصلاح الحال وفي الآخرة بسعادة القرب وأشرف المآل ولم يذكر ما يغنم به للدلالة على التعميم والتعظيم.

(ولا تتبع الخطايا فتندم) وقت الموت وبعده لمشاهدة سوء خاتمتها، ولا تتبع من الاتباع بشد التاء أو تخفيفها أو من التبع يقال: تبعه كفرح تبعا مشى خلفه ومر به فمضى معه (فإن الخطايا موعدها النار) تعليل للفعلين بأن الخطايا تجر صاحبها إلى النار سواء قيل بعرضيتها أو بتجسمها وصيرورتها حيات وعقارب ونحوها على اختلاف القولين (يا موسى اطب الكلام لأهل الترك للذنوب) وبشرهم بما يعملون ولا تقل لهم ما يكرهون، ويقرب منه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولا تضعوا من رفعته التقوى» وصى عليه السلام برعاية حاله وترك أذاه إما بقول كرهه والاستهزاء به أو بفعل كضربه أو فعل ما يستلزم إهانته أو ترك قول أو فعل يستلزم ذلك (وكن لهم جليسا) ترغيب في مجالسة الصالحين لأن مجالستهم نافعة في الدنيا والدين والروايات فيه كثيرة (واتخذهم لغيبك إخوانا) يدعون لك في ظهر الغيب ويذكرونك بخير ويدفعون عنك سوءا ويحملون ثقل أهلك وعيالك وفي بعض النسخ «لعيبك» بالعين المهملة أي لستره أو عفوه أو إصلاحه «إخوانا» إما بدل عن ضمير الجمع أو حال عنه (وجد معهم يجدون معك) أي جد معهم في حوائجهم يجدون معك في حوائجك أو الأعم منها ومن الأمور الدينية والجد الإجتهاد في الأمر والسعي فيه.

(يا موسى الموت لاقيك لا محالة) فيه تنفير عن الميل إلى شهوات النفس ولذات الدنيا فإن

ص:357

من علم أنه يموت وينقل إلى منزل وحشة وبيت حفرة ومسكن غربة سهل في عينه الدنيا وما فيها ثم رغب في العمل لما بعد الموت بقوله: (فتزود زاد من هو على ما يتزود وارد على اليقين) المراد بالزاد ما ينفع في الآخرة مثل التقوى وغيرها (يا موسى ما أريد به وجهي فكثير قليله) إما لأن ثوابه الأبدي جزيل أو لأنه تعالى ينميه ويجعله عظيما أو لأنه يعطي به أضعافا مضاعفة كما نطقت بجميع ذلك الروايات (وما أريد به غيري) من باب الاشتراك أو الانفراد (فقليل كثيره) لعل المقصود من الفقرتين صريحا نفي القلة في الأول والكثرة في الثاني وضمنا حصر الصحة والقبول في الأول ونفيهما عن الثاني بناء على مقدمة ضرورية ومقدمة شرعية أما الأولى فهي أن كل ما لزم من وجوده عدمه أو وجود ضده المستلزم لعدمه كان محالا وعلى هذا كانت القلة في الأول والكثرة في الثاني محالين إذ لزم من فرض الأولى ضدها وهو الكثرة ومن فرض الثانية ضدها وهو القلة فلا توجد القلة في الأول والكثرة في الثاني، وأما الثانية فلأن العمل الواحد الصحيح المقبول كثير فسلب الكثرة عن الأعمال المتعددة إنما هو لعدم صحتها وقبولها (وإن أصلح أيامك هو أمامك) وهو يوم القيامة أو يوم حضور الموت وهو يوم خروج المؤمن من سجن الدنيا إلى الروح والراحة (فانظر أي يوم هو) لتعرف شدته وعظمته المميزة له عن سائر الأيام (فأعد له الجواب فإنك موقوف به) أي بسبب الجواب أو في ذلك اليوم (ومسؤول) عما فعلت من صغير وكبير كما دلت عليه الآيات والروايات وأمره بإعداد الجواب أمر بضبطه جميع حركاته النفسانية والبدنية ومكاسب المال ومصارف ووزنه بميزان الشرع باسقاط الزائد وإتمام الناقص فإنه إذا فعل ذلك في أيام عمره وسئل يوم القيامة عما صنع كان جوابه النافع حاضرا وإن كان خلاف ذلك كان جوابه صعبا والخروج عن عهدة الحساب مشكل وأمره خطير.

(وخذ موعظتك من الدهر وأهله) لعل المراد من الدهر هنا عمر كل شخص وهو يذهب مع أهله ويبقى عليه ما اكتسبه من خير وشر وعلل الأخذ أو وعظ الدهر بقوله (فإن الدهر طويله قصير وقصيره طويل) لعل المراد أن طويله قصير في نفس الأمر لسرعة زواله ولأنه الذي أنت فيه وقصيره طويل باعتبار طول الحساب والجزاء ولا يخفى لطف هذه العبارة لإيهام حمل الشيء على ضده ظاهرا مع إفادة معنى لطيف والغرض منه هو الحث على العمل للآخرة وترك الركون إلى البقاء فيه (وكل شيء فإن) فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لكي يكون أطمع لك في الآخرة لا محالة «كل شيء فان» إما مرفوعان على الابتداء والخبر معطوفان على محل اسم إن وخبرها كما في قولك: إن زيدا قائم وعمرو قاعدا والأول منصوب والثاني مرفوع عطفا على اسم إن وخبرها وهو على اليقين كالتفسير والتأكيد للسابق وما هو المقصود منه فإن العلم بفناء كل شيء من الدهر وما يتعلق به يقتضي تركه وترك تعلق القلب به ويتفرع منها الاجتهاد في العمل

ص:358

الخالص للآخرة وهو العمل الذي ترى ثوابه بعين البصيرة وتتيقن بحصوله فيها وثواب هذا العمل هو الذي يتعلق الطمع في حصوله في الآخرة قطعا، وأما العمل الغير الخالص فالطمع في حصول ثوابه غير متحقق بل غير معقول لدلالة الأخبار على ذلك (فإن ما بقي من الدنيا كما ولى منها) كأنه تعليل لقوله «وكل شيء فان» وإشارة إلى أن الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين ويذهب دهر الباقين معهم كما ذهب دهر الماضين ويكون آخره كأوله إذ أموره وأطواره متشابهة وأفعاله وآثاره مناسبة وطبيعته التي يعامل الناس بها قديما وحديثا متعاضدة يتبع بعضها بعضا وفيه تنبيه للسامعين ليتذكروا أنهم أمثال الماضين وأنهم لاحقون بهم وتحريك لهم على العمل لما بعد الموت واستعداد له ونسب هذه الأمور إلى الدهر جريا على ما في أوهام الناس وإلا فالفاعل هو الله تعالى.

(وكل عامل يعمل على بصيرة ومثال) ضرورة أن كل عامل يتوجه ذهنه إلى عمل معلوم ومثال متمثل في خياله سواء كان ذلك العمل مستندا إلى وحي رباني أو اختراع نفساني أو إلهام شيطاني (فكن مرتادا لنفسك يا بن عمران) المراد بالارتياد هنا طلب العمل على وجه التفكر في أوله وآخره وحسنه وقبحه ومورده ومأخذه وإنما أمره بطلب هذا العمل لأنه النافع كما أشار إليه بقوله (لعلك تفوز غدا يوم السؤال) وأما غيره من العمل المخترع وان اجتهد عامله فإنه يصير في ذلك اليوم هباء منثورا كما نطق به القرآن الكريم وأشار إليه بقوله: (فهنالك يخسر المبطلون) العاملون بأهوائهم وآرائهم التابعون لآبائهم وكبرائهم التاركون لرسلهم وأوصياء أنبيائهم (يا موسى ألق كفيك ذلا بين يدي) كأنه أمره برفع اليدين إلى السماء في القنوت والدعاء أو بالسجود له والتضرع فيه عند ورود الحاجة أو نزول البلية أو صدور الذنب (كفعل العبد المستصرخ إلى سيده) الذي لا ملجأ له إلا إليه ولا وثوق له إلا عليه (إذا فعلت ذلك رحمت) مجهول على صيغة الخطاب أو معلوم على صيغة المتكلم وحذف المفعول (وأنا أكرم القادرين) وعد بحصول الرغبة وحث على ترقبه لأن القادر الكريم لا يخيب المضطر إليه ولا يمنع الخاضع لديه فكيف إذا اتصف بزيادة الكرم زيادة عثرت قبل الوصول إليها عقول العلماء وعجزت عن معرفة كنهها فحول الحكماء.

(يا موسى سلني من فضلي ورحمتي فإنهما بيدي ولا يملكهما أحد غيري) المسؤول إما الفضل والرحمة أو بعضهما على أن تكون من زائدة أو للتبعيض أو محذوف وهو خير الدنيا والآخرة على أن تكون من للتعليل والمقصود حثه على صرف وجه السؤال إليه وفراغه عن الغير والاشتغال بالتضرع بين يديه فإنه مالك الفضل والرحمة يهييء له أسباب مسؤوله ومطلوبه ويفتح له أبواب مأموله ومرغوبه (وانظر حين تسألني كيف رغبتك فيما عندي) ترغيب في حسن الظن به في قبول سؤاله ودعائه وفي بعض الأخبار عن الأئمة الأطهار: «والذي لا إله إلا هو ما أعطي مؤمن قط إلا بحسن ظنه،» وفي بعضها: «أحسن الظن بالله فإن الله عز وجل يقول أنا عند ظن

ص:359

عبدي المؤمن بي إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا» ثم قال لزيادة الترغيب فيه (لكل عامل جزاء) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما (وقد يجزى الكفور بما سعى) من خير إما في الدنيا أو في الآخرة بتخفيف العذاب.

(يا موسى طب نفسا عن الدنيا وانطو عنها) طيب النفس والسرور بالمجاوزة عن الدنيا والانطواء وطي الكشح عنها غاية الزهد فيها ولذلك أمره بهما وعلل الأمرين بقوله: (فإنها ليست لك ولست لها) فإنها باعتبار ما فيها من الزهرات واللذات للفاسقين وروحك المطهر من أعلى عليين، ثم حذره عنها على سبيل الإنكار والتوبيخ في الميل إليها بقوله (ما لك ولدار الظالمين) المغرورين بها والمشغولين بشهواتها (إلا لعامل فيها بالخير فإنها له نعم الدار) فالدنيا ممدوحة باعتبار أنها مضمار للآخرة ومحل لاكتساب الزاد لها وتحصيل مقام القرب والدرجة الرفيعة فيها وإنما ذمها باعتبار ما فيها من الزهرات الشاغلة للمائلين إليها المفتونين بها عن الله تعالى وعن العمل للآخرة وظاهر هذا الاستثناء الانقطاع ويمكن صرفه إلى الاتصال بأن يكون المراد بالظالم العامل بالظلم وهو من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالظلم يصدق على العامل بالخير فليتأمل.

(يا موسى ما آمرك به فاسمع) كناية عن الأخذ والقبول والعمل به كما في قولنا: إذا نصحتك فاسمع (ومهما أراه فاصنع) أي مهما أراه خيرا لك فاصنع على حذف المفعول الثاني لأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين (خذ حقايق التوراة إلى صدرك) المراد بحقايقها المعاني الأولية وما فوقها والأسرار الإلهية والنصايح والمواعظ الربانية المذكورة فيها (وتيقظ بها في ساعات الليل والنهار) أي تيقظ بقراءة التوراة والعمل بأحكامها والعلم بحقايقها في جميع الأوقات (ولا تمكن أبناء الدنيا) الذين يميلون وينتسبون إليها كميل الابن وانتسابه إلى أبيه (من صدرك فيجعلونه وكرا كوكر الطير) الوكر بالفتح والتسكين عش الطاير، وإنما نهاه عن تمكينهم من صدره وميل قلبه إليهم لأنهم حينئذ يجعلونه وكرا لأنفسهم ويتصرفونه ويلازمونه كما يلازم الطائر عشه ويتولد منهم حب الدنيا.

(يا موسى أبناء الدنيا وأهلها فتن بعضهم لبعض فكل مزين له ما هو فيه) تأكيد لما مر وتنبيه على ترك مودتهم ومجالستهم لأنهم يزينون زينة الدنيا لجلسائهم قولا وفعلا ويتصرفون في صدورهم تصرفا تاما ويقرب منه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولا ترفعوا من رفعته الدنيا» وذلك لأن من رفعته الدنيا وأهلها لما كان عادلا من التقوى كان الميل إليه واحترامه ومحبته ومجالسته يستلزم المحبة للدنيا والميل إليها فكان منهيا عنه وعدم توقيره ومجالسته زهدا في الدنيا وفي أهلها وهو من جملة التقوى فكان مأمورا به (والمؤمن زينت له الآخرة) زينها الله تعالى بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وبيان أوصافها ونعيمها (فهو ينظر إليها ما يفتر) الفتور الضعف والسكون وضد الحدة يقال: طرف فاتر أي حسير كليل ليس بحاد، والمراد بالنظر النظر بالبصيرة القلبية والقوة

ص:360

العقلية الحاصلة بالعلوم الشرعية والرياضة النفسية بعد رفض العلائق وقطع العوائق فهو حينئذ ينظر إلى الآخرة ومقاماتها وأحوال الناس فيها ودرجاتها ويبصر نعيمها وشهواتها لا يكل ولا يضعف نظره ولا يسكن ولا يصرف عنها بصره (قد حالت شهوتها بينه وبين لذة العيش) في الدنيا لأن ملاحظته فضل الآخرة على الدنيا وعلمه بأحوال المعاد بعثه على شهوة الآخرة والعمل لها وتركه لذة عيش الدنيا (فأدلجته بالأسحار) الإدلاج بتخفيف الدال السير في أول الليل وبالتشديد السير في آخره ولعل التعدية باعتبار تضمين معنى التصيير أي صيرته شهوة الآخرة مدلجا سائرا في آخر الليل مشتغلا بالعبادة لعلمه بأن تلك الشهوة لا تنال إلا به (كفعل الراكب السابق إلى غايته) أي مقصده وخطره، شبه سير ذلك المؤمن بسير الراكب السابق إلى غايته لعلمه بأنها لا تنال إلا به، ويمكن أن يكون المشبه به سير الراكب المسافر والوجه هو الوصول إلى المطلوب والراحة والنجاة من الشدايد (يظل كئيبا ويمسي حزينا) فهو دائما في هم وغم وسوء حال وانكسار وحزن من ألم الفراق والغربة والخوف من التقصير وسوء الخاتمة، وفي المصباح ظل يفعل كذا يظل ظلولا إذا فعله نهارا، قال الخليل: لا تقول العرب ظل إلا لعمل يكون بالنهار.

(فطوبى له) أي طيب العيش أو الجنة له، وقد يطلق على المدح وحسن الحال (ولو قد كشف الغطاء) المانع من المشاهدة العينية «ماذا يعاين من السرور» وموجباته المعدة لأولياء الله التي لا ينال وصفها العقل واللسان ولا يدرك قدرها الوهم والبيان، وماذا كلمة استفهام على التركيب أو ما استفهام وذا موصولة أو زائدة.

(يا موسى الدنيا نطفة ليست بثواب للمؤمن ولا نقمة من فاجر) النطفة بالضم ماء الرجل والماء الصافي قل أو كثر، وقليل ما يبقى من دلو أو قربة، قيل: وهو من أقرب العبارات وأعجبها وأفصح الكنايات عن الماء وأغربها، والنقمة بالكسر والفتح وكفرحة المكافات بالعقوبة والجمع نقم ككلم وعنب وكلمات، نقم منه كضرب وعلم وانتقم عاقبه (فالويل الطويل من باع ثواب معاده بلعقة لم تبق) في بعض النسخ «بلقطة» وهي ما يؤخذ من مال مطروح وفي بعضها بلعبة وهي بالضم التمثال وما يلعب به كالشطرنج ونحوه، استعارها لمتاع الدنيا لكونه كل يوم في يد أحد (وبلعقة لم تدم) (1) في القاموس: لعقة كسمعة لعقة ويضم لحسه وبالضم ما تأخذه في الملعقة شبه بها حطام الدنيا في القلة والخسة والحقارة والمراد ببيع ثواب المعاد بها تبديل ما يوجبه من الزهد والورع والتقوى وغيرها بها وهذا التبديل يوجب الويل وهو حلول الشر والفضيحة والتفجع والعذاب أو هو واد في جهنم أو بئر فيها (وكذلك) أي والحال أن الدنيا ووصف أهلها ما ذكر لا

ص:361


1- 1 - كذا ولعل الصحيح لحسة.

ريب فيه (فكن كما أمرتك) مما فيه صلاحك مثل طيب النفس عن الدنيا والعمل بحقايق التوراة وغير ذلك ثم رغبه في أخذ ما أمره به بقوله (وكل أمري رشاد) أي طريق مستقيم يوصلك إلى ما فيه سرورك في الدين ونجاتك عن دار الظالمين.

(يا موسى إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت لي عقوبته) أطلق الذنب على الغنى مبالغة لأن الغنى سبب لذنوب كثيرة مثل التكبر والتفاخر وتحقير المؤمن وعصيان الرب وترك الحقوق الواجبة المالية ونحوها وإلى جميع ذلك أشار جل شأنه بقوله (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ويحتمل أن يكون المراد أن الغنى مسبب عن ذنب سابق فإنه تعالى قد يغني المذنب استدراجا له في غيه.

(وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين) الرحب السعة أو الواسع ونصبه بفعل مقدر أي صادفت سعة أو واسعا والياء للمصاحبة بمعنى أو للسببية والشعار بالفتح العلامة وما ولي الجسد من الثياب وفيه مبالغة في كمال لزومه والتصاقه بالصالحين حتى أن يتميز الصالح من الطالح (ولا تكن جبارا ظلوما) أي متكبرا عاتيا متمردا ظالما على نفسك وغيرك (ولا تكن للظالمين قرينا) أي مقارنا مصاحبا لأن صحبتهم تميت القلب وتميل إلى الظلم والرضا به وتورث حبهم وعونهم وغير ذلك من المفاسد.

(يا موسى ما عمر وإن طال يذم آخره) حث على رعاية حسن الخاتمة وتحصيل ما يوجبه في كل وقت من أوقات العمر لأنه يحتمل أن يكون آخره (وما ضرك ما زوي عنك إذا حمدت مغبته) الزي التنحية والقبض زواه عنه إذا نحاه وقبضه، والمغبة بفتح الغين عاقبة الشيء كالغب بكسرها وفيه تسلية للفقراء بأن ما نحي عنهم وقبض من متاع الدنيا وزهراتها لا يضرهم بل ينفعهم لأنه محمود العاقبة وهم يحمدون ويشكرون إذا رأوا خزي أهل الدنيا وخسرانهم (يا موسى صرخ الكتاب إليك صراخا بما أنت إليه صابر) في القيامة من عوائدها ودرجاتها المعدة لأهل الطاعة وشدايدها ودركاتها المقدرة لأهل المعصية وفيه استعارة مكنية وتخييلية بتشبيه الكتاب بالإنسان وإثبات الصراخ وهو الصيحة والصوت الشديد له أو استعارة تبعية بتشبيه دلالة الكتاب ينطق الناطق وصراخه واستعارة الفعل له (فكيف يرقد على هذا العيون) الاستفهام للتعجب أو التوبيخ بترك التيقظ والطاعة في ساعات الليل (أم كيف يجد قوم لذة العيش) في الدنيا ويرضى بها لولا التمادي في الغفلة عن صراخ الكتاب وأحوال القيامة (والاتباع للشقوة والتتابع للشهوة) هذه الأمور الثلاثة أسباب لنوم العيون ووجدان لذة العيش لأنها حجب ظلمانية مضروبة على الجوهر القدسي مانعة له عن رؤية أحوال الآخرة ولو قد كشفت تلك الحجب عنه لرآها بعين اليقين وعلم أنه من أين جاء ولم جاء وإلى ما يصير واستعمل جميع الجوارح فيما يحتاج إليه بعد العود فلا ينام ولا يجد لذة العيش شوقا إلى درجات الآخرة ومثوباتها وخوفا من دركاتها وعقوباتها (ومن دون

ص:362

هذا يجزع الصديقون) أي من عند تمادي الخلق في الغفلة يجزع الصديقون بمشاهدتهم مخالفة الرب وصعوبتها عليهم أو من غير التمادي في الغفلة يجزع الصديقون فأهل التمادي أولى بالجزع أو من غير صراخ الكتاب إلى أحوال القيامة يجزع الصديقون من التقصير لعلمهم بأنه تعالى مستحق للعبادة لذاته ولو لم تكن الجنة والنار كما أشار إليه سيد الوصيين بقوله: «ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» والله يعلم.

(يا موسى مر عبادي يدعوني على ما كان) من الذنوب والبلايا والحاجات مطلقا ولما كان الاجتهاد في الدعاء وحسن الظن بالله عز وجل أمرا مطلوبا ولا يتحقق ذلك إلا بأن يقر الداعي له تعالى بأوصاف مقتضية لهما أشار إليها بقوله: (بعد أن يقروا لي أني أرحم الراحمين) إذ لولا هذا الإقرار لكان الداعي غافلا أو حاكما بالتساوي أو مرجحا رحمة الغير أو منكرا لرحمته تعالى والكل ينافي الإجتهاد وحسن الظن به تعالى (مجيب المضطرين) إذ لولا الإقرار بأنه يجيب المضطرين كلهم لجوز أن لا يجيبه لعدم المنافاة بين الإيجاب والسلب الجزئين وهذا يوجب الفتور فيما ذكر (واكشف السوء) إذ لو لم يقر بأنه يكشف السوء كله لجوز أن لا يكشف سوءه هذا وهو أيضا ينافي ما ذكر (وأبدل الزمان وآتي بالرخاء) إذ لو لم يقر بأن تبدل الزمان من الرخاء إلى الشدة ومن الشدة إلى الرخاء وإتيان الرخاء منه تعالى لجوز أن يكون من غيره فهذا الغير أولى بالرجوع إليه وهو مناف لما ذكر (واشكر اليسير وأثيب الكثير وأغني الفقير) الإقرار له بقبول اليسير وإثابة الكثير وإغناء الفقير داع إلى ما قلنا (وأنا الدائم العزيز القديم) الإقرار له بالدوام الذي لا انقطاع له والعزة التي لا يغلب معها والقدرة التي لا يقدر شيء على الامتناع منها باعث على ما مر والكل ظاهر (فمن لجأ إليك وانضوى إليك) أي أوى ومال وانضم إليك، وفي الفايق: ضوى إليه وأضواه آواه فانضوى (من الخاطئين) بيان للموصول والظاهر أن ميله إليه عليه السلام بالتوبة والإنابة والاعتراف بالخطأ والتقصير (فقل: أهلا وسهلا) نصبهما بفعل محذوف وجوبا أي أتيت أو صادفت أهلا وعشيرة لا أجانب ووطئت سهلا من البلاد لا حزنا ولا خرابا وهذا الكلام يقوله العرب لإظهار الرضا عن المخاطب وتعظيمه وتوقيره.

(يا رحب الفناء بفناء رب العالمين) الرحب بالضم والسعة وبالفتح الواسع والفناء بالكسر ما امتد من جوانب الدار وفي كنز اللغة: «فنا» استان در، والظرف متعلق بالرحب وصف اللاجىء بأنه واسع الفناء في فناء رب العالمين من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح والدلالة على تعظيمه وتوقيره فإن قولنا: فلان واسع المكان في باب السلطان يدل على ذلك والله يعلم (واستغفر لهم وكن لهم كأحدهم) من لطف الله تعالى بعباده المذنبين ورحمته عليهم ومحبته لهم أن أمر رسوله الكريم بالاستغفار لهم وحسن المعاشرة معهم وترك التحشم والاستطالة عليهم

ص:363

وأمرهم بالسؤال من فضله ورحمته ورغبهم فيه بأنه ذو الفضل العظيم، فوجب عليهم أن يكفوا عن مخالفته ويشغلوا بطاعته أداء لشكر نعمته (يا موسى كهف الخاطئين) لأنهم رجعوا من الباطل إلى الحق واهتدوا إلى الإيمان وتخلصوا عن يد الشيطان واستظلوا في ظل الأمن والأمان بإرشاده وهدايته وحسن عنايته ورعايته.

(وجليس المضطرين ومستغفر للمذنبين) المراد بالجلوس معناه الحقيقي أو هو كناية عن السعي في دفع شدتهم واضطرارهم والاهتمام برفع حاجاتهم وافتقارهم وفي مدحه عليه السلام بهذه الأوصاف حث لعلماء المؤمنين وصلحائهم على الأسوة به (إنك مني بالمكان الرضي) الرضي فعيل بمعنى مفعول وهو مكان النبوة والرسالة والقرب والسعادة ورئاسة الدارين (فادعني بالقلب النقي) أي الخالص عن الرياء والسمعة والاشتغال بغيره تعالى أو عن الرذائل كلها.

(واللسان الصادق) أي الموافق للقلب أو مع حضوره وفراغه عن الغير إذ لو كان قلب طالب الحاجة منه غافلا عنه أو مشغولا بالغير عد كاذبا بل مستهزئا (وكن كما أمرتك.. الخ) قد مر شرحه والتكرير للتأكيد وهو مطلوب في مقام النصح والوعظ والتذكير وقد وقع مثل ذلك في القرآن العزيز في مدح العلم والعلماء وذم الجهل والجهلاء وذم الدنيا وأهلها وغير ذلك وفيه مبالغة في نفي الاستطالة إذ كل ما يتصور منه الاستطالة من الأمور الذاتية والعرضية والنعماء الظاهرة والباطنة فمنه تعالى ابتداؤه (وتقرب إلي) بالعلم والعمل والدعاء والتضرع ورفع الحاجات (فإني منك قريب) الفاء للتعليل لأن قربه تعالى من الخلق مع الاستغناء عنهم يقتضي تقربهم منه مع كمال الاحتياج إليه وتقديم الظرف لتعظيم المخاطب ولئلا يقع الفصل بينه وبين الله تعالى وإن كان لفظ القرب لأنه مشعر بالانفصال في الجملة (فإني لم أسألك ما يؤذيك ثقله ولا حمله) تعليل آخر للأمر بالتقرب أو للدعاء والعمل المستفاد من الأمر بالتقرب والظاهر أن العطف للتأكيد والتفسير وأن فيه حملا وثقلا في الجملة إلا أنه لا يؤذي لكثرة نفعه كما أشار إليه بقوله (إنما سألتك أن تدعوني فأجيبك وأن تسألني فأعطيك) فيه ترغيب في الدعاء والسؤال وفي الفاء المقتضية للتعقيب بلا فصل دلالة على سرعة الإجابة قال الصادق عليه السلام: «إذا دعوت فظن حاجتك بالباب» ولكن له شرائط مذكورة في كتاب الدعاء منها تقديم حمده تعالى وتذكر نعمته الشكر لها والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وذكر الذنوب والاستغفار منها وفي حذف المفعول دلالة على التعميم فكل ما دعاه من أمور الدين والدنيا وفيه صلاحه فالله يجيبه قطعا ولو وقع التأخير كان فيه أيضا مصلحة وقد روي عنه (عليه السلام): «من تمنى شيئا وهو لله رضى لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه» (وأن تتقرب إلي بما مني أخذت تأويله وعلي تمام تنزيله) لعل الموصول عبارة عن الكتاب وما فيه من العلوم والأسرار والأحكام كل ذلك أسباب للقرب إليه تعالى والمراد بتأويله بيان باطنه وباطن باطنه ولازمه ولازم لازمه وهكذا إذ

ص:364

للكتب الإلهية ظهور معلومة وبطون مكنونة وأسرار مصونة ولوازم مستورة وأحكام معينة تعلم بتعليم رباني وتأويل إلهي وبتمام تنزيله تنزيل كل ما يحتاج إليه الأمة من أمر الدنيا والدين.

(يا موسى انظر إلى الأرض فإنها عن قريب قبرك) أمر بذكر الموت والرجوع إلى القبر وحيدا غريبا فإن ذلك يبعث على ترك الدنيا والعمل للآخرة (وارفع عينيك إلى السماء فإن فوقك فيها ملكا عظيما) لعل المراد به ملكوت السماوات وهو الذي أراه خليله عليه السلام ليكون من الموقنين أو الجنة وهي موجودة الآن في السماء عند جماعة منهم المحقق الطوسي وقالت طائفة إنما توجد في القيامة وللطرفين كلام مذكور في موضعه، ويحتمل أن يكون ملكا بالتحريك، والغرض منه هو الحث على العبادة أو إظهار عظمته تعالى.

(وابك على نفسك ما دمت في الدنيا) لأنها جوهر عزيز شريف نزل من عند رب جليل لطيف إلى مقام الوحشة ودار الغربة ومنزل الكربة فصار مسجونا في سجن الطبيعة ومغلولا بغل السجية بعد كونه في مقام العز رفيعا وعالم القدس منيعا فاستحق ما دام في الدنيا البكاء على حاله والصراخ على ذله ونكاله إلى أن يتخلص منها ويرجع إلى مقامه الأصلي ومنزله الأولي (وتخوف العطب من المهالك) (1) لأن الإنسان ما دام في الدنيا التي هي دار البلية والامتحان وإن كان في غاية التقوى ونهاية الكمال ليس بآمن من انقلاب الحال وانعكاس المآل واتباع أهواء النفس ومخاطرات الشيطان وسلوك مسالكهما ولذلك اجتهد العقلاء والصلحاء في طلب حسن العاقبة (ولا تغرنك زينة الدنيا وزهرتها) الدنيا بزينتها وزهرتها تغر الناس وتخدعهم وتجذبهم إليها والعاقل لا يغتر منها لعلمه بمفاسدها وإغفالها عن الحق وعدم بقائها وسرعة انتقالها منه إلى غيره (ولا ترض بالظلم) الرضا بالظلم مثله في العقوبة ومن علاماته الاستبشار به والمدح له وعدم إنكاره مع القدرة عليه ومصاحبة الظالم وإعانته (ولا تكن ظالما فإني للظالم رصيد) أي مترقب منتظر لآخذه بغتة من رصد السبع يرصد فهو رصيد إذا رقب الوثوب على صيده (حتى أديل منه المظلوم) في القاموس: أدالنا الله من أعدائنا من الدولة والإدالة الغلبة وهو سبحانه يجعل الدولة والغلبة للمظلوم على الظالم في الدنيا أو يوم القيامة.

(يا موسى إن الحسنة عشرة أضعاف) قد من على هذه الأمة أيضا بقوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وفيه تبشير للمحسن وترغيب له في فعل الحسنة لأنه إذا علم أنه للواحدة عشرة يسعى لها كالتاجر (ومن السيئة الواحدة الهلاك) فيه وعيد للمسيء وتنفير له عن السيئة مطلقا لأن النفس تتنفر من المهلكات (لا تشرك بي) شيئا جليا وخفيا لا تحل لك أن تشرك بي لأن الشرك

ص:364


1- 1 - كذا.

ظلم لا يحل لأحد خصوصا لمن وصل مرتبة القرب فإنه تعالى لا يساهل معه في خفيه فضلا عن جليه (قارب إلي) بفعل الخيرات (وسدد) نفسك بترك المنهيات (وادع) في جميع الحالات (دعاء الطامع الراغب فيما عندي) المنقطع عن غيري لأن الدعاء مع توجه القلب إلى غيره والطمع فيما عنده شرك في الجملة (النادم على ما قدمت يداه) من الذنوب لأن الدعاء معراج السالكين وموجب العروج إلى مقام القرب وهو لا يفيد ذلك مع التقييد بأغلال الذنوب وقد ذكروا في كتب الأدعية أن تقديم الندامة والتوبة والاستغفار من شرائط إجابة الدعاء (فإن سواد الليل يمحوه النهار) وكذلك السيئة يمحوها الحسنة لأن السيئة رين القلب والحسنة جلاؤها كما قال عز وجل (إن الحسنات يذهبن السيئات) وفيه تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح والتقريب إلى الفهم.

وقول جارية المأمون له: «كلام الليل يمحوه النهار» كأنه مأخوذ من هذا «وعشوة الليل تأتي على ضوء النهار» هي بفتح العين المهملة ظلمته (وكذلك السيئة تأتي على الحسنة الجليلة فتسودها) إذ اختلاط الظلمة بالنور يسوده كما أن الماء الكدر يكدر الماء الصافي، وفيه دلالة على الإحباط والاختلاف بين العلماء في تفسيره وثبوته وعدمه مشهور ليس هذا موضع ذكره.

* الأصل:

9 - علي بن محمد، عمن ذكره، عن محمد بن الحسين، وحميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي جميعا، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن رجل من أصحابه قال: قرأت جوابا من أبي عبد الله (عليه السلام) إلى رجل من أصحابه، أما بعد فاني أوصيك بتقوى الله فإن الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب فإياك أن تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم ويأمن العقوبة من ذنبه فإن الله عزوجل لا يخدع عن جنته ولا ينال ما عنده إلا بطاعته إن شاء الله.

* الشرح:

(أما بعد) أي بعد الحمد والصلاة ونحوهما ولم يذكرهما لكونهما معلومين بحسب المقام أو ذكرهما في الجواب أولا ولم يذكرهما المصنف اختصارا لعدم تعلق الغرض بذكرهما هنا كما فعل مثل ذلك في كثير من المواضع (فإني أوصيك بتقوى الله) أي بفعل الطاعات وترك المنهيات (فإن الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب ويرزقه من حيث لا يحتسب) كما قال عز وجل (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «من أخذ بالتقوى غربت عنه الشدايد» وفيه وعد لمن اتقاه بأنه يحوله من الفتن والشدائد وضيق المعيشة إلى أضدادها ومن ظلمة الجهل وعداوة الخلق إلى نور العلم ومحبتهم له

ص:366

ومن طريق النار إلى طريق الجنة ومن ألم الفراق من الحق إلى لذة الوصال به إلى غير ذلك وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «واعلموا أن من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ونورا من الظلم ويخلده فيما اشتهت نفسه وينزله منزل الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه» وهذه كناية عن الجنة ونسبها إلى نفسه تعظيما لها وترغيبا فيها والجنة الحسية أشرف المقامات لأشرف المخلوقات وكذا الجنة العقلية وهي درجات الوصول والاستغراق في المعارف الإلهية التي بها السعادة والبهجة الأبدية والتقوى أعظم الأسباب لهما (إياك أن تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم ويأمن العقوبة من ذنبه) كمن وعظ وأمر ونهى غيره وخالف ونسي نفسه ومن اغتاب أحدا على ذنبه أو كرهه وهو يعمله ولا يكره ذنب نفسه (فإن الله عز وجل لا يخدع عن جنته ولا ينال ما عنده إلا بطاعته إن شاء الله) أشار إلى أنه تعالى ليس بجاهل ولا غافل عما يعمله العباد من الطاعة والمعصية فيرد المستحق للجنة والثواب ويكرم المستحق للعقوبة والعذاب كما هو شأن كثير من الناس بل هو عالم بكل شيء وحقيقته فنزل كل أحد في منزله ومرتبته.

* الأصل:

10 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن عيثم بن أشيم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وهو مستبشر يضحك سرورا فقال له الناس: أضحك الله سنك يا رسول الله وزادك سرورا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه ليس من يوم ولا ليلة إلا ولي فيها تحفة من الله، ألا وإن ربي أتحفني في يومي هذا بتحفة لم يتحفني بمثلها فيما مضى، إن جبرئيل أتاني فأقرأني من ربي السلام وقال: يا محمد إن الله عزوجل اختار من بني هاشم سبعة، لم يخلق مثلهم فيمن مضى ولا يخلق مثلهم فيمن بقي: أنت يا رسول الله سيد النبيين وعلي بن أبي طالب وصيك سيد الوصيين والحسن والحسين سبطاك سيدا الأسباط وحمزة عمك سيد الشهداء وجعفر ابن عمك الطيار في الجنة يطير مع الملائكة حيث يشاء ومنكم القائم يصلي عيسى بن مريم خلفه إذا أهبطه الله إلى الأرض من ذرية علي وفاطمة من ولد الحسين (عليهم السلام).

* الشرح:

(خرج النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم) الذات في مثله بمعنى النفس يقال: أتيت ذات يوم أي يوما كما صرح به في كنز اللغة (وهو مستبشر يضحك سرورا) قيل: الضحك حالة تغير يوجبها سرور يغلب فينشط لها عروق القلب فيجري فيها الدم فيفيض إلى سائر عروق الجسد فيثور لذلك حرارة ينبسط لها الوجه ويضيق وينفتح عنها الغم وهو التبسم فإذا زاد السرور تمادى ولم يضبط

ص:367

الإنسان نفسه قهقه (فقال له الناس أضحك الله سنك وزادك سرورا) السن الضرس بالكسر فيهما وجعله مفعول الإضحاك باعتبار أن الضحك منه يظهر أو بتضمين معنى الكشف (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه ليس من يوم ولا ليلة إلا ولي فيها تحفة) التحفة بالضم وكهمزة البر واللطف والطرفة اتحفه تحفة والغرض منه إظهار الشكر له عز وجل (والحسن والحسين سبطاك سيدا الأسباط) أي سيدا أسباط الأنبياء والسبط بالكسر ولد الولد ويندرج في هذا الحكم ساير الأئمة عليهم السلام.

(وحمزة عمك سيد الشهداء) لعل المراد بهم الشهداء في عصره (صلى الله عليه وآله) والحكم إضافي وإلا فسيد الشهداء على الإطلاق الحسين بن علي (عليهما السلام) (ومنكم القائم) ظهور القائم المهدي صاحب الزمان ونزول عيسى عليه السلام وصلاته خلفه مما اتفق عليه العامة والخاصة والروايات بين الكل متظافرة، أما طريق الخاصة فظاهر وأما طريق العامة ففي صحيح مسلم بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كيف إذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم» قال ابن العربي: ويعني بمنكم من قريش، وقيل: يعني الإمام المهدي الآتي في آخر الزمان الذي صح فيه حديث الترمذي من طريق ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تذهب الدنيا حتى يهلك العرب رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» ومن طريق أبي هريرة: «لو لم تبق من الدنيا إلا يوم لطوله الله حتى يلي..» وفي أبي داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «المهدي من عترتي من ولد فاطمة يعمل في الناس بسنة نبيهم» قال ابن العربي: وما قيل أنه المهدي بن أبي جعفر المنصور لا يصح فإنه وإن وافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه; فليس من ولد فاطمة وإنما هو المهدي الآتي في آخر الزمان.

فالعامة وافقونا في أن المهدي الموعود من ولد فاطمة عليها السلام لكنا نقول هو موجود غايب عن الأبصار وهم يقولون أنه يتولد في آخر الزمان.

* الأصل:

11 - سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان الديلمي المصري، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له قول الله عزوجل: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال: فقال: إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الناطق بالكتاب قال الله عزوجل: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال: قلت: جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا. فقال: هكذا والله نزل به جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) ولكنه فيما حرف من كتاب الله.

* الشرح:

قوله (عن محمد بن سليمان الديلمي المصري) هكذا في النسخ التي رأيناها وفي بعض كتب الرجال البصري بالباء الموحدة وفي بعضها النصري بالنون وهو وأبوه من كبار الغلاة

ص:368

(عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قلت له: قول الله عز وجل (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال:

فقال: إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق اه) حمل عليه السلام النطق على المعنى الحقيقي وهو التكلم باللسان وتقطيع الصوت بالحنجرة وتأليف الحروف على نحو مخصوص يشعر بما في الذهن والكتاب بوزن الحساب لا ينطق حقيقة وإن أمكن اتصافه بالنطق مجازا باعتبار أنه يظهر منه المقصود كما يظهر من النطق ولذلك حكم (عليه السلام) بأنه تحريف وأن المنزل هو كتابنا بفتح الكاف وشد التاء على صيغة المبالغة وهو العالم الذي بلغ علمه حد الكمال والمراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأوصياء بعده واحدا بعد واحد، ويحتمل أن يكون التحريف في ينطق بصيغة المعلوم بأن يكون المنزل هو المجهول والله يعلم.

* الأصل:

12 - جماعة، عن سهل عن محمد، عن أبيه [عن أبي محمد]، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل: (والشمس وضحيها) قال: الشمس رسول الله (صلى الله عليه وآله) به أوضح الله عزوجل للناس دينهم.

قال: قلت: (والقمر إذا تليها) قال: ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام) تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونفثه بالعلم نفثا،.

قال: قلت: (والليل إذا يغشيها)؟ قال: ذاك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمر دون آل الرسول (صلى الله عليه وآله) وجلسوا مجلسا كان آل الرسول أولى به منهم فغشوا دين الله بالظلم والجور فحكى الله فعلهم فقال: (والليل إذا يغشيها) قال: قلت (والنهار إذا جليها)؟ قال: ذلك الإمام من ذرية فاطمة (عليها السلام) يسأل عن دين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجيليه لمن سأله فحكى الله عزوجل قوله فقال: (والنهار إذا جليها).

* الشرح:

(قال سألته عن قول الله عز وجل (والشمس وضحيها) قال الشمس رسول الله (صلى الله عليه وآله) به أوضح الله عز وجل للناس دينهم) استعار الشمس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والوجه هو الإضاءة والإنارة وإيضاح الدين برفع ظلمة الجهل والفتن (قال قلت (والقمر إذا تليها) قال ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام) تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله)) استعار القمر لعلي (عليه السلام) والوجه أن نور علمه مستفاد من نور علم النبي (صلى الله عليه وآله) كما أن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد أشار إليه بقوله (ونفثه بالعلم نفثا) أي أوحى إليه العلم وألقاه إلى صدره اللطيف وأصل النفث النفخ (قال: قلت: (والليل إذا يغشيها) قال: ذلك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمر.. الخ) أي انفردوا واستقلوا بأمر الدين والخلافة غاصبين شبه أئمة الجور مثل الخلفاء وبني أمية وبني عباس وأضرابهم وأعوانهم بالليل في الظلمة

ص:369

وعدم اهتداء الخلق في خلافتهم إلى دين الحق وفي تغشية ظلمتهم نور النبي وهو دينه الحق كما يغشى ظلمة الليل ضوء النهار وإليه أشار جل شأنه بقوله (أو كظلمات في بحر لجي يغشيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) وقد مر تفسيره في كتاب الحجة (قال: قلت: (والنهار إذا جليها) قال: ذاك الإمام من ذرية فاطمة عليها السلام.. اه) فإن نور علم النبي (صلى الله عليه وآله) ودينه وقوانينه وآدابه يتجلى بالإمام القائم مقامه من ذرية فاطمة عليها السلام كما يتجلى نور الشمس إذا انبسط النهار فهو عليه السلام يشبه النهار في التجلية.

* الأصل:

13 - سهل، عن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: (هل أتيك حديث الغاشية)؟ قال: يغشاهم القائم بالسيف. قال: قلت: (وجوه يومئذ خاشعة)؟ قال: خاضعة لا تطيق الامتناع.

قال: قلت: (عاملة)؟ قال: عملت بغير ما أنزل الله، قال: قلت: (ناصبة)؟ قال: نصبت غير ولاة الأمر. قال: قلت: (تصلى نارا حامية)؟ قال: تصلى نار الحرب في الدنيا على عهد القائم وفي الآخرة نار جهنم.

* الشرح:

(سهل عن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام)) أعاده للإشارة إلى طريق آخر عنه أو للرواية عنه بلا واسطة وإن بعدت (قال: قلت: (هل أتيك حديث الغاشية) قال: يغشاهم القائم بالسيف) الغاشية الداهية التي يغشى الناس شدائدها أو النار كما في قوله تعالى: (تغشى وجوههم النار) شبهه عليه السلام بالداهية لأنه بلاء على أعدائه يورد عليهم الشدائد من القتل والأسر والنهب وغيرها أو بالنار لأنه يحرقهم بالسيف القاطع ويهلكهم كالنار (قال: قلت: (تصلى نارا حامية) أي شديد الحراة متناهية فيها (قال: تصلى نار الحرب في الدنيا.. الخ) أي تدخل تلك الوجوه في نار الحرب فتهلك كما يدخل الحطب في النار فتحرقه في تشبيه الحرب بالنار الحامية إشارة إلى كمال شوكة الصاحب (عليه السلام) ونهاية قدرته على المحاربة مع الأعداء.

* الأصل:

14 - سهل، عن محمد، عن أبيه، عن أبي بصير قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تبارك وتعالى:

(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)؟ قال: فقال لي: يا أبا بصير ما تقول في هذه الآية؟ قال: قلت: إن المشركين يزعمون ويحلفون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إن الله لا يبعث الموتى قال: فقال: تبا لمن قال هذا، سلهم هل كان المشركون يحلفون بالله أم باللات والعزى؟ قال: قلت: جعلت فداك فأوجدنيه.

ص:370

قال: فقال لي: يا أبا بصير لو قد قام قائمنا بعث الله إليه قوما من شيعتنا قباع سيوفهم على عواتقهم فيبلغ ذلك قوما من شيعتنا لم يموتوا فيقولون بعث فلان وفلان وفلان من قبورهم وهم مع القائم فيبلغ ذلك قوما من عدونا فيقولون: يا معشر الشيعة ما أكذبكم هذه دولتكم وأنتم تقولون فيها الكذب لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون إلى يوم القيامة. قال: فحكى الله قولهم فقال: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت).

* الشرح:

(فقال لي: يا أبا بصير ما تقول في هذه الآية؟) الظاهر أن تقول للخطاب أي ما تقول أنت يا أبا بصير في تفسير هذه الآية (قال: قلت: إن المشركين يزعمون ويحلفون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الله لا يبعث الموتى) أي ينكرون القيامة وحشر الناس فيها (قال: فقال: تبا لمن قال هذا) التب الهلاك والخسران ونصبه على المصدر بإضمار فعل أي ألزم الله هلاكا وخسرانا لمن فسر الآية به وهذا إما خبر أو دعاء وينبغي حمله في مثل أبي بصير على التوبيخ (سلهم) أي أهل العلم العارفين بأحوال المشركين.

(هل كان المشركون يحلفون بالله أم باللات والعزى؟) فإنهم يجيبونك أنهم إنما كانوا يحلفون بهما لا بالله فهذا التفسير ينافي قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (قلت جعلت فداك فأوجدنيه) أي بين لي المطلوب من الآية وأظفرني به حتى أعرفه من أوجد فلانا على مطلوبه إذا أظفره به وإنما قلنا: الظاهر أن (تقول) للخطاب لاحتمال أن يكون للغايبة وفاعله العامة ويؤيده قوله «سلهم» و «تبا» لأن الظاهر أن ضمير الجمع للعامة وأن التب لهم على الحقيقة لكنه احتمال بعيد إذ يأباه ظاهر قول أبي بصير «أوجدنيه» مع احتياجه إلى محذوف بغير قرينة ظاهرة فإن قوله «قلت: إن المشركين يزعمون» تقديره حينئذ قلت: يقولون: إن المشركين فليتأمل. (قال: فقال: يا أبا بصير لو قد قام قائمنا بعث الله إليه قوما من شيعتنا بعد موتهم قباع سيوفهم على عواتقهم) القباع بالكسر جمع قبيعة كسفينة وهو ما على طرف مقبض السيف من فضة أو حديد، وقيل: هي تحت شادتي السيف والعاتق المنكب (فيقولون يا معشر الشيعة ما أكذبكم هذه دولتكم وأنتم تقولون فيها الكذب) نسبوا الكذب إلى الشيعة في هذا القول وتعجبوا منه لزعمهم أن الرجعة باطلة وأن هذه الدولة القاهرة لا تحتاج إلى المعاونة بالموتى ثم قالوا ترويجا لكذبهم على سبيل المبالغة: (لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون إلى يوم القيامة) العيش الحياة عاش يعيش عيشا إذا حيى وأنت خبير بأن قولهم بإبطال الرجعة باطل إذ لا دليل لهم عقلا ونقلا على بطلانه مع دلالة الآيات والروايات على وقوعها في هذه الأمة وفي الأمم السابقة كما في حكاية عزير وموسى وعيسى عليهم السلام

ص:371

ومن البين أن الحكم بعد وجود شيء لا يستحيل وجوده عقلا باعتبار عدم وجدان الدليل على وجوده باطل فكيف إذا وجد الدليل عليه وأما عدم احتياج هذه الدولة القاهرة إلى الاستعانة بالموتى فممنوع وعلى تقدير التسليم يجوز أن يكون فائدة الرجوع إدخال السرور فيهم وتشفى صدورهم من مشاهدة نكال الأعداء واكتسابهم الأجر مرتين.

* الأصل:

15 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن بدر بن الخليل الأسدي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله عزوجل: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون) قال: «إذا قام القائم وبعث إلى بني أمية بالشام هربوا إلى الروم فيقول لهم الروم: لا ندخلنكم حتى تتنصروا فيعلقون في أعناقهم الصلبان فيدخلونهم فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا، قال: فيدفعونهم إليهم فذلك قوله: (لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون) قال: يسألهم الكنوز وهو أعلم بها، قال:

فيقولون (يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعويهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) بالسيف.

* الشرح:

(فلما أحسوا بأسنا.. الخ) البأس العذاب والشدة في الحرب والركض تحريك الرجل ومنه «اركض برجلك» والعدو استحثاث الفرس للعدو والهرب ومنه (إذا هم منها يركضون) والترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم الواسع في ملاذ الدنيا وشهواتها الذي لا يمنع من تنعمه والروم جيل من ولد روم بن عيصم والتنصر الدخول في النصرانية وهي دين النصارى والصليب للنصارى معروف وحضرة الرجل قربه وفناؤه والحصيد الزرع والمحصود بالمنجل وإطلاقه عليهم من باب الاستعارة والخمود السكون والسكوت، والأموي بفتح الميم وضم الهمزة وفتحها شاذ منسوب إلى أمية بحذف التاء والياء الزائدة وقلب الأخيرة واوا لكراهة اجتماع أربع ياءات وثلاث أيضا والرحبة بالضم قرية حد القاسية وناحية بالمدينة والشام قرب وادي القرى وبالفتح قرية بدمشق ومحلة بها أيضا محلة بالكوفة وموضع ببغداد.

ص:372

رسالة أبي جعفر (عليه السلام) إلى سعد الخير

* الأصل:

16 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع، والحسين بن محمد الأشعري، عن أحمد بن محمد أبي عبد الله، عن يزيد بن عبد الله، عمن حدثه قال: كتب أبو جعفر (عليه السلام) إلى سعد الخير:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله عزوجل يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله، وبالتقوى نجا نوح ومن معه في السفينة وصالح ومن معه من الصاعقة، وبالتقوى فاز الصابرون ونجت تلك العصب من المهالك ولهم إخوان على تلك الطريقة يلتمسون تلك الفضيلة، نبذوا طغيانهم من الإيراد بالشهوات لما بلغهم في الكتاب من المثلات، حمدوا ربهم على ما رزقهم وهو أهل الحمد وذموا أنفسهم على ما فرطوا وهم أهل الذم وعلموا أن الله تبارك وتعالى الحليم العليم إنما غضبه على من لم يقبل منه رضاه وإنما يمنع من لم يقبل منه عطاه وإنما يضل من لم يقبل منه هداه، ثم أمكن أهل السيئات من التوبة بتبديل الحسنات، دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوت رفيع لم ينقطع ولم يمنع دعاء عباده فلعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله وكتب على نفسه الرحمة فسبقت قبل الغضب فتمت صدقا وعدلا فليس يبتدئ العباد بالغضب قبل أن يغضبوه وذلك من علم اليقين وعلم التقوى وكل امة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية وكان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى وأصدروهم إلى الردى وغيروا عرى الدين، ثم ورثوه في السفه والصبا، فالأمة يصدرون عن أمر الناس بعد أمر الله تبارك وتعالى وعليه يردون، فبئس للظالمين بدلا ولاية الناس بعد ولاية الله وثواب الناس بعد ثواب الله ورضا الناس بعد رضا الله فأصبحت الامة كذلك وفيهم المجتهدون في العبادة على تلك الضلالة، معجبون، مفتنون فعبادتهم فتنة لهم ولمن اقتدى بهم؟ وقد كان في الرسل ذكرى للعابدين إن نبيا من الأنبياء كان يستكمل الطاعة، ثم يعصي الله تبارك وتعالى في الباب الواحد يخرج به من الجنة وينبذ به في بطن الحوت، ثم لا ينجيه إلا الاعتراف والتوبة، فاعرف أشباه الأحبار والرهبان الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه فما

ص:373

ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، ثم اعرف أشباههم من هذه الامة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرفوا حدوده فهم مع السادة والكبرة فإذا تفرقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنيا وذلك مبلغهم من العلم، لا يزالون كذلك في طبع وطمع لا يزال يسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير يصبر منهم العلماء على الأذى والتعنيف ويعيبون على العلماء بالتكليف والعلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة إن رأوا تائها ضالا لا يهدونه أو ميتا لا يحيونه، فبئس ما يصنعون لأن الله تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به وأن ينهوا عما نهوا عنه وأن يتعاونوا على البر والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، فالعلماء من الجهال في جهد وجهاد، إن وعظت قالوا: طغت وإن علموا الحق الذي تركوا قالوا: خالفت وإن اعتزلوهم قالوا: فارقت، وإن قالوا: هاتوا برهانكم على ما تحدثون قالوا: نافقت.

وإن أطاعوهم قالوا: عصيت الله عزوجل، فهلك جهال فيما لا يعلمون، أميون فيما يتلون، يصدقون بالكتاب عند التعريف ويكذبون به عند التحريف فلا ينكرون، اولئك أشباه الأحبار والرهبان قادة في الهوى، سادة في الردى، وآخرون منهم جلوس بين الضلالة والهدى لا يعرفون إحدى الطائفتين من الأخرى، يقولون: ما كان الناس يعرفون هذا ولا يدرون ما هو؟ وصدقوا تركهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على البيضاء ليلها من نهارها، لم تظهر فيهم بدعة ولم يبدل فيهم سنة لا خلاف عندهم ولا اختلاف فلما غشى الناس ظلمة خطاياهم صاروا إمامين: داع إلى الله تبارك وتعالى وداع إلى النار فعند ذلك نطق الشيطان فعلا صوته على لسان أوليائه وكثر خيله ورجله وشارك في المال والولد من أشركه فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنة ونطق أولياء الله بالحجة وأخذوا بالكتاب والحكمة فتفرق من ذلك اليوم أهل الحق وأهل الباطل وتخاذل وتهاون أهل الهدى وتعاون أهل الضلالة حتى كانت الجماعة مع فلان وأشباهه فاعرف هذا الصنف، وصنف آخر فأبصرهم رأي العين نجباء وألزمهم حتى ترد أهلك، فإن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. إلى ههنا رواية الحسين وفي رواية محمد بن يحيى زيادة:

لهم علم بالطريق فإن كان دونهم بلاء فلا تنظر إليه فإن كان دونهم عسف من أهل العسف وخسف ودونهم بلايا تنقضي ثم تصير إلى رخاء، ثم اعلم أن إخوان الثقة ذخائر بعضهم لبعض ولولا أن تذهب بك الظنون عني لجليت لك عن أشياء من الحق غطيتها ولنشرت لك أشياء من الحق كتمتها ولكني أتقيك وأستبقيك وليس الحليم الذي لا يتقي أحدا في مكان التقوى، والحلم

ص:374

لباس العالم فلا تعرين منه والسلام.

* الشرح:

(رسالة أبي جعفر (عليه السلام)) إلى سعد الخير الرسالة بالكسر والفتح اسم من الإرسال وفي كنز اللغة:

رسالة كتاب ونامه، وسعد الصاحب لأبي جعفر (عليه السلام)، كثير ولم أعرف أحدا منهم بهذا اللقب والمصنف نقلها بطريقين أحدها عن محمد بن يحيى إلى حمزة بن بزيع، والثاني عن الحسين بن محمد الأشعري وعلى هذا كان الأنسب أن يقول: قالا: كتب أبو جعفر (عليه السلام) بتثنية الضمير وإفراده بعيد وإن كان صحيحا (بسم الله الرحمن الرحيم) على استحباب تصدير الرسالة والمكاتيب بالتسمية كما أمر.

(أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله) تقواه تعود إلى خشيته المستلزمة للامتثال بأمره ونهيه والاتصاف بالكمالات النفسانية ثم رغب فيها بذكر فوائدها فقال (فإن فيها السلامة من التلف) أي الهلاك بالآفات والشهوات والخصومات والآمال والخزي والنكال ولفظة «في» للنظر فيه أو للسببية (والغنيمة في المنقلب) أي الآخرة وهي النجاة من عقوباتها والوصول إلى مقام السعادة والنزول في دار الكرامة التي أعدت للمتقين كما نطق به القرآن المبين، وإلى مضمون هاتين الفقرتين أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «واستعينوا بها - أي بالتقوى - على الله فإن التقوى في اليوم حرز وجنة وفي غد الطريق إلى الجنة». ثم علل مضمون كل واحدة منهما وآكده بقوله: «إن الله عز وجل يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله» أي ما بعد عن إدراكه عقله من خزي الآخرة وعقوباتها وآفات الدنيا ومهلكاتها كما يظهر مما بعد ومن الفكير في أحوال الصالحين والظالمين وما ورد عليهم مما دلت عليه الآيات والروايات (ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله) في القاموس: جلى فلانا الأمر كشفه عنه كجلاه وجلى عنه أي يكشف بسبب التقوى عن العبد حجاب الجهل ولوازمه فيدرك المعارف والأسرار والحقايق وما فيه صلاح الدنيا والآخرة ويحترز من الأقوال الكاذبة والأعمال الفاضحة والعقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة وهكذا يسير بعلم ويقين إلى أن يبلغ مقام الأنس ومنزل القرب والتقوى وإن كان حصولها موقوفا على علم وعمل لكنه بعد العلوم وإعمال غير محصورة كما لا يخفى على العارفين.

(وبالتقوى نجى نوح ومن معه في السفينة) من الغرق ونجى (صالح ومن معه من الصاعقة) في القاموس: الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب والمخراق الذي بيد الملك سائق الحساب ولا يأتي على شيء إلا أحرقه أو نار يسقط من السماء. وفيه دلالة على أن التقوى وإن لم

ص:375

يكن في نهاية الكمال حرز من التلف والهلاك ضرورة أن تقوى قوم نوح وقوم صالح لم يكن في مرتبة تقواهما بل على أن التقوى هي تصديق الرسول ومتابعته في جميع ما جاء به فالشيعة مشتركون في أصل التقوى وإن اختلفوا في درجاتها (وبالتقوى فاز الصابرون) الفوز النجاح والظفر فازمنه نجا وفاز به ظفر أي نجى الصابرون على تحمل البليات والطاعات وترك المنهيات والمشتهيات من المهلكات الدنيوية والعقوبات الاخروية أو ظفروا بالخيرات الحاضرة والمثوبات الوافرة في الدنيا والآخرة (ونجت تلك العصب من المهالك) العصب محركة خيار القوم وأشرافهم والمراد بهم نوح وصالح ومن معهما والصابرون على الشدائد من الأمم السابقة (ولهم) أي لنوح وصالح ومن تبعهما من الصابرين والصالحين (إخوان على تلك الطريقة) المستقيمة وهي التقوى والامتثال بالأوامر والنواهي وتطهير الظاهر والباطن (يلتمسون تلك الفضيلة) أي النجاة من التلف والغنيمة في المنقلب والطريقة المذكورة فيكون تأكيدا أو طلبا لبقائها واستمرارها أو زيادتها ولعل المراد بالإخوان أرباب الإيقان من أصحاب الرسول وأمير المؤمنين وأولاده الطاهرين عليهم السلام ومن تبعهم إلى يوم الدين (نبذوا طغيانهم من الإيراد بالشهوات) زايدة عن قدر الضرورة وفي بعض النسخ «الالتذاذ» بدل الإيراد (لما بلغهم في الكتاب من المثلات) هي بضم الثاء العقوبات الواقعة على أرباب العصيان والجنايات وأصحاب الطغيان في الشهوات كما دل عليه كثير من الآيات وحفظوا أنفسهم من تلك الخطرات (حمدوا ربهم على ما رزقهم) من التقوى والتوفيق للخيرات والعصمة من اللذات المهلكات (وهو أهل الحمد) بالذات وبما أعطاهم من القدرة على الطاعات والتوفيق لها وغير ذلك من الألطاف والنعم التي لا تحصى.

(وذموا أنفسهم على ما فرطوا وهم أهل الذم) لأنهم وإن بالغوا في طاعة ربهم كانوا بعد مقصرين ولم يأتوا بما هو حقه ولذلك لم يكن أحد من الأولياء إلا وهو معترف بالتقصير وينبغي أن يعلم أن بناء الرشاد والتقوى على ثلاثة أمور: الأول قبول الهادي وهدايته وهو النبي والوصي عليهما السلام، الثاني قبول ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) من الأوامر والنواهي وغيرهما، الثالث قبول ما أراد بالأمر والنهي من العمل بالطاعات وترك المنهيات فأشار عليه السلام إلى الثالث بقوله: (واعلموا أن الله تبارك وتعالى الحليم العليم) في ذكر هذين الوصفين ترغيب في قبول ما يلقى إليهم أما العلم فظاهر وأما الحلم فلأن أخذ الحليم شديد كما اشتهر «اتقوا من غضب الحليم» (إنما غضبه على من لم يقبل منه رضاه) أي ما يوجب رضاه من الطاعات وترك المنهيات، وأشار إلى الثاني بقوله (وإنما يمنع) أي الرحمة (من لم يقبل منه عطاء) وهو ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) من دينه الحق لأنه عطية منه تعالى إلى عباده ومتضمن لمصالحهم وأشار إلى الطريق وأعرض عن هدايته ضل عنه ثم رغب في التوبة بقوله (ثم أمكن أهل السيئات من التوبة) بتبديل الحسنات في كنز اللغة:

ص:376

الإمكان دست دادن أي أمكن أهل السيئات مطلقا من التوبة والندامة منها بتبديل سيئاتهم حسنات لأن أصل التوبة الخالصة والعفو عن السيئة بعدها والثواب بها ومحبة الله تعالى لأهلها وستره عليه حتى لا يعلم أحد سيئاته كيلا يخجل حسنات مبدلة من السيئات روى المصنف بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».

أقول: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى يزيل تلك الذنوب عن باله وينسيه أيضا لئلا يستحيي منه تعالى بذكرها (دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوت رفيع لم ينقطع) إلى قيام الساعة في مواضع عديدة منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) هي أن يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه ومنها قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) (ولم يمنع دعاء عباده) من القبول بل وعده به في قوله: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) وفي قوله (ادعوني استجب لكم) وفي قوله: (فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) (فلعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله) من الأمر بأداء حقوق ذوي القربى ومودتهم وإطاعتهم وولايتهم والإقرار بفضائلهم وغير ذلك مما ذكر في القرآن الكريم (وكتب على نفسه الرحمة) أي فرضها أو قدرها وهي تستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة وهو المراد هنا لأن الله الملك المتعال لا يوصف برقة الطبع والانفعال.

(فسبقت قبل الغضب) أي سبقت الرحمة إليه تعالى من حيث الصدور أو إلى الخلق من حيث الوقوع قبل الغضب ووصلت قبل وصوله ألا ترى أن بداية نوع الإنسان مثلا ووجوداته وكمالاته بمحض الرحمة والإحسان، ثم الغرض من إيجاده وهو رجوعه إليهما وأن نزول الغضب والعقوبة عليه إنما هو لسوء عمله ومن هنا يظهر أن الرحمة سابقة على الغضب بمراحل (فتمت صدقا وعدلا) لعل المراد بتمامية صدق الرحمة وعدلها وقوعها في موقعها على وجه الصواب إذ لا يتصور الخطأ من رحمته تعالى بخلاف رحمة الإنسان بعضهم بعضا ومن رحمته تعالى أن جعل لعباده خليفة وأوجب طاعتهم له ليستحقوا بذلك الرحمة ثم أشار إلى سبقها على الغضب بقوله:

(فليس يبتدي العباد بالغضب قبل أن يغضبوه) ويفعلوا ما يوجب غضبه وعقوبته كما يبتديهم بالرحمة قبل أن يفعلوا ما يوجب استحقاقهم بها كما عرفت من إحسانهم في الإيجاد وإعطائهم

ص:377

لوازم الوجودات (وذلك من علم اليقين وعلم التقوى) أن ذلك العلم المذكور وهو العلم بأن غضبه على من لم يقبل منه رضاه إلى آخره من علم اليقين الذي لا ريب فيه وعلم التقوى الذي للمطيع الخالص عن شبهات الأوهام (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه) أن طرحوه من وراء ظهورهم وحين ظرف للرفع وقيد للمبتدأ أيضا والمراد بعلم الكتاب العلم بمواعظه ونصايحه ومجمله ومفصله ومحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه وناسخه ومنسوخه إلى غير ذلك من العلوم المندرجة فيه التي بها يتم نظام الخلق في الدنيا والآخرة وأعظمها العلم بالولاية (وولاهم عدوهم حين تولوه) أي جعل واليهم عدوهم الديني الذي يتبرؤون منه في الآخرة ويلعنونه لإضلاله إياهم حين تولوا ذلك العدو وأحبوه أو حين تولوا الكتاب وأدبروا عنه وأعرضوا عن علمه فإن التولي يجيء لكلا المعنيين. والمراد بجعله واليا لهم التخلية بينهم وبين أنفسهم الأمارة حتى يجعلوه واليا (وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه) وكلماته وإعرابه وصححوها وحفظوها عن التصحيف والتحريف (وحرفوا حدوده) وأحكامه وجعلوا حلاله حراما وحرامه حلالا وولاية الحق مردودة وولاية الباطل مقبولة (فهم يروونه) بضبط حروفه ومبانيه.

(ولا يرعونه) بحفظ حدوده ومعانيه مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا بل هو أقبح حالا من الحمار لأن الحمار لا يحرف ما حمله وهم يحرفون (والجهال يعجبهم حفظهم للرواية) لظنهم أنه العلم (ولا يحزنهم تركهم للرعاية) لأنهم غافلون وسيورثهم حسرة يوم القيامة وهم نادمون والمراد بالجهال هم النابذون وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتصريح بأنهم الجاهلون (والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية) على ما ينبغي فكم من فرق بين الجاهل والعالم؟! حيث أن الجاهل مع كمال جهله ونقصه في العلم والعمل يعجبه ما ليس يعلم ولا عمل في الحقيقة والعالم مع كمال علمه وعمله وروايته ودرايته ورعايته محزون خوفا من التقصير فيها (وكان من نبذهم الكتاب أن ولوا الذين لا يعلمون) معالم الدين أو ليس لهم حقيقة العلم وأعرضوا عن الذين يعلمون ورفضوا قوله تعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وغيره من الآيات الدالة على وجوب متابعة أهل العلم وفي بعض النسخ «ولوه» بالضمير وهو عايد إلى الكتاب أو الدين أو أمر الخلافة (فأوردوهم الهوى) النفساني وهو الباطل من العقايد والأعمال وأصله ميل النفس إلى مقتضاها من المشتهيات الموجبة للخروج عن الحدود الشرعية (وأصدروهم إلى الردى) وهو الهلاك في الآخرة والاصدار الارجاع من الصدر وهو الرجوع (وغيروا عرى الدين) التي هي أركانه وأحكامه وقوانينه المشبهة بالعروة في أن المتمسك بها متمسك بالدين وحامل له، ثم أشار إلى أنهم لم يختصوا الإيراد إلى الهوى والإصدار إلى الردى وتغيير العرى مختصا بأنفسهم بل جعلوه من القوانين، وأدرجوا في الدين وورثوه من بعدهم من المفسدين بقوله (ثم ورثوه في السفه والصبا)

ص:378

في للتأكيد كما في قوله تعالى: (اركبوا فيها بسم الله مجريها) أو متعلق بالتوريث بتضمين معنى الجعل أو الوضع.

والسفه محركة الجهل والخشونة والطيش وخفة العمل وضد الحلم والصبا بالكسر من الصبوة وهي الميل إلى الجهل وفتوة الجهلة وفعله من باب نصر وبالفتح اللعب مع الصبيان وفعله من باب علم وهذا الذي ذكره عليه السلام ظاهر لمن نظر في أحوالهم وأحوال خلفائهم فإنهم أورثوا جميع ما ابتدعوه خلفاء بني أمية وبني عباس وعلمائهم الأربعة ومن تبعهم إلى قيام القائم (عليه السلام) (فالأمة) التابعون (يصدرون عن أمر الناس) مع كدورة مشربهم بعد أمر الله تبارك وتعالى بولاية وليه أمير المؤمنين (عليه السلام) (وعليه يردون أمره) ويأخذون أمر الناس والظاهر أن الواو للحال عن فاعل يصدرون ثم أشار إلى الذم العام للجميع بقوله (بئس للظالمين) التي اختاروها لأنفسهم بنصب الجاهل (بعد ولاية الله) التي اختارها لهم وهي ولاية أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين الذين هم أساس الدين وعماد اليقين ولهم خصايص الولاية كلها (وثواب الناس) أي أجرهم وأخذ ما في أيديهم من متاع الدنيا (بعد ثواب الله) الباقي الدائم من غير نقص ولا انقطاع (ورضا الناس بعد رضا الله) الذي لا يحصل إلا بقبول أمره ونهيه وطاعته (فأصبحت الأمة لذلك) المراد بالأمة الأمة الضالة المضلة والتابعون لهم وأصبح بمعنى صاروا (لذلك) أو «كذلك» كما في بعض النسخ خبره وذلك إشارة إلى نبذهم الكتاب وتحريفهم حدوده وغيرهما من صفاتهم الذميمة المذكورة (وفيهم المجتهدون) في العبادة مثل الصلاة والحج والصوم والجهاد ونحوها وإنما سماها عبادة للصورة الظاهرة أو لكونها عبادة عندهم وإلا فبينها وبين العبادة المطلوبة له تعالى بون بعيد وفيه تنبيه على أن عبادتهم واجتهادهم فيها لا ينفعهم كعبادة اليهود والنصارى غيرهما من أصحاب الملل الباطلة (على تلك الضلالة) المبنية على الجهالة ولما كان هنا مظنة أن يقال: ما سبب اجتهادهم في العمل مع فساد عقيدتهم؟ أجاب عنه بقوله (معجبون) بعملهم بتزيين الشيطان له ليزداد حسرتهم يوم القيامة حين يرونه هباء منثورا (مفتونون) لافتتان الشيطان لهم وإضلال بعضهم بعضا بالحث عليه والميل إليه (فعبادتهم فتنة لهم) أي محنة وبلية ابتلوا بها مع مشقة شديدة أو سبب لزيادة ميلهم عن الحق إلى الباطل من فتن المال الناس من باب ضرب فتونا استمالهم إلى مفاسده ولمن اقتدى بهم كما هو شأن خلفهم من متابعة سلفهم تقليدا لأعمالهم الفاسدة وعقائدهم الباطلة من غير نظر إلى أن أمثالهم الماضين وشيوخهم العاصين كانوا في ضلال مبين فصارت عبادة المتبوع فتنة وبلية للتابع أيضا (وقد كان في الرسل.. الخ) فيه حث بليغ لأرباب الذنوب على الاستغفار والتوبة والاعتراف بالتقصير وتحذير شديد لأصحاب المعاصي في العقائد والأعمال من غير بنائهما على علم ويقين فإن من تصور ما جرى على آدم ويونس عليهما السلام بالزلة الواحدة والمعصية

ص:379

الصغيرة التي هي خلاف الأولى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام يكون على وجل شديد من المعاصي العظيمة خصوصا إذا تعاقبت وتكاثرت ويحكم بأنها سبب تام للمنع من دخول الجنة فكيف يطمع دخولها مع بقائه على تلك المعاصي وعدم تداركه بالتوبة والاستغفار والاعتراف.

(فاعرف أشباه الأحبار والرهبان) نفى عنهم الحبر والترهب أعني العلم والتعبد والتزهد لعدم اتصافهم بهما وإنما الموجود فيهم هو صورتهم المحسوسة وزيهم وهيئتهم المقتضية لتشبيههم بالأحبار والرهبان (الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه) أي بكتمان ما في التوراة والإنجيل من الحلال والحرام ونعت النبي (صلى الله عليه وآله) وتحريف ذلك لإخفاء الحق وإظهار الباطل (فما ربحت تجارتهم) التجارة استعارة لأعمالهم والربح ترشيح لها أي بطل بسبب الكتمان والتحريف المقتضيين لكفرهم جميع أعمالهم الدينية فلا فائدة لها في الآخرة وذلك هو الخسران المبين (وما كانوا مهتدين) إلى سبيل التجارة لأن المقصود منها طلب الربح بحفظ رأس المال وهو هنا الإيمان وهم قد أضاعوه (ثم اعرف أشباههم من هذه الأمة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرفوا حدوده) وانحرفوا عن منهج الإيمان فصاروا مثل هؤلاء حذو النعل بالنعل فما كانت تجارتهم رابحة كتجارتهم فإن سنة الله تعالى لا تختلف بل تجري في اللاحقين كما جرت في السابقين ولن تجد لسنة الله تحويلا (فهم مع السادة والكبرة) يدورون معهم حيث داروا وينقادون لهم في كل ما أرادوا طمعا فيما عندهم من متاع الدنيا ويتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال عز وجل حكاية: (قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فاضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا).

وفي بعض النسخ «والكثرة» بالثاء المثلثة (فإذا تفرقت) وتعددت (قادة الأهواء) هم المشغوفون بالأهواء والآراء القائدون لمن تبعهم إليها (كانوا مع أكثرهم دنيا) لأن مطلوبهم عنده أكثر وحصوله منهم أعظم وأوفر كما هو المعروف من شأن إخوان الشيطان وأطوار أبناء الزمان وفيه ذم للمفتي بالرأي ومن تبعه من هذه الأمة (وذلك مبلغهم من العلم) أي غايتهم وحاصلهم منه.

(لا يزالون كذلك في طمع) في الدنيا ومتاعها وما في أيدي الناس (وطبع) هو بالسكون الختم في الطين ونحوه وليس هنا ختم في الحقيقة وإنما المقصود بيان أنه حدثت في قلوبهم هيئة تمنعها من دخول الحق فيها وقبولها إياه كالختم المانع من دخول الشيء في المختوم وبالتحريك الوسخ الشديد من الصدأ والدنس والشين والعيب ودناءة الخلق وقلة الحياء ثم استعمل فيما يشبه ذلك من الآثام والأوزار وغيرها من القبايح، وفي النهاية: «أعوذ بالله من طمع يهدي إلى طبع» أي إلى شين وعيب (فلا يزال يسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير) جعل صوتهم صوت إبليس كأنه نشأ من نفثه في صدورهم وإلهامه في قلوبهم حتى صار صوتهم بغير الحق وإفتاؤهم بالباطل صوته لكماله في السببية وفي «على» دون «من» تنبيه على استيلائه عليهم وكونهم مقهورين

ص:380

لحكمه ثم أشار إلى ذمهم بوجه آخر غير خروجهم من الدين وتخريبه بآرائهم الفاسدة وهو إيذاؤهم أهل العلم وتشديدهم عليهم بقوله (يصير منهم العلماء على الأذى والتعنيف) أي على أذيهم وإضرارهم وتعنيفهم وتشديدهم والعنف ضد الرفق عنف ككرم عليه وبه إذا لم يرفق به وأعنفه وعنفه تعنيفا إذا بالغ في الغلظة والشدة عليه وفي بعض النسخ «التعسف» وهو الظلم يقال:

عسف السلطان إذا ظلم أو الميل عن منهج الصواب (ويعيبون على العلماء بالتكليف) أي بتكليف العلماء إياهم بالأحكام الشرعية والاتباع للحق ورفض الباطل ثم أشار إلى أن للعلماء امتحانا آخر هو سبب لامتحان المذكور أعني تحمل الأذى والتعنيف من الجهال وهو وجوب أداء الأمانة بالوعظ والأمر والنهي بقوله (والعلماء في أنفسهم خانة) جمع خائن أصلها خونة قلبت الواو ألفا (إن كتموا النصيحة) في أمر الدين والدنيا وهي الرشاد إلى ما هو خير وصلاح فيهما.

(إن رأوا تائها ضالا لا يهدونه) هداية التائه المتحير في أمره والهالك الواقع في بلية ومصيبة والضال الخارج عن طريق الحق أو الواقف بين الحق والباطل واجبة على العالم مع الإمكان وهي من الأمانات التي تركها خيانة (أو ميتا لا يحيونه) المراد بالميت من لم يستكمل نفسه بالكمالات العقلية من العلوم والأخلاق والآداب الشرعية ولم يعمل بها ولم يزهد في الدنيا وزهراتها المضلة الفانية (فبئس ما يصنعون) الذم للعلماء بالخيانة وترك النصيحة أو للجهال أيضا بإيذائهم وعدم إجابتهم لأن الله تعالى كما أخذ على العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك أخذ على الجهال القبول والإجابة وأخذ على الجميع المعاونة على البر والتقوى وعدم المعاونة على الإثم والعدوان.

(فالعلماء من الجهال في جهد وجهاد) أي في جهد ومشقة من أذاهم وتعنيفهم وعيبهم وعدم إجابتهم وفي جهاد معهم ظاهرا وباطنا من الأقوال الناصحة لهم والكلمات الوافية والأفكار الصحيحة في تطويعهم إلى الحق وصرف قلوبهم من الباطل، ثم أشار إلى الجهد والجهاد بقوله (إن وعظت قالوا: طبعت) أي دنست وخبثت ووسخت لزعمهم أن هذا الوعظ باطل دنس، وفي بعض النسخ «طغت» من الطغيان وهو الخروج عن الحق وضمير التأنيث للعلماء باعتبار الجماعة (وإن علموا الحق الذي تركوا قالوا خالفت) الحق لزعمهم أن باطلهم حق (وإن اعتزلوهم قالوا فارقت) أهل السنة والجماعة (وإن قالوا هاتوا برهانكم على ما تحدثون) من الأقاويل حتى نتبعكم إن كنتم صادقين (قالوا: نافقت) أي ماتت وهلكت لزعمهم أن مطلوبهم من ضروريات الدين حتى أن طالب البرهان عليه هالك أو فعلت فعل المنافق لإظهار الإسلام وإبطان الكفر بإنكار مطلوبهم فهو على الأول من النفوق وهو الموت وعلى الثاني من النفاق وهو فعل المنافق (وإن أطاعوهم قالوا) على سبيل الإلزام (عصيت الله عز وجل) فقد أشار (عليه السلام) إلى أن

ص:381

أحوال الجهال منقلبة متفرقة لا يقدر العالم على حسن السلوك معهم بوجه ذلك (فهلك جهال) التنكير للتحقير (فيما لا يعلمون) من فساد عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم وأطوارهم فهم جهال بجهلهم وهو الجهل المركب المهلك (أميون) منسوبون إلى الأم (فيما يتلون) من الكتاب ولا يفهمون معناه كالمتولد من الأم الذي هو في مرتبة العقل الهيولاني (يصدقون بالكتاب عند التعريف ويكذبون به عند التحريف) أي تحريف معانيه وصرفها إلى غير المقصود منه كما هو شأنهم في تفسير كثير من الآيات الكريمة مثل آية الطاعة وآية الولاية ونحوهما (فلا ينكرون) الظاهر أنه معلوم من الإنكار أو النكر والنكور والنكير وفعله من باب علم وفي القاموس: نكر الأمر فلان كفرح نكرا ونكرا ونكورا ونكيرا وأنكره واستنكره وتناكره جهله والمنكر ضد المعروف وفي كنز اللغة: إنكار ونكر ونكورا نا شناختن ونكير نا خوش داشتن أي لا يستقبحون ذلك بل يعدونه حسنا أو لا يعلمون أنه جهل بل يعتقدون أنه علم، وإنما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون مجهولا من الإنكار (أولئك أشباه الأحبار والرهبان) الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريف حدوده.

(قادة في الهوى سادة في الردى) لأنهم أرباب الأهواء النفسانية وأصحاب الآراء الشيطانية قائدون لهم إلى المهلكات الدنيوية والاخروية، ولما أشار إلى صنفين منهم الأئمة المضلة والمأمومين لهم أراد أن يشير إلى صنف ثالث منهم وهم المستضعفون فقال (وآخرون منهم جلوس بين الضلالة والهدى) أن بين طريق الباطل وطريق الحق ولا يميزون بين أهل الهداية والضلالة ولا بين صلاح أحدهما وفساد الآخر (لا يعرفون إحدى الطائفتين من الأخرى) فلا يكونون من هؤلاء ولا من هؤلاء بل واقفون مترددون يقولون (ما كان الناس) في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) (يعرفون هذا) أي هذا الاختلاف بين الأمة في أمرا لدين حيث لم يكن فيهم (ولا يدرون ما هو) الظاهر أنه عطف على ما يقولون أي ولا يدري الآخرون الجالسون ما هذا الاختلاف ولا أي شيء سببه والعطف على يعرفون (وصدقوا) في هذا القول وهو أنه لم يكن اختلاف بين الأمة في عهده (صلى الله عليه وآله) واعلم أن هذا الصنف هو الثالث فيما روي من أن عليا عليه السلام باب الله من دخل فيه فهو مؤمن ومن خرج منه فهو كافر ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه فهو مستضعف في مشيئة الله تعالى. ثم أشار عليه السلام من باب الاستيناف إلى سبب صدقهم وسبب الاختلاف بعده (صلى الله عليه وآله) بقوله (تركهم) أي الأمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قبض (على البيضاء ليلها من نهارها) أي على الملة البيضاء ليلها متميزة من نهارها وهذا يحتمل وجهين الأول أن يراد بالنهار ظاهر الملة وبالليل باطنها لخفائه بالنسبة إلى الظاهر بحيث لا يهتدي إليه كل أحد، الثاني أن يراد بالنهار الحق وبالليل الباطل والبدعة بتشبيه الحق بالنهار والبدعة بالليل في الظلمة وإضافتها إلى الملة باعتبار أن الملة كاشفة

ص:382

مبينة لها والله أعلم (لم تظهر فيهم بدعة) هي ما لم يكن في عهده (صلى الله عليه وآله) وكان مخالفا لما جاء به (ولم تبدل فيهم سنة) هي ما جاء به (صلى الله عليه وآله) ويمكن أن يراد بالبدعة ولاية الجور وبالسنة ولاية الحق، الأولى لم تكن حينئذ والثانية لم تبدل (لا خلاف عندهم) حينئذ في السنة (ولا اختلاف) في الولاية والإمامة بل كانوا كلهم على سنة واحدة وولاية واحدة هي ولاية علي (عليه السلام) طوعا أو كرها أو غير مظهرين لخلافه.

(فلما غشي الناس ظلمة خطاياهم) حين قبض النبي (صلى الله عليه وآله) والتغشية التغطية والغشاوة بالكسر الغطاء شبه الخطايا بالليل وأثبت لها الظلمة مكنية وتخييلية أو شبهها بالظلمة والتركيب من باب لجين الماء ووجه التشبيه هو تحير الناس فيها وعدم اهتدائهم إلى المقصود لضرب الحجاب بينهم وبينه (صاروا إمامين داع إلى الله تعالى) أي إلى طريقه وأسباب التقرب منه وهو علي عليه السلام بأمر الله تعالى وأمر رسوله (صلى الله عليه وآله) (وداع إلى النار) أي إلى أسباب الدخول فيها وهو الأول وأخواه فعند ذلك (نطق الشيطان) في النار لحصول رجائه في إضلالهم وكمال ظنه في إغوائهم كما قال عز وجل: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين).

(فعلا صوته) الحادث من أوتار النغمات المنصوبة على طنبور الخيالات، المحركة إلى أنواع الشهوات (على لسان أوليائه) من الجن والإنس ودعاهم إلى الباطل وزينه في قلوبهم فمالوا إليه (وكثر خيله ورجله) الخيل الفرسان والمراد بهم أصحاب الشوكة والقدرة على المكر والخدعة واستعمال الرأي في وضع القوانين الباطلة، والرجل ككتف من لا ظهر له يركبه، والمراد بهم الضعفاء والتابعون لهم في باطلهم (وشارك الشيطان) في المال والولد (من أشركه فيهما) فحملهم على كسب الأموال من طرق الحرام والتصرف فيها فيما لا ينبغي وعلى تحصيل الولد بالسبب الحرام كجعل مال الإمام مهور النساء وقيم السراري وأمثال ذلك، وقد روي «إن أكثر المخالفين من أولاد الزنا» (فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنة) ضمير «عمل» راجع إلى الموصول والعمل بالبدعة مستلزم لتركهما بالضرورة ولذلك قال سيد الوصيين: «ما أحدثت بدعة إلا تركت بها سنة» (ونطق أولياء الله بالحجة) وهم الأوصياء عليهم السلام ومن تبعهم، والمراد بالحجة البرهان الدال على الحق (وأخذوا بالكتاب والحكمة) التي قال الله تعالى في وصفها وتعظيم أهلها: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) وهي في لسان الشرع العلم النافع في الآخرة وقد يطلق على ما هو أعم من ذلك (فتفرق من ذلك اليوم) الذي قبض فيه صلى الله عليه وآله وتركهم (أهل الحق وأهل الباطل) سلك أهل الحق مسلك الحجة والإيمان وأهل الباطل مسلك الرأي والشيطان.

(وتخاذل وتهاون أهل الهدى) فاعل الفعلين على سبيل التنازع والمراد أن أهل الهدى تخاذلوا وتهاونوا وتركوا النصرة والتعاون بينهم ولولا ذلك لما غلب الضلالة عليهم وفيه نوع شكاية من

ص:383

التابعين لعلي (عليه السلام) بعدم نصرتهم له كما مر مثله عنه (عليه السلام) في الخطبة الطالوتية وبعض أهل العلم غير هذه العبارة وقرأ تخادن بالنون وتهادن بالدال والهوى بالواو والظاهر أنه تحريف (وتعاون أهل الضلالة) وتناصروا بمقتضى القوة الشهوية والغضبية والحمية الجاهلية الغالبة في أهل الفساد مع انضمام الوساوس الشيطانية إليها حتى (كانت) أهل الضلالة هي الجماعة.

(مع فلان وأشباهه) أراد به الأول والثاني والثالث وأضرابهم من الخلفاء المضلة وعلمائهم إلى قيام الصاحب عليه السلام (فاعرف هذا الصنف) من أهل الضلالة بأشخاصهم وعقايدهم وأعمالهم وأطوارهم وأقوالهم الخارجة عن القوانين الشرعية (وصنف آخر فابصرهم رأى العين نجباء) المراد بهم أهل الهدى (والزمهم) ولا تفارقهم (حتى ترد أهلك) أهل الجنة والسعادة وقد أمر عليه السلام بمعرفة الصنفين حق المعرفة ومعرفة أحوالهما ومتابعة صنف الحق إلى الموت فإنه يوجب الحياة الأبدية والورود على أهل الجنة ويمكن أن يكون «ترد» بتشديد الدال أي حتى ترد أهلك عن صنف أهل الضلالة إلى أهل الحق وهذا أنسب بقوله (فإن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) باختيار الضلالة أو ترك النصيحة والدعاء إلى الخير والأعمال الصالحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ألا ذلك هو الخسران المبين) لأن خسران الآخرة لبقائه أبدا هو الخسران المبين وأما خسران الدنيا لانقضائه فليس بخسران بالنظر إليه.

(إلى ههنا رواية الحسين) ورواية محمد بن يحيى أيضا بقرينة قوله (وفي رواية محمد بن يحيى زيادة) فإن لفظ زيادة يشعر بذلك (لهم علم بالطريف) أي لصنف آخروهم أهل الحق علم كامل بطريقه يعرفونه ويعرفون به (فإن كان دونهم بلاء فلا تنظر إليه) ولا تلومهم ولا تفارقهم فإن البلاء موكل بالأولياء (فإن كان دونهم عسف من أهل العسف) أي ظلم وجور من الظالمين والجابرين وأهل العسف الأخذ على غير طريق وركوب الأمر من غير روية ثم نقل إلى الظلم والجور (وخسف) أي نقصان وهوان وتغير وانكسار (ودونهم بلايا تنقضي) وقتا ما لأن كل ذلك في معرض الزوال (ثم تصير إلى رخاء) وسعة ورفاهية في الآخرة بل في الدنيا أيضا خصوصا في عهد الصاحب عليه السلام وفي كل ذلك ترغيب في مودتهم وتآلفهم ومتابعتهم (ثم اعلم أن إخوان الثقة ذخائر بعضهم لبعض) المراد بهم المتحابون المتدينون والتابعون له (عليه السلام) في الأقوال والأعمال وهم ذخائر بعضهم لبعض يتناصرون ويتعاونون ويتباذلون والقائمون بأوامره تعالى وأسراره وعلمه والذابون عنه دينه والنافعون كل واحد صاحبه في الشدة والرخاء.

(ولولا أن يذهب بك الظنون عني) إلى اعتقاد الرسالة أو الألوهية كما يرشد إليه الحديث النبوي في مدح وصيه علي عليه السلام وهو يأتي بعيد هذا (لجليت لك عن أشياء من الحق غطيتها ولنشرت لك أشياء من الحق كتمتها) لعل المراد بها العلوم الدينية والأسرار الغيبية التي لا

ص:384

يعلمها إلا الله تعالى ومن ارتضاه من رسول وأوصيائه عليهم السلام وهم لا يظهرونها إلا لمن يوثق به من خواص الأولياء وقد ظهر أدنى مراتبها لبعض القاصرين فادعوا لهم الربوبية (ولكني أتقيك) خوفا مني ومنك (واستبقيك) على الحق كيلا تزل منه (وليس الحليم الذي لا يتقي أحدا في مكان التقوى) الموصول خبر «ليس» فدل على أن من لم يتق في مكان التقية ليس بحليم متأن في الأمور متثبت فيها (والحلم لباس العالم فلا تعرين منه والسلام) أمره بالحلم وهو التأني والتثبت في الأمور والتعمق في أولها وآخرها وحسنها وقبحها ونفعها وضرها وعدم إظهار ما عنده من الأسرار لغيرها وشبهه باللباس في الزينة والإحاطة والشمول وحفظ النفس ودفع الضرر.

ص:385

رسالة منه (عليه السلام) إليه أيضا

* الأصل:

17 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن عمه حمزة بن بزيع قال: كتب أبو جعفر (عليه السلام) إلى سعد الخير:

بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه معرفة ما لا ينبغي تركه وطاعة من رضى الله رضاه، فقلت من ذلك لنفسك ما كانت نفسك مرتهنة لو تركته تعجب أن رضى الله وطاعته ونصيحته لا تقبل ولا توجد ولا تعرف إلا في عباد غرباء أخلاء من الناس قد اتخذهم الناس سخريا لما يرمونهم به من المنكرات وكان يقال: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون أبغض إلى الناس من جيفة الحمار.

ولولا أن يصيبك من البلاء مثل الذي أصابنا فتجعل فتنة الناس كعذاب الله - وأعيذك بالله وإيانا من ذلك - لقربت على بعد منزلتك.

واعلم - رحمك الله - أنه لا تنال محبة الله إلا ببغض كثير من الناس ولا ولايته إلا بمعاداتهم وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون.

يا أخي إن الله عزوجل جعل في كل من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون معهم على الأذى، يجيبون داعي الله ويدعون إلى الله فأبصرهم رحمك الله فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة إنهم يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله من العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه، يبذلون دماءهم دون هلكة العباد وما أحسن أثرهم على العباد وأقبح آثار العباد عليهم.

* الشرح:

(رسالة منه إليه أيضا) كان منشؤها أن سعدا كتب إليه كتابا مشتملا على ذكر الولاية وطاعة أهلها وخفاء الحق وقلة أهله وظهور الباطل وكثرة أهله وشكى إليه من ذلك فكتب إليه عليه السلام تسلية له ورفعا لاستبعاده وشكايته (أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه معرفة ما لا ينبغي تركه) وهو الولاية التي بها نظام الدين وقوام الإيمان والمؤمنين (وطاعة من رضى الله رضاه) وهو أمير المؤمنين عليه السلام، ورضا إما فعل أو مصدر مضاف إلى الفاعل ورضاه مفعول أو خبر والمراد أن

ص:386

رضاه تعالى منوط برضائه عليه السلام (فقلت من ذلك لنفسك ما كانت نفسك مرتهنة) «قلت» على صيغة الخطاب، والتكلم محتمل «ومن» للتعليل وذلك إشارة إلى ترك الأمة ولاية الحق وقلة أهلها وهو إما مذكور في كتاب سعد أو مفهوم من سياقه والموصول عبارة عما خطر في نفسه وهو التأسف والتألم والتأمل في سر ذلك وسببه حتى صارت نفسه مرتهنة به لا تتخلص إلا بزواله وكل ما حبس به شيء فذلك الشيء رهنة ومرتهنة (لو تركته تعجب) أي لو تركت ما خطر في نفسك تعجب وتسر منه لأن ذلك الخاطر يوجب الحزن الشديد للمؤمن بلا منفعة والاضطراب لغيره وكل ما كان كذلك كان تركه أعجب وأولى، هذا من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

ثم أشار إلى أن الحق ضعيف وأهله قليل لما في طبع أكثر الخلق من الميل إلى الباطل بقوله (إن رضا الله وطاعته ونصيحته) أي نصيحة الله لخلقه بدعائه إلى ما هو خير لهم في الدنيا والآخرة أو نصيحتهم لأنفسهم بالتزام مرضاة الله تعالى أو نصيحتهم لله وهي راجعة إلى نصيحتهم لأنفسهم وهي الإيمان بالله ونفي الشريك وترك الإلحاد في ذاته وصفاته وتنزيهه عن النقايص والقيام بطاعته والاجتناب عن معصيته والحب له والبغض فيه ومولاة من أطاعه ومعاداة من عصاه والاعتراف بنعمته والشكر عليها أو نصيحتهم لأئمة المسلمين بمعرفة حقوقهم ومعاونتهم على الحق وتأليف قلوب الناس بطاعتهم أو نصيحة عامة الناس بإرشادهم إلى مصالحهم وكف الأذى عنهم وستر عورتهم وسد خلتهم وغير ذلك من حقوقهم أو الأعم من الجميع (لا تقبل ولا توجد ولا تعرف) النشر غير مرتب أو كل لكل (إلا في عباد غرباء) الغريب من فارق أهله أو فارقوه فكل مؤمن لم يجد مؤمنا في منزل الإيمان وفارقه الناس ومالوا إلى الكفر والعصيان فهو غريب في دار الغربة وهي الدنيا وهم عليهم السلام كانوا كذلك لمفارقة الناس عنهم وخروجهم عن مسكن الإسلام وموطن الإيمان (أخلاء من الناس) الاخلاء جمع الخلي كالأشراف جمع الشريف، والمراد بالخلي الفارغ من الناس والمعتزل من اشرارهم (قد اتخذهم الناس سخريا) أي هزوا وهو بالكسر والضم مصدر زيدت الياء للمبالغة ولذلك لم يجمع (لما يرمونهم به من المنكرات) لزعمهم أن ما هم عليه من الخيرات منكرات وحمل المنكرات على الأمور الشاقة الشديدة من الأقوال وغيرها محتمل وكان يقال: (لا يكون المؤمن مؤمنا) كاملا (حتى يكون أبغض إلى الناس من جيفة الحمار) وجه ذلك أن المؤمن قليل والجاهل كثير لقلة العلم وغلبة الجهل وبين العلم والجهل والعالم والجاهل تضاد وتعاند فالجاهلون المذمومون بلسان الكتاب والرسول يذمون المؤمن العالم ويبغضونه لترويج جهلهم وإخفاء فضله وشرفه وكل من علمه أكثر وأتم كان بغضهم له أكمل وأعظم (ولولا أن يصيبك من البلاء مثل الذي أصابنا فتجعل فتنة الناس كعذاب الله - وأعيذك بالله وإيانا من ذلك - لقربت على بعد منزلتك) المراد بالبلاء هنا الفتنة والبلية الواردة من قبل الناس وقوله «فتجعل»

ص:387

تضمين لمضمون الآية الكريمة وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) يعني إذا أوذي بأن عذبه الكفرة على إيمانه جعل عذابهم وأذاهم في الصرف عن الإيمان كعذاب الله في الصرف عن الكفر، ولولا الامتناع الثاني وهو قرب المنزلة لوجود الأول وهو مجموع إصابة البلاء وجعل فتنة الناس كعذاب الله فيفيد أن إصابة البلاء مع البقاء على الإيمان وعدم التزلزل فيه خوفا من عذاب الله سبب تام لقرب المنزلة وقوله «وأعيذك بالله وإيانا من ذلك) جملة معترضة دعائية طلبا للثبات وذلك إشارة إلى الجعل المذكور.

(واعلم رحمك الله أنه لا تنال محبة الله إلا ببغض كثير من الناس) كما أنهم لا ينالون غضب الله إلا ببغضنا (ولا ولايته إلا بمعاداتهم) كما أنهم لا ينالون ولاية الشيطان إلا بمعاداتنا والظاهر أن إضافة البغض والمعادات إلى المفعول، وكون الإضافة إلى الفاعل بعيد (وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون) أي زوال بغضهم وعداوتهم بسبب محبتهم لنيل الدنيا أو السبق والتبادر إليهما من قولهم: فاتني فلان بكذا أي سبقني به قليل يسير لدرك محبة الله وولايته والله أعلم (يا أخي إن الله عز وجل جعل في كل من الرسل بقايا من أهل العلم) هم الأوصياء عليهم السلام وكذلك جرت سنة الله في الأولين والآخرين وهذا أمر يقتضيه العقل الصحيح إذ لو لم يكن للخلق حاجة إلى الرسل والأنبياء لزم من ذلك أن يكون إرسال الرسل وإنزال الكتاب عبثا (يدعون بعد الرسل من ضل عن سبيلهم إلى الهدى وهو دين الحق ويصبرون معهم) أي مع من تبعهم أو مع الرسل أو مع الضالين (على الأذى) أي على أذاهم من جهلهم (يجيبون داعي الله) وهو الرسول بما جاء إليهم من الله (ويدعون إلى الله) بما يوجب القرب منه (فأبصرهم رحمك الله) بعين البصيرة واليقين فإنهم في منزلة رفيعة من المنازل الإلهية والمقامات الروحانية وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة باعتبار تخلف الخلق عنهم وأضرارهم.

(إنهم يحيون بكتاب الله الموتى) أي الجهال الذين ماتت قلوبهم بمرض الجهالة وداء الضلالة بالتعليم والتفهيم والإرشاد إلى الدين القويم وحمل الموتى على المعنى المعروف وإن كانت لهم قدرة أيضا على إحيائهم باذن الله بعيد (ويبصرون بنور الله من العمى) المراد بالنور العلم على سبيل الاستعارة وبالعمى ظلم الجهالات والشبهات وقد شاع إطلاقه عليها مجازا ولعل المراد أنهم يبصرون بنور العلم الذي لا يضل من اهتدى به صراط الحق ودينه من ظلمات الجهالة والشبهات التي أحدثها الجاهلون في الشريعة (كم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه) «كم» في الموضعين خبرية لبيان الكثرة، والمراد بالقتيل المنكر للرسول وبالتايه المنكر للولاية أو المستضعف (يبذلون دماءهم دون هلكة العباد) شفقة لهم وترجيحا لنجاتهم من العقوبة الأبدية، على صب دمائهم وزوال حياتهم الدنيوية والهلكة بالتحريك الهلاك (ما أحسن أثرهم على العباد)

ص:388

بالرحمة والهداية والمعونة والنصرة (وقبح آثار العباد عليهم) بالإضرار والمخالفة والغلظة.

* الأصل:

18 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير قال:

بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالسا إذ أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فيك شبها من عيسى بن مريم ولولا أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمر بملاء من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة، قال: فغضب الأعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم، فقالوا: ما رضي أن يضرب لابن عمه مثلا إلا عيسى ابن مريم فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم (يعني من بني هاشم) ملائكة في الأرض يخلفون).

قال: فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك (أن بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل) فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم».

فأنزل الله عليه مقالة الحارث ونزلت هذه الآية (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).

ثم قال له: يا [ابن] عمرو إما تبت وإما رحلت؟ فقال: يا محمد بل تجعل لسائر قريش شيئا مما في يديك فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ليس ذلك إلي، ذلك إلى الله تبارك وتعالى، فقال: يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ولكن أرحل عنك فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة أتته جندلة فرضخت هامته ثم أتى الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين (بولاية علي) ليس له دافع * من الله ذي المعارج) قال:

قلت: جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا. فقال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (صلى الله عليه وآله) وهكذا هو والله مثبت في مصحف فاطمة (عليها السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمن حوله من المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به قال الله عزوجل (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد).

* الشرح:

(عن أبي بصير قال بينا) الظاهر أنه نقله عن المعصوم وأنه الصادق عليه السلام (فغضب الاعرابيان) الأول والثاني شبههما بالأعرابي لكونهما أشد كفرا ونفاقا (فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله))

ص:389

إشارة إلى سبب نزول الآية وقال جماعة من العامة سببه أن ابن الزبعرى جادل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) بأن النصارى يعبدون عيسى فإن كان هو في النار فلتكن آلهتنا معه فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يخفى بعده فقال: (ولما ضرب ابن مريم مثلا) ضربه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي عليه السلام وعندهم ضربه ابن الزبعري (إذا قومك) كفرة قريش ومن تبعهم (يصدون) عن الحق ويعرضون عنه (وقالوا: آلهتنا خير أم هو) عن علي (عليه السلام) أو محمد (صلى الله عليه وآله) حتى نعبدهما ونترك آلهتنا، وقرئ بإثبات همزة الاستفهام أيضا ولعل غرضهم منه هو التقرير بأن آلهتهم خير وفيه دلالة على أنهم كانوا باقين على الشرك (ما ضربوه) أي هذا القول (لك إلا جدلا) أي لأجل الخصومة والمنازعة بمقتضى الحسد والحمية الجاهلية مع علمهم بأنه باطل (بل هم قوم خصمون) في أعلى درجات الشدة والقوة على الخصومة (ان هو إلا عبد أنعمنا عليه) بالنبوة والرسالة والكرامة (وجعلناه مثلا) فيما ذكر أو أمرا عجيبا غريبا كالمثل السائر (لبني إسرائيل) وأمرناهم بمتاعبته فلا يبعد أن نجل عليا مثله في الفضل والكرامة (ولو نشاء لجعلنا) بدلا (منكم - يعني من بني هاشم - ملائكة في الأرض يخلفون) أي يخلفونكم في الأرض وإذا قدرنا على ذلك فكيف لا نقدر على أن نجعل واحدا من البشر في الفضل والكمال بحيث يستحق خلافتكم وبذلك أبطل إنكارهم لفضله عليه السلام.

(قال: فغضب الحارث بن عمرو الفهري) المنسوب إلى الفهر وهو بالكسر قبيلة من قريش فقال (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) نسب عليه السلام هذا القول إلى الحارث وحده لأنه القائل به حقيقة ونسب جل شأنه إليه وإلى شركائه في التهكم والتكذيب والإصرار على الإنكار حيث قال (وإذ قالوا اللهم) باعتبار رضائهم بصدور الفعل عنه والراضي بالفعل فاعل مجازا ولفظ هذا إشارة إلى ما ذكر من فضل علي عليه السلام الدال على تقدمه على الغير واستحقاقه للخلافة ولذلك قال على سبيل البيان والتوبيخ: (إن بني هاشم يتوارثون بعضهم بعضا هرقلا بعد هرقل) أي توارث هرقل بعد هرقل حذف المفعول المطلق وأقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه.

وفي القاموس: هرقل كسبحل وزبرج ملك الروم أول من ضرب الدينار وأول من أخذ البيعة (فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) غيرها عقوبة على إنكاره وقال ذلك لكونه جازما بكذب النبي (صلى الله عليه وآله) ولو كان شاكا لما اجترأ عليه (فأنزل الله تعالى عليه مقالة الحارث) فقال (وإذ قالوا اللهم..) الآية (ونزلت هذه الآية وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) بيان لما كان الموجب لإمهالهم والتأخير في إجابة دعائهم على أنفسهم واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم بالاستيصال والنبي فيهم خارج عن رعايته غير جار في قضائه ومن بركته رفعت العقوبات الدنيوية الفظيعة مثل المسخ وغيره عن هذه الأمة (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) أي وفيهم

ص:390

المستغفرون من المؤمنين أو على فرض استغفارهم يعني لو استغفروا لم يعذبوا لقوله تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) كذا فسره بعض المفسرين (ثم قال له: يا عمروا إما تبت وإما رحلت) لعله كان قد يسمى باسم أبيه أيضا وفي بعض النسخ يا أبا عمرو وقراءة با عمرو بالباء الموحدة وحذف حرف النداء محتملة أيضا (فقال: يا محمد بل تجعل لساير قريش) أراد نفسه الخبيثة أو الأعم (شيئا مما في يديك) من الملك والخلافة أو العز والكرامة (فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم) أي بشرفهم ومفاخرهم ومناقبهم إذ دانت لأسيافهم وانقادت لهم بالقهر والغلبة والسلطنة (فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ليس ذلك إلي) حتى اجعل لسائر قريش فيه نصيبا (ذلك إلى الله تعالى) يختار من يشاء وله الخيرة (فقال يا محمد قلبي ما يتابعني بالتوبة) لكون قلبه الكثيف مشغولا باللذات الدنيوية فارغا عن الله ورسوله وللأمور الأخروية بل مكذبا كما مر (ولكن أرحل عنك) اختار هذا الشق لما رأى أن في ملازمة صاحب الدولة القاهرة مذلة له.

(فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة) وخرج عن محل الأمن (أتته جندلة) من السماء (فرضحت هامته) الجندلة الحجارة والرضح بالحاء المهملة والمعجمة الشدخ والدق والكسر وفعله كمنع والهامة بالتشديد الرأس ومقدمه (ثم أتى الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله)) أريد بالوحي هنا جبرئيل عليه السلام فقال (سأل سائل بعذاب) أي دعا داع به يعني استدعاء بقوله: اللهم إن كان هذا هو الحق، ولذلك عدي الفعل بالباء (واقع للكافرين) وصفان لعذاب أو الثاني صلة لواقع (ليس له دافع من الله) أي يرده من جهته تعالى لحتمه وتعلق إرادته (ذي المعارج) يعرج فيها العارفون أو الملائكة المقربون.

واعلم أن المصنف روى في باب نكت من التنزيل بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) للكافرين بولاية علي ليس له دافع ثم قال (عليه السلام) (هكذا والله نزل بها جبرئيل) وعلى هذا [فإن صحت الرواية] فالظاهر أنه سقط هنا قوله: بولاية علي عليه السلام من قلم الناسخ (1) وأن قوله (عليه السلام) هكذا في قوله «قال: قلت له: جعلت فداك إنا لا نقرؤها هكذا، فقال: هكذا والله نزل اه» إشارة إلى هذا الساقط. وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: إشارة إلى قوله: «ان بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل» فليتأمل.

* الأصل:

19 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان عن محمد

ص:391


1- 1 - احتمال السقط في القرآن زعم باطل عند أكابر العلماء والمحدثين. ورد رواية أبي بصير التي في طريقها سليمان الديلمي (الذي قيل فيه: إنه كان غاليا كذابا، وكذلك ابنه الراوي عنه كما في «صه» و «جش») أولى من احتمال التحريف في القرآن العظيم، على أن السورة مكية بالاتفاق فالقول بأنها نزلت بعد نصب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة قول باطل كما لا يخفى، ونسبته إلى الصادق (عليه السلام) فرية محضة، نستجير بالله منها.

ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزوجل: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) قال: ذلك والله حين قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير».

* الشرح:

(عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) قال:

ذاك والله حين قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير) مجمل القول أنه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتمعت الصحابة في سقيفة بني نجار فخطبهم سعد بن عبادة وأغراهم بطلب الإمامة وكان يريدها لنفسه فبلغ الخبر أبا بكر وعمر فجاءا مسرعين فتكلم أبو بكر فقال للأنصار ألم تعلموا أنا معاشر المسلمين أول الناس إسلاما ونحن عشيرة رسول الله وأنتم الأنصار الذين وزراؤه وإخواننا في كتاب الله وأحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم، فدعاهم إلى بيعة أبي عبيدة أو عمر فقال: أما ينبغي أحد من الناس أن يكون فوقك.

فقالت الأنصار: نحن أصحاب الدار والإيمان لن يعبد الله علانية إلا عندنا وفي بلادنا ولا عرف الإيمان إلا من أسيافنا ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدنا فنحن أولى بهذا الأمر فإن أبيتم فمنا أمير ومنكم أمير فقال عمر: هيهات هيهات لا يجتمع سيفان في غمد وإن العرب لا ترضى بأن نؤمركم لهذا الأمر - إلى أن قال - والله لا يرد على أحد إلا حطمت أنفه بسيفي هذا، فقام بشر بن سعد الخزرجي وكان يحسد سعدا أن يصل إليه هذا الأمر وقال: إن محمدا رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره فلا تنازعوهم معشر الأنصار، فقام أبو بكر وقال: هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم، فقالا: لا يتولى هذا الأمر غيرك وأنت أحق به أبسط يدك، فبسط يده فبايعاه وبايعه بشر والأوس كلها وحمل سعد وهو مريض فادخل منزلة وقيل: إنه بقي ممتنعا من البيعة حتى مات.

* الأصل:

20 - وعنه، عن محمد بن علي، عن ابن مسكان، عن ميسر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت قول الله عزوجل: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) قال: فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عزوجل بنبيه (صلى الله عليه وآله) فقال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

* الشرح:

(فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله عز وجل بنبيه (صلى الله عليه وآله) فقال ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وذلك إذ بعث في وقت كان أهل الأرض كافرين ولم يكن فيهم مؤمن ظاهرا أو كان الهرج والمرج والقتل والنهب والفساد شايعة بينهم كما مر تفصيل ذلك في كتاب الأصول.

ص:392

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

21 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال:

ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا عمل وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالا، ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيخللان معا فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كيف أنتم إذ ألبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة وقد أتى الناس منكرا. ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحى بثفالها ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة. ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزوجل وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه السلام) فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (عليها السلام)، ورددت صاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد ورددت قضايا من الجور قضي بها.

ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن واستقبلت بهن الحكم في الفروع والأحكام. وسبيت ذراري بني تغلب. ورددت ما قسم من أرض خيبر. ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء. وألقيت المساحة.

ص:393

وسويت بين المناكح. وأنفذت خمس الرسول (صلى الله عليه وآله) كما أنزل الله عزوجل وفرضه. ورددت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ما كان عليه. وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه. وحرمت المسح على الخفين. وحددت على النبيذ. وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وأخرجت من أدخل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجده ممن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخرجه وأدخلت من اخرج بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدخله. وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم.

ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) إذا لتفرقوا عني.

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار.

وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزوجل: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).

فنحن والله الذي عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله (صلى الله عليه وآله) فقال تعالى: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (فينا خاصة) كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله (في ظلم آل محمد) إن الله شديد العقاب) لمن ظلمهم.

رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه (صلى الله عليه وآله) ولم تجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا، أكرم الله رسوله (صلى الله عليه وآله) وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا، ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) والله المستعان على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* الشرح:

(خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام) ذكر المصنف بعضها عن سليم بضم السين (ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان) أي خصلتان هما أعظم مهلك للإنسان فلذلك كان الخوف منهما أشد

ص:394

وأزيد ولما كان عليه السلام هو المتولي لإصلاح حال الخلق في أمور معاشهم ومعادهم وكان صلاحهم منوطا بهمته العالية نسب الخوف عليهم إلى نفسه القدسية (اتباع الهوى) هو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى مقتضاها من اللذات الدنيوية خصوصا إذا كانت خارجة عن القوانين الشرعية (وطول الأمل) لما لا ينبغي من المقتضيات الفانية (أما اتباع الهوى فيصد عن الحق) لأن اتباع النفس الأمارة في مقتضياتها والاقتفاء بها في لذاتها أعظم جاذب للإنسان عن قصد الحق وأفخم ساد له عن سلوك سبيله (وأما طول الأمل فينسي الآخرة) لأنه يوجب شغل الفكر فيما يؤمله ويرجوه وفي كيفية تحصيله وضبطه بعد حصوله وكيفية العمل به ويورث سهو القلب عما هو أولى به من أمر معاده ومن ذكر الله وذكر ما بعد الموت من أحوال الآخرة ومحو ما تصور منها في الذهن وذلك معنى النسيان لها الموجب للشقاء الأبدي فيها.

(ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة) الرحل الانتقال يقال: ترحم القوم عن المكان إذا انتقلوا، وفيه إشارة إلى تقضي الأحوال الحاضرة بالنسبة إلى كل شخص من صحة وشباب وجاه ومال وكل ما يكون سببا لصلاح حاله فإن كل ذلك أجزاء الدنيا لدنوها منه ولما كانت هذه الأمور أبدا في التغير والتقضي المقتضي لمفارقته لها وبعدها عنه لا جرم حسن إطلاق اسم الترحل والإدبار على تقضيها وبعدها استعارة تشبيها لها بالحيوان في إدبارها والغرض هو الحث على ترك الركون إليها والعكوف عليها وصرف العمر فيها.

ولما نبه على أن الدنيا سريعة الزوال أردف ذلك بالتنبيه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها بقوله (وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة) لما كانت الآخرة عبارة عن الدار الجامعة للأحوال التي يكون كل شخص عليها من سعادة وشقاوة وألم وراحة وكان تقضي العمر والدنيا موجبا للوصول إلى تلك الدار والحصول فيما يشتمل عليه من خير أو شر حسن إطلاق الترحل والإقبال عليها مجازا وبالجملة أحوال الإنسان إذا كانت مقتضية يطلق عليها اسم الإدبار وإذا كانت متوقعة يطلق عليها اسم الإقبال (ولكل منهما بنون) استعار اسم الابن للخلق بالنسبة إلى الدنيا والآخرة ولفظ الأب لهما ووجه الاستعارة أن الابن لما كان من شأنه الميل إلى الأب إما بالطبع أو بتصور المنفعة وكان وكان الخلق منهم من يريد الدنيا لما يتوهم من لذة وخير فيها ومنهم من يريد الآخرة لما يتصور من لذة وسعادة فيها ويميل كل منهما إلى مراده شبههم بالابن وشبهها بالأب فاستعار لفظ الابن والأب لهما بتلك المشابهة ولما كان غرضه عليه السلام حث الخلق على الآخرة والميل إليها والرغبة فيها والإعراض عن الدنيا وحطامها قال: (فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لدوام الآخرة ولذاتها وفناء الدنيا وزهراتها ثم حث على العمل في الدنيا للآخرة للوصول إلى نعيمها ودرجاتها والتحرز عن حسابها وعقوباتها فقال (فإن اليوم عمل ولا حساب وإن غدا حساب ولا

ص:395

عمل) أراد باليوم مدة الحياة وبالغد ما بعد الموت، واليوم اسم «إن» و «عمل» قائم مقام الخبر استعمالا للمضاف إليه مقام المضاف أي يوم عمل وقيل: يحتمل أن يكون اسم «إن» ضمير الشأن واليوم جملة من مبتدأ وخبر هي خبرها وكذا «غدا حساب» ثم أشار إلى أصل الفتنة والفساد في الخلق بقوله: (إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها حكم الله) وذلك لأن المقصود من بعثة الرسل ووضع الشرايع إنما هو نظام الخلق فكان كل هوى متبع وحكم مبتدع خارج عن حكم الله وحكم الله وحكم رسوله سببا لوقوع الفتنة وتبدد نظام الوجود في هذا العالم وذلك كأهواء المخالفين والبغاة والخوارج والغلاة وغيرهم، ثم أكد ذلك مع الإشارة إلى سبب اشتهار الفتنة وانتشارها بقوله: (يتولى فيها رجال رجالا) أي يتولى طائفة طائفة في الأهواء المتبعة والأحكام المبتدعة التي اتبعها وابتدعها أولا ضال في الشريعة على خلاف حكم الله ورسوله ويرجونها فتشتهر بين الخلق.

ثم أشار إلى أن أسباب تلك الأهواء الفاسدة والأحكام الباطلة امتزاج المقدمات الحقة بالباطلة وبين ذلك بشرطيتين متصلتين أحداهما قوله (إن الحق لو خلص) من مزج الباطل (لم يكن اختلاف) بين الناس ضرورة أن مقدمات الدليل التي استعملها أهل الباطل وترتيبها لو كانت حقا كانت النتيجة حقا فلا يتمكنون من العناد فيه والمخالفة له فوقوع الاختلاف دل على عدم الخلوص، واخراهما قوله: (ولو ان الباطل خلص) من مزج الحق (لم تخف) وجه بطلانه (على ذي حجى) الحجى بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم العقل وذلك لأن مقدمات الشبهة إذا كانت كلها باطلة غير مشوبة بالحق أدرك العاقل الطالب للحق وجه بطلانها ولما خفي وجه البطلان علم عدم الخلوص وكان ذلك سبب الغلط واتباع الباطل لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ومن ثم قال المحقق الطوسي قد علم بالاستقراء أن المذاهب الباطلة كلها نشأت من مذهب أهل الحق إذ الباطل الصرف لا أصل له ولا حقيقة ولا يعتقده العاقل إلا إذا اقترن بشبه الحق ثم أشار إلى ما هو في حكم نتيجة هذين القياسين بقوله (لكنه يؤخذ من هذا ضغث) أي قبضة (ومن هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيخللان معا) التخليل إدخال الشيء في خلال الشيء، وفي تاج اللغة:

تخليل پوشانيدن چيزى ولفظ الضغث هو في الأصل قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس مستعار والمقصود هو التصريح بلزوم الآراء الباطلة والأهواء المتبعة والأحكام المبتدعة لمزح الحق بالباطل وخلط قول الأنبياء بقول الأشقياء ولذلك قال: (فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه) فيزين لهم اتباع الآراء والأهواء والأحكام الخارجة عن حكم الله وكتابه وسنة نبيه بسبب إغوائهم عن تمييز الحق من الباطل فيما سلكوه من الشبهة (ونجا الذين سبقت لهم) في القضاء الأزلي (من الله الحسنى) هي السعادة والطاعة والبشر للجنة وهم الذين أخذت العناية الأزلية

ص:396

بأيديهم في ظلم الشبهات وقادتهم التوفيقات الربانية في الأئمة الهداة للاستعلام عن حل المشكلات والمتشابهات فهداهم إلى سبيل النجاة فاهتدوا بنور هدايتهم إلى تمييز الحق من الباطل والصحيح من السقيم واعلم أن غرضه عليه السلام من هذه الخطبة هو الشكاية عن الأمة بتركهم الإمام الهادي الفارق بين الحق والباطل وتمسكهم بعقولهم الناقصة وأهوائهم الفاسدة فصار ذلك سببا لعدولهم عن القوانين الشرعية لسوء فهمهم وعدم وقوفهم على مقاصدها وضموا إليها متخيلات أوهامهم ومخترعات أفهامهم فحملوها على غير وجوهها كأهل الخلاف فإنهم ضموا حقا - وهو أنه لابد لهذه الأمة من إمام - إلى باطل وهو أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينص به فاخترعوا لأنفسهم إماما وكالمجسمة فإنها ضموا حقا وهو مثل قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) إلى باطل وهو أنه مستقر على العرش كاستقرار الملك على السرير فزعموا أنه تعالى جسم، وكالغلاة فإنهم ضموا حقا وهو كرامته عليه السلام وإخباره بالغيب إلى باطل وهو أن من كان كذلك فهو إله فزعموا أنه إله وكذلك غيرها من أصحاب الملل الفاسدة التي بذكرها يطول الكلام فصاروا بتلك العقائد من أولياء الشيطان في إضلال الناس ولو كانوا يرجعون إليه عليه السلام لخلصهم من تلك الشبهات ونجاهم من هذه الهلكات.

(إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كيف أنتم إذا ألبستكم فتنة) أي أحاطت بكم المحنة والبلية الداعية إلى الضلال عن الحق وسلوك سبيل الباطل كفتن الخلفاء الثلاثة ومن تبعهم (يربو فيها الصغير) أي ينموا أو يرتفع وهو كناية عن امتداد زمانها أو يموت من فزع من ربا فلان إذا انتفخ من فزع (ويهرم فيها الكبير) لشدتها وقوتها وكثرة المشقة بها لاختلاطها وتراكم بعضها فوق بعض ومقاساة الخلق بسبب تبدد نظام أحوالهم (يجري الناس عليها) ويتلقونها بالقبول والإذعان (ويتخذونها سنة) أي قوانين كلية وطرقا شرعية ثم أشار إلى كمال جهلهم المركب بقوله: (فإذا غير منها شيء قيل قد غيرت السنة وقد أتى الناس منكرا) لزعمهم أن الحق منكر وأن المنكر الذي ابتدعوه حق فيردون على العالم الرباني ويعتقدون أنه ليس وراء ما ذهبوا إليه علم، ويمكن أن يكون قوله: «وقد أتى» كلامه عليه السلام لبيان أن ما جاؤوا به منكر في الشريعة ثم أشار إلى اشتداد تلك الفتنة في بعض الأعصار كعصر معاوية ويزيد عليهما العذاب الشديد وسائر خلفاء بني أمية وبني عباس وأضرابهم بقوله (ثم تشتد البلية وتسبى الذرية وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب وكما تدق الرحى بثفالها) الدق الهشم والكسر وهو كناية عن الإفناء والإعدام والثفال بكسر الثاء المثلثة والفاء بعدها وقد تضم جلدة تبسط تحت رحى اليد ليقع عليه الثفل وهو بالضم الدقيق سمي ثفلا لأنه من الأقوات التي يكون لها ثفل بخلاف المايعات ثم سمي الحجر الأسفل من الرحى ثفالا والباء زائدة للمبالغة في التعدية والمعنى أنها تدقهم دق الرحى للثفال أو للحب،

ص:397

فقد شبه الفتنة تارة بالنار في الإفناء والإحراق وتارة بالرحى في الكسر والهدم والصدم وأشار بهذا إلى البلية الواردة في أعصارهم على عامة أهل الإسلام خصوصا على الشيعة وأهل العلم والتقوى والصالحين من هذه الأمة وكفاك شاهدا ما ثبت بالتواتر أنهم آذوا أهل الإيمان وقتلوا كثيرا منهم وسبوا ذراريهم ونهبوا أموالهم وقتلوا الحسين عليه السلام وأولاده وذريته وأصحابه وهتكوا حرمة الرسول وحرمة الإسلام وهدموا الكعبة وسبوا عليا عليه السلام ثمانين سنة إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يحيط بها البيان.

ثم أشار إلى فساد قلوبهم وقبايح نفوسهم الأمارة بالسوء بقوله (ويتفقهون لغير الله ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة) فإن التفقه والتعلم والعمل ينبغي أن يكون للآخرة ونيل درجاتها والنجاة من عقوباتها وهم يجعلونها وسيلة للدنيا وتحصيل قنياتها (ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها) نظر عليه السلام إلى التحويل وعدمه فرجح الثاني لما في الأول من المفاسد العظيمة وهي رجوع الخلق عنه وخروجهم عليه مع عدم تحقق التحويل لإبقائهم بدع شيوخهم بحالها وما فعله عليه السلام محض الحكمة وفيه دلالة على جواز ارتكاب أقل القبيحين عند التعارض.

(أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام) أي برده (فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)) مقامه عليه السلام كان متصلا بجدار البيت عند الباب نقل في الجاهلية إلى الموضع المعروف الآن ثم رده رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الموضع الأول ثم رده الثاني إلى الموضع الثاني (ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام) دل على أنه عليه السلام لم يرد فدك في خلافته لإفضائه إلى الفساد والتفرقة فلا يرد ما أورده بعض العامة من أن أخذ فدك لو لم يكن حقا لرده (عليه السلام) في خلافته (ورددت صاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما كان) الصاع الذي يكال به ويدور عليه أحكام المسلمين أربعة أمداد بالاتفاق وان اختلفوا في تفسير المد كما هو مذكور في الفروع وأما صاع النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد روى الشيخ بطريقين عن سليمان بن حفص المروزي عن أبي الحسن عليه السلام والظاهر أنه الهادي عليه السلام وبطريق آخر عن سماعة أنه خمسة أمداد والأول ضعيف والثاني موثق ولو ثبت ذلك فالأمر مشكل لأن الظاهر أن الأحكام الصاعية مترتبة على صاعه (صلى الله عليه وآله) لا على صاع حدث بعده إلا أن يقال: أن الأئمة عليهم السلام جوزوا بناءها عليه والله أعلم (وأمضيت قطايع أقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ) القطايع جمع قطيعة وهي أرض أو دار أقطعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبعض الصحابة ليعمروها ويزرعوها أو يسكنوها ويستبدوا بها والإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك ولعل المراد هنا هو الأول (ورددت دار جعفر) عليه السلام (إلى ورثته وهدمتها من المسجد) كأنها غصبت وأدخلت في

ص:398

المسجد.

(ونزعت نساء تحت رجال بغير حق) كالمعقودات بعقد فاسد والمطلقات بغير سنة أو بغير شاهد أو في الحيض وغير ذلك (ورددت ما قسم من أرض خيبر) التي كانت للمسلمين كلهم لكونها مفتوحة عنوة (ومحوت دواوين العطايا) أي دفاترها المكتوبة فيها عطاياهم من بيت المال على قدر حالاتهم وأول من وضعها الثاني (وأعطيت كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي بالسوية) بين الشريف والوضيع والعرب والعجم والمهاجرين والأنصار ولم يفضل بعضهم على بعض، وقد فضله الثاني خلافا له، ففضل المهاجرين على الأنصار على غير غيرهم والعرب على العجم وبعض النساء على بعض، وتفضيل النبي (صلى الله عليه وآله) بعض المنافقين والمستضعفين في غنائم حنين بأمر الله تعالى به لا يقتضي جوازه لغيره مطلقا.

(لم أجعلها دولة بين الأغنياء) يتناولونها دون الفقراء وفي النهاية: دولة بالضم ما يتداول من المال فيكون لقوم دون قوم (وألقيت المساحة) المقدرة بينهم وهي بالكسر الذرع الذي يقدر به الجريب وهو أربعة أقفزة والقفيز مائة وأربعة وأربعون ذرعا فالجريب عندهم خمسمائة وستة وسبعون ذرعا (وسويت بين المناكح) أي بين النساء في النفقة والكسوة والقسمة والعطية من بيت المال هذا من باب الاحتمال والله أعلم (وأنفذت خمس الرسول) كان الأول يملكه ويصرفه في أقاربه والثاني يصرفه في المسلمين ويمنع منه آل الرسول (وأمرت بإحلال المتعتين) اللتين كانتا حلالا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وحرمهما الثاني فإنه صعد المنبر وقال: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن وهن متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل (وأخرجت من أدخل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجده) صلى الله عليه وآله (ممن كان رسول الله أخرجه وأدخلت من أخرج بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممن كان رسول الله أدخله) أدخلوا كثيرا من المنافقين الذين أخرجهم النبي (صلى الله عليه وآله) وأدخل فيه الثالث الحكم بن عاص وأولاده وكانوا طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعداؤه فزوج إحدى بنتيه مروان بن الحكم وأخريهما حارث بن الحكم وأعطاهم خمس غنائم أفريقية ومن بيت مال المسلمين أموالا جزيلة ورجحهم على أعاظم الصحابة وأخرج أبا ذر إلى الشام ثم إلى الربذة لأنه كان يخطئه ويعد قبايحه على رؤوس الأشهاد.

(وحملت الناس على حكم القرآن) الذي حرفوه وبدلوه فجعلوا حلاله حراما وحرامه حلالا (وعلى الطلاق على السنة) وهو الطلاق الشرعي المشتمل على الشرائط المعتبرة في الشرع ومقابله الطلاق البدعي كطلاق النفساء وطلاق الحائض بعد الدخول مع حضور الزوج أو مع غيبته بدون المدة المشترطة أو في طهر المقاربة وطلاق الثلاث في مجلس واحد وأمثال ذلك والكل باطل عندنا (وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها) المراد بها صدقات الرسول (صلى الله عليه وآله) قال أبو

ص:399

عبد الله الآبي - وهو من أعاظم علمائهم في كتاب إكمال الإكمال - صدقات النبي التي كان ملكها ثلاثة أوجه: الأول الهبة كالسبع الحوايط من أرض بني النضير التي أوصى له بها مخيريق اليهودي حين أسلم يوم أحد وكالذي أعطاه الأنصار من أرضهم وكان منه موضع سوق المدينة، الثاني ما كان ملكه بالفيء كأرض بني النضير حين أجلاهم عنها وحملوا من أموالهم ما حملت الإبل إلا السلاح تركوها مع الأرض فكان له (صلى الله عليه وآله) خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكنصف أرض فدك الذي صالح عليها أهلها من يهود وكثلث وادي القرى الذي صالح أهله عليه فكان له ثلثه ولهم ثلثاه وكحصن الرضيح وحصن الإسلام ومن حصون خيبر أخذهما صلحا على أن أجلى من فيها عنها، الثالث سهمه من خمس خيبر حين افتتحها عنوة وصار في ذلك الخمس حصن الكتيبية كله فهذه الأشياء كانت له خاصة ومع ذلك لم يستأثر بشيء منها بل كان يصرفها في مصالح المسلمين بعد إخراج ما يحتاج إليه عياله ويدل على أنها كانت ملكه إقطاعه الزبير منها إذ لا يقطع ملك غيره وأجمع العلماء على أنها صدقات محرمة الملك ثم ما كان بالمدينة من أموال بني النضير دفعه عمر لعباس وعلي على أن يعملا فيه ويصرفا في مصالح بني هاشم وأما ما عدا ذلك فأمسكه عمر لنوائب المسلمين كما أمسك كلها قبله أبو بكر لأنه كان يرى أنه الخليفة وأنه القائم مقام النبي (صلى الله عليه وآله) فلم ير إخراج ذلك عن نظره لأنه كان يصرفه في مصالح قرابته وغيرهم. هذا كلامه بعبارته.

(ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرايعها ومواضعها) من رجع إلى أصولهم وفروعهم وإلى أصول أهل البيت عليهم السلام وفروعهم ظهر له كيفية الاختلاف وكميته بوجوه غير محصورة.

(ورددت أهل نجران إلى مواضعهم) كأنهم كانوا من أهل الذمة وهم أخرجوها عن مواضعهم (1) ونجران موضع باليمن وبالبحرين وبقرب دمشق وبين الكوفة وواسط كذا في القاموس وفي النهاية: موضع معروف بين الحجاز والشام واليمن (ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله) في القاموس: فارس الفرس أو بلادهم. وفيه دلالة على أن تلك السبايا لم تقسم على وجه مشروع بل على أنها من حقه عليه السلام لدلالة الأخبار على أنها أخذه السلطان الجائر من الكفار بالحرب بغير إذن الإمام فهو له عليه السلام (إذا لتفرقوا عني) جواب للشرط وهو قوله سابقا «أرأيت لو أمرت.. الخ» وفيه دلالة على أن أكثر أصحابه وعساكره كانوا من أهل الخلاف القائلين بخلافة الثلاثة ثم أكد عليه السلام مضمون الشرط والجزاء بأنه أنكر أحقر منكراتهم فصار ذلك سببا لفتنتهم حتى ترك الإنكار وأبقاهم بحالهم فكيف إنكار

ص:400


1- 1 - أخرجهم الثاني كما في فتوح البلدان للبلاذري ص 70 إلى 75.

أقواها أو كلها فقال (والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر.. اه) النهي إما عن الجماعة فيها كما هو ظاهر كلامه عليه السلام أو عن فعلها كما هو ظاهر كلام المنادي والمراد بها حينئذ صلاة الضحى وهي بدعة عندنا وورد النهي عنها وروى بكير بن أعين وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما صلاها قط (ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري) الثور الهيجان والوثب وأثاره وثوره غيره والناحية الجانب وهي على الأول بالإضافة وعلى الثاني بالتنوين وجانب مفعول (ما لقيت من هذه الأمة) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: هذا تعليل ل «خفت» ولامه محذوفة والتقدير لما لقيت.

(وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى) الظاهر أنه عطف على لقيت وأن ذلك إشارة إلى خمس أو ما يجب فيه الخمس بقرينة المقام وقال الفاضل المذكور إشارة إلى غنيمة كانت حاضرة في ذلك الوقت وسهم ذي القربى بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ثلاثة سهمهم وسهم الله تعالى وسهم رسوله (صلى الله عليه وآله) وثلاثة أسهم تصرف في الباقين بحكم الآية وهو ثابت مستمر إلى آخر الدهر على النحو المذكور فيها وهي ما أشار إليه عليه السلام بقوله قال الله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) قيل: يوم الفرقان يوم بدر فإنه تعالى فرق فيه بين الحق والباطل والجمعان المسلمون والكفار وإنما اقتصر عليه السلام بذكر بعض الآية لأن مقصوده بالذات هو الإشارة إلى أن الإيمان يقتضي تسليم الخمس إلى ذي القربى وأن المانع منه ليس بمؤمن، قال القاضي وغيره «إن كنتم» متعلق بمحذوف دل عليه «واعلموا» أي إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوه بالأخماس الأربعة فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل. وقوله عليه السلام:

(فنحن والله عني بذي القربى.. اه) رد على جماعة من العامة فقال بعضهم: ذوو القربى بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وقال بعضهم: بنو هاشم وحدهم، وقال بعضهم: جميع قريش الغني والفقير فيه سواء، وقيل: لفقرائهم فقط، وقال بعضهم: الخمس كله لهم، وقال أبو حنيفة: سقط سهم الله تعالى وسهم رسوله وسهم ذي القربى بوفاته ويصرف كله إلى الثلاثة الباقية، وقال مالك: الرأي فيه مفوض إلى الإمام كاينا من كان يصرفه إلى من شاء، وقال بعضهم: يصرف سهم الله إلى الكعبة والباقي يقسم إلى خمسة، وقال بعضهم: سهم الله لبيت المال ويصرف في مصالح المسلمين كما فعله الشيخان.

ص:401

(فينا خاصة) الظاهر أنه متعلق بقال (رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به) الرحمة قد تطلق على الرقة المجردة عن الإحسان وعلى الرقة المقترنة معه وعلى الإحسان المجرد والإفضال وهو المراد هنا وليس المراد بالغني المعنى المعروف عند الناس بل المراد به الكفاف وهو سهم ذي القربى من الخمس هذا إن جعل رحمة وما عطف عليه مفعولا له لقوله: «عني بذي القربى» أو لقوله: «قرننا» كما هو الظاهر، وأما إن جعل مفعولا له لشدايد العقاب فالمراد به العقل والعلم والعمل والمنزلة الرفيعة التي هي كمال النفس وغناها كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل» وبقوله «الغنى والفقر يظهران بعد العرض» وهم عليهم السلام أغنى الأغنياء بهذه المعاني قد أغناهم الله تعالى بها عن غيرهم «والله المستعان على من ظلمنا» فيه إظهار للعجز وفيه تعظيم للرب وطلب النصرة منه على الظالمين والله عزيز ذو انتقام ولو بعد حين (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فيه استبسال وانقطاع عن الغير بالكلية وإبراز للعجز والمسكنة البشرية بسبب سلب الحول والقوة والحركة في جميع الأمور المطلوبة الدنيوية والأخروية عن نفسه وإثباتها لله تعالى تعظيما وتوقيرا له وفيه تعليم وترغيب في الرجوع إليه سبحانه عند توارد المصائب والشدائد والله ولي التوفيق.

ص:402

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

22 - أحمد بن محمد الكوفي، عن جعفر بن عبد الله المحمدي، عن أبي روح فرج بن قرة، عن جعفر بن عبد الله، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمدينة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله ثم قال: أما بعد فإن الله تبارك وتعالى لم يقصم جباري دهر إلا من بعد تمهيل ورخاء ولم يجبر كسر عظم من الأمم إلا بعد أزل وبلاء، أيها الناس في دون ما استقبلتم من عطب (1) واستدبرتم من خطب، معتبر وما كل ذي قلب بلبيب ولا كل ذي سمع بسميع ولا كل ذي ناظر عين ببصير.

عباد الله! أحسنوا فيما يعنيكم النظر فيه، ثم انظروا إلى عرصات من قد أقاده الله بعلمه كانوا على سنة من آل فرعون أهل جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ثم انظروا بما ختم الله لهم بعد النضرة والسرور والأمر والنهي. ولمن صبر منكم العاقبة في الجنان والله مخلدون ولله عاقبة الامور.

فيا عجبا! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا وكل امرئ منهم إمام نفسه، آخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات فلا يزالون بجور ولن يزدادوا إلا خطأ لا ينالون تقربا ولن يزدادوا إلا بعدا من الله عزوجل، انس بعضهم ببعض وتصديق بعضهم لبعض، كل ذلك وحشة مما ورث النبي الأمي (صلى الله عليه وآله) ونفورا مما أدى إليهم من أخبار فاطر السماوات والأرض.

أهل حسرات وكهوف شبهات وأهل عشوات وضلالة وريبة، من وكله الله إلى نفسه ورأيه فهو مأمون عند من يجهله، غير المتهم عند من لا يعرفه، فما أشبه هؤلاء بأنعام قد غاب عنها رعاؤها ووا أسفا من فعلات شيعتي من بعد قرب مودتها اليوم، كيف يستذل بعدي بعضها بعضا وكيف يقتل بعضها بعضا، المتشتة غدا عن الأصل النازلة بالفرع، المؤملة الفتح من غير جهته، كل حزب منهم آخذ [منه] بغصن، أينما مال الغصن مال معه.

ص:403


1- 1 - كذا.

مع أن الله - وله الحمد - سيجمع هؤلاء لشر يوم لبني أمية كما يجمع قزع الخريف، يؤلف الله بينهم، ثم يجعلهم ركاما كركام السحاب.

ثم يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين سيل العرم حيث بعث عليه فأرة فلم يثبت عليه أكمة ولم يرد سننه رض طود يدغدعهم الله في بطون أودية ثم يسلكهم ينابيع في الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم ويمكن بهم قوما في ديار قوم تشريدا لبني أمية.

ولكيلا يغتصبوا ما غصبوا، يضعضع الله بهم ركنا وينقض بهم طي الجنادل من إرم ويملأ منهم بطنان الزيتون فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليكونن ذلك وكأني أسمع صهيل خيلهم وطمطمة رجالهم.

وأيم الله ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين في البلاد كما تذوب الألية على النار من مات منهم مات ضالا وإلى الله عزوجل يفضي منهم من درج ويتوب الله عزوجل على من تاب ولعل الله يجمع شيعتي بعد التشتت لشر يوم لهؤلاء وليس لأحد على الله عز ذكره الخيرة بل لله الخيرة والأمر جميعا.

أيها الناس إن المنتحلين للإمامة من غير أهلها كثير ولو لم تتخاذلوا عن مر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يتشجع عليكم من ليس مثلكم ولم يقومن قوي عليكم وعلى هضم الطاعة وإزوائها عن أهلها لكن تهتم كما تاهت بنو إسرائيل على عهد موسى [بن عمران] (عليه السلام) ولعمري ليضاعفن عليكم التيه من بعدي أضعاف ما تاهت بنو إسرائيل ولعمري أن لو قد استكملتم من بعدي مدة سلطان بني أمية لقد اجتمعتم على سلطان الداعي إلى الضلالة وأحييتم الباطل وخلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى من أهل بدر ووصلتم الأبعد من أبناء الحرب لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولعمري أن لو قد ذاب ما في أيديهم لدنا التمحيص للجزاء وقرب الوعد وانقضت المدة وبدا لكم النجم ذو الذنب من قبل المشرق ولاح لكم القمر المنير.

فإذا كان ذلك فراجعوا التوبة واعلموا أنكم إن اتبعتم طالع المشرق سلك بكم مناهج الرسول (صلى الله عليه وآله) فتداويتم من العمى والصمم والبكم وكفيتم مؤونة الطلب والتعسف ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق ولا يبعد الله إلا من أبى وظلم واعتسف وأخذ ما ليس له (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

* الشرح:

(خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام) ذكر فيها أنواعا من توبيخ الأمة على اختلاف ص:404

آرائهم في الدين واستبداد كل فرقة منهم بمذهب في الأصول والفروع مع وجوده عليه السلام بينهم وإعراضهم عنه مع علمهم بحاله ومعرفتهم بكماله (ثم قال: أما بعد فإن الله تعالى لم يقصم جباري دهر إلا من بعد تمهيل ورخاء) وخوف عليه السلام من اشتد عناده وامتد فساده ورغب في الدنيا ونسي الآخرة واغتر بماله وابتهج بحاله واستبد في الدين برأيه ولم يرجع إليه بالاستفاده منه بذكر أحوال الجبارين الذين كانوا معرضين عن دين الله ودين رسوله فمهلهم الله تعالى من باب الاستدراج تمهيلا وأنعمهم جزيلا فكانوا في نعمة ورخاء ثم قصمهم وأخذهم أخذا وبيلا لعله يتذكر أو يخشى ثم عطف الكلام إلى المؤمنين وحملهم إلى الاتحاد والاجتماع والصبر على الشدة والرخاء ورجاء المعونة والقوة من الله تعالى فقال: (ولم يجبر كسر عظم من الأمم إلا بعد أزل وبلاء) الأزل الضيق والشدة والجدب، وجبر العظم المكسور كناية عن قوتهم بعد ضعفهم يظهر ذلك لمن نظر في أتباع الأنبياء أول الأمر فإنهم كانوا في غاية الضعف والشدة ثم حصلت لهم القوة بالاتحاد والصبر والتناصر والتعاون وفيه ترغيب في الصبر على النوازل وتنبيه على أن اليسر مقرون بالعسر كما قال تعالى (إن مع العسر يسرا) وعلى وجوب الاتحاد في الدين وعدم تشتت الآراء وتفرق الذهن فيه لقلة أهله فإن الحق يعلو بالآخرة مع أن التشتت يوجب الوهن والضعف والعجز وكل ذلك ضد مطلوب الشارع.

ويحتمل أن يراد بالجبارين المخالفون له عليه السلام وبقوله «لم يجبر» شيعته وأنصاره فنبه بالأول على أن أولئك الجبارين وإن طالت مدتهم وقويت شوكتهم فهم من إمهال الله لهم ليستعدوا به الهلاك وبالثاني على أنكم وإن ضعفتم وابتليتم فذلك من عادة الله فيمن يريد أن ينصره وينصركم بظهور دولتنا القاهرة ثم إبدالهم مضمون قوله: ولم يجبر، من باب التأكيد بقوله: (أيها الناس في دون) أي في أقل أو عند (ما استقبلتم من خطب) الخطب الشأن والحال والأمر عظم أو صغر وفي بعض النسخ: من عتب، أي من عتابي لكم وهو إشارة إلى ما كانوا فيه بعد ظهور الإسلام في حال الحروب مثل حرب بدر وحرب أحد وحرب الأحزاب من الأهوال والوهن والضعف راجعين إلى صاحب الوحي والعلم الإلهي صابرين على أذى المشركين، ثابتين في الدين، متحدين فيه غير مختلفين فأيدهم الله بنصره وأزال عنهم وهنهم وجبر عظمهم بما تقر به عينهم (واستدبرتم من خطب) وهو إشارة إلى ما كانوا فيه من الأهوال والوهن والشدة في مبدأ الإسلام مع قلتهم وكثرة عدوهم فلما اتحدوا ولم يختلفوا وصبروا ورجعوا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) أيدهم الله تعالى وقواهم وجبر عظمهم بمن أسلم ودخل في الدين، ويحتمل أن يكون الخطب المستقبل والمستدبر واحدا وهو جميع ما استقبلوه ورأوه من أول الإسلام واستدبروه إلى أن قبضه (صلى الله عليه وآله) وإعادة الخطب يؤيد الأول وحذف الموصول في المعطوف يؤيد الثاني والله أعلم (معتبر) أي في دون ذلك اعتبار لمن اعتبر

ص:405

فكيف فيه فإنكم من ذلك الاعتبار تعلمون أنه يجب عليكم بعده الاتحاد في الدين والتعاون والتناصر ومقاساة مرارة الصبر والرجوع إلى أعلمكم بالفروع والأصول وبجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله والاجتماع عليه وعدم التفرق عنه بالرأي ليرد عليكم نصر الله ورحمته ويتم لكم دين الله ونعمته ثم حثهم على الاعتبار لئلا يعدوا ناقصين في العقل والسمع والبصر بقوله (وما كل ذي قلب بلبيب) أي عاقل كامل خالص ينتفع بعقله فيما خلق لأجله بل عقل الأكثر تابع للوهم والخيال والنفس الأمارة التابعة للشيطان المايلة إلى شهوات الدنيا والعصيان (ولا كل ذي سمع بسميع ولا كل ذي ناظر عين ببصير) إذ السميع والبصير من استعمل سمعه في المسموعات وبصره في المبصرات وعمل بهما واستفاد العبرة منهما وأصلح حاله في أمر المعاد واجتنب عما يوجب الفساد.

(عباد الله أحسنوا فيما يعنيكم النظر فيه) أي يهمكم ومن حسن إسلام المرء ترك النظر فيما لا يعنيه ولا يهمه وفيه حث على النظر فيما ينفع في الآخرة ومنه الاعتبار واحتمال قراءة يعينكم من الإعانة بعيد (ثم انظروا إلى عرصات من قد أقاده الله بعلمه) العرصات جمع العرصة وهي كل موضع واسع لا بناء فيه ولعل المراد بها دورهم الخربة وأراضيهم الميتة والاقادة من القود وهو محركة القصاص وإنما سمي إهلاكه قصاصا لأنه أمات دين الله تعالى فاستحق بذلك القصاص وقيل من القود نقيض السوق أي جعله الله قايدا لمن تبعه وقوله «بعلمه» بالعين المهملة في أكثر النسخ وبالمعجمة في بعضها وهو الشهوة ولعل المراد بها شهوة الدنيا وفي بعضها بعمله بتقديم الميم على اللام (كانوا على سنة من آل فرعون) جمع الضمير هنا باعتبار المعنى وإفراده في السابق باعتبار اللفظ والسنة الطريقة والسيرة.

(أهل جنات وعيون وزروع ومقام كريم) أي محافل مزينة ومنازل حسنة والظاهر أنه خبر بعد خبر لكانوا مع احتمال أن يكون بيانا للسنة (ثم انظروا بما ختم الله لهم بعد النضرة والسرور والأمر والنهي) أي بعد جريان أمرهم ونهيهم على الناس أو بعد أمر الله لهم بالطاعات ونهيهم عن المنهيات وعدم قبولهم ولفظة «ثم» هنا لمجرد التفاوت في الرتبة لأن العذاب الأخروي أقوى وأشد من العذاب الدنيوي وفيها دلالة على الفخامة والفظاعة.

والنضرة النعمة والعيش الطيب وحسن الحال، والسرور الفرح اللازم لها وفي كل ذلك تحريك على الاعتبار لمن له قلب معتبر وعقل متفكر (ولمن صبر منكم العاقبة في الجنان) أي ولمن صبر منكم على الثبات في الدين وأذى الفاسقين وتحمل التكليفات الشرعية حسن العاقبة في الجنان والعاقبة آخر كل شيء (والله مخلدون) أي والله أنتم مخلدون فيها على حذف المبتدأ (ولله عاقبة الأمور) أي الأمور الخيرية يؤتيها من يشاء بفضله ويمنعها من يشاء بعدله والمراد أن له عاقبة أمور

ص:406

كل أحد إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم تعجب عليه السلام من حال الأمة وأردفه ما هو سبب له ونادى العجب منكرا ليحضر له فقال: (فيا عجبا) أقبل فهذا أو أن إقبالك ويحتمل أن يكون نصبه على المصدر بحذف المنادى أن يا قوم عجبت عجبا.

(ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق) الاستفهام للتعجب من عدم التعجب مع حصول أسبابه وقوتها وهي ترك هذه الفرق ما ينبغي فعله وفعلهم ما ينبغي تركه كما يظهر مما يذكره (على اختلاف حججها في دينها) أي على اختلاف قصورها أو ترددها أو سننها وطرقها أو دلايلها في أصول دينها وفروعه وقوله: «في دينها» متعلق بالخطأ أو بالاختلاف أو بهما على سبيل التنازع وإنما سميت مفتريات أوهامهم ومخترعات أوهامهم حججا على سبيل التهكم (لا يقتصون أثر نبي) في بعض النسخ: «لا يقتفون» وهو تفصيل لخطايا هذه الفرق والمذام التي كان اجتماعهم فيهم سببا لتعجبه منهم (ولا يقتدون بعمل وصي) أراد به نفسه قطعا لعذرهم فإن الاختلاف في الدين قد تعرض عن ضرورة وهي عدم وجود الهادي بينهم فأما إذا كان موجودا هو هو عليه السلام لا عذر لهم على الاختلاف ولا يجوز لهم القيام عليه (ولا يؤمنون بغيب) أي بالله وصفاته واليوم الآخر وأهواله وثوابه وعقابه وحسابه أو بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) من عند الله تعالى وهو المروي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب) أو بما هو غائب عن حواسهم مما يعلم بالدليل هذا كله إن جعل قوله «بغيب» صلة ليؤمنون ويحتمل أن يكون حالا عن ضمير الجمع أي لا يؤمنون متلبسين بغيب يعني في حال الغيبة والخفاء كما هو شأن المنافقين (ولا يعفون عن عيب) أي عن زلات أخيهم أو عن عيوبه فيكون إشارة إلى الغيبة وهي فجور وعبور إلى طرف الإفراط من العفة.

(المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا) أي المعروف والمنكر تابعان لإرادتهم وميل طبعهم فما أنكرته طباعهم هو المنكر بينهم وإن كان معروفا في الشريعة وما أرادته طباعهم ومالت إليه كان هو المعروف بينهم وإن كان منكرا في الدين والواجب أن تكون إرادتهم تابعة للقوانين الشرعية في اتباع ما كان فيها معروفا وترك ما كان فيها منكرا (وكل امرئ منهم إمام نفسه آخذ منها فيما يرى) دل الأول على أنه أمام لنفسه والثاني على أن نفسه إمام له ولا ضير فيه لأنه هو نفسه ونفسه هو فهو من حيث أنه آخذ مأموم ومن حيث أنه مأخوذ منه إمام (بعرى وثيقات وأسباب محكمات) الظرف متعلق بآخذ أو حال عن فاعله يعني يفزع في المعضلات إلى نفسه ويعول في المبهمات على رأيه ويتمسك بما تذهب إليه نفسه من الآراء كأنها عنده عرى وثيقة لا يضل من تمسك بها ونصوص جلية لا اشتباه فيها ولفظ العرى مستعار (فلا يزالون بجور) أي بميل

ص:407

قلوبهم (ولن يزدادوا إلا خطأ) لأن النفس الأمارة إذا كانت إماما كان الإمام والمأموم دائما في الجور والظلم والخطأ في الحكم لظهور أن هذا الإمام شأنه ذلك والمأموم لا محالة تابع له (ولا ينالون تقربا) لأن نيل التقرب إنما هو بالتشبث بذيل الإمام العادل والميل إلى الخيرات والعمل بها والاجتناب عن المنهيات والفعل منها وهم معزولون عن جميع ذلك (ولن يزدادوا إلا بعدا من الله عز وجل) لأن الميل عن الحق يوجب بعدا والرجوع إلى خلافه والاعتقاد به وسرعة السير فيه والاستمرار عليه يوجب زيادة البعد وقوله: من الله عز وجل، متعلق بالتقرب والبعد على سبيل التنازع (أنس بعضهم ببعض وتصديق بعضهم لبعض) لتحقق الرابطة والاتحاد في الجنسية والتوافق في الطريق ولا أنس لهم بالله وبرسوله ولا بالوصي ولا تصديق لهم بهم لانتفاء الرابطة (كل ذلك وحشة.. اه) الوحشة ضد الأنس وحملها على ذلك من باب حمل المسبب على السبب وكذا حمل النفور (أهل حسرات) لباطل صنعوه وحق تركوه وفي بعض النسخ: «أهل خسران» من الخسارة (وكهوف شبهات) الكهف الملجأ يعني لا يتوقفون فيما أشتبه عليهم أمره ولا يبحثون عن وجه الحق ولا يرجعون إلى أهل العلم بل يفتون بما قادهم إليه الهوى ويعملون به وفي بعض النسخ: «وكفروا شبهات».

(وأهل عشوات وضلالة وريبة) العشوة بالفتح الظلمة وبالتثليث الأمر الملتبس وركوب أمر بجهل من غير بيان ومعرفة بوجهه وضلالة الإنسان خروجه عن طريق الحق وضلالة العمل بطلانه، والريبة بالكسر الشك والتهمة والشبهة والظنة (من وكله الله إلى نفسه ورأيه) بعدم منعه عن مقتضيات نفسه واستعمال رأيه أو بسلب اللطف والتوفيق عنه لإبطاله استعداده الفطري (فهو مأمون عند من يجهله، غير المتهم) بالخيانة والفساد (عند من لا يعرفه) ضمير المفعول في الفعلين راجع إلى الموصول الأول فيفيد أن العالم بحاله يعلم وجوه اختلاله ورجوعه إلى الله محتمل لأن من عرف الله علم أن ذلك الرجل متهم في الدين غير مأمون فيه لعلمه بوجوب الرجوع إلى من نصبه الله تعالى لإقامة دينه وإجراء أحكامه وأنه المأمون دون غيره (فما أشبه هؤلاء بأنعام قد غاب عنها رعاؤها) وجه التشبيه هو الحيرة والهلاك وعدم الاهتداء إلى المصالح الكلية والجزئية والوجه فيهم آكد لأن الأنعام بلا راع قد لا تهلك وهم قد هلكوا بدواعي النفس الأمارة وإغواء الشيطان الذي لا يغفل عنه طرفة عين (ووا أسفا من فعلات شيعتي) ألحق الأسف بذاته المقدسة وهو الحزن الشديد بسبب ما شاهده بعلم اليقين من الأحوال المنكرة اللاحقة بالشيعة بعده عليه السلام في دولة بني أمية وبني عباس من استذلال بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا بالمباشرة والتسبب وخروجهم على هؤلاء الكفرة بلا راع مفترض الطاعة وهلاكهم بأيدهيم وغير ذلك من المكاره الواردة عليهم (المتشتة غدا عن الأصل) أريد بالأصل الإمام المفترض الطاعة

ص:408

وبالغد زمان بعده عليه السلام والمتشتة وصف للشيعة وبيان لتفرقهم بفرق مختلفة (النازلة بالفرع) إشارة إلى جماعة منهم خرجوا على هؤلاء الكفرة مع جماعة من العلويين والهاشميين وغيرهم، والمراد بالفرع خلاف الأصل وهو الرعية كزيد وأضرابه (المؤملة الفتح من غير جهته) وصف ثالث للشيعة وإشارة إلى خطائهم في توقيع الفتح بأيديهم لأن الفتح إنما يكون بيد الصاحب عليه السلام (كل حزب منهم أخذ منه بغصن) إشارة إلى تحزبهم بأحزاب مختلفة وأخذ كل حزب لنفسه إماما كما هو المشهور ولفظ «منه» موجود في أكثر النسخ والضمير راجع إلى الفرع.

(أينما مال الغصن مال معه) تشبيه تمثيلي لقصد الإيضاح والوجه في المشبه به حسي وفي المشبه عقلي أو مركب منه ومن حسي وهذا من أحسن التشبيهات في إفادة لزوم المتابعة إذ كما أن حركة الورق إلى جهات حركة الغصن بتحريك الريح أو غيره تابعة لازمة غير منفكة كذلك حركة كل حزب إلى جهات حركة إمامه في الأمور العقلية والعملية وبعد الإشارة إجمالا إلى صولة بني أمية وشوكتهم وأن الخارج عليهم مغلوب مقهور أشار إلى زوال ملكهم وتبدد نظامهم بخروج أبي مسلم مع أهل خراسان ومرو، وساير الأعاجم عليهم بقوله (مع أن الله وله الحمد سيجمع هؤلاء) أي الشيعة بالمعنى الأعم أو الأعم منهم ومن غيرهم «وله الحمد» معترضة لثنائه تعالى على ذلك (لشر يوم لبني أمية) وهو يوم زوال دولتهم ونزول نكبتهم (كما يجمع قزع الخريف) القزع محركة قطع السحاب المتفرقة وإنما خص الخريف لأنه أول الشتاء والسحاب يكون فيه متفرقا غير متراكم ولا مطبق ثم يجتمع بعضه إلى بعض بعد ذلك (يؤلف الله بينهم) فيتوافق قلوبهم على أمر واحد (ثم يجعلهم ركاما كركام السحاب) الركام الرمل المتراكم بعضه فوق بعض وكذلك السحاب المتراكم وما أشبه من الركم وهو جمع شيء فوق آخر حتى يصير ركاما.

(ثم يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستشارهم) في بعض النسخ «من مستثارهم» بالثاء المثلثة استعار الأبواب للطرق ورشح بذكر الفتح مع ما فيه من الإيماء إلى أن حدود ملك بني أمية كأنها كان عليها سور لشدة قوتهم من منع دخول العدو فيه وأريد المستشار موضع شورهم وهو عرض كل واحد ما في ضميره على غيره ليتفقوا على أمر واحد هو أحسن وأوفق لهم، وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: أريد أن الشيعة بعد اجتماعهم على أبي مسلم يتفرقون إلى البلاد من محل ثورانهم لقمع أمراء بني أمية من البلاد، وفيه استعارة تبعية حيث شبه سيرهم في البلاد بالسيل الجاري إلى المنحدر في السرعة والإزدحام والتخريب وعدم احتمال الرجوع واستعار له لفظ الفعل (كسيل الجنتين سيل العرم) المذكور في القرآن الكريم والعرم بفتح العين وكسر الراء فسر بالسد والصب والمطر الشديد والوادي الذي جاء السيل من قبله والجرذ الذكر، وإضافة السيل إليه لأنه نقب السد فجرى السيل فخرب البلدة والجنات التي تحته (حيث بعث عليه فارة) حيث للتعليل وضمير

ص:409

المجرور راجع إلى العرم إن أريد به السد أو إلى السيل بحذف المضاف أي على سده والفأرة معروفة وهي مهموزة وقد يترك همزها تخفيفا (فلم تثبت عليه أكمة) لأنه قلعها لشدته وقوته والأكمة محركة التل من حجارة، أو هي دون الجبال أو الموضع المرتفع مما حوله وهو غليظ صلب لا يبلغ أن يكون حجرا (ولم يرد سننه رض طود) السنن الوجه والطريق والشدة والسير وصب الماء، والرض بالضاد المعجمة الدق والرس بالسين المهملة كما في بعض النسخ الدس والثبوت ومنه الرسيس وهو الشيء الثابت الطود الجبل أو عظيمه وفي اعتبار هذه الأوصاف في المشبه به دلالة على اعتبارها في المشبه وهو كذلك لأن الشيعة وغيرهم بعد اجتماعهم على أبي مسلم ساروا من محلهم إلى أمراء بني أمية وهم مع كثرة عدتهم وشدتهم لم يقدروا على ردهم حتى جرى عليهم قضاء الله تعالى بالاستئصال ولما شبههم بالسيل ووصفهم بما يناسبه فقال (يدغدغهم الله في بطون أودية) أي يحركهم تحريكا شديدا في طرقهم المسلوكة إلى بلاد بني أمية وسماها بطون أودية لمناسبة السيل والجملة حال عن فاعل يسيلون.

(ثم يسلكهم ينابيع في الأرض) الإسلاك إدخال الشيء في الشيء وكذا السلوك إذا كان متعديا يقال: سلك المكان سلكا وسلوكا دخل وسلكه غيره وفيه وأسلكه إياه وفيه وعليه أدخله فيه والظاهر أن في الأرض متعلق به وهي أرض بني أمية وأن ينابيع حال عن ضمير الجمع على تشبيههم بها في جريانهم أو في وصول المدد إليهم من غير انقطاع (يأخذ بهم من قوم حقوق قوم) الجملة حال عن فاعل يسلكهم أي يأخذ الله بسبب هؤلاء المجتمعين لإهلاك بني أمية منهم حقوق قوم مظلومين من سطوتهم سيما الحسين عليه السلام واتباعه رضي الله عنهم (ويمكن بهم قوما في ديار قوم) أي يمكنهم في ديار بني أمية بناء على أن نصب قوما من باب التجريد للمبالغة في كثرتهم حتى أنهم بلغوا فيها حدا يصلح أن ينتزع منهم مثلهم كما قالوا في مثل لقيت بزيد أسدا أو يمكن بهم بني عباس في ديارهم (تشريدا لبني أمية ولكيلا يغتصبوا ما غصبوا) مفعول له ليمكن أو لقوله سيجمع هؤلاء، وما عطف عليه على سبيل التنازع ولعل المراد أن غاية هذه الأفعال أمران: أحدهما تشريد بني أمية، والثاني أن لا يغصب هؤلاء ما غصب بني أمية من حق آل محمد صلى الله عليه وآله والأول وقع لكونه حتميا والثاني لم يقع لكونه تكليفا والله أعلم (يضعضع الله بهم ركنا) أي يهدمه ويذله والركن هنا مروان الحمار.

(وينقض بهم طي الجنادل من إرم) إرم كعنب دمشق وأيضا أحجار يوضع بعضها على بعض علما للطريق ونحوه فمن على الأول متعلق بينقض أي ينقض من دمشق طي الأحجار أو الأحجار المطوية وعلى الثاني متعلق به أو بالطي والنقض على التقديرين كناية عن تخريب الآثار والديار وهدمها (ويملأ منهم بطنان الزيتون) بطنان الشيء بفتح الباء وسطه وبضمها جمع بطن وهو

ص:410

المطمئن من الأرض والغامض منها والزيتون جبال الشام ومسجد دمشق وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: فيه إشارة إلى استيلاء الشيعة على دمشق وحواليها على من كان فيهما من بني أمية (فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة) قد مر أنه عليه السلام كثيرا ما كان يقسم به لدلالته على كمال عظمته تعالى (ليكونن) ذلك أي ذلك المذكور وهو جميع ما أخبر به عليه السلام (وكأني أسمع صهيل خيلهم) الصهل محركة حدة الصوت وكأمير صوت الفرس (وطمطمة رجالهم) أي كلماتهم المنكرة يقال: رجل طمطم وطمطمي بكسرهما إذا كانت في لسانه عجمة وإنما سمي كلماتهم طمطمة لكون لغات أكثرهم عجمية وقد نزل عليه السلام علمه بالصهيل والطمطمة بمنزلة سماعهما أو جعل زمانهما المستقبل حاضرا فأخبر بسماعهما (أيم الله ليذوبن ما في أيديهم) أيم الله من ألفاظ القسم أصله أيمن الله بفتح الهمزة وضم الميم جمع يمين الله حذفت النون للتخفيف وتشبيه ما في أيديهم بالرصاص ونحوه مكنية ونسبة الذوب إليه تخييلية ويفهم منه تشبيه عدوهم بالنار وفي قوله (بعد العلو والتمكين في البلاد) مبالغة في قوة أعدائهم المنصورين (كما تذوب الإلية على النار) شبه ما في أيديهم بالإلية في الذوب وهو في المشبه عقلي وفي المشبه به حسي والغرض منه تقرير حال المشبه في نفس السامع لأن إلف النفس بالحسيات أتم من إلفها بالعقليات أو شبه ذوبه بذويها في الظهور والغرض منه بيان إمكانه (من مات منهم مات ضالا خارجا) عن دين الله عز وجل (وإلى الله عز وجل يفضي) فيجزي بما عمل وهل يجازى إلا الكفور (منهم من درج) أي انقرض أو لم يخلف نسلا وفي القاموس: درج القوم انقرضوا وفلان لم يخلف نسلا وهو من أخباره عليه السلام بالغيب لأن بني أمية مع كثرتهم ليس لهم الآن نسل مشهور وإنما أتى بلفظ الماضي للدلالة على القطع بوقوعه فكأنه وقع هذه من باب الاحتمال والله أعلم (ويتوب الله عز وجل على من تاب) أي يقبل توبته ورجوعه إلى الحق ولا يعاقبه بذنوب آبائه (ولعل الله يجمع شيعتي بعد التشتت لشر يوم هؤلاء) هذا إما تأكيد لما مر أو إخبار بالاجتماع الشيعة في عصر المهدي عليه السلام كما مر وسيجئ (وليس لأحد على الله عز ذكره الخيرة) في أمر الدين ونصب الإمام حتى يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويختار من يشاء (ولو لم تتخاذلوا عن مر الحق..

اه) أي لو لم تتدابروا عنه وصبرتم عليه واتفقتم على توهين الباطل وإزهاقه لم يغلب عليكم أهل الباطل ولم يقدروا على هضم طاعة امامكم وإزوائها وإبعادها وغصبها منه (لكن تهتم وتحيرتم) عن أمركم وضللتم بعد نبيكم (كما تاهت بنو إسرائيل) وتحيروا على عهد موسى عليه السلام وتدابروا عن خليفته هارون عليه السلام وعبدوا العجل وفيه توبيخ للشيعة عن تفرقهم عن الحق ونصرته مع علمهم به بعد اجتماع أرباب الضلالة على باطلهم وقد وقع ذلك في عهده عليه السلام وبعده ثم أشار إلى أن الضلالة في هذه الأمة أكثر من ضلالة بني إسرائيل بقوله (ولعمري) حلف

ص:411

ببقائه وحياته لترويج مضمون الخبر وتحقيق ثبوته.

(ليضاعفن عليكم التيه) أي الضلالة والحيرة والفتنة (من بعدي أضعاف تاهت بنوا إسرائيل) أخبر عليه السلام بما يقع بعده وقد وقع فإن الشيعة وغيرهم صاروا فرقا متكثرة ومذكورة بتفصيلها وتفصيل مذاهبها وعقايدها في الكتب المعتبرة ثم أشار إلى أن لهم بعد بلية بني أمية بلية أخرى بقوله (ولعمري أن لو قد استكملتم من بعدي مدة سلطان بني أمية) أي مدة سلطنتهم وقدرتهم وهي إحدى وتسعون سنة (لقد اجتمعتم على سلطان الداعي إلى الضلالة) وهو السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أول خلفاء بني عباس ومدة سلطنتهم خمسمائة وثلاثة وعشرون سنة وشهران وثلاثة وعشرون يوما (وأحييتم الباطل) بترويجه وتقويته وتشهيره وفي بعض النسخ وأجبتم من الإجابة (وخلفتم الحق وراء ظهوركم) أريد بالحق الإمام المنصوب من قبله تعالى أو دينه أيضا (وقطعتم الأدنى من أهل بدر ووصلتم الأبعد من أبناء الحرب لرسول الله (صلى الله عليه وآله)) الظاهر أن من بيان للأدنى والأبعد أو حال عنهما وأن المراد بالأدنى ذاته المقدسة وبالأبعد عمه العباس لأنه عليه السلام أقرب إلى الرسول من حيث الإيمان به والنصرة له في المواطن كلها خصوصا في بدر من عباس وهو من أبناء الحرب للرسول وقد أسر فيه والمعنى قطعتموني وتركتم الأئمة من ذريتي ووصلتموه وأقررتم بخلافة أولاده الفسقة.

و «أبناء الحرب» من باب الاستعارة يظهر وجهها بما ذكرنا سابقا في أبناء الدنيا والله أعلم (ولعمري أن لو قد ذاب ما في أيديهم) بما أوقده هلاكو من نار الحرب عليهم وقد أخبر به عليه السلام في موضع آخر (لدنا التمحيص للجزاء) أي لقرب ابتلاء هؤلاء بغيرهم من أرباب الملل الباطلة كلهم لجزائهم بما كانوا يعملون (وقرب الوعد) بظهور المهدي عليه السلام (وانقضت المدة) المقررة لغيبته يعني أكثرها أو بعضها أخبر (عليه السلام) بأنه لابد من وقوع هذه الأمور قبل ظهور ولده الطيب الهادي عليه السلام ثم أخبر بقرب زمان ظهوره بناء على أن كل ما هو آت فهو قريب ولم يقل: إن ظهوره مقارن لانقضاء هذه الأمور بل لظهوره علامات أخر كما في الأخبار (وبدا لكم النجم ذو الذنب) هذه علامة أخرى وقد طلع في زماننا سنة خمس وسبعين بعد ألف من الهجرة نجم ذو ذنب من قبل المشرق وامتد إلى شهر وآخر وكان ضوؤه وامتداده أقل من ذلك ويحتمل بعيدا أن يراد به الأجل أو الوقت المضروب فيكون إشارة إلى خروج الدجال أو يأجوج ومأجوج مع عساكرهما واتباعهما والله أعلم (ولاح لكم القمر المنير) يحتمل أن يراد به ظهور القايم أو نزول عيسى عليهما الصلاة والسلام فراجعوا التوبة لتضيق وقتها ولأنها نافعة من الهلاك (واعلموا أنكم إن اتبعتم طالع المشرق) أراد به الصاحب عليه السلام وشبهه بالشمس في النور والظهور والاستيلاء على العالم ورفع حجب ظلم الجهالات.

ص:412

وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: يحتمل أن يكون المراد به المهدي الموعود لا يقال: طلوعه من مكة وهي وسط الأرض لأنا نقول اجتماع العساكر الكثيرة على المهدي عليه السلام وتوجهه إلى فتح البلاد إنما يكون من الكوفة وهي شرق الحرمين وكثير من بلاد الإسلام (سلك بكم مناهج الرسول صلى الله عليه وآله) الباء في بكم للتعدية والمناهج جمع المنهج وهو الطريق الواضح المستقيم.

(فتداويتم من العمى والصم والبكم) هذه الأمراض الثلاثة من أمهات الأمراض المهلكة فإن عمى البصر عن رؤية آثار الصنع وعمى البصيرة عن إدراك الحق وصمم الأذن المانع عن سماع نداء منادي الحق وبكم اللسان المانع عن التكلم بالأقوال الصالحة مهلكة وظهور الصاحب عليه السلام دواء لها (وكفيتم مؤونة الطلب والتعسف) أي الاضطراب والتحير في طريق المعاش وفي كنز اللغة: التعسف بر بي آرامى رفتن وذلك النزول البركة لأن الأرض وحاصلها ما له والخلق عياله يعطي كل أحد ما يكفيه ويستقيم حاله (ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق) الفادح الأمر الصعب المثقل فوصف الثقل به للمبالغة فيه (ولا يبعد الله) من رحمته وفضله (إلا من أبى) متابعته وظلم عليه وعلى نفسه (واعتسف) عن طريق الحق ومال عنه (وأخذ ما ليس له) من أمر الولاية وغيره وهذا إما دعاء أو إخبار (وسيعلم الذين ظلموا) على الأوصياء وأخذوا حقوقهم (أي منقلب ينقلبون) فيه وعيد عظيم لهم بأنهم سيعلمون عند الموت وبعده سوء منقلبهم وما يجدون فيه من الويل والندامة والحسرة على ما فرطوا في جنب الله واحتمال أنهم سيعلمون بعده عليه السلام سوء منقلبهم في دولة بني أمية وغيرهم من القتل والذل والصغار بعيد.

ص:413

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

23 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، ويعقوب السراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر فقال: «الحمد لله الذي علا فاستعلى ودنا فتعالى وارتفع فوق كل منظر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وحجة الله على العالمين، مصدقا للرسل الأولين وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فصلى الله وملائكته عليه وعلى آله.

أما بعد: أيها الناس فإن البغي يقود أصحابه إلى النار وإن أول من بغي على الله جل ذكره عناق بنت آدم وأول قتيل قتله الله عناق وكان مجلسها جريبا [من الأرض] في جريب وكان لها عشرون إصبعا في كل إصبع ظفران مثل المنجلين فسلط الله عز وجل عليها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا مثل البغل فقتلوها وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا وأمات هامان وأهلك فرعون وقد قتل عثمان، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (صلى الله عليه وآله) والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوطة القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سابقون كانوا سبقوا والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم.

ألا وإن الخطايا يا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة وفتحت لهم أبوابها ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم: (ادخلوها بسلام آمنين) ألا وقد سبقني إلى هذا الأمر من لم أشركه فيه ومن لم أهبه له ومن ليست له منه نوبة إلا بنبي يبعث، ألا ولا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) أشرف منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جنهم.

حق وباطل ولكل أهل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق فلربما ولعل ولقلما أدبر شيء فأقبل ولئن رد عليكم أمركم أنكم سعداء وما علي إلا الجهد وإني لأخشى أن تكونوا على فترة ملتم عني ميلة، كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي، ولو أشاء لقلت: عفى الله عما سلف، سبق فيه الرجلان وقام الثالث كالغراب همه بطنه، ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيرا له،

ص:414

شغل عن الجنة، والنار أمامه، ثلاثة واثنان خمسة ليس لهم سادس: ملك يطير بجناحيه ونبي أخذ الله بضبعيه، وساع مجتهد، وطالب يرجو، ومقصر في النار، اليمين والشمال مضلة والطريق الوسطى هي الجادة عليها ما في الكتاب وآثار النبوة; هلك من ادعى وخاب من افترى إن الله أدب هذه الأمة بالسيف والسوط وليس لأحد عند الإمام فيهما هوادة فاستقروا في بيوتكم وأصلحوا ذات بينكم والتوبة من ورائكم، من أبدى صفحته للحق هلك.

* الشرح:

(خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام) مشتملة على التخويف بذكر أحوال الجبارين وتنكيلهم وعلى شدة ابتلاء الناس وذم الخلفاء الثلاثة وبيان أقسام الناس وغير ذلك (الحمد لله الذي علا فاستعلى) أي على كل شيء علوا عقليا بالرتبة والشرف والعلية فاستعلى أن يكون شيء فوقه أو أن يدرك كنه ذاته عقول العارفين (ودنى فتعالى) أي قرب من كل شيء قربا معنويا فتعالى عن المشابهة بالمخلوقين أو عن التحيز بحيز بل قربه بالعلم المحيط بكل شيء والتفريع يشعر بأن الدنو المطلق سبب لتعاليه عما ذكره لاستحالة أن يكون المشابه بالخلق والمفتقر إلى مكان قريبا من كل شيء في آن واحد (وارتفع فوق كل منظر) المنظر إما مصدر بمعنى النظر أو ما ينظر إليه يعني أنه ارتفع من جهة ذاته وصفاته وهو فوق النظر الحسي والعقلي أو فوق ما ينظر إليه الحس والعقل لأن مدركهما وهو الصورة المحسوسة والمعقولة من الأمور الممكنة أو فوق كل سبب والسبب منظر مجازا لأن المسبب ينظر إليه والله أعلم.

(أما بعد: أيها الناس فإن البغي يقود أصحابه إلى النار) البغي الظلم والتجاوز عن الحد والخروج عن طاعة الإمام العادل (وإن أول من بغي على الله عز وجل عناق بنت آدم) في معارج النبوة وهي أول من بني الفسق والفجور من النساء، وعوج بن عناق اسم أبيه سيخان واشتهر نسبته إلى أمه ولم ينج من الطوفان إلا عوج لطول قامته (وأول قتيل قتله الله عناق) لفجورها المعروف من الفاسقات أو لبغيها على المؤمنين والمؤمنات وفيه وعيد الباغي بتعجيل عقوبته مع ما عليه في الآخرة (وكان مجلسها جريبا [من الأرض] في جريب) في المغرب الجريب بالفتح ستون ذراعا في ستين (وكان لها عشرون أصبعا) الظاهر أن هذه الأصابع ليديها لا لمجموع يديها ورجليها كما هو المعروف من نوع الإنسان وإن كان محتملا، وفي معارج النبوة: كان طول كل أصبع ثلاثة أذرع وعرضه ذراعين بذراع أزيد من ذراع عامة الخلائق بقبضة والقبضة أربع أصابع (في كل أصبع ظفران مثل المنجلين) أحدهما في الظاهر والآخر في الباطن أو كلاهما في الظاهر أحدهما فوق

ص:415

الآخر والمنجل بالكسر حديدة يحصد بها الزرع وقوله «من الأرض» ليس في بعض النسخ (ونسرا مثل البغل) في القاموس: النسر طاير لأنه ينتسر الشيء ويقتلعه، وقيل، طائر معروف له قوة في الصيد لا مخلب له وإنما له ظفر كظفر الدجاجة (وقد قتل الله الجبابرة) الذين جبروا الخلائق على ما أرادوا من الأوامر والنواهي ولم يرفقوا لفسادهم وبغيهم (على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا) من القوة والقدرة والنعمة وطيب العيش والجاه والمال والسلطنة ولم ينفعهم شيء من ذلك حين نزل غضب الله بساحتهم (وأمات هامان وأهلك فرعون) وقومهما لبغيهم وتجاوزهم عن الحد وفيه زجر لأصحاب القدرة والاقتدار عن البغي والفساد وتنبيه على أنه تعالى أشد قوة منهم وهو القوي العزيز (وقد قتل عثمان) لما صدر منه من الفساد في الدين والبغي على المسلمين (ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه) أشار به إلى أن حالهم عند قيامه عليه السلام بالخلافة كحالهم عند بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) في كونهم في البلية وهي الضلالة والشبهة واختلاف الأهواء وتشتت الآراء وعدم الألفة والاجتماع والنصرة لدين الحق وفيه تنبيه على أنهم ارتدوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يكونوا من أهل الدين والتقوى.

ثم أشار إلى أنهم كما عادت بليتهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك تعود بعده عليه السلام مؤكدا بالقسم البار بقوله (والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة) البلبلة والبلابل اختلاط الألسنة وتفريق الآراء وشدة الهم والبلية أي لتخلطن اختلاطا في ألسنتكم أو لتفترقن افتراقا في آرائكم أو لتبتلين ببلية شديدة وتتحركن بالشدائد وهي إشارة إلى ما يوقع بهم بنو أمية وبنو عباس وغيرهم من أمراء الجور من الفتن المزعجة والبلايا المتراكمة وخلط بعضهم ببعض وخفض أكابرهم ورفع أراذلهم (ولتغربلن غربلة) إشارة إلى التقاط آحادهم وقصدهم بالقتل والأذى كما فعلوا بكثير من الصحابة والتابعين والصالحين شبه فعلهم ذلك بغربلة الدقيق لتميز بعضهم عن بعض واستعار له لفظها (ولتساطن سوطة القدر) أشار إلى خلطهم بعده عليه السلام في خلافة الجبابرة كخلط ما في القدر والسوط الخلط وهو أن تخلط شيئين في قدر ونحوه وتضربهما بيدك أو بالسوط حتى يختلطا والمسوط خشبة تحرك بها ما في القدر ليختلط واستعار لفظ السوط مع غايته المذكورة لتصريف أئمة الجور لهم من حال إلى حال وتقليبهم من طور إلى طور وخفض شريفهم ورفع وضيعهم وتعظيم جاهلهم وتحقير عالمهم بجميع أسباب الإهانة والتعبير لما كانوا عليه في ذلك الوقت من القواعد ثم أشار إلى بعض نتائج تقلب الزمان وتغير أحوالهم بقوله (وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سابقون كانوا سبقوا) أراد بالمقصرين الذين يسبقون قوما لهم سابقة في الإسلام قصروا في نصرته وطاعته أولا حين وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم أطاعوه ونصروه في ولايته وبالسابقين الذين يقصرون قوما أطاعوه في أول الأمر ثم قصروا في طاعته وخذلوه وانحرفوا عنه.

ص:416

وقيل: أراد بالأول كل من هداه الله إلى طاعته وامتثال أوامره ونواهيه وزواجره بعد تقصيره في ذلك وبالثاني من كان في مبدأ الأمر مشمرا في سبيل الله مجتهدا في طاعته ثم جذبه هواه إلى غير ما كان عليه فاستبدل بسبقه في الدين تغييرا وانحرافا ثم أقسم الصادق المصدق تأكيدا لما سبق وما يأتي فقال (والله ما كتمت وشمة) هي بالشين المعجمة الكلمة وبالمهملة العلامة (ولا كذبت كذبة) التاء فيهما للوحدة والتنكير للتحقير (ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم) أي مقام الخلافة واجتماع الناس عليه، ثم صرف الكلام إلى نصحهم وزجرهم عن الخطايا وحثهم على الطاعة والتقوى على سبيل المبالغة فقال (ألا وإن الخطايا خيل) أي كخيل حذفت أداة التشبيه وحمل المشبه به على المشبه للمبالغة وقوله (شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها) ترشيح للتشبيه، وشمس بضمتين جمع شموس وهو النفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته ولجم ككتب جمع لجام ككتاب للدابة فارسي معرب (فتقحمت بهم في النار) في النهاية: تقحمت به دابته إذا ندت به فلم يضبط رأسها فربما طرحت به في أهوية وتقحم الإنسان الأمر العظيم إذا رمى نفسه فيه من غير رؤية وتثبت وعلى هذا فالباء في «بهم» بمعنى مع ولفظة «في» زائدة للمبالغة في التعدية وفيه تنفير بليغ للسامعين عن الخطايا حيث صورها في أذهانهم بصورة فرس شموس خلع لجامها ومن البين أن العاقل يتنفر عن ركوبها لعلمه بأنها تلقيه في المهالك فكذلك يتنفر عن ركوب الخطايا لعلمه بأنها تلقيه في النار، فإن قلت: كل ما اعتبر في جانب المشبه به ينبغي اعتباره في جانب المشبه أيضا فما معنى شموس الخطايا وما معنى لجمها المخلوعة.

قلت شموسها ظاهرة لكونها جاذبة لصاحبها إلى خلاف نظام الشرع وقوانينه واللجم هي القوانين الشرعية وهي مخلوعة منها (ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة) فيه ترغيب في التقوى والميل إلى ركوبها في السير إلى الله تعالى وإلى الغياية المعينة وهي الجنة حيث صورها بالمطية الموصوفة بالوصف المذكور الموصلة راكبها إلى الغاية المقصودة له وذلك الوصف كونها ذلولا ومع زمام يتمسك به الراكب وكما أنها بهذا الوصف تلزم الطريق المستقيم ولا تتجاوزه وتسير براكبه حتى توصله إلى مقصده كذلك التقوى إذ سهولة طريق السالك إلى الله بالتقوى تشبه ذل المطية والحدود الشرعية وقوانينها التي تكون مع التقوى تشبه زمامها، وإيصال التقوى صاحبها إلى السعادة الأبدية التي هي قرب الحق ودخول الجنة تشبه إيصال المطية المذكورة راكبها إلى مقتصده والتشبيه فيه وفي السابق تشبيه معقول بمحسوس لقصد الإيضاح.

ثم أشار عليه السلام إلى أن من سبقه في أمر الخلافة ليس مستحقا له بوجه من الوجوه بقوله (ألا ومن سبقني إلى هذا الأمر) أمر الخلافة (من لم أشركه فيه ومن لم أهبه له) دل على أن أمر

ص:417

الخلافة كان حقه عليه السلام (ومن ليست له منه نوبة إلا بنبي يبعث ألا ولا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله)) في بعض النسخ توبة بالتاء والباء وليس لها في ظني معنى محصل وفي بعضها ثوية بالثاء المثلثة والياء المثناة من تحت وفي بعضها ثوبة بالثاء المثلثة والباء الموحدة وفي بعضها «نوبة» بالنون والباء الموحدة وكان المعنى على هذه النسخ أنه ليس له مقام ونوبة من أمر الخلافة الأعلى فرض محال وهو بعث نبي بعد نبينا صلى الله عليه وآله والموقوف على المحال محال، والفاضل الأمين الأسترآبادي نقل الثانية والثالثة لا غير وقال: لم أجدهما مناسبا للمقام وصوابه ومن لبس ثوبه ومعناه من لبس ثوب الإمامة ممن سبقني «أشرف منه على شفا جرف هار» انتهى وأنت خبير بأن العبارة آبية عنه والله أعلم.

ولما كان هنا مظنة السؤال وهو أنه ما حال مآله أجاب عنه على سبيل الإستيناف بقوله (الله شرف منه) أي من أجل هذا الأمر (على شفا جرف هار فإنهار به في نار جهنم) شفا جرف ظرفه وجرف واد شقه السيل ومكان هار ضعيف رخو يتساقط بعضه على بعض وأصله هاير نقلت الهمزة إلى بعد الراء كما قالوا في شايك السلاح شاكي السلاح ثم عمل به ما عمل بالمنقوص نحو قاض وداع، والانهيار السقوط وفيه تشبيه معقول بمحسوس للتنبيه على أن ما هو عليه في صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم مصيره إليها لا محالة (حق وباطل) لما ذكر أن ههنا طريقين مسلوكين طريق التقوى وطريق الخطاء ذكر بعده أنهما حق وباطل كأنه قال: وهما حق وهو التقوى وباطل وهو الخطأ (ولكل أهل) أي ولكل من الحق والباطل قوم أعد لهم القدرة الأزلية والعلوم الإلهية لسلوكهما ثم أردف ذلك بما يشبه الاعتذار لنفسه ولأهل الحق في قلته وذم أهل الباطل على كثرته وهو قوله (فلئن أمر الباطل) أي كثر يقال: أمر كفرح أمرا وأمرة إذا كثر وتم (لقديما ما فعل) والمراد أن كثرة الباطل في هذا الوقت ليست بديعة حتى أجهد نفسي وأجهدتم أنفسكم في الإنكار على أهله.

(ولئن قل الحق فلربما ولعل) نبه على أن الحق وإن قل فربما يعود كثيرا وفي هذه العبارة الوجيزة إخبار بقلة الحق ووعد بقوته مع نوع تشكيك في ذلك وتمني لكثرته (ولقلما ما أدبر شيء فأقبل) استبعاد لرجوع الحق إلى الكثرة والقوة بعد الضعف والقلة على وجه كلي فإن إدبار نور الحق يوجب إقبال ظلمة الباطل وظاهر أن عود الحق وإضاءة نوره بعد إدباره وإقبال ظلمة الباطل أمر بعيد في عادة هذا الخلق ولعله يعود بقوة فتستضيء قلوب المستعدين بأنواره وما كان ذلك على الله بعزيز وفي ذلك تنبيه على لزوم الحق كيلا يضمحل بتخاذلهم عنه فلا يمكنهم تداركه (ولئن رد عليكم أمركم) أي الحق الذي كنتم عليه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وصلاح أحوالكم واستقامة سيرتكم التي كانت لكم في زمانه (أنكم سعداء) عند الله في الدنيا والآخرة (وما علي إلا الجهد) في

ص:418

إصلاح حالكم ورد أمركم وعود ذلك الأمر إليكم.

(وإني لأخشى أن تكونوا على فترة) هي الزمان الذي بين الرسولين وإذا أطلقت يراد به ما بين عيسى عليه السلام ونبينا صلى الله عليه وآله والمراد هنا الجاهلية إطلاقا لاسم الظرف على المظروف أي أخشى أن تكون أحوالكم أحوال الجاهلية إطلاقا لاسم الظرف على المظروف أي أخشى أن تكون أحوالكم أحوال الجاهلية في التعصبات الباطلة بحسب الأهواء المختلفة ولما كان هنا مظنة أن يقال: ما سبب تلك الخشية؟ أجاب عنه بقوله (ملتم عني ميلة كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي) وهي تقديم الخلفاء الثلاثة عليه وتخصيصها بتقديم عثمان عليه وقت الشورى وما جرى فيها من الأقوال والأفعال بعيد (ولو أشاء لقلت) يفهم منه أنه لو قال لكان مقتضى قوله نسبة من تقدم عليه إلى الظلم له وتخطئتهم في التقدم عليه وذكر معائب تقتضي عدم استحقاقهم للخلافة وتقدير الكلام ولكي لا أقول فلم أكن مريدا للقول (عفا الله عما سلف) إشارة إلى مسامحته لهم بما سبق منهم وعدم إظهار فضايحهم إذ العادة جارية على أن يقول الإنسان ذلك فيما يسامح به غيره من الذنوب (سبق فيه) أي في أمر الخلافة (الرجلان) اللذان نصب كل واحد منهما صاحبه وتبعهما الجاهلون (وقام الثالث) بالأمر بنصب زوج أخته لأمه عبد الرحمن بن عوف (كالغراب همته بطنه) وقد كان أكولا متوسعا في الأكل مثل الغراب وجه التشبيه أن الغراب كما لا هم له بشيء أكثر من الأكل ولذلك هو أكبر الطيور لطلب الغذاء كذلك لم يكن أكبر همه إلا الترفه والتوسع في المطعم وسائر مصالح البدن دون ملاحظة أمور المسلمين ومراعاة مصالحهم (ويله لو قص جناحاه) كناية عن الفقر وسلب القدرة وعدم حصول أسباب الدنيا والإمارة له (وقطع رأسه كان خيرا له) إذ الأول يوجب المشقة الدنيوية والثاني يوجب زوال الحياة البدنية وهما خير له مما لحقته بسبب الإمارة من العقوبة الدايمة الاخروية وزوال الحياة الروحانية الأبدية (شغل عن الجنة والنار أمامه) أي شغل عما يوجب الدخول في الجنة بغيره والحال أن النار أمامه لابد له من المصير إليها وقيل يحتمل أن يكون «عن» للتعليل أي شغل كل أحد بأمر من أجل ما هو أمامه من الجنة والنار يعني جعل له شغل من أجلهما بذلك الأمر فيجب عليه أن لا يشتغل إلا به وهو ما يوجب الفوز بالجنة والنجاة من النار، والمراد بكونهما أمامه أنه مذكر لهما مدة عمره أو أنه مسافر إليه تعالى كذلك وسفره ينتهي إلى الجنة أو إلى النار فهما على التقديرين أمامه ومن كان كذلك وجب عليه أن لا يشتغل إلا بذلك الأمر و «شغل» على الوجهين مبني للمفعول لأن المقصود هنا ذكر الشغل دون الفاعل وهو الشاغل أو لكون الفاعل ظاهر لأنه في الأول هو الشيطان أو النفس الأمارة وفي الثاني هو الله تعالى بإيجاد الجنة والنار والترغيب فيما يوجب دخول الأولى والترهيب عما يوجب دخول الثانية والله أعلم، ثم بعد ذكر التقوى وخلافها والخلفاء الثالثة وأحوالهم والجنة

ص:419

والنار والاشتغال بهما عن غيرهما على سبيل الإجمال قسم الخلق خمسة أقسام ليعرف الناظر فيه مرتبته ويطلب درجته.

(فقال: ثلاثة واثنان خمسة ليس لهم سادس) أي هم ثلاثة واثنان وإنما قال ذلك ولم يقل:

خمسة إبتداء للتنبيه على أن ثلاثة من أصحاب العصمة والاثنين صنف آخر (ملك يطير بجناحيه) أي يسير في عالم الملك والملكوت بقدرته التي خلقها الله تعالى فيه فهو استعارة تبعية مرشحة مع احتمال أن يراد بالطيران والجناح معناهما الحقيقي كما يدل عليه ظاهر الآيات والروايات وإليه ميل أكثر أهل الإسلام حيث ذهبوا إلى أن الملائكة أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة (ونبي أخذ الله بضبعيه) الضبع بسكون الباء وسط العضد، وقيل: ما هو تحت الإبط وأخذه كناية عن تطهيره من الأرجاس ورفع قدره بين الناس (وساع مجتهد) في طلب الحق ومتابعة الرسول في جميع ما جاء به وهو الوصي المعصوم مثله.

(وطالب يرجو) أي طالب للحق مطلقا أو حق النبوة والولاية وهو الشيعة يرجو من الله الرحمة والمغفرة والجنة وإن كان بطيئا في الطلب والعمل وهذه الأربعة كلهم من أهل النجاة على تفاوت الدرجات (ومقصر في النار) وهو الذي ترك طلب الحق وتبع النفس الأمارة والشيطان وورد في موارد الهلاك والشقاء والبغي والعصيان وظاهر أنه في النار له فيها زفير وشهيق ولما أشار عليه السلام إلى أقسام الخلق أراد أن يشير إلى طريق الباطل التي عليها أصحاب الهوى وأعوان الشياطين وطريق الحق التي عليها أعلام الهدى وأنصار المؤمنين ليجتنب السالك عن الأولى ويطلب الأخرى فقال (اليمين والشمال مضلة) أي المضلة لمن سلكهما عن الصواب أو موضع ضلال عنه والمراد بهما الإفراط والتفريط (والطريق الوسطى هي الجادة) إلى الله تعالى وجنته (عليها باقي الكتاب) أي الباقي الذي في الكتاب إلى آخر الدهر، أو الكتاب الباقي فالإضافة إما بتقدير «في» أو من باب جرد قطيفة وفي بعض النسخ: ما في الكتاب بلفظ الموصول (وآثار النبوة) وهي ما جاء به من عند الله تعالى وأعظمه الولاية، وبالجملة طريق السالكين إلى الله تعالى إما العلم أو العمل فالعلم طريق القوة النظرية والعمل طريق القوة العملية وكل منهما بين رذيلتين هما طرف التفريط والإفراط والوسط بينهما هو العدل وهو الجادة الواضحة لمن اهتدى عليها ما في القرآن من المقاصد الحكمية وعليها آثار النبوة التي بها يحصل النجاة في الدنيا والآخرة (هلك من ادعى وخاب من افترى) هذا إما دعاء أو إخبار أي هلك من ادعى ما ليس له أهلا هلاكا أخرويا وخاب من كذب أي لن يحصل مطلوبه إذا جعل الكذب وسيلة إليه.

(إن الله أدب هذه الأمة بالسيف والسوط) لعلمه بأن حالهم لا يستقيم إلا بهما لقوة فظاظتهم وشدة غلاظتهم.

ص:420

(وليس لأحد عند الإمام فيهما هو أداة) أي صلح وميل وفيه كما في السابق وعيد لهم بالقتل والحد لمن استحقهما وردع لطمع الدافع بالقرابة وغيرها (فاستتروا في بيوتكم) أمر بلزومها للفرار عن الاجتماع للمنافرات والمفاخرات والمشاجرات وقال الفاضل الأمين الأسترآبادي: أمر بالتوبة عما يوجب الحد قبل ثبوته عند الإمام والاستتار بها (وأصلحوا ذات بينكم) قيل أحوال بينكم وقيل خصومة بينكم وقيل نفس بينكم ومعناه أصلحوا بينكم (والتوبة من ورائكم) تنبيه للعصاة على الرجوع بالتوبة عن الجري في ميدان المعصية واقتفاء أثر الشيطان والنفس الأمارة قبل كونها وراء لأن الجواذب الإلهية إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتى أعرض عنها والتفت بوجه نفسه إلى ما كان معرضا عنه من الندم على المعصية والتوجه إلى القبلة الحقيقية فإنه يصدق عليه حينئذ أن التوبة وراءه أي وراء عقليا وهو أولى من قول من قال: إن وراءكم بمعنى أمامكم (من أبدى صفحته للحق هلك) أي من كاشف الحق مخاصما له هلك وهي كلمة جارية مجرى المثل أو من أبدى صفحته لنصرة الحق وإظهاره في مقابلة كل باطل اورد من الجهال جهلهم على مر الحق في كل وقت يكون في معرض الهلاك بأيديهم وألسنتهم إذ لا يعدم منهم من يوصل إليه المكروه ويسعى في ذمه.

ص:421

حديث علي بن الحسين (عليهما السلام)

* الأصل:

24 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هلاك بن عطية، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: كان يقول: إن أحبكم إلى الله عز وجل أحسنكم عملا وإن أعظمكم عند الله عملا أعظمكم فيما عند الله رغبة وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله.

* الشرح:

(حديث علي بن الحسين عليهما السلام) فضل فيه رجالا بخصال فيهم لفظا وأمرهم بها معنى (إن أحبكم إلى الله عز وجل أحسنكم عملا) أي أصوبكم عملا بخلوص النية وحضور القلب وقد فسره الصادق عليه السلام به في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قيل محبته تعالى لعبده إرادته لثوابه وتكميله وما هو خير له (وإن أعظمكم عملا) أي أحسنكم إطلاقا للمسبب على السبب لأن حسن العمل سبب لعظمته فكلما ازداد ازدادت (أعظمكم فيما عند الله رغبة) إذ عظمة الرغبة فيما عند الله من الأجر والثواب والكرامة والسعادة والنعمة والفضل والإحسان يوجب المبالغة في عظمة العمل وتكثيره وحسنه وتخليصه عن شوايب النقص (وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله) الخشية له تعالى تابعة للعلم بعظمته وقدرته وغلبته على جميع ما سواه وغناه عنهم وشدة حاجتهم وفقرهم وفاقتهم إليه جل شأنه ولذلك قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ومن البين أنها جاذبة إلى فعل الطاعات وترك المنهيات الموجبين للنجاة فكلما كانت الخشية أكمل وأوفى كانت النجاة أتم وأقوى (وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا) على خلق الله والمراد بالقرب القرب المعنوي وهو السعادة العظمى والغاية الكبرى للسالكين إليه تعالى وبالخلق سداد النفس بفواضلها، ومن ثم قيل: يندرج فيه كثير من الفضايل مثل الصلة والبر واللطف والمراعاة والمواساة والرفق وحسن الصحبة بين العشيرة وغيرهم (وأرضاكم عند الله أسبغكم على عياله) في الطعام والشراب واللباس كما وكيفا مع القدرة وعدم الاسراف ورضاه تعالى عن العبد يعود إلى ثوابه له، وقيل: الرضا قريب من المحبة ويشبه أن يكون أعم منها

ص:422

لأن كل محب راض عما أحبه ولا ينعكس فرضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه بموافقته لأمره وطاعته له (وإن أكرمكم على الله أتقاكم) كما دلت عليه الآية الكريمة وفي «على» دلالة على لزوم الإكرام عليه تعالى.

* الأصل:

25 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن موسى بن عمر الصيقل، عن أبي شعيب المحاملي، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) [قال:] قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ليأتين على الناس زمان يطرف فيه الفاجر ويقرب فيه الماجن ويضعف فيه المصنف، قال: فقيل له: متى ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إذا اتخذت الأمانة مغنما والزكاة مغرما والعبادة استطالة، والصلة منا، قال: فقيل: متى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إذا تسلطن النساء وسلطن الإماء وأمر الصبيان.

* الشرح:

(ليأتين على الناس زمان يطرف فيه الفاجر) أي يدعى طريفا أي شريفا كريما وينسب إليه الطرافة والفاجر هو المنبعث في المعاصي والمحارم (ويقرب فيه الماجن) في القاموس: مجن مجونا صلب وغلظ ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه وفي بعض النسخ:

«الماحل» وهو الذي يمكر ويكيد ويسعى بالناس إلى السلطان يقال: محل به أي سعى به الملك فهو ماحل ومحول والمماحلة المماكرة والمكائدة وتمحل إحتال (ويضعف فيه المنصف) العادل المتمسك بالشريعة المستقيمة المجتنب عن الباطل (قال: قيل له: متى ذاك يا أمير المؤمنين فقال إذا اتخذت الأمانة مغنما) أي غنيمة كأنها خالص أموالهم (والزكاة مغرما) كأنها غرامة يغرمها وعد ذلك في طريق العامة «من شرائط الساعة» (والعبادة استطالة) على الناس يستطيلون بها عليهم (والصلة منا) يمنون بها على من وصوله أو على الله تعالى والمنة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته والتطاول عليه بها والمن يستلزم اعتبار الكثرة والكبر والفخر والتطاول وتوقع الجزاء عليه ويؤدي المنعم عليه ويبطل استعداد المنعم لقبول رحمة الله وجزائه ولذلك ورد النهي عنه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) واعلم أن قوله «قال فقيل.. إلى قوله.. منا» ليس في أكثر النسخ (قال: فقيل: متى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إذا تسلطن النساء وسلطن الإماء وأمر الصبيان) أمره عليه مثلثة إذا ولي والاسم الإمرة بالكسر وكل هؤلاء لضعف عقولهن ونقصان تدبيرهن وعدم علمهن بقبح الأشياء وحسنها يقدمن من أخره الشرع ويؤخرن من قدمه وللتناسب بينهن وبين ضعفاء العقول وقد وقع ذلك في أزمنة سلاطين الجور

ص:423

كثيرا فإنهم سلطوا بعض النسوان والجواري وأجروا أحكامها الناقصة على عباد الله وقوله (إذا تسلطن النساء) بحذف إحدى التائين من مضارع التفعل والظاهر تسلط بدون النون وكذا الظاهر من قوله سلطن أو تسلطن على اختلاف النسخ لوجوب إفراد الفعل إذا أسند إلى الظاهر وحمل النون على التأكيد غير مناسب سيما في نسخة الأصل وهي سلطن بلفظ الماضي فلابد من ارتكاب إحدى التأويلين إما بأن يجعل النون حرفا دالة على جمعية الفاعل قبل ذكره أو بأن يجعل الفعل خبرا مقدما على المبتدأ وهو اسم الظاهر والسلاطة القهر وقد سلطه الله فتسلط عليهم ومنه السلطان وهو الوالي يذكر ويؤنث ثم المراد بتسلط النساء والإماء وغلبتهن على الرجال إمارتهن عليهم على ما هو الظاهر ويحتمل أن يكون المراد أعم من ذلك وهو دخول الرجال تحت حكمهن سواء كن سلاطين أو لم تكن وسلطن يجوز أن يكون من المجرد المعلوم وأن يكون من المزيد المجهول، ويمكن أن يكون المراد تسليط الإماء على الحراير.

* الأصل:

26 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن جعفر العقبي رفعه قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار ولكن الله خول بعضكم بعضا فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله عزوجل، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر، فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما، قال: فأعطى كل واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير وجاء بعد غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء؟ فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا.

* الشرح:

(إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار) دل على أصالة الحرية ولذلك قدم بعضهم قول المنكر للعبودية وهذا تمهيد للتسوية في القسمة ورفع توهم من يتوقع التفاضل من أهل الشرف (ولكن الله خول) أي أعطى بعضكم بعضا من باب التمليك تفضلا بالحكمة الداعية له (فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله عز وجل) أي فمن كان له بلاء واختبار فصبر عليه ثابتا في الخير بأن يرضى ولا يشكو فلا يمن به على الله عز وجل بل لله عليه المن حيث وفقه له ولطف به وأحسن إليه وأجزل ثوابه ورفع درجته، وفيه حث على الصبر على البلاء مطلقا

ص:424

خصوصا للشريف المبتلى بالتسوية بينه وبين الوضيع في الإعطاء كما ابتلى بالتسوية بينهما في الدماء (إلا وقد حضر شيء قليل) من الدراهم والدنانير (ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر) أي بين العرب والعجم أي بين الناس كلهم وفي بعض النسخ: «مستوون» (فقال مروان لطلحة والزبير ما أراد بهذا غيركما) قال المخذول ذلك حثا لهما على المخالفة وإنكار حكمه وهو مروان بن الحكم بن العاص زوج بنت عثمان ولي الخلافة بعد معاوية بن يزيد بن معاوية أربعة أشهر وعشرا ونقل ستة أشهر وهو أبو الخبائث الأربعة عبد الملك ولي الخلافة بعده وعبد العزيز ولي مصر وبشر ولي العراق ومحمد ولي الجزيرة ثم بعد عبد الملك ولي الخلافة بنوه الوليد وسليمان ويزيد وهشام ولم يل الخلافة أربعة أخوة إلا هم (فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: يعني مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة وبني هاشم وقريش من ولد إسماعيل واليهود من ولد إسحاق إذا كانا مسلمين سواء في الغنايم وشبهها بمقتضى كتاب الله فثبت المساواة بين غيرهما من باب الأولوية.

ص:425

حديث النبي (صلى الله عليه وآله) حين عرضت عليه الخيل

* الأصل:

27 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن أحمد بن النضر; ومحمد بن يحيى، عن محمد بن أبي القاسم، عن الحسين بن أبي قتادة جميعا عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعرض الخيل فمر بقبر أبي أحيحة فقال أبو بكر: لعن الله صاحب هذا القبر فوالله إن كان ليصد عن سبيل الله ويكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: خالد ابنه، بل لعن الله أبا قحافة فوالله ما كان يقري الضيف ولا يقاتل العدو فلعن الله أهونهما على العشيرة فقدا، فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطام راحلته (صلى الله عليه وآله) على غاربها ثم قال إذا أنتم تناولتم المشركين فعموا ولا تخصوا فيغضب ولده، ثم وقف فعرضت عليه الخيل فمر به فرس فقال عيينة بن حصين: ان من أمر هذا الفرس كيت وكيت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذرنا فأنا أعلم بالخيل منك، فقال: عيينة وأنا أعلم بالرجال منك، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى ظهر الدم في وجهه فقال له: فأي الرجال أفضل؟ فقال عيينة بن حصين: رجال يكونون بنجد يضعون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على كواثب خيلهم ثم يضربون بها قدما قدما، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كذبت بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يمان والحكمة يمانية ولولا الهجرة لكنت امرءا من أهل اليمن.

الجفا والقسوة في الفدادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس، ومذحج أكثر قبيل يدخلون الجنة وحضرموت خير من عامر بن صعصعة (روى بعضهم: خير من الحارث بن معاوية) وبجيلة خير من رعل وذكوان وإن يهلك لحيان فلا أبالي.

ثم قال: لعن الله الملوك الأربعة جمدا ومخوسا ومشرحا وأبضعة وأختهم العمردة، لعن الله المحلل والمحلل له. ومن يوالي غير مواليه ومن ادعى نسبا لا يعرف. والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. ومن أحدث حدثا في الإسلام أو آوى محدثا، ومن قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه، ومن لعن أبويه، فقال رجل: يا رسول الله أيوجد رجل يلعن أبويه؟ فقال: نعم، يلعن آباء الرجال وامهاتهم فيلعنون أبويه، لعن الله رعلا وذكوان وعضلا وليحان والمجذمين من أسد وغطفان وأبا سفيان بن حرب وشهيلا ذا الأسنان وابني مليكة بن حزيم ومروان وهوذة وهونة.

ص:426

* الشرح:

(حديث النبي صلى الله عليه وآله حين عرضت عليه الخيل) الخيل الأفراس والفرسان (يعرض الخيل) أي يأتيها ويقصدها ليعرف حالها وفي بعض النسخ «لعرض الخيل» (فمر بقبر أبي أحيحة) بالحائين المهملتين مصغرا (بل لعن الله أبا قحافة) عثمان بن عمرو والد أبي بكر (ما كان يقري الضيف) قري الضيف قرى بالكسر والقصر والفتح والمد إضافة وأحسن إليه كاقتراه (فلعن الله أهونهما على العشيرة فقدا) عشيرة الرجل من يعاشرهم ويعاشرونه من العشرة وهي الصحبة والفقد الغيبة والعدم والموت يقال: فقده يفقده فقدا عدمه فهو فقيد ومفقود وافتقده وتفقده طلبه عند غيبته، ولعل المقصود أن عدمه هين على العشيرة لكونه غير نافع لهم في حال حياته (فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله خطام راحلته على غاربها) الخطام بالكسر ما وضع على أنف البعير لينقاد به والغارب الكاهل أو ما بين السنام والعنق.

(ثم قال إذا تناولتم المشركين فعموا ولا تخصوا فيغضب ولده) مثله رواه العامة عنه صلى الله عليه وآله قال: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» نهى عن سب الميت المشرك بخصوصه لأنه يؤذي قريبه الحي من المؤمنين في الحال بتألم قلبه إما لغضاضة تلحقه في حسبه أو لألم يتحذر له من أجله وأذى المؤمن لا يجوز تقول عرضت عليه الشيء إذا أريته إيله وأظهرته ليراه ويعلم حاله، (فمر به فرس فقال عيينة بن حصن) الفزاري كان من رؤساء المشركين وكان أمير غطفان في حرب الأحزاب كما سيجيء (إن من أمر هذا الفرس كيت وكيت) في النهاية: هي كناية عن الأمر نحو كذا وكذا قال أهل العربية: إن أصلها كية بالتشديد والتاء فيها بدل من إحدى اليائين والهاء التي في الأصل محذوفة وقد تضم التاء وتكسر (فقال عيينة: وأنا أعلم بالرجال منك) كذب عدو الله بادعاء زيادة العلم لأنه كان أجهل الناس بالناس ونسب الجهل إلى معدن العلم والصفوة (فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى ظهر الدم في وجهه) القوة الغضبية إذا تحركت تحرتك الروح الحيواني والعروق وما فيها وما في البدن من الدماء فيتخلخل وينتشر ويتصاعد مع مصاحبة بخار إلى أن ينصب في الوجه ونحوه فيحمر (فقال له فأي الرجال أفضل؟) الغرض من هذا السؤال إظهار جهله وتنبيهه على خطئه فيمن يعتقد أنه أفضل (فقال عينية بن حصن رجال يكونون بنجد) أي في نجد وأهله يومئذ كانوا مضر وربيعة وكانوا مشركين وصفهم ابن حصن بالشجاعة حيث قال (يضعون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على كواثب خيلهم) الكاثبة من الفرس مجتمع كتفه قدام السرج (ثم يضربون بها قدما قدما) الظاهر أنه حال والقدم محركة وبالضم بضمتين الشجاع وقد يكون بمعنى المتقدم في الحرب يقال: مضى قدما إذا تقدم ولم يعرج لم يقم ولم ينعطف (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: كذبت بل رجال أهل اليمن أفضل والإيمان يماني والحكمة يمانية

ص:427

ولولا الهجرة لكنت إمرءا من أهل اليمن) كذبه (صلى الله عليه وآله) وأشار إلى أن أفضل الرجال ليس ما ذكره سيما إذا كان من الحمية الجاهلية بل فضلهم هو الإيمان والحكمة وهو غير موجود فيهم بل هو في رجال أهل اليمن قيل: المراد بهم الأنصار الذين استجابوا لله ولرسوله طوعا ونصروه وهم يماني النسب وقيل: المراد بهم أهل مكة أي بعضهم إما لأن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن أو لأنه قال: هذا وهو بتبوك ومكة بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وأراد مكة ويؤيده قوله «ولولا الهجرة لكنت امرأ من أهل اليمن» فإنه صريح في أن المراد باليمن مكة بأحد الوجهين المذكورين وقوله «الإيمان يماني» أي منسوب إلى اليمن معناه على القول الأول أن قوة الإيمان واشتهاره من أهل اليمن لكونهم من أنصار الدين وعلى القول الثاني أن مبدأه مكة والمشهور في يماني تخفيف الياء لأن ألفه زيدت بدلا من ياء النسبة فلا يجمع بينهما وحكى المبرد وسيبويه عن بعض العرب التشديد فيها وهذه الوجوه تجري في قوله «والحكمة يمانية» والحكمة لغة ما يمنع من الجهل والحكيم من منعه عقله عنه وفي العرف الفقه في الدين وهو العلم النافع المصحوب بإنارة البصيرة وتهذيب النفس وبه فسر قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) (الجفا والقسوة في الفدادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر من حيث يطلع قرن الشمس) الجفاء بالمد خلاف البر وهي كيفية للنفس تمنع من إيصال النفع إليها أو إلى غيرها وهي تتفاوت في الأشخاص والقسوة والقساوة غلظة القلب وشدته وأعظم أسبابه الذنوب وهي كيفية تمنع القلب من قبول للخير والموعظة، والفدادين ضبطه بعضهم بتخفيف الدال جمع فدان بتشديدها وفسره ببقر الحرث ورده أبو عبيد بأن العرب لم تكن تعرف الحرث وإنما هو في الروم والشام وهي إنما فتحت بعد وفاته صلى الله عليه وآله وفيه نظر، ثم قال: وإنما هي بالتشديد جمع فداد بالتشديد أيضا فسره بالمكثر من كسب الإبل والكسب من المائتين إلى الألف من الفديد وهي الإبل الكثيرة وفسره الأصمعي بأنه الذي يرفع صوته في حرثه وماشيته من فد الرجل فديدا إذا اشتد صوته، وقال ابن دريد: هو رجل شديد وطؤه للأرض بمرح أو سرعة، وقال بعضهم: هو المكثر من غير تقييده بكسب الإبل لأن الإكثار موجب للفخر والخيلاء واحتقار الناس وهي مستتبعة للجفاء والقساوة، وقال ثعلب: الفدادون الجمالون والبقارون والحمالون والرعيان.

أقول: أقرب المعاني ههنا ما ذكره أبو عبيد لأن قوله صلى الله عليه وآله «أصحاب الوبر» بدل من الفدادين والوبر بكسر الباء الإبل وبفتحها ما للإبل كالصوف للغنم والشعر للمعز، قال في الصحاح الوبر للبعير بالتحريك الواحدة وبرة وقد وبر البعير بالكسر وهو وبر قوله «ربيعة ومضر» أما بدل من

ص:428

الفدادين أو من أصحاب الوبر وهما إخوان ابنا نزار بن معد بن عدنان معروفان في كثرة العدد وغلبة العدد وفي الكفر وعداوة الرسول وكانا ساكنين في النجد وهي شرقي المدينة وتبوك كما أشار إليه (صلى الله عليه وآله) بقوله «من حيث يطلع قرن الشمس» أي من جانب المشرق وعني به نجدا والقرن جانب الرأس وإثباته للشمس من باب الاستعارة المكنية والتخييلية (ومذحج أكثر قبيل يدخلون الجنة) في القاموس: مذحج كمجلس أكمة ولدت مالكا وطيئا أمهما عندها فسموا مذحجا (وحضرموت خير من عامر بن صعصعة) حضرموت وتضم الميم بلد وقبيلة وعامر بن صعصعة أبو قبيلة وهو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن (وبجيلة خير من رعل وذكوان) بجيلة كسفينة حي باليمن من معد والنسبة بجلي محركة ورعل وذكوان قبيلتان من سليم وهم الذين قتلوا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بئر معونة وكان الأصحاب أربعون رجلا على ما في السير وسبعون رجلا في كتاب مسلم ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية الضمري فجاء وأخبره صلى الله عليه وآله وقد أخبره جبرئيل عليه السلام قبل وروده فتوجع بقتلهم وأقام شهرا يدعو في صلاة الغداة على قاتليهم (وإن يهلك لحيان فلا أبالي) لحيان أبو قبيلة هو لحيان بن هذيل بن مدرك (ثم قال: لعن الله الملوك الأربعة جمدا ومخوسا ومشرحا وأبضعة وأختهم العمردة) جمدا بسكون الميم وفتحا ومخوس كمنبر ومشرح بضم الميم وفتح الراء المشددة على الظاهر وأبضعة بفتح الهمزة وسكون الباء وفتح الضاد المعجمة وقيل: بالصاد المهملة، بنو معد يكرب من ملوك كندة وفي القاموس: وهو معد يكرب من الملوك الأربعة لعنهم النبي (صلى الله عليه وآله) ولعن أختهم العمردة وفدوا مع الأشعث وأسلموا ثم ارتدوا فقتلوا يوم النجير وقالت نايحتهم: «يا عين أبكي للملوك الأربعة».

(لعن الله المحل والمحلل له) كأنه لعن الملوك الأربعة ومن تبعوه واعتقدوا بحكمه وهو جنادة بن عوف الكندي وكان مطاعا في الجاهلية وكان يقوم في الموسم ويقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه: ثم يقوم في القابل يقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه.

ومثله في تفسير علي بن إبراهيم بعبارة أخرى قال: «كان رجل من كنانة يقف في الموسم فيقول:

قد أحللت دماء المحللين طي وخثعم في شهر المحرم وأنسأته وحرمت بدله صفر، فإذا كان العام المقبل يقول قد أبطلت صفر وأنسأته وحرمت بدله شهر المحرم» وفي النهاية: معنى قوله صلى الله عليه وآله: لعن الله المحلل والمحلل له، أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا فيتزوجها رجل آخر على شريطة أن يطلقها بعد وطيها لتحل لزوجها الأول، وقيل: سمي محللا بقصده إلى التحليل كما يسمى مشتريا إذا قصد الشراء (ومن يوالي غير مواليه) لعل المراد بالمولى هنا المنعم عليه وهو المعتق بفتح التاء وكان ولاؤه لمن اعتقه يرثه هو أو وارثه وهو كالنسب فلا يزال بالإزالة ولا يجوز

ص:429

بيعه وهبته واشتراطه للغير نفيه كما لا يجوز ذلك في النسب وكانت العرب تبيعه وتهبه فلعن (صلى الله عليه وآله)، عليهم، ويحتمل أن يراد بالمولى المنعم وهو هو صلى الله عليه وآله وأوصياؤه الطاهرون فلعن على من يوالي غيرهم والله أعلم (ومن ادعى نسبا لا يعرف) بأن نسب نفسه إلى غير نسبه وهو حرام استحق به اللعن، روى المصنف بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق». (والمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) المروي عن أبي عبد الله عليه السلام: «إنهم المخنثون واللاتي ينكحن بعضهن بعضا» ويمكن إرادة التشابه في الحلي واللباس وغيرهما من المختصات أيضا (ومن أحدث حدثا في الإسلام أو آوى محدثا) ورد في بعض رواياتنا تفسير الحدث بالقتل وتفسير المحدث بالقاتل وهذا الكلام رواه العامة عنه صلى الله عليه وآله أيضا، قال القرطبي، المراد بالحدث حدث الدين وبالمحدث من يأتي بفساد في الأرض، وقال صاحب النهاية الحدث الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا بمعروف في السنة والمحدث يروي بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول فمعنى الكسر من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه والفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه فقد آواه (ومن قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه) ضمير قاتله للموصول باعتبار أنه قاتل مورثه وفيه زجر للناس عن القتل والضرب ظلما خصوصا للعرب حيث كانوا يقتلون ويضربون لقتل واحد من ضرب واحد كثيرا (ومن لعن أبويه فقال رجل يا رسول الله أيوجد رجل لعن أبويه.. الخ) مثله موجود في طرق العامة أيضا، ولعل بقاء السؤال على استبعاد أن يقع ذلك من أحد وهو دليل على أن ذلك ما كان في عهدهم وفي الجواب دلالة على أن فعل السبب كفعل المسبب فيمكن أن يستنبط منه حرمة بيع العنب لمن يعمل خمرا أو الحرير لمن لا يحل لبسه وأمثال ذلك إلا أنه بالقياس أقرب وهو غير معمول عندنا (لعن الله رعلا وذكوانا وعضلا ولحيان) عضلا بالتحريك ابن الهون بن خزيمة أبو قبيلة.

(والمجذمين من أسد وغطفان) أي المسرعين منهم إلى قطع المودة والصلة من الإجذام وهو الإسراع والمجذام رجل سريع القطع للمودة، وغطفان بالتحريك حي من قيس (وأبا سفيان بن حرب وشهيلا ذا الأسنان وابني مليكة بن جزيم ومروان وهوذة وهونة) شهيل في بعض النسخ المقروة بالشين المعجمة والباء الموحدة، وفي بعضها بالياء المثناة التحتانية كأمير أو زبير مصغر شهل لقب رجل كأنه لقب به لزرق أو حمرة في حدقته وفي بعضها بالسين المهملة والياء المثناة التحتانية وكأنه سهيل بن عمرو من رؤساء المشركين وهو الذي منع من أن يكتب في كتاب صلح الحديبية بسم الله الرحمن الرحيم وقال: ما أدري الرحمن الرحيم إلا أني أظن هذا الذي باليمامة،

ص:430

وعني به مسيلمة الكذاب، وأن يكتب فيه: هذا ما قاضى رسول الله، وقال: إنما نقاتلك لادعائك الرسالة، واكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبد الله.

و «جريم» في بعض النسخ بالجيم والراء المهملة اسم لرجل وكأنه لقب به لكثرة ذنوبه أو لعظمة جسده، وفي بعضها بالزاي المعجمة وكأنه لقب به لكونه قاطعا للأرحام أو للإسلام وفي شق منه وفي بعضها حريم كأمير أو زبير بالحاء والراء المهملتين لقب لرجال وكأنه لقبوا به لكونهم محرومين ممنوعين من الخير، وهونة وهوذة بالذال المعجمة وفي بعض النسخ بالدال المهملة وقيل هو تصحيف اسمان لرجلين والله أعلم.

* الأصل:

28 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن مولى لأمير المؤمنين (عليه السلام) سأله مالا فقال: يخرج عطائي فاقاسمك هو، فقال: ولا أكتفي، وخرج إلى معاوية فوصله فكتب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يخبره بما أصاب من المال فكتب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام):

أما بعد: فإن ما في يدك من المال قد كان له أهل قبلك وهو صائر إلى أهله بعدك وإنما لك منه ما مهدت لنفسك فآثر نفسك على صلاح ولدك فإنما أنت جامع لأحد رجلين: إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له، وليس من هذين أحد بأهل أن تؤثره على نفسك ولا تبرد له على ظهرك، فارج لمن مضى رحمة الله وثق لمن بقي برزق الله.

* الشرح:

(إن مولى لأمير المؤمنين عليه السلام) المراد بالمولى إما الناصر أو المحب أو التابع (إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت) أي بسبب ما شقيت به أما سعادته فلأنه وجد مالا بلا تعب وصرفه في وجوه البر فله ما وعد به المنفقون، وأما شقاوة الجامع له إن جمع من وجه حرام أو حلال ولم يخرج واجباته أو أخرجها ولم يخرج مندوباته فظاهرة لأن عليه في الأولين عقوبات وفي الأخير حسرات بسبب رؤية ثواب ماله في ميزان غيره (وأما رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له) فشقيت أيضا لأنك كنت عونا له على معصيته (وليس من هذين أحد بأهل أن تؤثره على نفسك) هذا ناظر إلى الأول (ولا تبرد له على ظهرك) هذا ناظر إلى الثاني وفي الصحاح: ما برد لك على فلان أي ما تثبت ووجب وبرد لي عليه كذا من المال ولي عليه ألف بارد

ص:431

وسموم بارد أي ثابت لا يزول، والظاهر أن تبرد معطوف على تؤثره و «لا» زائدة لتأكيد النفي والمعنى ليس أحد هذين بأهل أن تثبت له مالا أو ثقلا أو عقوبة على ظهرك فقد نهاه عليه السلام من إبقاء المال بعد الانتقال ونبهه على أنه إن ترك فإما عليه الحساب ولغيره الثواب وإما عليه العقاب كما على غيره، وقد ذكر مثل هذا الحديث في نهج البلاغة بلا تفاوت إلا في قوله: «ولا تبرد له على ظهرك» فإنه في النهج: «ولا تحمل له ظهرك» قال بعض الشارحين: ولا تحمل معطوف على تؤثره أي وأن لا تحمل ثقلا لأجله على ظهرك (وثق لمن بقي برزق الله) الرزق كل ما ينتفع به أو كل ما يصح أن ينتفع به فالحرام رزق على الأول كما هو مذهب الأشاعرة دون الثاني كما هو مذهب المعتزلة.

ص:432

كلام علي بن الحسين (عليه السلام)

* الأصل:

29 - حدثني محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى; وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن غالب الأسدي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفظ عنه وكتب كان يقول:

أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه، ويحك يا بن آدم الغافل وليس بمغفول عنه.

يا بن آدم إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ويوشك أن يدركك وكأن قد أوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيدا فرد إليك فيه روحك واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده وعن نبيك الذي ارسل إليك وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما كنت أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيما أنت أنفقته، فخذ حذرك وانظر لنفسك وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار فإن تك مؤمنا عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لأولياء الله لقاك الله حجتك وأنطق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب وبشرت بالرضوان والجنة من الله عزوجل واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب وبشرت بالنار واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم.

واعلم يا بن آدم إن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود يجمع الله عزوجل فيه الأولين والآخرين ذلك يوم ينفخ في الصور وتبعثر فيه القبور وذلك يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ولا تؤخذ من أحد فدية ولا تقبل من أحد معذرة ولا لأحد فيه مستقبل توبة، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.

فاحذروا أيها الناس الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها وحذركموها في كتابه الصادق

ص:433

والبيان الناطق ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده عند ما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا فإن الله عز وجل يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) وأشعروا قلوبكم خوف الله وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه كما قد خوفكم من شديد العقاب فإنه من خاف شيئا حذره ومن حذر شيئا تركه ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا الذين مكروا السيئات فان الله يقول في محكم كتابه: (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف) فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب.

والله لقد وعظكم الله تعالى في كتابه بغيركم فإن السعيد من وعظ بغيره ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: (وأنشأنا بعدها قوما آخرين) فقال عزوجل: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * (يعني يهربون قال:) لا تركضوا وارجعوا إلى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * (فلما أتاهم العذاب) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعويهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم، ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب فقال عزوجل: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) فإن قلتم أيها الناس: إن الله عزوجل إنما عنى بهذا أهل الشرك فكيف ذلك وهو يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).

اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام.

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله عزوجل لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها وإنما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملا لآخرته وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرف الآيات لقوم يعقلون ولا قوة إلا بالله.

فازهدوا فيما زهدكم الله عزوجل فيه من عاجل الحياة الدنيا فإن الله عزوجل يقول - وقوله

ص:434

الحق - (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتيها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).

فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله عزوجل قال لمحمد (صلى الله عليه وآله): (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان فإنها دار بلغة ومنزل قلعة ودار عمل، فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها وقبل الإذن من الله في خرابها فكأن قد أخربها الذي عمرها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزود التقوى والزهد فيها: جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لأجل ثواب الآخرة فإنما نحن به وله، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* الشرح:

(كلام علي بن الحسين عليهما السلام) ذكر فيه من المواعظ والنصايح والترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا ما لو لم يكن غيره في هذا الباب لكان كافيا لأولي الألباب (قال كان علي بن الحسين عليهما السلام يعظ الناس) الوعظ الأمر بالطاعة والوصية بها وقيل هو تذكير مشتمل على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب والاسم الموعظة (ويزهدهم في الدنيا) أي يحقرها ويقللها في أعينهم ويأمرهم برفض الوغول فيها وعلامة الزاهد أن لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (ويرغبهم في أعمال الآخرة) علامة الراغب فيها أن يقنع من حلال الدنيا بما تكفيه ولا يصرف عمره فيما لا يعنيه إن وجد الحلال شكر وإن لم يجده صبر وتشتاق نفسه إلى فعل الطاعات وتضطرب بالوقوع في أدنى المنهيات (أيها الناس اتقوا الله) بفعل الطاعات وترك المنهيات والمخالفة له فيما أمر به من طاعة أوليائه (واعلموا أنكم إليه ترجعون) فيه وعد ووعيد بوجدان جزاء العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما أشار إليه اقتباسا للآية الكريمة بقوله (فتجد) وفيها «يوم تجد» (كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) أي محضرا حذف للاختصار ولدلالة العطف وما بعده عليه، ومن مزيدة للمبالغة في عموم الخير والسوء لجميع الأفراد وإن كان في غاية الحقارة كما نطق به قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) تود استيناف أو حال عن فاعل ما عملت «ولو» للتمني وللمبالغة فيه وضمير التأنيث للنفس وضمير التذكير ليوم أو لسوء على احتمال، ومن

ص:435

المفسرين من جعل ما علمت مبتدأ وتود خبرا له وتجد مقصورا على ما عملت من خير وعلى هذا لا حذف فيه (ويحذركم الله نفسه) فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه وأوليائه وموالاة أعدائه، قال بعض المفسرين: هذا تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي في القبح وذكر النفس ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة، وقال الغزالي: خوف العوام من عذابه وخوف الخواص من نفسه.

(ويحك يا بن آدم الغافل) عما يراد منه ويفعل به (وليس بمغفول عنه) لأنه تعالى يعلم ما يفعله من الخير والشر كما قال: (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) مع أنه جعل عليهم من الملائكة حفيظا رقيبا وفيه تنفير عن معصية الله والغفلة عما يراد منه من الأمور النافعة بعد الموت وظاهر أن تلك الأمور مما غفل عنها أكثر الناس في الدنيا ما داموا في حجب الأبدان فإذا نزعت عنهم تلك الحجب اطلعوا على ما قدموا من خير أو شر وما أعد لهم بسبب ذلك من سعادة أو شقاوة كما دلت عليه الآية المذكورة وغيرها (ابن آدم إن أجلك اسرع شيء إليك) الأجل محركة غاية الوقت في الموت ومدة العمر أيضا والثاني كالمسافة للأول لأن الأول يقطعه بأقدام الآنات والأنفاس فمرور كل آن ونفس يقرب منك وليس شيء أسرع من مرورهما وفيه مكنية وتخييلية وترشيح (قد أقبل نحوك حثيثا) أي سريعا (يطلبك ويوشك أن يدركك) لأن الطالب إذا كان سريعا والزمان يسيرا والمسافة قليلة كان وصوله قريبا وفيه تذكير بالموت وقرب ما يخاف من أهوال الآخرة والوصول إليه وتحذير عن الإصرار على المعصية وترغيب في الطاعة باعتبار أن كل عامل سيجد ثمرة عمله.

(وكأن قد أوفيت أجلك) وفي الشيء تم وكمل وأوفى فلانا حقه إذا أعطاه وافيا تاما أو في فلانا إذا أتاه فأوفيت إما مبني للمفعول أو للفاعل وفيه تحريك على فرض ما هو قريب الوقوع واقعا والغرض منه هو الحث على الاستعداد له قبل نزوله (وقبض الملك روحك) إما بسهولة أو بصعوبة باعتبار التفاوت في الإيمان والأخلاق والأعمال ولا يبعد أن يجعل هذا وجه الجمع بين الروايات المختلفة في صعوبة قبض الروح وسهولته (وصرت إلى قبرك وحيدا) أي متفردا عن الأهل والأقارب وفيه إشارة إلى وحشة القبر وترغيب في فعل ما يزيلها وما يستأنس به النفوس حينئذ وهو الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة لما روي أنهما يظهران لصاحبها بصور حسنة (فرد إليك فيه روحك) سؤال الميت وتعذيبه في القبر مذهب أهل الإسلام والروايات فيه من طريق العامة والخاصة كثيرة، قال عياض: خالفنا في ذلك الخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئة،

ص:436

والمعذب عند أهل الحق الجسد بعينه أو جزء منه بعد رد الروح إليه أو إلى جزء منه وخالف محمد بن جرير وعبد الله بن كرام وقالوا: لا يشترط إعادة الروح في تعذيب الميت وهو فاسد لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي وليس لأحد أن يمنع من عذاب القبر ويقول: إنا نشاهد هذا الجسم على هيئة غير مغير ولا معذب فإن لذلك نظيرا في الخارج وهو النائم فإنه يجد لذة وألما ونحن لا نحسن من ذلك وكذلك اليقظان يجد لذة وألما بما يسمع ويتفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه وكذلك كان جبرئيل عليه السلام يأتيه صلى الله عليه وآله بالوحي ولا يدركه الحاضرون.

(واقتحم عليك ملكان ناكر ونكير) فتانا القبور والروايات في غلظتهما ورقتهما وفي حسن الصورة وقبحها مختلفة ولعل ذلك باعتبار حسن عمل الميت وقبحه (فخذ حذرك) الحذر بالكسر ويحرك الاحتراز ولا يحصل ذلك إلا بمحاسبة النفس قبل الموت وحملها على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي كما أشار إليه بقوله (وانظر لنفسك وأعد الجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار) فإن النظر لها يبعث على طلب ما ينفعها بعد فراغها وطلب ذلك لا يتحقق إلا بمعرفة الرب والرسول والإمام والدين والكتاب وصرف العمر فيما ينفع من الأعمال وتحصيل المال من طرق الحلال وانفاقه في وجوه البر. وبالجملة ذلك الطلب لا يتحقق إلا بتكميل القوة النظرية والعملية وكل من بلغ هذه المرتبة يرتفع عنه الشك ويسهل له الجواب عند اختبار الملكين وفيه إشعار بأن سؤالهما إنما هو للاختبار والتنبيه على الخطأ والصواب ليترتب عليه الثواب والعقاب وقد جرى قضاء الله تعالى على اختبار الخلائق في بدء التكليف إلى أن يستقروا في دار القرار أو دار البوار (فإن تك مؤمنا عارفا بدينك متبعا للصادقين مواليا لأولياء الله) هم الأئمة عليهم السلام قال الله تعالى (واتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال أبو جعفر عليه السلام في تفسيره «إيانا عنى» (لقاك الله حجتك) أي أفاضها عليك وألهمك إياها.

(وبشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل) أي برضاء الله عنك وهو والرضوان بالكسر والضم ضد السخط إلا أن الرضا لغة أهل الحجاز والرضوان لغة قيس وتميم، والجنة بالفتح الحديقة ذات الشجر، وقيل: ذات النخل، والمراد بها إما جنة الآخرة أو جنة الدنيا المعدة لنزول أرواح المؤمنين كما دل عليه بعض الروايات (واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان) الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح وبالضم الحياة الدائمة وحكم الله تعالى بالبقاء والسعادة والريحان الرزق (وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب) أي تردد لسانك وبطلت حجتك وعجزت عن الجواب (وبشرت بالنار) في لفظ البشارة تهكم واستهزاء

ص:437

(واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم) النزل بضمتين الطعام وما أعد للضيف النازل، والحميم الماء الحار، والجحيم النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض والمكان الشديد الحر، والتصلية الإحراق والإدخال في النار، قال القاضي: وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها (ذلك يوم مجموع له الناس) يجتمعون فيه لأجل الحساب والجزاء (وذلك يوم مهود) أي مشهود فيه لأن الخلق يشهدون أي يحضرونه للخروج عن عهدة ما كلفوا به في الدنيا (ويجمع الله فيع الأولين والآخرين) تفسير وبيان لما ذكر ولعل المراد بالأولين الأمم السابقة وبالآخرين هذه الأمة مع احتمال أن يراد بهم هذا النوع بالأولين من قبله.

(يوم ينفخ في الصور) في النهاية: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتى إلى الحشر، وقيل: الصور جمع صورة يريد صور الموتى ينفخ فيها الأرواح، والصحيح:

الأول لأن الأحاديث تعاضدت عليه تارة بالصور وتارة بالقرن (وتبعثر فيه القبور) في النهاية:

تبعثرت النفس جاشت وانقلبت وغثت، وفي القاموس: بعثر الشيء فرقه وبدده وكشفه وأثار ما فيه، والفعل إما ماض معلوم من باب التفعلل على تشبيه القبر بإنسان أكل طعاما فلم يستقر في معدته فرده أو مضارع مجهول من الرباعي المجرد (وذلك يوم الأزفة) أزف الوقت كفرح دنى وقرب والأزف محركة الضيق وسوء العيش سميت القيامة أزفة لقرب حضورها أو لضيق عيش أكثر الناس فيها (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) من الغم وهو حال عن القلوب أو عن أصحابها المعلومة بقرينة المقام، والحناجر جمع الحنجرة وهي الحلق وفيه إشارة إلى اضطراب القلوب في ذلك اليوم وأنها ترتفع من الغم والخوف عن محلها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا.

(وذلك يوم لا تقال فيه عثرة) إقاله الله عثرته وافقه في نقض العهد وأجابه إليه إذ وقع العهد بين العبد وبينه تعالى في أنه إذا عصاه يعاقب فإذا استقال العاصي في ذلك اليوم وندم من ذلك العهد وطلب منه تعالى أن ينقضه ليتخلص من العقاب لا يقال: ولا يجاب، لأن العهد مبرم لا ينقض بالإقالة (ولا تؤخذ من أحد فدية) هي ما يعطيه لينقذ به نفسه من مال أو نفس آخر (ولا تقبل من أحد معذرة) أي معذرة غير محق وإلا فالله سبحانه أعدل وأكرم من أن لا يقبل معذرة المحق، أو المراد به ليس له معذرة في المخالفة حتى تقبل لأنه تعالى قطع الأعذار ببعث الرسول وإنزال الكتاب ونصب الوصي والهداية إلى سبيله (ولا لأحد فيه مستقيل توبة) أي ليس لأحد مستقيل طالب للرجوع إلى الدنيا توبة ورجوع إيها ليفعل فيها ما يكفره أو المراد أنه ليس لطالب غفران الذنب في ذلك اليوم توبة منه لفوات محلها وهو الدنيا.

(ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات) لأن دفع العثرة إما بالإقالة أو بالفدية أو بإبداء المعذرة أو بالاستقالة بأحد الوجهين ولا يكون شيء منها في ذلك اليوم فلم يبق إلا الجزاء ثم أشار

ص:438

إلى نتيجة ما ذكره بقوله (فمن كان من المؤمنين) إما غيرهم فسيذكر حالهم في قوله «واعلموا عباد الله» (عمل في هذه الدنيا مثال ذرة من خير وجده.. الخ) كما دلت عليه الآيات والروايات في مواضع عديدة وقيل ذلك مشروط بعدم التوبة والتكفير عنه بالمصائب ونحوها وعدم الإحباط والمغفرة، والذرة النملة الصغيرة أو الهباء (فاحذروا أيها الناس من الذنوب والمعاصي) يمكن تخصيص أحديهما بالكبائر والأخرى بالصغائر أو العطف للتفسير (ما قد نهاكم الله عنها وحذركموها في كتابه الصادق والبيان الناطق) العطف للتفسير أو المراد بالمعطوف بيان أهل الذكر عليهم السلام لأن مناهي الكتاب وتحذيره بعضها ظاهر وبعضها باطن يظهر ببيانهم، ووصف البيان بالناطق مجاز باعتبار أنه مظهر للمقصود كالنطق (ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده) المكر من النار الخديعة وهي أن يوهم غيره خلاف ما يخفيه من المكروه وإيصال السوء وإذا نسب إليه تعالى يراد به لازمه وهو العقوبة وإيصال المكروه كناية، وقيل: هو استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب وقيل هو إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيجوز صدوره منه تعالى، ثم أشار إلى تعليل ذلك في الحث على ذكر الله تعالى عند دعوة الشيطان إلى معصيته بقوله (فإن الله عز وجل يقول: (إن الذين اتقوا) من عذاب الله (إذا مسهم طائف من الشيطان) من الطواف كأنه يطوف حولهم ليؤثر في قلوبهم بميلها إلى المعصية (تذكروا) الله وما أمر به ونهى عنه (فإذا هم مبصرون) بسبب التذكر موارد الخطأ ومكايد الشيطان فيحترزون منها.

سئل الصادق عليه السلام عن هذه الآية فقال: «هو العبد يهم بالذنب ثم يتذكر فيمسك فذاك قوله: (تذكروا فإذا هم مبصرون)». (وأشعروا قلوبكم خوف الله) أي اجعلوا خوفه شعارها شبه الخوف بالشعار في اللزوم والاختصاص كلزوم الشعار للسجد واختصاصه به أو اجعلوا خوفه شعارا وعلامة لقلوبكم غير مفارق عنها واجعلوا قلوبكم شاعرة غير غافلة من خوفه (ولا تكونوا من الغافلين) عن الله تعالى وعن أوامره ونواهيه ومواعظه وأحوال الآخرة وإصلاح أنفسكم.

(المايلين إلى زهرة الحياة الدنيا) أي حطامها ومتاعها لحسنها ونضارتها وبهجتها المغفلة عن الآخرة وأعمالها (الذين مكروا السيئات) أي مكروا المكرات السيئات مع الله والرسول والوصي بالمخالفة والإنكار مع المؤمنين بالأذى والإضرار وصدهم عن الإيمان والإقرار، ثم أشار إلى سوء خاتمة المكر مستشهدا بالآية الكريمة بقوله (فإن الله يقول في محكم كتابه (أفأمن الذين مكروا السيئات)) الاستفهام للإنكار والتوبيخ (ان يخسف الله بهم) كما خسف بقارون وغيره من أهل الخسف (أو يأتيهم العذاب) بغتة من السماء (من حيث لا يشعرون) كما فعل بقوم لوط أو

ص:439

قوم صالح (أو يأخذهم في تقلبهم) أي حال سفرهم ومسيرهم في الحوائج أو في تقلبهم من اليقظة إلى النوم (فما هم بمعجزين) لله تعالى عما أراد منهم من أنحاء العقوبة (أو يأخذهم على تخوف) أي على مخافة بأن يهلك قوما فتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون، أو على أن ينقص شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفه وتنقصه كذا قاله بعض المفسرين (فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه) كفرعون وهامان وقارون وقوم عاد وهود وقوم صالح وغير هؤلاء فإن فعله تعالى بهم لأجل ظلمهم وإنكارهم للحق وعنادهم لأهله كاف في تحذير غيرهم ممن له بصيرة الاعتبار فاعتبروا يا أولي الأبصار (ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب) من العقوبة الدنيوية وهذا نظير قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون للترغيب في متابعة موسى عليه السلام: (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) يعني لا أقل من أن يصيبكم بعضه، قال القاضي وغيره: فيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب أو ينزل بكم ماتواعدهم لأن عذاب الدنيا وهو بعض ما توعدون به كأن خوفهم بما أقرب وقوعا وأعظم قدرا عندهم لأن عذاب الدنيا عند الغافلين أعظم من عقاب الآخرة لغفلتهم عنها فضلا عن عذابها (والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم) من الظالمين بسبب ظلمهم وخروجهم عن طاعة الله وطاعة رسوله (فإن السعيد من وعظ بغيره) قد صارت هذه القضية في معنى المثل أي السعيد في الآخرة من اعتبر حال غيره فشاهد بعين بصيرته مصير الظالمين فخاف عاقبتهم فعدل عن طريقتهم وتذكر مآل المتقين فمال إلى سيرتهم ورغب في الاتعاظ بالغير بذكر استلزامه للسعادة، وإنما عني بالقرية أهلها هذا ظاهر في نفسه ومع هذا دل عليه الدليل المذكور ويؤيده نسبة الظلم إلى القرية مجازا باعتبار ظلم أهلها.

(وقال عز وجل (فلما أحسوا بأسنا)) أي شدة عذابنا وقد مر تفسيره عن أبي جعفر عليه السلام قبل رسالته إلى سعد الخير متصلا بها (إذا هم منه يركضون يعني يهربون) قال القاضي يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو متشبهين بهم في فرط إسراعهم (قال لا تركضوا) على سبيل الاستهزاء ولفظ قال من كلامه عليه السلام للتنبيه على أنه لابد من تقدير القول أي قال ذلك بلسان الحال أو المقال أو القائل ملك أو من ثم من المؤمنين (وارجعوا إلى ما أترفتم) من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة (ومساكنكم) التي كانت لكم (لعلكم تسألون) عن كنوزكم وذخايركم كما مر.

وقال القاضي وغيره: تسألون غدا عن أعمالكم وفيه أنه لا مدخل للرجوع عن هذا السؤال (قالوا ياويلنا) أقبل فهذا أوان إقبالك (إنا كنا ظالمين) اعترفوا بظلمهم بعد نزول العذاب فلذلك لم ينفعهم (فما زالت تلك دعواهم) يكررونها لشدة التحسر والتأسف (حتى جعلناهم

ص:440

حصيدا) أي محصودا (خامدين) ميتين، خمدت نفوسهم كخمود النار، واعلم أن هذه القضية قضية بني أمية وقتلهم بسيف الصاحب عليه السلام وعساكره المنصورة لما فعلوه بالحسين عليه السلام وأصحابه ورضائهم بذلك كما مر عن الباقر عليه السلام، وقال المفسرون من العامة: إنها قضية بني إسرائيل وبخت نصر لقتلهم نبيهم فغضب الله عليهم وسلطه على استيصالهم وليس في لفظ الماضي ترجيح لهم لأن متحقق الوقوع في عرف البلغاء يعبر عنه بالماضي (ولئن مستهم نفحة) أدنى شيء (من عذاب ربك) قال القاضي وغيره: وفيه مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرة (ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين) على أنفسنا بمخالفة الرب.

(فإن قلتم أيها الناس إن الله عز وجل إنما عني بهذا) وأمثاله مما دل على عقوبة الظالمين (أهل الشرك) بالله لا أهل الإسلام لأنهم غير معاقبين وهذا القول غلط واضح (فكيف ذلك) أي اختصاص العقوبة بأهل الشرك (وهو يقول (ونضع الموازين القسط)) أي العدل لوزن الأعمال أو صحايفها على اختلاف القولين عند المحققين القائلين بتجسم الأعمال في النشأة الآخرة، وقيل:

الأعمال أعراض لا يعقل وزنها ووضع الميزان كناية عن العدل والإنصاف في الجزاء وقد ذكرنا توضيح ذلك سابقا (ليوم القيامة) أي لجزائه أو لأهله أو فيه (فلا تظلم نفس شيئا) من حقه أو من الظلم (وإن كان) العمل حقا كان أو باطلا (مثقال حبة من خردل أتينا بها) من غير زيادة ونقصان (وكفى بنا حاسبين) إذ لا يقع الغلط في حسابنا ولا يدخل الجهل في علمنا.

(اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين) هي دفاتر أعمالهم وصحائف أفعالهم (وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا) الزمرة الجماعة من الناس والزمر الجماعات (وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام) ليتبين قدر حسنات كل أحد وسيئاته فيثاب من زادت حسناته ويعاقب من زادت سيئاته فلا فائدة في وضعها لأهل الشرك (فاتقوا الله عباد الله) من مخالفة الله ومخالفة أوليائه (واعلموا أن الله عز وجل لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه) هم الأنبياء والأوصياء والتابعون لهم وفيه تنبيه على حقارة الدنيا إذ لو كان لها قدر عنده تعالى لأحبها لخلص عباده وترغيب في رفضها كما رفضوها (ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها) إذ صرف الفكر فيها وبذل التدبير في تحصيلها ليس مطلوبا له تعالى لأنه يمنعهم عن التقرب به.

(وإنما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملا لآخرته) أي ليختبرهم ونسبة

ص:441

الاختبار إليه ليست من باب الحقيقة إذ هو طلب الخبر بالشيء ومعرفته حيث لا يكون معلوما وكان الله تعالى عالما بمضمرات القلوب وخفيات الغيوب فيعرف المطيع من العاصي بل من باب الاستعارة باعتبار أن ثوابه وعقابه للخلق لما كانا موقوفين على تكليفهم بما كلفوا به فإن أطاعوه أثابهم وإن خالفوه عاقبهم أشبه ذلك اختيار الإنسان لعبيده وتمييزه للمطيع منهم من العاصي فأطلق عليه لفظ الاختبار مجازا (وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرف الآيات لقوم يعقلون) أي ضرب لكم الأمثال للدنيا والآخرة والمطيع والعاصي وصرف الآيات الدالة على أحوال كل واحد منهما وكررها بوجوه مختلفة زيادة للتقرير والبيان لقوم يعقلون الغرض من تلك الأمثال والآيات ويتفكرون فيما هو المقصود منهما فيعكفون عليه ويتمسكون به (ولا قوة إلا بالله) أي لا قوة لنا على الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والامتثال بجميع الخيرات إلا بتوفيق الله وهذا غاية الابتهال وإظهار إليه تعالى (فازهدوا فيما زهدكم الله عز وجل فيه) الزهد ترك حب الدنيا والركون الفقر إليها وهو من أعظم أسباب السلوك إلى الله تعالى والبلوغ إلى درجة الأبرار وله مراتب أعلاها حذف كل شاغل من التوجه إلى حضرة الحق (فان الله عز وجل يقول) للتزهيد في الدنيا (وقوله الحق) الثابت الذي لا ريب فيه (إنما مثل الدنيا) في سرعة زوالها بعد إقبالها وإقبال الناس إليها.

(كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) وامتزج حتى بلغ حد الكمال أو اشتبك بسببه حتى اختلط بعضه ببعض (مما يأكل الناس والأنعام) من الثمرات والحبوبات وأنواع النباتات (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها) بالتمتع والتلذذ بها وبحاصلها (أتاها أمرنا) بهلاكها (ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا) من أصولها (كأن لم تغن بالأمس) ولم تقم قريبا من وقت الزوال والفناء من غنى كرضى إذا قام وعاش وهذا مثل في سرعة زوال الشيء بعد وجوده (كذلك نفصل الآيات) الدالة على سرعة زوال الدنيا وفنائها (لقوم يتفكرون) فيها ويجدون ما هو المقصود منها.

واعلم أن أهل العربية قالوا الأصل في الكاف أن يليه المشبه به مثل زيد كالأسد إلا أنه قد يليه غيره كما في هذه الآية إذ ليس المقصود تشبيه حال الدنيا بالماء بل المراد تشبيه حالها في خضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات الحاصل من الماء يكون أخضر ناضرا شديدة الخضرة ثم ييبس فتطيره الرياح كأن لم يكن ثم أشار إلى نتيجة هذا التفكر بقوله (فلا تركنوا إلى الدنيا) الركون إليها شامل للركون إلى أهلها الظالمين الذين اتخذوها دار قرار طلبا لما في أيديهم

ص:442

كما أشار إليه بقوله (فإن الله عز وجل قال لمحمد صلى الله عليه وآله (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) قد أراد بهذا غيره لأنه (صلى الله عليه وآله) أرفع من أن يركن إليهم ثم أكد الزجر عن الركون إليها بقوله (ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) فيه تنبيه على أن الركون إليها لا بهذا الاعتبار بل باعتبار تحصيل الكفاف المتوقف عليه بقاء الحياة وفعل الطاعات غير مذموم بل هو من العبادات أو مقدماتها إلا أنه ليس بركون حقيقة (فإنها دار بلغة) في المصباح البلغة: ما يتبلغ به من العيش ولا يفضل، يقال: تبلغ به إذا اكتفى به وفي هذا بلاغ وبلغة وتبلغ أي كفياة (ومنزل قلعة) أي تحول وارتحال وتقلع منها إلى الآخرة وفي القاموس: القلعة بالضم العزل كالقلع والمال العارية وما لا يدوم والضعيف الذي إذا بطش به لم يثبت، وهذا منزل قلعه بالضم وبضمتين وكهمزة أي ليس بمستوطن كأنه يقلع ساكنه أو معناه لا يملكه أي لا يدري متى يتحول عنه والدنيا دار قلعة أي انقلاع وهو على قلعة أي رحلة، وفيه تنبيه على أن الدنيا ليست بدار لهم ليلتفتوا عن الركون إليها ويتوقعوا الارتحال والخروج منها (ودار عمل) يجب فيها المبادرة إليه والآخرة دار جزاء فلذلك أمر باتخاذ العمل زادا قبل انصرام الدنيا وخرابها بقوله (فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها وقبل الإذن من الله في خرابها) المراد بأيامها أيام عمر كل شخص وبخرابها انقضاء تلك الأيام، وإنما شبه العمل بالزاد لاشتراكهما في التسبب للحياة والوجه في المشبه به أجلى وأظهر وفي المشبه أقوى وأكمل لأنه سبب للحياة الأبدية وهو (ولي ميراثها) لأنها تفنى وهو يبقى كالوارث (فإنما نحن به وله) أي إنما نحن موجودون بالله تعالى وله ففي الأول إشارة إلى تفويض الأمور كلها إليه وفي الثاني إشارة إلى طلب التقرب منه بالإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيات وبهما يتم النظام في الدارين وعلو المنزلة في النشأتين.

ص:443

حديث الشيخ مع الباقر (عليه السلام)

* الأصل:

30 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن إسحاق بن عمار قال: حدثني رجل من أصحابنا، عن الحكم بن عتيبة قال: بينا أنا مع أبي جعفر (عليه السلام) والبيت غاص بأهله إذ أقبل شيخ يتوكؤ على عنزة له حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته ثم سكت فقال أبو جعفر (عليه السلام): وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعا وردوا عليه السلام، ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر (عليه السلام) ثم قال: يا بن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك فوالله إني لاحبكم واحب من يحبكم ووالله ما احبكم واحب من يحبكم لطمع في دنيا و [الله] إني لأبغض عدوكم وأبرأ منه ووالله ما ابغضه وأبرأ منه لوتر كان بيني وبينه والله إني لاحل حلالكم واحرم حرامكم وأنتظر أمركم فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إلي إلي، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال: أيها الشيخ إن أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه فقال له أبي (عليه السلام): إن تمت ترد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ويثلج قلبك ويبرد فؤادك وتقر عينك وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك ههنا - وأهوى بيده إلى حلقه - وإن تعش ترى ما يقر به الله به عينك وتكون معنا في السنام الأعلى.

[ف] - قال الشيخ: كيف قلت يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر إن أنا مت أرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) وتقر عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي إلى ههنا وإن أعش أرى ما يقر به عيني فأكون معكم في السنام الأعلى؟!! ثم أقبل الشيخ ينتحب ينشج هاهاها حتى لصق بالأرض وأقبل أهل البيت ينتحبون وينشجون لما يرون من حال الشيخ وأقبل أبو جعفر (عليه السلام) يمسح بإصبعه الدموع من حماليق عينيه وينفضها، ثم رفع الشيخ رأسه فقال لأبي جعفر (عليه السلام): يا بن رسول الله ناولني يدك جعلني الله فداك فناوله يده فقبلها ووضعها على عينيه وخده، ثم حسر عن بطنه وصدره فوضع يده على بطنه وصدره، ثم قام فقال: السلام عليك وأقبل أبو جعفر (عليه السلام) ينظر في قفاه وهو مدبر ثم أقبل بوجهه على القوم فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل

ص:444

من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقال الحكم بن عتيبة: لم أر مأتما قط يشبه ذلك المجلس.

* الشرح:

(حديث الشيخ مع الباقر عليه السلام) يذكر فيه فضيلة المحبة للأئمة عليهم السلام وحصول النجاة بها وشيئا من الآداب (والبيت غاص بأهله) أي ممتلي بهم (إذا أقبل شيخ يتوكؤ على عنزة له) العنزة بالتحريك أطول من العصاء وأقصر من الرمح فيها زج كزج الرمح.

(فقال: السلام عليك يا بن رسول الله.. اه) فيه شيء من آداب التسليم إذ دل على أنه ينبغي أن يسلم الداخل على جماعة أولا على أفضلهم ويخاطبه بخطاب شريف وأن يضم مع السلام الرحمة والبركة ويصبر حتى يسمع الجواب ثم يسلم على الحاضرين بإسقاط الضميمة (ووالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا.. اه) أشار إلى حبه لله وبغضه لله وهذا من صفات المؤمن الخالص العارف بمناهج الخير والشر المالك لزمام نفسه يسوقها إلى امتثال أوامر ربه (لوتر كان بيني وبينه) الوتر بالكسر الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي (وانتظر أمركم) وهو ظهور الدولة النبوية بيد إمام عادل منتظر منهم والانتظار لهذا من أفضل العبادات كما نطقت به الروايات (فهل ترجو لي) مفعول «ترجو» محذوف وهو النجاة والرحمة أو نحوهما وأشار بذلك إلى أنه مع ما ذكر خائف من التقصير راج من الله النجاة والعفو عنه وهذا من لوازم الإيمان الكامل (فقال أبو جعفر عليه السلام: إلي إلي) أي سر أو امشي إلي والتكرير للتأكيد وتنشيط المخاطب وتفريحه (ويثلج قلبك) ثلج صدره بالأمر كنصر وفرح ثلوجا وثلجا اطمأن وسكن فيه ووثق به (ويبرد فؤادك) برد الفؤاد برودة مثل سهل سهولة إذا سكت حرارته وهو كناية عن زوال كل مكروه يوجب غيظ القلب وحرارته (وتقر عينك) قرت العين قرة بالضم وقرورا بردت سرورا وأقر الله العين بالولد وغيره إقرارا في التعدية والأصل فيه أن دمعة الحزن حارة فقرة العين كناية عن السرور (ويستقبل بالروح والريحان) مر تفسيرهما في الحديث السابق (لو قد بلغت نفسك) النفس بالتسكين الروح وبالتحريك معروف والأول أنسب (وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك) أقر الله عينه أعطاه من موجبات السرور حتى تسر وحاصله مع السابق أن لك إحدى الحسنيين إما أن تموت في طاعة الله وطاعة الإمام فترد على رسول الله إلى آخره أو تعيش إلى أن تدرك ظهور إمام منا.

(وتكون معنا في السنام الأعلى) استعار لفظ السنام لأشرف مرتبة من المراتب الإنسانية وأرفع درجة من درجات الكرامة الربانية ثم وصفها بالأعلى ترشيحا لها وتصريحا بعلوها (فقال الشيخ

ص:445

كيف قلت يا أبا جعفر؟) ليس السؤال لعدم الفهم أولا بل لانبساط القلب وسروره باستماعه تارة أخرى (فقال الشيخ الله أكبر) للتعجب فيما سمعه وتعظيمه (ثم أقبل الشيخ ينتحب وينشج) النحب والانتحاب البكاء بصوت طويل والنشيج صوت معه توجع وبكاء كما يردد الصبي بكاءه في حلقه وفعله من باب نصر (هاهاها) حكاية عن صوت معروف ممن اشتد بكاؤه (وأقبل أبو جعفر عليه السلام يمسح بإصبعه الدموع من حماليق عينيه) حملاق العين بالكسر والضم وكعصفور باطن أجفانها الذي يسود بالكحل أو ما غطته الأجفان من بياض المقلة أو باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلب للكحل به بدت حمرته أو ما لزق بالعين من موضع الكحل من باطن والجمع حماليق (ثم قام: فقال السلام عليكم) دل على أنه ينبغي للخارج عن المجلس أن يسلم على أهله جميعا.

ص:446

قصة صاحب الزيت مع النبی

* الأصل:

31 - عنه، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رجل يبيع الزيت وكان يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حبا شديدا كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد عرف ذلك منه فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه، حتى إذا كانت ذات يوم دخل عليه فتطاول له رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى نظر إليه ثم مضى في حاجته فلم يكن بأسرع من أن رجع فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد فعل ذلك أشار إليه بيده اجلس فجلس بين يديه فقال: ما لك فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله قبل ذلك؟ فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا لغشى قلبي شيء من ذكرك حتى ما استطعت أن أمضي في حاجتي حتى رجعت إليك. فدعا له وقال له خيرا. ثم مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أياما لا يراه فلما فقده سأل عنه فقيل: يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام، فانتعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وانتعل معه أصحابه وانطلق حتى أتوا سوق الزيت فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل عنه جيرته فقالوا: يا رسول الله مات ولقد كان عندنا أمينا صادقا إلا أنه قد كان فيه خصلة، قال: وما هي؟ قالوا: كان يرهق - يعنون يتبع النساء - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رحمه الله والله لقد كان يحبني حبا لو كان نخاسا لغفر الله له.

* الشرح:

(قصة صاحب الزيت) هذا في بعض النسخ يذكر فيها أيضا فضل المحبة (فتطاول له) تطاول واستطال ارتفع ومد عنقه لينظر إلى شيء يبعد عنه (منذ أيام) وفي كنز اللغة: مذ ومنذ لابتداء زمان وبمعنى في أيضا (قالوا كان يرهق) رهق كفرح غشيه ولحقه أو دنى منه سواء أخذه أم لم يأخذه والرهق محركة السفه والنوك والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم واسم من الإرهاق وهو أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه والكذب والعجلة.

ورهق كفرح في الكل ولما كان الرهق يجيء لهذه المعاني بينه عليه السلام بقوله (يعنون يتبع النساء) لعل المراد أنه كان مايلا إلى ملامستهن لا يلزم أن يكون ذلك على وجه الحرام مع إحتماله (لو كان نخاسا لغفر الله له) النخاس بياع الرقيق وهو فظ غليظ القلب فاجر فاسق لا يبالي بالفسوق والتدليس والمكر وقد وردت في ذمه روايات كثيرة منها ما روي عن الباقر عليه السلام «إن رسول

ص:447

الله صلى الله عليه وآله قال: إن شر الناس من باع الناس»

* الأصل:

32 - علي بن محمد، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن عثمان بن عيسى، عن ميسر قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: كيف أصحابك؟ فقلت جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، قال: وكان متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: كيف قلت؟ قلت:

والله لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا فقال: أما والله لا يدخل النار منكم اثنان لا والله ولا واحد، والله إنكم الذين قال الله عزوجل: (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) ثم قال: طلبوكم والله في النار فما وجدوا منكم أحدا.

* الشرح:

(فقال: أما والله لا يدخل النار منكم اثنان.. اه) فإن قلت قال الله تعالى (وإن منكم إلا واردها) قلت: قال الله تعالى (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) توضيح الجواب أن عموم الورود مسلم لكن المراد بالورود العبور لا ورود الدخول، بيان ذلك: أن جهنم محيطة بأرض المحشر وعلى متنها الصراط وليس للناس طريق إلى الجنة إلا عليه فلابد لكل من ضمه المحشر من الجواز عليه، فمخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم وناج مسلم وهو موافق لقوله تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.) الآية وقوله تعالى: (وقالوا مالنا لا نرى رجالا.) الآية فإذا امتحنوا بالجواز على الصراط ينجي من سبقت له الحسنى ويسقط فيها الكفار ومن أراد الله سبحانه، لا يقال:

التنجية إنما يكون بعد الوقوع في المهالك. لأنا نقول: التنجيه كما قيل حقيقتها أن لا تلحق المكروه إذ لا يقال: نجي فلان من الأمير بعد أن وقع به المكروه وإنما يقال: نجي عنه إذا لم يلحقه مكروه أصلا، ولو سلم فلا خفاء في أن أصل المرور عليه وخوف السقوط مكروه عظيم (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) أي الذي حكينا عنهم لحق لابد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال: (تخاصم أهل النار) وهو بدل من حق أو خبر مبتدأ محذوف وقرئ تخاصم بالنصب على البدل من ذلك كذا ذكره بعض المفسرين.

ص:448

وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

33 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أن قال: يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني ثم قال: اللهم أعنه، أما الاولى: فالصدق ولا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والثانية: الورع ولا تجترىء على خيانة أبدا. والثالثة: الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه. والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله يبنى لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة، والخامسة بذلك مالك ودمك دون دينك. والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصومي وصدقتي أما الصلاة فالخمسون ركعة وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوله والأربعاء في وسطه والخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى تقول: قد أسرفت، ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الزوال وعليك بصلاة الزوال، وعليك بصلاة الزوال وعليك بتلاوة القرآن على كل حال وعليك برفع يديك في صلاتك وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها ومساوي الأخلاق فاجتنبها فإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك.

* الشرح:

(وصية النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام) ذكر فيها خصالا شريفة وأعمالا جليلة ترغيبا للمؤمن في العكوف عليها (والثالثة الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه) هذا إشارة إلى مقام المشاهدة أي خف منه تعالى وأنت من أهل الرؤية المعنوية إلا أنه شبهها بالرؤية العينية في الظهور والكمال للإيضاح وهذا مقام عال في مقامات السالكين لا ينزل فيه إلا الخواص الذين استغرقوا في بحار وجوده وقدرته وكماله بحيث لا ينظرون إلا إليه وهذه مرتبة الأنبياء والأوصياء ومن عصمه الله تعالى من الزلل والخطأ ودونه مقامان آخران أحدهما مقام المراقبة وهو أن تخاف منه كأنه يراك وهو مقام من بلغ في تكميل النفس إلى حد يعرف أنه تعالى يطلع عليه في جميع الأحوال ويعلم بحقيقة البصيرة أنه تعالى يراه ولكن قصرت بصيرته عن مشاهدته تعالى ولو عاونته العناية الأزلية لأمكنه الانتقال من هذا المقام إلى المقام المذكور وثانيهما أن تخاف منه تعالى ولكن لم تبلغ إلى حد تراه أو تعلم أنه يراك وهذا مقام أكثر العابدين الذين يعبدونه على الوجه الذي

ص:449

يسقط معه التكليف مع الشرائط والأركان ومن ليس له شيء من هذه المقامات فهو منحرف عن سبيل النجاة وداخل في سلك سائر الحيوانات بل هو أضل.

* الأصل:

34 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن علي، عن عبد الله ابن المغيرة قال: حدثني جعفر بن إبراهيم [بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر الطيار] عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسب المرء دينه ومروءته وعقله وشرفه [و] جماله، وكرمه وتقواه.

* الشرح:

(حسب المرء دينه ومروته وعقله وشرفه جماله) وفي بعض النسخ «وجماله» بالواو (وكرمه وتقواه) أي من له اعتقاد بالدين ومروة داعية لرعاية حقوق المؤمنين وعقل مدرك لما ثبت في الشرع من القوانين وجمال أي حسن ظاهر بالأعمال الصالحة وحسن باطن بالأخلاق الفاضلة وتقوى من الله داعية إلى اجتناب المنهيات والسبق إلى الخيرات فهو حسيب نجيب شريف كريم ومن لم يكن له هذه الخصال وإن كان ذا حسب بالآباء والجاه والمال فهو خسيس دني لئيم فرب عبد حبشي خير من رجل هاشمي.

* الأصل:

35 - عنهم، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن علي بن فضال، عن علي بن عقبة، وثعلبة بن ميمون، وغالب بن عثمان، وهارون بن مسلم، عن بريد بن معاوية قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) في فسطاط له بمنى فنظر إلى زياد الأسود منقلع الرجل فرثا له فقال له: ما لرجليك هكذا؟ قال: جئت على بكر لي نضو فكنت أمشي عنه عامة الطريق، فرثا له وقال له عند ذلك زياد: إني ألم بالذنوب حتى إذا ظننت أني قد هلكت ذكرت حبكم فرجوت النجاة وتجلى عني، فقال أبو جعفر (عليه السلام): وهل الدين إلا الحب؟ قال الله تعالى: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) وقال: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وقال: (يحبون من هاجر إليهم) إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله احب المصلين ولا اصلي واحب الصوامين ولا أصوم؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت وقال: ما تبغون وما تريدون أما إنها لو كان فزعة من السماء فزع كل قوم إلى مأمنهم وفزعنا إلى نبينا وفزعتم إلينا.

* الشرح:

(فنظر إلى زياد الأسود منقطع الرجلين فرثا له) أي رق وتوجع له وفي بعض

ص:450

النسخ «منقلع» وهو حال عن زياد (قال: جئت على بكر لي نضو) البكر بالفتح الفتي من الإبل بمنزلة الغلام من الناس والأنثى بكرة، والنضو بالكسر الدابة التي هزلتها الأسفار وأذهبت لحمها (إني ألم بالذنوب..

اه) أي أنزل بها واقترفها أو أقرب منها وأكاد اقترفها فذكر المحبة على الأول سبب لرجاء النجاة من العقوبة وتجلي ظن الهلاك بها وعلى الثاني سبب لرجاء النجاة من الذنوب وتجليها عنه والله أعلم (وهل الدين إلا الحب) أي ليس الدين إلا حبنا ولا يتحقق إلا به لأنه أصل يثبت الدين بثبوته وينتفي بانتفائه ولا يغتفر التقصير فيه (قال الله تعالى: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) الدين هو الإيمان أعني الإقرار بالله وبالرسول والأوصياء والإيمان لا يتحقق إلا بحكم الآية فالدين لا يتحقق إلا بحبهم وبعبارة أخرى الإيمان هو الإقرار بعلي أمير المؤمنين وأوصيائه عليهم السلام لأن الإقرار يستلزم الإقرار بالله برسوله دون العكس وهو لا يتحقق إلا بحبهم والتقرب على التقديرين واضح.

(وقال: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) الدين وهو متابعة النبي فيما جاء به الذي أعظمه الولاية متوقف على المحبة وثمرته المحبة بدليل الشرط المذكور والمقدر فهو محفوف بالمحبتين محبة العبد له تعالى ومحبة الله تعالى فلا يتحقق إلا بها وهو المطلوب (وقال: (يحبون من هاجر إليهم) مدحهم بحب المهاجرين ليس إلا بحبهم للدين وهو المطلوب (إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله أحب المصلين.. اه) الظاهر أن الرجل كان مؤمنا وأن المراد بالصلاة والصيام المندوبات مع احتمال الأعم وأن المراد بقوله (أنت مع من أحببت) أن المحبة سبب للنجاة وأن قوله (ولك ما اكتسبت) إشارة إلى أن أعمال الخير سبب لرفع الدرجات والله أعلم (وقال: ما تبغون وما تريدون) بعد أن كان لكم أصل يورث نجاتكم وفيه بشارة عظيمة للشيعة المحبين لهم عليهم السلام (أما أنها لو كانت فزعة من السماء.. اه) الفزعة بالضم ما يفزع منه ويخاف كالضحكة بالضم وما يضحك منه ولعل المراد بها الصور أو زلزلة الساعة.

* الأصل:

36 - سهل، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، وعبد الله بن بكير، عن سعيد بن يسار قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الحمد لله صارت فرقة مرجئة وصارت فرقة حرورية وصارت فرقة قدرية وسميتم الترابية وشيعة علي، أما والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له ورسوله (صلى الله عليه وآله) وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشيعة آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما الناس إلا هم، كان علي (عليه السلام) أفضل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولى الناس بالناس - حتى قالها ثلاثا -.

ص:451

* الشرح:

(سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الحمد لله صارت فرقة مرجئة) الحمد لوجود الفرقة الناجية وهم الترابية الآتية لا بوجود الفرق الضالة المضلة لأن وجود الناجية مع افتراق الأمة نعمة عظيمة من الله تعالى يستحق الحمد بها. والمرجئة كما يطلق على طائفة يؤخرون العمل عن النية والعقد وعلى طائفة يؤخرون حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ولا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا وهم والوعيدية فرقتان متقابلتان كذلك تطلق على من أخر عليا عليه السلام من الدرجة الأولى إلى الرابعة وهم الشيعة فرقتان متقابلتان كما في الملل والنحل.

(وصارت فرقة حرورية) هم الخوارج الذين خرجوا على علي عليه السلام ولما كان اجتماعهم في قرية حرورا قرب الكوفة سماهم عليه السلام حرورية وقصتهم مشهورة (وصارت فرقة قدرية) هم الجبرية الذين ذهبوا إلى أن أفعال العباد خيرها وشرها صادرة عنه تعالى وهما صنفان صنف يقولون ليس للعبد قدرة على الفعل أصلا، وصنف يقولون: له قدرة عليه وإذا توجهت قدرتهم إلى الفعل بادرت القدرة الإلهية إليه فتوجده (وسميتم الترابية) للنسبة إلى أبي تراب وهو من أسماء علي عليه السلام قيل: وجه تسميته به أن النبي (صلى الله عليه وآله) جاء إلى بيت فاطمة عليها السلام فلم يجد عليا عليه السلام فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: خرج، فقال النبي صلى الله عليه وآله لإنسان: انظر أين هو فقال يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاءه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب.

(أما والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له) لعل ضمير هو راجع إلى الحق أو إلى من وجبت طاعته بقرينة المقام (ما الناس إلا هم) الضمير للرسول إلى آخره والمراد بالناس هذا الهيكل مع كمال صورته الظاهرة بالأعمال الصالحة وصورته الباطنة بالعلم والإيمان والأخلاق الفاضلة دون الهيكل فقط لأنه بدون الصورة المذكورة عند أهل الحق في الظاهر كالناس المصنوع من الخشب كما قال تعالى (كأنهم خشب مسندة) وفي الباطن كالكلب أو كالحمار كما قال عز وجل (فمثله كمثل الكلب) وقال (مثلهم كمثل الحمار) (كان علي أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله) أي أفضل كل من سواه، كما في قولنا: زيد أفضل أهل البلد، فلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه، والمراد بالناس هنا وفيما بعد أعم ممن ذكر، وهذا الحكم أمر قال به أيضا جمهور علماء أهل السنة وقد ذكرناهم في شرح الأصول (وأولى الناس بالناس) أي بأمر الناس وإمارتهم وهذا الحكم أيضا نقله أبو عبد الله في شرح مسلم عن جماعة من علمائهم إلا أنهم قالوا: كيف نصنع وقد اجتمعت الأمة على خلافة أبي بكر؟ وقد ذكرنا في شرح الأصول عدم تحقق الإجماع عندهم

ص:452

لمخالفة كثير من أهل الفضل من الصحابة (حتى قالها ثلاثا) أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات وهي قوله «كان علي أفضل الناس إلى آخره».

* الأصل:

37 - عنه، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن عمر بن أبان الكلبي، عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أصلحك الله لقد تركنا أسواقنا انتظارا لهذا الأمر حتى ليوشك الرجل منا أن يسأل في يده، فقال: يا [أبا] عبد الحميد أترى من حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجا؟ بلى والله ليجعلن الله له مخرجا، رحم الله عبدا أحيا أمرنا; قلت: أصلحك الله إن هؤلاء المرجئة يقولون: ما علينا أن نكون على الذي نحن عليه حتى إذا جاء ما تقولون كنا نحن وأنتم سواء؟ فقال: يا عبد الحميد صدقوا من تاب تاب الله عليه ومن أسر نفاقا فلا يرغم الله إلا بأنفه ومن أظهر أمرنا أهراق الله دمه يذبحهم الله على الإسلام كما يذبح القصاب شاته.

قال: قلت: فنحن يومئذ والناس فيه سواء؟ قال: لا أنتم يومئذ سنام الأرض وحكامها لا يسعنا في ديننا إلا ذلك; قلت: فإن مت قبل أن ادرك القائم (عليه السلام)؟ قال: إن القائل منكم إذا قال: إن أدركت قائم آل محمد نصرته كالمقارع معه بسيفه والشهادة معه شهادتان.

* الشرح:

(لقد تركنا أسواقنا إنتظارا لهذا الأمر) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: كأنه ناظر إلى ما نطقت به الأحاديث من أن الله تعالى قدر أولا أن يكون ظهور الأمر على يد الصادق عليه السلام ثم قدر تقديرا آخر أن يكون على يد المهدي عليه السلام فهذه الجماعة كانوا غافلين عن التقدير الآخر فاشتغلوا بأخذ السلاح وتعلم آداب الحرب وما أشبه ذلك (إن هؤلاء المرجئة) لعل المراد بهم من أخر عليا عليه السلام عن الثلاثة (يقولون: ما علينا أن نكون على الذي نحن عليه حتى إذا جاء ما تقولون كنا نحن وأنتم سواء) كأنهم قالوا ما نحن عليه من الاعتقاد بخلافة الثلاثة على تقدير بطلانه كما زعمتم لا يضرنا إذا جاء ما تقولون من ظهور المهدي المنكر لخلافتهم فإنا إذا علمنا أنه أيضا ينكرها كما تنكرونها نؤمن به ونتوب عما كنا فيه والتوبة تمحو تلك الخطيئة عنا وحينئذ نحن كنا وأنتم سواء في الدين وأمر الخلافة فأجاب عليه السلام بأنهم في القول صادقون فإن (من تاب) منهم توبة خالصة (تاب الله عليه) وقبل توبته ورفع عنه خطيئة (ومن أسر نفاقا) وأبطنه وأظهر إيمانا لسانا (فلا يرغم الله إلا بأنفه) الرغم مصدر وفي رائه الحركات الثلاثة والمشهور منها الفتح وهو من الرغام بالفتح وهو التراب فمعنى أرغم الله أنفه ورغم الله بأنفه ألصقه بالتراب هذا معناه

ص:453

بحسب اللغة ثم استعمل في الذل مجازا فأرغم الله أنفه معناه أذله من باب إطلاق السبب على المسبب، وقيل: إنه مأخوذ من المراغمة وهي الاضطراب والتحير ومنه قوله تعالى: (يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) أي مهربا واضطرابا فالمعنى على الأول ومن أسر نفاقا أذله الله في الدنيا والآخرة وعلى الثاني جعله الله مضطربا فيهما.

(ومن أظهر أمرنا أهراق الله دمه) دعاء على من أظهر أمرهم من أهل النفاق عند أعدائهم للإضرار بهم وبشيعتهم وأهراق من باب الأفعال أصله أراق يقال: أراق الماء بريقه أراقه إذا صبه ثم أبدلت الهمزة هاء، فقيل: هراقه بفتح الهاء يهريقه هراقة ثم جمع بين البدل والمبدل منه فقيل:

أهراق، وإفراد ضمير الموصول هنا باعتبار اللفظ وجمعه باعتبار المعنى في قوله (يذبحهم الله على الإسلام كما يذبح القصاب شاته) الظاهر أن الظرف حال عن المفعول وان على للاستيلاء والاستعلاء.

(قال: قلت فنحن يومئذ والناس فيه سواء) يعني نحن معاشر الشيعة والناس والمخالفون لنا إذا تابوا في عهد الصاحب عليه السلام سواء في المنزلة والدرجة عنده، هو متفرع على قولهم: وكنا نحن وأنتم سواء، وقوله عليه السلام «صدقوا» (قال: لا، أنتم يومئذ سنام الأرض وحكامها) سنام كل شيء أعلاه وهو كناية عن شرف الشيعة يومئذ ورفعة قدرهم وجريان حكمهم على أهل الأرض (قال: إن القائل منكم إذا قال: إن أدركت قائم آل محمد نصرته كالمقارع معه بسيفه والشهادة معه شهادتان) فله ثواب شهيدين بشهادته معه ولكونه مؤمنا منتظرا لأمره لما روي: «إن المؤمن شهيد وإن مات على فراشه» أو المراد أن الحضور معه حضوران بالقصد والفعل، قال بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حين أظفره الله بأصحاب الجمل: وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله على أعدائك، فقال عليه السلام: أهوى أخيك معنا؟ أي محبته وميله معنا قال: نعم، فقال: شهدنا - أي حضرنا - والله لقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أشار عليه السلام إلى أن من سيوجد من أنصار الحق شاهدون معه عليه السلام أيضا فدل على أن من لم يوجد من أنصاره فهو بمنزلة الموجود بالفعل في نصرته له.

* الأصل:

38 - عنه، عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن الوليد الكندي قال: دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) في زمن مروان فقال: من أنتم، فقلنا: من أهل الكوفة، فقال: ما من بلدة من البلدان أكثر محبا لنا من أهل الكوفة ولا سيما هذه العصابة، إن الله جل ذكره هداكم لأمر جهله الناس وأحببتمونا وأبغضنا الناس واتبعتمونا وخالفنا الناس وصدقتمونا وكذبنا الناس فأحياكم الله محيانا وأماتكم [الله] مماتنا فأشهد على أبي أنه كان يقول: ما بين أحدكم وبين أن يرى ما يقر الله به عينه وأن يغتبط إلا

ص:454

أن تبلغ نفسه هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - وقد قال الله عزوجل في كتابه: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) فنحن ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

(فأحياكم الله محيانا وأماتكم مماتنا) أحياه جعله حيا وفي النهاية: المحيا مفعل من الحياة، ويقع على المصدر والزمان والمكان أي جعل حياتكم وموتكم كحياتنا وموتنا في الميل إلى الخيرات والفوز بالسعادات.

* الأصل:

39 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن عديس، عن أبان بن عثمان، عن أبي الصباح قال: سمعت كلاما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه السلام) وعن ابن مسعود فعرضته على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: هذا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعرفه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الشقي من شقي في بطن امه والسعيد من وعظ بغيره وأكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وشر الروي روي الكذب وشر الأمور محدثاتها وأعمى العمى عمى القلب وشر الندامة ندامة يوم القيامة وأعظم الخطايا عند الله لسان الكذاب وشر الكسب كسب الربا وشر المأكل أكل مال اليتيم وأحسن الزينة - زينة الرجل - هدي حسن مع إيمان وأملك أمره به وقوام خواتيمه ومن يتبع السمعة يسمع الله به الكذبة ومن يتول الدنيا يعجز عنها ومن يعرف البلاء يصبر عليه ومن لا يعرفه ينكل، والريب كفر ومن يستكبر يضعه الله ومن يطع الشيطان يعص الله ومن يعص الله يعذبه الله ومن يشكر يز [ي] ده الله ومن يصبر على الرزية يعنه الله ومن يتوكل على الله فحسبه الله، لا تسخطوا الله برضا أحد من خلقه ولا تقربوا إلى أحد من الخلق تتباعدوا من الله، فإن الله عزوجل ليس بينه وبين أحد من الخلق شيء يعطيه به خيرا ولا يدفع به عنه شرا إلا بطاعته واتباع مرضاته وإن طاعة الله نجاح من كل خير يبتغى ونجاة من كل شر يتقى وإن الله عز ذكره يعصم من أطاعه ولا يعتصم به من عصاه ولا يجد الهارب من الله عزوجل مهربا، وإن أمر الله نازل ولو كره الخلائق، وكل ما هو آت قريب، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.

* الشرح:

(قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الشقي من شقى في بطن أمه) روي: «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» وذلك أن الله سبحانه علم سعادة كل شخص وهي ثباته في سبيل

ص:455

الله وسلوكه فيه وعلم شقاوة كل أحد وهي سلوكه في سبيل الطاغوت وثباته فيه فالسعيد سعيد في الأزل والشقي شقي في الأزل ولكن لما كان وجوده العيني وانطباق العلم بالمعلوم في هذا الوقت وهو أول وجوده في بطن أمه نسب في هذا الوقت إليه السعادة والشقاوة.

قيل: روي أن الملك المصور إذا وقعت النطفة في الرحم يأخذها ويقول يا رب أسعيد أم شقي؟ أغني أم فقير؟ عالم أم جاهل وهكذا فيجيبه بما يعلم فيكتبه الملك فإذا رجع وجد كل ذلك مكتوبا في اللوح المحفوظ (والسعيد من وعظ بغيره) السعيد في الآخرة من اعتبر حال غيره فشاهد بعين البصر والبصيرة حال الظالمين فخاف عاقبته فعدل عن طريقتهم وتذكر حال المتقين فمال إلى سيرتهم وسلك مسالكهم فرغب في الاتعاظ بالغير بذكر ما يستلزمه من السعادة والشقاوة. (وأكيس الكيس التقى) الكيس بالتخفيف الفطنة والعقل وهو مصدر كأس كيسا وبالتشديد اسم فاعل والجمع أكياس مثل جيد وأجياد ومعنى التفضيل ظاهر لأن الكيس هو الفطن العاقل العالم بالشرع وأفضله التقي العامل بالأوامر والتارك للنواهي (وأحمق الحمق الفجور) الحمق فساد في العقل حمق يحمق فهو حمق من باب تعب وحمق بالضم فهو أحمق وهي حمقاء والحماقة اسم منه وفي النهاية: حقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه، والفجور بالفتح اسم فاعل من فجر العبد فجورا بضم الفاء من باب قعد قعودا فسق وزنا ووجه التفضيل ظاهر لأنه جمع بين الجهل والفسق وعليه لوم من وجهين (وشر الروي روي الكذب) الروي فعيل بمعنى فاعل إما من الرؤية وهي ما يرى أحد في نفسه من التزوير في القول والفعل أو من الرواية وفي النهاية: الروايا جمع روية وهي ما يرى الانسان في نفسه من القول والفعل أي يزور ويفكر وأصله الهمز يقال: روأت في الأمر، وقيل: هي جمع راوية للرجل الكثير الرواية والهاء للمبالغة وقيل جمع رواية أي الذين يروون الكذب وتكثر رواياتهم فيه.

أقول: كونه شرا ظاهر لأنه مفسدة عظيمة في الدنيا والدين وأصل للنفاق وسبب لسواد القلب وعدم قبوله لصورة الحق والصدق والإلهامات ومورث لخراب البلاد وتفرق العباد وقتل النفوس وسفك الدماء ونهب الأموال وغيرها من أنواع الظلم ولذلك اتفق أهل العلم من أرباب الملل وغيرهم على تحريمه وادعت المعتزلة قبحه بالضرورة لذاته وهو رذيلة متقابلة للصدق وداخلة تحت رذيلة الفجور (وشر الأمور محدثاتها) المحدثات جمع محدثة بفتح الدال وهي ما لم يكن في الدين ولا معروفا في الكتاب والسنة من الأمور المنكرة في الشريعة كخلافة الثلاثة وما أحدثها أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم بقياساتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وشبهاتهم الكاسدة ونحوها ومقابلها الأمور القديمة وهي ما كان من أمور الدين في عهده صلى الله عليه وآله.

وبالجملة الأمر إما حق أو باطل والأول هو الأمر القديم والثاني إما متعلق بالعقائد الدينية

ص:456

والأحكام الشرعية أو بنفس العمل والأول وهو المراد بالمحدث أشد شرا من الثاني لأنه يفسد أصل الدين بخلاف الثاني (وأعمى العمى عمى القلب) عمي كرضي عمى ذهب بصره وهي أعمى والمرأة عمياء والجمع عمي من باب أحمر وحمر وعميان أيضا ولا يقع العمى إلا على العينين جميعا ويستعار القلب كناية عن الضلالة وعدم الإدراك والعلاقة عدم الاهتداء للمقصود وهو في الفرع أشد من الأصل لأن المطلوب فيه أكثر وأعظم والضرر اللاحق بفواته أفخم وأدوم.

(وشر الندامة ندامة يوم القيامة) وذلك لأن الندامة على ترك الشيء أو فعله إنما هي على قدر نفع ذلك الشيء أو ضره ومن البين عقلا أو نقلا أن نفع يوم القيامة وضره أشد وأبقى من نفع الدنيا وضرها فلذلك تكون ندامة القيامة أشد وأقوى (وأعظم الخطايا عند الله لسان الكذب) لما عرفت من أن الكذب خطيئة متضمنة لخطايا غير محصورة وعد لسان الكذاب خطيئة مجاز من باب تسمية المحل باسم الحال أو المراد باللسان الكلام وهذا شايع كما يقال: أنا لا أعرف لسان فلان (وشر الكسب كسب الربا) سواء انتفع به بالأكل وغيره أم لا وتخصيص الأكل بالذكر في قوله تعالى: (والذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) أي لا يقومون من قبورهم إلا قياما كقيام المصروع الذي يتخبطه الشيطان فيصرعه بزعم العرب للتنبيه بذكر الأكل على سائر وجوه الانتفاع أو لأن الأكل أعظم المقاصد من تحصيل المال وقد عد الصادق عليه السلام درهما من الربا أعظم من سبعين زنية بذات محرم في بيت الله الحرام ومما يدل على أنه شر الكسب أن كل كسب يقصد به الخير والبركة والنماء ولا خير ولا بركة ولا نماء في الربا بل هو يذهب ويذهب المال ويوجب محقه ونقصانه كما قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) والمحق هو نقصان الشيء حتى يذهب على أن فيه ظلما على المحتاج الفقير بأخذ زائد على ما عليه مع أنه يشيد فقره ويزيده ويسد باب المواساة والمعروف والإحسان وقرض الحسنة إذ لو حل الربا لشق على النفس جميع ذلك لإمكان الزائد به وإذا حرم سهل عليه ففي تحريمه حكمة بليغة فمن أخذه بعده فهو دافع لتلك الحكمة.

(وشر المأكل أكل مال اليتيم) الظاهر أن المأكل مصدر ميمي بقرينة حمل المصدر عليه وقد مر تفسيره في باب الكبائر وغيره (وأحسن الزينة زينة الرجل هدى حسن مع إيمان) زينة الرجل بدل من الزينة وتخصيصه بالذكر للتمثيل وهدي بالفتح والسكون السيرة والطريقة ورفعه على الخبر ووصفه بالحسن للاحتراز عن الهدي القبيح وتقييده بالإيمان للدلالة على أنه لا ينفع بدونه وفيه ترغيب في تحصيله (واملك أمره به وقوام خواتيمه) الملاك بالفتح والكسر قوام الشيء ونظامهم وما يعتمد عليه فيه وضمير أمره وخواتيمه راجع إلى الرجل وضمير به إلى الهدي الحسن مع الإيمان وفيه أيضا ترغيب فيه إذ به يستقيم أمره ما دام العمر وينتظم خواتيمه عند الموت وما بعده

ص:457

(ومن يتبع السمعة يسمع الله به الكذبة) السمعة وتضم وتحرك ما نوه بذكره ليرى ويسمع وتسميع الشيء إذاعته وتشهيره ليقوله الناس وضمير به راجع إلى الموصول والكذبة مصدر، ولعل المراد بها كذبة نفسه يقال: كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال فتنشطه وتبعثه على نقل ما يفضي إليها من الأعمال، ولعل المراد أن من أراد بعمله المشتغل به السمعة أو أظهر عمله الذي فعله في السر ليسمعه الناس ويحمدوه عليه يشهر الله به أمانيه وآماله ويظهر للناس غرضه وأن عمله كان للسمعة والرياء ولم يكن خالصا لله أو المراد أن من ذكر لنفسه عملا لم يفعله ونسب إلى نفسه خيرا لم يصنعه يشهر الله بين الناس كذبه ويفضحه (ومن يتول الدنيا يعجز عنها) فإن أمورها جلها أو كلها صعب إما بالذات أو لكثرة الموانع وإليه أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله «من ساعاها» أي سعى للدنيا «فاتته» قيل: أقوى أسباب الفوت أن تحصيل الدنيا أكثر ما يكون بمنازعة أهلها ومجاذبتهم إياها ومن البين أن ثوران الشهوة والغضب والحرص عند المجاذبة للشيء وقوة منع الإنسان له سبب لتفويت بعضهم له على بعض وفيه تنبيه على وجوب ترك الحرص عليها والإعراض عنها إذ كان فواتها اللازم عن شدة السعي فيها مكروها للسامعين.

(ومن يعرف البلاء يصبر) لأنه عاقل حيث يعرف أنه من تقدير الرب تبارك وتعالى على العبد لمنافع تعود إليه فلا محالة يصبر عليه أو المراد أن من يعرف البلاء قبل نزوله وهيأ نفسه لقبوله يصبر بعد وصوله كما يرشد إليه بعض الروايات (ومن لا يعرفه ينكل) أي يجبن ويضعف وفيه أمر بحسن الاستعداد لقبوله لئلا يعجز عند نزوله (والريب كفر) أي الشك في أصول الدين وفروعه أو في نصح الإمام العادل أو القلق والاضطراب لدى الحق كفر (ومن يستكبر يضعه الله) أي من يستكبر على الله وعلى الرسول وأولي الأمر في قبول الأمر والنهي والطاعة أو على المؤمنين أو على قبول الحق مطلقا يضعه الله في الدنيا والآخرة (ومن يطع الشيطان يعص الله ومن يعص الله يعذبه الله) دل بالأول من الشكل الأول على أن من يطع الشيطان يعذبه الله أما الصغرى فظاهرة لأن أمر الشيطان مخالف لأمر الله وأما الكبرى فينبغي تقييدها بعدم التوبة والعفو والإحباط والتكفير أو بتخصيص الطاعة بما يقتضي الكفر ومن يشكر يزده الله الشكر ربط الظاهر والباطن بالمنعم الحق صرفهما فيما خلقا له، وهو تابع لمعرفته وسبب لزيادة النعمة والطاعة كما قال تعالى (ولئن شكرتم لأزيدنكم) وفي بعض النسخ «يزيده الله» وهو ضعيف لأن الشرط والجزاء إذا كانا مستقبلين كان الأحسن جزم الجزاء فرفعه ضعيف.

(ومن يصبر على الرزية يعنه الله) بالتوفيق للخيرات كلها والوصول إلى أعلى مقامات الرضا بقضاء الله والصبر يفضي إلى غاية الكمال وإليه يرشد ما نقل من أنه يقول الله تعالى «لو أن ابن آدم قصدني في أول المصائب لرأى من العجائب ولو انقطع إلي في أول النوائب لشاهد مني الغرائب

ص:458

ولكنه انصرف إلى أشكاله فرد في أشغاله» وفيه حث بليغ على الصبر عند ورود المصائب وزجر عن الجزع بنزول النوائب وفي بعض النسخ «يعينه الله» وهو أيضا ضعيف لما مر (ومن يتوكل على الله فحسبه الله) كما قال تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي من توكل على الله وانقطع عن غيره ورجع إليه بصدق النية فالله حسبه وكافيه في إيصال النفع ودفع الضر لأن الوكيل إذا كان أمينا عالما حكيما قادرا يفعل لموكله كل ما هو خير له بالضرورة (ولا تسخطوا الله برضا أحد من خلقه) نهى عن إرضاء المخلوق بما فيه سخط الله وغضبه والمساهلة معهم فيما هو خلاف مراد الله تعالى طلبا لرضائهم كاتباع السلاطين والجائرين في جورهم وأقوالهم وأفعالهم والثناء لهم والتكلم على وفق مرادهم والنصرة لهم ويندرج فيه الحمية بالباطل للحميم وشهادة الزور ورعاية أحد المتخاصمين لصداقته وموافقة الرفقاء في الغيبة ليرضوا عنه ويميلوا إلى صحبته (ولا تقربوا إلى أحد من الخلق تتباعدوا من الله) نهى عن التقرب من الخلق والتوسل بهم فإنه سبب للبعد من الله ولابد من حملهم على من ليسوا من أهل التقرب بهم فإن التقرب بالأولياء والعلماء والصلحاء الذين هم وجه الله تعالى تقرب إلى الله كما دلت عليه الروايات المعتبرة ولما كان المذكور دالا على النهي عن طاعة الخلق وطلب مرضاتهم والغرض منه طلب طاعة الله وطلب مرضاته علله بقوله:

(فإن الله عز وجل ليس بينه وبين أحد من الخلق شيء يعطيه به خيرا ولا يدفع به عنه شرا إلا بطاعته واتباع مرضاته) لعل المراد بالخير الأعم منهما والمراد أنه ليس بين الله وبين الخلق شيء يوجب الوصول إلى الخير ودفع الشر إلا طاعته واتباع مرضاته وهما لا يتحققان فيمن تقرب بشرار الخلق وطلب رضاهم بما فيه سخط الله تعالى، ثم رغب في الطاعة بذكر ثمرتها التي هي أعظم الثمرات وأكمل الفوائد بقوله (إن طاعة الله) فيما أمر ونهى (نجاح من كل خير يبتغى) أي يطلب في الدنيا والآخرة (ونجاة من كل شر يتقى) أي يحترز منه فإن المطيع لله فائز بكل خير وعده للمطيعين وناج من كل شر أوعده للعاصين ثم علل الحكمين بأن المطيع في وقاية الله بفضله وإن لم يقصد من الطاعة ذلك والعاصي لا يقدر على الامتناع من عقوبته كما أشار إليه بقوله (وإن الله عز ذكره يعصم من أطاعه) أي يحفظه ويقيه عن كل مكروه وشر (ولا يعتصم به) أي يمتنع بالله (من عصاه) لعدم قدرته عليه وعدم وجود ما يعتصم به عن الطاعة، ولما بقي احتمال آخر وهو أن يهرب من الله أشار إلى امتناع هذا الاحتمال بقوله (ولا يجد الهارب من الله مهربا) إذ كل مهرب يفرض فهو داخل في قدرة الله وسلطانه، وبالجملة تخلص العاصي إما بامتناعه وقدرته أو بفراره ولا يتصور شيء منهما هنا ثم أشار على سبيل التأكيد إلى الخلق مسخر لأمره تعالى بقوله (وأن أمر الله نازل ولو كره الخلائق) وليس لهم الإباء عن نزوله وإن لم يوافق طباعهم وإذا كان كذلك وجب عليهم الإتيان بما فيه رضاه والاجتناب عما فيه سخطه ولعل المراد بأمر الله الموت كما قيل في

ص:459

تفسير (فإذا جاء أمر الله) (لا مرد له)، ويحتمل الأعم منه ثم رغب في الطاعة وزجر عن المعصية بانقطاع زمانهما سريعا وترتب ما لكل منهما عليه عن قريب في قوله (وكل ما هو آت قريب) أراد به الموت وما بعده أو الأعم (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) دل على أنه يشاء كل ما يكون وهذا في فعله تعالى ظاهر وأما في فعل العباد فبإعتبار أنه لما أعطاهم القوة على الطاعة والمعصية ولم يجبرهم على شيء منهما تحقيقا لمعنى الاختيار والتكليف فقد شاء صدورهما منهم إذ لو لم يشأ لما أعطاهم القوة ولجبرهم على الطاعة أو باعتبار أنه لما شاء مشيئتهم فقد شاء أفعالهم وبهذا فسر بعض المفسرين قوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) وهذا قريب من الأول وقيل المراد بالمشيئة العلم وهذا التوجيه وإن كان بعيدا لغة وعرفا لكنه أنسب معنى إذ لا يحتاج إلى التوجيه أصلا وعلى التقادير يظهر سر ما روي من أنه شاء ولم يرض وقد ذكرنا في شرح التوحيد في باب المشيئة وغيره ما ينكشف به الغطاء.

(فتعاونوا على البر والتقوى) الظاهر أن الفاء فصيحة أي إذا عرفتم ما ذكر من المواعظ والنصايح ولزوم الطاعة والتحرز عن المعصية «فتعاونوا على البر والتقوى» وإنما أمر بالتعاون فإن نظام الدين وقوامه لا يحصل إلا به كما ستعرفه في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام ولعل المراد بالبر الإحسان إلى الخلق مثل العفو والإغضاء وغيرهما والإتيان بالمأمور به وبالتقوى الإجتناب عن المنهي عنه. ويمكن تخصيص البر بالإحسان وتعميم التقوى وشمولها للامتثال والاجتناب (ولا تعاونوا على الإثم) بترك الأوامر وفعل المناهي (والعدوان) بالتشفي والانتقام وترك الإحسان (واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وعيد عظيم بأنه يعذب من خالفه عذابا شديدا لشدة شكيمته وعظمة جريمته.

* الأصل:

40 - وبهذا الإسناد، عن أبان، عن يعقوب بن شعيب أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل (كان الناس امة واحدة) فقال: كان الناس قبل نوح امة ضلال فبدا لله فبعث المرسلين وليس كما يقولون لم يزل وكذبوا، يفرق الله في ليلة القدر ما كان من شدة أو رخاء أو مطر بقدر ما يشاء الله عزوجل أن يقدر إلى مثلها من قابل.

* الشرح:

(كان الناس أمة واحدة) فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، قال القاضي:

أريد به الجنس ولا يريد أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه فإن أكثرهم لم يكن له كتاب يخصهم

ص:460

وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعن كعب: الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون (فقال كان قبل نوح أمة ضلال) كان بين آدم ونوح عشرة آباء وأنبياء وأوصياء إلا أنهم كانوا مستخفين للعلم والإيمان وميراث النبوة وذلك لأن قابيل بعد موت آدم قال: يا هبة الله - وهو شيث وصي آدم عليه السلام - إني قد رأيت أبي قد خصك من العلم وهو العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتقبل قربانه وإنما قتلته كيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي فإن أظهرت العلم قتلتك كما قتلت أخاك فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم وغيره من آثار النبوة وشاع الجهل والضلالة حتى بعث الله نوحا فأظهر الدعوة (فبدا لله فبعث المرسلين وليس كما يقولون لم يزل وكذبوا، يفرق الله في ليلة القدر.. اه) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: فحدثت لله إرادة متعلقة ببعث نوح عليه السلام ومن بعده من الأنبياء لهداية الناس فإرادة الله تعالى حادثة وليست قديمة كما زعمت الفلاسفة ومولعوا فن الكلام من علماء الإسلام وكيف تكون قديمة وفي ليلة القدر من كل سنة يقدر الله ما يقع في تلك السنة والبداء في حقه تعالى حدوث إرادته وفي حق غيره حدوث علمه.

ص:461

حديث البحر مع الشمس

* الأصل:

41 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن معروف بن خربوذ، عن الحكم بن المستورد عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إن من الأقوات التي قدرها الله للناس مما يحتاجون إليه البحر الذي خلقه الله عزوجل بين السماء والأرض، قال: وإن الله قد قدر فيها مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب وقدر ذلك كله على الفلك، ثم وكل بالفلك ملكا ومعه سبعون ألف ملك، فهم يديرون الفلك فإذا أداروه دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه فنزلت في منازلها التي قدرها الله عزوجل فيها ليومها وليلتها فإذا كثرت ذنوب العباد وأراد الله تبارك وتعالى أن يستعتبهم بآية من آياته أمر الملك الموكل بالفلك أن يزيل الفلك الذي عليه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب فيأمر الملك اولئك السبعين ألف ملك أن يزيلوه عن مجاريه، قال: فيزيلونه فتصير الشمس في ذلك البحر الذي يجري في الفلك قال: فيطمس ضوؤها ويتغير لونها فإذا أراد الله عزوجل أن يعظم الآية طمست الشمس في البحر على ما يحب الله أن يخوف خلقه بالآية قال: وذلك عند انكساف الشمس، قال: وكذلك يفعل بالقمر، قالا فإذا أراد الله أن يجليها ويردها إلى مجراها أمر الملك الموكل بالفلك أن يرد الفلك إلى مجراه فيرد الفلك فترجع الشمس إلى مجراها، قال: فتخرج من الماء وهي كدرة، قال: والقمر مثل ذلك، قال: ثم قال علي بن الحسين 8: أما إنه لا يفزع لهما ولا يرهب بهاتين الآيتين إلا من كان من شيعتنا، فإذا كان كذلك فافزعوا إلى الله عزوجل ثم ارجعوا إليه.

* الشرح:

(حديث البحر مع الشمس) (1) هذا الحديث غريب متشابه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم (إن من الأقوات التي قدرها الله للناس مما يحتاجون إليه البحر.. اه) الأقوات جمع قوت وهو ما يؤكل ليمسك الرمق والبحر قوت مجازا لأنه سبب أو حقيقة ان أريد بالقوت ما يشرب أيضا لأن مياه الأرض من ذلك البحر لدلالة بعض الأخبار على أنه ينزل منه ماء والسحاب بمنزلة غربال

ص:462


1- 1 - هذا الخبر مجهول بحكم بن المستورد ولا يوجد في كتب الرجال هذا العنوان وما عثرت عليه في الكافي غير هذا المورد على ما أظن. وأورد الصدوق رحمه الله هذا الحديث عن علي بن الحسين عليهما السلام في الفقيه مرسلا بدون ذكر السند.

له (وإن الله تعالى قد قدر فيها) أي في السماء أو في البحر باعتبار أنه آية (مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب) العطف للتفسير أو للتعميم (وقدر ذلك كله على الفلك) الظاهر أنه الفلك الأعظم الذي به قوام الحركة اليومية والجنس محتمل فيشمل الخوارج المراكز بل التداوير أيضا ولا يبعد أن يكون للشمس أيضا تداوير وإن لم يثبتوه (ثم وكل بالفلك ملكا ومعه سبعون ألف ملك) حمل الملك على الظاهر أظهر فدل على أن حركة الفلك قسرية وحمله على نفس فلكية متبوعة لنفوس كثيرة معينة لها في تحصيل ما هو المطلوب منها محتمل وهذه النفوس بالنسبة إليها كالقوى بالنسبة إلى النفس الإنسانية (وأراد الله تعالى أن يستعتبهم) أي يلومهم ويخوفهم بآية من آياته ليرجعوا عن الذنوب والإساءة (فتصير الشمس) أي بعضها (في ذلك البحر) الظرفية إما حقيقية أو مجازية باعتبار أنها تصير بحذائه وبالأخير صرح بعض المحققين (فيطمس ضوءها) أي يمحو بعض ضوئها) (ويتغير لونها بطموس ضوئها (فإذا أراد الله أن يعظم الآية) لاصرار العباد على الذنوب (طمست الشمس) كلها (في البحر على ما يحب الله أن يخوف خلقه بالآية) أي على مقدار ما يحب من طمس الكل أو البعض وقلة المدة وكثرتها (وكذلك يفعل بالقمر) أي مثل ما يفعل بالشمس يفعل بالقمر من أجراء كله أو بعضه في ذلك البحر أو بحذائه لينخسف بعضه أو كله على قدر ما أحب من التخويف (أما انه لا يفزع لهما ولا يرهب بهاتين الآيتين إلا من كان من شيعتنا) المعتقدين بأن الكسوف والخسوف من الله تعالى لتخويف العباد بهما وقد أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف بهاتين الآيتين إلى قيام الساعة على وجه يوجب صلاتهما إلا الشيعة.

وهذا من إخباره بالغيب لأنه لم يقل بوجوب هذه الصلاة من العصر إلى هذا الزمان أحد من المخالفين مع تواتر أخبارهم بأنه صلى الله عليه وآله صلاها وأمر بها يظهر ذلك لمن تتبع أصولهم وفروعهم، قال الآبي من مشاهير علمائهم: هذه الصلاة سنة عند الجميع وقد بسطنا الكلام فيه في موضعه، قال الأمين الأسترآبادي: كان العلة في أن الشيعة يرهبون بهما دون غيرهم أن مضمون هذا الحديث لا يصدق به إلا الشيعة لأنه منقول بطريق أهل البيت عليهم السلام وغير الشيعة يقول العلة في الكسوف والخسوف الحيلولة التي من مقتضى الحركات الفلكية (وإذا كان كذلك فافزعوا) أي الجأوا واستغيثوا (إلى الله عز وجل) بالصلاة (ثم ارجعوا إليه) بالتوبة والاستغفار والتضرع والخشوع قال الصدوق رحمه الله «إن الذي يخبر به المنجمون من الكسوف فيتفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف في شيء وإنما يجب الفزع إلى المساجد والصلاة عند رؤيته لأنه مثله في المنظر وشبيه له في المشاهد كما أن الكسوف الواقع مما ذكره سيد العابدين عليه السلام إنما وجب الفزع فيه إلى المساجد والصلاة لأنه آية تشبه آيات الساعة فأمرنا بتذكر القيامة عند مشاهدتها والرجوع إلى الله تبارك وتعالى بالتوبة والإنابة والفزع إلى المساجد التي هي بيوته في

ص:463

الأرض والمستجير محفوظ في ذمة الله تعالى».

أقول: كأن الصدوق حمل البحر على حقيقته ويرفع استبعاد ذلك الله تعالى قادر على جميع الممكنات وأن وجود البحر على الوجه المذكور ممكن عقلا وكذا زوال الفلك عن مداره سواء كانت حركته عليه إرادية أو قسرية أو طبيعية أما على الأولين فظاهر وأما على الأخير فلجواز مفارقة مقتضى الطبع عنه من باب خرق العادة بأمر الخالق له كما يشهد عليه صيرورة نار نمرود بردا وسلاما لخليل الرحمن، فإذا أخبر المخبر الصادق على وجوده وجب علينا التسليم والقبول وإن لم نعرف حقيقة ذلك البحر وكميته وكيفيته وضعه وموضعه ووحدته وتعدده على أن يكون أحدهما بين سماء الدنيا والأرض والآخر بين السماء فإن العلم بذلك موضوع عنا كما في ساير الأسرار الغيبية.

ثم أقول: يمكن أن يأول بوجهين الأول أن يراد بالبحر الأرض مع ظلها المخروطي الداير في الهواء وجرم القمر مع ظله الداير في السماء فبالأول يتحقق خسوف القمر والنجوم إذا وصل الخط المخرج من مركز الشمس ورأس الظل الأول إلى مركز القمر والنجوم وبالثاني يتحقق الكسوف إذا وصل الخط الشعاعي إلى مركز القمر والشمس، الثاني أن يراد بالبحر الغضب على سبيل الاستعارة أيضا وهو محيط بالسفليات يصل أثره إليها بالإهلاك والاستيصال وغيرهما وبالعلويات يطمس أنوارها والملائكة واسطة في إيصال أثره إليهما كما هو معروف في قصة قوم لوط وطمس أعينهم وغيرها مما وقع في الأمم السابقة وإزالتهم الفلك عن مجاريه وصيرورة النجوم في ذلك البحر وخروجها منه عبارة عن تغير حالها إلى حال ووصفها إلى وصف والله يعلم حقيقة كلام وليه.

* الأصل:

42 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن سليمان، عن الفضل بن إسماعيل الهاشمي، عن أبيه قال: شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ما ألقى من أهل بيتي من استخفافهم بالدين، فقال: يا إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك فان الله تبارك وتعالى جعل لكل أهل بيت حجة يحتج بها على أهل بيته في القيامة فيقال لهم: ألم تروا فلانا فيكم، ألم تروا هديه فيكم، ألم تروا صلاته فيكم، ألم تروا دينه، فهلا اقتديتم به، فيكون حجة عليهم في القيامة.

* الشرح:

(يا إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك.. اه) أشار إلى أن استخفافهم بالدين لا يضرك وأنه غير مختص بهم بل هو في كل أهل بيت وأنك حجة على أهل بيتك كما أن في كل أهل بيت من هو

ص:464

حجة عليهم.

* الأصل:

43 - عنه، عن أبيه، عن محمد بن عثيم النخاس، عن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله عزوجل يوم القيامة على جيرانه [به] فيقال لهم: ألم يكن فلان بينكم، ألم تسمعوا كلامه، ألم تسمعوا بكاءه في الليل، فيكون حجة الله عليهم.

* الشرح:

(إن الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله يوم القيامة على جيرانه به.. اه) دل على أنه ينبغي لكل فرقة وقبيلة الاقتداء بالصالح منهم لئلا يجعله الله تعالى حجة عليهم يوم القيامة.

* الأصل:

44 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب; عن جميل بن صالح، عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عزوجل (وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل) قال: كان طير ساف جاءهم من قبل البحر، رؤوسها كأمثال رؤوس السباع وأظفارها كأظفار السباع من الطير، مع كل طائر ثلاثة أحجار: في رجليه حجران وفي منقاره حجر، فجعلت ترميهم بها حتى جدرت أجسادهم فقتلهم بها وما كان قبل ذلك رئي شيء من الجدري ولا رأوا ذلك من الطير قبل ذلك اليوم ولا بعده قال: ومن أفلت منهم يومئذ انطلق حتى إذا بلغوا حضرموت وهو واد دون اليمن، أرسل الله عليهم سيلا فغرقهم أجمعين قال: وما رئي في ذلك الوادي ماء قط قبل ذلك اليوم بخمسة عشر سنة، قال: فلذلك سمي حضرموت حين ماتوا فيه.

* الشرح:

(أرسل عليهم طيرا أبابيل) الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وأبابيل جمع بلا واحد بمعنى الجماعات، وقيل: جمع إبالة كإجانة وقد تخفف وهي في الأصل الحزمة الكبيرة من الحشيش والمراد هنا القطعة الكبيرة من الطير والجماعات على تشبيهها بالحزمة في تضامها وتلاصق بعضها ببعض (ترميهم بحجارة من سجيل) في القاموس: سجيل كسكيت حجارة كالمدر معرب سنك وكل أو كانت طبخت بنار جهنم وكتب فيها أسماء القوم وقوله تعالى: (من سجيل) أي من سجل أي مما كتب لهم أنه يعذبون بها (قال: كانت طير ساف) بتشديد الفاء من سف الطاير

ص:465

إذا دنا من الأرض في طيرانه أو بتخفيفها من سفا يسفوا سفوا إذا أسرع في المشي أو الطيران (رؤوسها كأمثال رؤوس السباع) من الطير بقرينة ما يأتي والسباع ما يفترس الحيوان ويأكله قهرا وقسرا (حتى جدرت أجسادهم) الجدر خروج الجدري بضم الجيم وفتحها وفتح الدال فيهما قروح تنقط من الجلد بقيح وقد جدر وجدر كغنى ويشدد فهو مجدور وبالتحريك سلع يكون في البدن خلقه أو من ضرب أو من جراحة كالجدر كصرد واحدتها بهاء (حتى إذا بلغوا حضر موت) بفتح الميم وضمها قرية وبلد باليمن بقرب عدن والنسبة إليها حضرمي.

* الأصل:

45 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن عبد الله بن بكير، وثعلبة بن ميمون، وعلي بن عقبة، عن زرارة، عن عبد الملك قال: وقع بين أبي جعفر وبين ولد الحسن (عليهما السلام) كلام فبلغني ذلك فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فذهبت أتكلم فقال لي: مه، لا تدخل فيما بيننا فإنما مثلنا ومثل بني عمنا كمثل رجل كان في بني إسرائيل، كانت له ابنتان فزوج إحداهما من رجل زراع وزوج الاخرى من رجل فخار، ثم زارهما فبدأ بامرأة الزراع فقال لها:

كيف حالكم؟ فقالت، قد زرع زوجي زرعا كثيرا فإن أرسل الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالا، ثم مضى إلى امرأة الفخار فقال لها: كيف حالكم؟ فقالت: قد عمل زوجي فخارا كثيرا فإن أمسك الله السماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالا. فانصرف وهو يقول، اللهم أنت لهما، وكذلك نحن.

* الشرح:

(وزوج الأخرى من رجل فخار) الفخار عامل الفخار بالفتح والشد فيهما والأخير جمع الفخارة كالجبانة وهي ضرب من الخزف معروف يعمل منه الجرار والكيزان وغيرها (اللهم أنت لهما) كما أن مقصدهما أنت ونظرهما إليك وإلى إحسانك في الرزق وغيره فكن أنت لهما وحصل مقصدهما وإن كانت الوسيلة متضادة كنزول المطر وعدم نزوله فإنك قادر على ذلك (وكذلك نحن) قال الأمين الأسترآبادي: أي نريد الخير لبني عمنا كما نريد لأنفسنا ولا نرضى بالشر في حقهم فلا نكلم عليهم وإنما جهالتهم بحقنا تسبب لما جرى بيني وبينهم كما أن الرجل يريد خير بنتيه انتهى.

والأولى أنه أراد لا تدخل بيني وبين عمي فإني لا أريد أن يدخل بيننا ثالث غير الله تعالى.

* الأصل:

46 - محمد، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن ذريح قال: سمعت أبا

ص:466

عبد الله (عليه السلام) يعوذ بعض ولده ويقول: «عزمت عليك يا ريح ويا وجع، كائنا ما كنت بالعزيمة التي عزم بها علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جن وادي الصبرة فأجابوا وأطاعوا لما أجبت وأطعت وخرجت عن ابني فلان ابن ابنتي، الساعة الساعة».

* الشرح:

(سمعت أبا عبد الله عليه السلام يعوذ بعض ولده) دل على أن العوذة والرقية على الجن جائزة إذا كانت بكتاب الله تعالى أو بأسمائه وسيجئ تعويذ جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائه عز وجل وصرح بعض العامة بأنه كره العوذة والرقية بغيرهما من الأسماء العجمية لأنها كانت العرب تفعل في الجاهلية وكانوا يعتقدون أنها تدفع عنهم الجن واختلف في رقيا الكتابي المسلم فأجازها مرة إذا رقي بكتاب الله عز وجل ومنعها مرة وقال: لا نعلم ما رقي الكتابي به (ويقول: عزمت عليك يا ريح ويا وجع كاينا ما كنت.. اه) عزمت على الرجل أقسمته والعزيمة آية أو دعاء تقرأ على المكروب لدفع كربه (على جن وادي الصبرة) هي بالضم الحجارة الغليظة المجتمعة وفيه دلالة على وجود الجن وتأثيره في بني آدم والمنكر لهما مكابر لصريح القرآن وكثير من الروايات (لما أجبت وأطعت.. اه) لما بمعنى إلا، يقال: سألتك لما فعلت أي إلا فعلت ومنه (إن كل نفس لما عليها حافظ) (وان كل لما جميع لدينا محضرون) (إن كل كذب الرسل).

* الأصل:

47 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن سنان، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يتفقد يفقد، ومن لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز، ومن قرض الناس قرضوه ومن تركهم لم يتركوه، قيل: فأصنع ماذا يا رسول الله؟ قال، أقرضهم من عرضك ليوم فقرك.

* الشرح:

(من يتفقد يفقد) افتقده وتفقده طلبه أي من يتفقد أحوال الناس ويتعرفها فإنه لا يجد ما يرضيه لأن الخير في الناس قليل (ومن لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز) أي من لم يجعل الصبر ملكة لنوائب الدهر يعجز عن تحملها والصبر عليها ومنع النفس من الاضطراب والاختناق والإتيان بما يوجب نقص الأجر أو فساد الإيمان وفيه ترغيب للمؤمن على أن يجعل الصبر ملكة حصينة وكيفية متينة ليحصل له الثبات والتمكن والرزانة عند المكاره والحدثان ولا يعجز عن تحملها ولا يجزع

ص:467

جزع المجانين والصبيان (ومن قرض الناس قرضوه) قرضه يقرضه قطعة وجازاه أي من سب الناس ونال منهم سبوه ونالوا منه ووقعوا فيه (ومن تركهم لم يتركوه) لفساد طبعهم وكساد عقلهم وخروجهم عن سبيل الرشاد ومنهج السداد، فالاعتزال منهم أحسن (قيل: فأصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: أقرضهم من عرضك ليوم فقرك) عرض الرجل جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص أي إذا نال أحد من عرضك فلا تجازه ولكن اجعله قرضا في ذمته لتأخذه منه يوم حاجتك إليه يعني يوم القيامة.

* الأصل:

48 - عنه، عن أحمد، عن البرقي، عن محمد ين يحيى، عن حماد بن عثمان قال: بينا موسى بن عيسى في داره التي في المسعى يشرف على المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السلام) مقبلا من المروة على بغلة فأمر ابن هياج رجلا من همدان منقطعا إليه أن يتعلق بلجامه ويدعي البغلة فأتاه فتعلق باللجام وادعى البلغة فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله فنزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سرجها وادفعوها إليه، فقال: والسرج أيضا لي، فقال أبو الحسن (عليه السلام): كذبت عندنا البينة بأنه سرج محمد بن علي وأما البغلة فإنا اشتريناها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت.

* الشرح:

(فثنى أبو الحسن عليه السلام رجله.. اه) إن قلت هو عليه السلام كان عالما بما كان وما يكون وما هو كاين إلى يوم القيامة فكيف ركب البغلة المسروقة، قلت: البغلة لم تكن مسروقة وكانت ملكه عليه السلام والمدعي كان كاذبا إلا أنه عليه السلام دفعها إليه لأنه أحب ترك المناقشة معه وإنما لم يدفع السرج إليه لأنه ملكه بالإرث من جده عليه السلام فأمسكه تيمنا وتبركا.

* الأصل:

49 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن مرازم، عن أبيه قال: خرجنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) حيث خرج من عند أبي جعفر المنصور من الحيرة فخرج ساعة أذن له وانتهى إلى السالحين في أول الليل فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أول الليل فقال له: لا أدعك أن تجوز فألح عليه وطلب إليه، فأبى إباء وأنا ومصادف معه فقال له مصادف: جعلت فداك إنما هذا كلب قد آذاك وأخاف أن يردك وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه، ثم نطرحه في النهر؟ فقال: كف يا مصادف، فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثر فأذن له فمضى فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك، فقال: إن الرجل يخرج

ص:468

من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير.

* الشرح:

قوله (خرج من عند أبي جعفر من الحيرة) أبو جعفر الدوانيقي ثاني خلفاء بني العباس والحيرة - بالكسر - بلد قرب الكوفة (وانتهى إلى السالحين) في المغرب: السالحون موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى المغرب وأما السيلحون فهو مدينة باليمن وقول الجوهري سيلحون قرية والعامة تقول سالحون وفيه نظر (فعرض له عاشر) في المصباح عشرت المال عشرا من باب قتل وعشورا أخذت عشره واسم الفاعل عاشر وعشار.

* الأصل:

50 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن حفص بن أبي عائشة قال: بعث أبو عبد الله (عليه السلام) غلاما له في حاجة فأبطأ فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) على أثره لما أبطأ عليه فوجده نائما فجلس عند رأسه يروحه حتى انتبه قال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان والله ما ذاك لك تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار.

* الشرح:

قوله (فجلس عند رأسه يروحه) دل أنه ينبغي الرفق على الخدم والعبيد وإن صدر منهم ما يوجب التأديب شرعا فإن العفو من صفة الكرم.

* الأصل:

51 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن حسان [عن] أبي علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تذكروا سرنا بخلاف علانيتنا ولا علانيتنا بخلاف سرنا، حسبكم أن تقولوا ما نقول وتصمتوا عما نصمت، إنكم قد رأيتم أن الله عزوجل لم يجعل لأحد من الناس في خلافنا خيرا، إن الله عزوجل يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).

* الشرح:

(قوله: (قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تذكروا سرنا بخلاف علانيتنا ولا علانيتنا بخلاف سرنا) كأن قوله «بخلاف» متعلق بلا تذكروا أو حال عن مفعوله والسر عبارة عن العقائد الحقة والأحكام الإلهية الواقعة في نفس الأمر وهم عليهم السلام قد يتكلمون بخلافها عند التقية وقد يتكلمون بها عند عدمها فنهى أولا أن يذكروا سرهم بخلاف علانيتهم وهي ما تكلموا به

ص:469

خوفا على نفسه وعليهم ونهى ثانيا أن يذكروا علانيتهم بخلاف سرهم لعدم الخوف ووجوب حفظ التكلم بما تكلموا به والسكوت عما سكتوا عنه ولذا قال عليه السلام (حسبكم أن تقولوا ما نقول وتصمتوا عما نصمت) لأنا أعرف بمواضع القول والسكوت (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) أي عن أمر الله تعالى أو أمر الرسول والأئمة عليهم السلام لأن أمرهم أمره تعالى (أن تصيبهم فتنة) من الناس بترك التقية (أو يصيبهم عذاب أليم) بترك حكم الله تعالى في الواقع عند عدمها ولعل القصد أن الآية متضمنة لما ذكر.

ص:470

حديث الطبيب

* الأصل:

52 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن زياد بن أبي الحلال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال موسى (عليه السلام): يا رب من أين الداء؟ قال: مني، قال فالشفاء؟ قال: مني قال: فما يصنع عبادك بالمعالج؟ قال: يطيب بأنفسهم، فيومئذ سمي المعالج الطبيب.

* الشرح:

قوله (حديث الطبيب) الطبيب في الأصل الحاذق بالأمور العارف بها (قال فما يصنع عبادك بالمعالج قال يطيب بأنفسهم فيومئذ سمي المعالج الطبيب) طب طبا من باب قتل داواه والاسم الطب بالكسر والفاعل طبيب والجمع أطباء وفلان يستطب لوجعه أو يستوصف الدواء أيها يصلح لدائه وفي وجه التسمية مناقشة لأن الطيب أجوف والطبيب مضاعف لا يدل على طيب النفس ويمكن دفعها بأن الفصحاء قد ينتقلون من لفظ إلى معنى لفظ آخر باعتبار أدنى مناسبة بينهما وهاهنا كذلك لأن الطبيب يدل على الطيب باعتبار اشتماله على حروفه مع زيادة وهي الباء الأولى وهذا القدر كاف في وجه التسمية ونظيره ما روي عن أبي الحسن عليه السلام قال «سمي علي عليه السلام أمير المؤمنين لأنه يميرهم العلم» فإن يمير أي يعطي أجوف والأمير مهموز الفاء والجواب يظهر بما ذكرنا ونظير ذلك أيضا ما ذكره ميرزا جان في حاشيته على شرح المختصر من أنه يفهم التزاما معنى الجمع والشمع من لفظ الجعم والشعم باعتبار دلالتهما على لفظ الجمع والشمع.

* الأصل:

53 - عنه، عن أحمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي أيوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من داء إلا وهو يسارع (1) إلى الجسد ينتظر متى يؤمر به فيأخذه.

وفي رواية اخرى: إلا الحمى فإنها ترد ورودا.

* الشرح:

قوله (قال ما من داء إلا وهو شارع (2) إلى الجسد.. اه) الداء العلة والمرض والشارع بالشين المعجمة المتصل وفي المصباح: شرع الباب إلى الطريق اتصل به وفي بعض النسخ بالسين

ص:471


1- 1 - كذا.
2- 2 - كذا.

المهملة ولعل الغرض منه هو الترغيب في الدعاء والصدقة.

* الأصل:

54 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن عبد العزيز بن المهتدي، عن يونس بن عبد الرحمن، عن داود بن زربي قال: مرضت بالمدينة مرضا شديدا فبلغ ذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فكتب إلي: قد بلغني علتك فاشتر صاعا من بر ثم استلق على قفاك وانثره على صدرك كيفما انتثر وقل: «اللهم إني أسألك باسمك الذي إذا سألك به المضطر كشفت ما به من ضر ومكنت له في الأرض وجعلته خليفتك على خلقك أن تصلي على محمد وعلى أهل بيته وأن تعافيني من علتي» ثم استو جالسا واجمع البر من حولك وقل مثل ذلك وأقسمه مدا امدا لكل مسكين وقل مثل ذلك. قال داود: ففعلت مثل ذلك فكأنما نشطت من عقال وقد فعله غير واحد فانتفع به.

* الشرح:

قوله (وقل اللهم اني أسألك.. اه) ينبغي أن يقرأه المريض ولو بالتلقين ولو لم يقدر فليقرأه غيره وهو مجرب (وجعلته خليفتك على خلقك) الخليفة من يخلف غيره وينوب منابه وأصله خليف والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة وهو كما يطلق على الأنبياء والأوصياء لأنهم خلفاء الله في أرضه استخلفهم في سياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط، كذلك يطلق على هذا النوع كلهم لأنهم خلفاء من سكن الأرض قبلهم أو لأنه يخلف بعضهم بعضا والمراد هنا المعنى الثاني (قال داود: ففعلت مثل ذلك فكأنما نشطت من عقال) أي خرجت منه أو حللت فنشطت على الأول معلوم وعلى الثاني مجهول يقال: نشط من المكان إذا خرج منه ونشطت الملائكة نفس المؤمن إذا قبضتها وحللتها حلا رفيقا فلا يرد ما أورده ابن الأثير حيث قال في حديث السحر: فكأنما انشط من عقال أي حل وقد تكرر في الحديث وكثيرا ما يجيء في الرواية كأنما نشط من عقال وليس بصحيح يقال: نشطت العقدة إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها.

ص:472

حديث الحوت على أي شيء هو

* الأصل:

55 - محمد، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأرض على أي شيء هي؟ قال هي على حوت، قلت: فالحوت على أي شيء هو؟ قال: على الماء، قلت: فالماء على أي شيء هو؟ قال: على صخرة، قلت: فعلى أي شيء الصخرة؟ قال: على قرن ثور أملس، قلت: فعلى أي شيء الثور؟ قال: على الثرى، قلت:

فعلى أي شيء الثرى؟ فقال: هيهات عند ذلك ضل علم العلماء.

* الشرح:

قوله (حديث الحوت) هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو بحر تحت الأرض السفلي كما صرح به المفسرون (قال: سألته عن الأرض على أي شيء هي؟ قال: هي على حوت.. اه) دل على أن الأرض على الحوت والحوت على الماء والماء على الصخر ة والصخرة على الثور الأملس أي الشديد أو صحيح الظهر أو ضد الخشن والأول أنسب والثور على الثرى وسيجئ حديث زينب العطارة «إن الأرض على الديك والديك على الصخرة والصخرة على الحوت، والحوت على البحر والبحر على الهواء والهواء على الثرى والثرى عند السماء الأولى» ولعل المراد به كرة الأثير بقرينة كونه فوق الهواء وتحت السماء بينهما منافاة بحذف الوسائط بين الأرض والحوت في هذا الحديث، ويمكن دفعها بالعناية، وبكون الصخرة على قرن ثور فيه وعلى الحوت في حديث زينب وبكون الثور على الثرى فيه وكون الهواء على الثرى في حديثها ويمكن أن يكون بين البحر والهواء واسطتان محذوفتان أي البحر على الصخرة ويراد بها غير المذكورة أولا والصخرة على الثور وأن يكون بين الثور والثرى في الأول واسطة محذوفة وهي الهواء والله يعلم حقايق تلك الأشياء وكيفية ترتيبها، ثم أن هذا الترتيب أمر ممكن عقلا والله سبحانه قادر على جميع الممكنات وقد أخبر به المخبر الصادق فوجب الإذعان به.

* الأصل:

56 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن الله عزوجل خلق الأرض ثم أرسل عليها الماء المالح أربعين صباحا والماء

ص:473

العذب أربعين صباحا حتى إذا التقت واختلطت أخذ بيده قبضة فعركها عركا شديدا جميعا ثم فرقها فرقتين، فخرج من كل واحدة منهما عنق مثل عنق الذر فأخذ عنق إلى الجنة وعنق إلى النار.

* الشرح:

قوله (ان الله عز وجل خلق الأرض) لما دلت الروايات المذكورة في أول كتاب الكفر والإيمان على أنه تعالى خلق الإنسان من طينتين طينة الجنة وطينة سجين لم يبعد أن يراد بالأرض هنا قطعة مختلطة من هاتين الطينتين (ثم أرسل عليها الماء المالح أربعين صباحا والماء العذب أربعين صباحا) للخلط بين الطينتين وتخميرهما بالمائين فوائد كثيرة أشرنا إليها في شرح الكتاب المذكور منها حصول القدرة على الضدين ومنها حصول الارتباط بين المؤمن والكافر والصالح والفاجر ولولا ذلك لما أمكن تعيش المؤمنين والصالحين بين الكافرين والفاسقين ومنها كون المؤمن دائما بين الخوف والرجاء حيث لا يعلم أن الغالب فيه الخير أو الشر ومنها رفع العجب عنه بفعل المعصية ولولا ذلك لما صدرت عنه المعصية فربما يدخله العجب، ومنها الرجوع إليه تعالى وطلب حفظه عنها ومنها تولد المؤمن من الكافر وبالعكس وهو دليل على كمال قدرته تعالى كما قال (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي).

(حتى إذا التقت واختلطت) المراد به التقاء أجزاء الأرض واختلاطها بتخمير المائين (أخذ بيده) أي بقدرته أو هو تمثيل (فعركها عركا شديدا جميعا) ليستكمل إلتيامها ويشتد ارتباط بعضها بعض (ثم فرقها فرقتين) فرقة لأبدان المؤمن وهي طينة الجنة وتتعلق بتلك الأبدان الأرواح المطيعة في العهد الأول وفرقة لأبدان الكافر وهي طينة السجين وتتعلق بتلك الأبدان الأرواح العاصية فيه (فخرج من كل واحدة منهما عنق) العنق بالضم وبالضمتين الجماعة من الناس (مثل عنق الذر) في الصغر والحركة (فأخذ عنق إلى الجنة) وهم المؤمنون (وعنق إلى النار) وهم الكافرون ولا تظن أن العباد لأجل ذلك مجبورون على الطاعة والمعصية لأن طايفة من الأرواح لما كانت مطيعة في العهد الأول خلقت لهم أبدان طاهرة وطائفة منها لما كانت عاصية خلقت لهم أبدان خبيثة كيلا يدخل الجنة إلا طاهر ولا يدخل النار إلا خبيث.

ص:475

حديث الأحلام والحجة على أهل ذلك الزمان

* الأصل:

57 - بعض أصحابنا، عن علي بن العباس، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

إن الأحلام لم تكن فيما مضى في أول الخلق وإنما حدثت. فقلت: وما العلة في ذلك؟ فقال: إن الله عز ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة الله وطاعته فقالوا: إن فعلنا ذلك فما لنا فوالله ما أنت بأكثرنا مالا ولا بأعزنا عشيرة؟ فقال: إن أطعتموني أدخلكم الله الجنة وإن عصيتموني أدخلكم الله النار، فقالوا: ما الجنة والنار؟ فوصف لهم ذلك فقالوا: متى نصير إلى ذلك؟ فقال: إذا متم فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا، فازدادوا له تكذيبا وبه استخفافا فأحدث الله عزوجل فيهم الأحلام فأتوه فأخبروه بما رأوا وما أنكروا من ذلك فقال: إن الله عزوجل أراد أن يحتج عليكم بهذا، هكذا تكون أرواحكم إذا متم وإن بليت أبدانكم تصير الأرواح إلى عقاب حتى تبعث الأبدان.

* الشرح:

قوله (حديث الأحلام والحجة على أهل ذلك الزمان) الذي حدثت فيه الأحلام وهي حجة على كل من أنكر الحشر إلى آخر الزمان (فقالوا: إن فعلنا ذلك فما لنا.. اه) أي فما لنا من الأجر للطاعة والعبادة وليس لك مال تعطينا ولست أعزمنا عشيرة حتى نطلب العزة والمعاونة منك فأي فائدة لنا في ذلك (فقال إذا متم) دل على دخول الناس بعد الموت في الجنة أو النار (فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا) رفاة كغراب الحطام وهو ما كسر ودق رفته يرفته كسره ودقه فانكسر واندق لازم ومتعد، ومرادهم من هذا القول أن أمواتهم صاروا كذلك ولم يدخلوا الجنة ولا النار ولم يعاقبوا وأنهم إذا صاروا كذلك يحيون ويدخلون النار فأحدث الله عز وجل فيهم الأحلام المعذبة لأرواحهم والحلم بضم الحاء وسكون اللام مصدر حلم بفتحهما إذا رأى في منامه حسنا أو مكروها ويجمع على أحلام في القلة وعلى حلوم في الكثرة، وقيل: الحلم اسم لما يراه النائم مثل رؤيا لكن غلب اسم الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن وغلب الحلم على ما يراه من الشر والقبيح وقد يستعمل كل منهما في موضع الآخر وإنما جمع هاهنا وهو مصدر لاختلاف أنواعه، قال محيي الدين اختلف الناس في حقيقة الرؤيا ولغير الإسلاميين فيها أقوال منكرة وسبب خطئهم

ص:475

أن الرؤيا لا تعلم بالعقل ولا يقوم عليها البرهان وهم لا يصدقون بالسمع فلذلك اضطربت أقوالهم فمن ينتحل الطب منهم ينسب جميع الرؤيات إلى الاخلاط ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويل في هذا وكأنه يرى أن صور ما يجري في الأرض هو في العالم العلوي كالنقوش وكأنه يدور بدوران الآخر فما جاء بعض النفوس انتقش فيها وهذا تحكم لم يقع عليه برهان، وقال أهل السنة: الرؤيا اعتقاد يخلقه الله تعالى في قلب النائم كما يخلقه في قلب اليقظان ويجعله علما على أمر يخلقه في ثاني الحال أو على أمر خلقه فإذا خلق في قلب النائم اعتقاد الطيران وليس بطاير فغايته أنه اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه وكم من في اليقظة يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه ويجعل ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يجعل الغيم علما على نزول المطر بفعل الله سبحانه.

وقال القرطبي: قيل: إن لله تعالى ملكا موكلا بعرض الرؤيات على المحل المدرك من النائم فيمثل له صورا محسوسة فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود وتارة تكون أمثلة لمعان معقولة غر محسوسة وفي الحالين تكون مبشرة ومنذرة وقيل الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة، وأورد عليه بأنه لا يصح تفسير الرؤية بالإدراك لأن النوم ضد عام للإدراك كما أن الموت ضد عام له فلا يجامعه، وأجيب بأن الجزء المدرك من النائم لا يحله النوم فلا يجتمع الإدراك مع النوم فالعين نائمة والقلب يقظان كما قال صلى الله عليه وآله: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» وقال عياض: اتفق المتكلمون على أن النائم الذي استغرق النوم جميع أجزاء قلبه لا يصح أن يعلم لأن النوم آفة تضاد التمييز، واختلفوا في الاعتقادات والظنون والتخيلات، فقال قوم: إنها لا تصح منه أيضا ولا تصح منه الرؤيا لأن الرؤيا ضرب أمثلة ولا يصح ضربها للنائم ومن لا تمييز له، وقال قوم: لا يمتنع أن يكون ظانا أو متخيلا وإنما يمتنع أن يكون عالما وقد رجح الأول بأن الظنون والاعتقادات والتخيلات جنس واحد مضاد للعلم فكما يضاده النظر في العلم فكذلك يضاده أضداده وأما الرؤيا التي يراها النائم فإنما يراها لأن النوم لم يستغرق الجزء الذي هو محل الإدراك من القلب ولا يلزمهم ما لزم الآخر من أنه لو كان كذلك لكان مكلفا لأنهم لا يقولون أنه مميز حقيقة وإنما يقولون:

أن عنده بقية حياة وبعض تمييز، وقال الآبي: قال بعض المعتزلة: الرؤيا هي رؤيا العينين، وقال بعضهم: هي رؤية بعينين يخلقهما الله تعالى في القلب وسماع بأذنين يخلقهما الله تعالى وقال أكثرهم: هي تخيلات لا حقيقة لها ولا تدل على شيء.

أقول هذا ما بلغني من أقوالهم ولا يبعد أن يقال: إن جميع ما كان وما هو يكون وما كائن في اللوح المحفوظ فإذا تعطلت الحواس بالنوم وفرغت النفس عن الاشتغال بها يعرض عليها ملك الرؤيا ما كان فيه بقدر استعدادها وما كان من هذا القبيل فهي الرؤيا الصادقة ولذلك قد يخبر النائم بما وقع في العالم وبما هو واقع وبما يقع بعد وتلك الرؤيا هي التي تعد جزءا من أجزاء النبوة كما

ص:476

سيأتي وقد تشتغل النفس بالصور والمعاني التي في الحس المشترك والخيال وتركبها على أنحاء مختلفة وقد يكون ذلك التركيب مطابقا لما في نفس الأمر وقد لا يكون وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وأضغاث أحلام وقد يعرض عليها الشيطان ويشوشه ويفزعه وهذا من تسويله وتحذيره كما سيجيء وفي بعض الروايات تعليم دعاء للفرار من ذلك المكروه والله أعلم بحقائق الأمور.

58 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة.

* الشرح:

قوله (رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة) المراد برأي المؤمن فراسته الصادقة وإدراكاته الحقة وبرؤياه رؤياه الصادقة وبآخر الزمان زمان غيبة المعصوم ويحتمل الأعم قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: «المراد بالأول ما يخلق الله في قلبه من الصور العلمية في حال اليقظة وبالثاني ما يخلق الله في قلبه حال النوم وكأن المراد بآخر الزمان زمان ظهور الصاحب عليه السلام فإن في بعض الأحاديث وقع التصريح بأن في زمن ظهوره عليه السلام يجمع الله قلوب المؤمنين على الصواب في كل باب ولفظة «على» ههنا نهجية أي على نهج سبعين جزءا يعني يكونان مثل الوحي موافقا للواقع دائما وهما نوع من الوحي يتفضل الله به في زمن ظهور المهدي عليه السلام» انتهى.

ومن طريق العامة عن النبي صلى الله عليه وآله قال: «إذا اقترب الزمان لم تكن رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة» ومن طريق آخر لهم: «إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة» قال محيي الدين البغوي: فسر أبو داود تقارب الزمان باعتدال الليل والنهار ووجه ذلك باعتدال الأمزجة حينئذ فلا تكون في المنام أضغاث أحلام فإن موجب التخليط إنما هو غلبة خلط على المزاج وفسره غيره بقرب القيامة، ويشهد للثاني أن هذا الخبر جاء من طريق أبي هريرة أنه قال: «في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن» وقال القرطبي: المراد بآخر الزمان الزمان الذي فيه الطائفة التي تبقى مع عيسى عليه السلام بعد قتل الدجال يبقى سبع سنين ليس بين اثنين عداوة فهم أحسن الأمة حالا وأصدقهم قولا وكانت رؤياهم لا تكذب، وقد قال صلى الله عليه وآله: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» ورد ابن العربي التفسير الأول بأنه لا أثر لإعتدال الزمان في صدق الرؤيا إلا على ما يقوله الفلاسفة من

ص:477

اعتدال الأمزجة حينئذ، ثم أنه وإن كان هذا في الاعتدال الأول لكن في الإعتدال الثاني حين تحل الشمس برأس الميزان الأمر بالعكس لأنه يسقط حينئذ الأوراق ويتغلس الماء عن الثمار، ثم قال:

والصحيح التفسير الثاني لأن القيامة هي الحاقة التي تحق فيها الحقائق فكل ما قرب منها فهو أخص بها. وقال الآبي: فسره بعض الشافعية بثالث هو من قوله صلى الله عليه وآله: «يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة» قالوا: وذلك عند خروج المهدي عليه السلام وهو زمان يقصر ويتقارب أجزاؤه للاستلذاذ به هذا كلامهم، ثم أنه لابد هنا من بيان شيئين أحدهما بيان السبب لكون رؤيا المؤمن جزء من أجزاء النبوة وثانيهما بيان السبب لهذه النسبة المخصوصة أعني كونها جزءا من سبعين جزءا، أما الأول فنقول: الرؤيا الصادقة من المؤمن الصالح جزء من أجزاء النبوة لما فيها من الإعلام الذي هو على معنى النبوة على أحد الوجهين.

وقد قال كثير من الأفاضل أن للرؤيا الصادقة ملكا وكل بها يري الرائي من ذلك ما فيه من تنبيه على ما يكون له أو يقدر عليه من خير أو شر وهذا معنى النبوة لأن لفظ النبي قد يكون فعيلا بمعنى مفعول أي يعلمه الله تعالى ويطلعه في منامه من غيبه ما لا يظهر عليه أحد الا من ارتضى من رسول، وقد يكون بمعنى فاعل كعليم أي يعلم غيره بما ألقى إليه وهذا أيضا صورة صاحب الرؤيا.

وقال القرطبي: الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صالح صادق لأنه الذي يناسب حاله حال النبي وكفى بالرؤيا شوقا أنها نوع مما أكرمت به الأنبياء وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب كما قال صلى الله عليه وآله «لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم» وأما الكافر والكاذب والمخلط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان فإنها لا تكون من الوحي ولا من النبوة إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره نبوة بدليل الكاهن والمنجم فإن أحدهم قد يحدث ويصدق لكن على الندرة وكذلك الكافر قد تصدق رؤياه كرؤيا العزيز سبع بقرات ورؤيا الفتيان في السجن ورؤيا عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي كافرة ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة الفاسدة.

وأما الثاني فقيل: يحتمل أن يكون هذه التجزية من طريق الوحي منه ما سمع من الله تعالى بدون واسطة كما قال تعالى (أو من وراء حجاب) ومنه ما سمع بواسطة الملك ومنه ما يلقى في القلب كما قال تعالى: (أو من وراء حجاب) أي الالهام، ومنه ما يأتي معه الملك وهو على صورته، ومنه ما يأتيه به وهو على صورة آدمي، ومنه ما يأتيه في منامه بحقيقته، ومنه ما يأتيه بمثال أحيانا يسمع الصوت ويرى الضوء، ومنه ما يأتي به كصلصة الجرس ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه إلى غير ذلك مما وقفنا عليه ومما لم نقف ويكون مجموع الطرق سبعين فتكون الرؤيا التي هي ضرب مثال جزءا من ذلك العدد من أجزاء الوحي.

ص:478

والحاصل أن للنبي طرق إلى العلم وإحدى تلك الطرق الرؤيا ونسبتها إلى تلك الطرق أنها جزء من سبعين ولا يلزم أن نبين تلك الأجزاء لأنه لا يلزم العلماء أن يعلموا كل شيء جملة وتفصيلا وقد جعل لله سبحانه لهم في ذلك حدا يوقف عنده فمنها ما لا يعلم أصلا ومنها ما يعلم جملة ولا يعلم تفصيلا وهذا منه ومنها ما يعلم جملة وتفصيلا لا سيما فيما طريقه السمع وبينه الشارع. وقيل:

مجموع خصال النبوة سبعون وإن لم نعلمها تفصيلا ومنها الرؤيا والمنام الصادق من المؤمن خصلة واحدة لها هذه النسبة مع تلك الخصال، ويحتمل أن يكون المراد أن ثمرة رؤيا المؤمن أعني الإخبار بالغيب في جنب فوائدها المقصودة يسيرة نسبتها إلى ما أطلعه الله تعالى على نبيه من فوائدها بذلك القدر لأنه يعلم من فوائد مناماته بنور نبوته ما لا نعلمه من حقايق مناماتنا وأن يكون المراد أن دلالة رؤيا المؤمن على الإخبار بالغيب جزء من دلالة رؤيا النبي صلى الله عليه وآله والنسبة بذلك القدر لأن المنامات إنما هي دلالات والدلالات منها خفي ومنها جلي والخفي له نسبة مخصوصة مع الجلي في نفس الأمر، فبينها عليه السلام بأنها بذلك القدر والفرق بين هذين الوجهين أن الأول منهما باعتبار التفاوت في الثمرات والثاني باعتبار التفاوت في الدلالات والمراد بأجزاء النبوة فيهما أجزاء رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وليس المراد بها جميع أجزاء النبوة.

وهذا وإن كان بعيدا بحسب اللفظ لكنه غير مستبعد بحسب الواقع إذ الظاهر أن خصال النبوة غير منحصرة في السبعين ومن طريق العامة أيضا «إن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من أجزاء النبوة» فقيل في توجيهه: إن ذلك باعتبار مدة النبوة لأن النبي أقام يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة ثلاثة عشرة بمكة وعشرا بالمدينة وكان قبل ذلك نسبة أشهر يرى في المنام ما يلقى إليه الملك وسنبة نصف سنة من ثلاثة وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين.

* الأصل:

59 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد، عن الرضا (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أصبح قال لأصحابه: هل من مبشرات؟ يعني به الرؤيا.

* الشرح:

قوله (إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان إذا أصبح قال لأصحابه «هل من مبشرات» يعني به الرؤيا) من طريق العامة عن سمرة بن جندب قال «كان النبي صلى الله عليه وآله إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل رأى منكم أحد البارحة الرؤيا» قال عياض: التعبير بعد الصبح وأول النهار أولى اقتفاء بفعله عليه السلام ولما جاء أن في البكرة بركات ولأن الذهن حينئذ أجمع لخلوه

ص:479

عن الشغل بأعمال النهار ولقرب عهد الرائي لما رآه ولعدم طرو ما يخلط عليه رؤياه وفيه الكلام في العلم بعد صلاة الصبح.

* الأصل:

60 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): في قول الله عزوجل: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه.

* الشرح:

قوله (قال: هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشره بها في دنياه) يعرف حسنها وصدقها باطمينان قلبه وسكونه الذي ألقاه الله تعالى إليه.

* الأصل:

61 - علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن. وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام.

* الشرح:

قوله (قال الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن وتحذير من الشيطان وأضغاث أحلام) من طريق العامة عن النبي صلى الله عليه وآله «إن الرؤيا ثلاث فرؤيا صالحة بشرى من الله ورؤيا تحزن من الشيطان ورؤيا فيما يحدث المرء نفسه» أقول: إنما نسب الأولى إلى الله تعالى لطهارتها من حضور الشيطان وإفساده لها وسلامتها من الغلط والخطأ والتخليط من الأشياء المتضادة، والرؤيا التي منه تعالى غير منحصرة في البشارة إذ قد يكون إنذارا منه لاعتنائه بعبده لئلا يأتي ما قدر عليه أو يتوب ويرجع عما فعله من المعاصي ويكون منه على حذر كما يقع ذلك في كثير من الصالحين ونسب الثانية إلى الشيطان لأنها نشأت من تشويشاته وتدليساته تحذيرا من شيء أو ترغيبا فيه ليشغل بال الرائي ويدخل الضرر والهم فيه، وسيأتي قبل حديث محاسبة النفس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إذا رأى الرجل ما يكره في منامه فليتحول من شقه الذي كان عليه نائما وليقل (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) ثم ليقل:

عذت بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم» والثالثة أضغاث أحلام وهي الرؤيا التي لا يمكن تأويلها لاختلاطها وجمعها للأشياء المتضادة والمختلفة كما أن الضغث يجمعها لأنه قبضة من حشيش

ص:480

مختلطة الرطب اليابس قال بعض المعبرين: الرؤيا ثمانية أقسام سبعة لا تعبر، من السبعة أربعة نشأت من الخلط الغالب على مزاج الرائي فمن غلب على مزاجه الصفراء رأى الألوان الصفر والطعوم المرة والسموم والصواعق لأن الصفراء مسخنة مرة، ومن غلب عليه الدم رأى الألوان الحمر والطعوم الحلوة وأنواع الطرب لأن الدم مفرح حلو، ومن غلب عليه البلغم رأى الألوان البيض والمياه والأمطار والثلج، ومن غلب عليه السوداء رأى الألوان السود والأشياء المحرقة والطعوم الحامضة لأنه طعام السوداء ويعرف ذلك بالأدلة الطبية الدالة على غلبة ذلك الخلط على الرائي، والخامس ما كان عن حديث النفس ويعرف ذلك بجولانه في اليقظة فيستولي على النفس فيتكلف به فيراه في النوم، والسادس ما هو من الشيطان ويعرف ذلك بكونه فيه حض على أمر تنكره الشريعة أو يأمره بجايز يؤول إلى منكر كأمره بالحج مثلا ويؤدي إلى تضييع ماله أو عياله أو نفسه، والسابع ما كان فيه احتلام، والثامن هو الذي يجوز تعبيره وهو ما خرج عن هذه السبعة وهو ما ينقله ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ من أمر الدنيا والآخرة من كل خير أو شر فإن الله تعالى وكل ملكا باللوح المحفوظ ينقل لكل واحد من اللوح ما يبين ذلك، علمه من علمه وجهله من جهله.

أقول: إذا تأملت في الحديث وجدته شاملا لجميع الأقسام الثمانية لأن الخمسة الأولى داخلة في أضغاث أحلام والاثنين بعدها داخلان في القسم الثاني وهو ما كان من الشيطان، والثامن عين الأول، وهو ما كان من الله تعالى.

* الأصل:

62 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن درست بن أبي منصور، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد؟ قال: صدقت أما الكاذبة [ال] - مختلفة فإن الرجل يراها في أول ليله في سلطان المردة الفسقة وإنما هي شيء يخيل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها، وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة وذلك قبل السحر فهي صادقة، لا تخلف إن شاء الله إلا أن يكون جنبا أو ينام على غير طهور ولم يذكر الله عزوجل حقيقة ذكره فإنها تختلف وتبطىء على صاحبها.

* الشرح:

قوله (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد؟) المخرج هنا مصدر بمعنى الخروج، قال الفاضل المذكور: حقيقة الأحلام أن الله

ص:481

تعالى يخلق بأسباب مختلفة في الأذهان عند النوم صورا علمية منها مطابقة لما مضى ولما يستقبل ومنها غير مطابقة كما يخلقها كذلك في اليقظة وحينئذ معنى هذا الكلام أن كليهما صور علمية يخلقه الله في قلب عباده بأسباب روحانية أو شيطانية أو طبيعية.

ص:482

فهرس الآيات

(آمن الرسول) البقرة: 288... 58

(اخلفني في قومي) الأعراف: 142... 275

(إخوانا على سرر متقابلين) الحجر: 47. (في جنات النعيم) الواقعة: 12. (يطوف عليهم ولدان

مخلدون بأكواب وأباريق) الواقعة: 17 - 18... 313

(ادعوني استجب لكم) غافر: 60... 181 - 379 - 190

(ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت: 34... 177

(إذا جاء نصر الله) النصر: 1... 71

(إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) النساء: 86... 106

(إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) الجمعة: 9... 16

(إذا هم منها يركضون) الأنبياء: 12... 374

(اركبوا فيها بسم الله مجريها) هود: 41... 199 - 380

(اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة: 105... 225

(اقرأ باسم ربك) العلق: 1... 71

إلا الموتة الاولى) الدخان: 56... 4

(إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106... 177

(الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) الرعد: 21... 352

(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك

لهم اللعنة ولهم سوء الدار) الرعد: 25... 99

(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اولئك

هم الخاسرون) البقرة: 27... 99

(الذين يؤمنون بالغيب) البقرة: 3... 409

(الرحمن على العرش استوى) طه: 5... 399

(الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)... 67

(الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) الأعراف: 196... 66

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) البقرة: 255... 140

ص:483

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: 3... 186 - 17 -

72 - 279

(إليه يصعد الكلم الطيب) فاطر: 10... 239

(إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1... 72

(إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) العلق: 6... 363

(إن الإنسان ليطغى أن رآه) العلق: 6... 253

(إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم.. إلى قوله - ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)

الإسراء: 107 - 109... 51

(إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.. الآية) الأنبياء: 101... 450

(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنبكوت: 45... 4

(إن الله لا يخلف الميعاد) آل عمران: 9... 269

(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) النساء: 145... 173

(إنا نراك من المحسنين) يوسف: 36... 91

(إنا نريك من المحسنين) يوسف: 36... 91

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13... 222

(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش - إلى قوله: - تبارك

الله رب العالمين) الأعراف: 54... 67

(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الحجر: 42... 313

(إن كل كذب الرسل) ص: 14... 469

(إن كل نفس لما عليها حافظ) الطارق: 4... 469

(إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) الأنبياء: 98... 391

(إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم) الأنفال: 41... 403

(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذ تليت علهم آياته زادتهم إيمانا) الأنفال: 2... 51

(إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) المجادلة: 10... 481

- 136

(إنما أنا بشر مثلكم) الكهف: 110... 258

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا.. الآية) المائدة: 55... 208

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) الفاطر: 28... 214 - 344 - 424

(إن مع العسر يسرا) الشرح: 6... 267 - 407

(إن ولي الله الذي) الأعراف: 196... 67

ص:484

(إني ذاهب إلى ربي) الصافات: 99... 6

(أرأيت الذي يكذب بالدين) الماعون: 1... 281

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59... 203 - 208 - 314

... 293

(أفرأيت من اتخذ الهه هواه) الحاشية: 23... 204

(أقم الصلاة لذكري) طه: 14... 191

(ألا إلى الله تصير الامور) الشورى: 53... 82

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا

حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب) البقرة: 214... 184

(أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار.. الآية) التوبة: 109... 282

... 173

(أمن يجيب المضطر إذا دعاه) النمل: 62... 379

(أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير) لقمان: 14... 332

(أن بورك من في النار) النمل: 8... 56

(أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج - إلى قوله: - ومن لم يجعل الله له نورا فماله من

نور) النور: 40... 66

(أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات) النور: 40... 286

(أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) القصص: 54... 176

(أو من كان ميتا فأحييناه) الانعام: 122... 13

(أو من وراء حجاب) الشورى: 51... 479

(بأيدي سفرة كرام بررة) عبس: 16... 22

(بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) الممتحنة: 4 (إلى يوم القيامة) المائدة: 64... 98

(بلسان عربي مبين) الشعراء: 195... 83

(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) الحشر: 14... 250

(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) الإسراء: 44... 350

(تصلى نارا حامية) الغاشية: 4... 372

(تغشى وجوههم النار) إبراهيم: 50... 372

(تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30... 437

ص:485

(ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) الروم: 54... 227

(ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) التكاثر: 8... 295

(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. إلى قوله وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم المائدة: 3... 284

(رب أرني كيف تحيى الموتى قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) البقرة: 60... 105

(ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) إبراهيم: 41... 163

(رضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: 3... 279

(زين لهم سوء أعمالهم) التوبة: 37... 333

(سأستغفر لك ربي) مريم: 47... 119

(سأل سائل بعذاب واقع) المعارج: 7... 393

(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة: 185... 72

(صم بكم عمي فهم لا يرجعون) البقرة: 18... 168

(ص والقرآن ذي الذكر - إلى قوله - إلا اختلاق) ص: 1 - 7... 118

(عجلت إليك رب لترضى) طه: 84... 6

(عم يتساءلون عن النبأ العظيم) النبأ: 1... 294

(فإذا جاء أمر الله) الغافر: 78 (لا مرد له) الشورى: 47... 461

(فاذكروا آلاء الله لعلكم) الأعراف: 69... 292

(فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43... 187

(فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) الأحقاف: 35... 169

(فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) البقرة: 186... 379

(فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا)

النساء: 69... 172

(فريق في الجنة وفريق في السعير) الشورى: 7... 200

(فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتهم

الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) الأعراف: 77 - 78... 293

(فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) نوح: 10 - 11... 223

(فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون) الشعراء: 94 - 95... 195

(فمثله كمثل الكلب) الأعراف: 176... 454

(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الأنعام: 125...

ص:486

210

(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة: 7 - 8... 243 - 437

(فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم

وأعمى أبصارهم) محمد (صلى الله عليه وآله): 22 - 23... 99

(قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فاضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنا كبيرا)

الأحزاب: 67 - 68... 382

(قد أوتيت سؤلك يا موسى) طه: 36... 276

(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن - إليه قوله: - وكبره تكبيرا) الإسراء: 110 - 111... 67

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران: 31... 175

(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأعراف: 33... 191

(قل هو الله أحد) التوحيد: 1... 49

(كأنهم خشب مسندة) المنافقون: 4... 454

(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) المجادلة: 21... 198

(كلما أضاء لهم مشوا فيه) البقرة: 20... 78

(لا تستوي الحسنة ولا السيئة) فصلت: 34... 176

(لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) هود: 43... 196

(لا يذوقون فيها الموت الدخان: 56... 4

(لتكبروا الله على ما هداكم) البقرة: 185... 7

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن

تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) التوبة: 128 - 129... 66 - 72

(لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) الحديد: 23... 214

(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) يونس: 26... 83

(لم يكن الذين كفروا) البينة: 1... 81

(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس

لعلهم يتفكرون) الحشر: 21... 25 - 83

(ليبلوكم أيكم أحسن عملا) الملك: 2... 424

(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) الكهف: 51... 238

(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) المائدة: 103... 283

(ما لكم لا ترجون لله وقارا) نوح: 13... 175

ص:487

(مالك يوم الدين) الفاتحة: 4... 20

(مثلهم كمثل الحمار) الجمعة: 5... 454

(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الانعام: 160... 367

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) البقرة: 245... 198

(من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق: 2... 196

(وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله) المائدة: 35... 266

(واتقوا الله وكونوا مع الصادقين) التوبة: 119... 439

(واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك

كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) طه: 29 - 36... 275 - 276

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) الإسراء:

16... 291

(وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الفرقان: 63... 26

(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) البقرة: 125... 288

(وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم

خطاياكم وسنزيد المحسنين) البقرة: 58... 294

(واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن

السبيل) الأنفال: 41... 403

(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل

ذلك يلق إثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من الفرقان: 68 - 70... 379

(والذين لا يشهدون الزور) الفرقان: 72... 179

(والذين هي الله عن ولايتهم وطاعتهم)... 208

(والذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) البقرة: 275... 459

(والشمس وضحيها والقمر إذا تليها... والليل إذا يغشيها) الشمس: 1 - 4... 371

(والله عزيز ذو انتقام) آل عمران: 4... 250

(وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) المؤمنون: 74... 281

(وإن رحمة الله قريب من المحسنين) الأعراف: 56... 335

(وإن عليك لعنتي) ص: 78... 109

(وان كل لما جميع لدينا محضرون) يس: 32... 469

(وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) الإسراء: 44... 350 - 239

ص:488

(وإن منكم إلا واردها ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) مريم: 71 - 72... 450

(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا) الأنعام: 33... 169

(وأسروا النجوى الذين ظلموا) الأنبياء: 3... 75

(وأقسموا بالله جهد أيمانهم) الأنعام: 109... 373

(وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) الممتحنة: 4... 177

(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار)... 169

(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) القصص: 41... 208

(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء: 73... 174

(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه: 108... 347

(ودل المدينة على حين غفلة) القصص: 15... 15

(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءا) النساء: 89... 173

(وذروا ظاهر الإثم وباطنه) الأنعام: 120... 170

(ورتل القرآن ترتيلا) المزمل: 4... 44

(وشاورهم في الأمر) آل عمران: 159... 248

(وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30... 281

(وقالوا مالنا لا نرى رجالا.. الآية) ص: 62... 450

(وقرن في بيوتكن) الأحزاب: 33... 324

(وقل سلام فسوف تعلمون) الزخرف: 59... 119

(ولئن أشركت ليحبطن عملك) الزمر: 65... 80

(ولئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) إبراهيم: 7... 196 - 460

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46... 176

(ولا تنابزوا بالألقاب) الحجرات: 11... 312

(ولأصلبنكم في جذوع النخل)... 303

(ولأصلبنكم في جذوع النخل) طه: 71... 223

(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) فاطر: 43... 246

(ولا يؤذن لهم فيعتذرون) المرسلات: 36... 168

(ولدينا مزيد) ق: 35... 7 - 182

(ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) سبأ: 20... 385

ص:489

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) طه: 115... 199

(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) 135... 172

(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) البقرة:

155... 184

(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) الإسراء: 74... 80

(وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) آل عمران: 83... 66

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) إبراهيم: 4... 75 - 77

(وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود)

هود: 97 - 98... 282

(وما تدري نفس بأي أرض تموت) لقمان: 34... 245

(وما تشاءون إلا أن يشاء الله) الإنسان: 30... 462

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 56... 185

(وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه

وتعالى عما يشركون) الزمر: 67... 67 - 66

(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) هود: 117... 392

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: 144... 170

(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) العنكبوت: 10... 390

- 313

(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) القصص: 50... 192

(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) الطلاق: 2 - 3... 226 - 368

(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) الطلاق: 3... 460

(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله من النبيين، النساء: 69... 314

(ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) المائدة: 5...

(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) البقرة: 269... 385 - 430

(ونجني ومن معي) الشعراء: 118... 22

(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.. الآية) آل عمران: 191... 258

(ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) الرعد: 21... 221

(ويعفوا عن السيئات) الشورى: 25... 223

ص:490

(ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان - يعني قرينه المضل له - للإنسان خذولا) الفرقان: 27 - 29... 281

(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) الجاثية: 29... 370

(هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا) الكهف: 45... 225

(هل أتيك حديث الغاشية) الغاشية: 1... 372

(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر: 9... 380

(هم من خشية ربهم مشفقون) المؤمنون: 57... 350

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) الأنفال: 45... 190

(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) الأحزاب: 41 - 42... 190

(يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) التحريم: 8... 379

(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) البقرة: 264... 425

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) الممتحنة: 1... 208

(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله.. الآية) الحجرات: 1... 290

(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) المائدة: 67... 278

(يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) يونس: 23... 195

(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور

الرحيم) الزمر: 53... 313

(يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) النساء: 100... 455

(يحسبون كل صيحة عليهم) المنافقون: 4... 250

(يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) الروم: 19... 475

(يدرؤون بالحسنة السيئة) الرعد: 22... 176

(يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) العنكبوت: 54... 224

(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) النساء: 176... 72

(يضل الله من يشاء) الرعد: 27... 211

(يمحق الله الربى ويربي الصدقات) البقرة: 276... 459

(يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) الإسراء: 71... 306

ص :491

فهرس المطالب

کتاب فضل القرآن...3

باب فضل الحامل القرآن...22

باب من يتعلم القرآن بمشقة...31

باب من حفظ القرآن ثم نسيه...32

باب في قراءته...35

باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن...36

باب ثواب قراءة القرآن...38

باب قراءة القرآن في المصحف...43

باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن...44

باب فيمن يظهر الغشية عند [قراءة] القرآن...52

باب في كم يقرأ القرآن ويختم...53

باب أن القرآن يرفع كما أنزل...56

باب فضل القرآن...57

باب النوادر...71

کتاب العشرة

باب ما يجب من المعاشرة...89

باب حسن المعاشرة...92

باب من يحب مصادقته ومصاحبته...94

باب التحبب إلى الناس والتودد إليهم...105

باب إخبار الرجل أخاه بحبه...107

باب التسلیم...108

باب من يجب ان يبدأ بالسلام...114

باب إذا سلم واحد من الجماعة أجزأهم وإذا رد واحد من الجماعة أجرأ عليهم...116

ص:492

باب التسليم على النساء...117

باب التسليم على أهل الملل...118

باب مكاتبة أهل الذمة...123

باب الاغضاء...123

باب نادر...124

باب العطاس والتسميت...126

باب وجوب إجلال ذي الشيبة المسلم...132

باب اكرام الكريم...133

باب حق الداخل...134

باب المجالس بالأمانة...135

باب في المناجاة...136

باب الجلوس...138

باب الاتكاء والاحتباء..142

باب الدعابة والضحك...144

باب حق الجوار..149

باب حد الجوار...156

باب حسن الصحابة وحق الصاحب في السفر...157

باب التكاتب...158

باب النوادر...159

باب(فضل البسمله)...162

باب النهي عن احراق القراطيس المكتوبة...165

کتاب الروضة...167

صحيفة علي بن الحسين عليهما السلام ...214

خطبة الوسیلة لأمير المؤمنين (عليه السلام)...229

الخطبة الطالوتية...296

حديث أبي عبد الله (عليه السلام) مع المنصور في موكبه...315

ص:493

حديث موسی7...335

رسالة أبي جعفر (عليه السلام) إلى سعد الخير...373

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)...393

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)...403

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)...414

حديث علي بن الحسين (عليهما السلام)...422

حديث النبي (صلى الله عليه وآله) حين عرضت عليه الخيل...426

كلام علي بن الحسين (عليه السلام)...433

حديث الشيخ مع الباقر (عليه السلام)...444

قصة صاحب الزيت مع النبی...447

وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام)...449

حديث البحر مع الشمس...462

حديث الطبيب...471

حديث الحوت على أي شيء هو...473

حديث الأحلام والحجة على أهل ذلك الزمان....475

فهرس الآیات...483

ص:494

المجلد 12

اشارة

شرح أصول الكافي

تألیف: للمولى محمد صالح المازندراني المتوفى 1081 ه

المجموعة : مصادر الحديث الشيعية - قسم الفقه

تحقيق : مع تعليقات : الميرزا أبو الحسن الشعراني / ضبط وتصحيح : السيد علي عاشور

سنة الطبع :1929ه. 2008م

دار احياء التراث العربي

بيروت _ لبنان

ص: 1

حديث الرياح

* الأصل:

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، وهشام بن سالم، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام)، عن الرياح الأربع: الشمال والجنوب والصبا والدبور وقلت: إن الناس يذكرون (1) أن الشمال من الجنة والجنوب من النار؟ فقال: إن لله عز وجل جنودا من رياح يعذب بها من يشاء ممن عصاه ولكل ريح منها ملك

ص:1


1- (1) قوله «إن الناس يذكرون». هذا حديث صحيح من جهة الإسناد قريب من جهة الاعتبار منبه على طريقتهم عليهم السلام في أمثال هذه المسائل الكونية. والمعلوم من سؤال السائل وقول الناس أن ذهنهم متوجه إلى السبب الطبيعي الموجب لوجود الرياح ومنشأها وعلة اختلافها في البرودة والحرارة وغيرها، وغاية ما وصل إليه فكرهم أن الشمال لبرودتها من الجنة والجنوب لحرارتها من النار فصرف الإمام ذهنهم عن التحقيق لهذا الغرض إذ ليس المقصود من بعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب كشف الأمور الطبيعية، ولو كان المقصود ذلك لبين ما يحتاج إليه الناس من أدوية الأمراض كالسل والسرطان وخواص المركبات والمواليد، ولذكر في القرآن مكررا علة الكسوف والخسوف كما تكرر ذكر الزكاة والصلاة وتوحيد الله تعالى ورسالة الرسل، ولورود ذكر الحوت في الروايات متواترا كما ورد ذكر الإمامة والولاية والمعاد والجنة والنار وكذلك ما يستقر عليه الأرض وما خلق منه الماء مع أنا لا نرى من أمثال ذلك شيئا في الكتاب والسنة المتواترة إلا بعض أحاديث ضعيفة غير معتبرة أو بوجه يحتمل التحريف والسهو والمعهود في كل ما هو مهم في الشرع ويجب على الناس معرفته أن يصير الإمام بل النبي (صلى الله عليه وآله) على تثبيته وتسجيله وبيانه بطرق عديدة غير محتملة للتأويل حتى لا يغفل عنه أحد. وبالجملة لما رأى الإمام (عليه السلام) اعتناء الناس بالجهة الطبيعية صرفهم بأن الواجب على الناظر في أمر الرياح والمتفكر فيها أن يعتني بالجهة الإلهية وكيفية الاعتبار بها والاتعاظ بما يترتب عليها من الخير والشر سواء كانت من الجنة أو من الشام أو من أفريقية واليمن فأول ما يجب أن يعترف بأن جميع العوامل الطبيعية مسخرة بأمر الله تعالى وعلى كل شيء ملك موكل به وأن الجسم الملكي تحت سيطرة المجرد الملكوتي المفارق عن الماديات كما ثبت في محله أن المادة قائمة بالصورة والصورة قائمة بالعقل المفارق وهذا أهم ما يدل عليه هذا الحديث الذي يلوح عليه أثر الصدق وصحة النسبة إلى المعصوم (عليه السلام). ثم بعد هذا الاعتراف يجب الاعتبار بما وقع من العذاب على الأمم السالفة بهذه الرياح وما يترتب من المنافع على جريانها وهذا هو الواجب على المسلم من جهة الدين إذا نظر إلى الأمور الطبيعية. (ش)

موكل بها فإذا أراد الله عز وجل أن يعذب قوما بنوع من العذاب أوحى إلى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد أن يعذبهم بها قال: فيأمرها الملك فيهيج كما يهيج الأسد المغضب، قال: لكل ريح منهن اسم أما تسمع قوله تعالى: (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر) وقال: (الريح العقيم) وقال: (ريح فيها عذاب أليم) وقال: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) وما ذكر من الرياح التي يعذب الله بها من عصاه، قال: ولله عز ذكره رياح رحمة لواقح وغير ذلك ينشرها بين يدي رحمته، منها ما يهيج السحاب للمطر ومنها رياح تحبس السحاب بين السماء والأرض، ورياح تعصر السحاب فتمطره بإذن الله، ومنها رياح مما عدد الله في الكتاب فأما الرياح الأربع: الشمال والجنوب والصبا والدبور فإنما هي أسماء الملائكة الموكلين بها فإذا أراد الله أن يهب شمالا أمر الملك الذي اسمه الشمال فيهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد الله من البر والبحر وإذا أراد الله أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح - الجنوب في البر والبحر حيث يريد الله وإذا أراد الله أن يبعث ريح الصبا أمر الملك الذي اسمه الصبا فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الصبا حيث يريد الله جل وعز في البر والبحر وإذا أراد الله أن يبعث دبورا أمر الملك الذي اسمه الدبور فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الدبور حيث يريد الله من البر والبحر، ثم قال أبو جعفر: أما تسمع لقوله: ريح الشمال وريح الجنوب وريح الدبور وريح الصبا، إنما تضاف إلى الملائكة الموكلين بها.

* الشرح:

قوله (حديث الرياح) الريح الهواء المسخر بين الأرض والسماء من حيث أنه متحرك وهو مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح وقد يذكر بمعنى الهواء فيقال هو الريح، نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الاعصار فإنه مذكر، كذا في المصباح (قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرياح الأربع الشمال) ومهبها الجدى إلى مغرب الاعتدال وفي المصباح وفيها خمس لغات الأكثر بوزن سلام ونقل عياض عن صاحب العين أنه قال: الشمال بفتح

ص:2

الشين والميم والشمأل بسكون الميم وفتح الهمزة والشأمل بتقديم الهمزة والشمل بفتح الميم من غير همز والشمول بفتح الشين وضم الميم (والجنوب) من القطب الجنوبي إلى مشرق الاعتدال تقابل الشمال وهو مراد من قال: من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا. (والصبا) بوزن العصا من مشرق الاعتدال إلى الجدي وهو مراد من قال من مطلع الثريا إلى بنات النعش (والدبور) بوزن الرسول من مغرب الاعتدال إلى القطب الجنوبي (فتهيج كما يهيج الأسد المغضب) هاج الشئ يهيج إذا ثار ووثب والمغضب بفتح الضاد من أغضبته فهو مغضب (فكيف كان عذابي ونذر) أي إنذاري لهم قبل نزول العذاب أو لمن بعدهم في تعذيبهم (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) أي شديدة الصوت أو البرد (في يوم نحس مستمر) أي يوم شوم استمر شومه أو استمر عليهم حتى هلكوا أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم ذكورهم وإناثهم فلم يبق منهم أحدا واشتدت مرارته وكان يوم الأربعاء آخر الشهر كذا ذكره المفسرون (والريح العقيم) ريح لا تلقح كريح الخريف (وقال: وأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) في المصباح الإعصار: ترتفع بتراب بين السماء والأرض وتستدير كأنها عمود وفي القاموس أو التي فيها نار وقيل هي ريح تثير سحابا ذات رعد وبرق فيها نار (ولله تعالى رحمة لواقح وغير ذلك) الإضافة لامية كما يدل عليه قوله (ينشرها بين يدي الرياح مبشرات) في معارج النبوة أنك ل واحدة من رياح الرحمة ورياح العذاب أربعة أما رياح الرحمة فأولها باشرات قال الله تعالى

ص:3

(وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) وثانيها مبشرات.

(ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات). وثالثها ناشرات (والناشرات نشرا) ورابعها ذاريات (والذاريات ذروا) وأما رياح العذاب فأولها صرصر (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر) وثانيها عقيم (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وثالثها قاصف (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) ورابعها عاصف (جاءتها ريح عاصف) وكذا توجد الرياح الثمانية في ذات العبد أما رياح الرحمة ومهبها السعادة فأولها ريح المحبة وهي في التائبين (إن الله يحب التوابين) وريح المودة وهي للصالحين (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) وريح القربة وهي للسابقين (والسابقون السابقون أولئك المقربون) وريح الوصلة وهي للمشتاقين، وأما رياح العذاب ومهبها الشقاوة فريح الغفلة (وهم في غفلة معرضون) وريح الفرقة (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) وريح السخط (سخط الله عليهم) وريح القطيعة (فقطع دابر القوم الذين ظلموا).

* الأصل:

64 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن معروف بن خر بوذ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل رياح رحمة ورياح عذاب فإن شاء الله (1) أن يجعل العذاب من الرياح رحمة فعل، قال: ولن يجعل الرحمة من الريح عذابا، قال: وذلك أنه لم يرحم قوما قط أطاعوه وكانت طاعتهم إياه وبالا عليهم إلا من بعد تحولهم عن طاعته قال: وكذلك فعل بقوم يونس لما آمنوا رحمهم الله بعد ما كان قدر عليهم العذاب وقضاه ثم تداركهم برحمته فجعل العذاب المقدر عليهم رحمة فصرفه عنهم وقد أنزله عليهم وغشيهم وذلك لما آمنوا به وتضرعوا إليه. قال: وأما الريح العقيم فإنها ريح عذاب لا تلقح شيئا من الأرحام ولا شيئا من النبات وهي ريح تخرج من تحت الأرضين السبع وما خرجت منها ريح قط إلا على قوم عاد حين غضب الله

ص:4


1- (1) قوله «رياح رحمة» هذا حديث صحيح من جهة الإسناد وليس فيه ضعف من جهة المعنى إلا قوله فعتت على خزانها فخرج على مقدار منخر الثور لأن ضعف الملائكة المأمورين من جانب الله على ما شاء من المصلحة عن ضبط الطبائع المقهورة المسخرة غير معقول عندنا ولا نعتقد في الطبائع قوة أشد من الملائكة الموكلين بها ولا نرى أن يأمر الله تعالى ملائكته بأمر يعلم عجزهم، وعلى كل حال فالظاهر من الرواية أن الريح التي أهلكت قوم عاد كانت من البخارات المحتبسة في أعماق الأرض خرجت دفعة من ثقبة حدثت في قشر الأرض بدفعها كما يخرج من البراكين والله أعلم. (ش)

عليهم فأمر الخزان يخرجوا منها على مقدار سعة الخاتم، قال: فعتت على الخزان فخرج منها على مقدار منخر الثور تغيظا منها على قوم عاد، قال: فضج الخزان إلى الله عز وجل من ذلك فقالوا ربنا إنها قد عتت عن أمرنا إنا نخاف أن تهلك من لم يعصك من خلقك وعمار بلادك، قال، فبعث الله عز وجل إليها جبرئيل (عليه السلام) فاستقبلها بجناحيه فردها إلى موضعها وقال لها: أخرجي على ما أمرت به، قال: فخرجت على ما امر به، وأهلكت قوم عاد ومن كانت بحضرتهم.

* الشرح:

(فإن شاء الله عز وجل أن يجعل العذاب من الرياح رحمة فعل ولن يجعل الرحمة من الريح عذابا) لعل المراد أن من استحق العذاب بسبب خصلة قبيحة ربما يستحق الرحمة بإزالة تلك الخصلة وكسب خصلة حسنة فلا يصل إليه العذاب بخلاف من استحق الرحمة والإحسان بسبب خصلة حسنة فإنه تصل إليه الرحمة وإن زالت عنه تلك الخصلة لأن الله لا يضيع عمل عامل، أو المراد أنه إذا أرسل ريح العذاب يجعله رحمة بزوال سبب العقاب وأما إذا أرسل ريح الرحمة فلا يجعلها عذابا بزوال سبب الرحمة وحدوث سبب العذاب، ومنه يظهر سر سبق رحمته على غضبه. (وذلك أنه لم يرحم قوما قط أطاعوه وكانت طاعتهم إياه وبالا عليهم إلا من بعد تحولهم من طاعته) ذلك إشارة إلى المذكور وهو جعل العذاب رحمة وأطاعوه صفة لقوما والواو في قوله «وكانت» للحال بتقدير «قد»، والوبال الشدة والمصيبة وسوء العاقبة والعمل السئ والطاعة لاعلى وجه مطلوب وبال على صاحبه كطاعة أهل الخلاف، وفيه دلالة على أن هذه الطاعة وإن كانت معصية استحقوا بها العذاب إلا أنهم لو تحولوا عنها أدركتهم الرحمة ولم يعذبهم بها، وإنما ذكر هذه المعصية ليقاس عليها غيرها. (بعد ما قد كان قدر عليهم العذاب وقضاه) أي قضاه قضاء غير محتوم ولم يبلغ حد الإمضاء إذ لا دافع بعده. (فجعل العذاب المقدر عليهم رحمة فصرفه عنهم وقد أنزله عليهم وغشيهم آه) قال بعض المفسرين روي أن يونس (عليه السلام) بعث إلى أهل نينوى وهي - بكسر الأول - قرية بالموصل فكذبوه وأصروا عليه فوعدهم العذاب إلى ثلاث وقيل إلى أربعين فذهب عنهم مغاضبا فلما دنا الوعد غامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشى مدينتهم وتسود سطوحهم فهابوا

ص:5

فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا وتضرعوا إلى الله فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشورا يوم الجمعة. (فإنها ريح عذاب لا تلقح شيئا من الحيوان ولا شيئا من النبات) فلا ينتفع منها النفس الحيوانية والنفس النباتية لشدة حرارتها من فيح جهنم واشتمالها على النار المهلكة لهما (فأمر الخزان أن يخرجوا منها على مقدار سعة الخاتم) لعل هذا أعلى المقادير المقدرة لخروج الريح المهلكة لعاد وأدناها مثل خرق الأبرة ثم خرجت بعد العتو على مقدار الأدنى فلا ينافي ما في الفقيه حيث قال: قال (عليه السلام) «ما خرجت ريح قط إلا بمكيال الازمن عاد فإنها عتت على خزانها فخرجت في مثل خرق الأبرة فأهلكت قوم عاد» (فخرج على مقدار منخر الثور) المنخر بفتح الميم والخاء وتكسر وضمهما وكمجلس الأنف وخرقه (تغيظا منها على قوم عاد) دل على أن لها شعورا وإدراكا ولا يبعد من قدرة الله تعالى أن يجعل لها مشاعر ومدارك فلا حاجة إلى التأويل في نسبة التغيظ والعتو إليها ولا في نسبة الخطاب والأمر إليها باعتبار أنها جماد والجماد لا يتصف بهذه الصفات ولا يؤمر بشيء كما زعمه بعض الناس وقال، التغيظ والعتو لأهلها والأمر للدلالة على التسخير، ومما يؤيد ما قلناه ما رواه في الفقيه من أن للريح وجها وجناحين. (وأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم) أي في فنائهم وقربهم وهذه الريح سخرها الله تعالى عليهم سبع ليال أو ثمانية أيام حسوما أي دائمة متتابعة فلما رأوها جمعوا نساءهم وصبيانهم وأموالهم في شعب وأحاطوا حولهم آخذين بأيديهم وقد كانوا عظيم الجثة، طويل القامة، عريض البدن كثير القوة، شديد البطش كان أطولهم ثلاثمائة ذراع وأقصرهم مائة ذرع فقالوا ما تفعل هذه الرياح بنا فأخذت الريح أولا محصوريهم وأطارتهم في الهواء وأهلكتهم ثم أخذتهم ورفعتهم وأهلكتهم ومن لم يخرج منهم إلى الشعب وتحصنوا في بيوتهم هدمت الريح بيوتهم عليهم وأخرجت بعضهم من البيت ورفعته وأهلكته.

* الأصل:

65 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليه السلام): من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر «الحمد لله» ومن كثرت همومه فعليه بالاستغفار ومن ألح عليه الفقر فليكثر من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ينفي عنه الفقر، وقال: فقد النبي (صلى الله عليه وآله) رجلا من الأنصار، فقال ما غيبك عنا؟ فقال: الفقر يا رسول الله وطول السقم، فقال له

ص:6

رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا أعلمك كلاما إذا قلته ذهب عنك الفقر والسقم؟ فقال: بلى يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت وأمسيت فقل: «لا حول ولا قوة إلا بالله] العلي العظيم [توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا» فقال الرجل: فوالله ما قلته إلا ثلاثة أيام حتى ذهب عني الفقر والسقم.

* الشرح:

قوله (من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر الحمد الله) وهو قيد للواصل وجذب لغير الحاصل مع ما فيه من الفضل المذكور في كتاب الدعاء (ومن كثرت همومه فعليه بالاستغفار) بأن يقول أستغفر الله أو أستغفر الله ربي وأتوب إليه وكلاهما مروي. (ومن ألح عليه الفقر فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) روي عن الباقر (عليه السلام) أن الحول هنا بمعنى التحول والانتقال، أي لا حول لنا عن المعاصي إلا بعون الله ولا قوة لنا على الطاعات إلا بتوفيقه، وفيه إظهار كمال الخضوع والمسكنة والحاجة إليه تعالى في طلب الخيرات ودفع المكاره ومعنى العلي العظيم أنه العلي عن الأشباه والأنداد الرفيع عن التشابه بالممكنات، العظيم المفتقر إليه كل من عداه المستحقر لديه كل من سواه. (توكلت على الحي الذي لا يموت) أي توكلت على المدرك الدايم بلا زوال وفيه تفويض الأمور كلها إليه وإظهار العجز بأنه ليس له قدرة على تحصيل أمر من أموره ورمز لطيف بأنه يتوقع منه تعالى جلب النفع وسلب الفقر والسقم وساير المكاره عنه. (والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) تنزيه له تعالى عن الصاحبة والشهوة الحيوانية ورد على اليهود والنصارى.

(ولم يكن له شريك في الملك) فيه إقرار بالتوحيد وتنزيه له عن النقص. (ولم يكن له ولي من الذل) أي ناصر مانع له من الذل لكونه عزيزا على الإطلاق، أو لم يوال أحدا من أجل ذل به ليدفعه بموالاته. (وكبره تكبيرا) أي قل هذا اللفظ بعينه ونقل عن بعض الأفاضل أنه قال قل الله أكبر الله أكبر، وهذا غريب.

66 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن إسماعيل ابن

ص:7

عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيت البصرة؟ فقال:

نعم قال: كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال والله إنهم لقليل ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال: عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير، ثم قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية، (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قلت: جعلت فداك إنهم يقولون: إنها لأقارب رسول الله (عليه السلام)، فقال: كذبوا إنما نزلت فينا خاصة في أهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (فقال عليك بالأحداث) أي ألزمهم في الدعاء إلى هذا الأمر والأحداث الشبان الذين لم يطعنوا في السن فإنهم أسرع إلى كل خير لرقة قلوبهم وصفاء أذهانهم في الجملة وعدم تمكن الجهل المركب في نفوسهم بعد كما تمكن في نفوس الشيوخ.

(إنهم يقولون إنها لأقارب رسول الله (صلى الله عليه وآله)) قد مر آنفا أن جماعة منهم يقولون المراد بهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب كلهم وجماعة يقولون بنو هاشم وحدهم وجماعة يقولون قريش كلهم.

ص:8

حديث أهل الشام

* الأصل:

67 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن داود، عن محمد بن عطية قال: جاء رجل إلى أبي جعفر (عليه السلام) من أهل الشام من علمائهم فقال: يا أبا جعفر جئت أسألك عن مسألة قد أعيت علي أن أجد أحدا يفسرها وقد سألت عنها ثلاثة أصناف من الناس فقال كل صنف منهم شيئا غير الذي قال الصنف الآخر فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ما ذاك؟ قال: فإني أسألك عن أول ما خلق الله من خلقه (1) فإن بعض من سألته قال: القدر وقال بعضهم: القلم وقال بعضهم الروح فقال أبو جعفر (عليه السلام): ما قالوا شيئا، أخبرك أن الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره. وكان عزيزا ولا أحد كان قبل عزه وذلك قوله (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان أول ما خلق من خلقه الشيء من الشيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا ولم يزل الله إذا ومعه شيء

ص:9


1- (1) قوله «عن أول ما خلق الله من خلقه» المستفاد من جواب الإمام المعصوم العالم بأدواء النفوس وعلاجها والمطلع على أسرار الضمائر وكوامن القلوب أن هذا السائل كان مبتلى كساير العوام بالعجز عن بيان ما يختلج بباله من الإشكال وأن أصل اضطراب قلبه وتردده في كيفية خلق الأشياء المادية من العدم والراسخ في ذهنه أن كل مصنوع لابد أن يصنع من مادة سابقة عليه فسأل عن المادة الأولى التي خلق كل شيء منها، وكان الجواب الذي سمعه ممن سمعه غير مقنع له إذ لا معنى لكون المصنوعات جميعا مخلوقة من القضاء والقدر ولا من القلم ولا من الروح إذ لا يكون شيء من هذه الأمور مادة لصنع الأشياء، ولم يكن سؤاله عن العلل الفاعلية بل عن العلل المادية التي لابد أن تكون مقدمة على صنعة الصانع على ما كان يراه من عمل أمثال النجار والبناء حيث يعملون ما يعملون في الخشب والطين والحجر فابتدأ (عليه السلام) بإزالة وهمه وبين أن الله تعالى لا يجوز أن يصنع الأشياء من شيء موجود قبله أو معه وإنما يحتاج إلى المواد، الفاعل الصانع البشري والله تعالى هو خالق المواد ولو كان إيجاد كل مصنوع متوقفا على شيء سابق عليه وذلك على شيء آخر وهكذا ذهب الأمر إلى غير النهاية ووجب إثبات شيء غير مخلوق مع الله أزلي بأزليته والإمام (عليه السلام) رأى أنه لم يبدأ بإزالة وهمه هذا واكتفى بأن المخلوق الأول هو الماء لسأل السائل عن الماء مم خلق فإن قيل خلق من جوهرة خضراء لسأل السائل مم خلق الجوهرة الخضراء وهكذا ثم أجاب بما أجاب. ومراده (عليه السلام) من تضعيف قول من قال إن أول ما خلق الله الروح أو القلم أو القدر أنه لم يقع موقعه من السؤال وإلا فجميع هذه أيضا مروية وقد سبق في أول الكتاب أن أول ما خلق الله العقل وروي أن أول ما خلق نور رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكن لم يكن سؤال السائل إلا عن المادة الأولى للأجسام وكم من كلام صحيح لا يمكن أن يقع جواب سائل، مثل قوله (قل هو الله أحد) في جواب من سأل عن نصاب الزكاة. (ش)

ليس هو يتقدمه ولكنه إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققت الريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا نقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة، ثم طواها فوضعها فوق الماء، ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا نقب وذلك قوله: (والسماء بناها * رفع سمكها فسويها * وأغطش ليلها وأخرج ضحيها).

قال: ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا سحاب، ثم طواها فوضعها فوق الأرض ثم نسب الخليقتين فرفع السماء قبل الأرض فذلك قوله عز ذكره: (والأرض بعد ذلك دحيها) يقول: بسطها، فقال له الشامي: يا أبا جعفر قول الله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقا ملتزقتين ملتصقتين ففتقت إحداهما من الأخرى؟ فقال: نعم، فقال أبو جعفر (عليه السلام): استغفر ربك فإن قول الله جل وعز: (كانتا رتقا) يقول كانت السماء رتقا لا تنزل المطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت الحب فلما خلق الله تبارك وتعالى الخلق وبث فيها من كل دابة فتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحب، فقال الشامي: أشهد أنك من ولد الأنبياء وأن علمك من علمهم.

* الشرح:

(حديث أهل الشام عنه عن أحمد بن محمد) في مرجع الضمير خفاء وعوده إلى محمد بن يحيى خلاف المتعارف وكأنه يعود إلى أحمد بن محمد بن عيسى ويكون المراد بأحمد بن محمد أبو جعفر البرقي (قد أعيت علي أن أجد) أعيته أعجزته ووصف المسألة بالإعياء من جهة إشكالها وعسر جوابها. (وقد سألت عنها ثلاثة أصناف) لعل المراد بهم أهل الإسلام والحكماء والمتكلمون أو أهل الإسلام واليهود والنصارى.

(فإني أسألك عن أول ما خلق الله من خلقه) رده (عليه السلام) الأجوبة المذكورة بقوله ما قالوا شيئا

ص:10

أخبرك إلى آخره دل على أن «من» ابتدائية وأن مراد السايل بخلقه المثال أو المهية النوعية القديمة أو المادة القديمة الأزلية وقد ذهب إلى الأول من قال أنه تعالى لم يخلق إلا باحتذاء مثال، وإلى الثاني من قال إن الأشياء محدثة بعضها من بعض على سبيل التعاقب والتسلسل مع قدم النوع وإلى الثالث من قال إن خلق الأشياء من أصل قديم، وقد مر بطلان هذه الأقوال في باب جوامع التوحيد وغيره وأوضحناه هناك. (فإن بعض من سألته قال: القدر، وقال بعضهم: القلم وقال بعضهم: الروح) القدر عبارة عما قضاه الله تعالى وحكم به من الأمور وقد يراد به تقدير الأشياء والقلم يطلق تارة على كلما يكتسب به وتارة على ما كتب به اللوح المحفوظ وهو المراد هنا، قال بعض العامة: أول ما خلقه الله القلم ثم النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كاين وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلا ينطق إلى يوم القيامة واختلفوا في المأمور بالكتابة فقيل هو صاحب القلم بعد خلقه، وقيل القلم نفسه لإجرائه مجرى أولي العلم وإقامته مقامه، وأشار القاضي أيضا إلى هذين الوجهين في تفسير قوله تعالى (ن والقلم وما يسطرون) والروح ما يقوم به الجسد وتكون به الحياة وقد يطلق على القرآن وعلى جبرئيل (عليه السلام) إذا عرفت هذا أقول لعل القائل الأول نظر إلى أن القضاء والتقدير مقدم على وجودات الأشياء فحكم بأنه الأول، والقائل الثالث نظر إلى أن الروح أشرف الأشياء ويتوقف عليه الكتابة في اللوح فحكم بأنه الأول، والكل معترف بأن ما ذهبوا إليه نشأ من مثال سابق وهذا باطل. (فقال أبو جعفر (عليه السلام) ما قالوا شيئا) لأنهم أخطأوا في تعيين الأول وتسليم قول السايل بأن الأول مخلوق من شيء أما الأول فلأن الثلاثة المذكورة متوقفة على العزم المتوقف على الإرادة كما مر في كتاب التوحيد وأما الثاني فلما أشار إليه (عليه السلام) بقوله (أخبرك أن الله تبارك وتعالى كان) في الأزل (ولا غيره شيء وكان عزيزا) غالبا على جميع الأشياء (ولا أحد كان قبل عزه) فلو كان أول ما خلقه من أصل قديم فإن كان ذلك الأصل منه تعالى لزم أن يكون معه شيء وإن كان من غيره لزم أن يكون قبل عزه أحد أعز منه وهو تعالى يتبع أثره وكلاهما باطل وذلك قوله (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) إضافة الرب إلى العزة المطلقة تفيد اختصاصها به وعدم حصولها لغيره، وتنزيهه عن كل وصف لا يليق به يفيد ثبوت كل كمال له وسلب كل نقص عنه تعالى، وكل واحد منهما يستلزم توحيده وعدم مشاركة الغير معه في القدم والعزة المطلقة.

ص:11

(وكان الخالق قبل المخلوق) قبلية زمانية متوهمة وإلا لزمت المشاركة المذكورة الموجبة للنقص وفيه تنبيه على أنه أنشأ الخلق على سبيل القدرة والاختيار لا على سبيل الإيجاب والاضطرار لأنه قديم وخلقه حادث وصدور الحادث عن القديم إنما يتصور بطريق القدرة والاختيار دون الإيجاب والاضطرار وإلا لزم تخلف المعلول عن تمام علته حيث وجدت العلة في الأزل دون المعلول. وبعد تمهيد هذه المقدمات الحقة أشار إلى جواب السايل بقوله: (ولو كان أول ما خلق الله من خلقه الشيء من الشيء) المتوقف عليه خلق ذلك الشيء (إذا لم يكن له انقطاع أبدا) إذ يعود الكلام إلى الشيء الأول فيحتاج هو أيضا إلى مثال متقدم (ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدمه) سواء كان ذلك الشيء من صنعه أو من صنع غيره وإن كان المفروض هو الأول لعدم القائل بالثاني والتالي باطل كما أشر إليه بقوله (ولكنه كان إذ لا شيء غيره) تحقيقا لمعنى القدرة والاختيار ورفعا لمعنى النقص والإيجاب والاضطرار ثم بين أن الأول في عالم الخلق وهو عالم الجسم والجسمانيات خلق من باب الاختراع لا من شيء سابق ومثال متقدم وإذا ثبت ذلك ثبت أن الأول في عالم الأمر وهو عالم الروح والروحانيات خلق كذلك لأن الصانع إذا كان قادرا مختارا عالما بوجوه المصالح يحيل الأشياء إلى أوقاتها باختياره ويوجد كلا في وقته من غير حاجة إلى شيء سابق ومثال متقدم فقال (وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه) في عالم الأجسام.

(وهو الماء الذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه). هذا وغيره من الروايات صريح في أن الماء أول صنع في عالم الخلق وأنه لم يخلق من شيء فبطل ما ذهب إليه علماء العامة مثل القرطبي وغيره ونطقت به رواياتهم من أن الأول جوهرة أو ياقوتة خضراء فنظر إليها الجبار بالهيبة فانذابت وصارت ماء وتسخنت فارتفع منه دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض، لا يقال الماء محتاج إلى المكان فكيف يكون هو الأول لأنا نقول المكان عدمي وهو البعد الموهوم كما صرح به بعض المحققين ثم حصل له تميز عن مطلق الموهومات وتعين بسبب خلق الماء فكان تميزه تعينه تابعا لخلق الماء، وبما ذكرنا حل هذا الحديث ظهر أنه لا ينافي ما مر في كتاب الأصول في باب مولد النبي (صلى الله عليه وآله) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قال الله تعالى يا محمد إني خلقتك وعليا نورا (يعني روحا) بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني - الحديث» ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) قال «أول ما خلق الله روحي» وعنه أيضا «أول ما خلق الله العقل» ولا منافاة بين هذه الروايات لأن هذه الثلاثة

ص:12

متحدة بالذات مختلفة بالحيثيات إذ هذا المخلوق الأول من حيث إنه ظاهر بذاته ومظهر لظهوره (1) وجودات غيره وفيضان الكمالات من المبدأ عليها سمي نورا، ومن حيث إنه حي وبسببه حياة كل موجود سمي روحا، ومن حيث إنه عاقل لذاته وصفاته وذوات سائر الموجودات وصفاتها سمي عقلا، نعم هذه الروايات ظاهرا تنافي ما روي «أن أول ما خلق الله القلم» ويمكن أن يقال القلم أيضا عبارة عما ذكره من حيث أن نقوش العلوم والكائنات في اللوح المحفوظ بتوسطه فهو بهذا الاعتبار سمي قلما فالمعنى في الجميع واحدا والعبارات مختلفة وهذا التوجيه مذكور

ص:13


1- (1) قوله «من حيث أنه ظاهر بذاته ومظهر لظهوره» كلام دقيق مبني على أصول عقلية ونقلية وحاصله أن أول صادر من الواجب تعالى في السلسلة الطولية أعني العلل والمعلولات أشرف المخلوقات مطلقا لكونه أقرب إلى الواجب تعالى وليس إلا روح خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وهو نور لتحقق معناه فيه وكونه ظاهرا بذاته ومظهرا لغيره وهو عقل لتقدم العقل على الجسم في مذهب الإلهيين بخلاف الماديين فإن العقل عندهم فرع الجسم إذ ليس الإدراك والشعور عندهم إلا عرضا من عوارض المادة وتركيب العناصر فلابد عندهم من وجود الجمادات مقدما على العقل ولولا تركيب الأبدان ووجود الدماغ لم يكن فكر ولا عقل عندهم وأما عند الإلهيين فالموجودات العاقلة مستقلة عن الجسم قائمة بذاتها والجسم مركب محتاج إلى موجود عاقل غير جسماني يحفظ أجزاءه ويقيمها كما ثبت في محله، وأما كون الماء أول المخلوقات فالمراد منه أول موجود جسماني لا أول الموجودات مطلقا كما علم مما مر، واعلم أن الإمام (عليه السلام) جرى هاهنا على اصطلاح الناس في ذلك العصر فإن العناصر عندهم كانت منحصرة في أربعة: الماء والهواء أي الريح، والنار، والأرض وبين (عليه السلام) أن الأصل هو الماء والثلاثة الأخرى مولدة منه وهو رأي ثاليس الملطي من قدماء اليونانيين وقال بعضهم: إن الأصل هو الهواء وبعض أنه النار وبعض أنه الأرض، ومقتضى كلام غيرهم أن العناصر الأربعة كل أصل بنفسه لم يكن أحد منها مشتقا من الآخر لمناسبات واستحسانات رأوها أحسن ولم يدع أحد منهم الظفر بما يوجب اليقين وسلكوا في عددها مسلك الفقهاء حيث ينفون ما لم يثبت دليل على وجوده بأصالة العدم واستصحاب العدم الأزلي مثلا قالوا لم يتبين لنا كون الماء مركبا من عناصر مختلفة فالأصل عدمها فيكون الماء عنصرا بسيطا ولم يتبين لنا وجود عنصر بسيط غير الأربعة فالأصل عدم بسيط غيرها وكذلك في زماننا يعدون عناصر كثيرة لم يظهر لهم تركيبها فالتزموا ببساطتها وعددها نحو من مائة عنصر كلما ظفروا بعنصر جديد زادوه عليها ولا فائدة دينية في تحقيق ذلك وتشخيصها إلا أن يعلم بوجه كلي أن كل شيء إنما يوجد بتأثير مشيئة الله وقدرته وكون العنصر الأصلي أوسط في القوام أظهر في العقل لأن الجامد كالأرض لا يسهل تشكله بالصور المختلفة والفلزات لا يصنع إلا بعد الذوب والريح مايلة إلى الحركة والتفرق ولا يقبل التشكل والضبط الأولى بقبول التغير وحفظ الشكل في الجملة هو المايع وهذا المقدار يكفي في تصور تغيير الأشياء من صورة إلى صورة وليس المقام لتحقيق الأمور الطبيعية حتى يحتاج إلى تفصيل أكثر والإنسان مفطور على إرجاع الكثرات إلى الواحد ليكون أول صادر من الواجب واحدا كما قالوا الواحد لا يصدر منه إلا الواحد يعني في المرة الأولى، لذلك اطمأن السائل لما سمع من الإمام إرجاع كل المواليد إلى واحد هو الماء (ش).

في كتاب معارج النبوة وكتاب شواهد النبوة (وخلق الريح من الماء) لتحركه حركة عنيفة واضطرابه اضطرابا شديدا فحدثت منه الريح (ثم سلط الريح على الماء) فحركت ذلك الماء وأثارت أمواجا كأمواج البحار (فشققت الريح متن الماء) وحركته تحريكا كتحريك ما في القربة والسقاء حتى جعلت أسفله أعلاه وأعلاه أسفله (حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور) واقتضت الحكمة في كمية الأرض وإيجادها على الحجم والبسط المعروفين (فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع) أي شق (ولا نقب) بالنون وفي بعض النسخ بالثاء المثلثة (ولا صعود ولا هبوط) الصعود بالفتح العقبة، والهبوط بالفتح الخدود (ولا شجرة) أراد بالشجرة مطلق النباتات وإنما حدثت هذه الأشياء بعد ذلك بالإرادة والأسباب المقتضية لها. (ثم طواها فوضعها فوق الماء) تحت الكعبة كما دل عليه بعض الروايات (ثم خلق الله النار من الماء) لا يبعد من القدرة القاهرة أن تحدث النار من حركات الماء وصدماته كما يحدث البرق من صدمات السحاب الماطر عند بعض، وكما تحدث من الشجر الأخضر قال الله تعالى (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها كان قادرا على إحداث النار من الماء فلا تنظر إلى من استبعد ذلك وقال لا نار هنالك. (فشققت النار متن الماء) وسخنته تسخينا شديدا حتى ثار من الماء دخان وارتفع في جو متوهم وخلاء متسع ارتفاعا تقتضيه الحكمة البالغة (على قدر ما شاء الله أن يثور) ويصلح لخلق السماوات من غير زيادة ونقصان (فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية) وبسط ذلك الدخان بسطا مخصوصا وركبه تركيبا معلوما وضم إليه الجزء الصوري الحافظ لذلك التركيب إلى ما شاء الله.

(ليس فيها صدع ولا نقب) بالنون أو الثاء المثلثة واعلم أن ظاهر هذا الحديث والذي يأتي بعده وظاهر قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) ناطق بأن السماء مخلوقة من دخان وأن المراد بالنار والدخان معناهما الحقيقي وقيل المراد بالدخان هنا البخار المتصاعد عن وجه الماء الحادث بسبب حركته بتحريك الريح له وليس محمولا على حقيقته لأنه إنما يكون عن النار ولا نار هنالك وإنما سمي البخار دخانا من باب الاستعارة للتشابه بينهما في الصورة لأن البخار أجزاء مائية خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حرارة الحركة كما أن الدخان أجزاء مائية انفصلت عن جرم

ص:14

المحترق بسبب لطافتها عن حرارة النار وذلك قوله: (والسماء بناها * رفع سمكها) أي رفع سقفها عن الأرض على قدر تقتضيه الحكمة وقد ذكر الصادق (عليه السلام) بعض تلك الحكمة في توحيد المفضل.

(فسويها) تسوية موجبة لكمالها من غير نقص فيها. (وأغطش ليلها) أي أظلمه (وأخرج ضحيها) أي ضوءها وهو النهار وإنما أضافهما إليها لأنهما يحدثان بحركتها.

(قال ولا شمس ولا نجوم ولا سحاب) حين خلق السماء من الدخان وإنما حدثت هذه الأشياء بعده لمصالح الخلق ومنافعهم. (ثم طواها ووضعها فوق الأرض) على مقدار من الارتفاع المحسوس ثم نسب الخليقتين أي جاء بواحدة منهما في أثر الآخر (فرفع السماء قبل الأرض) أي رفعها بالبسط المعلوم قبل بسط الأرض (فذلك قوله عز ذكره (والأرض بعد ذلك دحيها) يقول بسطها) على قدر معلوم لتكون مهدا للإنسان ومرعى للحيوان. واعلم أن ظاهر هذه الخبر وغيره وظاهر القرآن لما دل على كون الماء أصلا تكونت منه السماوات والأرض، وثبت أن الترتيب المذكور أمر ممكن في نفسه، وثبت أن الباري تعالى فاعل مختار قادر على جميع الممكنات، ثم لم يقم دليل عقلي يمنع من إجراء هذه الظواهر على ما دلت عليه بظاهرها وجب علينا القول بمقتضاها ولا حاجة بنا إلى التأويل الذي ذكره بعض الناس ونحن تركناه لطوله ولا يضرنا ما ذهب إليه الحكماء من تأخر وجود العناصر عن وجود السماوات لأن أدلتهم مدخولة. (فقال الشامي يا أبا جعفر قول الله تعالى (أولم ير الذين كفروا أن السماوات كانتا رتقا)) أي ذات رتق أو مرتوقتين (ففتقناهما) الرتق ضد الفتق وهو الشق، فالرتق الضم والالتحام، والمراد بالرؤية الرؤية القلبية وهي العلم، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك لكنهم كانوا متمكنين من العلم به نظرا ومن الاستدلال به على وجود الصانع. (فقال أبو جعفر (عليه السلام) فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقا ملتزقتان ملتصقتان إحداهما من الأخرى (1) فقال نعم) فسره بذلك بعض مفسري العامة وقال بعضهم كانت الأفلاك واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكا وكانت الأرضون واحدة ففتقت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات

ص:15


1- (1) كذا.

وأقاليم. (فقال أبو جعفر (عليه السلام) استغفر ربك) هذا صريح في أن ما زعمه ليس بمراد من الآية، فإن قول الله عز وجل (كانتا رتقا).. إلى آخره بذلك فسره أيضا بعض المفسرين قال القاضي فيكون المراد بالسماوات سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو السماوات بأسرها على أن لها مدخلا ما في الأمطار. (فقال الشامي أشهد أنك من ولد الأنبياء وأن علمك من علمهم) الظاهر أنه آمن به والقول بأن لفظ الشهادة ليس نصا في الإيمان حتى يعتقد ويستسلم وليس ذلك بمعلوم، بعيد.

* الأصل:

68 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد ابن مسلم والحجال، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله عز ذكره الماء فاضطرم نارا ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق الله السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد ثم اختصم الماء والنار والريح فقال الماء: أنا جند الله الأكبر، وقالت الريح: أنا جند الله الأكبر، وقالت النار: أنا جند الله الأكبر، فأوحى الله عز وجل إلى الريح: أنت جندي الأكبر.

* الشرح:

قوله (كان كل شيء ماء) أي نسب كل شيء إلى الماء وليس للماء نسب يضاف إليه لأنه أول حادث من أجرام هذا العالم (وكان عرشه على الماء) قيل كان فوقه لا على أن يكون موضوعا على متنه واستدل به على إمكان الخلاء، وقال ابن عباس «فوقه» وقوله يحتمل الأمرين وقال الأبى في كتاب إكمال الإكمال أقوال المفسرين فيه كثيرة والله أعلم بحقيقة ذلك، والمقطوع به أنه سبحانه وتعالى قديم بصفاته ليس بجسم وجسماني ولا أول لوجوده وكان ولا شيء معه انتهى. أقول يحتمل أن يراد بالعرش هنا العلم وقد جاء تفسيره به في كثير من الأخبار وكان علمه المتعلق بالموجود من الأجرام على الماء فقط إذ لم يكن غيره موجودا والله يعلم. (فأمر الله عز وجل الماء فاضطرم نارا) اضطرمت النار اشتعلت وأضرمها أوقدها فاضطرمت أي توقدت واشتعلت. (وخلق الأرض من الرماد) هذا لا ينافي ما مر من أنها خلقت من زبد الماء لأن الرماد زبد سمي

ص:16

رمادا باعتبار أنه بقي بعد تأثير النار فيه وخروج أجزاء مائيته وتصاعدها من تأثير النار.

(فأوحى الله إلى الريح أنت جندي الأكبر) كل ناصر لدين الله وغالب على عدوه ونافع لخلقه فهو جند لله كما قال عز وجل (ولله جنود السماوات والأرض) وقال (وأيده بجنود لم تروها) أيده بالملائكة والريح فهزموا الأحزاب وقال (وإن جندنا لهم الغالبون) ومن البين أن الأكبرية باعتبار القوة والغلبة والضر والنفع وأن لكل واحد من الماء والنار والريح هذه الأوصاف إلا أنها في الريح أقوى وأشد من الماء والنار إذ طبعهما لا يقتضي إلا أمرا واحدا بخلاف الريح فإنها مع اتحاد جوهرها مصدر لآثار مختلفة كإيقاد النار وإخمادها وإثارة السحاب وجمعها وتفريقها وتنقية الحبوب وتزويج النفوس وتلقيح الأزهار وتربية الثمار وتلطيف الأهوية وتكثيفها وتحريك السفن وتسكينها بالإحاطة عليها وسرعة السير إلى جهات مختلفة وقوة الحركة إلى أمكنة متباعدة إلى غير ذلك من خصالها التي لا تحصى ويكفي في ذلك أنه انفتحت السماء بماء منهمر وانفجرت العيون وجرت المياه من كل جانب لإهلاك قوم نوح وخرجت الريح على مقدار حلقة خاتم أو خرقة أبرة لإهلاك قوم عاد ولو خرجت على مقدار منخر ثور لأهلكت البلاد كلها.

ص:17

حديث الجنان والنوق

* الأصل:

69 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل عن قول الله عز وجل (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) فقال: يا علي إن الوفد لا يكونون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله فأحبهم الله واختصهم ورضي أعمالهم فسماهم المتقين، ثم قال له: يا علي أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنهم ليخرجون من قبورهم وإن الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العز عليها رحال الذهب مكللة بالدر والياقوت وجلائلها الإستبرق والسندس وخطمها جدل الأرجوان، تطير بهم إلى المحشر مع كل رجل منهم ألف ملك من قدامه وعن يمينه وعن شماله يزفونهم زفا حتى ينتهوا بهم إلى باب الجنة الأعظم وعلى باب الجنة شجرة إن الورقة منها ليستظل تحتها ألف رجل من الناس وعن يمين الشجرة عين مطهرة مزكية. قال: فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد ويسقط من أبشارهم الشعر وذلك قول الله عز وجل: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) من تلك العين المطهرة.

قال: ثم ينصرفون إلى عين أخرى عن يسار الشجرة فيغتسلون فيها وهي عين الحياة فلا يموتون أبدا، ثم يوقف بهم قدام العرش وقد سلموا من الآفات والأسقام والحر والبرد أبدا، قال:

فيقول الجبار جل ذكره للملائكة الذين معهم احشروا أوليائي إلى الجنة ولا توقفوهم مع الخلائق فقد سبق رضاي عنهم ووجبت رحمتي لهم وكيف أريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات والسيئات، قال: فتسوقهم الملائكة إلى الجنة، فإذا انتهوا بهم إلى باب الجنة الأعظم ضرب الملائكة الحلقة ضربة فتصر صريرا يبلغ صوت صريرها كل حوراء أعدها الله عز وجل لأوليائه في الجنان فيتباشرون بهم إذا سمعوا صرير الحلقة فيقول بعضهن لبعض: قد جاءنا أولياء الله. فيفتح لهم الباب فيدخلون الجنة وتشرف عليهم أزواجهم من الحور العين والآدميين فيقلن:

مرحبا بكم فما كان أشد شوقنا إليكم ويقول لهن أولياء الله مثل ذلك.

فقال علي (عليه السلام): يا رسول الله أخبرنا عن قول الله جل وعز: (غرف من فوقها غرف مبنية)

ص:18

بماذا بنيت يا رسول الله؟ فقال: يا علي تلك غرف بناها الله عز وجل لأوليائه بالدر والياقوت والزبرجد، سقوفها الذهب محبوكة بالفضة، لكل غرفة منها ألف باب من ذهب، على كل باب منها ملك موكل به فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير والديباج بألوان مختلفة وحشوها المسك والكافور والعنبر وذلك قول الله عز وجل (وفرش مرفوعة) إذا ادخل المؤمن إلى منازله في الجنة، وضع على رأسه تاج الملك والكرامة وألبس حلل الذهب والفضة والياقوت والدر المنظوم في الأكاليل تحت التاج. قال: وألبس سبعين حلة حرير بألوان مختلفة وضروب مختلفة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت الأحمر فذلك قوله عز وجل (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير).

فإذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا فإذا استقر لولي الله جل وعز منازله في الجنان استأذن عليه الملك الموكل بجنانه ليهنئه بكرامة الله عز وجل إياه فيقول له خدام المؤمن من الوصفاء والوصائف: مكانك فإن ولي الله قد اتكأ على أريكته وزوجته الحوراء تهيأ له فاصبر لولي الله.

قال: فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمة لها تمشي مقبلة وحولها وصائفها وعليها سبعون حلة منسوجة بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وهي من مسك وعنبر وعلى رأسها تاج الكرامة وعليها نعلان من ذهب مكللتان بالياقوت واللؤلؤ، شراكهما ياقوت أحمر، فإذا دنت من ولي الله فهم أن يقوم إليها شوقا فتقول له: يا ولي الله ليس هذا يوم تعب ولا نصب فلا تقم أنا لك وأنت لي.

قال: فيعتنقان مقدار خمسمائة عام من أعوام الدنيا لا يملها ولا تمله، قال: فإذا فتر بعض الفتور من غير ملالة نظر إلى عنقها فإذا عليها قلائد من قصب من ياقوت أحمر وسطها لوح صفحته درة مكتوب فيها: أنت يا ولي الله حبيبي وأنا الحوراء حبيبتك، إليك تناهت نفسي وإلي تناهت نفسك، ثم يبعث الله إليه ألف ملك يهنئونه بالجنة ويزوجونه بالحوراء.

قال: فينتهون إلى أول باب من جنانه فيقولون للملك الموكل بأبواب جنانه استأذن لنا على ولي الله فإن الله بعثنا إليه نهنئه، فيقول لهم الملك: حتى أقول للحاجب فيعلمه بمكانكم. قال:

فيدخل الملك إلى الحاجب وبينه وبين الحاجب ثلاث جنان حتى ينتهي إلى أول باب فيقول للحاجب: إن على باب العرصة ألف ملك أرسلهم رب العالمين تبارك وتعالى ليهنئوا ولي الله وقد سألوني أن آذن لهم عليه فيقول الحاجب إنه ليعظم علي أن أستأذن لأحد على ولي الله وهو مع

ص:19

زوجته الحوراء قال: وبين الحاجب وبين ولي الله جنتان.

قال: فيدخل الحاجب إلى القيم فيقول له: إن على باب العرصة ألف ملك أرسلهم رب العزة يهنئون ولي الله فاستأذن لهم فيتقدم القيم إلى الخدام فيقول لهم: إن رسل الجبار على باب العرصة وهم ألف ملك أرسلهم الله يهنئون ولي الله فأعلموه بمكانهم قال: فيعلمونه فيؤذن للملائكة فيدخلون على ولي الله وهو في الغرفة ولها ألف باب وعلى كل باب من أبوابها ملك موكل به فإذا أذن للملائكة بالدخول على ولي الله فتح كل ملك بابه الموكل به قال: فيدخل القيم كل ملك من باب من أبواب الغرفة قال: فيبلغونه رسالة الجبار عز وجل وذلك قول الله تعالى (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (من أبواب الغرفة) سلام عليكم..) إلى آخر الآية قال: وذلك قوله جل وعز: (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) يعني بذلك ولي الله وما هو فيه من الكرامة والنعيم والملك العظيم الكبير، إن الملائكة من رسل الله عز ذكره يستأذنون] في الدخول [عليه فلا يدخلون عليه إلا بإذنه فلذلك الملك العظيم الكبير، قال: والأنهار تجري من تحت مساكنهم وذلك قول الله عز وجل (تجري من تحتهم الأنهار) والثمار دانية منهم وهو قوله عز وجل: (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه وهو متكئ وإن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله: يا ولي الله كلني قبل أن تأكل هذا قبلي.

قال: وليس من مؤمن في الجنة إلا وله جنان كثيرة معروشات وغير معروشات وأنهار من خمر وأنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من عسل فإذا دعا ولي بغذائه أتي بما تشتهي نفسه عند طلبه الغذاء من غير أن يسمي شهوته قال: ثم يتخلى مع إخوانه ويزور بعضهم بعضا ويتنعمون في حياتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الشمس وأطيب مع ذلك لكل مؤمن سبعون زوجة حوراء، وأربع نسوة من الآدميين والمؤمن ساعة مع الحوراء وساعة مع الآدمية وساعة يخلو بنفسه على الأرائك متكئا، ينظر بعضهم إلى بعض، وإن المؤمن ليغشاه شعاع نور وهو على أريكته ويقول لخدامه: ما هذا الشعاع اللامع؟ لعل الجبار لحظني، فيقول له خدامه: قدوس قدوس جل جلال الله بل هذه حوراء من نسائك ممن لم تدخل بها بعد رأتك متكئا على سريرك تبسمت نحوك شوقا إليك فالشعاع الذي رأيت والنور الذي غشيك هو من بياض ثغرها، وصفائه ونقائه ورقته.

ص:20

قال: فيقول ولي الله: ائذنوا لها فتنزل إلي فيبتدر إليها ألف وصيف وألف وصيفة يبشرونها بذلك فتنزل إليه من خيمتها وعليها سبعون حلة منسوجة بالذهب والفضة، مكللة بالدر والياقوت والزبرجد صبغهن المسك والعنبر بألوان مختلفة، يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة طولها سبعون ذراعا وعرض ما بين منكبيها عشرة أذرع فإذا دنت من ولي الله أقبل الخدام بصحائف الذهب والفضة فيها الدر والياقوت والزبرجد فينثرونها عليها ثم يعانقها وتعانقه فلا يمل ولا تمل.

قال: ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): أما الجنان المذكورة في الكتاب فإنهن جنة عدن وجنة الفردوس وجنة نعيم وجنة المأوى، قال: وإن لله عز وجل جنانا محفوفة بهذه الجنان وإن المؤمن ليكون له من الجنان ما أحب واشتهى، يتنعم فيهن كيف] ي [شاء وإذا أراد المؤمن شيئا أو اشتهى إنما دعواه فيها إذا أراد أن يقول (سبحانك اللهم) فإذا قالها تبادرت إليه الخدم بما اشتهى من غير أن يكون طلبه منهم أو أمر به وذلك قول الله عز وجل (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) يعني الخدام. قال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) يعني بذلك عندما يقضون من لذاتهم من الجماع والطعام والشراب. يحمدون الله عز وجل عند فراغتهم وأما قوله: (أولئك لهم رزق معلوم) قال: يعلمه الخدام فيأتون به أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه وأما قوله عز وجل: (فواكه وهم مكرمون) قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.

* الشرح:

قوله (حديث الجنان والنوق) الجنان ككتاب جمع الجنة وهي الحديقة ذات النخل والشجر، ثم غلب إطلاقها على الجنة التي أعدت للمتقين، والنوق جمع الناقة. (يوم نحشر المتقين) هم الذين حبسوا أنفسهم على الحق ورفضوا عنهم الميل إلى الباطل وطهروا ظاهرهم وباطنهم عن الرذائل. (إلى الرحمن وفدا) جمع وافد أي وافدين عليه كما يفد الوافدون على الملوك الكرام منتظرين للإحسان والأنعام، وإنما ذكر الرحمن هنا لأنه أنسب بالمقام لكونه مشعرا بصدور أنواع من الرحمة والإكرام. (إن الوفد لا يكونون إلا ركبانا) الركبان جمع الراكب للبعير خاصة وقد يكون للخيل والركوب

ص:21

معتبر في الوفد غزوا. (واختصهم) اختصهم بالشيء أي خصهم به فاختصوا به لازم ومتعد، والمعنى خصهم بذاته المقدسة فاختصوا به وصرفوا وجوه قلوبهم إليه وعكفوا على ما فيه رضاه بين يديه ورفضوا ما يشغلهم عنه بغيره (بنوق من نوق العز عليها رحال الذهب) إضافة النوق إلى العز لامية باعتبار أنها معدة لمن أراد الله تعالى عزته في ذلك اليوم، والرحال جمع رحل وهو مركب للبعير كالسرج للفرس. (مكللة بالدر والياقوت) في الفايق تكليلها أن يحوطها كالأكاليل للرأس ومنه جفنة مكللة وروضة مكللة. (وجلايلها الإستبرق والسندس) جلائل جمع جلال جمع جل وهو بالضم والفتح ما تلبسه الدابة لتصان به، والسندس مارق من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه معرب أو هو استفعل من البريق. (وخطمها جدل الأرجوان) الخطم جمع الخطام كالكتب جمع الكتاب والجدل كالكتب جمع الجديل وهو الزمام المجدول أي المفتول للبعير، والأرجوان معرب أرغوان وهو شجر له نور أحمر وكل نور يشبهه فهو أرجوان، وقيل هذه الكلمة عربية والألف والنون زائدتان. (يطير بهم إلى المحشر) شبه سيرها بالطيران في السرعة ففيه استعارة تبعية مع احتمال إرادة الحقيقة. (حتى ينتهوا بهم إلى باب الجنة الأعظم وعلى باب الجنة شجرة) لعل المراد إلى قريب من باب الجنة وعلى قرب منه شجرة فلا ينافي ما سيجيء من قوله (فيسوقهم الملائكة إلى الجنة إذا انتهوا بهم إلى باب الجنة) فليتأمل (فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد) لئلا يحسد بعضهم بعضا في درجات الجنة ويحتمل أن يراد به الحسد الذي كان بينهم في الدنيا لأن الجنة لا يدخلها إلا طاهر من جميع الرذائل.

(ولا توقفوهم مع الخلائق) الظاهر أن الخلائق في المحشر للحساب لا في مقامهم فلعل المراد لا توقفوهم مع وقوف الخلائق انتظارا لفراغتهم من الحساب. (تصر صريرا) صر يصر صرا وصريرا صوت وصياح شديد. (وتشرف عليهم أزواجهم من الحور العين والآدميين) أي تشرف عليهم من الغرف من «أشرف عليه» إذا اطلع من فوق أو ترفع عليهم أبصارهن للنظر إليهم أو تخرج من قولهم استشرفوك إذا خرجوا إلى لقائك، وفيه دلالة على أن النساء الصالحات يدخلن الجنة قبل الرجال الصالحين

ص:22

(محبوكة بالفضة) الحبك الشد والإحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب ونحوه، والتحبيك التوثيق والتخليط.

(فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض) الظاهر أنه تفسير لمرفوعة ويحتمل أن يكون وصفا آخر لفرش، وحينئذ يمكن أن يراد بمرفوعة أنها رفيعة القدر كما قيل، وقيل: الفرش النساء وهي مرفوعة على الأرائك، وأيده بقوله تعالى (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا) وهذا القول على التفسير المذكور منقطع عن السابق لبيان وصف نساء أهل الجنة، ومرجع الضمير معلوم بحسب المقام مع إمكان الاتصال أيضا بأن يراد بقوله (عليه السلام) (بعضها فوق بعض) أن كل واحدة عند الناظر أحسن من الأخرى للمبالغة في عدم وجود النقص فيهن، والله يعلم.

(والدر منظوم في الأكاليل تحت التاج) الأكاليل التاج وشبه عصابة تزين بالجوهر ولعل المراد به الثاني وإن أريد به الأول كان المراد بتحت التاج حواشيه (يحلون فيها من أساور من ذهب) من الأولى ابتدائية والثانية للبيان، وأساور جمع أسورة جمع سوار بكسر السين وضمها وهو حلي معروف. (فإذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا) بصعود المؤمن عليه وحمله وكل من خف لأمر وارتاح عنه فقد اهتز له. (فيقول له خدام المؤمن من الوصفاء والوصائف مكانك) في النهاية: الوصيف العبد، والأمة وصيفة، وجمعهما وصائف ووصايف وفي القاموس: الوصيف الخادم والخادمة والجمع وصفاء كالوصيفة وجمع الجمع وصائف (فإن ولي الله قد اتكأ على أريكته) كهيئة المتنعم قال الله تعالى (متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب) أي الجنة ونعيمها (وحسنت مرتفقا) أي حسنت الأرائك متكأ، والأريكة سرير مزين في قبة أو بيت والجمع أرائك (وزوجته الحوراء تهنأ له فاصبر لولي الله) تهنأ في بعض النسخ بالنون بعد الهاء من التهنية وفي بعضها بالياء بعدها من التهيئة، واعلم أنه لم يذكر الإذن في الدخول لهذا الملك العظيم الشأن ولا يبعد أن يكون إذنه عند إذن ألف ملك يأتي ذكرهم. (قال فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمة لها) وجود الخيمة في الجنة ثبت من طرق العامة أيضا ففي كتاب مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) «قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة عن لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» وفيه روايات

ص:23

أخرى كلها بهذا المعنى، قال عياض: الخيمة بيت مستديرة كبيوت الأعراب وإنما لا يرون لبعدها وطول أقطارها; وقال المازري إذا كان طولها في السماء ستين ميلا فما ظنك بطولها وعرضها في الأرض إلا أن في الرواية الأخرى: وعرضها ستون ميلا، فطولها وعرضها متساويان، انتهى. (نظر إلى عنقها فإذا عليها قلايد من قصب من ياقوت أحمر) القصب محركة ما كان مستطيلا من الجوهر.

(فيبلغونه رسالة الجبار) ذكر الجبار هنا لأنه أنسب لدلالته على أنه جبر نقائص الخلائق حتى بلغوا هذه المراتب. (سلام عليكم) أي قايلين (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) فهو حال عن فاعل يدخلون والباء متعلق بعليكم أو بمحذوف، أي هذا بما صبرتم، والباء للسببية أو البدلية.

(وذلك قوله عز وجل) ذلك إشارة إلى ما ذكر من منازل المؤمن في الجنة وحالاته فيها وإذن الملائكة المدخول عليه. (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما) قال القاضي ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام والمعنى أن بصرك أينما وقع رأيت نعيما (وملكا كبيرا) واسعا وفي الحديث (إن لأهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه). «وهو قوله عز وجل:

(ودانية عليهم ظلالها)» لتوسطها بين غاية الارتفاع والانخفاض وهو دليل عل دنو الأثمار وسهولة تناولها، وضمير التأنيث راجع إلى الجنة. (وذللت قطوفها تذليلا) قطف العنب يقطفه جناه وقطفه، والقطف بالكسر: العنقود، والجمع القطوف. (يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه) حقيقة أو هو كناية عن نهاية قربها وكونها بحذاء الوجه وقد أجمع أهل الإسلام على أن أهل الجنة يتنعمون فيها كتنعمهم في الدنيا فيأكلون ويشربون ويتناكحون ولا يتغوطون ولا يبولون. (وأن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله يا ولي الله كلني قبل أن تأكل هذا قبلي) يمكن أن يكون ذلك القول بإيجاد النطق المعروف فيها وأن يكون بلسان الحال، ويفهم ذلك ولي الله بالإلهام. (وليس من مؤمن في الجنة إلا وله جنان كثيرة معروشات وغير معروشات) قال القاضي جنات من الكروم معروشات مرفوعات على ما يحملها وغير معروشات ملقيات على وجه الأرض (ويتنعمون في جناتهم في ظل ممدود) غير منقطع أبدا (في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) في اللطافة والرقة والاعتدال لا حار محم ولا بارد مؤذ، وهو قوله عز وجل (لا يرون فيها

ص:24

شمسا ولا زمهريرا)، والظاهر أن «ذلك» في قوله «وأطيب من ذلك» إشارة إلى تفصيل ذلك الظل على ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتعلقه بما بعده بعيد. (لكل مؤمن سبعون زوجة حوراء وأربع نسوة من الآدميين) لعل هذا أقل المراتب لما رواه في الفقيه من أن لكل مؤمن ألف نسوة من الآدميين، وقبل فيه دلالة على أن صنف النساء في الجنة أكثر من صنف الرجال وأنه ينافي ما دل عليه بعض الأخبار من أن أكثر أهل النار النساء. أقول: المنافاة إنما يتم لو ثبت أن عدد النساء مساو لعدد الرجال أو أنقص وأنه ممنوع لجواز أن يكون أزيد، ولو سلم فنقول أكثريتهن في الجملة لا يستلزم أكثريتهن دائما لجواز الخروج من النار بالشفاعة ونحوها فيكون للمؤمن هذا العدد من الآدميين بعد الخروج لا ابتداء.

(ويقول لخدامه ما هذا الشعاع اللامع لعل الجبار لحظني) لحظه ولحظ إليه أي نظر إليه بمؤخر عينه واللحاظ بالفتح مؤخر العين وأمثال هذه الأفعال إذا نسبت إليه تعالى يراد بها المعاني المجازية المناسبة بها فيراد هنا التجلي كما تجلى لموسى على نبينا وعليه السلام فإن قلت قول الخدام قدوس قدوس جل جلال الله دل على أن المراد هنا هو المعنى الحقيقي لأنه الذي وجب تنزيهه عنه دون المعنى المجازي، قلت لا دلالة له على ذلك بل قالوا ذلك لأنهم لما سمعوا اسم الجبار جل شأنه نزهوه تنزيها وهذا كما يقول أحدنا يا الله فيقول الحاضرون: جل جلاله وعظم شأنه. نعم لفظة «له» يشعر بما ذكر، والأمر فيه - بعد وضوح المقصود - هين. (فيقول له خدامه قدوس قدوس جل جلال الله) قيل يجوز في القاف الضم والفتح، ونقل المازري عن ثعلب أن كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا فالضم فيهما أكثر، وهو مرفوع على الخبر أي هو قدوس، وبناؤه للمبالغة من التقديس، والمعنى أن الجبار - تعالى شأنه - مطهر منزه عن صفات المخلوقين، وقد يقع منصوبا بإضمار فعل أي أقدسه قدوسا، وقال بعض الأفاضل إنه اسم بمعنى المقدس كما هو مذكور في الأسماء. (هو من بياض ثغرها) الثغر الأسنان أو مقدمها أو ما دامت في منابتها. (ثم يعانقها وتعانقه فلا يمل ولا تمل) مللته ومنه بالكسر مللا وملة وملالة سئمته (ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما الجنان المذكورة في الكتاب فإنهن جنة عدن) قال الله تعالى (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) قال القاضي أي وعدها إياهم وهي غايبة عنهم أو وهم غائبون عنها أو وعدهم بإيمانهم الغيب، قيل جنة عدن اسم لمدينة الجنة وهي مسكن الأنبياء والعلماء والشهداء

ص:25

وأئمة العدل والناس سواهم في جنات حواليها، وقيل هي اسم مركب إضافي فالجنة البستان واختلف في عدن فقيل قصر لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل، وقيل هو نهر على حافتيه جنات وبساتين، وقيل عدن اسم للإقامة من عدن بالمكان إذا أقام به، وربما يرجح ذلك بأن الله تعالى وعدها المؤمنين والمؤمنات بقوله (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم). (وجنة الفردوس) قال الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) قال القاضي: الفردوس أعلى درجات الجنة وأصله البستان الذي يجمع الكرم والنخل، وفي القاموس: الفردوس الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، والبستان يجمع كل ما يكون في البساتين تكون فيه الكروم وقد يؤنث، عربية أو رومية أو سريانية. وفي الفائق عن الفراء: الفردوس هو البستان الذي فيه الكرم بلغة العرب. (وجنة نعيم) قال الله تعالى (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) إنكارا لقولهم لو صح ما تقوله لتكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا كذا في تفسير القاضي. (وجنة المأوى) قال الله تعالى (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فهي منزل من خاف المقام بين يدي الرب وصرف النفس عن هواها وزجرها عن مقتضاها. (سبحانك اللهم) أي اللهم إنا نسبحك تسبيحا وننزهك تنزيها من كل ما لا يليق بك.

(من غير أن يكون طلبه منهم أو أمر به) لأن الطلب ولو من الخدم نقص، والله سبحانه أكرمهم ونزههم منه وفهمهم من هذه الكلمة الشريفة مقصده إما بتكرارها أو بالإلهام أو لدلالة تنزيه الرب إلى حاجته إلى الطعام. (تحيتهم فيها سلام يعني الخدام) أشار إلى أن ضمير الجمع راجع إلى الخدام أي يحيونهم بهذا القول وهو السلامة من الآفات والفوز بالسعادات والأمن من الزوال والفناء، والبشارة بالدوام والبقاء، والتحية تفعلة من الحياة أدغمت الياء في الياء والهاء لازمة والتاء زائدة و «أن» في قولهم (أن الحمد لله) مخففة من المثقلة وينبغي أن يعلم أن تسبيح أهل الجنة مما أجمع عليه الأمة ودلت عليه الآيات والروايات من طرق الخاصة والعامة وهذا التسبيح ليس عن تكليف لأن الجنة

ص:26

ليست دار تكليف ولا مشقة عليهم فيه لأن النفس من الضروريات للإنسان ولا مشقة عليه فيه فكذلك تسبيحه تعالى في الجنة لا مشقة فيه أصلا بل هو من أعظم اللذات وسر ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته ومحبته وأبصارهم برؤية جلاله وعظمته ومن أحب شيئا وجد في نفسه لذة بذكره فهو تسبيح تنعم والتذاذ.

* الأصل:

70 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير قال: قيل لأبي جعفر (عليه السلام) وأنا عنده: إن سالم بن أبي حفصة وأصحابه يروون عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج؟ فقال: ما يريد سالم مني أيريد أن أجيء بالملائكة والله ما جاءت بهذا النبيون ولقد قال إبراهيم (عليه السلام): (إني سقيم) وما كان سقيما وما كذب ولقد قال إبراهيم (عليه السلام): (بل فعله كبيرهم هذا) وما فعله وما كذب، ولقد قال يوسف (عليه السلام): (أيتها العير إنكم لسارقون) والله ما كانوا سارقين وما كذب.

* الشرح:

قوله (إن سالم بن أبي حفصة وأصحابه) زيدي بتري من رؤسائهم لعنه الصادق (عليه السلام) وكذبه وكفره مات سنة سبع وثلاثين ومائة في حياته (عليه السلام) (يروون عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج) يعني يقولون إنك تكذب في مطلب واحدا كثيرا وكان ذكر هذا العدد للمبالغة في كثرة الخلاف. (فقال ما يريد سالم مني أيريد أن أجي بالملائكة) ليشهدوا على أني لا أكذب.

(والله ما جاءت بهذا النبيون) لإثبات صدقهم فيما يقولون، وما رووه عني لا يقدح في لأن للكلام وجوها مختلفة، منها أن يقصد المتكلم الأخبار عن الواقع ومنها أن ينوي التقية ومنها أن ينوي التورية ومنها أن ينوي التعريض ومنها أن ينوي إصلاح ذات البين إلى غير ذلك من الوجوه التي لا يعلمها إلا العالم الكامل الماهر ولا يستعملها في مواردها إلا الفاضل البارع الماهر، ثم استشهد لذلك بقول الأنبياء فقال: (ولقد قال إبراهيم (عليه السلام) إني سقيم وما كان سقيما وما كذب) اعتذر (عليه السلام) حين دعوه للخروج معهم لعيدهم فقال إني سقيم وما كان معه سقم معروف عند الناس وما كذب لأنه ورى بهذا القول وأراد خلاف ما فهموا منه ليتخلف منهم ويخلو بأصنامهم ويكسرها كما فعل.

ص:27

وفي تقدير توريته وجوه فقيل: يعني أنه سقيم بحسب القابلية والاستعداد لأن الإنسان معرض للسقم، فورى بهذا اللفظ هذا المعنى المحتمل، وقيل: سقيم لما قدر له من الموت وما يتبعه من مشاهدة أحوال الأخيرة، وقيل: سقيم القلب بما شاهد من كفرهم وترك عبادة الخالق والاشتغال بعبادة الأصنام، وقيل: كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم، فلما رآه اعتذر بعادته وهو معنى قوله تعالى (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) وقيل: عرض بسقم حجته عليهم وضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ويعتقدون أنها تضر وتنفع، ولهذا كرر نظره في ذلك، ويحتمل أن يراد به سقم قلبه خوفا من أن لا تؤثر حجته في قلوبهم كما قال سبحانه (فأوجس في نفسه خيفة موسى) وأن يراد به ما طرأ عليه بإرادة كسر آلهتهم من الخوف في مآل أمره، والأصوب أن يراد به سوء حاله وانكسار قلبه لما رأى من ملاحظة النجوم ما يرد على الحسين (عليه السلام) من المصائب والبلايا، روى ذلك على ابن محمد رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) قال: حسب فرأى ما يحل بالحسين (عليه السلام) فقال إني سقيم لما يحل بالحسين (عليه السلام). (ولقد قال إبراهيم (عليه السلام) بل فعله كبيرهم هذا وما فعله وما كذب) ظن الجاهلون أنه (عليه السلام) كذب وما كذب لأنه لما كسر الأصنام ترك كبيرهم لينسب إليه كسرها ليقطعهم بالحجة فلما رجعوا من عيدهم وجدوها مكسورة فقالوا (من فعل هذا بآلهتنا) فقال بعضهم (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) والمراد بذكره قوله (تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) فلما أحضروه قالوا (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم) أي رجع بعض إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته لحجة خصمه (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) أي في عبادتكم من لا يقدر أن يدفع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره (ثم نكسوا على رؤوسهم) أي رجعوا إلى جهالتهم وضلالتهم (فقالوا لقد علمت..) الآية ووجه عدم الكذب في قوله (بل فعله كبيرهم) أنه من باب التورية والمعاريض حيث علق خبره على شرط نطقه كأنه قال إن كان ينطق فهو فعله على وجه التبكيت لهم وهذا ليس بكذب وداخل في باب المعاريض التي جعلهما الشرع مباحة للتخليص من المكروه والحرام إلى الجايز إصلاحا بين الناس ورفعا لما يضر وإنما الباطل التحيل في إبطال حق أو تمويه باطل وقد ذكرنا زيادة التوضيح في باب الكذب.

ص:28

(ولقد قال يوسف (عليه السلام) أيتها العير إنكم لسارقون) العير الكسر القافلة مؤنثة وهذا القول وإن كان من مناديه (عليه السلام) إلا أنه لما كان بأمره نسب إليه.

(والله ما كانوا سارقين وما كذب) لأنه قال ذلك لإرادة الإصلاح هكذا قالوا، ودلت عليه الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) ويمكن أن يكون من باب التورية بأن يراد بالسارق ضعيف العقل أو الذي خفي عن البصر من سرقت مفاصله كفرح إذا ضعفت أو من سرق الشيء كفرح إذا خفي لا يقال قوله (عليه السلام):

(ما كذب) في المواضع الثلاثة ينافي ما مر في باب الكذب من قول الصادق (عليه السلام): (إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين أحب الخطر فيما بين الصفين وأحب الكذب في الإصلاح وأبغض الخطر في الطرقات وأبغض الكذب في غير الإصلاح، إن إبراهيم (عليه السلام) قال بل فعله كبيرهم هذا إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يفعلون وقال يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح يعني قال يوسف (عليه السلام) أيتها العير إنكم لسارقون لإرادة الإصلاح) ووجه المنافاة نفي الكذب في أحدهما وإثباته في الآخر إلا أنه بين أن هذا النحو من الكذب لا يضر لأنا نقول إطلاق الكذب عليه إنما هو بحسب الظاهر من الكلام لغة ونفيه باعتبار أن له غرضا صحيحا غير ظاهر يتوجه القصد إليه.

ص:29

حديث أبي بصير مع المرأة

* الأصل:

71 - أبان، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: قلت:

نعم، قال: فأذن لها، قال: وأجلسني معه على الطنفسة قال: ثم دخلت فتكلمت فإذا امرأة بليغة فسألته عنهما، فقال لها: توليهما! قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم، قالت: فإن هذا الذي معك على الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما وكثير النوا يأمرني بولايتهما فأيهما خير وأحب إليك؟ قال: هذا والله أحب إلي من كثير النوا وأصحابه، إن هذا يخاصم فيقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).

* الشرح:

قوله (التي قطعها يوسف بن عمر) هو كان والي العراق بعد الحجاج وقاتل زيد بن علي (عليه السلام).

(فقال أبو عبد الله (عليه السلام) أيسرك أن تسمع كلامها) رغبة في سماع كلامها لأن فيه مصلحة عظيمة كما تظهر في آخر الحديث. (وأجلسني معه على الطنفسة) ليظهر على أم خالد أنه معظم موقر عنده (عليه السلام) والطنفسة بكسر الطاء والفاء وبفتحهما وضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس:

البسط والثياب، وحصير من سعف عرضه ذراع وفي كنز اللغة: «گرد بالش كه بر أو نشينند».

(فسألته عنهما) عن الأول والثاني (فقال لهما توليهما) قال ذلك تقية منها لكونها فصيحة متكلمة مع أهل العلم من الخاصة والعامة (وكثير النوى يأمرني بولايتهما) قيل إنه عامي وقيل زيدي وينسب إليه الفرقة البترية من الزيدية لكونه أبتر اليد فسمي التابعون له بترية وهم قائلون بخلافة الثلاثة. (إن هذا يخاصم فيقول ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) يعني يخاصم أبو بصير علماء العامة بأن منطوق الآيات المذكورة دل على أن من حكم حكما ما في قضية من

ص:31

القضايا بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق فكيف من حكم بغيره في وقايع متكثرة وأفتى بالأهواء والآراء كالشيوخ والخلفاء وتابعيهم من العلماء، ومفهومها دل على أنه وجب أن يكون بين الخلق دائما عالم بجميع ما أنزل الله، حاكم به في كل واقعة، غني عن الاجتهاد وأسبابه وليس ذلك بالاتفاق غير علي (عليه السلام).

* الأصل:

72 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضال عن علي ابن عقبة، عن عمر بن أبان، عن عبد الحميد الوابشي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن لنا جارا ينتهك المحارم كلها حتى إنه ليترك الصلاة فضلا عن غيرها؟ فقال: سبحان الله وأعظم ذلك ألا أخبركم بمن هو شر منه؟ قلت: بلى قال: الناصب لنا شر منه، أما إنه ليس من عبد يذكر عنده أهل البيت فيرق لذكرنا إلا مسحت الملائكة ظهره وغفر له ذنوبه كلها إلا أن يجيء بذنب يخرجه من الإيمان، وإن الشفاعة لمقبولة وما تقبل في ناصب وإن المؤمن ليشفع لجاره وماله حسنة فيقول:

يا رب جاري كان يكف عني الأذى فيشفع فيه فيقول الله تبارك وتعالى: أنا ربك وأنا أحق من كافأ عنك فيدخله الجنة وماله من حسنة وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم).

* الشرح:

قوله (فقال سبحان الله وأعظم ذلك) سبحان الله مصدر فعل محذوف وكثيرا ما يقال للتعجب من استماع أمر عظيم وأعظم فعل ماض يقال عظمه وأعظمه إذا فخمه أي عد ترك الصلاة وغيرها أمرا عظيما شنيعا وحمله على اسم التفضيل غير مناسب كما لا يخفى.

(وإن الشفاعة لمقبولة وما تقبل في ناصب) شفاعة الإخراج من النار جائزة عقلا ودلت عليه الأحاديث والآيات مثل قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وغيرها ومنعها الخوارج وحكموا بخلود العاصين في النار لأن المعصية عندهم كفر واحتجوا عليه بقوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وبقوله تعالى (وما للظالمين من حميم) الآية وحملوا الآيات والأحاديث الدالة على الشفاعة على أنها في رفع الدرجات ولا دلالة فيها على ما ذكروه، والآيتان عندنا في الكفار، والمعصية ليست بكفر، وقد دلت عليه تصريح الآيات والروايات. واعلم أن الشفاعات على ما نقله بعضهم خمس:

ص:32

الأولى لتعجيل الحساب، الثانية للإدخال في الجنة بغير حساب، الثالثة لمنع قوم من النار بعد أن استوجبوها، الرابعة لإخراج العاصي من النار، الخامسة لرفع الدرجات، والظاهر من رواياتنا أنه يجوز للمؤمن الشفاعة في جميع تلك المراتب ولا دلالة في آخر هذا الحديث على تخصيصها بالقسم الرابع، وقال بعض العامة: الأوليان خاصتان بالنبي (صلى الله عليه وآله).

(فعند ذلك يقول أهل النار فما لنا من شافعين) يقولون ذلك تحسرا وتحزنا.

* الأصل:

73 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة، عن أبي هارون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لنفر عنده وأنا حاضر: ما لكم تستخفون بنا؟ قال: فقام إليه رجل من خراسان فقال: معاذ لوجه الله أن نستخف بك أو بشيء من أمرك فقال: بلى إنك أحد من استخف بي، فقال معاذ لوجه الله أن أستخف بك، فقال له: ويحك أولم تسمع فلانا ونحن بقرب الجحفة وهو يقول لك: احملني قدر ميل فقد والله أعييت، والله ما رفعت به رأسا ولقد استخففت به ومن استخف بمؤمن فبنا استخف وضيع حرمة الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (مالكم تستخفون بنا) هذا من حسن عشرته (عليه السلام) ورفقه بالأصحاب في أنه لم يواجه ابتداء أحدا باللوم والعيب فقال مالكم، وأما تصريحه ثانيا فلأن الخراساني عرض نفسه في معرض اللوم وفيه تغيير المنكر والحث على الإحسان بالمؤمن، وإن الاستخفاف به استخفاف بالأئمة (عليهم السلام) والاستخفاف بهم استخفاف بالله تعالى.

(فقام إليه رجل من خراسان فقال معاذ لوجه الله أن نستخف بك) معاذ مصدر بمعنى الالتجاء وهو في أكثر النسخ مرفوع واللام بمعنى «إلى» وفي بعضها منصوب واللام بمعنى الباء أي لنا إلتجاء إلى وجه الله وذاته أو أعوذ بوجه الله معاذا من أن نستخف بك.

(ومن استخف بمؤمن فبنا استخف) قال الفاضل الأسترآبادي: لا يقال يلزم من ذلك أن يستخف بالله فيلزم الكفر. لأنا نقول: المراد بالإستخفاف أن لا يعده عظيما كما يعد شرب الخمر عظيما، والمتقي هو الذي يعد الكل عظيما لأن حاكم الكل هو الله تعالى.

* الأصل:

74 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان عن عبد

ص:32

الرحمن بن أبي عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الله عز وجل من علينا بأن عرفنا توحيده، ثم من علينا بأن أقررنا بمحمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة ثم اختصنا بحبكم أهل البيت نتولاكم ونتبرأ من عدوكم وإنما نريد بذلك خلاص أنفسنا من النار، قال: ورققت فبكيت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سلني فوالله لا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به، قال فقال له عبد الملك بن أعين: ما سمعته قالها لمخلوق قبلك.

قال: قلت: خبرني عن الرجلين؟ قال: ظلمانا حقنا في كتاب الله عز وجل ومنعا فاطمة صلوات الله عليها ميراثها من أبيها وجرى ظلمهما إلى اليوم، قال - وأشار إلى خلفه - ونبذا كتاب الله وراء ظهورهما.

* الشرح:

قوله (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) سلني فوالله لا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به) فيه إشارة إلى كمال علمه (عليه السلام) وتكرمه لعبد الرحمن. قال الفاضل المذكور: لما علم (عليه السلام) أن قصده من إظهار الإخلاص ظهور الأذن منه بالسؤال وأن يجيبه من غير تقية قال (عليه السلام) سلني.

(ونبذا كتاب الله وراء ظهورهما) لا يبعد أن يكون هذا كناية عن بعدهما من كتاب الله وعدم العمل بما فيه والتوجه إليه لأن من جعل شيئا وراء ظهره يلزمه أن لا يكون متوجها إليه وأن يبعد عنه.

* الأصل:

75 - وبهذا الإسناد، عن أبان، عن عقبة بن بشير الأسدي، عن الكميت بن زيد الأسدي قال:

دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: والله يا كميت لو كان عندنا مال لأعطيناك منه ولكن لك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنا.

قال: قلت: خبرني عن الرجلين قال: فأخذ الوسادة فكسرها في صدره، ثم قال: والله يا كميت ما أهريق محجمة من دم ولا أخذ مال من غير حلة ولا قلب حجر عن حجر إلا ذاك في أعناقهما.

* الشرح:

قوله (ولكن لك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنا) ظاهره أن روح القدس قد ينبعث في بعض الأوقات في روع غير الأئمة (عليهم السلام) وكان كميت شاعرا فصيحا مادحا للأئمة (عليهم السلام) كما كان حسان مادحا للنبي (صلى الله عليه وآله) وهو حسان بن ثابت بن المنذر ابن عمرو بن النجار الأنصاري يكنى أبا الوليد وقيل أبا عبد الرحمن وقيل أبا الحسام.

ص:33

قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر رسول الله في النبوة، وشاعر العرب كلها في الإسلام. وقال أيضا: اجتمعت العرب كلها على أنه أشعر أهل المدن. وقال الأصمعي: حسان أشعر أهل الحضر، وقيل لحسان: لان شعرك في الإسلام، يا أبا الحسام. فقال: إن الإسلام يحجز عن الكذب، يعني أن الشعر لا يحسنه إلا الإفراط في الكذب والتزيين به، والإسلام يمنع من ذلك. وقال أيضا: ما يجود شعر من يتقي الكذب. توفى سنة أربعين في خلافة علي (عليه السلام)، وقيل: سنة خمسين، وقيل: أربع وخمسين، ولم يختلفوا أنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام، وكذلك عاش أبوه وجده، وأدرك النابغة الجعدي والأعشى، وأنشدهما من شعره وكلاهما استجادا شعره. ومعنى الذب: الدفع، وقد كان نفر من قريش يهجون النبي (صلى الله عليه وآله) كابن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاص وضرار بن الخطاب وكان حسان يدفعهم ويرد عليهم فتركوا هجوه خوفا منه، فكان هو ناصر النبي (صلى الله عليه وآله) بالسنان واللسان، والمراد بروح القدس جبرئيل (عليه السلام) والمراد بكونه معه ما دام الذب على سبيل الإمداد بالإلهام والتذكير والإعانة.

(والله يا كميت ما أهريق محجمة من دم..) المحجم والمحجمة بكسرهما ما يحجم به، وحرفته الحجامة بالكسر، ولعل المراد إهراق مقدارها من الدم ظلما، وتغليب حجر عن حجر كناية عن الشدائد، أو عن إزالة الحق عن مركزه، والمقصود أن جميع المفاسد إلى يوم القيامة في أعناقهما لأنهما منشأ لها، ولولا فسادهما في الدين لشاع العدل وارتفع الجور واستقام نظام الخلق.

* الأصل:

76 - وبهذا الإسناد، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي العباس المكي قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن عمر لقي عليا صلوات الله عليه فقال له: أنت الذي تقرأ هذه الآية (بأيكم المفتون) وتعرض بي وبصاحبي؟ قال: فقال له: أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أمية: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) فقال: كذبت، بنو أمية أوصل للرحم منك ولكنك أبيت إلا عداوة لبني تيم وبني عدي وبني أمية.

* الشرح:

قوله (إن عمر لقي عليا (عليه السلام) فقال له: أنت الذي تقرأ هذه الآية (فستبصر ويبصرون * بأيكم

ص:34

المفتون)) أي بأيكم فتن بالسفاهة والجهالة وإنكار الحق. قال القاضي: أيكم فتن بالجنون، والباء زائدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمقتول والمجلود، أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم. (تعرض بي وبصاحبي) التعريض خلاف التصريح، تقول: عرضت لفلان وبفلان، إذا قلت قولا وأنت تعنيه، فكأنك أشرت إلى جانب وتريد جانبا آخر.

(فقال أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أمية) أي في ذم أعمالهم وأفعالهم وتقبيح عقايدهم وأحوالهم صريحا (فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) «عسى» للترجي، وإلحاق الضمير به جايز عند أهل الحجاز، و «أن تفسدوا» خبره. (وإن توليتم) اعتراض أي فهل يتوقع منكم إن توليتم أمور الناس وتأمرتم عليهم أو إن توليتم وأعرضتم عن الإسلام أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم تشاجرا على الولاية وتجاذبا لها أو رجوعا إلى ما كنتم في الجاهلية من مقاتلة الأقارب وغيرها، والمعنى: أنكم لضعفكم في الدين وحرصكم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منكم من عرف حالكم، كذا ذكره القاضي وغيره. (فقال كذبت، بنو أمية أوصل للرحم منك) تكذيب الفاسق له باعتبار أنه (عليه السلام) قتل كثيرا من أقاربه في الجهاد.

* الأصل:

77 - وبهذا الإسناد، عن أبان بن عثمان، عن الحرث النصري قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (الذين بدلوا نعمة الله كفرا) قال: ما تقولون في ذلك؟ قلت: نقول: هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، قال: ثم قال: هي والله قريش قاطبة إن الله تبارك وتعالى خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال إني فضلت قريشا على العرب وأتممت عليهم نعمتي وبعثت إليهم رسولي فبدلوا نعمتي كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.

* الشرح:

قوله (قلت تقول هم الأفجران من قريش) الظاهر أن المراد بهما الأول والثاني (وأن قوله بني أمية وبنو المغيرة) خبر بعد خبر بلا عاطف، وكونه بدلا بعيد. (ثم قيل هي والله قريش قاطبة) أي جميعهم، ونصبها على المصدر أو الحال، والمراد بقريش من لم يؤمن منهم.

ص:35

(فقال إني فضلت قريشا على العرب) ومما يؤيد ذلك ما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «الناس تبع لقريش في الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم» وعنه أيضا «الناس تبع لقريش في الخير والشر» قال بعضهم: إنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب وأصحاب حرم الله، وكانت الجاهلية تنتظر إسلامهم كلما أسلموا اتبعهم الناس وجاء وفود العرب من كل جهة، وكذلك حكمهم في الإسلام في تقديمهم للخلافة، وهذا هو الحكم ما بقي من الدنيا وبقي من الناس ومن قريش اثنان هذا كلامه. أقول يدل على هذا أيضا ما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» ثم عين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصيه وخليفته والأحاديث الدالة على ذلك من الطرفين أكثر من أن تحصى وهم مع ذلك (بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم) لما أحدثوا يوم السقيفة، كما أشار إليه بقوله. (فبدلوا نعمتي كفرا) النعمة الرسالة والولاية، وتبديل كل واحدة منهما بالكفر مستلزم لتبديل الأخرى به. (وأحلوا قومهم دار البوار) بار الشئ يبور بورا بالضم: هلك، والبوار: الهلاك.

* الأصل:

78 - وبهذا الإسناد، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: إن الناس لما كذبوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) هم الله تبارك وتعالى بهلاك أهل الأرض إلا عليا فما سواه بقوله (فتول عنهم فما أنت بملوم) ثم بدا له فرحم المؤمنين، ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

* الشرح:

قوله (قالا إن الناس لما كذبوا برسول الله (صلى الله عليه وآله)) أي بما جاء به، أو الباء زائدة، يقال كذب بالأمر تكذيبا: أنكره، وكذب فلانا جعله كاذبا.

(هم الله تبارك وتعالى) أي أراد إرادة غير حتمية (بهلاك أهل الأرض) ممن بلغت إليه الدعوة أو مطلقا (إلا عليا فما سواه) ممن آمن كخديجة حيث لم يؤمن غيرهما قريبا من خمس سنين.

وجعل ما سواه تفسيرا للمستثنى منه مبالغة في شمول الهلاك لغير علي (عليه السلام) بعيد لفظا ومعنى بقوله (فتول عنهم) أي فأعرض عنهم بعد ما بلغت وأصروا على الإنكار (فما أنت بملوم) على

ص:36

الإعراض عنهم بعد بذل الجهد في التبليغ، والأمر بالإعراض ليس إلا للغضب عليهم وإرادة هلاكهم (ثم بدا له فرحم المؤمنين) الذين علم الله تعالى أنهم يؤمنون به، والبداء في حقه تعالى عبارة عن إرادة حادثة وفي حق غيره عبارة عن ظهور الشيء بعد الخفاء، وبالجملة: المنكرون استحقوا الهلاك بسبب الإصرار على الإنكار، واستحقوا البقاء لمن في أصلابهم ممن قدر الله تعالى إيمانه، فرجح الثاني ترحما على المؤمنين (ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله) فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذين علم الله تعالى إيمانهم إلى قيام الساعة.

* الأصل:

79 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء، عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يحدث في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وحدثني أبي أنه سمع أباه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) يحدث الناس قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم غرلا بهما جردا مردا في صعيد واحد يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر فيركب بعضهم بعضا ويزدحمون دونها فيمنعون من المضي، فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم وتضيق بهم أمورهم ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم قال: وهو أول هول من أهوال يوم القيامة، قال: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق أنصتوا واستمعوا منادي الجبار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم قال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك وتخشع أبصارهم وتضطرب فرائصهم وتفزع قلوبهم ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت (مهطعين إلى الداع) قال: فعند ذلك (يقول الكافر هذا يوم عسر) قال: فيشرف الجبار عز وجل الحكم العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقه ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات وأثيب على الهبات ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولأحد عنده مظلمة إلا مظلمة يهبها صاحبها وأثيبه عليها وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا وأنا شاهد لكم عليهم وكفى بي شهيدا.

قال: فيتعارفون ويتلازمون فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حق إلا لزمه بها، قال: فيمكثون ما شاء الله فيشتد حالهم ويكثر عرقهم ويشتد غمهم وترتفع أصواتهم بضجيج شديد فيتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها، قال: ويطلع الله عز وجل على جهدهم فينادي مناد من عند

ص:37

الله تبارك وتعالى - يسمع آخرهم كما يسمع أولهم -: يا معشر الخلائق أنصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا إن الله تبارك وتعالى يقول] لكم [: أنا الوهاب إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم قال: فيفرحون بذلك لشدة جهدهم وضيق مسلكهم وتزاحمهم قال: فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلصوا مما هم فيه ويبقى بعضهم فيقول:

يا رب مظالمنا أعظم من أن نهبها قال: فينادي مناد من تلقاء العرش أين رضوان خازن الجنان - جنان الفردوس - قال: فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصرا من فضة بما فيه من الأبنية والخدم. قال: فيطلعه عليهم وفي حفافة القصر الوصائف والخدم قال: فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال فيرفعون رؤوسهم فكلهم يتمناه. قال فينادي مناد من عند الله تعالى: يا معشر الخلائق هذا لكل من عفا عن مؤمن؟ قال: فيعفون كلهم إلا القليل، قال: فيقول الله عز وجل لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم ولأحد من المسلمين عنده مظلمة حتى يأخذها منه عند الحساب، أيها الخلائق استعدوا للحساب.

قال: ثم يخلي سبيلهم فينطلقون إلى العقبة يكرد بعضهم بعضا حتى ينتهوا إلى العرصة والجبار تبارك وتعالى على العرش قد نشرت الدواوين ونصبت الموازين وأحضر النبيون والشهداء وهم الأئمة يشهد كل إمام على أهل عالمه بأنه قد قام فيهم بأمر الله عز وجل ودعاهم إلى سبيل الله قال: فقال له رجل من قريش يا ابن رسول الله إذا كان للرجل المؤمن عند الرجل الكافر مظلمة، أي شيء يأخذ من الكافر وهو من أهل النار؟ قال: فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام): يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له على الكافر فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره عذابا بقدر ما للمسلم قبله من مظلمة قال: فقال له القرشي: فإذا كانت المظلمة للمسلم عند مسلم كيف تؤخذ مظلمته من المسلم؟ قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حق المظلوم فتزاد على حسنات المظلوم، قال: فقال له القرشي: فإن لم يكن للظالم حسنات؟ قال إن لم يكن للظالم حسنات فإن للمظلوم سيئات يؤخذ من سيئات المظلوم فتزاد على سيئات الظالم.

* الشرح:

قوله (قال إذا كان يوم القيامة بعث الله تعالى الناس من حفرهم غرلا بهما جردا مردا) روي من طريق العامة عنه (عليه السلام) أيضا «أنه يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما جردا مردا» قال

ص:38

الأبي في كتاب إكمال الإكمال الأظهر أن مقام التكرمة يقتضي عدم حشر الأنبياء كذلك، انتهى، وقد ذكر (عليه السلام) هنا لأهل المحشر أربع صفات الأولى أنهم غرل بالراء المهملة بعد الغين المعجمة المضمومة جمع أغرل، قال عياض بن الأثير: الأغرل الأغلف، والغرلة الغلفة، وقال المازري: الأغلف غير المختون، والغلفة الجلدة التي تزال في الختان، والمعنى أنهم يحشرون غير مختونين، والقصد أنهم يحشرون كما خلقوا أولا لا يفقدون شيئا حتى الغلفة تكون معهم، انتهى.

ويمكن أن يقرأ عزلا بالزاي المعجمة بعد العين المهملة جمع أعزل وهو المنفرد المنقطع، والقصد أنهم يحشرون فريدا وحيدا.

الثانية أنهم بهم، قال ابن الأثير فيه: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهما» البهم جمع بهيم، وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواء يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا كالعمى والعور والعرج وغير ذلك وإنما هي أجساد مصححة لخلود الأبد في الجنة أو النار، وقال بعضهم: روي في تمام الحديث.

(قيل: وما البهم؟ قال ليس معهم شيء) يعني من أعراض الدنيا وهذا يخالف الأول من حيث المعنى، الثالث والرابعة أنهم جرد مرد جمع أجرد وأمرد، والأجرد الذي لا شعر على بدنه، والأمرد الذي لا شعر على وجهه.

(في صعيد واحد) قيل: الصعيد ما استوى من الأرض، وعن الفراء: هو التراب، وعن ثعلب: هو وجه الأرض، والمراد به هنا الأرض المستوية التي لا عوج فيها ولا أمتا.

(يسوقهم النور ويجمعهم الظلمة) كأن المراد بالنور الإيمان وتوابعه من العبادات لأنها أنوار تسعى بين يدي صاحبها يوم القيامة وهم يمشون على أثرها، وبالظلمة الكفر والشرك ولواحقهما من المعاصي، ونسب الجمع إلى الظلمة لأنها سبب لحيرتهم واجتماعهم فكأنها جمعتهم كما هو شأن الضالين عن الطريق يتحيرون ويجتمعون، ويمكن أن يراد بالنور معناه الحقيقي، وبالظلمة زوال النور، فإذا ظهر النور مشوا، وإذا زال اجتمعوا وسكنوا.

(حتى يقفوا على عقبة المحشر) في المحشر عقبات مخوفة ومنازل مهولة هي عقبات الفرائص ومنازل الأخلاق سمي عقبة لشدة المرور عليها والتخلص من شدايدها، وإليها أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإن أمامكم عقبة كؤدا - أي شاقة - ومنازل مخوفة لابد من الورود عليها والوقوف عندها) أراد بها (عليه السلام) منازل الآخرة ومقامات النفوس في السعادة والشقاوة والأهوال الأخروية، وظاهر أنه لابد من ورود تلك المنازل والوقوف عندها إلى حين عبورها خصوصا أصحاب الأعمال القبيحة والملكات الردية والعلائق البدنية فإن

ص:39

وقوفهم بها أطول وشدايدهم فيها أهول ومرورهم عليها أشق وأشكل، ولعل المراد بتلك العقبة عقبة الإيمان ومظالم الخلق، كما يرشد إليه قوله فيما بعد: (يقول الكافر هذا يوم عسر) وقوله (ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولأحد عنده مظلمة) فالكفار في هذه العقبة يسلكون طريق جهنم ومن عنده من المسلمين مظلمة لأحد ولم يقع العفو من المظلوم لم يدخل الجنة حتى يخرج من عهدتها عند الحساب كما سيصرح به ومنه يظهر سر ما مر من أن نشر الدواوين ونصب الموازين إنما هو لأهل الإسلام دون المشركين (فيركب بعضهم بعضا) لكثرتهم وضيق مسلكهم (ويزدحمون دونها) أي يدفع بعضهم بعضا. يقال: زحمه الناس إذا دفعوه في مضيق.

(فيمنعون من المضي) لازدحامهم عما هو المطلوب منهم في تلك العقبة فيمنعون (فتشتد أنفاسهم ويكثر عرقهم) في كتاب مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق كمقدار ميل فيكون للناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما» وأشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فيه. وفي رواية أخرى قال: «إن العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم». قال عياض: يحتمل أنه عرق نفسه بقدر خوفه لما شاهد من الأهوال ويحتمل أنه عرق نفسه وعرق غيره يختلط ويصير لكل بقدر عمله، وهذا الازدحام وانضمام بعضهم إلى بعض حتى يصير العرق بينهم سايحا على وجه الأرض.

وقال القرطبي: العرق للزحام ودنو الشمس حتى تغلى منها الرؤوس وحرارة الأنفاس. فإن قيل:

لزم أن يسبح الجميع فيه سبحا واحدا ولا يتفاضلون في القدر، قيل يزول هذا الاستبعاد بأن يخلق الله تعالى في الأرض التي تحت كل أحد ارتفاعا بقدر عمله فيرتفع العرق بقدر ذلك.

وجواب ثان وهو أن يحشر الناس جماعات متفرقة فتحشر من بلغ كعبيه إلى جهة ومن بلغ حقويه في جهة، انتهى.

(قال فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة) العرش يطلق على معان ولعل المراد منه الجسم المحيط أو العرش الذي هو مطاف الملائكة، والظلال جمع الظل وهو من كل شيء شخصه ومن بيان لها، والإشراف على الشيء الاطلاع عليه من فوق وهو يستلزم العلم به على وجه الكمال، وإذا نسب إليه تعالى يراد به هذا اللازم أو هو تمثيل، وكونه فوق العرش وفي ظلال من الملائكة صحيح لأنه فوق كل شيء بالعلية والشرف والرتبة والاستيلاء، وفي كل شيء بالعلم المحيط به لا كدخول غيره في شئ، وخصهما بالذكر لشرفهما ودلالتهما على

ص:40

العلو وإشعارهما بأن أمره تعالى جاء من الأعلى إلى الأسفل كما هو مقتضى العادة.

(وتخشع أبصارهم) بغضها وإرخاء أجفانها (وتضطرب فرايصهم) في النهاية: الفريصة اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها لا تزال ترعد، وأراد بها أصل الرقبة وعروقها لأنها هي التي تثور عند الغضب والخوف وفي الفايق الفريصة لحمة عند منبض القلب ترتعد وتثور عند الفزع والخوف والغضب.

(مهطعين إلى الداع) الإهطاع: الإسراع في العدو، وأهطع أيضا: إذا مد عنقه وصوب رأسه أي نكسه (يقول الكافر هذا يوم عسر) (على الكافرين غير يسير) (1) (فيقول أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور) الموصول صفة للكشف والإيضاح مع احتمال الاحتراز لأن العدل من الناس قد يجور، ولعل الغرض من هذا القول مع وضوحه في ذلك اليوم هو التصريح بأنه لا حكم فيه إلا هو والتنبيه بزهوق آلهة اتخذوها في الدنيا وقطع طمعهم عن ملجأ سواه وبه يحصل زيادة انبساط للمؤمن وزيادة اغتمام للكافر.

(اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي) القسط بالكسر: العدل، فالعطف للتأكيد والتقرير، والإضافة للدلالة على كمال المضاف، وتخصيص اليوم بالذكر مع أنه سبحانه حاكم عادل أزلا وأبدا لزيادة الاعتناء بإظهار العدل فيه ولأن آثار العدل في ذلك اليوم أظهر وأقوى من آثاره في غيره إذ ربما يخطر في قلب بعض الظلمة والفسقة انتفاء عدله في الأحكام الدنيوية لعدم علمهم بالمصالح الكلية والجزئية بخلاف الحكم الأخروي فإنه في الظهور إلى حد يعرف كل أحد أنه حق.

(ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات) ينتقل حسنات الظالم إلى المظلوم وسيئات المظلوم إلى الظالم حتى يتم الوفاء كما سيجيء. والمظلمة بكسر اللام: ما تطلبه عند الظالم وهو اسم ما أخذ منك.

(وأثيب على الهبات) فيه ترغيب في الهبة والتجاوز عن جرائم صاحبه وفيه رجاء تام لمن قصر في حقوقه تعالى.

(ولا حد عنده مظلمة) لظاهر أنه حال عن ظالم وجعله وصفا له، والواو لزيادة الارتباط والاتصال، بعيد.

(إلا مظلمة يهبها صاحبها وأثيبه عليها) أي أثيب الصاحب على الهبة.

(وآخذ له بها عند الحساب) الظاهر أن قوله «وآخذ» عطف على «يهبها» لا على أثيبه إذ لا أخذ

ص:41


1- (1) «يقول الكافر هذا يوم عسر» في سورة القمر: 8 و «على الكافرين غير يسير» في سورة المدثر: 10.

بعد الهبة، ولعل المراد أنه لا يجوز هذه العقبة ظالم إلا إذا وهب له المظلوم أو استحق دخول الجنة بعد الأخذ منه عند الحساب وأما غيرهما فيسلك هناك مسلك النار.

(فيتعارفون ويتلازمون) أما لأنهم متقاربون في ذلك المكان فيحصل التعارف والتلازم بسهولة أو لأن التباعد في ذلك اليوم لا يمنع منهما (فلا يبقى أحد له أحد مظلمة أو حق إلا لزمه بها) هكذا في بعض النسخ وفي أكثرها «فلا يبقى لأحد» والظاهر أن اللام زائدة أو أن مظلمة فاعل لقوله «فلا يبقى» على سبيل التنازع بينه وبين الابتداء فليتأمل.

(إن الله تبارك وتعالى يقول أنا الوهاب) في وصف نفسه بهذه الصفة تنبيه على كمالها وترغيب للناس في اختيارها ليتصفوا بها ويتوقعوا أهبته عما قصروه في حقه.

(قال فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصرا) أي يظهره من أشراف إلى انحدار من طلع الكوكب والشمس إذا ظهر، وحفافة القصر بالكسر جانبه (حتى يأخذها منه عند الحساب) فإذا بقي بعده حسنات دخل الجنة.

(أيها الخلائق استعدوا للحساب) يحتمل أن يكون من كلامه - عز وجل - في ذلك المقام وأن يكون من كلامه (عليه السلام). أمر بالاستعداد في الدنيا لحساب الآخرة فإن ذلك يوجب سلب المفاسد وجلب المنافع حتى يرد على القيامة ولا حساب عليه إذ أدى حسابه في الدنيا (فينطلقون في العقبة) الظاهر أنها العقبة المذكورة (يكرد بعضهم بعضا) الكرد: السوق والطرد، وفي النهاية كرد القوم:

صرفهم وردهم، وفي الكنز «كرد راندن» (حتى ينتهوا إلى العرصة) عرصة الدار: ساحتها وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء، والجمع عرصات والمراد بها هنا عرصة القيامة وهي عرصة يجتمع فيها الخلائق للحساب.

(والجبار تبارك وتعالى على العرش) قد مر تفسيره سابقا، ويمكن أن يراد به هنا العلم بجميع الموجودات، سمي عرشا لاستقرارها فيه، والغرض من ذكره هو الإشعار بأنه تعالى عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء منها وإنما نشر الدواوين ونصب الموازين وشهادة الأنبياء والأوصياء ليظهر على الخلق حالاتهم التي كانوا عليها حتى لا يكون لهم حجة ولا معذرة ولا محل إنكار، ومر أيضا تفسير الدواوين والموازين سابقا.

(فيعذب الكافر بها) دل على أن الكافر معذب بالفروع أيضا.

(قال يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حق المظلوم فتزاد على حسنات المظلوم) هذا الظالم على نفسه وعلى غيره هو المفلس والفقير في الحقيقة كما دلت عليه الرواية، وفيه دلالة على عدم الإحباط لأنه أثبت أن له حسنات مع اقترافه المظالم والمعاصي، اللهم إلا أن يقال

ص:42

أحبطت سيئاته من حسناته بقدر ما يقابلها فبقى الباقي من الحسنات بلا معارض.

لا يقال قوله «تؤخذ من سيئات المظلوم فتزاد على سيئات الظالم» مناف لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

لأنا نقول هذا غلط وجهالة بينة لأنه إنما عوقب بفعله ووزره لأن العدل يقتضي وقوع المقابلة والموازنة بين الظالم والمظلوم، فأخذ الحسنات وطرح السيئات نوع من الموازنة ونحو من المعاوضة والعقوبات للظالمين وزيادة في ثواب المظلومين وليس من باب أنه مأخوذ ومعذب بذنب لم يعمله من ذنوب غيره ولم يكن مستحقا له أصلا ويقرب ما روي من أن «من ابتدع بدعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» وقوله تعالى حكاية (إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك) فليتأمل.

ص:43

[في حب الأئمة]

* الأصل:

80 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي بن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبي أمية يوسف بن ثابت بن أبي سعيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهم قالوا حين دخلوا عليه: إنما أحببناكم لقرابتكم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما أوجب الله عز وجل من حقكم، ما أحببناكم للدنيا نصيبها منكم إلا لوجه الله والدار الآخرة وليصلح لامرىء منا دينه.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صدقتم صدقتم، ثم قال: من أحبنا كان معنا أو جاء معنا يوم القيامة هكذا - ثم جمع بين السبابتين - ثم قال: والله لو أن رجلا صام النهار وقام الليل ثم لقي الله عز وجل بغير ولايتنا أهل البيت للقيه وهو عنه غير راض أو ساخط عليه. ثم قال: وذلك قول الله عز وجل: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ثم قال: وكذلك الإيمان لا يضر معه العمل وكذلك الكفر لا ينفع معه العمل ثم قال:

إن تكونوا وحدانيين فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحدانيا يدعو الناس فلا يستجيبون له وكان أول من استجاب له علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

* الشرح:

قوله (في حب الأئمة (عليهم السلام))] عنوان و [ليس هذا في أكثر النسخ.

(ثم قال وذلك) أي عدم قبول العمل والسخط على العامل وعدم الرضا عنه إذا لم يكن من أهل الولاية والإيمان (قول الله عز وجل) حيث دل على أن كل من دخل في الدين وكفر بالله وبرسوله بإنكار أمر من أمور الدين وحكم من أحكامه كان مسخوطا وعمله غير مقبول وأعظم ذلك الأمر هو الأمر بالولاية.

(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) دل على أن كفرهم بهما مانع من قبول نفقاتهم (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) أي متثاقلين في فعلها لعدم اعتقادهم بفضلها

ص:44

(ولا ينفقون إلا وهم كارهون) لأنهم يعدونه بمنزلة الإتلاف ولا يعتقدون بفضل الإنفاق فلا يرجون بفعله ثوابا ولا يخافون بتركه عقابا (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) فإنها وبال عليهم واختبار واستدراج ليكمل بها عقولهم عن الآخرة فيأخذهم بغتة كما قال (إنما يريد الله ليعذبهم في الحياة الدنيا) بسبب ما يتحملون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدايد والمصائب (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) بالله ورسوله واليوم الآخر. والزهوق: الخروج بصعوبة، كذا ذكر القاضي وغيره.

(وكذلك الإيمان لا يضر معه العمل، وكذلك الكفر لا ينفع معه العمل) مر تفسير هذا بعينه في آخر كتاب الإيمان والكفر، ولعل المراد بالعمل الأول العمل الحقير القليل وبالعمل الثاني العمل العظيم الكثير فإن قليل العمل مع الإيمان مقبول وكثير العمل مع الكفر غير مقبول، ويحتمل أن يراد بالضرر الضرر الموجب للخلود في النار، وبالنفع النفع الموجب للدخول في الجنة.

ومما يدل على أنه لابد في هذا الخبر من التأويل ما روي عن محمد بن مارد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) حديث روى لنا أنك قلت إذا عرفت «يعني الولاية» فاعمل ما شئت، فقال: «قد قلت ذلك» قال: قلت: وإن زنوا وسرقوا أو شربوا الخمر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ما أنصفونا أن يكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم إنما قلت إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره فإنه يقبل منك).

(ثم قال: إن تكونوا وحدانيين فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحدانيا يدعو الناس فلا يستجيبون له) في النهاية الوحداني: المفارق للجماعة المنفرد بنفسه وهو منسوب إلى الوحدة، الانفراد بزيادة الألف والنون أي أن تكونوا منفردين قليلين فاصبروا ولا تحزنوا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع شرف ذاته وكمال صفاته كان وحدانيا يدعو الناس إلى الحق بالبراهين الساطعة والمعجزات اللامعة فلا يستجيبون له جهالة أو حسدا أو حبا للدنيا، وفيه تسلية للشيعة في قلتهم ودفع لتوهم من ضعف عقله أن الحق مع الكثرة لعدم تفطنه بأن أكثر الناس في أكثر الأزمنة كانوا كافرين خارجين عن دين الحق، وقد مر التصريح بذلك في أول كتاب الأصول.

(وكان أول من استجاب له علي بن أبي طالب (عليه السلام)) أشار إلى أنه (عليه السلام) أول من أسلم من الذكور، والروايات عندنا وعندهم في ذلك متظافرة، والظاهر أنه لا ينكره أحد إلا أن بعض النواصب قال:

إسلامه لم يكن معتبرا لكونه قبل البلوغ.

وأجيب عنه: أولا بأنا لا نسلم ذلك، ومستنده وجوه، منها: رواية شداد بن أوس، قال: سألت خباب بن الأرت عن سن علي بن أبي طالب يوم أسلم؟ قال: أسلم وهو ابن خمسة عشر سنة وهو

ص:45

يومئذ بالغ مستحكم البلوغ، ومنها ما رواه أبو قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن خمسة عشر سنة، ولو سلم فلا يتصور الكفر في حقه إذ كان مولودا على الفطرة فمعنى الإسلام إذن دخوله في طاعة الله ورسوله والاستسلام لأوامرهما، فالإيمان الحاصل له وارد على نفس قدسية لم يتدنس بأدناس جاهلية وعبادة الأصنام والعقائد الباطلة المتضادة للحق التي صارت ملكات في نفس من أسلم بعد علو السن وشرب الخمر والشرك بالله، فكان إسلامه أشرف وأكمل من إسلام غيره، وكانت غاية حال الغير أن يمحوا بالرياضة من نفوسهم الآثار الباطلة والملكات الردية فأين أحدهما من الآخر.

(وقد قال رسول الله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) دل على أنه (عليه السلام) وزيره وخليفته بلا فصل في حياته وبعد وفاته وأن له جميع خصال هارون بالنسبة إلى موسى بقرينة استثناء خصلة واحدة وهي النبوة، فالقول بالفصل وتخصيص خلافته بحال حياة النبي (صلى الله عليه وآله) لا وجه له وقد مر توضيح ذلك. آنفا.

* الأصل:

81 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لعباد بن كثير البصري الصوفي: ويحك يا عباد غرك أن عف بطنك وفرجك إن الله عز وجل يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم) اعلم أنه لا يتقبل الله منك شيئا حتى تقول قولا عدلا.

* الشرح:

قوله (ويحك يا عباد غرك أن عف بطنك وفرجك) فظننت أنك من أهل النجاة، وعفتهما هي التحرز عن الحرام أو الاكتفاء بقدر الضرورة أو ما دونه من الحلال وهي لا تنفع إلا مع الإقرار بالولاية لأهلها كما أشار إليه بقوله (إن الله عز وجل يقول في كتابه يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) في فعل المنهيات كلها (وقولوا قولا سديدا) هو القول الحق المعرى عن الباطل (يصلح لكم أعمالكم) بقبولها والإثابة عليها.

(اعلم أنه لا يتقبل الله عز وجل منك شيئا) من الأعمال وإن اشتملت على جهات الكمال (حتى تقول قولا عدلا) لما كانت لفظات لسان العباد وأغلاط أقواله كثيرة، منها إنكار الولاية للأئمة الطاهرين (عليهم السلام) نبهه (عليه السلام) بأن تزهده وأعماله لا تنفعه بدون أن يستقيم لسانه ويقول قولا عدلا

ص:46

مستقيما وهو الإقرار بالولاية.

* الأصل:

82 - يونس، عن علي بن شجرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لله عز وجل في بلاده خمس حرم:

حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرمة آل رسول الله صلى الله عليهم وحرمة كتاب الله عز وجل وحرمة كعبة الله وحرمة المؤمن.

* الشرح:

قوله (قال: لله عز وجل في بلاده خمس حرم.. الخ) الحرمة بالضم وبضمتين وكهمزة: ما لا يحل انتهاكه والذمة والمهابة والنصيب ومن يعظم حرمات الله أي ما وجب القيام به وهي الحقوق المقررة شرعا، ومن حقوق الرسول على الأمة هو التصديق به وبما جاء به، والحب له إلى غير ذلك، ومن حقوق آل الرسول أن يؤمن بهم وبولايتهم والاتباع لهم في العقائد والأعمال والأقوال وأن يحبهم، وقس عليه البواقي فإن تفصيل الحرمات والحقوق يوجب الإطناب.

* الأصل:

83 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن محمد بن القاسم، عن علي بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إذا بلغ المؤمن أربعين سنة آمنه الله من الأدواء الثلاثة: البرص والجذام والجنون، فإذا بلغ الخمسين خفف الله عز وجل حسابه، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين أمر الله عز وجل باثبات حسناته وإلقاء سيئاته فإذا بلغ التسعين غفر الله تبارك وتعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكتب أسير الله في أرضه، وفي رواية أخرى: فإذا بلغ المائة فذلك أرذل العمر.

* الشرح:

قوله (إذا بلغ المؤمن أربعين سنة آمنه الله) أي غالبا (من الأدواء الثلاثة البرص والجذام والجنون) البرص بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج، والجذام كغراب: علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء أو هيئاتها وربما انتهى إلى أكلها وسقوطها، والجنون معروف سمي به لأنه يستر العقل ويزيله (فإذا بلغ الخمسين خفف الله تعالى حسابه) أي يسامحه في حساب يوم القيامة ويساهله في كثير من أموره ولا يشدد عليه (فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة) أي الرجوع إلى الله فيرغب في الطاعة ويندم من المعصية ويداوم ذكر الله تعالى.

ص:47

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه ابن آدم ستون سنة» يقال أعذر إليه أي بلغ به أقصى العذر قيل: معناه من عمره الله تعالى ستين سنة لم يبق له عذر في الرجوع إلى الله سبحانه بطاعته في مدة هذه المهلة وما يشاهد فيها من الآيات والعبرة مع ما أرسل إليه من الإنذار والتذكير، وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه «لينادي مناد من قبل الله عز وجل أبناء الستين أولم يعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير» (فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء) فيذكرون له بالخير ويدعون له ويستغفرون لذنوبه.

(فإذا بلغ الثمانين أمر الله تعالى بإثبات حسناته وإلقاء سيئاته) لا يخفى أن الإتيان في هذا السن بالسيئات أشنع والمخالفة للرب أقبح وأفظع ولكنه تعالى يرحمه لضعفه وعجزه فيأمر بإلقاء سيئاته لئلا يخجله على رؤوس الأشهاد ولا يشهره عند المقربين تفضلا عليه، ولعل هذا في بعض الأشخاص أو في بعض السيئات وإلا فقد مر في كتاب الأصول «إن الله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى شيخ زان».

(فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) كان المراد بالذنوب الصغائر من حق الله تعالى مع احتمال الكبائر أيضا، وبالمتأخر الذنب الذي يفعله في هذا السن.

(وكتب أسير الله في أرضه) سمي أسيرا لأنه أسره قضاء الله فأخرجه من موطنه الأصلي وحبسه في دار الغربة مدة طويلة وعذبه بهواء النفس وإغواء الشيطان فهو محل الترحم (وفي رواية أخرى فإذا بلغ المائة فذلك أرذل العمر) للعمر - وهو زمان بقاء كل شخص - مراتب في القوة والضعف والتوسط، وأضعف المراتب وأرذلها مائة سنة فصاعدا لأن العمر حال الطفولية وإن كان ضعيفا لكنه في مقام الترقي لقبول الكمال بخلاف مائة سنة فإنه في غاية الضعف ومقام التنزل حتى تبلغ حدا لا يدري ما يقول وما يفعل.

* الأصل:

84 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم عن داود، عن سيف، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة فإذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عز وجل إلى ملكيه قد عمرت عبدي هذا عمرا فغلظا وشددا وتحفظا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره.

* الشرح:

ص:48

قوله (إن العبد لفي فسحة من أمره..) الفسحة بالضم: السعة، أي هو في سعة من أمره التكليفي أو في فعله للمساهلة في كثير من أموره لشدة شهوته وكمال قوته المقتضية للطغيان وضعف عقله المانع من العصيان وليس فيه ما ينافي الحديث السابق إذ ليس في السابق حكم ما دون الأربعين وأما ما في السابق من رفع الأدواء الثلاثة عن صاحب الأربعين فلا ينافي التشديد عليه في أمره ولكن لابد من تقييد التشديد بالبلوغ إلى الخمسين لأن الخمسين يوجب التخفيف كمار مر أو القول بأن التخفيف من باب التفضل لمن يشاء الله فقد يخفف لصاحب الخمسين وقد يشدد عليه.

* الأصل:

85 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوباء يكون في ناحية المصر فيتحول الرجل إلى ناحية أخرى أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره فقال: لا بأس إنما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك لمكان ربئة كانت بحيال العدو، فوقع فيهم الوباء فهربوا منه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الفار منه كالفار من الزحف كراهية أن يخلو مراكزهم.

* الشرح:

قوله (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوباء..) الوباء يقصر ويمد وجمع المقصور أوباء وجمع الممدود أوبية، وقد وبئت الأرض توبأ وباء فهي موبوءة إذا كثر مرضها، وكذلك وبئت توبأ وباءة فهي وبئة ووبيئة على فعلة وفعيلة وفيه لغة ثالثة أوبأت وهي موئبة وهو مرض عام يكون عند الموت العام وقد سمي بالطاعون وهما بمعنى واحد وقال الجوهري: الطاعون الموت المسبب من الوباء فيفهم منه أن الطاعون نفس الموت المسبب من الوباء، وقيل: مرض مخصوص وهو غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط غالبا وقد تخرج في الأيدي والأصابع وغيرها من الأعضاء حيث شاء الله تعالى، فعلى هذا كل طاعون وباء ولا ينعكس.

وقال القرطبي: هو نقمة يرسلها الله على من شاء من عصاة عبيده وكفرتهم، ورحمة وشهادة للصالحين من عباده، وقال عياض: إنه عذاب يبعثه الله تعالى على من شاء ثم يجعله رحمة للمؤمنين، وفيه جواز الفرار منه والخروج من الأرض الموبوءة إلى غيرها لأن في المقام فيها إيقاع النفس إلى التهلكة والأوهام المشوشة لها، وسر ذلك - على ما أشار إليه الغزالي في آخر كتاب التوكل من الإحياء - أن سبب الوباء عند الأطباء هو عفونة الهواء، والهواء لا يؤثر بأول ملاقاة الجسد

ص:49

بل حتى يدوم الاستنشاق فإذا دام استنشاقه وصل إلى الرية والقلب وباطن الأحشاء فيؤثر فيها، فإذا خرج سلم إلا إذا تعلق المشيئة بموته.

ومن طرق العامة روايات متكثرة للمنع من الدخول في أرض الوباء والخروج منها، روى مسلم منها خمسة عشر، منها ما رواه عن اسامة بن زيد قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) «الطاعون رجز ارسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه».

والبواقي كلها بهذا المضمون وهم قد اختلفوا فأخذ أكثرهم بتلك الروايات فمنعوا الفرار منه والقدوم عليه حتى قال بعضهم: الفرار منه كالفرار من الزحف، وبعضهم أجاز الأمرين، وقال بعضهم: لم ينه عن الخروج خوف أن يهلك قبل أجله ولا عن الدخول خوف أن يصيبه غير ما كتب الله له ولكن خوف فتنة الحي بظن أن هلاك من دخل لدخوله ونجاة من خرج لخروجه، ونقل عن ابن مسعود أن الطاعون فتنة على المقيم والفار، يقول المقيم أقمت فمت، ويقول الفار فررت فنجوت، وإنما فر من لم يحضر أجله وأقام من جاء أجله فمات.

(إنما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك لمكان ربئة) هي بفتح الراء وكسر الباء الموحدة وفتح الهمزة طليعة يقال ربئهم ولهم كمنع صار ربئة لهم أي طليعة. والمركز موضع الرحل ومحله وحيث أمر الجند أن يلزموه.

* الأصل:

86 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي مالك الحضرمي، عن حمزة ابن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه، التفكر في الوسوسة في الخلق والطيرة والحسد إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده.

* الشرح:

قوله (قال ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق والطيرة والحسد) الوسوسة بالفتح والوسواس بالكسر مصدران بمعنى الأفكار وحديث النفس والشيطان بما لا نفع ولا خير فيه، ورجل موسوس على صيغة المفعول إذا غلب عليه الوسوسة، والوسواس بالفتح الاسم وهو ما خطر في القلب من شر ومرض يحدث من غلبة السوداء ولا يضر إذا لم يتمكن فيه سواء كان متعلقا بالأصول أم بغيرها مثل أن يخطر بقلب رجل كيف خلق الله الأشياء بلا مادة أو لم

ص:50

خلق بعضها أو كيف يكون هو موجودا بلا موجد وأمثال ذلك، وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله هلكت، فقال له: أتاك الخبيث فقال لك من خلقك؟ فقلت الله، فقال لك: الله من خلقه فقال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

ذلك والله محض الإيمان، قال أبو عبد الله (عليه السلام) إنه إنما قال هذا والله محض الإيمان خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض ذلك في قلبه) وروي «أنكم إذا وجدتم مثل ذلك قولوا لا إله إلا الله» وروي أيضا «قولوا آمنا بالله وبرسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله». والطيرة بفتح الياء كعنبة: التشؤم وهي مصدر يطير طيرة كيخير خيرة، قال عياض: لم يأت من المصادر على هذا الوزن غيرهما، وبعضهم يقول طيرة بسكون الياء، وقال الزجاج: اشتقاق الطيرة أما من الطيران لأن الإنسان إذا تشأم بشيء كرهه تباعد عنه فشبه سرعة إعراضه عنه بالطيران، وإما من الطير لأنهم كانوا يستعملونه من زجر الطير ويتشأمون ببعضها وقال صاحب المصباح: الطيرة وزان عنبة هي التشؤم، وكانت العرب إذا أرادت المضي لمهم مرت بمجائم الطير وأثارتها ليستفيد هل تمضي أو ترجع فنهى الشارع عن ذلك. «وقال: لا هام ولا طيرة» وقال: «وأقروا الطير في وكناتها» أي على مجاثمها، وقال المازري:

كانوا يتطيرون بالسوارح والبوارح وكانوا ينشرون الطير والظباء فإذا أخذ ذات اليمين تبركوا ومضوا لحاجتهم وإذا أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحوائجهم فكان ذلك يطردهم في كثير من الأوقات عن مقاصدهم، وهذا أمر وهمي أبطله الشرع بقوله: ولا طيرة، وأخبر أن ذلك لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا وسيجئ نفي الطيرة إن شاء الله تعالى، والحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول ولا تزول عنه وتكون له دونه أو تزول عنه مطلقا (إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده) أي لا يستعمله قولا وفعلا وقلبا بالتفكر في كيفية اجرائه على المحسود وإزالة نعمه، وفيه دلالة على أن هذه الأمور لا إثم بها، وقد مر توضيح ذلك في آخر كتاب الأصول.

* الأصل:

87 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: قال لي: إني لموعوك منذ سبعة أشهر ولقد وعك ابني اثني عشر شهرا وهي تضاعف علينا أشعرت أنها لا تأخذ في الجسد كله وربما أخذت في أعلى الجسد ولم تأخذ في أسفله وربما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلى الجسد كله؟ قلت: جعلت فداك إن أذنت لي حدثتك بحديث عن أبي بصير، عن جدك (عليه السلام) أنه كان إذا وعك استعان بالماء البارد فيكون له ثوبان: ثوب في الماء البارد وثوب على جسده يراوح بينهما ثم ينادي حتى يسمع صوته على باب الدار: يا فاطمة بنت محمد، فقال: صدقت، قلت:

ص:51

جعلت فداك فما وجدتم للحمى عندكم دواء؟ فقال: ما وجدنا لها عندنا دواء إلا الدعاء والماء البارد، إني اشتكيت فأرسل إلي محمد بن إبراهيم بطبيب له فجاءني بدواء فيه قي فأبيت أن أشربه لأني إذا قييت زال كل مفصل مني.

* الشرح:

قوله (إني لموعوك) الوعك الحمى، وقيل: المها، وقد وعكه المرض وعكا ووعك فهو موعوك.

(أشعرت أنها لا تأخذ في الجسد كله) من الشعور وهو العلم يقال شعر به كنصر وكرم شعورا:

علم به وفطن له وعقله (أنه إذا كان وعك استعان بالماء البارد) نظيره كثير من طرق العامة، روى مسلم تسعة. منها ما رواه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء»، ومنها ما رواه أن أسماء كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعوا بالماء فتصبها في جيبها وتقول إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «أبردوها بالماء وقال إنها من فيح جهنم» والفيح شدة حرها، قال محيي الدين البغوي: بعض من في قلبه مرض من جهلة الأطباء يتلاعب ويكثر من ذكر هذه الأحاديث استهزاء ثم يشنع ويقول: الأطباء مجمعون على أن اغتسال المحموم بالماء البارد مهلك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل فتنعكس الحرارة إلى داخل الجسم فتهلك، وهذا تعيير فيما لم يقله (عليه السلام) فإنه (عليه السلام) قال «أبردوها» فمن أين لهم أنه أراد الانغماس فيحمل على أنه أراد بالإبراد أدنى استعمال الماء البارد على وجه ينفع ولا يبعد أن يراد به أن يرش بعض الجسد بالماء كما دل عليه حديث أسماء فلا يبقى للملحد مطعن، وأيضا الأطباء يسقون صاحب الحمى الصفراوية الماء الشديد البرد ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد فغير بعيد أن يكون (عليه السلام) أراد هذا النوع من الحمى وهذا النحو من الغسل على ما قالوه أو قريبا منه، وقال القرطبي: إن صدر هذا الطعن عمن ارتاب في صدقه (عليه السلام) أقيم عليه الدليل الدال على صدقه في جميع ما يخبر به من المعجزات وغيرها فإن أناب وإلا فيفعل بالسيف ما لا يفعل بالبرهان وإن صدر من فهمه بالإيراد الانغماس فليس هو الذي أراد وإنما أراد استعمال الماء على وجه ينفع فيجب أن يبحث عنه ولا يبعد أنه أراد أن يرش بعض بدنه أو يفعل به ما كانت أسماء تفعل.

(إني اشتكيت) أي مرضت، اشتكى فلان إذا مرض.

(فأرسل إلي محمد بن إبراهيم...) كأنه العباس الهاشمي المدني الملقب بابن الإمام وهو

ص:52

محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.

* الأصل:

88 - الحسين بن محمد الأشعري، عن محمد بن إسحاق الأشعري، عن بكر بن محمد الأزدي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) حم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فعوذه فقال: بسم الله أرقيك يا محمد، وبسم الله أشفيك، وبسم الله من كل داء يعنيك، بسم الله والله شافيك، بسم الله خذها فلتهنيك، بسم الله الرحمن الرحيم فلا أقسم بمواقع النجوم لتبرأن بإذن الله، قال بكر: وسألته عن رقية الحمى فحدثني بهذا.

* الشرح:

قوله (فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فعوذه فقال بسم الله أرقيك يا محمد) رقاه الراقي رقية ورقيا: عوذه ونفث في عوذته من باب ضرب كذا في المغرب.

(بسم الله أرقيك) معناه بسم الله أعوذك لا بغيره، والمراد بالاسم هنا المسمى كما قال: (سبح اسم ربك) والاسم هو الكلمة الدالة على المسمى إلا أنه قد يتسع فيوضع الاسم موضع المسمى مسامحة ويحتمل حمله على ظاهره أيضا لأن اسم الله تبارك وتعالى مبارك وله فضيلة عظيمة وخاصية جزيلة لا يحيط العقل بكنهها وفضائل الاسم الأعظم أكثر من أن تعد وتحصى، وفيه دلالة على استحباب الرقية بأسماء الله تعالى، والتعوذ بالقرآن العظيم وبعض سوره وآياته مشهورة وفي الأخبار ومؤلفات القوم مذكور ولا خلاف في شيء من ذلك بين العامة والخاصة، ولا ينافي ذلك التوكل، وما ورد في النهي عن الرقية فإنما هي الرقية بغير ما مر من الأسماء التي لا يعرف معناها خوف أن يكون كفرا أو قريبا منه، وأما رقية أهل الكتاب مثل اليهود والنصارى فلم يحضرني من الأخبار وأقوال الأصحاب ما يدل على تجويزها أو منعها، وأما العامة فقد اختلفوا فيها فجوزها بعضهم ومنعها مالك خوف أن يكون بما بدلوه وأجيب عنه بأنه يبعد أن يكون مما بدلوه لأنه لا غرض لهم في تبديلها، ثم إنه لا خلاف بيننا وبينهم في جواز المسح باليد على المرقى، والروايات من طرقنا وطرقهم متكثرة وأما النفث والتفل والنفخ فلم أجد من رواياتنا ما يدل عليها وهي مذكورة في رواياتهم.

قال القرطبي: التفل والنفث سنة في الرقي عند المالك والطبري وجماعة من الصحابة والتابعين وأنكره بعضهم وأجازوا فيه النفخ واختلف في التفل والنفث، وقيل هما بمعنى واحد وهما نفخ

ص:53

يسير معه يسير ريق، قال أبو عبيد الله: الريق مع التفل لا مع النفث، وقيل بالعكس، وقال بعضهم التفل بالفتح البصاق نفسه.

(وبسم الله أشفيك) أي أبرئك من المرض أو أعالجك بهذا الاسم فوضع الشفاء موضع العلاج والمداواة.

(وبسم الله من كل داء يعنيك) أي يقصدك يقال عنيت فلانا عينا إذا قصدته، وقيل معناه من كل داء يشغلك، يقال هذا الأمر لا يعنيني أي لا يشغلني.

(بسم الله خذها فلتهنيك) هناني الطعام يهنئني ويهنأني من باب ضرب ومنع وكل أمر يأتيك بلا تعب ولا مشقة وهو حسن العاقبة فهي هنيء لك، ولعل ضمير التأنيث راجع إلى هذه الكلمات الشريفة أو العوذة.

* الأصل:

89 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قال: (بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ثلاث مرات كفاه الله عز وجل تسعة وتسعين نوعا من أنواع البلايا أيسرهن الخنق.

* الشرح:

قوله (أيسرهن الخنق) خنقه يخنقه من باب قتل خنقا ككتف إذا عصر حلقة حتى يموت فهو خانق ومخنوق، والخناق ككتاب الحبل يخنق به وكغراب داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرية والقلب.

* الأصل:

90 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان بن عثمان، عن نعمان الرازي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فغضب غضبا شديدا، قال: وكان إذا غضب انحدر عن جبينيه مثل اللؤلؤ من العرق، قال: فنظر فإذا علي (عليه السلام) إلى جنبه فقال له: الحق ببني أبيك مع من انهزم عن رسول الله، فقال: يا رسول الله لي بك أسوة قال: فاكفني هؤلاء، فحمل فضرب أول من لقي منهم فقال جبرئيل (عليه السلام): إن هذه لهي المواساة يا محمد فقال: إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل (عليه السلام) وأنا منكما يا محمد، فقال أبو عبد

ص:54

الله (عليه السلام): فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى جبرئيل (عليه السلام) على كرسي من ذهب بين السماء والأرض وهو يقول:

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

* الشرح:

قوله (فقال له الحق ببني أبيك) هذا الأمر إما للرخصة أو للاختبار.

(فقال يا رسول الله لي بك أسوة) هي بضم الهمزة وكسرها القدوة، وتأسيت به: اقتديت (فقال فاكفني هؤلاء) إشارة إلى جماعة حملوا عليه، قال شارح النهج: إنه لما هزمت الصحابة يوم أحد ونادى الناس «قتل محمد» وكان حيا صريعا بين القتلى حملت عليه فرق من المشركين فقال (صلى الله عليه وآله) اكفني هذه فحمل عليها وهزمها وقتل رئيسها ثم صمدت إليه أخرى فقال: يا علي أكفني هذه، فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها ثم صمدت إليه أخرى فقال يا علي أكفني هذه فحمل عليها فهزمها وقتل رئيسها ثم صمدت إليه ثالثة وكذلك وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك يقول: قال لي جبرئيل: يا محمد هذه المواساة، فقلت: وما يمنعه هو مني وأنا منه. فقال جبرئيل وأنا منكما.

وروى المحدثون أيضا أن المسلمون سمعوا ذلك اليوم هاتفا من قبل السماء ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا تسمعون؟ هذا صوت جبرئيل وكذلك ثبت معه حنين في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولى المسلمين الأدبار وحمى عنه، أقول: وفي قول جبرئيل: وأنا منكما دلالة على أنهما أشرف منه حيث طلب أن يكون له منزلة من الله مثل منزلتهما.

* الأصل:

91 - حميد بن زياد، عن عبيد الله بن أحمد الدهقان، عن علي بن الحسن الطاطري، عن محمد بن زياد بن عيسى بياع السابري، عن أبان بن عثمان قال: حدثني فضيل البرجمي قال: كنت بمكة وخالد بن عبد الله أمير وكان في المسجد عند زمزم فقال ادعوا لي قتادة. قال: فجاء شيخ أحمر الرأس واللحية فدنوت لأسمع، فقال خالد: يا قتادة أخبرني بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب وأذل وقعة كانت في العرب، فقال: أصلح الله الأمير أخبرك بأكرم وقعة كانت في العرب وأعز وقعة كانت في العرب، وأذل وقعة كانت في العرب، واحدة. قال خالد: ويحك واحدة! قال: نعم أصلح الله الأمير قال: أخبرني؟ قال: بدر، قال وكيف ذا؟ قال: إن بدرا أكرم وقعة كانت في العرب بها أكرم الله عز وجل الإسلام وأهله وهي أعز وقعة كانت في العرب بها أعز الله الإسلام وأهله وهي أذل وقعة كانت في العرب، فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب.

ص:55

فقال له خالد: كذبت لعمر الله إن كان في العرب يومئذ من هو أعز منهم، ويلك يا قتادة أخبرني ببعض أشعارهم؟ قال: خرج أبو جهل يومئذ وقد أعلم ليرى مكانه وعليه عمامة حمراء وبيده ترس مذهب وهو يقول:

ما تنقم الحرب الشموس مني * بازل عامين حديث السن لمثل هذا ولدتني أمي فقال: كذب عدو الله إن كان ابن أختي لأفرس منه يعني خالد بن الوليد - وكانت أمه قسرية - ويلك يا قتادة من الذي يقول: «أوفي بميعادي وأحمي عن حسب»! فقال: أصلح الله الأمير ليس هذا يومئذ، هذا يوم أحد، خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي: من يبارز؟ فلم يخرج إليه أحد، فقال: إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونحن نجهزكم بأسيافنا إلى الجنة فليبرزن إلي رجل يجهزني بسيفه إلى النار وأجهزه بسيفي إلى الجنة، فخرج إليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول:

أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * وهاشم المطعم في اليوم السغب أوفي بميعادي وأحمي عن نسب فقال خالد لعنه الله: كذب لعمري والله أبو تراب ما كان كذلك، فقال الشيخ: أيها الأمير ائذن لي في الانصراف، قال: فقام الشيخ يفرج الناس بيده وخرج وهو يقول: زنديق ورب الكعبة (1).

* الشرح:

قوله (حدثني فضيل البرجمي) بالضم منسوب إلى البراجم وهم قوم من أولاد حنظلة بن مالك (فقال ادعوا لي قتادة) كأنه قتادة بن النعمان من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله).

(فلما قتلت قريش يومئذ ذلت العرب) لذهاب رؤسائهم وشرفائهم.

(فقال له خالد كذبت لعمر الله) أي لبقاء الله قسمي (إن كان في العرب) إن مخففة من المثقلة (يومئذ من هو أعز منهم) زعم أن قبيلة القسرية أعز من قريش تعصبا وحمية.

(وقد أعلم ليرى مكانه) أي أعلم فرسه بأن علق على عنقه ثوبا ملونا أو أعلم نفسه بأن وسمها

ص:56


1- (1) «زنديق ورب الكعبة» يعني خالد بن عبد الله القسري زنديق لأنه لو كان مسلما لاستبشر بذكر بدر وغلبة المسلمين على قريش وذل قريش بهم ولم يتبجح بشعر أبي جهل ولم يستحسنه، وهكذا في كل زمان إذا رأينا من يتأسف من ظفر العرب على العجم وزوال ملكهم بجنود العرب ويستبشر بعود الجاهلية على ما كان علم أن صاحبه غير مسلم وإلا لكان مسرورا بزوال ملك المجوس وانتقال ملكهم إلى الإسلام. (ش)

بسيماء الحرب وزينها بآلاته ليرى مكانه ومنزلته بين الأبطال والشجعان.

(وهو يقول ما تنقم الحرب الشموس مني) النقمة بالكسر والفتح وكفرحة المكافاة بالعقوبة ومنه الانتقام، والنقمة أيضا: العيب والكراهة، نقمت عليه أمره ونقمت منه من باب ضرب: إذا عتبه وكرهه أشد الكراهة لسوء فعله، والشموس بالضم مصدر معناه بالفارسية «بيقرار وبد خو شدن أسب»، وبالفتح صفة يعني «بدخو» يقال شمس الفرس شموسا وشماسا منع ظهره فهو شامس وشموس، ووصف الحرب به من باب التشبيه في الإهلاك أو الاضطراب أو الشدة أو عدم أمن صاحبه من المكاره.

(بازل عامين حديث السن) الظاهر أن بازل عامين بالجر بدل عن ضمير المتكلم في «منى» ونصبه على الحال محتمل والبازل من الإبل الذي تم له ثماني سنين ودخل في التاسعة وحينئذ تطلع نابه وتكمل قوته يقال له بعد ذلك بازل عام وبازل عامين يقول أنا مجتمع الشباب مستكمل القوة.

(فقال كذب عدو الله إن كان ابني أختي لأفرس منه) فلان أفرس من فلان أشجع منه، من «فرس الأسد فريسته» إذا دق عنقها، وجعله للمبالغة والزيادة في الفارس بمعنى راكب الفرس فيرجع مآله إلى ما ذكر بعيد، كما يبعد جهله للمبالغة في الفراسة بالكسر وهي تعرف أحوال الشخص والأمور بالظن الصائب والرأي الثاقب ليكون إشارة إلى كمال معرفته بأحوال الأبطال وأمور الحرب فليتأمل (يعني خالد بن الوليد) وهو كان مشركا حاضرا مع المشركين في حرب بدر ونجا بالفرار منها وأسلم بعد فتح مكة (وكانت أمه قسرية) قال الجوهري قسر بطن من بجيلة وهم رهط خالد بن عبد الله القسري وهو بتلك النسبة تفاخر بخالد، وفي بعض النسخ «قشرية» بالشين المعجمة منسوبة إلى قشير بوزن رجيل أبو قبيلة وهو قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن والظاهر أنها تصحيف.

(خرج طلحة بن أبي طلحة وهو ينادي من يبارز) قيل هو طلحة بن أبي طلحة العبدري من بني عبد الدار قتله أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم أحد والمبارزة في القتال الظهور من الصف.

(فقال إنكم تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار) ترغيب لهم في المبارزة أو توبيخ على تركها وجهاز الميت والعروس والمسافر ما يحتاجون إليه، تقول جهزت فلانا تجهيزا إذا هيأت جهاز سفره.

(وهو يقول أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب) في القاموس: الحوض معروف، وذي الحوضين عبد المطلب واسمه شيبة أو عامر بن هاشم فقوله عبد المطلب بدل من ذي الحوضين،

ص:57

وقوله «وهاشم المطعم في العام السغب» عطف على ذي الحوضين، والسغب: المجاعة، سغب كفرح ونصر سغبا وسغبا جاع، أو لا يكون إلا مع تعب فهو ساغب وسغبان وسغب، وفي وصف العام به مبالغة في شيوع الجوع والقحط فيه. وفي معارج النبوة كان اسم هاشم بن عبد مناف عبد الأعلى أو عمرو ثم لقب بهاشم لأنه كان يهشم الخبز ويكسره ويجعله ثريدا للفقراء، بيان ذلك أنه وقع في مكة قحط عظيم وكان لهاشم دقيق كثير فخبزه وذبح في كل صباح وفي كل مساء إبلا وطبخه وأطعم المحتاجين في كل يوم خبزا ولحما وثريدا فاشتهر بهاشم.

(أوفي بميعادي وأحمي عن حسب) الموعد والميعاد محل أو وقت وعد إيقاع الفعل فيه كالحضور والقتال ونحوهما فكأنه (عليه السلام) قدر في نفسه الحضور والقتال في كل مكان أو وقت طلب فيه البطل مبارزا وألزم على نفسه القدسية والوفاء به، والمراد بالحسب إما الدين أو القدر والشرف أو ما يعد من مفاخر الآباء، وحماية كل واحد بدفع النقص والعار عنه لازمة على ذمة العقلاء وأهل الكمال.

ص:58

حديث آدم (عليه السلام) مع الشجرة

* الأصل:

92 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم (عليه السلام) أن لا يقرب هذه الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وهو قول الله عز وجل (ولقد عهدنا إلى آدم ومن قبل فنسي ولم نجد له عزما) فلما أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة أهبط إلى الأرض فولد له هابيل وأخته توأم وولد له قابيل وأخته توأم، ثم إن آدم (عليه السلام) أمر هابيل وقابيل أن يقربا قربانا، وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع فقرب هابيل كبشا من أفاضل غنمه وقرب قابيل من زرعه ما لم ينق فتقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل وهو قول الله عز وجل (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر..) إلى آخر الآية وكان القربان تأكله النار فعمد قابيل إلى النار فبنى لها بيتا - وهو أول من بنى بيوت النار - فقال: لأعبدن هذه النار حتى تتقبل مني قرباني، ثم إن إبليس لعنه الله أتاه - وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق - فقال له: يا قابيل قد تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربانك وإنك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون نحن أبناء الذي تقبل قربانه فاقتله كيلا يكون له عقب يفتخرون على عقبك فقتله فلما رجع قابيل إلى آدم (عليه السلام) قال له: يا قابيل أين هابيل؟ فقال: اطلبه حيث قربنا القربان فانطلق آدم (عليه السلام) فوجد هابيل قتيلا فقال آدم (عليه السلام): لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل وبكى آدم (عليه السلام) على هابيل أربعين ليلة ثم إن آدم سأل ربه ولدا فولد له غلام فسماه هبة الله لأن الله عز وجل وهبه له وأخته توأم.

فلما انقضت نبوة آدم (عليه السلام) واستكمل أيامه أوحى الله عز وجل إليه أن يا آدم قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة في العقب من ذريتك عند هبة الله فإني لن أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وآثار النبوة من العقب من ذريتك إلى يوم القيامة ولن أدع الأرض إلا وفيها عالم يعرف به ديني ويعرف به طاعتي ويكون نجاة لمن يولد فيما بينك وبين نوح وبشر آدم بنوح (عليه السلام) فقال: إن الله تبارك وتعالى

ص:59

باعث نبيا اسمه نوح وإنه يدعو إلى الله عز ذكره ويكذبه قومه، فيهلكم الله بالطوفان، وكان بين آدم وبين نوح (عليهما السلام) عشرة آباء أنبياء وأوصياء كلهم، وأوصى آدم (عليه السلام) إلى هبة الله أن من أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه وليصدق به فإنه ينجو من الغرق، ثم إن آدم (عليه السلام) مرض المرضة التي مات فيها فأرسل هبة الله وقال له: إن لقيت جبرئيل أو من لقيت من الملائكة فاقرأه مني السلام وقل له:

يا جبرئيل إن أبي يستهديك من ثمار الجنة فقال له جبرئيل: يا هبة الله إن أباك قد قبض وإنا نزلنا للصلاة عليه فارجع فرجع فوجد آدم (عليه السلام) قد قبض فأراه جبرئيل كيف يغسله فغسله حتى إذا بلغ الصلاة عليه قال هبة الله: يا جبرئيل تقدم فصل على آدم فقال له جبرئيل: إن الله عز وجل أمرنا أن نسجد لأبيك آدم وهو في الجنة فليس لنا أن نؤم شيئا من ولده، فتقدم هبة الله فصلى على أبيه وجبرئيل خلفه وجنود الملائكة وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأمر جبرئيل (عليه السلام) فرفع خمسا وعشرين تكبيرة - والسنة اليوم فينا خمس تكبيرات وقد كان يكبر على أهل بدر تسعا وسبعا - ثم إن هبة الله لما دفن أباه أتاه قابيل فقال: يا هبة الله إني قد رأيت أبي آدم قد خصك من العلم بما لم أخص به أنا وهو العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتقبل قربانه وإنما قتلته لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي فيقولون: نحن أبناء الذي تقبل قربانه وأنتم أبناء الذي ترك قربانه فإنك إن أظهرت من العلم الذي اختصك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل، فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث النبوة وآثار علم النبوة حتى بعث الله نوحا (عليه السلام) وظهرت وصية هبة الله حين نظروا في وصية آدم (عليه السلام) فوجدوا نوحا (عليه السلام) نبيا قد بشر به آدم (عليه السلام) فآمنوا به واتبعوه وصدقوه وقد كان آدم (عليه السلام) وصى هبة الله أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة فيكون يوم عيدهم فيتعاهدون نوحا وزمانه الذي يخرج فيه وكذلك جاء في وصية كل نبي حتى بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) وإنما عرفوا نوحا بالعلم الذي عندهم وهو قول الله عز وجل (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه..) إلى آخر الآية، وكان من بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وهو قول الله عز وجل (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء (عليهم السلام).

فمكث نوح (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يشاركه في نبوته أحد ولكنه قدم على قوم مكذبين للأنبياء (عليهم السلام) الذين كانوا بينه وبين آدم (عليه السلام) وذلك قول الله عز وجل: (كذبت قبلهم قوم

ص:60

نوح المرسلين) يعني من كان بينه وبين آدم (عليه السلام) إلى أن انتهى إلى قوله عز وجل (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) ثم إن نوحا (عليه السلام) لما انقضت نبوته واستكملت أيامه أوحى الله عز وجل إليه أن يا نوح قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة في العقب من ذريتك، فإني لن أقطعها كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء (عليهم السلام) التي بينك وبين آدم (عليه السلام) ولن أدع الأرض إلا وفيها عالم يعرف به ديني وتعرف به طاعتي ويكون نجاة لمن يولد فيما بين قبض النبي إلى خروج النبي الآخر وبشر نوح ساما بهود (عليه السلام) وكان فيما بين نوح وهود من الأنبياء (عليهم السلام) وقال نوح: إن الله باعث نبيا يقال له: هود إنه يدعو قومه إلى الله عز وجل فيكذبونه والله عز وجل مهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه فإن الله عز وجل ينجيه من عذاب الريح وأمر نوح (عليه السلام) ابنه ساما أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة فيكون يومئذ عيدا لهم، فيتعاهدون فيه ما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر ومواريث العلم وآثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا (عليه السلام) وقد بشر به أبوهم نوح (عليه السلام) فآمنوا به واتبعوه وصدقوه فنجوا من عذاب الريح وهو قول الله عز وجل (وإلى عاد أخاهم هودا) وقوله عز وجل: (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) وقال تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) وقوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا (لنجعلها في أهل بيته) ونوحا هدينا من قبل) لنجعلها في أهل بيته، وأمر العقب من ذريته الأنبياء (عليهم السلام) من كان قبل إبراهيم لإبراهيم (عليهم السلام) وكان بين إبراهيم وهود من الأنبياء صلوات الله عليهم وهو قول الله عز وجل (وما قوم لوط منكم ببعيد) وقوله عز ذكره: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي) وقوله عز وجل (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) فجرى بين كل نبيين عشرة أنبياء وتسعة وثمانية أنبياء كلهم أنبياء وجرى لكل نبي ما جرى لنوح صلى الله عليه وكما جرى لآدم وهود وصالح وشعيب وإبراهيم صلوات الله عليهم حتى انتهت إلى يوسف بن يعقوب (عليهما السلام)، ثم صارت من بعد يوسف في أسباط إخوته حتى انتهت إلى موسى (عليه السلام) فكان بين يوسف وبين موسى من الأنبياء (عليهم السلام) فأرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وهامان وقارون ثم أرسل الرسل تترى (كلما جاء أمة رسولهم كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث) وكانت بنو إسرائيل تقتل نبيا واثنان قائمان ويقتلون اثنين وأربعة قيام حتى

ص:61

أنه كان ربما قتلوا في اليوم الواحد سبعين نبيا ويقوم سوق قتلهم آخر النهار فلما نزلت التوراة على موسى (عليه السلام) بشر بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكان بين يوسف وموسى من الأنبياء.

وكان وصي موسى يوشع بن نون (عليه السلام) وهو فتاه الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فلم تزل الأنبياء تبشر بمحمد (صلى الله عليه وآله) حتى بعث الله تبارك وتعالى المسيح عيسى بن مريم فبشر بمحمد (صلى الله عليه وآله) وذلك قوله تعالى: (يجدونه (يعني اليهود والنصارى) مكتوبا (يعني صفة محمد (صلى الله عليه وآله)) عندهم (يعني) في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) وهو قول الله عز وجل يخبر عن عيسى: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وبشر موسى وعيسى بمحمد (صلى الله عليه وآله) كما بشر الأنبياء (عليهم السلام) بعضهم ببعض حتى بلغت محمدا (صلى الله عليه وآله).

فلما قضى محمد (صلى الله عليه وآله) نبوته واستكملت أيامه أوحى الله تبارك وتعالى إليه يا محمد قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة في أهل بيتك عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإني لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة من العقب من ذريتك كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم وذلك قول الله تبارك وتعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم).

وإن الله تبارك وتعالى لم يجعل العلم جهلا ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له: قل كذا وكذا فأمرهم بما يحب ونهاهم عما يكره فقص إليهم أمر خلقه بعلم فعلم ذلك العلم وعلم أنبياءه وأصفياءه من الأنبياء والإخوان والذرية التي بعضها من بعض فذلك قوله جل وعز: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).

فأما الكتاب فهو النبوة وأما الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة وأما الملك العظيم فهم الأئمة] الهداة [من الصفوة وكل هؤلاء من الذرية التي بعضها من بعض، والعلماء الذين جعل الله فيهم البقية وفيهم العاقبة وحفظ الميثاق حتى تنقضي الدنيا والعلماء، ولولاة الأمر استنباط العلم وللهداة فهذا شأن الفضل من الصفوة والرسل والأنبياء والحكماء وأئمة الهدى والخلفاء الذين هم ولاة أمر الله عز وجل واستنباط علم الله وأهل آثار علم الله من الذرية التي بعضها من بعض من الصفوة بعد الأنبياء (عليهم السلام) من الآباء والإخوان والذرية من الأنبياء.

ص:62

فمن اعتصم بالفضل انتهى بعلمهم ونجا بنصرتهم ومن وضع ولاة أمر الله عز وجل وأهل استنباط علمه في غير الصفوة من بيوتات الأنبياء (عليهم السلام) فقد خالف أمر الله عز وجل وجعل الجهال ولاة أمر الله والمتكلفين بغير هدى من الله عز وجل وزعموا أنهم أهل استنباط علم الله فقد كذبوا على الله ورسوله ورغبوا عن وصيته وطاعته ولم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله تبارك وتعالى فضلوا وأضلوا أتباعهم ولم يكن لهم حجة يوم القيامة إنما الحجة في آل إبراهيم (عليهم السلام) لقول الله عز وجل: (ولقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكم والنبوة وآتيناهم ملكا عظيما).

فالحجة الأنبياء (عليهم السلام) وأهل بيوتات الأنبياء (عليهم السلام) حتى تقوم الساعة لأن كتاب الله ينطق بذلك، وصية الله بعضها من بعض التي وضعها على الناس فقال عز وجل: (في بيوت أذن الله أن ترفع) وهي بيو] تا [ت الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى فهذا بيان عروة الإيمان التي نجا بها من نجا قبلكم وبها ينجو من يتبع الأئمة وقال الله عز وجل في كتابه (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى و إلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين).

فإنه وكل بالفضل من أهل بيته والإخوان والذرية وهو قول الله تبارك وتعالى: إن تكفر به أمتك فقد وكلت أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون به أبدا ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك وولاة أمري بعدك وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب ولا إثم ولا زور ولا بطر ولا رياء فهذا بيان ما ينتهي إليه أمر هذه الأمة.

إن الله جل وعز طهر أهل بيت نبيه (عليهم السلام) وسألهم أجر المودة وأجرى لهم الولاية وجعله أوصياءه وأحباءه ثابتة بعده في أمته، فاعتبروا يا أيها الناس فيما قلت حيث وضع الله عز وجل ولايته وطاعته ومودته واستنباط علمه وحججه، فإياه فتقبلوا وبه فاستمسكوا تنجوا به وتكون لكم الحجة يوم القيامة وطريق ربكم جل وعز ولا تصل ولاية إلى الله عز وجل إلا بهم فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يكرمه ولا يعذبه ومن يأت الله عز وجل بغير ما أمره كان حقا على الله عز وجل أن يذله وأن يعذبه.

* الشرح:

قوله (حديث آدم (عليه السلام) مع الشجرة) قال القاضي وغيره: الشجرة هي الحنطة أو

ص:63

الكرمة أو التينة أو شجرة من أكل منها أحدث، والأولى أن لا تعين من غير قاطع كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود عليه.

(قال إن الله تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة) نهى عن القرب للمبالغة في ترك التناول منها وللتنبيه على أن القرب من المنهي عنه قد يوجب الدخول فيه واختلفت الأمة في هذا النهي فقال علماؤنا أنه نهي تنزيه فيكون لتناوله منها فاعلا لما يكون تركه أولى، ولا ينافيه نسبة العصيان والغواية إليه بقوله عز وجل (عصى آدم ربه فغوى) بناء على أن المتصف بهما من فعل كبيرة أو صغيرة بدليل قوله تعالى (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) وقوله تعالى (إلا من اتبعك من الغاوين) فإن متابعة الشيطان كبيرة أو صغيرة لأن حصر العصيان والغواية في الكبيرة والصغيرة ممنوع إذ كما أنهما يتحققان بفعل القبيح والحرام كذلك يتحققان بترك الأولى والمندوب وأما العصيان والغواية في الآية فإنما يراد بهما ما حصل بفعل محرم ألا ترى أنك إذا قلت لرجل على سبيل التنزيه لا تفعل كذا فإن الخير في خلافه ففعله، صح لك أن تقول عصاني وخالفني فغوى أي خاب عن ذلك الخير. وقال بعض أصحابنا: إن الغواية المنسوبة إلى آدم بمعنى الخيبة عن الثواب العظيم المترتب على ترك التناول.

(فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها) (1) قد تقرر في كتاب التوحيد أن علمه تعالى بأفعال العباد تابع للمعلوم لا علة له نعم لما علم أكله أراد أكله ليطابق علمه بالمعلوم إرادة تخيير واختيار لا إرادة حتم وإجبار، وقد ذكرنا توضيحه في الكتاب المذكور في باب الاستطاعة وبه يظهر سر ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنه تعالى نهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل» ويندفع أيضا التنافي بين إرادة الأكل والنهي عنه المتضمن لإرادة تركه وهذا التوجيه جار في كل ما يفعل العبد من المناهي فليتأمل (وهو قول الله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) النسيان هنا كناية عن الترك لأنه مستلزم للترك، وقد روي تفسير النسيان في هذه الآية بالترك في كتاب الحجة فلا يرد أن حكم النسيان مرفوع عن الإنسان فلا يرد عليه اللوم به والعزم المنفي هو العزم القوي إذ لو كان له عزم قوي لم يأكل من الشجرة، ولم

ص:64


1- (1) «نسي فأكل منها» النسيان هنا بمعنى الترك وإن كان ظاهر الرواية أنه بالمعنى المعروف وأن آدم كان معذورا بنسيانه. ولو كان معذورا لم يعاتب على الأكل من الشجرة ولا يجوز عندنا النسيان والسهو على الأنبياء بحيث يوجب ترك الواجب وفعل الحرام سهوا والأمر سهل فإن الرواية قاصرة عن الحجية. لا يعتمد في أمثالها إلا على ما علم صحته من دليل آخر عقلي أو نقلي. (ش)

يفعل ما كان تركه أولى، وفيه تصريح بأن المراد بالعهد في الآية العهد إلى آدم بأن لا يأكل من الشجرة وقد مر في الباب الثالث من كتاب الإيمان والكفر عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضا أن المراد به العهد إلى آدم بخلافة المهدي صاحب الزمان وإن شئت أن تعرفه فارجع إلى ما ذكرناه في شرحه، ولا منافاة بينهما لأن العهد مفهوم كلي يندرج فيه هذان الفردان وما روي من «أن في القرآن كل شيء ولا يعلمه إلا المعصوم» أكثره من هذا القبيل.

(فلما أكل آدم من الشجرة أهبط إلى الأرض) قيل في لفظ الهبوط دلالة على أنه كان في جنة السماء لا في جنة الدنيا لأن الهبوط هو النزول من الأعلى إلى الأسفل ومنع ذلك بأن الهبوط أعم مما ذكر إذ يصدق على النزول من المقام الأشرف إلى المقام الأخس أيضا، وللكلام في هذا المقام مجال واسع لا يسع المقام ذكره.

(ثم آن آدم (عليه السلام) أمر هابيل وقابيل أن يقربا قربانا) اختلف في سبب هذا الأمر فقال بعض العلماء إن آدم (عليه السلام) قال لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه يكون من يقرب القربان فتقربا قربانا فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، وقال بعض العامة: السبب أن حواء كانت تلد في كل بطن اثنتين ذكرا وأنثى فولدت في أول بطن قابيل وأخته ثم مكثت سنتين فولدت هابيل وأخته فلما كبروا وأمر الله تعالى آدم أن ينكح قابيل أخت هابيل وينكح هابيل أخت قابيل فرضي هابيل بذلك ولم يرض قابيل لأن أخته كانت أحسنهما فقال آدم: قربا قربانا فأيكما يقبل قربانه زوجتها منه، وهذا القول مدفوع بأن تحريم الأخوات على الإخوة كان ثابتا في جميع الأديان وأنه تعالى لما أراد أن يبدأ بالنسل على ما ترون أنزل حوراء من الجنة اسمها نزلة فأمره أن يزوجها من إحدى ابنيه ثم أنزل حوراء من الجنة اسمها منزلة فأمره أن يزوجها من ابنه الآخر فولد للأول غلام وللآخر جارية فأمر الله تعالى آدم حين أدركا أن يزوج ابنة الابن من ابن الابن ففعل فولد الصفوة من النبيين والمرسلين وغيرهم من نسلهما، ويدل عليه ما رواه الصدوق في أول كتاب النكاح عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام).

(فقرب هابيل من أفاضل غنمه) أي خيارها وجيدها (وقرب قابيل من زرعه ما لم ينق) في المصباح: نقى الشئ من باب علم نقاء بالفتح والمد: نظف فهو نقي على فعيل ويعدى بالهمزة.

(فقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل) واختلفا في سبب القبول وعدمه، فقيل: لأن هابيل تقرب بأحسن غنم عنده، وتقرب قابيل بأردأ قمح عنده، ووضعا قربانهما على جبل فنزلت نار بيضاء من السماء ووقعت على قربان هابيل دون قابيل، وقيل: لأن نية هابيل كانت خالصة ونية قابيل كانت غير خالصة، وقيل: لأن قابيل كان مصرا على كبيرة لا يقبل الله معها طاعة كما يرشد إليه

ص:65

قول هابيل (إنما يتقبل الله من المتقين).

(ثم إن إبليس لعنه الله أتاه وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم) مثله مروي من طرق العامة أيضا قال الأزهري: معناه أن الشيطان لا يفارق ابن آدم ما دام حيا كما لا يفارقه دمه، وقال: هذا على طريق ضرب المثل، والأكثر أجروه على ظاهره وقالوا: إن الشيطان جعل له هذا المقدار من التطرق إلى باطن الآدمي بلطافة هيئته فيجري في العروق التي هي مجاري الدم من الآدمي إلى أن يصل إلى قلبه فيوسوسه على حسب ضعف إيمان العبد وقلة ذكره وكثرة غفلته، ويبعد عنه ويقل تسلطه وسلوكه إلى باطنه بمقدار قوته ويقظته ودوام ذكره واخلاص توحيده ويشهد لذلك ظواهر الكتاب والسنة ويذعن لجوازه في القدرة الربانية العقول السليمة وقد ذكرناه مفصلا في شرح الأصول.

(فانطلق آدم (عليه السلام) فوجد هابيل قتيلا) الظاهر أنه وجد مدفونا لأن الظاهر أن قابيل بعد قتله دفنه في الأرض بتعليم غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه فقال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب.

(فقال آدم لعنت من أرض) وقبلت اللعن (كما قبلت دم هابيل) لعنت بكسر التاء خطاب مع القطعة التي قتل فيها هابيل وبسكونها مسند إلى ضميرها و «من» على التقديرين للتفسير والبيان لها أو للتبعيض للدلالة على أن الملعونة يعني البعيدة عن الخير ونزول الرحمة هي تلك القطعة من الأرض لا جميعها إذ للأرض قطع هي مجال للخير والفيض والبركة والرحمة وقد شاع ذم الزمان والمكان باعتبار وقوع الفعل فيهما.

(فولد له غلام فسماه هبة الله لأن الله عز وجل وهبه له) دل على أنه (عليه السلام) كان يعرف لغة العرب ويتكلم بها وقيل اسمه في السريانية شيث والتسمية بهبة الله من العرب.

(وأخته توأم) عطف على غلام، وفيه رد لما ذكره بعض العامة من أنه تولد من حواء منفردا بخلاف سائر الإخوة.

(فاجعل العلم الذي عندك...) لعل المراد بالعلم العلم بالأحكام وغيرها مما أوحى إليه وبالإيمان أصول الدين وأركانه كالتوحيد ونحوه، وبالاسم الأكبر الاسم الأعظم أو الكتاب، روى المصنف في باب ما نص الله ورسوله على الأئمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «الاسم الأكبر هو الكتاب الذي يعلم به علم كل شيء الذي كان مع الأنبياء عليهم السلام وبميراث العلم الإرشاد والتعليم والهداية والخلافة وبآثار علم النبوة الصلاح والكرامات والأسرار التي لا يجوز للنبي إظهاره لغير

ص:66

الوصي وفي كتاب معارج النبوة أن آدم (عليه السلام) عند وصيته إلى شيث أخرج صندوقا أبيض وفتح قفله وأخرج منه صحيفة بيضاء ونشرها وبلغ نورها شرقا وغربا وكانت فيها أسامي جميع الأنبياء والأوصياء وصفاتهم وعلاماتهم ومعجزاتهم وأزمنتهم وأيام عمرهم وما يرد عليهم من العطاء والبلاء أولهم آدم (عليه السلام) وآخرهم خاتم الأنبياء وسايرهم على الترتيب فعرضهم على شيث ثم وضعها في الصندوق ودفعه إلى شيث وأمره بحفظه» واعلم أن المقصود من هذا الحديث أن الرسالة والنبوة والوصاية والولاية من لدن آدم (عليه السلام) إلى آخر الدهر إنما كانت بنص الله تعالى وأمره ولم يفوضها إلى الرسل والأنبياء والأوصياء مع كمال عقولهم وهكذا كانت سنة الله دائما فكيف يفوضها إلى الجهلة من هذه الأمة ولن تجد لسنة الله تحويلا.

(ويكون نجاة لمن يولد فيما بينك وبين نوح) أريد بالنجاة النجاة الأخروية لمن تبعه والنجاة من العقوبة الدنيوية للجميع إذ العالم المذكور سبب لبقاء الخلق ولولا وجوده لساخت الأرض بأهلها، كما دل عليه صريح بعض الروايات.

(وبشر آدم) هبة الله وخيار أولاده (بنوح صلى الله عليه فقال إن الله تعالى باعث نبيا اسمه نوح) في معارج النبوة اسمه في السريانية يشكر، وسماه العرب نوحا وآدما ثانيا ولقبوه بشيخ الأنبياء ونجي الله، وذكر لتسميته بنوح ثلاثة أوجه أحدها أنه مر يوما بكلب أجرب فقال: اخسأ يا قبيح، فتكلم الكلب وقال: اخلق أحسن مني إن قدرت، أو قال: أنت تعيب النقاش دون النقش، أو قال:

احفظ لسانك إنما أجريب أنت اسم آدم ووصف النبوة على نفسك فاضطرب نوح وبكى سنين كثيرة سمي لذلك بنوح، وإنما سموه آدم الثاني لأن سلسلة أنساب الخلائق كلهم بعد الطوفان تنتهي إليه (وأوصى آدم (عليه السلام) إلى هبة الله...) أي أمره أو عهده أو فرضه والظاهر أنه (عليه السلام) كتب هذه الوصية وكتب اسم نوح ونعته وأمر هبة الله أن يحفظها أو يعمل بما فيها بقرينة ما يأتي من أنه وصى هبة الله أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة (فأرسل آدم هبة الله وقال له إن لقيت جبرئيل) دل على أنه كان للملائكة مقام معلوم يراهم آدم وصيه فيه وإلا لما احتاج إلى الإرسال.

(فليس لنا أن نؤم شيئا من ولده) في الفقيه «قال جبرئيل (عليه السلام) فلسنا نتقدم على أبرار ولده وأنت من أبرارهم» وفيه دلالة على أن أبرار ولده أفضل من الملائكة وأنه لا يجوز للمفضول التقدم على الأفضل في أمر الصلاة فضلا عن غيره من الرياسة الدينية عموما.

(وكبر عليه ثلاثين تكبيرة) في صلاة واحدة على الظاهر أو ست صلوات على احتمال، قال بعض العامة: كبر عليه ثلاث تكبيرات، وقال بعضهم: أربع تكبيرات كما هو المعروف عندهم اليوم.

(وقد كان يكبر على أهل بدر تسعا وسبعا) في صلاة ميت واحد أو ميتين بأن كان حضور

ص:67

الثاني بعد التكبير الثاني أو بعد التكبير الرابع، والأول أظهر.

(ثم إن هبة الله لما دفن أباه) في معارج النبوة دفنه في كنز وهو في غار جبل أبي قبيس، ثم نقله نوح معه في السفينة ودفنه بعد النزول منها في سرنديب (فلبث هبة الله والعقب منه مستخفين أه) دل على أن التقية كانت في شرع السابقين أيضا وهي في دين الله الذي قرره لعباده الصالحين حفظا لهم عن ضرر الفاسقين.

(وظهرت وصية هبة الله) أي ظهرت وصيته بأنه يبعث نبي اسمه نوح أو بأنه يبعث بعده أنبياء إلى نوح أو ظهر كونه وصيا لآدم لأنه كان يخفيه من الأشرار (حين نظروا في وصية آدم) دل على أن الوصية كانت مكتوبة عند هبة الله كما دل عليه قوله (وقد كان آدم (عليه السلام) وصى هبة الله أن يتعاهد هذه الوصية) تعاهده تفقده وطلبه عند غيبته أي أمره أن يطلب هذه الوصية ويتجدد العهد بها وينظر ما فيها من نوح وصفته ويطلبوه هل وجد أم لا.

(وكذلك جاء في وصية كل نبي...) أي مثل ما ذكر من وصية آدم إلى هبة الله وتبشيره بنوح وذكر نعته وأمر من يدركه بمتابعته وتصديقه جاء في وصية كل نبي إلى وصيه وإلى نبي يأتي بعده وذكر اسمه ونعته وأمر من يدركه بمتابعته وتصديقه حتى بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) فإنه دفع الوصية إلى وصيه وانقطعت الوصية إلى النبي إذ لا نبي بعده.

(وإنما عرفوا نوحا بالعلم الذي عندهم) الذي حصل لهم بوصية آدم وهبة الله فعلموا بذلك العلم أنه نبي من عند الله تعالى، ولم يكن لهم التعيين والحكم بأنهم نبي من قبل أنفسهم فكذلك الوصي.

(وهو قول الله عز وجل) أي كون نوح رسولا بأمر الله تعالى ومن عنده لا بأمر الخلق (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) فإنه صريح في أنه تعالى أرسله ولا مدخل للخلق في إرساله.

(وكان من بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين) خوفا من ذرية قابيل ومن تبعهم من الأشرار ولعل المراد أن أكثرهم كانوا مستخفين وإلا فإدريس كان بين آدم ونوح وكان نبيا وسماه تعالى في القرآن ورفعه مكانا عليا (ولذلك خفي ذكرهم في القرآن) إذ لو ذكروا فيه كان المعاند العارف بأحوال الماضين ينسب الكذب إليه (فمكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما بعد البعث، قال القاضي: روى إنه بعث على رأس أربعين ودعا قومه تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين لم يشاركه في نبوته أحد) فكان نبيا وحده ولم يكن غيره في عصره نبيا بخلاف سائر الأعصار فإنه كان في عصر واحد أنبياء (وذلك قول الله عز وجل: كذبت قوم نوح المرسلين) قال القاضي وغيره: القوم مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة.

ص:68

(يعني من كان بينه وبين آدم (عليه السلام)) يعني كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل بعد إظهار نوح رسالتهم وبهذا التفسير أيضا صرح بعض المفسرين وقيل كذبوا نوحا وحده الا أن تكذيب واحد من الرسل لما كان كتكذيب الكل صح أنهم كذبوا الكل فأهلكهم الله تعالى بالطوفان.

(إلى أن انتهى إلى قوله عز وجل وان ربك لهو العزيز الرحيم) أي العزيز المنتقم من أعدائه الرحيم لأوليائه، والآية في سورة الشعراء (وهو قول الله عز وجل (وإلى عاد) أي وأرسلنا إلى عاد (أخاهم هودا)) أخاهم مفعول وهودا عطف بيان له (وقوله عز وجل كذبت عاد المرسلين) يعني كذبوا من كان بين هود وآدم (عليه السلام) أو هودا وحده، وتكذيبه تكذيب الكل وأريد بعاد القبيلة ولذلك أنث الفعل وهو في الأصل اسم أبيهم (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) عقاب الله بالإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر وترك الشرك وقالوا (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين * وما نحن بمعذبين) وأهلكهم الله تعالى بريح صرصر كما هو مذكور في الكتاب المبين.

(وقال الله تبارك وتعالى ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) إذ وصى هذان النبيان الكريمان بنيهما بالملة المعينة من عند الله تعالى وقالا (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ظهر أن الخلافة بالوصاية بأمر الله تعالى كما أن النبوة بأمره تعالى وكذلك قال إبراهيم (عليه السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) وقوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) لنجعلها في أهل بيته) دل على أن النبوة والهداية من صنعه تعالى يضعها في أهل بيت النبي فكيف يتخلف هذا عن أهل بيت خاتم الأنبياء (وآمن العقب من ذرية الأنبياء من كان قبل إبراهيم لإبراهيم (عليه السلام)) دل على أن سنة الله في خلافة اللاحق أن تكون بوصاية السابق دائما وأنها لم تكن مختصة ببعض فلا ينبغي التخلف في بعض المواد وفي بعض النسخ وأمر بالراء (وكان بين إبراهيم وهود من الأنبياء) كلهم يبشرون أمته بخلافة إبراهيم (عليه السلام) ويوصونهم بمتابعته وهذه السنة كانت مستمرة لا ينكرها إلا الجاهلون ومن للتبعيض ثم أراد (عليه السلام) أن يبين ما ذكره من أن نبيا من ذرية الأنبياء آمن لإبراهيم (عليه السلام) وأن إبراهيم (عليه السلام) نبي فقال لبيان الأول (وهو قول الله عز وجل وما قوم لوط منكم ببعيد) خوف شعيب (عليه السلام) قومه المعاندين المشركين بمثل ما أصاب أقوام الأنبياء السابقين فقال (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) بحسب الزمان والمكان فإن لم يعتبروا بمن قبلهم لبعدهم فاعتبروا بهم لقربهم، وفيه دلالة واضحة على أن لوطا وهو من ذرية الأنبياء نبي.

ص:69

وقال لبيان الثاني (وقوله عز وجل فآمن له لوط وقال إني مهاجر) من قومي (إلى ربي) وهو ابن خالته كما سيجيء وأول من آمن به وقيل آمن به حين رأى أن النار لم تحرقه (وقوله عز وجل وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه) إبراهيم منصوب وإذ ظرف للناصب أي وأرسلنا إبراهيم حين كمل عقلا وعرف الحق وأمر الناس به (ذلكم خير لكم) أي ما ذكر من العبادة والتقوى خير لكم مما أنتم عليه (إن كنتم تعلمون) الخير والشر وتفرقون بينهما، واسم التفضيل هنا لأصل الفعل أو لفرضه في المفضل عليه وإلا فلا خير فيه أصلا (فجرى بين كل نبيين) معروفين (عشرة أنبياء وتسعة وثمانية أنبياء) كلهم يبشرون بمن يأتي بعدهم (وجرى لكل نبي ما جرى لنوح (عليه السلام) من وصيته) إلى ابنه سام وبشارته بهود، وهذا تأكيد لقوله سابقا «وكذلك جاء في وصية كل نبي».

(وكما جرى لآدم من وصيته) إلى ابنه هبة الله وبشارته بنوح وهكذا في البواقي.

(ثم أرسل الرسل تترى) اقتباس لقوله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترى) أي متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد، فالتاء بدل من الواو والأصل «وترى» والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، كذا ذكره المفسرون (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) فلا بعد في تكذيب هذه الأمة خاتم الأنبياء وسيد الأوصياء لأنه شنشنة أعرفها من أخزم (فأتبعنا بعضهم بعضا) في الهلاك بأنواع متعددة كالغرق والخسف والريح والصاعقة والصيحة ونحوها (وجعلناهم أحاديث) جمع حديث أو أحدوثة وهي ما يحدث به تلهفا أي لم يبق منهم إلا حكايات لمن بعدهم يتحدثون بها ويذكرون أمرهم وشأنهم.

(وكانت بنو إسرائيل تقتل نبيا واثنان قائمان) قال الفاضل الإسترابادي: يعني شاهدان حاضران ساكتان من باب التقية، ومقصوده (عليه السلام) أن تقية الأوصياء (عليهم السلام) مما جرت به عادة الله تعالى في الأولين والآخرين وليست مخصوصة بأوصياء محمد (صلى الله عليه وآله) (ويقوم سوق قتلهم آخر النهار) وآخر النهار ظرف لقيام السوق وهو رواجه مع احتمال أن يكون غاية له.

(وكان بين يوسف وموسى من الأنبياء كلهم) يبشرون به وبخاتم الأنبياء، وهذا تأكيد لما مر من قوله «فكان بين يوسف وموسى من الأنبياء (عليهم السلام)».

(وكان وصي موسى يوشع بن نون (عليه السلام)) هذا كالتأكيد للسوابق من أنه لم يمض نبي إلا وصى إلى غيره بأمر الله وهذه كانت عادة مستمرة من الله تعالى إلى خاتم الأنبياء فكيف يجوز أن تخرق العادة ويمضي هو (صلى الله عليه وآله) ولا ينص بوصي كما زعمه الفجرة.

(فلم تزل الأنبياء تبشر لمحمد (صلى الله عليه وآله)) أشار إلى أن جميع الأنبياء بشروا أمتهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) وذكروا نعته ليصدقه كل من أدركه للتنبيه على أن الخليفة لا تكون إلا منصوبا من قبل الله تعالى فلا

ص:70

يجوز أن ينصبه الجهلة بعقولهم الناقصة.

(حتى بلغت محمدا (صلى الله عليه وآله)) أي النبوة والبشارة والوصية. (وذلك) أي كون العلم والرسالة والولاية والوصاية في السابقين واللاحقين بوحي منه تعالى وأمره. (قول الله عز وجل إن الله اصطفى) بالكمالات الجسمانية والنفسانية والفضايل العقلية والروحانية والرسالة والولاية (آدم ونوحا وآل إبراهيم) إسماعيل وإسحاق وأولادهما وقد دخل فيهم وفي الذرية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولاده المعصومون (عليهم السلام) (وآل عمران على العالمين) قيل: آل عمران إما موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر ونسبهما إلى لاوي بن يعقوب وهو جد رابع لهما، أو عيسى ومريم ابنة عمران بن مأتان، ونسبهما إلى يهودا ابن يعقوب وهو الجد الثاني والثلاثين لعيسى (عليه السلام)، وسليمان (عليه السلام) جد العشرين له وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.

(ذرية بعضها من بعض) حال أو بدل من الأولين أو منهما ومن نوح يعني أنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض، وقيل: بعضها من بعض في الدين، والذرية: الولد يقع على الواحد والجمع، فعلية من الذر أو فعولة من الذرء أبدلت همزتها ياء ثم قلبت واوا وأدغمت (والله سميع عليم) بأقوال الناس وأعمالهم فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل، كذا في تفسير القاضي.

(وإن الله تبارك وتعالى لم يجعل العلم جهلا) أي لم يجعل العلم قط بمنزلة الجهل ولا العالم بمنزلة الجاهل في وجوب الاتباع بل أمر باتباع العلم والعالم في جميع الأزمنة والأعصار دون الجهل والجاهل فكيف يجوز لهذه الأمة تقديم الجاهل على العالم؟ وفيه رد على الثلاثة واتباعهم إلى يوم القيامة، وقال الفاضل الإسترابادي: فيه رد على من قال بأن الله تعالى بين بعض أحكامه على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله) وفوض الباقي إلى ظنون المجتهدين وأفكارهم واجتهاداتهم الظنية وأمر من لم يبلغ درجة الاجتهاد الظني باتباع ظنون المجتهدين، وملخص الكلام أن الظن قد يكون باطلا فيكون جهلا لعدم مطابقة الواقع وأمر عباده باتباع العلم وهو اليقين المطابق للواقع.

(ولم يكل أمره إلى أحد من خلقه..) أي لم يكل أمره الذي هو تعيين الخليفة وتقرير الأحكام قط إلى ملك مقرب ونبي مرسل فضلا عن غيره ولكن الله تعالى قررهما وأرسل ملكا إلى رسله فقال لذلك الملك قل لهم كذا وكذا فأمرهم الملك بما يحب الله ونهاهم عما يكرهه من الأمور المختصة بهم (فقص عليهم أمر خلقه بعلم) قص الخبر قصا من باب قتل حدثه على وجهه، والاسم القصص بفتحتين، ولعل المراد بأمر الخلق كل مطلوب منهم من الأوامر والنواهي وغيرهما مما فيه صلاحهم أو الأعم منه ومما يصدر منهم ظاهرا وباطنا وقوله «بعلم» حال عن الفاعل والغرض منه

ص:71

أن تحديثه كان مقرونا بعلم من الله تعالى لا برأيه فإذا لم يفوض شيئا من أمر الخلق برأي ملك عظيم الشأن كيف يفوضه إلى الجاهلين (فعلم ذلك العلم) الذي علمه الله إياه وأفاضه عليه (وعلم أنبياءه وأصفياءه) كأن المراد بالأنبياء المعنى العام الشامل للرسل أيضا وبالأصفياء والأوصياء مطلقا لصدقها على الرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فبينهما عموم مطلق لأن كل نبي صفي دون العكس، وحمل العطف على التفسير بعيد.

(من الأباء والإخوان والذرية التي بعضها من بعض) بيان للأصفياء يعني أن بعضهم آباء لبعض وبعضهم إخوان في النسب أو في الدين كمحمد وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم، وكموسى ويوشع ويوسف وأسباط أخوته (عليهم السلام) وبعضهم ذرية من بعض وقد اجتمعت الثلاثة في كثير منهم باختلاف الإضافة والاعتبار، وفي بعض النسخ: من الأنبياء.

ثم استشهد لما أشار إليه من أن النبوة والرياسة والعلم في الذرية التي بعضها من بعض من قبله تعالى (وقال فذلك قوله عز وجل ولقد آتينا إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) مندرج في آله (عليهم السلام) نبينا صلى الله عليه وآله وأوصياؤه عليهم السلام أيضا (فأما الكتاب فهو النبوة وأما الحكمة فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة) في بعض النسخ «والصفوة» (وأما الملك العظيم فهم الأئمة الهداة من الصفوة) الظاهر أن «من» في المواضع الثلاثة بيانية ويحتمل أن يكون ابتدائية، ولعل المراد أنه أشار بذكر الكتاب إلى النبوة والأنبياء وبذكر الحكمة إلى الحكماء والعلماء لأنهم إذا أتاهم الحكمة وهي العلم بالشرايع وأسرار التوحيد ومصالح الدنيا والآخرة فهم الحكماء العارفون بالمنافع والمضار كلها المحترزون عن المقابح وبذكر الملك العظيم إلى الأئمة الهداة ووجوب طاعتهم إذ بطاعتهم وعونهم ينتظم الملك العظيم وهو رياسة الدارين، وقد أول الصادق (عليه السلام) في باب «أن الأئمة (عليهم السلام) ولاة الأمر» أيضا الكتاب في هذه الآية بالنبوة والحكمة بالفهم والقضا والملك العظيم بالطاعة.

(وكل هؤلاء الأنبياء) والحكماء والأصفياء والأئمة من الذرية التي بعضها من بعض في النسب أو الدين أو الوصاية.

(والعلماء) عطف على الذرية (الذين جعل الله فيهم البقية) أي من ينتظر وجوده ويترقب ظهوره من قولك بقيت الرجل أبقيه إذا انتظرته ورقبته (وفيهم العاقبة) أي عاقبة أمر النبوة والولاية والوصاية، والعاقبة أيضا آخر كل شيء، وكأن المراد بها نبينا صلى الله عليه وآله وهو آخر الأنبياء (عليهم السلام) أو المهدي المنتظر وهو آخر الأوصياء (عليهم السلام) ويمكن أن يراد بها مجيء واحد بعد آخر على أن يكون مصدرا ومنه العاقب وهو الذي يخلف من قبله، وفي الخبر: ومن أسماء نبينا (صلى الله عليه وآله)

ص:72

العاقب لأنه آخر الأنبياء (عليهم السلام).

(وحفظ الميثاق حتى ينقضي الدنيا) وهم (عليهم السلام) يحفظون العهد الذي أخذه الله تعالى عليهم وعلى غيرهم وأمرهم بالوفاء به من غير زيادة ونقصان.

(وللعلماء ولولاة الأمر استنباط العلم وللهداة) أي لهم لا لغيرهم استنباط علم الكتاب من الحكمة الإلهية وأسرار التوحيد وعلم الأحكام والأخلاق والسياسات وغير ذلك مما لا يصل إليه إلا عقولهم الشريفة المؤيدة بتأييدات ربانية وتوفيقات إلهية، فإن الكتاب بحر لا يستخرج لئالي أسراره إلا المؤيدون من عند الله والغواصون في بحر عصمته وهم أهل البيت (عليهم السلام) وقد نص بهم الله عز وجل بقوله (ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم الذين أمر بطاعتهم بقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وفيه إشارة إلى أن كل من ليست له قدرة الاستنباط لا يجوز له تولي أمر الخلافة.

(فهذا شأن الفضل من الصفوة والرسل والأنبياء والحكماء والأئمة الهداة والحلماء) «من» للبيان أي حفظ الميثاق واستنباط العلم شأن الفضل وأمرهم، والفضل جمع فاضل مثل كمل جمع كامل، ووصفهم بالأوصاف المذكورة باعتبار تعدد الجهات الذين هم ولاة أمر الله عز وجل أي دين الله أو حكمه وهي صفة للمفضل.

(واستنباط علم الله) من الكتب الإلهية وهو عطف على أمر الله (وأهل آثار علم الله) وهي السلاح والمعجزات والأخبار بالمغيبات وتطهير الظاهر والباطن عن الرذايل وتزيينها بالفضايل وتحذير الخلق عن المنهيات وإرشادهم إلى الخيرات والظاهر أن عطفه على أمر الله غير صحيح وعلى الولاة غير مناسب للعطف السابق والأولى أنه مبتدأ وقوله (من الذرية التي بعضها من بعض) خبر له وقوله (من الصفوة بعد الأنبياء (عليهم السلام)) خبر بعد خبر وقوله (من الآباء والإخوان والذرية من الأنبياء) بيان للأنبياء يعني أن أهل آثار علم الله من الصفوة بعد الأنبياء كلهم في الزمان لا في الرتبة والأنبياء آباؤهم وإخوانهم في الدين وذرية الأنبياء (فمن اعتصم بالفضل) الموصوفين بالصفات المذكورة وهم أهل البيت (عليهم السلام) (انتهى بعلمهم) إلى الدرجة القصوى والمرتبة العليا المطلوبة من الإنسان (ونجا بنصرتهم) من العقوبات الاخروية.

(ولم يكن لهم حجة يوم القيامة) أي لم يكن لهم إمام يدفع عنهم العذاب ويشفع لهم أو برهان

ص:73

«ودليل يوم القيامة حين سئلوا لم جعلتم الجهال وغير آل إبراهيم من أهل بيت نبيكم وذريته خلفاء أمناء في دين الله إنما الحجة في آل إبراهيم ليس لهم أن يقولوا من جعلناهم خلفاء أيضا آل إبراهيم لأن المراد بالحجة من آل إبراهيم من جعله الله تعالى حجة بدليل قوله تعالى (وآتيناهم ملكا عظيما) والملك العظيم هو الإمامة.

(وصية الله بعضها من بعض التي وضعها على الناس) الظاهر أنها خبر مبتدأ محذوف وهو هذه وإن ما بعدها صفة لها وأن ضمير التأنيث راجع إليها يعني هذه «أي النبوة والخلافة» وصية الله على الأنبياء، أمر المتقدم منهم أن يوصي للمتأخر، وأوجب على غيرهم قبولها أو متابعتها.

وأشار إلى تفصيل هذا الإجمال بقوله (فقال عز وجل: (في بيوت أذن الله أن ترفع) وهي بيوتات الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى) ولم تزل فيهم وفي ذريتهم يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا بأمر الله تعالى حتى ورثها الله تعالى النبي (صلى الله عليه وآله) ووضعها النبي في أهل بيته وذريته بأمر الله تعالى.

(فهذا بيان عروة الإيمان) أي الكلام المذكور بيان عروة الإيمان والمراد من الإيمان إما المعنى المعروف أو الدين الذي شرع الله تعالى لعباده، والمراد بالعروة الرسول ووصيه على سبيل الاستعارة لأن من تمسك بها فهو حامل للإيمان وناج من الهلاك الدنيوي والأخروي، والعقوبات اللاحقة لمن لم يتمسك بها (وبها ينجو من يتبع الأئمة) الأنسب أن يقول: وبها ينجو من ينجو منكم وإنما عدل عنه للتصريح بالمقصود وهو أن نجاة هذه الأمة باتباع الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وقد قال الله عز وجل في كتابه (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) أي إلى العلم والحكمة والنبوة وآثارهما (ونوحا هدينا) إليها (من قبل) أي من قبل إبراهيم (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون) قال القاضي: الضمير لإبراهيم، إذ الكلام فيه، وقيل لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليس من ذرية إبراهيم فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها، والمذكورون في الآية الثالثة عطف على «نوحا» وفيه أن سياق التعاطف يقتضي أن يكون المعطوف عليه واحدا فالأولى أن الضمير لنوح.

(وكذلك نجزي المحسنين) أي مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجات وإعطاء العلم والحجة والنبوة نجزي المحسنين الكاملين في الإحسان.

(كل من الصالحين) العاملين بما ينبغي التاركين لما لا ينبغي.

(وكلا فضلنا على العالمين) بالحكمة والنبوة والخلافة.

(ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) قال القاضي: هو عطف على كلا أو نوحا أي فضلنا كلا منهم

ص:74

أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) عطف على فضلنا (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده أي ما دانوا به) وما كانوا عليه من الحكمة والنبوة والخلافة، وفيه دلالة على أن ذلك من صنع الله تعالى وليس لأحد مدخل فيه.

(ولو أشركوا) أي هؤلاء الأنبياء الكرام مع كمال فضلهم وقوة عقلهم بتغيير حكم الله وتبديل وصية لله (لحبط عنهم ما كانوا يعملون) فكيف غيرهم من الجهلة الذين لا يعلمون حقائق الإيمان ولا مراتب كمال الإنسان.

(أولئك الذين آتيناهم الكتاب) أراد به الجنس الصادق على المتعدد. (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) قال القاضي وغيره: ضمير بها للثلاثة أي الكتاب والحكم والنبوة وهؤلاء إشارة إلى قريش وقومهم الأنبياء المذكورون ومتابعوهم وقيل هم الأنصار وأصحاب النبي أو كل من آمن به أو الفرس وقيل الملائكة وفسر (عليه السلام) هؤلاء بالأمة جميعا وهي أعم من قريش وفسر القوم بالفضل من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) والمدح شامل لكل من تبعهم إلى يوم القيامة، ولعل المراد بالإيمان الولاية والخلافة أو الأعم منها ومن جميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) ويعبر عنه بالدين، وقوله «علماء أمتك» بدل أو بيان لأهل بيتك، وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب (ولا إثم ولا زور ولا بطر ولا رياء) الرياء معروف وقد ذكرنا تفسيره وأحكامه في شرح كتاب الأصول، والبطر الطغيان عند النعمة وطول الفناء والتكبر عن قبول الحق والكذب من القول والفعل ما لا يطابق الواقع، والزور بالضم الكذب مطلقا أو الكذب المقرون بالقصد أو الميل عن الحق أو الشرك بالله أو ما يعبد من دون الله، فعلى الأول لا فرق بينه وبين الكذب فذكره تأكيد وعلى الثاني بينهما عموم وخصوص مطلق، وعلى الثلاثة الأخيرة بينهما مباينة، أما على الأخيرين فظاهر وأما على السابق منهما فلأن القول من حيث إنه غير مطابق للواقع كذب، ومن حيث إنه مايل عن الحق زور، والإثم بالكسر الذنب وقد يطلق على العمل بما لا يحل وفيه تعريض بمن فيه جميع ذلك.

وقال الفاضل الأمين الإسترابادي: فيه إشارة إلى أن الاستنباطات الظنية من الأصل والاستصحاب وإطلاق الآية أو قياس أو نحو ذلك غير جايزة.

(فهذا بيان ما ينتهي إليه أمر هذه الأمة) وهو أن أمر الخلافة والولاية في العقب من أهل بيته وذريته بأمر الله تعالى كما كانت في أعقاب الأنبياء وذرياتهم بأمره تعالى هذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا فمن تمسك بهم فهو ناج ومن تخلف عنهم فهو هالك «إن الله تعالى طهر أهل بيت

ص:75

نبيه (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وقد نزلت فيهم بالاتفاق كما مر في كتاب الأصول (وسألهم أجر المودة) قال عز وجل (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) ولم يقبل أموالهم حين عرضوا عليه ثلثها، وفي جعل أجر نعمة الرسالة - التي لا نعمة أعظم منها - مودة ذوي القربى دلالة واضحة على وجوب متابعتهم وكمال حبهم وتعظيمهم.

(وأجرى لهم الولاية) قال عز وجل (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا..) الآية، وقال (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال: (ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم.

). الآية (وجعلهم أوصياءه وأحباءه ثابتة بعده في أمته) الظاهر أن فاعل «جعلهم» ضمير له تعالى بقرينة العطف، وكونه للرسول بعيد، وثابتة حال عن الأوصياء والأحباء، والتأنيث باعتبار الجماعة أو الوصاية والمحبة، والمراد بثبوتها استمرارها إلى آخر الدهر.

(فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يكرمه ولا يعذبه) الإكرام إشارة إلى إيصال أنواع الخير، ونفي التعذيب إلى دفع أنواع الشر.

* الأصل:

93 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة ثابت ابن دينار الثمالي، وأبو منصور، عن أبي الربيع قالا: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر (عليه السلام) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي، فقال: أشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله.

فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وقد عرفت حلالها وحرامها وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي، قال: فرفع أبو جعفر (عليه السلام) رأسه فقل: سل عما بدا لك.

فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمد (عليه السلام) من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا، قال: أما في قولي فخمسمائة سنة وأما في قولك فستمائة سنة.

ص:76

قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه (وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) من الذي سأل محمد (صلى الله عليه وآله) وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟ قال: فتلا أبو جعفر (عليه السلام) هذه الآية (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمدا (صلى الله عليه وآله) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل (عليه السلام) فأذن شفعا وأقام شفعا وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد (صلى الله عليه وآله) فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا:

نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا.

فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر، فأخبرني عن قول الله عز وجل: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقا لا تمطر شيئا وكانت الأرض رتقا لا تنبت شيئا فلما أن تاب الله عز وجل على آدم (عليه السلام) أمر السماء فتفطرت بالغمام ثم أمرها فأرخت عزاليها ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهقت بالأنهار فكان ذلك رتقها وهذا فتقها.

قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) أي أرض تبدل يومئذ؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب، فقال نافع: إنهم عن الأكل لمشغولون! فقال أبو جعفر (عليه السلام): أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار؟ فقال نافع: بل إذ هم في النار.

قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ودعوا بالشراب فسقوا الحميم.

قال: صدقت يا ابن رسول الله، ولقد بقيت مسألة واحدة، قال: وما هي؟ قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟ قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولا يزال فردا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه، قال: وما هو؟ قال ما تقول في أصحاب النهروان فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت، وإن قلت: إنه قتلهم باطلا فقد كفرت، قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقا حقا، فأتى هشاما فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك، هذا والله أعلم الناس حقا حقا وهو ابن رسول

ص:77

الله (صلى الله عليه وآله) حقا ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبيا.

* الشرح:

قوله (وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب) هو نافع بن الأرزق كما مر في باب الكون والمكان من كتاب التوحيد، وفي جامع الأصول: نافع مولى عمر، وهو أبو عبد الله نافع بن سرجس على وزن نرجس مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب كان ديلميا تابعيا.

(من هذا الذي تداك عليه الناس) أي ازدحموا وأصل الدك الدق والكسر.

(من الذي سأله محمد وكان بينه وبين عيسى خمسائة سنة) زعم نافع أن بعد الزمان والمسافة مانع من الملاقاة والسؤال، وأجاب (عليه السلام) بأنه وقع الملاقاة والسؤال ليلة الإسراء، وإنما أجاب به لأنه لا يقدر المخاطب المتعنت على إنكاره وإلا فهو (صلى الله عليه وآله) قادر على السؤال في كل وقت أراد إذ لا مسافة في العالم الروحاني.

(ثم تقدم محمد (صلى الله عليه وآله) فصلى بالقوم) قيل كيف يصلون وهم في دار الآخرة وليست دار عمل؟ وأجيب عنه بوجوه: الأول أنه إذا كان الشهداء أحياء فهؤلاء أولى وإذ كانوا أحياء صح أن يصلوا ويعملوا ساير القربات ويتقربوا بذلك إلى الله تعالى وهم وإن كانوا في الآخرة فالدنيا لم ينقطع بعد فإذا فنيت وعقبتها الآخرة دار الجزاء انقطع العمل.

الثاني أن الصلاة ذكر ودعاء، والآخرة دار الذكر والدعاء، قال الله تعالى (تحيتهم فيها سلام..). الآية الثالث أن الموت يمنع التكليف لا العمل.

(فلما أن تاب الله تعالى على آدم (عليه السلام)) أي قبل توبته وغفر له وأنقذه من خوف ما صنع أمر السماء (فتقطرت بالغمام) أي أحدثت القطرات بالغمام، وفي بعض النسخ: تفطرت بالفاء أي تشققت.

والغمام السحاب، سمي لأنه يغم أي يغطي ويستر وجه السماء أو وجه الشمس.

(ثم أمرها فأرخت عزاليها) بفتح العين المهملة والزاي المعجمة واللام المكسورة أو المفتوحة جمع عزلا، وهو فم المزادة شبه اتساع الماء واندفاقه بالذي يخرج من فم الراوية (وتفهقت بالأنهار) أي تفتحت واتسعت، ومنه المتفيهقون وهم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفهق، وهو الامتلاء، وفي بعض النسخ: تفيهقت أي تفتحت.

(فقال أبو جعفر (عليه السلام) أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب) وفي

ص:78

كتاب مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «تكون الأرض خبزة واحدة نزلا لأهل الجنة» والمراد بقوله «نزلا لأهل الجنة» أنها صارت خبزة لأجلهم، ولا ينافي ذلك أكل الكافر منها أيضا وليست من طعام الجنة.

ثم تأويله (عليه السلام) هذا لا ينافي ما ورد في بعض الأحاديث من أن الأرض المبدلة أرض بيضاء نقية لا جبال فيها ولا تلال ولا وهاد. (فقال نافع إنهم عن الأكل لمشغولون) أنكر نافع قوله (عليه السلام) بأنهم مشغولون عن الأكل بأهوال القيامة ولا يخطر من الهم والغم والخوف الأكل ببالهم. (قال أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان فقال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان) متى كان زيد سؤال عن أول زمان كونه ووجوده وهو يستلزم جواز السؤال عن عدمه قبله، ومن ثم قالوا كل ما صح أن يسأل عن وجوده بمتى صح أن يسأل عن عدمه بمتى، واللازم فيما نحن فيه باطل إذ ليس وجوده تعالى مسبوقا بالعدم، فأشار (عليه السلام) إلى أن مقولة متى لا تجري في الواجب لا وجودا ولا عدما وإنما تجري في الوجودات الحادثة.

(سبحان من لم يزل ولا يزال) أي أنزه تنزيها لمن لا يكون له زوال وانتقال من العدم إلى الوجود ولا من الوجود إلى العدم لأن قدم وجوده يتأبى عن العدم وقتا ما.

(فردا صمدا) حال عن فاعل لم يزل وحجة لعدم كون وجوده مسبوقا بالعدم إذ لو كان كذلك لاحتاج إلى الموجد ضرورة أن الشئ لا يوجد نفسه فلا يكون فردا صمدا على الإطلاق لكونه مع موجده واحتياجه إليه (لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) لتنزهه عن الشهوة والتماثل والتعاون والفناء والحاجة إلى الولد وغير ذلك من توابع الحدوث ولواحق الإمكان.

(قال ما تقول في أصحاب النهروان فإن قلت إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت وإن قلت أنه قتلهم باطلا فقد كفرت) كأن نافعا كان يعتقد بأن عليا (عليه السلام) كان إماما مفترض الطاعة بعد الثلاثة وبأن أهل النهروان كانوا محقين في مخالفته فأورد (عليه السلام) بأن هذين الاعتقادين متنافيان لا يجتمعان معا وذلك لأنك إن قلت إن عليا (عليه السلام) قاتلهم بحق ارتددت بتصديقك أهل النهروان كما ارتدوا وإن قلت أنه قاتلهم باطلا فقد كفرت عند الأمة بنسبة الباطل إليه (عليه السلام) والظاهر أن هذا إلزام لا مفر له عنه والله أعلم.

ص:79

حديث نصراني الشام مع الباقر (عليه السلام)

* الأصل:

94 - عنه، عن إسماعيل بن أبان، عن عمر بن عبد الله الثقفي قال: أخرج هشام ابن عبد الملك أبا جعفر (عليه السلام) من المدينة إلى الشام فأنزله منه وكان يقعد مع الناس في مجالسهم فبينا هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك فقال: ما لهؤلاء؟ ألهم عيد اليوم؟ فقالوا: لا يا ابن رسول الله ولكنهم يأتون عالما لهم في هذا الجبل في كل سنة في هذا اليوم فيخرجونه فيسألونه عما يريدونه وعما يكون في عامهم، فقال أبو جعفر (عليه السلام): وله علم؟ فقالوا: هو من أعلم الناس قد أدرك أصحاب الحواريين من أصحاب عيسى (عليه السلام) قال: فهل نذهب إليه؟ قالوا:

ذاك إليك يا ابن رسول الله.

قال: فقنع أبو جعفر رأسه بثوبه ومضى هو وأصحابه فاختلطوا بالناس حتى أتو الجبل فقعد أبو جعفر (عليه السلام) وسط النصارى هو وأصحابه وأخرج النصارى بساطا ثم وضعوا الوسائد ثم دخلوا فأخرجوه ثم ربطوا عينيه. فقلب عينيه كأنهما عينا أفعى ثم قصد إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا شيخ أمنا أنت أم من الأمة المرحومة؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): بل من الأمة المرحومة فقال: أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم؟ فقال: لست من جهالهم فقال النصراني: أسألك أم تسألني؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام) سلني.

فقال النصراني: يا معشر النصارى رجل من أمة محمد يقول: سلني إن هذا لمليء بالمسائل ثم قال:

يا عبد الله أخبرني عن ساعة ما هي من الليل ولا من النهار أي ساعة هي؟ فقال أبو جعفر: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فقال النصراني: فإذا لم تكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار فمن أي الساعات هي؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): من ساعات الجنة وفيها تفيق مرضانا فقال النصراني: فأسألك أم تسألني؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): سلني: فقال النصراني: يا معشر النصارى إن هذا لمليء بالمسائل، أخبرني عن أهل الجنة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوطون أعطني مثلهم في الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوط، فقال النصراني: ألم تقل: ما أنا من علمائهم؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما قلت لك: ما أنا من جهالهم.

فقال النصراني: فأسألك أو تسألني؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): سلني.

ص:80

فقال: يا معشر النصارى والله لأسألنه عن مسألة يرتطم فيها كما يرتطم الحمار في الوحل فقال له:

سل، فقال: أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت باثنين حملتهما جميعا في ساعة واحدة وولدتهما في ساعة واحدة وماتا في ساعة واحدة ودفنا في قبر واحد عاش أحدهما خمسين ومائة سنة وعاش الآخر خمسين سنة من هما؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): عزير وعزرة كانا حملت أمهما بهما على ما وصفت ووضعتهما على ما وصفت وعاش عزير وعزرة كذا وكذا سنة ثم أمات الله تبارك وتعالى عزيرا مائة سنة ثم بعث وعاش مع عزرة هذه الخمسين سنة وماتا كلاهما في ساعة واحدة.

فقال النصراني: يا معشر الأنصار ما رأيت بعيني قط أعلم من هذا الرجل، لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردوني، قال: فردوه إلى كهفه ورجع النصارى مع أبي جعفر (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (حديث نصراني الشام مع الباقر (عليه السلام)) رأيت في بعض الكتب بعد نقل هذه الحكاية أنه آمن به ولم يحضرني الآن اسمه (ثم ربطوا عينيه) كأنهم ربطوا حاجبيه لطوله المانع من الرؤية أو لئلا تضر من شعاع الشمس بعد خروجه من ظلمة الغار وذلك كما توضع اليد فوق الحاجبين عند مواجهة الشمس لأجل رؤية ما يقابله وتعلق الربط بالعين لأدنى ملابسة ومقاربة.

(من ساعات الجنة) على سبيل التشبيه في الشرف والاعتدال كما مر أو هي من ساعاتها وضعت بينهما.

(أخبرني عن أهل الجنة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوطون أعطني مثلهم في الدنيا) في كتاب مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك على منازل لا يتغوطون ولا يبولون ولا يمتخطون ولا يبزقون أمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على طول أبيهم آدم ستون ذراعا يعني لا تباغض بينهم ولا تحاسد قلوبهم كقلب واحد وأخلاقهم كخلق واحد». قال عياض: الرشح العرق والألوة بفتح الهمزة وضم اللام العود الهندي ثم قال:

مذهب أئمة المسلمين أن تنعم أهل الجنة حسي كتنعم أهل الدنيا إلا ما بينهم من التفاوت الذي لا شركة فيه إلا بحسب الاسم وأنه دايم لا ينقطع خلافا للفلاسفة والنصارى من قولهم إن تنعم الآخرة إنما هو لذات عقلية وانتقال من هذا العالم إلى الملأ الأعلى، وهذا المعنى هو

ص:81

المعبر عندهم بالجنة، وخلافا لبعض المعتزلة في أن نعيم الجنة غير دائم وإنما هو لأجل، وقالوا مثله في عذاب جهنم، إلا أنهم عندهم يفنون، وهذا كله خلاف ملة الإسلام وسخافة عقل وخلاف في كتاب الله تعالى وأحاديث نبيه صلى الله عليه وآله.

ص:82

حديث أبي الحسن موسى (عليه السلام)

* الأصل:

95 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد بن منصور الخزاعي، عن علي بن سويد، ومحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن عمه حمزة بن بزيع، عن علي بن سويد، والحسن بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن إسماعيل بن مهران: عن محمد بن منصور، عن علي بن سويد، قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في الحبس كتابا أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة فاحتبس الجواب علي أشهر ثم أجابني بجواب هذه نسخته:

بسم الله الرحمن الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة، فمصيب ومخطىء، وضال ومهتد، وسميع وأصم، وبصير وأعمى حيران، فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمد (صلى الله عليه وآله).

أما بعد فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة وحفظ مودة ما استرعاك من دينه وما ألهمك من رشدك وبصرك من أمر دينك بتفضيلك إياهم وبردك الأمور إليهم. كتبت تسألني عن أمور كنت منها في تقية ومن كتمانها في سعة.

فلما انقضى سلطان الجبابرة وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العتاة على خالقهم رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه مخافة أن يدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قبل جهالتهم: فاتق الله عز ذكره وخص بذلك الأمر أهله واحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشا عليهم بإفشاء ما استودعتك وإظهار ما استكتمتك ولن تفعل إن شاء الله.

إن أول ما أنهى إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالي هذه غير جازع ولا نادع ولا شاك فيما هو كائن مما قد قضى الله عز وجل وحتم فاستمسك بعروة الدين: آل محمد والعروة الوثقى: الوصي بعد الوصي والمسالمة لهم والرضا بما قالوا ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك ولا تحبن دينهم فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم. وتدري ما خانوا أماناتهم؟ أئتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلو ودلوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم: فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

ص:83

وسألت عن رجلين اغتصبا رجلا مالا ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إياه كرها فوق رقبته إلى منازلهما فلما أحرزاه توليا إنفاقه أيبلغان بذلك كفرا، فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عز وجل كلامه وهزءا برسوله (صلى الله عليه وآله) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

والله ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما وما ازدادا إلا شكا كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام.

وسألت عما حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته منهم عارف ومنكر فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وسألت عن مبلغ علمنا وهو على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث فأما الماضي فمفسر وأما الغابر فمزبور وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).

وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم فأما أمهات أولادهم فهن عواهر إلى يوم القيامة، نكاح بغير ولي وطلاق في غير عدة وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه، وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكاة فأنتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان.

وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم يرفع إليه حجة ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف، وسألت عن الشهادات لهم فأقم الشهادة لله عز وجل ولو على نفسك والوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم فإن خفت على أخيك ضيما فلا وادع إلى شرائط الله عز ذكره بمعرفتنا من رجوت إجابته ولا تحصن بحصن رياء ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطل وإن كنت تعرف منا خلافه فإنك لا تدري لما قلناه؟ وعلى أي وجه وصفناه؟ آمن بما أخبرك ولا تفش ما استكتمناك من خبرك. إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ولا تحقد عليه وإن أساء وأجب دعوته إذا دعاك ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك. وعده في مرضه.

ليس من أخلاق المؤمنين الغش ولا الأذى ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الأمر به فإذا رأيت المشوه الأعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل الله عز وجل بالمجرمين فقد فسرت لك جملا

ص:84

مجملا وصلى الله على محمد وآله الأخيار.

* الشرح:

(حديث أبي الحسن موسى (عليه السلام)) في عهد هارون الرشيد حين كان محبوسا بأمره عند السندي ابن شاهك في بغداد (الحمد لله العلي العظيم) أي العلي عن المشابهة بالمخلوقين والإحاطة به وصف الواصفين، العظيم بذاته وصفاته فذاته في أعلى مراتب الجلال وصفاته في أقصى مراتب الكمال وكل ما سواه بالإضافة إليه حقير صغير محتاج فقير (الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين...) الظاهر أن الباء للسببية إذ الإبصار والمعاداة والابتغاء وقعت بسببهما بيان ذلك أن عظمته المطلقة وكبرياءه تقتضي معرفة جميع ما سواه إياه وانقيادهم له في أوامره ونواهيه وابتهالهم في ذل الحاجة إليه، ولا يتحقق ذلك إلا بوضع علم بجميع ما يحتاجون إليه في صدر رسول ومن ينوب منابه وهذا العلم يسمى تارة بالنور لاهتداء الخلق به وتارة بالعرش لاستقرار العظمة وجميع المخلوقات فيه فبسبب نوره وعظمته المقتضية له أبصر قلوب المؤمنين سبل الحق وطرق الخيرات وكيفية سلوكها.

(وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون) بإنكاره أو إنكار رسوله أو إنكار وليه ووصي رسوله حتى توقفوا وتحيروا في سبيله الحق ولو لم يكن العظمة والنور لم يتصور الإبصار والمعاداة والابتغاء.

وقد أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «ومضيت بنور الله حين وقفوا» أرد (عليه السلام) أن سلوكه لسبيل الله على وفق العلم وهو نور الله الذي لا يضل من اهتدى به وذلك حين وقفوا حائرين مترددين جاهلين بالقصد وكيفية سلوك الطريق وكان غرضه (عليه السلام) هو التنبيه على أن هذه الفضيلة كانت فيه لا في غيره فلا يجوز تقديم الغير عليه، وكذلك بعظمته ونوره ابتغى الخلق كلهم الوسيلة والتقرب إليه بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة حيث علموا أنه مستحق للتقرب به، فمنهم من اقتفى نوره واتخذ دينا حقا وعمل عملا على وفقه، ومنهم من مزجه بظلمة الجهل وحصلت له شبهة واتخذ دينا باطلا وعمل عملا باطلا فظن أنه وسيلة التقرب به.

كما فرع عليه ذلك بقوله (فمصيب) في العقد والعمل (ومخطىء) فيهما (وضال) في الدين (ومهتد) فيه (وسميع) يسمع نداء الحق وآياته الداعية إليه وإلى رسوله وولاة الأمر (وأصم) لا يسمع شيئا من ذلك ولا يعمل به (وبصير) يدرك مراد الله تعالى والمطالب الحقيقية والأسرار الإلهية وما نطق به القرآن الكريم والرسول العظيم (وأعمى حيران) لا يدرك شيئا منها فهو حيران

ص:85

في أمر الدين لا يهتدي إلى الأئمة الهداة دليلا ولا إلى مطالب الشرع سبيلا.

(فالحمد لله عرف) في بعض النسخ «عز» (ووصف دينه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم) أي بينه وأوضحه. والدين الطريقة الإلهية التي شرعها لعباده واستعبدهم بها.

(أما بعد فإنك امرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة) هي بمنزلة المحبة والقرب والطاعة والانقياد والتسليم لهم، وفيه مدح عظيم لعلي بن سويد، والسند الثاني صحيح إلا أن فيه شهادة لنفسه ففي إثبات مدحه بذلك نظر، فضلا عن توثيقه كما صرح به الفاضل الإسترابادي في حاشية على كتاب رجاله المتوسط نقلا عن الشهيد الثاني (ره) ثم قال فالاعتماد على توثيق الشيخ وهذا الخبر كالمؤيد والله أعلم.

(فلما انقضى سلطان الجبابرة) ويقال لها سلطان الباطل وسلطان الشيطان أيضا لأن أطوار الجبابرة أطوار باطلة مردية وأفعالهم أفعال شيطانية مغوية وهم لتمكن رذائل الأخلاق في نفوسهم الشريرة يفسدون في الأرض ويذلون أهل الحق ويقتلون أولياء الله، وجنودهم جنود الشيطان وأولياؤه، والسلطان بضم السين وسكون اللام وضمها للاتباع لغة ولا نظير له قدرة الملك، والمراد بانقضاء سلطانهم انتهاء قدرتهم لأن قدرتهم على أذى الناس وهتك حرمتهم متصورة على الأحياء منهم، وأما إذا جاء الموت وهو المراد بقوله (وجاء سلطان ذي السلطان العظيم..) فقد انقضى سلطانهم وبطلت قدرتهم عليه لأنه خرج عن ملكه.

(مخافة أن تدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا) وهم الجهال كما صرح به، وأما الأقوياء فيعلمون أن الأرض لا تخلو من حجة بعده (عليه السلام) فلا تدخل الحيرة عليهم.

(فاتق الله جل ذكره..) أمر أولا بالاتقاء عما يوجب عقوبة الله تعالى لأنه المقصود الأصلي من كل أحد والمحرك له إلى حفظ نفسه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله عما لا يليق بالأحرار، وأمر ثانيا بأن يخص بذلك الأمر وهو أمر الخلافة أهله وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يعتقد الإمامة بعده لأهلها لا غير أهلها، وثانيها أن يظهرها لمن يقبل منه لا لغيره، وأمر ثالثا بالحذر عن أن يظهرها للمعاندين فإن إظهارها لهم سبب للبلية على الأوصياء.

(أني أنعى إليك نفسي) نعيت الميت نعيا من باب نفع أخبرت بموته فهو منعى والفاعل نعى على فعيل يقال جاء نعيته بكسر العين وشد الباء وهو الذي يخبر بموته.

(غير جازع ولا نادم ولا شاك) نفى أولا عن نفسه القدسية الجزع لأن الجزع وهو ضد الصبر إما لضعفه عن حمله ما نزل به أو لشدة خوفه عما يرد عليه بعد الموت أو لشدة حرصه في الدنيا وخوف فواتها، ونفسه الطاهرة كانت منزهة عن جميع ذلك، ونفى ثانيا عنها الندامة لأن الندامة إما

ص:86

عن فعل ما لا ينبغي فعله أو عن ترك ما لا ينبغي تركه وكانت ذاته المقدسة منزهة عنهما. ونفي ثالثا عنها الشك لأن الشك من لوازم الجهل وهو (عليه السلام) معدن العلم والأسرار ومنبع الحكمة وكان عالما بما كان وما يكون وما هو كاين إلى يوم القيامة.

(فاستمسك بعروة الدين آل محمد) بدل عن العروة (والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي) من آل محمد شبه آل محمد والوصي منهم بالعروة في أن التمسك بهم حامل للدين شارب من زلاله، ووصفه بالوثقى على سبيل التوشيح للتنبيه على أحكامها وصحة الإيتمان بها حيث لا يعتريها القصم والكسر والقطع.

(والمسالمة لهم) عطف على العروة، والمسالمة المصالحة يقال: سالمه مسالمة وسلاما إذا صالحه من السلم بكسر السين وفتحها وهو الصلح، والمراد الانقياد لهم في جميع الأمور وعدم مخالفتهم في شيء منها، ولما كان ذلك قد يتحقق مع الكراهة نبه بقوله (والرضا بما قالوا) على أنه ينبغي أن يكون ذلك مقرونا بالرضا أو أن لم يعرف وجه الصحة أو ثقل ذلك على النفس.

(ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك) نهى عن طلب دينهم على وجه الأخذ والعمل به، وأما طلبه للعلم بمواضع فساده ومواقع شبهاتهم لمناظرتهم وكسرهم عند الحاجة فالظاهر أنه جايز بل قد يكون واجبا كفائيا كما صرح به بعض الأصحاب.

(ولا تحبن دينهم...) لما كان عدم التمسك بدينهم غير مستلزم لعدم محبته نهى بعده عن محبته وعلل بأنهم خائنون وفعلهم خيانة ودينهم باطل ولا يجوز محبة الباطل كما لا يجوز التمسك به.

وفي كنز اللغة: «خيانت با كسى دغلي وناراستي كردن» وفي المصباح: الخاين هو الذي خان من جعل عليه أمينا.

(وتدري ما خانوا أماناتهم) التي وضعهم الله تعالى عندهم وائتمنهم عليها (أيتمنوا على كتاب الله) الايتمان: «أمين داشتن كسى را بر چيزى» أمنته على الشئ وائتمنته عليه فهو أمين يعني اتخذهم الرسول أمينا على كتابه وأمرهم بحفظه.

(فحرفوه) لفظا ومعنى (وبدلوه) أصلا وحكما فغيروا معانيه وحدوده وبدلوا أصوله وأحكامه.

(ودلوا على ولاة الأمر منهم) أي دلهم الرسول على ولاة الأمر من آل محمد في مواضع عديدة فانصرفوا عنهم تكذيبا لهم ولمن نصبهم وحبا للدنيا ورياستها، وهذا نوع آخر من الخيانة (فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) اقتباس للآية الكريمة ولأصحاب العربية في تفسير لباس الجوع أقوال: قال صاحب الكشاف: إنه استعارة حقيقية عقلية أو حسية لأنه شبه الضرر والألم الحاصل لهم من الجوع أو شبه انتقاع اللون وتغيره ورثاثة الهيئة الحاصلة لهم منه باللباس لاشتماله

ص:87

عليهم واستعير له لفظ اللباس فجاءت الاستعارة حقيقية عقلية على الأول وحسية على الثاني، وقيل: إنه على المكنية والتخييلية لأنه شبه الجوع بإنسان لابس قاصدا للتأثير والضرر واخترع للجوع صورة وهمية خيالية شبيهة باللباس واستعير له لفظ اللباس، وقيل إنه تشبيه بليغ شبه الجوع باللباس في الشمول والإحاطة والملابسة التامة فصار التركيب من باب لجين الماء.

وهذا القول رده جماعة من المحققين، وأقرب الاحتمالات هو الأول لأن تعلق الإذاقة بالمستعار له وهو الضرر والألم أظهر، يقال إذاقة الضرر والبؤس كما صرح به الشريف في حاشيته على المطول.

(وسألت عن رجلين اغتصبا رجلا مالا) أريد برجلين الأول والثاني وبرجل على بن أبي طالب (عليه السلام) وبمال: الخلافة وما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) وبإنفاقه على الفقراء تعليمهم وإرشادهم وهدايتهم ورعاية حقوقهم وإجراء الأحكام عليهم كما أمر الله تعالى به.

(وقوله حتى حملاه كرها فوق رقبته إلى منازلهما) إشارة إلى ما فعلا بعلي (عليه السلام) من حمله على المبايعة والمتابعة لهما جبرا، والكره بالضم: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح ما أكرهك غيرك عليه، والأخير هو المراد هنا. وقوله (فلما أحرزاه توليا انفاقه) إشارة إلى توليهما سياسة الخلق وإنفاق ذلك المال على حسب إرادتهما من غير أن يكون موافقا لمراد الله تعالى، وقوله (عليه السلام) (فلعمري لقد نافقا قبل ذلك) إشارة إلى نفاقهما في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث أظهرا الإيمان به وأبطنا الكفر وعهدهما مع أصحابهما حال حياة النبي (صلى الله عليه وآله) على رد الخلافة عن أهل بيته الطاهرين مشهور، وفي بعض الروايات مذكور، وقوله (وردا على الله عز وجل كلامه) إشارة إلى ردهما الآيات الدالة على أن الولاية والخلافة لأهل البيت (عليهم السلام). وقوله (وهزءا برسول الله (صلى الله عليه وآله)) إشارة إلى استهزائهما به (صلى الله عليه وآله) في مواضع عديدة منها في غدير خم حيث قال أحدهما لصاحبه انظر إلى عينيه تدوران كما تدور عينا مجنون ومنها في صلح الحديبية ومنها في حديث الدواة والقلم، وبسط ذلك وبيان تفاصيله يوجب الإطناب.

وقوله (والله ما دخل في قلب أحد منهما شيء من الإيمان منذ خروجهما من حالتيهما) أي من الشرك وعبادة الأصنام وفي بعض النسخ «عن جاهليتهما» تأكيد لما سبق من أنهما كانا منافقين قبل ذلك.

وقوله (وما ازدادا إلا شكا) أي ما ازدادا بعد الدخول في الإسلام ظاهرا إلا شكا فيه، إشارة إلى أنهم لم يقروا بشيء مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنكار الثاني عليه مذكور في مواضع من كتب العامة أيضا وقد نقلنا جملة منها في شرح كتاب الأصول إلا أنهم قالوا كان خلافه مستندا إلى اجتهاده وهو

ص:88

جائز.

(وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبة منهم عارف بحقه ومنهم منكر له) مع معرفته ولم يعينوه ولم ينصروه بل نصروهما وأمدوهما فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة وكل من تبعهم إلى يوم القيامة أهل الردة الثانية أو المراد بالردة الثانية ردة اثنين وسبعين فرقة من هذه الأمة كما نطق به بعض الروايات ويمكن أن يكون تعريضا بأنهم أهل الردة الأولى لا هما لأنهما لم يدخلا في الدين أصلا، والردة بالكسر اسم من الارتداد، ولا يتحقق الارتداد إلا بالخروج بعد الدخول.

(وسألت عن مبلغ علمنا) أي غايته ومقداره وهو (على ثلاثة وجوه ماض وغابر وحادث) تقسيمه بها باعتبار المعلوم إذ بعضه متعلق بالأمور الماضية وهو مفسر له في الكتب المنزلة أو بتفسير الأنبياء وبعضه متعلق بالغابر أي بالأمور المستقبلية الحتمية وهو مزبور في الصحف التي عندهم، وبعضه متعلق بأمر حادث في الليل والنهار آنا فآنا وشيئا فشيئا وهو قذف في القلوب ونقر في الأسماع، أما القذف فلأن قلوبهم صافية بالأنوار الإلهية فإذا توجهوا إلى العوالم اللاهوتية وتجردوا عن الطبايع البشرية إلى الطبايع الملكية بل إلى فوقها ظهرت لهم من العلوم والحوادث ما شاء الله، ويعبر عن ظهور هذه العلوم تارة بالقذف في القلوب وتارة بالإلهامات الغيبية، وأما النقر في الأسماع فهو يتصور على وجهين أحدهما أن يسمع من الملك صوتا منقطعا متميزا بالحروف والكلمات كما هو المعروف في سماعنا كلام الناس وثانيهما أن يسمع صوتا وهمهمة ودويا ولا يفهم منه ما دام باقيا شيئا فإذا زالت الهمهمة وجد قولا منزلا ملقى في الروع واقعا موقع المسموع إلا أن كيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا الله أو من يطلعه الله عليه، وهذا الحديث وأمثاله محمولة على ظواهرها، والإيمان بها واجب لا دليل عقلا ونقلا على استحالته، فلا يحملها على خلاف الظاهر إلا ضعيف النظر أعمى القلب، وقد نقل الآبي أن رجلا صالحا كان ساكنا في تونس في زاوية مسجدها وكان يقول للمؤذن أذن للصبح فإني أعرف طلوعه بنزول الملائكة ودويهم وقد نقله في مقام مدحه وذكر فضائله لا على سبيل الرد والطعن فإذا جوزوا مثل ذلك في آحاد الناس فلم ينكرون من عترة نبينا وأهل بيت العصمة عليهم السلام.

(وهو أفضل علمنا) لكثرته ولحصوله بلا واسطة بشر ولأنه لا يطلع عليه غيرهم بخلاف المفسر والمزبور فإنه كثيرا ما كان يطلع عليه خواص شيعتهم.

(ولا نبي بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)) هذا يحتمل أمرين أحدهما أن يكون دفعا لتوهم النبوة، ووجه الدفع يظهر بالتأمل في النبي والمحدث والفرق بينهما وقد مر ذلك في صدر الكتاب، وثانيهما أن

ص:89

يكون وجها لتخصيص القذف والنقر بالذكر وبيانا لعدم احتمال السماع من الملك عيانا ومشاهدة لأن ذلك مختص بالنبي ولا نبي بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) فليتأمل.

فأما أمهات أولادهم (فهن عواهر إلى يوم القيامة) العواهر جمع عاهر وهي الزانية، وذلك لأن كلهن مال الإمام عليه السلام على المشهور بين الأصحاب أو خمسهن على قول.

(نكاح بغير ولي) وهو الإمام لأنه ولي المسلمين والمسلمات، وأولى بهم من أنفسهم فإذا لم يرض بنكاحهم بسخطه عليهم كان نكاحهم باطلا، ومن ثم ورد في بعض الأخبار أن كلهم من أولاد الزنا.

(وطلاق في غير عدة) كأنه أشار بنفي ثبوت العدة في نفس الأمر إلى عدم صحة الطلاق فيها لأن نفي اللازم دليل على نفي الملزوم، والمقصود أن طلاقهم غير صحيح لعدم اقترانه بشرايط صحته في الشريعة كما يظهر لمن رجع إلى أصولهم وفروعهم فيه (وأما من دخل في دعوتنا وأقر بولايتنا فقد هدم إيمانه ضلاله) وهو نكاح أمهات الأولاد والإماء المسبيات في الحروب بدون أذنهم عليهم السلام ونكاحهن أعظم أفراد ضلالة لهؤلاء ورخصته للشيعة كما نطق بها بعض الروايات.

(ويقينه شكه) في جواز نكاح مطلقاتهم فإنه يجوز للشيعة نكاحهم بناء على اعتقاد هؤلاء صحة طلاقهم وإن لم يكن صحيحا في مذهب الشيعة وقد وقعت الرخصة به أيضا في بعض الروايات والله أعلم.

(وسألت عن الزكاة فيهم فما كان من الزكوات فأنتم أحق به لأنا قد أحللنا ذلك لكم من كان منكم وأين كان) كأنه سأل هل يجوز أن نشتري منهم وفي مالهم زكاة أو خمس فأجاب (عليه السلام) بأنه يجوز، وهذا ما ذكره الأصحاب من إباحة المتاجر، أو سأل أنهم إذا أخذوا الزكاة منا هل يجب علينا إخراجها مرة أخرى فأجاب (عليه السلام) بأنهم إذا أخذوا الزكاة منكم وإن لم يكونوا أهلها ولم يعطوا أهلها لا يجب عليكم أن تزكوا مرة أخرى، وقد دل عليه بعض الأخبار أيضا، وقال بعض المعاصرين سأل هل يجوز لنا صرف الزكاة فيهم وإعطاؤهم إياها فأجاب (عليه السلام): بأنه لا يجوز ذلك ولا يجوز إعطاؤها غير أهل الولاية.

(وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم ترفع إليه حجة ولم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف) كأنه سأل عن المستضعفين المذكورين في سورة النساء (إلا

ص:90

المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) فأجاب (عليه السلام) بأن المستضعف من لم يعرف الإمام ولم ينكره إذا لم ترفع إليه حجة دالة على حقية الإمام ولم يعرف إختلاف الناس، فيه وأما من دفعت إليه حجة أو عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف لأنه مكلف بالإيمان وطلب الحق فلا يكون معذورا ومن هاهنا يعلم أنه ليس اليوم مستضعف لشيوع الحق والاختلاف، فمن قبله فهو مؤمن، ومن رده فهو كافر، كما مر في باب المستضعف من الأصول.

(وسألت عن الشهادات لهم فأقم الشهادة لله عز وجل...) كما قال الله عز وجل (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) وهو بعمومه شامل لما نحن فيه.

(فإن خفت على أخيك ضيما فلا) أي فإن خفت على أخيك ظلما فلا تقم عليه الشهادة وذلك إذا علمت أنه لا يقدر على أداء الدين وعلمت أنك إذا شهدت عليه به يؤخذ أو يحبس ظلما فيجوز لك ترك الشهادة عليه إلى ميسرة، وكذا إن خفت على نفسك ضررا غير مستحق كما صرحوا به (وادع إلى شرائط الله عز ذكره بمعرفتنا من رجوت إجابته) الشرط والشريطة بمعنى، ويجمع الأول على الشروط، والثاني على الشرائط، ولعل المراد بشرائط الله ما شرط عليهم الإتيان به ولهم بالثواب عليه من النواميس الإلهية والشرايع النبوية، والباء في قوله بمعرفتنا للسببية أو صلة للدعاء أي ادع بمعرفتنا إلى شرائط الله، وفيه تنبيه على أنه لا يمكن الوصول إلى تلك الشرايط بدون معرفتهم، وفي بعض النسخ «إلى صراط الله».

(ولا تحضر حضن زنا) الحضور معروف وقد يأتي بمعنى النزول والسكون ومنه الحاضر وهو من نزل على ماء يقيم به ولا يرحل عنه، والحضن بكسر الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة:

الجانب والناحية، وإضافته إلى زنا لكثرة وقوعه فيه، وإنما نهى عن حضور ناحيتهم وسكونه فيها لأنه يستلزم مشاهدة منكراتهم الثقيلة على المؤمن وميل الطبع إلى طباعهم الشريرة وهي أثقل وأشد عليه، وفي بعض النسخ «ولا تحصن بحصن رياء» الحصن بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين، والرياء معروفان، وتحصن فلان إذا دخل في حصن، والمعنى قريب مما ذكر، هذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال.

(ووال آل محمد صلى الله عليه وآله) لا بد في تحقق موالاتهم من التبرأ من أعدائهم.

ص:91

(ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطل..) فإن للكلام كما أشار إليه (عليه السلام) وجوها وظهرا وبطنا لا تصل إليها عقول السامعين فلا يجوز إنكاره ووجب التوقف فيه إلى أن يوجد من يفسره، ومما يؤيد ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه أن لا يقولوا حتى يعلموا ولا يرووا ما لم يعلموا» وقال (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله).

(وعلى أي وجه وصفناه) من الوضع أو من الوصف على اختلاف النسخ.

(آمن بما أخبرك) في بعض النسخ «بما أخبرتك» أمر بالإيمان به لأنه الأصل، والعمل بما يطلب منه العمل تابع له بل هو من جملته فلذلك لم يذكره.

(ولا تفش ما استكتمناك من خبرك) في بعض النسخ من خيرك بالياء المثناة التحتانية وإنما أمر بكتمانه لئلا يلحق الضرر به أو بأحد من الشيعة.

ثم أشار من باب الاستيناف إلى أن الكتمان مطلوب بالنسبة إلى الأشرار لا بالنسبة إلى أهل الإيمان بقوله (إن من واجب حق أخيك) في الدين (أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته) سواء سألك عنه أم لم يسألك فإن حق الأخوة يقتضي أن ترشده إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة (ولا تحقد عليه وإن أساء) الحقد إمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها وهو من الطغيان في القوة الغضبية، وفي ذكر الإساءة تنبيه على أن عدم الحقد مطلوب مع الإساءة فكيف مع عدمها.

(وأجب دعوته إذا دعاك) إلى طعام أو جلب نفع أو دفع ضرر (ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس) بل ادفعه عنده على أي وجه يمكن (وإن كان) أي العدو (أقرب إليه منك) فكيف إن كنت أقرب إليه منه لأن ذلك الدفع من مقتضى الإيمان ورعاية الأخوة الدينية ولا مدخل للقرب والبعد فيه (وعده في مرضه) قيل بعد ثلاثة أيام فإذا مضت فيوم بعد يوم أو يومين مع عدم إطالة الجلوس إلا أن يحب المريض.

(ليس من أخلاق المؤمنين الغش) غشه غشا من باب قتل، والاسم الغش بالكسر: لم ينصحه وزين غير المصلحة (ولا الأذى) وهو ما يؤذي الغير وأصله مصدر وهو شامل للخصال المؤذية المذمومة كلها مثل الضرب والشتم والهجو والغيبة وغيرها، وقد مر مضار الأذى ومنافع تركه في كتاب الأصول (ولا الخيانة) هي ترك ما يجب حفظه ورعايته من حقوق الله تعالى وحقوق الناس وهي كما تجري في أفعال الجوارح كذلك تجري في أفعال القلوب أيضا فإن على كل عضو حقا

ص:92

وتركه خيانة، وقد مر تفصيل ذلك وتوضيحه في كتاب الأصول (ولا الكبر) كبر «بزرگى بر خود گرفتن» وهو من صفاته تعالى فلا يجوز للمؤمن أن يعتقده لنفسه، وقد مر توضيح ذلك أيضا في كتاب الأصول (ولا الخنا ولا الفحش) الظاهر أن الخنا أخص من الفحش ففي كنز اللغة: «خنا ناسزا وفحش گفتن»، وفي النهاية: الخنا الفحش في القول، والفحش يكون في القول والفعل، وهو القبيح مطلقا أو كلما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي والخصال القبيحة من الأقوال والأفعال، وفيه تنبيه على أن من أخلاق المؤمن وصفاته المختصة به أن يعتقد أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء كما نطق به القرآن الكريم للرد على من نسب ذلك إليه عز وجل وقد مر توضيحه في شرح الأصول.

(فإذا رأيت المشوه الأعرابي) وهو المسيح الدجال صاحب الفتنة العظمة وسمي مشوها لقبح منظره، قال ابن الفارس: سمي الدجال مسيحا لأنه مسح أحد شقي وجهه ولا عين له ولا حاجب وقيل كلتا عينيه معيوبة إحداهما مطموسة مغمورة والأخرى بارزة كبروز حبة العنب عن صواحبها (في جحفل جرار) الجحفل كجعفر الجيش الكبير وجيش جرار ثقيل السير لكثرتهم (فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين) فإنه أقرب علامات ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) (وإذا انكسفت الشمس) لعل المراد به كسوف الشمس للنصف من شهر رمضان لما سيجيء من رواية المصنف بإسناده إلى بدر بن الخليل قال «كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السلام) قال آيتان تكونان قبل قيام القايم (عليه السلام) لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السلام) إلى الأرض انكساف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره فقال رجل يا ابن رسول الله تنكسف الشمس في آخر من الشهر والقمر في النصف.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) إني أعلم ما تقول لكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السلام)» وسيجئ توضيحه إن شاء الله تعالى.

(فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل الله عز وجل بالمجرمين) قد مر في باب تفسير (إنا أنزلناه) في حديث الياس مع الباقر (عليه السلام) ما يناسب هذا المقام وهو قول الباقر (عليه السلام) له «فوددت أن عينك تكون مع مهدي هذه الأمة والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض تعذب أرواح الكفرة من الأموات وتلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء ثم أخرج يعني الياس سيفا ثم قالها ان هذا منها، قال (عليه السلام) أي والذي اصطفى محمدا على البشر ولعل عيون المؤمنين ترى يومئذ عذاب المشركين بين السماء والأرض بكشف الحجاب». وقد مر شرحه.

ص:93

حديث نادر

* الأصل:

96 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن محمد بن أيوب، وعلي ابن إبراهيم عن أبيه جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى أبو ذر رسول الله (عليه السلام) فقال: يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة فنكون بها؟ فقال: إني أخشى أن يغير عليك خيل من العرب فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثا فتقوم بين يدي متكئا على عصاك فتقول: قتل ابن أخي وأخذ السرح فقال:

يا رسول الله بل لا يكون إلا خيرا إن شاء الله، فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فخرج هو وابن أخيه وامرأته فلم يلبث هناك إلا يسيرا حتى غارت خيل لبني فزارة فيها عيينة ابن حصن فأخذت السرح وقتل ابن أخيه وأخذت امرأته من بني غفار وأقبل أبو ذر يشتد حتى وقف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبه طعنة جائفة فاعتمد على عصاه وقال: صدق الله ورسوله أخذ السرح وقتل ابن أخي وقمت بين يديك على عصاي! فصاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسلمين فخرجوا في الطلب فردوا السرح وقتلوا نفرا من المشركين.

* الشرح:

(حديث نادر) لأنه شاذ، مضمونه غريب، أو لأنه متعلق بشخص معين.

(فقال يا رسول الله إني قد اجتويت المدينة) قال أبو عبيد: تقول اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن وافقك في بدنك، وقال ابن الأثير: اجتووا المدينة أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها ويقال: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة.

(أفتأذن لي أن أخرج أنا وابن أخي إلى مزينة) في القاموس مزينة كجهينة قبيلة وفي المصباح المزن السحاب الواحدة مزنة وتصغيرها مزينة وبها سميت امرأة ثم غلب على ولدها وسميت بها القبيلة، والنسبة إليها مزني بحذف التصغير.

(إني أخشى أن تغير عليك خيل من العرب) أغار عليهم يغير إغارة إذا أسرع في السير والعدو

ص:94

وهجم عليهم ديارهم وأوقع بهم ونهبهم، والاسم من الإغارة الغارة مثل أطاع يطيع إطاعة، والاسم منها الطاعة، ثم تطلق الغارة على الخيل المغيرة يقال: شنوا الغارة أي فرقوا الخيل، كذا في المصباح، وقد يأتي غار بمعنى أغار، كما سيجيء.

(فيقتل ابن أخيك فتأتيني شعثا) الشعث محركة مصدر وهو انتشار الأمر واغبرار الرأس وفي كنز اللغة: شعث «پريشان وغبار آلود شدن».

(وأخذ السرح) هو المال السائم، وفي المصباح: سرحت الإبل سرحا من باب نفع رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدى، وسرحتها بالثقيل مبالغة وتكثير، ويقال للمال الراعي سرح تسمية بالمصدر.

(فقال يا رسول الله بل لا يكون إلا خيرا) قال ذلك لظنه أن خشية النبي (صلى الله عليه وآله) من باب الاحتمال فلما وقع ما خشيه علم أنه كان من باب الإخبار فلذلك قال: صدق الله ورسوله.

(حتى غارت خيل لبني فزارة) أبو حي من غطفان وفي القاموس والمصباح: فزرت الثوب شققته فتفزر وانفزر أي انشق وفزرت الكوز ونحوه كسرته وفزرت فلانا بالعصا ضربته على ظهره والفزارة بالفتح أنثى النمر، وبلا لام قبيلة من غطفان سميت بها لشدتها.

(وأخذت امرأته من بني غفار) في المصباح: غفار ككتاب حي من العرب ومنه أبو ذر الغفاري.

(وأقبل أبو ذر يشتد) أي يعدو والشد والاشتداد هنا العدو والإسراع.

* الأصل:

97 - أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمدا فجاء وشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالسيف: ثم قال: من ينجيك مني يا محمد؟ فقال: ربي وربك فنسفه جبرئيل (عليه السلام) عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجيك مني يا غورث فقال: جودك وكرمك يا محمد، فتركه فقام وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم.

* الشرح:

(فنسفه جبرئيل عليه السلام) أي قلعه، يقال: نسف البناء ينسفه إذا قلعه من أصله.

ص:95

(فقال من ينجيك مني يا غورث) في القاموس: غورث بن الحارث سل سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليقتله به فرماه الله بزلخة بين كتفيه والزلخة كقبرة وجع يأخذ في الظهر فيغلظ حتى لا يتحرك معه الإنسان.

(فقال جودك وكرمك يا محمد فتركه وقام) كان (صلى الله عليه وآله) شديدا في المؤاخذة بحق الله تعالى وسليما وصبورا حليما في المؤاخذة بحق نفسه، وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام في حق الله تعالى كان ذلك مهانة ولو انتقم لنفسه لم يكن ثمة صبر وكان هذا الخلق بطشا فانتفى عنه الطرفان وبقى في الوسط وهو العدل وخير الأمور أوسطها.

(وهو يقول: والله لأنت خير مني وأكرم) يحتمل أن يكون ذلك القول منه إيمانا به (صلى الله عليه وآله) وتصديقا له بالنبوة ويحتمل أن يكون لاحتمال عدم اعتقاده بذلك والأول أقرب.

* الأصل:

98 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد] وعلي بن محمد عن القاسم بن محمد [عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا وما عليك إن لم يثن الناس عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله تبارك وتعالى إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: «لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل يزداد فيها كل يوم إحسانا ورجل يتدارك منيته بالتوبة» وأنى له بالتوبة فوالله أن لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله عز وجل منه عملا إلا بولايتنا أهل البيت.

ألا ومن عرف حقنا أو رجا الثواب بنا، رضي بقوته نصف مد كل يوم وما يستر به عورته وما أكن به رأسه وهم مع ذلك والله خائفون وجلون ودوا أنه حظهم من الدنيا وكذلك وصفهم الله عز وجل حيث يقول: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) ما الذي آتوا به؟ آتوا والله بالطاعة مع المحبة والولاية وهم في ذلك خائفون أن لا يقبل منهم وليس والله خوفهم شك فيما هم فيه من إصابة الدين ولكنهم خافوا أن يكونوا مقصرين في محبتنا وطاعتنا.

ثم قال: إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا ترائي ولا تتصنع ولا تداهن.

ثم قال: نعم صومعة المسلم بيته يكف فيه بصره ولسانه ونفسه وفرجه، إن من عرف نعمة الله بقلبه استوجب المزيد من الله عز وجل قبل أن يظهر شكرها على لسانه ومن ذهب يرى أن له على

ص:96

الآخر فضلا فهو من المستكبرين، فقلت له: إنما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال: هيهات هيهات فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف محاسب أما تلوت قصة سحرة موسى (عليه السلام) ثم قال: كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه وكم من مستدرج بستر الله عليه وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ثم قال: إني لأرجو النجاة لمن عرف حقنا من هذه الأمة إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر وصاحب هوى والفاسق المعلن.

ثم تلا: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ثم قال: يا حفص الحب أفضل من الخوف، ثم قال: والله ما أحب الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا، ومن عرف حقنا وأحبنا فقد أحب الله تبارك وتعالى، فبكى رجل فقال: أتبكي؟ لو أن أهل السماوات والأرض كلهم اجتمعوا يتضرعون إلى الله عز وجل أن ينجيك من النار ويدخلك الجنة لم يشفعوا فيك] ثم إن كان لك قلب حي لكنت أخوف الناس لله عز وجل في تلك الحال [ثم قال له: يا حفص كن ذنبا ولا تكن رأسا، يا حفص قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من خاف الله كل لسانه ثم قال: بينا موسى بن عمران (عليه السلام) يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى! قل له: لا تشق قميصك ولكن اشرح لي عن قلبك. ثم قال: مر موسى بن عمران (عليه السلام) برجل من أصحابه وهو ساجد فانصرف من حاجته وهو ساجد على حاله فقال له موسى (عليه السلام) لو كانت حاجتك بيدي لقضيتها لك فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبلته حتى يتحول عما أكره إلى ما أحب.

* الشرح:

(إن قدرتم أن لا تعرفوا) بأشخاصكم أو بأعمالكم الصالحة وأخلاقكم الفاضلة (فافعلوا) فإن فيه نجاة من الآفات والبليات الواردة من أبناء الزمان وزيادة تقرب من الرحمن (وما عليك إن لم يثن الناس عليك) العاقل اللبيب لا يرضى بثناء الناس عليه لعلمه بأنه قد يوجب الفخر والكبر والغفلة عن التقصير والرضا بالعمل والغرة وكل ذلك من المهلكات، ولو فرض طهارة نفسه عن قبول أمثال ذلك فيعلم أن الثناء لا يليق إلا بالله عز وجل فلا يريده لنفسه تعظيما له.

(وما عليك أن تكون مذموما عند الناس) المراد بالناس أهل الدنيا والمخالفون والفجار لأنهم الذين يذمون الفقراء والعلماء والصلحاء من أهل الدين لكون أطوارهم الحسنة خلاف ما نشأوا هؤلاء عليه، وقوانينهم الشرعية والعقلية خلاف قوانينهم الموضوعة بينهم، وفيه ترغيب في اختيار

ص:97

ما يوجب الحمد عند الله تعالى وإن كان ذلك ما يوجب الذم عند الناس.

(إذا كنت محمودا عند الله تبارك وتعالى) بفعل ما يوجب رضاه وترك ما يوجب سخطه.

(إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين) حصر الخير في فعل رجلين (رجل يزداد فيها) أي في الدنيا (كل يوم إحسانا) إلى نفسه بالعلم والعمل وإلى الغير بالتعليم والإرشاد إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة حتى روي أن من ساوى يوماه فهو مغبون (ورجل يتدارك منيته بالتوبة) والرجوع إليه تعالى: الندم على ما فعل والعزم الثابت على عدم العود إليه، والمنية إما بفتح الميم وكسر النون وشد الياء وهي الموت وجمعها المنايا من «مناه الله عليك» إذا قدره، وسمي بها لأنه مقدر بوقت مخصوص، أو بسكون النون وضم الميم أو كسرها ما أرادته نفسك من الأباطيل وإنما حصر الخير فيهما لأن كل خير غيرهما فهو باطل زائل والزائل لا عبرة به (ورضي بقوته نصف مد كل يوم) من أي جنس وجده والمؤمن الخالص يحترز عن كثرة الأكل لما يتصور في البطنة من ذهاب الفطنة وزوال الرقة وحدوث القسوة والكسالة وسائر ما يترتب عليها من المفاسد (وما يستر به عورته) من أي جنس وجده (وما أكن به رأسه) من العمامة ونحوها أو البيت.

(وهم مع ذلك والله خائفون وجلون) أفرد ضمير الموصول سابقا وجمعه هنا نظرا إلى اللفظ والمعنى، والوجل: الفزع، وهو في الأصل الخوف ثم كثر إطلاقه على اضطراب القلب التابع للخوف وعلى الاستغاثة وطلب الناصر الدافع له وهو هنا أنسب لأن التأسيس خير من التأكيد.

(ودوا أنه حظهم من الدنيا) خبر للموصول والضمير المنصوب راجع إلى عرفان حقهم وما عطف عليهم، وتخصيصه بالقوت المذكور وما بعده بعيد.

(أتوا والله بالطاعة مع المحبة والولاية) أي بطاعة الله أو بطاعتنا مع محبتنا وولايتنا (وهم في ذلك خائفون أن لا يقبل منهم) لاحتمال تقصيرهم في القدر اللائق بهم وكذلك خوف العابدين من التقصير في العبادة (وليس والله خوفهم خوف شك..) أي ليس خوفهم من أجل شكهم في كون دينهم حقا.

(ثم قال إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل فإن عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا تراني) من باب المفاعلة أو التفاعل من الرؤية حذفت إحدى التائين تخفيفا أي لا تعمل عملا رياء وسمعة ليراه الناس ويمدحوك، وقد يأتي المرائي بمعنى المجادل.

(ولا تتصنع) التصنع: تكلف حسن السمت والتزين (ولا تداهن) أي لا تساهل في الدين أو لا تظهر بخلاف ما تضمر وقد أفاد (عليه السلام) أن الأفضل أن لا تخرج من بيتك وبين أن في الخروج

ص:98

والمخالطة مع الناس مفاسد ستة قلما ينفك الخارج منها أو من بعضها، وبين أنه وجب عليك أن تحفظ نفسك عند الخروج عنها.

ثم قال على سبيل التأكيد والترغيب في الاعتزال بذكر منافعه: (نعم صومعة المسلم بيته...) اختلفوا في أن العزلة أفضل أم الخلطة فذهب جماعة إلى الأول وطائفة إلى الثاني وأورد كل من الفريقين أدلة من الكتاب والسنة على مطلوبهم، والحق أن كلا من الاحتجاجين صحيح، ولكن ليس العزلة أفضل مطلقا ولا المخالطة أفضل مطلقا بل كل في حق بعض الناس بحسب مصلحته وفي بعض الأوقات لوجود المصلحة فيها إذ لكل واحد منهما فوائد ومصالح وشرائط متفاوتة بحسب تفاوت الأشخاص والأوقات، وإن شئت معرفة ذلك تفصيلا فارجع إلى ما ذكرنا في أوايل كتاب العقل.

(أن من عرف نعمة الله بقلبه استوجب المزيد من الله عز وجل قبل أن يظهر شكرها على لسانه) رغب في معرفة نعمائه وآلائه بالقلب وتذكيره وتعظيمه والاعتقاد باستحقاقه الثناء، وعد ذلك شكرا موجبا للمزيد كما قال عز وجل (ولئن شكرتم لأزيدنكم) ثم عد إظهار تلك النعمة باللسان فردا آخر من الشكر وهو أيضا موجب للزيادة بمقتضى الآية فيحصل حينئذ زيادة على الزيادة لتحقق علتها (ومن ذهب يرى أن له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين) إشارة إلى أنه ينبغي للعابد العارف الكامل أن يعد نفسه مقصرة في الطاعة وطلب الكمال وطاعته ناقصة بذاتها وبالنظر إلى عظمة المعبود بل يعد نفسه أحقر من كل أحد وعبادته أنقص من كل عبادة، وهذا معنى التواضع، فإذا رأى أن له فضلا عن الآخر فقد رأى لنفسه منزلة وحالا ولعلمه فضلا وكمالا وأنه بتلك الحال والكمال أفضل وأشرف من الآخر فهو من المستكبرين الذين ذمهم الله تعالى في مواضع من القرآن الكريم.

(فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف ومحاسب) أشار إلى أن الفضل والقرب واستحقاق الرحمة وحسن العاقبة والارتباط بينه تعالى وبين العبد أمر معنوي ليس لك علم ولا يعلمه إلا هو فلعله غفر له بالتوبة أو العفو وأنت موقوف يوم القيامة محاسب بالمعصية وغيرها فكيف يجوز لك أن ترى نفسك أفضل منه، وقد مر في أول كتاب العقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «ماتم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى وعد منها أن يرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه» نعم لو رأى في نفسه فضلا وخيرا من علم وطاعة وغيرهما وعده نعمة من الله

ص:99

تعالى ونسبه إليه وحمده به من حيث أنه منه ومن توفيقه فالظاهر أنه لا يضر كما قال سليمان (عليه السلام) (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده).

(أما تلوت قصة سحرة موسى (عليه السلام)) فتعرف أن كفرهم بدل بإيمان يوجب نعمة الأبد، وأن معصيتهم بدلت بطاعة توجب ثواب الأبد، وأنه تعالى غفر لهم ما مضى من ذنوبهم، وفيه دلالة على أنه ينبغي تفضيل النفس على الكافر لما مر ولأنه يوجب العجب لا على أنه لا يجوز لعنه أو ذمه لكفره.

(وكم من مغرور بما قد أنعم الله عليه) من النعم الظاهرة والباطنة والجليلة والخفية، وليس القصد منه مجرد الأخبار بكثرتها بل القصد هو الحث على الشكر والتواضع والتنزه عن رذيلة الغرور الموجب للشرور، وقس عليه ما بعده.

(ثم قال إني لأرجو النجاة لمن عرف حقنا من هذه الأمة إلا لأحد ثلاثة صاحب سلطان جائر وصاحب هوى والفاسق المعلن) لعل المراد بالنجاة النجاة من دخول النار، والثلاثة المذكورة يدخلونها لا محالة لكن الشفاعة تلحقهم بعد مدة، وإنما حملناه على ذلك لدلالة الروايات على أن هذه الفسوق ليست بكفر وعلى أن العصاة من أهل المعرفة يخرجون من النار بالشفاعة، ثم لا يبعد تخصيص صاحب السلطان الجائر بمن كان معينا له في جوره أو ساكتا لا يعينه ولا يمنعه لأن صاحبه المانع له عن الجور ربما وقع مدحه في بعض الروايات، والمراد بصاحب الهوى من اتخذ الباطل من القول والفعل وصفا له فإنه قد أوقع نفسه في المهلكات، والمراد بالفاسق المعلن الفاسق الذي يذكر فسقه عند الناس أو المشهور به.

(ثم تلا قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) الظاهر أن الآية استشهاد لقوله «إني لأرجو النجاة لمن عرف حقنا» لا للمستثنى وإن احتمل ووجه الاستشهاد أن الاتباع يجلب محبة الله تعالى ومن يحبه الله فهو ناج قطعا، فإن قلت: الآية دلت على أن متابعة الرسول يجلب ذلك لا متابعتهم.

قلت: المخاطبون بهذا الحديث هم العارفون بحقهم (عليهم السلام) كما دل عليه قوله «إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا» والعارفون بحقهم لا يفرقون بينه وبينهم (عليهم السلام) في وجوب الاتباع فالآية عندهم دلت على أن متابعتهم أيضا تجلب المحبة، والله أعلم.

(ثم قال يا حفص الحب أفضل من الخوف) كأن الوجه له أن الخوف يقتضي الإتيان بالمأمور به والاجتناب من المنهي عنه للتحرز عن العقوبة ودفع الضرر عن النفس بخلاف الحب فإنه يقتضي ما ذكر لمجرد رضائه تعالى وطلب التقرب منه والفضل بينهما ظاهر، أو أن حقيقة الحب

ص:100

تقتضي الميل إليه والتوصل به، وحقيقة الخوف وإن كان درجة عظيمة تقتضي الوحشة والفرار وبينهما بون بعيد وإن مقام المحبة أعلى من مقام الخوف لأن الخوف حالة نفسانية تحصل من معرفته تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وكبريائه وغنائه عن الخلق ومعرفة قهره وغضبه وكمال قدرته عليهم وعدم مبالاته بتعذيبهم وتأديبهم وإهلاكهم ومعرفة عيوب نفسه وتقصيره في الطاعات والأخلاق والآداب ومعرفة أمر الآخرة وشدائدها وكلما زادت تلك المعارف زاد الخوف فيؤثر ذلك في القلب والجوارح تأثيرا عظيما فيميل القلب إلى ترك الشهوات والندامة على الزلات والعزم على الخيرات ويحترز من الرذائل كلها ويشتغل الجوارح بوظايفها فيحصل بترك الشهوات العفة والزهد وبترك المحرمات التقوى وبترك مالا يعني الورع والصدق والإخلاص ودوام الذكر والفكر حتى يترقى منها إلى مقام المحبة فلا يرى لنفسه إرادة ولا مراد أو يحب كل ما يرد عليه منه ولا يراه ثقيلا على نفسه بل يراه محبوبا مرغوبا يلتذ به أشد التذاذ لمجيئه من جانب المحبوب ويعده تحفة وهدية منه.

(ثم قال والله ما أحب الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا) لعل السر فيه أن حبه تعالى يستلزم الميل إليه والتوصل به والتقرب منه بكل القربات وحب الدنيا والميل إليها والركون إلى زهراتها وغفلاتها والتولي بغير أئمة الهداة الهادية إلى القربات الداعية إلى الخيرات تنافي جميع ما يستلزم الحب، وما ينافي لازم الشئ ينافي ذلك الشئ بالضرورة فلا يجامع حب الدنيا وولاية غير الأئمة حب الله أبدا.

(ومن عرف حقنا) وهو الولاية والإمامة ووجوب الطاعة. (وأحبنا فقد أحب الله تعالى) كما نطق به صدر الآية المذكورة ولأن ذلك يوجب الإقرار بجميع ما أراده الله تعالى من عباده وأنزله إلى رسوله وهو أصل المحبة وأساسها بخلاف إنكار شيء منها خصوصا أعظمها وهو الولاية فإنه يوجب هدم أساس المحبة.

(فبكى رجل) كأنه كان من المنافقين.

(لم يشفعوا فيك) على صيغة المجهول من التشفيع أي لم تقبل شفاعتهم وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرايم.

(ثم قال يا حفص كن ذنبا ولا تكن رأسا) أي كن مرؤوسا تابعا ولا تكن رئيسا متبوعا شبههما بذنب الحيوان ورأسه، وقد روي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال «ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من الرياسة».

(يا حفص قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خاف الله كل لسانه) أي يحفظه عما لا يعني، ولا ينطق إلا

ص:101

بالحق، وإن شئت أن تعرف مفاسد الكلام فارجع إلى ما ذكرناه في باب الصمت من كتاب الكفر والإيمان.

(ثم قال: بينا موسى بن عمران يعظ أصحابه إذ قام رجل فشق قميصه) أصل «بينا» بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا.

(فأوحى الله عز وجل إليه يا موسى قل له لا تشق قميصك ولكن اشرح لي عن قلبك) شرح زيد صدره للحق أي فسحه ووسعه لقبوله وتعديته بعن لتضمين معنى الكشف أي كاشفا عن قلبك برفع ما يواريه ويغطيه من موانع دخول الحق فيه، وفي القاموس شرح كمنع: كشف، وحينئذ لا حاجة إلى التضمين وفيه تنبيه على أنه ينبغي من تطهير القلب وتنزيهه عن الرذائل ليستعد بذلك لقبول الحق وتحصيل الفضائل وإلا فلا ينفع الصياح والبكاء وأعمال الجوارح وشق القميص ونحو ذلك كما قيل بالفارسية:

جان پار ساز جامه دريدن چه فايده * از خود ببر زغير بريدن چه فائده (حتى يتحول عما أكره إلى ما أحب) الموصول الثاني عبارة عن المحبة أو تطهير القلب أو تطهير الظاهر والباطن جميعا أو الأعم وكأن ذلك الساجد كان منافقا في دين موسى (عليه السلام) وهكذا يفعل الله تعالى ببعض عباده إما من باب اللطف والتنبيه ليرجع ويتوب أو من باب الغضب وليس المراد أنه يفعله بالجميع كذلك، فلا ينافي ما مر في باب الدعاء من أنه تعالى قد يقبل دعاء الفسقة سريعا لكراهة سماع صوته.

ص:102

«حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)»

* الأصل:

99 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم وغيره; عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان شيء أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أن يظل جائعا خائفا في الله.

* الشرح:

قوله (حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)) يذكر فيه شيء من آدابه وتواضعه لله تعالى (ما كان شيء أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أن يظل) أي يصير (جايعا خائفا في الله) مثله في باب ذم الدنيا بسند آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «ما أعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيء من الدنيا إلا أن يكون فيها جايعا خائفا» واعلم أن في الجوع فوائد منها ما روي عن الصادق (عليه السلام) «أن البطن ليطغى من أكله وأقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل إذا خف بطنه، وأبغض ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا امتلاء بطنه» ومنها صفاء القلب ورقته وقلة النوم وكثرة الحفظ وصحة البدن وقلة الاحتياج إلى كسب الأموال إلى غيرها مما ذكرنا في الباب المذكور.

وللخوف أيضا فوائد، منها التزام الخيرات، وينبغي أن يعلم أن خوفه ليس كخوفنا من المعصية والعقوبة والتقصير في الطاعة وسوء الخاتمة وأمثال ذلك فإنه كان منزها عنها بل خوفه من التنزلات عن المقامات العالية لإصلاح الخلق أو من خوضه في هيبة العظمة الإلهية.

* الأصل:

100 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار جميعا، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة; عن سعيد بن عمرو الجعفي، عن محمد بن مسلم، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ذات يوم وهو يأكل متكئا قال: وقد كان يبلغنا أن ذلك يكره فجعلت أنظر إليه فدعاني إلى طعامه فلما فرغ قال: يا محمد لعلك ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما رأته عين وهو يأكل وهو متكىء من أن بعثه الله إلى أن قبضه؟ قال: ثم رد على نفسه: لا والله ما رأته عين يأكل وهو متكىء من أن بعثه الله إلى أن قبضه ثم قال: يا محمد لعلك ترى أنه شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية من أن بعثه الله إلى أن قبضه، ثم رد على نفسه ثم قال: لا والله ما شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية منذ

ص:103

بعثه الله إلى أن قبضه، أما إني لا أقول: إنه كان لا يجد، لقد كان يجيز الرجل الواحد بالمائة من الإبل فلو أراد أن يأكل لأكل.

ولقد أتاه جبرئيل (عليه السلام) بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرات يخيره من غير أن ينقصه الله تبارك وتعالى مما أعد الله له يوم القيامة فيختار التواضع لربه عز وجل وما سئل شيئا قط فيقول: لا، إن كان أعطى، وإن لم يكن قال: يكون، وما أعطى على الله شيئا قط إلا سلم ذلك إليه حتى أن كان ليعطي الرجل الجنة فيسلم الله ذلك له، ثم تناولني بيده وقال: وإن كان صاحبكم ليجلس جلسة العبد ويأكل أكلة العبد ويطعم الناس خبز البر واللحم ويرجع إلى أهله فيأكل الخبز والزيت وإن كان ليشتري القميص السنبلاني ثم يخير غلامه خيرهما، ثم يلبس الباقي فإذا جاز أصابعه قطعة وإذا أجاز كعبه حذفه.

وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه ولقد ولي الناس خمس سنين فما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعة ولا أورث بيضاء ولا حمراء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع لأهله بها خادما وما أطاق أحد عمله وإن كان علي بن الحسين (عليهما السلام) لينظر في الكتاب من كتب علي (عليه السلام) فيضرب به الأرض ويقول: من يطيق هذا؟

* الشرح:

(لا والله ما رأته عين وهو يأكل وهو متكئ) فعله (عليه السلام) مع أنه (صلى الله عليه وآله) لم يفعله لبيان الجواز (فقال لا والله ما شبع من خبز البر ثلاثة أيام متوالية) هذا متفق عليه بين الأمة، روى مسلم بإسناده أنه «ما شبع رسول الله (قدس سرهما) ثلاثة أيام تباعا من خبر بر حتى مضى لسبيله» وفيه دلالة على أنه شبع من خبز البر دون ثلاثة، ويؤيده ما سيجيء من قوله (صلى الله عليه وآله) «أشبع يوما وأجوع يوما» وبالجملة أمثال هذه الأحاديث دلت على أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يديم الشبع والترفه بل كان يأكل الخشن ويقتصر من الأكل على ما يقيم الرمق معرضا عن متاع الدنيا مؤثرا ما ينبغي على ما يفني مع إقبال الدنيا عليه ووفورها لديه، وإنما لم يشبع لئلا يشبع هو ويجوع أحد من المسلمين، ولأن في كثرة الأكل مفاسد روحانية وعللا جسمانية، وليست القوة على العبادة والشجاعة من كثرة الأكل كما زعمه بعض الناس وسمعته من بعض عباد البطن وإنما القوة عليهما قوة إلهية وقدرة روحانية، والحكم بأن القوة من كثرة الغذاء من أحكام الوهم، والعقل الخالص يحكم بأن الله تعالى إذا أراد أن يلبس أحدا حلة

ص:104

القوة من غير أن يأكل غذاء أرباب الترفه يلبسها ولا مانع عنه، ألا ترى أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) مع كمال اتصافهما بقلة الأكل ونهاية الرياضة كانا أشجع الناس وأعبدهم وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا بقوله «وكأني بقائلكم يقول إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان» ثم شبه نفسه الزكية بالشجرة البرية في أنها أشد قوة من الحضرية مع أنه لا شراب لها مثل الحضرية فقال «ألا وأن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا والنباتات العذية أقوى وقودا وأبطأ خمودا» فقد أشار (عليه السلام) إلى أن من سلك سبيل المجاهدة وشرب زلال المشاهدة يأكل قليلا من خشن الطعام ويقدر على ما لم يقدر عليه شجعان الأيام وما هو إلا بقوة الله تعالى، والروائع: العجائب، والعذية بكسر العين وفتحها وسكون الذال والياء المثناة التحتانية: زرع لا يسقيه إلا المطر.

ثم أشار (عليه السلام) تأكيدا لما مر مصدرا بالقسم «والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها» وذلك لأنه (عليه السلام) كان شديد القلب عند البأس والانهزام إنما يكون بالجبن وهو كان منزها عنه.

(أما أني لا أقول أنه كان لا يجد لقد كان يجيز الرجل الواحد) أي يعطيه، من «أجازه» إذا أعطاه (بالمائة من الإبل) روي أنه (صلى الله عليه وآله) «ما سئل شيئا قط فقال لا» وحكاية جوده مشهورة، ومن طريق العامة عن أنس قال «ما سئل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا على الإسلام إلا أعطاه قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة».

قال المازري: معنى فأعطاه غنما بين جبلين أي غنما يملأ ما بين جبلين.

(ولقد أتاه جبرئيل (عليه السلام) بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرات...) لعله كناية عن بقائه في الدنيا وتملكه ما فيها وسلطنته على أهلها فاختار الفقر والموت تواضعا لله عز وجل، وسيجئ توضيحه في حديث ابن المغيرة.

(ثم تناولني بيده) هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها «من يناوله» وهو مرتبط بما قبله والأصل بما بعده (وقال وإن كان صاحبكم ليجلس جلسة العبد) إن مخففة، والصاحب علي (عليه السلام) والجلسة بالكسر مصدر للنوع، والمقصود أنه (عليه السلام) كان يجلس على التراب والجلود ولم يكن له بساط وفروش مزينة لا لأنه لم يجدها بل للتواضع لله عز وجل.

(ويأكل أكلة العبد) الأكلة بالضم اللقمة والقرصة والطعمة وهي ما يطعم ويؤكل والمقصود أن طعامه كان خشنا غليظا أو بلا إدام.

(وإن كان ليشتري القميص السنبلاني) وفي القاموس: قميص سنبلاني: سابغ الطول، أو

ص:105

منسوب إلى البلد بالروم، وسنبل ثوبه: جره من خلفه وأمامه، وسنبلان وسنبل بلدان بالروم بينهما عشرون فرسخا.

(فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه) فرارا من عادة المختالين المتكبرين ومخالفة شعار المؤمنين حيث أن قميصهم كما روي إلى نصف الساق أو إلى الكعب، ومن الإسراف في الثوب بما لا حاجة إليه ومن النجاسة فإن الثوب بجره على الأرض يتلوث غالبا ومن سرعة بلاه وخرقه بجره على التراب.

(وما ورد عليه أمران قط كلاهما لله رضا) احترز به عما إذا لم يكن في أحدهما لله رضا فإنه لا يجوز تعذيب النفس به سواء كان أشق أم أخف (إلا أخذ بأشدهما على بدنه) حملا لنفسه القدسية على الرياضة، والانحراف عن الكسل والراحة، وطلبا للأفضل كما تقرر «أفضل الأعمال أحمزها» وروي «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه نفسك» وفيه تنبيه على أنه لابد من تذليل النفس المائلة إلى الراحة بحمل الأشق من الطاعات عليها لتعتاد في الخيرات ويسهل لها سلوك سبيل الطاعات حتى ترتقي إلى غاية الكمالات وتدرك أرفع درجة المثوبات (فما وضع آجرة على آجرة) في المصباح: الآجر اللبن إذا طبخ، بمد الهمزة، والتشديد أشهر من التخفيف، الواحد آجرة وهو معرب (ولا لبنة على لبنة) اللبن ككتف: المضروب من الطيب مربعا للبناء ويقال فيه بالكسر وبكسرتين فكابل لغة والواحدة لبنة بفتح اللام وكسر الباء ويقال بكسر اللام وسكون الباء، ولبنه تلبينا اتخذه، والمقصود أنه (عليه السلام) ما اشتغل بعمارة الدنيا ولم ينفق بالهوى في عمارتها لأنها مبغوضة لله منذ خلقها إذ هي سبب انقطاع عباده عن عبادته، ولهذا لما بنى النبي (صلى الله عليه وآله) مسجده اقتصر فيه وقال «عريش كعريش موسى» ولم يشتغل فيه بالتشييد وزخرف الدنيا مع كونه مسجدا فما ظنك بغيره وروى من طرق العامة أنه (صلى الله عليه وآله) مر يوما بقبة مرتفعة فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان، رجل كان يدخل عليه ويقربه ويقبل عليه فدخل عليه الرجل بعد ذلك اليوم فلم يلتفت إليه فسأل عن سبب إعراضه عنه فقبل أنه رأى قبتك فذهب الرجل فهدمها وسواها بالأرض، فلما علم النبي (صلى الله عليه وآله) بصنيعه عاد فأقبل عليه.

(ولا أقطع قطيعة) لنفسه مع أن ذلك كان جايزا له ولم يفعل لزهده في الدنيا. يقال: أقطعه الإمام الأرض إقطاعا إذا جعل له غلتها رزقا، واسم تلك الأرض التي تقطع قطيعة.

(فيضرب به الأرض) أي يضعه عليها.

(ويقول من يطيق هذا) إذا قال سيد العابدين ذلك فغيره أولى بالاعتراف بالعجز فعلم منه أنه لم يكن أحد من الأولين والآخرين في قوة العمل مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) مع كمال زهده في الدنيا

ص:106

فإن لم يكن لك قوة مثل قوته فتشبه به ولا تترك الميسور بالمعسور.

* الأصل:

101 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان قال: حدثني علي بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخيره وأشار عليه بالتواضع وكان له ناصحا، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد تواضعا لله تبارك وتعالى، ثم أتاه عند الموت بمفاتيح خزائن الدنيا فقال: هذه مفاتيح خزائن الدنيا بعث بها إليك ليكون لك ما أقلت الأرض من غير أن ينقصك شيئا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): في الرفيق الأعلى.

* الشرح:

(إن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (قدس سرهما)) فخيره بين قبول ملك الدنيا وخزائنها وتركها (وأشار عليه بالتواضع لله تعالى) بترك قبولها وقد مر ذلك مع شرحه في باب التواضع من الأصول (وكان له ناصحا) فلم يصدر الإشارة منه بالتواضع والترك من باب الغش بل صدر لمحض النصيحة الخالصة لعلمه بأن ذلك خير له في الدنيا والآخرة (ثم أتاه عند الموت بمفاتيح خزائن الدنيا..) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: كان العلة في إتيانه عند الموت بهذا أن النبي (صلى الله عليه وآله) عسى أن يتقبلها لذريته الطاهرة صلوات الله عليهم فإن معظم قصد الناس أن لا يكون ذريتهم فقراء بعده.

أقول: ويمكن أن يكون العلة فيه عسى أن يتقبل طول العمر والبقاء في الدنيا مع السلطنة كما يشعر به آخر الحديث (ليكون لك ما أقلت الأرض) أي ما حملته ورفعته (من غير أن ينقصك شيئا في الآخرة) من قربك ومنزلتك عنده تعالى ونقص لازم متعد (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الرفيق الأعلى) الجار متعلق بأكون، قيل: المراد بالرفيق الأعلى الملائكة المقربون، وقيل: الأنبياء المرسلون الذين يسكنون أعلى عليين وهو اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق، والخليط يقع على الواحد والجمع ومنه قوله تعالى (وحسن أولئك رفيقا) والرفيق المرافق في الطريق، قيل المراد به الله تعالى لأنه رفيق بعباده من الرفق والرأفة وفيه أن لفظ في يأباه في الجملة إلا أن يكون بمعنى الباء أو إلى أو يقدر بعده الجوار أو الرحمة.

* الأصل:

102 - سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد

ص:107

الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عرضت علي بطحاء مكة ذهبا فقلت: يا رب لا ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا شبعت حمدتك وشكرتك وإذا جعت دعوتك وذكرتك.

* الشرح:

(عرضت علي بطحاء مكة ذهبا) البطحاء والأبطح مسيل واسع فيه دقائق الحصى وقد يطلق على تلك الدقاق.

(فقلت يا رب لا) أي لا أريد (ولكن أشبع يوما وأجوع يوما) أي أفطر يوما وأصوم يوما أو أشبع يوما ولا أشبع يوما.

(فإذا شبعت حمدتك) فيه إرشاد إلى الحمد والشكر بعد النعمة والدعاء والذكر عند الجوع والحاجة إلى الغذاء، ومنه يظهر بعض فوائد الجوع، وقد ذكرنا كثيرا منها في الأصول.

ص:108

حديث عيسى ابن مريم (عليهما السلام)

* الأصل:

103 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط عنهم (عليهم السلام) قال: فيما وعظ الله عز وجل به عيسى (عليه السلام):

يا عيسى أنا ربك ورب آبائك، اسمي واحد وأنا الأحد المتفرد بخلق كل شيء، وكل شيء من صنعي وكل إلي راجعون.

يا عيسى أنت المسيح بأمري وأنت تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني وأنت تحيي الموتى بكلامي فكن إلي راغبا ومني راهبا ولن تجد مني ملجأ إلا إلي.

يا عيسى أوصيك وصية المتحنن عليك بالرحمة حتى حقت لك مني الولاية بتحريك مني المسرة، فبوركت كبيرا وبوركت صغيرا حيث ما كنت، أشهد أنك عبدي، ابن أمتي أنزلني من نفسك كهمك، واجعل ذكري لمعادك وتقرب إلي بالنوافل وتوكل علي أكفك ولا توكل على غيري فأخذلك.

يا عيسى اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن كمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، يا عيسى أحي ذكري بلسانك وليكن ودي في قلبك، يا عيسى تيقظ في ساعات الغفلة واحكم لي لطيف الحكمة، يا عيسى كن راغبا راهبا وأمت قلبك بالخشية. يا عيسى راع الليل لتحري مسرتي واظمأ نهارك ليوم حاجتك عندي. يا عيسى نافس في الخير جهدك تعرف بالخير حيثما توجهت. يا عيسى احكم في عبادي بنصحي وقم فيهم بعدلي، فقد أنزلت عليك شفاء لما في الصدور من مرض الشيطان. يا عيسى لا تكن جليسا لكل مفتون، يا عيسى حقا أقول. ما آمنت بي خليقة إلا خشعت لي ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي فأشهد أنها آمنة من عقابي ما لم تبدل أو تغير سنتي.

يا عيسى ابن البكر البتول! ابك على نفسك بكاء من ودع الأهل وقلي الدنيا وتركها لأهلها وصارت رغبته فيما عند إلهه.

يا عيسى كن مع ذلك تلين الكلام وتفشي السلام. يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذرا للمعاد، والزلازل الشداد، وأهوال يوم القيامة حيث لا ينفع أهل ولا ولد ولا مال، يا عيسى اكحل عينك بميل الحزن إذا ضحك البطالون.

ص:109

يا عيسى كن خاشعا صابرا، فطوبى لك إن نالك ما وعد الصابرون.

يا عيسى رح من الدنيا يوما فيوما، وذق لما قد ذهب طعمه، فحقا أقول: ما أنت إلا بساعتك ويومك، فرح من الدنيا ببلغة وليكفك الخشن الجشب فقد رأيت إلى ما تصير ومكتوب ما أخذت وكيف أتلفت.

يا عيسى إنك مسؤول فارحم الضعيف كرحمتي إياك ولا تقهر اليتيم.

يا عيسى ابك على نفسك في الخلوات وانقل قدميك إلى مواقيت الصلوات وأسمعني لذاذة نطقك بذكري فإن صنيعي إليك حسن.

يا عيسى كم من أمة قد أهلكتها بسالف ذنوب قد عصمتك منها.

يا عيسى ارفق بالضعيف وارفع طرفك الكليل إلى السماء وادعني منك فإني منك قريب ولا تدعني إلا متضرعا إلي وهمك هما واحدا فإنك متى تدعني كذلك أجبك.

يا عيسى إني لم أرض بالدنيا ثوابا لمن كان قبلك ولا عقابا لمن انتقمت منه.

يا عيسى إنك تفنى وأنا أبقى، ومني رزقك وعندي ميقات أجلك وإلي إيابك وعلي حسابك فسلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة.

يا عيسى ما أكثر البشر وأقل عدد من صبر، الأشجار كثيرة وطيبها قليل، فلا يغرنك حسن شجرة حتى تذوق ثمرها.

يا عيسى لا يغرنك المتمرد علي بالعصيان: يأكل رزقي ويعبد غيري ثم يدعوني عند الكرب فأجيبه، ثم يرجع إلى ما كان عليه، فعلي يتمرد؟ أم بسخطي يتعرض؟ فبي حلفت لآخذنه أخذة ليس له منها منجا ولا دوني ملجأ، أين يهرب من سمائي وأرضي.

يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني والسحت تحت أحضانكم والأصنام في بيوتكم فإني آليت أن أجيب من دعاني وأن أجعل إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا، يا عيسى كم أطيل النظر وأحسن الطلب والقوم في غفلة لا يرجعون؟ تخرج الكلمة من أفواههم، لا تعيها قلوبهم، يتعرضون لمقتي ويتحببون بقربي إلى المؤمنين. يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية واحدا وكذلك فليكن قلبك وبصرك واطو قلبك ولسانك عن المحارم وكف بصرك عما لا خير فيه، فكم من ناظر نظرة قد زرعت في قلبه شهوة ووردت به موارد حياض الهلكة.

يا عيسى كن رحيما مترحما وكن كما تشاء أن يكون العباد لك وأكثر ذكر الموت ومفارقة الأهلين ولا تله فإن اللهو يفسد صاحبه ولا تغفل فإن الغافل مني بعيد واذكرني بالصالحات حتى أذكرك.

ص:110

يا عيسى تب إلي بعد الذنب وذكر بي الأوابين وآمن بي وتقرب إلى المؤمنين ومرهم يدعوني معك وإياك ودعوة المظلوم فإني آليت على نفسي أن أفتح لها بابا من السماء بالقبول وأن أجيبه ولو بعد حين.

يا عيسى اعلم أن صاحب السوء يعدي وقرين السوء يردي، واعلم من تقارن واختر لنفسك إخوانا من المؤمنين.

يا عيسى تب إلي فإني لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأنا أرحم الراحمين، اعمل لنفسك في مهلة من أجلك قبل أن لا يعمل لها غيرك واعبدني ليوم كألف سنة مما تعدون، فيه أجزي بالحسنة أضعافها وإن السيئة توبق صاحبها، فامهد لنفسك في مهلة ونافس في العمل الصالح، فكم من مجلس قد نهض أهله وهم مجارون من النار.

يا عيسى ازهد في الفاني المنقطع وطأ رسوم منازل من كان قبلك فادعهم وناجهم هل تحس منهم من أحد وخذ موعظتك منهم، واعلم أنك ستلحقهم في اللاحقين.

يا عيسى قل لمن تمرد علي بالعصيان وعمل بالادهان ليتوقع عقوبتي وينتظر إهلاكي إياه سيصطلم مع الهالكين، طوبى لك يا ابن مريم، ثم طوبى لك إن أخذت بأدب إلهك الذي يتحنن عليك ترحما وبدأك بالنعم منه تكرما وكان لك في الشدائد، لا تعصه يا عيسى فإنه لا يحل لك عصيانه قد عهدت إليك كما عهدت إلى من كان قبلك وأنا على ذلك من الشاهدين.

يا عيسى ما أكرمت خليقة بمثل ديني ولا أنعمت عليها بمثل رحمتي.

يا عيسى اغسل بالماء منك ما ظهر، وداو بالحسنات منك ما بطن فإنك إلي راجع.

يا عيسى أعطيتك ما أنعمت به عليك فيضا من غير تكدير وطلبت منك قرضا لنفسك فبخلت به عليها لتكون من الهالكين.

يا عيسى تزين بالدين وحب المساكين وامش على الأرض هونا وصل على البقاع فكلها طاهر.

يا عيسى شمر فكل ما هو آت قريب، واقرأ كتابي وأنت طاهر، وأسمعني منك صوتا حزينا.

يا عيسى لا خير في لذاذة لا تدوم، وعيش من صاحبه يزول، يا ابن مريم لو رأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك شوقا إليه، فليس كدار الآخرة دار تجاور فيها الطيبون ويدخل عليهم فيها الملائكة المقربون وهم مما يأتي يوم القيامة من أهوالها آمنون، دار لا يتغير فيها النعيم ولا يزول عن أهلها، يا ابن مريم نافس فيها مع المتنافسين فإنها أمنية المتمنين، حسنة المنظر، طوبى لك يا ابن مريم إن كنت لها من العاملين مع آبائك آدم وإبراهيم،

ص:111

في جنات النعيم، لا تبغي بها بدلا ولا تحويلا كذلك أفعل بالمتقين.

يا عيسى اهرب إلي مع من يهرب من نار ذات لهب ونار ذات أغلال وأنكال لا يدخلها روح ولا يخرج منها غم أبدا، قطع كقطع الليل المظلم من ينج منها يفز ولن ينجو منها من كان من الهالكين، هي دار الجبارين والعتاة الظالمين وكل فظ غليظ وكل مختال فخور.

يا عيسى بئست الدارين لمن ركن إليها وبئس القرار دار الظالمين إني أحذرك نفسك فكن بي خبيرا.

يا عيسى كن حيث ما كنت مراقبا لي واشهد على أني خلقتك وأنت عبدي وأني صورتك وإلى الأرض أهبطتك.

شرح الكافي: 12 / كتاب الروضة يا عيسى لا يصلح لسانان في فم واحد ولا قلبان في صدر واحد وكذلك الأذهان.

يا عيسى لا تستيقظن عاصيا ولا تستنبهن لاهيا وأفطم نفسك عن الشهوات الموبقات وكل شهوة تباعدك مني فاهجرها، واعلم أنك مني بمكان الرسول الأمين فكن مني على حذر واعلم أنك دنياك مؤديتك إلي وأني آخذك بعلمي فكن ذليل النفس عند ذكري، خاشع القلب حين تذكرني، يقظانا عند نوم الغافلين.

يا عيسى هذه نصيحتي إياك وموعظتي لك فخذها مني وإني رب العالمين.

يا عيسى إذا صبر عبدي في جنبي كان ثواب عمله علي وكنت عنده حين يدعوني، وكفى بي منتقما ممن عصاني، أين يهرب مني الظالمون.

يا عيسى أطب الكلام وكن حيثما كنت عالما متعلما. يا عيسى افض بالحسنات إلي حتى يكون لك ذكرها عندي وتمسك بوصيتي فإن فيها شفاء للقلوب.

يا عيسى لا تأمن إذا مكرت مكري ولا تنس عند خلوات الدنيا ذكري.

يا عيسى حاسب نفسك بالرجوع إلي حتى تتنجز ثواب ما عمله العاملون أولئك يؤتون أجرهم وأنا خير المؤتين.

يا عيسى كنت خلقا بكلامي، ولدتك مريم بأمري المرسل إليها روحي جبرئيل الأمين من ملائكتي حتى قمت على الأرض حيا تمشي، كل ذلك في سابق علمي.

يا عيسى زكريا بمنزلة أبيك وكفيل أمك إذ يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا ونظيرك يحيى من خلقي وهبته لأمه بعد الكبر من غير قوة بها أردت بذلك أن يظهر لها سلطاني ويظهر فيك قدرتي، أحبك إلي أطوعكم لي وأشدكم خوفا مني.

يا عيسى تيقظ ولا تيأس من روحي وسبحني مع من يسبحني وبطيب الكلام فقدسني. يا

ص:112

عيسى كيف يكفر العباد بي ونواصيهم في قبضتي وتقلبهم في أرضي، يجهلون نعمتي ويتولون عدوي وكذلك يهلك الكافرون.

يا عيسى إن الدنيا سجن منتن الريح وحسن فيها ما قد ترى مما قد تذابح عليه الجبارون وإياك والدنيا فكل نعيمها يزول وما نعيمها إلا قليل.

يا عيسى أبغني عند وسادك تجدني وادعني وأنت لي محب فإني أسمع السامعين أستجيب للداعين إذا دعوني. يا عيسى خفني وخوف بي عبادي لعل المذنبين أن يمسكوا عما هم عاملون به فلا يهلكوا إلا وهم يعلمون.

يا عيسى ارهبني رهبتك من السبع والموت الذي أنت لاقيه فكل هذا أنا خلقته فإياي فارهبون. يا عيسى إن الملك لي وبيدي وأنا الملك فإن تطعني أدخلتك جنتي في جوار الصالحين.

يا عيسى اني إذا غضبت عليك لم ينفعك رضى من رضي عنك وإن رضيت عنك لم يضرك غضب المغضبين.

يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي واذكرني في ملائك أذكرك في ملاء خير من ملاء الآدميين، يا عيسى ادعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له مغيث.

يا عيسى لا تحلف بي كاذبا فيهتز عرشي غضبا، الدنيا قصيرة العمر، طويلة الأمل وعندي دار خير مما تجمعون. يا عيسى كيف أنتم صانعون إذا أخرجت لكم كتابا ينطق بالحق وأنتم تشهدون بسرائر قد كتمتموها وأعمال كنتم بها عاملين.

يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل غسلتم وجوهكم ودنستم قلوبكم، أبي تغترون أم علي تجترون، تطيبون بالطيب لأهل الدنيا وأجوافكم عندي بمنزلة الجيف المنتنة كأنكم أقوام ميتون.

يا عيسى قل لهم: قلموا أظفاركم من كسب الحرام وأصموا أسماعكم عن ذكر الخنا وأقبلوا علي بقلوبكم فإني لست أريد صوركم.

يا عيسى افرح بالحسنة فإنها لي رضى، وابك على السيئة فإنها شين، وما لا تحب أن يصنع بك فلا تصنعه بغيرك وإن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر وتقرب إلي بالمودة جهدك، وأعرض عن الجاهلين.

يا عيسى ذل لأهل الحسنة وشاركهم فيها وكن عليهم شهيدا وقل لظلمة بني إسرائيل: يا أخدان السوء والجلساء عليه إن لم تنتهوا أمسخكم قردة وخنازير.

يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: الحكمة تبكي فرقا مني وأنتم بالضحك تهجرون، أتتكم

ص:113

براءتي أم لديكم أمان من عذابي أم تعرضون لعقوبتي؟ فبي حلفت لأتركنكم مثلا للغابرين.

ثم أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي فهو أحمد صاحب الجمل الأحمر والوجه الأقمر، المشرق بالنور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحبي المتكرم، فإنه رحمة للعالمين وسيد ولد آدم يوم يلقاني، أكرم السابقين علي وأقرب المرسلين مني، العربي الأمين الديان بديني، الصابر في ذاتي، المجاهد المشركين بيده عن ديني، أن تخبر به بني إسرائيل وتأمرهم أن يصدقوا به وأن يؤمنوا به وأن يتبعوه وأن ينصروه.

قال عيسى (عليه السلام): إلهي من هو حتى أرضيه؟ فلك الرضا. قال: هو محمد رسول الله إلى الناس كافة أقربهم مني منزلة وأحضرهم شفاعة وطوبى له من نبي وطوبى لأمته إن هم لقوني على سبيله، يحمده أهل الأرض ويستغفر له أهل السماء، أمين ميمون طيب مطيب، خير الباقين عندي، يكون في آخر الزمان إذا خرج أرخت السماء عزاليها وأخرجت الأرض زهرتها حتى يروا البركة وبارك لهم فيما وضع يده عليه، كثير الأزواج، قليل الأولاد، يسكن بكة موضع أساس إبراهيم.

يا عيسى دينه الحنيفية وقبلته يمانية وهو من حزبي وأنا معه، فطوبى له ثم طوبى له، له الكوثر والمقام الأكبر في جنات عدن، يعيش أكرم من عاش ويقبض شهيدا، له حوض أكبر من بكة إلى مطلع الشمس من رحيق مختوم، فيه آنية مثل نجوم السماء وأكواب مثل مدر الأرض، عذب فيه من كل شراب وطعم كل ثمار في الجنة، من شرب منه شربة لم يظمأ أبدا وذلك من قسمي له وتفضيلي إياه على فترة بينك وبينه، يوافق سره علانيته وقوله فعله، لا يأمر الناس إلا بما يبدأهم به، دينه الجهاد في عسر ويسر تنقاد له البلاد ويخضع له صاحب الروم على دين إبراهيم، يسمي عند الطعام، ويفشي السلام، ويصلي والناس نيام، له كل يوم خمس صلوات متواليات، ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ويفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم ويصف قدميه في الصلاة كما تصف الملائكة أقدامها ويخشع لي قلبه ورأسه.

النور في صدره والحق على لسانه وهو على الحق حيثما كان، أصله يتيم ضال برهة من زمانه عما يراد به، تنام عيناه ولا ينام قلبه، له الشفاعة وعلي أمته تقوم الساعة، ويدي فوق أيديهم. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه أوفيت له بالجنة، فمر ظلمة بني إسرائيل ألا يدرسوا كتبه، ولا يحرفوا سنته، وأن يقرئوه السلام فإن له في المقام شأنا من الشان.

يا عيسى كل ما يقربك مني فقد دللتك عليه، وكل ما يباعدك مني فقد نهيتك عنه فارتد لنفسك. يا عيسى إن الدنيا حلوة وإنما استعملتك فيها، فجانب منها ما حذرتك وخذ منها ما

ص:114

أعطيتك عفوا،يا عيسى انظر في عملك نظر العبد المذنب الخاطىء ولا تنظر في عمل غيرك بمنزلة الريب كن فيها زاهدا ولا ترغب فيها فتعطب.

يا عيسى اعقل وتفكر وانظر في نواحي الأرض كيف كان عاقبة الظالمين. يا عيسى كل وصفي لك نصيحة وكل قولي لك حق وأنا الحق المبين، فحقا أقول: لئن أنت عصيتني بعد أن أنبأتك، مالك من دوني من ولي ولا نصير.

يا عيسى أذل قلبك بالخشية وانظر إلى من هو أسفل منك ولا تنظر إلى من هو فوقك واعلم أن رأس كل خطيئة وذنب هو حب الدنيا فلا تحبها فإني لا أحبها.

يا عيسى أطب لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات واعلم أن سروري أن تبصبص إلي، كن في ذلك حيا ولا تكن ميتا.

يا عيسى لا تشرك بي شيئا وكن مني على حذر ولا تغتر بالصحة وتغبط نفسك فإن الدنيا كفيء زائل وما أقبل منها كما أدبر، فنافس في الصالحات جهدك وكن مع الحق حيثما كان وإن قطعت وأحرقت بالنار، فلا تكفر بي بعد المعرفة فلا تكونن من الجاهلين، فإن الشيء يكون مع الشيء.

يا عيسى صب لي الدموع من عينيك واخشع لي بقلبك.

يا عيسى استغث بي في حالات الشدة فإني أغيث المكروبين وأجيب المضطرين وأنا أرحم الراحمين.

* الشرح:

(حديث عيسى بن مريم عليهما السلام) ذكر فيه من فضائل الأخلاق وجلائل الأوصاف وشرائف الصفات ولطايف الحالات ما يعجز عن ذكر وصفه الواصفون وعن إدراك كنهه العارفون (قال فيما وعظ الله تعالى به عيسى (عليه السلام)) أي أوصاه به وأمره بحفظه، والوعظ تذكير مشتمل على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله تعالى بلفظ يرق له القلب (يا عيسى أنا ربك ورب آبائك) الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء من حد النقص إلى حد الكمال على سبيل التدريج، ثم أطلق على المالك والسيد وهو منكرا بلا إضافة مختص بالواجب، وكذا المعرف باللام إذا كان بمعنى المالك لأن اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات. وقدم هذا الوصف لدلالته على أفضل النعماء وهو الإيجاد والتربية وفيه ترغيب على أداء حقوق الربوبية.

ص:115

(اسمى واحد) إذ لا تركيب فيه أصلا لا ذاتا ولا صفة، وكل ما سواه وإن كان بسيطا فهو مركب إما بحسب الصفات ومن ثم قيل لا وحدة في عالم الإمكان.

(وأنا الأحد) إذ لا شريك له في ذاته وصفاته والوجوب والقدم وغيرها.

(المتفرد بخلق كل شيء) إذ لا شريك له في فعله. ويستثنى منه ذاته تعالى وأفعال العباد، وفيه رد على من زعم أنه واحد لا يصدر عنه إلا واحد وأن خلق البواقي مستند إلى العقول (1) ومن زعم أن صفاته الذاتية على ذاته إذ هو حينئذ مستعين في الخلق والإيجاد بصفاته المغايرة له.

(وكل شيء من صنعي) هذا تأكيد لما قبله لأن إضافة الصنع إليه عز وجل يقتضي التفرد به.

(وكل إلي راجعون) بالحاجة في الوجود والبقاء أو بالزوال والفناء (ولله ميراث السماوات والأرض) وفيه وعد بالثواب ووعيد بالعقاب ودلالة على التسخير، وقال الفاضل المذكور:

المقصود أن كل شيء من صنعي بلا واسطة أو بواسطة كأفعال العباد وهذا معنى قوله (كل إلينا راجعون) وفيه أنه يصدق على مذهب صدور الواحد عنه فقط، وهو باطل عندنا، فالأصوب حمله على الصدور بلا واسطة واستثناء أفعال العباد بدليل خارج.

(يا عيسى أنت المسيح بأمري) سمي مسيحا لأنه كان ذو بركة خلقة خلقه الله تعالى مباركا، أو لأنه سائح في الأرض للعبادة وهداية الناس، أو لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، أو لأنه كان صديقا.

ص:116


1- (1) قوله «وأن خلق البواقي مستند إلى العقول». شبهة راسخة في أذهان بعض الناس لا يكتنه العلماء غورها لبعد أذهانهم عن أذهان الناس فرب أمر يتمسكون به ويبنون عليه من غير أن يعثر أحد على وجهه ولا ريب أن لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى وأن سلسلة الأسباب ينتهي إلى واجب الوجود بالذات لامتناع التسلسل ولم يتردد فيه أحد إلا الملاحدة المنكرون للعقول ولكل موجود غير جسماني، فنسبة الفعل والتدبير إلى العقول كنسبة الخلق إلى عيسى (عليه السلام) حيث قال تعالى: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتكون طيرا باذني) فكما أن نسبة الخلق إلى عيسى (عليه السلام) ليست مردودة باطلة بقوله «المتفرد بخلق كل شيء» لأن كل فاعل واسطة في إيصال الفيض من الله تعالى إلى سائر الممكنات كذلك نسبة الفعل إلى العقل أو إلى الملائكة الموكلين كنسبة إثارة السحاب إلى الريح في قوله تعالى (يرسل الرياح فتثير سحابا) ليست مردودة بخلق كل شيء، ولا أدري كيف يكون نسبة الأفعال إلى الأسباب الطبيعية كالحرارة إلى النار والضوء إلى الشمس والشفاء إلى الدواء غير مخالفة للتوحيد ويكون نسبة الفعل إلى العقول مخالفة، إلا أن يكون الرجل ماديا ينكر وجود المجردات أو وهابيا ينكر تأثير غير الأسباب الطبيعية كالقبور والأرواح والتربة المقدسة والخواتيم المنقوشة وليس ذلك كله مما يخفى على الشارح رحمه الله وكأنه أراد بذلك بعض المبتدئين في الفلسفة وكانوا كثيرين في عصره يأخذون بأصل ويتركون أصولا، يبينون فعل القول بيانا يظهر منه التفويض ويغفلون عن قول الحكماء «لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى» والله الهادي. (ش)

(وأنت تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) قيل معناه أنت تقدر لهم من الطين مثل هيئة الطير فتنفخ فيه (فيكون طيرا) أي حيا طيارا (بإذني) ولما كان الإحياء من أخص صفاته تعالى ذكر الإذن دفعا لتوهم الألوهية له، والظاهر أنه كان تعالى يخلق الحياة في ذلك الجسم عند نفخ عيسى (عليه السلام) إظهارا لمعجزته لأن الإحياء والإماتة من صفاته تعالى كما نطق به القرآن، وقيل: إنه أودع في نفس عيسى (عليه السلام) خاصية بحيث أنه متى نفخ في شيء كان نفخه موجبا لصيرورة ذلك الشيء حيا.

(وأنت تحيى الموتى بكلامي) لعل المراد بالكلام الاسم الأعظم، وإحياؤه الموتى مذكور في الكتاب والسنة والسير، وقد روي من طرق الخاصة والعامة أنه كان ابن ميت لعجوزة فأحياه وبقي مدة وولد له ثم مات، وإنما ذكر هذه النعم لأنها من جلايل نعم الله تعالى عليه وهي تقتضي دوام الشكر والذكر وعدم الغفلة عنه ساعة.

(فكن إلي راغبا ومني راهبا) الفاء للتفريع، وتقديم الظرف للحصر لأن وجوده وحوائجه وجميع كمالاته وتربيته من الابتداء إلى الانتهاء إذا كان منه تعالى وجب أن تكون رغبته في جميع المقاصد ورهبته من العقوبة وفوات شيء من مقاصده إليه تعالى لا إلى غيره.

وإلى ما ذكرنا أشار بقوله (ولن تجد مني ملجأ إلا إلي) لجلب المنافع ودفع المضار، وإذا كان كذلك وجب صرف الرغبة والرهبة إليه لا إلى غيره.

(يا عيسى أوصيك وصية المتحنن عليك بالرحمة) التحنن التلطف والرأفة والإشفاق وفي كنز اللغة: «تحنن مهرباني كردن» وفيه تنبيه على أن تلك الوصية نصيحة خالصة وتحريض على قبولها لأن العاقل لا يترك نصح الناصح الأمين.

ثم أشار إلى غاية الوصية وأقصى مراتب التحنن والرحمة وأعلاها بقوله (حتى حقت) أي ثبتت (لك مني الولاية) أي ولايتي لك أو ولايتك لي وهي بالفتح والكسر: المحبة والنصرة، أو ولايتك في الناس وهي النصرة والإمارة والسلطنة، وفي لفظ «مني» إشعار بأن ثبوت الولاية له من عونه تعالى وتوفيقه.

(بتحريك مني المسرة) الباء للسببية، والتحري: طلب أحرى الأمرين وأولاهما، وإضافته إلى الكاف إضافة المصدر إلى الفاعل، والمسرة مفعوله وهي اسم لكل ما يوجب السرور، والجمع المسارة، يعني ثبوت الولاية لك بسبب طلبك ما يوجب سروري أو سرورك وهو الموصى به وغيره، وفي لفظ «مني» إشعار بما ذكرناه، وفي بعض النسخ «تنجز لك» فاعل «تنجز» ضمير راجع إلى الولاية، والمفعول بحاله يعني أن الولاية ينجز لك من عوني أو من لدني ما يوجب سرورك وهو القرب والسعادة والجنة ونعيمها الباقية والله أعلم.

ص:117

(فبوركت كبيرا وبوركت صغيرا حيثما كنت) أي جعلت مباركا ميمونا سببا لزيادة الخير والبركة نفاعا معلما للخير بعد البلوغ وقبله حيثما كنت من الأماكن الحسية والعقلية والمراتب الروحانية كما قال عز وجل حكاية عنه في التنزيل (وجعلني مباركا أينما كنت).

(أشهد أنك عبدي ابن أمتي أنزلني من نفسك كهمك) النزول من علو إلى الأسفل ويتعدى بالهمزة يقال أنزلته فنزل وأنزلت الضيف فهو نزيل، والنزل بضمتين ما يهيأ للضيف، و «من» بمعنى في، والهم المراد والمقصود، قال ابن فارس: الهم ما هممت به وأردته، والكلام من باب التمثيل والتشبيه أي اجعلني في نفسك ومرادك ومقصودك واجعل لي نزلا وهو القيام بوظائف الطاعات في جميع الحالات. وفي قوله «أشهد» أمر له باليقين وفي قوله «عبدي وابن أمتي» ترغيب له في الإتيان بحق العبودية والخضوع والابتهال بين يديه تعالى.

(واجعل ذكري لمعادك) أمره بجعل ذكره تعالى قلبا ولسانا خالصا لوجهه لتنفعه بعد العود إليه (وتقرب إلي بالنوافل) قد يتقرب العبد إليه عز وجل بالنوافل والقيام بها والثبات عليها تقربا معنويا ويتصل به اتصالا روحانيا حتى يصير قوله كقوله وفعله كفعله وأمره كأمره فيصدر عنه حينئذ أمور غريبة وأفعال عجيبة، وفيه تشبيه لقربه بالقرب المكاني للإيضاح (وتوكل علي أكفك) أمره بالتوكل وضمن له الكفاية فإنه إذا توكل العبد عليه وصرف قلبه إليه وسكن سره واستقر أمره وأعرض عن أمور الدنيا وعكف بين يديه وقام بامتثال أوامره وترك نواهيه كفاه الله تعالى مهمات دنياه وأخراه كما قال في التنزيل (ومن يتوكل على الله فهو حسبه).

(ولا تول غيري فاخذلك) أي لا تتخذ غيري وليا ناصرا فأخذلك وأترك نصرتك وعونك وأكلك إلى ذلك الغير وهو لا يقدر على شيء.

(يا عيسى اصبر على البلاء) الصبر على البلاء أمر العقلاء، إذ العاقل يعلم أن البلاء جار لا يدفعه الجزع فيصبر، وإن الجزع والاضطراب بلاء على بلاء فيصبر ويحترز عن تضعيفه وإن البلاء يوجب رفع الدرجات على تفاوت مراتبها والصبر يقتضي الوصول إلى أعلاها فيختار الصبر للوصول إليه وأن الصبر مفتاح الفرج فيصبر طلبا له ولما لم يكن الصبر على البلاء موجبا للرضاء به أمره به فقال:

(وارض بالقضاء) القضاء الأمر والحكم والخلق على وفق التقدير الأزلي فالقدر بمنزلة الأساس والقضاء بمنزلة البناء وهو إقبال القلب إلى الواردات من الحق وتلقيها بالقبول والسرور بها لكونه هدية منه تعالى ثم الرضاء والسرور بالواردات المحبوبة للنفس مثل الصحة والسعة سهل عليها لأنها موافقة لطبعها وأما الرضا بالواردات المكروهة فمشكل، ويمكن دفعه بأن الرضاء ثمرة المحبة البالغة، ومحبة العبد للرب إذا بلغت حد الكمال يمكن أن يرجح إرادته على

ص:118

إرادة نفسه بل يمكن أن لا يرى لنفسه مرادا غيره تعالى لاستغراقه في بحر المحبة.

(وكن كمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى) أمره بكونه دائما لما يوجب سروره تعالى فيه، ثم بين ما يوجبه بأنه الطاعة مطلقا بجميع أنواعها من غير اقتراف معصية.

(يا عيسى أحي ذكري بلسانك) تشبيه الذكر بالميت في سقوطه وسكونه وعدم اعتباره عند أكثر الخلق مكنية وتعلق الإحياء به تخييلية، وذكر اللسان تجريد.

(وليكن ودي في قلبك) كأنه إشارة إلى أن ذكر اللسان ليس ذكرا حقيقة ما لم يكن القلب متيقظا ولم يكن المذكور ووده فيه فإن الذكر اللساني عبادة وكون المذكور وحبه في القلب روح لها وسبب لحياتها وحياة القلب وبه يبلغ العبد مقام القرب، ولا خير في عبادة لا روح لها.

(يا عيسى تيقظ في ساعات الغفلة) هي ساعات النوم وساعات الاشتغال بالضروريات من الدنيا وبأمور الخلق، والمراد بالتيقظ في هذه الساعات ذكره تعالى والإتيان بوظايف الطاعات وغيرها مما يوجب القرب بالحق والحذر مما يوجب البعد منه (واحكم لي لطيف الحكمة) أي أحكم لأجلي أو لرضاي في قلبك الحكمة اللطيفة الدقيقة وهي العلم بما ينفع في الآخرة والأسرار الإلهية وأتقنها وأمنعها عن الزوال والفساد بالتذكر والتفكر والتعليم والعمل بمقتضاها.

(يا عيسى كن راغبا راهبا) أمره بالخوف والرجاء إذ بالخوف يترك موجبات البعد، وبالرجاء يطلب موجبات القرب، وإن شئت زيادة تفصيل فيهما فارجع إلى ما ذكرناه في باب الخوف والرجاء من كتاب الأصول.

(وأمت قلبك بالخشية) إنما جعل الخشية موت النفس لأنها توجب ذبولها وهو موتها وموت الجسد أيضا وإنما أمر بهذه الإماتة لأنها مع كونها مطلوبة لتطويع النفس الأمارة وحفظها عن المهلكات مستلزمة لمطلوب آخر وهو إحياؤها بالعلوم والفضائل النفسانية والجسمانية وهي حياة أبدية ومنه يظهر سر «موتوا قبل أن تموتوا» وسر «موتكم في حياتكم وحياتكم في موتكم» هذا أيضا أحد الوجوه في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».

(يا عيسى راع الليل لتحري مسرتي) رعاية الليل حفظ ساعاته للقيام بوظائف طاعاته وإنما خص الليل بالذكر مع أن الطاعات مطلوبة في جميع الأوقات لأن الشغل في الليل أقل والقلب فيه أفرغ والعبادة فيه أخلص (واظمأ نهارك ليوم حاجتك عندي) أمر من ظمأ مهموز اللام كفرح إذا عطش، نهارك مفعول فيه وهو كناية عن الصوم، لا من أظمأه غيره ونهارك مفعول به والتعلق مجاز عقلي، فإنه بعيد.

(يا عيسى نافس في الخير جهدك تعرف بالخير حيث ما توجهت) الخير اسم جامع لكل ما

ص:119

هو مطلوب شرعا وقد أمره به على سبيل المنافسة والمغالبة بقدر الطاقة والإمكان وأشار إلى أن غايته المترتبة عليه غير الثواب الأخروي معرفة الخلق إياه به وذلك من فضل الله عليه ليذكروه به ويتأسوا به كما دل عليه بعض الروايات ولا دلالة فيه على جواز قصد ذلك من عمل الخير أن الظاهر جوازه لا للسمعة والرياء بل لما ذكر أو لإرادة ظهور نعمته تعالى وفعل الخير والتوفيق عليه من أجل نعمائه ولذلك قال خليل الرحمن (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).

(يا عيسى احكم في عبادي بنصحي) أي ينصح لي، من باب الحذف والإيصال، والنصح:

الخلوص، ولعل المراد به نصيحتهم لوجه الله وأمرهم بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة وهذا الحكم أفضل الأعمال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه وقم فيهم بعدلي لدفع الظلم والجور بينهم وبهذا الحكم والقيام يتم نظامهم في الدارين فقد أنزلت عليك شفاء لما في الصدور من مرض الشيطان لأن مرض الشيطان ووسواسه في صدور المؤمنين إما في أمر الدنيا أو في أمر المبدأ والمعاد وأمر الآخرة وقد أنزل الله تعالى عليه من العلوم الدينية والقوانين الشرعية والأسرار الحكمية والمواعظ الربانية والنصايح الإلهية ما يعالج به جميع ذلك.

(يا عيسى لا تكن جليسا لكل مفتون بالدنيا) أو المعصية لئلا تتشبه بهم ومن تشبه بقوم فهو منهم ولئلا يميل طبعك إلى طبعهم فإن الفتنة علة مسرية ولئلا يصيبك عذاب إن نزل بهم.

(يا عيسى حقا أقول) «حقا» منصوب بفعل مذكور أي: أقول قولا حقا، أو بفعل مقدر قبله لوجود المفسر له، وهذا القول الحق هو قوله (ما آمنت بي خليقة إلا خشعت لي) الخليقة الناس والخشوع «فروتنى كردن» وهو ضد التطاول والترفع، ومبدؤه العلم بأن كل موجود مقهور في تصريف قدرته تعالى ومربوط بربقة الحاجة إليه فإن هذا العلم يوجب تخشعه وتخضعه في الأفعال القلبية والبدنية وإقباله إليه تعالى، وهذا صريح في أن الإيمان الذي ليس معه خشوع ليس بإيمان حقيقة.

(ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي) لأن رجاء ثوابه يوجب الإقبال إلى ما يوجبه بقلب خاشع له تعالى فلولا رجاء الثواب لم يحصل الخشوع، ألا ترى أنك إذا لم ترج من زيد شيئا لا تخشع له أصلا، ومن هاتين المقدمتين ظهر أن الإيمان لا يتحقق بدون رجاء الثواب والعمل له.

(فأشهد أنها آمنة من عذابي ما لم تبدل أو تغير سنتي) أشهد إما متكلم أو أمر، وفي التفريع دلالة على أن الأمن من العذاب متوقف على الخشوع والرجاء وأن الأمن منه ثابت لها ما لم تبدل هذه الحالة بحالة التطاول والترفع وما لم تغير شيئا من السنة (يا عيسى ابن البكر البتول) البتل: القطع، سميت بتولا لكونها عذراء منقطعة عن الأزواج أو عن الدنيا.

ص:120

(ابك على نفسك بكاء من قد ودع الأهل وقلي الدنيا وتركها لأهلها وصارت رغبته فيما عند إلهه) أشار بذلك إلى أعلى درجات الزهد ورغبته في تحصيله حيث أمره أولا بوداع الأهل والميل إلى سفر الآخرة وتفويض حالهم إلى ربهم لأن الاشتغال بأمورهم مانع من هذا السفر، وثانيا بقلي الدنيا وبغضها لأن محبتها أيضا مانعة، وثالثا بتركها لأهلها الراغبين إليها لأن بغضها مع عدم تركها أيضا مانع، ورابعا بالرغبة فيما عند الله تعالى من قربه وإحسانه والسعادة الأبدية والنعماء الاخروية.

فإذا حصلت هذه المراتب لأحد دخل في مقام المحبة وهو ما دام في هذه الدار لا يخلو عن فراق ما من المحبوب وكأن شأنه البكاء فلذلك أمره ببكاء من كان على الوصف المذكور فلذلك قيل:

العارفون المحبون يبكون شوقا إلى المحبوب، والمذنبون يبكون من خوف الذنوب.

(يا عيسى كن مع ذلك تلين الكلام وتفشي السلام يقظان إذا نامت عيون الأبرار) لما كان التآلف والتلطف من أسباب تحقق النظام بين الأنام حض على السبب الجالب لها من لين الكلام وإفشاء السلام وقوله «تلين» و «تفشي» و «يقظان» أخبار، والأول مضارع لين بالتشديد أو ألان يقال لينت الشيء وألنته وألينته على النقصان والتمام مثل أطلته وأطولته أي صيرته لينا، والثاني من الإفشاء بمعنى الإذاعة والإشهار والثالث مفرد غير منصرف للوصفية والألف والنون المزيدتين وترك العطف فيه لأنه جايز في الأخبار المتعدد مع رعاية عدم التناسب وعدم قصد الاشتراك في الإعراب ويجوز أن يكون الأول والثاني مصدر التفعل المضاف إلى فاعله لكنه بعيد لخلوه عن ضمير الاسم وعدم حمله عليه إلا بتأويل، وفي إضافة العيون إلى الأبرار مبالغة في طلب اليقظة منه عليه السلام كما لا يخفى، والظاهر أن «حذرا» مفعول له للخبر الأخير أو للكل على احتمال وأن المراد بالزلازل زلازل الساعة وهي شديدة عظيمة كما قال تعالى: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم).

(يا عيسى اكحل عينك بميل الحزن) من أهوال القيامة وشدائد مقاماتها أو من خوف سوء الخاتمة وانعكاس الأحوال أو من ألم الفراق (إذا ضحك البطالون) الغافلون عن جميع ذلك والكحل معروف وفعله من باب منع ونصر وتشبيه الحزن به وهو تشبيه معقول بمحسوس لقصد الإيضاح مكنية وذكر الميل تخييلية، والمراد بالعين عين القلب لأنه مورد الحزن وبميل الحزن أسبابه الموجبة لحصوله فيه وفي بعض النسخ «بملمول الحزن» وهو الميل.

(يا عيسى كن خاشعا صابرا فطوبى لك إن نالك ما وعد الصابرون) أمره أولا بالخشوع والتذلل في الظاهر والباطن، وثانيا بالصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات وعند نزول المصايب وتوارد البليات ثم رغب فيه بذكر غايته وهي نيل أجر لا يعلم قدره ألا وهو يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

ص:121

(يا عيسى رح من الدنيا) إلى الآخرة (يوما فيوما) كما يروح المسافر من المنزل إلى المقصد كذلك وكل يوم ينقضي ينقطع من عمرك وتقرب إلى الآخرة وهذا.

بيان للواقع وحث على حسن الاستعداد وأخذ الزاد لها (وذق لما قد ذهب طعمه) ذاقه ذوقا اختبر طعمه، واللام ليست في بعض النسخ أمره بذوق طعم ما ذهب من عمره وما عمل فيه من خير وشر فإنه يجد طعم الأول حلوا وطعم الثاني مرا أو يحتمل أن يكون من باب التهكم تنبيها على عدم بقاء لذة ما ذهب من المعصية وطعمه والله أعلم.

(فحقا أقول ما أنت إلا بساعتك) التي أنت فيها (ويومك) الذي تتقلب فيه لأن الماضي من الساعات والأيام ليس من عمرك ولا يمكن عوده إليك والآتي غير معلوم الوقوع فليس عمرك إلا ما أنت فيه فاغتنمه في تحصيل الخيرات.

والظاهر أن الفاء للسببية (فرح من الدنيا ببلغة) هي بالضم: ما يتبلغ من العيش ويكفي في بقاء الحياة.

(وليكفيك الخشن الجشب) أي الخشن من اللباس والجشب من الطعام وهو الغليظ أو ما لا أدام معه، أمره بالزهد في الدنيا ورفض الزيادة عن قدر الضرورة منها (فقد رأيت إلى ما تصير) من السعادة والقرب ونعيم الجنة أو من وداع الدنيا وأمر الآخرة وأهوالها، والظاهر أن المراد بالرؤية العقلية وهي العلم وأن الفاء للسببية.

(ومكتوب ما أخذت) في الدنيا من رزق أو عمل أو عمر (وكيف أتلفت) في وجوه الخير أو الشر فينبغي رعاية المكسب والمصرف وحفظهما عن الفساد.

(يا عيسى إنك مسؤول) عما عملت من عمل فيما بيني وبينك، وفيما بينك وبين الخلق (فارحم الضعيف كرحمتي إياك) أريد بالضعيف الضعيف بحسب الحال أو المال أو العقل، وبرحمته إيصال أنواع الخير بقدر الإمكان.

(ولا تقهر اليتيم) قهره كمنعه: غلبه، أي لا تغلب اليتيم على حقه وماله لضعف حاله.

(يا عيسى ابك على نفسك في الخلوات) أمر بالبكاء على النفس لموتها بألم الفراق والمعاصي واستحقاق العقاب، والبكاء عليها يوجب حياتها بالقرب وغفران الذنوب واستحقاق الثواب وإنما ذكر الخلوات لأن البكاء فيها من الخلوص أكمل وأقرب وتوجه الذهن إلى معرفة حالات النفس فيها أسهل وأنسب (وانقل قدميك إلى مواقيت الصلوات) ميقاتها الوقت: المضروب لها أو الوضع المعد لها كالمسجد ونحوه (أسمعني لذاذة نطقك بذكري) نطقك مفعول الإسماع حقيقة وإدراج اللذاذة للتنبيه على أن ذكره لذيذ يلتذ بسماعه فلا يرد أن اللذاذة ليست بمسموعة وهذا من باب

ص:122

التمثيل أو اللذاذة به كناية عن إرادته (فإن صنيعي إليك حسن) علة للنقل والإسماع لأن حسن الصنيعة يقتضي مقابلته بحسن الطاعة والعبودية والشكر والذكر وذلك من توابع خلوص المحبة.

(يا عيسى كم من أمة قد أهلكتها بسالفة ذنوب قد عصمتك منها) أمنه على عدم هلاكه بعصمته من الذنوب كما خوفه بذكر الإهلاك بسببها، وكم خبرية لإفادة كثرة الأمة المهلكة وقد ذكر في القرآن الكريم جملة منهم.

(يا عيسى ارفق بالضعيف) الرفق: التسهيل وهو ضد العنف والتشديد والتصعيف والغلظة والجفاوة في الأقوال والأفعال وغيرهما.

(وارفع طرفك الكليل إلى السماء) وصف الطرف بالكليل للتنبيه على أن رفعه ينبغي أن يكون كذلك لا على الحدة والتحديق، أو للإشارة إلى ضعفه الموجب للترحم وإنما أمره برفعه إلى السماء لأنها أشرف الجهات لجريان فيضه تعالى من جهتها عادة (وادعني فإني منك قريب) حث بذكر القرب على الدعاء فإن الداعي إذا علم أن المدعو قريب يسمع نداءه يبالغ في الدعاء.

(ولا تدعني إلا متضرعا إلي) التضرع لا يتحقق إلا بحضور القلب والتوجه إلى الله تعالى والانقطاع عن الغير وهو روح العبادة، به يرتقي إلى درجة القبول ومحل الاعتبار.

(وهمك هما واحدا) الهم: الحزن والقصد وما قصدته أيضا والظاهر أنه عطف على «متضرعا» وأن «هما» منصوب على المفعولية وأن المراد بالهم الواحد هو الله تعالى بتفريغ القلب عن الغير وصرفه إليه وإلى ذكره.

(فإنك متى تدعني كذلك أجبك) هذه قضية كلية دالة على أن الدعاء مع شرائطه مقبول وأما بدونها فقد يقبل وقد لا يقبل.

(يا عيسى اني لم أرض بالدنيا ثوابا لمن كان قبلك ولا عقابا لمن انتقمت منه) إشارة إلى حقارة الدنيا والتنفير عنها حيث إنها ليست ثوابا للمطيع ولا عقابا للعاصي بل هي دار الامتحان والنماء ودار التكليف والفناء وإنما الثواب والعقاب في الآخرة التي هي دار البقاء (يا عيسى إنك تفنى وأنا أبقى) الخطاب لهذا المجموع المركب من الهيكل المخصوص والنفس الناطقة وهو ينتفي بانتفاء الجزء فلا ينافي بقاء النفس كما هو الحق.

(ومني رزقك) فثق به وكل ما يحتاج إليه ذو حياة في حياته وبقائه (وعندي ميقات أجلك) أي الوقت أو المكان المقدران لموتك، فالإضافة لامية ولو أريد بالميقات الوقت المضروب للحياة وبالأجل مدة الحياة كانت الإضافة بيانية (وإلي إيابك) أي رجوعك بعد نزولك في الدنيا زمانا مقدرا (وعلى حسابك) مما فعلت في الدنيا من خير أو شر وهذه الفقرات كعلة مستقلة للرجوع

ص:123

إليه في جميع الأمور وطلب جميع المطالب منه لا من غيره فلذلك قال (فسلني ولا تسأل غيري) لأنه لا يملك لك نفعا ولا ضرا وذلك لإفادة أن جميع الأمور الدنيوية والأخروية بيده وليس شيء منها بيد غيره فوجب السؤال منه لا من غيره.

(فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة) نبه على أن الإجابة المقرونة بالدعاء المقترن بالشرائط التي من جملتها تفريغ القلب عن الغير والتوسل به والتضرع إليه.

(يا عيسى ما أكثر البشر وأقل عدد من صبر) أشار على سبيل التعجب إلى أن الصابر من البشر مع كثرتهم قليل والأكثر لا صبر لهم في مقام الطاعة والمعصية ونزول النوائب والمكاره لضعف عقولهم وقلة علومهم وطغيان نفوسهم وفرار طباعهم عن مرارة الصبر.

(الأشجار كثيرة وطيبها قليل) وهو الذي له أثمار نفيسة ورائحة طيبة وهذا من باب التمثيل لتشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الإيضاح (فلا يغرنك حسن شجرة حتى تذوق ثمرها) نهى عن النظر إلى حسن الصورة حتى ينظر إلى حسن السيرة لأن الكمال إنما هو الثاني دون الأول، ولذلك كان العارفون لا يتخذون صديقا ولا يؤثرون رفيقا حتى يمتحنوا ويعرفوا حاله وعقله وعلمه وكماله وخلقه وقوته في الدين وعلموا أن اتخاذ الصديق قبل الاختبار يوجب الفراق منه بالاختيار أو الاضطرار.

(يا عيسى لا يغرنك المتمرد علي بالعصيان) التمرد «سر كشى كردن» والمتمرد العاتي الشديد، وتغريره خدعته ومكره بفعله أو قوله ليجعل الغير مثله.

(يأكل رزقي ويعبد غيري) فيضع قوته في غير موضعها وهو الظلم الصريح وذلك الغير هو الأصنام أو الشيطان أو النفس الأمارة وهواها والداعي إلى غير سبيل الله لأن كل من اتبع أحدا وسمع قوله وأذعن له فقد عبده كما دل عليه الآيات والروايات.

(ثم يدعوني عند الكرب) الكرب: الحزن يأخذ النفس لشدته كالكربة بالضم والجمع كروب ودعاؤه عند الكرب ونزول البلاء في نفسه أو ماله أو ولده لضعف نفسه الأمارة عن الطغيان وزوال ما يدعوها إلى التمرد والعصيان فيدعوه عقله الصريح إلى الرجوع إليه والتضرع بين يديه (فأجيبه) تفضلا لعله يتذكر أو يخشى أو ليكون حجة عليه (ثم يرجع) بعد الإجابة ورفع الكرب عنه (إلى ما كان عليه) من التمرد والعصيان وعبادة الغير لزوال موانع الطغيان وهو الكرب وحصول بواعث العصيان وهي رفاهة الخاطر وقوة النفس الأمارة.

(فعلي يتمرد أم بسخطي يتعرض) الاستفهام للتعجب وإنما ردد بين الأمرين لأن العاصي لا يخلو من أحدهما إذ عصيانه إن كان من أجل التكبر عليه وعدم الإقرار بعظمته واستحقاقه للطاعة

ص:124

فهو متمرد عات، وإن كان مع معرفته واستحقاقه للطاعة فهو متعرض لسخطه وعقوبته.

(فبي حلفت لآخذنه أخذة ليس له منجى ولا دوني ملجأ أين يهرب من سمائي وأرضي) أي فبذاتي وعزتي أحلف لآخذنه في الدنيا أو في الآخرة أخذة شديدة ليس له منها منجى أي محل النجاة منها من التقوى وغيرها ولا ملجأ من الخلق إذ الخلق لا يقدرون على دفع عقوبة الله إلا بإذنه ولا مهرب له إذ لا يقدر أحد أن يخرج من ملك الله وسلطانه، وبالجملة الدافع للأخذ منحصر في الثلاثة وليس له شيء منها.

(يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل) تصدق الظلمة على الكفرة والفسقة من أهل الإيمان (لا تدعوني والسحت تحت أحضانكم) السحت بالضم وبضمتين: الحرام والرشوة والربا، والإحضان جمع الحضن بالكسر هو الجنب وما دون الإبط إلى الكشح ولعل المراد به.

(والأصنام في بيوتكم) كناية عن عبادتها ويحتمل بعيدا أن يراد بالبيوت القلوب وبالأصنام الأهواء النفسانية.

(فإني آليت) تعليل لقوله «لا تدعوني» أي أقسمت (أن أجيب من دعاني) كائنا من كان (واجعل إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا) من مواضع دعائهم أو من الخصلة المذمومة المذكورة و «اجعل» عطف على «آليت» أو على «أجيب» والأول أقرب معنى، والثاني لفظا.

(يا عيسى كم أطيل النظر) أي الانتظار إلى الرجوع، يقال: نظرت الشيء وانتظرت بمعنى، وفي التنزيل (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) أي ما ينتظرون أو المراد به التأمل بالعين تقول نظرته ونظرت إليه إذا تأملته بعينك وهو على الاحتمالين تمثيل أو المراد به التأخير في أخذهم وإهلاكهم ومنه نظرة بالكسر وهو التأخير في الأمور.

(وأحسن الطلب) أي طلب رجوعهم من الباطل إلى الحق بالنصيحة والموعظة الحسنة (والقوم في غفلة لا يرجعون) أي في غفلة عما يراد منهم من ذكر الله ومتابعة دينه ورسوله وأحكامه (تخرج الكلمة من أفواههم لا تعيها قلوبهم) إشارة إلى نفاقهم وكون إيمانهم بمجرد اللسان وقلوبهم خالية عنه كما قال في وصف المنافقين من هذه الأمة (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) لما كان هنا مظنة أن يقال ما ثمرة اختلاف ظاهرهم وباطنهم أجاب عنه من باب الاستيناف بقوله (يتعرضون لمقتي) أي لعقوبتي أو سلب رحمتي عنهم لفساد قلوبهم (ويتحببون بقربي إلى المؤمنين) الظاهر أن «إلى» متعلق بالقرب والتحبب على سبيل التنازع يعني يتحببون إلى المؤمنين ويظهرون حبهم بسبب قربي إلى المؤمنين فأميل ظاهرهم إلى المؤمنين وأدفع شرهم عنهم، وفيه احتمال آخر أدق فتأمل، وفي بعض النسخ «بي» بدل «بقربي» يعني يظهرون حب

ص:125

المؤمنين بمعونتي وتوفيقي لهم على ذلك بحفظ المؤمنين عن أذاهم وإضرارهم، كل هذا من باب الاحتمال، والله أعلم.

(يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية واحدا وكذلك فليكن قلبك وبصرك) أمره بموافقة هذه الجوارح في السر والعلانية بأن يقول ويضمر ويبصر في العلانية ما يقول ويضمر ويبصر في السر ولو وقع الاختلاف كان ذلك خيانة ونفاقا.

ثم أشار إلى ما هو المقصود من هذا الإجمال على الترتيب بقوله: (واطو قلبك ولسانك عن المحارم وكف بصرك عما لا خير فيه) حيث أمر باستقامة هذه الجوارح وحفظها عن المحارم في جميع الأحوال وهذا إنما يتحقق لمن طاب خلقه وطهرت سجيته وصلحت سريرته وحسنت علانيته.

ولما كان أكثر ورود الشهوات إلى النفس من جهة النظر وطريق الإبصار بالغ في كف البصر عن النظر إلى ما لا ينبغي وذكر بعض مفاسده تحذيرا عنه بقوله: (فكم من ناظر نظرة) واحدة (قد زرعت) أي أنبتت وأنمت يقال زرع الله الحرث إذا أنبته وأنما (في قلبه شهوة) هي اشتياق النفس إلى الشيء وذلك الشيء شهي مثل لذيذ وزنا ومعنى، وفيه استعارة تمثيلية متضمنة لتشبيه الأجزاء بالأجزاء حيث شبه الشهوة بالبذر والقلب بالأرض والنظرة بالزراع.

(ووردت به موارد حياض الهلكة) عطف على زرعت صفة أخرى للنظرة تابعة للأولى لأن الزارع يحتاج إلى ماء يسقى به زرعه وضمير به راجع إلى الناظر موافق للسابق أو إلى قلبه والموارد جميع مورد وهو موضع الورود على الماء وبلوغه والحياض بالكسر جمع حوض والمراد به هنا مجتمع الماء الكثير لسقي الزرع ونحوه، والهلكة محركة: الهلاك، والإضافة الأولى لامية، والثانية من باب لجين الماء، وجعلها لامية وحمل الهلكة على أنها جمع هالك وإرادة المعاصي والذنوب من الحياض على سبيل الاستعارة محتمل بعيد.

(يا عيسى كن رحيما مترحما) على الخلق، والترحم أخص من الرحمة لدلالته على الزيادة فيها أو على صيرورتها ملكة مع احتمال المباينة بحمله على إظهار الرحمة (وكن كما تشاء أن يكون العباد لك) فارض لهم ما ترضى لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك واصنع لهم ما تريد أن يصنعوا لك من التواضع والإحسان والرفق والتعظيم والتوقير، وهذا هو الإنصاف والعدل (وأكثر ذكرك الموت) فإن ذكره يسهل ترك الدنيا وزهراتها ويبعث النفس على طلب الآخرة وما يفضي إلى أعلى درجاتها، وفي الخبر أنه «خرج النبي (صلى الله عليه وآله) فرأى الناس كأنهم يكشرون] الكشر الضحك السهل [قال:

أما أنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هادم اللذات»

ص:126

(ومفارقة الأهلين) ليسهل مفارقتهم بالاضطرار ولئلا يشغلوك عن الله وأمر الآخرة (ولا تله فإن اللهو يفسد صاحبه) ظاهره وباطنه. لهى عنه كرضى: غفل وترك ذكره، واللهو هنا إما مصدر يعني «بازى كردن وغافل شدن ومشغول شدن بباطل وبهر چه از كار خير باز دارد» أو غير مصدر يعني «بازى وباطل وچيزى كه از كار خير باز دارد» كذا في كنز اللغة.

(ولا تغفل فإن الغافل مني بعيد) نهاه عن الغفلة عنه تعالى أو عن الشرع وأحكامه وما يقتضيه من الأعمال أو عن اغترار الدنيا ومكائد النفس والشيطان أو عن الجميع، وعلله تحذيرا عنه بأنه يوجب البعد منه تعالى وهو عند العارف أشد العذاب (واذكرني بالصالحات) من الأذكار والأعمال والأخلاق (حتى أذكرك) بالثواب والجزاء والخير عند المقربين وهذا من لطف الله تعالى حيث أنه مع غناه يقابل ذكرك له بذكره لك (يا عيسى تب إلي بعد الذنب) الذنب يزول بالتوبة كما يزول الظلمة بالنور والغبار بالمطر (وذكر بي الأوابين) أي ذكرهم بذاتي وعظمتي أو برحمتي ومغفرتي والأول أولى لأنه تعالى بذاته يستحق الرجوع إليه، والأواب للمبالغة من آب إذا رجع ولعل المراد به كثير التوبة وهو الذي متى أذنب يتذكر ويتوب بعده (وأمن بي) أما من الأمن أي آمنهم بقبول التوبة لئلا يقنطوا بكثرة الذنوب من الرحمة أو من الإيمان والمراد به الإيمان الكامل.

(وتقرب إلى المؤمنين) بالنصح وحسن الخلق والمعاشرة والمحبة والتقرب إليهم تقرب إلى الله تعالى (ومرهم أن يدعوني معك) أي كما تدعوني أو المراد به الاجتماع وهو مطلوب في الدعاء لكونه أقرب إلى الإجابة (وإياك ودعوة المظلوم) تنفير عن الظلم وتحذير من دعاء المظلوم فإنه مستجاب كما قال.

(فإني آليت على نفسي أن أفتح لها بابا من السماء بالقبول) يحتمل أن يراد بالباب ظاهره وأن يراد به باب سماء الجود والغضب فإن قبول دعاء المظلوم جود بالنسبة إليه وغضب بالنسبة إلى الظالم وقد فسر بذلك بعض المحققين قوله تعالى (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر).

(وأن أجيبه ولو بعد حين) لعل تأخير الإجابة لمصلحة كاستدراج الظالم باقتداره أو رجوعه عن الظلم وتبعته بإرضاء المظلوم أو تعظيم أجر المظلوم بالصبر أو غير ذلك.

(يا عيسى اعلم أن صاحب السوء يعدي وقرين السوء يردي) عدى عليه ظلمه كأعدى، وروي بالكسر يردي: هلك وأرداه غيره، والسوء بالفتح مصدر ساء سوءا ومساءة: فعل به ما يكره ويقبح، وبالضم اسم منه يعني «بد وبدى» وهذا في المعنى نهي عن مصاحبة أصحاب المعاصي وأرباب القبائح لأن صحبتهم مضلة مغوية ومجالستهم مهلكة مردية، ولما كان الإنسان يحتاج في نظام الدنيا والدين إلى الناصر والمعين أمر باختياره بعد اختباره بقوله (فاعلم من تقارن واختر

ص:127

لنفسك إخوانا من المؤمنين) المراد بهم من يذكر الله رؤيته ويزيد في العلم منطقه ويرغب في الآخرة عمله.

(يا عيسى تب إلي فإني لا يتعاظمني ذنب أن أغفره) تعاظمه الأمر عظم عليه وأعجزه أمره بأن يتوب عن الذنب ويرجع إليه ولا يقنط من الرحمة فإن الذنب وإن كان عظيما في نفسه فهو حقير في جنب رحمته.

(اعمل لنفسك في مهلة من أجلك قبل أن لا يعمل) المهلة: المدة. والتأخير يقال: في الأمر مهلة أي تأخير أمره بالعمل في مدة العمر قبل حلول الموت فإنه لا عمل بعده (واعبدني ليوم كألف سنة مما تعدون) في الدنيا أراد به يوم القيامة وطوله بالنسبة إلى الظالمين والكافرين وأما بالنسبة إلى خلص المؤمنين فقد يكون بمقدار زمان صلاة مكتوبة في الدنيا وأمره بالعبادة لذلك اليوم للخلاص من أهواله إذ العبادة الخالصة رأس مال لأرباب النجاة فيه من شدائده وسيجئ إن شاء الله تعالى لهذا زيادة تحقيق بعد هذا الحديث في حديث محاسبة النفس.

(فيه أجزي بالحسنة أضعافها) ضعف الشيء: مثله وضعفاه مثلاه، وأضعافه: أمثاله وليس للزيادة قدر معين يضاعف لمن يشاء على ما يشاء أضعافا مضاعفة كما نطق به بعض الروايات، وفيه حث على العبادة لأن الفاعل إذا علم أنه يعطى بعمله زائدا عما يستحقه يجتهد فيه.

(وإن السيئة توبق صاحبها) أي تهلكه في الدنيا والآخرة وتورثه عقوبة شديدة، وفيه حث على تركها لأن العاقل إذا علم أن الشيء يضره أو يهلكه يجتنبه ويفر منه (فامهد لنفسك في مهلة من عمرك) مهده كمنعه: كسب وعمل.

(ونافس في العمل الصالح) وهو الخالص من المفسدات والمنقصات والمنافسة في العمل الرغبة والاجتهاد فيه على وجه الغلبة كما مر (فكم من مجلس قد نهض أهله وهم مجارون من النار) أي منقذون منها لاشتغالهم بما يوصلهم إلى رحمة الرب ومقام القرب وهذا في المعنى أمر بحفظ المجلس عما لا يجوز شرعا والاشتغال فيه بما ينفع في الآخرة.

(يا عيسى ازهد في الفاني المنقطع) وهو الدنيا ومتاعها، وعبر عنها به تصريحا بفنائها وانقطاعها وتنبيها على أن العاقل لا ينبغي أن يعلق قلبه بالفاني المنقطع بل ينبغي أن يزهد فيه بحذف كل شاغل عن التوجه إلى الله سبحانه وتنحية كل ما سواه عن سنن الإيثار فإن ذلك أقوى أسباب السلوك إلى العزيز الغفار وأعظم نهج للصعود إلى درجات الأبرار والدخول في مقامات السابقين الذين هم أولياء الله تعالى والواصلون إلى ساحة قربه.

(وطأ رسوم منازل من كان قبلك) الرسوم جمع الرسم وهو الأثر (وادعهم وناجهم) المناجي

ص:128

المخاطب للإنسان المحدث له.

(هل تحس منهم من أحد) الاستفهام للإنكار (وخذ موعظتك منهم واعلم أنك ستلحقهم في اللاحقين) أحوال السابقين واعظة بلسان الحال لمن نظر إليها وهي عبرة لأولي الأبصار ومحل العظة والاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهاة من كثرة قنياتها ثم مفارقتهم لذلك كله بالموت وبقاء منازلهم خربة أو مسكونة لغيرهم وصيرورة نفوسهم ساكنة وألسنتهم صامتة بحيث لا يسمع الداعي لهم جوابا ولا المناجي لهم خطابا وبقاء الحسرة والندامة للمستكبرين منها حجبا حائلة بينهم وبين الوصول إلى حضرة جلال الله، فإن من تفكر في هذا وعلم أنه سيلحقهم في اللاحقين ويمضى عقب الماضين وتصير حاله كحالهم ومآله كمآلهم حصلت له ملكة الزهد في الدنيا وبواعث الرجوع إلى الآخرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

(يا عيسى قل لمن تمرد علي بالعصيان وعمل بالإدهان) الإدهان مصدر من باب الافعال وهو كالمداهنة إظهار خلاف ما يضمر وبعبارة أخرى إخفاء الحق أو المساهلة فيه أو ترك النصيحة وفي كنز اللغة: «ادهان چيزيرا پنهان كردن وسستى كردن در كارى ونرمى نمودن ودر ساختن با كسى در كارها» كما قال الله عز وجل (ودوا لو تدهن فيدهنون) و «ترك نصيحت كردن وفروتنى كردن».

(ليتوقع عقوبتي) في الآخرة (وينتظر إهلاكي إياه) في الدنيا (سيصطلم مع الهالكين) الاصطلام الاستيصال والظرف حال.

(طوبى لك يا ابن مريم) أي طيب العيش والخير كله لك في الدنيا (ثم طوبى لك) في الآخرة، وفي لفظ ثم إشارة إلى التفاوت بين الحالين مع احتمال الإشارة إلى تفاوت المقامات العالية في الآخرة (إن أخذت بأدب إلهك) في كنز اللغة أدب «طور وكار پسنديده» والمراد به ما أمر الله تعالى به من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وغيرها.

(الذي يتحنن عليك ترحما) التحنن التعطف والترحم فقوله «ترحما» منصوب على أنه مفعول مطلق أو على التميز (وبدأك بالنعم منه تكرما) لأن أكثر نعمائه تعالى على العبد من حيث التكرم والتفضل من غير سبق واستحقاق خصوصا نعمه تعالى بالنسبة إليه (عليه السلام) فإنها كثيرة غير محصورة (وكان لك في الشدايد لا تعصه) لأن دواء الشدائد البدنية والروحانية كلها بيد الله تعالى وهو الدافع له ووصف الاله بالأوصاف الثلاثة المذكورة للتنبيه على أن الإله المتصف بهذه الصفات بحسب الأخذ بآدابه، ولعل قوله «لا تعصه» استيناف كأن سائلا سأل بقوله ما الأدب: فأجاب بأنه لا تعصه، فترك العصيان من جميع الوجوه هو الأدب وهو يتوقف على استعمال القوة النظرية والعملية فيما هو مطلوب له تعالى من العقايد والأخلاق والأعمال وصرفهما عما هو مكروه لئلا

ص:129

يتحقق حقيقة العصيان.

(يا عيسى فإنه لا يحل لك عصيانه قد عهدت إليك) التفات من الغيبة إلى التكلم (كما عهدت إلى من كان قبلك) العهد: الوصية، يقال عهد إليه بعهد من باب علم إذا أوصاه وعهدت إليه بالأمر:

قدمته، وفي التنزيل (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) والعهد: الأمان والموثق والذمة، وفيه إشارة إلى أن هذا العهد مأخوذ منه ومن جميع الأنبياء والرسل، والوفاء به مطلوب كما قال عز وجل (أوفوا بعدي أوف بعهدكم) والوفاء بعهدهم هو الجزاء بالقرب والإحسان والإكرام والإنعام، وفي قوله (وأنا على ذلك من الشاهدين) حث على الوفاء به لأنه إذا كان هو الشاهد على أمر لا يتصور الحيف والجور لا في الشهادة ولا في المشهود به ولا في المشهود عليه، وفي لفظة «من» إشارة إلى أن عليه شهودا أخر وهم الملائكة المقربون والأنبياء المرسلون بعضهم على بعض.

(يا عيسى ما أكرمت خليقة بمثل ديني ولا أنعمت عليهم بمثل رحمتي) في كنز العمال: «اكرام:

بزرك كردن وبرداشتن ونواختن وبخشش كردن، وإكرامه وإنعامه تعالى على عباده وإمائه في الكثرة على حد لا يبلغه عقول العارفين ولا يحيط به وهم الحاسبين، وأعظمها إكرامهم بالدين وهدايتهم إليه وتوفيقهم للأخذ به وإنعامهم بالرحمة الواسعة المقتضية للعفو ورفع الذنوب، ويحتمل أن يراد بالرحمة الرسول وإرساله.

(يا عيسى اغسل بالماء منك ما ظهر) من النجاسات البدنية (وداو بالحسنات منك ما بطن) من النجاسات القلبية فإن الحسنات يذهبن السيئات (فإنك إلي راجع) والمنزه عن جميع الرذائل والنقايص لا ينبغي أن يرجع إليه ويتقرب منه أرباب الخبايث.

(يا عيسى أعطيتك بما أنعمت به عليك فيضا من غير تكدير وطلبت منك قرضا لنفسك فبخلت به عليها لتكون من الهالكين) في إبهام الموصول دلالة على التفخيم، والمراد به القوى الظاهرة والباطنة والأعم منها ومن النعم الظاهرة والعلم بالشريعة، وفي قوله «فيضا» دلالة على كثرته من «فاض الماء» إذا كثر حتى سال عن الوادي، وفي قوله «فيضا» دلالة على كثرته من «فاض الماء» من غير تكدير إشارة إلى صفائه وكماله من غير نقص فيه، يقال: كدر الماء - مثلثا - إذا زال صفائه، وكدره تكديرا إذا جعله كدرا وأزال صفاءه، والمراد بالقرض إما الطاعة أو الأعم منها ومن بذل الماء للفقراء، سماها قرضا على سبيل التشبيه، وقوله «لنفسك» إشارة إلى أن فائدة هذا القرض يعود إليه في يوم الحاجة لا إلى الله تعالى لأنه غني عنها، وضمير «عليها» راجع إلى النفس، وقوله «لتكون من الهالكين» إشارة إلى ثمرة البخل وهي الهلاك الأخروي.

ص:130

(يا عيسى تزين بالدين) بأصله وهو الإقرار به والعلم بأحكامه وآدابه، وفرعه وهو العمل بما يقصد منه العمل.

(وحب المساكين) من المؤمنين، ويندرج فيه مراعاة لوازم الحب مثل بذل الندى لهم وكف الأذى عنهم وغيرهما وينبغي أن يكون الحب في الله لما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قد يكون حب في الله ورسوله وحب في الدنيا فما كان في الله ورسوله فثوابه على الله وما كان في الدنيا فليس بشيء».

(وامش على الأرض هونا) قال الله تعالى في التنزيل في وصف أوليائه (ويمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) والهون هو السكينة والوقار والرفق واللين والتلبث.

(وصل على البقاع فكلها) ظاهر البقاع بالكسر جمع بقعة وهي بالضم وتفتح القطيعة من الأرض وقد من الله تعالى عليه بهذه النعمة الجليلة رفقا به وبأمته حيث كانوا سائحين في الأرض فجعل كلها محلا لصلاته ولم يجعلهم محصورين على أدائها في البيع كما حصر بعض الأمم السابقة على أدائها في محل مخصوص كالكنائس لليهود (يا عيسى شمر) في العبادة وهو كناية عن الاجتهاد فيها، وفي كنز اللغة «تشمير دامن بر چيدن وچيست شدن در كار وكوشش كردن»، وفي مصباح اللغة التشمير في الأمر السرعة فيه والخفة ومنه قيل شمر في العبادة إذا اجتهد وبالغ وشمر ثوبه رفعه.

(فكل ما هو آت قريب) أراد به قرب الموت ويوم القيامة والحساب والجزاء تقليلا لمدة الحياة في الدنيا وتسهيلا لارتكاب مشقة العبادة فيها لذلك اليوم.

(واقرأ كتابي وأنت طاهر) أراد به الإنجيل، والظاهر أن الأمر للوجوب وأن الوجوب راجع إلى القيد وكأنه كان في شرعه وأما في شرعنا فالطهارة مندوبة بدون المس، وفيه خلاف.

(وأسمعني منك صوتا حزينا) هذا جار في شرعنا أيضا، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إن القرآن نزل بالحزن فاقرأه بالحزن» ووجه قوله (عليه السلام) «نزل بالحزن» أنه اشتمل على أحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب وأحوال الأمم الماضية وإهلاكهم ومسخهم وغير ذلك مما يتطاير عند سماعه قلوب العارفين، والمراد بالحزن إما ضد السرور، أو رقة القلب، وبالصوت الحزين صوت يوجب الحزن وإن اشتمل على نغمة دون الغناء فلا بأس وإنما أمر بذلك لأنه يوجب للنفس خشية وخشوعا وحسن موقع وميل إلى الآخرة ويؤثر في نفوس السامعين.

ص:131

(يا عيسى لا خير في لذاذة لا تدوم وعيش من صاحبه يزول) لذا الشيء يلذ من باب علم لذا ولذاذة بالفتح: صار شهيا فهو لذيذ، والمراد أن لذات الدنيا وعيشها وهو الحياة والطعام وكل ما يعاش به لا خير فيهما لزوالهما وعدم دوامهما فلا ينبغي ميل العاقل إليهما وربط قلبه بهما وإن فرض عدم ضررهما بأمر الآخرة.

(يا ابن مريم لو رأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين) مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (ذاب قلبك) هذا كالمثل يقول كل من اشتاق شيئا وكمل إليه ميله ولم ينله ذاب قلبي (وزهقت نفسك شوقا إليه) أي خرجت تقول زهقت نفسه من باب علم زهقا وزهوقا إذا أخرجت، وأزهقها الله تعالى أخرجها (فليس كدار الآخرة دار تجاور فيها الطيبين) المقصود نفي التشبيه أي ليست دار شبيهة بدار الآخرة لعدم التناسب والتشابه بينهما، وفيه زجر عن دار الدنيا وترغيب في دار الآخرة بأنها دار تجاور فيها الطيبين - أو الطيبون على اختلاف النسخ - والمراد بهم الفاضلون الطاهرون من أرجاس السيئات وأخباث الأخلاق المنزهون عن الرذائل المتصفون بأنواع الفضائل (ويدخل عليهم الملائكة المقربون) كما نطق به القرآن الكريم ودل على بعض تفاصيله حديث الجنان والنوق المذكور سابقا (وهم مما يأتي يوم القيامة من أهوالها آمنون) لرفضهم في الدنيا عن نفوسهم القدسية أسباب تلك الأهوال وتوجهوا بحسن الاستعداد إلى ذلك اليوم، وضمير التأنيث للقيامة أو ليومها باعتبار المضاف إليها (ولا يتغير فيها النعيم) بطول الزمان لكونه في حفظ قدرته تعالى، ويدفع الاستبعاد حكاية عزيز (عليه السلام) (ولا يزول عن أهلها) لبقائها أبدا، والغرض من ذكر هذه الدار وجملة من أوصافها هو الترغيب في تحصيل ما يوجب الدخول فيها.

(يا ابن مريم نافس فيها مع المتنافسين) الأمر بالمنافسة في تلك الدار أمر بالمنافسة فيما يوجب الدخول فيها (فإنها أمنية المتمنين) وهم الصالحون في الدنيا أو أهل المحشر فإن كلهم يومئذ يتمنونها (حسنة المنظر) أي الصورة والهيئة لاشتمالها على كل ما له مدخل في حسنها وكمالها من الحور والقصور والأشجار والأنهار وغيرها، والمنظر والمنظرة ما نظرت إليه فأعجبك لحسنه.

(طوبى لك يا ابن مريم إن كنت لها من العاملين) تقديم الظرف للحصر بالنسبة إلى العاملين للدنيا (مع آبائك آدم وإبراهيم في جنات النعيم) الظرف حال عن اسم «كنت» وفيه دلالة على أن ابن البنت ابن لأبيها حقيقة لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ودل عليه أيضا بعض الأخبار ومن الأصحاب من قال: إنه ابن له مجازا.

(لا تبغي بها بدلا ولا تحويلا) أي لا تطلب في الآخرة بعد مشاهدتها بدلا بها أحسن منها ولا

ص:132

تحويلا منها إلى ما هو مثلها أو عن موضع منها إلى موضع آخر لعدم وجود الأحسن منها والمساوي لها وكون كل موضع منها في غاية الحسن والإعجاب أو لا تطلب الدنيا في الدنيا بدلا منها ولا تحويلا عنها فهو على الأول خبر لفظا ومعنى، وعلى الثاني نهي معنى.

(كذلك أفعل بالمتقين) أي مثل ما فعلت بآبائك أفعل بالمتقين الذين ألسنتهم مستقيمة وجوارحهم خاشعة وقلوبهم ذاكرة وملابسهم مقتصدة وجميع حركاتهم وسكناتهم على قوانين شرعية والآخرة بين عيونهم والدنيا وراء ظهورهم وخفايا أعمالهم وسرائر أمورهم منزهة عن المكر والخدعة وظواهر أعمالهم معراة عن الرياء والسمعة.

(يا عيسى اهرب إلي مع من يهرب من نار ذات لهب) لهب النار: اشتعالها إذا خلص من الدخان أو لسانها، والمراد بالهرب إليه سلوك سبيله بفعل الطاعات وترك المنهيات والإتيان بما يوجب التقرب منه من أنواع القربات (ونار ذات أغلال وأنكال) الأغلال جمع الغل وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه وهو قد يكون من نار وقد يكون من حية، والأنكال جمع النكل بالكسر وهو القيد الشديد أو قيد من نار ووصف النار بهما لكونهما منها أو لتقيد أهلها بهما (لا يدخلها روح) الروح بالفتح: الراحة والرحمة ونسيم الريح الذي يستنشق به كل ذي روح ويتروح منه ولا يخرج منها غم أبدا لكون أهلها معذبين مغمومين دائما (قطع كقطع الليل المظلم) إما لأنه لا نور لنارها أو لكمال اختلاط الدخان بنورها أو لأن نورها لا يزيل ظلمتها لكمال شدتها وكثافتها كما أن نور اليراعة لا يزيل ظلمة الليل، وفي ذكر هذه الأوصاف لها ترغيب في الفرار منها وترهيب عن فعل ما يوجب الدخول فيها (ومن ينج منها يفز) بالخير والفلاح وفيه حث على عمل ما يوجب النجاة منها كما أن في قوله (ولن ينجو منها من كان من الهالكين) من الكفرة والمشركين تحذير عن العمل بما يوجب الدخول فيها (هي دار الجبارين والعتاة الظالمين) هم سلاطين الجور وأمراؤهم الذين يكسرون خلق الله ويجبرونهم على ما أرادوا من الأوامر والنواهي الخارجة عن القوانين الشرعية، والعتاة جمع العاتي وهو المستكبر المتجاوز عن الحد (وكل فظ غليظ وكل مختال فخور) فظ الرجل من باب علم يفظ فظاظة إذا غلظ جانبه وقسى قلبه وساء خلقه وخشن كلامه، واختال الرجل فهو مختال إذا تكبر وأعجب بنفسه، وفخر إذا ادعى العظم والكبر والشرف في النسب والحسب وغير ذلك من الكمالات الصورية والمعنوية.

(يا عيسى بئست الدار لمن ركن إليها) الظاهر أن المراد بالدار دار جهنم وبالركون إليها الركون إلى ما يوجب الدخول فيها من المعاصي ولذات الدنيا، واحتمال إرادة الدنيا بعيد (وبئس القرار دار الظالمين) لأن أثاثها لهبات ونزلها كربات وحاصلها حسرات وجيرانها حيات وعذابها شديد

ص:133

وماؤها صديد.

(إني أحذرك نفسك) لأنها أمارة بالسوء تورد صاحبها موارد العصيان ومواضع الخذلان فتجب مراقبتها في جميع الأوقات ومحافظتها عن التوغل في المشتهيات وأخذ زمامها بيد الورع والتقوى وصرف عنانها إلى الشريعة البيضاء.

(فكن بي خبيرا) أمره بأن يكون عالما عارفا بالله وما أمر به وأوصى بحفظه وما نهاه عنه ومنع من فعله فإن ذلك أصل الإيمان ورأس مال الإنسان به يرتقي إلى المقامات العلية والسعادات الأبدية.

(يا عيسى كن حيث ما كنت مراقبا لي) مراقبته تعالى محافظة القلب له ومراعاته إياه في السر والعلانية وهي ثمرة العلم بأنه تعالى مطلع على الضمائر والسرائر والبواطن والظواهر وهذا العلم إذا استقر في القلب يجذبه إلى مراعاته ومراقبته في جميع الأحوال وثمرته التعظيم والإجلال واستغراق القلب بملاحظة الكبرياء والجلال وانكساره تحت الهيبة والعظمة والكمال وترك الالتفات إلى المباحات فضلا عن المحظورات وحفظ جميع حركاته وسكناته ولحظاته عن كل طور قبيح وأمر شنيع خوفا منه تعالى وتعظيما له وتحرزا من فضيحة يوم القيامة وصرف الظواهر إلى الأعمال الخالصة والأفعال الصالحة وركوب الطريقة الغر أو لزوم المحجة البيضاء وهكذا يراقب ويراعي حتى ينتقل من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية ويفوز بقرب الحق ويتخلص من ألم الفراق وهو غاية المراد من الكمال. اللهم اجعل الصبر عطية نجاتنا والمراقبة لك عدة وفاتنا.

(واشهد على أني خلقتك وأنك عبدي وأني صورتك) فيه تنبيه على ذكر هذه النعمة وهي خلقه إياه ولم يك شيئا، تفضلا، وتصويره بصورة حسنة تكريما وعلى الإقرار بالعبودية المتوقفة على الإتيان بالعبادات في غاية الخضوع ونهاية التضرع والتذلل وعلى ترك مخالفته في أمر من الأمور وعلى المراقبة له والانقطاع عن الغير فإن العاقل إذا تفكر في أول خلقه إلى كمال قوته وفي كيفية انقلاباته من حال إلى حال وتحولاته من طور إلى طور وفي خواص قواه وأعضائه الظاهرة والباطنة التي يعجز عن إدراك نبذة منها عقول الأذكياء حصل له معرفة تامة بالخالق المصور المنعم وبعظمته وقدرته وحكمته وهي مقتضية لمراقبته والرجوع إليه والتوسل به في جميع الأمور وقطع تعلقه بالغير (وإلى الأرض أهبطتك) بإهباط أبيه آدم أو إهباط روحه والغرض من الإهباط هو التكليف والامتحان والاختبار وفيه تنبيه على نفاذ أمره وجريان حكمه على عبده فكما أهبطه بلا تقصير منه من مقام المقربين إلى الأرض كذلك يهبطه مع التقصير إلى أسفل السافلين وتذكير له بموطنه الأولي ومسكنه الأصلي ليرجع إليه بقدم الاشتياق ويتخلص من ألم الفراق ويظهر مرتبة

ص:134

محبته ودرجة محبته ودرجة مودته، نعم في حال البعد والفراق يظهر صدق دعوى المحبة والاشتياق.

(يا عيسى لا يصلح لسانان في فم واحد) نهى في المعنى أن يكون أحد ذا لسانين مثل أن يمدح أخاه شاهدا ويعيبه غايبا وأن يتكلم في السر غير ما يتكلم به في العلانية وأن يقول عند قوم غير ما يقول عند آخرين وأن يلقى كلا من الصديقين غير ما يلقى به الآخر ليفرق بينهما وأن يتردد بين العدوين ليغري بينهما العداوة ويشدها وأن يرى كل واحد من الخصمين أنه معه وأمثال ذلك وهذه من خصال المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «من لقى المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسان من نار».

(ولا قلبان في صدر واحد) بأن يميل مثلا إلى المؤمنين وإلى المنافقين وأن يحب الله ورسوله ويحب الدنيا (وكذلك الأذهان) أي لا ذهنان في قلب واحد والذهن الفهم والعقل وقوة للنفس معدة للإدراك فيمتنع أن يتوجه إلى إدراك الآخرة وتحصيل الزاد لها وإدراك أمور الدنيا وكيفية تحصيلها وضبطها، وبالجملة هذه الأشياء في الإنسان واحدة فينبغي صرفها إلى ما كلفت به وإلى أمر الآخرة وميلها عن كل ما ينافيها.

(يا عيسى لا تستيقظن عاصيا ولا تستنبهن لاهيا) في المصباح: رجل يقظ بكسر القاف: فطن متنبه للأمور، واليقظة محركة: خلاف النوم، ورجل نبيه: شريف، والنهي راجع إلى القيد، ولعل المقصود النهي عن العصيان في حال الاستيقاظ ومعرفة الأمور والعلم بصحيحها وفاسدها وعن اللهو في حال النباهة والشرف فإن العصيان من الفطن العارف واللهو من النبيه الشريف أقبح وأشنع كما دل عليه صريح بعض الروايات.

(وأفطم نفسك عن الشهوات الموبقات) أي المهلكات يقال فطمت المرضع الرضيعة من باب ضرب فطما إذا فصلته عن الرضاع فهي فاطمة والصغير فطيم وفطمت الحبل أي قطعته ومنه فطمت الرجل عن عادته إذا منعته عنها وفي الكلام استعارة تمثيلية (وكل شهوة تباعدك مني فاهجرها) أما الشهوة التي لا توجب البعد مثل الضروريات في التناسل والبقاء والعبادة فالهجر منها غير مطلوب شرعا بل قد يجب تحصيلها وتعد من العبادة (واعلم أنك مني بمكان الرسول الأمين) في كنز اللغة: أمين «كسى كه برا واعتماد باشد واز أو أيمن باشند وبى ترس شده».

(فكن مني على حذر) من العقوبة أمر بذلك لأن الأمين قد يصير خائنا بجرائم النفس ووساوس الشيطان (واعلم أن دنياك مؤديتك إلي) نسبة التأدية إلى الدنيا مجاز باعتبار أن العمر ينقطع وينتهي بمرور الأيام (وإني آخذك بعلمي) بأحوالك ظاهرا وباطنا فقد يخطر في السر ما لا يعلم

ص:135

أحد غيره تعالى وهو يؤخذ عليه ويحاسب به، وفيه تنبيه على وجوب الاستقامة في جميع الأحوال لئلا تتوجه إليه الخيانة والنكال (وكن ذليل النفس عند ذكري) باللسان والجنان، والذل مترتب على العلم بالاحتياج إليه من جميع الجهات فإنه يوجب ذل النفس وسلب العز عنها، ويتبعه الخشوع في القلب والصوت والبصر وسائر الجوارح فلذلك قال: (خاشع القلب حين تذكرني) خص خشوع القلب بالذكر لأنه إذا خشع خشعت الجوارح كلها كما دل عليه بعض الروايات (يقظان عند نوم الغافلين) أمر بالعبادة عنده لأنها أشق عملا وأكمل درجة وأجزل ثوابا وأفضل قربا.

(يا عيسى هذه) المذكورات (نصيحتي إياك) خالصة من الإطراء والنقصان (وموعظتي لك) طاهرة من النقص والطغيان (فخذها مني) أخذ القبول والطاعة والانقياد.

(فإني رب العالمين) تعليل لما سبق لأن هذا الوصف يقتضي نصيحتهم وموعظتهم وتربيتهم وإرشادهم إلى ما هو سبب العروج من حد النقص إلى الكمال، فعليه البيان والإرشاد والهداية وعليهم القبول والعمل والدراية.

(يا عيسى إذا صبر عبدي في جنبي) أي في أمري التكليفي مثل الحج والصوم والصلاة والإيجادي مثل الفقر والنوائب والبليات أو في جانبي وسبيلي وهو الدين القويم والصراط المستقيم أو في حفظ أوليائي وتحمل الشدايد في متابعتهم، والجنب يطلق على هذه المعاني كما هو ظاهر لمن تتبع اللغة والاستعمال.

والصبر على هذه الأمور من أعظم العبادات وأفضل القربات وأجره جزيل وثوابه جميل فلذلك قال: (كان ثواب عمله علي) حيث أحاله على ذاته المقدسة وخصه به إظهارا لمزيد الاعتناء به مع أن ثواب جميع الأعمال الصالحة عليه (وكنت عنده حيث يدعوني) بالقرب المعنوي المخصوص المقتضي لإجابة الدعاء وإفاضة الخير وإنزال الرحمة عليه، فلا يرد أنه تعالى عند كل أحد ولو كان كافرا.

ثم بعدما بشر من إطاعة حذر من عصاه بقوله: (وكفى بي منتقما ممن عصاني) الباء زائدة وياء المتكلم فاعل كما في قوله تعالى (وكفى بالله شهيدا) يقال كفى الشيء يكفيه كفاية فهو كاف إذا حصل به الاستغناء عن غيره (والله غالب على كل شيء) فلا يحتاج في الانتقام من أحد إلى غيره (والله عزيز ذو انتقام).

ثم حذرهم من الاغترار بالإمهال فقال: (أين يهرب مني الظالمون) لأنهم لو فروا فغاية فرارهم الوصول إليه إذ هم لا يخرجون من ملكه وملكه لا يخلو منه.

ص:136

(يا عيسى أطب الكلام) أمره بالتكلم بما ينفع ولا يضر وحفظ اللسان عن التسرع بما لا يعني وما يؤذي أحدا والله تعالى عند لسان كل قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول.

(وكن حيث ما كنت عالما متعلما) ترغيب في اكتساب فضيلة العلم والتعلم لأن عليهما مدار التكليف والرجوع إلى الله تعالى وتنبيه على أن العالم وإن بلغ حد الكمال في ظنه لابد له من أن يتعلم لأن العلم بحر لا ينزف كما دل عليه قوله تعالى (وفوق كل ذي علم عليم) ودل عليه أيضا حكاية موسى مع الخضر عليهما السلام ولذلك أمر الله تعالى سيد المرسلين وهو أعلم العالمين طلب الزيادة في العلم بقوله (وقل رب زدني علما).

(يا عيسى أفض بالحسنات إلي حتى يكون لك ذكرها عندي) أي ذكر أجرها وثوابها أو ذكر نفسها وكأنه على الأخير من باب التمثيل لأن أحدنا إذا أرسل هدية إلى صديقه فمتى رآها الصديق يذكرها ويذكر صاحبها وفي الإفاضة إشعار بإكثار الحسنات (وتمسك بوصيتي فإن فيها شفاء للقلوب) من أمراض الجهل ورذائل الأخلاق ووساوس الشيطان.

(يا عيسى لا تأمن إذا مكرت مكري) مكر مكرا من باب قتل خدع فهو ماكر وأمكر بالألف لغة ومكر الله وأمكر جازى على المكر وسمي الجزاء مكرا كما سمى جزاء السيئة سيئة مجازا على سبيل مقابلة اللفظ باللفظ (ولا تنس عند خلوات الدنيا ذكري) لما كان أعظم المطالب الدينية ذكر الله تعالى أمر به مرارا مبالغة فيه وهو من أعمال الصالحين، قال الله تعالى في مدحهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وفي الذكر جلاء للقلوب وأنس بالله وهو ثمرة محبته فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره والغرض من جميع العبادات هو الذكر قال الله تعالى (أقم الصلاة لذكري) وبالجملة كل عقد وقول وفعل يقصد به الله تعالى فهو ذكره.

(يا عيسى حاسب نفسك بالرجوع إلي) حساب النفس متوقف على الرجوع إلى الله تعالى لأن حسابها عبارة عن ملاحظة طاعتها ومعصيتها له فينبغي أن يعرف كل أحد أنه يرجع إلى الله تعالى وأنه تعالى يثيبه إن أطاع ويعاقبه إن عصى فإذا حصلت له هذه المعرفة اشتغل بنفسه ويحاسبها في كل يوم وفي كل ساعة فينظر إلى خواطرها وأفعالها وقيامها وقعودها وحركاتها وسكناتها وجميع أعمالها الظاهرة والباطنة على سبيل التفصيل فما كان منها موافقا لإرادة الله تعالى دام عليه وشكر وما كان مخالفا لإرادته فر منه واستغفر وما كان من المباحات رفضه فرارا عما لا ينفعه في الآخرة فإذا دام على ذلك حصلت له ملكة الانقطاع إلى الطاعة والنفرة عن المعصية.

ص:137

ثم أشار إلى غاية حساب النفس وفائدته ترغيبا فيه بقوله: (حتى تتنجز ثواب ما عمله العاملون) استنجز حاجته ويستنجزها: استظفر بها أي تجد ثوابه يوم القيامة عند البعث منجزا بلا تأخير ولا توقيف للحساب لأنك أديت حسابك في الدنيا، أو تجد ثوابه به منجزا في الدنيا وهو السعادة الروحانية الأبدية التي هي قرب الحق وفيضه آنا فآنا وهو عند العارفين أعظم من الثواب الجسماني والله أعلم.

(أولئك يؤتون أجرهم) كاملا بل أضعافا مضاعفة (وأنا خير المؤتين) إذ لا نقص في إعطائه ولا خوف في نفاد ما عنده به.

(يا عيسى كنت خلقا بكلامي) الظاهر أن كلمة «كن» وهي إظهار للتسخير والقدرة على إيجاد كل فرد كذلك بل بلا أم أيضا كآدم وإنما خلقهم على النحو المعهود ليحصل بينهم التعارف بالنسب والقبايل والقرابة والرحمة والرأفة والرقة والاشفاق ونحوها من الفوائد المعلومة وغيرها ومع هذا التناسب تحقق بينهم العداوة والنفرة وانتفت الرحمة والرأفة فكيف إذا كان كل منفردا في الخلقة، ويحتمل أن يراد بالكلام الاسم الأعظم تكلم به جبرئيل عليه السلام حين نفخه في مريم عليها السلام.

(ولدتك مريم بأمري) التكويني المتعلق بوجودك بلا أب، وفي التصريح باسمها تنويه وتعظيم لها (المرسل إليها روحي جبرئيل الأمين من ملائكتي) (فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) إلى آخر ما ذكر في القرآن الكريم واختلف في سنها حينئذ فقيل: ثلاث عشر سنة وقيل: عشر سنين وقد حاصت حيضتين، وفي مدة حملها فقيل: ستة أشهر وقيل: سبعة وقيل: ثمانية وقيل: ساعة (حتى قمت على الأرض حيا تمشي) إشارة إلى تربيته من طور إلى طور حتى بلغ هذه الحالة التي هي كمال النشوء وتمام القوة (وكل ذلك في سابق علمي) أي كان في علمي السابق وهو العلم الأزلي أن يكون خلقك على هذا النحو.

(يا عيسى زكريا بمنزلة أبيك) في الرأفة والمحبة وإرادة الخير، وفيه حث على تعظيمه وتكريمه وبره والدعاء له (وكفيل أمك) متكفل لأمورها وضامن لمصالحها قبل هي أخت زوجته (إذ يدخل عليها المحراب) قال القاضي: هو الغرفة التي بنيت لها في المسجد أو المسجد أو أشرف مواضعه ومقدمها سمى به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس.

(فيجد عندها رزقا) قال القاضي: روى أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة

ص:138

أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس.

(نظيرك يحيى من خلقي) في دلالة خلقه على القدرة القاهرة أو في العلم والحكمة والنبوة (وهبته لأمه بعد الكبر من غير قوة بها) قيل كان لها نيف وتسعون سنة وكان أبوه أيضا كبيرا كما قال (رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر).

(أردت بذلك) أي بإيجادك بلا أب وإيجاد يحيى من كبير وعاقر (أن يظهر لها) أي لأم يحيى (سلطاني ويظهر) للخلق (فيك) أي في إيجادك بلا أب (قدرتي) ذكر السلطان دون القدرة مع القدرة تفنن، وذكر الظهور لها في الأول وللخلق في الثاني لأن الثاني أغرب وأعجب، وتخصيص الظهور بها لأن توليد العاقر أبعد من توليد الكبير (أحبكم إلي أطوعكم لي وأشدكم خوفا مني) للمحبة والطاعة وللخوف مراتب متفاوتة بعضها فوق بعض وكل من كان طاعته أزيد وأتم وخوفه أكثر وأعظم كانت محبة الله تعالى إياه أكمل وأفخم، وفيه أمر بالطاعة والخوف لتحصيل السعادة الأبدية التي هي المحبة الإلهية.

(يا عيسى تيقظ) التيقظ كما يكون للقلب بمعرفته وتذكيره تعالى وتطهير السر عن غيره ومعرفة المضار والمنافع كذلك يكون للسمع والبصر وسائر الجوارح بصرفها إلى الأمور المطلوبة منها.

ثم المتيقظ وإن كان مستعدا لفيض الرب ورحمته والقرب منه إلا أنه لما كان مشاهدا لعمله ولا يبرئ نفسه عن التقصير وخوف العاقبة وربما يؤدي ذلك إلى اليأس من روح الله ورحمته نهاه عنه بقوله:

(ولا تيأس من روحي) فإن اليأس من غير المتيقظ منه كبيرة وكفر فكيف من المتيقظ.

(وسبحني مع من يسبحني) التسبيح: التقديس والتنزيه يقال سبحت الله أي نزهته عما يقول الجاحدون، وقد يكون بمعنى الذكر والصلاة يقال: فلان يسبح الله أي يذكره بأسمائه ويسبح على راحلته أي يصلي ويكون أيضا بمعنى التحميد (وبطيب الكلام فقدسني) أي طهرني عن النقايص والمعايب، والقدس بالضم وبضمتين: الطهر والتنزه.

(يا عيسى كيف يكفر العباد بي ونواصيهم بيدي وتقلبهم في أرضي) كأنه كناية عن كمال القدرة والاستيلاء عليهم فلا يجدون مهربا والكفر شامل لكفر الجحود وكفر النعمة وكفر المخالفة، وكيف للإنكار والتوبيخ.

(يجهلون نعمتي) الظاهرة والباطنة (ويتولون عدوي) شياطين الجن والإنس والنفس الأمارة (وكذلك يهلك الكافرون) إشارة إلى أن جهل نعمته وتولي غيره أمر مشترك بين الكفرة كلهم على

ص:139

تفاوت مللهم واختلاف درجاتهم.

(يا عيسى إن الدنيا سجن ضيق منتن الريح) الظاهر أن الحمل من باب الحقيقة لأن الدنيا محبس لآدم وأولاده خصوصا للأولياء ضيقة بالنسبة إلى الآخرة منتن الريح يجد ريح نتنه العارفون فلذلك يتنفرون منها كتنفرهم من الميتة، ويحتمل أن يكون من باب التشبيه بحذف أداته مثل زيد أسد، بحمل السجن على المعروف عند الناس.

(وحسن فيها ما قد ترى) من نعمائها الرائقة وزهراتها الرائعة وثمراتها الفايقة (مما قد تذابح عليها الجبارون) أي ذبح بعضهم بعضا لأخذ ما في يده من أمتعة الدنيا ونعيمها وإذا كانت حال الدنيا الضيقة المنتنة هذه فكيف حال الجنة التي لا يحيط بوصف نعيمها دائرة البيان ولا يبلغ أدنى أوصافها جواد اللسان، دار بناها رحمة رب العالمين وأعدها للمتقين، هذا بحسب ظاهر النظر وأول الفكر وإلا فلو نظرت إليهما بعين اليقين وفكرت فيهما بالفكر المتين وجدت أن ليس بين متاع الدنيا ومتاع الجنة إلا نسبة وهمية.

ولما كان المقصود من هذا البيان الثاني هو التحذير عن الدنيا والتحريك إلى الآخرة قال: (وإياك والدنيا فكل نعيمها يزول وما نعيمها إلا قليل) تحذير عن الدنيا والركون إليها وصرف العمر في تحصيلها لأن نعيمها قليل يزول والعاقل لا يركن إلا القليل الزايل لأجل أنه زايل فكيف إذا كان سببا لزوال الكثير الباقي.

(يا عيسى ابغني عند وسادك تجدني) إشارة إلى قربه من كل أحد في كل زمان ومكان أو إلى طلب العبادة في زمان الغفلة وحث على ترك النوم (وادعني وأنت لي محب) محبته تعالى دون غيره من أصول شرايط الدعاء، ومن لوازم تلك المحبة الانقطاع من الغير إليه وتعلق القلب به والتضرع بين يديه وطلب القرب منه والاعتماد عليه.

فإني أسمع السامعين (استجيب للداعين إذا دعوني) ترغيب في طلب الخيرات والمرغوبات كلها منه تعالى والتيقن بحصولها لأن عدم حصولها إما لعدم سماع الدعوة أو لعدم الاستجابة بعده وكلاهما منتف عنه تعالى.

(يا عيسى خفني وخوف بي عبادي) الخوف من عقابه والحرمان من إكرامه وثوابه يقتضي فعل المأمورات وترك المنهيات لأن من خاف شيئا هرب منه.

(لعل المذنبين أن يمسكوا عما هم عاملون به فلا يهلكوا إلا وهم يعلمون) العاملون العارفون يمسكون عن المعصية نظرا إلى كماله وتعظيما لجلاله ولو لم تكن نار ولا جنة، وأما الجاهلون المذنبون فهم بمنزلة الأطفال ينبغي تطميعهم بالثواب وتخويفهم من العقاب ليرغبوا في الطاعة

ص:140

وينزجروا عن المعصية فإن هلكوا بعد ذلك هلكوا عن علم وبينة ولم تكن لهم معذرة.

(يا عيسى ارهبني رهبتك من السبع) رهب رهبا من باب علم: خاف والاسم الرهبة فهو راهب من الله والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه.

(والموت الذي أنت لاقيه) أهل الدنيا يرهبون من نفس الموت حبا للبقاء الزائل وأهل الحق يرهبون منه خوفا من الهلاك الأبدي.

(فكل هذا أنا خلقته فإياي فارهبون) لأن الخالق أولى بالرهبة منه من المخلوق لأن إضرار المخلوق بإقداره فينبغي الرهبة منه لا من غيره.

(يا عيسى إن الملك لي وبيدي وأنا الملك فإن تطعني أدخلتك جنتي في جوار الصالحين) أشار إلى أن كل ما سواه ملك له وأنه بقدرته التي لا يتأبى منها شيء وأنه الملك في الدنيا والآخرة لا غيره إذ كل ملك في الدنيا فهو ملك بالاعتبار ولا حقيقة له وبالإضافة إلى بعض من هو تحت حكمه في الجملة ليبين أنه يجب طاعته والفزع إليه وحده وأنه يدخل المطيع جنته في جوار الصالحين من الأنبياء والرسل والأوصياء بلا مانع ولا مدافع إذ لا شريك له يمنعه من ذلك، وفيه ترغيب في الالتجاء إليه والطاعة والمراقبة له في جميع الأحوال.

(يا عيسى إني إن غضبت عليك لم ينفعك رضاء من رضى عنك وإن رضيت عنك لم يضرك غضب المغضبين) بفتح الضاد على صيغة المفعول من أغضبه فهو مغضب وذلك مغضب، وفيه تنبيه على وجوب ترك ما يوجب رضاء المخلوق إذا كان موجبا لغضب الخالق ووجوب طلب ما يوجب رضاء الخالق وإن كان موجبا لغضب المخلوق لأن المخلوق وجوده وعدمه سواء فكيف غضبه ورضاه وضره ونفعه.

(يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي) أراد به الذكر القلبي وهو عدم الغفلة عنه، وذكره تعالى في نفسه عبارة عن الإكرام وإفاضة الخيرات.

(واذكرني في ملأك أذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميين) الملأ كجبل: الأشراف والجماعة والقوم، والمراد بهم ملأ الآدميين، وبالملأ الثاني ملأ الملائكة المقربين، ومثل هذا موجود في كتب العامة أيضا، استدل به بعضهم على أن الملائكة أفضل من الأنبياء إذ عد ملأ الملائكة خيرا من ملأ الآدميين ولو كان فيهم نبي، والجواب أن تفضيل المجموع على المجموع لا يوجب تفضيل الأجزاء على الأجزاء وقد ذكرناه مفصلا في شرح الأصول.

(يا عيسى ادعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له مغيث) غيري. من شرائط الدعاء أن يقطع الداعي رجاءه عن غيره تعالى ولا يرى لنفسه ملجأ ومغيثا إلا إياه فإن الدعاء على هذا الوجه مقرون

ص:141

بالإجابة قطعا.

(يا عيسى لا تحلف بي كاذبا فيهتز عرشي عضبا) يمكن أن يراد به العرش الجسماني المحيط بجميع الأجسام والعرش المطاف للملائكة المقربين، وأن يراد به قدرته الشاملة لكل الموجودات وإن لم يشتهر إطلاقه عليها، والعارفون لا يحلفون به صادقا تعظيما له فكيف كاذبا، وقد مر أمثال هذه النصايح للأمة.

(الدنيا قصيرة العمر) المراد بالدنيا إما تمامها وعمرها قصير لانقطاعها أو عمر كل شخص وقصره ظاهر فلا ينبغي أن يركن إليها العاقل.

(طويلة الأمل) نسبة طول الأمل إلى الدنيا مجاز كنسبة الفعل إلى الزمان، والأمل هو الطمع والرجاء، وقد يفرق بينه وبين الطمع بأن الأمل كثر استعماله فيما يستبعد حصوله، والطمع فيما يقرب، فمن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: أملت الوصول إليه، ولا يقول: طمعت، إلا إذا قرب منه، وبينه وبين الرجاء بأن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مطلوبه فإن قوي الخوف يستعمل الأمل كما صرح به في المصباح، وقد يفصل ما يدخل في القلب بأن ما في القلب مما ينال من الخير أمل ومن الخوف إيجاس ومما لا يكون لصاحبه ولا عليه خطر، ومن الشر وما لا خير فيه وسواس، ولعل الغرض منه هو التعجب لمن أطال أمله في زمان قصير وليس ذلك إلا لجهله حيث شغل قلبه بما لا حاجة له فيه ومع ذلك توقع حصوله في زمان قاصر، عنه أو الحث على ترك الدنيا وطول الأمل وتجهيل فاعلهما بالجمع بين الضدين.

(وعندي دار خير مما يجمعون) لكمال زينتها وبقائها وبقاء أهلها ونعيمها أبدا، وفيه ترغيب في طلبها كما في السابق تنفير عن الدنيا.

(يا عيسى كيف إذا أخرجت لكم كتابا ينطق بالحق وأنتم تشهدون بسراير قد كتمتوها وأعمال كنتم بها عاملين) ترغيب في الطاعة وتحذير عن المعصية بذكر الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وذكر صعوبة الأحوال والتخلص منها عند مشاهدتها وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه يكتب عليه جليات أموره وخفياتها وأنه يؤخذ بها ويحاسب عليها وقتا ما حصلت له ملكة البواعث على الطاعات والزواجر عن المنهيات، ولذلك كرر ذكر الحفظة وكتبها أعمال العباد في القرآن الكريم.

(يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل غسلتم وجوهكم ودنستم قلوبكم) دنس ثوبه وعرضه تدنيسا إذا فعل به ما يشينه، وليس الظلم والذم باعتبار غسل الوجوه فإنه مطلوب بل باعتبار تدنيس القلوب بالعقائد الكاسدة والآمال الفاسدة والمخاطرات القبيحة والأخلاق الذميمة وقد

ص:142

وجب تطهيرها عن هذه الصفات الرذيلة وتزيينها بالأخلاق الجميلة لأن القلب أشرف أعضاء الإنسان وعرش الرحمن وموضع نوره وسره ومعدن حكمه وذكره وقد أمر سبحانه بذلك فمن بدله بما ذكر فهو مغرور جرى كما أشار إليه بقوله: (أبى تغترون أم على تجترون؟) الاغترار «خدعة كردن وفريب دادن ونمودن باطل را بصورت حق» والاجتراء «دليرى كردن» فكأنه بهذه الصفة إما مخادع أو جرى محارب مع ربه، وفيه وعيد عظيم لهم ليذكروا ويرجعوا.

(تطيبون بالطيب لأهل الدنيا وأجوافكم عندي بمنزلة الجيف المنتنة) توبيخ لهم في إزالة نتن أدناس الظواهر بالطيب والعطر للناس وترك إزالة نتن أمراض القلوب بأدويتها لله مع أنه أقرب إليها منهم إلى الظواهر وما ذلك إلا لتعظيمهم وتحقيره تعالى كأنكم أقوام ميتون في النتن أو بعدم الانتفاع بالزواجر والنصايح.

(يا عيسى قل لهم قلموا أظفاركم من كسب الحرام) قلمت الظفر قلما من باب ضرب: قطعته وأخذته، وقلمته بالتشديد مبالغة وتكثير في الاجتناب عن كسب الحرام والاحتراز منه لأنه يسود القلب ويبعد عن الرب ويورث العقوبة في الدنيا والآخرة.

(وأصموا أسماعكم عن ذكر الخنا) زجرهم عن استماع الكلام الفاحش لكونه معصية ومانعة عن ذكر الله ومسودا للقلب مفسدا له، قال الله تعالى في التنزيل في وصف قوم صالحين: (وإذا مروا باللغوا مروا كراما * وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).

(وأقبلوا علي بقلوبكم) لكل عضو إقبال وادبار إقباله هو الإتيان بما هو مطلوب منه، وادباره هو الإتيان بضده، وإنما خص إقبال القلب بالطلب لأن القلب أشرف الأعضاء وأكمل، فإقباله وهو تذكر الرب وعدم الغفلة عنه أشرف وأفضل لأن إقباله مسلتزم لإقبال غيره من الأعضاء.

(فإني لست أريد ضرركم) ترغيب في قبول النصيحة لأن المنصوح إذا علم شفقة الناصح وبعد نصحه عن الغش والضرر يقبل على قبوله.

(يا عيسى افرح بالحسنة فإنها إلي رضا) دل على أن الفرح والسرور بالحسنة من حيث أنها حسنة موافقة لرضاه تعالى ليس بعجب بل هو أيضا حسنة ولذلك أمر به وإنما العجب أن يسر بها من حيث أنه عمل بلغ به حد الكمال وخرج عن حد التقصير وفاق العابدين بالمنزلة الرفيعة عنده تعالى.

(وابك على السيئة فإنها شين) البكاء على السيئة حسنة رافعة لها وهو أفضل العبادات للمذنبين، وما لا تحب أن يصنع بك فلا تصنعه بغيرك، هذا من لوازم العدل والإنصاف وحسن المخالطة والمعاملة مع الناس وبه يتم نظام العالم ويرتفع الجور في بني آدم.

ص:143

(وإن لطم خدك الأيمن فاعطه الأيسر) لا تعامله بالانتقام إذ يتولد منه المفاسد العظام، وهذا من آثار ملكة الحلم والعفو (وتقرب إلي بالمودة جهدك) أي بمودتي أو مودة الخلق من أهلها، ففيه على الثاني ترغيب في حسن المعاشرة، وعلى الأول في الترقي إلى مقام محبة الرب، والوصول إليه متوقف على مراقبة النفس ومحاسبتها وتصفية الظاهر والباطن عما ليس من طور الشريعة وتحليتهما بالفضائل اللايقة بهما ودوام الذكر والفكر (وأعرض عن الجاهلين) المستقرين في الجهل التابعين لإثارة أحكامه إذ معارضة الجهال جهل وسفه توجب طغيانهم في الجهالة والسفاهة وازديادهم في الأذى والإهانة، وهذا أيضا من آثار الحلم (يا عيسى ذل لأهل الحسنة) قال في القرآن المبين لسيد المرسلين:

(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وهذا من آثار ملكة التواضع.

(وشاركهم فيها كما هو مقتضى القوة العقلية والعملية وكن عليهم شهيدا) تمنعهم من المهلكات وتبعثهم على الصالحات وتشهد لهم بها في القيامة (وقل لظلمة بني إسرائيل يا أخدان السوء والجلساء عليه) الأخدان جمع الخدن بالكسر وهو الصديق وفي كنز اللغة: أخدان «دوستان» والسوء بالفتح خصلة مذمومة من قول وفعل وخلق وقد يطلق على المتصف بها، وهذان الوصفان أعني محبة السوء وأهله ومحبة الجلساء عليه لا يجتمعان إلا في الجري على الله المستحق لعقوبته.

(إن لم تنتهوا أمسخكم قردة وخنازير) وعيد لهم بالعقوبة الحاضرة غير ما مهد لهم من عقوبة الآخرة وقد وقع مسخ من لم ينته، على ما نقل في السير.

(يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل الحكمة تبكي فرقا مني) الظاهر أن الحكمة بالتحريك: جمع الحاكم وهو صاحب الحكم والقدر والمنزلة من عند الله تعالى كالحفظة جمع الحافظ، ويحتمل أن يكون بكسر الحاء وسكون الكاف على حذف المضاف أي صاحب الحكمة وهي العدل والعلم والحلم والنبوة، وفرقا مفعول له أي تبكي لأجل الخوف مني وخوفهم لمشاهدة العظمة واحتمال تقصيرهم في الطاعة وانتكاس حالهم في العاقبة أو لغير لذلك (وأنتم بالضحك تهجرون) أي تستهزئون، والهجر بالضم والسكون: الفحش والقبيح من الكلام، وهو اسم من «هجر يهجر» من باب قتل، وفي لغة أخرى: أهجر في منطقة إهجارا: أكثر حتى جاوز ما كان تكلم به قبل ذلك، وأهجر بالرجل استهزأ به وقال فيه قولا قبيحا ورماه بالكلمات التي فيها فحش وفضيحة، وهذه من باب لابن وتامر.

(أتتكم براءتي أم لديكم أمان من عذابي أم تعرضون بعقوبتي؟) في كنز اللغة: «براءة: بيزارى

ص:144

از شيء» يقال: برئ زيد من ذنبه يبرأ - مهموز اللام من باب علم - براءة: إذا سقط عنه طلبه حتى كأنه لم يحتج إليه فهو بريء منه وبارىء، والاستفهام للتوبيخ، وإنما ردد بين هذه الأمور الثلاثة لأن حالتهم المذكورة توجب أن يكون لهم واحد منها قطعا. ولكن الواقع لما كان هو الأمر الثالث (قال:

فبي حلفت لأتركنكم مثلا للغابرين) أي للباقين إلى يوم الدين، والمثل بالتحريك: الحديث; وتفسير الغابرين بالماضين والمثل بالشبه والنظير بعيد.

(ثم أوصيك يا ابن مريم البكر البتول) أي المنقطعة عن الرجال أو عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا أو عن الدنيا إليه تعالى أو عن الحيض.

(بسيد المرسلين) أي رئيسهم وأشرفهم وأكرمهم (وحبيبي) بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول، وقد بلغت المحبة بينهما غاية الكمال فلذلك خصه بهذا اللقب (فهو أحمد) كما نطق به القرآن الكريم: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (صاحب الجمل الأحمر) وصفه بهذا وغيره من الأوصاف ليعرفوه بها عند ظهوره (والوجه الأقمر) أي الأبيض، اسم تفضيل من القمرة بالضم وهي لون إلى الخضرة أو بياض فيه، وفيه تشبيه لوجهه بالقمر في النور والضياء.

(المشرق بالنور) أي بنور الظاهر لكمال حسنه أو الأعم منه ومن نور الباطن وهو العلم والحكمة وقد وجد فيه جميع جهات الحسن، الطاهر القلب لخلو قلبه عن جميع المقابح واتصافه بجميع المحاسن من أول العمر إلى آخره.

(الشديد البأس) على الكافرين والبأس الشدة والقوة والشجاعة (الحي المتكرم) لا يرتكب شيئا من الرذايل والقبايح حياء ولا يترك شيئا من المحاسن والمحامد تكرما ويعفو عن حقه تفضلا (فإنه رحمة للعالمين) باعتبار أنه يرشدهم إلى صراط مستقيم أو أنه سبب لرفع العقوبة الدنيوية عن أمته مثل المسخ وغيره أو أنه سبب لإيجاد العالم كما ورد «لولاك لما خلقت الأفلاك» أو أنه سبب لنجاة الخلائق يوم القيامة (وسيد ولد آدم) هذا أعم من السابق والسيد الفائق قومه المفزوع إليه في الشدائد وهو صلى الله عليه وآله كذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلأن أصل وجود الممكنات لوجوده وكل من لحقته فتنة من الأنبياء توسلوا به فرفعها عنهم، وأما في الآخرة فلأن آدم ومن دونه تحت لوائه وله المقام المحمود ومقام الشفاعة ومقام الوسيلة وهذه المنزلة ليست لأحد غيره.

(يوم يلقاني) بالرحمة والرضوان.

(أكرم السابقين علي) وهم الأنبياء والمرسلون لنور ذاته وشرف صفاته فله من الإحسان حظ أكثر ومن الإكرام نصيب أوفر (وأقرب المرسلين مني) فضلا عن غيرهم لأن ذاته أكمل وأتم

ص:145

وصفاته أفضل وأعظم فله من القرب منزلة أرفع وأعلى ومرتبة أدل وأدنى، وقد روي أن جميع الخلائق في طلب المنزلة والإكرام يرجعون إليه وفي دفع الخوف والعقوبة يلوذون بين يديه، ولولا شفاعته لم يدخل أحد دار السلامة ولم ينج من الحسرة والندامة ولم يستحق منزلة القرب والكرامة.

(العربي الأمين) الأول في النسب، يقال: رجل عربي إذا كان ثابت النسب، والثاني في الشرف والحسب بحسب الذات والصفات فصار أمينا محل الاعتماد عليه في أمور الدين والدنيا وإظهار الحق وإبطال الباطل (الديان بديني) الدين: الطريقة الشرعية والصراط المستقيم الذي وضعه الله لعباده، والدين أيضا مصدر بمعنى التعبد يقال: دان بالإسلام دينا - بالكسر - أي تبعد به وتدين به كذلك، فهو دين وديان للمبالغة.

(الصابر في ذاتي) لصبره على العبادات يحمله للمشقات وما وصل إليه من لئام الأمة وجهالها من النوائب والمصائب في ذات الله تعالى وطلبا لمرضاته (المجاهد المشركين بيده عن ديني) جهاده مع المشركين مشهور وفي كتب السير والأخبار مذكور وحروبه معهم كثيرة وقد حضر فيها مع قلة المؤونة والمعين بنفسه المقدسة إلا ما شذ، كل ذلك لأجل كشف دين الله تعالى وإظهاره وترويجه (إن تخبر به بني إسرائيل) الظاهر أنه بدل من قوله «سيد المرسلين» فهو المقصود بالوصية.

(وتأمرهم أن يصدقوا به وأن يؤمنوا به ويتبعوه وأن ينصروه) عند تشرفهم بملازمته.

(قال عيسى (عليه السلام): إلهي من هو حتى أرضيه) بحب صحبته والإتيان بخدمته أو يأمر بني إسرائيل إلى نصرته وطاعته أو بالإيمان به في غيبته (فلك الرضا) بذلك.

(قال: هو محمد رسول الله إلى الناس كافة) نصب «كافة» على الحال أي جميعا، أو على المصدر أي يكفيهم عن الغير، أو السؤال في أمور دينهم ودنياهم كافة; لأنه يجيء بمقدار حاجتهم من غير نقص.

(أقربهم مني منزلة) لكونه أشرفهم وأكملهم وأعلمهم وأقدمهم حسبا ونسبا، وهذا أعم مما ذكر (وأحضرهم شفاعة) يحتمل أن يكون هي الشفاعة الأولى وهي التي لتعجيل الحساب التي يلجأ إليه فيها جميع الخلق، ويحتمل أن تكون شفاعة المغفرة أو شفاعة الإخراج من النار أو الجميع.

(يحمده أهل الأرض) ولذلك سمي محمدا كما روي (ويستغفر له أهل السماء) أي لأمته أو له تبركا وتقربا منه، وقد مر توضيح ذلك في باب الاستغفار وغيره من شرح كتاب الأصول.

ص:146

(أمين ميمون) من اليمن بالضم وهو البركة والخير كالميمنة وفعله من باب علم وعني وجعل وكرم (طيب) لطهارته ونزاهته من الأرجاس الكريهة والأفعال القبيحة والأخلاق الذميمة (مطيب) بجوهر ذاته ونور صفاته وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة (خير الباقين عندي) وكذلك خير الماضين كما مر لكونه أكمل ذاتا وصفاتا وأكثر علما وحلما وأحسن خلقا ورحمة وأعظم بركة وقوة واتصافه بغاية العبودية وبلوغه نهاية العبادة المطلوبة من الحقيقة الإنسانية.

(يكون في آخر الزمان) إذ الزمان ينقطع بأمته ولا نبي بعده (إذا خرج أرخت السماء عزاليها) بفتح اللام وكسرها جمع العزلاء وزان حمراء وهو فم المزادة الأسفل وفيه إشارة إلى شدة وقطع المطر على التشبيه بنزوله من فم المزادة وقد مر في حديث نافع (وأخرجت الأرض زهرتها) أي نباتها وزروعها وأشجارها وأثمارها وزينتها وحسنها وبهجتها وخيرها، ومن ثم قل القحط في أمته (حتى يروا البركة) أي الزيادة والنماء والخير في العالم (وأبارك لهم فيما وضع يده عليه) تكثير قليل الطعام وغيره بوضع يده عليه مشهور في الأخبار والسير (كثير الأزواج قليل الأولاد) من صلبه وإلا فأولاد أولاده أكثر من أن تحصى (يسكن بكة موضع أساس إبراهيم) السكون المطلق يصدق على سكونه في بعض الأوقات وهو زمان تولده إلى وقت الهجرة.

(يا عيسى دينه الحنيفية) أي المائلة من الباطل إلى الحق أو الطاهرة من النواقض والنواقص أو ملة إبراهيم عليه السلام، والتأنيث باعتبار إرادة الملة من الدين أو بتقديرها (قبلته يمانية) لأن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن ولهذا يقال: الكعبة اليمانية، كذا في النهاية (وهو من حزبي وأنا معه) معيته بالنصرة والإعانة والتوفيق، وحزب الله من جعلهم أعونا لدينه ووفقهم للعمل بما فيه رضاه (فطوبى له ثم طوبى له، له الكوثر) قيل: هو نهر في الجنة، وقيل الخير: الكثير من العلم والعمل وشرف الدارين، وقيل: أولاده وعلماء أمته، وقيل: القرآن والمشهور أنه حوض فيها أو في خارجها ويؤيده أن جماعة يطردون منها وهم لا يدخلون الجنة وهو فوعل من الكثرة والواو زائدة ومعناه الخير الكثير (والمقام الأكبر) من مقام جميع الرسل (في جنات عدن) قيل جنة عدن اسم لمدينة الجنة فيها جنان كثيرة هي مسكن الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس سواهم في جنات حواليها، وقد مرت.

(يعيش أكرم من عاش) لكونه أكمل في القوة النظرية والعملية والأعمال البدنية والقلبية، والكرامة وحسن العيش تتفاوت بحسب تفاوتها (ويقبض شهيدا) سمته يهودية بشاة مسمومة وكفاه الله تعالى من ذلك السم وشفاه لكن بقي فيه شيء منه وقتله بعد حين ولذلك قال العلماء إن الله سبحانه قد جمع له بذلك بين كرم النبوة وفضل الشهادة.

ص:147

(له حوض أكبر من بكة إلى مطلع الشمس) الظاهر أنه الكوثر المذكور مع احتمال أن يكون غيره وأن يراد بالكوثر المعنى الأول أو غيره من المعاني المذكورة، وقد ثبت أن له (صلى الله عليه وآله) حوضا في الآخرة، من طرق الخاصة والعامة، رواه مسلم عن سبعة عشر صحابيا ورواه غيره عن عشرة غيرهم، عنه (صلى الله عليه وآله) قال عياض: الإيمان به واجب والتصديق به من الإيمان.

إذا عرفت هذا فنقول: لم يتبين أن هذا المقدار من جهة الطول أو من جهة العرض ولكن مر في كتاب الحجة في باب فرض الكون مع الأئمة (عليهم السلام) أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «عرضه ما بين صنعاء إلى أيلة فيه قدحان فضة وذهب عدد النجوم» فهذا يدل على أن المراد بالمقدار في هذا الخبر هو الطول، ولو جعل هذا أيضا تحديدا للعرض وقع الاختلاف بينهما، اللهم إلا أن يقال:

المقصود منهما هو الكناية من السعة لا على التقدير المحقق، وجاء في بعض روايات العامة: أن زواياه سواء، قال عياض: قام البرهان على أن تساوي الزوايا ملزوم لتساوي الأضلاع فهو على هذا مربع متساوي الأضلاع، أقول: هذا غلط ظاهر لأن تساوي الزوايا لا يستلزم تساوي الأضلاع كما في المستطيل، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ترد علي أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الناس عن إبله، وقالوا يا رسول الله تعرفنا قال نعم لكم سيماء ليست لأحد من الأمم غيركم تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء ولتصدن عني طائفة منكم فلا تصلون فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول: فهل تدري ما أحدثوا بعدك» انتهى، أقول لعل من خالفنا عموا وصموا فلم يروا ولم يسمعوا أمثال هذا الخبر حتى حكموا بكفر من حكم بكفر واحد من الصحابة ولم يجوزوا أن تكون خلافة الثلاثة مما أحدثوا. يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى سواء السبيل وقد ذكرنا كثيرا من رواياتهم الدالة على كفر كثير من الصحابة في كتاب شرح الأصول وسنذكر جملة أخرى منها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(من رحيق مختوم) الرحيق: الخمر، والمراد بها خمر الجنة، والمختوم المصون الذي لم يتبدل لأجل ختامه (فيه آنية مثل نجوم السماء وأكواب مثل مدر الأرض). من طرق العامة عنه صلى الله عليه وآله قال: «حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا» وفي الآخر: «والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من نجوم السماء» أقول: الكوب كوز لا عروة له أو لا خرطوم له، والآنية جمع الإناء والأواني جمع الآنية، والتشبيه في العدد والصفاء لا في الجرم لأن ما للنجوم من المساحة أكثر من مساحة الحوض، وهذا يحتمل أن يكون كناية عن الكثرة كما قيل في قوله تعالى (وأرسلناه إلى

ص:148

مائة ألف أو يزيدون) ومنه قولهم كلمته في هذا ألف مرة وهو من باب المبالغة المعروف لغة ولا يعد كذبا لكن يشترط في جوازه أن يكون المكنى عنه بذلك كثيرا في نفسه ويحتمل الحقيقة أيضا.

لا يقال: لا يحتملها لأن مقدار الحوض من بكة إلى مطلع الشمس فلا تسع أطرافه آنية بعدد مدر الأرض.

لأنا نقول: إن ما يشرب به منها يذهب ويخلق غيره فلا يلزم أن يكون هذا العدد موجودا مجتمعا في أطرافه، أو نقول: إنها بأيدي الملائكة عليهم السلام، والله أعلم.

(عذب فيه من كل شراب) من أشربة الجنة إما بطريق المزج والتركيب أو بأن يكون في كل ناحية منه شراب خاص، والأول أظهر.

(وطعم كل ثمار في الجنة) يحتمل أن يجده الذايقة منفردا أو مركبا (من شرب منه شربة لم يظمأ أبدا) أي لم يعطش. مثله في طريق العامة قال الأبي في كتاب إكمال الإكمال: هذا يدل على أن الشرب منه بعد الحساب وبعد الدخول في الجنة لأنه الذي لا يعطش، وقيل: لا يشرب منه إلا من لا يدخل النار، وقال العياض: الظاهر أن كل الأمة يشرب منه إلا المرتد ثم من يدخل النار بعده يحتمل أن لا يعذب فيها بالعطش بل بغيره.

(وذلك من قسمي له وتفضيلي إياه) على ساير الرسل، في القاموس: القسم: العطاء وفي لفظة «من» دلالة على أن هذا بعض من عطاياه الكثيرة وتفضلاته الجزيلة.

(على فترة بينك وبينه) الفترة ما بين الرسولين وهي ههنا خمسمائة عام عندنا وستمائة عام عندهم كما مر في حديث نافع (يوافق سره علانيته) مع الله ومع الخلق كلهم وهو أعظم أركان الإيمان ينتفي الإيمان بانتفائه رأسا (وقوله فعله) التوافق بين القول والفعل دائما في الأمور الحقة دليل على حد الكمال في القوة النظرية والعلمية، والتخالف بينهما دليل على الفساد في القوة العقلية (لا يأمر الناس إلا بما يبدأهم به) تأكيدا للسابق ودليل على أن الأمر بالشيء ينبغي أن يكون فاعلا له لئلا يتوجه إليه التوبيخ والذم والمقت في قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) وقوله تعالى (لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وفيه مفاسد كثيرة ذكرنا بعضها في كتاب العلم (دينه الجهاد في عسر ويسر) وان قلوا وكثر الأعداء، وتقديم العسر لتقدمه في الواقع.

(ينقاد له البلاد) أي أهلها، على حذف المضاف أو إطلاق المحل على الحال (ويخضع له صاحب الروم) مع كثرة عساكره وهو من باب ذكر الخاص بعد العام (على دين إبراهيم) أي على أصول دينه وآدابه المستمرة (يسمي عند الطعام) هي سنة مؤكدة روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إن

ص:149

الرجل إذا أراد أن يطعم طعاما فأهوى بيده فقال: بسم الله والحمد لله رب العالمين، غفر الله عز وجل له قبل أن تصل اللقمة إلى فيه» (ويفشي السلام) كان (صلى الله عليه وآله) يسلم على كل من لقي من صغير وكبير ووضيع وشريف لحسن خلقه (ويصلي والناس نيام) كثرة صلاته حتى تورمت قدماه مشهورة (له كل يوم خمس صلوات متواليات) يجيء بعضها بعد بعض بعدية مخصوصة (ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار) المراد به النداء بالأذان والإقامة، والشعار بالكسر: نداء في الحرب يعرف به أهلها ومنه أنه (صلى الله عليه وآله) جعل شعارهم يوم بدر: يا نصر الله اقترب اقترب، ويوم أحد:

يا نصر الله اقترب، وكانت هذه الكلمة علامة بينهم بها يتعارفون.

(يفتتح بالتكبير ويختم بالتسليم) ظاهره وجوب التسليم وخروج النية (ويصف قدميه في الصلاة كما تصف الملائكة أقدامها) صف القدمين أمر مطلوب في الصلاة وهو كما يفهم عن بعض الأخبار وضع إحداهما جنب الأخرى بحيث يكون البعد بينهما قدر شبر أو أربع أصابع مضمومة ويكون رؤوس أصابعهما نحو القبلة وقوله «كما تصف الملائكة» تأكيدا في الحض عليه.

(ويخشع لي قلبه ورأسه) أريد بخشوع القلب دوام ذكره وانقياده والاعتقاد بعجزه وحاجته، وبخشوع رأسه تطامنه أو خشوع لسانه ودوام اشتغاله بالدعاء والتضرع وبسط الحاجة ونحو ذلك أو خشوع قواه الباطنة لأنها في الرأس.

(النور في صدره) أي نور العلم والإيمان (والحق على لسانه) أي الكلام الحق والصدق لا يكذب قط صغيرا وكبيرا (وهو على الحق حيث ما كان) دوامه على جنس الحق أو على جميع أفراده يستلزم دوامها فيه وهو يستلزم عدم تطرق شيء من الباطل في وقت من الأوقات إليه.

(أصله يتيم ضال برهة من زمانه عما يراد به) من إجراء أحكام دينه وحدوده والاشتغال بهداية الناس والجهاد مع الكفار وغير ذلك، والبرهة تضم الزمان الطويل أو أعم وهو مع كونه بيانا للواقع تنبيه على عظم نعمائه تعالى عليه حيث أنه رباه من هذه الحالة إلى حالة خضعت له بها قلوب الخلائق وأعناق الجبابرة.

(تنام عيناه ولا ينام قلبه) لكونه محلا للوحي ومشغولا بالرب ومحفوظا عن الحدث. وظاهره أن هذه الحالة كانت له قبل البعثة وبعدها وأمكن تخصيصها بما بعدها، وهذا مذكور في كتاب الحجة أيضا وشرحناه هناك على وجه يندفع التنافي بينه وبين ما رواه المصنف في كتاب الصلاة في باب من نام عنها من أنه (صلى الله عليه وآله) نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس.

(له الشفاعة) لأمته وللأمم السابقة (وعلى أمته تقوم الساعة) إذ لا نبي بعده (ويدي فوق أيديهم) عند بيعتهم وعهدهم معه، وهذا من باب التخييل والتمثيل أو المراد باليد يد الرسول (صلى الله عليه وآله)

ص:150

أضيفت إليه تعالى للتشريف والتعظيم وهو مروي.

(ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) أي من نقض العهد فإنما ينقضه على نفسه لعود ضرره إليه لا إلى غيره. (ومن أوفى بما عاهد عليه) من الإيمان به والعمل بما جاء به ونصرته في الحروب بالنفس والمال (أوفيت له بالجنة) يقال وفى بالعهد وأوفى ووفى إذا أتمه وأكمله وأتى به كما هو حقه.

(فمر ظلمة بني إسرائيل أن لا يدرسوا كتبه) درس الرسم عفى، ودرسه الريح لازم متعد، والضمير في كتبه راجع إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، والجمع إما للتعظيم أو لاشتمال كتابه على جميع ما في الكتب السابقة أو أريد به القرآن وغيره ومما كتبوه سماعا منه (صلى الله عليه وآله) (ولا يحرفوا سنته) من التحريف لا من الإحراق كما في بعض النسخ (وأن يقرئوه السلام) في القاموس: قرأ عليه السلام بلغه كأقرأه، ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوبا (فإن له في المقام شأنا من الشأن) أي في مقام الشفاعة أو مقام القرب أو مقام القيامة أو مقام ظهوره (عليه السلام) والشأن: الخطب والأمر والحال، والتنكير للتعظيم.

(يا عيسى كل ما يقربك مني) من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والحكم البالغة والعلوم النافعة (فقد دللتك عليه) وهديتك إليه فخذها إليك (وكل ما يباعدك مني فقد نهيتك عنه فارتد لنفسك) أي اطلب لنفسك ما هو خير لك من هذين الأمرين، وارتد: أمر من الارتياد وهو طلب الشيء بالتفكر فيه مرة بعد أخرى كالرود والرياد، ومنه المراودة.

(يا عيسى إن الدنيا حلو) الحلو بالضم: نقيض المر، إشارة به إلى وجه اغترار الناس بالدنيا وانخداعهم منها لحلاوة متاعها وزهراتها في بادي نظرهم فمالت إليها نفوسهم، وأما عند أولي الأبصار فهي مخلوطة بالأكدار أو آيلة إليها وما من أحد يتعرض لها إلا ويجدها متضمنة لمكاره شديدة ويجد في حلاوتها مرارة كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذمها.

(وقد أمر) أي صار مرا منها ما كان حلوا وكدر منها ما كان صفوا.

(وإنما استعملتك فيها) أي طلبت العمل منك فيها للآخرة (فجانب منها ما حذرتك منه) لأنه مع كونه معصية موجبة للبعد عن سبيل الحق والعمل للآخرة (وخذ منها ما أعطيتك عفوا) أي بغير مسألة تقول: أعطيته عفوا أي بغير مسألة وهو دليل على كمال العناية والشفقة وترغيب في الأخذ به.

(يا عيسى انظر في عملك نظر العبد المذنب الخاطىء) أي كما أن ذلك العبد ينظر في ذنبه ويتذلل ويتملق عند مولاه لعله يتجاوز عن تقصيره فانظر أنت أيضا في عملك وعد نفسك مقصرة فيه وتذلل عند مولاك الحق طلبا للتجاوز عن تقصيرك (ولا تنظر في عمل غيرك بمنزلة الريب)

ص:151

أي الشك والتهمة في تقصيره فيه بل ظن أنه أتى به بقدر الإمكان، وفي بعض النسخ: «بمنزلة الرب» أي بمنزلة المربي والمتمم له باعتقاد النقصان فيه، وهذا قريب مما روي «أن من خصال العاقل أن يرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه».

(فكن فيها زاهدا، ولا ترغب فيها فتعطب) أصل الرغبة فيها سبب للرغبة عن الآخرة خصوصا إذا كانت الرغبة مع لوازمها مثل صرف العمر فيما لا يعني، وتشتت القلب وقساوته وطول الأمل والغفلة عن الحق وغيرها من الرذائل اللازمة للدنيا، وكل ذلك يوجب العطب وخسران الأبد.

(يا عيسى اعقل وتفكر) العقل: الإدراك، تقول: عقلت الشيء عقلا من باب ضرب إذا أدركته وتدبرته، ومن باب تعب لغة، ثم أطلق على المدرك بالكسر، ولهذا قال بعض الناس: العقل غريزة يتهيأ به الإنسان إلى فهم الخطاب. والتفكر تردد القلب بالنظر والتدبر والرؤية لطلب معرفة الشيء أوله وآخره وحسنه وقبحه ونفعه وضره وخيره وشره.

(وانظر في نواحي الأرض كيف كان عاقبة الظالمين) أمر بالعبرة من أحوال الظالمين حيث كانوا في جنات وعيون وزروع ومقام كريم مع أنصار وأولاد وأحفاد واحترام عظيم قد أخذهم الله تعالى بتخريب ديارهم وتقلب أحوالهم وتدمير أدبارهم وتقطيع آثارهم وغير ذلك من بأس الله وصولاته ووقايعه ومثلاته فصاروا بحيث لم يبق منهم إلا اسم ولا من ديارهم إلا رسم، مأخوذين بأعمالهم مقيدين بسلاسل أفعالهم مغلولين بأغلال أطوارهم مشغولين بالحسرة والندامة محرومين عن الرحمة والكرامة، فإن من تفكر في هذا حصلت له ملكة الانزجار عن حلال الدنيا فضلا عن حرامها وفضيلة الانقطاع عن خلاف الأولى فضلا عن الظلم بأهلها.

ثم رغبه في الأخذ بوصيته وقوله مع الوعيد بالعذاب على تركه بقوله: (يا عيسى كل وصفي لك نصيحة وكل قولي لك حق) أي كل ما بينته لك نصيحة خالصة وكل ما قلته لك حق ثابت لا ريب فيه، فوجب عليك الأخذ به (وأنا الحق المبين) أبان الشيء: ظهر، وأبانه: أظهره وأوضحه لازم متعد، فعلى الأول أشار إلى ظهور وجوده، وعلى الثاني أشار إلى أنه أظهر جميع ما يحتاج إليه الخلق في كمالهم وبينه لهم، والغرض على التقديرين هو الحث على اتباع قوله و «نصحه».

(فحقا أقول لئن أنت عصيتني بعد أن أنبأتك مالك من دوني ولي ولا نصير) وعيد عظيم للعالم التارك لعلمه بأن عقوبته أشد وأقوى وهو باللوم أجدر وأحرى من الجاهل، وقد دل عليه كثير من الروايات.

(يا عيسى أذل قلبك بالخشية) قد مر أنها تابعة للعلم بالله وأنها إذا حصلت لأحد تبعثه على القيام بالعبودية ورعاية الآداب وأداء وظايف الطاعات وترك المنهيات والتقصير في شيء من

ص:152

الحقوق فهي أصل لقبول النصايح ولذلك أمر بها مرارا (وانظر إلى من هو أسفل منك ولا تنظر إلى من هو فوقك) لأن ذلك يسهل أمر الدنيا والصبر على الفايت منها والرضا عن الرب بما أعطاه والحمد والشكر له بخلاف النظر إلى الفوق وقد مر وسيجئ أيضا، وهذا أصل عظيم لترك الدنيا والرضا بالمقدر.

(واعلم أن رأس كل خطيئة أو ذنب هو حب الدنيا) الخطايا والذنوب كلها - مثل الكبر والحرص والحسد والزنا والرئاسة والعداوة والقتل وترك الأوامر للراحة وفعل المناهي للشهوة وغير ذلك - تابعة لحب الدنيا منبعثة من الميل إليها والخطيئة أعم من الذنب لأن ترك الأولى وخلاف المروة خطيئة وليس بذنب وفيه زجر عن حب الدنيا والركون إليها، وبالغ فيه فقال: (فلا تحبها فإني لا أحبها) لأن العاقل المحب لله تعالى لا يحب ما لا يحبه ويبغضه، ومن وجوه عدم حبه تعالى للدنيا أنه لا يعصى إلا فيها، وأنها تخدع عباده بزهراتها وتمنعهم عما يوجب القرب منه.

(يا عيسى أطب لي قلبك) أمره بتفريغ قلبه عما سواه وتطهيره عن الأخلاق الذميمة وتقويته بالأخلاق الفاضلة (وأكثر ذكري في الخلوات) لأنه في الخلوة أقرب إلى القبول والكمال وأبعد من الرياء والسمعة والاختلال وإلا فذكره مطلوب في جميع الأحوال، ولما كان الذكر أصلا لكل ما يتقرب به أمر به وبإكثاره مكررا.

(واعلم أن سروري أن تبصبص إلي) التبصبص: التملق يقال: تبصبص الكلب بذنبه إذا حركه، وإنما يفعل ذلك من خوف أو طمع، ونسبة السرور إليه تعالى باعتبار إرادة لازمة وهو الرضا وإضافة الخيرات (كن في ذلك حيا ولا تكن ميتا) أراد به حياة النفس بالتوجه إليه والاشتغال به عن غيره.

(يا عيسى لا تشرك بي شيئا) نهاه عن الشرك الجلي والخفي كمتابعة الهوى، إن الشرك لظلم عظيم (وكن مني على حذر) أمره بالحذر من عقوبته وخذلانه لأنه تعالى رقيب عليه يعلم سراير قلوبه كما يعلم ظواهر أعماله فوجب الحذر منه والتحرز من مخالفته.

(ولا تغتر بالنصيحة) أي بنصيحتي لك وخطابي إياك كما يغتر جليس السلطان بخطابه أو بالعمل بنصيحتي كما يغتر العامل بعمله ويعجب به فإن ذلك يفسده، وفي بعض النسخ بالصحة.

(ولا تغبط نفسك) أي لا تتمن نفسك ما في يد أهل الدنيا من متاعها من الغبطة وهي تمني نعمة لا تتحول عن صاحبها وفعلها من باب ضرب وسمع أو لا تفرح بمتاع الدنيا ومنه الاغتباط وهو الابتهاج بالحال الحسنة والسرور بها (فإن الدنيا كفيء زايل) نفر عن الدنيا بتشبيهها بالفيء في سرعة الزوال أو في أنه ليس بشيء ثابت حقيقة أو في الاستظلال به قليلا ثم الارتحال عنه كالمسافر أو في أنه يزول بالتدريج ويفنى آنا فآنا ويرى ساكنا والدنيا كذلك.

ص:153

(وما أقبل منها كما أدبر فنافس في الصالحات جهدك) المراد بما أقبل الزمان المستقبل، شبهه بما أدبر وهو الزمان الماضي في الانقضاء وعدم البقاء أو في عدم الاقتدار على العمل فيه أو في عدم وجودك فيه، فارغب في الأعمال الصالحة بقدر الطاقة والمكنة في الآن الذي أنت فيه وهو عمرك حقيقة أو المراد به الآن المذكور، والوجه هو الأول والعاقل اللبيب إذا نظر في هذا الكلام وعمل بمضمونه وراقب نفسه خلص من آفات الدنيا والآخرة.

(وكن مع الحق حيثما كان) المراد بالحق إما الله تعالى أو الخيرات الدنيوية والاخروية التي أمر الله عز وجل بها وبالتزامها.

(وإن قطعت وأحرقت بالنار فلا تكفر بي بعد المعرفة) نهى عن الارتداد والكفران بعد المعرفة والإيمان بوعيد المنكرين وتعذيب الكافرين والتقية منهم لأن المعرفة والإيمان أمر قلبي لا تقية فيه، نعم يجوز التقية في الأقوال والأعمال الظاهرة كما هو صريح بعض الروايات مع إمكان اختصاصه (عليه السلام) بعدم جواز التقية فيها أيضا.

(ولا تكن مع الجاهلين) الذين ركنوا إلى زهرات الدنيا وشهوات النفس والأهواء الباطلة واللذات الزايلة وأحكام الجهالة وطرق الضلالة، وفي بعض النسخ: «ولا تكونن من الجاهلين» والأول أنسب بقوله.

(فإن الشيء يكون مع الشيء) فالصالح مع الفاسق فاسق والعالم مع الجاهل جاهل لأن علة الفسق والجهالة مسرية وصحبة الهالك والضال مردية، ولو فرض تخلصه من ذلك فهو عند الناس مثلهم في الضلالة والغواية، وفي بعض النسخ: «السيء» بالسين المهملة في الموضعين.

(يا عيسى صب لي الدموع من عينيك واخشع لي بقلبك) طلب الجمع بين الأمرين خشوع القلب ودموع العينين إذ به يقطع العبد منازل الاشتياق ويصل إلى مقام القرب ويتخلص من ألم الفراق والخشوع وهو تفريغ القلب عن غيره تعالى، وصرف الهمة إلى جميع ما يتقرب به يوجب التذلل والخوف من التقصير والبقاء في منزل الحرمان وموضع الخسران والبعد عن المحبوب الحقيقي وبذلك يتحرك القلب ويجد ويتحرق ويغلي ويتصاعد الرطوبات وتنصب من العينين.

(يا عيسى استغث بي في حالات الشدة فإني أغيث المكروبين وأجيب المضطرين) استغاث به طلب منه العون والنصرة في رفع الكرب والشدة فأغاثه إغاثة أي أعانه ونصره وكشف عنه شدته ورفع عنه كربته فهو مغيث (وأنا أرحم الراحمين) دل على أن الإغاثة والإجابة بفضل رحمته.

* الأصل:

104 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن منصور بن يونس، عن

ص:154

عنبسة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا استقر أهل النار في النار يفقدونكم فلا يرون منكم أحدا فيقول بعضهم لبعض، (مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * إتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار) قال: وذلك قول الله عز وجل: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) يتخاصمون فيكم فيما كانوا يقولون في الدنيا.

* الشرح:

قوله (إذا استقر أهل النار في النار يفقدونكم) فقدته فقدا من باب ضرب وقعد: عدمته، فهو مفقود وفقيد وتفقدته طلبته عند غيبته.

ص:155

حديث إبليس

* الأصل:

105 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار. عن صفوان، عن يعقوب ابن شعيب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): من أشد الناس عليكم؟ قال: قلت: جعلت فداك كل، قال: أتدري مم ذاك يا يعقوب؟ قال: قلت لا أدري جعلت فداك، قال: إن إبليس دعاهم فأجابوه وأمرهم فأطاعوه ودعاكم فلم تجيبوه وأمركم فلم تطيعوه فأغرى بكم الناس.

* الشرح:

قوله (حديث إبليس) في إغوائه الناس على الشيعة وإرادة إيصال المكروه إليهم (قال قلت جعلت فداك كل) أي كل في غاية الشدة وكمالها حتى لا يمكن أن يقال بعضهم أشد من بعض (قال إن إبليس دعاهم فأجابوه وأمرهم فأطاعوه) أي دعاهم إلى ترك ولاية أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين (فأجابوه وأمرهم) بطاعة أئمة الجور (فأطاعوه) فأغرى بكم الناس، أغراه به إذا أولعه وأغرى بينهم العداوة ألقاها كأنها ألزقها بهم والغراء بالكسر ما يلصق به معمول من الجلد وقد يعمل من السمك.

* الأصل:

106 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا رأى الرجل ما يكره في منامه فليتحول عن شقه الذي كان عليه نائما وليقل: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) ثم ليقل: «عذت بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم».

* الشرح:

قوله (إذا رأى الرجل ما يكره في منامه فليتحول عن شقه الذي كان عليه نائما) أي إذا رأى ما يهوله ويفزعه ويشوشه، وقد مر أن ذلك من الشيطان، ولعل أمره بالتحول ليتم تيقظه وللتفؤل بتحول الرؤيا عن تأويلها المكروه وأنها لا تضر، وقد ورد نظير ذلك من طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله)

ص:156

قال: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ من شرها وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» والنفث والبصق بمعنى واحد ولعل النفث هو طرد للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة واسترذال له كما يبصق على الشئ المستقذر (وليقل إنما النجوى من الشيطان..) إذا قال ذلك أذهب الله سبحانه عنه الفزع والتشويش وما دل عليه المنام من الأمر المكروه، كما جاء أن الصدقة تدفع البلاء إذا فعل ذلك مصدقا متكلا على الله سبحانه في دفع المكروه.

* الأصل:

107 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن هارون بن منصور العبدي، عن أبي الورد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة عليها السلام في رؤياها التي رأتها: قولي: «أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت في ليلتي هذه أن يصيبني منه سوء أو شيء أكرهه» ثم انقلبي عن يسارك ثلاث مرات.

* الشرح:

(ثم انقلبي عن يسارك ثلاث مرات) انقلبي من الانقلاب في النسخ التي رأيناها، وثلاث مرات متعلق ب «قولي»، وفيه أن الانقلاب إنما هو عن الشق الذي وقع النوم عليه كما مر لا عن اليسار إلا إذا ثبت أنها (عليها السلام) كانت تنام على اليسار وهو كما ترى، والظاهر أنه تصحيف اتفلي بالتاء المثناة الفوقانية، والفاء من التفل وهو شبيه بالبزق وقد تفل يتفل ويتفل، ويؤيده ما روي من طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره» ولهم روايات متكثرة في هذه المعنى إلا أن في بعضها فلينفث ثلاثا وفي بعضها فليبصق والتفل والنفث والبصق بمعنى واحد، والتفاوت بالقلة والكثرة، كما يفهم من كلام الجوهري وكون ذلك على اليسار لأنها محل الشيطان والأقذار وقيل يحتمل أن يجعل الله تعالى ذلك التفل ما يطرد به الشيطان ويبعده.

ص:157

حديث محاسبة النفس

* الأصل:

108 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد جميعا، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عز ذكره، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقداره ألف سنة، ثم تلا: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون).

* الشرح:

(حديث محاسبة النفس) بصرفها عن المقابح وحبسها على المحاسن.

(إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم..) دلت الروايات المعتبرة على أن من له رجاء إلى مخلوق وجعله معتمدا لحصول رجائه وكله الله إليه فلو دعا الله حينئذ فقد جعله شريكا له في قضاء الحوائج وكل عمل له ولشريكه يرده إلى شريكه لأنه تعالى لا يقبل إلا ما خلص له.

(فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها) جعل الله العقل والنفس تاجرين شريكين في التجارة للآخرة والعمر رأس المال والطاعة والقرب ودخول الجنة ربحها، والبعد وخلود الناس خسرانها، وجعل العقل لاتصافه بالأمانة أميرا رقيبا حاكما على النفس الأمارة لاتصافها بالخيانة ولذلك خاطبه بقوله بك أثيب وبك أعاقب كما في كتاب العقل.

وجعل النفس تابعة له في تلك التجارة لأنه يستعين بها وبقواها والباطنة والظاهرة التي هي بمنزلة الخدم لها في تلك التجارة، كما يستعين التاجر الدنيوي بشريكه ثم يحاسبه الله تعالى لكونه الشريك الأعظم في مواقف القيامة التي هي موقف المعرفة وموقف الإيمان وموقف الرسالة وموقف الولاية وموقف الصلاة وموقف الزكاة وغيرها من الحقوق والطاعات فوجب على العقل أن يحاسب النفس في أوان التجارة ليأمن من خيانتها ويجعلها مطمئنة ويسهل له الحساب في مواقف

ص:158

القيامة أو يتخلص منه، وحقيقة تلك المحاسبة أن يضبط عليها أعمالها وحركاتها وسكناتها وخطراتها ولحظاتها ولا يغفل عن مراقبتها ويصرفها إلى الخيرات ويزجرها عن المنهيات ويعاتبها ويجاهدها ويعاقبها فإن رأى أنها مالت إلى كسب معصية أو ترك طاعة يوبخها بأن ذلك من الحمق والجهل بالله وبأمر الآخرة وبعقوباتها وخسرانها ويجاهدها حتى ترجع عنه إلى الخير ويعاقبها بترك كثير من المباحات وتحميل كثير من المندوبات ويضيق عليها لينقطع ميلها إلى فعل المنهيات وترك المفروضات وهكذا يفعل بها في حال جميع الاكتسابات حتى تصير منقادة مطمئنة تصلح أن تخاطب بيا (أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ويتخلص من حساب يوم القيامة (فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا «في يوم كان مقداره خمسين] هكذا [ألف سنة مما تعدون) يفهم منه أن مدة المواقف يوم وأن مقدار ذلك اليوم خمسين ألف سنة من سني الدنيا، وهذا ينافي ظاهر قوله تعالى (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) وظاهر قوله فيما سبق «واعبدني ليوم كألف سنة مما تعدون».

ورفع هذه المنافاة بعض المحققين بأن يوم الآخرة وسنيها أمر موهوم وبينه بأن يوم الآخرة لا يمكن حمله على حقيقته إذ اليوم المعهود عبارة عن زمان طلوع الشمس إلى مغيبها وبعد خراب العالم على ما نطقت به الشريعة لا يبقى ذلك الزمان فتعين حمل اليوم على مجازه وهو الزمان المقدر بحسب الوهم القايس لأحوال الآخرة إلى أحوال الدنيا وأيامها إقامة لما بالقوة مقام ما بالفعل وكذلك السنة وحينئذ قوله تعالى (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) وفي موضع (كان مقداره ألف سنة) إشارة إلى تلك الأزمنة الموهومة لشدة أهوال أحوال الآخرة وضعفها وطولها وقصرها وسرعة حساب بعضهم وخفة ظهره وثقل أوزار قوم آخرين وطول حسابهم، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) قال هو يوم القيامة جعل الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة وأراد أن أهل الموقف لشدة أهوالهم يستطيلون بقاءهم فيها وشدتها عليهم حتى تكون في قوة ذلك المقدار، وعن أبي سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما طول هذا اليوم؟ قال «والذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا» وهذا يدل على أنها يوم موهوم وإلا لما تفاوت في الطول والقصر إلى هذه الغاية.

* الأصل:

109 - وبهذا الإسناد، عن حفص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان مسافرا فليسافر يوم السبت فلو أن حجرا أزال عن جبل يوم السبت لرده الله عز وجل إلى موضعه من تعذرت عليه الحوائج

ص:159

فليلتمس طلبها يوم الثلاثاء فإنه اليوم الذي ألان الله فيه الحديد لداود (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (قال من كان مسافرا فليسافر في يوم السبت) أي من أراد السفر وقد يراد من الفعل الاختياري مباديه كما في قوله تعالى «فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» أي إذا أردتم القيام إليها ويوم الثلاثاء بالمد والضم.

* الأصل:

110 - وبهذا الإسناد، عن حفص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لرب العالمين مثل السهم في القرب ليس له من الأرض إلا موضع قدمه كالسهم في الكنانة لا يقدر أن يزول هاهنا ولا هاهنا.

* الشرح:

قوله (مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لرب العالمين مثل السهم في القرب) أي في قرب بعضهم من بعض وفي بعض النسخ في القرن وهو بالتحريك جعبة من جلود تشق وتحرز وتجعل فيها السهام وإنما تشق كي تصل الريح إلى الريش فلا يفسد (ليس له من الأرض إلا موضع قدمه كالسهم في الكنانة) الكنانة بالكسر جعبة السهام.

* الأصل:

111 - وبهذا الإسناد، عن حفص قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يتخلل بساتين الكوفة فانتهى إلى نخلة فتوضأ عندها ثم ركع وسجد فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة. ثم استند إلى النخلة فدعا بدعوات، ثم قال: يا] أبا [حفص إنها والله النخلة التي قال الله جل وعز لمريم (عليها السلام) (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا).

* الشرح:

قوله (يتخلل بساتين الكوفة) أي يدخل بينها وفي خلالها.

(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) الهز الإمالة والتحريك بحذب ودفع والباء زائدة للتأكيد، و «تساقط» مجزوم بعد الأمر، وفاعله ضمير النخلة وأصله تتساقط أدغمت التاء الثانية في السين، ورطبا تميز، قال القاضي: روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا، وتسليها بذلك لما فيه من المعجزات

ص:160

الدالة على براءة ساحتها وأن مثلها لا يتصور لمن ارتكب الفواحش والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل فقال وإنه ليس ببدع من شأنها.

* الأصل:

112 - حفص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال عيسى (عليه السلام) اشتدت مؤونة الدنيا ومؤونة الآخرة أما مؤونة الدنيا فإنك لا تمد يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجرا قد سبقك إليها وأما مؤونة الآخرة فإنك لا تجد أعوانا يعينونك عليها.

* الشرح:

قوله (اشتدت مؤونة الدنيا وموؤنة الآخرة) المؤونة الثقل وهي إما على وزن فعولة بفتح الفاء والجمع مؤونات مثل مقولة ومقولات أو على وزن فعلة بضم الفاء والجمع مؤن مثل غرفة وغرف.

* الأصل:

113 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يونس بن عمار قال سمعت: أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أيما مؤمن شكا حاجته وضره إلى كافر أو إلى من يخالفه على دينه فكأنما شكا الله عز وجل إلى عدو من أعداء الله، وأيما رجل مؤمن شكا حاجته وضره إلى مؤمن مثله كانت شكواه إلى الله عز وجل.

* الشرح:

قوله (أيما مؤمن شكا حاجته وضره إلى كافر..) مثله قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنما شكا إلى الله ومن شكاها إلى كافر فكأنما شكا الله»، قيل: والوجه في ذلك أن المؤمن من حزب الله والشاكي إليه يجعله وسيلة يتوسل به إلى الله سبحانه والكافر من أعداء الله فالشكاية إليه شكاية عن الله حيث أظهر سره إلى عدوه، والأول محمود إلا عند المتوكلين، قال الله تعالى حكاية عن يعقوب: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) وقال «تشتكي إلى الله» والثاني مذموم شرعا وعقلا.

* الأصل:

114 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل أوحى إلى سليمان بن داود (عليهما السلام) أن آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها:

الخرنوبة، قال: فنظر سليمان يوما فإذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت من بيت المقدس فقال لها: ما

ص:161

اسمك؟ قالت: الخرنوبة، قال: فولى سليمان مدبرا إلى محرابه فقام فيه متكئا على عصاه فقبض روحه من ساعته، قال: فجعلت الجن والإنس يخدمونه ويسعون في أمره كما كانوا وهم يظنون أنه حي لم يمت، يغدون ويروحون وهو قائم ثابت حتى دبت الأرضة من عصاه فأكلت منسأته فانكسرت وخر سليمان إلى الأرض أفلا تسمع لقوله عز وجل: (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

* الشرح:

قوله (إن آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها الخرنوبة) الخروب بالتشديد وقد يفتح: شجرة برية ذات شوك وخمل كالتفاح لكنه بشع وشامية ذات خمل كالخيار شنبرا إلا أنه عريض وله رب وسويق، والخرنوب بالضم لغة فيه (وهو قائم ثابت حتى دبت الأرض) في بعض النسخ: دنت بالنون (من عصاه فأكلت منسأته فانكسرت وخر سليمان (عليه السلام) إلى الأرض) الأرضة بالتحريك دابة معروفة تأكل الخشبة والمنسأة كمكنسة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنه يطرد بها (أفلا تسمع لقوله عز وجل (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين)) زعموا أنهم يعلمون الغيب وكانوا يدعونه عند الناس فأظهر الله تعالى كذبهم فإنهم لو علموا الغيب لعلموا موته حين وقوعه فلم يلبثوا بعده حولا في العذاب المهين.

* الأصل:

115 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله ان المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) حول البيت طأطأ أحدهم ظهره ورأسه هكذا وغطى رأسه بثوبه لا يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله عز وجل: (ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون).

* الشرح:

قوله (إن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) حول البيت طأطأ أحدهم ظهره ورأسه هكذا) أي حنى ظهره وعطفه وخفض رأسه وهكذا إشارة إلى صورة فعله ولعل صدور هذا الفعل منه لكمال عداوته إن كان قبل النهي عن دخول المشركين في المسجد، أو للخوف من النبي (صلى الله عليه وآله) إن كان بعده ثم هذا الفعل يمكن أن يكون قبل الهجرة وبعدها في طواف العمرة أو في حجة الوداع، والآية على التقادير مكية، وعلى الأخيرين يمكن أن يراد بالمشركين المنافقون كما ذهب إليه بعض

ص:162

المفسرين، ولا يرد عليه ما أورده القاضي من أن هذا القول منظور فيه لأن الآية مكية والنفاق إنما حدث في المدينة فليتأمل (يعلم ما يسرون) من الشرك والعداوة والنفاق (وما يعلنون) من قبايح الأعمال وفضايح الأفعال والأقوال فيجزيهم على كل منهما.

* الأصل:

116 - ابن محبوب، عن أبي جعفر الأحول، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق الجنة قبل أن يخلق النار وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية وخلق الرحمة قبل الغضب وخلق الخير قبل الشر (1) وخلق الأرض قبل السماء وخلق الحياة قبل الموت وخلق الشمس قبل القمر وخلق النور قبل الظلمة.

* الشرح:

قوله (إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية) كان المراد بالخلق التقدير دون (2) الإيجاد والتكوين لأن الإيجاد لا يصح في بعض المذكورات كالطاعة والمعصية عند أرباب العصمة (عليهم السلام) ولعل تعلق التقدير أولا بالأمور المقدمة باعتبار أنها أشرف، وهذا ظاهر في غير الأرض والسماء ويمكن أن يقال الأرض أيضا أشرف (3) من حيث إنها مهد

ص:163


1- (1) قوله «وخلق الخير قبل الشر» إشارة إلى قاعدة معروفة بإمكان الأشرف في فن المعقول. وكل شيء هو أشرف وأكمل لابد أن يكون أقرب إلى الله تعالى ولذلك يقولون أول ما خلق الله العقل لأن العقل أشرف مما ليس بعاقل، والروحانيون خلقوا قبل الجسمانيين لأنهم أشرف وهكذا ثم أن الغضب والمعصية والشر وأمثالها مجعولة بالعرض وما بالعرض مؤخر عما بالذات، والله تعالى خلق الناس وركب فهم أسباب الطاعة، ومنها أنه خلقهم مختارا وجعل فيهم الشهوة والغضب وهما من أسباب الطاعة أيضا فصرفهما العبد بمقتضى الاختيار في معصية الله تعالى ولم يجعل الله هذه الطبايع لمعصية الله تعالى بل للطاعة فصرفها إلى المعصية بالعرض. والاختيار مجعول في جبلة الناس لمصلحة بعناية الله تعالى وهو خير ذاتا، وصرفه إلى المعصية والشر بالعرض، وهذا مذهب الإلهيين، وأما الماديون والملاحدة فيعتقدون خلاف ذلك وهو أن الحياة متأخرة عن المواد الجامدة وإنما حصلت بتركيب العناصر والعقل متأخر عن الحياة المطلقة وإنما وجد في الإنسان بخاصية ومزاج في دماغه ولو لم يكن تركيب وجسم وعناصر لم يكن عقل، وبالجملة العقل والحياة عند هؤلاء عرض من أعراض الأجسام ولم يكن أول الخلقة عقل ولا حياة وكان الموت قبل الحياة والظلمة قبل النور وهكذا. (ش)
2- (1) قوله «كان المراد بالخلق التقدير» قال المجلسي رحمه الله: خلق الطاعة أي قدرها قبل المعصية وتقديرها وكذا في الفقرتين بعدها. (ش)
3- (2) قوله ويمكن أن يقال الأرض أيضا أشرف، وعلى هذا فيعم الكلام خلق الأشرف قبل غيره لأن السماء ليس شرا بل هي أشرف من وجه الأرض أشرف من وجه وقال الله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ولولا شرفها بالنسبة لم يكن معراج النبي (صلى الله عليه وآله) فخرا له وشرفا ولم يكن الجنة في السماء ولم يمنع المعاندون من السماوات كما قال تعالى: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة) ولعل المراد بالسماوات التي هي أشرف غير ما هو مؤخر في الخلق هنا فإن السماوات إطلاقات واختلفت الروايات وظاهر الآيات في خلق السماوات قبل الأرضين أو بعدها، والأمر سهل. (ش)

للإنسان أحياء وأمواتا ومعبد للأنبياء والأوصياء والصلحاء وفيها معاشهم والسماء مخلوقة لأجلهم كما دل عليه ظاهر الآيات والروايات ثم الترتيب بين التقديرات المتقدمة وكذا بين التقديرات المتأخرة غير ظاهر ولا مستفاد من هذا الحديث لأن الواو لمطلق الجمع والتقديم الذكري غير مفيد.

* الأصل:

117 - عنه، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله خلق الخير يوم الأحد وما كان ليخلق الشر قبل الخير وفي يوم الأحد والاثنين (1) خلق الأرضين، وخلق أقواتها في يوم

ص:164


1- (3) قال البيضاوي: أي في مقدار يومين أو بنوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون، ولعل المراد بالأرض ما هو جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقهما في يومين أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا، انتهى. أقول: خلق الأرض والسماء وما فيها في ستة أيام مذكور في التوراة، والمقصود منه بيان حكمة تقسيم الأسبوع والحكم بتشريع يوم للراحة في كل سبعة أيام وكيف اختير هذا العدد في شرايع الأنبياء ولم يكن عند الفرس وغيرهم يوم في ترتيب الأعداد بل كان عيد العجم في كل يوم ينطبق اسمه مع اسم الشهر فقط كيوم فروردين في شهره ويوم خرداد في شهر خرداد. وكان لليهود سبت سنوي يعطلون المزارع والأراضي في كل سبع سنين سنة واحدة فذكر الله تعالى هذه المناسبة بأن الله تعالى خلق ما خلق في ست نوب فاعملوا أنتم في ستة أيام أو في ست سنين ورأى الله المصلحة في إبقاء هذا التقسيم في شريعة عيسى (عليه السلام) وشريعتنا فبقي الاسبوع والعمل ستة أيام وأن تغير يوم الراحة. وقال تعالى بعدد ذكر الخلق ستة أيام في سورة السجدة وكون خلق الأرض واقواتها في أربعة أيام (سواء للسائلين) وأن حفظ هذا الاصطلاح صلاح للناس كما في ساير الأمور، والعلماء وأصحاب الفنون متوافقون عليه مثلا قسموا الدائرة على ستين وثلاثمائة جزءا وسموه درجة وكان تقسيمه بغير هذا الطريق ممكنا لأنهم استحسنوه وحفظ من جاء بعدهم اصطلاحهم لئلا يتشوش الحسابات في الأدوار المختلفة ويفهم كل واحد ما قاله الآخر ولا يحتاج إلى الحسابات المعضلة في تقدير المقادير كما ترى في تطبيق الرطل والمن والصاع والدرهم على المقادير التي غيرها الناس في كل زمان، وقال الله تعالى (سواء للسائلين) إشارة إلى هذه المصلحة العامة وإلا فالذي يقابل الليل في العربي الفصيح الصريح هو النهار، ولذا لا ترى في القرآن الكريم في مقابلة الليل إلا لفظ النهار ففي كل موضع تجد الليل والنهار ولا تجد اليوم والنهار في موضع البتة وأما، اليوم فكثيرا ما يطلق على الوقت المطلق مثل: (إن يوما عند ربك كألف سنة) وكذلك يقال يوم الفجار أي أيام حرب الفجار ويوم داحس أي زمان هذه الحرب ودامت أربعين سنة وهكذا فسر (فذكرهم بأيام الله) أي الأوقات التي أنعم فيها على بني إسرائيل، وهكذا على ما ذكر أهل التفسير، وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى في ستة أيام أي في ستة أوقات وفي يومين أي في وقتين ابتداء الخلق وانقضاؤه. انتهى قوله (ش)

الثلاثاء، وخلق السماوات يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قوله عز وجل: (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام).

* الشرح:

قوله (إن الله خلق الخير يوم الأحد وما كان ليخلق الشر قبل الخير) يمكن أن يراد بالخير هنا الجنة وبالشر النار، وقد فسر الخير والشر بهما بعض المحققين كما أشرنا إليه في شرح التوحيد، وأن يراد بالخلق هنا التكوين إذ لا مانع منه ويؤيده قوله (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) إذ الظاهر من الخلق فيه التكوين والإيجاد (وفي الأحد والاثنين خلق الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء..) لعل المراد بالقوت هنا كل ما ينتفع به ذو روح وإن اشتهر إطلاقه على ما يؤكل وبأقوات السماوات أسباب الأقوات المقدرة فيها لأهل الأرض كالمطر ونحوه والإضافة فيهما بتقدير «في» أو لأدنى ملابسة.

لا يقال: أيام الأسبوع وأسماؤها إنما تحققت بعد خلق السماوات والأرضين فكيف تكون قبلها.

لأنا نقول: هذه الأيام كانت في علم الله تعالى فنزل العلم منزلة المعلوم أو نزل الزمان الموهوم بمنزلة الموجود (1) فأجري عليه حكمه.

ص:165


1- (1) «نزل الزمان الموهوم بمنزلة الموجود». أقول أما الزمان الموجود بمقتضى كلام الشارح فمتفرع على خلق السماوات والأرضين وأما الزمان المقدم عليه فهو موهوم، والمراد بالموهوم في اصطلاح أهل العلم ما ليس له حقيقة في الخارج وإنما يتصوره الإنسان في ذهنه مثل أن يفرض بين جسمين متصلين ألف فرسخ أو يتصور بين آخر النهار وأول الليل بعده ألف سنة وأما الذي لا يتوقف حقيقته على تصور الإنسان وهو ثابت محقق سواء تصوره أم لا فليس موهوما، مثلا بين الأرض والقمر ستون ألف فرسخ سواء علمه وتصوره أحد أو لم يتصوره، وهذا أمر حقيقي واقعي وإن كان الفضاء خاليا باعتقاد أهل عصرنا وليس موهوما، كذلك بين مبدأ تاريخ النصارى والهجرة النبوية الشريفة 622 سنة في الواقع سواء تصوره أحد أم لم يتصوره، والموهوم أن يتصور بينهما يوما واحدا أو ألف سنة خلاف الواقع وإلا لم يكن فرق بين الحقيقي والموهوم، هذا وأما أكثر العوام فيعتقدون الزمان شيئا موجودا بذاته لا يمكن فرض عدمه عندهم كما يعتقدون الفضاء الخالي كذلك فهم قائلون بنوع من تثليث الواجب: الأول هو الله تعالى الحي القيوم خالق كل شيء. الثاني الفضاء والمكان الخالي فيعتقدون أنه كان موجودا بذاته وإنما خلق ساير الأشياء وجعلت فيه. الثالث الزمان هو أيضا كان موجودا قبل خلق الأشياء وهذا رأي بعض الفلاسفة القدماء وبعض أهل الدين والمتشرعين مع اتفاقهم معهم في المعنى يعتذرون بأن المكان والزمان موهومان وإذا تكلمت معهم واستخرجت دخلة رأيهم وجدتهم لا يلتزمون بموهوميتهما بل يرونهما أمرا حقيقيا سواء تصور أحد معناهما أم لا ويقدرونهما بالمقادير الحقيقية، وأما الفلاسفة فقد اختلفوا في أمر المكان والزمان جدا ونقل أقوالهم في الشفاء ولا فائدة في نقلها، وقال المجلسي رحمه الله في فوائد الحديث: إن الزمان ليس بمقدار حركة الفلك كما زعمت الفلاسفة وهو أعلم بما قال فإنا لا نعلم من الفلاسفة إلا الاختلاف، وما ذكره قول بعضهم، ورد عليه أبو البركات، وهو منهم، بما هو أضعف من كل رأي وقال بعضهم: الوجود بنفسه سائل متحرك وليس هنا موضع تحقيق هذه الأمور (ش).

* الأصل:

118 - ابن محبوب، عن حنان، وعلي بن رئاب، عن زرارة قال: قلت له: قوله عز وجل: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): يا زرارة إنه إنما صمد لك ولأصحابك فأما الآخرون فقد فرغ منهم.

* الشرح:

قوله (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) أي لأرصد لهم كما يرصد قطاع الطريق، للقافلة، والصراط المستقيم الإيمان ونصبه على الظرف (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) أي لآتينهم من جميع الجهات الممكنة وهي هذه الأربع لإضلالهم وإغوائهم بأي وجه يمكن من الماليات والفروج والآمال والأعمال والتدليسات وغير ذلك مما لا يحصى من طرق وساوسه كما يأتي قاطع الطريق القافلة من هذه الجهات، وعن ابن عباس من بين أيديهم من قبل الآخرة ومن خلفهم من قبل الدنيا، أو عن أيمانهم وعن شمائلهم من قبل الحسنات والسيئات، وقيل: لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش، والحق أنه لم يقلهما جريا على المعتاد من إتيان العدو على عدوه.

(فقال أبو جعفر عليه السلام يا زرارة إنما صمد لك ولأصحابك) يعني أن اللعين قصد بذلك الشيعة ويؤيده قعوده على الصراط المستقيم والمخالفون خارجون عنهم فلا يكون قعوده لهم (فأما الآخرون فقد فرغ منهم) لأنه أخرجهم عن الدين فلا يبالي بأعمالهم التي تصير في الآخرة هباء منثورا.

* الأصل:

119 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد جميعا،

ص:166

عن النضر ابن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن بدر بن الوليد الخثعمي قال: دخل يحيى بن سابور على أبي عبد الله (عليه السلام) ليودعه فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أما والله إنكم لعلى الحق وإن من خالفكم لعلى غير الحق، والله ما أشك لكم في الجنة وإني لأرجو أن يقر الله لأعينكم عن قريب.

* الشرح:

قوله (وإني لأرجو أن يقر الله بأعينكم إلى قريب) أي يبرد الله دمعة أعينكم وهو كناية عن الفرح والسرور لأن دمعتهما باردة، ولعل المراد به ظهور الصاحب أو ظهور منازلهم في الجنة عند الاحتضار.

* الأصل:

120 - يحيى الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير قال: قلت: جعلت فداك أرأيت: الراد علي هذا الأمر فهو كالراد عليكم؟ فقال: يا أبا محمد من رد عليك هذا الأمر فهو كالراد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى الله تبارك وتعالى، يا أبا محمد إن الميت] منكم [على هذا الأمر شهيد، قال:

قلت: وإن مات على فراشه؟ قال: أي والله وإن مات على فراشه حي عند ربه يرزق.

* الشرح:

قوله (يا أبا محمد إن الميت منكم على هذا الأمر شهيد) أي مشهود له بالجنة وهو أحد الوجوه في تسمية الشهيد شهيدا، أو المراد أن له ثواب الشهداء وهذا هو الأظهر بالنظر إلى قوله (وإن مات على فراشه) وإلى قوله (حي عند ربه يرزق) فإنه إشارة إلى قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين) لأن هذه الفضيلة مختصة بالشهداء والأحاديث على ذلك كثيرة، منها ما سيأتي، ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم] يعني الجهاد [فإن من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيدا وقع أجره على الله واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله وقامت البينة مقام إسلاله لسيفه» قال بعض المحققين: هذا بيان لحكمهم في زمان عدم قيام إمام الحق لطلب الأمر وتنبيه لهم على ثمرة الصبر وهو ان من مات منهم على معرفة الحقوق المذكورة والاعتراف بها وقصد الاقتداء بأئمة الحق لحق بدرجة الشهداء ووقع أجره على الله بذلك واستحق الثواب منه على ما أتى به من الأعمال والصبر على المكاره من الأعداء وقامت

ص:167

نيته أنه من أنصار الإمام لو قام لطلب الأمر وأنه معينه مقام تجرده بسيفه معه في استحقاق الأجر.

* الأصل:

121 - يحيى الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن حبيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أما والله ما أحد من الناس أحب إلي منكم وإن الناس سلكوا سبلا شتى فمنهم من أخذ برأيه ومنهم من اتبع هواه ومنهم من اتبع الرواية إنكم أخذتم بأمر له أصل فعليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم في مساجدهم للصلاة أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره.

* الشرح:

قوله (أما والله ما أحد من الناس أحب إلي منكم) أراد به ما يفهم عرفا وهو حصر محبته على الشيعة لا أن محبتهم زائدة على محبة غيرهم.

(وإن الناس) وهم المخالفون (سلكوا سبلا شتى) أي مشتتة متفرقة لأن طرق الضلالة متكثرة (فمنهم من أخذ برأيه ومنهم من اتبع هواه ومنهم من اتبع الرواية) الرأي: العقل والتدبير أي أخذ أمور دينه بعقله وتدبيره وظنه وتقديره حتى كأنه واضع لها، والهوى بالقصر: مصدر هويته من باب علم إذا أحببته وعلقت به ثم أطلق على ميل النفس إلى الشيء مطلقا، ثم استعمل في ميل مذموم فيقال فلان اتبع هواه وهو من أهل الأهواء أي اتبع مخاطرات نفسه الأمارة بالسوء كالقياس ونحوه مما ليس دليلا على الحكم الشرعي ويجعله دليلا عليه وبذلك يحلل حراما ويحرم حلالا فيخترع دينا آخر. والمراد بالرواية الرواية المنقولة عن أهل الفسق والجور كأبي هريرة وأضرابه.

(وإنكم أخذتم بأمر له أصل) لعل المراد بالأمر الدين وبالأصل الإمام المنصوب من قبل الله تعالى وقبل رسوله ويمكن أن يراد بالأمر ولاية الأئمة عليهم السلام وبالأصل النص بها (فعليكم بالورع) عن المحرمات (والاجتهاد) في الطاعات وفيه ترغيب في تكميل القوة النظرية والعملية (واشهدوا الجنايز وعودوا المرضى) الظاهر شمولهما لجنايزهم ومرضاهم أيضا (واحضروا مع قومكم في مساجدهم للصلاة) معهم في صورة الجماعة ظاهرا وان تحقق الانفراد باطنا كما دل عليه بعض الروايات، مع الترغيب بأنه يخرج مع ثواب صلاتهم.

(أما يستحيي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره) أمر بحسن الجوار ورعاية حقوق المجاورة وذلك بالكف عن أذاه والإحسان إليه والصفح عنه وفعل ما فيه رضاه وقد

ص:168

مر تفصيلا.

* الأصل:

122 - عنه، عن ابن مسكان، عن مالك الجهني، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا مالك أما ترضون أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتكفوا وتدخلوا الجنة؟ يا مالك إنه ليس من قوم ائتموا بإمام في الدنيا إلا جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه إلا أنتم ومن كان على مثل حالكم، يا مالك إن الميت والله منكم على هذا الأمر لشهيد بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله.

* الشرح:

قوله (وتكفوا وتدخلوا الجنة) أي تكفوا ألسنتكم عن الأقوال الفاسدة وأنفسكم عن الأفعال الباطلة، وفيه حث على لزوم الصالحات لأنها الصراط المستقيم للجنة.

* الأصل:

123 - يحيى الحلبي، عن بشير الكناسي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وصلتم وقطع الناس، وأحببتم وأبغض الناس وعرفتم وأنكر الناس وهو الحق إن الله اتخذ محمدا (صلى الله عليه وآله) عبدا قبل أن يتخذه نبيا وإن عليا (عليه السلام) كان عبدا ناصحا لله عز وجل فنصحه وأحب الله عز وجل فأحبه، إن حقنا في كتاب الله بين، لنا صفو الأموال ولنا الأنفال وإنا قوم فرض الله عز وجل طاعتنا وإنكم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، عليكم بالطاعة فقد رأيتم أصحاب علي (عليه السلام)، ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال في مرضه الذي توفي فيه:

ادعوا لي خليلي فأرسلتا إلى أبويهما فلما جاءا أعرض بوجهه ثم قال: ادعوا لي خليلي، فقالا: قد رآنا لو أرادنا لكلمنا، فأرسلتا إلى علي (عليه السلام) فلما جاء أكب عليه يحدثه ويحدثه حتى إذا فرغ لقياه، فقالا: ما حدثك؟ فقال: حدثني بألف باب من العلم يفتح كل باب إلى ألف باب.

* الشرح:

قوله (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول) في مدح الشيعة وذم المخالفين (وصلتم) بالإمام الحق بعد النبي (صلى الله عليه وآله) (وقطع الناس) عنه (وأحببتم) أي الرسول وعترته والإمام المنصوب بعده من قبله (وأبغض الناس) إياهم (وعرفتم) حق الإمام ووجوب التسليم له (وأنكر الناس) جميع ذلك.

(وهو الحق) لعل المراد أن كل واحد من الوصل والحب والمعرفة الحق الثابت لكم في العهد

ص:169

الأول أو أنه تعالى هو الحق يحكم بينكم وبينهم.

(إن الله اتخذ محمدا (صلى الله عليه وآله) عبدا) موفيا لأداء العبودية وحقوقها (قبل أن يتخذه نبيا) لعل الغرض منه هو التنبيه على أن العبودية هي الأصل المطلوب من كل أحد ولا يتحقق مع إنكار شيء من الحقوق والولاية أعظمها.

(وإن عليا (عليه السلام) كان عبدا ناصحا لله عز وجل فنصحه) نصحه لله تسديد حقوقه وحقوق رسوله وحقوق المسلمين، ونصحه تعالى له هو الأمر بحفظ شرائعه ومواعظه ونصايحه وأوامره ونواهيه وغير ذلك مما جاء به الرسول (وأحب الله عز وجل فأحبه) حقيقة محبة العبد له وبالعكس أمر يعرف ولا يعرف وقد يعرف الأول بأنها القيام بوظائف الطاعات والإتيان بأنواع القربات والاشتغال به عن جميع الأغيار والتسليم له في جميع الأحوال، والثانية بأنها اجلاسه في بساط القرب والعز والسعادة وإهداؤه آنا فآنا أنواعا من التفضل والإحسان والكرامة، وهذا تعريف لهما بشيء من آثارهما.

(إن حقنا في كتاب الله) كما دلت عليه آية ذوي القربى وغيرها وقد مر مشروحا بينا (لنا صفو الأموال ولنا الأنفال) مر مشروحا في آخر كتاب الحجة (وإنا قوم فرض الله عز وجل طاعتنا) على العباد كلهم في آية (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وغيرها مما ذكر مشروحا في كتاب الحجة وغيره (وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية) أي مات ميتة كفر وضلال ونفاق، وهذا الحديث متفق عليه بين الأمة ولهم تأويلات ركيكة فاسدة بينا فسادها في شرح كتاب الحجة.

(عليكم بالطاعة) أي بطاعة علي (عليه السلام) أو مطلقا (فقد رأيتم أصحاب علي (عليه السلام)) هم الذين تشرفوا بصحبته أو الخواص من شيعته مطلقا والمراد بالرؤية الرؤية القلبية وهي العلم بأحوالهم من الورع والتقوى والاجتهاد في الأعمال الصالحة فعليكم الأسوة بهم.

(ادعوا لي خليلي) هو الصديق وصاحب السر (ثم قال ادعوا لي خليلي فقالا قد رآنا) فيه اختصار أي فأرسلتا إلى أبويهما فقالا أو قال (صلى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام) إلا أن الحسد والعداوة وحب الدنيا حملتهما على ما صنعتا. (فقال حدثني بألف باب من العلم يفتح كل باب إلي ألف باب) حقيقة علوم هذه الأبواب أعني ألف ألف باب وحقيقة تفاصيلها وتفاصيل الجزئيات المندرجة فيها لا يعلم إلا الله ورسوله وأوصياء رسوله، ثم هذا التحديث والتعليم والتعلم لم يكن في صور جزئية كما هو المعروف فينا بل لصفاء نفسه القدسية على طول صحبته حين كان طفلا إلى أن توفي الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى استعدت للانتقاش بالعلوم الإلهية والأمور الغيبية والصور الكلية والجزئية دفعة

ص:170

واحدة كما تنتقش الصور في المرآة عند محاذاتها، قال الغزالي في رسالة العلم اللدني: قال علي أمير المؤمنين:

«إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدخل لسانه في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب».

* الأصل:

124 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن موسى بن عمر بن بزيع قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن الناس رووا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أخذ في طريق رجع في غيره، فهكذا كان يفعل؟ قال: فقال: نعم فأنا أفعله كثيرا فافعله، ثم قال لي: أما إنه أرزق لك.

* الشرح:

قوله (ثم قال لي أما إنه أرزق لك) أما لأنه تعالى جعل الرجوع على هذا النحو سببا لزيادة الرزق بالخاصية أو جعل لكل قطعة من الأرض بركة وسببا لرزق عباده فربما يكون في طريق آخر بركة لم تكن في الأول أو لأن الأرض تفرح بمشي المؤمن على ظهرها فيدعو له الطريق الآخر في الخير والبركة والزيادة كما دعا له الأول فيوجب له زيادة الرزق أو لأن الراجع قد يجد في الآخر من الرزق ما لم يوجد في الأول.

* الأصل:

125 - سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك; عن عبد الله بن جبلة، عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عن ذلك فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات فقال لي: يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم، لا تذيعن عليه شيئا تشينه به، وتهدم به مروءته فتكون من الذين قال الله في كتابه (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم).

* الشرح:

قوله (يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك) نظيره ما روي من طريق العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «رأى عيسى بن مريم (عليه السلام) رجلا يسرق فقال له عيسى سرقت قال كلا والذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت نفسي» (فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم) القسامة بالفتح الأيمان، وهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمون قسامة

ص:171

أيضا، والمقصود أنه إن شهد عندك خمسون رجلا مع حلفهم بالله أن مؤمنا فعل كذا وقال كذا وقال لك ذلك المؤمن إني لم أفعله أو لم أقله فصدقه وكذبهم، ولعل المراد بتصديقه تصديقه ظاهرا والإغماض عنه وعدم المؤاخذة به والإذاعة عليه لا الحكم بأنه صادق في نفس الأمر لأنه قد يحصل العلم بخلاف ذلك بتلك الشهود خصوصا مع إيمانهم أو بالإبصار أو بالاستماع منه، والحاصل أنه إن صدرت من المؤمن بالنسبة إليك مثلا زلات واغتياب أو غير ذلك مما تكرهه ثم اعتذر إليك فاقبل عذره أو انكر فصدقه، وإن شهد لك شهود ثقات مع إيمان مغلظة شفقة له وتقربا من الله وأما إن صدرت منه بالنسبة إلى الله تعالى أو إلى أحد غيرك فربما وجب عليك أداء الشهادة عليه عند الحاكم وإن لم يجز لك تغييره وإذاعة عثراته بين الناس، وإن شئت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في باب الغيبة وباب من طلب عثرات المؤمن وباب الرواية عليه وباب التعبير من كتاب الكفر والإيمان (لا تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروءته) الإذاعة: الإفشاء والشين خلاف الزين، شأنه من باب باع عابه وعيره، والإذاعة حرام الا ما استثنى.

(فيكون من الذين قال الله في كتابه (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم)) الفاحشة ما وقع النهي عنه مطلقا وقد تخص بما يشتد قبحه.

قال بعض المحققين: الوعيد في إذاعة فاحشة من لم يعرف بأذاية ولا فساد في الأرض. وأما المعصية الحاضرة فوجبت المبادرة إلى النصيحة والإنكار والمنع منها لمن قدر عليه وليس هذا إذاعة. ويجوز كشف معصية المولع بها إذا سترت غير مرة فلم ينزجر لأن سترها معاونة عليها.

ومعصية المعلن بها بل غير المعلن أيضا إذا احتيج إلى أداء الشهادة وذكر العيوب الظاهرة كالعمى والعرج ونحوهما للتعريف لا للتعيير، وجرح الشاهدين والرواة والأمناء على الأوقات والصدقات بذكر معاصيهم عند الحاجة إليه لأنه يترتب عليه أحكام شرعية ويجوز رفعه إلى الحاكم إذا كان القصد رفع المعصية لا كشف الستر والإذاعة، والله أعلم.

ص:172

حديث من ولد في الاسلام

* الأصل:

126 - سهل بن زياد، عن يعقوب بن زيد، عن عبد ربه بن رافع، عن الحجاب بن موسى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من ولد في الاسلام حرا فهو عربي ومن كان له عهد فخفر في عهده فهو مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن دخل في الاسلام طوعا فهو مهاجر.

* الشرح:

قوله (حديث من ولد في الاسلام) المراد بالإسلام الإيمان، ويذكر فيه نسب من تولد فيه.

(من ولد في الاسلام حرا فهو عربي) لعل المراد بالعرب محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه سيد العرب، والنسب صوري ومعنوي، وبعبارة أخرى جسماني وروحاني، والمراد بهذا النسب المعنوي الروحاني وسيجئ أن النسب الذي يصلح للتفاخر به هو الاسلام.

(ومن كان له عهد) مع النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة المؤمنين (فخفر في عهده) أي وفى به يقال خفر بالعهد خفارة من باب ضرب إذا وفى به وأخفره إخفارا نقضه، والهمزة للسلب (فهو مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله)). في المصباح: المولى: الحليف وهو المعاهد، ويقال منها تحالفا إذا تعاهدا وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحدا في النصرة والحماية، والمولى أيضا: الناصر من الولاية بالفتح والكسر وهي النصرة.

(ومن دخل في الإسلام طوعا فهو مهاجر) لأنه هاجر من الكفر إلى الإسلام، وهل ينصرف النذر أو الوقف مثلا إلى من صدق عليه المفهوم المصطلح من هؤلاء عند الاطلاق أم لا؟ لم أجد له مستندا ولا قولا للأصحاب، وهو محل تأمل.

* الأصل:

127 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصبح وأمسى وعنده ثلاث فقد تمت عليه النعمة في الدنيا: من أصبح وأمسى معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه، فإن كانت عنده الرابعة فقد تمت عليه النعمة في الدنيا والآخرة، وهو الإسلام.

* الشرح:

قوله (من أصبح وأمسى وعنده ثلاث فقد تمت عليه النعمة) في الدنيا لأن نعمة

ص:173

الدنيا هي رفاهية العيش، ومن كانت له هذه الثلاثة فهو مرفه في كل يوم من أيام عمره، وفيه حث علي شكر هذه النعماء وزجر عن هم قوت غد، لأن الغد ليس من عمرك كالأمس وإنما عمرك هو اليوم الذي أنت فيه، والغد داخل في هذه الثلاثة إن عشت فيه.

(من أصبح وأمسى معافى في بدنه) أي صحيحا من غير علة (آمنا في سربه) يقال: فلان آمن في سربه - بالكسر - أي في نفسه، وفلان واسع السرب أي رخي البال، ويروى بالفتح وهو المسلك والطريق، يقال: خل له سربه - بالفتح - أي طريقه، والمقصود أنه آمن في نفسه وعرضه وماله أو في طريقه يذهب حيث يشاء لا يتعدى عليه أحد ولا يمنعه ولا يظلمه (وعنده قوت يومه) له ولعياله بقدر الكفاف.

* الأصل:

128 - عنه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (عن أبيه (عليه السلام)) أنه قال لرجل وقد كلمه بكلام كثير فقال: أيها الرجل تحتقر الكلام وتستصغره، اعلم أن الله عز وجل لم يبعث رسله حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضة ولكن بعثها بالكلام وإنما عرف الله جل وعز نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام.

* الشرح:

قوله (قال لرجل وقد كلمه بكلام كثير فقال أيها الرجل تحتفر الكلام وتستصغره) لما أكثر الرجل الكلام بما لا نفع فيه كأنه أهجر به وزعم أنه سهل ولم يعلم أن الكلام من الأعمال فإن كان صالحا يوجب المدح والثواب وان كان باطلا يوجب الذم والعقاب فلذلك ذمه (عليه السلام) ومنعه عن العود لمثله.

(اعلم أن الله عز وجل لم يبعث رسله حيث بعثها ومعها ذهب ولا فصة) خصهما بالذكر لأنهما عند أهل الدنيا أعظم متاعها (ولكن بعثها بالكلام) المراد به الكتب السماوية، أو الأعم منها ومما يتكلم به الرسل بالوحي من أحوال المبدأ والمعاد والأحكام والمواعظ والنصايح النافعة في الدنيا والآخرة.

(وإنما عرف الله نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والاعلام) لعل المراد بهذا الكلام أسماؤه تعالى كما مر في كتاب التوحيد أنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، أو الأعم منه ومما أوحى إلى رسله من أمر توحيده وصفاته الذاتية والفعلية

ص:ص:174

بواسطة أو بدونها كما قال لموسى (عليه السلام) (أنا الله لا إله إلا أنا) والمراد بالدلالات اللفظية والكلامية أو الأعم منها و من الآثار وبالأعلام أعلام الاهتداء به مثل الرسل والحجج عليهم السلام أو المعجزات وفيه تنبيه على عظمة شأن الكلام وعلى أنه ينبغي أن لا يتكلم الرجل إلا بأمر الدين أو بما هو ضروري من أمر الدنيا ويترك اللغو المباح وغيره، وقد مر في باب الصمت في كتاب الكفر والإيمان توضيح ذلك مفصلا.

* الأصل:

129 - وبهذا الاسناد قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله جل وعز خلقا إلا وقد أمر عليه آخر يغلبه فيه وذلك أن الله تبارك وتعالى لما خلق البحار السفلى فخرت وزخرت وقالت: أي شيء يغلبني فخلق الأرض فسطحها على ظهرها فذلت ثم قال: إن الأرض فخرت وقالت: أى شيء يغلبني؟ فخلق الجبال فأثبتها على ظهرها أوتادا من أن تميد بما عليها فذلت الأرض واستقرت، ثم إن الجبال فخرت على الأرض فشمخت واستطالت وقالت: أي شيء يغلبني؟ فخلق الحديد فقطعها فقرت الجبال وذلت، ثم إن الحديد فخرت على الجبال وقال: أي شيء يغلبني؟ فخلق النار فأذابت الحديد فذل الحديد، ثم إن النار زفرت وشهقت وفخرت وقالت: أي شي يغلبني؟ فخلق الماء فأطفأها فذلت، ثم إن الماء فخر وزخر وقال: أي شي يغلبني؟ فخلق الريح فحركت أمواجه وأثارت ما في قعره وحبسه عن مجاريه فذل الماء، ثم إن الريح فخرت وعصفت وأرخت أذيالها وقالت: أي شيء يغلبني؟ فخلق الإنسان فبنى واحتال واتخذ ما يستتر به من الريح وغيرها فذلت الريح، ثم إن الإنسان طغى وقال: من أشد مني قوة؟ فخلق له الموت فقهره فذل الإنسان; ثم إن الموت فخر في نفسه فقال الله عز وجل: لا تفخر فإني ذابحك بين الفريقين:

أهل الجنة وأهل النار ثم لا احييك أبدا فترجى أو تخاف، وقال أيضا: والحلم يغلب الغضب، والرحمة تغلب السخط، والصدقة تغلب الخطيئة، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أشبه هذا مما قد يغلب غيره.

* الشرح:

قوله (وبهذا الاسناد قال) أي أبو عبد الله (عليه السلام) (قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله عز وجل خلقا إلا وقد أمر عليه آخر) أمره عليه تأميرا إذا جعله أميرا (يغلبه فيه) أي في أمره (وذلك أن الله تعالى لما خلق البحار السفلى) هي البحار التي على مركز العالم والعليا هي التي في السماء كما دل عليه

ص:175

بعض الروايات والشعب المنقطعة من السفلى على وجه الأرض (فخرت وزخرت) الفخر والافتخار: المباهاة بالقوة والشدة والعظمة وغيرها من المناقب، والزخور: المد والاستعلاء والارتفاع، يقال: زخر البحر أي مد وكثر ماؤه، وعلا وارتفعت أمواجه (وقالت أي شيء يغلبني) هذا القول منها ومن مثلها إما بلسان الحال أو بلسان المقال إذ لا يبعد من القدرة الإلهيه أن يخلق النطق فيها (فخلق الأرض فسطحها على ظهرها فذلت) سطحه كمنعه بسطه وصرعه وأضجعه، ولعل الغرض من هذا الكلام بيان أن كل قوى غيره تعالى ضعيف، وكل غالب غيره مغلوب، وأن الكبر والافتخار في الممكن سبب لذله.

(ثم قال: إن الأرض فخرت) لما رأت من قوتها وغلبتها على البحار (وقالت أي شيء يغلبني) ظنا منها أن لا شيء أقوى وأرفع منها كما يظن ذلك كل متكبر فخور.

(فخلق الجبال فأثبتها على ظهرها) دل على أن الأرض خلقت أولا نقية خالية عن التلال والوهاد والجبال كما دلت عليه أيضا روايات أخر.

(أوتادا من أن تميد بما عليها) ما د يميد ميدا إذا تحرك واضطرب ومال كالسفينة الخالية على وجه الماء (فشمخت واستطالت) شمخ الجبل: علا وطال ومنه الرجل الشامخ وهو الرافع أنفه عزا أو العطف للتفسير، أو من باب ذكر الخاص بعد العام لأن الفعل بعد الطلب أقوى منه بلا طلب، (ثم إن النار زفرت وشهقت وفخرت) زفرت النار إذا سمع لتوقدها صوت، وأصل الزفير إخراج الحمار نفسه بعد مده إياه، وشهقت إذا صوتت أو ارتفعت لهباتها، ومنه الشاهق وهو المرتفع.

(ثم إن الريح فخرت وعصفت وأرخت أذيالها) عصفت الريح: اشتدت وأرخت أذيالها إذا مرت على وجه الأرض، وفيه تنبيه على كمال شدتها وحركتها من سطح الأرض إلى جو السماء مع الإشارة بإرخاء الأذيال إلى تكبرها وتفاخرها لأنه كان شأن المتكبرين من العرب.

(ثم إن الإنسان طغى وقال من أشد مني قوة فخلق الله له الموت فقهره فذل الإنسان) أسباب مذلة الإنسان كثيرة غير محصورة وإنما ذكر الموت لأنه أعظمها، ومن العجايب أنهم مع اتصافهم بأنواع من المصايب الدالة على مسكنتهم وعجزهم وذلهم يدعون التكبر الذي من أخص صفاته تعالى ومن ادعى الشركة معه في أخص صفاته فقد ادعى أنه شريك له.

(ثم إن الموت فخر في نفسه فقال الله تعالى: لا تفخر فإني ذابحك بين الفريقين أهل الجنة وأهل النار ثم لا أحييك أبدا فترجى أو تخاف) فيرجوك أهل النار ليتخلصوا من عذابهم أو يخاف منك أهل الجنة خوفا من زوال ما هم عليه من نعيمها، والذبح يحتمل أن يراد به الحقيقة وأن يكون كناية

ص:176

عن إزالته وإفنائه، قيل: إذا استقر الخلائق يوم القيامة في منازلهم أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يؤتى بالموت على صورة كبش يوقف بين الجنة والنار وينادي مناد يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. فيذبح حينئذ. ويقال: يا أهل الجنة ويا أهل النار خلودكم في منازلكم بلا انتهاء ولا موت فيحصل بذلك لأهل الجنة غاية السرور، ولأهل النار نهاية الحسرة والألم، كما يدل عليه قوله تعالى (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) قال بعض المفسرين إذا قضي الأمر وهو ذبح الموت وقع أهل النار في الحسرة والندامة ولا ينفعهم ذلك.

أقول: ذبح الموت متفق عليه بين الخاصة والعامة، روى مسلم بإسناده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح يتوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) وأشار به إلى الدنيا.

قال عياض وابن الأعرابي: الأملح النقي من البياض، وقال الكسائي: هو الذي فيه سواد وبياض والبياض أكثر، وقال صاحب معارج النبوة: كبش أملح «غوچي كه خاكستر گون است»، قال بعض أهل المعاني: اختلاف اللونين يحتمل أنه لاختلاف الحالين فالبياض لجهة أهل الجنة الذين ابيضت وجوههم، والسواد لأهل النار الذين اسودت وجوههم.

وقال محيي الدين: قال الهروي: وأشرب النفاق معناه: ظهر وعلا، وكل رافع رأسه شريب، وقال محيي الدين: الموت عرض لأنه ضد الحياة، وقال بعض المعتزلة: ليس بمعنى وإنما هو عدم الحياة وهو خطأ لقوله تعالى: (خلق الموت والحياة) وغيره من الأدلة، وعلى المذهبين - وإن كان الثاني خطأ - فليس الموت بجسم يقع فيه الذبح فيتأول الحديث على أنه تعالى يخلق هذا الاسم ثم يذبح مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة، انتهى كلامه، وقال القرطبي: ظاهر هذا الحديث يستحيل لأن الموت إما عرض أو أمر عدمي، وعلى الوجهين يستحيل أن ينقلب كبشا لأن انقلاب الأجناس محال، وتأول بوجهين أحدهما أن يخلق الله تعالى كبشا ويخلق فيه الموت فإذا رأوه عرفوه ثم يفعل الله سبحانه فيه فعلا يشبه الذبح ويعدمه، ذلك الفعل حتى يأمل أهل الجنة فيزدادوا سرورا وييأس أهل النار فيزدادوا حزنا، والثاني أنه تمثيل بعدم الموت لأن الموت لما عدم في حق أهل الدارين صار بمنزلة الكبش الذي ذبح، وهذا فيه بعد، والصواب الأول. انتهى كلامه، وقال الآبي:

ص:177

والأظهر أنه تمثيل، انتهى.

أقول: لا يبعد حمله على ظاهره لأن ما هو عرض في هذا العالم لا يبعد أن يكون قائما بذاته مصورا بصورة في العالم الآخر بالنسبة إلى القدرة القاهرة، وقد قال الآبي: إن القرآن يصور بصورة إنسان في الآخرة: القرآن يصور بصورة ويجيء بها يوم القيامة ويراها الناس كما تجعل الأعمال صورا وتوضع في الميزان ويقع فيها الوزن، والقدرة صالحة لإيجاد كل ممكن، والإيمان به واجب، هذا كلامه بعينه فليتأمل.

* الأصل:

130 - عنه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله أوصني، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك حتى قال له ذاك ثلاثا وفي كلها يقول له الرجل نعم يا رسول الله فقال له رسول الله فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): فإني اوصيك: إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن يك رشدا فامضه وإن يك غيا فانته عنه.

* الشرح:

قوله (فهل أنت مستوص) أي طالب للوصية قابل لها، وفي كنز اللغة: «استيصاء: اندرز پذيرفتن و نيكو داشتن واندرز كردن» والأول هو المراد هنا.

(إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته) دبر كل أمر وعاقبته آخره، والتدبر فيه النظر في آخره. وهذا اللفط وجيز جامع في النصيحة. وإن من فعل أمرا بالتدبر فيه لا يتوجه إليه عقوبة ولوم في الدنيا والآخرة.

* الأصل:

131 - وبهذا الإسناد أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ارحموا عزيرا ذل وغنيا افتقر وعالما ضاع في زمان جهال.

* الشرح:

قوله (ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر وعالما ضاع في زمان جهال) رحمته رحما بضم الراء ورحمتة ومرحمة إذا رققت له وحننت عليه وعطفت عليه وانما أمر برحمة هؤلاء لأن كل واحد فقد نعمة جليلة ودخل في صعوبة شديدة وبلية عظيمة فهو محل الترحم، وفيه ترغيب في رعايتهم وجبر أحوالهم.

ص:178

* الأصل:

132 - وبهذا الإسناد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأصحابه يوما: لا تطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودتة ولا توقفوه على سيئة يخضع لها فإنها ليست من أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا من أخلاق أوليائه.

قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام) إن خير ما ورث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال، فان المال يذهب والأدب يبقى، قال مسعدة: يعنى بالأدب العلم.

قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أجلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به على يوم موتك، فقيل له: وما تلك الاستعانة؟ قال: تحسن تدبير ما تخلف وتحكمه. قال: وكتب أبو عبد الله (عليه السلام) إلى الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن المنافق لا يرغب فيما قد سعد به المؤمنون، والسعيد يتعظ بموعظة التقوى وإن كان يراد بالموعظة غيره.

* الشرح:

قوله (لاتطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودته) طعن فيه وعليه بالقول: من باب قتل، ومن باب منع لغة: دخل فيه وعتب وعير أي لا تدخلوا في عيوب الناس وأعراضهم ولا تعيروهم بها ولا تفشوها، خصوصا من أقبل إليكم وأظهر مودته وأخلص لكم محبته وصداقته فإن الطعن في عيوبه يوجب العداوة وزوال المودة وانقطاع المحبة وتبدد النظام والبقاء بلا صديق وفي كل ذلك فساد عظيم ولأن تعييره بالعيب تعيير على الله تعالى وإلقاء المجبنة عليه، ولا فرق في العيوب بين أن تكون خلقية أو خلقية متعلقة بالأخلاق مثل الجهل والحقد والحسد بالغير ونحوها، أو عملية متعلقة بأعمال الجوارح، نعم لابد في الأخيرتين من النصح والموعظة الحسنة كناية أو صريحا في الخلق ولا يجوز التعيير على حال كما أشار إليه بقوله (ولا توقفوه على سيئة يخضع لها...) أي لا تسكنوه ولا تقيموه على سيئة فيذل لأجلها عند الله وعند الرسول والأولياء بل ادفعوه عنها وامنعوه منها بالنصح والوعظ فإن السيئة صفة ذميمة ليست من أخلاق الرسول وأوليائه فتجب الأسوة بهم والدخول في زمرتهم ويحتمل أن يراد بالإيقاف الاطلاع، يقال: أوقفه على كذا إذا أطلعه عليه.

(قال مسعدة: يعنى بالأدب: العلم) أريد به العلم النافع في الآخرة وهو علم الدين ومقدماتة وإنما سمي أدبا لأنه يأدب أي يدعو إلى مفاخر الدارين ولأنه نور به يهتدي كل عضو إلى ما هو مطلوب منه من الآداب فإن أدب البصر النظر إلى ما يجوز وصرفه عما لا يجوز وأدب اللسان التكلم

ص:179

في موضعه المطلوب شرعا وترك التكلم في غيره وإن كان صادقا فكيف إذا كان كاذبا وقس عليهما البواقي. (قال تحسن تدبير ما تخلف وتحكمه) في كنز اللغة: «تخليف: واپس گذاشتن، واحكام استوار كردن ومحكم ساختن»، والموصول شامل لمصالح الدنيا والآخرة، وحسن تدبيرها لا يتحقق بدون العلم والأدب، ومن الاستعانة ما نقل عن بعض أهل العلم أنه قال حين احتضر: جاء الخبيث وألقى علي الشبهات والوساوس فأجبت واحدة واحدة حتى أسكته فعلمت أن العلم نفعني حيا وميتا.

(أما بعد فإن المنافق لا يرغب فيما قد سعد به المؤمنون) السعادة وهي قرب الحق والنجاة من أهوال الآخرة إنما يحصل بالإيمان والمواقفة بين القلب واللسان وخلوص عمل الجوارح والأركان، والمنافق لفساد قلبه ونقصان عقله وعدم التدبر في عاقبة أمره لا يرغب في شيء منها.

(والسعيد يتعظ بموعظة التقوى) السعيد وهو الذي يرغب فيما ذكر لصفاء قلبه وكمال عقله وحسن تدبره في مآل أمره يتعظ أي يأتمر ويكف نفسه عما كرهه الله تعالى بموعظة التقوى وهي الكلام الحامل على طاعة الله تعالى الزاجر عن مخالفته على وجه يرق له القلب، والإضافة لامية من قبيل إضافة السبب إلى المسبب.

(وإن كان يراد بالموعظة غيره) قد اشتهر في الأخبار أن السعيد من اتعظ بغيره، قيل: صار هذا بمنزلة المثل، والمعنى أن السعيد في الدنيا والآخرة من اعتبر حال غيره ويشاهد بعين بصيرته حاله كحاله ويصرف موعظته إلى نفسه فيتعظ منها.

* الأصل:

133 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن على بن أسباط قال: أخبرني بعض أصحابنا عن محمد ابن مسلم قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا ابن مسلم الناس أهل رياء غيركم وذلك أنكم أخفيتكم ما يحب الله عز وجل وأظهرتم ما يحب الناس والناس أظهروا ما يسخط الله عز وجل وأخفوا ما يحبه الله، يا ابن مسلم إن الله تبارك وتعالى رأف بكم فجعل المتعة عوضا لكم عن الأشربة (الأسرية خ ل).

* الشرح:

قوله (قاله أبو جعفر (عليه السلام): يا ابن مسلم الناس أهل رياء غيركم وذلك أنكم أخفيتم ما يحب الله وأظهرتم ما يحب الناس، والناس أظهروا ما يسخط الله عز وجل وأخفو ما يحب الله) أشار (عليه السلام)

ص:180

بذلك إلى حقيقة الإيمان والنفاق وأن الإيمان أمر قلبي هو الإيقان بالله وبرسوله والولاية وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله، وأن التقية دين الله.

فإن قلت: نحن أخفينا ما يحب الله وأظهرنا ما يحب الناس وهو ما يكرهه الله ويسخط وهم أيضا أخفوا ما يحب الله وأظهروا ما يسخطه، فما الفرق بينا وبينهم وبين الإخفائين وبين الإظهارين؟.

قلت الفرق بين الإخفائين أن إخفاء الإيمان أعم من وجوده وعدمه بناء على أن السلب قد يكون باعتبار وجود الموضوع وقد يكون باعتبار عدمه، فإخفاؤه باعتبار وجود الايمان وإخفاؤهم باعتبار عدمه وبين الإظهارين أنا أظهرنا ما يحب الناس ويحبه الله أيضا لأنه وقع تقية والتقية دين الله أحبها لدفع الشدائد عن عباده، وهم أظهروا ما يسخط الله ظاهرا وفي نفس الأمر، والله أعلم.

(يا ابن مسلم إن الله تبارك وتعالى رأف بكم فجعل المتعة عوضا لكم من الأسرية) كأن الياء للنسبة إلى الأسير والتاء باعتبار تأنيث الموصوف وهي الأمة كالأثرية والحنفية في النسبة إلى الأثير والحنيف يعني أنه تعالى لما علم أن السرية والأمة في دولة الباطل في يد أهله وأن ليس لكم القدرة على شرائها وحفظها وإنفاقها جعل لكم المتعة عوضا منها وهي أسهل. وقيل: الأسرية جمع للسرية وهي الأمة المستورة، وهذا الجمع وإن لم يثبت لغة لأن الأسرية جمع سري كغني وهو نهر صغير يجري إلى النخل لكن كلام المعصوم هو الأصل انتهى. وفي بعض النسخ «الأشربة» بالشين المعجمة والمراد بها الأشربة المحرمة التي تستحله العامة كالنبيذ والفقاع ونحو هما وفيه تنفير عنها و ترغيب في المتعة.

* الأصل:

134 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن معمر بن خلاد قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام):

قال لي المأمون: يا أبا الحسن لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي قد فسدت علينا، قال: قلت له: يا أمير المؤمنين إن وفيت لي وفيت لك إنما دخلت في هذا الأمر الذي دخلت فيه على أن لا آمر ولا أنهى ولا اولي ولا أعزل وما زادني هذا الأمر الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئا ولقد كنت بالمدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب ولقد كنت أركب حماري وأمر في سكك المدينة وما بها أعز مني وما كان بها أحد منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها له إلا قضيتها له، قال: فقال لي: أفي ذلك.

* الشرح:

قوله (قال لي المأمون يا أبا الحسن لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي

ص:181

التي قد فسدت علينا. اه) لو للتمني أو للشرط، والجزاء محذوف، وهو «كان أحسن» ونحوه، والمراد بالمفسد من خرج عليه من العلويين في العراق، ولعل هذه القضية غير ما رواه الصدق في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) بإسناده عن معمر بن خلاد قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): «قال لي المأمون يوما يا أبا الحسن انظر من تثق به نوليه بعض هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تفي لي وأفي لك فإني إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ولا أعزل ولا أولي ولا أشير حتى يقدمني الله قبلك فوالله ان الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي وإن أهلها وغيرهم يسألوني في الحوائج فأقضيها لهم فيصيرون كالأعمام لي وإن كتبي لنافذة في الأمصار وما زدتني في نعمة هي علي من ربي. فقال: أفي لك».

* الأصل:

135 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): حق على المسلم إذا أراد سفرا أن يعلم إخوانه وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه.

* الشرح:

قوله (حق المسلم إذا أراد سفرا أن يعلم اخوانه. اه) لعل المراد بإعلامهم زيارتهم وتوديعهم، ويحتمل الأعم وفيه فوائد كثيرة، منها أن يشايعوه، ومنها أن يدعوا له لكثرة مخاطرات السفر، و منها تجديد العهد بهم، ومنها إدخال السرور عليهم، ومنها ازدياد محبتهم، ومنها التشرف بزيارتهم.

* الأصل:

136 - وبهذا الإسناد قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): خلتان كثير من الناس فيهما مفتون: الصحة والفراغ.

* الشرح:

قوله (خلتان كثير من الناس فيهما مفتون الصحة والفراغ) كما قيل: الفراغ والصحة والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة، والفتنة فيها إما لطغيان النفس لأنهما من الأسباب القريبة له أو لترك الشكر عليهما لأنهما من النعماء الجليلة التي يجب الشكر عليها.

* الأصل:

137 - وبهذا الإسناد قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كانت الخيرة (الحياة خ ل) في يده.

ص:182

* الشرح:

قوله (من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن) ونصب إليه ما يسوؤه من الفسوق و غيرها بل ينبغي أن يلوم نفسه وفيه حث على ترك مجالسة الجاهل والفاسق والظالم وترك كل موضع فيه مظنة سوء لا يليق بذوي المروة وأهل الدين (ومن كتم سره كانت الحياة في يده) أي من كتم سر نفسه ودينه كانت حياته الدنيوية والأخروية طيب عيشه في يده، ومن أفشاه عرض نفسه للهلاك، وفي بعض النسخ: «الخيرة» وقد مرت أحاديث كتمان السر مع شرحها في كتاب الكفر والإيمان.

* الأصل:

138 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن شاذان، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: قال لي أبي: إن في الجنة نهرا يقال له: جعفر، على شاطئه الأيمن درة بيضاء فيها ألف قصر في كل قصر ألف قصر لمحمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى شاطئه الأيسير درة صفراء فيها ألف قصر في كل قصر ألف قصر لإبراهيم وآل إبراهيم (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (إن في الجنة نهرا يقال له جعفر على شاطئه الأيمن. اه) جعفر: النهر الصغير والكبير الواسع ضد، والنهر الملآن ماء، وفوق الجدول، ولعل المراد بأيمنه أيمنه بانسبة إلى الداخل في الجنة أو بالنسبة إلى القائم في منبعه أو بكونه أعلى مواضع الجنة وأشرفها، والأشرف يسمى أيمنا وإنما بني قصر نبينا صلى الله عليه وآله أبيض، وفي الأيمن لأنه أشرف الأنبياء فينبغي أن يكون قصره أحسن الألوان وفي أشرف المكان.

* الأصل:

139 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما التقت فئتان قط من أهل الباطل إلا كان النصر مع أحسنهما بقية على ( أهل) الاسلام.

* الشرح:

قوله (ما التقت فئتان قط من أهل الباطل الا كان النصر مع أحسنهما بقية على الإسلام) البقية:

الخير والأثر والحالة المستقيمة وعدم المبالغة في الفساد، وفي القاموس: أبقيت ما بيننا: لم أبالغ

ص:183

في إفساده، والاسم البقية، ونصبها على التمييز، والمراد بالفئتين الفئتان من أهل الاسلام كالسلطانين منهم تقاتلا على ملك، وفيه ترغيب في رعاية قوانين الاسلام بأنها تنفع صاحبها مع كونه في الباطل، والفئتان من أهل الكفر أيضا فإن إحداهما إذا كانت لها حالة مستقيمة على أهل الإسلام بالخير والرأفة وعدم الإفساد كانت النصرة معها.

* الأصل:

140 - عنه، عن أحمد، عن على بن حديد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جبلت القلوب على حب من ينفعها وبغض من أضر بها.

* الشرح:

قوله (جبلت القلوب على من حب من ينفعها وبعض من أضر بها) هذا جار في الحيوانات أيضا، والنفع والضر يشملان الدنيوي والأخروي، وفيه أمر بإيصال النفع وترغيب فيه بذكر بعض مفاسده والحب يترتب عليه منافع كثيرة والبغض يترتب عليه مضار عظيمة كما لا يخفى على ذوي البصاير .

* الأصل:

141 - محمد بن أبي عبد الله، عن موسى بن عمران، عن عمه الحسين بن عيسى بن عبد الله، عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: أخذ أبي بيدي ثم قال: يا بني إن أبي محمد بن علي (عليهم السلام) أخذ بيدي كما أخذت بيدك وقال: إن أبي علي بن الحسين (عليهم السلام) أخذ بيدي وقال: يا بني! افعل الخير إلى كل من طلبه منك فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره.

* الشرح:

قوله (با بني افعل الخير إلى كل من طلبه منك) الخير يشتمل بذل المال والقول النافع والمشي للحاجة، وهذا من المرغبات التي لا يتركها أهل الكمال وإلا فيجوز الترك خصوصا بعد الثلاثة كما دل عليه بعض الروايات مثل ما رواه المصنف بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في السؤال: أعطوا ثلاثة وإن شئتم أن تزدادوا فازدادوا وإلا فقد أديتم حق يومكم (وإن شتمك رجل عن يمينك وتحول إلى يسارك فاعتذر إليك فاقبل عذره) أي طلب

ص:184

منك قبول عذره ورفع اللوم عنه والعذر بسكون الذال وضمها للاتباع وفيه ترغيب في الأخلاق الكريمة برفع اللوم عن المعتذر والعفو عنه وتصفية القلب معه.

* الأصل:

142 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، والحجال، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله عز ذكره الماء فاضطرم نارا ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق الله عز وجل السماوات من ذلك الدخان وخلق الله عز وجل الأرض من الرماد ثم اختصم الماء والنار والريح فقال الماء: إنا جند الله الأكبر وقالت النار: إنا جند الله الأكبر وقالت الريح: إنا جند الله الأكبر، فأوحى الله عز وجل إلى الريح أنت جندي الأكبر.

* الشرح:

قوله (محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد. اه) مر هذا الحديث بعينه متنا وسندا مع شرحه في حديث أهل الشام فلا نعيده.

ص:185

حديث زينب العطارة

* الأصل:

143 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن أبى نجران، عن صفوان، عن خلف بن حماد عن الحسين بن زيد الهاشمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله) وبناته وكانت تبيع منهن العطر فجاء النبي (صلى الله عليه وآله) وهي عندهن فقال: إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله، قال: إذا بعت فأحسني ولا تغشي فإنه أتقى وأبقى للمال، فقالت: يا رسول الله ما أتيت بشيء من بيعي وإنما أتيت أسألك عن عظمة الله عز وجل، فقال: جل جلال الله ساحدثك عن بعض ذلك، ثم قال: إن هذه الأرض بمن عليها عند التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قي وهاتان بمن فيهما ومن عليهما عند التي تحتها كحلقة ملقاة في فلاة قي والثالثة حتى انتهى إلى السابعة وتلا هذه الآية (خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن).

والسبع الأرضين بمن فيهن ومن عليهن على ظهر الديك كحلقة ملقاة في فلاة قي والديك له جناحان جناح في المشرق وجناح في المغرب ورجلاه في التخوم، والسبع والديك بمن فيه ومن عليه على الصخرة كحلقة ملقاة في فلاة قي والصخرة بمن فيها ومن عليها على ظهر الحوت كحلقة ملقاة في فلاة قي والسبع والديك والصخرة والحوت بمن فيه ومن عليه على البحر المظلم كحلقة ملقاة في فلاة قي، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم على الهواء الذاهب كحلقة ملقاة في فلاة قي والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء على الثرى كحلقة ملقاة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) ثم انقطع الخبر عند الثرى، والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فيه ومن عليه عند السماء الأولى كحلقة في فلاة قي وهذا كله والسماء الدنيا بمن عليها ومن فيها عند فوقها كحلقة في فلاة قي وهاتان السماءان ومن فيهما ومن عليهما عند التي فوقهما كحلقة قي، وهذه الثلاث بمن فيهن ومن عليهن عند الرابعة كحلقة في فلاة قي حتى انتهى إلى السابعة، وهن ومن فيهن ومن عليهن عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف عند جبال البرد كحلقة في فلاة قي وتلا هذه الآية: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند الهواء

ص:186

الذي تحار فيه القلوب كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء عند حجب النور كحلقة في فلاة قي، وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء وحجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية: (وسع كرسية السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء وحجب النور والكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي وتلا هذه الآية: (الرحمن على العرش استوى) وفي رواية الحسن: الحجب قبل الهواء الذي تحار فيه القلوب.

* الشرح:

قوله (حديث زينب العطارة) وهو حديث غريب دل على كمال قدرة الصانع وعظمتة بما يشتمل عليه إجمالا من نضد العالم السفلي والعلوي ولا يعلم حقيقته وكيفيته إلا أصحاب الوحي ومن تجرد عن العلائق الجسمية والعوائق البدنية حتى اتصل بالملأ الأعلى ورأى الأشياء كما عليه في نفس الأمر.

(قال: إذا بعت فأحسني ولا تغشي) غشه من باب قتل: إذا لم يخلص أو أظهر خلاف ما أضمر، والغش بالكسر: اسم منه، والمغشوش: الغير الخالص كاللبن الممزوج بالماء، والمسك والزعفران الممزوجين بما يشابههما ونحو ذلك، وفيه إشارة إلى بعض آداب البيع وهو الإحسان إلى المشترى بعدم المماكسة وعدم طلب الزيارة على القدر المعتاد أو على قدر الحاجة وعدم مزج المبيع بغيره وعلل ذلك للحث عليه بقوله (فإنه أتقى) من العقوبة وأحذر من أسبابها (وأبقى للمال) فإن الحلال أشد بقاء من الحرام (فقالت يا رسول الله ما أتيت بشيء من بيعي) البيع «خريدن» و «فروختن» ضد ويطلق على المبيع ويجمع على البيوع وأبيعه بالألف لغة كما في المصباح (وإنما أتيت أسألك عن عظمة الله عز وجل) سألت عن حقيقة عظمة أو عن قدرها أو عن آثارها وأجاب (عليه السلام) ببعض آثارها الدالة على كمال العظمة لا بجميعها إذ كما لا يمكن للبشر أن يعرف حقيقة عظمة كذلك لا يمكن له أن يعرف جميع الآثار مفصلة (ثم قال: إن هذه الأرض) التي هي مسكننا ومسكن سائر الحيوانات (عند الأرض) التي تحتها (كحلقة ملقاة في فلاة قي) القي بكسر القاف وشد الياء القفر الخالي وأصله قوى فعل.

(وتلا هذه الآية (خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)) استشهد بالآية لما ذكر حيث جعل الأرض سبع طبقات كل طبقة تحتانية أعظم من الفوقانية وهذه الأرض أصغر من الجميع قال بعض

ص:187

العلماء: كلما أحاط به فلك القمر يطلق عليه اسم الأرض كما قال تعالى الذي «خلق سبع السماوات ومن الأرض مثلهن» وهي سبع طبقات الأولى: النار، الثانية: الهواء الثالثة: الماء، الرابعة: الأرض وثلاث طبقات ممتزجة من هذه الأربع الأولى ممتزجة من النار والهواء، الثانية ممتزجة من الهواء والماء، الثالثة ممتزجة من الماء والأرض وهي الكرة الطينية أقول الظاهر أن هذا القول غير موافق لهذا الحديث حيث ذكر الثلاثة الأولى على حدة ثم أقول: يلزم من هذا الحديث على تقدير تماس هذه السبع بعضها ببعض أحد الأمرين إما أن يكون السبع أجساما مسطحة أو يكون كرات مماسة بنقطة، وذلك لأنها إن كانت مسطحة فهو الأمر الأول وإن كانت كرة فإن كان مجموعها من حيث المجموع كرة واحدة لزم أن يكون الأعظم القطعة التي فيها المنطقة وأن يكون ما فوقها وما تحتها من القطاع مساوية كل واحدة لنظيرها وهذا ينافي كون كل تحتانية أعظم من الفوقانية وإن كان كل واحدة كرة فإن كان كل تحتانية محيطة بالفوقانية لزم أن تكون هذه الأرض محاطة بأرض أخرى وليس كذلك فينبغي أن يكون غير محيطة فيلزم أن يكون التماس بنقطة وهو الأمر الثاني فليتأمل (شرح روضة الكافي «10»).

(على ظاهر الديك): هو ذكر الدجاج والجمع ديوك وديكة وزان قردة (له جناحان جناح في المشرق وجناح في المغرب ورجلاه في التخوم) التخم: منتهى كل قرية أو أرض والجمع تخوم مثل فلس وفلوس وقال ابن الأعرابي وابن السكيت: الواحد تخوم والجمع تخم مثل رسول ورسل و لعل المراد بالتخوم هنا منتهى الصخرة وينبغي حمله على ظاهره لعدم استبعاده بالنظر إلى القدرة القاهرة (1) والمصالح التي لا يعلمها إلا هو وحمله على المبالغة كالتأويل بعيد (على البحر

ص:188


1- 1 - قوله «لعدم استبعاده بالنظر إلى القدرة القاهرة» إن كان الديك من الأجسام المثالية التي لاتتزاحم إذا اجتمعت على مكان واحد فلكلام الشارح وجه وإلا فإن كان جسما ماديا يجب من وجوده على ما ذكر عدم بقاء مكان لساير الأجسام لقضاء الضرورة ببطلان الطفرة والتداخل على ما قاله المحقق الطوسي (رحمهم الله) في التجريد وبينه العلامة الحلي (رحمهم الله) في شرحة وكذلك نقول في ما ورد من عظمة بعض ملائكة الرحمن وكونهم بحيث يملؤون الخافقين، والحق أن رواية زينب العطارة ضعيفة على فرض صدور شيء منها حقيقة من المعصوم لا نطمئن بحفظ الرواة وضبطهم جميع الالفاظ التي سمعوها وإنما يحتاج إلى تكلف التأويل والتوجية بما يشمئز منه الطبع والالتزام بالمحالات من يعتقد صدور شيء جميع الروايات منها من المعصوم وعصمة الرواة من الخطأ والسهو والنسيان في نقل جميع ألفاظ الإمام (عليه السلام) وهو اعتقاد سخيف نرى في كثير من الأخبار المعتبرة نقل آيات القرآن ضمن كلام المعصوم غلطا مع أنا نعلم أنه (عليه السلام) لم يقرأ إلا كما هو صحيحا. فالحق عدم التعرض لشيء مما ورد في رواية زينب العطارة والتوقف فيها. والعجب أن بعض الناس حاولوا تطبيق الرواية على العلوم الطبيعية والهيئة الإفرنجية والبعد بينهما أبعد مما بين السماء والأرض (ش ).

المظلم) وهو البحر الأعظم سمي مظلما لكثرة مائه وغور عمقه فإن البحر كلما زاد عمقه كان ماؤه أسود (على الهواء الذاهب): أي المتحرك والوصف للإيضاح أو للإحتراز به عن الهواء الغير المتحرك وهو ما سيجيء من الهواء الذي تحار فيه القلوب (على الثرى) لعل المراد بالثرى هنا كرة الأثير بقرينة اقترانه بالسماء الأولى والله أعلم (ثم انقطع الخبر عند الثرى) وهو كلام النبي (صلى الله عليه وآله) والخبر إما بالضم وهو العلم أو بالفتح وهو معروف انقطع علم البشر بالسفليات أو خبرها عند الثرى ولا علم لهم أكثر من ذلك (عند البحر المكفوف عن أهل الأرض) أي الممنوع من الانصباب عليهم بقدرة الله تعالى إذ لو انصب عليهم أهلكهم دفعة وفيه دلالة على أن بين السماء والأرض السابعة والثامنة المسماة بالكرسي وسائط أربعة، وما ذكره أرباب الرياضي من الاتصال بينهما لا دليل عليه عقلا ونقلا، وهم أيضا صرحوا بأن الاتصال من باب الاستحسان فوجب التمسك بما دل عليه الشرع (وحجب النور) لعل المراد بها حجاب القدرة وحجاب العظمة وحجاب الرفعة وحجاب الهيبة وحجاب الرحمة، وهذه الحجب ذكرها صاحب معارج النبوة، وكل ذلك نشأ من نور ذاته تعالى أو نور علمه أو الإضافة بيانية باعتبار أن تلك الحجب نفسها أنوار إلهية (ثم تلا هذه الآية (وسع كرسيه السماوات والأرض))، الكرسي في هذه الآية فسر في كتاب التوحيد وتارة بالعلم وتارة بالفلك الثامن، لكن المراد هنا هو الخير والمراد بالسموات: السماوات السبع ويدل عليه أيضا ما روى عن أبي عبد الله (عليه السلام) حين سئل، الكرسي أكبر أم العرش؟ قال (عليه السلام) «كل شيء خلق الله تعالى في الكرسي ما خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي».

ص:189

حديث الذي أضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالطائف

* الأصل:

144 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن يزيد الكناسي، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان نزل على رجل بالطائف قبل الإسلام فأكرمه فلما أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس؟ قال:

لا، قالوا له: هو محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب وهو الذي كان نزل بك بالطائف يوم كذا وكذا فأكرمته، قال فقدم الرجل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسلم عليه وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا رب المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية يوم كذا وكذا فأكرمتك فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): مرحبا بك سل حاجتك: فقال: أسألك مأتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بنى إسرائيل لموسى (عليه السلام) فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل لموسى؟ فقال: إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام فسأل موسى عن قبر يوسف (عليه السلام) فجاءه شيخ فقال إن كان أحد يعرف قبره ففلانة فأرسل موسى (عليه السلام) إليها فلما جاءته قال: تعلمين موضع قبر يوسف (عليه السلام)؟ قالت نعم قال: فدليني عليه ولك ما سألت قال:

لا أدلك عليه إلا بحكمي، قال: فلك الجنة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عز وجل إلى موسى لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها، فقال لها موسى: فلك حكمك، قالت: فان حكمي أن أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل.

* الشرح:

قوله (حديث الذي أضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالطائف) الظاهر من سياق الحديث أن هذه الضيافة كانت قبل بعثته (صلى الله عليه وآله) وإن قدوم الرجل عليه كان بعد قوة الإسلام وكثرة الغنائم (ثم قال لأصحابه ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى (عليه السلام)) لما كان غاية همة هذا الرجل طلب الدنيا والميل إلى زهراتها تعجب (صلى الله عليه وآله) من حاله وذمه وأشار إلى موسى أن يكون نهاية

ص:190

هم المرء طلب الآخرة والميل إلى رفعة درجاتها (فقال: إن الله أوحى إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام)، دل على أن النقل كان بالوحي وعلى استحبابه كما هو مذهب الأصحاب وقيل كان النقل لوصية يوسف (عليه السلام) به ولا منافاة بينهما والمراد بالعظام: جسده المطهر لأن الأنبياء لا تبلى أجسادهم (1) ولا منافاة بينه وبين ما روى من أن الأنبياء ينقلون بعد ثلاثة أيام إلى السماء لجواز رجوعهم بعد صعودهم (فأرسل موسى (عليه السلام) إليها فلما جاءته قال تعلمين. اه) قال الصدوق: فبعث إليها فأتى بعجوز مقعدة عمياء فقال: تعرفين قبر يوسف؟ قالت: نعم فأخبرني بموضعه قال: لا أفعل حتى تعطيني خصالا تطلق رجلي وتعيد إلي بصري وترد إلي شبابي وتجعلني معك في الجنة فكبر ذلك على موسى (عليه السلام) فأوحى الله عز وجل إنما تعطني علي فأعطها ما سألت ففعل فدلته على قبر يوسف (عليه السلام) فاستخرجه من شاطىء النيل في صندوق مرمر (قالت فإن حكمي أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة) قال بعض العامة طلب درجة الأنبياء في الجنة ممتنع لأنه يستلزم طلب مساواتهم وأنه ممتنع.

أقول: فيه نظر، لأنه إن أراد أن طلب مساواتهم في المنزل واشتراكهم في الكون فيه ممتنع فهو ممنوع ولا دليل على امتناعه عقلا ونقلا بل الظاهر جواز ذلك في الجنة كما جاز في الدنيا، وإن أراد أن طلب مساواتهم في الشرف والكمال ورفعة القدر ممتنع، فهو مسلم لكن طلب درجاتهم ومكانهم لا يستلزم طلب المساواة بهذا المعنى.

* الأصل:

145 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كانت امرأة من الأنصار تودنا أهل البيت وتذكر التعاهد لنا وإن عمر بن الخطاب لقيها ذات يوم وهي تريدنا فقال لها: أين تذهبين يا عجوز الأنصار؟ فقالت: أذهب إلى آل محمد اسلم عليهم واجدد بهم عهدا وأقضي حقهم، فقال لها عمر: ويلك ليس لهم اليوم حق عليك ولا علينا إنما كان لهم حق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأما اليوم فليس لهم حق فانصرفي، فانصرفت حتى أتت ام سلمة فقالت لها ام سلمة: ماذا أبطأ بك عنا؟ فقالت: إني لقيت عمر ابن

ص:191


1- 1 - قوله «لأن الأنبياء لا تبلى أجسادهم» ينبغي السكوت والتوقف في هذه المسائل التي اختلفت الروايات فيه وهي مما لا حاجة لنا إلى العلم بها ولا طريق موجب لليقين إلى قول المعصوم فيها فقد روي في تاريخ العسكري (عليه السلام) حديث استسقاء النصاري وإجابة دعائهم دون دعاء المسلمين واستخراج العسكري (عليه السلام) عظام الأنبياء من بين أصابع القسيس، وأما رجوع عظام الأنبياء بعد صعودهم فخلاف صريح بعض الروايات، فإن الراوي سأل عن وجود عظامه (صلى الله عليه وآله) في قبره الشريف بعد سنين كثيرة من رحلتة (صلى الله عليه وآله). (ش)

الخطاب وأخبرتها بما قالت لعمر وما قال لها عمر، فقالت لها ام سملة: كذب لا يزال حق آل محمد (صلى الله عليه وآله) واجبا على المسلمين إلى يوم القيامة.

* الشرح:

قوله: (وتكثر التعاهد لنا)، أي لرؤيتنا وزيارتنا ورعاية حرمتنا (فقال لها عمر ويلك ليس لهم اليوم حق عليك ولا علينا، إنما كان لهم حق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأما اليوم فليس لهم حق فانصرفي ) قال ذلك حسدا وعنادا وعداوة لهم، وقد اعترف بأنه كان لهم حق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقال له ذلك الحق إن كان لأجل القرابة فهي باقية بعده وإن كان لأجل فضلهم وكمالاتهم فيه أيضا باقيه بعده فبأي شيء بطل حقهم بعده (فقالت لها أم سلمة: كذب، لا يزال حق آل محمد على المسلمين واجبا إلى يوم القيامة، هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ودل عليه صريح قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وغيره وصريح كثير من روايات العامة والخاصة وإنما ذلك الرجل بمجرد النفاق والعداوة.

* الأصل:

146 - ابن محبوب، عن الحارث بن محمد بن النعمان، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله الله عز وجل: «ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون» قال: هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل علموا واستيقنوا أنهم كانوا على الحق وعلى دين الله عز وجل فاستبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

* الشرح:

قوله (قال هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي:

الظاهر أن المراد بالجنة التي خلقها في المغرب وجعلها مكان أرواح السعداء في عالم البرزخ، أقول: يحتمل أن يراد بها الحنة المعروفة وهي موجودة كما هو الحق ودلت عليه الآيات والروايات ولا يمتنع دخول أرواح المؤمنين فيها في البرزخ عقلا ونقلا، وأما عدم خروج من دخلها فلعله يكون بعد الحشر وعود الأرواح إلى الأبدان (واستقبلوا الكرامة من الله عز وجل علموا واستيقنوا أنهم كانوا على الحق وعلى دين الله عز وجل) أي علموا ذلك بالمعاينة واستيقنوا بعين اليقين وإلا كان لهم العلم واليقين بذلك قبل الموت وبين علم اليقين وعين اليقين فرق ظاهر، ومن ذلك قوله

ص:192

تعالى «أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي» قالوا: أراد (عليه السلام) أن يحصل له علم اليقين بعد ما كان له علم اليقين (فاستبشروا بمن له يلحق بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ضمير عليهم راجع إلى المستبشرين أو إلى اللاحقين الباقين اوالى الجميع باعتبار هذا الصنف وهم الشيعة.

* الأصل:

147 - عنه، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل «فيهن خيرات حسان» قال: هن صوالح المؤمنات العارفات، قال: قلت: «حور مقصورات في الخيام»؟ قال الحور هن البيض المضمومات المخدرات في خيام الدر والياقوت والمرجان، لكل خيمة أربعة أبواب، على كل باب سبعون كاعبا حجابا لهن ويأتيهن في كل يوم كرامة من الله عز ذكره ليبشر الله عز وجل بهن المؤمنين.

* الشرح:

قوله: (قال: قلت: حور مقصورات في الخيام): امرأة مقصورة محبوسة في البيت لا تترك أن تخرج (قال: الحور: هن البيض المضمومات المخدرات) الضم: قبض الشيء إلى شيء، والمراد ضمهن إلى الخيام أو إلى الأزواج والخدر بالكسر الستر وجارية مخدرة إذا لزمت الخدر (على كل باب سبعون كاعبا) الكاعب: المرأة حين يبدو ثديها للنهود، والجمع: الكواعب (يبشر الله بهن المؤمنين): أي يبشر الله تعالى المؤمنين في كتابه بأن لهم صنفين من النسوة في الآخرة وفي بعض النسخ «ليبشر الله» باللام أي أنزل هذه الآية ليبشرهم.

* الأصل:

148 - على بن إبراهيم، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الصباح الكناني، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن للشمس ثلاثمائة وستين برجا كل برج منها مثل جزيرة من جزائر العرب، فتنزل كل يوم على برج منها، فإذا غابت انتهت إلى حد بطنان العرش، فلم تزل ساجدة إلى الغد، ثم ترد موضع مطلعها ومعها ملكان يهتفان معها، وإن وجهها لأهل السماء وقفاها لأهل الأرض ولو كان وجهها لأهل الأرض لاحترقت الأرض ومن عليها من شدة حرها، ومعنى سجودها ما قال سبحانه وتعالى: «ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر

ص:193

والدواب وكثير من الناس».

* الشرح:

قوله (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن للشمس ثلاثمائة وستين برجا، كل برج منها مثل جزيرة من جزاير العرب فتنزل كل يوم على برج منها فإذا غابت انتهت على حد بطنان العرش (1) فلم تزل ساجدة إلى الغد ثم ترد إلى موضعها مطلعها ومعها ملكان يهتفان معها وأن وجهها السماء وقفاها لأهل الأرض ولو كان وجهها لأهل الأرض لأحرقت الأرض ومن عليها من شدة حرها) البرج في اللغة: الركن، والمراد به هنا: الدرجة المدارية أو الدرجة التي هي مطلع الشمس من أول

ص:194


1- 1 - قوله «إلى حد بطنان العرش» الكلام في هذه الرواية كالكلام في رواية زينب العطارة لا نطمئن بحفظ الرواة وضبطهم على فرض صدور الحديث من المعصوم (عليه السلام) إذ لم يكن الرواة معصومين من الخطأ ولم يبين الشارح وجه تأويله بما أوله مثلا الدرجة المدارية التي تنزلها الشمس كل يوم درجات مدار الحركة الخاصة كما قال المجلسي رحمة الله: لعل المراد بالبروج الدرجات التي تنتقل إليها بحركتها الخاصة فيكون نزول كل يوم في برج تغليبا انتهى، وعلى هذا إذا نزلت الشمس في درجة نهارا تبقى في تلك الدرجة جميع ذلك اليوم إلى غروبها، وبعد الغروب أيضا تكون في تلك الدرجة بعينها وانمال تنتقل إلى درجة بعدها بعد أربع وعشرين ساعة. ثم قال المجلسي (رحمه الله): فإذا غابت، أي بالحركة اليومية. وقد علم أنها بالحركة اليومية تنتقل عن تلك الدرجة، انتهت إلى حد بطنان العرش فيكون وصولها إلى حد بطنان العرش في كل يوم مرة، وحمله المجلسي رحمه الله على نصف الليل حين تمر الشمس بدائرة نصف النهار من تحت الأرض، وهذا الذي ذكره المجلسي (رحمه الله) ألصق بعبارة الحديث لكن يعسر الوقوف على مقصوده ومعناه لأن العرش على ما قاله يكون فوق رؤوس أهل مكة فكون الشمس في نصف النهار في النهار محاذية لبطنان العرش أظهر من محاذاته في الطرف الآخر وإن كان ولابد فلابد من المحاذاة في اليوم بليلته مرتين، وأما تفسير الشارح فلا ينطبق على عبارة الحديث ولكن معناه مفهوم لنا فإذا غابت الشمس أي في اليلة التي تكون غدها يوم القيامة وهي في الدرجة التي نزلتها وقتا ما وجرت بعدها حتى غابت وانتهت إلى بطنان العرش، أي تحت العرش ولهذا الانتهاء والتحتية خصوصية مثل أن تكون أقرب حتى يأمرها الله تعالى بالرجوع والطلوع من المغرب بخلاف ساير الأيام، ثم أن كلام الشارح يدل على أن الشمس حية ناطقة تتغير حالها بمشاهدة جلال الله تعالى وهو اقتباس من الحكماء بوجه غير مرضى عندهم لأنهم لا يرون النفوس الفلكية مبدء لتغير مبدء لتغير في الجسم كيفا أو كما بل لو فرض رؤية أحد بعض الفلكيات لم ير فيه من آثار الحياة إلا الدوران كما يرى الرحى الذي يتحرك من غير متحرك فيذهب الذهن إلى أن موجودا كالجن يحركه، وأما كون الشمس مواجهة للأرض بوجه واحد فغير مطابق لما حققه أهل الفن، فإنها تدور على نفسها في كل خمسة وعشرين يوما فتواجهه الأرض بجميع أطرافها والحق التوقف في هذه الروايات لا تطمئن بصدورها إذا لم نعرف لها معنى صحيحا من غير تكلف ولا أدري كيف لتأويل الأخبار الواردة في الطبيعيات من يتحرز عن تأويل ما يتعلق بالأمور المعنوية حتى في أبده المسائل. (ش)

السرطان إلى أول الجدي ذاهبة وجائية وهي ثلاثمائة وستون، وتمثيلها بالجزيرة تنبيه لسعتها فتنزل الشمس كل يوم من أيام السنة على درجة من هذه الدرجات ستة أشهر عائدة فإذا نزلت على درجة منها وجرت حتى غربت في درجة محاذية لها وانتهت إلى حد بطنان العرش أي إلى تحته والمراد به:

المنزلة التي ترجع منها وتطلع من المغرب في آخر الزمان عند قيام الساعة، وقد عد ذلك من أشراطها، وإلا فالشمس دايما تحت العرش، والمراد بسجودها: خشوعها وانتظارها لأمر الله سبحانه هل يأمر برجوعها أم لا وانقيادها لحكمه فيأمر بردها إلى مطلعها فترد إليه فتصبح طالعة منه، وهكذا كان دايما إلى ما شاء الله أن يأمر بردها من مغربها، ولعل الملكين الهاتفين يزجرانها ويأمرانها بالطلوع إلى مطالعها المعروفة وقوله «وجهها لأهل السماء» يحتمل أن يراد به: أن وجهها لأهل السماء متوجه إلى العرش حين كونها ساجدة، ووجه شدة حرارتها وإحراقها للأرض ومن عليها على تقدير كون وجهها للأرض ظاهر لتغيير حالها بمشاهدة جلال الله وعظمة كبريائه، كما نقل ذلك في حال نبينا (صلى الله عليه وآله) عند نزول الوحي، ويحتمل أن وجهها لأهل السماء دايما، ويؤيد الأول ما رواه في الفقيه من أن الشمس بلغت الجو وجازت الكو قلبها ملك النور ظهر البطن فصار ما يلي الأرض إلى السماء وبلغ شعاعها تخوم العرش الحديث» لا يقال كيف نتوقع الشمس طلوعها من المغرب في كل وقت والدجال وعيسى والمهدى (عليهم السلام) لم يظهروا بعد لأنه يمكن أن يقال أنه لاعلم لها بعدم تحقق طلوعها قبل ظهورهم، هذا الذي ذكرناه مما تحتمله العبارة، ويمكن أيضا حملها على أن ذلك الفعل من الشمس عبادة وانقياد له جل شأنه والله أعلم، (وكثير من الناس) عطف على الدواب إن جوز استعمال المشترك في معنييه واستناده إلى أمر باعتبار أحدهما، وإلى الآخر باعتبار الآخر، وتخصيص الكثير يدل على إرادة وضع الجبهة أو مبتدء خبره محذوف أي حق له الثواب لدلالة ما بعده عليه وهو كثير حق عليه العذاب أو فاعل فعل محذوف أي ويسجد له كثير من الناس لدلالة المذكور عليه.

* الأصل:

149 - عدة من أصحابنا، عن صالح بن أبي حماد، عن إسماعيل بن مهران، عمن حدثة، عن جابر بن يزيد قال: حدثني محمد بن علي (عليه السلام) سبعين حديثا لم احدث بها أحدا قط ولا أحدث بها أحدا أبدا، فلما مضى محمد بن علي (عليهم السلام) ثقلت على عنقي وضاق بها صدري فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك إن أباك حدثني سبعين حديثا لم يخرج مني شيء منها ولا يخرج شيء منها إلى أحد وأمرني بسترها وقد ثقلت على عنقي وضاق بها صدري فما تأمرني؟ قال: يا جابر إذا ضاق بك من ذلك شيء فأخرج إلى الجبانة واحتفر حفرة ثم دل رأسك

ص:195

فيها وقل: حدثني محمد بن علي بكذا وكذا ثم طمه فان الأرض تستر عليك قال، جابر ففعلت ذلك فخف عني ما كنت أجده. عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران مثله.

* الشرح:

قوله (فقال يا جابر إذا ضاق بك من ذلك شيء) أي من كتمان السر، وعدم إظهاره لأحد (فأخرج إلى الجبانة): هي بتشديد الباء وثبوت الهاء أكثر من حذفها المصلى في الصحراء وربما أطلقت على المقبرة لأن المصلى غالبا يكون فيها (واحتفر حفيرة ثم دل رأسك فيها) أي أرسله فيها من دليت الدلو أرسلتها في البئر، وهو يدل على أن حفظ السر واجب وأن إظهاره على النحو المذكور يدفع ضيق الصدر الحاصل من كتمانه، وأن ما هو جماد نفسا مدركة في نفس الأمر كما قيل وقد ذكرناه سابقا في الأصول، وفي طم الحفر تنبيه على عدم إفشائه، وإنما لم يأمره (عليه السلام) بإظهاره له وهو (عليه السلام) أحفظ منه إما لأنه (عليه السلام) لما كان عالما به لم يكن الإظهار له دافعا للضيق أو ليعلم كيفية التخلص من الضيق من لم يجد مثله (عليه السلام) إلى قيام القائم (عليه السلام).

* الأصل:

150 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن صفوان بن يحيى، عن الحارث بن المغيرة قال:

قال أبو عبد الله (عليه السلام): لآخذن البريء منكم بذنب السقيم ولم لا أفعل ويبلغكم عن الرجل ما يشينكم ويشينني فتجالسونهم وتحدثونهم فيمر بكم المار فيقول: هؤلاء شر من هذا فلو أنكم إذا بلغكم عنه ما تكرهون زبرتموهم ونهيتموهم كان أبر بكم وبي.

* الشرح:

قوله (قال أبو عبد الله (عليه السلام): لآخذن البريء منكم بذنب السقيم. اه) أريد بالبريء: البريء من مثل ذنب السقيم وإن كان هو أيضا مذنبا باعتبار ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو يدل على وجوبهما على كل عالم بالمعروف والمنكر، وعلى أنه لا يجوز مجالسة الفاسق، وعلى أنه يجب التحرز من موضع التهمة، وضمير الجمع في تجالسونهم، راجع إلى الرجل باعتبار الجنس الشامل للكثرة، وهؤلاء إشارة إلى الجالسين وهذا إشارة إلى الرجل والأفراد باعتبار اللفظ وإرجاع هؤلاء إلى الرجل والجالسين معه، وهذا: إلى أبى عبد الله (عليه السلام) بعيد جدا والمراد بالموصول في قوله « ما يشينكم ويشيننى» أعم من إظهار السرو كتمان الحق وفعل المعصية ووجه كون ذلك شينا

ص:196

له (عليه السلام) ظاهر لأن خلاف الرعية ومخالفتهم للسلطان يوجب ذم الأمير وعيبه أيضا والمراد بالأخذ الأخذ في الدنيا بالتأديب أو في الآخرة بالتعذيب أو الأعم منهما.

* الأصل:

151 - سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن المغيرة، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء» قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذرا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا.

* الشرح:

قوله (فلما نسوا ما ذكروا به): لعل المراد بالنسيان لازمة وهي ترك ما يوجب الثواب وفعل ما يوجب العقاب لشباهتهم بالناس في ذلك (صنف ايتمروا): أي قبلوا الأمر والنهي وامتثلوا (وأمروا) بالمعروف (ونهوا) عن المنكر (فنجوا) من العقوبة الدنيوية والأخروية (وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذرا)، للمداهنة والمساهلة مع أهل المعاصي في السكوت عما رأوا منهم من المنكرات، فمن شاهد معصية ولم ينه عنها فهو عاص أيضا، وربما ساقه ذلك إلى فعل منكر والمشاركة مع أهله، وعلى التقديرين يستحق العقوبة، ويفهم منه أن الأمر بالمعروف عند قيام بعض به لا يسقط عن غيره إذا لم يأتمر العاصي، بل وجب عليه أيضا فلعله يأتمر بتظاهرهم وتعاونهم.

* الأصل:

152 - عنه، عن علي بن أسباط، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم قال: كتب أبو عبد الله (عليه السلام) إلى الشيعة: ليعطفن ذووا السن منكم والنهي عن ذوي الجهل وطلاب الرئاسة، أو لتصيبنكم لعنتي أجمعين.

* الشرح:

قوله (كتب أبو عبد الله (عليه السلام) إلى الشيعة: ليعطفن ذووالسن منكم والنهي عن ذوي الجهل وطلاب الرياسة أو لتصيبنكم لعنتي أجمعين) عطف عنه مال وصرف وجهه عنه، والنهي: جمع النهية:

وهي العقل، لأنه ينهى عن القبيح وفيه ترغيب في مفارقة الجاهلين والفاسقين وطلاب الرئاسة لأن كل رئيس غير معصوم ظالم لنفسه ولغيره محتاج إلى من يأمره وينهاه ولو بكلام خشن ولا ينبغي

ص:197

للعالم العارف أن يميل إليه، ويساهله، ويجالسه إلا مع الخوف، فيجب أن يبغضه قلبا وفي بعض النسخ «على ذوي الجهل» يقال عطف عليه إذا أشفق ورؤف وفيه حينئذ ترغيب في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، لأن ذلك شفقة لهم ورأفة بهم.

* الأصل:

153 - محمد بن أبي عبد الله، ومحمد بن الحسن جميعا، عن صالح بن أبي حماد، عن أبي جعفرا الكوفي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل جعل الدين دولتين دولة لآدم (عليه السلام) ودولة لإبليس فدولة آدم هي دولة الله عز وجل فإذا أراد الله عز وجل أن يعبد علانية أظهر دولة آدم وإذا أراد الله يعبد سرا كانت دولة إبليس، فالمذيع لما أراد الله ستره مارق من الدين.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل جعل الدين دولتين دولة لآدم (عليه السلام) ودولة لإبليس. اه): الدولة: بفتح الدال وضمها: اسم من تداول القوم الشيء وهو حصوله في يد هذا تارة وفي يد هذا أخرى، وجمع المفتوح: دول بالكسر مثل قصعة وقصع، وجمع المضموم: دول بالضم مثل غرفة وغرف ومنهم من يقول: الدولة: بالضم: في المال، وبالفتح: في الحرب، والمارق: الخارج، من مرق السهم من الرمية مروقا خرج من الجانب الآخر، والخوارج مارقة لخروجهم من الدين، إذا عرفت هذا فتقول:

لكل دولة ناصر ومعين، فدولة إبليس ناصره جنود الشيطان من الجن والإنس ودولة آدم ناصره العلماء والصلحاء والأتقياء، فإذا غلب جنود الشيطان، انطمس نور الدين، وظهر الفساد في البر والبحر وعبد الله سرا لقلة أهل الصلاح وضعف قوتهم، فلو راموا للمقاومة معهم هلكوا بسطوتهم وزال الدين بالكلية، فلذلك وجب عليهم الصبر إلى أن تظهر دولة الحق لقوة أهلها.

ص:198

حديث الناس يوم القيامة

* الأصل:

154 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن سنان، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: يا جابر إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الأولين والآخرين لفصل الخطاب: دعي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعي أمير المؤمنين (عليه السلام) فيكسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلة خضراء تضيئ ما بين المشرق والمغرب ويكسى علي (عليه السلام) مثلها ثم يصعدان عندها ثم يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس، فنحن والله ندخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يدعى بالنبيين (عليهم السلام) فيقامون صفين عند عرش الله عز وجل حتى نفرغ من حساب الناس، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، بعث رب العزة عليا (عليه السلام) فأنزلهم منازلهم من الجنة، وزوجهم فعلي والله الذي يزوج أهل الجنة في الجنة وما ذاك إلى أحد غيره، كرامة من الله عز ذكره، وفضلا فضله الله به ومن به عليه، وهو والله يدخل أهل النار النار، وهو الذي يغلق على أهل الجنة إذا دخلوا فيها أبوابها لان أبواب الجنة إليه وأبواب النار إليه.

* الشرح:

قوله (حديث الناس يوم القيامة) يذكر فيه إجمالا حالاتهم ومقامات الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم (فيكسي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب): أي تضيء هذا المقدار من المسافة في عرصة القيامة أو كل العرصة، والحلة بالضم: لا تكون الا ثوبين من جنس واحد، والجمع حلل مثل غرفة وغرف (ثم يدعى بنا فيدفع إلينا حساب الناس) حقيقة الحساب تعود إلى تعريف الإنسان ماله وما عليه وهم (عليهم السلام) قادرون بإذن الله تعالى على حساب الخلائق مع كثرتهم دفعة واحدة، لا يشغلهم كلام عن كلام، وحسابهم كحساب الله تعالى والله سريع الحساب. (فنحن والله ندخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار) لأنهم قوام الله تعالى على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، كما مر تفصيله في شرح الأصول (بعث رب العزة عليا (عليه السلام) فأنزلهم منازلهم من الجنة وزوجهم): أي يترك كل أحد منزلا يناسبه باعتبار حالة من العلم والعمل والصلاح والورع والتقوى، ويزوجهم من الحور، فكما

ص:199

أن كل خير في الدنيا بسبب وجوده ونوره وهدايته فكذلك كل خير في الآخرة بتوسطه (عليه السلام) (وهو والله يدخل أهل النار النار) لا ينافي ما مر لأنه (عليه السلام) داخل في نحن ولأن أمرهم أمر واحد، ومن طرق العامة قال علي (عليه السلام) «أنا قسيم النار والجنة» قال صاحب النهاية: أراد أن الناس فريقان: فريق معي فهم على هدى، وفريق علي فهم ضلال، فنصف معي في الجنة ونصف علي في النار. وقسيم:

فعيل بمعنى فاعل كالجليس والسمير قيل: أراد بهم الخوارج وقيل: كان من قاتله انتهى، أقول كل من خالفه ولو بنقله عن مقامه.

* الأصل:

155 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عبسة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: خالطوا الناس، فإنه إن لم ينفعكم حب علي وفاطمة (عليهم السلام) في السر لم ينفعكم في العلانية.

* الشرح:

قوله (خالطوا الناس فإنه إن لم ينفعكم حب علي وفاطمه (عليهم السلام) في السر لم ينفعكم في العلانية) أراد بالناس، من أنكر حرمتهما أو أبغضهما وأبغض أولادهما الطاهرين وشيعتهم، وكره استماع فضائلهم وتقدمهم على الأمة كلهم، ولما كانت مخالطتهم توجب إخفاء محبتهم وسترها خوفا منهم أمر بالمخالطة دفعا لضررهم بتركها، وعلل بأن المحبة أمر قلبي لا تنافي المخالطة وإن تلك المحبة القلبية هي النافعة إذ لم تنفع المحبة العلانية اللسانية إذ نفع هذه فرع لنفع تلك والفرع لا يتحقق بدون تحقق الأصل.

* الأصل:

156 - جعفر عن عنبسة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إياكم وذكر علي وفاطمة (عليهم السلام) فان الناس ليس شيء أبغض إليهم من ذكر علي وفاطمة (عليهم السلام).

* الشرح:

قوله (إياكم وذكر علي وفاطمة (عليهم السلام) فإن الناس ليس شيء أبغض إليهم من ذكر علي وفاطمة (عليهم السلام)) حذر عن ذكرهما عند الناس المبغضين لهما ترغيبا في التقية منهم وحفظ النفس من شرهم والثواب المترتب على ذكرهما مترتب على ترك ذكرهما تقية.

* الأصل:

157 - جعفر، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز ذكره إذا أراد فناء دولة

ص:200

قوم أمر الفلك فأسرع السير فكانت على مقدار ما يريد.

* الشرح:

قوله: (ان الله عز ذكره إذا أراد فناء دولة قوم أمر الفلك فأسرع السير فكانت على مقدار ما يريد) سيجيء نظيره في حديث نوح (عليه السلام) ولا حاجة إلى التأويل بأنه كناية عن زوال دولتهم باعتبار أنها أمر منقطع لأن أسرع الفلك وابطاؤة على القدر المعتاد أمر ممكن بالنسبة إلى القدرة الكاملة، كيف لا وحركته أما إرادية أو قسرية أو طبيعية، وعلى التقادير يمكن السرعة والبطوء فيها ويختلف بحسبهما الزمان زيادة ونقصانا، أما على الأولين فظاهر وأما على الأخير فلأن الحركة الطبيعية تشتد وتضعف بالقسر، ونظير ذلك ما رواه مسلم في حديث الدجال أنه يلبث في الأرض أربعين يوما، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وساير أيامه كأيامكم، قال القرطبي: يخرق العادة في تلك الأيام ويبطأ بالشمس عن حركتها المعتاده في تلك الأيام حتى يكون الأول كسنة والثاني والثالث كما ذكر، وهذا ممكن انتهى كلامه بعينه.

* الأصل:

158 - جعفر بن بشير، عن عمرو بن عثمان، عن أبي شبل قال: دخلت أنا وسليمان بن خالد على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له سليمان بن خالد: إن الزيدية قوم قد عرفوا وجربوا وشهرهم الناس، وما في الأرض محمدي أحب إليهم منك، فإن رأيت أن تدنيهم وتقربهم منك فافعل، فقال: يا سليمان بن خالد إن كان هؤلاء السفهاء يريدون أن يصدونا عن علمنا إلى جهلهم فلا مرحبا بهم ولا أهلا، وإن كانوا يسمعون قولنا وينظرون أمرنا فلا بأس.

* الشرح:

قوله: (فقال له سليمان بن خالد: إن الزيدية قوم قد عرفوا وجربوا وشهرهم الناس، وما في الأرض محمدي أحب إليهم منك) جربته تجربيا: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة وشهرته بكذا وشهرته بالتشديد: للمبالغة، ولعل المراد أنهم عرفوا حقك وفضلك إن كان الفعل معلوما، أو عرفوا بحبك إن كان مجهولا وجربوا به وشهرهم الناس به وما في الأرض أحد من أولاد محمد (صلى الله عليه وآله) وأتباعه أحب إليهم منك، وهذه الأمور مقتضية لإدنائهم وتقريبهم، فلذلك قال (فإن رأيت أن تدنيهم وتقربهم منك فافعل) على سبيل الالتماس أو التضرع أو الشفاعة فأجاب (عليه السلام) بأن هؤلاء السفهاء والجهلة إن كانوا يريدون بالمخالطة والمعاشرة (أن يصدونا عن علمنا) بموضع الولاية

ص:201

والأحكام وما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) إلى جهلهم ويردونا إلى طريقتهم فلا مكان لهم عندنا ولا قرابة، وإن كانوا يسمعون قولنا ويتبعون علمنا وينتظرون أمرنا وهو ظهور الصاحب (عليه السلام) أو الأعم فلا بأس بمخالطتهم ومصاحبتهم ومعاشرتهم، وفيه دلالة على أنه ينبغي التقارب بالموافق والتباعد من المخالف.

* الأصل:

159 - عدة من أصحبنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: انقطع شسع نعل أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في جنازة فجاء رجل بشسعه لينا وله فقال: أمسك عليك شسعك فان صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها.

* الشرح:

قوله: (انقطع شسع نعل أبي عبد الله (عليه السلام) في جنازة) الشسع: أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام: السير الذي يعقد فيه الشسع (فإن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها) الصبر: حبس النفس عن الجزع، والمصيبة: الشدة النازلة وكل ما يثقل على النفس فهو مصيبة، وهذا القول كاد أن يكون مثلا لكل من أراد أن يدفع المكروه عن الغير بحمله على نفسه.

160 - سهل بن زياد، عن ابن فضال، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحجامة في الرأس هي المغيثة تنفع من كل داء إلا السأم، وشبر من الحاجبين إلى حيث بلغ إبهامه ثم قال: هاهنا.

* الشرح:

قوله: (الحجامة في الرأس هي المغيثة تنفع من كل داء إلا السأم) اما أن يراد به المبالغة في أن منافع الحجامة كثيرة يندفع أكثر الأمراض، أو يراد بالداء، الداء الدموي فيكون عاما مخصوصا وإلا فالأمر مشكل لأن كون الحجامة نافعة في جميع الأمراض محل تأمل، وعلم ذلك تقدير صحة السند وإرادة العموم مرفوع عنا والله يعلم حقائق الأشياء. (وشبر من الحاجبين إلى حث بلغ إبهامه ثم قال هاهنا) الشبر بالكسر: ما بين طرفي الخنصر والإبهام بالتفريج المعتاد، وشبرت الشيء شبرا من باب قتل قسته بالشبر.

* الأصل:

161 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن مروك بن عبيد، عن رفاعة، عن أبي

ص:202

عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أتدري يا رفاعة لم سمي المؤمن مؤمنا؟ قال: قلت: لا أدري، قال: لأنه يؤمن على الله عز وجل فيجيز الله له أمانه.

* الشرح:

قوله: (قال: أندري يا رفاعة لم سمي المؤمن مؤمنا؟ قال: قلت: لا أدري، قال: لأنه يؤمن على الله عز وجل فيجيز الله له أمانه) لعل المراد بالمؤمن: الكامل من جميع الوجوه أو أكثرها، فإن لهم درجة الشفاعة والأمان يوم القيامة، والأعم محتمل، وتعدية يؤمن بعلى باعتبار معنى الوجوب.

* الأصل:

162 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن حنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لا يبالي الناصب صلى أم زنى وهذه الآية نزلت فيهم «عاملة ناصبة تصلى نارا حامية».

* الشرح:

قوله: (لا يبالي الناصب صلى أم زنى) الظاهر أن لا يبالي مبني للمفعول يقال: لا اباليه ولا أبالي به:

أي لا أهتم ولا أكترث له، وفي الصباح الأصل فيه قولهم: تبالي القوم إذا تبادروا إلى الماء القليل فاستقوا فمعنى لا أبالي: لا أبادر إهمالا له، ولعل المراد، أن صلاته غير نافعة له، أو أن صلاته أيضا معصية كالزنا، لأن الصلاة الفاقدة لبعض شرائط صحتها معصية يعذب بها صاحبها كما يعذب من صلى بغير طهارة، وهذا أظهر (وهذه الآية نزلت فيهم عاملة ناصبة تصلى نارا حامية) أي شديد حرها، وقد قيل: ان حرارة نار جهنم أشد من حرارة نار الدنيا بسبعين درجة.

* الأصل:

163 - سهل بن زياد، عن يعقوب بن زيد، عن محمد بن مرازم، ويزيد بن حماد جميعا، عن عبد الله بن سنان فيما أظن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لو أن غير ولي علي (عليه السلام) أتى الفرات وقد أشرف ماؤه على جنبيه وهو يزخ زخيخا فتناول بكفه وقال بسم الله فلما فرغ قال: الحمد الله، كان دما مسفوحا أو لحم خنزير.

* الشرح:

قوله: (وهو يزخ زخيخا) زخه يزخه زخيخا: رفعة بيده وفي كنز اللغة: «زخيخ چيزى را بدست دور داشتن وبدور انداختن». ولعل السر في حرمة شربه، أن كل ما في الدنيا فهو مال الإمام (عليه السلام)، كما دل عليه بعض الروايات وقد أباحه لأولياءه، فمن تناول منه من أعدائه فهو حرام عليه مثل لحم

ص:203

الخنزير.

* الأصل:

164 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن رجل ذكره، عن سليمان بن خالد قال:

قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كيف صنعتم بعمي زيد؟ قلت: إنهم كانوا يحرسونه فلما شف الناس أخذنا جثته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجدوه فأحرقوه، فقال: أفلا أو قرتموه حديدا وألقيتموه في الفرات، صلى الله عليه ولعن الله قاتله.

* الشرح:

قوله: (قلت: إنهم كانوا يحرسونه بعد صلبه فلما شف الناس): أي قلوا (أخذنا خشبته) في بعض النسخ «جثته» (فدفناه في جرف على شاطيء الفرات) في المصباح الجرف بضم الراء وبالسكون للتخفيف: ما جرفته السيول وأكلته من الأرض، وفي كنز اللغة جرف: «مكاني كه أو را سيل شكافة وجوى كرده» وهذا الحديث دل على مدح زيد وحسن حاله قال الفاضل الأسترآبادي في رجاله: زيد بن علي بن الحسين، مدني، تابعي، قتل سنة إحدى وعشرين ومائة، وله اثنان وأربعون سنة، وهو جليل القدر، عظيم المنزلة، قتل في سبيل الله وطاعته، وورد في علو قدره روايات يضيق المقام عن إيرادها انتهى.

* الأصل:

165 - عدة عن أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن علي الوشاء، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز ذكره أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيام.

* الشرح:

قوله: (قال: إن الله عز وجل أذن في هلاك بني أمية بعد إحراقهم زيدا بسبعة أيام) الظاهر أن الباء متعلق بأذن، يعني: وقع الإذن بسبعة أيام بعد إحراقهم، وكان قتله سنة إحدى وعشرين ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان انقطاع ملكهم سنة إحدى وثلاثين ومائة، ومدة ملكهم إحدى وتسعون سنة وملوكهم أربعة عشر رجلا.

* الأصل:

166 - سهل بن زياد، عن منصور بن العباس، عمن ذكره، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله جل ذكره ليحفظ من يحفظ صديقه.

ص:204

* الشرح:

قوله: (إن الله ليحفظ من يحفظ صديقه) بدفع المكاره عنه وجلب المنافع له، والصديق المصادق وهو بين الصداقة من الصدق في الود والحب، وفيه ترغيب في حفظ أولياء الله وأحبائه.

* الأصل:

167 - سهل بن زياد، عن ابن سنان، عن سعدان، عن سماعة قال: كنت قاعدا مع أبي الحسن الأول (عليه السلام) والناس في الطواف في جوف الليل فقال: يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله في تركه لنا فأجابنا إلى ذلك وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم وأجابوا إلى ذلك وعوضهم الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (يا سماعة إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم. ان) لعل المراد بهذا الخلق: نوع البشر بقرينة أنهم لا يشفعون لأعدائهم، ولا يستوهبون لهم، أو الناس كانوا أشياعهم وأتباعهم.

* الأصل:

168 - سهل بن زياد، عن منصور بن العباس، عن سليمان المسترق، عن صالح الأحول قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: آخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين سلمان وأبي ذر، واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان.

* الشرح:

قوله: (قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول آخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين سلمان وأبى ذر، واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان) في الاشتراط تأكيد للتعاون والتناصر والمواساة ورعاية الحقوق التي تقتضيه الإخوة الدينية، وفيه دلالة على كمال فضل سلمان (رضي الله عنه)، وعلى أن على الفاضل متابعة الأفضل وترك عصيانه قولا وفعلا وغيرهما. قال القرطبي: آخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين على بن أبي طالب ونفسه فقال: أنت أخي وصاحبي، وفي رواية أخرى: أخي في الدنيا والآخرة، وكان علي (رضي الله عنه) يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، لم يقلها أحد قبلي ولا بعدي إلا كاذب مفتر، وبين أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة وبين أبي بكر وخارجة بن زيد وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين عثمان وأوس ابن ثابت أخي حسان بن ثابت، وهكذا بين بقيتهم، ثم قال: المواخاة: مفاعلة من الأخوة ومعناه: أن يتعاهد الرجلان على التناصر والمواساة والتوارث حتى يصيرا كالأخوين نسبا، وقد يسمى ذلك

ص:205

حلفا كما قال أنس حالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين قريش والأنصار في المدينة وكان ذلك معروفا في الجاهلية معمولا به عندهم، ولم يكونوا يسمونه إلا حلفا، ولما جاء الإسلام عمل النبي (صلى الله عليه وآله) به وورث به كما جاء في السير وذلك أنهم قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخا بين أصحابه مرتين قبل الهجرة وبعدها، قال أبو عمرو: والصحيح عند أهل السير في المؤاخاة التي عقدها رسول الله بين المهاجرين والأنصار حين قدومه المدينة بعد بنائه المسجد على المواساة والحق، فكانوا يتوارثون دون القرابة حتى نزلت (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فنسخ ذلك ورد التوارث إلى القربة وقصر التحالف والتعاهد على نصرة الحق والقيام والمواساة، وسمي ذلك أخوة، مبالغة في التأكيد وهذه المواخاة لكونها محصورة على الإعانة في الأمور المشروعة غير المواخاة الجاهلية لأن المتحالفين في الجاهلية، كانا يتناصران في كل شيء فيمتنع الرجل حليفه وان كان ظالما ويقوم دونه ويدفع عنه بكل ممكن حتى يمنع الحقوق وينتصر به على الظلم والفساد انتهى كلامه بعينه.

* الأصل:

169 - سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن خطاب بن محمد، عن الحارث بن المغيرة، قال لقيني أبو عبد الله (عليه السلام) في طريق المدينة فقال: من ذا؟ أحارث؟ قلت: نعم، قال: أما لأحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم، ثم مضى فأتيته فاستأذنت عليه فدخلت فقلت: لقيتني فقلت: لأحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم، فدخلني من ذلك أمر عظيم، فقال: نعم ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا قولا بليغا؟ فقلت له: جعلت فداك إذا لا يطيعونا ولا يقبلون منا؟ فقال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم.

* الشرح:

قوله: (ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون) من الذنوب وإفشاء السر وخلاف الأدب (أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه) التأنيب: المبالغة في التوبيخ، والتعنيف والعذل: الملامة كالتعذيل والاسم العذل محركة واعتذل وتعذل قبل الملامة (وتقولوا له قولا بليغا) أي بالغا متراقيا إلى أعلى مراتب النصح والموعظة من قولهم بلغت المنزل إذا وصلته أو كافيا في ردعه عن نكره كما كان يقال في هذا بلاغ أي كفاف أو فصيحا مطابقا لمقتضى المقام (فقلت له جعلت فداك

ص:206

إذا لا يطيعونا ولا يقبلون منا فقال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم) هذا أيضا نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه فوايد: الأولى: ترك التشابه بهم، الثانية: التحرز من غضب الله وعقوبته عليهم، الثالثة تحقق لزوم البغض في الله وثباته، الرابعة: رفض التعاون في المعصية فأن الوصل بالعاصي، والمساهلة معه يوجب معاونته في المعصية وجرأته فيها، الخامسة: بعثه على ترك المعصية فإن الوصل العاصي إذا شاهد هجران الناس عنه ينفعل وينزجر عن فعله بل تأثيره قد يكون أنفع من القول والضرب.

170 - سهل بن زياد، عن إبراهيم بن عقبة، عن سيابة بن أيوب، ومحمد بن الوليد، وعلي بن أسباط يرفعونه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن الله يعذب الستة بالستة: العرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل.

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى يعذب الستة بالستة) أي ستة أصناف بستة أوصاف واحدا بواحد (العرب بالعصبية) قيل: العصبية من لوازم الكبر وكانت حقيقتها تعود إلى العصب عن تصور المؤذي مع الترفع على فاعله، واعتقاد الشرف عليه، وكانوا قبايل متعددة، وكان الرجل يخرج من منازل قبيلة فيمر بمنازل قبيلة أخرى فيقع أدنى مكروه من أحدهم فينسب إليه وإلى قبيلته ما لا يليق فينادي هذا نداء عاليا أي آل فلان فيثور عليه فساق القبيلة ويضربونه، فمضى هو إلى قبيلته ويستصرخ بها يقصد به الفتنة وإثارة الشر، فتسل بينهم السيوف وتثور الفتنة ويقتل جم غفير ولا يكون لها أصل في الحقيقة ولا سبب يعرف. (والدهاقين بالكبر) قيل: دهقان: معرب دهبان، وفي المغرب، الدهقان:

معرب يطلق على رئيس القرية وعلى التاجر، وعلى من له مال وعقار، وداله مكسورة، وفي لغة تضم، والجمع دهاقين ودهقن الرجل وتدهقن: كثر ماله.

(والأمراء بالجور) الأمراء لمشاهدة قوتهم الفانية في نفوسهم الخسيسة المايلة عن الحق كثيرا ما يجورون الضعفاء والعجزة ويظلمونهم في النفس والمال والعرض والله يعذبهم وينتقم منهم، (والفقهاء بالحسد) الحسد: هو تمني رجل زوال نعمة الغير بالوصول إليه أو مطلقا وإن كان قد يتحقق في غير الفقهاء أيضا إلا أنه في الفقهاء أكثر وأقبح، أما أنه أكثر، فلأن المحسود به هنا وهو الكمال والشرف أعظم وهو أولى بالحسد من المال فيكون أكثر، وأما أنه أقبح، فلأن العالم الفقيه

ص:207

اعلم بقبح الحسد من غيره فالحسد منه أقبح وإذا كان كذلك فهو أولى بالتعذيب لأجل الحسد من غيره، (والتجار بالخيانة) في كنز اللغة: «خيانت با كسى دغلى و ناراستى كردن» وهي وإن كانت توجد في غير التجار أيضا لكنها فيهم أكثر كما ورد «إلا أن التجار فجار، والفجار في النار» فهم أولى وأقدم بالتعذيب من غيرهم لأجلها، (وأهل الرساتيق بالجهل) في المصابح، الرستاق: معرب ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم والرزداق مثله والجمع رساتيق ورزاديق وقال بعضهم: الرستاق وصوابه رزدان والمراد بالجهل: الجهل بالأحكام الشرعية سيما الواجبات العينية فإنه فيهم أظهر وأكثر وأشد من السواد الأعظم، وهذه الفقرات في لفظ أخبار ووعيد وفي المعنى أمر لكل صنف بترك ما تلبس به من المعصية.

* الأصل:

171 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كان شيء أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أن يظل خائفا جائعا في الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (ما كان شيء أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أن يظل خائفا جائعا في الله عز وجل) مر سابقا بعينه مع شرحه وبيان مراتب الخوف وفوايد الجوع.

* الأصل:

172 - علي، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جمعيا، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، وحفض بن البختري وسلمة بياع السابري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا أخذ كتاب علي (عليه السلام) فنظر فيه قال: من يطيق هذا من يطيع ذا؟ قال:

ثم يعمل به وكان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه وما أطاق أحد عمل علي (عليه السلام) من ولده من بعده إلا علي بن الحسين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا أخذ كتاب علي (عليه السلام) فنظر فيه قال من يطيق هذا. اه) كمال العبادة والشكر إنما يتحقق بربط كل عضو من الأعظاء الظاهرة والباطنة في كل وقت من الأوقات بما هو مطلوب منه وجوبا وندبا مع غاية خضوع القلب وخشوعه اللازم لكمال الخوف وإدراك الهيبة والعظمة الإلهية، وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه المثابة وفوق ذلك، وبعده سيد

ص:208

العابدين على ابن الحسين (عليهم السلام) كان ذلك لتفرغ قلبه الطاهر عن أشغال الدنيا وصرف همته إلى الطاعات وفعل الخيرات، وفيه تنبيه للغافلين وإيقاظ لهم عن نوم الغفلات، وترغيب في فعل العبادات.

* الأصل:

173 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن ولي علي (عليه السلام) لا يأكل إلا الحلال لأن صاحبه كان كذلك وإن ولي عثمان لا يبالي أحلالا أكل أو حراما لان صاحبه كذلك، قال: ثم عاد إلى ذكر علي (عليه السلام) فقال: أما والذي ذهب بنفسه ما أكل من الدنيا حراما، قليلا ولا كثيرا حتى فارقها ولا عرض له أمران كلاهما لله طاعة إلا بأشدهما على بدنه، ولا نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله) شديدة قط إلا وجهه فيها ثقة به، ولا أطاق أحد من هذه الامة عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده غيره ولقد كان يعمل عمل رجل كأنه ينظر إلى الجنة والنار، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله كل ذلك تحفي فيه يداه وتعرق جبينه التماس وجه الله عز وجل والخلاص من النار وما كان قوته الخل والزيت وحلواه التمر إذا وجده وملبوسه الكرابيس فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجلم فجزه.

* الشرح:

قوله: (إن ولي علي (عليه السلام) لا يأكل إلا الحلال. اه) دل على أن آكل الحرام ليس بولي علي بل هو ولي لعثمان، لأن من اقتفى أثر أحد فهو منه) ولا عرض له أمران كلاهما لله طاعة إلا أخذ بأشدهما (1) على بدنه) لطلب الأفضل كما روي «أفضل الأعمال أحمزها» ولمخالفة النفس وهواها لأن النفس مائلة إلى الأسهل، واحترز بقوله كلاهما طاعة عما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز تعذيب النفس بغير طاعة (ولقد كان يعمل عمل رجل كأنه ينظر إلى الجنة والنار) شبه رؤيته القلبية البالغة مرتبة عين اليقين برؤيته العينية في الجلاء وانكشاف الخفاء باعتبار أن أجلى المعلومات هو المحسوسات وإليه أشار (عليه السلام) بقوله «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» إذ يقينه لما كان في نهاية الكمال لا يتصور فيه الزيادة والنقصان، فهو قبل المشاهدة العينية كهو بعدها، ومن

ص:209


1- 1 - قوله «إلا أخذ بأشدهما» زعم بعض الناس أنه ليس سعادة فوق اجتناب المحرمات وأداء الواجبات ولا يزيد بالنوافل شيء يعتد به، وكذلك بالزهد والرياضة وإنما الواجب والحرام بمنزلة القوت الضروري لأفقر الفقراء في الدنيا لا يحصل بها الإنسان في الآخرة الأعلى أقل الدرجات (ش).

البين أن من بلغ هذه المرتبة لا يترك شيئا من الخيرات، (ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله كل ذلك تحفي فيه يداه) الحفارقة:القدم والخف والحافر من كثرة المشي، والإحفاء والتحفي: المبالغة في العمل فالفعل إما مجرد أو مزيد من باب الأفعال أو التفعل (وما كان قوته إلا الخل والزيت) لعل المراد بالقوت: الأدم ولا يتوهم أنه (عليه السلام) لم يجد غيره لأن من أعتق الف مملوك من صلب ماله وتصدق أموالا جزيلة لوجه الله تعالى لا يتصور فيه ذلك بل لأن ذلك أصلح في تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة وتزكيتها وتبعيدها عن أهوائها، ولتسلية نفوس الفقراء الذين لا يجدون الأطمعة اللذيذة والادم النفيسة، وتنبيههم على أن الضروري من الطعام ما تقوم به البنية، وتبقي معه الحياة، (وحلواه التمر) إذا وجده والحلواء ويقصر معروف والفاكهة الحلوة (وملبوسه الكرابيس) في المصباح، الكرباس:

الثوب الخشن، وهو فارسي عرب بكسر الكاف والجمع: كرابيس، وينسب إليه بياعه فيقال كرابيسي (فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجلم فجزه) الجلم بالتحريك: ما يجز به الشعر والصوف كالمقراض، وإنما جزه لأن تطويل جيب القميص وكمه مذموم شرعا لدلالته على الخيلاء والتجبر عند العرب وقد روي عن طريق العامة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إزرة المؤمن على انصاف ساقيه، ثم قال: ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعب وما أسفل من ذلك ففي النار» ونقلوا أن إطالة الكم أن يتجاوز عن طرف الأصابع، فجز الفضل هنا يحتمل جز ما زاد على الأصابع وجز ما زاد على الكعبين أو على نصف الساق، والأول أصح لأنه قد مر «أن قميصه (عليه السلام) إذا جاز أصابعه قطعة وإذا جاز كعبة حذفه».

* الأصل:

174 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن يونس بن يعقوب، عن سليمان بن خالد، عن عامل كان لمحمد بن راشد قال: حضرت عشاء جعفر بن محمد (عليه السلام) في الصيف فأتى بخوان عليه خبز وأتى بجفنة فيها ثريد ولحم تفور فوضع يده فيها فوجدها حارة ثم رفعها وهو يقول: نستجير بالله من النار، نعوذ بالله من النار، نحن لا نقوى على هذا فكيف النار، وجعل يكرر هذا الكلام حتى أمكنت القصعة فوضع يده فيها ووضعنا أيدينا حين أمكنتنا فأكل وأكل وأكلنا معه، ثم إن الخوان رفع فقال: يا غلام ائتنا بشيء فاتي بتمر في طبق فمددت يدي فإذا هو تمر، فقلت: أصلحك الله هذا زمان الأعناب والفاكهة؟ قال: إنه تمر، ثم قال: ارفع هذا وأتنا بشيء فاتي بتمر فمددت يدي فقلت: هذا تمر؟ فقال: إنه طيب.

ص:210

* الشرح:

قوله: (فأتى بخوان) الخوان: كغراب وكتاب ما يؤكل عليه الطعام، والجفنة بالفتح: كالقصعة وفي كنز اللغة جفنة «كاسه چوبين» والفور: الغليان (قال: إنه تمر) هذا إما استفهام أو خبر لبيان أنه أشرف مما ذكر، وأمره بالرفع لرعاية جانب الضيف وشهوته، ولعل الآتي الثاني غير الأول فأتى بالتمر لعدم علمه بأن الأول أتى به مع احتمال أن يكون الأول وأتى به ثانيا لعدم وجود غيره من الأعناب والفواكه التي اشتهاها الضيف (فقال علي (عليه السلام): إنه طيب) جيد بعد الطعام أحسن من الفواكه فيدل على أنه ينبغي إظهار ما حضر في البيت للضيف من غير تكلف.

* الأصل:

175 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) متكئا منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضة تواضعا لله عز وجل وما رأى ركبتيه أمام جليسه في مجلس قط ولا صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا قط فنزع يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده ولا كافأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيئة قط قال الله تعالى له: «ادفع بالتي هي أحسن السيئة» ففعل، وما منع سائلا قط، إن كان عنده أعطى وإلا قال: يأتي الله به، ولا أعطى على الله عز وجل شيئا قط إلا أجازه الله إن كان ليعطي الجنة فيجيز الله عز وجل له ذلك قال: وكان أخوه من بعده والذي ذهب بنفسه ما أكل من الدنيا حراما قط حتى خرج منها والله كان ان ليعرض له الأمران كلاهما لله عز وجل طاعة فيأخذ بأشد هما على بدنه، والله لقد أعتق ألف مملوك لوجه الله عز وجل دبرت فيهم يداه، والله ما أطاق عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده أحد غيره والله ما نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله) نازلة قط إلا قدمه فيها ثقة منه به وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليبعثه برايته فيقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ثم ما يرجع حتى يفتح الله عز وجل له.

* الشرح:

قوله: (ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) متكئا) الأكل متكئا وإن جاز كما مر لكن الأفضل تركه تعظيما للنعمة والمنعم، ألا ترى أن من أكل متكئا في مائدة رجل جليل القدر ذمه أهل العرف وعده محقرا لها ولصاحبها وإن لم يكن قصده التحقير (وما رأى ركبتيه أمام جليسه) لتبعيد نفسه، عن أثر التكبر وتعظيم جليسه والظاهر أن رأى معلوم والفاعل هو الرسول أو غيره لا مجهول وإلا لكان ركبتاه بالرفع (قال الله له ادفع بالتي هي أحسن السيئة) ففعل ما أمره الله تعالى به من مقابلة السيئة

ص:211

التي وقعت بالنسبة إليه بالعفو والصفح والإحسان فهو أحسن من المؤاخذة بمثلها وإن كانت جائزة لقوله تعالى (فاعتدوا بمثل ما اعتدى عليكم) وهذا التفسير لا ينافي ما مر من تفسير الإحسان بالتقية لأن الآية قد يكون لها وجوه متعددة (والله لقد أعتق ألف مملوك لوجه الله عز وجل دبرت فيهم يداه) الدبر: محركة: القرحة وفعله كفرح (ما نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله) نازلة قط إلا قدمه فيها) حروبه وقتاله (عليه السلام) مع الأعداء، وإقدامه على النوازل والحوادث وشجاعته ونصرته للرسول والمؤمنين بين العامة والخاصة مشهورة، وفي كتب السير والأخبار مذكورة، وقد نادى جبرئيل (عليه السلام) يوم أحد «لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار».

* الأصل:

176 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن زيد بن الحسن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان علي (عليه السلام) أشبه الناس طعمة وسيرة برسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم، قال: وكان علي (عليه السلام) يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة (عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز وترقع، وكانت من أحسن الناس وجها كأن وجنتيها وردتان صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وولدها الطاهرين.

* الشرح:

قوله: (كان علي (عليه السلام) أشبه الناس طعمة وسيرة برسول الله (صلى الله عليه وآله). اه) الطعمة بالضم: المأكلة: وهي ما يؤكل، والسيرة: الطريقة والهيئة والحالة (كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم اه) فيه تنبيه على رياضة النفس وحملها على الرياضة وقلة الأكل والاعتبار بالجشب من الطعام وإيثار الأحسن منه والعمل لنفسه وترك الاستنكاف منه (وكانت فاطمة (عليها السلام) تطحن) طحنت البر طحنا من باب نفع فهو طحين ومطحون (وتعجن) عجنته عجنا، من باب ضرب ونصر فهو معجون وعجين اعتمدت عليه بجمع الكف والغمز فيه، وأصل العجن: الاعتماد ومنه قيل للمسن الكبير إذا اعتمد بيده على الأرض عند القيام عاجن (وتخبز) خبزت الخبز من باب ضرب: صنعته ( وترقع) رقعت الثوب من باب منع: أصلحته بالرقعة وهي بالضم ما يرقع به الثوب والجمع: الرقاع بالكسر وفيه تسلية للمؤمنين والمؤمنات في تحمل أعمال أنفسهم (كان وجنتيها وردتان) الوجنة مثلثة وككلمة: ما ارتفع من الخدين.

* الأصل:

177 - سهل بن زياد، عن الريان بن الصلت، عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز

ص:212

وجل لم يبعث نبيا قط إلا صاحب مرة سوداء صافية، وما بعث الله نبيا قط حتى يقر له بالبداء.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل لم يبعث نبيا قط إلا صاحب مرة سوداء) صافية عن كدرة لذات الدنيا ورذايل النفس من الحسد والنفاق والغلظة وغيرها، والمرة بالكسر: مزاج من أمزجة البدن والقوة والشدة أيضا، فيمكن أن يراد بها الخلط الأسود الصافي كما صرح به بعض الأفاضل وقال: إنه أصلح وأنفع بحال الإنسان في حدة الطبع ودقة النظر، وأن يكون كناية عن القوة الغضبية الصافية عن رذيلتي الإفراط والتفريط ويعبر عنه بالشجاعة. (وما بعث الله نبيا حتى يقر له بالبداء) البداء بالفتح والمد: إيجاد الأشياء كل شيء في وقته بتقدير وتدبير وإرادة حادثة لمصلحة لا يعلمها إلا هو، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أنه لو علم الناس ما في البداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» أقول لأن فيه اعترافا بسلطانه تعالى وتقديره وتدبيره وقدرته على إيجاد الحوادث واختياره في إفاضة الوجود واقتداره على إعدام ما أراد عدمه وابقاء ما أراد بقاؤه، وخروجا عن قول اليهود القائلين بأنه قد فزغ من الأمر فراغا لا يريد ولا يقدر ولا يدبر بعده شيئا، وعن قول الحكماء القائلين بأنه واحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وعن قول المعتزلة القائلين بأنه خلق الأشياء كلها دفعة ثم يظهر وجوداتها متعاقبة بحسب تعاقب الأزمنة، وعن قول الدهرية القائلين بأن الجالب للحوادث هو الدهر وعن قول الملاحدة القائلين بأن المؤثر هو الطبايع.

* الأصل:

178 - سهل، عن يعقوب بن يزيد، عن عبد الحميد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما نفروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ناقته قالت له الناقة والله لا أزلت خفا عن خف ولو قطعت إربا إربا.

* الشرح:

قوله: (لما نفروا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ناقته قالت له الناقة والله لا زلت خفا عن خف ولو قطعت إربا إربا) لما نفر المنافقون ناقته بالدباب في العقبة المعروفة تكلمت الناقة بإذن الله تعالى وقالت له هذا القول وأخبرته بمكرهم، والإرب: العضو، والقضية مذكورة في كتاب الاحتجاج للطبرسي مفصلة، وفيه أيضا: أن عليا حينئذ كان في المدينة بأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، وبعض المنافقين معه حفروا بئرا في طريقه وطمسوا رأسها فلما بلغ فرسه قريبا منها لوى عنقه وأخبره بالبئر وكانت هذه القضية مقارنة لقضية تنفير الناقة فنزل جبرئيل (عليه السلام) وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بما فعلوا بعلي (عليه السلام).

ص:213

* الأصل:

179 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد جميعا، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: يا ليتنا سيارة مثل آل يعقوب حتى يحكم الله بيننا وبين خلقه.

* الشرح:

قوله (يا ليتنا سيارة مثل آل يعقوب حتى يحكم الله بيننا وبين خلقه) كما حكم بين آل يعقوب بإظهار يوسف في كمال القوة والقدرة والسلطنة على أحبائه، والسيارة: القافلة ولعل المراد بهم من دخلوا عليه حتى عرفوه وأخبروا بحاله وموضعه يعقوب، وقد تمنى (عليه السلام) ظهور المهدي المنتظر في وقته وأخبار المخبرين به ليستولي على أعدائه ويظهر دين آبائه على الأديان الباطلة كلها.

* الأصل:

180 - سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن إسماعيل بن قتيبة، عن حفص بن عمر، عن إسماعيل بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل يقول: إني لست كل كلام الحكيم أتقبل إنما أتقبل هواه وهمه فإن كان هواه وهمه في رضاي جعلت همه تقديسا وتسبيحا.

* الشرح:

قوله: (ان الله عز وجل يقول لست كل كلام الحكمة أتقبل، إنما أتقبل هواه وهمه) ضمير هواه وهمه راجع إلى المتكلم المفهوم من الكلام، والهم: العزم، والقصد: الإرادة، والمراد أن التكلم بالحكمة والقوانين الشرعية والأقوال الصحيحة الثابتة لا ينفع المتكلم ما لم تكن نيته خالصة صادقة وقصده صحيحا وإرادته متعلقة بمراد الله تعالى ورضاه فإنه تعالى لا ينظر إلى الصورة الظاهرة وإنما ينظر إلى الصورة الباطنة ويجزي عليها ويثبت بها كما أشار إليه بقوله (فإن كان هواه وهمه في رضاي جعلت همه تسبيحا وتقديسا) وأثيب به ثوابا جزيلا مضافا على ثواب ما صدر منه ظاهرا وإلا فلا ثواب له وعليه عقوبة النفاق وفيه تنبيه على أنه ينبغي لكل عاقل من تصحيح قلبه أو لا وجعل ظاهره موافقا لباطنه.

* الأصل:

181 - سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» قال: خسف

ص:214

ومسخ وقذف، قال: قلت: حتى يتبين لهم؟ قال: دع ذا، ذاك قيام القائم.

* الشرح:

قوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق قال خصف ومسخ وقذف) خسف المكان خسفا: من باب ضرب: غار في الأرض وخسفه الله يتعدى ولا يتعدى وأسامة الخسف أولاه الذل والهوان ومسخه الله مسخا حول صورته إلى صورة أقبح منها، وقذفه قذفا رماه بالحجارة، والظاهر أن هذه الثلاثة بيان للآيات في النفس، وأما الآيات في آفاق الأرض ونواحيها فيحتمل أن يكون الفتوحات التي تقع على يد الصاحب (عليه السلام)، والضمير في أنه راجع إلى القائم (عليه السلام) أو إلى قيامة أو إلى دينه كما أشار إليه.

* الأصل:

182 - سهل، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار وابن سنان وسماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طاعة علي ذل ومعصيته كفر بالله، قيل: يا رسول الله كيف تكون طاعة علي ذلا ومعصيته كفرا بالله؟ فقال: إن عليا يحملكم على الحق فإن أطعتموه ذللتم وإن عصيتموه كفرتم بالله.

* الشرح:

قوله: (طاعة علي ذل ومعصية كفر) الذل بضم الذال: «خوار شدن» وبكسرها «رام شدن ونرم شدن» كذا في كنز اللغة، والظاهر هنا هو الأول والمراد به: الذل عند الناس وقد وقع ما أخبر به (صلى الله عليه وآله) إلى ظهور القائم (عليه السلام) لأنهم يقتلون من أطاعه ويأسرون ويعدون ذلك موجبا للاجر كما قتلوا وأسروا في سالف الزمان.

* الأصل:

183 - عنه، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، أو غيره قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن بنو هاشم وشعيتنا العرب وسائر الناس الأعراب.

* الشرح:

قوله: (نحن بنو هاشم وشيعتنا العرب وسائر الناس الأعراب) لعل المراد أن الشيعة عرب بعد الموت يتكلمون بلسان العرب وسائر الناس وهم المخالفون كفار من العجم بقرينة الحديث التالي شبههم بالاعراب الذين قال الله تعالى في ذمهم «الأعراب أشد كفرا ونفاقا» وهم يتكلمون في

ص:215

القيامة بلسان الفرس، يدل على ذلك ما رواه المصنف في مولد أمير المؤمنين (عليه السلام) بإسناده عن عيسى شلقان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) له خؤلة في بني مخزوم وإن شابا منهم أتاه فقال: يا خالي إن أخي مات وقد حزنت عليه حزنا شديدا، قال: فقال له: أتشتهي أن تراه؟ قال: بلى قال: فأرني قبره، قال: فخرج ومعه بردة رسول الله (صلى الله عليه وآله) متزرا بها فلما انتهى إلى القبر تلملمت شفتاه ثم ركضه برجله فخرج من قبره وهو يقول بلسان الفرس فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ألم تمت وأنت رجل من العرب؟ قال: بلى، ولكنا متنا على سنة فلان وفلان فانقلبت ألسنتنا»، واحتمال كون المراد أن الشيعة كأهل الأمصار في كونهم من أهل العلم والدين والإيمان والمخالفون كأهل البادية في كونهم من أهل الجهل والكفر والخذلان بعيد.

* الأصل:

184 - سهل، عن الحسن بن محبوب، عن حنان، عن زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قريش وشيعتنا العرب وسائر الناس علوج الروم.

* الشرح:

قوله (نحن قريش وشيعتنا العرب وسائر الناس علوج، العلوج: كالاعلاج جمع علج بالكسر وهو الرجل من كفار العجم وبعض العرب يطلق العلج على الكافر مطلقا.

* الأصل:

185 - سهل، عن الحسن بن محبوب، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كأني بالقائم (عليه السلام) على منبر الكوفة عليه قباء فيخرجون من وريان قبائة كتابا مختوما بخاتم من ذهب فيفكه فيقرأه على الناس فيجفلون عنه إجفال الغنم فلم يبق إلا النقباء فيتكلم بكلام فلا يلحقون ملجأ حتى يرجعوا إليه وإني لأعرف الكلام الذي يتكلم به.

* الشرح:

قوله: (كأني بالقائم (عليه السلام) على منبر الكوفة عليه قباء فيخرج من وربان قبائه كتابا مختوما. اه) الكاف في كأني: للتشبيه وخبر أن محذوف والباء بمعنى مع أي كأني كائن مع القائم (عليه السلام) وناظر إليه، فقد شبه حالته العلمية بحالته البصرية في تحقق وقوعها وتيقنه ويحتمل إرادة المماثلة بين الحالتين من غير تشبيه إحداهما بالأخرى، وقوله «على منبر الكوفة» حال عن القائم (عليه السلام) وقوله « عليه قباء» حال بعد حال، والوربان بالكسر الجيب، وكأنه معرب كريبان (فيجفلون عنه أجفال

ص:216

الغنم) جفل الناس واجفلوا وانجفلوا: أي ذهبوا مسرعين، وفي المصباح جفل الشيء جفلا من بابي ضرب وقعد ند وشرد فهو جافل وجفال مبالغة، وجفلت الطائر أيضا: نفرته، وفي طاوعه فأجفل هو بالألف جاء الثلاثي متعديا والرباعي لازما عكس المشهور يقال: أجفل القوم وانجفلوا وتجفلوا أسرعوا الهرب (فلم يبق النقباء) أي الأشراف من الشيعة وفي المصباح نقب على القوم من باب قتل نقابة بالكسر فهو نقيب أي عريف والجمع نقباء.

* الأصل:

186 - سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن ابن سنان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحكمة ضالة المؤمن فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها.

* الشرح:

قوله: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها) المراد بالحكمة العلم بالمعارف الإلهية التي تفيد البصيرة التامة، في أمر الدين، وقيل: هي نفس تلك البصيرة، ومن ثم قيل الحكمة: نور يهدي الله به من يشاء. والمعنى أن الحكمة ضالة المؤمن ومطلوبة له، فإذا وصل إليها ووجدها استقر قلبه وأخذها، وهو أولى بها كالضالة إذا وجدها صاحبها فإنه يأخذها وهو أولى بها من غيره، أو المراد أن الناس متفاوتون في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة واستكشاف الأمور المرموزة فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك حقائق الآيات ودقائق الروايات على من رزق فهما وألهم تحقيقا وإن لم يكن أهلا لها كما أن صاحب الضالة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده، كذلك المؤمن والحكيم لا ينظر إلى خساسة من يتكلم بالحكمة بالنظر إليه بل يأخذها منه أخذ الضالة، وفيه ترغيب على تعلم الحكمة ولو كان المعلم دونه في الدين والشرف والرتبة في العلم والعمل ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما نقل عنه السيد رضى الدين في نهج البلاغة: «خذ الحكمة أنى كانت فإن الحكمة تكون في صدر المنافق تضطرب في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن».

وقال أيضا: «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق» وفي كتب العامة «الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها فهو أحق بها»، وقيل: المراد كما أن الرجل إذا وجد ضالة في مضيعة فسبيله أن لا يتركها بل يأخذ ويتفحص عن صاحبها حتى يجده فيرد ما عليه كذلك من سمع كلاما لم يفهم معناه أو لا يبلغ منهه ومغزاه فعليه أن لا يضيعه ويحمله إلى من هو أفقه منه

ص:217

فلعله يفهم منه مالا يفهمه ويستنبط منه ما لا يستنبطه، أو المراد كما أن صاحب الضالة أخذ ضالته ممن يجدها ولا يحل له منع مالكها منها فإنه أحق بها، كذلك العالم إذا سئل عن معنى ورأى في السايل فطانة واستعدادا لذلك العلم فعليه أن يعلمه إياه ولا يحل له منعه منه والأول أنسب.

* الأصل:

187 - سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد أو غيره، عن سليمان كاتب علي بن يقطين، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين (عليه السلام) وابنته جعدة سمت الحسن (عليه السلام) ومحمد ابنه شرك في دم الحسين (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين (عليه السلام)) قال العلامة في الخلاصة نقلا عن الشيخ: إن الأشعث بن قيس الكندي أبو محمد سكن الكوفة ارتد بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في ردة أهل ياسر، وزوجه أبو بكر أخته أم فروة، وكانت عوراء فولدت له محمدا وكان من أصحاب علي (عليه السلام) ثم صار خارجيا ملعونا، أقول: إن الأشعث هو الذي أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم ليحث عساكر أمير المؤمنين (عليه السلام) على الرضا بالتحكيم فأغراهم عليه حتى فعلوا ما فعلوا.

* الأصل:

188 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن صباح الحذاء عن أبي اسامة قال: زاملت أبا عبد الله (عليه السلام) قال: فقال لي: اقرأ] قال [: فافتتحت سورة من القرآن فقرأتها فرق وبكى، ثم قال: يا أبا اسامة ارعوا قلوبكم بذكر الله عز وجل واحذروا النكت فإنه يأتي على القلب تارات أو ساعات (الشك من صباح) ليس فيه إيمان ولا كفر شبه الخرقة البالية أو العظم النخر. يا أبا اسامة أليس ربما تفقدت قلبك فلا تذكر به خيرا ولا شرا ولا تدري أين هو؟ قال:

قلت له: بلى إنه ليصيبني وأراه يصيب الناس قال: أجل ليس يعرى منه أحد. قال فإذا كان ذلك فاذكروا الله عز وجل واحذروا النكت فإنه إذا أراد بعبد خيرا نكت إيمانا وإذا أراد به غير ذلك نكت غير ذلك ، قال: قلت: ما غير ذلك جعلت فداك] ما هو [؟ قال: إذا أراد كفرا نكت كفرا.

* الشرح:

قوله: (ارعوا قلوبهم بذكر الله عز وجل) أمر بمراعاة أحوال القلوب وحفظها بذكر الله تعالى عن السهو والغفلة فإن في غفلتها مفاسد ولذلك قال: (واحذروا النكت) أصل النكت أن يضرب

ص:218

في الأرض بقضيب فيؤثر فيها، والمراد به دخول شيء من المفاسد فيه كالكفر ونحوه فيتأثر به ومنه النكتة وهو النقطة وشبه الوسخ (فإنه يأتي على القلب تارات الخ) جمع تارة: وهي الحين والمرة، والمراد بها ساعة الغفلة عن ذكره تعالى والاشتغال بما سواه ليس فيه إيمان ولا كفر، دل على أن الكفر وجودي وهو الانكار إذ لو كان عدميا كما قيل وهو عدم الايمان لما انتفيا معا (شبه الخرقة البالية أو العظم النخر) النخر: ككتف، والناخر: البالي المتفتت، وفيه تشبيه معقول بمحسوس لقصد الإيضاح والتشويه والوجه هو الكثافة والرثاتة (فإنه إذا أراد بعبد خيرا نكت ايمانا وإذا أراد به غير ذلك نكت غير ذلك) لعل المراد بالخير اللطف والتوفيق وهو فعل صادر منه تعالى تابع لعلمه بحسن استعداد العبد لقبوله وبقاء فطرته الأصلية على نحو من الكمال، ويظهر منه حال قرينه فلا يرد أنه تعالى أراد خير كل العبد لأن المراد بهذا الخير أعمالهم الصالحة وفيه توجيه آخر ذكرناه في شرح الأصول.

(قال: قلت: وما غير ذلك جعلت فداك ما هو؟ قال: إذا أراد كفرا نكت كفرا) إن قلت: هل فيه دلالة على أن الإيمان والكفر من فعله تعالى كما هو مذهب الأشاعرة أم لا؟ قلت: لا، لأن هذا القلب الغافل لا محالة، إما أن يعود إلى الإيمان باختياره أو إلى الكفر باختياره، فإن عاد إلى الأول كان في علمه السابق الأزلي إيمانه، وإن عاد إلى الثاني كان فيه كفره فأراد عز وجل إيمانه أو كفره بالعرض ليطابق علمه بمعلوم إلا أن بين الإيمان والكفر فرقا وهو أنه تعالى أراد إيمانه بالذات أيضا دون كفره ولما كان صدورهما من هذا الغافل بإرادته تعالى بالعرض نسب نكتهما إليه بهذا الاعتبار وهو لا يستلزم صدورهما منه تعالى، وهذا هو المراد من قول أبي عبد الله (عليه السلام) في آخر حديث طويل «علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه فيهم» وليست إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار وإن أردت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في شرح أحاديث باب الاستطاعة من كتاب التوحيد، ولنا توجيه آخر ذكرناه في باب سهو القلب من كتاب الإيمان والكفر، وحاصله أنه سبحانه وكل على القلب ملكا يهديه ويرشده إلى الخير وشيطانا يضله ويرشده إلى الشر كما دلت عليه الروايات المعتبرة المذكورة في كتاب المذكور فإن تابع الأول يعود إلى الإيمان وإن تابع الثاني يعود إلى الكفر وبهذا الاعتبار كانت تلك النكتة منه تعالى والله أعلم.

* الأصل:

189 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا عن زيد الشحام، عن عمرو بن سعيد بن هلال قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني لا أكاد ألقاك إلا في السنين فأوصني بشيء آخذ به، قال: اوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والورع والاجتهاد

ص:219

واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع معه، وإياك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، وكفى بما قال الله عز وجل لرسوله (صلى الله عليه وآله): «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم» وقال الله عز وجل لرسوله: «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا» فإن خفت شيئا من ذلك فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنما كان قوته الشعير وحلواه التمر ووقوده السعف إذا وجده وإذا اصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله (صلى الله عليه وآله) فان الخلق لم يصابوا بمثله (صلى الله عليه وآله) قط.

* الشرح:

قوله: (اوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والورع والاجتهاد) أوصاه بأربع خصال مشتملة على جميع ما هو مطلوب من الإنسان: الأولى: التقوى: وهي ملكة تورث الخوف من الله تعالى والاجتناب عن المحارم والإتيان بوظائف الطاعات كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «عباده الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه وألزمت قلوبهم مخافته حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم، الحديث» الثانية: صدق الحديث النافع في الدنيا والآخرة، وهو من توابع العدل المتوقف على استقامة القوى العقلية والغضبية والشهوية، إذ لو فسدت أحداهما وقع الكذب في اللسان كثيرا، الثالثة: الورع وهو ملكة التحرز عن المشتهيات ولذات الدنيا وإن كانت مباحة، الرابعة: الاجتهاد في العلم والعمل (وأعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع معه) لأن الخير المختلط بشر شران ساويا أو زاد الشر ومشوب مختلط إن زاد الخير، والله سبحانه لا يتقبل إلا الخالص، ولأن الاجتهاد ميل إلى الآخرة وترك الورع ميل إلى الدنيا فيذهب هذا بذاك، ومن ثم قيل الميل إلى الدنيا والآخرة لا يجتمعان. (وإياك أن تطمح نفسك إلى من فوقك)، طمح بصره إليه من باب منع:

امتد وارتفع وأشرف، وأصله قولهم: جبل طامح: أي طائل مشرف وفيه تحذير للانسان من أن ينظر إلى من فوقه ويتمنى ما عنده من نعمه ومتاع الدنيا ويطلب اللحاق به، لأنه ربما يقع في الحرام ولا يبالي ويشقى بذلك وربما لا يتيسر له اللحاق فيموت غما أو حسدا، وهو على التقديرين يبعد من الدين ويصير من الهالكين وإذا نطر إلى من هو دونه عرف قدر نعمه الله عليه والتزم شكر المنعم وطاعته، هذا حال الناظر إلى متاع الدنيا وأما الناظر إلى الطاعة والعلم والزهد ينبغي أن يكون الأمر بالعكس (وكفى بما قال الله عز وجل لرسوله (صلى الله عليه وآله) (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) كفى هذا القول الكريم زجرا عن الطموح ومنعا من النظر والأشرف إذا المقصود منه نصيحة الأمة إذ قدس ذاته (صلى الله عليه وآله) ارفع من أن ينظر إليهم ويتمنى ما هم عليه من النعمة الفانية، ولو فرض أنه المقصود من

ص:220

هذه النصيحة فغيره أولى بها ( وقال الله عز وجل (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا)) نصب زهرة بمقدر دل عليه المذكور وهو متعنا وفيه وجوه آخر ذكرها المفسرون وإنما نهاه (صلى الله عليه وآله) عن مد النظر إلى ما متع به أصنافا من الكفرة وغيرهم من زهرة الدنيا وزينتها وتمنيه أن يكون له مثله لأن ذلك يوجب فساد القلب وحب الدنيا وكثرة الذنوب والبعد عن الآخرة التي هي دار المتقين (فإن خفت شيئا من ذلك) أي من الطموح ومد العينين (فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله). آه) الوقود كالصبور: الحطب والسعف، محركة جريد النخل أو ورقة أمر بذلك فإن ذكر عيشه وقناعته وصبره على الجوع وتركه الدنيا ولذات نعيمها مع أن الدنيا وما فيها خلقت له يسهل الصبر على ضنك المعيشة والإعراض عن زهرات الدنيا ويزيل حبها عن القلب (وإذا أصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله (صلى الله عليه وآله)) بذلك يسهل الصبر على المصيبة الحاضرة لأن المصيبة الصغرى لاقدر لها عند المصيبة الكبرى وفيه حث على الصبر في مواطن المكروه وزجر عن الجزع منه بتذكر تلك المصيبة التي لا أعظم منها ومن المجرب أن تذكر المصائب الواردة على الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) هانت له صورة مصائب الدنيا كلها.

* الأصل:

190 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن السري، عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بنا ذات يوم ونحن في نادينا وهو على ناقته وذلك حين رجع من حجة الوداع فوقف علينا فسلم فرددنا (عليه السلام)، ثم قال: مالي أري حب الدنيا قد غلب على كثير من الناس حتى كأن الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأن الحق في هذه الدنيا على غيرهم وجب، وحتى كأن لم يسمعوا ويروا من خبر الأموات قبلهم، سبيلهم سبيل قوم سفر عما قليل إليهم راجعون، بيوتهم أجداثهم ويأكلون تراثهم، فيظنون أنهم مخلدون بعد هم هيهات هيهات] أ [ما يتعظ آخر هم بأولهم لقد جهلوا ونسوا كل واعظ في كتاب الله وأمنوا شر كل عاقبة سوء ولم يخافوا نزول فادحة وبوائق حادثة.

طوبى لمن شغله خوف الله عز وجل عن خوف الناس.

طوبى لمن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه.

طوبى لمن تواضع لله عز ذكره وزهد فيما أحل الله له من غير رغبة عن سيرتي ورفض زهرة الدنيا من غير تحول عن سنتي واتبع الأخيار من عترتي من بعدي وجانب أهل الخيلاء ولا تفاخر والرغبة في الدنيا، المبتدعين خلاف سنتي العاملين بغير سيرتي.

طوبي لمن اكتسب من المؤمنين مالا من غير معصية فأنفقه في غير معصية وعاد به على أهل

ص:221

المسكنة، طوبى لمن حسن مع الناس خلقه وبذل لهم معونته وعدل عنهم شره، طوبى لمن أنفق القصد وبذل الفضل وأمسك قوله عن الفضول وقبيح الفعل.

* الشرح:

قوله: (مالي أرى حب الدنيا قد غلب على كثير من الناس، هذا حال أكثر كل عصر لغموض أمر الآخرة وخفاء أحوالها مع اغماضهم عين البصيرة عنها وظهور أمر الدنيا ونعيمها، مع ميل طبايعهم إليها وضعف عقولهم عن ادراك قبايحها وكشف مفاسدها، فصار ذلك سببا لحب الدنيا وترك الآخرة (حتى كأن الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب)، لكون حالهم شبيهة بحال من يظن ذلك، وفيه تنبيه على أن تذكر الموت الباعث على فراق الدنيا والورود في الآخرة موجب لهوان الدنيا وما فيها ولذلك ورد في روايات كثيرة الحث على تذكره (وكان الحق في هذه الدنيا على غيرهم وجب) الظاهر أن المراد بالحق: حق الله تعالى وآدابه وأحكامه الدينية المتعلقة بكيفية العلم والعمل وتخصيصه بالموت بعيد (وحتى كأن لم يسمعوا ويروا من خبر الأموات قبلهم)، السماع بالنسبة إلى من مات من السابقين والغائبين والرؤية بالنسبة إلى من مات من الحاضرين وفيه توبيخ بترك العبرة بحالهم حيث كانوا في الدنيا فماتوا وتركوا ما في أيديهم اضطرارا وسكنوا قبورهم معذبين بعذاب أليم إلا من أتى الله بقلب سليم.

(سبيلهم سبيل قوم سفر عما قليل إليهم راجعون) سفر الرجل سفرا من باب طلب: خرج للارتحال فهو مسافر، والجمع سفر، مثل راكب وركب وصاحب وصحب، وفيه تنبيه على سرعة زوال العمر ورجوع الباقين إلى الماضين وترغيب في العمل لما بعد الموت وترك حب الدنيا وزهراتها المانعة عن الاستعداد لما ينفع بعده (بيوتهم أجداثهم ويأكلون تراثهم فيظنون أنهم مخلدون بعدهم هيهات هيهات) أي بعد هذا الظن عن الصواب والتكرير للمبالغة، والجدث القبر والجمع أجداث مثل سبب وأسباب وفيه تنفير عن الدنيا وتزيين البيوت فيها لأن من علم أنه يسكن هذا البيت الضيق المظلم وهو القبر في زمان طويل لا يعلم طوله إلا الله يسهل عليه ترك الدنيا الفانية بحذافيرها فضلا عن بيت وصرف العمر في تحصيل ما يحتاج إليه البيت (أما يتعظ آخرهم بأولهم) فليقدر الآخر نفسه كالأول في أنه سكن الدنيا لحظة وارتحل إلى الآخرة دفعة (ونسوا كل واعظ في كتاب الله تعالى) واعظ بليغ يعظهم بفناء الدنيا وخساسة متاعها واهلاكها السابقين بالركون إليها، ويدعوهم إلى التذكر للموت والعمل لما بعده وغير ذلك من المنفرات عن الدنيا

ص:222

والمرغبات للآخرة (وآمنوا شر كل عاقبة سوء) لاحقه بهم في الدنيا للركون إليها وفي الآخرة بالإعراض عنها وترك العمل لها، وفيه ترغيب في الأعمال الصالحة وترك لوازم حب الدنيا لتحصيل النجاة من سوء العاقبة (ولم يخافوا نزول فادحة وبوائق حادثة) الفادحة: النازلة الثقلية، وفوادح الدهر: خطوبه، فدح كمنع ثقل والظاهر أن بوائق عطف على نزول لا على فادحة لأن ذكر حادثة يتأبى عنه والبائقة: النازلة: وهي الداهية والشر الشديد، يقال: باقت الداهية إذا نزلت والجمع البوائق، وفي ذكر عدم الخوف مما ذكر ترغيب في الخوف منه وتنفير عن تركه المستلزم للميل إلى الدنيا والمعاصي التابعة لها.

(طوبى لمن شغله خوف الله عز وجل عن خوف الناس)، أي الجنة أو طيب العيش في الدنيا والآخرة له، وفيه حث على الخوف من عذاب الله لأنه الموجب للامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وزجر عن خوف الناس لأنه يوجب التشبث بأطوارهم والتباعد عن خوف الله تعالى (طوبى لمن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه)، حرض المكلف على الاشتغال بعيوب نفسه واصلاحها والإعراض عن ذكر عيب غيره من المؤمنين خليقتة كانت أو كسبية إلا ما استثنى، وخص ذلك بالمؤمن إذ لا حرمة للكافر (طوبى لمن تواضع لله عز وجل) بالعبادة مع التذلل والخشوع له (وزهد فيما أحل الله له) من متاع الدنيا لعلمه بأنه يشغله عن الله تعالى وعن أمر الآخرة، والزهد في الشيء خلاف الرغبة فيه وفعله من باب منع وسمع وكرم (من غير رغبة عن سيرتي) أي طريقتي وهيئتي والرغبة عنها، إما بإنكارها أو بترك التمسك بها والبلوغ إليها وإن لم يكن لأحد لكن ينبغي طلب التشبه به وعدم ترك الميسور بالمعسور (ورفض زهرة الدنيا) أي زينتها ومتاعها مطلقا سواء أحل له أم لا من غير تحول عن سنتي وهي الشريعة التي جاءته من عند الله تعالى، وإنما خص البشارة بغير الراغب عن سيرته وغير المتحول عن سنته إذ الزهد ورفض الدنيا لا ينفعان لهما بل يلحق بهما خسران الدنيا والآخرة (واتبع الأخيار من عترتي من بعدي) في سيرتهم ودينهم وعقائدهم وأقوالهم وأعمالهم، والعترة بالكسر: نسل الرجل ورهطه وعشيرته وأشرف عترته علي (عليه السلام) (وجانب أهل الخيلاء)، المتكبرين (والتفاخر) بالحسب والنسب والجاه والمال وغيرها (والرغبة في الدنيا) بطلبها زائدة عن قدر الكفاف وإن كانت مباحة (المبتدعين خلاف سنتي) كأصحاب الرأي والقياس والأهواء النفسانية (العاملين بغير سنتي) إن ابتدعه غيرهم كاتباع المبتدعين ومن ابتدعه وعمل به جامع للرذيلتين وفي بعض النسخ «بغير سيرتي». إنما بشر من جانب هؤلاء لأن صحبتهم شوم وأمراضهم مسرية مهلكة، قلما يتخلص جليسهم عن صفاتهم وآدابهم (طوبى لمن اكتسب من المؤمنين مالا من غير معصية فأنفقه في غير

ص:223

معصيته وعاد به على أهل المسكنة) عاد معروفة عودا أفضل وأعطى والاسم العائدة وذكر أهل المسكنة من باب ذكر الخالص بعد العام للاهتمام والترغيب في إعطاء المساكين وفيه وعد لمن اكتسب حلالا وأنفقه في وجوه البر بالأجر الجميل والثواب الجزيل. (طوبى لمن حسن مع الناس خلقه وبذل لهم معونته وعدل عنهم شره) رغب في ثلاث خصال بها نظام الدنيا وكمال الدين، الأولى:

حسن الخلق مع الناس أن يخالطهم بالجميل والتودد والرأفة واللطف وحسن الصحبة والعشرة والمراعات والرفق والصبر والاحتمال لهم والاشفاق عليهم وبالجملة حسن الخلق تابع لاستقامة جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة. الثانية: بذل المعونة لهم في أمر الدين والدنيا وهي اسم من أعانه إذا أمده ونصره ووزنها مفعلة بضم العين، وبعضهم يجعل الميم زائد ويقول هي فعولة، الثالثة: دفع شره وشر غيره عنهم ولهذه الخصال فوائد لا تحصى (طوبى لمن اتفق القصد): وهو التوسط بين الإسراف والتبذير وبدل الفضل وهو الزائد على قدر الكفاف، وإنفاقه ينشأ من العلم بأن الزائد لا يحتاج إليه في البقاء مع ترتب الثواب الجزيل عل انفاقه في دار الجزاء (وأمسك قوله عن الفضول) وهو ما لا ينفع سواء ضر أم لا، لأن المؤمن لا يلوث لسانه بما لا ينفع ما يضر (وقبيح الفعل) كأنه عطف على أمسك بتقدير فعل يدل عليه المذكور أي أمسك عن قبيح الفعل وهو ما يذم به عقلا وشرعا وعطفه على الفضول بحمل الفعل على فعل اللسان يأباه ظهور عموم الفعل ولزوم التكرار وتخصيص الفضول بالمباح خلاف الظاهر.

* الأصل:

191 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد رفعه، عن بعض الحكماء قال: إن أحق الناس أن يتمنى الغنى للناس أهل البخل لان الناس إذا استغنوا كفوا من أموالهم وإن أحق الناس أن يتمنى صلاح الناس أهل العيوب لأن الناس إذا صلحوا كفوا عن تتبع عيوبهم وإن أحق الناس أن يتمنى حلم الناس أهل السفه الذين يحتاجون أن يعفي عن سفههم فأصبح أهل العيوب يتمنون فسقهم وأصبح أهل الذنوب يتمنون سفههم وفي الفقر الحاجة إلى البخيل وفي الفساد طلب عورة أهل العيوب وفي السفه المكافاة بالذنوب.

* الشرح:

قوله: (فأصبح أهل البخل يتمنون فقر الناس) والحامل لهم على ذلك وجوه: الأول: إن صفة البخل يقتضي الحرص في جمع المال وضبطه فيحب البخيل جمعه لنفسه. الثاني: إنها تقتضي

ص:224

الحسد، والحسد يقتضي حب زوال النعمة عن الغير وبقائهم على الفقر، الثالث: إنها تابعة لطلب العزة بكثرة المال فيجب أن يكون سبب العز وهو المال كله له، الرابع: إنها صفة مستحسنة عند البخيل فيجب أن تكون تلك الصفة للجواد الوهاب أيضا (وأصبح أهل العيوب يتمنون فسقهم) لتحصل بينهم المشاركة في نوع من العيب ويمكن لهم المقابلة بالتعيير في وقت ما (وأصبح أهل الذنوب يتمنون سفههم طلبا) للمشاركة لما مر ولعل المراد بالذنوب: السفه تسمية للسبب باسم المسبب والسفه: التمني حقيقة على الأول ومجاز على الثاني.

* الأصل:

192 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن ابن راشد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا حسن إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف ولكن اذكر لبعض إخوانك فانك لن تعدم خصلة من أربع خصال: إما كفاية بمال وإما معونة بجاه أو دعوة فتستجاب أو مشورة برأي.

* الشرح:

قوله: (يا حسن إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف) في كنز اللغة شكاية «گله كردن واظهار بدى حال كردن» وفعلها من باب قتل وهي ممن نزلت به نازلة مذمومة سيما إلى أهل الخلاف الذين هم عدو لله وله لتضمنها الشماتة غالبا وشكاية الرب إلى عدوه إذ الشكاية عن الفعل شكاية عن فاعله كما يدل عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «من أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه» وقال «من شكى إلى كافر فكأنما شكى الله» (ولكن اذكرها لبعض اخوانك فإنك لن تعدم خصلة من أربع خصال) أي لن تفقد، والعدم بالضم وبضمتين وبالتحريك: الفقدان وفعله من باب علم (إما كفاية وإما معونة بجاه أو دعوة تستجاب أو مشورة برأي) المؤمن إذا نزلت به نازلة ينبغي التوسل إلى الله كما حكاه الله تعالى عن يعقوب (عليه السلام) «وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله» وعن المرأة «وتشتكي إلى الله» والله سبحانه أشكاهما وأزال حزنهما وإن دعت نفسه إلى ذكرها لأحد ينبغي أن يذكرها لمؤمن عاقل يتوقع منه المدد في ازالتها بأحد الوجوه الأربعة المذكورة لأن المؤمن من حزب الله تعالى وهو يجعله وسيلة والشكاية إليه شكاية إلى الله حقيقة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنما شكاها إلى الله» وفيه تنبيه على أن المؤمن المرفوع إليه الشكاية ينبغي له الإتيان بإحدى الخصال الأربع ومراعاة الأقوى في إزالة الشكاية أقدم وأقوى.

ص:225

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

193 - علي بن الحسين المؤدب وغيره، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن عبد الله بن أبي الحارث الهمداني، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: الحمد لله الخافض الرافع، الضار النافع، الجواد الواسع، الجليل ثناؤه، الصادقة أسماؤه، المحيط بالغيوب وما يخطر على القلوب، الذي جعل الموت بين خلقه عدلا وأنعم بالحياة عليهم فضلا، فأحيا وأمات وقدر الأقوات، أحكمها بعلمه تقديرا وأتقنها بحكمته تدبيرا إنه كان خبيرا بصيرا، هو الدائم بلا فناء والباقي إلى غير منتهى، يعلم ما في الأرض وما في السماء وما بينهما وما تحت الثرى.

أحمده بخالص حمده المخزون بما حمده به الملائكة والنبيون، حمدا لا يحصى له عدد ولا يتقدمه أمد، ولا يأتي بمثله أحد، او من به وأتوكل عليه وأستهديه وأستكفيه وأستقضيه بخير وأسترضيه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (صلى الله عليه وآله).

أيها الناس إن الدنيا ليست لكم بدار ولا قرار، إنما أنتم فيها كركب عرسوا فأناخوا، ثم استقلوا فغذوا وراحوا، دخلوا خفافا وراحوا خفافا، لم يجدوا عن مضي نزوعا، ولا إلى ما تركوا رجوعا ، جد بهم فجدوا، وركنوا إلى الدنيا فما استعدوا حتى إذا أخذ بكظمهم وخلصوا إلى دار قوم جفت أقلامهم لم يبق من أكثرهم خبر ولا أثر، قل في الدنيا لبثهم وعجل إلى الآخرة بعثهم، فأصبحتم حلولا في ديارهم، ظاعنين على آثارهم والمطايا بكم تسير سيرا، ما فيه أين ولا تفتير، نهاركم بأنفسكم دؤوب وليلكم بأرواحكم ذهوب فأصبحتم تحكون من حالهم حالا وتحتذون من مسلكهم مثالا، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنما أنتم فيها سفر حلول والموت بكم نزول، تنتضل فيكم مناياه، وتمضي بأخباركم مطاياه إلى دار الثواب والعقاب والجزاء والحساب.

فرحم الله امرءا راقب ربه وتنكب ذنبه وكابر هواه وكذب مناه، امرءا زم نفسه من التقوى بزمام وألجمها من خشية ربها بلجام، فقادها إلى الطاعة بزمامها وقدعها عن المعصية بلجامها، رافعا

ص:226

إلى المعاد طرفه، متوقعا في كل أوان حتفه، دائم الفكر، طويل السهر، عزوفا عن الدنيا سأما، كدوحا لآخرته متحافظا، امرءا جعل الصبر مطية نجاته، والتقوى عدة وفاته ودواء أجوائه، فاعتبر وقاس وترك الدنيا والناس، يتعلم للتفقه والسداد وقد وقر قلبه ذكر المعاد وطوبى مهاده وهجر وساده، منتصبا على أطرافه، داخلا في أعطافه، خاشعا لله عز وجل، يرواح بين الوجه والكفين، خشوع في السر لربه، لدمعه صبيب ولقلبه وجيب، شديدة أسباله، ترتعد من خوف الله عز وجل أوصاله، قد عظمت فيما عند الله رغبته واشدت منه رهبته، راضيا بالكفاف من أمره يظهر دون ما يكتم ويكتفي بأقل مما يعلم اولئك ودائع الله في بلاده، المدفوع بهم عن عباده، لو أقسم أحدهم على الله عز ذكره لأبره، أو دعا على أحد نصره الله، يسمع إذا ناجاه ويستجيب له إذا دعاه، جعل الله العاقبة للتقوى والجنة لأهلها مأوى، دعاؤهم فيها أحسن الدعاء «سبحانك اللهم» دعا] ؤ [هم المولى على ما آتاهم « وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين».

* الشرح:

قوله: (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)) مشتملة بعد الحمد والثناء والشهادة بالرسالة على المنفرات عن الدنيا والمرغبات في الآخرة بأفصح كلام وأبلغ نظام (الحمد لله الخافض الرافع) لأنه يخفض الجبارين والفراعنة وكل شيء يريد خفضه وذله: أي يضعهم ويهينهم والخفض ضد الرفع ويرفع المؤمنين بالتوفيق والإسعاد، والأولياء بالتقريب والإمداد، والعلماء بالإنعام والإرفاد (والضار النافع) لأنه يضر من يشاء بالتعذيب وسلب إفاضة الكمالات، ويوصل النفع إلى من يشاء ويوفقه للخيرات (الجواد الواسع) لأنه يعطي المؤمن والكافر والبر والفاجر اعطاء كثيرا من غير استحقاق بل لأن وجود الممكن ولوازم وجوده كلها من فيض جوده (الجليل ثناؤه) أي العظيم ثناؤه لا يصل إلى أقصى ثنائه عقول العارفين لكونه موصوفا بجميع نعوت الجلال والكمال التي لا يبلغ إليها أوهام الواصلين ولذلك قال خاتم النبيين: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (الصادقة أسماؤه) كل اسم من أسمائه تعالى مدحة دالة على صفة في غاية الكمال وصدقها عبارة عن ثبوت مدلولها في الواقع وليس ذلك من باب المبالغة أو الجزاف كما يقع مثل ذلك في كلام أرباب الإطراء (المحيط بالغيوب) علما وقدرة لان الغائب الخارج عن المحسوسات التي يمكن إدراك الحواس لها وقتا ما حاضر عنده كالشاهد (وما يخطر بالقلوب) القلب ومخاطراته حاضرة عنده محاطة بعلمه وهو رقيب عليها عليم بذات الصدور، وفيه حث على تنزيه القلب عن

ص:227

خواطر السوء ولو خطر فيه مالا ينبغي أن يتدارك بالتوبة والاستغفار والتوسل بالله تعالى والتضرع إليه، كما يلزم ذلك في أفعال الجوارح (الذي جعل الموت بين خلقه عدلا) في وصفه تعالى بتقدير الموت ترغيب في طاعته والانزجار عن معصيته وذكر المعاد إليه ووعده ووعيده والرغبة عن الدنيا والزهد فيها، وبذل الفضل وتكميل جميع الأخلاق فهو محض عدل حقي لو لم يكن موت وقع الهرج والمرج وفسد نظام الخلق وبطل رفاهة العيش (وأنعم بالحياة عليهم فضلا) أي أنعم بالحياة المسبوقة بالعدم، أو الأعم منها ومن المسبوقة بالوجود والكل من باب الفضل والإحسان بلا سابقة استحقاق فيجب الشكر على تلك النعمة الجليلة (فأحيى وأمات) قد عرفت أن الموت والحياة نعمتان جليلتان فوجب الرضا بهما والشكر عليهما (وقدر الأقوات أحكمها بعلمه تقديرا وأتقنها بحمكة تدبيرا) قدر الأقوات والأرزاق كلها في يومين كما نطق به القرآن الكريم وقدر لكل نوع وكل صنف من أنواع المرزوقين وأصنافهم رزقا معلوما على قدر معلوم لحكمة ومصلحة بحيث لا يتغير ولا يتبدل، ولا يمكن أن يقال لو كان الأمر على خلاف ذلك كان أحسن، وهذا معنى الإحكام والإتقان وهما بمعنى واحد، وتدبير الشيء:

فعله عن فكر ورؤية ونظر إلى دبره وهو عاقبته وآخره، والمراد به هنا تعلق العلم بصلاح آخره كتعلقه بصلاح أوله من غير روية وفكر.

(إنه كان خبيرا بصيرا): أي كان عليما بالأشياء ظواهرها وبواطنها وحقايقها ولوازمها وعوارضها، من خبرت الشيء من باب قتل خبرا، علمته، ومن خبرت الأرض: شققتها للزراعة، فأنا خبير وبصير بالمبصرات بنفس الذات وفي ذكر البصير بعد الخبير الذي هو العالم المطلق رد على من زعم أنه ليس بعالم بالجزئيات لأن المبصرات كلها جزئيات، (هو الدائم بلا فناء) لأن الفناء من صفات الكائنات الحادثة الفاسدة الهالكة في حد ذاتها وفيه سلب لحمل دوامه عليه على المعنى العرفي وهو الزمان الطويل (والباقي إلى غير منتهاء): أي من غير انتهاء لذاته فلا يتصف ذاته بحد ونهاية لأنهما عن لوازم المقدار وهو منزه عنها أو من غير انتهاء لوجوده لأنه واجب الوجود لذاته فيستحيل أن يلحقه العدم وينتهي وجوده إلى حد وينقطع عند غاية (يعلم ما في الأرض وما في السماء وما بينهما وما تحت الثرى) يعلم كله وكل جزء من الأجزاء علما محيطا بظواهره وبواطنه وجلياته وخفياته على السواء (أحمده بخالص حمده المخزون بما حمده الملائكة والنبيون حمدا لا يحصى له عدد ولا يتقدمه أحد ولا يأتي بمثله أحد) طلب (عليه السلام) لكونه كاملا أن يكون حمده كاملا من وجوه، الأول: وهو الأصل في جميع العبادات، أن يكون خالصا من النقص والسمعة والرياء، الثاني: أن يكون مخزونا لا يعلم قدره ووصفه وكماله إلا الله تعالى، الثالث: أن يكون كاملا

ص:228

بكمال المحمود به وتعدده وهو ما حمده به الملائكة المقربون والنبيون، الرابع: أن يكون متكثرا غير محصور ولا معدود لا يبلغه أوهام الحاسبين، الخامس: أن يكون في كمال ذاته وخصوص صفائه بحيث لا يتقدمه أحد ولا يأتي بمثله أحد، واختلفوا في أن الحامد بالحمد الإجمالي على هذا الوجه هل يثاب بثواب ما تمناه أو بثواب ما فوق الواحد أو بثواب حمد واحد، فذهب إلى كل فريق والأخير بعيد لظهور الفرق بينه وبين الواحد والثاني قوى للفرق بين الإجمال والتفصيل، والأول أقوى إذ لا نقص في كرمه تعالى (أو من به وأتوكل عليه) ايمانا كاملا وتوكلا صادقا وهو تفويض الأمور كلها عليه والثقة به وقد ذكرنا حقيقة التوكل ومبدأه وفوائده في شرح كتاب العقل.

(واستهديه وأستكفيه) أي أطلب منه الهداية الخاصة إلى الخيرات والكفاية في المهمات (وأستقضيه بخير وأسترضيه) في كنز اللغة استقضاء «قاضي وحاكم كردن واخذ كردن حق» يقال استقضيته حقي أي أخذته واسترضاء «خشنودي خواستن» والمعنى أطلب منه أن يكون قاضيا حاكما لي بخير أو أطلب أخذ الخير منه وأن يكون راضيا عني وفيه تنبيه على أن هذه الأمور غاية المقاصد للإنسان الكامل وهو محتاج إلى طلبها لئلا يضل في الخاتمة ولا يذل في العاقبة فكيف غيره.

(وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) قيل هاتان شهادتان مقرونتان لا تنفع إحديهما بدون الأخرى، والثانية بمنزلة الباب للأولى إذ لا يحصل التوحيد والحق إلا ببيان الرسول والإقرار به، وفي عبده إشارة إلى شرف مرتبة العبودية (أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الهدى: القرآن، والايمان والبيان والدلالة ودين الحق: الشريعة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) وإظهاره على الأديان كلها عند ظهور الصاحب (عليه السلام) كما دل عليه صريح بعض الروايات.

(أيها الناس إن الدنيا ليست لكم بدار ولا قرار) في كنز اللغة قرار «آرام گاه» كما قال تعالى (ثم جعلناه في قرار مكين) وقرار الأرض المستقر الثابت منها وفيه تنبيه للغافلين من أبناء الدنيا على أنه لا ينبغي لهم الركون إليها وقصد السكون فيها للزوم مفارقتها سريعا كما أشار إليه بقوله (إنما أنتم فيه كركب عرسوا فأناخوا، ثم استقلوا فغدوا وراحوا) الركب جمع راكب: الدابة كصحب جمع الصاحب، والتعريس: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، والاستقلال: رفع الشيء وحمله ذهاب القوم، تقول استقله أي حمله ورفعه واستقل القوم: أي ذهبوا وارتحلوا، والغدو والرواح:

الذهاب غدوة وعشية أي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وآخر النهار، ثم كثر استعمالها في الذهاب أي وقت كان من ليل أو نهار فهما متفارقان في الأصل ومتساويان في الاستعمال وقد

ص:229

خاطب الناس أجمعين من باب التغليب وشبههم بجماعة الفرسان من المسافرين وأشار إلى وجه الشبه بقوله عرسوا إلى آخره وهو متحقق في المشبه به حسا وفي المشبه عقلا أو شبههم بالذين ماتوا على أن يكون المراد بالركب الجماعة الماضين بقرينة ما بعده والوجه وهو ما ذكر متحقق في الطريفين عقلا، توضيح ذلك:

أن الإنسان وهو النفس حقيقة بعد نزوله في هذا المنزل وهو الدنيا في مدته قليلة سائر إلى دار الآخرة سريعا ومركبه البدن والقوى النفسانية، وطريق سيره هي العالم المحسوس والمعقول، وسيره هو تصرفه في العالمين لتحصيل السعادة أو الشقاوة في الآخرة وفيه ترغيب في الأول وتحذير عن الثاني (دخلوا خفافا وراحوا خفافا) الخفاف ضد الثقال وضمير الجمع للركب أي دخلوا في الدنيا خفافا من متاعها وراحوا منها إلى الآخرة خفافا منه وفيه تنفير للناس عن الدنيا وزهراتها لأنهم لا يحملون معهم عند الارتحال إلى الآخرة شيئا منها فينبغي أن لا يصرفوا أعمارهم في تحصيلها (لم يجدوا عن مضى نزوعا) المضي بالفتح فالسكون «گذشتن ورفتن» والنزوع بضم النون «ابا نمودن وبا كسى در چيزى مخالفت كردن وباز ايستادن»، يقال: نزع عن الأمر نزوعا انتهى عنه وأباه (ولا إلى ما تركوا رجوعا): أي لم يجدوا رجوعا إلى ما تركوا من الدنيا والمساكن والأموال وغيرها، والمراد أن رحيلهم من الدنيا إلى الآخرة وقطع عقبات الموت وما بعده أمر اضطراري وليس لهم قدرة على الرجوع إلى الدنيا بعد الخروج منها ليتداركوا ويعملوا عملا صالحا وفيه حث على رفض الدنيا وفضول الدنيا وفضول زهراتها وما يلهيهم عن تحصيل دار الآخرة وأخذ ما ينبغي أحذه بها لئلا يقعوا في حسرة وندامة لا تنفع.

(جد بهم فجدوا) الجد بالكسر: الاجتهاد في الأمر وضد الهزل وفعله من بابي ضرب وقتل أي جد المضي والذهاب من الدنيا بهم فجدوا فيهما اضطرارا (وركنوا إلى الدنيا فما استعدوا) أي مالوا إلى الدنيا واعتمدوا عليها فما استعدوا لأمر الآخرة لأن الدنيا والآخرة لا يجتمعان وركن من أبواب علم وقعد ومنع، والثاني: غير فصيح، والثالث: من باب تداخل اللغتين لأن شرطه أن يكون العين أو اللام حرف حلق (حتى إذا أخذ بكظمهم) أي بحلقهم ومخرج نفسهم والجمع كظام وهو كناية عن موتهم (وخلصوا إلى دار قوم جفت أقلامهم) الخلوص الصفاء ويستعار للوصول وفي كنز اللغة: «خلوص بكسى رسيدن وبچيزى پيوستن» والمراد بالأقلام: أقلام كرام الكاتبين، والإضاقة لأدنى ملابسة وجفافها كناية عن انقطاع عملهم، ويحتمل أن يكون جفاف أقلامهم كناية عن جريان ما كتب في اللوح المحفوظ من مقادير أحوالهم الخيرية والشرية عليهم تمثيلا للفراغ منها بفراغ الكاتب من كتابته ويبس قلمه (لم يبق من أكثرهم خبر ولا أثر) لعل المراد بالخير خبر

ص:230

أسمائهم وأفعالهم وصفاتهم وبالأثر أثر مساكنهم وأموالهم وقبورهم، وقيد بالأكثر لبقاء خبر بعضهم وأثر بعد في الجملة (قل في الدنيا لبثهم وعجل إلى الآخرة بعثهم) أي إرسالهم إليها بالموت وهذا في اللفظ خبر وفي المعنى أمر بالإعراض عن متاع الدنيا والإقبال إلى متاع الآخرة لأن هذه الحالة جارية في جميع الخلق كما أشار إليه بقوله (فأصبحتم حلولا في ديارهم ظاعنين على آثارهم) الإصباح: الدخول في الصباح وبمعنى الصيرورة أيضا، والحلول: جمع الحال كالقعود جمع القاعد، والديار: جمع الدار والمراد بها الدنيا أو مساكنهم ومنازلهم، والظعن: الارتحال والظاعن المرتحل وفي جعل ظاعنين حالا عن فاعل أصبحتم دلالة على اتحاد زمان الحلول والارتحال مبالغة وفيه تحريك للنفوس العاقلة إلى الاستعداد للارتحال وتجهيز سفر الآخرة (والمطايا بكم يسير سيرا) المطايا: جمع المطية وهي دابة تمطو في سيرها أي تجد وتسرع؟ ولعل المراد بها الليل والنهار أو الاعمار على سبيل الاستعارة، والسير يجيء لازما ومتعديا يقال سار البعير وسرته والباء متعلق به إما للتعدية أو للمبالغة فيها كتأكيد السير بالمصدر للمبالغة فيه وأفادة شدته كما أشار إليه بقوله (ما فيه أين ولا تفتير)، الأين: الإعياء وهو لازم ومتعد يقال: أعياني كذا بالألف اتعبني فأعييت والفتور لازم والتفتير متعد يقال فتر فتورا من باب قعدا إذا انكسر بعد حدة ولان بعد شدة وفتره تفتيرا كسره بعدهما وفيه تنبيه للنازلين في الدنيا على لزوم خروجهم منها سريعا لأن قلة المسافة وسرعة المركوب في السير مع انتفاء الإعياء والتفتير يستلزم قطع تلك المسافة في أقرب أوقات الإمكان، ولا تظن أيها الغافل أنك مقيم فإن من كانت مطية الليل والنهار فهو ساير وإن كان واقفا وقاطع للمسافة، وإن كان مقيما كما يجد ذلك راكب السفينة وقد أشار إلى توضيح ذلك بقوله (نهاركم بأنفسكم دؤوب وليلكم بأرواحكم ذهوب) الظرف في الموضعين متعلق بما بعده والتقديم لرعاية السجع والدؤوب فعول من الدأب وهو الجد في الأمر والطرد أيضا ولا يخفى على العارف بالسجع بدايع هذا الكلام ولطفه، والعجب من أبناء الدنيا مع حبهم طول عمرهم وبقائهم فيها يتمنون انقضاء الأيام والليالي سريعا بشيء يسير يتوقعون حصوله بعد مدة ولا يعلمون أن انقضائها انقضاء لعمرهم وهذا أيضا من سخافة عقولهم (فأصبحتم تحكون من حالهم حالا) أي صارت حالكم وصفاتكم مثل حالهم وصفاتهم، تقول: حكيت الشيء أحكيه حكاية إذا أتيت بمثله على الصفة التي بها غيرك فأنت كالناقل، ومنه حكيت صنعته إذا أتيت بمثلها وهو هنا كالمعارضة بالمثل، وحكوته أحكوه لغة، قال ابن السكيت: وحكى عن بعضهم أنه قال: لا أحكوا كلام ربي لا أعارضه.

(وتحتذون من سلكهم مثالا) الاحتذاء: الاقتداء، تقول احتذى مثالهم أي اقتدى به والسلك

ص:231

مصدر بمعنى الذهاب تقول سلكت الطريق سلوكا وسلكا إذا ذهبت فيه، وفي بعض النسخ «من مسلكهم» وهو الطريق والمثال بالكسر اسم من ماثله إذا شابهه وقد يطلق على الوصف والصورة فيقال: مثاله كذا وصفه وصورته والجمع أمثله (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) أي لا تخدعنكم بزينتها يقال: غرته الدنيا غرور ممن باب قعدت خدعته بزينتها وأطمعته بالباطل فاغتر هو بها ولما كان المغتر بها هو المحب لها والراكن إليها والناسي الموت وما بعده نبه بما يوجب سلب جميع ذلك بقوله (فإنما أنتم سفر حلول والموت بكم نزول) لأن ذكر الموت والعلم بوقوعه وجعل ذلك نصب العين وانتظاره في كل آن يزيل حب الدنيا والميل إلى زينتها، ويستلزم ذكر المعاد إلى الله تعالى ووعده ووعيده وحسابه وجزائه ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «أكثروا ذكر هادم اللذات» (تنتضل فيكم مناياه) في كنز اللغة انتضال «تير انداختن» وضمير مناياه راجع إلى الموت، والمراد بالمنايا أسبابه وإرجاعه إلى الدنيا باعتبار الدهر بعيد وقد شبه المنية بالرامي وأثبت له الانتضال مكنية وتخييلية وجعل الإنسان غرضا وفيه تنفير عن الدنيا لعدم الأمن من سهام الموت (وتمضي بأخباركم مطاياه إلى دار الثواب والعقاب والجزاء والحساب) مطاياه من قبيل لجين الماء أو فيه مكنية وتخييلية بتشبيه الموت بالرسول الذي يبلغ خبر الغايب واثبات المطايا له وإمضاء الأخبار ترشيح واسناده إلى المطاياه مجاز من باب إسناد فعل الحال إلى المحل، كأن الموت يخبر أهل الثواب وأهل العقاب بخبره ووصوله، والمراد بدار الثواب ودار العقاب، أما القيامة الكبرى أو الصغرى وهي البرزخ فإن كل من كان فيه يعلم أنه من أهل الثواب أو من أهل العقاب ولا يخفى لطف هذا الكلام وحسنه (فرحم الله امرءا راقب ربه) حافظ ربه كأنه يراه فيخلي الظاهر والباطن عن الرذايل ويحليهما بالفضائل وينظر إلى جميع حركاته وسكناته ولحظاته فإن كانت إلهية بادر إليها وإن كانت شيطانية تعجل إلى دفعها وسبب تلك المراقبة هو العلم بأنه تعالى مطلع على الضمائر والسرائر وشاهد على كل نفس بما كسبت ورقيب على كل شيء، وإذا استقرت هذه المعرفة في القلب تبعثه إلى مراقبته بالتعظيم والإجلال والاستغراق ببحار القدرة والكمال والانكسار تحت الهيبة والاقتدار بحيث لا يلتفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات، ومن بلغ هذه المرتبة فقد يغفل عن الخلق والمتصفون بها على جميع درجات متباينة ومقامات متفاوتة (وتنكب ذنبه): أي عدل ومال عنه تعظيما لربه وخوفا من عقابه (وكابر هواه): أي غالبه وعانده وتلك المكابرة بأن يطوع نفسه الأمارة للأعمال البدنية، وراقبها في كل خاطر تلقيه إلى قلبه وقابلها بقمعه ودفعه، وفي بعض النسخ كابد بالدال من المكابدة: وهي تحمل المشاق على ترك هواه (وكذب مناه) أي قابل ما يلقيه إليه الشيطان من الأماني ويعده بالوصول إليها بالتكذيب والدفع له بتجويز عدم نيلها ونسبتها إلى

ص:232

الأكاذيب المخترعة.

(إمرءا زم نفسه من التقوى بزمام وألجمها من خشية ربها بلجام فقادها إلى الطاعة بزمامها وقدعها عن المعصية بلجامها) القود نقيض السوق فهو من أمام وذاك من خلف والقدع الكف قدعه كمنعه كفه قد شبه النفس الأمارة بالفرس الحرون، والتقوى بالزمام، والخشية باللجام ثم فرع ما يناسب كلا إليه ولا يخفى لطفه (رافعا إلى المعاد طرفه) الطرف: النظر والمراد به بالنظر القلبي وهو توجهه إلى أمر الآخرة والعمل لها (متوقعا في كل أوان حتفه): أي موته لعلمه بوروده قطعا مع عدم علمه بزمان وروده فيتوقعه في كل آن وذلك يبعثه على ترك الدنيا وطلب الآخرة (دائم الفكر) في أمر الآخرة والتخلص من عقابتها (طويل السهر) وهو عدم النوم في الليل كله أو بعضه يقال: سهر الليل أو بعضه إذا لم ينم فيه فهو ساهر وهو كناية عن العبادة في الليل والقيام بوظائف الطاعات فيه (عزوفا عن الدنيا سأما) عزفت نفسه عنه: زهدت فيه وانصرفت عنه (كدوحا لآخرته متحافظا) عن حطام الدنيا ومخاطرات النفس ووساوس الشيطان والكدح السعي والحرص في العمل.

(امرءا جعل الصبر مطية نجاته) أي حمل النفس على فعل الطاعة وترك المعصية ودفعها عن هواها ومنعها عن الجزع في النوائب واستعار المطية للصبر لكونه سببا للنجاة كالمطية (والتقوى عدة وفاته) العدة بالضم: الاستعداد والتأهب وما أعد من مال وسلاح أو غير ذلك ليوم حاجة، والتقوى عدة واقية من أهوال الموت وما بعده (ودواء أجوائه) الجوي الحزن والحرقة وتطاول المرض وداء في الصدر وملالة القلب، والتقوى دواء للأمراض القلبية والبدنية الموجبة لفساد الظاهر والباطن وميلهما عن صراط الحق إلى الباطل (فاعتبر وقاس) أي فاعتبر بأحوال الماضين وسرعة انتقالهم من هذه الدار إلى دار القرار وفراقهم عن المال والعيال وسكونهم في القبور مع أعمالهم وقاس نفسه عليهم حتى أنه كأحدهم (وترك الدنيا والناس) الواو إما بمعنى مع أي ترك الدنيا مع الناس المائلين إليها ولا يشاركهم فيها أو للعطف أي ترك الدنيا بالإعراض عنها وترك الناس بالاعتزال منهم لعلمه بأن مجالستهم تفسد دينه ودنياه (يتعلم للتفقه والسداد) التفقه: التفهم من الفقه وهو الفهم وغلب إطلاقه على علم الدين لشرفه والسداد، بالفتح: الصواب من القول والفعل يعنى غرضه من التعلم أمران أحدهما تفهم القوانين الشرعية والآداب والأخلاق النبوية وتكميل النفس بها وثانيهما تسديد طاهره وباطنه بالعمل بها وليس غرضه منه الرياء والسمعة ورياسة الخلق وصرف وجوههم إليه (وقد وقر قلبه ذكر المعاد) التوقير هنا بمعنى التعظيم والتبجيل أو بمعنى الترزين والتسكين، وقلبه على الأول فاعل وذكر المعاد مفعول، وعلى الثاني بالعكس،

ص:233

والمراد بتعظيم ذكر المعاد هو التوجه إلى الاستعداد له وتحصيل ما ينفع فيه وترك ما ينافيه من أعراض الدنيا وبتسكين القلب وترزينه تسكينه عن الاضطراب من فوات الدنيا وترزينه عن الميل إلى زهراتها (وطوى مهاده وهجر وساده) المهد والمهاد: الفراش، وهذا كناية عن الإتيان بما أقرت به الشريعة من الكمالات الباقية والمبالغة في تحصيلها خصوصا في الليل فإن العبادة فيها لكثرة المشقة وبعد الرياء وحضور القلب أعظم أجرا منها في النهار (منتصب على أطرافه) أي على قديمه أو على جميع جوارحه باستعمال كل منها فيما طلب منه (داخل في أعطافه) كأنها جمع عطف الشيء بالكسر: وهو جانبه وهو إشارة إلى أن غلبة النوم المحرك له إلى جوانبه لا تمنعه من القيام بوظائف الطاعات، ويمكن أن يراد بها الازر والأردية (خاشعا لله تعالى) أي مقبلا على الله تعالى بظواهره المشغولة بما هو مطلوب منها (يراوح بين الوجه والكفين) يضع وجهه تارة على التراب ويرفع كفيه تارة إلى السماء أو يرفع وجهه إلى السماء تارة وكفيه إليها أخرى (خشوع في السر لربه) أي مقبل على الله بقلبه ساكن مطمئن إليه فارغ عما سواه.

(لدمعه صبيب ولقلبه وجيب) الصبيب والوجيب مصدران يقال: صب الماء من باب ضرب صبيبا: إذا انسكب ووجب القلب وجيبا: إذا رجف واضطرب، ولعل الأول لألم الفراق والثاني لكمال الاشتياق (شديدة أسباله) أسبل المطر والدمع: إذا هطلا وتتابعا، والاسم السبل بالتحريك ويجمع على أسبال كالبطل على الأبطال (يرتعد من خوف الله عز ذكره أوصاله): أي مفاصله (وقد عظمت فيما عند الله رغبته) من القرب والكرامة والسعادة والثواب ونعيم الأبد وعلامة تلك الرغبة هي الاشتغال بأسباب الوصول إلى ما ذكر (واشتدت منه رهبته) علامة صدق الرهبة هي الفرار من أسباب ما يخافه (راضيا بالكفاف من أمره) الدنيوي في كل ما يحتاج إليه في البقاء من المأكل والمشرب والمسكن والملبس وغيرها، والكفاف بالفتح مقدار الحاجة من الرزق من غير زيادة ونقص سمى بذلك لأنه يكف عن سؤال الناس ويغني عنهم (وأحسن طول عمره) أي في طول عمره ومدة حياته فهو ظرف للإحسان، والمراد به فعل ما ينبغي وترك مالا ينبغي (يظهر دون ما يكتم) أي يظهر ما ينبغي كتمانه من كمالاته وعباداته وأسراره وغيرها مما في إظهاره فساده أو فساد غيره، وفيه ترغيب في الاقتصار على الإظهار قبل البلوغ إلى حد ما يكتم (ويكتفي بأقل مما يعلم) أي يكتفي في إفادته بأفل مما يعلم من معلوماته اكتفاء بقدر الحاجة وحذرا من الفخر والعجب من إظهار الحال على وجه الكمال (أولئك ودائع الله في بلاده) فيجب على أهل البلاد حفظهم كما يجب حفظ الوديعة، ويحتمل أن يراد بالودايع العهود والمواثيق من قولهم توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد منهما الآخر عهدا واسم ذلك العهد الوديع، يقال أعطيته وديعا أي

ص:234

عهدا كذا في النهاية فكأنه تعالى أخذ على أهل البلاد عهدا بحفظهم وهم أخذوا على الله تعالى عهدا على دفعه عنهم ما أقاموا على الوفاء بذلك العهد وهذا أنسب بقوله (المدفوع بهم عن عباده) كما روى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء (لو أقسم أحدهم على الله جل ذكره لأبره) القسم: اليمين وقد أقسم بالله وتعديته بعلى لتضمين معنى الإيجاب ومعناه كما صرح في الفائق أن يقول بحقك يا رب أفعل كذا فإذا قال ذلك لأبره أي أمضى يمينه بالصدق تعظيما له واستجابة لسؤاله وقضاء لطلبته (أودعا على أحد نصره الله) كما دعا نوح وموسى (عليهم السلام) على قومهما فأجاب الله تعالى دعائهم وأهلك قومهما بالغرق ودعا كثير من الصالحين على عدوهم فأخذهم الله بغتة وأهلكهم.

(يسمع إذا ناجاه) أي يسمع سماع قبول (ويستجيب له إذا دعاه) قد دعا كثير من الأولياء واستجاب دعائهم بلا مهلة كما نطقت به الآيات والرويات (جعل الله العاقبة للتقوى والجنة لأهلها مأوى) ترغيب في التقوى لنرتب حسن العاقبة ودخول الجنة عليها كما قال عز وجل (والعاقبة للمتقين) وقال (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) (دعائهم فيها أحسن الدعاء سبحانك اللهم) الظاهر أن أحسن خبر مبتدأ، وأن سبحانك اللهم خبر بعد خبر أو بدل عنه أو خبر مبتدأ محذوف وهم يقولون ذلك عند إرادتهم طعاما أو شرابا أو غيرهما فإذا قالوا ذلك بادرت الخدمة بما يشتهون من غير طلبهم ووجه كونه أحسن الدعاء أنه دال على ذاته المتصف بجميع الكمالات وتوحيده المطلق وتنزيهه عن جميع النقايص (دعاؤهم المولى على ما آتاهم) من النعماء التي لا يحيط بها البيان، والظاهر أنه بدل أو بيان لقوله دعائهم (وآخر دعواهم) إذا فرغوا من لذاتهم من الطعام والشراب وغيرهما (أن الحمد لله رب العالمين) هذا التفسير ذكره الباقر (عليه السلام) في آخر حديث النوق والجنان.

ص:235

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

194 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان أو غيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه ذكر هذه الخطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمعة: الحمد لله أهل الحمد ووليه ومنتهى الحمد ومحله، البديء البديع، الأجل الأعظم الأعز الأكرم المتوحد بالكبرياء، والمتفرد بالآلاء، القاهر بعزه؟ والمسلط بقهره، الممتنع بقوته، المهيمن بقدرته، والمتعالي فوق كل شيء بجبروته، المحمود بامتنانه وبإحسانه، المتفضل بعطائه وجزيل فوائده، الموسع برزقه، المسبغ بنعمه، نحمده على آلائه وتظاهر نعمائه حمدا يزن عظمة جلاله ويملأ قدر آلائه وكبريائه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي في أوليته متقادما وفي ديموميته متسيطرا، خضع الخلائق لوحدانيته وربوبيته وقديم أزليته ودانوا لدوام أبديته.

وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اختاره بعلمه واصطفاه لوحيه وائتمنه على سره وارتضاه لخلقه وانتدبه لعظيم أمره ولضياء معالم دينه ومناهج سبيله ومفتاح وحيه وسببا لباب رحمته ابتعثه على حين فترة من الرسل، وهدأة من العلم، واختلاف من الملل، وضلال عن الحق، وجهالة بالرب، وكفر بالبعث والوعد، أرسله إلى الناس أجمعين رحمة للعالمين بكتاب كريم قد فضله وفصله وبينه وأوضحه وأعزه وحفظه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد، ضرب للناس فيه الأمثال وصرف فيه الآيات لعلهم يعقلون، أحل فيه الحلال وحرم فيه الحرام وشرع فيه الدين لعباده عذرا أو نذرا لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ويكون بلاغا لقوم عابدين، فبلغ رسالته وجاهد في سبيله وعبده حتى أتاه اليقين (صلى الله عليه وآله) وسلم تسليما كثيرا.

أوصيكم عباد الله واوصى نفسي بتقوى الله الذي ابتدأ بدأ الأمور بعلمه وإليه يصير غدا ميعادها وبيده فناؤها وفناؤكم وتصرم أيامكم وفناء آجالكم وانقطاع مدتكم، فكأن قد زالت عن قليل عنا وعنكم كما زالت عمن كان قبلكم، فاجعلوا عباد الله اجتهادكم في هذه الدنيا التزود من يومها القصير ليوم الآخرة الطويل فإنها دار عمل والآخرة دار القرار والجزاء، فتجافوا عنها فان المغتر من اغتر بها، لن تعدا والدنيا إذا تناهت إليها امنية أهل الرغبة فيها المحبين لها، المطمئنين

ص:236

إليها المفتونين بها، أن تكون كما قال الله عز وجل: (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام) الآية، مع أنه لم يصب امرء منكم في هذه الدنيا حبرة إلا أورثته عبرة، ولا يصبح فيها في جناح آمن إلا وهو يخاف فيها نزول جائحة أو تغير نعمة أو زوال عافية، مع أن الموت من وراء ذلك وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل تجزى كل نفس بما عملت (ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى).

فاتقوا الله عز ذكره وسارعوا إلى رضوان الله والعمل بطاعته والتقرب إليه بكل ما فيه الرضا فإنه قريب مجيب، جعلنا الله وإياكم ممن يعمل بمحابه ويجتنب سخطه، ثم إن أحسن القصص وأبلغ الموعظة وأنفع التذكر كتاب الله جل وعز قال الله عز وجل: (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون).

أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم «بسم الله الرحمن الرحيم والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» «إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد، وتحنن على محمد وآل محمد وسلم على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت وتحننت وسلمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم أعط محمدا الوسيلة والشرف والفضيلة والمنزلة الكريمة، اللهم اجعل محمدا وآل محمد أعظم الخلائق كلهم شرفا يوم القيامة وأقربهم منك مقعدا وأوجههم عندك يوم القيامة جاها وأفضلهم عندك منزلة ونصيبا، اللهم أعط محمدا أشرف المقام وحباء السلام وشفاعة الاسلام، اللهم وألحقنا به غير خزايا ولا ناكثين ولا نادمين ولا مبدلين. إله الحق آمين. ثم جلس قليلا ثم قام فقال: الحمد لله أحق من خشي وحمد وأفضل من اتقي وعبد وأولى من عظم ومجد نحمده لعظيم غنائه، وجزيل عطائه، وتظاهر نعمائه، وحسن بلائه، ونؤمن بهداه الذي لا يخبو ضياؤه ولا يتهمد سناؤه ولا يوهن عراه ونعوذ بالله من سوء كل الريب وظلم الفتن ونستغفره من مكاسب الذنوب ونستعصمه من مساوي الأعمال ومكاره الآمال والهجوم في الأهوال ومشاركة أهل الريب والرضا بما يعمل الفجار في الأرض بغير الحق.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات الذين توفيتهم على دينك وملة نبيك (صلى الله عليه وآله)، اللهم تقبل حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم وأدخل عليهم الر حمة والمغفرة

ص:237

والرضوان واغفر للأحياء من المؤمنين والمؤمنات الذين وحدوك وصدقوا رسولك وتمسكوا بدينك وعملوا بفرائضك واقتدوا بنبيك وسنوا سننك وأحلوا حلالك وحرموا حرامك وخافوا عقابك ورجوا ثوابك ووالوا أولياءك وعادوا أعداءك، اللهم اقبل حسناتهم وتجاوز عن سيآتهم وأدخلهم برحمتك في عبادك الصالحين. إله الحق آمين.

* الشرح:

(خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)) مشتملة على معان لطيفة وأسرار خفية ونكات دقيقة وألفاظ رشيقة بحيث تقف في أول منزل من منازلها عقول الخطباء وفي أول مرحلة من مراحلها فحول العلماء ( الحمد لله أهل الحمد ووليه) علق الحمد باسم الذات وحكم بأنه أهله وأولى به للتنبيه على أنه مستحق له لذاته، وما اشتهر من أن الحمد متعلق بالفضايل أو الفواضل فهو باعتبار الأكثر والأغلب دون الاختصاص، ويؤيده أن الحمد عبادة وهو سبحانه مستحق لها بالذات (ومنتهى الحمد ومحله) فالحمد كله ينتهى إليه ومن ثم قيل باختصاص جنس الحمد وجميع أفراده به وبين الاختصاصين تلازم (البديء البديع) البديء: فعيل بمعنى فاعل من بدأ الخلق أي فطرهم وأنشأهم وذكر البديع بعده: وهو الذي يخترع الشيء لاعن شيء للدلالة على أنه خلقهم لاعن مادة ولاعن مثال سابق (الأجل الأعظم الأعز الأكرم) إن كان أفعل صفة وان كانت خلاف ظاهر فالأمر ظاهر وإن كان اسم تفضيل والمفضل عليه غيره فالتفضيل باعتبار وجود أصل الفعل في ذلك الغير وجودا اعتباريا إضافيا، والأحسن أن معناه أجل وأعظم وأعز وأكرم من أن يوصف أو يعرف كنه ذاته وصفاته أو يتخيل بالأوهام أو يتصور في العقول والإفهام كما روي في الله أكبر من أن معناه الله أكبر من أن يوصف لا أنه أكبر من كل شيء فإنه لا يقاس بشيء حتى يقال إنه أكبر منه.

(المتوحد بالكبرياء) أي المتفرد بالعظمة المطلقة لأن العظمة إما باعتبار شرف الذات أو الوجود أو الصفات الذاتية والفعلية وجميع ذلك له وكل ما سواه في ذل الحاجة إليه متضرع في طلب كماله بين يديه (والمتفرد بالآلاء) المتفرد إما بالتاء المثناة الفوقانية أو بالنون أو الأول أولى لأنه أنسب بالمتوحد مع ما فيه من المبالغة في الانفراد. والألى بالقصر وفتح الهمزة وكسرها: النعمة مطلقا والجمع الآلاء على أفعال مثل سبب وأسباب لكن أبدلت الهمزة التي هي فاء ألفا استثقالا لاجتماع همزتين ووجه التفرد ظاهر لأن كل نعمة منه تعالى وكل من له نعمة أخذها منه (القاهر بعزه) أي الغالب على جميع الأشياء ووضعها في مواضعها وتقدير حقايقها وصفاتها وكمالاتها

ص:238

لشدة قوته وقدرته بحيث لا يقدر شيء على أن يتجاوز عما قدر له ويطلب غيره (والمتسلط بقهره) على جميع ما سواه بالإيجاد والإبقاء والإعدام والإفناء (الممتنع بقوته) أي المتقوي بها فلا يحتاج في التقوى إلى أحد ولا يقدر عليه من يريده من امتنع بقومه إذا تقوى بهم فلا يقدر عليه من يريده أو الممتنع بها عن الشريك والنظير والاستعانة من أحد من امتنع من الأمر إذا كف عنه وأبى منه (المهيمن بقدرته) قيل هو الشهيد لأنه تعالى شاهد على خلقه بما يكون منهم من قول وفعل وغيرهما ومنه قوله تعالى «مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه» وقيل: هو الرقيب على الممكنات الحافظ لها، وقيل: هو اسم من أسمائه تعالى في الكتب، وقيل:

هو المؤتمن، وقيل: هو القايم بأمور الخلق، وقيل: هو المؤمن غيره من الخوف وأصله مؤيمن قلبت الهمزة الثانية ياء والأولى هاء (والمتعالى فوق كل شيء بجبروته): أي المتعالي عن مشابهة الأعراض والأجسام عن ادراك العقول والأوهام وهو فوق كل شيء بجبروته، والجبروت من الجبر:

بمعنى الإفناء والإصلاح لأنه تعالى يفني ما يشاء، ويبقي ما يشاء ويصلح مفاقر الخلق ونقايص حقايق الممكنات بإفاضة الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات أو بمعنى الإلزام لأنه الجبار الذي ألزم خلقه وجبرهم على قبول أمره التكويني والتكليفي، أو بمعنى التكبر لأن العظيم المتكبر الذي له حق على كل شيء وليس لشيء حق عليه، وعلى التقادير فيه إيماء إلى أن المراد بالفوقية بالاستيلاء والشرف والعلية والحكم، ويمكن أن يراد به علوه على كل شيء والتعبير بالمتعالى للمبالغة فيه وما بعده حينئذ تفسير له.

(المحمود بامتنانه وباحسانه) الامتنان: الإنعام وانما لم يذكر المفعول للدلالة على التعميم، ولأن ذكر الكل تفصيلا متعذر وذكر البعض والكل إجمالا يوهم التخصيص من غير مخصص وليقدر السامع كل ما يخطر بباله أو لأن المقصود أنه المحمود بأصل الامتنان والإحسان، ولا يبعد أن يراد بالامتنان الإنعام بإفاضة وجوداتهم وتكميل ذواتهم بلوازم ماهياتهم وبالإحسان الإنعام بعد ذلك بما يحتاج إليه كل شخص في التربية والبقاء والخروج من حد النقص إلى الكمال (المتفضل بعطائه) العطاء: العطية أي المحسن بها على وجه الكمال من غير استحقاق (وجزيل فوايده) الجزيل: الوسيع والعظيم، والفوايد جمع الفايدة: وهي الزيادة من علم وأدب ومال وغيرها ووصفها بالجزالة لأن كل فائدة من فوايده أمر عظيم في نفسه لا يقدر قدره العارفون (الموسع برزقه) وسع الله على عباده رزقه يوسع وسعا من باب نفع وأوسعه ايساعا ووسعه توسيعا إذا بسطه وكثره، والباء للمبالغة في التعدية والقول بأن معناه أنه تعالى ذو سعة برزقه على أن يكون الموسع من أوسع الرجل إذا صار ذا سعة بعيد (المسبغ بنعمته) الإسباغ: الإتمام والكمال وقد أسبغ الله تعالى على

ص:239

عباده نعمه الظاهرة والباطنة كما نطق به القرآن الكريم وتخصيصها بالظاهرة خلاف الظاهر ولما حمده على وجه يدل على الدوام والثبات أراد أن يحمده على وجه يدل على تجدده واستمراره لوقوعه بإزاء آلائه المتعددة ونعمائه المتظاهرة المتواترة.

فقال: (نحمده على آلائه وتظاهر نعمائه) أي مجيء بعضها ظهر بعض وعقبه على وجه التعاون وتقوية كل واحدة للأخرى، والعطف للتفسير أو التأسيس بتخصيص إحداهما بالباطنة والأخرى بالظاهرة (حمدا يزن عظمة جلاله) أي يعادلها طلب أن يجعل الله تعالى تفضلا حمده عظيما لا يصل إليه أفهام الحامدين كما لا يصل إلى عظمة جلاله عقول العارفين ويثيبه عليه (ويملأ قدر آلائه وكبريائه) أي يساويها في الكثرة والعظمة وهذا من باب الكناية لأن الملأ يستلزم التساوي بين الظرف والمظروف (الذي كان في أوليته متقادما) أريد بأوليته سيق وجوده وجود الموجودات كلها، وبقدمه: عدم كون وجوده حادثة مسبوقا بالعدم، وأشار بلفظ التقادم إلى أن ليس المراد بالقدم طول الزمان بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني وأن الفعل بين الاثنين على وجه الغلبة وإن لم يكن هنا بين اثنين يوجب وقوعه على وجه الكمال وتلك الزيادة والكمال يدلان على أن المراد هو الأولية المنافية للحدوث (وفي ديمومية متسيطر): أي متسلطا على جميع ما سواه فلا يجري عليه الزوال والفناء وإلا كان الزوال أو غيره متسلطا عليه، هذا خلف أو متعهدا لبقائه أبدا ولأمور الخلائق، أو رقيبا حفيظا عليهم، والأولان أنسب لدلالتهما على ديموميته المنافية لانقطاع وجوده وطريان العدم عليه كما أن في السابق دلالة على أزلية المنافية للحدوث.

(خضع الخلائق بوحدانيته وربوبيته وقديم أزليته) أن ذل واستكان له جميع الخلائق بسبب أوصافه الثلاثة أما الوحدانية والأزلية القديمة فلأن الشركة والحدوث يقتضيان عدم خضوع الجميع له بل خضوعه لغيره في الجملة، وأما الربوبية فلأن مالكية الجميع وإيجادهم وتربيتهم من حد النقص إلى حد الكمال اللائق بالكل وضع كل في مرتبته ويقتضي خضوع الكل له (ودانوا الدوام أبديته) أي تعبدوا بأحكامه وشرائعه وآدابه وأوامره ونواهيه لدوام أبديته الباعث على العبادة له الموجب لاستحقاقه لها لأن غير الدائم الأبدي لا يستحق العبادة ولا يقدر على الوفاء بما وعد به بعد الفناء.

(وارتضاه لخلقه): أي اختاره لهم لأنه نور يهديهم إلى منافعهم الدنيوية والأخروية نقول رضيت الشيء ورضيت به وارتضيته إذا اخترته (وانتدبه لعظيم أمره) الظاهر أن اللام بمعنى إلى تقول ندبته إلى الأمر ندبا من باب قتل وانتدبته إليه إذا دعوته فانتدب يستعمل لازما ومتعديا، ولعل المراد بالأمر العظيم المندوب إليه تبليغ الرسالة والصبر على أذى الأمة أو الأعم منهما ومن

ص:240

تحمل الصبر على الإتيان بالعبادات (ولضياء معالم دينه) ضياء «روشنى» وهو اسم من أضاء القمر إضاءة: أنار وأشرق، والمراد بمعالم الدين: مواضع علومه وهي القوانين الشرعية الجارية إلى يوم القيامة المضيئة في قلوب أهل العلم (ومناهج سبيله) الإضافة بيانية، والمناهج: جمع منهج وهو طريقته الواضحة المؤدية للسالكين بأيسر سعى إلى رضوانه (ومفتاح وحيه) لعل التركيب من قبيل لجين الماء أي دعاه إلى وحيه الذي كالمفتاح في فتح أبواب العلوم الربانية والأسرار الإلهية وسببا لباب رحمته السبب في الأصل: الحبل: وهو ما يتوسل به للاستعلاء ثم استعير لكل شيء يتوسل به إلى أمر من الأمور وهو (صلى الله عليه وآله) سبب يتوسل به للوصول إلى رحمته تعالى والظاهر أن نصبه على المفعولية بتقدير جعل عطفا على قوله وانتدبه وفي الكلام مكنية وتخييلية (ابتعثه على حين فترة من الرسل) استيناف أو حال والابتعاث الإرسال والفترة ما بين الرسولين من الزمان الذي انقطع فيه الوحي والرسالة وفشا الجهل والجور والهرج والقساوة وفيه وفيما بعده تحريك إلى معرفة قدر نعمة البعثة وإلى الشكر عليها والانقياد لها (وهدأة من العلم): أي سكون من العلم الشرعي وزواله عن الخلق حتى صاروا سايرين في تيه الجهالة وبيداء الضلالة لا يهتدون إلى الحق دليلا ولا إلى الخير سبيلا (واختلاف من الملل الباطلة) حيث عدلوا كلهم عن الحق والعرفان واخترعوا مذاهب باطلة وعبدوا الأصنام والنيران وأعرضوا عن الكتاب والتوحيد والإيمان فصاروا تائهين حايرين متمسكين بذيل آثار الجهل وقوانين الجور، كافرين.

(وضلال عن الحق) الضلال: مصدر، تقول: ضل الرجل عن الحق ضلالا وضلالة إذا زل عنه فلم يهتد إليه فهو ضال والمراد بالحق: إما الله تعالى أو ضد الباطل أو الأعم منهما (وجهالة بالرب) وعدم العلم به وبصفاته الذاتية والفعلية ولزوم الطاعة أو الانقياد له (وكفر بالبعث والوعد) لأن أكثرهم كانوا منكرين لذلك كما حكى الله عنهم في القرآن الكريم بقوله (قالوا من يحيي العظام وهي رميم) وبعضهم وإن قالوا به كأهل الكتاب إلا أنهم لما حرفوا كتابهم ولم يعملوا بما فيه ومالوا إلى آرائهم الزائلة وأهوائهم الباطلة كانوا في حكم المنكرين الكافرين (أرسله إلى الناس أجمعين) أكد لدفع توهم تحصيصهم ببعض الأصناف دون بعض وخصهم بالذكر للاهتمام بهم وبهدايتهم أو المراد بهم من جميع من أرسل إليهم على سبيل التغليب (رحمة للعالمين) ذكروا في تفسيرها وجوها، الأول: أنه الهادي إلى الله والقائد إلى رضوانه، الثاني: أن تكاليفه أسهل من تكاليف ساير الأنبياء، الثالث: أنه تعالى يعفو عن أمته بسبب شفاعته، الرابع: أنه رحم كثيرا من أعدائه ببذل الأمان لهم وقبول الجزية منهم ولم يكن ذلك قبله، الخامس: أنه سأل الله تعالى أن يرفع عن أمته بعده عذاب الاستيصال رحمة (بكتاب كريم) الباء للمصاحبة بمعنى مع والكريم العزيز والنفيس

ص:241

ويوصف به كل ذي قدر وشرف لبيان عظمة قدرته وشرفه (قد فضله) على سائر الكتب بالفصاحة والبلاغة واشتماله على الأحكام والدقائق والأسرار والخواص والحقائق وكل ما كان وما يكون وما هو كاين إلى يوم القيامة (وفصله وبينه وأوضحه وأعزه)، أي فصل القرآن بأن جعل بعضه في الواجبات وبعضه في المحرمات وبعضه في المندوبات وبعضه في المكروهات وبعضه في العقوبات وبعضه في المباحات وبعضه في الأخلاق والآداب وبعضه في المواعظ والنصائح وبعضه في أحوال الجنة وداخليها وبعضه في أحوال النار وساكنيها إلى غير ذلك وبين كل ذلك وأوضحه بحيث لا يشبه شيء منها بالاخر وأعزه أي جعله عزيزا لم يوجد مثله ولا يوجد أقواه بحيث لا يغلبه شيء من الكتاب ولا يقهره كامل من الخطاب.

(وحفظه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه): أي لا يتطرق الباطل إلى ما فيه من الأخبار الماضية والآتية لأنه حق أو من جهة الكتب الماضية والآتية أما الأولى فلأنها مصدقة له وأما الثانية: فلختم الكتاب به ولا يأتي بعده كتاب حتى يبطله، أو لا يتطرق شك وشبهة إلى لفظه ومعناه على أن يراد باليدين اللفظ وبالخلف المعنى، أو لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات الست واكتفى بذكر الجهتين عن البواقي، أو لأن الإتيان إلى الشئ غالبا من هاتين الجهتين (تنزيل من حكيم حميد): أي هو منزل من عند الحكيم المستحق للحمد والثناء الذي علم الأشياء كلها وفعل أفعالا محكمة لا يتطرق إليها نقص، وهذا كالتأكيد للسابق (ضرب للناس فيه الأمثال) كما قال عز وجل: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) والمثل: كلام يقصد به إلحاق خفي بجلي محسوس أو مشهور ولا يدرك حسن مبانية ولطف معانيه وكيفية ارتباطه بالمقصود وطريق دلالته على المطلوب إلا العلماء الذين ينتقلون بنور بصيرتهم وضياء سريرتهم من ظاهره إلى باطنه ومن محسوسه إلى معقوله، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أمثال القرآن لها فوائد فأنعموا النظر وتفكروا في معانيها ولا تمروا بها» (وصرف فيه الآيات لعلهم يعقلون): أي بين فيه الآيات الدالة على وجوده ووحدته وعلمه وحكمته وقدرته وحشره ونشره وحسابه وأحكامه وثوابه وعقابه وكيفية ايجاده للخلق والغرض منه، لعلهم يعقلون ويفهمون الغرض من تلك الآيات والمقصود من تصريفها (أحل فيه الحلال وحرم فيه الحرام):

الحرام ما لا يجوز، والحلال: ما يجوز، فيشمل الأقسام الأربعة، ولا يجوز لأحد الحكم بتحليل الشيء ولا بتحريمه إلا ما وجده فيه أوخذه من العالم به (وشرع فيه الدين لعباده) أي أظهره وأوضحه بتفسير النبي والوصي (عليهم السلام) (عذرا أو نذرا) قيل: هما بالضم وضمتين للاتباع كالنكر والنكر مصدران من عذر إذا محى الإساءة ورفع اللوم ومن نذر إذا خوف بعد الإعلام وكل منهما مفعول له لشرع أي شرع فيه

ص:242

الدين عذرا للمحقين لاشتماله على رفع اللوم عنهم وذكر مثوباتهم ورفع درجاتهم أو نذرا للمبطلين لاشتماله على ذكر عقوباتهم وشدائدهم ودركاتهم أو بدل عن الدين ويحتمل أن يكونا حالبين عن فاعل شرع أو عن ضمير فيه أو عن الدين وهما حينئذ بمعنى العاذر المنذر (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) إذ بعد إرسال الرسول وإنزال الكتاب وإظهار الدين لم يكن للمبطلين حجة على الله تعالى لترك الحق ومتابعة الباطل، وأما قبله فلهم أن يقولوا لرفع التعذيب عن أنفسهم لولا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت إلينا كتابا وأوضحت لنا دينا والتعليل متعلق بجميع ما تقدم وتخصيصه بالبعض بلا مخصص.

(ويكون بلاغا لقوم عابدين) الظاهر أنه معطوف على أن لا يكون والضمير عائد إلى الكتاب أو الرسول أو الدين واشتمال المعطوف على الضمير دون المعطوف عليه غير ممتنع على الظاهر على أنه عطف جملة على جملة لقصد الاشتراك في العلية، والبلاغ: مصدر بمعنى الوصول إلى المقصود، والحمل للمبالغة في السببية أي ليكون سبب الوصول إلى الحق لقوم مؤمنين بالله عابدين له أي مستعدين للإيمان والعبادة (فبلغ رسالته) إلى عباده كما أمر من غير زيادة ولا نقصان (وجاهد في سبيله) حق جهاده من غير تقصير ولا توان (وعبده) حق عبادته ظاهرا وباطنا (حتى أتاه اليقين) وهو الموت فخرج عن الدنيا طاهرا مطهرا (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) امتثالا لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

(أوصيكم عباد الله) أي أمركم أو أذكركم كذا في المصباح (وأوصي نفسي بتقوى الله) الجار متعلق بالفعلين على سبيل التنازع، والتقوى: وقاية عن شدائد الدنيا والآخرة وكثيرا ما يعبر عنها بالطاعة وإن كانت أخص منها في بعض المواضع كما مرت مرارا (الذي ابتدأ بدأ الأمور بعلمه) البداء الأول الخلق والايجاد ومنه «بدء الخلق» أي خلقهم وأوجدهم أي ابتدأ خلق الأمور وإيجادها بعلمه المحيط بها المقتضي لإعطاء كل شيء ما أراده من الحقيقة ولوازمها وآثارها وكمالاتها وفيه دلالة على اختياره وحدوث الممكنات (وإليه يصير غدا معادها) كما قال عز وجل: (الا إلى الله تصير الأمور) والمراد بالغد: يوم الموت أو يوم القيامة وفيه وعد ووعيد وترغيب في التقوى والطاعة وتخويف عن المخالفة والمعصية (وبيده فناؤها وفناؤكم) اليد:

القدرة، والتقديم للحصر وفيه تنبيه على أن الإفناء والإماتة أيضا منه تعالى كما أن الوجود منه والرجوع إليه فهو أهل لأن يتقى منه ويطاع (فكان قد زالت عن قليل عنا وعنكم كما زالت عمن كان قبلكم) أشار به إلى قلة مدة العمر وسرعة زوالها، وحث بالتشبيه على العبرة بالماضين كيف دخلوا في الدنيا ومضوا مسرعين بزوال آجالهم، وبقوا مشتغلين بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فقدر نفسك

ص:243

كأحدهم (فاجعلوا عباد الله اجتهادكم في الدنيا التزود من يومها القصير ليوم الآخرة الطويل) الفناء للتفريع لأن ما بعده كالمعلول للسابق إذ كون الوجود منه ذكر القصير تنفير عن الدنيا وتسهيل لتحمل التعب من العمل كما أن في ذكر الطويل تهويلا من الفقر والإفلاس فيه، والمراد بالزاد الأعمال الصالحة سميت زادا لاحتياج الناس في البقاء الأخروي إليها كاحتياجهم إلى الزاد في البقاء الدنيوي (فإنها دار عمل) ولا عمل بعد الخروج منها (والآخرة دار القرار والجزاء) أي المكافاة وفيها بجد كل عامل ما عمل من خير وشر (فتجانوا عنها) أي عن الدنيا ولا تركنوا إليها وخذوا من هذه الدار الفانية أنواع المعارف والطاعات للدار الباقية (فإن المغتر من اغتربها) الظاهر أن الأول من الغرة بالكسر: وهي الغفلة، والثاني من الغرور: وهو الخدعة، أي الغافل عن الله وعن أمر الآخرة من انخدع بالدنيا وزهراتها فإنها تعرض نفسها للراكن إليها حتى تجدد له مطالب وهمية وأمارات خيالية في تحصيلها فربما لم تحصل له وينكشف بطلان تلك الأمارات بعد العناء الطويل وربما تحصل له مع مشقة شديدة ولا تدوم له بل تأخذه الدنيا منه عن قريب وتغلبه فتخرج منها فريدا وحيدا مسكينا وكلا الأمرين شاق على النفس، كما أشار إليه بقوله (لن تعدوا الدنيا إذا تناهت إليها أمنية أهل الرغبة فيها المحبين لها المطمئنين إليها المفتونين بها، أن تكون كما قال الله عز وجل. اه) أي لن تتجاوز الدنيا عند تناهي أماني الراغبين فيها وحصول متمنياتهم كما هي أن تكون مشابهة لما تضمنته الآية الكريمة فقوله «أن تكون» مفعول لن تعدوا، وبالجملة شبه حالهم في سرعة زوالهم وذهاب نعيمهم وانقطاع متمنياتهم بعد إقبالها واهتزازهم بها بحال الأرض في نضرتها وخضرتها وبهجتها وحسنها بالنبات الحاصل من الماء، ثم سرعة تعقب الهلاك والزوال والفناء، ثم أشار إلى أن نعماء الدنيا مشوبة ببلائها وزهراتها مختلطة بآفاتها جرا عن الميل إليها وصرف العمر فيها وتبديل النعماء الأخروية الصافية الدايمة بها بقوله (مع أنه لم يصب امرء منكم في هذه الدنيا حبرة) وهي بالفتح:

النعمة الحسنة وسعة العيش (إلا أورثته عبرة) وهي بالفتح: الدمعة قبل أن يفيض أو الحزن بلا بكاء (ولا يصبح فيها في جناح أمن) أي في ظل جناح أمن أو تحت جناحه كبيض الطير أو فرخه تحت جناحه وفيه مكنية وتخييلية (إلا وهو يخاف فيها نزول جايحة): هي آفة تهلك الثمار ومصيبة عظيمة وفتنة مبيرة (أو تغير نعمة أو زوال عافية) كل ذلك ظاهر لأهل الدنيا بمشاهدة انقلاباتها وتغير حالاتها ثم ذكر ما يوجب ترك الدنيا لمن تأمل وتدبر وتعقل وتفكر فقال: (مع أن الموت من وراء ذلك) من تفكر في أمر الموت وشدائده وضرورة وقوعه يستعد له ويمنعه عن الطعام والشراب فضلا عن الاطمينان في الدنيا التي هي بمنزلة السراب (وهول المطلع) قيل: هو رؤية

ص:244

ملك الموت وفي الصحاح هو موضع الاطلاع من أشرف إلى انحدار وفي الحديث هول المطلع شبه ما أشرف من أمر الآخرة عليه، وفي النهاية يريد به الموقف يوم القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت، فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال (والوقوف بين يدي الحكم العدل) أشار بذكر الوقوف إلى ذل الخلائق حينئذ ويذكر الحكم إلى جريان حكمه عليهم وبذكر العدل إلى أنه يثيب المطيع ويعاقب العاصي، ولا يجوز أن يعكس أو يمنع الحق عن المستحق وفيه تحريض على الطاعة وتبعيد عن المعصية وأعظمها حب الدنيا والميل إليها (تجزي كل نفس بما عملت) كأنه استيناف جوابا عن سبب الوقوف أو غرضه والمراد بالموصول الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة وأضدادهما ثم فصل ذلك مع زيادة بقوله (ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أي: المثوبة الحسنى أو المعاملة الحسنى أو المنزلة والمرتبة الحسنى وهي الزلفى أو الجنة وفي جعل جزاء الإساءة ما عملوا وجزاء الإحسان الحسنى تنبيه على أن جزاء السيئة لا يضاعف وجزاء الحسنة يضاعف، ثم أمر بعد الأوصاف المقتضية للتقوى والمسارعة إلى الطاعة وما يوجب الرضوان والتقرب بهذه الأمور على سبيل التفريع فقال: (فاتقوا الله عز ذكره) حق تقاته بالحذر عما يكرهه من منهياته.

(وسارعوا إلى رضوان الله) أي: إلى سبب رضوانه (والعمل بطاعته) المندرجة فيها طاعته رسوله وطاعة ولي الأمر بعده (والتقرب إليه بكل ما فيه الرضا) الظاهر أنه متعلق بالتقرب فيدل على أن كل ما فيه رضاه تعالى هو سبب للتقرب إليه لكن بشرط مقاربته للخلوص بل الخلوص داخل فيه لأنه في نفسه سبب للتقرب وشرط لاعتبار سائر ما يتقرب به ولا يكون في غيره رضاه تعالى حتى يقترن به ثم حرض على ما ذكر بقوله (فإنه قريب مجيب) كما قال عز وجل: (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وذلك لأن العاقل إذا علم أنه قريب مجيب بعثه هذا العلم على السعي في العمل والاجتهاد فيه ثم أشار إلى أنه لابد للعامل من سلب الحول والقوة عن نفسه والتمسك بحول الله وقوته ولطفه وتوفيقه في جميع الأمور بقوله (جعلنا الله وإياكم ممن يعمل بمحابه ويجتنب سخطه) والمراد بهذا الجعل صرف وجوه توفيقاته وألطافه وهداياه الخاصة التي لأوليائه إلينا والعبد بعد توجهه إلى الخيرات يستحق لهذه الفيوضات والمحاب: اسم مفعول بمعنى المحبوب في لغة هذيل، والمراد بسخطه: موجباته وهي ما يقتضي عقوبته (ثم أن أحسن القصص) أي: أحسن الخبر والحديث المنقول على وجهه ولزوم متابعته يقال: قصصت الخبر قصا من باب فتل أي حدثته على وجهه والاسم القصص بفتحتين وقصصت الأثر تتبعته (وأبلغ الموعظة) أي أكملها البالغ غاية الكمال أو غاية الفصاحة والبلاغة، والموعظة كما مر كلام مشتمل

ص:245

على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله تعالى على وجه يرق له القلب (وأنفع التذكر) أي تذكر أمر الآخرة ودوام ثوابها وعقابها وعظمة شدايدها وأمر الدنيا وسرعة زوالها وفناء نعيمها وشوب زهراتها بمصيباتها وتحولاتها.

(كتاب الله تعالي) وهو الوافي بجميع ذلك لمن تفكر، والكافي لمن تأمل وتذكر، لم يترك شيئا مما ينبغي وما لا ينبغي من أمر الدنيا والآخرة (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) أمر بالاستماع لينتقل إلى المقصود وبالانصات لئلا يشتغل القلب بغيره وجعل الغاية رجاء نيل الرحمة التي هي غاية أمنية العابدين (والعصر) أقسم بالعصر وهو الدهر الذي من أعظم آثار قدرته الجديد ان أو ما بعد الزوال إلى الغروب أو آخر ساعة من النهار أو صلاة العصر أو عصر النبوة على اختلاف المفسرين وجواب القسم قوله (إن الإنسان لفي خسر) في أعمالهم وصرف أعمارهم واللام للاستغراق والتنكير للتعظيم.

(إلا الذين آمنوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (وعملوا الصالحات) فنجوا بهذين الوصفين عن الخسران واستحقوا للسعادة والكرامة والإحسان (وتواصوا بالحق) أي أوصى بعضهم بعضا وأمر كل واحد الآخر بالحق من العقد والعمل والصبر على أخذه ومشقة تحمله أو على مصائب الدنيا ونوائبها أو عن المعصية والتقحم فيها، هذا وقد قرأ (عليه السلام) سورة كاملة في الخطبة الأولى ولم يقرأ شيئا في الثانية والمشهور أنه لابد فيها أيضا من سورة كاملة، واكتفى بعض الأصحاب بالآية التام الفائدة والاحتياط ظاهر (وبارك على محمد وآل محمد) بارك: إما من بروك البعير إذا استناخ ولزم مكانا واحدا لا يخرج منه أو من البركة: بمعنى النماء والزيادة، والمعنى على الأول: أدم عليهم الكرامة والتشريف، وعلى الثاني: زدهم تشريفا بعد تشريف وكرامة بعد كرامة (وتحنن على محمد وآل محمد) في كنز اللغة: «تحنن مهرباني كردن» (وسلم على محمد وآل محمد) أي خلصهم من الآفات الدنيوية والأخروية، وطهرهم من الأرجاس البدنية والروحانية وهم طاهرون منها، والطلب للتيمن والتبرك والتقرب بهم (كأفضل ما صليت وباركت وترحمت وتحننت وسلمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد) أراد أن يكون كل فرد من أفراد الصلاة على محمد (صلى الله عليه وآله)، وكذا كل فرد من أفراد ما عطف عليها كأفضل أفراد الصلاة على إبراهيم وأفضل أفراد ما عطف عليها في كونه في غاية الكمال وبالجملة للصلاة على إبراهيم أفراد متفاوتة بعضها في غاية الكمال دون بعض وأراد بالتشبيه أن يكون كل فرد من افراد الصلاة على محمد وآله كأفضل أفراد الصلاة على إبراهيم في بلوغه إلى حد الكمال، فلا يلزم منه إلحاق الناقص بالكامل بل إلحاق كل فرد من طرف المشبه بأفضل الأفراد من طرف المشبه به بل يفهم منه تفضيله (صلى الله عليه وآله) على إبراهيم (عليه السلام) وتفضيل

ص:246

صلاته على صلاته وعليه فقس فليتأمل (اللهم أعط محمدا الوسيلة) في كنز اللغة الوسيلة:

«دست آويز وهر چه باو نزديكى جويند بچيزى» والوسيلة أيضا: أعلى درجات الجنة ونهاية القرب، وأيضا: المنبر يوضع يوم القيامة له ألف مرقاة كما مر وهذه الأمور التي طلبها له (صلى الله عليه وآله) كلها حاصلة له وليس الغرض من طلبها طلب حصولها له لاستحالة تحصيل الحاصل بل الغرض منه إظهار الشعف والسرور بحصولها له وطلب التقرب منه بذكر فضائله والرضا بها (وأوجههم عندك يوم القيامة جاها) أي أفضلهم وأكرمهم والوجه سيد القوم والجاه القدر والمنزلة (وحباء السلام) حبى فلانا أعطاه والاسم الحباء ككتاب (وألحقنا به غير خزايا) خزى يخزي خزاية بالفتح استحيى فهو خزيان، والجمع خزايا والمخزية على صيغة فاعل من أخزى: الخصلة الذميمة أي غير مستحيين منه بالمخزية من الأفعال والأخلاق (ولا ناكثين) أي غير ناقضين لعهده وعادلين عن طريقة (ولا نادمين) عن قبايح أعمالنا والسلب باعتبار انتفاء الموضوع (ولا مبدلين) لأحكامه وشرائعه وآدابه أوله بغيره (إله الحق آمين) في المصباح آمين بالقصر في الحجاز والمد بإشباع بدليل أنه لا يوجد في العربية كلمة على فاعيل ومعناه «اللهم استجب» وقيل: معناه كذلك يكون والموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أن التشديد خطأ وقال بعضهم التشديد لغة وهو وهم قديم وذلك أن أبا العباس أحمد بن يحيى قال «وآمين مثل عاصين» أن المراد صيغة الجمع لأنه قابله بالجمع وهو مردود بقول ابن جنى وغيره أن المراد موازنة اللفظ اللفظ لاغير ويؤيده قول صاحب التمثيل في الفصيح والتشديد خطأ.

(ثم جلس قليلا) الجلوس بين الخطبتين واجب للتأسى ولدلالة الروايات المعتبرة عليه ولا يجوز تركه إلا مع الضرورة (ثم قام فقال: الحمد لله أحق من خشي وحمد) لأن استحقاق أحد للخشية والخوف منه والحمد والثناء له إنما هو على قدر عظمة وقدرته وكثرة إحسانه ومحامده وقد عجزت عن معرفة عظمته وقدرته عقول العارفين، وعن إحسانه ومحامده ألسنة العاملين (وأفضل من اتقى وعبد) لأنه أهل لأن يتقى من مخالفته وعقوبته ويتذلل له بعبادته وطاعته، والاتقاء من الغير والطاعة له فإنما هو بأمره (وأولى من عظم ومجد) لأن التعظيم والمجد: أي العز والشرف يكونان إما لشرف الذات أو لشرف الوجود أو لصفات أو لكمال الأفعال والإحسان وكل ذلك على وجه الكمال له وأما غيره فهو في ذل الحاجة إليه من جميع هذه الجهات والسائل المفتقر إليه في الاتصاف بجميع الكمالات، فتعظيمه وتمجيده راجعان إليه في الحقيقة، ثم حمده على وجه يدل على التجدد لوقوعه مقابل نعمة بقوله (نحمد لعظيم غنائه): أي نفعه وفي الكنز:

«غنى آسوده داشتن وفايده دادن» (وجزيل عطائه) كثرة عطاياه في حد لا يحمل قليلا منها

ص:247

الدفاتر ويعجز عن عد واحد من ألف ألسنة الأكابر (وتظاهر نعمائه) أي ظهور بعضها عقب بعض وتقوية السابق باللاحق (وحسن بلائه) البلاء المنحة والعطية والنعمة والبلاء الحسن العطاء الجميل ولو أريد به المحنة فالمراد به البلاء الموجب لتذكر أمر الآخرة والرجوع إليه سبحانه وأما الموجب لفساد الدين فقد وقعت الاستعاذة منه (ونؤمن بهداه الذي لا يخبو ضياؤه) الخبوء:

خمود لهب النار خبت النار خبوا من باب قعد خمد لهبها ويعدى بالهمزة، والمراد بالهدى: القرآن أو الرسول أو القوانين الشرعية، وعلى التقادير تشبيهة بالنار مكنية وإثبات الضياء له تخييلية والخبو: ترشيح (ولا يتهمد سناؤه) التهمد والهمود: وهو الموت وطفؤ النار أو ذهاب حرارتها وفي بعض النسخ «يتمهد» من المهد وهو الوضع ومنه المهاد للفراش يوضع ويوطأ والسناء على الأول بالقصر وهو ضوء البرق وفيه مكنية وتخييلية وترشيح وعلى الثاني بالمد وهو الرفعة.

(ولا يوهن عراه) الوهن الضعف وفعله من باب وعد وورث وكرم وأوهنه أضعفه، والمراد بالعروة القوانين الشرعية والأحكام الإلهية وفيه أيضا مكنية وتخييلية وترشيح (ونعوذ بالله من سوء كل الريب): الشك في الحقوق الثابتة لله وللخلق مثل الشك في ذاته تعالى ووجوده ووحدته واختياره وساير صفاته اللايقة به وفي كتابه ورسوله وما جاء به رسوله وفي أوصيائه واحد بعد واحد إلى غير ذلك كله سوء يجب الاستعاذة منه على كل أحد وإن كان متصفا باليقين لأن الإنسان لا يأمن من المزلة والنسيان ولكن ذلك منه (عليه السلام) على سبيل التعليم أو التعبد وإظهار العجز والعبودية، وإلا فساحة عصمته وكمال علمه منزهة من دخول الريب اللازم للجهل فيها (وظلم الفتن) الفتنة:

المحنة والبدعة وغيرهما مما يوجب الميل عن الحق مثل المال والجمال والحسب الكريم والنسب الشريف وكثرة العشائر وغيرها وتشبيهها بالشيء المظلم في عدم اهتداء من وقع فيه مكنية واثبات الظلمة لها تخييلية (ونستغفره من مكاسب الذنوب) جمع الذنب: الاثم، ومكاسب الذنوب: مواضع كسبها من الأفعال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة (ونستعصمه عن مساويء الأعمال) مساويء: «بديها» وكأنها جمع سوء على غير قياس كالمحاسن جمع حسن أو جمع مساوة، وفي المصباح المساءة نقيض المسرة وأصله مسوءة على مفعلة بفتح الميم والعين ولهذا ترد الواو في الجمع فيقال هي المساوى لكن استعملوا الجمع مخففا (ومكاره الآمال) المكاره: المقابح من كره الأمر والمنظر كراهة فهو كريه مثل قبح قباحة فهو قبيح وزنا ومعنى، والأمل والطمع والرجاء في الأمور الدنيوية زيادة على القدر المحتاج إليه في أصل البقاء وقوام البدن والقوة على العبادة وهو المسمى بالكفاف كلها مقابح والفرق بينها أن أكثر استعمال الأمل فيما يستبعد حصوله والطمع فيما يقرب حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع، فإن الراجي قد يخاف

ص:248

أن لا يحصل مرجوه فإن قوى الخوف يستعمل استعمال الأمل وإلا استعمل بمعنى الطمع (والهجوم في الأهوال) هجمت وعليه هجوما من باب قعد دخلت فيه بغتة على غفلة، والهول: ما يخاف منه ويفزع لشدته واضراره، وموضع مهيل بفتح الميم ومهال أيضا أي مخوف (ومشاركة أهل الريب) في مجالستهم أو في معاملتهم أو في دينهم بالتظاهر والتعاون فيه (والرضا بما يعمل الفجار في الأرض بغير الحق) لأن الرضاء بالفسق فسق، فالراضي به فاسق مثل العامل به وقوله «بغير الحق» تأكيدان خص عملهم بالفجور، وتقييد أن عمم والبواقي ظاهر (وسنوا سنتك) أي ساروها أو أحسنوا القيام عليها والسنة الطريقة والسيرة.

* الأصل:

195 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن محمد ابن الفضيل، عن أبي حمزه قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لكل مؤمن حافظ وسايب، قلت:

وما الحافظ وما السايب يا أبا جعفر؟ قال: الحافظ من الله تبارك وتعالى حافظ من الولاية يحفظ به المؤمن أينما كان، وأما السايب فبشارة محمد (صلى الله عليه وآله) يبشر الله تبارك وتعالى بها المؤمن أينما كان وحيثما كان.

* الشرح:

قوله: (حافظ من الولاية) أي ملك حافظ من الولاية بأن لا يزل من ولاية الحق إلى ولاية الباطل يحفظه الله تعالى بذلك الحافظ المؤمن من الخروج عنها أينما كان من شرق الأرض أو غربها أو سهلها أو جبلها أو برها أو بحرها (وأما السايب) كأنه من السيب: بمعنى العطاء أو الجري (فبشارة محمد (صلى الله عليه وآله)) بشرته أبشره من باب قتل في لغة تهامه وما والاها والتعدية بالتثقيل لغة عامة العرب والبشارة بكسر الباء والضم: لغة وإضافتها إلى الفاعل وهي في الخير أكثر من الشر وإذا أطلقت اختصت بالخير (يبشر الله تبارك وتعالى بها المؤمن أينما كان وحيثما كان) لعل هذه البشارة عند لقاء الموت فإنه يحضر المؤمن ويبشره بكرامة الله ورحمته ويخبره بمآل حاله في الجنة كما دلت عليه الروايات.

* الأصل:

196 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحجال، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تقلهم».

ص:249

* الشرح:

قوله (خالط الناس تخبرهم ومتى تخبرهم تقلهم) خبرت الشيء أخبره من باب قتل خبرا: علمته وأنا خبير، والخبرة: معرفة بواطن الأمور. والقلي بالكسر والقصر وبالفتح والمد: البغض، قلاه، يقليه:

أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه وقليه كرضيه يقلاه لغة طي والمعنى: خالط الناس وجربهم فإنك إن خالطتهم وجربتهم تخبرهم: أي تعرف مآل حالهم في الآخرة وانهماكهم في تحصيل الدنيا وجمع زخارفها وخبث عقايدهم وسوء أخلاقهم وكمال بعدهم عن ذكر الله تعالى، ومتى تخبرهم وتعرفهم بهذه الخصائل الذميمة تقلهم، يعني: تبغضهم أشد بغض ولا تحبهم، وهذا في اللفظ أمر وفي المعنى خبر أي من خالطهم أبغضهم وتركهم قال السيد رضى الدين في نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «تخبره تقله» ثم قال: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: قال المأمون: لولا أن عليا (عليه السلام) قال «أخبره تقله» لقلت أنا: أقله تخبر قال بعض الشارحين حمل مأمون أخبر على معنى اختبر أي تبغضه تختبره ولكل وجه فإن من اختبر من لا يحصل مرامه منه يبغضه ومن أبغض آخر يختبره ومن الناس من روى هذا لرسول (صلى الله عليه وآله) ومما يقوى أنه من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي.

* الأصل:

197 - سهل، عن بكر بن صالح رفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الاسلام أصل.

* الشرح:

قوله (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) قيل: إنما جعلوا كالمعادن لما فيهم من الاستعدادات المتفاوتة، فمنهم قابل لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنهم غير قابل لها وقيل: لأن فيهم مبدأ الإيمان والكفران وأصل الطاعة والعصيان وغير ذلك من الخيرات والشرور وهي فيه كالنخلة في النواة والنار في الحجر، كما أن في المعادن ذهب وفضة وجيد ورديء، يظهر كل بالتمحيص والتجربة والامتحان وإلى ذلك أشار بقوله (فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل) أصل كل شيء ما يستند إليه ذلك الشيء، كالأب للولد والعرق للشجر، والنهر للجدول، ولعل المراد أن من له في علم الله أصل الإيمان ومادته في الجاهلية فله ذلك بعد لإسلام وهو يؤمن به ومن له مادة الكفر فيها فله ذلك بعده وهو يكفر به والغرض هو إظهار البعد بين حال

ص:250

المؤمن وحال الكافر ويقرب منه ما مر عن سيد العابدين (عليه السلام) قال: «إن العبد إذا كان خلقه الله في الأصل أصل الخلق مؤمنا في علمه لم يمت حتى يكره الله إليه الشر ويباعده منه، وإن العبد إذا كان الله خلقه في الأصل أصل الخلق كافرا لم يمت حتى يحبب إليه الشر ويقربه منه» وهذا بعض كلامه وإن شئت تمامه فارجع إلى حديثه المذكور في صدر هذا الكتاب، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى تقدم بني هاشم على غيرهم في الشرف والمنزلة في الجاهلية والإسلام، فإن شرفهم في الجاهلية أيضا مشهور ومكارم أخلاقهم لا يدفعها دافع ويؤيده أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين 7 أن فلانا وفلانا أقدم منك، وأظهر أيضا أولويته عليه فكتب (عليه السلام) في جوابه: «لولا نهى الله تعالى من تزكية المرء لنفسه لذكرت جمة من فضايلي فإنا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا» ثم أظهر أن عزه قديم دون عزه وعز قومه وبين التفاوت بين بني هاشم وبني أمية، قال بعض الشارحين لكلامه (عليه السلام): وفيه إشارة إلى أن شرفهم لا يختص بالإسلام فإن شرفهم وعلو منزلتهم ومنزلة آبائهم قبل الإسلام أيضا مشهور.

* الأصل:

198 - سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن محمد بن سنان، عن معاوية بن وهب قال: تمثل أبو عبد الله (عليه السلام) ببيت شعر لابن أبي عقب:

وينحر بالزوراء منهم لدى الضحى * ثمانون ألفا مثل ما تنحر البدن وروى غيره البزل. ثم قال لي: تعرف الزوراء؟ قال: قلت: جعلت فداك يقولون: إنها بغداد قال: لا، ثم قال (عليه السلام): دخلت الري؟ قلت: نعم، قال:

أتيت سوق الدواب؟ قلت: نعم، قال: رأيت الجبل الأسود عن يمين الطريق؟ تلك الزوراء يقتل فيها ثمانون ألفا منهم ثمانون رجلا من ولد فلان كلهم يصلح للخلافة، قلت: ومن يقتلهم جعلت فداك؟ قال: يقتلهم أولاد العجم.

* الشرح:

قوله: (تمثل أبو عبد الله (عليه السلام) ببيت شعر لابن أبي عقب. انتهى) كأنه سمعه من المعصوم وأدرجه في سلك النظم ويدل على جواز التمثيل بالشعر وإنشاده إذا كان صادقا غير مؤذ لأحد أو حكمة، وينحر على صيغة المجهول، وثمانون في مقام الفاعل والباء في بالزوراء بمعنى «في» والبدن بضمتين وإسكان الدال تخفيف جمع البدنة محركة وهي الإبل (وروى غيره البزل) بدل

ص:251

البدن والظاهر أن ضمير غيره راجع إلى معاوية بن وهب وأن هذا كلام المصنف أو محمد بن سنان، والبازل من الإبل: ما دخل في السنة التاسعة، والذكر والأنثى سواء، يقال: جمل وناقة بازل وبزول إذا طلع نابه، والجمع كركع وكتب وبوازل (قال: لا) لعل المراد أن المقصود بالزوراء ههنا ليس بغداد إلا أن الزوراء لا يطلق عليها لأن صاحب القاموس قال فيه: زوراء دجلة وبغداد لأن أبوابه الداخلة جعلت مزورة عن الخارجة (منهم ثمانون رجلا من ولد فلان كلهم يصلح للخلافة) لرفعة شأنهم من حيث الدنيا وكونهم من أولاد الخلفاء وكأنه أراد بفلان عباسا وأشار بذلك إلى قتال أمين مع المأمون فإنه وقع بالري وقتل عساكر أمين هناك وكان عسكر مأمون أهل خراسان وحواليها ويمكن أن يكون إشارة إلى قضية هلاكو.

* الأصل:

199 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن محمد بن زياد، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا»، قال: مستبصرين ليسوا بشكاك.

* الشرح:

قوله: (قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا)، قال: مستبصرين ليسوا بشكاك) في تلك الآيات بإنكارها أو بعدم معرفة حقها، والمعنى لم يسقطوا ولم يقيموا عليها غير واعين لها ولا مبتصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر بل أكبوا عليها سامعين بأذن واعية متبصرين بعيون واعية وفيه وعد بأن الثواب المذكور في الآية إنما هو للمؤمن المستبصر الموقن والآيات شاملة للأئمة (عليهم السلام) لأنهم الآيات الكبرى وأعظم أفرادها بهم يعرف الله ويعبد.

* الأصل:

200 - عنه، علي، عن إسماعيل بن مهران، عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» فقال: الله أجل وأعدل] وأعظم [من أن يكون لعبده عذر لا يدعه يعتذر به، ولكنه فلج فلم يكن له عذر.

* الشرح:

قوله: (ولكنه فلج فلم يكن له عذر) الفلج بالضم والسكون والجيم: الغلبة يقال فلج أصحابه

ص:252

وعلى أصحابه إذا غلبهم ويمكن أن يكون بالحاء المهملة بمعنى: القطع والشق يقال فلجت الحديد فلجا من باب منع إذا قطعته وشققته وفلج على الاحتمالين مبني للمفعول أي غلب أو قطع وكسر فلم يكن له عذر في ترك الحق والإقرار بالإمام العادل ومتابعته حتى يعتذر به.

* الأصل:

201 - علي، عن علي بن الحسين، عن محمد الكناسي، قال: حدثنا من رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز ذكره: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» قال: هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ليس عندهم ما يتحملون به إلينا فيسمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلونه إليهم فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء، فأولئك الذين يجعل الله عز ذكره لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.

وفي قول الله عز وجل: (هل أتاك حديث الغاشية)؟ قال: الذين يغشون الإمام إلى قوله عز وجل:

(لا يسمن ولا يغني من جوع) لا ينفعهم ولا يغنيهم، لا ينفعهم الدخول ولا يغنيهم القعود.

* الشرح:

قوله: (قال: هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء) إشارة إلى من الموصولة والجمع باعتبار المعنى والمراد بالضعف: ضعف حالهم في الدنيا للفقر كما فسره بقوله (ليس عندهم ما يتحملون به إلينا) التحمل: تكلف حمل شيء أي ليس عندهم ما يتحملون به المسير إلينا من الزاد والراحلة وغيرهما من أسباب السفر (فيسمعون حديثنا) متفرع على المنفى (ويقتبسون من علمنا) اقتبس العلم استفاده (فيرحل قوم فوقهم) فوقية دنيوية بالغناء والمال، ولعل المراد بالقوم أهل الخلاف كالزيدية والإسماعيلية والفطحية والواقفية وأمثالهم، ولو أريد بهم الإمامية أو الامامية أيضا ينبغي حمل التضييع على تضييع العمل بالمروي أو على الأعم منه ومن إنكاره، إلا أنه يرد أن الإمامية الناقلين إن عملوا كانوا مندرجين تحت الآية كالضعفاء بل هم أولى بالدخول، والضعفاء إن لم يعملوا كانوا خارجين عنها، فالفرق بينهما بأن الناقلين خارجون والمنقول إليهم داخلون غير واضح فليتأمل (وينفقون أموالهم) بتجهيز أسباب السفر (ويتعبون أبدانهم) بتحمل مشاقه (حتى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلوه إليهم) أي إلى شيعتنا الضعفاء (فيعيه هؤلاء) أي يحفظه

ص:253

الشيعة الضعفاء (ويضيعه هؤلاء) أي الأغنياء (فأولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا) من الضيق ويرزقهم رزقا روحانيا وهو العلم بالشرع والعمل به (من حيث لا يحتسبون) رزقهم منه، وبالجملة لما دلت الآية الكريمة على أن التقوى: وهي التحرز من الكفر مطلقا وما يوجب التأثم والشغل بغير الله تعالى سببا للرزق الجسماني والروحاني بتوارد الفيض الرباني من حيث لا يحتسبون أشار (عليه السلام) إلى أن من اتصف بها هم الشيعة وإن من جملة رزقهم الذي يأتيهم من حيث لا يحتسبون تعلمهم حديث أهل العصمة (عليهم السلام) والعمل به ونقله إليهم على النحو المذكور.

(وفي قول الله تعالى هل أتاك حديث الغاشية، قال: الذين يغشون الإمام) الغاشية: الداهية التي يغشى الناس شدايدها، قال أكثر المفسرين: هي القيامة، وقال بعضهم: هي النار وقال (عليه السلام): من يغشى الإمام المنصوب من قبل الله تعالى بالسوء والآية لبيان شدائدهم الأخروية وعقوباتهم الأبدية ومن جملتها أن ليس لهم طعام إلا من ضريع، روي عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

الضريع: شيء في جهنم أمر من الصبر وأنتن من الجيفه وأحر من النار، وتأويل الغاشية بهذا تأويل آخر غير ما ذكر من أن الغاشية، الصاحب المنتظر (عليه السلام)، يغشاهم بالسيف إذا ظهر، والتاء للمبالغة ويعلم منه أنه قد يكون للآية تأويلات كلها صحيحة (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) إلى قوله تعالى (لا يسمن ولا يغني من جوع قال: لا ينفعهم ولا يغنيهم لا ينفعهم الدخول ولا يغنيهم القعود) الإسمان: إكثار اللحم والشحم وقد يجعل كناية عن النفع. والإغناء: النفع والجوع:

ضد الشبع ويطلق أيضا على العطش وعلى الاشتياق إلى الشيء. والدخول في الأمر الأخذ فيه، والقعود عن الأمر التأخر والتباعد عنه والقعود للأمر الاهتمام له عرفت هذا فنقول: إن قوله: لا يسمن وما عطف عليه على تفسير المفسرين صفة لضريع أو استيناف كأنه قيل هل في أكل الضريع نفع مطلوب من الأكل وهو السمن ورفع الجوع، فأجيب بأنه لا، وعلى تأويله (عليه السلام) استيناف عن سؤال آخر كأنه قيل: هل ينفع الغاشية ما قصدوه من إيصال الضر إلى الإمام واطفاء نوره وهل يترتب على فعلهم ذلك؟ فاجيب بأنه لا ينفعهم الدخول فيما يقتضى وصول الضرر إليه ولا ينفعهم القعود لذلك والاهتمام به (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) وهذا الذي ذكرناه من باب الاحتمال والله يعلم.

* الأصل:

202 - عنه، عن علي بن الحسين، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء

ص:254

عليم» قال: نزلت هذه الآية في فلان وفلان وأبي عبيدة الجراح وعبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة والمغيرة بن شعبة حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتوافقوا: لئن مضى محمد لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوة أبدا، فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية، قال: قلت: قوله عز وجل: «أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلي ورسلنا لديهم يكتبون».

قال: وهاتان الآيتان نزلنا فيهم ذلك اليوم، قال أبو عبد الله (عليه السلام): لعلك ترى أنه كان يوم يشبه يوم كتب الكتاب إلا يوم قتل الحسين (عليه السلام) وهكذا كان في سابق علم الله عز وجل الذي أعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن إذا كتب الكتاب قتل الحسين (عليه السلام) وخرج الملك من بني هاشم فقد كان ذلك كله.

قلت: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) قال: الفئتان إنما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة، وهم أهل هذه الآية وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لا يرفع السيف عنهم حتى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم لأنهم بايعوا طائعين غير كارهين، وهي الفئة الباغية كما قال الله تعالى فكان الواجب على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم، كما عدل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة إنما من عليهم وعفى وكذلك صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة حيث ظفر بهم مثل ما صنع النبي (صلى الله عليه وآله) بأهل مكة حذوا النعل بالنعل.

قال: قلت: قوله عز وجل: «والمؤتفكة أهوى» قال: هم أهل البصرة هي المؤتفكة، قلت: « والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات»؟ قال: اولئك قوم لوط ائتفكت عليهم انقلبت عليهم.

* الشرح:

قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) ذكر الثلاثة والخمسة دون الاثنين والأربعة لأن الله تعالى وتر يحب الوتر مع الإشعار بذكر الزوج بعد الاستثناء إلى أن شيئا من العدد لا يخلو من الازدواج معه كما صرح في قوله (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) للتعميم بعد التخصيص (أينما كانوا من فوق الأرض وتحتها وشرقها وغربها والخلاء والملاء (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة) من خير وشر ويجزيهم به (إن الله بكل شيء عليم) إشارة إلى أن المراد بكونه معهم علمه محيطا بظواهرهم وضمائرهم لا معية زمانية أو مكانية (لا

ص:255

تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوة أبدا) أي تعاهدوا في حجة الوداع في الكتاب إلى منع اجتماعهما في بني هاشم حسدا وعنادا وعداوة وحبا للدنيا وميلا إلى كون الخلافة في قريش لئلا تذهب مكر متهم في العرب (فأنزل الله عز وجل فيهم هده الآية) توبيخا ووعيدا لهم والآية وإن نزلت فيهم مضمونها عام ولا ينافي خصوص السبب عمومها ولا يخصصه.

(قال: قلت: قوله عز وجل أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) هم أبرموا أمر التعاهد ورد الخلافة عن بني هاشم وأحكموا ذلك بزعمهم والله سبحانه أبرم وأحكم أمر الخلافة في أهلها (قال أبو عبد الله (عليه السلام) لعلك ترى أنه كان يوم يشبه يوم كتب الكتاب إلا يوم قتل الحسين (عليه السلام). انتها) شبه يوم قتل الحسين (عليه السلام) بيوم كتب فيه الكتاب في كونه مصيبة عظيمة وبلية شديدة على الهاشمين والعلويين والشيعة أجمعين لكونه أصلا ليوم القتل وسببا له إذ لو كانت الخلافة في بني هاشم ولم ينقلوها منهم إلى بني تيم وبني عدى وبني أمية لم يقع قتل الحسين (عليه السلام) (فقد كان ذلك كله) أي كتب الكتاب وقتل الحسين (عليه السلام) وخروج الملك من بني هاشم وكان تامة أو ناقصة وخبرها محذوف أي في علم الله تعالى.

(قلت: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) أي تقاتلوا والافتعال يجيء بمعنى التفاعل مثل اختصموا وفعل الشرط محذوف لوجود مفسر له كما في قوله تعالى «وإن أحد من المشركين استجارك» (فأصلحوا بينهما) بالوعظ والنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى (فإن بغت إحداهما على الأخرى) أي ظلمت وتعدت (فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله) أي ترجع إلى حكمه أو إلى ما أمرت به من ترك البغي (فإن فاءت) بعد المقاتلة إلى أمر الله (فأصلحوا بينهما بالعدل) قيل تقييد الإصلاح بالعدل هنا لأنه مظنة الحيف من حيث أنه بعد المقاتلة ومن العدل العفو عنهم ورد أمواله كما يشير إليه) قال الفئتان) قيل السائل سأل عن الطائفتين فقال (عليه السلام) الفئتان أي هما الفئتان اللتان تعرفهما واللام للعهد وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) أي خرجوا عليه كالمرأة وأصحابها (فكان الواجب عليه) أي على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى من تبعه (قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله) أي إلى طاعة الله تعالى وطاعة الإمام أو يقتلوا كالحربي (لأنهم بايعوه طائعين غير كارهين) فهم كانوا مؤمنين ثم نكثوا وارتدوا فكان هذا دليل لقوله (وهم أهل هذه الآية) إذ هو يقتضي تحقق الإيمان في الطائفتين ولا ينافي ذلك خروج الباغي عن الإيمان (فكان الواجب على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة إنما من عليهم وعفى وكذلك صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة حيث ظفر بهم مثل ما صنع النبي (صلى الله عليه وآله) بأهل مكة حذو النعل بالنعل) أي عمل مثل عمله من غير تفاوت كما تقطع

ص:256

إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى، والحذو: التقدير والقطع، واعلم أنه كان للنبي (صلى الله عليه وآله) سبي نساء مشركي أهل مكة وذراريهم وأخذ أموالهم غنيمة جايز وإنما لم يسب ولم يأخذ على سبيل المن عليهم دون استحقاقهم وظاهر التشبيه في قوله «وكذلك صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة» وظاهر قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلامه «مننت على أهل البصرة كما من النبي (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة يشعر بجواز سبي نساء مقاتلي أهل البصرة وذراريهم وأخذ أموالهم مطلقا لأمير المؤمنين (عليه السلام) وإنما لم يسب ولم يأخذ على طريق المن أيضا وجواز أخذ الأموال مشهور بين الأصحاب منهم الشهيد (ره) في خمس الدروس ويؤيده وأنه (عليه السلام) بعد الغلبة على أهل البصرة قسم أموالهم أولا ثم أمر بردها على أصحابها ولولا جوازه لما فعله أولا، ولكن قيدها المجوزون بالأموال التي حواها العسكر مع عدم رجوعهم إلى الطاعة ونقلوا الإجماع على ذلك، وأما ما لم يحوها العسكر وإن كان مما ينقل ويحول أو حواها مع رجوعهم إلى الطاعة وعدم إصرارهم على المخالفة فلا يجوز قطعا، وقال بعضهم لا يجوز أخذ أموالهم مطلقا منهم الشهيد (ره) في اللمعة وأما السبي فلا يجوز على المشهور وجوزه بعض عملا بظاهر التشبيه المذكور.

(قال قلت قوله عز وجل والمؤتفكة أهوى) هو الشيء يهوي هويا بالفتح: سقط من علو إلى سفل، وأهواه: أسقطه، قال المفسرون: هي قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها، انقلبت أهواها بعد أن رفعها وقلبها وقال (عليه السلام): هو البصرة يدل عليه أيضا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه في ذم أهل البصرة «يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها انقلبت بهم ثلاثا وعلى الله تمام الرابعة» وقال في خطبة أخرى: «وإنها: يعني البصرة لأسرع الأرض خرابا وأخبثها ترابا وأشدها عذابا ولقد خسف بها في القرون الخالية مرارا وليأتين عليها زمان» وقال علي بن إبراهيم في تفسيره: وقد ائتفكت بأهلها مرتين وعلى الله تمام الثالثة (قلت والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات قال: أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم انقلبت عيهم) كما هو المشهور، قال بعض المفسرين كانت أربعة صواه وزاد وما وعامورا وسدوم.

* الأصل:

203 - علي بن إبراهيم، عن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن حنان قال:

سمعت أبي يروي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان سلمان جالسا مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت ومن أبوك وما أصلك؟، فقال: أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالا فهداني الله عز وجل بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكنت عائلا فأغناني الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) هذا نسبي وهذا حسبي.

قال: فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلمان (رضي الله عنه) يكلمهم، فقال له سلمان: يا رسول الله ما لقيت من هؤلاء جلست معهم فأخذوا ينتسبون ويرفعون في أنسابهم حتى إذا بلغوا إلي قال عمر بن الخطاب:

من أنت وما أصلك وما حسبك؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله) فما قلت له يا سلمان؟ قال: قلت له: أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالا فهداني الله عز ذكره بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكنت عائلا فأغناني الله عز ذكره بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) هذا

ص:257

نسبي وهذا حسبي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله وقال الله عز وجل: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله) لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز وجل وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل.

* الشرح:

قوله: (حتى بلغوا سلمان فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت ومن أبوك وما أصلك) افتخر عمر على سلمان بشرف آبائه ولم يعلم أن الشرف كل رجل بأفعال شريفة وأخلاق كريمة وأن شرف الآباء لو كان لا ينفعه وأن العبد الحبشي لو كان له دين ومروة وعقل وتقوى وورع خير من رجل قرشي لم يكن له، ذلك وأنه ليس للانسان إلا ما سعى، وأجاب سلمان بأمور دلت على تذلله وتواضعه لله تعالى، والشكر على نعمه وهي نسبه المشعر بالعبودية والهداية بعد الضلالة التي هي الخروج من دين الحق أو الجهل بالأحكام الشرعية والغنى بعد العيلة، والفقر والعتق بعد الملك، والمراد به: العتق المعروف حمله على العتق من قيد النفس الأمارة بعيد ومما يناسب ذكره في هذا المقام ما ذكره القرطبي قال «سلمان يكنى أبا عبد الله (عليه السلام) وكان ينسب إلى الإسلام فيقول أنا سلمان بن الإسلام ويعد من موالي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنه أعانه بما كوتب عليه فكان سبب عتقه، وكان يعرف بسلمان الخير، وقد نسبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيته فقال: سلمان منا أهل البيت، وأصله فارسي من رامهرمز قرية يقال لها جي وقيل: بل من أصبهان وكان أبوه مجوسيا فنبهه الله تعالى على قبح ما كان عليه أبوه وقومه وجعل في قلبه التشوق إلى طلب الحق فهرب بنفسه إلى أن وصل إلى الشام فلم يزل يجول في البلدان ويختبر الأديان ويكتشف الأحبار والرهبان إلى أن دل على واهب الوجود فوصل إلى المقصود بعد مكابدة عظيمة انتهى وسنذكر تفصيل أحواله إن شاء الله تعالى.

ص:258

(فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر قريش إن حسب الرجل دينه) في المصباح الحسب بفتحتين: ما يعد من المآثر وهو يكون في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب: كريم في نفسه، ولا ريب في أن الدين والعمل بما فيه أشرف المآثر والمفاخر (ومروءته خلقه) في المصباح، المروءة:

آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، يقال:

مرؤ الإنسان فهو مريء، مثل قرب فهو قريب أي ذو مروءة قال الجوهري وقد شدد فيقال مروة (وأصله عقله) إذ به يتم كماله وحقيقته وينتسب إلى الأنبياء والأوصياء وقد أشار (صلى الله عليه وآله) أن مزية الإنسان وشرفه بهذه الأمور الثلاثة لا بالنسب وشرف الآباء وشهرتهم (قال الله عز وجل إنما خلقناكم من ذكر وأنثى): أي: من رجل وامرأة وهما آدم وحوا عليهما السلام أو المراد بهما الأب والأم لكل واحد فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب والتعيير والاعتياب به والخطاب لجميع الناس من العرب والعجم والذكر والأنثى والحر والعبد (وجعلناكم شعوبا وقبائل) الشعب بالفتح: ما انقسمت فيه قبائل العرب، والجمع شعوب مثل فلس وفلوس ويقال الشعب: هو الحي العظيم المنسوبون إلى أصل واحد وشعبت القوم شعبا من باب منع جمعتهم وفرقتهم فيكون من الأضداد فالجمع باعتبار جمع كل شعب لأولاده والتفريق باعتبار تميز كل شعب من آخر ويقال أنساب العرب أنقسم ست مراتب: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة بفتح العين وكسرها، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة، فالشعب: هو النسب الأول كعدنان فهو بمنزلة الجنس يندرج فيه سائر المراتب، والقبيلة: ما انقسم فيه أنساب الشعب، والعمارة: ما انقسم فيه أنساب القبيلة، والبطن: ما انقسم فيه أنساب العمارة، والفخذ: ما انقسم فيه أنساب البطن، والفصيلة: ما انقسم فيه أنساب الفخذ، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وقيل:

الشعوب بطون العجم، والقبايل بطون العرب، وقيل: الشعوب باعتبار المدينة والبلد مثل مكي ومدني وغيرهما، والقبايل باعتبار الآباء كالتميمي والهاشمي وغيرهما (لتعارفوا) أي ليعرف بعضكم بعضا لا للتفاخر بالآباء (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) هو من يكون دينه ومروءته وعقله على حد الكمال.

* الأصل:

204 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما ولى علي (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني والله لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب فلتصدقكم أنفسكم أفتروني مانعا نفسي ومعطيكم؟

ص:259

قال: فقام إليه عقيل فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء؟! فقال: اجلس أما كان ههنا أحد يتكلم غيرك وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى.

* الشرح:

قوله: (ثم قال: إني والله لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب) رزأه ماله كجعله وعلمه رزءا بالضم: أصاب منه شيئا وأخذه، والفيء: الغنيمة والخراج، والعذق بالفتح: النخلة بحملها، وبالكسر: العرجون بما فيه من الشماريخ (فلتصدقكم أنفسكم) أي فلتكن قلوبكم موافقه لألسنتكم في الجواب ولا تقولوا بأفواهكم ما ليس في قلوبكم (أفتروني مانعا نفسي ومعطيكم) ممن لا يستحق أو زائدا عما تقضية القسمة الشرعية وفيه قطع لطمعهم عن الجور في القسمة ضرورة أن الجائر يقدم نفعه على نفع غيره فعدم الأول يدل على عدم الثاني (قال: فقام إليه عقيل فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء) كأنه أراد بالأسود من اعتقه عمار فأعطاه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعطى مولاه وساير المسلمين ثلاثة دنانير كما مر في شرح الأصول وفيه دلالة على سوء أدب عقيل وأنه لم يرض بما فعله العالم الراباني حتى توسل بمعاوية كما هو المشهور وعلى كمال عدل أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث لم يفضل القريب على البعيد والشريف على غيره (وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى) أي ما فضلك على الأسود لما افتخر عقيل بشرف النسب وكرم الأصل زجره (عليه السلام) عن ذلك وأشار إلى أن التفاضل بين الناس إنما هو بالإيمان والاعمال أو بتقوى الله الذي يتحقق بترك الدنيا ورفض الأهواء النفسانية والمعاصي لا بالأنساب.

* الأصل:

205 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الصفا فقال: يا بني هاشم! يا بني عبد المطلب! إني رسول الله إليكم وإني شفيق عليكم وإن لي عملي ولكل رجل منكم عمله لا تقولوا: إن محمدا منا وسندخل مدخله، فلا والله ما أوليائي منكم ولا من غيركم يا بني عبد المطلب إلا المتقون.

ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم ويأتون الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد أعتذرت إليكم وفيما بيني وبينكم وفيما بيني وبين الله عز وجل فيكم.

* الشرح:

قوله: (ويأتيني الناس يحملون الآخرة) هم الذين رفضوا الدنيا وحيها وتزينوا

ص:260

بحب الآخرة وأعمالها (ألا إني قد أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم وفيما بيني وبين الله عز وجل فيكم) أعذر في الأمر: أبدى عذرا وبالغ وفي المثل، اعذر من أنذر يقال: ذلك لمن يحذر أمرا يخاف سواء حذر أم لم يحذر كذا في المصباح ولعل المراد إني أبديت عذرا يرتفع عني اللوم فيما بيني وبينكم من أن القرابة لا تنفعكم وفيما بيني وبين الله عز وجل فيكم من تبليغ ما هو المطلوب منكم وهو التقوى وغيرها.

* الأصل:

206 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: رأيت كأني على رأس جبل والناس يصعدون إليه من كل جانب حتى إذا كثروا عليه تطاول بهم في السماء وجعل الناس يتساقطون عنه من كل جانب حتى لم يبق منهم أحد إلا عصابة يسيرة ففعل ذلك خمس مرات في كل ذلك يتساقط عنه الناس ويبقي تلك العصابة أما إن قيس بن عبد الله بن عجلان في تلك العصابة قال:

فما مكث بعد ذلك إلا نحوا من خمس حتى هلك.

* الشرح:

قوله: (وجعل الناس يتساقطون عنه من كل جانب) كأنه أخبر بخروج كثير ممن توسل به عن الدين بعد موته (عليه السلام) (فما مكث بعد ذلك إلا نحوا من خمس حتى هلك) قيل: ذكر الكشي هذه الرواية بعينها عن زرارة مع زيارة يسيرة وفيه «فما مكث بعد ذلك إلا نحوا من سنتين حتى هلك صلوات الله عليه».

* الأصل:

207 - عنه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، قال: حدثني أبو بصير قال:

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رجلا كان على أميال من المدينة فرأى في منامه فقيل له: انطلق فصل على أبي جعفر (عليه السلام) فان الملائكة تغسله في البقيع فجاء الرجل فوجد أبا جعفر (عليه السلام) قد توفي .

* الشرح:

قوله: (فإن الملائكة تغسله في البقيع) دل على تحقق الرؤيا الصادقة وعلى أن الملائكة تغسل المعصوم باطنا.

ص:261

* الأصل:

208 - علي بن إبراهيم، عن أحد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالي: «وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها (بحمد)» هكذا والله نزل بها جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها (بمحمد) هكذا والله نزل بها جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلى الله عليه وآله)) شفا كل شيء طرفه المشرف عليه وفيه دلالة ظاهرة على وقوع الحذف فيه (1).

* الأصل:

209 - عنه، عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون» هكذا فاقرأها.

* الشرح:

قوله: (لن تنالوا البر) أي ما هو أولى بإطلاق اسم البر عليه وهو الثواب الكامل والرحمة الواسعة والمقام العالي في الجنة أو ما يوجبها (حتى تنفقوا ما تحبون هكذا فاقرأها) في هذا القرآن مما تحبون وهذه الرواية لو صحت دلت على أن المنزل ما تحبون والفرق بينهما أن «مما» ظاهر في التبعيض مع احتمال أن يكون من لبيان الجنس و «ما» ظاهر في بيان الجنس مع احتمال أن يكون للعموم ولو كان المحبوب متعددا ينبغي انفاق الأحب ويندرج فيه الإنفاق الواجب وغيره.

* الأصل:

210 - عنه، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم (وسلموا للامام تسليما) أو اخرجوا من دياركم (رضى له) ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أن (أهل الخلاف) فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا» وفي هذه الآية «ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت (من أمر الوالي) ويسلموا (لله الطاعة) تسليما.

ص:262


1- 1 - قد مر مرارا أن احتمال السقط في القرآن زعم باطل عند أكابر المحدثين والعلماء ومحمد بن سليمان الديلمي كان غالبا كذابا وكذا أبوه، ولو صحت الرواية فالمراد أن التنزيل بهذا المعني.

* الشرح:

قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم) أي على أهل النفاق والتحاكم إلى الطاغوت وأهل الخلاف المنكرين لو إلى الحق في مرتبته (أن اقتلوا أنفسكم) الأمارة العاصية بالسياسات العقلية والآداب الشرعية (وسلموا للامام تسليما) طوعا ورغبته ظاهرا وباطنا (أو أخرجوا من دياركم) للجهاد ولقاء العدو المحتاج إلى قطع المسافة بعيدة أم لا (رضا له) أي للامام لا لطلب الحياة الدنيا (ما فعلوه إلا قليل منهم) نور الله تعالى قلوبهم بنور الإيمان وهداهم بالهدايات الخاصة إلى سبيل الجنان، هذا من باب الاحتمال والمفسرون فسروه بوجه آخر والله يعلم (ولو أن أهل الخلاف) وهم المذكورون ( فعلوا ما يوعظون به) من التسليم للإمام ومتابعته طوعا ورغبته وغير ذلك مما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة.

(لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) في دينهم لتوقف حصوله ورفع الشك عليه أو في ثواب أعمالهم، والظاهر أن لفظ الخير والأشد هنا إما صفة أو مجرد عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى «خير من اللهو»، أو على فرض الفعل في المفضل عليه وفيه ثلاثة أمور زائدة على ما هو في القرآن الكريم الأول قوله: «وسلموا للإمام تسليما» الثاني: قوله: «رضاله»، الثالث: قوله: «أهل الخلاف» إذا المتواتر ولو أنهم فعلوا ولعل الثالث تفسير للضمير وبيان لمرجعه، والثاني تفسير لعلة الخروج وبيان لغايته، وأما الأول فحمله على التفسير بعيد والظاهر أنه تنزيل ويمكن حمل الأخيرين أيضا على التنزيل والله يعلم «وفي هذه الآية» أي في تفسير هذه الآية وهو عطف على قوله «ولو أنا كتبنا فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم» (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) من أمر الوالي (وسلموا لله الطاعة تسليما) قيل: «لا» في قوله: «فلا وربك» زائدة لتأكيد القسم أي فوربك لا يؤمنون بك حتى يجعلوك حكما فيما اختلف بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا أي ضيقا أو شكا مما حكمت به من أمر الوالي بعدك بأمر الله تعالى ويسلموا لله طاعته في نصب الوالي وطاعة الوالي تسليما عاريا عن الشك، والظاهر إنما فيه من الزائد على ما في القرآن الكريم تفسير له لا تنزيل.

* الأصل:

211 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبي جنادة الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن ورقاء بن حبشي بن جنادة السلولي صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم (فقد سبقت عليهم كلمة اشقاء وسبق لهم العذاب) وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا».

ص:263

* الشرح:

قوله: (في قول الله عز وجل أولئك) أي المنافقون المتحاكمون إلى الطاغوت المعتذرون إليك بأنهم ما أراد بذلك إلا إحسانا وتوفيقا بين الخصمين والفصل بينهما دون مخالفتك الحالفون على ذلك حلفا كاذبا (الذين يعلم الله ما في قلوبهم) من النفاق والشك والمخالفة والحلف الكاذب، فلا ينفعهم الكتمان وإظهار المعذرة باللسان (وأعرض عنهم) أي عن عقابهم أو عن قبول عذرهم (فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء) هو والشقاوة ضد السعادة (وسبق لهم العذاب) في الأزل لعلمه تعالى بأنهم لا يؤمنون (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، لئلا يكون لهم على الله حجة يوم القيامة وفي هذا القرآن المتواتر، وأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم، والظاهر أن ما ذكره (عليه السلام) تفسير واحتمال التنزيل بعيد والله يعلم.

* الأصل:

212 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن بريد بن معاوية قال:

تلا أبو جعفر (عليه السلام): «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم» فإن خفتم تنازعا في الأمور فارجعوه إلى الله وإلى والرسول وإلى أولي الأمر منكم» ثم قال: كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول».

* الشرح:

قوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم) في القرآن الكريم «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول» والظاهر أن ما ذكره (عليه السلام) تفسير وبيان للمقصود (ثم قال كيف يأمر بطاعتهم) أي بطاعة اولي الأمر، والاستفهام للإنكار (ويرخص في منازعتهم)، إنما قال ذلك للمامورين الذين قيل لهم (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فيه رد على العامة، قال القاضي وغيره: فإن تنازعتهم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين فراجعوا فيه إلى كتاب الله والسؤال من الرسول في زمانه وإلى سنته بعده ويريد بأولي الأمر أمراء المسلمين في عهد الرسول وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية أمر الله تعالى بطاعتهم بعد الأمر بالعدل تنبيها على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق أراد بأولي الأمر علماء الشرع وأنت خبير بأن هذا القول بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى البيان، وقد أوضحنا ذلك في شرح الأصول.

ص:264

حديث قوم صالح (عليه السلام)

* الأصل:

213 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل جبرئيل (عليه السلام) كيف كان مهلك قوم صالح (عليه السلام)؟ فقال: يا محمد إن صالحا بعث إلى قومه وهو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه إلى خير، قال: وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله عز وجل، فلما رأى ذلك منهم قال:

يا قوم بعثت إليكم وأنا ابن ست عشرة سنة وقد بلغت عشرين ومائة سنة، وأنا أعرض عليكم أمرين إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني الساعة، وإن شئتم سألت آلهتكم فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم، فقد سئمتكم وسئمتموني، قالوا: قد أنصفت يا صالح فاتعدوا ليوم يخرجون فيه قال: فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم ثم قربوا طعامهم وشرابهم فأكلوا وشربوا فلما أن فرغوا دعوه.

فقالوا: يا صالح سل، فقال لكبيرهم: ما اسم هذا؟ قالوا: فلان، فقال له صالح: يا فلان أجب فلم يجبه، فقال صالح: ماله لا يجيب؟ قالوا: ادع غيره، قال: فدعاها كلها بأسمائها فلم يجبه منها شيء، فأقبلوا على أصنامهم فقالوا لها: مالك لا تجيبين صالحا؟ فلم تجب فقالوا تنح عنا ودعنا وآلهتنا ساعة، ثم نحوا بسطهم وفرشهم ونحوا ثيابهم وتمرغوا على التراب وطرحوا التراب على رؤوسهم، وقالوا لأصنامهم: لئن لم تجبن صالحا اليوم لتفضحن. قال: ثم دعوه فقالوا: يا صالح ادعها، فدعاها فلم تجبه، فقال لهم: يا قوم قد ذهب صدر النهار ولا أرى آلهتكم تجيبوني فاسألوني حتى ادعوا إلهي فيجيبكم الساعة.

فانتدب له منهم سبعون رجلا من كبرائهم والمنظور إليهم منهم، فقالوا يا صالح نحن نسألك فإن أجابك ربك اتبعناك وأجبناك ويبايعك جميع أهل قريتنا، فقال لهم صالح (عليه السلام): سلوني ما شئتم، فقالوا: تقدم بنا إلى هذا الجبل، وكان الجبل قريبا منهم، فانطلق معهم صالح فلما انتهوا إلى الجبل قالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا من هذا الجبل الساعة ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء بين جنبيها ميل، فقال لهم صالح لقد سألتموني شيئا يعظم علي ويهون على ربي جل وعز قال: فسأل الله تعالى صالح ذلك فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم لما سمعوا ذلك ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض ثم لم يفجأهم إلا رأسها قد

ص:265

طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمت رقبتها حتى اجترت ثم خرج سائر جسدها ثم استوت قائمة على الأرض.

فلما رأوا ذلك قالوا: يا صالح: ما أسرع ما أجابك ربك، ادع لنا ربك يخرج لنا فصيلها فسأل الله عز وجل ذلك فرمت به فدب حولها فقال لهم: يا قوم أبقى شيء؟ قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا ويؤمنون بك قال: فرجعوا فلم يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا وقالوا: سحر وكذب قال: فانتهوا إلى الجميع فقال الستة: حق وقال الجميع: كذب وسحر قال: فانصرفوا على ذلك، ثم ارتاب من الستة واحد فكان فيمن عقرها.

قال ابن محبوب: فحدثت بهذا الحديث رجلا من أصحابنا يقال له: سعيد بن يزيد فأخبرني أنه رأى الجبل الذي خرجت منه بالشام قال: فرأيت جنبها قد حك الجبل فأثر جنبها فيه وجبل آخر بينه وبين هذا ميل.

* الشرح:

قوله: في حديث صالح (كيف كان مهلك قوم صالح) مهلك بالكسر: مصدر هلك، كضرب ومنع ( فاتعدوا اليوم) وعدة واتعده بمعنى (فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم) أي ظهر بلدهم وفي بعض النسخ إلى ظهورهم (وقالوا لأصنامهم لئن لم تجيبين صالحا اليوم لتفضحن) فضحه فافتضح: إذا انكشف مساوية والاسم الفضيحة وفي بعض النسخ لتفضحنا (فانتدب له منهم سبعون رجلا) فأجاب يقال ندبته فانتدب أي دعوته فأجاب قالوا (يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء بين جنبيها ميل) الناقة الشقراء: ما كانت حمرتها شديدة صافية، والعبراء: ما كان لها وبر كثير، والعشراء بالضم وفتح الشين والمد: ما أتى على حملها عشرة أشهر أو ثمانية أشهر، وقيل شهران ثم اتسع فقيل لكل حامل عشراء وأكثر ما يطلق على الإبل والخيل (ثم لم يفجأهم الا رأسها قد طلع) الفجأة: «ناگاه در آمدن» وفعلها من باب سمع ومنع (فما استتمت رقبتها حتى اجترت) الجرة بالفتح: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه يقال اجتر البعير يجتر قوله (كذبت ثمود بالنذر): جمع نذير كرغف جمع رغيف، وثمود: اسم قبيلة، وهم قوم صالح (عليه السلام) (قالوا أبشرا منا واحدا) أي منفردا لا تبع له أو من آحاد الناس وأوساطهم دون أشرافهم وهو منصوب بفعل مقدر يفسره.

* الأصل:

214 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن علي بن أبي

ص:266

حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له:» «كذبت ثمود بالنذر * فقالوا أبشر منا واحدا نتبعه واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر * ءالقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر» قال:

هذا كان بما كذبوا به صالحا، وما أهلك الله عز وجل قوما قط حتى يبعث إليهم قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم. فبعث الله إليهم صالحا فدعاهم إلى الله فلم يجيبوا وعتوا عليه وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء، وكانت الصخرة يعظمونها ويعبدونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها فقالوا له: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء، فأخرجها الله كما طلبوا منه.

ثم أوحى الله تبارك وتعالى إليه أن يا صالح قل لهم: أن الله قد جعل لهذه الناقة] من الماء [ شرب يوم ولكم شرب يوم، وكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت الماء ذلك اليوم فيحلبونها فلا يبقي صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله.

ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها، لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم، ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلا ما أحب، فجاءهم رجل أحمر، أشقر، أزرق ولد زنى ولا يعرف له أب يقال له: قدار، شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فجعلوا له جعلا فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت الماء وأقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم تعمل شيئا فضربها اخرى فقتلها وخرت إلى الأرض على جنبها وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغى ثلاث مرات إلى السماء، وأقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلا شركه في ضربته واقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم فقال:

يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم أعصيتم ربكم. فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالحا (عليه السلام) أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثتها إليهم حجة عليهم ولم يكن عليهم فيها ضرر، وكان لهم منها أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل عليكم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث.

فأتاهم صالح (عليه السلام) فقال لهم: يا قوم إني رسول ربكم إليكم وهو يقول لكم: إن أنتم تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم وتبت عليكم، فلما قال لهم ذلك كانوا أعتى ما كانوا وأخبث و «قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة واليوم الثاني وجوهكم محمرة واليوم الثالث وجوهكم مسودة.

ص:267

فلما أن كان أول يوم أصبحوا ووجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال لكم صالح: فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما.

فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشي بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح (عليه السلام)، فقال العتاة منهم: لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح (عليه السلام) ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ولم يتوبوا ولم يرجعوا. فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح، فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل (عليه السلام) فصرخ بهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم فماتوا أجمعون في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شيء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم ومضاجعهم موتى أجمعين ثم أرسل الله عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين وكانت هذه قصتهم.

* الشرح:

قوله: (نتبعه) والاستفهام للإنكار والتوبيخ (انا إذا لفي ضلال وسعر) السعر: بالضم الجنون كالسعر.

(ءألقى الذكر عليه من بيننا) ظنوا أن البشرية مانعة للرسالة وإلا لجاز اتصاف كل أحد بها ولم يعلموا أنها متوقفة على صفات لا توجد في كل أحد والذكر هو الكتاب أو الوحي (بل هو كذاب أشر) الأشر: البطر، وهو الكبر وقيل أشد البطر أرادوا أن الكبر وحب الدنيا والرئاسة والفرح بها وبالرفع علينا حمله على المبالغة في الكذب وادعاء الرسالة (وكانت الصخرة يعظمونها) قيل كانت تلك الصخرة مفردة من ناحية الجبل وكانوا يسمونها الكاينة (إن الله قد جعل لهذه الناقة شرب يوم) الشرب بالكسر: نصيب من الماء قيل إذا كان يوم شربها وضع رأسها في البئر ولم يرفعه حتى شرب كل ماء فيها (وقالوا اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها) قيل كانت إذا وقع الحر رعت في ظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد رعت في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم فدعاهم إلى عقرها وعلى هذا قولهم (لا نرضى أن يكون لها شرب يوم ولنا شرب يوم)، علة أخرى باعثة لهم على قتلها (ونجعل له جعلا)

ص:268

في النهاية الجعل الاسم بالضم والمصدر بالفتح، يقال: جعلت لك كذا جعلا وجعلا وهو: الأجرة على الشيء فعلا وقولا (فجاءهم رجل أحمر أشقر) الأشقر من الناس: من يعلوا بياضه حمرته فتكون حمرة صافية وبشرته مايلة إلى البياض (يقال له قدار شقي من الأشقياء) في القاموس قدار بضم القاف وتخفيف الدال: ابن سالف عاقر الناقة وقيل: قدار بن سالف الذي يقال له أحمر عاقر ناقة صالح (عليه السلام) وقال عياض: إنه كان مغرورا بالشهوات عرما جريئا في الفسوق حاذقا في الحيل والعصيان (هرب فصيلها فصعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات) رغا البعير صوت وضج، قيل: كان فصيلها شبيها بها في العظم وقال بعض الأفاضل صعد إلى جبل يقال له قارة وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفتحت الصخرة فدخلها (فلم يبق لهم ناعقة ولا راغية ولا شيء إلا أهلكه الله) النعيق: الصوت والصياح، يقال: نعق الراعي بغنمه إذا صاح والغراب إذا صوت وفيه مبالغة في إحاطة العذاب حتى أنه لم يبق واحد من ذي روح ولا شيء من أموالهم إلا أهلكه.

* الأصل:

215 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن غير واحد من أصحابنا عن أبان بن عثمان، عن الفضيل بن الزبير قال: حدثني فروة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ذاكرته شيئا من أمرهما فقال: ضربوكم على دم عثمان ثمانين سنة وهم يعلمون أنه كان ظالما فكيف يا فروة إذا ذكرتم صنميهم.

* الشرح:

قوله: (قال ذاكرته شيئا من أمرهما) أي من أمر الأول والثاني وظلمهما على أهل البيت (عليهم السلام) وثمانون سنة هي مدة سلطان بين أمية (فكيف يا فروة إذا ذكرتم صنميهم) أي معبوديهم الأول والثاني لأنهم كانوا يعتقدون بهما ويصفونهما بالعدل فتعصبهم لهما أشد من تعصبهم لعثمان وفيه حث على التقية منهم.

* الأصل:

216 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن سدير قال: كنا عند أبي جعفر (عليه السلام) فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله) واستذلالهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال رجل من القوم: أصلحك الله فأين كان عز بني

ص:269

هاشم وما كانوا فيه من العدد؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): ومن كان بقي من بني هاشم؟! إنما كان جعفر وحمزة فمضيا وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام: عباس وعقيل وكانا من الطلقاء، أما والله لو أن حمزة وجعفرا كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما.

* الشرح:

قوله: (وكانا من الطلقاء) لأنه (صلى الله عليه وآله) خلى عنهما في فتح بدر وأطلقهما ولم يسترقهما والطليق: فعيل بمعنى مفعول وهو الأسير إذا أطلق سبيله (ولو كان شاهديهما لأتلفا نفسيهما) الضمير في نفسيهما راجع إلى الأول والثاني لا إلى حمزة وجعفر لدلالة السابق عليه ولئلا يلزم تفكيك الضمير.

* الأصل:

217 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اشتكى الواهنة أو كان به صداع أو غمرة بول فليضع يده على ذلك الموضع وليقل: «اسكن سكنتك بالذي سكن له ما في الليل والنهار وهو السميع العليم».

* الشرح:

قوله: (من اشتكى الواهنة) بالنون: ريح تأخذ في المنكبين أو في العضد، وفي أكثر النسخ الواهية بالياء المثناة التحتانية: وهي الجراحة والدمل والخراج وغيرها مما يخرج في البدن من القروح وفي القاموس، الوهي: الشق في الشيء وهي كوهي وولي تخرق وانشق واسترخى رباطه (أو كان به صداع) وهو بالضم: وجع الرأس، والهمزة ليست في بعض النسخ (أو غمرة بول) غمرة الشيء بالراء المهملة: شدته ومزدحمه، وغمر الماء غمرة وغمورة كثر ولعل المراد بها حرقة البول أو سلسه (فليضع يده على ذلك الموضع) الأولى وضع اليمنى عليه (وليقل اسكن سكنتك بالذي سكن له) أي لأمره وحكمه (ما في الليل والنهار وهو السميع العليم) باء القسم متعلق بالفعلين من باب التنازع وذكر الموصول للإشعار بصلته إلى المقصود والرغبة في حصوله، وفي ذكر هذين الوصفين به تعالى حث لمن طلب منه السكون عليه لأنه لا يرد مطلوبه بعد تذكيره بأنه تعالى يسمع ويعلم ما جرى بينهما، واستبعاد الخطاب إلى الجوع مدفوع بأنه عز وجل قادر على إسماعه وإفهامه والله على كل شيء قدير.

ص:270

* الأصل:

218 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي بصير، والحسن ابن علي بن فضال، عن أبي جميلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحزم في القلب، والرحمة والغلظة في الكبد، والحياء في الرية وفي حديث آخر لأبي جميلة: العقل مسكنه في القلب.

* الشرح:

قوله: (قال: الحزم في القلب) لعل المراد بالقلب هنا الجسم الصنوبري النابت في الصدر، والحزم:

ضبط الرجل أمره والحذر من فواته من قولهم حزمت الشيء: أي شددته 0 (والرحمة والغلظة في الكبد) هو بالفتح والكسر وككتف معروف، والرحمة تحرك الرقة والمغفرة والتعطف والغلظة ضد الرقة وفي كنز اللغة الكبد «جگر» والغلظة «سختى وبي رحمي» (والحياة في الرية) الحياء حالة للنفس مانعة من القبايح لأجل خوف اللوم ولا ريب في أن تلك الأحوال عارضة للنفس الناطقة لعل الوجه هو الإشارة إلى أنها أحوال مادية عارضة لها من حيث تعلقها بتلك الأعضاء وتصرفها فيها كما أن لها أحوال عارضة فايضة من المبدأ من حيث أنها مجردة وإليه أشار الفاضل الأمين الأسترآبادي حيث قال: وكان المراد أن أو لا يفيض من المبدأ حالة على الأرواح المخزونة في تلك الأعضاء ويتسبب ذلك لفيضان تلك الأمور على الناطقة.

* الأصل:

219 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر قال: اشتكى غلام إلى أبي الحسن (عليه السلام) فسأل عنه، فقيل: إنه به طحالا فقال: أطعموه الكراث ثلاثة أيام.

فأطعمناه إياه فقعد الدم ثم برأ.

* الشرح:

قوله: (فقيل أن به طحالا) في القاموس الطحال: ككتاب، لحمة معروفة وفي «كنز» طحال: «سپرز» (فقال أطعموه الكراث) في القاموس: الكراث كرمان وكتان بقل وفي كنز اللغة كراس: «گندنا».

* الأصل:

220 - محمد بن يحيى، عن غير واحد، عن محمد بن عيسى، عن محمد بن عمرو بن إبراهيم

ص:271

قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) وشكوت إليه ضعف معدتي، فقال: اشرب الحزاء بالماء البارد، ففعلت فوجدت منه ما أحب.

* الشرح:

قوله: (اشرب الحزاء بالماء البارد) الحزاء بالحاء المهملة والزاي المعجمة يقصر ويمد: وهو نبت بالبادية يشبه الكرفس إلا أنه أعرض ورقا منه والواحدة حزاة وحزاءة بالقصر والمد.

* الأصل:

221 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بكر بن صالح قال: سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول: من به الريح الشايكة والحام والابردة في المفاصل تأخذ كف حلبة وكف تين يابس تغمرهما بالماء وتطبخهما في قدر نظيفة ثم تصفي ثم تبرد ثم تشربه يوما وتغب يوما حتى تشرب منه تمام أيامك قدر قدح روي.

* الشرح:

قوله: (من به الريح الشايكة): أي الشديدة الحديدة من الشوكة وهي الشدة والحدة وهو داء معروف وحمرة تعلو الوجه والجسد يقال شاكه شوكة وشيك الرجل فهو مشوك إذا دخلت في جسمه ( والحام والأبردة في المفاصل. انتهى) الحام بشد الميم الحار كالريح الحارة من الحمة وهي الحرارة والابردة بالكسر: برد في الجوف والمفاصل، وهي علة معروفة من غلبة البرودة والرطوبة والحلبة:

بالضم نبت نافع للصدر والسعال والبلغم والبواسير والظهر والكبد والمثانة والباه ومن طريق العامة «لو يعلم الناس ما في الحلبة لا شتروها ولو بوزنها ذهبا»، وفي النهاية الحلبة:

حب معروف وقيل: هو من ثمرة العضاه، والحلبة أيضا: العرفج وقد تضم اللام. والقدح بالتحريك:

آنية تروي الرجلين اسم يجمع الصغار والكبار، وروى كغني والظاهر أن أيام الشرب ثلاثة لأنها أقل الجمع.

* الأصل:

222 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن نوح بن شعيب، عمن ذكره، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: من تغير عليه ماء الظهر فلينقع له اللبن الحليب والعسل.

* الشرح:

قوله: (من تغير عليه ماء الظهر) لعل المراد به المني وبتغيره فتوره وضعفه وقلة

ص:272

الباه (فلينقع له اللبن الحليب والعسل) الانقاع: الجمع والخلط وكل ما ألقي في ماء فقد انقع والنقوع بالفتح: ما ينقع في الماء ليلا ليشرب نهارا من غير طبخ وبالعكس ضمير به راجع إلى الموصول أو إلى ماء الظهر والحلب ويحرك استخراج ما في الضرع من اللبن والحليب اللبن المحلوب أو ما لم يتغير طعمه.

* الأصل:

223 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن حمران قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): فيم يختلف الناس؟ قلت: يزعمون أن الحجامة في يوم الثلاثاء أصلح، قال: فقال لي: وإلى ما يذهبون في ذلك؟ قلت: يزعمون أنة يوم الدم، قال: فقال: صدقوا فأحرى أن لا يهيجوه في يومه أما علموا أن في يوم الثلاثاء ساعة من وافقها لم يرق دمه حتى يموت أو ما شاء الله.

* الشرح:

قوله: (أما علموا أن في يوم الثلاثاء ساعة. انتهى) دل على كراهية الحجامة فيه وحمله على التحريم باعتبار أنه مظنة الوقوع إلى التهلكة بعيد.

* الأصل:

224 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن رجل من الكوفيين، عن أبي عروة أخي شعيب أو عن شعيب العقر قوفي قال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام) وهو يحتجم يوم الأربعاء في الحبس فقلت له: إن هذا يوم يقول الناس: إن من أحتجم فيه أصابه البرص فقال:

إنما يخاف ذلك على من حملته امة في حيضها.

* الأصل:

225 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تحتجموا في يوم الجمعة مع الزوال فان من احتجم مع الزوال في يوم الجمعة فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه.

* الأصل:

226 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي، عن أبي سلمة، عن معتب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الدواء أربعة: السعوط والحجامة والنورة والحقنة.

ص:273

* الشرح:

قوله: (الدواء أربعة) خصها بالذكر لكونها أنفع الأدوية في الأمراض المخصوصة التي يعرفها أهل الصناعة (السعوط والحجامة والنورة والحقنة) السعوط كصبور: الدواء الذي يدخل في الأنف والمسعط بالضم وكمنبر: ما يجعل فيه ذلك الدواء ويصب منه في الأنف سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسعطه الدواء سعطة واحدة في أنفه فاستعط، والحجامة بالكسر: حرفة الحجام والمحجم والمحجمة بكسرها ما يحجم به، والنورة: تفتح وتسمن وتدفع الرياح، والحقنة: أن يعطى المريض الدواء من أسفله وهو معروفة عن الأطباء وذكروا لها فوائد كثيرة.

* الأصل:

227 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة قال: شكا رجل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) السعال وأنا حاضر، فقال له: خذ في راحتك شيئا من كاشم ومثله من سكر فاستفه يوما أو يومين، قال ابن أذينة: فلقيت الرجل بعد ذلك، فقال: ما فعلته إلا مرة واحدة حتى ذهب.

* الشرح:

قوله: (حذفي راحتك شيئا من كاشم ومثله من سكر فاستفه) الكاشم: الانجدان الرومي وهو معرب «انكدان ونكوان» والسف والاستفاف: أكل الدواء غير ملتوت وذلك الدواء سفوف كصبور تقول سففت الدواء بالكسر سفا وأستفته إذا أكلته غير ملتوت.

* الأصل:

228 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعيد بن جناح، عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن موسى بن عمران (عليه السلام) شكا إلى ربه تعالى البلة والرطوبة فأمر الله تعالى أن يأخذ الهليلج، والبليلج، والأملج فيعجنه بالعسل ويأخذه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): هو الذي يسمونه عند كم الطريفل.

* الشرح:

قوله: (فيعجنه بالعسل ويأخذه) الضمير لكل واحد والعجن: التخليط والاعتماد باليدين على الأرض عند النهوض ومنه يقال عجنه إذا اعتمد على يديه يجمع كفيه يغمزه كما يعتمد الكبير عند النهوض بيديه على الأرض فهو عجين ومعجون وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن يخلطه على وجه

ص:274

يحصل للمجموع مزاج تركيبي ثم يأخذه أي يأكله.

* الأصل:

229 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن يحيى، عن أخيه العلاء، عن إسماعيل بن الحسن المتطبب قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام): إني رجل من العرب ولي بالطب بصر وطبي طب عربي ولست آخذ عليه صفدا؟ فقال: لا بأس، قلت: إنا نبط الجرح ونكوي بالنار؟ قال: لا بأس، قلت: ونسقي هذه السموم الاسمحيقون والغاريقون؟ قال: لا بأس، قلت: إنه ربما مات؟ قال: وإن مات. قلت: نسقي عليه النبيذ؟ قال: ليس في حرام شفاء، قد اشتكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له عائشة: بك ذات الجنب: فقال أنا أكرم على الله عز وجل من أن يبتليني بذات الجنب، قال: فأمر فلد بصبر.

* الشرح:

قوله: (عن إسماعيل بن الحسن المتطبب) في القاموس الطب مثلثة الطاء: علاج الجسم والنفس يطب ويطب بالكسر: الشهوة والإرادة، والشأن وبالفتح الماهر الحاذق بعمله كالطبيب والمتطيب المتعاطي علم الطب (ولي بالطب بصر) أي علم وبصر القلب نظره وخاطره والبصير: العالم (وطبي طب عربي) أعرف به الأدوية المعروفة بين مهرة الأعراب للأمراض (ولست آخذ عليه صفدا): أي أجرا على شرط أو مطلقا والصفد محركة العطاء والوثاق (قلت: أنا نبط الجرح ونكوي بالنار قال: لا بأس البط) شق الدمل والجراحة ونحوهما والجراحة ونحوهما والجرح بالضم: واحد الجروح، وبالفتح: مصدر وليس بمراد هنا وفيه تجويز للكي إذا ظنت منفعته ودعت إليه حاجة والنهى عنه في بعض المواضع إنما هو إذا وجد عنه غني وينبغي أن يؤخر العلاج به حتى تدعو الضرورة إليه لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف منه ومن المشهور آخر الدواء الكي (قلت ونسقي) المريض (هذه السموم الأسمحيقون والغاريقون) في الأمراض التي نظن أنهما نافعان لها بالتجربة وفي القاموس غاريقون أو أغاريقون: أصل نبات أو شيء يتكون في الأشجار المسوسة، ترياق للسموم، مفتح مسهل للخلط الكدر مفرح صالح للنسا والمفاصل ومن علق عليه لا تلسعه عقرب.

(قال: لا بأس، قلت: انه ربما مات قال: وإن مات) فيه تجويز للطبيب الماهر الحاذق علما

ص:275

وعملا في المعالجة وإن انجرت إلى الموت لكن بشرط تشخيص المرض وسببه مع عدم التقصير في تفتيش أحوال المريض واستعمال الأدوية على القانون المعتبر، ولا ينافي الجواز ضمانه المشهور بين الأصحاب، وتفصيل الاختلاف في الضمان ومواضعه ومواضع عدمه في كتب الفروع (قلت: نسقي عليه النبيذ) المراد بالنبيذ هنا: الشراب المسكر سواء اتخذ من التمر أو الزبيب أو العسل أو العنب أو غيرها، قال في النهاية: يقال للخمر: المعتصر من العنب نبيذكما يقال للنبيذ: خمر (قال ليس في حرام شفاء) دل هذا وأمثال ما روى أن الله تعالى لم يجعل في شيء مما حرم الله دواء ولا شفاء وأن من اكتحل بميل من مسكر كحله الله بميل من نار» على أنه لا يجوز التدواي به واستعماله مطلقا طلاء واكتحالا وأكلا وشربا ومفردا ومركبا واختيارا واضطرارا، قال العلامة في الإرشاد: يباح للمضطر وهو خائف التلف لو لم يتناول أو المرض أو عسر علاجه أو الضعف عن مصاحبة الرفقة مع خوف العطب عند التخلف أو عن الركوب المؤدي إلى الهلاك تناول كل المحرمات إلا الباغي وهو الخارج على الإمام والعادي وهو قاطع الطريق، ثم قال بعد ثلاثة أسطر: ولا يجوز التداوي بشيء من الأنبذة ولا بشيء من الأدوية معها شيء من المسكر أكلا وشربا ويجوز عند الضرورة التدواي به للعين، والظاهر أن كلامه الثاني لكونه دالا على عدم جواز الاستعمال أكلا وشربا عند الضرورة في غير العين ينافي الأول لدلالته على جواز تناول كل المحرمات عند الضرورة من غير فرق بين الخمر وغيرها من المحرمات الأنبذة وغير الأنبذة والقول بأنه رجوع عن الأول بعيد وحمل كل المحرمات على غير الأنبذة أبعد، وقال الشهيد الثاني: جواز تناول المحرمات غير الخمر عند الاضطرار موضع وفاق، وأما الخمر فقد قيل بالمنع مطلقا وبالجواز مع عدم قيام غيرها مقامها، وهو ظاهر عبارة العلامة في الإرشاد وكأنه أراد بها العبارة الأولى ومصرح الدروس جواز استعمالها للضرورة مطلقا. ونقل عن الشهيد الأول أنه حمل رواية المنع على الاختيار وعن العلامة أنه حملها على طلب الصحة لا طلب السلامة من التلف، وقيل:

الرواية دلت على أنه ليس فيما اتصف بالحرمة شفاء والحرام عند الضرورة وانحصار الدواء فيه ليس حراما بل حلال وهذا القول مع أن قائله غير معلوم بعيد جدا لأن الغرض من الرواية هو منع استعماله كما لا يخفى وللكلام في الطرفين مجال واسع.

(قد اشتكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)) أي أصابه داء (فقالت عائشة بك ذات الجنب) قال القرطبي: ذات الجنب: هو الوجع الذي يكون في الجنب المسمى بالشوصة، وقال الترمذي: هي السل وفيه بعد والأول هو المعروف وقال ابن الأثير: ذات الجنب: هي الدبيلة والدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب فتنفجر إلى داخل وقلما يسلم صاحبها وذوالجنب الذي يشتكي بسبب الدبيلة إلا أن

ص:276

ذو للمذكر وذات للمؤنث وصارت ذات الجنب علما لها وإن كانت في الأصل صفة مضافة (فقال: أنا أكرم على الله من أن يبتليني بذات الجنب) أما لأنها قاتلة أو لأن باطنه أطهر من أن يبتلي بها ويتدنس بقيحها أو لغير ذلك (فأمر فلد بصبر) وهو من السموم كالإسمحيقون والغاريقون واللدود كصبور: ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم ولديد الفم جانباه وقد لده لدا.

* الأصل:

230 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق وربما انتفع به، وربما قتله؟ قال: يقطع ويشرب.

* الشرح:

قوله: (الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق. انتهى) المراد بقطع العرق فصده وهو شقه وهذا كالسابق في تجويز العمل بالقوانين الطبية على الشرائط المذكورة.

* الأصل:

231 - أحمد بن محمد بن الكوفي، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن محمد بن عبد الحميد، عن الحكم بن مسكين، عن حمرة بن الطيار قال: كنت عند أبي الحسن الأول (عليه السلام) فرآني أتأوه فقال: مالك؟ قلت: ضرسي، فقال: لو احتجمت فاحتجمت فسكن فأعلمته فقال لي: ما تداوى الناس بشيء خير من مصة دم أو مزعة عسل، قال: قلت: جعلت فداك ما المزعة ] من [عسل؟ قال: لعقة عسل.

* الشرح:

قوله: (ضرسي) ضرس بالكسر السن وهوا ما فاعل أو مبتدأ أي وجع ضرسي أو ضرسي وجع ( فقالوا لو احتجمت) لو للتمني أو للشرط على حذف الجزاء أي لنفعك (فقال لي: ما تداوي الناس بشيء خير من مصة دم أو مزعة عسل) المزعة بالفتح والزاي المعجمة والعين المهملة: مصدر، يقال: مزع القطن مزعة كمنع إذا نفشه وفرقه بأصابعه، وبالضم وبالكسر: اللعقة والجرعة من الماء ( قال: لعقة من عسل) لعقه كسمعه لعقة ويضم لحسه وأخذه بلسانه ومنه فلان لعق الأصابع والقصعة إذا لحس ولطع ما عليها من أثر الطعام واللعوق كصبور اسم ما يلعق به أي يؤكل بالملعقة ومثل هذا الحديث رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل» قال محيى الدين المحجم بكسر الميم الحديدة التي يشرط بها موضع

ص:277

الحجامة وقال القرطبي: هو الوعاء الذي يجمع فيه موضع الحجامة ويجمع فيه الدم وقد يطلق على الحديدة التي يشرط بها وهي المراد بها وهي المراد هنا، ثم قال محيي الدين: هذا من بديع علم الطب لمن عرفه فإن الأمراض الامتلائية اما دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية فالدموية:

شفاؤها بإخراج الدم والثلاثة الباقية شفاؤها بالإسهال بالمسهل الذي يليق بكل خلط منها فنبه (عليه السلام) بالحجامة على إخراج الدم ويدخل الفصد ووضع العلق وغيرهما مما في معناهما ونبه بالعسل على المسهلات وإنما خصت المذكورات بالذكر لأنها أنفع.

* الأصل:

232 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: دواء الضرس: تأخذ حنظلة فتقشرها ثم تستخرج دهنها فإن كان الضرس مأكولا منحفرا تتقطر فيه قطرات وتجعل منه في قطنة شيئا وتجعل في جوف الضرس وينام صاحبه مستلقيا يأخذه ثلاث ليالي فإن كان الضرس لا أكل فيه وكانت ريحا قطر في الاذن التي تلي ذلك الضرس ليالي، كل ليلة قطرتين أو ثلاث قطرات يبرأ بإذن الله، قال:

وسمعته يقول: لوجع الفم والدم الذي يخرج من الأسنان والضربان والحمرة التي تقع في الفم، تأخذه حنظلة رطبة قد اصفرت فتجعل عليها قالبا من طين، ثم تثقب رأسها وتدخل سكينا جوفها فتحك برفق، ثم تصب عليها خل تمر حامضا شديد الحموضة ثم تضعها على النار فتغليها غليانا شديدا، ثم يأخذ صاحبه منه كلما احتمل ظفره فيدلك به فيه ويتمضمض بخل وإن أحب أن يحول ما في الحنظلة في زجاجة أو بستوقة فعل وكلما فني خله أعاد مكانه وكلما عتق كان خيرا له إن شاء الله.

* الشرح:

قوله: (تأخذ حنظلة فتقشرها ثم تستخرج دهنها. انتها) في القاموس الحنظل: معروف والمختار منه أصفره، شحمه يسهل البلغم الغليظ المنصب في المفاصل شربا والقاؤه في الحقن نافع للماليخوليا والصرع، والوسواس، وداء الثعلب، والجذام، ومن لسع الأفاعي، والعقارب لا سيما أصله، ولوجع السن تبخرا بحبه، ولقتل البراغيث رشا بطبيخه، وما على شجرة حنظلتة واحدة قتاله، والقشر بالكسر: الجلد وغشاء الشيء قشره يقشره ويقشره إذا كشط قشره، والدهن بالضم:

الرطوبة اسم من دهنه إذا بله، وبالكسر: الشيء القاتل، والضربان: الاضطراب والتحرك ووثوب

ص:278

العرق والجرح وتموجهما والقالب بكسر اللام وفتحها: أكثر معروف ولعل المراد بخل خمر الخل العنبي واحتمال إرادة ما كان أصله خمرا بعيد والبستوقة بالضم: من الفخار معرب «بستو» كذا في المغرب.

* الأصل:

233 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن فضال، عن الحسن بن أسباط، عن عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت لك الفداء إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها وهي تعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني وإن كانت لا تضر بديني فوالله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها؟ فقال: ليس كما يقولون، لا تضر بدينك، ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك وقليله لا ينتفع به، تحسبون على طالع القمر، ثم قال: أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة؟ قلت: لا والله قال: أفتدري كم بين الزهرة وبين القمر من دقيقة؟ قلت: لا، قال: أفتدري كم بين الشمس وبين السنبلة من دقيقة؟ قلت: لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط، قال: أفتدري كم بين السنبلة وبين اللوح المحفوظ من دقيقة قلت: لا والله ما سمعته من منجم قط، قال: ما بين كل واحد منهما إلى صاحبه ستون - أو سبعون - دقيقة، شك عبد الرحمن، ثم قال: يا عبد الرحمن هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه عرف القصبة التي وسط الأجمة وعدد ما عن يمينها وعدد ما عن يسارها وعدد ما خلفها وعدد ما أمامها حتى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة (1).

ص:279


1- 1 - حاصل مفاد الحديث جواز النظر في النجوم سواء كان في الأحكام أو في الحساب، وإن كانت الأحكام مما لا يعتمد عليه لكن بطلان الشيء غير حرمته وهذا هو مذهب المحصلين من علمائنا، وذهب بعضهم إلى حرمة التعلم ولكن في الحديث أمور لا يمكن أن ينسب إلى الإمام المعصوم (عليه السلام)، ويجب حمله على تحريف بعض الرواة فيما سمع وروي كما هو العادة في نقل العلوم إذا كان الناقل لا بصيرة له وقد ذكرنا تفصيل ذلك في حاشية الوافي ونشير إليه هنا إشارة إجمالية، ونقول: الفواصل بين السيارات ليست مقدارا ثابتا سواء كانت بحسب الدرجات والدقائق أو بحسب المسافة الطولية والبعد وليس هذا مما تختلف فيه في الهينة القديمة والحديثة والمراد في الحديث الفاصلة بحسب الدرجات فقد يكون بين السيارتين نصف الدوران، أعني مائة وثمانين درجة كما يشاهد بين القمر حالة البدر والشمس وقد يجتمعان في درجة واحدة ليس بينهما فاصلة كما في المحاق، وكذلك غيرهما من السيارات وأما تعيينها في كل يوم وساعة فأسهل الأمور على المنجمين ويمكنهم أن يعلموا الفواصل ويضبطون ذلك في حاشية التقاويم. أن في اليوم الفلاني والساعة الفلانية بين القمر والزهرة تسديسا أو تثليثا أو تربيعا أو مقابلة أو اقترانا ولا فرق عندهم بين أن يذكروا ذلك باعتبار الدرجة أو الدقيقة، إذ من المعلوم أن الدرجة ستون دقيقة وكلما كان بين السيارتين بحسب الدرجة يضرب في الستين يحصل الدقيقة واستصعاب الراوي هذه الأمور يدل على عدم خبرته وبصيرته وأسهل من جميع ذلك تعيين الفاصلة بين الشمس والسنبلة سواء أريد بها البرج أو الكوكب إذ يحسب المنجم بسهولة موضع الشمس من البروج فإذا كانت مثلا في أول السرطان كانت الفاصلة بينها وبين أول السنبلة ستين درجة، ولا يخفى ذلك على العوام أيضا. إلا أن يكون بدل السنبلة السكينة كما في بعض النسخ. وزعم بعض من لا خبرة له أن تخطئة الإمام (عليه السلام) مبنية على بناء المخاطب على الهيئة القديمة وهو غلط إذ لا فرق في هذه الأمور بين الهيئة القديمة والجديدة وأن أردت تفصيل ذلك أكثر من هذا فراجع إلى الوافي. وأما الحسن بن أسباط في الإسناد فلم أر اسمه إلا في هذه الرواية وهو مجهول جدا (ش).

* الشرح:

قوله: (فقال: ليس كما يقولون لا تضر بدينك) لأنها لا تنافيه ولا تستلزم ما ينافيه وما ورد في بعض الروايات من ذمها وذم أهلها وهو متمسك من قال: لا يحل النظر فيها محمول على أنه علم لا يدرك كله فيظن أهله أن الحكم مترتب على المدرك، وأنه مستقل فيه والحال أنه مترتب على مجموع المدرك وغير المدرك أو أن غير المدرك مانع منه وهذا جهل، ولهذا يتخلف الحكم في كثير من المواضع أو على أن ذلك إذا اعتقد أن الآثار الفلكية علة مستقلة على ما يترتب عليها وأما إذا اعتقد أن ذلك من الفاعل الحقيقي عند تلك الآثار فلا تضر أو على أنها ليست من العلوم الدينية المطلوبة للشارع النافعة في الآخرة فصرف الفكر في تحصيله المانع من صرفه في تحصيل تلك العلوم موجب لذمها (ثم قال: إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك) لأن عقول البشر إلا المؤيد من عند الله تعالى قاصر عن الوصول إليه.

(وقليلة) الذي يدرك لا ينتفع به) ولا يمكن القطع بترتب الحكم عليه لاحتمال أن يكون له ضد أقوى منه يقتضي نقيض ذلك الحكم أو يكون ذلك المدرك جزء سبب لذلك الحكم أو يكون هناك مانع من التأثير (تحسبون على طالع القمر) ونظراته مع السيارات بالتربيع والتثليث والمقابلة مثلا وتغفلون عن النسب الكثيرة الواقعة في نفس الأمر الدالة على أحكام كثيرة (ثم قال: أتدري كم بين المشترى والزهرة من دقيقة؟ انتهى) الظاهر أنه أراد بهذه النسب المذكورة النسب الواقعة عند السؤال، وإلا فالظاهر أنها قد تزيد وتنقص وتنتفي بحسب التفاوت في القرب والبعد والاجتماع وأن الاحكام تختلف باختلافها (ثم قال: يا عبد الرحمن هذا حساب إذا حسبه الرجل) أي عده من باب نصر ووقع عليه من جميع جوانبة وأحاطه به علمه (عرف القصبة التي وسط الأجمة. انتهى) الأجمة محركة: الشجر الكثير الملتف والجمع أجم بالضم وبضمتين وبالتحريك وآجام وأجام واجمات، والمراد بالرجل العالم الماهر بعلم النجوم المحيط علمه بحقايقها فإنه عرف النسب

ص:280

المخصوصة والمناسبة بينهما وحسب بالحساب المعلوم عنده ينتقل ذهنه اللطيف منها إلى ما في اللوح المحفوظ من صور الكائنات وترتيبها ومواضعها وعددها وكيفيتها وسائر أحوالها المثبتة فيه حتى لا يخفى عليه ما في وسط الأجمة من القصبة إلى آخره ولا يبعد أن يكون بناء ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنه كان عالما بما في الشرق والغرب وعدد الرمال ومدر الأرض على هذا الحساب لأن المبادي والمقدمات والنسب والحساب المتعلق بها مع المطالب وهي ما في اللوح من العلوم كانت في نفسه القدسية معا والله يعلم.

* الأصل:

234 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب قال: أخبرنا النضر بن قرواش الجمال قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجمال يكون بها الجرب أعزلها من إبلي مخافة أن يعديها جربها والدابة ربما صفرت لها حتى تشرب الماء فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أعرابيا، أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني اصيب الشاة والبقرة والناقة بالثمن اليسير وبها جرب فاكره شراءها مخافة أن يعدي ذلك الجرب إبلي وغنمي، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أعرابي فمن أعدى الأول، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا عدوى، ولا طيرة (1) ولا هامة، ولا شوم، ولا صفر، ولا رضاع بعد فصال، ولا تعرب بعد هجرة، ولا صمت يوما إلى الليل، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يتم بعد إدراك.

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجمال يكون بها الجرب أعزلها من إبلي مخافة أن

ص:281


1- 1 - «لا عدوى ولا طيره» ومما لا ريب فيه أن بعض الأمراض معدية، وأثبت ذلك التجربة والحس، وحمل أهل التحصيل هذا الحديث على أن المقصود ليس إنكار السراية أصلا بل إنكار الاعتقاد بأن الأمور الطبيعية مستقلة في التأثير وأن العدوي ليست علة تامة وقضية كلية بل قضية مهملة وعلة ناقصة قد يتخلف ولا يدعي الأطباء أيضا كليتها إذ قد يقع الأمراض الوبائية في بلد وتنجو منه الأكثر وقد ينسب أبو هريرة راوي الخبر من طرق العامة إلى السهو والخطأ ويقال: قيل له: أنت قد رويت خلاف ذلك فتعتع وبالجملة فلا ينبغي الشك في أن ظاهر الحديث غير مراد أو أصله غير صحيح وذكر وذكر السديدي هذا الشعر في الأمراض الموروثة والمعدية: متوارث الأمراض عد حروفها بنسا جمد * وحروف جبرق حج وج تعدي الجسد في الأمراض المتوارثة الباء البرص * والنون: النقرس، والسين: السل، والألف أبليميا: وهو الصرع، والجيم: الجذام، والميم: ألمانيا نوع من الجنون، والدال: الدق، وفي المعدية الجيم: الجرب، والباء: البخر، والراء: الرمد، والقاف: القروح العفنة، والحاء: الحصبة (سرخجة)، والجيم: الجدري، والواو: الوباء، والجيم: الجذام. (ش)

يعديها جربها) ضمير يعديها للإبل، وجربها للجمال، يقال أعداه الداء يعديه أعداء: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء بسبب المخالطة فعزلها من أبله حذرا أن يتعدى جربها إلى إبله فيصيبها ما أصابها (والدابة ربما صفرت لها حتى تشرب الماء) صفرت من الصفير: وهو الصوت بالشفتين والفم (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أعرابيا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله)) قال الشيخ في الأربعين: الأعرابي بفتح الهمزة: منسوب إلى الأعراب: وهم سكان البادية خاصة، ويقال لسكان الأمصار: عرب، وليس الأعراب جمعا للعرب بل هو مما لا واحد له نص عليه في الصحاح، وقال صاحب النهاية: الأعراب: ساكني البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه سواء أقام بالبادية أو المدن والنسبة إليها أعرابي وعربي (فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أعرابي فمن أعدى الأول) أي من أين صار إليه الجرب فرد ما ظنه من أن المرض بنفسه يتعدى وأعلمه بأنه ليس كذلك وإنما الله هو الذي يمرض وينزل الداء.

ومثله رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجر بها كلها؟ «قال: فمن أعدى الأول» قال صاحب إكمال الاكمال في شرحه: انقدح في نفس الأعرابي شبهة العدوي والسراية يعني اعتقد أن الإبل تجرب أن دخلها البعير الجرب فأزالها (عليه السلام) بقوله «فمن أعدى الأول» يعني أن جربت الإبل لهذا الداخل فالداخل أن جرب لأنه عدي عليه جرب بعير آخر تسلسل لا إلى نهاية والتسلسل باطل وإن كان لأن الله أجر به فكذلك تلك الإبل وهذا النوع من الاستدلال الذي أشار إليه (عليه السلام) هو عمدة المتكلمين في الرد على القائلين بالقدم حيث قالوا: الحوادث لا أول لها لان كل ولد مسبوق بوالد وكل زرع مسبوق ببذر وحركة الفلك اليوم مسبوقة بحركته أمس وهكذا إلى ما لا نهاية له، ورد عليهم المتكلمون بأنه يؤدي إلى التسلسل، كما أشار إليه في الحديث.

وهم أجابوا عن ذلك بأن التسلسل المحال إنما هو فيما بين آحاد ترتب طبيعي كالعلل والمعلولات فعندهم أن معلولا عن علة لا إلى نهاية محال وأما التسلسل في الأمثلة المذكورة فليس بمحال وقام البرهان عند أهل الحق أنه لا فرق في استحالته بين الأمرين ولا يمكن أن يحتج بعدم الفرق بحديث فمن أعدى لأنه من باب العلة والمعلول الذي يوافقونا في استحالته لأن الأعرابي جعل جرب الإبل معلولا لجرب الداخل وانما قال: فمن أعدى دون ما أعدى وهو الظاهر ليجاب بقول الله وذكر أعدى للمشابهة والازدواج كما في قوله كما تدين تدان انتهى، وقال الطيبي

ص:282

العدوي تجاوز العلة عن صاحبها إلى غيره يقال: عدي فلانا في علته، والأطباء يجعلون ذلك في سبع علل في الجذام والجرب والجدري والحصبة والبخر والرمد والأمراض الوبائية واختلف في قوله (عليه السلام) «لا عدوى» فحمله الأكثر على أن المراد به إبطاله في نفسي كما هو الظاهر، وقيل: ليس المراد به إبطاله، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فر من المجذوم فرارك من الأسد» وإنما المراد به نفي ما يعتقدونه من أن تلك العلل المعدية مؤثرة بنفسها مستقلة في التأثير فأعلمهم أن الأمر ليس كذلك وإنما هو بمشيئة الله تعالى وفعله وبين بقوله «فر من المجذوم فرارك من الأسد» أن مداواة ذي العلة أحد أسباب العلة فليتق كما يتقي الجدار المائل وقد يرجح هذا القول من حيث أنه يقع به الجمع بين الأحاديث.

وأجاب الأولون عن حديث الفرار: بأنه أمر بالفرار من المجذوم خوف أن تقع العلة فيعتقد أن العدوي حق، ثم قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا عدوى» في النهاية العدوي: اسم من الأعداء كالرعوى والبقوى من الإرعاء والإبقاء (ولا طيره) تطيرت من الشيء وبالشيء تشأمت والاسم منه الطيرة مثل الغيبة وهو ما يتشأم به من الفال الردي كذا في الصحاح، وقيل الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء:

مصدر وقد تسكن الياء والناس كانوا يتشأمون ويتطيرون في السوانح من الطير والذئب والظباء وغيرها من الأشياء التي يجيء ذكرها بعد ذلك فأبطل الشرع حكمها وبين أنها ليس لها تأثير في جلب نفع أو دفع ضرر، وفي عدمهما وقد ذكرنا سابقا ما يناسب هذا المقام فلا يعيده.

(ولا هامة) قال في النهاية: الهامة: الرأس واسم طائر وهو المراد في الحديث وذلك أنهم كانوا يتشأمون بها وهي من طير الليل، وقيل: هي البومة، وقيل: إن العرب كانت تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول إسقوني إسقوني فذا أرادك بثاره طارت وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت وقيل روحه تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى فنفاه الإسلام ونهاهم عنه انتهى.

وقال المازري: المشهور في «لا هامة» تخفيف الميم وقيل بالتشديد واختلف في تأويلها ثم ذكر الأقوال التي ذكرها صاحب النهاية وزاد في البومة فقال: وهي الطائر المعروف وكانوا يرون أنها إذا سقطت على دار أحد يراها ناعية لنفسه أو لبعض أهله (ولا شوم) كانوا يعتقدون أن هذه الدار شوم يعني يكون سكناها سببا للضرر والهلاك والإصابة بمكروه إذا شاهدوا ذلك مرارا وان هذا الرجل والمرأة والغلام والفرس شوم لعدم الفوز بالمطالب أو وجدان الضرر عند رؤيتهم أو لغير ذلك فنفاه (عليه السلام) لأنه أمر وهمي لا تأثير له في نفس الأمر ولو فرض تأثير ما فإنما هو مستند إلى التوهم ولو أرادوا بشوم الدار: ضيقها أو سوء جوارها أو غير ذلك من الأمور التي توجب نقصان الميل إليها، وبشوم الفرس: نقص كماله، وبشوم الغلام والمراة: عدم موافقتهما إلى غير ذلك من الأمور المنفرة

ص:283

للطبع فذلك أمر آخر أذن الشارع لمن كره شيئا منها أن يتركوا ويستبدل منه ما تطيب به نفسه في بيع الدار والفرس والغلام ويطلق المرأة.

فإن قلت: الفاختة شوم كما قال الصادق (عليه السلام) لابنه إسماعيل حين رآها في بيته «هذا الطير المشوم أخرجوه فإنه يقول فقدتكم فافقدوه قبل أن يفقدكم» فكيف يصح نفي الشوم على الإطلاق؟ قلت شوم الفاختة لأمر محقق وهو الدعاء على صاحب البيت بالهلاك والمقصود نفي الشوم المستند إلى مجرد التوهم وسوء الظن (ولا صفر) قال ابن الأثير: كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر تصيب الإنسان إذا حاع وتؤذيه وإنها تعدي فأبطل الإسلام ذلك، وقيل: أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وهو تأخير المحرم إلى صفر ويجعلونه هو الشهر الحرام فأبطله انتهى، وقال عياض: فيه قولان، قال مالك وأبو عبيدة: هو تأخير المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يحرمونه عاما ويحلونه عاما، وقال جماعة: الصفر: هو دواب البطن كانوا يعتقدون أنها كانت تهيج عند الجوع وربما قتلت وتراها العرب أعدى من الجرب وقيل: إنهم كانوا يشأمون بدخول صفر لكثرة الدواهي والفتن فيه، انتهى، وقال المازري: الصفر: دواب البطن بالدال المهملة والباء الموحدة المشددة وقيل: بالذال المعجمة والتاء المثناة من فوق وله وجه انتهى (ولا رضاع بعد فصال) فلو حصل عدد الرضاع كله أو بعضه بعد الحولين لم ينشر الحرمة ونقل الشهيد الإجماع عليه وخلاف ابن الجنيد لا يقدح لتأخره عنه وللنص.

(ولا تعرب بعد هجرة) الهجرة تطلق على معان:

الأول: الإنتقال من البدو والقرى وغيرها من المساكن إلى المدينة لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله) وهي تنقسم إلى قسمين: الأول: إنشاؤها، قيل: الفتح ولا خلاف في وجوبها وتحريم التعرب بعدها وقبل الفتح عند الخاصة والعامة قال الصادق (عليه السلام): «التعريب بعد الهجرة من الكبائر» وقال ابن الأثير: التعرب هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، وقال: أجمع القوم على حرمة ترك المهاجرة بالرجوع إلى وطنه والخروج إلى البادية محل الأعراب، وأما تعربه بعد الفتح فالظاهر أنه أيضا حرام للاستصحاب والظاهر ما نقلناه عن الصادق (عليه السلام) ويحتمل عدمه لكثرة الناصر وقوة الدين بعد الفتح احتمالا بعيدا والعامة قد اختلفوا في تحريمه بعده، قال الآبي: المجمع على حرمته من التعرب ما كان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وقبل الفتح وأما بعده فقيل: يسقط فرض المقام بالمدينة.

وثانيهما: إنشاؤها بعد الفتح في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ووجوب الهجرة حينئذ وتحريم التعرب بعدها ما احتمل لتحقق النصرة وعدم وجوبها وعدم تحريمها أيضا محتمل لكثرة الناصر ولم يحضرني

ص:284

الآن قول من علمائنا وحديث من رواياتنا في ذلك واختلفت العامة فيه.

قال القرطبي: الهجرة بعد الفتح، قيل: إنها واجبة وقيل: إنها مندوبة، أقول: يدل على الثاني ما رواه مسلم عنه (صلى الله عليه وآله) قال «لا هجرة بعد الفتح» إذ الظاهر أن معناه لا إنشاء هجرة بعده ويبقي النظر في إدامتها على ما مر، الثاني الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام قال الشهيد الثاني: هذا الحكم باق إلى اليوم إذ لم تنقطع الهجرة بعد الفتح عندنا، أقول قوله «عندنا» يشعر بانقطاع الهجرة بهذا المعنى عند العامة وليس كذلك فإن المازري قال: قال العلماء: إن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة إلى قيام الساعة وعلى هذا فلا يجوز لمسلم الدخول بلد الكفر إلا لضرورة في الدين كالدخول لفداء المسلم وقد أبطل مالك شهادة من دخل دار الحرب للتجارة هذا كلامه، الثالث:

الانتقال من البدو والقرى إلى الأمصار لتحصيل العلوم وكمالات النفس فإن الغالب من أهل القرى والبدو الجفاء والغلظة والبعد عن العلوم لكن تحريم التعرب بعد الهجرة وتكميل النفس محل الكلام.

(ولا صمت يوما إلى الليل)، صوم الصمت: هو أن ينوى الصوم ساكتا، إلى الليل، وهو محرم في شرعنا وأن كان ترك الكلام في جميع النهار غير محرم مع عدم ضمه إلى الصوم في النية.

* الأصل:

235 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا.

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) الطيرة على ما تجعلها. انتهى) دل على أن الطيرة لا حقيقة لها وأن تأثيرها أمر وهمي فمن كانت له نفس قوية لا يتأثر منها أصلا ومن كانت له نفس ضعيفة وعدها شيئا قد يتأثر منها.

* الأصل:

236 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كفارة الطيرة التوكل.

* الشرح:

ص:285

قوله: (كفارة لا طيرة التوكل) يعني أن التوكل على الله تعالى وهو تفويض الأمور إليه يدفع تأثيرها في النفس والبدن.

* الأصل:

237 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد وغيره، عن بعضهم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وبعضهم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم» فقال: إن هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام وكانوا سبعين ألف بيت وكان الطاعون يقع فيهم في كل أوان، فكانوا إذا أحسوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ويقل في الذين خرجوا فيقول الذين خرجوا لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت ويقول الذين أقاموا: لو كنا خرجنا لقل فينا الموت، قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنه إذا وقع الطاعون فيهم وأحسوا به خرجوا كلهم من المدينة فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحوا عن الطاعون حذر الموت فساروا في البلاد ما شاء الله.

ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها فلما حطوا رحالهم وأطمأنوا بها، قال لهم الله عز وجل: موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم في موضع فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكي واستعبر، وقال: يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك فأوحى الله تعالى إليه:

أفتحب ذلك؟ قال: نعم يا رب فاحيهم قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن قل: كذا وكذا، فقال الذي أمره الله عز وجل أن يقوله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وهو الاسم الأعظم فلما قال: حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون الله عز ذكره ويكبرونه ويهللونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أن الله على كل شيء قدير. قال عمر بن يزيد: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فيهم نزلت هذه الآية.

* الشرح:

قوله: (وكان الطاعون يقع في كل أوان. انتهى) في طريق العامة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «الطاعون: غدة كغدة البعير تخرج في المراق والأباط» وقال بعضهم: هذا هو الغالب وقد تخرج في الأيدي

ص:286

والأصابع وقيل: الوباء والطاعون واحد، وقيل: الطاعون: القروح التي تخرج كما ذكر، والوباء: كل مرض عام يعم الكثير من الناس في جهة دون جهة خلاف المعتاد من أمراض الناس في ساير الأوقات وقد يسمى طاعونا لشبهه به في أنه مهلك فكل طاعون وباء ولا ينعكس (وصاروا رميما يلوح): أي يظهر ويبرق المراد بالرميم هنا العظم الخالص (فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل) حزقل: كزبرج وزنبيل بالحاء المهملة والزاي المعجمة اسم نبي من الأنبياء (عليهم السلام).

* الأصل:

238 - ابن محبوب، عن حنان بن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت: له أخبرني عن قول يعقوب (عليه السلام) لبنيه (اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) أكان يعلم أنه حي وقد فارقه منذ عشرين سنة؟، قال: نعم، قال قلت: كيف علم؟ قال إنه دعا في السحر وسأل الله عز وجل أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه بريال وهو ملك الموت، فقال له بريال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال:

أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ قال: بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال له:

فأخبرني هل مر بك روح يوسف فيما مر بك؟ قال: لا، فعلم يعقوب أنه حي فعند ذلك قال لولده: «اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه».

* الشرح:

قوله: (فتحسسوا من يوسف وأخيه): أي استمعوا لحديث القوم منهما واطلبوا خبرهما تقول تحسست من الشيء إذا تخبرت خبره.

* الأصل:

239 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحصين، عن خالد بن يزيد القمي، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل «وحسبوا ألا تكون فتنة» قال: حيث كان النبي (عليه السلام) بين أظهرهم «فعموا وصموا» حيث قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ثم تاب الله عليهم» حيث قام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ثم عموا وصموا» إلى الساعة.

* الشرح:

قوله: (وحسبوا أن لا تكون فتنة. انتهى): أي حسبوا أن لا تكون فتنة في الدين وخروج منه في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، فعموا عن الدين والهدى وصموا عن استماع الحق عند قبضه (صلى الله عليه وآله) ثم تابوا

ص:287

ورجعوا إلى الحق والهدى، فتاب الله عليهم، وقيل: توبتهم عند قيام علي (عليه السلام) بالخلافة ثم عموا وصموا إلى قيام القائم (عليه السلام)، والمقصود أن حكم الآية كلي صادق على كل من كان على الحق فرجع عنه ثم عاد إليه ثم رجع عنه والمذكورون من هذه الأمة من جملتهم فلا يرد أن الآية في ذم بني إسرائيل بقرينة السابق واللاحق.

* الأصل:

240 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم» قال: الخنازير على لسان داود والقردة على لسان عيسى بن مريم (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم. انتهى) لما اعتدى أهل أيلة في السبت لعنهم داود (عليه السلام) فمسخهم الله خنازير، ولما كفر أصحاب المائدة لعنهم عيسى (عليه السلام) فمسخهم الله قردة، وصرح بعض المفسرين بالعكس والحديث دليل على الأول.

* الأصل:

241 - محمد ين يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن محمد بن أبي حمزة، عن يعقوب بن شعيب، عن عمران بن ميثم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) «فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» فقال:

بلى والله لقد كذبوه أشد التكذيب ولكنها مخففة: «لا يكذبونك»: لا يأتون بباطل يكذبون به حقك.

* الشرح:

قوله: (قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام): فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الظاهر أن الرجل أراد بآيات الله أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) وقد روي تفسيرها بهم ولا ينافيه صدقها على آيات القرآن أيضا (فقال: بلى والله لقد كذبوه أشد التكذيب) وهو التكذيب على وجه المبالغة والإصرار عليه فلا ينبغي قراءة «لا يكذبونك» بالتشديد لأنه خلاف الواقع لوقوعه فيه بل ينبغي أن يقال بالتخفيف من أكذبه إذا بين كذبه بدليل كما أشار إليه بقوله (ولكنها

ص:288

مخففة) من أكذبه، قال بعض المفسرين: قرأ نافع والكسائي بالتخفيف من أكذبه والضمير في لكنها راجع إلى لا يكذبونك والتأنيث باعتبار الكلمة أو الصيغة أو إلى الآية والتخفيف باعتبار جزئها، ثم أشار إلى حاصل المعنى بقوله (لا يكذبونك لا يأتون بباطل يكذبون به حقك) يكذبون به حقك أما من أكذبه إذا وجده كاذبا مثل أبخلته أو من كذبه تكذيبا إذا نسبه إلى الكذب مثل فسقته فمعنى لا يكذبونك من أكذبه أنهم لا يأتون بباطل أي بأمارة باطلة وشبهة كاذبة يجدون به حقك كاذبا أو ينسبونه إلى الكذب هذا ما خطر بالبال والله يعلم حقيقة كلامه وكلام وليه.

* الأصل:

242 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: «ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال اوحي إلي ولم يوح إليه شيء» قال: نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر وهو ممن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة هدر دمه وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا أنزل الله عز وجل «إن الله عزيز حكيم» كتب «إن الله عليم حكيم» فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعها فان الله عليم حكيم وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين. إني لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغير علي فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي أنزل.

* الشرح:

قوله: (قال: نزلت في ابن أبي سرح) اسمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح الأموي الذي كان عثمان استعمله على مصر لقرابته مع أنه كان في عهد الشيخين مطرودا (وهو ممن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة هدر دمه) هدر من باب ضرب ونصر هدرا بالتسكين والتحريك لازم ومتعد (وكان يكتب القرآن) عند نزوله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) (فإذا أنزل الله عز وجل أن الله عزيز حكيم، كتب: الله عليم حكيم، فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعها) أي أسقطها واتركها (فإن الله عليم حكيم) في الواقع ولكن المنزل أن الله عزيز حكيم فاكتب ما نزل، وقيل معناه دعها بحالها فإنها سترجع إلى ما نزل بأمر الله تعالى وأيده بأنه ذكر بعض المفسرون أنه قد يتغير من الغيب بقدرة الله تعالى لفظ عليم بلفظ عزيز بدون أن يكتبه كاتب. أقول آخر هذا الحديث أيضا يؤيده والله يعلم، قال القاضي: كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما نزلت «ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين» فلما بلغ قوله تعالى «ثم أنشأناه خلقا آخر» قال عبد الله: تبارك الله أحسن الخالقين تعجبا من

ص:289

تفصيل خلق الإنسان فقال (عليه السلام) اكتبها كذلك نزلت، فشك عبد الله وقال:

لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال.

ولبعض علماء العامة كلام دال على جملة من قبايح عثمان في نصب ابن أبي السرح ورعاية حاله حتى صار ذلك سببا لقتله فلا بأس أن نذكره بطوله فنقول: قال أبو عبد الله في كتاب إكمال الإكمال:

ذكر البياسي أن ابن شهاب قال: قلت لابن المسيب: ألا تخبرني كيف قتل عثمان قال: انه لما ولى كره جماعة من الصحابة ولايته لأنه كان كلفا بأقاربه يولي منهم ثم يجيء منهم ما يسوءه فلا يعزلهم وكان ولى ابن أبي سرح مصر فظلم أهلها وقدموا على عثمان يشكون له فلم يعزله فضرب ابن أبي سرح رجلا ممن أتى عثمان فقتله فخرج أهل مصرفي سبعمائة راكب حتى أتوا المدينة فنزلوا في المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما صنع ابن أبي سرح، فدخل عليه طلحة وكلمه كلاما شديدا وأرسلت إليه عائشة وإنه قد سألك أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن عزل هذا الرجل فأبيت وقد ادعوا عليه دما فاعزله واقض بينهم وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه.

فقال لهم عثمان: اختاروا رجلا نوله عليكم مكانه فاختاروا محمد بن أبي بكر فكتب له وخرج في جماعة من المهاجرين والأنصار لينظروا فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح فلما بعدوا من المدينة بثلاثة أيام إذا هم بغلام أسود على بعير يسرع كأنه يطلب أو يطلب، فقالوا ما شأنك كأنك طالب أو هارب؟ فقال: أنا غلام أمير المؤمنين بعثني إلى أمير مصر، فقالوا: هذا أمير مصر، فقال: ليس هذا أريد فأتوا به إلى محمد بن أبي بكر فجعل مرة يقول أنا غلام أمير المؤمنين ومرة أنا غلام مروان بن الحكم فعرفه رجل أنه غلام عثمان، وأنكر أن يكون معه كتاب ففتش فوجد معه كتاب فجمع محمد من معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ففتحوا الكتاب فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر على عملك حتى يأتيك أمري، واحبس من جاء يتظلم منك حتى يأتيك أمري، فختموا الكتاب بخواتم القوم ورجعوا إلى المدينة وجمعوا عليا ومن بها من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم فك الكتاب بمحضرهم وأخبرهم بقصة الغلام فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا خنق وزاد غضب من غضب لابن مسعود من عشيرته هذيل لضربه إياه حتى كسر ضلعيه ولأبي ذر من عشيرته غفار لضربه إياه وإخراجه إلى الربذة، ولعمار من عشيرته بني مخزوم لضربه إياه حتى فتق، فاجتمعوا وأحاطوا داره وحاربوا مدة ثم دخل فيها محمد بن أبي بكر مع جماعة فقتلوه، وقال القرطبي: ألقوه بعد القتل على مزبلة ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه حتى جاء جماعة بالليل فحملوه ودفنوه بالبقيع وعمي قبره حتى لا يعرف، ونسب أهل الشام قتله

ص:290

إلى علي وهذا كذب محض انتهى. وقال ابن العربي كان المكاشفون بالحصار والإنكار أربعة آلاف.

* الأصل:

243 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز وجل: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» فقال: لم يجيء تأويل هذه الآية بعد، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رخص لهم لحاجته وحاجة أصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم لكنهم يقتلون حتى يوحدوا الله عز وجل، وحتى لا يكون شرك.

* الشرح:

قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة): أي لا توجد فيهم شرك ونفاق واختلاف (ويكون الدين كله لله) ويرتفع بينهم الأديان الباطلة والمذاهب المختلفة والعقائد الفاسدة (فقال: لم يجيء تأويل هذه الآية بعد) تأويلها ظهور القايم (عليه السلام) وفي كتب العامة أيضا ما يشعر بذلك روي مسلم بإسناده عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول «لا تذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله إن كنت لا ظن حين أنزل الله عز وجل «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق إلى قوله ولو كره المشركون» إن ذلك تام، قال: أنه سيكون ذلك ما شاء الله» وحاصل هذا الجواب إنما دلت عليه الآية من ظهوره على الدين كله ليس قضية دائمة بل سيكون إن شاء الله إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رخص لهم في بقائهم على دينهم الفاسد بأخذ الجزية والفدية، يقال: رخص له في كذا ترخيصا فترخص هو أي لم يستقص ولم يضق عليه (لحاجته وحاجة أصحابه) إلى أخذ المال لا صلاح أحوال بعض العساكر المنصورة.

* الأصل:

244 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول في هذه الآية «يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما اخذ منكم ويغفر لكم» قال: نزلت في العباس وعقيل ونوفل وقال: إن رسول الله نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم وأبو البختري فاسروا فأرسل عليا (عليه السلام) فقال:

انظر من ههنا من بني هاشم؟ قال فمر علي (عليه السلام) على عقيل بن أبي طالب كرم الله وجهه فحاد عنه فقال له عقيل: يا ابن أم علي أما والله لقد رأيت مكاني قال: فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: هذا أبو الفضل في يد فلان وهذا عقيل في يد فلان وهذا نوفل بن الحارث في يد فلان فقام رسول

ص:291

الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهى إلى عقيل فقال له: يا أبا يزيد قتل أبو جهل، فقال: إذا لا تنازعون في تهامة فقال: إن كتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم فقال: فجيء بالعباس فقيل له: افد نفسك وافد ابني أخيك فقال: يا محمد تتركني أسأل قرشيا في كفي، فقال: أعط مما خلفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي هذا شيء فأنفقيه على ولدك ونفسك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ فقال: أتاني به جبرئيل (عليه السلام) من عند الله عز وجل، فقال ومحلوفه. ما علم بهذا أحد إلا أنا وهي، أشهد أنك رسول الله، قال: فرجع الأسرى كلهم مشركين إلا العباس وعقيل ونوفل كرم الله وجوههم وفيهم نزلت هذه الآية: (قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) - إلى آخر الآية -.

* الشرح:

قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى): جمع الأسير كالمرضى جمع المريض (أن يعلم الله في قلوبكم خيرا) أي إيمانا خالصا (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء) نقل أن العباس بعد حسن حالة وكثرة ماله، قال: صدق الله أعطانا خيرا مما أعطينا من الفداء (قال: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعقيل) ابن أبي طالب بن عبد المطلب (ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.

(فحاد عنه): أي مال عنه وأعرض (فقال له عقيل يا بن أم علي) أي أقبل علي وفي ذكر أم زيادة استعطاف واسترقاق (أما والله لقد رأيت مكاني) من الحبس والأسر والضيق وهذا محل الإقبال دون الإعراض وإرادة المنزلة والقرابة منه (عليه السلام) من المكان بعيدة (فقال له يا أبا يزيد قتل أبو جهل فقال إذا لا تنازعوني في تهامة) الظاهر أن فاعل قال في الثاني كالأول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتهامة بالكسر: مكة شرفها الله تعالى، وفيه دلالة على أن الباعث على المنازعة هو أبو جهل فإذا عدم عدمت (فقال: إن كنتم أثخنتم القوم وإلا فاركبوا أكتافهم) فاعل قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمخاطبون من عندهم الأسرى أو الأعم، والإثخان: المبالغة في الجرح، يقال أثخن في العدو إذا بالغ في الجراحة وفلانا أو هنه و «حتى إذا أثخنتموهم» أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح ولعل المراد أنكم إن أثخنتم الأسارى وجرحتموهم حتى أنهم لا يقدرون على الفرار فلا حاجة إلى شد وثاقهم وإلا فاركبوا أكتافهم وشدوا وثاقهم (فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشا في كفي) لتحصيل الفداء يعني ليس لي شيء أفدي به ولا يمكن إلى تحصيله إلا بالسؤال وأم الفضل زوجته.

ص:292

* الأصل:

245 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) نزلت في حمزة وعلي وجعفر والعباس وشيبة، إنهم فخروا بالسقاية والحجامة فأنزل الله جل وعز «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر» وكان علي وحمزة وجعفر صلوات الله عليهم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله، لا يستوون عند الله.

* الشرح:

قوله: (قال: نزلت في حمزة وعلي وجعفر والعباس وشيبة أنهم فخروا بالسقاية والحجامة) ضمير أنهم راجع إلى العباس ومن تبعه وكانت له السقاية وإلى شبية ومن تبعد وكانت له الحجامة ومفتاح الكعبة (فأنزل الله عز ذكره أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) تمام الآية «وجاهدوا في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم» السقاية والعمارة مصدرا أسقى وعمر فلا يشبهان بأهل لجنة بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن، ويؤيد الأول قراءة من قرأ «سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» والمعنى: إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة الفاسدة بالمؤمنين وأعمالهم الصالحة المثبتة، وسبب نزولها ما ذكر في الحديث وليس للعامة أن يقولوا هذه الآية نزلت في ثلاثة رجال، قال أحدهم: سقاية الحاج أفضل، وقال ثانيهم: عمارة المسجد أفضل، وقال ثالثهم: الجهاد بناء على ما رواه مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أني أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله) الآية، وإنما قلنا ليس لهم أن يقولوا ذلك لأنه قال عياض

ص:293

وهو من أعاظم علمائهم: ما يقتضية قول نعمان أن الآية نزلت عند اختلافهم مشكل لأنها إنما نزلت قبل ذلك مبطلة لمن افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وافتخر علي (رضي الله عنه) بالإيمان والجهاد فنزلت الآية مصدقة لعلي ومكذبة لهما ويدل على أنها إنما نزلت في المشركين ختمها بقوله تعالى (والله لا يهدي القوم الظالمين) وأيضا فإن الثلاثة الذين هم في الحديث لم تختلفوا في أن السقاية أفضل من الإيمان والجهاد وإنما اختلفوا أي الاعمال أفضل بعد الإيمان وإذا أشكل أنها نزلت عند اختلافهم فيحل الإشكال بأن يكون بعض الرواة تسامح في قوله «فأنزل الله.

الآية» وإنما الواقع أنه (عليه السلام) قرأ على عمر الآية حين سأله مستدلا بها على أن الجهاد أفضل مما قال أولئك فظن الراوي أنها نزلت إنتهى كلامه بعبارته.

قيل: ما فهم من الآية تفضيل الجهاد والرد بها على المشركين فإنها إنما دلت على نفي المساواة بين أمرين وهو لا يدل على تعيين الأرجح منهما ولذا تجده يدل على تعيين الأرجح من الأمرين بعد نفي المساواة بينهما كما في قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) وأجيب بأنه قد نص هنا على تعينه بقوله بعد «الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا» لأنه من تمام ما نزل، وقد يجاب بأن الآية وحدها كافية في بيان أن الجهاد أفضل من دون نظر إلى ما بعدها لأنها خرجت مخرج إنكارا أن يكون كل واحد من الأمرين أفضل من الجهاد وقد بقيت المساواة بين أحدهما والجهاد فيتعين أن يكون الجهاد أفضل ولا يمكن أن يدعى أن السقاية أو العمارة أفضل لأنه المنكر.

* الأصل:

246 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: «وآذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه» قال: نزلت في أبى الفصيل إنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنده ساحرا فكان إذا مسة الضر - يعني السقم - دعا ربه منيبا إليه يعني تائبا إليه من قوله في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يقول «ثم إذا خوله نعمة منه» يعني العافية - نسي ما كان يدعو إليه من قبل يعني نسي التوبة إلى الله عز وجل مما كان يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه ساحر ولذلك قال الله عز وجل: (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) يعني أمرتك على الناس بغير حق من الله عز وجل ومن رسوله (صلى الله عليه وآله).

قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) ثم عطف القول من الله عز وجل في علي (عليه السلام) يخبر بحاله وفضله عند الله تبارك وتعالى فقال: «أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون (أن محمدا رسول الله) والذين لا يعلمون (أن محمدا رسول

ص:294

الله وأنه ساحر كذاب) إنما يتذكر اولوا الألباب» ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا تأويله يا عمار.

* الشرح:

قوله: (نزلت في أبي الفصيل. انتهى) كناية عن فلان باعتبار معناه الإضافي والفصيل هو البكر وهم ولد الناقة إذا فصل عن أمه وهذا كغيره من الروايات المعتبرة صريح في أنه كان منافقا لم يؤمن بالرسول مع العلم بأنه رسول وفي ارتداده مرة بعد أخرى بدليل توبته عند مس الضر ورجوعه عنها بعد التحويل وإعطاء الصحة والإمرة بالكسر: الإمارة اسم من أمر علينا مثلثة إذا ولى (ثم عطف القول من الله عز وجل في علي (عليه السلام) يخبر بحاله وفضله علما وعملا عند الله تعالى فقال أمن هو قانت) أي قايم بوضايف الطاعات من القراءة والصلاة والدعاء والخشوع كمن هو ليس بقانت ففيه حذف كما قيل، والمقصود نفي المساواة بينهم وإثبات الفضل للأول (آناء الليل): أي ساعاته خصها بالذكر مع أن للعبادة في كل وقت فضلا لوجوه منها فراغ القلب فيه والعبادة معه أفضل، ومنها أن الليل وقت النوم والاستراحة فتكون العبادة فيه أشق وأفضل، ومنها أن العبادة فيها أقرب من الخلوص وأبعد من الرياء فتكون أفضل، ومنها أنه ساعة الغفلة فتكون العبادة والذكر فيه أفضل (ساجدا وقائما) حال عن فاعل قانت وتقديم السجود للاهتمام به لكونه أرفع منازل العارفين (يحذر الآخرة): أي أهوالها وعذابها (ويرجو رحمة ربه) استيناف للتعليل كأنه قيل ما سبب قنوته وقيامه وسجوده فأجيب ببيان سببها أو في موضع النصب على الحال ولعل النكتة في إيراد بعض الأحوال جملة وبعضها مفردة هي التنبيه على استمرار الحذر والرجاء ووجود كل واحد منهما في زمان وجود الآخر بخلاف السجود والقيام وإنما آثر الحذر على الخوف مع أن الخوف في مقابل الرجاء لأن الحذر أبلغ من الخوف إذ هو خوف مع الاحتراز (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) يعني أن عليا (عليه السلام) لكونه قانتا بالأوصاف المذكورة وعالما بأن محمدا رسول الله ليس مثل أبي الفصيل وهو لا يقنت ولا يعلم أن محمدا رسول الله ويعتقد أنه ساحر كذاب فقوله (وأنه ساحر كذاب) عطف على لا يعلمون بتقدير فعل. (إنما يتذكر أولوا الألباب) أي لا يتذكر التفاوت بين العالم والجاهل وبين القانت وغيره ولا يعرفه إلا ذوو العقول الصحيحة عن غواشي الأوهام لأنهم القادرون على التمييز بين الحق والباطل دون غيرهم وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: «نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولوا الألباب» (ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا تأويله يا عمار) التأويل متعلق ببطون الآية بالغا ما بلغ وقد يكون للآية

ص:295

معاني كثيرة ظاهرة وباطنة كلها مراد ولا يعلمها إلا أهل العصمة (عليهم السلام).

* الأصل:

247 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان قال: تلوت عند أبي عبد الله (عليه السلام) «ذوا عدل منكم»، فقال: «ذو عدل منكم» هذا مما أخطأت فيه الكتاب.

* الشرح:

قوله: (تلوت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ذوا عدل منكم) قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتل منكم (متعمدا) فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) إذ كما أن في التقويم المحتاج إلى النظر والاجتهاد لابد من متعدد كذلك في الحكم بالجزاء المماثل المحتاج إليهما لابد من متعدد لأن الأنواع تتشابه في الخلقة والصورة كثيرا فقال: ذوا عدل منكم أشار إلى أن المنزل ذو عدل بالافراد والمراد به الإمام (عليه السلام) وقد نقلت القراءة به أيضا قال القاضي وقرئ ذو عدل على إرادة الجنس أو الإمام.

* الأصل:

248 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن رجل، عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا تسألوا عن أشياء (لم تبد لكم) إن تبد لكم تسؤكم».

* الشرح:

قوله: (لا تسألوا عن أشياء (لم تبد لكم) إن تبد لكم تسؤكم) لم تبد لكم صفة لأشياء وهي ليست في هذا القرآن والشرطية صفة أخرى أو استيناف، أي لا تسألوا الرسول عن أشياء لم تظهر لكم إن تظهر لكم تغمكم فالسؤال عنها يغمكم ويدخل المشقة عليكم كما سأله رجل وقال: أين أبي؟ فقال: أبوك في النار، وسأله آخر وقال: من أبي؟ فقال: أبوك فلان الراعي وسأل بنو إسرائيل نبيهم عن البقرة مرارا حتى ضيقوا على أنفسهم، وبالجملة ينبغي ترك السؤال عن أشياء سكت عنها الشارع حذرا عن الجواب الذي يكرهه الطبع ويثقل عليه وقد روي من طرق العامة أنه لما نزل ولله على الناس حج البيت، قال سراقة بن مالك: أفي كل عام فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أعاد ثلاثا فقال لا ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم.

* الأصل:

249 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن

ص:296

محمد بن مروان قال: تلا أبو عبد الله (عليه السلام) «وتمت كلمت ربك (الحسنى) صدقا وعدلا» فقلت جعلت فداك إنما نقرؤها: «وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا» فقال: إن فيها الحسنى.

* الشرح:

قوله: (وتمت كلمة ربك الحسنى) بلغت غاية الكمال (صدقا) فيما ينطق به من الأخبار والمواعيد وغيرهما (وعدلا) في الأقضية والأحكام، قال المفسرون: المراد به آيات القرآن وقد مر في كتاب الحجة الإيماء إلى تأويلها بالأئمة (عليه السلام).

* الأصل:

250 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن القاسم البطل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين» قال: قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) وطعن الحسن (عليه السلام) «ولتعلن علوا كبيرا» قال: قتل الحسين (عليه السلام) «فإذا جاء وعد اولاهما» فإذا جاء نصر دم الحسين (عليه السلام) «بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار» قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم (عليه السلام) فلا يدعون وترا لآل محمد إلا قتلوه «وكان وعدا مفعولا» خروج القائم (عليه السلام) «ثم رددنا لكم الكرة عليهم» خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهب لكل بيضة وجهان، المؤدون إلى الناس أن هذا الحسين قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه وأنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم بين أظهرهم فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنه الحسين (عليه السلام) جاء الحجة الموت فيكون الذي يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده في حفرته الحسين ابن علي (عليهما السلام) ولا يلي الوصي إلا الوصي.

* الشرح:

قوله: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) أي أوحينا إليهم في التوراة وحيا مقضيا مبتوتا لا راد له] «وبنو أمية وقريش وأكثر العرب من أولاد إسرائيل يعقوب (عليه السلام) «كذا؟» ومن شاركهم في الافساد المذكور من غيرهم حكمه حكمهم فهو داخل فيهم من باب التغليب [(فإذا جاء وعد أولاهما) من حيث النصرة وعقوبة الظلمة لا من حيث الوقوع كما يشعر به قوله (فإذا جاء نصر دم الحسين (عليه السلام) بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) أي ذوي قوة وبطش شديد في الحرب (فجاسوا خلال الديار) أي ترددوا في وسط دياركم للقتل والغارة والنهب والسبي (قوم يبعثهم

ص:297

الله قبل خروج القائم (عليه السلام)) أي هم قوم كأبي مسلم والمسيب والمختار وأتباعهم أو غيرهم على احتمال (فلا يدعون وترا لآل محمد (صلى الله عليه وآله) إلا قتلوه) الوتر بالكسر: الجناية التي يجنبها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي، ولعل المراد به المتصف بها (وكان وعدا مفعولا خروج القائم (عليه السلام)) الظاهر أنه اسم كان وقد مر أنه يقتل قتلة الحسين وبني أمية (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) الكرة:

الرجعة والحملة (خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه) الذين قتلوا معه، وفي: بمعنى مع (عليهم البيض المذهب) البيض بفتح الباء وسكون الياء جمع بيضة: الحديد وهي الخود، والمدون: صفة لأصحابه (والحجة القائم بين أظهرهم) يقال: هو قائم بين أظهرهم إذا قام بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم ثم كثر استعماله في الإقامة بين القوم مطلقا (ويلحده) في القاموس اللحد ويضم: الشق يكون في عرض القبر ولحد القبر كمنع وألحده عمل له لحدا والميت دفنه.

* الأصل:

251 - سهل، عن محمد بن الحسن، عن محمد بن حفص التميمي قال: حدثني أبو جعفر الخثعمي قال: لما سير عثمان أباذر إلى الربذة شيعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين (عليهم السلام) وعمار بن ياسر (رضي الله عنه) فلما كان عند الوداع قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا ذر إنك إنما عضبت لله عز وجل فارج من عضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فأرحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء ووالله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله عز وجل جعل له منها مخرجا فلا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل.

ثم تكلم عقيل فقال: يا أباذر أنت تعلم أنا نحبك ونحن نعلم أنك تحبنا وأنت قد حفظت فينا ما ضيع الناس إلا القليل فثوابك على الله عز وجل ولذلك أخرجك المخرجون وسيرك المسيرون فثوابك على الله عز وجل فاتق الله واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم تكلم الحسن (عليه السلام) فقال: يا عماه إن القوم قد أتوا إليك ما قد ترى وإن الله عز وجل بالمنظر الأعلى فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها، وشدة ما يرد عليك لرجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك (صلى الله عليه وآله) وهو عنك راض إن شاء الله.

ثم تكلم الحسين (عليه السلام) فقال: يا عماه إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغير ما ترى وهو كل يوم في شأن إن القوم منعوك دنياهم ومنعتهم دينك فما أغناك عما منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم، فعليك بالصبر فان الخير في الصبر والصبر من الكرم ودع الجزع فان الجزع لا يغنيك.

ص:298

ثم تكلم عمار (رضي الله عنه) فقال: يا أبا ذر أوحش الله من أوحشك وأخاف من أخافك إنه والله ما منع الناس أن يقولوا الحق إلا الركون إلى الدنيا والحب لها ألا إنما الطاعة مع الجماعة والملك لمن غلب عليه وإن هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

ثم تكلم أبو ذر (رضي الله عنه) فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته بأبي وامي هذه الوجوه فإني إذا رأيتكم ذكرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكم، ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم وإنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام فآلى أن يسيرني إلى بلدة فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة فزعم أنه يخاف أن افسد على أخيه الناس بالكوفة وآلى بالله ليسيرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيسا ولا أسمع بها حسيسا، وإني والله، اريد إلا الله عز وجل صاحبا ومالي مع الله وحشة، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين.

* الشرح:

قوله: (لما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة): هي بالتحريك قرية معروفة قرب المدينة بها قبره (رضي الله عنه) واسمه جندب بن جنادة وهو من بني غفار بالكسر والتخفيف: قبيلة من كنانة أسلم بمكة وسيجئ سبب إسلامه وكان يتولى عليا وأهل بيته (عليهم السلام) ولم يبايع الشيوخ الثلاثة وكان ينكر عليهم قولا وفعلا وسرا وجهارا ووجه إخراجه أنه خاف منه الفتنة فأخرجه إلى الشام أولا ثم استحضره إلى المدينة ثم استخرجه منها إلى الربذة قال أبو عبد الله صاحب كتاب إكمال الإكمال وجه استحضاره من الشام أنه كان إذا صلى الناس الجمعة وأخذوا في مناقب الشيوخ، يقول: لو رأيتهم ما أحدثوا بعده شيدوا البناء ولبسوا الناعم وركبوا الخيل وأكلوا الطيبات وكاد يفسد بأقواله الأمور ويشوش الأحوال فاستدعاه من الشام وكان إذا رأى عثمان قال: «يوم يحمى عليها جباههم وجنوبهم - الآية» فضربه بالسوط أدبا لذلك، وللامام أن يؤدب من أساء إليه وإن أدى الأدب إلى هلاكه ثم قال له: إما أن تكف وإما أن تخرج حيث شئت فخرج إلى الربذة هذا كلامه.

أقول يرد عليه المثل المشهور ثبت العرش ثم انقش لوجوب البراءة من امام أنكره مثل أبي ذر (رحمه الله) وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصفه ومنقبته ما هو مذكور في كتبهم، ومنه أنه قال: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» منه أنه قال (صلى الله عليه وآله) «إن الله أمرني أن أحب أربعة

ص:299

وأخبرني أنه يحبهم علي وأبو ذر والمقداد وسلمان» نقله القرطبي في شرح فضائل سلمان (رضي الله عنه)، وأما قوله إن عثمان لم يخرجه بل خيره بين الكف عما يقول وبين الخروج فمناف لما قال بعض علمائهم أن أبا ذر كان يغلظ القول في إنكار ما يراه منكرا وفي حق عثمان يقول لم يبق أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما عهد وينفر بهذا القول وأمثاله الناس عنه فارجه لذلك وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (فأرحلوك عن الفناء) يدل عليه. فناء الدار بالكسر: ما اتسع من أمامها ولعل المراد به فناء الروضة المقدسة وقوله (عليه السلام) (إنما غضبت لله) دليل على أن إنكاره بما كان ينكره إنما يقصد به وجه الله تعالى وقوله (أن القوم خافوك على دنياهم) يعني خافوك على أمر الخلافة بتنفيرك عنهم (وخفتهم على دينك) بترك موافقتهم والمماشاة معهم وأخذ العطاء منهم وبردك إلى الارتداد كما ارتدوا وقوله (ولو كانت السماوات والأرض إلى آخره) بشارة له بخلاصه مما هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج وشرطه في ذلك تقوى الله إشارة إلى قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) - الآية.

ونقل عن ابن عباس أنه قال قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» قال: من شبهات الدنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ومن البين عقلا ونقلا أن التقوى عند استشعارها سبب قاطع لطمع المتقي من الدنيا وقنياتها وهو مستلزم لراحته من مجاذبة النفس الأمارة بالسوء والوقوع في شبهات الدنيا وهي في استلزامه الخلاص من غمرات الموت وشدايد يوم القيامة أظهر.

وكنى (عليه السلام) بالغاية وهي رتق السماوات والأرض على العبد عن غاية الشدة مبالغة لبيان فضل التقوى ثم أمره بالاستيناس بالحق وحده والاستيحاش من الباطل وحده بقوله (فلا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل) «لا» إما للنفي أو للمنهي، والوحشة: الهم والخلوة والخوف ضد الانس وفي الكنز: «وحش رميدن ودورى جستن وحشت خالى واندوه ورميدگى» وقول عقيل من الجزع في قوله: (واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع واستبطاءك العافية من الإياس) خبر أن رغبة في الصبر على البلاء وتلقية بالقبول وتوقع حضور العافية في كل آن حيث عد استعفاء الأول وكراهته جزعا واستبطاء الثاني يأسا، ثم أمره بترك اليأس والجزع بقوله (فدع الإياس والجزع) واصبر على البلاء والعافية من الله تعالى وفي نسخه «اليأس في» الموضعين ثم أمره بتفويض الأمور إلى الله تعالى والتوكل عليه بقوله (وقل حسبي الله ونعم الوكيل) أي هو بتقدير المخصوص بالمدح بعده وعطف الفعلية الانشائية على الاسمية الخبرية جائز إذا كان لها محل من الأعراب كما صرح به جماعة من المحققين وأن أبيت فقدر المخصوص بالمدح قبله وأول الخبر بالتأويل المشهور. ثم نبهه الحسن (عليه السلام) بأنه تعالى عالم بحاله وحال من سيره بقوله (وأن الله عز وجل بالمنظر الأعلى)

ص:300

المنظر اما مصدر بمعنى النظر وفعله من باب ضرب وسمع أو ما نظرت إليه أو أشرف المراتب ومنه مناظر الأرض أي أشرفها والمعنى على جميع التقادير أنه تعالى ينظر إلى كل شيء ويرى أسفله وباطنه كما يرى أعلاه وظاهره ويرى قلوب العباد وخطراتها وأعمالهم الجلية وخفياتها، ثم قال الحسين (عليه السلام) تسلية (إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغير ما ترى من ضعف) أهل الدين وقوة أهل الجور (وهو كل يوم في شأن) أي في أمر من الأمور وحال من الأحوال فيجدد أمورا ويغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وله في الجميع حكمة واختيار (فما أغناك عما منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم) «ما» تعجبية والمعنى أن لك غني عظيم عن دنياهم ولهم حاجة عظيمة إلى دينك فإذا لم يأخذوا عنك الدين مع شدة احتياجهم إليه فكيف تأخذ عنهم الدنيا مع كمال غناك عنها فاترك لهم دنياهم وانج بدينك واصبر، ثم دعا عمار على عثمان بقوله (أوحش الله من أو حشك) أي أبعد الله عن رحمته من أبعدك عن المدينة أو جعل الله بلا أنيس من جعلك بلا أنيس أو جعل الله مهموما من جعلك مهموما وأخاف من أخافك من سلطانه وبطشه (أنه والله ما منع الناس أن يقولوا) ما تقول أو الحق ويؤيد الثاني وجوده في بعض النسخ والمال واحد (إلا إنما الطاعة مع الجماعة) أي ما طاعة الله وطاعة الرسول إلا مع الجماعة وهم أهل البيت (عليهم السلام) ثم أجابهم أبو ذر بعد التسليم والثناء عليهم بقوله (ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم) في المصباح الشجن بفتحتين: الحاجة والجمع شجون مثل أسد وأسود وأشجان مثل سبب وأسباب والسكن بالتحريك ما يسكن إليه (وأنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام) كان (رحمه الله) يذمهم عند أهل الشام ويعد قبايح عثمان ومن قبله وما صنعوا من غصب الخلافة وإبطال حق آل الرسول فكتب معاوية إلى عثمان وأخبره فطلبه إلى المدينة فكان يفعل في المدينة مثل ما كان يفعل الشام فخاف عثمان أن يفسد عليه أمره فضربه فلم ينفع فحلف أن يسيره إلى بلدة فطلب (رحمه الله) أن يسيره إلى الكوفة فخاف عثمان أن يفسد على أخيه وليد أهل الكوفة فأخرجه إلى الربذة لئلا يكون فيها أنيسا ولا جليسا ولا يسمع فيها صوتا ولا حسيسا.

* الأصل:

252 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال، والحجاج جميعا، عن ثعلبة، عن عبد الرحمن بن مسلمة الجريري قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) يوبخونا ويكذبونا، إنا نقول:

إن صيحتين تكونان، يقولون: من أين تعرف المحقة من المبطلة إذا كانتا؟ قال: فماذا تردون عليهم؟ قلت: ما نرد عليهم شيئا، قال: قولوا: يصدق بها - إذا كانت - من كان يؤمن بها من قبل، إن الله عز وجل يقول: «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم

ص:301

كيف تحكمون».

* الشرح:

قوله: (يوبخونا ويكذبونا) أي المخالفون لنا (أنا نقول أن صيحتين تكونان) عند ظهور القائم (عليه السلام) صيحة في أول اليوم بأن فلان بن فلان وشيعته هم الفايزون، وصيحة في آخره بأن عثمان وشيعته هم الفائزون كما سيأتي وهاتان الصيحتان للاختبار والتمحيص (قال: قولوا يصدق لها) أي بالمحقة (إذا كانت من كان يؤمن بها من قبل) أي من قبل وقوعها وزادتهم إيمانا لمشاهدتهم وجود ما أخبر الصادقون بأنه سيوجد (إن الله عز وجل يقول أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) بما يقتضي صريح العقل بطلانه وأصل لا يهدي لا يهتدي أبدلت التاء بعد إسكانها دالا وأدغمت وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين ومن قرأ بفتح الهاء نقل فتح التاء إليها ولعل وجه انطباق الآية على ما ذكر أن الموصول الأول من له الصيحة الأولى والموصول الثاني من له الصيحة الثانية، والأول أحق بالاتباع وليس ذلك إلا لظهور الحق في قلوب المستعدين لقبوله، وقد روي أن الأول: أمير المؤمنين (عليه السلام) والثاني: الشيوخ الثلاثة كما مر في الحجة.

وربما يقال: الأول: هو لله سبحانه، والثاني: أشرف آلهة المشركين كالملائكة ومسيح وعزير فإنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله تعالى ويؤيده الآية السابقة عليها والظاهر أن الجميع حق لأن الآية قد يكون لها وجوه متعددة كلها صحيحة.

* الأصل:

253 - عنه، عن محمد، عن ابن فضال، والحجاج، عن داود بن فرقد قال: سمع رجل من العجلية هذا الحديث قوله: ينادي مناد ألا إن فلان بن فلان وشيعته هم الفائزون أول النهار وينادي آخر النهار ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون، قال: وينادي أول النهار منادي آخر النهار فقال الرجل:

فما يدرينا أيما الصادق من الكاذب؟ فقال: يصدقه عليها من كان يؤمن بها قبل أن ينادي، إن الله عز وجل يقول: «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي أن يهدي - الآية».

* الشرح:

قوله: (قال: سمع رجل من العجلية هذا الحديث) أي رجل منسوب إلى طائفة من بني عجل

ص:302

قيل منهم محمد بن إدريس صاحب السرائر (رضي الله عنه) (وقوله: ينادي مناد. انتهى) بدل أو بيان لهذا الحديث والظاهر أن الضمير راجع إلى أبي عبد الله (عليه السلام) والمراد بفلان بن فلان صاحب الزمان (عليه السلام) وهو كناية عن اسمه واسم أبيه (عليهما السلام) (قال: وينادي أول النهار منادي آخر النهار) دل بظاهره على أن المنادي واحد لكن روى الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «صوت جبرئيل من السماء وصوت إبليس من الأرض فاتبعوا الصوت الأول وإياكم أن تفتنوا به» وبإسناد آخر عن زرارة عنه (عليه السلام) قال: «ينادي مناد باسم القائم (عليه السلام) قلت: خاص أو عام قال: عام يسمع كل قوم بلسانهم قلت: فمن يخالف القائم (عليه السلام) وقد نودي باسمه؟ قال: لا يدعهم إبليس ينادي في آخر الليل ليشكك الناس ولذلك قال بعض الأصحاب هذا الخبر من باب الاستفهام الإنكاري أو التقدير ولا ينادي كما في قول الهذلي «تالله يبقى على الأيام ذو حياة» قال الجواهري: لا يبقى (فقال: يصدقه عليها) أي يصدق الصادق أو المنادي على الصيحة الأولى.

* الأصل:

254 - علي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لا ترون ما تحبون حتى يختلف بنو فلان فيما بينهم فإذا اختلفوا طمع الناس وتفرقت الكلمة وخرج السفياني.

* الشرح:

قوله: (لا ترون ما تحبون) هو ظهور القائم (عليه السلام) ورواج دين الحق (حتى يختلف بنو فلان فيما بينهم ) أي يجيء بعضهم عقيب بعض حتى ينتهي دولتهم، أو المراد بالاختلاف ضد الاتفاق فيكون كناية عن زوال ملكهم ولعل المراد بهم بنو عباس كما في أحاديث أخر حتى يختلف بنو عباس منها ما سيجيء بعيد هذا (فإذا اختلفوا طمع الناس) في السلطنة والدولة الملكية وقامت طائفة من كل ناحية واختلطت الرايات (وتفرقت الكلمة كناية عن تفرقهم واختلاف أهوائهم والكلمة تطلق على القول والأمر والحكم والعهد والبيعة والحال والشأن (وخرج السفياني) وهو الدجال وفيه دلالة على أن خروجه بعد ما ذكر وأما أنه قريب منه أو بعيد فلا دلالة فيه عليه.

ص:303

حديث الصيحة

* الأصل:

255 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران وغيره، عن إسماعيل بن الصباح، قال:

سمعت شيخا يذكر عن سيف بن عميرة قال: كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداء من نفسه: يا سيف بن عميرة لابد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب. قلت: يرويه أحد من الناس؟ قال والذي نفسي بيده لسمعت اذني منه يقول، لابد من مناد ينادي باسم رجل.

قلت: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط، فقال لي: يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه أما إنه أحد بني عمنا قلت: أي بني عمكم؟ قال رجل من ولد فاطمة (عليها السلام)، ثم قال:

يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله، ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم ولكنه محمد بن علي (عليهما السلام).

* الشرح:

قوله: (حديث الصيحة) الأنسب أن يذكر الحديثين السابقين بعد هذا العنوان (قال: والذي نفسي بيده لسمعت أذني منه) الضمير راجع إلى محمد بن علي (عليهما السلام) بقرينة المقام أو لكونه معهودا ولما سيصرح به وذكر الأذن للمبالغة في أنه سمع منه بلا واسطة.

* الأصل:

256 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال:

كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) جالسا في المسجد إذ أقبل داود بن علي وسليمان بن خالد وأبو جعفر عبد الله بن محمد أبو الدوانيق فقعدوا ناحية من المسجد فقيل لهم: هذا محمد بن علي جالس، فقام إليه داود بن علي وسليمان بن خالد وقعد أبو الدوانيق مكانه حتى سلموا على أبي جعفر (عليه السلام) فقال لهم أبو جعفر (عليه السلام): ما منع جباركم من أن يأتيني؟ فعذروه عنده فقال عند ذلك أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): أما والله لا تذهب الليالي والأيام حتى يملك ما بين قطربيها ثم ليطأن الرجال عقبه ثم لتذلن له رقاب الرجال ثم ليملكن ملكا شديدا، فقال له داود بن علي: وإن ملكنا قبل ملككم؟ قال: نعم يا داود إن ملككم قبل ملكنا وسلطانكم قبل سلطاننا، فقال له داود:

ص:304

أصلحك الله فهل له من مدة؟ فقال: نعم يا داود والله لا يملك بنو أمية يوما إلا ملكتم مثليه ولا سنة إلا ملكتم مثلها، وليتلقفها الصبيان منكم كما تلقف الصبيان الكرة، فقام داود بن علي من عند أبي جعفر (عليه السلام) فرحا يريد أن يخبر أبا الدوانيق بذلك فلما نهضا جميعا هو وسليمان بن خالد ناداه أبو جعفر (عليه السلام) من خلفه: يا سليمان بن خالد: لا يزال القوم في فسحة من ملكهم ما لم يصيبوا منا دما حراما - وأومأ بيده إلى صدره - فإذا أصابوا ذلك الدم فبطن الأرض خير لهم من ظهرها يومئذ لا يكون لهم في الأرض ناصر ولا في السماء عاذر، ثم انطلق سليمان بن خالد فأخبر أبا الدوانيق فجاء أبو الدوانيق إلى أبي جعفر (عليه السلام) فسلم عليه ثم أخبره بما قال له داود بن علي وسليمان بن خالد، فقال له: نعم يا أبا جعفر دولتكم قبل دولتنا وسلطانكم قبل سلطاننا، سلطانكم شديد عسر لا يسر فيه، وله مدة طويلة والله لا يملك بنو أمية يوما إلا ملكتم مثليه ولا سنة إلا ملكتم مثليها وليتلقفها صبيان منكم فضلا عن رجالكم كما يتلقف الصبيان الكرة أفهمت؟ ثم قال: لا تزالون في عنفوان الملك ترغدون فيه ما لم تصيبوا منا دما حراما فإذا أصبتم ذلك الدم غضب الله عز وجل عليكم فذهب بملككم وسلطانكم وذهب بريحكم وسلط الله عز وجل عليكم عبدا من عبيده أعور - وليس بأعور من آل أبي سفيان - يكون استيصالكم على يديه وأيدي أصحابه ثم قطع الكلام.

* الشرح:

قوله: (ما منع جباركم من أن يأتيني) الجبار: المتمرد العاتي، وقيل: الذي يقهر الخلائق على ما أراد من أمر ونهي (فعذروه عنده) المعذر بالتشديد: المظهر للعذر اعتلالا من غير أن يكون له حقيقة ( قال: نعم يا داود لا يملك بنو أمية يوما إلا ملكتم مثلية ولا سنة إلا ملكتم مثليها) إثبات زيادة المثل لا ينافي زيادة الأكثر منه إلا بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة اتفاقا فلا يرد أن مدة ملك بني أمية ثمانون سنة ومدة ملك بني عباس خمسمائة سنة ولعل النكتة في الاقتصار على المثلين بيان أصل الزيادة لا قدرها أو التنبية على سرعة زوال ملكهم كيلا يغتروا به (وليتلقفها الصبيان عنهم كما يتلقف الصبيان الكرة) عند اللعب، والتلقف: الأخذ والتناول بسرعة وفي الكنز: الكرة «گوى كه بصولجان يعنى بچوگان بازند» (لا يزال القوم في فسحة): أي في سعة (من ملكهم ما لم يصيبوا منا دما حراما. انتهى).

قال الأمين الإسترابادي: يمكن أن يكون المراد ما فعله هارون قتل في ليلة واحدة كثيرا من

ص:305

السادات، ويمكن أن يكون المراد قتلهم المقتولين بفخ وهو موضع قريب مكة والعاذر: اسم فاعل من عذرت له عذرا من باب ضرب رفعت عنه اللوم فهو معذور أي غير ملوم (ثم قال: لا تزالون في عنفوان الملك): أي في أوله وأول بهجته ونضارته (ترغدون فيه) في القاموس عيشة رغد ورغد:

واسعة طيبة والفعل كسمع وكرم (وذهب بريحكم) الريح: الغلبة والقوة والنصرة والدولة (وسلط الله عليكم عبدا من عبيده أعور) في النهاية العرب تقول للذي ليس له أخ من أبيه وامه أعور وقيل:

إنهم يقولون للردي من كل شيء من الأمور والأخلاق أعور وللمؤنث منه عوراء (وليس بأعور من آل أبي سفيان) بل المراد به أعور من أولاد الترك وهو هلاكو وقد كان رديا في المذهب والأفعال والأخلاق وما ذكره (عليه السلام) من علامات الإمامة لأنه أخبر بما سيقع وقد وقع.

* الأصل:

257 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن المفضل بن مزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له أيام عبد الله بن علي: قد اختلفت هؤلاء فيما بينهم، فقال: دع ذا عنك إنما يجيء فساد أمرهم من حيث بد اصلاحهم.

* الشرح:

قوله: (قلت له أيام عبد الله بن علي) هو أول خليفة من العباسية (قد اختلفت هؤلاء فيما بينهم) كأنه يخبر أن هذه الاختلاف يفسد ملكهم أو يعرضه (عليه السلام) في الطمع فيه (فقال دع ذا عنك إنما يجيء فسادا مرهم من حيث بدا صلاحهم) (1) كما جاءت دولتهم من جهة الشرق بيد أبي مسلم المروزي كذلك يجيء فسادها من جهة الشرق بيد هلاكو.

* الأصل:

258 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون ، عن بدر بن الخليل الأزدي قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: آيتان تكونان قبل قيام القائم (عليه السلام) لم تكونا منذ هبط آدم إلى الأرض: تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره فقال رجل: يا ابن رسول الله تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف؟! فقال أبو جعفر (عليه السلام): إني أعلم ما تقول ولكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السلام).

ص:306


1- 1 - قوله «من حيث بدا صلاحهم» أي من حيث بدأ دولتهم وملكهم كان من شرق خراسان هذا من أخبار الغيب التي لا ريب في صحتها فإن كتاب الكافي صنف في صدر دولة بني العباس وليس من الأخبار بعد الوقوع وكان زوال ملكهم على يد المغول (ش).

* الشرح:

قوله: (تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره فقال رجل: يا ابن رسول الله تنكسف الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف) وذلك لأن كسوف الشمس على ما هو المعروف بتوسط جرم القمر بينها وبين الناظرين ولا يتحقق التوسط إلا في آخر الشهر لأن الشمس والقمر في آخر الشهر يجتمعان في درجة واحدة وأما في غيره فهما متفارقان والقمر ينكسف في النصف لأن نوره مستفاد من الشمس وفي النصف قد تقع الأرض واسطة بين مركزيهما فتمنع من وصول نور الشمس إليه وعلى هذا فكسوف الشمس في النصف والقمر في الآخرة علامة من علامات قيام الصاحب (عليه السلام) ولعل الكسوف حينئذ أثر يخلقه الله تعالى في جرمهما من غير سبب ولا ربط كما هو مذهب طائفة في كسوفهما أو لا زالة الفلك من مجراه فيدخل الشمس والقمر في البحر الذي بين السماء والأرض فيطمس ضوءهما كما نقل ذلك عن سيد العابدين (عليه السلام).

* الأصل:

259 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمرو بن أبي المقدام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خرجت أنا وأبي حتى إذا كنا بين القبر والمنبر إذا هو باناس من الشيعة فسلم عليهم ثم قال: إني والله لأحب رياحكم وأرواحكم فأعينوني على ذلك بورع واجتهاد واعلموا أن ولايتنا لا تنال إلا بالورع والاجتهاد ومن ائتم منكم بعبد فليعمل بعمله، أنتم شيعة الله. وأنتم أنصار الله، وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا والسابقون في الآخرة إلى الجنة قد ضمنا لكم الجنة بضمان الله عز وجل وضمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله ما على درجة الجنة أكثر أرواحا منكم فتنافسوا في فضائل الدرجات، أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات كل مؤمنة حوراء عيناء وكل مؤمن صديق ولقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقنبر: يا قنبر أبشر وبشر واستبشر فوالله لقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو على امته ساخط إلا الشيعة.

ألا وإن لكل شيء عزا وعز الإسلام الشيعة. ألا وإن لكل شيء دعامة ودعامة الإسلام الشيعة.

ألا وإن لكل شيء ذروة وذروة الإسلام الشيعة. ألا وإن لكل شيء شرفا وشرف الإسلام الشيعة.

ألا وإن لكل شيء سيدا وسيد المجالس مجالس الشيعة. ألا وإن لكل شيء إماما وإمام الأرض أرض تسكنها الشيعة، والله لو لا ما في الأرض منكم ما رأيت بعين عشبا أبدا والله لو لا ما في الأرض منكم ما أنعم الله على أهل خلافكم ولا أصابوا الطيبات مالهم في الدنيا ولا لهم في الآخرة من نصيب، كل ناصب وإن تعبد واجتهد منسوب إلى هذه الآية (عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) فكل ناصب مجتهد فعمله هباء، شيعتنا ينطقون بنور الله عز وجل ومن يخالفهم

ص:307

ينطقون بتفلت، والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله عز وجل روحه إلى السماء فيبارك عليها فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته وفي رياض جنته وفي ظل عرشه وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردوها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه، والله إن حاجكم وعماركم لخاصة الله عز وجل وإن فقراءكم لأهل الغنى وإن أغنياءكم لأهل القناعة وإنكم كلكم لأهل دعوته وأهل إجابته.

* الشرح:

قوله (إني والله لا حب رياحكم وأرواحكم) في الكنز ريح «بوى» ورياح جمع وروح: «جان وزندگانى» (فأعينوا على ذلك بورع واجتهاد) ذلك إشارة إلى الحب ولما كان (عليه السلام) متكفلا بنجاة شعيته عن عقبات الآخرة وعقوباتها طلب منهم الإعانة له بالورع وهو الكف عن المحارم وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة وتزكية النفس ليكون له تحصيل النجاة لهم أيسر وأسهل وفي بعض النسخ فأعينوني (ومن ائتم منكم بعبد فيلعمل بعمله) ليتحقق معنى الإيتمام ويبعد عن الهزء والنفاق والشقاق (وأنتم شيعة الله وأنتم) أنصار الله أي أولياؤه وأنصاره في دينه وأصل الشيعة من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (وأنتم السابقون الأولون والسابقون الآخرون والسابقون في الدنيا والسابقون في الآخرة) لعل المراد أنتم السابقون الأولون إلى قبول الولاية والتصديق بها عند التكليف الأول في العالم الروحاني الصرف، وأنتم السابقون الآخرون إلى قبولها عند التكليف الثاني في عالم الذر والسابقون في الدنيا إلى الوفاء بالعهد والمتابعة والسابقون في الآخرة إلى دخول الجنة وقيل السابقون الأولون إشارة إلى قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) والسابقون الآخرون إشارة إلى قوله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان) إن الذين هم اتبعوا السابقين الأولين بإحسان (والله ما على درجة الجنة أكثر أرواحا منكم) دل على أن الشيعة أكثر من غيرهم في الجنة ويمكن أن يراد بها الراحة والسعة والفضيلة فيدل على أن مرتبتهم أشرف المراتب وهذا أنسب بما بعده - كل مؤمنة حوراء عيناء) في النهاية الحور العين نساء أهل الجنة واحدتهن حوراء وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها والعيناء الواسعة العين.

(وكل مؤمن صديق) هو فعيل للمبالغة في الصدق وهو الذي يصدق قوله فعله (يا قنبر أبشر وأبشر واستبشر) بشرت به كعلم وضرب وأبشرت فرحت وسررت وبشرته تبشيرا فرحته وسررته

ص:308

بأخبار ما يوجبهما واستبشرت فرحت وسررت مع اظهارهما بطلاقة الوجه ونحوها (إلا وأن لكل شيء عزا وعز الإسلام الشيعة) لأنهم سبب لعزه وقوته ولولاهم لذل الإسلام واحتقر (ودعامة الإسلام الشيعة) لأن الإسلام بهم قائم كقيام الخيمة بالدعامة وفيه مكنية وتخييلية (وذروة الإسلام الشيعة) ذروة الشيء بالضم وبالكسر أشرف مواضعه وأعلاه والشيعة أعلى درجة في الإسلام لا تصافهم بالإيمان يعلو ولا يعلى عليه (وشرف الإسلام الشيعة) الشرف محركة العلو والمكان العالي والشيعة سبب لشرف الإسلام وعلوه ولو لا الشيعة لكان الإسلام مخفوضا موضوعا (وسيد المجالس مجالس الشيعة) السيد الشريف والفاضل والكريم والرئيس والمقدم ذوالفضيلة وكل هذه الخصال لمجالس الشيعة باعتبار أهلها (وإمام الأرض تسكنها الشيعة) الإمام ما يؤتم به ويقصد إليه من رئيس وغيره والمجالس كلها ينبغي لها الاقتداء بمجالس الشيعة باعتبار شرافة أهلها وكونها محلا للمعرفة والفضل والإيمان (والله لو لا ما في الأرض منكم ما رأيت بعين عشبا أبدا) أي بعيني، والعشب: الكلأ ما دام رطبا ولا يقال له حشيش حتى يهيج والظاهر أن «ما» في لو لا ما زائدة ويحتمل أي يراد به شيء أي أحد أو الإيمان أو عبادة وطاعة (والله لو لا ما في الأرض منكم ما أنعم الله على أهل خلافكم ولا أصابوا الطيبات) من الرزق وغيره لإحاطة غضب الله تعالى حينئذ بأهل الأرض جميعا وفيه دلالة على أن أصابتهم الطيبات بالعرض وباعتبار وجود المؤمن (ما لهم في الدنيا ولا في الآخرة من نصيب) أما في الآخرة فلا نصيب لهم أصلا وأما في الدنيا فلا نصيب لهم بالذات ويحتمل أن يكون جملة دعائية (كل ناصب وإن تعبد واجتهد) في العبادة كما وكيفا والمراد بالناصب هنا أهل الخلاف جميعا (منسوب إلى هذه الآية) ومصداق لها (عاملة ناصبة) تعمل وتتعب في أعمال غير نافعة يوم ينفع العاملين أعمالهم (تصلى نارا حامية) أي تدخل نارا متناهية في الحرارة والإحراق ثم أكد ذلك بقوله (كل ناصب مجتهد فعمله هباء) الهباء: التراب وهو في الأصل ما ارتفع من تحت سنابك الخيل والشيء المنبث الذي تراه في ضوء الشمس شبه به أعمالهم في انتشارها وعدم تصور النفع (فيها شيعتنا ينطقون) في الولاية والأحكام وغيرهما (بنور الله عز وجل) أي بعمله المنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) (ومن خالفهم ينطق) (1) فيما ذكر (بتفلت) أي فجأة من عند أنفسهم بلا رؤية واستناد إلى أصل متحقق وفي النهاية التفلت التعرض للشيء فجأة ومنه حديث عمر «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها» أراد بالفلتة: الفجأة، ومثل هذه البيعة جدير بأن تكون هيجة للشر والفتنة فعصم الله من ذلك ووقى،

ص:309


1- 1 - كذا.

والفلتة: كل شيء وفعل من غير روية وإنما بودر بها خوف انتشار الأمر، وقيل: أراد بالفلتة: الخلسة أي أن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الأنفس ولذلك كثر فيها التشاجر فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي واختلاسا.

فانظر رحمك الله كيف أنطق الله لسان ذلك الرجل بالحق ليكون حجة عليه وعلى من تبعه (والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله روحه إلى السماء فيبارك عليها) أي يديم عليها ما أعطاها من التشريف والكرامة أو يزيدهما لها (جعلها في كنوز رحمته) أي جعلها مدخرة تحت رحمته ليردها إليه يوم البعث كما يدخر المال تحت الأرض (وفي رياض جنته) هي إما الجنة المعروفة أو جنة في الدنيا معدة لأرواح المؤمنين كما مر مثله (وفي ظل عرشه) أي ظل رحمته أو في كنفها وهو كناية عن القرب حتى كان الرحمة ألقت الظل عليها ويحتمل أن يراد بالعرش: العرش الجسماني وقد مر (وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة) الأمنة: جمع الأمين وهو الحافظ ( ليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه) قال الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليه الموت فيرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (وإن فقراءكم لأهل الغنى) يحسبهم الناس أغنياء من التعفف لغناء نفوسهم الشريفة عن السؤال أو المراد به الغناء الأخروي لتحصيلهم أسباب الآخرة (وإن أغنياءكم لأهل القناعة) يقنعون بالكفاف ولا يسرفون ولا يقترون ولا يضيعون عمرهم في طلب الزيادة.

* الأصل:

260 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن القاسم، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله وزاد فيه ألا وإن لكل شيء جوهرا وجوهر ولد آدم محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن وشيعتنا بعدنا، حبذا شيعتنا ما أقربهم من عرش الله عز وجل وأحسن صنع الله إليهم يوم القيامة والله لو لا أن يتعاظم الناس ذلك أو يداخلهم زهو لسلمت عليهم الملائكة قبلا، والله ما من عبد من شيعتنا يتلو القرآن في صلاته قائما إلا وله بكل حرف مائة حسنة، ولا قرأ في صلاته جالسا إلا وله بكل حرف خمسون حسنة ولا في غير صلاة إلا وله بكل حرف عشر حسنات وإن للصامت من شيعتنا لأجر من قرأ القرآن ممن أخالفه، أنتم والله على فرشكم نيام، لكم أجر المجاهدين وأنتم والله في صلاتكم لكم أجر الصافين في سبيله، أنتم والله الذين قال الله عز وجل: «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين» إنما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عينان في الرأس وعينان في القلب، ألا

ص:310

والخلائق كلهم كذلك إلا أن الله عز وجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم.

* الشرح:

قوله: (وزاد فيه الأوان لكل شيء جوهرا وجوهر ولد آدم محمد (صلى الله عليه وآله) ونحن وشيعتنا بعدنا) الجوهر من كل شيء: ما له فضيلة كاملة، ومزية واضحة، وخصلة ظاهرة بها يصطفي ويمتاز عن غيره من أفراد ذلك الشيء كالياقوت في الأحجار مثلا وبذلك يظهر وجه ما ذكر (والله لو لا أن يتعاظم الناس ذلك) فيأخذونهم أنبياء ورسلا (أو يداخلهم زهو): أي كبر وفخر (لسلمت عليهم الملائكة قبلا) في القاموس رأيته قبلا محركة وكصرد وكعنب أي عيانا ومقابلة (أنتم والله على فرشكم نيام لكم أجر المجاهدين) لأن الشيعة أكياس ينامون على قصد الخير ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «حبذا نوم الأكياس» قال المحققون: الأكياس: هم الذين اشتغلت قلوبهم بالحق وتزينت بالمعارف وقالوا: سر ذلك أنهم ينامون على نية ان تقووا به على الطاعة فإذا هم حال النوم في عين الطاعة (أنتم والله الذين قال الله عز وجل «ونزعنا ما في صدروهم من غل إخوانا على سرر متقابلين») الغل: الحقد والحسد والبغض والشبهة في الولاية الحقة وغيرها وأعظم النزع في الدنيا وبعضه في الآخرة ليدخل المؤمن طاهرا خالصا من النقص في الجنة (إنما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين عينان في الرأس وعينان في القلب) يرون بعيني القلب الحقايق والمعقولات ويميزون بين صحيحها وسقيمها وحقها وباطلها فيتبعون الحق ويتركون الباطل كما يرون بعيني الرأس المبصرات مثل الأضواء والألوان ويميزون بينهما.

* الأصل:

261 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن منصور بن يونس، عن عنبسة بن مصعب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أشكوا إلى الله عز وجل وحدتي وتقلقلي بين أهل المدينة حتى تقدموا وأراكم وآنس بكم فليت هذه الطاغية أذن لي فأتخذ قصرا في الطائف فسكنته وأسكنتكم معي واضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبدا.

* الشرح:

قوله: (أشكو إلى الله وحدتي وقلقي. انتهى) القلق محركة الإنزعاج وفي بعض النسخ «تقلقلي» وهو الحركة والاضطراب والطاغية: إما السفاح وهو أول خليفة من العباسية ومدة ملكه أربع سنين وتسعة أشهر وقبض إلى جهنم في حياته (عليه السلام) أو أخوه أبو جعفر المنصور الدوانيقي ومدة

ص:311

ملكه اثنتي وعشرين سنة والتاء للمبالغة.

* الأصل:

262 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب قال:

أنشد الكميت أبا عبد الله (عليه السلام) شعرا فقال:

أخلص الله لي هواي فما اغرق نزعا ولا تطيش سهامي.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تقل هكذا «فما اغرق نزعا» ولكن قل: «فقد اغرق نزعا ولا تطيش سهامي ».

* الشرح:

قوله: (أنشد الكميت أبا عبد الله (عليه السلام) شعرا): الكميت بن زيد الأسدي الكوفي من أصحاب الباقر (عليه السلام) مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) روى الكشي عن حمدويه عن حسان بن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال للكميت: «لا تزال مؤيدا بروح القدس ما دمت تقول فينا» وفي رواية اخرى «أن أبا جعفر (عليه السلام) قال له: لا تزال معك روح القدس ما ذببت عنا» (فقال أخلص الله لي هواي) أي حبي لكم أهل البيت (فما أغرق نزعا ولا تطيش سهامي) نزع في القوس: مدها، وأغرق في نزعها استوفى مدها هذا في الأصل ثم استعير للمبالغة في الأمر والانتهاء فيه، وطاش السهم جاز الهدف وأطاشه أماله عن الهدف ولعل المراد بالقوس قوس المحبة، وبالسهم سهمها على سبيل التشبيه، إذا عرفت هذا فنقول:

هذا الكلام يحتمل وجهين: الأول: أن يكون الواو لعطف المنفي على المنفي فدل بحسب المنطوق على عدم الإغراق في نزع قوس المحبة وعدم المبالغة فيها وعدم طيش سهم المحبة عن الهدف إلى الغلو مثلا وبحسب المفهوم على أنه لو أغرق طاش سهم المحبة عن الهدف فلذلك لم يغرق، والثاني أن يكون الواو للحال عن فاعل أغرق ويكون النفي راجعا إلى القيد فيدل على أنه أغرق وطاش السهم لأجل إغراقه ولما كان في الأول نقص في إظهار المحبة من وجهين: الأول: عدم المبالغة في المحبة، والثاني: جواز سهم المحبة عن الهدف على تقدير المبالغة فيها وفي الثاني نقص بالوجه الثاني غير (عليه السلام) عبارته ليندفع كلا النقصين (فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تقل هكذا فما أغرق نزعا ولكن قل فقد أغرق نزعا ولا تطيش سهامي) وهذا أبلغ وأكمل في مقام إظهار المحبة حيث دل على عدم طيش سهمهما مع المبالغة فيها ومد قوسها على حد الكمال هذا ما

ص:312

خطر بالبال على سبيل الاحتمال والله يعلم حقيقة الحال.

* الأصل:

263 - سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن، عن أبي داود المسترق، عن سفيان بن مصعب العبدي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: قولوا لام فروة تجييء فتسمع ما صنع بجدها قال: فجاءت فقعدت خلف الستر ثم قال: أنشدنا قال: فقلت:

«فرو! جودي بدمعك المسكوب» قال: فصاحت وصحن النساء فقال أبو عبد الله (عليه السلام): الباب الباب فاجتمع أهل المدينة على الباب قال: فبعث إليهم أبو عبد الله (عليه السلام) صبي لنا غشيء عليه فصحن النساء.

* الشرح:

قوله: (عن سفيان بن مصعب العبدي) شاعر كوفي من أصحاب الصادق (عليه السلام) وفي رواية قال له (عليه السلام): قل شعرا تنوح به النساء، وفي أخرى قال (عليه السلام): «يا معشر الشيعة علموا أولادكم شعر العبدي فإنه على دين الله» (فقال: قولوا لأم فروة) قال الأمين الإسترابادي: أم فروة: من بنات الصادق (عليه السلام) كما صرح به في أعلام الورى وغيره (فرو جودي) أي يا فروة فحذف حرف النداء والهاء للترخيم (الباب الباب) أي أغلقوا الباب أو احفظوه (فبعث إليهم أبو عبد الله (عليه السلام) صبي لنا غشى فصحن النساء) النساء بدل من الضمير، قيل: هذا القول إما للتقية أو لبيان الواقع في تلك الساعة من صيحتهن أو المراد بالصبي من صار شهيدا في كربلا في حجر الحسين (عليه السلام) بسهم العدو.

* الأصل:

264 - سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حفر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخندق مروا بكدية فتناول رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعول من يد أمير المؤمنين (عليه السلام) - أو من يد سلمان (رضي الله عنه) - فضرب بها ضربة فتفرقت بثلاث فرق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد فتح علي في ضربتي هذه كنوز كسرى وقيصر، فقال أحدهما لصاحبه:

يعدنا بكنوز كسرى وقيصر وما يقدر أحدنا أن يخرج يتخلى.

* الشرح:

قوله: (مروا بكدية) الكدية بالضم: الأرض الغليظة والصفاء العظمية الشديدة والشيء الصلب بين الحجارة والطين.

ص:313

* الأصل:

265 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله تبارك وتعالى ريحا يقال لها: الأزيب لو أرسل منها مقدار ثور لأثارت ما بين السماء والأرض وهي الجنوب.

* الشرح:

قوله: (إن لله تعالى ريحا يقال له الأزيب) في النهاية في حديث الريح «اسمها عند الله الأزيب وعندكم الجنوب، الأزيب من السماء: الريح الجنوب، وأهل مكة يستعلمون هذا الاسم كثيرا» وفي القاموس الأزيب: كالأحمر الجنوب أو النكباء تجري بينها وبين الصبا والأمر المنكر والداهية.

* الأصل:

266 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن زريق أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله إن بلادنا قد قحطت وتوالت السنون علينا فادع الله تبارك وتعالى يرسل السماء علينا فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمنبر فأخرج واجتمع الناس فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعا وأمر الناس أن يؤمنوا فلم يلبث أن هبط جبرئيل فقال:

يا محمد أخبر الناس أن ربك قد وعدهم أن يمطروا يوم كذا وكذا وساعة كذا وكذا فلم يزل الناس ينتظرون ذلك اليوم وتلك الساعة حتى إذا كانت تلك الساعة أهاج الله عز وجل ريحا فأثارت سحابا وجللت السماء وأرخت عزاليها فجاء اولئك النفر بأعيانهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا يا رسول الله ادع الله لنا أن يكف السماء عنا فإنا كدنا أن نغرق فاجتمع الناس ودعا النبي (صلى الله عليه وآله) وأمر الناس أن يؤمنوا على دعائه فقال له رجل من الناس: يا رسول الله أسمعنا فإن كل ما تقول ليس نسمع فقال: قولوا: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم صبها في بطون الأدوية وفي نبات الشجر وحيث يرعى أهل الوبر، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا.

* الشرح:

قوله: (فقالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن بلادنا قد قحطت وتوالت السنون علينا فادع الله تعالى يرسل السماء علينا) السنة القحط والمجدبة من الأرض، والسماء: السحاب أو المطر والقحط قد ينسب إلى المطر يقال: قحط المطر بفتح القاف والحاء: أي قل واحتبس وانقطع، وقد ينسب إلى غيره يقال: قحط الناس وقحط الناس وقحط البلاد بفتح القاف وكسر الحاء وحكى بضم القاف أيضا: أي أصابهم

ص:314

القحط كذا في المغرب وبعض حواشيه وقال الآبي مثلة في كتاب إكمال الإكمال وقال الجوهري: القحط: الجدب وقحط المطر يقحط قحوطا إذا احتبس وحكى الفراء قحط المطر بالكسر يقحط وأقحط القوم أي أصابهم القحط وقحط أيضا على ما لم يسم فاعله قحطا.

(فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمنبر فأخرج) دل على أن إخراج المنبر إلى الصحراء مستحب في الاستسقاء وقد مر في باب صلاة الاستسقاء ما يدل على ذلك فهو حجة على ابن الجنيد حيث قال:

والأظهر في الروايات أنه لا ينقل المنبر بل يكون كمنبر العيد معمولا من طين والروايات التي رأيناها لا يدل على ما ذكره والله يعلم (وأمر الناس أن يؤمنوا) أمن فلان تأمينا قال بعد الدعاء:

آمين بالمد والقصر ومعناه اللهم استجب أو كذلك فليكن أو كذلك فافعل (وجللت السماء): أي غمرت وعمت، يقال: جلل الشيء تجليلا غمر والمجلل: السحاب الذي يجلل الأرض بمطر أي يعم (وأرخت عزاليها) قد مر مرارا فلا نعيد (قد كدنا أن نغرق) غرق في الماء من باب علم غرقا وأغرقه غيره (اللهم حوالينا ولا علينا يقال رأيت الناس حوله وحواليه بفتح اللام أي مطيقين به من جوانبه أراد أنزال الغيث في مواضع النبات لا في مواضع الأبنية وفيه أدبه الكريم إذا لم يدع برفعه لأنه رحمة بل دعا بكشف ما يضرهم وإنزاله إلى حيث يبقى نفعه وخصبه ولا يستضر به ساكن ولا ابن سبيل فيجب التأدب بمثله في مثل هذا (وحيث يرعى أهل الوبر) يرعى من باب منع والوبر الإبل.

* الأصل:

267 - جعفر بن بشير، عن زريق، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما أبرقت قط في ظلمة ليل ولا ضوء نهار إلا وهي ما طرة.

* الشرح:

قوله: (ما أبرقت قط. انتهى): أي ما أبرقت السماء، يقال: برقت السماء بروقا وأبرقت إذا لمعت أو جاءت ببرق.

* الأصل:

268 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن ابن العرزمي رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وسئل عن السحاب أين يكون؟ قال: يكون على شجر على كثيب على شاطيء البحر يأوي إليه فإذا أراد الله عز وجل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته

ص:315

ووكل به ملائكة يضربوه بالمخاريق وهو البرق فيرتفع ثم قرأ الآية «الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت. الآية» والملك اسمه الرعد.

* الشرح:

قوله: (على «كثيب» هو الرمل المستطيل المحدودب (يضربونه بالمخاريق) من طريق العامة عن علي (عليه السلام): «البرق مخاريق الملائكة» قال في النهاية: هي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، أراد أنها آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وتسوقه ويفسره حديث ابن عباس «البرق سوط من نور تزجر به الملائكة السحاب».

* الأصل:

269 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن مثنى الحناط ومحمد بن مسلم قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من صدق لسانه زكى عمله ومن حسنت نيته زاد الله عز وجل في رزقه ومن حسن بره بأهله زاد الله في عمره.

* الشرح:

قوله: (من صدق لسانه زكى عمله) لأن استقامة اللسان تابعة لاستقامة القلب وهي تقتضي جميع الجوارح وزكاء جميع الأعمال الصادرة منها أو لأن أعمال اللسان أعظم وأكثر من أعمال جميع الجوارح إذ هو يحكي عن جميع أعمال الظواهر ويخبر عن أسرار الضماير فاذن استقامته إنما تكون باستقامة جميع الأعمال وتوجب زكاءها (ومن حسنت نيته) في الأعمال والأخلاق وتحصيل الأرزاق وخلصت لله عز وجل (زاد الله عز وجل في رزقه) لأنه المتقي والمتقي مرزوق من حيث لا يحتسب كما نطق به القرآن الكريم.

* الأصل:

270 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الحسن بن محمد الهاشمي قال: حدثني أبي] عن أحمد بن محمد بن عيسى [قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه عن جدة عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله تبارك وتعالى لابن آدم: إن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ولا تنظر، وإن نازعك لسانك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ولا تكلم، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليك بطبقين فأطبق ولا تأت حراما.

ص:316

* الشرح:

قوله: (فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ولا تنظر) الطبق محركة غطاء كل شيء وأطبقه غطاء.

* الأصل:

271 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن مولى لبني هاشم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من كن فيه فلا يرج خيره: من لم يستح من العيب ويخش الله بالغيب ويرعو عند الشيب.

* الشرح:

قوله: (من لم يستح من العيب) فينقل قبايح أعماله ورذائل أخلاقه عند الناس ولا يبالي اطلاع الناس عليها (ويخش الله بالغيب) أي لم يخش الله حال كونه متلبسا بالغيب والخفاء فيقول ويعمل في السر ما لا يجوز شرعا أو عقلا وحاله في ذلك كحال المنافق. ويحتمل أن يراد بالغيب القلب أي لم يخش الله بقلبه وإنما يظهر الخشية بلسانه وجوارحه (ويرعو عند الشيب) في القاموس الرعو والرعوة ويثلثان والرعوى ويضم والارعواء والرعياء بالضم: التورع عن الجهل وحسن الرجوع عنه وقد ارعوى، وفي النهاية ارعوى عن القبيح يرعوي ارعواء: إذا انكف عنه وانزجر منه. والشيب بياض الشعر كالمشيب وقال الأصمعي: المشيب: دخول الرجل في حد الشيب.

* الأصل:

272 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحجال قال: قلت لجميل بن دراج قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أتاكم شريف قوم فأكرموه؟ قال: نعم، قلت له: وما الشريف؟ قال: قد سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال: الشريف من كان له مال] قال [: قلت: فما الحسيب» قال: الذي يفعل الأفعال الحسنة بما له، وغير ماله. قلت: فما الكرم؟ قال: التقوى.

* الشرح:

قوله: (الشريف من كان له مال) بين ما هو المراد من قوله (صلى الله عليه وآله) «إذا أتاكم شريف قوم فأكرموه» وليس المراد بيان حقيقة الشريف بدليل أن الشريف يطلق أيضا على من هو شريف في الدين وفي القاموس شرف ككرم شرفا محركة علا في دين أو دنيا (قلت: فما الحسيب؟ قال: الذي يفعل الأفعال الحسنة بما له وغير ما له) هذا يقوى قول من قال الحسب يكون في الرجل باعتبار أعماله

ص:317

الحسنة وإن لم يكن له آباء لهم شرف وهو حجة على من قال بأنه في الأصل الشرف بالإباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم ويؤيده ما روي من طرق العامة «حسب الرجل دينه ومروءته وخلقه» (قلت: فما الكرم؟ قال: التقوى) أي التحرز عما يوجب الإثم ومن طريق العامة «الكرم التقوى» وهذا يقرر ما في قوله تعالى «ان أكرمكم عند الله أتقاكم» وليس الغرض بيان حقيقة الكرم وأنه التقوى فقط بدليل أن الكرم يطلق على الجود، ومن أسمائه تعالى الكريم وهو الكريم المطلق لأنه الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه لا يريد الجزاء ولا يرى سبق الاستحقاق.

* الأصل:

273 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أشد حزن النساء وأبعد فراق الموت؟! وأشد من ذلك كله فقر يتملق صاحبه ثم لا يعطي شيئا.

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أشد حزن النساء) إذا الزاجر عنه وهو الصبر على المصائب والنوائب وفقد المقاصد والمطالب الدنيوية مفقود فيهن لضعف عقولهن (وما أبعد فراق الموت) لعل المراد أن الفراق عن الموت بعيد والفرار منه صعب شديد لكونه قريبا ضروري الوقوع «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم» (وأشد من ذلك كله فقر يتملق صاحبه ثم لا يعطي شيئا) في الكنز تملق «چاپلوسى كردن ودوستى نمودن» وفي النهاية التملق بالتحريك: الزيادة في التودد والدعاء والتضرع فوق ما ينبغي.

ص:318

حديث يأجوج ومأجوج

* الأصل:

274 - الحسين بن محمد بن الأشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبد الله، عن العباس بن العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخلق فقال: خلق الله ألفا ومائتين في البر وألفا ومائتين في البحر وأجناس بني آدم سبعون جنسا والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج.

* الشرح:

قوله (حديث يأجوج ومأجوج، قال القاضي: هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وقيل عربيان من اج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث وفي القاموس من لا يهمز هما يجعل الألفين زايدتين (فقال: خلق الله ألفا ومائتين في البر وألفا ومائتين في البحر) كان المراد بها الأصناف بقرينة قوله (وأجناس بني آدم سبعون جنسا) إذ المراد بها الأصناف (والناس ولد آدم ما خلا يا جوج ومأجوج) هما أمة عظيمة في الكثرة والبطش أما الكثرة فلقوله تعالى «وهم من كل حدب ينسلون» ولما نقل من طريق العامة «ان أولهم يمر ببحيرة طبرية فيشربونها ويمر آخرهم فيقولون كان في هذه ماء، وأما البطش فلقوله تعالى «إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض» وقيل ان الواحد منهم ذكر وأنثى لا يموت حتى يلد ألفا فإذا ولدها كان علامة موته، وأنهم يتسافدون في الطرقات كالبهايم، ويقال: إن في خلقهم تشويها فمنهم المفرط في الطول كالنخلة وفي القصر كالشبر ودونه ومنهم صنف طوال الأذن الواحدة موبرة يشتى فيها والأخرى جلدة يصيف فيها، ويقال: إنه يأكل بعضهم بعضا واختلفوا في أصلهم فهذا الحديث ظاهرة دل على أنهم ليسوا من ولد آدم.

وقال عكب: هم بادرة من آدم دون حوا احتلم فاختلطت نطفته بالتراب فكان عن ذلك يأجوج ومأجوج، ورده القرطبي بأن الأنبياء (عليهم السلام) لا يحتلمون، وقال جماعة منهم القاضي: إنهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح، وقيل في كتاب العلل تصريح بأنهما من أولاد نوح (عليه السلام) ونقل الآبي في كتاب إكمال الإكمال عن مقاتل أنهما أمة من الترك ومساكنهم وراء السد طول السد بين الجبلين، قيل: مائة

ص:319

فرسخ وعرضه خمسون فرسخا، وقال الجزري: جبل الردم الذي فيه السد طوله سبعمائة فرسخ وينتهي إلى البحر المظلم والكلام في بعثة الرسول إليهم وعدمها وفي إيمانهم وعدمه طويل إذ لا نص عندنا على ذلك والقرآن العزيز إنما أخبر أنهما مفسدون في الأرض والفساد أعم من الكفر وقد قيل: إن إفسادهم كان بأكل الناس وافتراس الدواب كافتراس السبع وإهلاك الحرث ونقل من طريق العامة ما يدل على كفرهم ولكن الأكثر توقفوا فيه والتحقيق أن لهم أربع حالات: الأولى: قبل السد عليهم وهم حينئذ كغيرهم لمخالطتهم أهل الأرض فكفرهم وعدمه حينئذ محتمل لأنا لم نقف ما يدل على شيء منهما. الثانية بعد السد إلى مجىء الإسلام وهذه مثل السابقة لأنا لم نقف ما يدل على أن الله تعالى أرسل إليهم رسولا منهم، وعلى أنه بلغتهم دعوة رسول من غيرهم والظاهر عدم بلوغ الدعوة لتعذر وصولها إليهم، الثالثة: بعد مجيء الاسلام إلى زمان خروجهم وهذه أيضا مثل السابقة لاحتمال بلوغ دعوة نبينا (صلى الله عليه وآله) إليهم فآمنوا أو كفروا واحتمال عدم بلوغها فلا يتصفون بالكفر لأن بلوغ التكليف شرط للحكم بذلك وفي طريق العامة نقل واثلة وأبو عمرو عن وهب بن منبه أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «انطلق بي جبرئيل (عليه السلام) ليلة أسري بي فدعوت يأجوج ومأجوج فلم يجيبوني فهم في النار مع المشركين من ولد آدم وإبليس هذا صريح في بلوغ الدعوة وفي الكفر، لكن قال أكثر علمائهم هو من الأخبار التي لا تصح من جهة السند إذ لا سند له وإنما هو من الأقاصيص التي تؤدي مقطوعة ومرسلة ولا من جهة المعنى لتعذره عادة ولظلمة الليل والنوم وافتراقهم في منازلهم فكيف يجتمعون له حتى يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن فينظرون في معجزاته، وأيضا فالزمان ضيق عن فهمهم وتفهيمه لهم التفهيم الذي تقوم به الحجة. الرابعة بعد خروجهم من السد في آخر الزمان فهم في ذلك الزمان كغيرهم من الخلائق مكلفون بشريعة نبينا (صلى الله عليه وآله) بتبليغ صاحب الامر (عليه السلام) ولكن لا يؤمنون على ما قيل والله يعلم حقيقة أحوالهم.

* الأصل:

275 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلي بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن مثنى، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:] إن [الناس طبقات ثلاث: طبقة هم منا ونحن منهم، وطبقة يتزينون بنا، وطبقة يأكل بعضهم بعضا] بنا [.

* الشرح:

قوله (ان الناس طبقات ثلاث طبقة هم منا ونحن منهم) أي هم من زمرتنا ونحن من زمرتهم

ص:320

لثبوت المتابعة والانقياد وقبول الهداية والإرشاد وهم الشيعة كلهم (وطبقة يتزينون بنا) وهم أهل الاسلام المنتسبون إلى أجداده (عليهم السلام) لأن الاسلام منهم (عليه السلام) وهم مبادية وان لم تكن تلك الزينة نافعة لهم يوم القيامة لتركهم أعظم أركان الإسلام (وطبقة يأكل بعضهم بعضا) أي يهلك بعضهم بعضا بوضع قوانين الشرك والكفر أو يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة كما قيل وهم سائر الناس ويحتمل أن يراد بالطبقة الأولى خواص الشيعة وخلصهم، وبالثانية: ضعفاؤهم، بالثالثة: سائر الناس والله يعلم.

* الأصل:

276 - عنه، عن معلى، عن الوشاء، عن عبد الكريم بن عمرو، عن عمار بن مروان، عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا رأيت الفاقة والحاجة قد كثرت وأنكر الناس بعضهم بعضا فعند ذلك فانتظر أمر الله عز وجل، قلت: جعلت فداك هذه الفاقة والحاجة قد عرفتهما فما إنكار الناس بعضهم بعضا؟ قال: يأتي الرجل منكم أخاه فيسأله الحاجة فينظر إليه بغير الوجه الذي كان ينظر إليه، ويكلمه بغير اللسان الذي كان يكلمه به.

* الشرح:

قوله: (إذ رأيت الفاقة والحاجة قد كثرت وأنكر الناس بعضهم بعضا. انتهى) لعل المراد بالفاقة والإنكار فيما بين الشيعة ويحتمل مطلقا وهذه من علامات ظهور الصاحب (عليه السلام) لأنه إنما يظهر عند شدة الزمان وفقد الرحمة بين الخلق كما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) في مثل ذلك الزمان.

* الأصل:

277 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبيد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) قال:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ووكل الرزق بالحمق ووكل الحرمان بالعقل ووكل البلاء بالصبر.

* الشرح:

قوله: (وكل الرزق بالحمق ووكل الحرمان بالعقل) وكل على صيغة المجهول تقول وكلت الأمر به وإليه أكله وكلا ووكولا إذا سلمته إليه وتركته معه ولعل السر فيه أن الأحمق يطلب الدنيا فيجدها كما قال الله تعالى «ومن يرد حرث الدنيا نزد له في حرثه» والعقل يترك الدنيا ويطلب الآخرة فيصيبه قليل في الدنيا أو الوجه فيه أن يعلم العقل أن الرزق بيد غيره لا يناله بالتدبير فيحصل له بذلك زيادة معرفة (ووكل البلاء بالصبر) فلو لم يكن الصبر لم يكن البلاء لأنه بدون الصبر مستقل

ص:321

في الهدم والهضم كما روى لو لا أن الصبر خلق قبل البلاء لتفطر المؤمن كما تنفطر البيضة على الصفا وروي «من لا يعد الصبر لنوايب الدهر يعجز».

* الأصل:

278 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد العطار، عن يونس بن يعقوب، عن عمر أخي عذافر قال: دفع إلى إنسان ستمائة درهم - أو سبعمائة درهم - لأبي عبد الله (عليه السلام) فكانت في جوالقي فلما انتهيت إلى الحفيرة شق جوالقي وذهب بجميع ما فيه ووافقت عامل المدينة بها فقال: أنت الذي شقت زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم، فقال: إذا قدمنا المدينة فاءتنا حتى أعوضك قال: فلما انتهيت إلى المدينة دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: يا عمر شقت زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم، فقال: ما أعطاك الله خير مما أخذمنك، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضلت ناقته فقال الناس فيها: يخبرنا عن السماء ولا يخبرنا عن ناقته فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد ناقتك في وادي كذا وكذا ملفوف خطامها بشجرة كذا وكذا قال: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس أكثرتم على في ناقتي ألا وما أعطاني الله خير مما أخذ مني، ألا وإن ناقتي في وادي كذا وكذا ملفوف خطامها بشجرة كذا وكذا، فابتدرها الناس فوجدوها كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: ثم قال: ائت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك فإنما هو شيء دعاك الله إليه لم تطلبه منه.

* الشرح:

قوله: (دفع إلى إنسان ستمائة أو سبعمائة درهم لأبي عبد الله (عليه السلام) فكانت في جوالقي فلما انتهيت إلى الحفيرة انتهى) الجوالق بكسر الجيم واللام وبضم الجيم وفتح اللام وكسرها: وعاء معروف والجمع جوالق كصحايف وجوالقات وفي الكنز أنه فارسي معرب يقال له بالفارسية «خورجين» والحفيرة بضم الحاء وفتح الفاء: موضع بين ذي الحليفة ومكة يسلكه الحاج، والزاملة: التي يحمل عليها من الإبل وغيرها والمراد بها هنا الجوالق مجازا من باب إطلاق المحل على الحال (ما أعطاك خير مما أخذ منك) وهو دين الحق وولاية علي (عليه السلام) أو الثواب في الآخرة أو ما يعطيك عامل المدينة باعتبار أنه أكثر على احتمال بعيد وفيه تسلية له وترغيب في الشكر (ثم قال: ايت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك فإنها هو شيء دعاك الله إليه لم تطلبه منه) تنجز أمر من تتنجز يقال: تنجز الرجل حاجته إذا استنجحها وظفر بها.

ص:322

* الأصل:

279 - سهل، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس، عن شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيء يروى عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه كان يقول: ثلاثة يبغضها الناس وأنا أحبها احب الموت، واحب الفقر، واحب البلاء؟ فقال: إن هذا ليس عى ما يروون إنما عني: الموت في طاعة الله أحب إلي من الحياة في معصية الله، والبلاء في طاعة الله أحب إلي من الصحة في معصية الله، والفقر في طاعة الله أحب إلي من الغنى في معصية الله.

* الشرح:

قوله: (انما عنى الموت في طاعة الله أحب إلي من الحياة في معصية الله. انتهى) أشار إلى أنه لم يحب الموت على الإطلاق ولم يكره الحياة كذلك بل أحب الموت في الطاعة وكره الحياة في المعصية، وأما الحياة في الطاعة فهي أمر مطلوب للمؤمن إذ بقية عمر المؤمن عطية يتدارك بها ما فات ويستعد بها لما هو آت وكذا رجحان البلاء والفقر في الطاعة عند العقلاء على الصحة والغنى في المعصية واضح وأما رجحانا لصحة والغنى في الطاعة على البلاء والفقر فيها فمشكل والظاهر رجحان البلاء والفقر لأن فيهما صبران وفي الأولين صبر واحد والثواب والجزاء يتفاوت باعتبار تفاوت الصبر والله يعلم.

* الأصل:

280 - سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس، عن علي بن عيسى القماط، عن عمه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: هبط جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) كئيبا حزينا؟ فقال: يا رسول الله مالي أراك كئيب حزينا؟ فقال: إني رأيت الليلة رؤيا قال: وما الذي رأيت؟ قال: رأيت بني أمية يصعدون المنابر وينزلون منها قال: والذي بعثك بالحق نبيا ما علمت بشيء من هذا، وصعد جبرئيل (عليه السلام) إلى السماء ثم أهبطه الله جل ذكره بآي من القرآن يعزيه بها قوله: «أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون» وأنزل الله جل ذكره (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر» للقوم، فجعل الله عز وجل ليلة القدر لرسوله خيرا من ألف شهر.

* الشرح:

قوله: (ثم أهبطه الله عز وجل بآي من القرآن يعزيه بها) الآي كالآيات جمع آية: وهي العلامة

ص:323

والشخص ووزنها فعلة محركة أو فاعلة والتعزية التسلية والحمل على العزاء وهو الصبر على البلاء والمصيبة (أفرأيت إن متعناهم سنين) أي تركنا هم ينتفعون وفي الكنز تمتع «برخوردارى دادن» أو أبقيناهم وعمرناهم (ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) من الاهلاك والاستيصال والعقاب (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي ما نفعهم ما كانوا ينتفعون به من الملك والإمارة ولا يدفع البأس عنهم (وأنزل الله جل ذكره إنا أنزلناه) أي القرآن كله إلى السماء الدنيا على السفرة أو إلى اللوح المحفوظ (في ليلة القدر) ثم نزل به الروح الأمين إلى النبي (صلى الله عليه وآله) نجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة (وما أدراك ما ليلة القدر) فيه تفخيم لشأنها وتعظيم لشرفها (ليلة القدر خير من ألف شهر) لم تكن فيها ليلة القدر، وقوله «للقوم» صفة لألف شهر والمراد بهم بنو أمية وتعلقه بخير وحمل القوم على المؤمنين بعيد.

* الأصل:

281 - سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يونس، عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم» قال: فتنة في دينه أو جراحة لا يأجره الله عليها.

* الشرح:

قوله (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) بترك الامتثال أو بعدم الاقرار به والأول أنسب (إن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) الفتنة: الامتحان والاختبار وفيه فتنة القبر وفتنة الدجال وغير ذلك ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الحق والعذاب أعم من الجراحة وغيرها ولعل ذكر الفتنة في الدين والجراحة من باب التمثيل.

* الأصل:

282 - سهل بن زياد، عن محمد، عن يونس، عن عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن شيعتك قد تباغضوا وشنىء بعضهم بعضا فلو نظرت - جعلت فداك - في أمرهم فقال: لقد هممت أن أكتب كتابا لا يختلف علي من اثنان: قال: فقلت: ما كنا قط أحوج إلى ذلك منا اليوم، قال: ثم قال: إني هذا ومروان وابن ذر؟! قال: فظننت أنه قد منعني ذلك، قال: فقمت من عنده فدخلت على إسماعيل فقلت: يا أبا محمد إني ذكرت لأبيك اختلاف شيعته وتباغضهم فقال:

ص:324

لقد هممت أن أكتب كتابا لا يختلف علي منهم اثنان، قال: فقال ما قال مروان وابن ذر! قلت: بلى، قال: يا عبد الأعلى إن لكم علينا لحقا كحقنا عليكم والله ما أنتم إلينا بحقوقنا أسرع منا إليكم، ثم قال: سأنظر، ثم قال: يا عبد الأعلى ما على قوم إذا كان أمرهم أمرا واحدا متوجهين إلى رجل واحد يأخذون عنه ألا يختلفوا عليه ويسندوا أمرهم إليه، يا عبد الأعلى إنه ليس ينبغي للمؤمن وقد سبقة أخوه إلى درجة من درجات الجنة أن يجذبه عن مكانه الذي هو به ولا ينبغي لهذا الاخر الذي لم يبلغ أن يدفع في صدر الذي لم يلحق به ولكن يستلحق إليه ويستغفر الله.

* الشرح:

قوله: (إن شيعتك قد تباغضوا وشنأ بعضم بعضا) شنأه كمنعه وسمعه شنئا ويثلث وشناءة مثل شناعة: أبغضه (فلو نظرت جعلت فداك في أمرهم) بالنصح والإصلاح ولو للتمني أو للشرط والجزاء محذوف ثم قال: (لقد هممت أن أكتب كتابا إليهم لا يختلف علي منهم اثنان) كناية عن رفع الاختلاف بينهم بالكلية وذكر الاثنين لأنهما أقل محل المنازعة والمخاصمة (ثم قال: إني هذا ومروان وابن ذر) لعل المراد أني يمكن هذا الكتاب مع وجودهما أو الحال أنهما موجودان وكأنه (عليه السلام) كان يتقي منهما ويؤيد هذا الاحتمال قول السايل فظننت أنه قد منعني ذلك وقول إسماعيل ما قال مروان وابن ذر والله يعلم (يا عبد الأعلى إن لكم علينا لحقا كحقنا عليكم) الحق الأول: هو الهداية والعدل والنصيحة والإرشاد، والحق الثاني: هو الطاعة والرضا والتسليم والانقياد ثم أشار إلى أنهم (عليهم السلام) أولى في أداء حقوق الشيعة من الشيعة في أداء حقوقهم بقوله (والله ما أنتم إلينا بحقوقنا أسرع منا إليكم بحقوقكم) وإذا كان كذلك لم يكن منع الكتاب إلا لمانع منه (ثم قال سأنظر) في أمر الكتاب وإرساله إلى الشيعة وأشاور معه (عليه السلام) فلعله يكتب، ان رأى فيه صلاحا (قال:

يا عبد الأعلى) على سبيل التعجب والتوبيخ وإظهار نوع من الشكاية من سوء معاملة الشيعة (ما على قوم إذا كان أمرهم أمرا واحدا) وهو دين الحق (متوجهين إلى رجل واحد) يدعوهم إلى ذلك الأمر (يأخذون عنه) ذلك الأمر وغيره مما أمرهم به (ألا يختلفوا عليه) فإن قلت: إنما اختلفوا فيما بينهم بالتباغض والتحاسد لا عليه.

قلت: اختلافهم باطل غير مرضي عنده (عليه السلام) وميلهم إلى الباطل اختلاف عليه (ويسندوا أمرهم إليه ) أن يتجاوزوا عما أراد منهم من التعاون والتناصر ثم أشار إلى النصح الخالص المقتضي لقوام

ص:325

نظامهم بقوله (يا عبد الأعلى ليس ينبغي للمؤمن وقد سبقة أخوه إلى درجة من درجات الجنة) أي إلى ما يوجبها من العلم والعمل والورع وغير ذلك (أن يجذبه من مكانه الذي هو به) بأن ينقص حقه من التعظيم والتوقير وينكر فضله ويحسده ويبغضه (ولا ينبغي لهذا الآخر الذي لم يبلغ) الظاهر أن لم يبلغ مبني للمفعول أي الذي لم يبلغه الأول المسبوق (أن يدفع في صدر الذي لم يلحق به) بأن يذمه ويلومه ويعيره ويحقره ولا يعينه (ولكن يستلحق إليه ويستغفر الله له) ولنفسه والغرض أنه ينبغي لكل واحد أن يعرف حق آخر فالمفضول يقر بفضل الأفضل يعين المفضول ويسعى في ترقيه حتى يستقر بالهم وينتظم حالهم وينزلوا منزله الأبرار ومرتبة الأخيار.

* الأصل:

283 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا فلان سلما لرجل هل يستويان مثلا» قال: أما الذي فيه شركاء متشاكسون ورجلا الأول يجمع المتفرقون ولايته وهم في ذلك يلعن بعضهم بعضا ويبرأ بعضهم من بعض، فأما رجل سلم لرجل فإنه الأول حقا وشيعته ثم قال: إن اليهود تفرقوا من بعد موسى (عليه السلام) على إحدى وسبعين فرقة منها فرقة في الجنة وسبعون فرقة في النار وتفرقت النصارى بعد عيسى (عليه السلام) على اثنين وسبعين فرقة، فرقة منها في الجنة وإحدى وسبعون في النار وتفرقت هذه الامة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وفرقة في الجنة ومن الثلاث وسبعين فرقة ثلاث عشرة فرقة تنتحل ولايتنا ومودتنا، اثنتا عشرة فرقة منها في النار وفرقة في الجنة وستون فرقة من سائر الناس في النار.

* الشرح:

قوله: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون): أي مختلفون متنازعون يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا حين رأوا ضلالتهم وإحاطة العذاب بهم وهم الأول وأتباعه كما ذكر (عليه السلام) (ورجلا سلما لرجل) السلم، بالتحريك: الصلح والاستسلام والإذعان والانقياد، قال الله تعالى «وألقوا إليكم السلم»: أي الانقياد، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع وهم علي (عليه السلام) وشيعته كما ذكر (عليه السلام) حيث أنه (عليه السلام) راض عنهم وهم راضون عنه وبينهم الاستسلام في الدينا والآخرة.

ص:326

* الأصل:

284 - وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لم تزل دولة الباطل طويلة ودولة الحق قصيرة.

الشرح:

قوله: (لم تزل دولة الباطل طويلة ودولة الحق قصيرة) مدة الباطل وإن كانت قصيرة ومدة الحق طويلة فإن الباطل يزهق يبقي لكن دولة الباطل وهي ظهوره وشيوعه بين الخلق أكثر من دولة الحق وظهوره بينهم لكثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق فيصير الباطل مشهورا بينهم والحق مغلوبا مستورا.

* الأصل:

285 - وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى فرج شيعتكم؟ قال: فقال: إذا اختلف ولد العباس وهي سلطانهم وطمع فيهم من لم يكن يطمع فيهم وخلعت العرب أعنتها ورفع كل ذي صيصية صيصيته وظهر الشامي وأقبل اليماني وتحرك الحسني خرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقلت: ما تراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: سيف رسول الله ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولامته وسرجه حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمد ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة ويتناول القضيب بيده ويستأذن الله في ظهوره فيطلع على ذلك بعض مواليه فيأتي الحسني فيخبره الخبر فيبتدر الحسني إلى الخروج. فيثب عليه أهل مكة فيقتلونه ويبعثون برأسه إلى الشامي فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر فيبايعه الناس ويتبعونه.

ويبعث الشامي عند ذلك جيشا إلى المدينة فيهلكهم الله عز وجل دونها ويهرب يومئذ من كان بالمدينة من ولد علي (عليه السلام) إلى مكة فيلحقون بصاحب هذا الأمر ويقبل صاحب هذا الأمر نحو العراق ويبعث جيشا إلى المدينة فيأمن أهلها ويرجعون إليها.

* الشرح:

قوله: (إذا اختلف ولد العباس) أي جاء بعضهم بعد بعض وقام بأمر الإماره والسلطنة (ووهى سلطانهم) وهي كوعي وولى تخرق وانشق واسترخى رباطه وضعف (وطمع فيهم) أي في هضمهم وملكهم (من لم يكن يطمع فيهم) وهو هلاكو وقد نهض إليهم من بلاد الترك وما وراء

ص:327

النهر بتقدير إلهي «وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له» (وخلعت العرب أعنتها) العنان ككتاب سير اللجام الذي تمسك به الدابة والجمع أعنة وكان خلعها كناية عن الذل والانكسار والخوف والفرار (ورفع كل ذي صيصية صيصيته): هي بالتخفيف قرن البقر وما خلف رجل الديك والحصن والجمع الصياصي وكأنه كناية عن قيام كل ذي قوة لطلب الملك والرئاسة أو عن رفع السلاح مثل الأسنة والرماح وغيرهما أو عن رفع الحصون والقلاع حفظا من تسلط الأعداء والغرض هو الإشارة إلى شدة ذلك الزمان وصعوبة الأمر فيه (وظهر الشامي) كأنه السفياني الدجال (وأقبل اليماني) إلى العراق (وتحرك الحسني) من مكة لإرادة الخروج.

(خرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة) جزاء لقوله إذا اختلف إلى آخره (بتراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)) التراث بالضم: الميراث وأصله وراث قلبت الواو ياء للتخفيف، والدرع معروف وهو المنسوج من الحديد وقد يذكر ويؤنث والبرد بالضم ثوب مخطط وأكسية يلتحف بها. الواحدة بردة والقضيب العود والسيف اللطيف الدقيق القاطع. واللامة بالهمز أداة الحرب كالمغفر والدرع ونحوهما (فيخرج السيف من غمده) يخرج إما من الإخراج وفاعله ضمير الصاحب (عليه السلام) أو من الخروج والسيف فاعله فيكون ذلك علامة لظهوره (عليه السلام) وينشر الراية النشر خلاف الطي كالتنشير (والبردة والعمامة) إلا نسب أنه عطف على الدرع فيدل على جواز العطف على جزء جملة بعد الفصل بجملة أخرى والعطف على الراية بعيد (فيطلع على ذلك بعض مواليه) الأنسب أن ضمير مواليه عائد إلى الحسني المذكور سابقا وعوده إلى الصاحب بعيد جدا (فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر) روي الصدوق في كتاب كمال الدين بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): « يخرج القائم (عليه السلام) يوم السبت يوم عاشورا اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)» (ويبعث الشامي عند ذلك جيشا إلى المدينة فيهلكهم الله عز وجل دونها) بالبيداء بالخسف كما روى (ويقبل صاحب هذا الأمر نحو العراق) أي الكوفة مع عصا موسى والحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عينا ومنه طعامهم وشرابهم كما روي.

* الأصل:

286 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية، عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج إلينا أبو عبد الله (عليه السلام) وهو مغضب فقال: إني خرجت آنفا في حاجة فتعرض لي بعض سودان المدينة فهتف بي: لبيك يا جعفر بن محمد لبيك، فرجعت عودي على بدئي إلى منزلي خاوفا ذعرا مما قال حتى سجدت في مسجدي لربي وعفرت له وجهي وذللت له نفسي وبرئت إليه مما هتف بي ولو أن عيسى بن مريم عدا ما قال الله فيه إذا

ص:328

لصم صما لا يسمع بعده أبدا وعمي عمى لا يبصر بعده أبدا وخرس خرسا لا يتكلم بعده أبدا، ثم قال: لعن الله أبا الخطاب وقتله بالحديد.

* الشرح:

قوله: (فتعرض لي بعض سودان المدينة) وكان غاليا تابعا لأبي الخطاب (فهتف بي لبيك يا جعفر بن محمد لبيك) كأنه قصد به ربوبيته (عليه السلام) أو قال لبيك اللهم يا جعفر بن محمد لبيك فحذف (عليه السلام) اللهم لكراهته ذكره في الحكاية ومعناه: أقيم على طاعتك يا رب إقامة بعد إقامة وإجابة بعد إجابة من لب بالمكان وألب إذا أقام به ولم يفارقه وهو مصدر منصوب بفعل مقدر أي ألب ألبابا لك بعد إلباب، وقيل معناه اتجاهي وقصدي إليك يا رب من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها، وقيل معناه إخلاصي لك من قولهم حب لباب إذا كان خالصا فلا يرد أن مثل هذا الكلام قد يقال لقصد تعظيم المخاطب لا لقصد ربوبيته (فرجعت عودي على بدئي إلى منزلي) قال السيد رضى الدين (رضي الله عنه): عودي حال مؤكده وعلى متعلق به أو برجعت، والبدء مصدر بمعنى الابتداء جعل بمعنى المفعول أي رجعت عائدا على ما ابتدئه. أقول: المقصود منه هو المبالغة في عدم الاستقرار وكون عوده من السير متصلا بابتدائه، ثم قال ويجوز أن يكون عودي مفعولا مطلقا لرجع أي رجع على يديه عودا معهودا وكأنه عهد منه أن لا يستقر على ما ينتقل إليه بل يرجع إلى ما كان عليه قبل (خايفا ذعرا مما قال) الذعر بالضم: اسم من أذعرته ذعرا إذا أفزعته وأخفته وخوفه (عليه السلام) من الله كخوف الوزير من غيرة السلطان ومؤاخذته عند نسبة الرعية إليه السلطنة وتسميته سلطانا وإن لم يكن له تقصير فيه (ولو أن عيسى بن مريم عدا ما قال الله فيه) أي جاوز عما قال الله في وصفه من أنه رسوله وكلمته إلى ما عداه من الربوبية والصفات المختصة بالرب (إذا لصم صمما لا يسمع بعده أبدا. انتهى) الضاهر منه ومن نظائره المعنى الحقيقي مع احتمال حمله على المعنى المجازي وهو على الأول مختص بأهل الكمال عند تجاوزهم عن حدهم بدليل أن بعض الجهلة ادعى الربوبية لنفسه ولم يصم ولم يعم ولم يخرس حقيقة (ثم قال: لعن الله أبا الخطاب) اسمه محمد بن مقلاص وكان غاليا ملعونا يعتقد بأن جعفر بن محمد إله وكان يدعو من تبعه إليه وأمره مشهور.

* الأصل:

287 - عنه عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جهم بن أبي جهمة، عن بعض موالي

ص:329

أبي الحسن (عليه السلام) قال: كان عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) رجل من قريش فجعل يذكر قريشا والعرب فقال له أبو الحسن (عليه السلام) عند ذلك، دع هذا، الناس ثلاثة عربي ومولى وعلج فنحن العرب وشيعتنا الموالي ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج فقال القرشي: تقول هذا يا أبا الحسن؟! فأين أفحاذ قريش والعرب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): هو ما قلت لك.

* الشرح:

قوله: (كان عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) رجل من قريش فجعل يذكر قريشا والعرب. انتهى) تفاخر الرجل بشرافة الآباء والأنساب والقبائل باعتبار الشهرة أو بنوع من المزية الدنيوية وهذه مفاخرة جاهلية مذمومة في القرآن والأخبار ولذلك أمره (عليه السلام) بتركها وزجرها عنها بقوله (دع هذا، الناس ثلاثة: عربي ومولى وعلج فنحن العرب وشيعتنا الموالي ومن لم يكن على مثل ما نحن عليه فهو علج) أشار بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام إلى أن المزية والكمال والشرافة المعتبرة شرعا وعقلا إنما هي دينية وأراد بالعرب من قنن القوانين والشرعية وأوضحها وبين الأمور الدينية وأفصحها وهو محمد (صلى الله عليه وآله) وأوصياؤه (عليهم السلام) وبالموالي من تبعهم ونصرهم وأحبهم ووفى وهم الشيعة، وبالعلج:

وهو الحمار الوحشي، والكافر: العجمي الذي لا يفهم المقاصد ولا يعرف المراشد من سواهم ولما كان ذلك الرجل رسخ في طبعه ما ذكره أو لا قال من باب التعجب (تقول هذا يا أبا الحسن فأين أفخاذ قريش والعرب) الأفخاذ: جمع فخذ ككتف وهو دون البطن والبطن دون عمارة بفتح العين وكسرها وهي دون قبيلة وهي دون شعيب هو بمنزلة الجنس كما نقلنا عن بعض المحققين سابقا.

وفي المصباح الفخذ بالكسر دون القبيلة وفوق البطن وقيل دون البطن وفوق القبيلة وفي القاموس الفخذ حي الرجل إذا كان أقرب عشيرته.

* الأصل:

288 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الأحول، عن سلام بن المستنير قال:

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث: إذا قام القادم عرض الإيمان على كل ناصب فإن دخل فيه بحقيقته وإلا ضرب عنقه أو يؤدي الجزية كما يؤديها اليوم أهل الذمة ويشد على وسطه الهميان ويخرجهم من الأمصار إلى السواد.

* الشرح:

قوله: (إذا قام القائم عرض الإيمان على كل ناصب فإن دخل فيه بحقيقة والا ضرب عنقه أو

ص:330

يؤدي الجزية. انتهى) الهميان بالكسر: شداد السراويل ووعاء الدراهم، والسواد من البلد: قراها، والمراد بحقيقة الإيمان الإيمان الخالص وبالناصب غير الإمامية من فرق الإسلام، وفي هذا الخبر دلالة على أنه (عليه السلام) يقبل الجزية منهم إن لم يؤمنوا إيمانا خالصا إلا أنه ضعيف وعلى تقدير العمل به فلعل الجمع بينه وبين ما روي من أنه يضع الجزية عند ظهوره أنه يضعها عن أهل الكتاب فإنهم حينئذ بمنزلة الحربي لا يرفع عنهم السيف حتى يؤمنوا أو يقتلوا والله أعلم.

289 - الحسين بن محمد الأشعري، عن علي بن محمد بن سعيد، عن محمد بن مسلم بن أبي سلمة عن محمد بن سعيد بن غزوان (1) عن محمد بن بنان، عن أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

قال أبي (عليه السلام) يوما وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفه فيمسكها حتى تطفأ؟ قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إياك عنيت إنما أنت مني وأنا منك، بل إياهم أردت] قال: [وكررها ثلاثا، ثم قال: أأكثر الوصف وأقل الفعل؟! إن أهل الفعل قليل، إن أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معا وما كان هذا منا تعاميا عليكم بل لنبلوا أخباركم ونكتب آثاركم، فقال: والله لكأنما مادت بهم الأرض حياء مما قال حتى أني لا نظر إلى الرجل منهم يرفض عرقا ما يرفع عينيه من الأرض فلما رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله فما أردت إلا خيرا، ان الجنة درجات فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم. قال: فوالله لكأنما نشطوا من عقال.

* الشرح:

قوله: (فكاع الناس كلهم ونكلوا) الكيع الجبن والخوف تقول كعت عنه أكيع إذا هبته وجنبت عنه، والنكول عن الشيء: الامتناع منه وترك الإقدام عليه، ثم قال: (ما أكثر الوصف وأقل الفعل) أي:

من وصف نفسه بالتشيع كثير والفاعل العامل بلوازمه قليل جدا وما ذلك إلا لضعف يقينهم حيث لم يستيقنوا بأن المعصوم لا يطلب منهم ما يضرهم ولو أخذوا جمرة لصارت عليهم بردا وسلاما كما صارت على خليل الرحمن نظير ذلك ما نقل أن موسى (عليه السلام) عند تعاقب فرعون أمر قومه بالمرور على وجه البحر فلم يقبل منه إلا يوشع فمضي عليه راكبا سالما غانما (إلا وأنا لنعرف أهل

ص:331


1- 1 - الظاهر كما سيأتي تحت رقم 314 هو محمد بن سالم بن أبي سلمة المعنون في فهرست الشيخ فصحف وذلك نشأ من اختلاف كتابه سلم وسالم وسفين وسفيان وعثمن وعثمان وعلي بن محمد بن سعيد غير موجود في كتب الرجال والظاهر أنه علي بن محمد بن أبي سعيد وفي رجال الشيخ علي بن محمد بن سعد الأشعري.

الفعل والوصف معا) بالمشاهدة القلبية في حال الغيبة والمشاهدة العينية في حال الحضور وقوله «معا» لإفادة أن معرفة أحدهما لا يمنع معرفة الآخر فإن العلم الحصولي إذا كمل يصير بمنزلة العلم الحضوري ثم أكده بقوله (وليس ذلك منا تعاميا عليكم) أي ليس ذلك القول المذكور في الصدر جهلا منا بأحوالكم الماضية والحاضرة والآتية وطلبا لحصول العلم إذ هي معلومة لنا (بل لنبلوا أخباركم ونكتب آثاركم) أي بل ذلك القول منا لنختبر أخباركم عن إيمانكم وطاعتكم وموالاتكم لنا ونكتب آثاركم وأعمالكم البدنية والقلبية من العلم واليقين وغيرهما ليظهر لكم صدقها وكذبها وحسنها وقبحها ومراتبها لا ليحصل لنا العلم بها.

(فقال والله فكأنما مادت بهم الأرض حياء مما قال حتى أني لأنظر إلى الرجل منهم يرفض عرقا.

انتهى) الميد: التحرك والميل والاضطراب يقال ما ديميد ميدا إذا تحرك ومال الإرفضاض:

الجريان والسيلان، يقال: أرفض عرقا ارفضاضا إذا جرى عرقه وسال، والحياء تغير وانكسار ويلحق من فعل أو ترك ما يذم به وهو ههنا حصل لهم مما قال (عليه السلام) من كثرة الوصف وقلة الفعل وهو في الحقيقة ذمهم بأنهم ليسوا من أهل الفعل فحصل لهم بذلك انقباض واضطراب ويأس من كونهم من أهل الجنة لما فهموا من أن أهل الجنة هو أهل الفعل، فلما رأى (عليه السلام) منهم ترحم بهم وقال ليس المراد ذلك وإنما المراد بيان تفاوت درجات أهل الوصف وأهل الفعل فلما بشرهم بذلك خرجوا من القنوط واليأس وحصل لهم الانبساط حتى كأنهم نشطوا من عقال أي خرجوا منه، قولهم: نشط من المكان ينشط أي خرج منه وهذا كناية عما حصل لهم من ذلك الترحم والبيان من كثرة النشاط والفرح والسرور.

* الأصل:

290 - وبهذا الإسناد، عن محمد بن سليمان، عن إبراهيم بن عبد الله الصوفي قال: حدثني موسى بن بكر الواسطي قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ما كان لي، إنهم طال ما اتكؤا على الأرائك، فقال: نحن شيعة علي، إنما شيعة علي من صدق قوله فعله.

* الشرح:

قوله: (لو ميزت شيعتي ما وجدتهم إلا واصفة. انتهى) أي لو ميزتهم عن غيرهم ما وجدتهم إلا

ص:332

واصفين قائلين بالتشيع وهذا الوصف لم يوجد في غيرهم فهم به يمتازون عنهم ثم الواصفين لو امتحنتهم واختبرت أحوالهم ما وجدت أكثرهم إلا مرتدين صارفين عن سيرتي غير آخذين بأمري ولا عاملين بما هو خير لهم، ثم الآخذون العاملون لو تمحصتهم وفتشت كيفية أخذهم وعملهم وأخلاقهم بنوع من التمحيص والتخليص ما وجدت أكثرهم إلا غير خالصين، ثم الخالصون وهم الأقلون جدا لو غربلتهم غربلة وحركتهم تحريكا بغربلة البلايا والمحن والمصائد والشدائد لم يبق منهم إلا قليل وهو من كان لي وأخذ بسيرتي، وإليه يرشد قول الصادق (عليه السلام) «المؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر» وإن شئت أن تعرف قلة المؤمن وندرته فارجع إلى الأحاديث المذكورة في أبواب الكفر والإيمان من كتاب الأصول (أنهم طال ما اتكؤا على الأرائك) في القاموس، الأريكة كسفينة: سرير في حجلة أو كل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش أو سرير متخذ مزين في قبة أو بيت وإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة وجمع أريكة أرائك (فقالوا: نحن شيعة علي) قولا متفردا عن لوازمه وآثاره وهو الوصف المذكور (وإنما شيعة علي من صدق قوله فعله) بالعمل بسيرته ليتحقق معنى التشيع والمتابعة ويبعد عن شبه الاستهزاء وسيجئ عن علي بن الحسين (عليهما السلام) «إن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله».

* الأصل:

291 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان ابن عثمان، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول: يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت، فيجاء بمريم (عليها السلام) فيقال: أنت أحسن أو هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن، ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: يا رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت فيجاء بيوسف (عليه السلام) فيقال: أنت أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن، ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه فيقول: يا رب شددت علي البلاء حتى افتتنت فيؤتى بأيوب (عليه السلام) فيقال: أبليتك أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن.

* الشرح:

قوله: (يؤتي بالمرأة الحسناء يوم القيامة. انتهى) ليس الغرض منه مجرد الإخبار بل فيه وعد

ص:333

ووعيد للممتحن وحمل له على الصبر وبيان لرفع حجه على الله يوم القيامة.

* الأصل:

292 - وبهذا الإسناد، عن أبان بن عثمان، عن إسماعيل البصري قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : تقعدون في المكان فتحدثون وتقولون ما شئتم وتتبرؤون ممن شئتم وتولون من شئتم، قلت:

نعم، قال: وهل العيش إلا هكذا.

* الشرح:

قوله: (تقعدون في المكان فتحدثون. انتهى) فيه ترغيب للشيعة في المجالسة والمخالطة والتحديث سيما فضائل أهل البيت (عليهم السلام) والتولى بهم والتبري من أعدائهم فإنما توجب التودد والتواصب ورواج الدين وقوام نظام المسلمين وتحقق الصداقة والإلفة ورفع الفرقة والوحشة وكل ذلك يورث طيب العيش في الدنيا والآخرة.

* الأصل:

293 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدا حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم، أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط إليها عشرا.

* الشرح:

قوله: (رحم الله عبدا حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم) المراد بالناس المخالفون وأصحاب الدولة الباطلة ولابد للمؤمن في حفظه وحفظ إمامه أن تكلم عندهم في أمور الدين من أن يتكلم بما يوجب حبهم لا بغضهم وعداوتهم فإن فيه هلاكه وهلاك إمامه (أما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز) ضمير الجمع للشيعة والمحاسن جمع الحسن على غير قياس والإضافة بيانية أو بتقدير في والمقصود أنهم لو نقلوا كلامنا بعينه من غير زيادة ونقصان لكانوا عندهم أعز (وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء) إذ ليس في كلامنا ما يوجب طعنهم صريحا بل قد يكون له وجوه يمكن التخلص بها (ولكن أحدهم يسمع الكلمة فيحط إليها عشرا) هذا من باب المبالغة المشهور بين العرب والعجم وذلك التغيير قد يقع عمدا لغرض من الأغراض وقد يقع سهوا وقد يقع باعتبار فهم المخاطب من كلام له وجوه ونقله ما هو المقصود منها، وينبغي أن يعلم أن

ص:334

كلامهم (عليهم السلام) قسمان قسم من باب الأسرار فلا يجوز نقله لغير أهله أصلا وقسم يجوز نقله مطلقا وهذا القسم ينبغي نقله عندهم على الوجه المسموع من غير تغيير يوجب طعنهم والمراد بالكلام هنا هو هذا القسم وهو لكونه من الحكيم العادل غير مشتمل على ما توجب طعنهم وبغضهم صريحا وأذية وأذى شيعته وإلا لمنع نقله عندهم كالأول.

* الأصل:

294 - وهيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل، «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة» قال هي شفاعتهم ورجاؤهم يخافون أن ترد عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا الله عز ذكره ويرجون أن يقبل منهم.

* الشرح:

قوله: (عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة» قال: هي شفاعتهم ورجاؤهم يخافون أن ترد عليهم أعمالهم أن لم يطيعوا الله عز ذكره) بفتح الهمزة علة للخوف (ويرجون أن يقبل منهم) الإيتاء: الإعطاء وضمير هي راجع إلى ما والتأنيث لرعاية المعنى أو باعتبار الخبر والمراد بشفاعتهم ورجائهم شفاعة الأئمة لهم ورجاؤهم لها ولقبول الأعمال لمحبتهم فالآية في وصف المحبين للأوصياء بأنهم مع ذلك يخافون أن ترد عليهم أعمالهم لأجل أنهم لم يطيعوا الله عز وجل في الأمر بمحبتهم وطاعتهم كما هي ويرجون أن تقبل منهم أعمالهم باعتبار الانتساب إليهم والإقرار بولايتهم وتفسيرها بهذا ذكره أبو عبد الله (عليه السلام) قبل حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذيل حديث نادر.

* الأصل:

295 - وهيب بن حفص، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من عبد يدعوا إلى ضلالة إلا وجد من يتابعه.

* الشرح:

قوله: (قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما من عبد يدعوا إلى ضلالة إلا وجد من يتابعه) لكثرة الجهلة وميل طبايعهم إلى الباطل ولذلك كانت دولة الباطل أشد وأدوم من دوله الحق كما مر وفيه تسلية لأهل الحق في قتلهم وحث في الصبر عليه.

* الأصل:

296 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن الصلت، عن رجل من أهل بلخ

ص:335

قال : كنت مع الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان فدعا يوما بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغير هم فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال: مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والام واحدة والأب واحد والجزاء بالأعمال.

* الشرح:

قوله: (فقال له: إن الرب واحد والدين واحد والأم واحدة والأب واحد والجزاء بالأعمال) ترغيب في حسن المعاشرة بخلق الله ولو كانوا مماليك وجهالا وضعفاء، وفي العمل الصالح فإن به النجاة والتقرب إلى الله تعالى والجزاء.

* الأصل:

297 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول:

طبايع الجسم على أربعة فمنها الهواء الذي لا يحيي النفس إلا به وبنسيمه ويخرج ما في الجسم من داء وعفونة، والأرض التي قد تولد اليبس والحرارة، والطعام ومنه يتولد الدم ألا ترى أنه يصير إلى المعدة فتغذيه حتى يلين ثم يصفوا فتأخذ الطبيعة صفوه دما ثم ينحدر الثفل والماء وهو يولد البلغم.

* الشرح:

قوله (طبايع الجسم على أربعة) الطبايع جمع طبيعة كالصبايح جمع صبيحة أو جمع طباع بالكسر كالشمائل جمع شمال والطبيعة والطباع ما ركب في الإنسان من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلة ولعل المقصود أن بقاء جسم الإنسان ودوام نظامه إلى أجل مقدر موقوف على أربعة أشياء فلابد من طلب ما هو أوفق به (فمنها الهواء الذي لا يجيء النفس إلا به وبنسيمه ) النسيم أول الريح إذا كان ضعيفا لينا ولا يجيء بالجيم، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة من الحياة (ويخرج ما في الجسم من داء وعفونة بمروره عليه في الخارج ودخوله فيه وخروجه لأن لتحرك النفس تأثيرا عظيما في دفع الداء والعفونة والفضلات البدنية ومنها الأرض التي تولد اليبوسة والحرارة في البدن. أما تولد اليبوسة فباعتبار المجاورة وأما توليد الحرارة فاما لأن شعاع الشمس ينعكس من الأرض إلى البدن كما قيل أو لأن اليبوسة توجب جمود البدن المقتضي لاحتباس الحرارة الغريزية فيه وهي موجبة لقوة المزاج (ومنها الطعام ومنه يتولد الدم) أي من الطعام يتولد الدم الذي له مدخل تام في بقاء الحياة حتى قيل أنه روح البدن وكذا يتولد منه السوداء والصفراء كما ذكره الأطباء (ألا ترى أنه) أي ألا ترى برؤية عقلية وبصيرة ذهنية (أن الطعام يصير إلى المعدة) التي أولها فضاء الفم وفيه ابتداء الهضم (فتغذيه) أي تربيه (حتى يلين)

ص:336

ويصير كيلوسا ثم يصفو فيأ خذ الطبيعة صفوه دما) وتوصل إلى كل عضو حظه ونصيبه بدلا لما يتحلل منه ثم تجعله القوة المشبهة شبيها بالعضو (ثم ينحدر الثفل) إلى الأمعاء المعدة له دافعة (ومنهما الماء وهو يولد البلغم) الذي هو خلط من أخلاط البدن والقدر الصالح منه نفع فيه ومن منافع الماء أيضا ترقيق الغذاء وتلطيفه وإعانته في نفوذه في المجاري الضيقة.

* الأصل:

298 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن الحسين بن أعين أخي مالك بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الرجل للرجل: جزاك الله خيرا، ما يعني به؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن خيرا نهر في الجنة مخرجه من الكوثر، والكوثر مخرجه من ساق العرش عليه منازل الأوصياء وشيعتهم، على حافتي ذلك النهر جواري نابتات، كلما قلعت واحدة نبتت اخرى سمي (1) بذلك النهر وذلك قوله تعالى: «فيهن خيرات حسان» فإذا قال الرجل لصاحبه: جزاك الله خيرا، فإنما يعني بذلك تلك المنازل التي قد أعدها الله عز وجل لصفوته وخيرته من خلقه.

* الشرح:

قوله: (إن خيرا نهر في الجنة. انتهى) هذا هو الفرد الخفي للخير والجلي بحسب الرتبة والشرف والعرش هو الجسماني وحمله على الرحمة أو القدرة ممكن و «جواري» في بعض النسخ بالجيم جمع جارية وفي بعضها بالحاء المهملة جمع حوراء على احتمال وضمير فيهن راجع إلى الجنان أو إلى آلائها والخيرات جمع خير بالتشديد فخفف لأن المخفف للتفضيل لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وهن حسان في الخلق والخلق والصورة ولا ينبغي استبعاد ما ذكره (عليه السلام) لأن من يقدر أن يخلق من تراب آدم ومن خشبة حية ويخرج من الأرض إلا موات يقدر أن يخلق في الجنة ما ذكر لإظهار قدرته وتفريح المؤمن.

* الأصل:

299 - وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن في الجنة نهرا خافتاه حور نابتات فإذا مر المؤمن باحداهن فأعجبته اقتلعها فأنبت الله عز وجل مكانها.

ص:337


1- 1 - سمي مجهول والنهر نائب الفاعل ويمكن أي يقرأ على المعلوم أي سماه الله بما في الآية.

* الشرح:

قوله: (إن في الجنة نهرا خافتاه حور نابتات) هن نساء أهل الجنة واحدتهن حوراء وهي الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها كالظباء ولا تطلق على نساء الدنيا إلا على سبيل الاستعارة.

ص:338

حديث القباب

* الأصل:

300 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الوشآء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء فقال: يا أبا حمزة هذه قبه أبينا آدم (عليه السلام) وإن الله عز وجل سواها تسعة وثلاثين قبه فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين.

(حديث القباب) القباب بالكسر جمع القبة بالضم وهي البناء والخيمة (هذه قبة أبينا آدم (عليه السلام).

انتهى) كأنه أشار بهذه إلى السماء الدنيا وعندها قبة آدم باعتبار أنها خلقت له ولذريته كما نطقت به الآيات والروايات أو باعتبار أنه لم تكن له (عليه السلام) قبة سواها وأراد بتسعة وثلاثين ما فوقها من السماوات ولا دليل عقلا ونقلا على انحصار السماوات في تسع بل يجوز العقل الأقل والأكثر، وأراد بالخلق الملائكة أو الأعم الشامل للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وأيضا أو أشار إلى قبه (عليه السلام) في الجنة وأراد بتسعة وثلاثين القباب التي فيها والجنة موجودة في السماء كما ذهب إليه أهل الحق، والحديث التالي يؤيد الأول مع ما فيه من التنبيه على رفض البناء في الدنيا وتزيينه وتذهيبه فإن هذه القبة الخضراء تكفيك كما كانت لأبيك.

* الأصل:

301 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن عجلان أبي صالح قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك هذه قبة آدم (عليه السلام)؟ قال: نعم ولله قباب كثيرة، ألا إن خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغربا أرضا بيضاء مملوة خلقا يستضيئون بنوره لم يعصوا الله عز وجل طرفة عين، ما يدرون خلق آدم أم لم يخلق، يبرؤون من فلان وفلان.

* الشرح:

قوله: (ألا أن خلف مغربكم هذا تسعة وثلاثون مغربا أرض بيضاء. انتهى) المشارق والمغارب كثيرة غير محصورة إذ ما من مشرق لبلد إلا وهو مغرب لبلد يقابله والمغرب بالعكس والأرض البيضاء الأرض الملساء والظاهر أن الضمير في نوره راجع إلى الله تعالى، والمراد به العلم الفائض عليهم وإرجاعه وجعل التذكير باعتبار أنها مؤنث غير حقيقي وبراءتهم من فلان وفلان باعتبار أنه

ص:339

تعالى ألهمهم خبث ذواتهما وقبح صفاتهما ولا يتوقف ذلك على علمهم بنسبهما وأنهما من أولاد آدم فلا ينافي قوله (ما يدرون خلق آدم لم يخلق) وتسليم مضمون الحديث والإقرار به لازم (1) ولا يجوز أن يستبعد العاقل أو ينكر ما لم يدركه خصوصا إذا أخبر المخبر الصادق (عليه السلام) بوجوده.

* الأصل:

302 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من خصف نعله ورقع ثوبه وحمل سلعته فقد برئ من الكبر.

* الشرح:

قوله: (من خصف نعله ورقع ثوبه وحمل متاعه فقد برئ من الكبر) أي من خصف نعله أي حرزها بنفسه أو بغيره من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء. ورقع ثوبة كمنع: رمه وأصلحه بالرقعة وهي بالضم ما يرقع به الثوب وحمل متاعه بيده أو رأسه أو ظهره «فهو بريء منزه عن الكبر هذا إذا كان من باب القناعة والخلوص لله وأما إذا كان لصرف وجوه الناس إليه فهو من أسباب الكبر كالمال والجاه ونحوهما.

* الأصل:

303 - عنه، عن صالح، عن محمد بن اورمة، عن ابن سنان، عن المفضل بن عمر قال: كنت

ص:340


1- 1 - قوله: «والإقرار به لازم» لم أعرف وجه كلام الشارح فإن أبا يحيى الواسطي سهيل بن زياد ذكره العلامة (رضي الله عنه) في الضعفاء وكذلك ابن داود وعلى فرض الصحة لم يقل أحد من محصلي أصحابنا بوجوب الاقرار والتسليم بحديث الآحاد خصوصا إذا لا يعرف معناه ولا يتجه إلا بتكليف، فإن قيل يؤيده الحديث المذكور قبله قلنا بينهما فرق بين لأن المغرب خلف المغرب غير معقول وأما وجود قبة سوى هذه القبة معقول وصرح الشارح رحمه الله بأن المغارب غير محصورة فيكيف يوجه انحصاره في تسعة وثلاثين فإن قيل وجود قبة غير هذه القبة أيضا مخالف لصريح القرآن الكريم سبع سماوات طباقا» وخلقنا فوقكم سبعا شدادا» والقباب التسعة والثلاثين لا يمكن أن تكون تحت السماوات ولا فوقها قلنا: أو لا لم يقل أحد من الحكماء ألا وائل والأواخر بانحصار السماوات في عدد معين بدليل عقلي ولا أهل الشرع بدليل نقلي كما ذكر الشارح وإنما ذكر من ذكر التسع أو السبع لأن ما اطلعوا عليه وقادتهم الحجة إليه ورأوا من اختلاف حركات الكواكب يقتضي أفلاكا أقلها ما ذكروه وكذلك مراد مشائي المسلمين من العقول العشرة أن هذا أقل عدد يعتقدونه لا أن لهم دليلا على الانحصار وقد صرحوا بذلك وعلى هذا فلا ينكر أن يكون خارج هذه القبة الزرقاء قباب كثيرة ثم أن هذه القبة الزرقاء ليس سماء في اصطلاح المنجمين والحكماء وقد صرح الطوسي رحمه الله بأن هذه الزرقة من اختلاط النور والظلمة في الفضاء وأن السماوات شفافة ليست بمرئية فلا يبعد أن يكون تخيل الزرقة في مواضع كثيرة من الفضاء والله العالم (ش).

أنا والقاسم شريكي ونجم بن حطيم وصالح بن سهل بالمدينة فتناظرنا في الربوبية قال: فقال بعضنا لبعض: ما تصنعون بهذا؟ نحن بالقرب منه وليس منا في تقية قوموا بنا إليه، قال: فقمنا فوالله ما بلغنا الباب إلا وقد خرج علينا بلا حذاء ولا رداء قد قام كل شعرة من رأسه منه وهو يقول لالا يا مفضل ويا قاسم ويا نجم، لالا بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

* الشرح:

قوله: (عن المفضل قال: كنت أنا والقاسم شريكي ونجم بن حطيم وصالح بن سهل بالمدينة) المفضل ابن عمر من أصحاب الصادق والكاظم (عليهما السلام)، نقل عن النجاشي أنه كان فاسد المذهب خطابيا والمفيد في ارشاده عده من شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين، وشريكه القاسم بن عبد الرحمن الصيرفي من أصحاب الصادق (عليه السلام)، ويجيء في آخر هذا الكتاب من المصنف أنه كان رجل صدق، ونجم بن حطيم العجلي الكوفي من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ومات في حياة أبي الحسن (عليه السلام) وصالح بن سهل من أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) ونقل العلامة عن الكشي وأنه قال: روى محمد بن أحمد عن محمد بن الحسين عن الحسن بن علي الصيرفي عن صالح بن سهل قال كنت أقول في أبي عبد الله (عليه السلام) بالربوبية فدخلت عليه فلما نظر إلي قال: «يا صالح إنا والله عبيد مخلوقون لنا رب نعبده وأن لم نعبده عذبنا» (فتناظرنا في الربوبية قال: فقال بعضنا لبعض ما تصنعون بهذا ونحن في قرب منه وليس منا في تقية فقوموا بنا إليه. انتهى) الظاهر أن ضمير منه وليس واليه راجع إلى الصادق (عليه السلام) وبناء المناظرة على أن بعضهم قال بربوبيته قال الأمين الأسترآبادي كان بعض الشيعة من ضعفاء العقول بعدما شاهدوا ظهور بعض الخوارق عن الأئمة (عليهم السلام) وسوس الشيطان في قلوبهم أن الله فوض كاينات الجو إلى محمد وعلي وأولادهما الطاهرين (عليهم السلام) بعد أن خلقهم كما في آخر شرح المواقف واشتهر من جماعة من الغلاة في حق أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الأصل:

304 - عنه، عن صالح، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لإبليس عونا يقال له تمريح، إذا جاء الليل ملأ ما بين الخافقين.

* الشرح:

قوله: (إن لإبليس عونا يقال له تمريح) تسميه بالمصدر للمبالغة في إفساده وتخليطه من المرج بالتحريك: وهو الفساد والاختلاط ومنه أمر مريج أي فاسد مختلط وفي بعض النسخ بالحاء المهملة من المرح: وهو الفساد وفي بعضها بالخاء المعجمة من المرخ وفي الكنز مرخ «آلودن» لأنه

ص:341

يمرخ الإنسان ويدنسه بالمعاصي والمرخ أيضا: الجري والسرعة وهو يسرع في أمره ويحري عساكره في أقطار الأرض (ويملأ ما بين الخافقين دفعة والخافقان المشرق والمغرب أو أفقاهما لأن الليل والنهار يختلفان فيهما أو طرفا السماء والأرض أو منتهاهما.

* الأصل:

305 - عنه، عن صالح، عن الوشاء، عن كرام، عن عبد الله بن طلحة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوزغ فقال: رجس وهو مسخ كله فإذا قتلته فاغتسل فقال: إن أبي كان قاعدا في الحجر ومعه رجل يحدثه فإذا هو بوزغ يولول بلسانه فقال أبي للرجل: أتدري ما يقول هذا الوزغ؟ قال: لا علم لي بما يقول، قال: فانه يقول: والله لئن ذكرتم عثمان بشتيمة لأشتمن عليا حتى تقوم من ههنا، قال: وقال أبي: ليس يموت من بني أمية ميت إلا مسخ وزغا قال: إن عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا فذهب من بين يدي من كان عنده وكان عنده ولده فلما أن فقدوه عظم ذلك عليهم فلم يدروا كيف يصنعون ثم اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيصنعوه كهيئة الرجل قال: ففعلوا ذلك وألبسوا الجذع درع حديد ثم لفوة في الأكفان فلم يطلع عليه أحد من الناس إلا أنا وولده.

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوزغ فقال رجس وهو مسخ كله) الوزغ: جمع الوزغة محركه وهي سام أبرص وفي الكنز سوسمار، والرجس: القذر النجس ويحرك ويفتح الراء ويكسر الجيم والمسخ تحويل صورة إلى أخرى أقبح منها ومسخه الله قردا فهو مسخ ومسيخ. (فإذا قتلته فاغتسل) الحكمة للاغتسال خفية ولا يبعد أنها للخروج من الذنوب كالغسل بعد التوبة والأمر بقتله في كتب العامة أيضا روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا، وعنه (صلى الله عليه وآله) « من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك» قال صاحب كتاب إكمال الإكمال: أقل درجات الأمر بقتلها الندب وسماها فويسقا لأن أصل الفسق الخروج وقد حرجت عن أبناء جنسها من الحشرات بكثرة أذايتها فإن لها أنواعا من الأذاية، وقال عياض: تكثر أجر من قتلها بالضربة الأولى على أجر من قتلها في الضربة الثانية عكس ما ألف من الشريعة بأن أكثر ما جاء من تكثره إنما هو على كثرة العمل فالله سبحانه أعلم بحكمة ذلك ولعل الحكمة فيه الحض على المبادرة إلى قتلها والحث على تعجيله خوف أن يفوت (فإذا هو بوزغ

ص:342

يولول بلسانه) في القاموس الولوال: البلبال والدعاء بالويل.

ولولت المرأة ولو إلا أعولت، وفي النهاية الولولة: صوت متتابع بالويل والاستغاثة وقيل: هي حكاية صوت النائحة، قال: (فإنه يقول: والله لئن ذكرتم عثمان بشتيمة لا شتمن عليا حتى تقوم من هنا) كراهة لاستماع شتمه (عليه السلام) والشتيمة: اسم لما يشتم به وهو السب الفعلة من باب نصر وعلمه بأنه (عليه السلام) كان على الحق وعثمان على الباطل لا ينافي عداوته فإن العداوة بين المؤمن والكافر لا تزول في البرزخ بل في القيامة أيضا كما قال خليل الرحمن «وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة» (وقال: إن عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا فذهب بين يدي من كان عنده) قد تكثرت الأخبار من طرق العامة والخاصة على انتقال الروح الإنساني من بدن إلى بدن آخر إما في هذا العالم أو في عالم آخر ومن هذا القبيل مسخ بعض الأمم الماضية كما نطق به القرآن الكريم وتعلق الروح بعد مفارقة البدن بمثال شبيه به بحيث لو رأيته لقلت هذا ذاك وليس هذا قولا بالتناسخ الذي أبطله المسلمون وذهب إليه الملاحدة وقسموه إلى أربعة أقسام: النسخ والمسخ والفسخ والرسخ وذهبوا إلى أن الأرواح في هذا العالم دائما ينتقل من محل إلى محل آخر ومن بدن إلى بدن آخر بلا انقطاع وأنكروا إنشاؤه الأخروية وإعادة الأجسام فيها وسائر أحوالتها وقالوا بقدم العالم والتناسخ بهذا المعنى أبطله أهل الإسلام وحكموا بكفر القائل به وأما متعلق الروح ببدن آخر إلى أن تقوم القيامة وتعود إلى البدن الأصلي فهذا عند أهل الشرع ليس من باب التناسخ وإن سميته به فلا مشاحة في التسمية إلا أن الأولى عدم هذا التسمية لئلا يقع الالتباس وقد صرح بما ذكرنا شيخ المحققين في الأربعين ونقل عن الفخر الرازي في باب تعلق الأرواح بعد خراب البدن بالمثال أنه قال في نهاية العقول المسلمون يقولون بحدوث الأرواح وردها إلى الأبدان لا في هذا العالم والتناسخية يقولون بقدمها وردها إليها في هذا العالم وينكرون الآخرة والجنة والنار وإنما كفروا من جهة هذا الإنكار، والفرق بين القولين ظاهر (1).

(ثم اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا) الجذع بالكسر ساق النخلة والباس الحديد ليثقل على الحامل.

* الأصل:

306 - عنه، عن صالح، عن محمد بن عبد الله بن مهران، عن عبد الملك بن بشير، عن عيثم بن سليمان، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا تمنى أحدكم القائم فليتمنه في عافية

ص:343


1- 1 - قوله «والفرق بين القولين ظاهر» هذا هو القول الفصل والفرق بين التناسخ وهو متعلق الروح بالبدن المادي وهذا المسخ وهو تعلق الروح بالبدن البرزخي مما لا ريب فيه وقد بين ذلك في غير موضع لكن لا يراه غير الأولياء أو غيرهم بتصرفهم (ش).

فان الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) رحمة ويبعث القائم نقمة.

* الشرح:

قوله: (إذا تمنى أحدكم القائم) أي إذا تمنى أحدكم ظهور القائم (عليه السلام) (فليتمنه في عافيته) وهي كونه على دين الحق ومتابعته ظاهرا وباطنا (فإن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) رحمة) للعباد بالمداراة مع أهل النفاق وأهل الكتاب والكفرة وأهل الأمان وقبول الجزية والعمل بظاهر الشرع (ويبعث القائم نقمة) عليهم وهو الحكم بعلمه وعدم تقرير أحد على الباطل وقتل الكفرة إلى أن يؤلوا إلى الحق.

* الأصل:

307 - عنه، عن صالح، عن محمد بن عبد الله، عن عبد الملك بن بشير، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: كان الحسن (عليه السلام) أشبه الناس بموسى بن عمران ما بين رأسه إلى سرته، وأن الحسين أشبه الناس بموسى بن عمران ما بين سرته إلى قدمه.

* الشرح:

قوله: (كان الحسن (عليه السلام) أشبه الناس بموسى بن عمران ما بين رأسه إلى سرته وأن الحسين (عليه السلام) أشبه الناس بموسى بن عمران ما بين سرته إلى قدمه) علمه بذلك إما بإخبار النبي (صلى الله عليه وآله) أو بإخبار الملك المحدث له أو برؤيته موسى والحسنين (عليهم السلام) وقد مر أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يرون الأنبياء والأوصياء في كل ليلة الجمعة، وفي كثير من النسخ «عن أبي الحسن (عليه السلام) قال كان الحسين (عليه السلام) أشبه الناس بموسى بن عمران ما بين سرته، إلى قدمه» وليس فيه ذكر الحسن (عليه السلام).

* الأصل:

308 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن مقاتل بن سليمان (1) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم كان طول آدم (عليه السلام) حين هبط به إلى الأرض وكم كان طول حواء؟، قال: وجدنا في كتاب علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن الله عز وجل لما أهبط آدم وزوجته حواء (عليهما السلام) إلى الأرض كانت رجلاه بثنية الصفا ورأسه دون افق السماء، وإنه شكا إلى الله ما يصيبه من حر الشمس فأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل (عليه السلام) أن آدم قد شكا ما يصيبه من حر الشمس فأعمره غمزة وصير طوله سبعين ذراعا بذراعه وأغمز حواء غمزة فصير طولها خمسة وثلاثين ذراعا

ص:344


1- 1 - (عن مقاتل بن سليمان) بتري عامي ضعيف لا يحتج بقوله ولا يلزمنا التكلف في تصحيح روايته (ش).

بذرعها.

* الشرح:

قوله: (كانت رجلاه بثنية الصفا ورأسه دون أفق السماء) في النهاية الثنية في الجبل: كالعقبة فيه، وقيل هو الطريق العالي فيه، وقيل: أعلى المسيل في رأسه والأفق بالضم وبضمتين: الناحية فهو كناية عن طول قامته كثيرا ولم يعلم به مقداره حقيقة) فأغمز غمزة وصير طوله سبعين ذراعا بذراعه. انتهى) الغمز: الحصر والكبس باليد، والذراع بالكسر: من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى ولا خفاء ما فيه من الغرابة والإشكال إذ قامة كل أحد ثلاثة أذرع ونصف بذراعه وليس أحد سبعين ذرعا أو ثلاثين ذراعا بذراعه إذ هو مع كونه خلاف الواقع يوجب خروج اليد عن استواء الخلقة والحوالة على المجهول والذي يخطر بالبال من باب الاحتمال إن ضمير ذراعه وذراعها راجع إلى آدم وحواء باعتبار فرد آخر من الرجل والأنثى المعلومين في عصره (عليه السلام) من باب الاستخدام وفي رواية مسلم عن النبي (عليه السلام) قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا» ولا شك أن المراد بالذراع في حديثه الذراع المعهود في عصره (صلى الله عليه وآله) لئلا يلزم الحوالة على المجهول وهو مؤيد لما ذكرناه وأما قوله ستون ذرعا فيمكن أن يكون من سهو الراوي وتبديل السبعين بالستين وحمل الذراع في حديثنا على ما يذرع به الثوب ونحوه مع كونه بعيدا جدا لا يدفع القصور في الحوالة على المجهول والله يعلم.

* الأصل:

309 - عنه، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن الحارث بن المغيرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب أباه سبي في الجاهلية فلم يعلم أنه كان أصاب أباه سبي في الجاهلية إلا بعد ما توالدته العبيد في الإسلام واعتق، قال: فقال: فلينسب إلى آبائه العبيد في الاسلام، ثم هو بعد من القبيلة التي كان أبوه سبي فيها إن كان] أبوه [معروفا فيهم ويرثهم ويرثونه.

* الشرح:

قوله: (عن الحارث بن المغيرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب أباه سبي في الجاهلية فلم يعلم أنه كان أصاب أباه سبي في الجاهلية إلا بعد ما توالدته العبيد في الإسلام وأعتق) أي أعتق ذلك الرجل وهو عطف على توالدته والضمير المنصوب راجع إليه والمراد بأبيه

ص:345

الذي سبي جد من أجداده (1) بقرينة قوله توالدته العبيد لدلالته على أن له آباء كلهم عبيد (قال: فقال:

فلينسب) أي ذلك الرجل (إلى آبائه العبيد في الإسلام) لا إلى من سبى أباه لظهور أن الولد ينسب في النسب إلى آبائه (ثم هو) أي ذلك الرجل (يعد من القبيلة التي كان أبوه سبي فيها فهو) مثلا قيسي أن كان أبوه من قبيلة قيس وتميمي فإن كان من قبيلة تميم (إن كان معروفا فيهم) أي إن كان أبوه أو هو معروفا في كونه من تلك القبيلة وإلا فلا يجوز أن يعد منهم لأن من ليس من أولاد قيس مثلا ولا ينسب إليه لا يعد من أولاده (ويرثهم ويرثونه) أي يرث ذلك الرجل تلك القبيلة ويرثونه ان كان بينه وبينهم قرابة موجبة للإرث مع شرائط، واعلم أن ذلك الحكم غير مختص بالرجل المذكور لأن كل رجل حرا كان أو عبدا معتقا كان أ / غير معتق ينسب إلى آبائه أحرارا كانوا أم عبيدا في الإسلام أم في الكفر لأن النسب لا يتغير ولا يتبدل بتلك الأوصاف، وكذا كل اثنين بينهما قرابة موجبة للإرث بشرائطه يقع التوارث بينها إلا أن السائل لما سأل عن الرجل المذكور أجاب (عليه السلام) على وفق سؤاله.

* الأصل:

310 - ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أعطى المؤمن ثلاث خصال: العز في الدنيا والآخرة والفلج في الدنيا والآخرة والمهابة في صدور الظالمين.

* الشرح:

قوله (ان الله تبارك وتعالى أعطى المؤمن ثلاث خصال العزة في الدنيا والآخرة)

ص:346


1- 1 - (جد من أجداده). مسألة كانت مبتلى بها في صدر الإسلام فإن قبائل العرب في الجاهلية كانوا يغيرون بعضهم على بعض ويتخذون الأسارى عبيدا وربما بقي منهم من أدرك الإسلام وجرى عليهم العبودية والسؤال عن صحة الاسترقاق الواقع في الجاهلية على خلاف قواعد الشرع فإن الاسترقاق المشروع أن يتخذ المؤمن من المشرك لا المشركون بعضهم من بعض فأجاب (عليه السلام) باستمرار ملك العبد الثابت في الجاهلية بعد الاسلام أيضا كما في ساير أملاكهم وعقودهم، فإن من اشترى شيئا في الجاهلية وملكه بوجه محرم في الإسلام جائز قبل الإسلام يبقى حكم الملك على ما كان وإلا وقع الهرج والمرج، والرجل الذي سبي جده في الجاهلية وبقى هو وأولاده مستمرين على الرقية بعد السلام أيضا ينسب إلى آبائه الأرقاء باعتبار بقاء حكم الرقية فيهم وأما الانتساب إلى القبائل فأمر عرفي لم يبطله الشرع وكان لهم قانون معروف وهو أن العبيد كانوا يعدون من قبائل أربابهم فإذا اسر هاشمي مثلا عبدا غير معروف أبوه وقبيلته يقال هذا العبد هاشمي بالولاء أو يقال هاشمي مولاهم وبين الإمام (عليه السلام) أن العبد المأسور هكذا يعد من قبيلة أربابه إذا لم يعرف نسبه أو كان من غير العرب وأما العربي المعروف كما في مورد المسألة يعد من قبيلته الأصلية هكذا ينبغي أن يفهم هذا الحديث (ش).

الخصال بالكسر:

جمع الخصلة بالفتح وهي الفضيلة، والعزة الغلبة وخلاف الذلة، والمؤمن غالب في الحجة على قصمه وعزيز غير ذليل عنده تعالى في الدنيا والآخرة «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» (والفلح في الدنيا والآخرة) الفلح بالحاء المهملة والتحريك: الفوز والنجاة والنقاء في الخير كالفلاح، وبالجيم: الظفر بالمقصود والفوز بالمطلوب والمؤمن فايز في الدنيا بالصراط المستقل وفي الآخرة بجنات النعيم (والمهابة في صدور الظالمين) لأن المؤمن يكون من الله قريبا حتى لو كشف الغطاء لرأيت أمرا عجيبا فلذلك يهابه الناس خصوصا الظالمون لأنهم يهابون الله ويخافونه ولذلك كان المشركون مع كثرة عددهم وغاية شوكتهم يخافون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه مع قلة عددهم وضعف عدتهم كما نطق به القرآن الكريم.

* الأصل:

311 - ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ثلاثة هن فخر المؤمن وزينته في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولايته الإمام من آل محمد (صلى الله عليه وآله) قال: وثلاثة هم شرار الخلق ابتلى بهم خيار الخلق: أبو سفيان أحدهم قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعاداه، ومعاوية قاتل عليا (عليه السلام) وعاداه، ويزيد بن معاوية لعنه الله قاتل الحسين بن علي (عليهما السلام) وعاداه حتى قتله.

* الشرح:

قوله: (ثلاث هن فخر المؤمن وزينته في الدنيا والآخرة. انتهى) الفخر ويحرك: التمدح بالخصال والكبر والعظم والشرف كالافتخار ولعل المراد أن الثلاثة زينة كاملة للمؤمن صالحة الفخر بها لو جاز الفخر ولو ذكرها المؤمن من حيث أنها نعم جليلة أعطاه الله إياها ووفقه لها فهو جائز بل هو شكر كما قال سيد المرسلين «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»: أي لا أقوله تكبرا وتعظما بل شكرا وتحدثا بنعمته.

* الأصل:

312 - ابن محبوب، عن مالك بن عطيه، أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لا حسب لقرشي ولا لعربي إلا بتواضع، ولا كرم إلا بتقوى، ولا عمل إلا بالنية ولا عبادة إلا بالتفقه، ألا وإن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله.

ص:347

* الشرح:

قوله: (لا حسب لقرشي ولا لعربي إلا بتواضع) الحسب: الشرف والكمال، والقرشي بضم القاف وفتح الراء: منسوب إلى قريش على غير قياس قريشى بإثبات الياء، والتواضع من الوضع: خلاف الرفع والتكبر، والمراد به التواضع لرب العالمين ولرسوله وأوليائه وللمؤمنين ومن تواضع وأظهر الذل والانكسار لهم فهو ذو شرف وكمال رفع الله قدرة في الدينا والآخرة ومن تكبر عليهم فهو خسيس ناقص خفضه الله فيهما (ولا كرم إلا بتقوى) وهي اتخاذ الوقاية من عقوبة الله تعالى وسخطه بترك المعصية وفعل الطاعة (ولا عمل إلا بالنية) لأن عمل القلب والجوارح تابع للنية فإن صحت صح وإن فسدت فسد وإن شئت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرناه في باب النية وغيره من كتاب الكفر والإيمان (ولا عمل إلا بالتفقه) لأن الإتيان بالعمل المطلوب شرعا متوقف على معرفة حقيقة العمل وأجزائه وأركانه وشرائطه ومصلحه ومفسده وكيفيته وحدوده ومن ثم روى أن الجاهل إصلاحه للعمل أكثر من إفساده (وإن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ولا يقتدي بأعماله) قال أبو جعفر على سبيل الإنكار: «حسب الرجل أن يقول أحب عليا وأتولاه ثم لا يكون فعالا فلو قال: إني أحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) خير من على ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه وقال: من كان لله مطيعا فهو لنا ولى ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع» الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

* الأصل:

313 - ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج (1) فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد:

أتقر لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرققتك فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسبا ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام وما أنت بأفضل

ص:348


1- 1 - قوله: (وهو يريد الحج) ذكر العلماء الأصوليون من علائم كذب الخبر عدم تواتر ما من شأنه أن يتواتر ومثلوا لذلك بخبر سقوط المؤذن من المنارة يوم الجمعة في المسجد الجامع إذا لم يتواتر، ووجود بلد عظيم بين بغداد وسرمن رآه لم يره أحد، وسفر يزيد إلى الحجاز لم ينقله أحد ولو كان حقا بتواتر واستوجه العلامة المجلسي (رضي الله عنه) بسهو الراوي واشتباه يزيد بمسلم بن عقبة وهو خلاف عبارة الرواية فإن مسلم بن عقبة لم يكن قريشا، والظاهر سراية السهو إلى المتن أيضا والصحيح ما في مروج الذهب أن مسلم بن عقبة لما نظر إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) سقط في يديه وقام واعتذر منه وأرجعه بتكريم وقيل له رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه فلما أتي به إليك رفعت منزلته فقال ما كان ذلك لرأي مني لقد ملىء قلبي منه رعبا (ش).

مني في الدين ولا بخبر مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين ابن علي (عليهما السلام) ابن رسوله (صلى الله عليه وآله) فأمر فقتل.

(حديث علي بن الحسين (عليهما السلام) مع يزيد لعنه الله» ثم أرسل إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال له مثل مقالته للقرشي فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام).

أرأيت إن لم أقر لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس فقال له يزيد لعنه الله: بلى فقال له علي ابن الحسين (عليهما السلام): قد أقررت لك بما سألت أنا عبد مكروه فإن شئت فأمسك وإن شئت فبع، فقال له يزيد لعنه الله: أولى لك حقنت دمك ولم ينقصك ذلك من شرفك.

* الشرح:

قوله: (فقال له يزيد لعنه الله أولى لك) أي هذا القول أولى لك وأنفع من تركه.

314 - الحسين بن محمد الأشعري، عن علي بن محمد بن سعيد، عن محمد بن سالم بن أبي مسلمة، عن محمد بن سعيد بن غزوان قال: حدثني عبد الله بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام). إن لي جارين أحدهما ناصب والآخر زيدي ولابد من معاشرتهما فمن اعاشر؟ فقال: هما سيان، من كذب بآية من كتاب الله فقد نبذ الإسلام وراء ظهره وهو المكذب بجميع القرآن والأنبياء والمرسلين قال: ثم قال: إن هذا نصب لك وهذا الزيدي نصب لنا.

* الشرح:

قوله: (ثم قال: إن هذا نصب لك وهذا الزيدي نصب لنا) فيه أن هذا نصب له (عليه السلام) أيضا لأنه رد إمامه ورفض مذهبه وهذا الزيدي نصب للقائل أيضا لذلك ويمكن أن يوجه بأن القضية شخصية كما يشعر به لفظ هذا وأن النصب متوقف على العلم بالرفض وأن هذا الزيدي لم يكن عالما برفض القائل وهذا الناصب لم يكن عالما برفضه فليتأمل.

315 - محمد بن سعيد قال: حدثني القاسم بن عروة، عن عبيد بن زرارة، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من قعد في مجلس يسب فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله عز وجل الذل في الدنيا وعذبه في الآخرة وسلبه صالح ما من به عليه من معرفتنا.

* الشرح:

قوله: (من قعد في مجلس يسب فيه امام من الأئمة يقدر على الانتصاف. انتهى) في الكنز انتصاف «دادستانده» وذلك إما بزجره أو إلزامه بالحجة أو ضربه أو قتله ولو قدر على إلزامه بالحجة

ص:349

وصرفه عن الباطل وعلى قتله فالراجح الأول لأن فيه إحياء النفس عن الموت الحقيقي، ولو لم يقدر على شيء فلا يبعد القول بوجوب القيام عليه كمال يدل عليه ظاهر بعض الروايات.

* الأصل:

316 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن ابن فضال عن إبراهيم ابن أخي أبي شبل ، عن أبي شبل قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) ابتداء منه: أحببتمونا وأبغضنا الناس وصدقتمونا وكذبنا الناس ووصلتمونا وجفانا الناس فجعل الله محياكم محيانا ومماتكم مماتنا أما والله ما بين الرجل وبين أي يقر الله عينه إلا أن تبلغ نفسه هذا المكان - وأومأ بيده إلى حلقه فمد الجلدة - ثم أعاد ذلك فوالله ما رضي حتى حلف لي فقال: والله الذي لا إله إلا هو لحدثني أبي محمد بن علي (عليهما السلام) بذلك يا أبا شبل أما ترضون أن تصلوا ويصلوا فيقبل منكم ولا يقبل منهم، أما ترضون أن تزكوا ويزكوا فيقبل منكم ولا يقبل منهم، أما ترضون أن تحجوا ويحجوا فيقبل الله جل ذكره منكم ولا يقبل منهم والله ما تقبل الصلاة إلا منكم ولا الزكاة إلا منكم ولا الحج إلا منكم فاتقوا الله عز وجل فإنكم في هدنة وأدوا الأمانة فإذا تميز الناس فعند ذلك ذهب كل قوم بهواهم وذهبتم بالحق ما أطعتمونا، أليس القضاة والأمر وأصحاب المسائل منهم؟ قلت: بلى، قال (عليه السلام): فاتقوا الله عز وجل فإنكم لا تطيقون الناس كلهم إن الناس أخذوا ههنا وههنا وإنكم أخذتم حيث أخذ الله عز وجل، إن الله عز وجل اختار من عباده محمدا (صلى الله عليه وآله) فاخترتم خيرة الله فاتقوا الله وأدوا الأمانات إلى الأسود والأبيض وإن كان حروريا وإن كان شاميا.

* الشرح:

قوله: (فجعل الله محياكم محيانا ومماتكم مماتنا) أي جعل الله حياتكم كحياتنا في الاستقامة والهداية والرشاد وموتكم كموتنا على الحق والسعادة والسداد، والمحيا مفعل من الحياة ويقع على المصدر والزمان والمكان وكذلك الممات (أما والله ما بين الرجل منكم وبين أن يقر الله عينه إلا أن تبلغ نفسه هذا المكان. انتهى) أقر الله عينه: من القر بالضم وهي البرد أي أبرد دمعتها وهو كناية عن الفرح والسرور لأن دمعتها باردة أو أراها ما كانت متشوقة إليه من القرار أي أثبتها وأسكنها بمشاهدة الكرامة حتى لا تستشرف إلى غيرها (أما ترضون أن تصلوا ويصلوا فيقبل منكم ولا يقبل منهم. انتهى) فيه تسلية للمؤمنين إذا كما أن هلاكهم يشفي غيظ صدور المؤمنين كذلك بقاءهم على أعمالهم الفاسدة وعدم أجرهم عليها وقبول أعمال المؤمنين وأخذهم أجورها يشفي غيظ

ص:350

صدورهم (فاتقوا الله تعالى فإنكم في هدنة) هي بالضم: المصالحة، وكأنه أمر بالتقية في دولتهم بقرينة التعليل والتقية من تقوى الله تعالى وطاعته (وأدوا الأمانات) إلى أهلها وإن كان كافرا كما يؤتي ويدل عليه الآية الكريمة (فإذا تميز الناس فعند ذلك ذهب كل قوم بهواهم وذهبتم بالحق ما أطعتمونا) التميز عند ظهور الصاحب (عليه السلام) أو عند قيام الساعة والباء في الموضعين للتعدية أو بمعنى مع أوالي، والمراد بالإطاعة المتابعة في الأعمال وحملها على الإقرار بعيد (أليس القضاة والأمراء وأصحاب المسائل منهم. انتهى) الاستفهام للتقريب وأصحاب المسائل هم الفقهاء وأهل الإفتاء وفيه ترغيب في المماشاة معهم والتقية منهم لكثرتهم وقوتهم وضعف الشيعة وقلتهم والحروري الخارجي منسوب إلى حروراء مدا وقصرا هي قرية كان أول اجتماعهم بها والمراد بالشامي بنو أمية أو أهل الشام مطلقا وهم كانوا مرتدين معاونين للمرتد.

* الأصل:

317 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن إبراهيم بن أخي أبي شبل، عن أبي شبل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.

* الأصل:

318 - سهل بن زياد، عن محمد بن سنان، عن حماد بن أبي طلحة، عن معاذ بن كثير قال: نظرت إلى الموقف والناس فيه كثير فدنوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له: إن أهل الموقف لكثير؟ قال:

فصرف ببصره فأداره فيهم ثم قال: ادن مني يا أبا عبد الله، غثاء يأتي به الموج من كل مكان لا والله ما الحج إلا لكم، لا والله ما يتقبل الله إلا منكم.

* الشرح:

قوله: (ثم قال: ادن مني يا أبا عبد الله غثاء يأتي به الموج من كل مكان) فيه إيجاز الحذف أي فدنوت منه فقال يا أبا عبد الله. والغثاء بالضم والمد: ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره.

* الأصل:

319 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا دخلت عليه أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيسرك أن تسمع كلامها؟ فقلت نعم

ص:351

فقال أما الآن فاذن لها قال، وأجلسني معه على الطنفسة ثم دخلت فتكلمت فإذا امرأة بليغة فسألته عنها فقال لها: توليهما؟ قالت: فأقول لربي إذا لقيته إنك أمرتني بولايتهما قال: نعم، قالت فان هذا الذي معك على الطنفسة يأمرني بالبراءة منهما وكثير النوا يأمرني بولايتهما فأيهما خير وأحب إليك، قال: هذا والله أحب إلي من كثير النوا وأصحابه، إن هذا يخاصم فيقول: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون»، «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون».

* الشرح:

قوله: (إن هذا يخاصم فيقول ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. انتهى) مر هذا الحديث متنا وسندا مع شرحه، قال الأمين الأسترآبادي: هذا ناظر إلى دليل شايع بين أصحابنا وأصحاب الأئمة عليهم السلام وكانوا يحتجون به على العامة، وملخصه أن هذه الآيات صريحة في أن من حكم برأيه أي الاجتهاد الظني وأخطأ فهو آثم فاسق صرح بذلك رئيس الطايفة في آخر كتاب العدة في الأصول وقال: هذه مذهب شيخنا أبي عبد الله المفيد ومذهب سيدنا الأجل المرتضى ومذهب جميع المتقدمين والمتأخرين من أصحابنا وحاصل الدليل أنه إذا ثبت حرمة الاعتماد على الاجتهاد الظني فيما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) في الأحكام الخمسة والأحكام الوضعية فتعين أن يكون في الخلق دائما رجل يعلم ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة بوحي إلهي لا رأى ظني بشري وانعقد إجماع المسلمين على أن غير الأئمة الإثنى عشر ليس كذلك فتعين أن يكون هم خزان علم الله وتراجمة وحيه وأن يكونوا مصداق قوله «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون».

أقول: ان أراد بالاجتهاد الظني، الاجتهاد المستند إلى الرأي والقياس فلا نزاع بين الأصحاب في أنه باطل موجب للإثم وإن أراد به الاجتهاد المستند إلى النص المفيد للظن بالحكم فكونه باطلا موجبا للإثم بين جميع المتقدمين والمتأخرين محل كلام ثم مقصوده ان الحكم يجب أن يكون من باب اليقين ولا ريب في أن دلالة الآيات المذكورة على ما ذكره من الحكم ظنية فقد قر في ما فر منه فليتأمل.

* الأصل:

320 - عنه عن المعلى، عن الحسن، عن أبان، عن أبي هاشم قال: لما اخرج بعلي (عليه السلام) خرجت فاطمة (عليها السلام) واضعة قميص رسول الله 9 على رأسها آخذة بيدي ابنيها فقالت: مالي ومالك

ص:352

يا أبا بكر تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي؟ والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي، فقال رجل من القوم: ما تريد إلى هذا، ثم أخذت بيده فانطلقت به.

* الشرح:

قوله: (عن أبي هاشم قال: لما أخرج بعلي (عليه السلام) خرجت فاطمة (عليها السلام)) أي أخرج (عليه السلام) قسرا وقهرا ليبايع أبا بكر ولم يعلم أن هذه قول أبي هاشم أو قول المعصوم.

(لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري) «تكون» تامة والمراد بالسيئة هلاكهم ونزول البلاء عليهم أو نشرت الشعر.

(فقال رجل من القوم: ما تريد إلى هذا؟) كان «إلى» بمعنى «من» للابتداء، وهذا إشارة إلى علي (عليه السلام) والخطاب لأبي بكر وضمير الغايب كما في بعض النسخ له والاستفهام للإنكار ما أراد منه أخذ البيعة قهرا أو إيصال المكروه إليه وفي بعض النسخ «إلا هذا» وعلى هذا ما نافية وهذا إشارة إلى ما ذكرته فاطمة (عليها السلام) وضمير الخطاب أو الغيبة بحاله. روى مسلم أن فاطمة بقيت بعد أبيها ستة أشهر وبايع على مع أبي بكر بعد وفاتها، قال شارحه أبو عبد الله الآبي: كان لعلي في حياتها وجه من الناس فلما ماتت فاطمة استنكر على وجوههم فاخذ البيعة.

أقول: تأمل فيه فإنه صريح في أنه (عليه السلام) لم يبايع إلا بعد ستة شهر مكرها فإن كان أبو بكر على الحق كان علي (عليه السلام) فاسقا حتى أنه لو مات قبل البيعة مات ميتة جاهلية عندهم، وإن كان على الباطل كما هو الحق كان كافرا مرتدا وهو كذلك.

* الأصل:

321 - أبان، عن علي بن عبد العزيز، عن عبد الحميد الطائي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: والله لو نشرت شعرها ماتوا طرا.

* الأصل:

322 - أبان، عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن ولد الزنا يستعمل إن عمل خيرا جزي به وإن عمل شرا جزي به.

* الشرح:

قوله: (ان ولد الزنا يستعمل إن عمل خيرا جزي به، وإن عمل شرا جزي به) أي يطلب العمل من ولد الزنا ويكلف به فهو كساير المكلفين في العمل والثواب والعقاب، واختلف العلماء في كفره

ص:353

وإسلامه فذهب ابن إدريس إلى الأول لقول النبي (صلى الله عليه وآله) «ولد الزنا لا يدخل الجنة» وقال: لو كان مسلما لدخلها وذهب الأكثر إلى الثاني للإخبار الدالة عليه وأولوا أخبار الكفر بالبناء على الغالب، وتفصيل الكلام فيه في الكتب المبسوطة.

* الأصل:

323 - أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله (صلى الله عليه وآله) يقول: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجرته ومروان وأبوه يستمعان إلى حديثه، فقال له: الوزغ بن الوزغ. قال أبو عبد الله (عليه السلام): فمن يومئذ يرون أن الوزغ يسمع الحديث.

* الشرح:

قوله: (خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجرته ومروان وأبوه يستمعان إلى حديثه فقال له الوزغ بن الوزغ) مروان وأبوه الحكم بن العاص كانا مطرودين ملعونين بلسان النبي (صلى الله عليه وآله) وتقلد مروان أمر الخلافة بعد معاوية بن يزيد بن معاوية سنة وتسعة أشهر وبعده ابنه عبد الملك وبعد عبد الملك بنوه وليد وسليمان ويزيد وهشام على الترتيب وفعلوا في الدين ما فعلوا وقتلوا من أولاد الرسول وشعيتهم من قتلوا (فمن يومئذ يرون أن الوزغ يستمع الحديث) لفهمهم أن وجه التشبيه استماع الحديث وفي بعض النسخ «يروون» بالواوين من الرواية.

* الأصل:

324 - أبان، عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما ولد مروان عرضوا به لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يدعو له فأرسلوا به إلى عائشة ليدعو له، فلما قربته منه قال: أخرجوا عني الوزغ بن الوزغ:

قال زرارة: ولا أعلم إلا أنه قال، ولعنه.

* الشرح:

قوله: (لما ولد مروان عرضوا به لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يدعو له. انتهى) قيل كانوا يعرضون الطفل عليه (صلى الله عليه وآله) ليدعوا له ويحنكه قصدا لأن يكون أول ما دخل جوفه ما أدخل (صلى الله عليه وآله) وطلبا للتبرك به، وفيه دلالة على حسن عشرته لأمته بالتآلف والتودد وهذا لأجل التأسي جرى في جميع الأعصار فأهل كل عصر تأدبوا بمثل هذا الأدب من التبرك بآثار الصالحين فحملوا بالولد عند ولادته إليهم يحنكونه ويدعون له.

* الأصل:

325 - أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي العباس المكي قال: سمعت أبا

ص:354

جعفر (عليه السلام) يقول: إن عمر لقى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أنت الذي تقرأ هذه الآية «بأيكم المفتون» تعرضا بي وبصاحبي قال: أفلا أخبرك بآية نزلت في بني أمية «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم» فقال: كذبت، بنو أمية أوصل للرحم منك ولكنك أبيت إلا عداوة لبني تيم وعدي وبني أمية.

* الشرح:

قوله: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) أن عمر لقى أمير المؤمنين (عليه السلام)) مر هذا الحديث متنا وسندا مع شرحه في حديث أبي بصير مع المرأة.

* الأصل:

326 - علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) يقوم في المطر أول ما يمطر حتى يبتل رأسه ولحيته وثيابه، فقيل له: يا أمير المؤمنين الكن الكن فقال: إن هذا ماء قريب عهد بالعرش.

ثم أنشأ يحدث فقال: إن تحت العرش بحرا فيه ماء ينبت أرزاق الحيوانات فإذا أراد الله عز ذكره أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه أوحى الله إليه فمطر ما شاء من سماء إلى سماء حتى يصير إلى السماء الدنيا فيما أظن فيلقيه إلى السحاب والسحاب بمنزلة الغربال، ثم يوحى الله إلى الريح أن اطحنيه وأذيبيه ذوبان الماء، ثم انطلقي به إلى موضع كذا وكذا فأمطري عليهم فيكون كذا وكذا عبابا وغير ذلك فتقطر عليهم على النحو الذي يأمرها به فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك حتى يضعها موضعها ولم ينزل من السماء قطرة من مطر إلا بعدد معدود ووزن معلوم إلا ما كان من يوم الطوفان على عهد نوح (عليه السلام) فإنه نزل ماء منهمر بلا وزن ولا عدد.

قال: وحدثني أبو عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أبي (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله عز وجل جعل السحاب غرابيل للمطر، هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر به شيئا يصيبه، الذي ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله عز وجل يصيب بها من يشاء من عباده.

ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تشيروا إلى المطر ولا إلى الهلال فان الله يكره ذلك.

* الشرح:

قوله: (فقيل له: يا أمير المؤمنين الكن الكن) أي اطلب الكن وأدخله وهو بالكسر: ما يرد من الحر والبرد من الأبنية والمساكن (فقال: ان هذا ماء قريب عهد بالعرش) العرش يطلق بلسان

ص:355

الشرع على العلم والقدرة وعلى الجسم المحيط بالعالم وهو الأنسب هنا ويفهم منه استحباب التبرك بالمطر سيما قبل استقراره بالأرض التي عبد عليها غير الله تعالى وقبل أن تمسه الأيدي الخاطئة لأن المطر رحمة لقوله تعالى «بشرى بين يدي رحمته» ومبارك لقوله تعلى «ماء مباركا فأنبتنا به» وقريب عهد من محل رحمته وهو العرش ويحتمل أن يراد بالعرش هنا الإرادة ومعنى قرب عهده بتعلقها وإلا فإرادته تعالى قديمة وأن يراد بها الرحمة والحديث حجة لمن رجح ماء المطر على مياه الأرض والأطباء يقولون أنه أنفع المياه ما لم يختزن وفيه أيضا دلالة على زيادة تعظيم كل موجود في بدء وجوده لأنه قريب عهد برحمة الإيجاد ولهذا بالغ الشرع في رعاية الأطفال (ثم يوحي إلى الريح أن اطحنيه وأذيبيه ذوبان الماء. انتهى) طحن البر كمنع: جعله دقيقا وذاب ذوبا وذوبانا محركة ضد جمد وأذابه غيره وفيه دلالة على أنه في الأصل برد (فيكون كذا وكذا عبابا وغير ذلك) كذا اسم مبهم ويجري مجرى «كم» فينتصب ما بعده على التميز، والعباب بالضم: معظم السيل وارتفاعه وكثرته أو موجه، وأول الشيء والمراد بغير ذلك سائر مراتب القلة والكثرة، كل ذلك لمصلحة لا يعلمها إلا هو (فإنه نزل لماء منهمر) ضمير المنصوب ليوم الطوفان أي نزل فيه ماء منسكب يقال:

انهمر الماء انسكب وسال وفي الكنز انهمار «ريزان شدن آب» ومثل آن (لا تشيروا إلى المطر ولا إلى الهلال فإن الله يكره ذلك) ظاهره غريب وكيفية الإشارة إليهما غير معلومة ويمكن أن يكون كناية عن نسبة منافعهما إليهما، ولو قرء بالتاء المثناة الفوقانية من شتر به كفرح إذا سبه أو من شتر فلانا إذا غته وجرحه وجعل إلى بمعنى الباء وزائدة لكان له وجه.

* الأصل:

327 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن أسباط رفعه قال: كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابن عباس: أما بعد فقد يسر المرء ما لم يكن ليفوته ويحزنه ما لم ليكن ليصيبه أبدا وإن جهد فليكن سرورك بما قدمت من عمل صالح أو حكم أو قول وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه حزنا وما أصابك منها فلا تنعم به سرورا وليكن همك فيما بعد الموت والسلام.

* الشرح:

قوله: (أما بعد فقد يسر المرء ما لم يكن ليفوته ويحزنه ما لم يكن ليصيبه أبدا وان جهد) أي وإن اجتهد يعني أن المرء يكون من هذه الحالة وهي أنه تسره إصابة ما ينفعه ويحزنه فواته وما ينفع

ص:356

على قسمين أحدهما ما ينفع في الآخرة وثانيهما: ما ينفع في الدنيا والعقل اللبيب ينبغي أن يسر بإصابة الأول ويحزن بفواته وإليه أشار بقوله (فليكن سرورك بما قدمت من عمل صالح أو حكم) بالعدل أو (قول) بالحق (وليكن أسفك وحزنك فيما فرطت فيه من ذلك) فإن هذا السرور أبدي وهذا الحزن مع كونه ندامة وعبادة موجب للزيادة والتدارك وأن لا يحزن بفوات الثاني ولا يسر بإصابته وإليه أشار بقوله (ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه حزنا وما أصابك منها فلا تنعم به سرورا) كما يسر وينعم أهل الدنيا يقال نعم العود كفرح إذا اخضر ونضر ثم أمر بما هو كالسبب لجميع ذلك.

* الأصل:

328 - سهل بن زياد، عن الحسن بن علي، عن كرام، عن أبي الصامت، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

مررت أنا وأبو جعفر (عليه السلام) على الشيعة وهم ما بين القبر والمنبر، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): شيعتك ومواليك جعلني الله فداك قال: أين هم؟ فقلت أراهم ما بين القبر والمنبر، فقال اذهب بي إليهم فذهب فسلم عليهم، ثم قال: والله إني لأحب ريحكم وأرواحكم فأعينوا مع هذا بورع واجتهاد إنه لا ينال ما عند الله إلا بورع واجتهاد وإذا ائتممتم بعبد فاقتدوا به، أما والله إنكم لعلى ديني ودين آبائي إبراهيم وإسماعيل وإن كان هؤلاء على دين أولئك فأعينوا على هذا بورع واجتهاد.

* الشرح:

قوله (وليكن همك فيما بعد الموت والسلام) لأن التذكير بهادم اللذات والتخويف بذكره تنفير عن محبة الدنيا والحزن بفواتها وترغيب في محبة الآخرة والعمل لها والحزن بفواتها (فقال: اذهب بي إليهم. انتهى) أمره بذلك لأنه (عليه السلام) كان بدنا عظيم الجثة متكئا عليه والمحبة بينه وبين الشيعة جبلية للتقارب بينهما بحسب الذات والأرواح والصفات كما مر في كتاب الكفر والإيمان وفيه حث على الميل إلى الشيعة والمخالطة بهم وإظهار المحبة لهم (فأعينوا مع هذا بورع واجتهاد) أي فأعينوا بعضكم بعضا بورع عن المعصية واجتهاد في العلم والطاعة أو فأعينوني بذلك وإنما جعل ورعهم واجتهادهم إعانة له (عليه السلام) لأن الأئمة (عليهم السلام) يشفعون لشيعتهم ويدخلونهم الجنة كما دلت عليه الأخبار ولا ريب في أن الورع والاجتهاد مما يعينهم على ذلك لأن قبول الشفاعة في محل قابل أقرب إلى الاستجابة (وإن كان هؤلاء على دين أولئك) كان الإشارة الأولى إلى المخالفين

ص:357

والثانية إلى شيوخهم.

* الأصل:

329 - أبو علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن الربيع بن محمد المسلي، عن أبي الربيع الشامي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى] لا [يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه.

* الشرح:

قوله: (إن قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم) أي يقوي القوة السامعة والباصرة لهم كما يقويهما لهم وهم في الجنان (حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم (1) فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه) البريد: الرسول وفي قليل من النسخ حتى يكون بدون لا والمراد فيه بالبريد فرسخان أو اثنى عشر ميلا أو ما بين المنزلين.

* الأصل:

330 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من استخار الله راضيا بما صنع الله له خار الله له حتما.

* الشرح:

قوله: (من استخار الله راضيا بما صنع الله له خار الله له حتما) (2) استخاره طلب منه الخيرة

ص:358


1- 1 - قوله «بريد يكلمهم. أراد بالبريد هنا الإنسان الحامل للمكتوب والرسالة لا المسافة ويمكن أن يكون إشارة إلى صنعة تقرب الصوت والنظر كما في عهدنا لكن ظاهر الخبر أنه يختص بالشيعة وما بالصنعة يعم الناس أجمعين. (ش)
2- 1 - قوله: «خار الله له حتما» الاستخارة: طلب الخير من الله تعالى وهي إما دعاء وهو أن يطلب من الله تعالى أن يسهل له وسائل الوصول إلى ما هو خير له ويهييء له أسبابه حتى إذا رآه خيرا وتبين له مصلحته أقدم عليه كمن يريد سفر حج أو زيارة فيطلب منه تعالى أن يسهل له أسباب السفر من الزاد والراحلة وتخلية السرب بأحسن وجه وأسهل طريق، ودليل مشروعيته آيات القرآن المرغبة في مطلق الدعاء، وقد تكون الاستخارة طلب الخير من الله تعالى عند التحير بأن يكون أمران مقدوران كلاهما وجائزان له شرعا وعرفا ولا يعلم وجه الترجيح فيطلب من الله تعالى إزالة الحيرة وإرائة طريق الترجيح بأن يتبين له بالقرائن العقلية رجحان أحد الأمرين حتى يختاره بعقله وهذا أيضا يشمله الآيات القرآنية المرغبة في الدعاء وقد يكون حيرته بحيث لا يتوقع زوالها بظهور القرائن العقلية على الترجيح فيدعو الله تعالى ويطلب منه أن يهديه لما هو خير له بأول آية يقع نظره عليها من المصحف أو ما ينتهي به عدد أسماء الجلالة أو غيرها وهذا أيضا دعاء يشتمله آيات القرآن مثل «قال ربكم ادعوني استجب لكم» وكذلك الاستخارة بالسبحة أو بالرقاع على ما في كتب الأدعية فإنها دعاء وسؤال حاجة من الله مع أنه قدود في الحديث الصحيح المعمول به «والقرعة لكل أمر مشكل» ويدل عليه أيضا عمل النبي زكريا عليه السلام حيث اشترك مع جماعة يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم على ما في القرآن الكريم ولكن يتوقف ذلك على الإيمان بالغيب والاعتقاد بتأثير الأمور الروحانية واليقين بقدرة الله تعالى والاطمينان بإنجاز وعده حيث قال «ادعوني أستجب لكم» ولا يتمشى من الملاحدة ومن يقرب مذهبه منهم والله الهادي إلى سواء السبيل. (ش)

وخار الله له في الأمر جعل له فيه الخير وهذا أمر ضروري لأن الله تعالى يريد خير العباد كلهم فإذا توجه إليه العبد العاجز عن معرفة صلاح أمره وفساده يهديه إلى الخير قطعا.

* الأصل:

331 - سهل بن زياد، عن داود بن مهران، عن علي بن إسماعيل الميثمي، عن رجل، عن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لي: يا جويرية إنه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم، ما جاء بك قلت جئت أسألك عن ثلاث: عن الشرف، وعن المروءة، وعن العقل، قال: أما الشرف فمن شرفه السلطان شرف، وأما المروءة فإصلاح المعيشة وأما العقل فمن اتقى الله عقل.

* الشرح:

قوله: (اشتددت خلف أمير المؤمنين (عليه السلام). انتهى) أشد العدو اشتد عدوا وهؤلاء إشارة إلى الخلفاء وأضرابهم، والأحمق: قليل العقل، وقوم ونسوة حمقى بالفتح والقصر، والخفق: صوت النعال والشرف محركة: القدر المنزلة والعلو والمجد وشرف الآخرة لمن شرفه السلطان الأعظم بالهدايات الخاصة إلى الأعمال الصالحة وشرف الدنيا لمن شرفه هؤلاء السلاطين، والمعيشة:

ما يعاش به وإصلاحها تحصيلها من حلال وصرفها في حلال والتحرز عن الإسراف والتقتير، والعقل ما يقتضي القيام بطاعة الله والاتقاء عن عقوبته.

* الأصل:

332 - سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن علي بن أبي النوار، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك لأي شيء صارت الشمس أشد حرارة من القمر؟ فقال: إن الله خلق الشمس من نور النار وصفو الماء، طبقا من هذا وطبقا من هذا حتى إذا كانت سبعة أطباق ألبسها لباسا من نار، فمن ثم صارت أشد حرارة من القمر، قلت: جعلت فداك والقمر؟ قال: إن الله تعالى ذكره خلق القمر من ضوء نور النار وصفو الماء، طبقا من هذا وطبقا من هذا حتى إذا

ص:359

كانت سبعة أطباق ألبسها لباسا من ماء فمن ثم صار القمر أبرد من الشمس.

* الشرح:

قوله: (فقال: إن الله خلق الشمس من نور النار. انتهى) هذا على تقدير صدق الخبر سر من أسراره تعالى وجب الإقرار به والسكوت عن تفسيره إلا أنه يخطر بالبال من باب الاحتمال أن المراد بنور النار لهبها وبضوئه ما انعكس من نورها في الجسم المقابل لها وأن النسبة بين حرارة في طبقات الشمس وحرارة في طبقات القمر كالنسبة بين حرارة لهب النار وضوئه وتلك النسبة لا يعلمها إلا الله عز وجل ومن عصمه ولذلك صارت الشمس أشد حرارة من القمر وقوله في الشمس وألبسها لباسا من نار وفي القمر فألبسها لباسا من ماء يحتمل وجهين أحدهما أن الشمس أجزائها النارية أغلب من أجزائها المائية فلذلك أفاض عليها كيفية نارية وألبسها بها والقمر بالعكس، وثانيهما أنه وقع نور النار أول طبقة في نضد طبقات الشمس وآخر طبقة فلذلك ألبسها لباسا من نار لكون النار ظاهرة والماء مستبطنا ووقع صفو الماء في نضد طبقات القمر أولا وآخرا فصار صفو الماء ظاهرا وضوء نور النار باطنا فلذلك صار القمر ملبسا بلباس من ماء والله يعلم.

* الأصل:

333 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا، عن محمد بن الهيثم، عن زيد أبي الحسن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من كانت له حقيقة ثابتة لم يقم على شبهة هامدة حتى يعلم منتهى الغاية ويطلب الحادث من الناطق عن الوارث وبأي شيء جهلتم ما أنكرتم وبأي شيء عرفتم ما أبصرتم إن كنتم مؤمنين.

* الشرح:

قوله: (من كانت له حقيقة ثابتة) هو من رسخت ثبتت له حقيقة العهد الأول المأخوذ عليه بالولاية أو حقيقة الإيمان أو من كان طبعه مستقيما على فطرته الأصلية (لم يقم على شبهة هامدة) أي بالية زائلة باطلة من همدت النار إذا خمدت والثوب إذا بلي ولعل المراد بها شبهة المعاندين في الإمامة وغيرها من أصول الدين وفروعه (حتى يعلم منتهى الغاية) غاية كل شيء: منتهاه وقد تطلق على المسافة أيضا والإضافة على الأول بيانية وعلى الثاني لامية أي حتى يعلم غاية تلك الشبهة ومفاسدها المرتبة عليها ويعلم أن الحق وراءها.

(ويطلب الحادث من الناطق عن الوارث) أي يطلب الأمر الحادث من أمور الدين أصلا كان أم

ص:360

فرعا من الإمام الناطق عن الوارث وهو الله تعالى ولو بواسطة من العلماء الناقلين منهم عليهم السلام (وبأي شيء جهلتم ما أنكرتم) الظاهر أنه عطف على منتهى الغاية، أي حتى يعلم بأي سبب أنكرتم ما أنكرتم من ولاية الظالمين وهو كونهم جاهلين غاصبين للولاية غير منصوبين من قبل الله تعالى ورسوله (وبأي شيء عرفتم ما أبصرتم) من ولاية الإمام العادل العالم المنصوب بأمر الله تعالى (ان كنتم مؤمنين) يجوز فتح الهمزة ليكون تعليلا لقوله «أنكرتم، وعرفتم» ويجوز كسرها على حذف الجزاء أي إن كنتم مؤمنين تعرفون أن ما ذكرناه لا ريب فيه والله يعلم.

* الأصل:

334 - عنه، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء الحق إلا غلب الحق الباطل وذلك قوله عز وجل: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق».

* الشرح:

قوله: (ليس من باطل يقوم بإزاء الحق الأغلب الحق الباطل) إذ الحق من حيث أنه حق ثابت في نفس الأمر يغلب الباطل من حيث أنه باطل غير ثابت فيها الضرورة أن كل ما هو ثابت يوجب زوال ضده ولا ينافي هذا غلبة الباطل واشتهاره من حيث أن طبايع أكثر الخلق مايلة إليه إذ هو مع اشتهاره مغلوب للحق زائل في نفس الأمر وذلك قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) القذف: الرمي بقوة والدمغ كسر الدماغ مع شق أمه وهو جليدة رقيقة كخريطة هو فيها يقال دمغه يدمغه من باب منع ونصر وأدمغه: إذا أصاب دماغه فقتله، والزهوق:

خروج الروح، والمعنى ليس من أمرنا اتخاذ اللهو بل يغلب الحق على الباطل فيبطله إلا أنه استعار له لفظ القذف والدمغ ورشح بذكر الزهوق تصويرا لإبطاله مبالغة فيه كما صرح به المفسرون.

* الأصل:

335 - عنه، عن أبيه مرسلا قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونا مؤمنين، فان كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع مضمحل كما يضمحل الغبار الذي يكون على الحجر الصلد إذا أصابه المطر الجود إلا ما أثبته القرآن.

قوله: (لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين) وليجة الرجل: بطانته وخاصته وصاحب سره ومن اتخذه معتمدا عليه، وهو صريح كالآية في أن من اتخذ أمينا في الدين وإماما

ص:361

ومعتمدا لم يأمر الله تعالى باتخاذه خرج من الإيمان (فإن كل سبب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع مضمحل كالغبار الذي يكون على الحجر الصلد إذا أصابه المطر الجود إلا ما أثبته القرآن) وروى العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «كل سبب ونسب منقطع إلا سببي ونسبي» السبب: كل ما يتوصل به إلى الشيء كطرق الأرزاق والمعارف والأحكام ونحوها واصله الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، والنسب بالولاية والقرابة بالرحم والعطف اما للتفسير أو من باب عطف العام على الخاص إن خص النسب بالأب وعمت القرابة بالأب والعم أو بالعكس ان خصت القرابة بالأقرب وعم النسب بالأقرب والأبعد، والبدعة: كل ما خالف الشريعة، والشبهة: كل باطل مزج بالحق أخذه الوهم بصورة الحق وشبهته به، والصلد بالفتح وقد يكسر: الصلب الأملس، والجود بالفتح المطر الواسع الغنزير والاستثناء من غير الأخيرين والمعنى أن جميع هذه الأمور ومنافعها لكونها من الأمور الإضافية والاعتبارات الوهمية والخيالية منقطعة بانقطاع الدنيا وفانية بفناء الأبدان فمن اعتمد عليها وركن إليها وغفل عن الحق بعد من الإيمان واستحق الخسران كما قال الله تعالى «وتقطعت بهم الأسباب» فقال «فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون».

وقال: «يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون» وقال: «يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه» وقال: «ولا تتخذوا من دون الله وليجة» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة والروايات الصحيحة وأما ما أثبته القرآن منها فإنه ثابت أبدا ومنافعها باقية غير منقطعة بانقطاع الدنيا ومفارقة النفوس من الأبدان، فيجيب على المؤمن الطالب للحياة الأبدية والخيرات الدائمة الأخروية والنجاة من العقوبات الروحانية والبدنية أن يتمسك بالأسباب والأنساب والولايج التي أثبتها القرآن وقررها النبي (صلى الله عليه وآله) ويترك البدعة والشبهة والوليجه التي تدعو إلى النار.

* الأصل:

336 - علي بن محمد بن عبد الله، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حماد، عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نحن أصل كل خير ومن فروعنا كل بر فمن البر التوحيد والصلاة والصيام وكظم الغيظ والعفو عن المسئ ورحمة الفقير وتعهد الجار والإقرار بالفضل لأهله، وعدونا أصل كل شر ومن فروعهم كل قبيح وفاحشة فمنهم الكذب والبخل والنميمة والقطيعة وأكل الربا وأكل مال اليتيم بغير حقه وتعدي الحدود التي أمر الله وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والزنا والسرقة وكل ما وافق ذلك من القبيح. فكذب من زعم أنه معنا وهو

ص:362

متعلق بفروع غيرنا.

* الشرح:

قوله: (نحن أصل كل خير ومن فروعنا كل بر) لعل المراد بالخير العلم وبالبر العمل الصالح المتفرع عليه وقد نبه بأن التشيع إنما يتحقق بالمتابعة فيهما والروايات الدالة على ذلك كلها مستفيضة بل متواترة معنى، قوله (قال لرجل: اقنع بما قسم الله لك) القنوع بالضم والقناعة بالكسر: الرضا باليسير من الرزق، ومن الحديث المتفق عليه بين الأمة والقناعة كنز لا ينفد لأن الإنفاق منها لا ينقطع كلما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضى به (ولا تنظر إلى ما عند غيرك) لأن النظر إليه يورث الطمع والذل وعدم الرضا بالقسمة (ولا تتمن ما لست نائله) إذ مع ما فيه من تفريغ القلب عن الله تعالى وعن أمر الآخرة همه لأجل فقدان المطلوب وحزنه لفواته وهو ألم روحاني أشر من الألم الجسماني ثم أشار إلى تعليل عدم النظر والتمني.

* الأصل:

337 - عنه، عن غيره، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن خالد ابن نجيح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لرجل: أقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تتمن ما لست نائله فانه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظك من آخرتك.

وقال أبو عبد الله (عليه السلام): أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلى عيب نفسه، وأشد شيء مؤونة إخفاء الفاقة، وأقل الأشياء غناء النصيحة لمن لا يقبلها ومجاورة الحريص، وأروح الروح اليأس من الناس.

وقال: لا تكن ضجرا ولا غلقا وذلل نفسك باحتمال من خالفك ممن هو فوقك ومن له الفضل عليك فإنما أقررت بفضله لئلا تخالفه، ومن يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه. وقال لرجل: اعلم أنه لا عز لمن لا يتذلل لله تبارك وتعالى ولا رفعة لمن لم يتواضع لله عز وجل.

وقال لرجل: أحكم أمر دينك كما أحكم أهل الدنيا أمر دنياهم فإنما جعلت الدنيا شاهدا يعرف بها ما غاب عنها من الآخرة فاعرف الآخرة بها، ولا تنظر إلى الدنيا إلا باعتبار.

* الشرح:

بقوله: (فإنه من قنع شبع قلبه وعينه) فلا ينظر إلى ما عند غيره ولا يتمنى ما ليس نائلا له (ومن لم يقنع لم يشبع) بل ينظر ويتمنى ويفهم منه أن بين القناعة والشبع تلازما ثم أشار إلى أن القناعة

ص:363

لا توجب الكمال كل الكمال حتى تقترن بالأعمال بقوله (وخذ حظك من آخرتك) أي خذ نصيبك في الدنيا من أجل آخرتك كما روي خذ من الدنيا للآخرة ويحتمل أن يراد بآخرتك عملها أو حذف مضاف أي من عمل آخرتك (وقال أبو عبد الله (عليه السلام)) للحث على المبادرة إلى تطهير النفس من العيوب وفي بعض النسخ فقال بالفاء (أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلى عيب نفسه) لأن النافع ما يوجب السعادة في الآخرة والتقرب من الحق وهو إما تخلية عن العيوب والرذائل أو تحليه بالأعمال الصالحة والفضايل، والأول أقدم وأنفع من الثاني مع أنه أيضا عمل معين كسائر الأعمال في النفع والتأثير في الترقي إلى المقامات العالية كما قيل ادفع القيد وجد في السير (وأشد شيء مؤونة اخفاء الفاقة) لعل السر فيه أن المطلوب كلما كان أقوى كان فواته أشد ومن البين أن أقوى مطالب النفس التذاذها بالغنى والراحة وكل ذلك مفقود عند الفاقة فهو أشد وأخفاؤها أشد عليها من غيرهما.

(وأقل الأشياء غناء النصيحة لمن لا يقبلها ومحاورة الحريص) الغناء بالفتح والمد: النفع والمحاورة في أكثر النسخ بالجيم وفي بعضها بالحاء المهملة ومن البين أنه لا نفع في تلك المحاورة فوجب تركها بل فيها ضرر وهو سبب آخر لتركها بالأولوية ولذا لم يذكره وأنه لا نفع في هذه النصيحة للمنصوح أصلا ولا للناصح لأن النفع المقصود له أصالة تسديد المنصوح وهو لم يقبله وإن كان له نفع من حيث أنه ناصح ولكنه غير مقصود له أصالة ولهذا حكم بالقلة.

(وأروح الروح اليأس من الناس) لأن اليأس منهم يوجب رفض الطلب وسكون النفس عن الاضطراب وتوجه السر إلى الله تعالى ونزول الرزق من قبله، وكل ذلك سبب الروح والراحة النفسانية والجسمانية (وقال: لا تكن ضجرا ولا غلقا) الضجر: التبرم والإنزعاج، ضجر منه وبه كفرح: تبرم وانزعج فهو ضجر، والغلق بالغين المعجمة محركة ضيق الصدر وقلة الصبر وسوء الخلق وهما يورثان نقص الإيمان وكسر القلوب وضيق العيش وتبدد النظام (وذلل نفسك باحتمال من خالفك ومن هو فوقك ومن له الفضل عليك) أمر بتذليل النفس باعتبار أمور من صنفين وان كان شاقة عليها أحدهما ذوو القدرة من أهل الخلاف فإن إظهار مخالفتهم يورث الهلاك في الدنيا وثانيهما ذوو الفضل والعلم وأقدمهم الأئمة عليهم السلام فإن خلافهم يوجب الهلاك في الآخرة (ومن لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه) أي بتخيلاته الفاسدة وتوهماته الباطلة، كعلماء المخالفين وأئمتهم وأتباعهم الذين يأخذون بآرائهم فيما يشكل من أمر الدين، وما لم يأتهم فيه حديث ولا أثر، والمحدثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأي (وقال لرجل: اعلم أنه لا عز لمن لم يتذلل لله تبارك وتعالى ولا رفعة لمن لم يتواضع لله عز وجل) العزة والرفعة في الحقيقة لمن

ص:364

أعزه الله ورفعه فإنهما تدومان أبدا وهما لا يتحققان إلا بالتذلل والتواضع والانقياد له.

ولأوليائه، وأما ما سماه الجهلة عزة فهي مع كونها عين الذلة أمر إضافي اعتباري لا حقيقة له ولذلك تكون في آن وتزول في آن آخر.

(وقال لرجل: أحكم أمر دينك كما أحكم أهل الدنيا أمر دنياهم) إحكام أهل الدنيا أمرها مع أنها غير محكمة لسرعة زوالها بتعلق قلوبهم الضعيفة وعقولهم السخيفة بها فسعوا لجمعها وتحصيلها وحفظها من كل وجه فليكن قلبك الكامل وعقلك الفاضل متعلقا بأمر الآخرة وتحصيل مقاماتها العالية ونعمائها الكاملة الباقية فهذب نفسك عن الرذائل التي أعظمها حب الدنيا والفانيات وأعمل بالصالحات الباقيات (وإنما جعلت الدنيا شاهدا يعرف بها ما غاب عنها من الآخرة) لأن من تفكر في الدنيا وفي نعمائها الناضرة وآلائها الظاهرة وأمتعتها الفاخرة مع كونها سجنا ضيقا وبيتا منتنا ومحلا مبغوضا يبغضها الله تعالى يعرف الآخرة التي دار أحبها الله تعالى لأوليائه ويعرف قدر نعمائها وكمال آلاتها وشرف حالاتها وكمال مقاماتها ولذلك قال (فاعرف الآخرة بها) وأن الدنيا وما فيها من النعماء التي لا تحصى دليل واضح على معرفة الآخرة وما فيها من النعماء التي تعجز عن تعديدها عقول العقلاء وعن تحديدها فحول العلماء وعن معرفة تفاصيلها وكميتها وكيفيتها أذهان الأزكياء، ثم نهى عن النظر إلى الدنيا وتعليق القلب بزينتها الخداعة فقال (ولا تنظر إلى الدنيا إلا باعتبار) منها ومن زينتها الفانية إلى الآخرة وزينتها الباقية، وقد تكرر الأمر بالاعتبار في الأحاديث وله وجوه منها: النظر إلى الدنيا وتغيير أحوالها في نفسها فإنه يوجب الانقطاع منها إلى الآخرة، ومنها النظر إلى شدائدها الزائلة فإنه يوجب الإنتقال إلى شدة شدائد الآخرة الباقية والتحرز عما يوجبها، ومنها النظر إلى نعيمها وزينتها الداثرة مع كونها مبغوضة فإنه يوجب الإنتقال إلى كمال نعيم الآخرة وزينتها الدائمة والاجتهاد لها، ومنها النظر إلى أحوال الماضين وما كانوا فيه من خضرة الأحوال وسعة الأرزاق والأموال وقطع أيديهم منها اضطرارا بالموت وسكونهم في التراب وفراقهم من الأحباب واشتغالهم بما معهم من الخير والشر والثواب والعقاب فإنه يوجب تبرد القلب، منها والميل إلى الآخرة التي هي دار القرار ومن ثم قيل الدنيا واعظة لمن اتعظ منها فمن لم يتعظ منها ولم يجعلها على الآخرة دليلا فهو كالحمار بل هو أضل سبيلا.

* الأصل:

338 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لحمران بن أعين: يا حمران انظر

ص:365

إلى من هو دونك في المقدرة ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة فان ذلك أنفع لك بما قسم لك وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربك، واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله جل ذكره من العمل الكثير على غير يقين.

واعلم أنه لا ورع أنفع من تجنب محارم الله والكف عن أذى المؤمنين واغتيابهم ولا عيش أهنأ من حسن الخلق ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضر من العجب.

* الشرح:

قوله: (انظر إلى من هو دونك في المقدرة ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة) المقدرة مثلثة الدال الغنى واليسار والقوة (فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك) أي يوجب زيادة القناعة والرضا بها (وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربك) لأن الرضا بالنعمة ومعرفة قدرها تعظيم للمنعم وشكر له والشكر يوجب الزيادة كما نطق به القرآن الكريم بخلاف نظرك إلى الفوق فإنه يوجب عدم القناعة والرضا بما في يدك وهو كفران يوجب زوال النعمة وسخط المنعم (واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله عز وجل من العمل الكثير على غير يقين) اليقين: العلم الجازم الثابت المطابق للواقع، وبعبارة أخرى العلم بالحق مع العلم بأنه لا يكون خلافه فهو في الحقيقة مركب من علمين كما صرح به المحقق في أوصاف الأشراف ويندرج فيه العلم بالمبدأ والمعاد والرسالة والإمامة وغير ذلك مما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) ولابد من تقييد العمل الكثير بالدوام وليتحقق أن الفضل من جهة اليقين (واعلم أنه لا ورع أنفع من تجنب محارم الله والكف عن أذى المؤمنين واغتيابهم) الورع في الأصل: الكف عن محارم الله تعالى والتحرج منه ثم استعير للكف عن المباح كالشبهات وعن الحلال الذي يتخوف منه أن ينجر إلى الحرام كالتحدث بأحوال الناس لمخافة أن ينجر إلى الغيبة وعما سوى الله للتحرز عن صرف العمر ساعة فيما لا يفيد زيادة القرب والأول وهو الكف عن المحارم أنفع لشدة العقوبة على ارتكابها بخلاف البواقي ثم الأذى والإغتياب داخلان في المحارم ومن افرادهما وذكرهما بعدها من باب ذكر الخاص بعد العام للاهتمام لأنهما أشد قبحا وأقوى فسادا وأبعد عفوا وأصعب توبة.

(ولا عيش أهنأ من حسن الخلق) العيش: الحياة وما يعاش به والمقصود به أن حسن خلق الرجل مع بني نوعه أدخل في نضارة عيشه من المال ونحوه لأنه يوجب ميلهم إليه ونصرتهم له بخلاف سوء خلقه فإنه يوجب التنفر عنه والأضرار له والوقيعة فيه وكل ذلك يوجب تكدر عيشه

ص:366

وإن كان ذا مال (ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي) شبه القنوع باليسير المجزي وهو الكفاف بالمال في النفع وتنظيم الأحوال وعده أنفع أفراده لأن الأقل أو الأكثر منه يشوش القلب ويفسده ويتعب البدن ويضر بالدين ويبطله، كما أن الماء الذي يكفي في تعمير الأرض بعمرها والأقل والأكثر منه يفسدها (ولا جهل أضر من العجب) العجب: حالة نفسانية تنشأ من تصور الكمال واستعظامه وإخراج النفس عن حد النقص والتقصير يتعلق بجميع الخصال مثل العلم والعبادة والإحسان إلى الغير وإعطاء المال، والنسب والجمال إلى غير ذلك مما لا يحصى ثم هو والجهل سواء في أصل الأضرار والإهلاك وإفساد القلب إلا أنه أقوى في ذلك وأضر من الجهل لأن تفويت المنافع الحاصلة أشد وأصعب وأدخل في الحزن مع عدم تحصيلها ابتداء ولأن ذكر الجاهل في التندم من الجهل وفكر المعجب في التبختر والتعاظم ادعاء الشركة بالباري ومن ثم روي أن الذنب خير من العجب لأنه لو لا العجب لما خلا الله تعالى بين عبد المؤمن وبين ذنب أبدا فجعل الذنب فداء من العجب لكونه أشد منه.

* الأصل:

339 - ابن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني إن كنت عالما عن الناس وعن أشباه الناس وعن النسناس. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا حسين أجب الرجل. فقال الحسين (عليه السلام): أما قولك: أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تعالى ذكره في كتابه « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس» فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أفاض بالناس. وأما قولك: أشباه الناس فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا ولذلك قال إبراهيم (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني».

وأما قولك: النسناس، فهم السواد الأعظم وأشار بيده إلى جماعة الناس ثم قال: «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا».

* الشرح:

قوله: (فنحن الناس. انتهى) أريد بالناس هنا: من كملت صورته الظاهرة والباطنة وبلغت غاية الكمال وهم الرسول والأئمة (عليهم السلام) وبأشباه الناس التابعون لهم والذاهبون معهم حيث ما ذهبوا فحصلت لهم بذلك المشابهة بهم وبالناس في قوله «إلى جماعة الناس» من لهم هذه الصورة الظاهرة مع فساد الصورة الباطنة ولذلك شبههم بالأنعام في عدم التدبر والتفكر بل هم أضل لا

ص:367

بطالهم الفطرة الأصلية والعقول المدركة للمعقولات بخلاف الأنعام، وأما النسناس بكسر النون وقد تفتح فقال ابن الأعرابي: هم يأجوج ومأجوج وقيل: خلق على صورة الناس أي أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم، وقيل: هم من بني آدم وفي حديث العامة أن الأحياء من عاد عصوا رسولهم فمسخوا نسناسا لكل منهم يد ورجل من شق واحد ينقرون أي يثبون كما ينقر الطائر ويرعون كما ترعى البهائم وقيل: أولئك انقرضوا والموجود على تلك الخلقة خلق على حده كذا في النهاية والفائق والقاموس.

* الأصل:

340 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان بن سدير، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عنهما فقال: يا أبا الفضل ما تسألني عنهما فوالله ما مات منا ميت قط إلا ساخطا عليهما وما منا اليوم إلا ساخطا عليهما، يوصي بذلك الكبير منا الصغير، إنهما ظلمانا حقنا ومنعانا فيئنا وكانا أول من ركب أعناقنا ويثقا علينا بثقا في الإسلام لا يسكر أبدا حتى يقوم قائمنا أو يتكلم متكلمنا.

ثم قال: أما والله لو قد قام قائمنا] أ [وتكلم متكلمنا لأبدي من أمورهما ما كان يكتم، ولكتم من أمورهما ما كان يظهر والله ما اسست من بلية ولا قضية تجري علينا أهل البيت إلا هما أسسا أولها فعليها ما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

* الشرح:

قوله: (إنهما ظلمانا حقنا ومنعانا فيئنا) لعل المراد بالحق: الخلافة، وبالفيء: الغنيمة والخمس والأنفال لأن الفيء في الأصل: الرجوع، والأموال كلها للإمام وما كان فيها في يد غيره إذا رجع إليه بقتال فهو غنيمة وما رجع إليه بغير قتال فهو أنفال، وأن أرادت زيادة توضيح فارجع إلى ما ذكرنا في آخر كتاب الحجة من باب الفىء والأنفال وتفسير الخمس (وكانا أول من ركب أعناقنا) كناية عن التسلط والغلبة عليهم وإيصال المكروه والشدة إليهم (ويثقا علينا بثقا في الإسلام لا يسكر أبدا) بثق السيل بثقا إذا أسرع جريه جرى جريا شديدا وبثق السيل السد إذا كسره وفتحه، وسكرت النهر سكرا إذا سددته وسكرت الريح سكورا إذا سكنت وقوله «لا يسكر» على الأول مجهول وعلى الثاني معلوم وفيه مكنية بتشبيهها بالسيل وتخلية باثبات البثق لها وترشيح بذكر السكر وفي بعض النسخ لا يسكن، ولعل المراد بأمورهما المكتوبة التي يبديها الصاحب (عليه السلام) النفاق والقبائح سوء

ص:368

الخاتمه، وبأمورهما المظهرة أو الظاهرة عند أتباعهم أضدادها وبكتمانها بيان أنها كانت باطلة في نفس الأمر.

* الأصل:

341 - حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلا ثلاثة فقلت:

ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود وأبوذر الغفاري وسلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم، ثم عرف اناس بعد يسير وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا حتى جاؤوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) مكرها فبايع وذلك قول الله تعالى: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين».

* الشرح:

قوله: (المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي رضى الله عنهم) قال الشيخ القرطبي في شرح مسلم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ان الله أمرني أن أحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم على وأبو ذر والمقداد وسلمان» (ثم عرف أناس بعد يسير) يسير بالجر على الإضافة: أي بعد زمان قليل أو بالرفع صفة لاناس ولفظة بعد على الأول للتقييد وعلى الثاني للتأكيد (وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا) أي رحى الإسلام شبههم بقطب الرحى في توقف نظام الإسلام وجريانه عليهم ( وذلك قول الله عز وجل. انتهى) ذلك إشارة إلى ارتداد الأمة وبقاء قليل على الإسلام وهم المقربون بنعمة الله التي هي الولاية الشاكرون عليها.

* الأصل:

342 - حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنبر يوم فتح مكة فقال:

أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها (ألا إنكم من آدم (عليه السلام) وآدم من طين) ألا إن خير عباد الله عبد اتقاه، إن العربية لیست بأب والد ولکنها لسان ناطق فمن قصر به عمله یبلغه حسبه ، ألا إن کل دم کان فی الجاهلیة أو إحنة _و إحنة الشحناء _ فهی تحت قدمی هذه إلی یوم القیامة.

*الشرح:

قوله(أیها الناس إن أذهب عنکم نخوة الجاهلیة و تفاخرها بآبائها )حیث نهی عنهما

ص:369

و جعل الشرف الإسلام و انخوة التعظیم و التکبر و العجب و الأنفة و الحمیة (ألا أنکم من آدم علیه السلام و آدم من طین) کل واحد من هذین یقتضی انتفاء کل واحد من النخوة . التفاخر و التخصیص الأول بالأول و الثانب بالثانی بعید ، ثم أشار إلی ما هو سبب للتعاظم و الشرف من عندالله حثا علیه بقوله (ألا إن خیر عباد الله عبد اتقاه )تمسک بدینه و ارتکب طاعته و اجتنب مخالفته (إن العربیه لیست بأب والد ولکنها لسان ناطق )الملة النبویة العربیة لیست من جهة الأب حتی یتفاخر بالأب بل من جهة النطق بالحق فیها فمن کانت له هذه الجهة فهو من أهل الشرف و التفاخر و یحتمل أن یراد بالعربیة لغةالعربیة و الإنتساب إلی إبراهیم (علیه السلام )فیکون ردا علی مشرکی العرب و أضرابهم ممن یتفاخر بها علی غیرهم بأن المنتسب إلیه کل من تکلم بالحق و إن یکن من أولاد و هذه أنسب بقوله(فمن قصر به عمله لم یبلغه حسبه )و لا ینفعه إذ الشرف بالأعمال لا بالآباء (ألا ان کا دم کان فی الجاهلیة أو إحنة _و الإحنة :الشحناء _فهی تحت قدمی هذه إلی یوم القیامة الاحنة بکسر الهمزة و سکون الحاء المهملة الحقد و الغضب و العداوة جمعه کعنب فعله کسمع و الشحنة :. الشحناء العداوة ،قوله «تحت قدمی» مثل للردع و القمع و العبارة عن الإهدار و الإبطال و هذه کما یقول الموادع لصاحبه :إجعل ما سلف تحت قدمیک یرید طأ علیه واقمعه.

* الأصل:

343 - حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: ما كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال: لا ولكنهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء ولم يكن يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا وإن الشيخين فارقا الدنيا ولم يتوبا ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين (عليه السلام) فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

* الشرح:

قوله: (ولكنهم كانوا أسباط أولاد الأنبياء) الأسباط جمع السبط بالكسر: وهو ولد الولد قيل المراد بالأسباط هنا الأشراف من الأولاد.

* الأصل:

344 - حنان، عن أبي الخطاب، عن عبد صالح إليه (عليه السلام) قال: إن الناس أصابهم قحط شديد على عهد سليمان بن داود (عليهما السلام) فشكوا ذلك إليه وطلبوا أن يستسقي لهم قال: فقال لهم: إذا صليت الغداوة مضيت فلما صلى الغداة مضى ومضوا، فلما أن كان في بعض الطريق إذا هو بنملة

ص:370

رافعة يدها إلى السماء واضعة قدميها إلى الأرض وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، قال: فقال سليمان (عليه السلام): ارجعوا فقد سقيتم بغيركم، قال:

فسقوا في ذلك العام ما لم يسقوا مثله قط.

* الأصل:

345 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن موسى بن جعفر، عن عمرو بن سعيد، عن خلف بن عيسى، عن أبي عبيد المدائني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تعالى ذكره عبادا ميامين مياسير يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم وهم في عباده بمنزلة القطر ولله عز وجل عباد ملاعين مناكير، لا يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم وهم في عباده بمنزلة الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه.

* الشرح:

قوله: (إن الله تعالى ذكره عبادا ميامين مياسير. انتهى) ميامين جمع ميمون: وهو ذويمن وبركة ومياسير جمع ميسور: وهو الغني من اليسر وهو الغني. والأكناف: الأطراف، والجوانب جمع كنف وهو الجانب، والقطر: ما قطر من المطر والواحد قطرة والجمع قطار كجمل وجمال ووجه التشبيه هو النفع وإيصال الخير، وهذا الكلام، وإن كان خبرا لكن الغرض منه هو الحث على الاتصاف بصفاتهم والأسوة بكمالاتهم لأنه من أعظم أوصاف المتقربين ثم أشار إلى أضدادهم تحذيرا عن صفاتهم بقوله: (والله عز وجل عباد ملاعين مناكير. انتهى) ملاعين جمع ملعون: وهو البعيد عن الرحمة، ومناكير جمع منكر: وهو الشديد الغيظ الذي يتفزع عنه الناس، وتشبيههم بالجراد في الأضرار وإيصال المكروه كما أشار إليه.

* الأصل:

346 - الحسين بن محمد، ومحمد بن يحيى] جميعا [عن محمد بن سالم بن أبي سلمة عن الحسن بن شاذان الواسطي قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أشكو جفاء أهل واسط وحملهم علي وكانت عصابة من العثمانية تؤذيني فوقع بخطه: إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق أوليائنا على الصبر في دولة الباطل فاصبر لحكم ربك، فلو قد قام سيد الخلق لقالوا: «يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون».

* الشرح:

قوله: (لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه) أي أهلكوه وأفسدوه يقال: أتى عليه

ص:371

الدهر إذا أهلكه وأفسده قوله: (فلو قام سيد الخلق لقالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) الويل: الحزن والهلاك والمشقة من العذاب والنداء للتحير والتحزن والمعنى يا ويلنا احضر فهذا وقتك وأوان حضورك، والمرقد استعارة تبعية للقبر بتشبيه الموت بالرقاد في عدم ظهور الفعل والأثر والظاهر أن المراد بسيد الخلق الصاحب (عليه السلام) وفيه دلالة على الرجعة ويحتمل أن يراد به الله تعالى والمراد بقيامه قيامة لحشر الخلائق وإرادته إياه وفي لفظه مرقد جمع بين الضدين فالأولى الإشارة إلى أن أكثر الخلق لغفلتهم كأنهم ينكرون القيام، والثانية للدلالة على تحققه ووقوعه (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) هذا إشارة إلى البعث وهو كلامهم لإظهار التفجع والندامة في إنكاره أو جواب الملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم لتقريعهم.

* الأصل:

347 - محمد بن سالم بن أبي سلمة، عن أحمد بن الريان، عن أبيه، عن جميل ابن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم ولنعموا بمعرفة الله جل وعز وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله عز وجل آنس من كل وحشة وصاحب من كل وحدة ونور من كل ظلمة وقوة من كل ضعف وشفاء من كل سقم ثم قال (عليه السلام): وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردهم عماهم عليه شيء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فاسألوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم.

* الشرح:

قوله: (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا) دل على أن الواغلين في زهرات الدنيا كلهم أعداء الله تعالى لربط قلوبهم بها فهم عنه تعالى وعن الآخرة غافلون، والمراد بمعرفته تعالى معرفته بمعرفته الكاملة بقرينة أن أصل المعرفة حاصلة للناس كلهم الا ما شذ مع أن أكثر هم مادون أعينهم إلى الزهرات وإنما يتحقق تلك معرفة تعالى كما ينبغي ومعرفة ما جاء به ومعرفة أوصيائه والتسليم لهم في الأوامر والنواهي ومن حصلت لهم تلك المعرفة كانت له مقامات روحانية وتقربات إلهية وتفضلات ربانية وحالات

ص:372

نورانية ينظرون به إلى أهل الجنة وهم فيها متنعمون وإلى النار وهم فيها مصطرخون فتهون في نظرهم الدنيا وما فيها وكانت الدنيا عندهم أقل مما يطأونه من التراب (ولنعموا بمعرفة الله تعالى) النعم «توانگر شدن» وفعله من باب سمع ونصر وضرب وفي بعض النسخ «وتنعموا» من التنعم وهو الترفه (وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الحنان مع أولياء الله) من الأنبياء والأوصياء والصلحاء والوجه في المشبه به أشهر وإن كان في المشبه أقوى وأوفر لأن التلذذ الروحاني أقوي وأكمل من التلذذ الجسماني والنسبة بينهما كالنسبة بين الروح والبدن (إن معرفة الله عز وجل انس من كل وحشة. انتهى) من في المواضع المذكورة مرافقة عند كما في قوله تعالى «لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا».

وفيه ترغيب في تحصيل المعرفة بذكر بعض فوائدها الأولى أنها أنيس عند كل وحشة لا يستوحش العارف بشيء من الوحشة وأسبابها وهي الهم والخوف والخلوة، وفي كنز اللغة وحشة: «خالي واندوه ورميدگى» الثانية: أنها صاحب عند كل وحدة إذ العارف مع الله ومع الرسول والأوصياء والعلماء وما كان معه من العارف فلا تؤثر فيه الوحدة واعتزال الناس بل هو مستوحش منهم، الثالثة: أنها نور يهتدى به عند كل ظلمة نفسانية وهي الحجب المانعة من الوصول إلى الحق وسلوك سبيله كالجهالات والمهويات النفسانية والشيطانية والشبهات المؤدية إلى الكفر والضلالة. الرابعة:

أنها قوة عند كل ضعف إذا العارف لا يدخل الضعف في قلبه لقوته في المعارف ولا في بدنه لقوته في الأعمال ولا في نطقه لقوته في الأقوال، الخامسة أنها شفاء عند كل سقم نفساني وبدني إذ لا يتطرق إليه الأمراض القلبية والبدنية مثل العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة (ثم قال (عليه السلام):) للترغيب في الصبر على الإصلاح والسداد والمصائب الثقيلة على النفس (قد كان قبلكم قوم) من الأنبياء والأوصياء والعلماء والصلحاء (يقتلون ويحرفون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها): أي بسعتها (فلا يردها عماهم عليه) من العقائد الحقة والأعمال الصالحة (شيء مما هم فيه) من العقوبات المذكورة (من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى) من متعلق بيقتلون وما عطف عليه من غير جناية جنوا على من فعل ذلك المذكور من القتل وغيره بهم ومن غير أذى صدر منهم والترة بالكسر التبعة والجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي أو نحوها والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة كما في وعد وعدة.

* الأصل:

348 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعيد بن جناح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما خلق الله عز وجل خلقا أصغر من البعوض والجرجس

ص:373

أصغر من البعوض والذي نسميه نحن الولع أصغر من الجرجس وما في الفيل شيء إلا وفيه مثله وفضل على الفيل بالجناحين.

* الشرح:

قوله: (ما خلق الله عز وجل خلقا أصغر من البعوض، والجرجس أصغر من البعوض، والذي نسميه نحن الولع أصغر من الجرجس) البعوض جمع بعوضة: وهي البقة، والجرجس بالكسر: البعوض الصغار، والمراد بخلقا النوع منه ومن البعوض في قوله «أصغر من البعوض» الكبار فلا ينافي أول الكلام آخره، وفيه تحريك إلى التفكر في أمثال هذا الخلق والانتقال منه إلى عظمة الخالق وقدرته وعلمه المحيط بكل شيء.

* الأصل:

349 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين ابن سعيد جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن زيد ابن الوليد الخثعمي، عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم»، قال: نزلت في ولاية علي (عليه السلام) قال: وسألته عن قول الله عز وجل: «وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يا بس إلا في كتاب مبين» قال: فقال: الورقة السقط، والحبة: الولد، وظلمات الأرض: الأرحام، والرطب: ما يحيى من الناس، واليابس، وكل ذلك في إمام مبين قال: وسألته عن قول الله عز وجل: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم» فقال: عنى بذلك أن انظروا في القرآن فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم وما أخبركم عنه قال: قلت: فقوله عز وجل: «وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون»؟ قال: تمرون عليهم في القرآن إذا قرأتم القرآن، فقرأ ما قص الله عز وجل عليكم من خبرهم.

* الشرح:

قوله: (نزلت في ولاية علي (عليه السلام)) أشار إلى أن المراد أصالة بما يحييكم ولاية علي (عليه السلام) وهي توجب حياة القلب التي هي الحياة الأبدية ونزولها بها لا ينافي شمولها بغيرها مما يوجب الحياة كما في سائر الآيات (فقال: الورقة: السقط) السقط بالفتح والضم والكسر أكثر: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامة، الورق محركة: من الشجر معروف وما يسقط من جراحة واطلاقها على

ص:374

السقط من باب الاستعارة والتشبيه في السقوط وفيه تنبيه على علمه. بالجزئيات (والحبة: الولد) على سبيل التشبيه في النبات والنمو (وظلمات الأرض الأرحام) على تشبيه الأرحام بالظلمات في الظلمة أو بالأرض في كونها محلا للنبات، والأول أنسب بظاهر العبارة (وكل ذلك في إمام مبين) قيل: المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل القرآن الكريم وفسره (عليه السلام) بإمام مبين وكأنه علي (عليه السلام) لأن فيه علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما يكون وما هو كاين وعلم اللوح والقرآن الكريم، ووصفه بالمبين إما لأنه ظاهر في نفسه أو لأنه يبين الحق من الباطل ويفرق بينهما (قال: وسألته عن قول الله «سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» فقال: عني بذلك) أي سيروا وانظروا أي (أنظروا في القرآن فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وما أخبركم) القرآن (عنه) فهذا خطاب للعلماء وأمر لهم بالتدبر والتفكر في القرآن ليحصل لهم السير المعنوي في الأرض والعبور الروحاني بأحوال أهلها وكيفية أهلاكهم وأخذهم وسوء عاقبتهم وقبح خاتمتهم بمخالفتهم لله وللرسول والأوصياء فإن القرآن متضمن لجميع ذلك إجمالا وتفصيلا ولا يخفى لطف هذا التفسير لأن السير الظاهر في الأرض وأقطارها متعذر أو متعسر وعلى تقدير وقوعه ليس فيها ما يدل على عاقبة السابقين وأي شيء فيها مثلا يدل على عاقبة فرعون وهامان وقارون وقوم لوط وقوم صالح وشداد ونمرود وقوم عاد وثمود (قال:

تمرون عليهم في القرآن إذا قرأتم القرآن فقرأ ما قص الله عليكم من خبرهم) القراءة التلاوة وفاعل قرأ القرآن، والقص: الإخبار والتبيين يقال قص الخبر إذا أعلمه وبينه والمراد بالمرور المرور العقلي على أحوالهم والعبور الفكري بسوء عاقبتهم عند تلاوة القرآن في الليل والنهار.

* الأصل:

350 - عنه، عن ابن مسكان، عن رجل من أهل الجبل لم يسمه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليك بالتلاد وإياك وكل محدث لا عهد له ولا أمانة ولا ذمة ولا ذمه ولا ميثاق وكن على حذر من أوثق الناس في نفسك فان الناس أعداء النعم.

* الشرح:

قوله: (عليكم بالتلاد وإياك وكل محدث (1) لا عهد له ولا أمانة ولا ذمة ولا ميثاق) التلاد: المال

ص:375


1- 1 - «وإياك وكل محدث» أصحاب البيوت القديمة في الدين مؤدبون بآداب الشرع ومتخلقون بحسن الأخلاق يتوحشون من خلف العهد وهم أصحاب المكارم والعادات الشريفة بخلاف الأرذال والسفلة إذا اتفق لهم الفوز بالجاه والمال ونالوا دولة مستعارة فإن غاية همتهم التعزز بدولتهم والتفاخر بما لهم ولا يرون مكارم الأخلاق شرفا ورعاية الآداب فضلا ولا اعتماد على عهدهم وميثاقهم وقد جربنا ذلك مرارا ولا يتخلف عنها أحد حتى أن الفاسق من البيت الشريف أرجى من العادل في الأنذال وأصل التلاد المال القديم استعير هنا للبيت القديم (ش).

القديم، والحدث: خلافه وهذه النصيحة يندرج فيها أمور منها التمسك بالأحكام الشرعية والخلافة النبوية والولاية الإمامية الثابتة بالوحي والنص في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وترك ما سواها مما حدث بعده (صلى الله عليه وآله) بالآراء البشرية، ومنها الصحبة والمعاشرة والقرض والإستقراض والإيداع والإستيداع وإظهار السر والذهب والمذهب والمعاملة مع المجرب مره بعد أخرى وترك جميع ذلك مع غيره والفروق بين العهد وما عطف عليه دقيق، ولعل المراد بالعهد تذكر الحقوق ورعايتها والأمر بها وبالأمانة رد حق الغير إليه عند الإرادة وبالذمة حفظ ما يجب حفظه وبالميثاق الوفاء بالعهود والإيمان وغيرها، ثم أمر بالحذر من أوثق الناس فضلا عن غيره وأمره بكتمان السر والمذهب والمال فقال: (وكن على حذر من أوثق الناس في نفسك فإن الناس أعداء النعم) فيحسدون ويجهدون في إزالتها ويتعاونون على ذلك وربما يقتلون صاحبها كما فعل الأولون في أهل الولاية ولايمان وتبعهم الآخرون إلى عصر صاحب الزمان (عليه السلام).

* الأصل:

351 - يحيى الحلبي، عن أبي المستهل، عن سليمان بن خالد قال: سألني أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: ما دعاكم إلى الموضع الذي وضعتم فيه زيدا؟ قال: فقلت خصال ثلاث: أما إحداهن: فقلة من تخلف معنا إنما كنا ثمانية نفر، وأما الأخرى: فالذي تخوفنا من الصبح أن يفضحنا، وأما الثالثة:

فإنه كان مضجعه الذي كان سبق إليه فقال: كم إلى الفرات من الموضع الذي وضعتموه فيه؟ قلت : قذفه حجر، فقال: سبحان الله أفلا كنتم أوقرتموه حديدا وقذفتموه في الفرات وكان أفضل، فقلت جعلت فداك لا والله ماطقنا لهذا فقال: أي شيء كنتم يوم خرجتم مع زيد؟ قلت: مؤمنين قال: فما كان عدوكم؟ قلت: كفارا، قال: فإني أجد في كتاب الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا « إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها» فابتدأتم أنتم بتخلية من أسرتم سبحان الله ما استطعتم أن تسيروا بالعدل ساعة.

* الشرح:

قوله: (عن سليمان بن خالد) قيل كان قاريا فقيها وجها روى عن الباقر والصادق (عليهما السلام) خرج مع زيد ولم يخرج من أصحاب الباقر (عليه السلام) غيره فقطع أصبعه - وقيل يده - يوسف ابن عمر بنفسه ورجع

ص:376

إلى الحق قبل موته ورضى أبو عبد الله (عليه السلام) عنه بعد سخطه وتوجع بموته ودعا لولده وأوصى بهم أصحابه (فقال: ما دعاكم إلى الموضع الذي وضعتم فيه زيدا) حتى أخرجوه وحرقوه فيه توبيخ لهم على ذلك (أما إحداهن فقله من تخلف معنا) لقتل بعضهم وهرب آخرين وأما الثلاثة فإنه كان مضجعه الذي سبق إليه) لعل المراد أنه كان مضجعه الذي قتل فيه ومقتله ويحتمل بعيدا أن يراد أنه كان مضجعه في العلم الأزلي (قال فإني أجد كتاب الله عز وجل. انتهى) أشار إلى أنهم تركوا حكم الله فصاروا مغلوبين وذلك لأن الله تعالى أمر المؤمنين بالثبات في القتال وضرب رقاب الكفار حتى يثخنوهم: أي يغلبوهم ويوهنوهم ثم أمر بعد الإثخان بشدة الوثاق وهو بالفتح: ما يشد به الأسير إلى أن تضع الحرب أوزارها أي سلاحها وآلاتها وهم غلبوا في أول الحرب على الأعداء وأسروهم وخلوا سبيل الإسراء فصاروا لذلك بعد الغلبة مغلوبين مقهورين.

* الأصل:

352 - يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل أعفى نبيكم أن يلقى من امته ما لقيت الأنبياء من أممها وجعل ذلك علينا.

* الشرح:

قوله: (إن الله أعفى نبيكم) أعفاه الله من القتل مثلا وهب له العافية منه وفيه إظهار لشكر نعمته حيث أنه رضى لهم ما رضى لأولياء والإعفاء أيضا نعمة كل ذلك لمصلحة.

* الأصل:

353 - يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن ضريس قال: تمارى الناس عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال بعضهم: حرب علي شر من حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال بعضهم: حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) شر من حرب علي (عليه السلام) قال: فسمعهم أبو جعفر (عليه السلام) فقال: ما تقولون، فقالوا: أصلحك الله تمارينا في حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي حرب علي (عليه السلام) فقال بعضنا حرب علي (عليه السلام) شر من حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال بعضنا: حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) شر من حرب علي (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): لابل حرب علي (عليه السلام) شر من حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت له: جعلت فداك أحرب علي (عليه السلام) شر من حرب سول الله (صلى الله عليه وآله) قال: نعم وسأخبرك عن ذلك، إن حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقروا بالإسلام وإن حرب علي (عليه السلام) أقروا بالإسلام ثم جحدوه.

* الشرح:

ص:377

قوله: (وقال بعضهم: حرب على شر من حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله)) الحرب: النزاع والخصومة والقتال والعدو المحارب للذكر والأنثى والجمع والواحد، والثاني هنا أنسب لقوله إن حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقروا بالإسلام، ويفهم منه أن مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الإقرار به أقبح وأشد عليه من مخالفته قبله وأن المنافقين أشد عذابا من المنكرين ظاهرا وباطنا وأن المرتد أشد كفرا وعقوبة من غيره من الكفار ولهذا تقبل توبته دون المرتد كما نطقت به الأخبار.

* الأصل:

354 - يحيى بن عمران، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «وآتيناه أهله ومثلهم معهم» قلت: ولده كيف أوتي مثلهم معهم؟ قال: أحيى له من ولده الذين كانوا ماتوا قبل ذلك بآجالهم مثل الذين هلكوا يومئذ.

* الشرح:

قوله: (أحيى له من ولده. انتهى) يعني أحيى له أولاده الذين ماتوا بآجالهم على التفريق وأولاده الذين هلكوا دفعة يوم نزلت به البلية وفيه ترغيب في الصبر وتبشير بأنه مقرون بالفرج كما قيل « أقرب ما يكون اليسر عند اشتداد العسر».

* الأصل:

355 - يحيى الحلبي، عن المثنى، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

«كأنما اغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما» قال: أما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فلذلك.

* الشرح:

قوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) ضمير وجوههم راجع إلى الذين كسبوا السيئات التي هي جحود الحق والرسول والولي ومخالفتهم ومظلما حال عن الليل للتأكيد أو للتقييد وتمثيله (عليه السلام) بالبيت لإيضاح المقصود والتنبيه على أن في وجوههم أفراد من السواد بعضها فوق بعض وفيه تنفير عن السيئة الموجبة لهذه البلية الشديدة التي يتنفر عنها الطباع.

* الأصل:

356 - الحسين بن محمد، عن المعلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فلم يزل يسأله حتى

ص:378

قال: فهلك الناس إذا! قال: إي والله يا ابن أعين فهلك الناس أجمعون قلت: من في المشرق ومن المغرب قال: إنها فتحت بضلال. إي والله لهلكوا إلا ثلاثة.

* الشرح:

قوله: (قلت: من في المشرق ومن في المغرب) كلام الحارث من باب الاستفهام دون الإنكار لأنه ثقة من الأصحاب وله مدح عظيم من أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: إنها فتحت بضلال) في عهد الخلفاء الضالة المضلة فلا يستبعد ضلالة من فيها لدخولهم في الدين الذي أخترعوه. والقول بأن النبي (صلى الله عليه وآله) فتحها حين كونهم في ضلالة فلا يستبعد رجوعهم إليها بعده لعدم استقرار الإيمان في قلوبهم محتمل بعيد. أي (والله لهلكوا إلا ثلاثة) المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كما مر ولا حاجة إلى استثناء أهل البيت كما زعم لأن هلاك الناس بهم وبترك محبتهم فهم غير داخلين في المواضع ولا إلى استثناء من رجع عن الباطل ثانيا لأن المقصود اثبات الهلاك في الجملة وغير الثلاثة ارتدوا بعده وإن رجع قليل منهم فتاب كما مر من حديث حنان.

* الأصل:

357 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن إسحاق بن يزيد، عن مهران عن أبان بن تغلب وعدة قالوا: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جلوسا فقال (عليه السلام): لا يستحق عبد حقيقة الإيمان حتى يكون الموت أحب إليه من الحياة ويكون المرض أحب إليه من الصحة ويكون الفقر أحب إليه من الغنى فأنتم كذا؟ فقالوا: لا والله جعلنا الله فداك وسقط في أيديهم ووقع اليأس في قلوبهم فلما رأى ما داخلهم من ذلك قال: أيسر أحدكم أنه عمر ما عمر ثم يموت على غير هذا الأمر أو يموت على ما هو عليه! قالوا: بل يموت على ما هو عليه الساعة قال: فأرى الموت أحب إليكم من الحياة، ثم قال: أيسر أحدكم إن بقي ما بقي لا يصيبه شيء من هذه الأمراض والأوجاع حتى يموت على غير هذا الأمر! قالوا: لا يا ابن رسول الله، قال: فأرى المرض أحب إليكم من الصحة، ثم قال: أيسر أحدكم أن له ما طلعت عليه الشمس وهو على غير هذا الأمر؟ قالوا: لا يا ابن رسول الله، قال: فأرى الفقر أحب إليكم من الغنى.

* الشرح:

قوله: (كنا عند أبي عبد الله جلوسا) أي جالسين فهو بالضم جمع جالس كقعود جمع قاعد (فقال لا يستحق عبد حقيقة الإيمان حتى يكون الموت إليه من الحياة) أريد بحقيقة

ص:379

الإيمان: الإيمان الكامل بأركانه وشرايطه التي من جملتها الأعمال الصالحة أو الإيمان الثابت المستقر الذي ليس بمستودع أو الثواب الجزيل المترتب عليه ويؤيده لفظ الاستحقاق (وسقط في أيديهم): أي ندموا وتحيروا يقال، سقط في يده وأسقط مضمومتين: أي ذل وأخطأ وندم وتحير.

* الأصل:

358 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن حماد اللحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أباه قال: يا بني إنك إن خالفتني في العمل لم تنزل معي غدا في المنزل، ثم قال:

أبى الله عز وجل أن يتولى قوم قوما يخالفونهم في أعمالهم ينزلون معهم يوم القيامة كلا ورب الكعبة.

* الشرح:

قوله: (يا بني إنك إن خالفتني في العمل لم تنزل معي في المنزل) أي الجنة في منزلي ودرجتي وهذا مما لا ريب فيه لأن قليل العمل لا يبلغ درجة كثيرة وليس المراد انك لم تنزل في الجنة إلا أن يراد بالمخالفة الإنكار لدلالة روايات متكثرة على أن أهل الإيمان يدخلون الجنة وإن قل عملهم وقد مر بعضها وكذا قوله (أبى الله عز وجل - إلى آخره) دل على أن الشيعة المقصرين في العمل لا ينزلون معهم ولا يدل على أنهم لا يدخلون الجنة ويمكن أن يراد أنهم لا ينزلون معهم ابتداء قبل الخروج عن عهدة التقصير أو قبل الشفاعة.

* الأصل:

359 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما أحد من هذه الأمة يدين بدين إبراهيم (عليه السلام) إلا نحن وشيعتنا ولا هدي من هدي من هذه الامة إلا بنا ولا ضل من ضل من هذه الأمة إلا بنا.

* الشرح:

قوله: (ما أحد من هذه الأمة يدين بدين إبراهيم (عليه السلام). انتهى) أي بأصول دينه التي لا ينسخ أبدا كالتوحيد وتنزيه الحق عما لا يليق به والقول بأن العصر لا يخلو من رسول أو وصي وأنهما بالنص إلى غير ذلك من الأمور التي لا تتغير بتواتر الأنبياء والرسل ثم أشار.

* الأصل:

360 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

كنت عنده وسأله رجل عن رجل يجيء منه الشيء على حد الغضب يؤخذه الله به! فقال:

ص:380

الله أكرم من أن يستعلق عبده وفي نسخة أبي الحسن الأول (عليه السلام): يستفلق عبده.

* الشرح:

قوله: (ولا هدي من هدي من هذه الأمة إلا بنا. انتهى) أي أن هذه الأمة بعد نبيهم صاروا فرقتين فرقة هدوا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم بسبب متابعتهم، وفرقة ضلوا عنهما بسبب مخالفتهم، قوله: (الله أكرم من ان يستعلق عبده. انتهى) بالعين المهملة: أي يخاصمه بزلالة ولم يجعل له بابا لنجاته وهو التوبة من العلق محركة: وهو الخصومة وفي بعض النسخ بالغين المعجمة من استغلقه في بيعه إذا لم يجعل له خيارا في رده، والاستقلاق بالقافين: من القلق محركة وهو الإنزجاع والاضطراب وهذه المعاني متقاربة والله أعلم.

* الأصل:

361 - علي، عن أبيه، عن ابن عمير، عن محمد بن أبي حمزة، وغير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (عليهما السلام): إن لكم في حياتي خيرا وفي مماتي خيرا، قال: فقيل: يا رسول الله أما حياتك فقد علمنا فمالنا في وفاتك؟ فقال (عليه السلام): أما في حياتي فان الله عز وجل قال: «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» وأما في مماتي فتعرض علي أعمالكم فأستغفر لكم.

* الشرح:

قوله: (فتعرض علي أعمالكم) عرض الأعمال عليه متفق عليه بين الأمة إلا أن في وقت العرض وتفصيله خلاف بيننا وبينهم ذكرناه في شرح كتاب الحجة من الأصول.

* الأصل:

362 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إن ممن ينتحل هذا الأمر ليكذب حتى أن الشيطان ليحتاح إلى كذبه.

* الشرح:

قوله: (ان ممن ينتحل هذا الأمر. انتهى) الانتحال «چيزي بر خود بستن» وفيه دلالة على أن الفاسقين المكذبين من الشيعة من أهل النفاق ليس لهم حقيقة التشيع.

* الأصل:

363 - علي بن محمد، عن صالح بن أبي حماد، عن علي بن الحكم، عن مالك بن عطيه، عن أبي حمزة قال: إن أول ما عرفت علي بن الحسين (عليهما السلام) أني رأيت رجلا دخل من باب الفيل فصلى

ص:381

أربع ركعات فتبعته حتى أتى بئر الزكاة وهي عند دار صالح بن على وإذا بناقتين معقولتين ومعها غلام أسود، فقلت له: من هذا؟ فقال: هذا علي بن الحسين (عليهما السلام) فدنوت إليه فسلمت عليه وقلت له: ما أقدمك بلادا قتل فيها أبوك وجدك! فقال: زرت أبي وصليت في هذا المسجد ثم قال: ها هو ذا وجهي. صلى الله عليه.

قوله: (ثم قال ها هو ذا وجهي) «ها» للتنبيه وهو مبتدأ مبهم، والجملة بعده خبر مفسر له كما قيل في قل هو الله أحد، و «ذا» إشارة إلى طريق المدينة ووجه كل شيء مستقبلة وهو ما يستقبل ويتوجه إليه والظاهر أن قوله (صلى الله عليه) من كلام الراوي وقيل يحتمل أن يكون من كلامه (عليه السلام) حيث أشار إلى طريق المدينة فصلى على النبي.

* الأصل:

364 - عنه، عن صالح، عن الحجال، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل» قال: نزلت في الحسين (عليه السلام)، لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا.

* الشرح:

قوله: (نزلت في الحسين (عليه السلام) لو قتل أهل الأرض به ما كان سرفا) لعل المراد من أهل الأرض من اجتمعوا واتفقوا على قتله (عليه السلام) ورضوا به إلى يوم القيامة وهذا التفسير يدل على أن لا يسرف خبر، والثابت في القرآن نهي ولا يبعد أن يحتمل النهي هنا على الخبر كما يحمل الخبر على النهي في كثير من المواضع والله يعلم.

* الأصل:

365 - عنه، عن صالح، عن بعض أصحابه، عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الحوت الذي يحمل الأرض أسر في نفسه أنه إنما يحمل الأرض بقوته فأرسل الله تعالى إليه حوتا أصغر من شبر وأكبر من فتر فدخلت في خياشيمه فصعق، فمكث بذلك أربعين يوما ثم أن الله عز وجل رؤوف به رحمه وخرج، فإذا أراد الله جل وعز بأرض زلزلة بعث ذلك الحوت إلى ذلك الحوت فإذا رآه اضطرب فتزلزلت الأرض.

* الشرح:

قوله: (أصغر من شبرو أكبر من فتر) الفتر بالكسر: بابين طرفي السبابة والإبهام إذا فتحتهما (فدخل في خياشيمه فصعق) الخيشوم من الأنف: ما فوق نخرته من القصبة وما تحتها

ص:382

من خشارم الرأس والخياشيم غراضيف في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ أو عروق في بطن الأنف، والصعق: الغشي صعق كسمع صعقا ويحرك فهو صعق ككتف غشي عليه وفيه إشارة إلى سبب الزلزلة وقد يكون لها سبب آخر كما صرح به الصدوق وإلى أن التكبر والعجب يوجبان الذل وتنبيه على أن البلاء النازلة على العباد كلها لمصلحة يرجع فيها نفعها إليهم.

* الأصل:

366 - عنه، عن صالح، عن محمد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بكر الحضرمي، عن تميم بن حاتم قال: كنا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) فاضطرب الأرض فوحاها بيده ثم قال لها: اسكني مالك! ثم التفت إلينا وقال: أما إنها لو كانت التي قال الله عز وجل لأجابتني ولكن ليست بتلك.

* الشرح:

قوله: (فوحاها بيده ثم قال لها اسكنى مالك؟) فسكنت ولم تجب عن قوله مالك. والوحي هنا:

الإشارة ثم أشار (عليه السلام) إلى أن هذا الوقت جوابها وإنما وقتها عند زلزلة الساعة بقوله (أما إنها لو كانت التي قال الله لأجابتني ولكنها ليست بتلك) قال الله تعالى «إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض اثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها» أي بلسان المقال ما لأجله زلزالها وما عمل عليها وما وقع فيها من خير وشر وذلك سبب أنه تعالى أوحى لها بالنطق وأمرها بالإخبار قال على بن إبراهيم في تفسيره: المراد بالإنسان أمير المؤمنين (عليه السلام).

* الأصل:

367 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي اليسع، عن أبي شبل - قال صفوان: ولا أعلم إلا أني قد سمعت من أبي شبل - قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أحبكم على ما أنتم عليه دخل الجنة وإن لم يقل كما تقولون.

* الشرح:

قوله: (عن أبي اليسع عن أبي شبل) قال الفاضل الأسترآبادي في رجاله أبو شبل اسمه عبد الله ابن سعيد ثقة وأبو اليسع داود الابزاري مشترك بين مهملين ابن راشد وابن سعيد ويحتمل غيرهما فتدبر انتهى، أقول: يحتمل ابن فرقد الثقة بقرينة ان له كتابا يروي عنه صفوان بن يحيى كما ذكره هذا الفاضل ويحتمل غيره أيضا.

(قال صفوان ولا أعلم الا أني قد سمعت من أبي شبل) يعني ظننت ذلك فهو يروي عنه أيضا

ص:383

بلا واسطة (قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) من أحبكم على ما أنتم عليه) من ولاية علي وأولاده الطاهرين عليهم السلام دخل الجنة وإن لم يقل كما تقولون) لإخفاء في أن من أحب أحدا بولاية علي عليه السلام كان معتقدا بها مؤمنا وإن لم يظهرها باللسان ولم يعمل بمقتضاها فهو يدخل الجنة بالعفو والشفاعة مع بقاء إيمانه عند الخروج من الدنيا والله يعلم.

* الأصل:

368 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول، عن سلام بن المستنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما انقضت القصة فيما بينه وبين طلحة والزبير وعائشة بالبصرة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: أيها الناس إن الدنيا حلوة خضرة تفتن الناس بالشهوات وتزين لهم بعاجلها وأيم الله إنها لتغر من أملها وتخلف من رجاها وستورث أقواما الندامة والحسرة بإقبالهم عليها وتنافسهم فيها وحسدهم وبغيهم على أهل الدين والفضل فيها ظلما وعدوانا وبغيا وأشرا وبطرا، وبالله إنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنيا ولا دائم تقوى في طاعة الله والشكر لنعمه فأزال ذلك عنهم إلا من بعد تغيير من أنفسهم، وتحويل عن طاعة الله والحادث من ذنوبهم وقلة محافظة وترك مراقبة الله جل وعز وتهاون بشكر نعمة الله لأن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» «وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال» ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعم الله وحلول نقمته وتحويل عافيته أيقنوا أن ذلك من الله جل ذكره بما كسبت أيديهم، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى الله جل ذكره بصدف من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإسائتهم لصفح لهم عن كل ذنب وإذا لأقالهم كل عثرة ولرد عليهم كل كرامة نعمة ، ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم ومما كان أنعم به عليهم كل ما زال عنهم وأفسد عليهم.

فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته، استشعروا خوف الله جل ذكره وأخلصوا اليقين، وتوبوا إليه من قبيح ما استفزكم الشيطان من قتال ولي الأمر وأهل العلم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة وتشتت الأمر وفساد صلاح ذات البين، إن الله عز وجل «يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون».

* الشرح:

قوله: (أيها الناس إن الدنيا حلوة خضرة): أي تامة الحلاوة شديدة الخضرة وإنما وصف الدنيا ومتاعها بهما لميل الطبايع الفاسدة إليها (تفتن الناس بالشهوات): أي تعجبهم أو

ص:384

تضلهم، يقال: فتنه بفتنه: وفتنه وأفتنه: أوقعه في الفتنة ولها معان منها: الإعجاب والإضلال والدنيا تعجبهم وتضلهم لأنها تعطف عليها قلوبهم وتصرف إليها ميولهم وتعمى عيون بصايرهم وتطفأ أنوار ضمائرهم فتمنعهم عن إدراك الحق وتعجزهم عن سلوك سبيلة والاقتداء بحججه والاهتداء إلى منهجه وإليه الإشارة في قوله تعالى «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه» (وتزين لهم بعاجلها) وهي زهراتها البائدة الحاضرة التي تغفل القلوب الناقصة القاصرة عن التوجه إلى السعادة الدائمة والظاهر الباء زايدة، ثم أشار إلى ما يوجب النفور منها مؤكد بالقسم وغيره بقوله (وأيم الله أنها لتغر من أملها) غره غرا وغرورا وغرة بالكسر فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل والدنيا غرارة خداعة تغر من أملها ومال قلبه إليها وتغفله بزهراتها الزائلة وشهواتها الباطلة عن الله تعالى وعن أمر الآخرة (وتخلف من رجاها) بعدم إعطاء مرجوه أو بأخذه منه ورده فقيرا إلى الآخرة (وستورث غدا أقواما) التنكير والجمع للتكثير والمبالغة في الكثرة والمراد بالغد يوم القيامة أو يوم الموت وما بعده (الندامة والحسرة) حين رأوا سعادة الزاهدين في الدنيا وخسران أنفسهم (بإقبالهم عليها وتنافسهم فيها) التنافس: التسابق إلى الشيء أيهم يأخذه أولا ومنشأه كثرة الرغبة وهو أول التحاسد (وحسدهم وبغيهم على أهل الدين والفضل فيها) أي في الدنيا والمراد بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل العصمة من أولاده الطاهرين ثم من تبعهم إلى يوم الدين.

(ظلمنا وعدوانا وبغيا وأشرا وبطرا) قيل الأشر البطر، وقيل أشد البطر، والبطر: الطغيان عند النعمة وطول الغنا، وقيل: هو التكبر عن الحق وعدم قبوله، وكان هذه الأمور متعلقة بالأمور السابقة على الترتيب فظلما علة لإقبالهم على الدنيا لظلمهم على أنفسهم وعدو لهم عن طريق الآخرة إلى الدنيا وعدوانا علة لتنافسهم فيها لتجاوزهم عن حد الحق ودخولهم في حد الباطل وبغيا علة لحسدهم على أهل الدين والفضل لتجاوزهم عن حدهم فخرجوا عن طاعة الإمام العادل وحسدوا عليه، وأشرا وبطرا علة لبغيهم عليهم وجعل كل واحد متعلقا بكل واحد أو بحسدهم وبغيهم محتمل ولكن قوله بغيا يأباه في الجملة فليتأمل، ثم نبه (عليه السلام) لمناسب المقام بقوله (وبالله أنه ما عاش قوم قط في غضارة. انتهى) على أن كل من له نعمة وغضارة عيش وطيبه وطاعة لله تعالى وشكر له وغيرها من الفضايل النفسانية والبدنية ثم سلب منه تلك النعمة وأزيلت عنه تلك الفضيلة ما كان سبب السلب والإزالة إلا ثغيرهم ما بأنفسهم من الأحوال الحسنة إلى الأحوال القبيحة وتحويلهم من الطاعة إلى المعصية وقلة محافظة ما أراد الله تعالى منهم وترك مراقبته في مقام المعصية، ثم استدل على ذلك بقوله تعالى فقال: (لأن الله عز وجل يقول في محكم كتابه: إن الله لا

ص:385

يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) من الكمالات وحسن الحالات إلى أضدادها (وإذ أراد الله بقوم سوءا) إرادة حتم (فلا مرد له) إذ لا يقدر شيء أن يعارضه في إرادته (وما لهم من دونه من وال يلي صلاح أمرهم ودفع السوء عنهم، واعلم أن المشتغلين بالمعصية حاملون لوزرها دافعون لنعمتهم الحاصلة ما نعون من حصول المترقبة مفسدون لحالهم ونظامهم ولو أنهم أيقنوا حين خافوا زوال النعمة وحلول النقمة وتحويل العافية أن ذلك بسبب معصيتهم فتابوا إلى الله توبة نصوحا لتجاوز الله عن ذنوبهم وعثراتهم ورد عليهم النعمة المصروفة عنهم وأنزالها إليهم أعاد لهم كل ما زال عنهم من النعمة الحاصلة وفسد عليهم من الحالة الصالحة وإلى جميع ذلك أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (ولو أن أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعمة الله وحلول نقمته وتحويل عافيته أيقنوا أن ذلك من الله عز ذكره بما كسبت أيديهم) من الذنوب فقوله: «أيقنوا خبر» «أن» وقوله «إذا هم» ظرف زمان له وقوله «لصفح» جزاء الشرط (فاقلعوا) عن المعاصي والذنوب (وتابوا) إلى الله عز وجل منها (وفزعوا إلى الله تعالى): أي خافوا عدم قبول التوبة راجعين أو متضرعين إليه في قبولها واستغاثوا إليه للتوفيق في التوبة والثبات عليها (بصدق نياتهم) على أن لا يرجعوا إليها أبدا وهن التوبة الخاصة وتوبة النصوح (وإقرار منهم بذنوبهم وإسالتهم) تفصيلا أو إجمالا (لصفح بهم عن كل ذنب) أذنبوه والصفح: التجاوز والعفو.

(وإذا لأقالهم كل عثرة) إذا: جواب وجزاء تأويلها إن كان الأمر كما ذكرت والإقالة: نقض البيع والمراد هنا نقض العثرات والتجاوز عنها وهذا كالتأكيد أو التعميم بعد التخصيص لأن العثرة أعم من الذنب (ولرد عليهم كل كرامة نعمة) كانت ممنوعة الوصول إليهم والظاهر أن الإضافة بيانية (ثم أعاد لهم من صالح أمرهم ومما كان أنعم الله به عليهم) من للابتداء أو التعليل (كل ما زال عنهم وفسد عليهم) بسبب المعصية من النعماء والأحوال الحسنة وفي ثم إشعار بأن هذا التفضل أبلغ وأكمل من الأول ثم صرف الكلام عن هذه الموعظة العامة إلى من حاربوه وقاتلوه وخرجوا عليه على سبيل التفريع فقال (فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته) أي تقواه وهي التجنب عن كل ما يوجب سخطه والتمسك بكل ما يوجب مع نية خالصة (واستشعروا خوف الله جل ذكره) أي اجعلوه علامة لكم تعرفون بها أو محيطا بقلوبكم إحاطة الشعار بالبدن أو في ذكركم من الشعور وهو العلم ( وأخلصوا اليقين بالله) وبما جاء به الرسول من الحقوق الدينية والدنيوية، واليقين: هو العلم الذي لا يتطرق إليه شك ولعل المراد بإخلاصه العمل بمقتضاه لأن العامل بخلاف مقتضى العلم كان له شك فلا يكون له يقين خالص وفي بعض النسخ «النفس» في موضع اليقين والمراد بإخلاصها تنزيهها من النقايص (وتوبوا إلى الله من قبيح ما استفزكم الشيطان) فزه عن موضعه فزا:

ص:386

أزعجه واستفزه استخفه وأخرجه من داره وأزعجه من حاله إلى حال (من قتال ولي الأمر وأهل العلم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)) بعد متعلق بالقتال أو بولي الأمر والمراد به نفسه المقدسة ومن تبعه من المؤمنين (وما تعاونتهم عليه من تفريق الجماعة) جماعة المسلمين (وتشتيت الأمر) أي تفريق أمرهم ( وفساد صلاح ذات البين) في القاموس ذات بينكم أي حقيقة وصلكم أو ذات الحال التي يجتمع بها المسلمون وفي الكنز ذات البين عبارة عن نفس البين أي صلاح بينكم (إن الله يقبل التوبة ويعفو عن السيئات) ترغيب في التوبة وتعليل لقوله «توبوا» وفيه دلالة على أن قبول التوبة من باب التفضل، وقيل: من باب الوجوب وقد مر وعلى أن توبة المرتد مطلقا مقبولة والخلاف في الفطري مشهور وفي بعض النسخ «عن السيئة» و (يعلم ما تفعلون) وعد ووعيد للمطيع والعاصي بالثواب والعقاب وحث على ترك القبيح لأن العلم بأن على العمل رقيبا عالما يبعث على تجويد العمل وترك القبيح.

* الأصل:

369 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن علي بن عثمان قال: حدثني أبو عبد الله المدائني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل خلق نجما في الفلك السابع فخلقه من ماء بارد وسائر النجوم الستة الجاريات من ماء حار وهو نجم الأنبياء والأوصياء، وهو نجم أمير المؤمنين (عليه السلام) يأمر بالخروج من الدنيا والزهد فيها ويأمر بافتراش التراب وتوسد اللبن ولباس الخشن وأكل الجشب وما خلق الله نجما أقرب إلى الله تعالى منه.

* الشرح:

قوله: (إن الله عز وجل نجما (1) في الفلك السابع) الظرف صفة لنجما أو متعلق لخلق (فخلقه من ماء بارد. انتهى) إذا كان الماء أصل كل شيء من الأجسام كما مر لم يبعد ذلك ويمكن أن يكون كناية عن لينة طبعه ولطفه بالسفليات وأمره للناس بما ذكر إما بالتأثير في المستعدين الراغبين في الآخرة أو بالقول وسماع الكاملين له وإخبارهم به يكفي لزوم التصديق به لو كان النقل صحيحا وكونه نجم الأنبياء إلى آخره باعتبار أن تأثيره لهم وسماعهم لأمره أظهر هذا ويمكن أن يراد به النبي (صلى الله عليه وآله) وحينئذ جميع ما ذكر ظاهر ويؤيده ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى « وعلامات وبالنجم هم يهتدون» قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعلامات هم الأئمة (عليهم السلام).

ص:387


1- 1 - يعني الزحل وهو عند المنجمين كوكب الدهاقين وأصحاب المهن (ش).

* الأصل:

370 - الحسين * عن أحمد بن هلال، عن ياسر الخادم قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): رأيت في النوم كأن قفصا فيه سبعة عشر قارورة، إذا وقع القفص فتكسرت القوارير، فقال: إن صدقت رؤياك يخرج رجل من أهل بيتي يملك سبعة عشر يوما ثم يموت، فخرج محمد بن إبراهيم بالكوفة مع أبي السرايا فمكث سبعة عشر يوما ثم مات.

* الشرح:

قوله: (إن صدقت رؤياك) الرؤيا الصادقة ما له خارج هي تخبر عنه والكاذبة وهي أضغاث أحلام ما ليس له خارج ولا تأويل لها إذ تأويلها بيان ما دلت عليه من الأمور الخارجة ولا خارج لها كما مر.

* الأصل:

371 - عنه، عن أحمد بن هلال، عن محمد بن بن سنان قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) في أيام هارون: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر الدم!، فقال:

جرأني على هذا ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أني لست بنبي، وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أني لست بإمام.

* الشرح:

قوله (إنك قد شهرت نفسك) شهرت الأمر أشهره شهرا وشهرته تشهيرا أوضحه وأضهرته.

* الأصل:

372 - عنه، عن أحمد (عليه السلام) عن زرعة، عن سماعة قال: تعرض رجل من ولد عمر بن الخطاب بجارية رجل عقيلي (1) فقالت له: إن هذا العمري قد آذاني فقال: لها عديه وأدخليه الدهليز فأدخله فشد عليه فقتله وألقاه في الطريق فاجتمع البكريون والعمريون والعثمانيون وقالوا: ما لصاحبنا كفو لن نقتل به إلا جعفر بن محمد وما قتل صاحبنا غيره وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قد مضى نحو قبا فلقيته بما اجتمع القوم عليه. فقال: دعهم، قال: فلما جاء ورأوه وثبوا عليه وقالوا: ما قتل صاحبنا أحد غيرك وما نقتل به أحدا غيرك، فقال: ليكلمني منكم جماعة فاعتزل قوم منهم فأخذ

ص:388


1- 1 - الخبر موضوع بلا مرية، والمتهم بالوضع أحمد بن هلال الملعون على لسان العسكري (عليه السلام) وذكرنا علته في حواشي كتاب روضة من الوافي (ص 110 من الجزء 14) (ش).

بأيديهم فأدخلهم المسجد فخرجوا وهم يقولون: شيخنا أبو عبد الله جعفر بن محمد معاذ الله أن يكون مثله يفعل هذا ولا يأمر به، انصرفوا قال: فمضيت معه فقلت: جعلت فداك ما كان أقرب رضاهم من سخطهم؟! قال: نعم دعوتهم فقلت: أمسكوا وإلا أخرجت الصحيفة.

فقلت: وما هذه الصحيفة جعلني الله فداك فقال: إن ام الخطاب كانت أمة للزبير بن عبد المطلب فسطر بها نفيل فأحبلها فطلبه الزبير فخرج هاربا إلى الطائف فخرج الزبير خلفه فبصرت به ثقيف فقالوا: يا أبا عبد الله ما تعمل ههنا! قال: جاريتي سطربها نفيلكم، فهرب منه إلى الشام وخرج الزبير في تجارة له إلى الشام فدخل على ملك الذمة فقال له: يا أبا عبد الله لي إليك حاجة، قال:

وما حاجتك أيها الملك فقال: رجل من أهلك قد أخذت ولده فاحب أن ترده عليه، قال: ليظهر لي حتى أعرفه فلما أن كان من الغد دخل على الملك فلما رآه الملك ضحك، فقال: ما يضحكك أيها الملك؟ قال: ما أظن هذا الرجل ولدته عربية، لما رآك قد دخلت لم يملك استه أن جعل يضرط، فقال: أيها الملك إذا صرت إلى مكة قضيت حاجتك فلما قدم الزبير، تحمل عليه ببطون قريش كلها أن يدفع إليه ابنه فأبى ثم تحمل عليه بعبد المطلب فقال: ما بيني وبينه عمل، أما علمتم ما فعل في ابني فلان ولكن امضوا أنتم إليه فقصدوه وكلموه فقال لهم الزبير: إن الشيطان له دولة إن ابن هذا ابن الشيطان ولست آمن أن يترأس علينا ولكن أدخلوه من باب المسجد علي على أن أحمي له حديدة وأخط في وجهه خطوطا وأكتب عليه وعلى ابنه ألا يتصدر في مجلس ولا يتأمر على أولادنا ولا يضرب معنا بسهم، قال: ففعلوا وخط وجهه بالحديدة وكتب عليه الكتاب وذلك الكتاب عندنا فقلت لهم: إن أمسكتم وإلا أخرجت الكتاب ففيه فضيحتكم فأمسكوا.

وتوفي مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يخلف وارثا فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله (عليه السلام) وكان هشام بن عبد الملك قد حج في تلك السنة فجلس لهم فقال داود بن علي: الولاء لنا وقال أبو عبد الله (عليه السلام): بل الولاء لي فقال داود بن علي: إن أباك قاتل معاوية، فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك فيه الأوفر ثم فر بخيانته، وقال: والله لاطوقنك غدا طوق الحمامة، فقال له داود بن علي:

كلامك هذا أهون علي من بعرة في وادي الأزرق، فقال: أما إنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق قال:

فقال هشام: إذا كان غدا جلست لكم فلما أن كان من الغد خرج أبو عبد الله (عليه السلام) ومعه كتاب في كرباسة وجلس لهم هشام فوضع أبو عبد الله (عليه السلام) الكتاب بين يديه فلما أن قرأه قال:

ادعوا لي جندل الخزاعي وعكاشة الضمري وكانا شخين قد أدركا الجاهلية فرما بالكتاب إليهما فقال: تعرفان هذه الخطوط! قالا: نعم هذا خط العاص بن امية وهذا خط فلان وفلان لفلان من قريش وهذا خط

ص:389

حرب بن أمية، فقال هشام: يا أبا عبد الله أرى خطوط أجدادي عندكم؟ فقال:

نعم، قال: فقد قضيت بالولاء تلك قال: فخرج وهو يقول:

إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة قال: فقلت: ما هذا الكتاب جعلت فداك؟ قال: فإن نثيلة كانت أمة لام الزبير ولأبي طالب وعبد الله فأخذها عبد المطلب فأولدها فلانا فقال له الزبير: هذه الجارية ورثناها من امنا وابنك هذا عبد لنا فتحمل عليه ببطون قريش، قال: فقال قد أجبتك على خلة على أن لا يتصدر ابنك هذا في مجلس ولا يضرب معنا بسهم فكتب عليه كتابا وأشهد عليه فهو هذا الكتاب.

* الشرح:

قوله: (بجارية رجل عقيلي) الجارية البنت وهي فتية النساء وتطلق على الأمة أيضا ولعل المراد هنا الأولى (وأدخليه الدهليز) الدهليز بالكسر ما بين الباب والدار (قد مضي نحو قباء) هي بالضم وتذكر وتقصر: قرية قرب المدينة (فلقيته بما اجتمع القوم عليه) فيه اختصار فطلبته فليقته وأخبرته (معاذ الله أن يكون مثله يفعل هذا ولا يأمر به) نفي للفعل عنه من باب الكناية ومعاذ الله مصدر منصوب بفعل مقدر أي نعوذ معاذا إلى الله ولا لتأكيد النفي المستفاد ضمنا (فقال إن أم الخطاب كانت أمة للزبير بين عبد المطلب فسطر بها نفيل فأحبلها) في القاموس سطر تسطيرا: ألف وعليه إياه بالأساطير: وهي الأحاديث التي لا نظام لها وفي النهاية سطر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمقها، وتلك الأقاويل الأساطير ذكر الآبي في كتاب إكمال الإكمال نسب عمر هكذا عمر يكني أبا الحفص وهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن زيد بن عدي بن كعب بن لوي (فبصرت به ثقيف) كامير أبو قبيلة من هوزان واسمه قسى بن منبه بن بكر بن هوزان (فهرب منها إلى الشام) أي فهرب نفيل لما سمع خبر وصول الزبير من ثقيف من الطايف إلى الشام (فدخل على ملك الدومة) دومة الجندل: اسم حصن على خمسة عشر ليلة من المدينة ومن الكوفة على عشر مراحل وأصحاب اللغة يضمون الدال وأصحاب الحديث يفتحونها كذا نقل عن المغرب فقال (ما أظن هذا الرجل ولدته عربية) قال ذلك لأن الضرطة عيب وعار خصوصا عند العرب ولأنها نشأت من الخوف والجبن والشجاعة معروفة في العرب وانما شك في أمه لعلمه بأن أباه كان عربيا، والإست بالكسر: الدبر، فقال: (أيها الملك إذا صرت إلى مكة قضيت حاجتك) فجعل له الأمان ووعد الملك بقضاء حاجته برد الولد (فلما قدم الزبير مكة) ورجع نفيل إليها أيضا (تحمل) نفيل (عليه ببطون قريش) أي كلفه برد

ص:390

الولد وجعلهم شفعاء له (فقال: ما بيني وبينه عمل) أي فقال عبد المطلب أبو الزبير ما بيني وبين الزبير عمل فلا أتكلم معه أما علمتم ما فعل في ابني فلان وهو العباس وسيجييء حكايته (ولكن امضوا إليه) أي إلى الزبير والخطاب لساير أولاده ومن حضره من بطون قريش (ولست آمن أن يترأس علينا) الرئيس سيد القوم رأسته ترئيسا إذا جعلته رئيسا وارتأس صار رئيسا كترأس وفي الكنز ترأس «سردار شدن» وقد صار كما قال.

(ولا يضرب معنا بسهم) في الغنيمة وغسرها ويمكن أن يراد به سهم الميسر لأنهم كانوا يعملونه مع الأكفاء (وتوفي مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله)) المراد بالمولى هنا العبد المعتق (فخاصم فيه ولد العباس أبا عبد الله (عليه السلام)) كان ولد العباس من أهل المكابرة لأن الولاء للمعتق وأولاده (وقال داود بن علي إن أباك قاتل معاوية، قال: ذلك إغراء وتحريشا لهشام عليه (عليه السلام) ولم يكن لم حجة للغلبة سوى هذا (فقال: إن كان أبي قاتل معاوية فقد كان حظ أبيك) هو عبد الله بن العباس (فيه الأوفر) إذا قاتله بنصره وهو أقبح في العرف (ثم فر بجنايته) فقد جمع بين القتال والفرار، قيل: كأنه إشارة إلى ما حكاه الكشي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) استعمله على البصرة فحمل بيت المال وفر منها إلى الحجاز وكان مبلغه ألفي ألف درهم وفي بعض النسخ بخيانته بالخاء المعجمة وفي بعضها بجناحيه (وقال: والله لا طوقنك غدا طوق الحمامة) فعل قال أبو عبد الله (عليه السلام): وهذا مثل لإيصال المكروه إلى أحد من حيث لا يعلم (في وادي الأزرق) واد وسيع كانت ترعى فيه الأنعام والأباعر (فقال: أما أنه واد ليس لك ولا لأبيك فيه حق) فيه تحقير له وإنما قال ذلك مع كمال حلمه لما روي عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: البشر يدفعه الشر، وقال: ردوا الحجر من حيث جاء، ولما اشتهر من أن الحلم مع الأحمق السفية حمق، وفيه دلالة على جواز أمثال ذلك في جواب الخصم المعتدي (وعكاشة الضمري) بضم العين وشد الكاف وفي القاموس بنو ضمر: رهط عمرو بن أمية الضمري (إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة) هذا مثل لدفع الخصم المؤذي بما أمكن وقت الحاجة إليه (قال: فإن نثيلة كانت أمة لأم الزبير ولأبي طالب وعبد الله) هم بنوا عبد المطلب من أم واحدة ونثيلة كسفينة بالنون والثاء المثلثة وفي القاموس: النثيلة: اللحم السمين وفي بعض النسخ «نفيلة» بالنون والفاء وكأنها من النفل بمعنى العطية أو من النفل: الذي هو نبت له نور طيب الرائحة (فأولدها فلانا) هو العباس.

* الأصل:

373 - الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن معاوية بن حكيم، عن بعض رجاله، عن عنبسة بن بجاد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: «فأما إن كان من أصحاب

ص:391

اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين» فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): هم شيعتك فسلم ولدك منهم أن يقتلوهم.

* الشرح:

قوله: (عن عنبسة بن بجاد) بالباء الموحدة المكسورة والجيم (فأما إن كان من أصحاب اليمين) قيل: أصحاب اليمين من كان له حالة حسنة ومنزلة رفيعة ومرتبة سنية وأصحاب الشمال من كان له حالة شنيعة ومنزلة دنية ومرتبة وضيعة، يقال: أتاه عن يمينه إذا أتاه من الجهة المحمودة وأصحاب الشمال الذين يؤتون صحايفهم بشمائلهم وقيل: أصحاب اليمين يسلكون في إيمانهم إلى الجنة لأن الجنة عن يمين الناس وأصحاب الشمال الذين يسلكون في شمائلهم إلى النار لأن النار عن شمالهم، وقيل: أصحاب اليمين والبركة وأصحاب الشمال أصحاب الشوم والنكبة لأن السعداء ميامين على أنفسهم بسبب طاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بسبب معصيتهم، وقيل:

أصحاب اليمين هم الذين أوحدهم الله تعالى في وقت الذر بجنب اليمين من آدم وأصحاب الشمال هم الذين أوجدهم بجنب الشمال منه. وقيل أصحاب اليمين هم الذين مقامهم على يمين العرش وأصحاب الشمال هم الذين مقامهم على شماله ولا يبعد أن يراد بأصحاب اليمين من خلق من التراب الذي في يمين جبرئيل (عليه السلام) وأصحاب الشمال من خلق من التراب الذي في شماله.

* الأصل:

374 - حدثنا محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي عن صفوان، عن محمد بن زياد بن عيسى، عن الحسين بن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كنت ابايع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على العسر واليسر والبسط والكره إلى أن كثر الإسلام وكثف قال: وأخذ عليهم] علي (عليه السلام) [أن يمنعوا محمدا وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم فأخذتها عليهم نجا من نجا وهلك من هلك.

(كنت أبايع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على العسر واليسر والبسط والكره) أي بالمتابعة على حال العسر في المعيشة واليسر فيها وفي حال السرور والحزن من بسطت فلانا إذا سترته أو في حال سعة البلاء وضيقها من بسط المكان القوم إذا وسعهم، أو في حال عدم الحاجة إلى المحاربة وحال الحاجة إليها والكره بالضم والفتح: المشقة أو بالضم ما أكرهت أنفك عليه وبالفتح من أكرهك غيرك عليه، والكريهة: الحرب أو الشدة في الحرب والنازلة، وذو الكريهة السيف والصارم لا يبنو عن شيء

ص:392

(إلى أن كثر الإسلام وكثف) أي كثر أهل الإسلام والكثف: الجماعة والكثرة وفعله من باب كرم (قال: وآخذ عليهم على أن يمنعوا محمدا وذريته مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم) الظاهر أن فاعل قال، رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاعل وأخذ بصيغة الأمر، علي (عليه السلام) ومفعوله البيعة وفي أكثر النسخ وأخذ عليهم علي (عليه السلام) أن يمنعوا وحينئذ فاعل، قال أبو عبد الله (عليه السلام) ويأباه قوله فيما بعد فأخذتها عليهم على صيغة المتكلم إذ المناسب فأخذها عليهم وفي بعض النسخ فأخذ بها بالباء فتأمل (نجى من نجى وهلك من هلك) أي نجى بسبب الوفاء بالبيعة المذكورة كل من نجى وخلص من عقوبته الله وسخطه وهلك بسبب نقص تلك البيعة كل من هلك بعقوبة الأبد.

* الأصل:

375 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن من وراء اليمن واديقال له: وادي برهوت ولا يجاوز ذلك الوادي إلا الحيات السود، والبوم من الطيور. في ذلك الوادي بئر يقال لها بلهوت، يغدي ويراح إليها بأرواح المشركين، يسقون من ماء الصديد خلف ذلك الوادي قوم يقال لهم الذريح، لما أن بعث أن بعث الله تعالى محمد (صلى الله عليه وآله) صاح عجل لهم فيهم وضرب بذنبه فنادى فيهم يا آل الذريح - بصوت فصيح - أتى رجل بتهامة يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله قالوا: لأمر ما أنطق الله هذا العجل؟ قال:

فنادى فيهم ثانية فعزموا على أن يبنوا سفينة فبنوها ونزل فيها سبعة منهم وحملوا من الزاد ما قذف الله في قلوبهم ثم رفعوا شراعها وسيبوها في البحر فما زالت تسير بهم حتى رمت بهم بجدة فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): أنتم أهل الذريح نادى فيكم العجل؟ قالوا: اعرض علينا يا رسول الله الدين والكتاب فعرض عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدين والكتاب والسنن والفرائض والشرائع كما جاء من عند الله جل وعز وولي عليهم رجلا من بني هاشم سيره معهم فما بينهم اختلاف حتى الساعة.

* الشرح:

قوله: (في ذلك الوادي بئر يقال لها بلهوت) قد يقال: برهوت تسمية باسم ذلك الوادي في القاموس برهوت محركة وبالضم: بئر أو واد، وقيل في الصحاح: برهوت على مثال رهبوت: بئر بحضر موت، يقال: فيها أرواح الكفار (يسقون من ماء صديد) في القاموس، الصديد: ماء الجرح الرقيق والحمبم أغلي حتى خثر قيل في المغرب صديد الجرح ماؤه المخلوط بالدم وفي الكنز

ص:393

صديد «ريم وخون» (يقال لهم: الذريح) في القاموس الذريح أبو حي (ضرب بذنبه) يمكن أن يراد بالضرب معناه الظاهري وأن يراد به الإشارة إلى تهامة وأن يراد به المشي إليها ليريهم سمتها يقال: ضرب فلان بذنبه إذا أسرع الذهاب في الأرض كما صرح به في النهاية (فنادى فيهم يا آل ذريح بصوت فصيح. انتهى): أي خالص مظهر للمقصود كما ينطق به الفصحاء من الناس وتهامة بالكسر: مكة شرفها الله تعالى.

وقيل: تهامة ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة ولا استبعاد في نداء العجل بالنظر إلى قدرة الباري جل شأنه وإذا جاز أن تنطق قطعة من البقرة المذبوحة لأمر جزئي حدث في بني إسرائيل جاز تكلم عجل حي بطريق الأولى، وقد ورد تكلم البقرة من طريق العامة أيضا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينما يسوق رجل بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله تعجبنا وفزعا أبقرة تتكلم» (ثم رفعوا شراعها وسيبوها في البحر) شرع السفينة وككتاب ما يرفع فوقها من ثوب لتدخل فيه الريح فتجريها والتسييب باليائين المثناتين الإرسال وفي الكنز تسييب «رها كردن چارپا تا هر جا كه خواهد برود» (رمت بهم بجدة) وهي الضم: ساحل البحر بمكة واسم لموضع بعينه منه هي مدينة قريبة من مكة (فعرض عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدين والكتاب. انتهى) تعليم الشرايع كلها مع أنها تكاملت بعد ذلك لأنه تعالى ألهمها أو أوحاها في ذلك الوقت وحملها على الشرايع التي نزلت قبل بعيد.

* الأصل:

376 - عي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حديد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما اسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) أصبح فقعد فحدثهم بذلك فقالوا له: صف لنا بيت المقدس قال: فوصف لهم وإنما دخله ليلا فاشتبه عليه النعت فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: انظر ههنا، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه ثم نعت لهم ما كان من عير لهم فيما بينهم وبين الشام ثم قال: هذه عير بني فلان تقدم مع طلوع الشمس يتقدمها جمل أورق أو أحمر، قال: وبعثت قريش رجلا على فرس ليردها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لهفا ألا أكون لك جذعا (1) حين تزعم أنك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك.

* الشرح:

ص:394


1- 1 - كذا. وفي النهاية «يا ليتني فيها جذعا» أي ليتني كنت شابا.

قوله: (لما اسري برسول الله (صلى الله عليه وآله)) أي سيره بالليل (قال: انظر ههنا فنظر في البيت قد ذكرنا سابقا أنه يحتمل أن يكون ذلك بخلق الله تعالى مثله قريبا منه أو بنقله إلى قريب أو بإزالة الحجاب بينه وبينه (يتقدمها جمل أورق أو أحمر) ضمير التأنيث للعير وهي بالكسر: القافلة، والترديد من الراوي والأورق من الإبل ما في لونه بياض إلى سواد وفي بعض النسخ أزرق (وبلغ) أي بلغ العير أو ذلك الرجل (مع طلوع الشمس عند قدومهم) وهذا أيضا من الإعجاز، (قال قرطبة بن عبد عمرو: يا لهفا أن لا أكون لك جذعا. انتهى) أي لأن، أو على أن وحذف الجار مع أن قياس.

والجدع بالدال المهملة: قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة وقد يجعل كناية عن الإذلال الشديد، واللهف:

الحزن والتحسر، لهف كفرح حزن وتحسر كتلهف عيله ويالهفا كلمة يتحسر بها على فايت والفائت هنا عدم تحقق الجدع لكونه غير قادر عليه.

* الأصل:

377 - حميد بن زياد، عن محمد بن أيوب، عن علي بن أسباط، عن الحكم بن مسكين، عن يوسف بن صهيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقبل يقول لأبي بكر في الغار: اسكن فإن الله معنا وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن فلما رأى رسول الله (عليه السلام) حاله قال له: تريد أن اريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدثون فأريك جعفرا وأصحابه في البحر يغوصون، قال: نعم، فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون ونظر إلى جعفر (عليه السلام) وأصحابه في البحر يغوصون فأضمر تلك الساعة أنه ساحر.

قوله: (وقد أخذته الرعدة. انتهى) ارتعد: اضطرب والاسم الرعدة بالكسر والفتح وأرعد بالضم أخذته الرعدة قال السهيلي: الغار هو بجبل ثور وهو أحد جبال مكة، وقال عياض: وكان من حديث الغار أن المشركين اجتمعوا لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيتوه فأمر عليا (عليه السلام) أن يرقد على فراشه فخرج عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم على الباب ولم يروه ووضع على رأس كل واحد منهم ترابا وانصرف عنهم إلى غار ثور فاختلفوا فيه وأخبروا أنه قد خرج عليهم ووضع التراب على رؤوسهم فمدوا أيديهم إلى رؤوسهم فوجدوا التراب فدخلوا الدار فوجدوا عليا على الفراش فلم يتعرضوا له ثم خرجوا في كل وجه يطلبونه ويقفون أثره بقايف معهم إلى أن وصلوا الغار فوجدوا العنكبوت قد نسجت عليه، وقال ثابت في الدلايل: ولما دخلاه يعني النبي (عليه السلام) وأبو بكر أنبت الله سبحانه على بابه شجرة مثل قامة الإنسان. وفي مسند البزار أن الله سبحانه أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأمر حمامتين فعشتا على فم الغاروان ذلك مما صد المشركين عنه وأن حمام مكة من نسل تينك الحمامتين وان قريشا لما انتهى بهم قايفهم إلى فم الغار وجدوا ما ذكر على فمه فحين

ص:395

رآهم أبو بكر اشتد خوفه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) له: لا تحزن إن الله معنا أي بالحفظ والكلأ، وقال القرطبي فيه دلالة ظاهرة على قوة توكلة (عليه السلام).

* الأصل:

378 - علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما خرج من الغار متوجها إلى المدينة وقد كانت قريش جعلت لمن أخذه مائة من الإبل، فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب فلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم اكفني شر سراقة بما شئت فساخت قوائم فرسه فثنى رجله ثم اشتد فقال: يا محمد إني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك فادع الله أن يطلق لي فرسي فلعمري إن لم يصبكم مني خير لم يصبكم مني شر، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأطلق الله عز وجل فرسه فعاد في طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى فعل ذلك ثلاث مرات كل ذلك يدعو رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتأخذ الأرض قوائم فرسه فلما أطلقه في الثالثة قال: يا محمد هذه إبلي بين يديك فيها غلامي فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه وهذا سهم من كنانتي علامة وأنا أرجع فأرد عنك الطلب، فقال: لا حاجة لنا فيما عندك.

* الشرح:

قوله: (فخرج سراقة بن مالك بن جعشم فيمن يطلب) في القاموس سراقة بن مالك بن جعشم كقنفذ وجندب صحابي روى مسلم في كتاب الأشربة باسناده عن أبي إسحاق الهمداني قال: « سمعت البراء يقول: لما أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة تبعه سراقة بن مالك بن جعشم فدعا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فساخت فرسه فقال ادع الله لي ولا أضرك قال: فدعا الله الحديث.

جعشم مكتوب بتقديم العين المهملة على الشين، قال الآبي: سراقة هو ابن مالك الكناني وكان من حديث أن الله سبحانه لما أذن لرسوله (صلى الله عليه وآله) في الهجرة وخرج هو وأبو بكر جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة فخرج سراقة في أثره ليرده وكان من أمره ما ذكر في الحديث. وفي سيرة ابن إسحاق أنه لما ساخت قوائم فرسه في الأرض تبعتها عثان: الدخان وذكر غير ابن إسحاق أن سراقة لما رجع بغير شيء لامه أبو جهل فأنشد.

أبا حكم واللات لو كنت شاهدا * لأثر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا * رسول ببرهان فمن ذا يقاومه

ص:396

عليك بكف القوم عنه فإنني * أرى أمره يوما ستبدو معالمه وآمر برد الناس فيه بأسرهم * فان جميع الناس طرا يسالمه وروى مسلم وغيره أن سراقة بن مالك تبع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في جلد من الأرض أي في صلب وغلظه فقال أبو بكر: قد أتانا فقال (عليه السلام) لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه فارتطمت فرسه إلى بطنها يعني غاصت قوائمها فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي فلله أن أرد عنكما الطلب - وهو بضم الطاء وشد اللام جمع الطالب - فدعا الله عز وجل فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما هنا فلا يلقى أحد إلا رده ووفى. وفي رواية أخرى لهم فلما دنا دعا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه ولك علي لأعمين على من ورأي وهذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، قال: لا حاجة لي في إبلك.

* الأصل:

379 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا ترون الذي تنتظرون حتى تكونوا كالمعزي الموات التي لا يبالي الخابس أين يضع يده فيه، ليس لكم شرف ترقونه ولا سناد تسندون إليه أمركم.

* الشرح:

قوله: (لا ترون الذي تنتظرون) هو ظهور القائم (عليه السلام) (حتى تكونوا كالمعزي الموات) المعز بالفتح وبالتحريك والمعزي ويمد خلاف الضأن من الغنم (التي لا يبالي الخابس أن يضع يده منها) الخابس الآخذ من خبس الشيء بكفه إذا أخذه ولعل المراد لا يكره من يأخذ الشيء بكفه أن يرفع يده منها لكونه في غاية السقوط، ويحتمل أن يراد بالخابس الظالم يبس فلانا حقه إذا ظلمه وبوضع اليد منها أو فيها على اختلاف النسخ: إيصال الأذى والقتل، وبعدم المبالاة: عدم الخوف من المؤاخذة لعدم وجود الناصر ظاهرا والله يعلم (ليس لكم شرف ترقونه) الشرف محركة: العلو والمكان العالي والمجد أي ليس لكم مكان عالي تصعدونه وهو كناية عن فقد الحامي لهم وضيق الأرض عليهم (ولا سناد تسندون إليه أمركم) السناد بالكسر: الناقة القوية، ولعل المراد به الأمير العادل القوي على دفع الأعداء وهذا من عظم أسباب ضعفهم ونزول البلاء والنكال من الأعداء إليهم.

ص:397

* الأصل:

380 - وعنه، عن علي بن الحكم، عن ابن سنان، عن أبي الجارود مثله، قال: قلت لعلي بن الحكم: ما الموات من المعز؟ قال: التي قد استوت لا يفضل بعضها على بعض.

* الشرح:

قوله: (التي قد استوت لا يفضل بعضها عل بعض) أي استوت في الضعف والهزال حتى لغت إلى حد لا يلتفت إليها أحد لغاية الإحتقار كالميتة.

* الأصل:

381 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الرعي فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة، إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آت منا فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد، كان عالما وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام) ولو ظهر لوفي بما دعاكم إليه إنما خرج إلى السلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (عليه السلام) فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منا إلا مع من اجتمعت بنو فاطمة معه فوالله ما صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه، إذا كان رجب، فأقبلوا على اسم الله عز وجل وإن أحببتم أن تتأخروا إلى شعبان فلا ضيرو إن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك أن يكون أقوى لكم، كفاكم بالسفياني علامة.

* الشرح:

قوله: (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له) برعاية أوامره ونواهيه والقيام بطاعته والفرار عن معصيته (وانظروا لأنفسكم) واختاروا من يجب عليكم طاعته بأمر الله تعالى ورسوله (فوالله إن الرجل ليكون له الغنم. انتهى) نبه بهذا التمثيل على أنه تعال لا يرضى أن يختار الخلائق لأنفسهم أميرا لعدم علمهم بصفات الإمارة بل بختار سبحانه وتعالى وهذا غاية للنظر المأمور به لأن النظر

ص:398

الصحيح يحكم بأنه حق لا ريب فيه (والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها) أي يجتهد بواحدة في تحصيل العلوم والتجربيات والتميز بين الحق والباطل والخير والشر (ثم كانت الأخرى باقية) مع بقاء الأولى أو عدمه (فعمل بالأخرى على ما قد استبان لها) بالأولى لأمكن له ترك العمل والتوبة من التقصير فيه في زمان الأولى توقعا لتدركهما بالثانية فالجزاء محذوف بقرينة السياق وكونه يقاتل أو يعمل بعيد.

(ولكن له نفس واحدة كما نطق به القرآن الكريم إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة) لانقطاع العمل والتوبة بعد ذهابها فوجب على كل أحد تحصيل العلم والعمل والتوبة من التقصير فيه قبل ذهابها، وإنما استثنى (عليه السلام) نقيض الشرط للدلالة على أن انتفاء الجزء في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الشرط فيه كما هو المقرر في لو عند أرباب اللغة لا للدلالة على أن العمل بانتفاء الشرط علة للعلم بانتفاء الجزاء كما هو المقرر عند الميزان حتى يروا أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج برفع التالي (فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم) قبل ذهابها وما هو خير لكم من الإمام العادل والعمل الصالح والتوبة من التقصير (إن أتاكم آت فانظروا أي شيء تخرجون) أمر بالنظر في السبب المجوز أو الموجب للخروج معه وهو كونه مالكا للخلافة أو مأذونا من مستحقها وإذ ليس فلا يجوز (ولا تقولوا خرج زيد) فيجوز لنا الخروج مع من يخرج من الفاطميين كاينا من كان تأسيا به وبأصحابه (فإن زيدا كان عالما بالحق) والولاية ومستحقها (صدوقا) في القول والعمل والعهد (لم يدعكم إلى نفسه بإقرار الإمامة والولاية له (بل إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد): أي إلى من فيه رضاهم أو إلى المرضى منهم وهو من له الإمامة بالنص ( ولو ظهر) على الأعداء وغلبهم (لو في بما دعاكم إليه) وسلم الملك والخلافة إلى أهلها وانقاد له (إنما خرج إلى سلطان) مجتمع شديد اجتمعت له جنود الشياطين وأهل الجور من كل أوب ( لينقضه) ويفرق جمعه ليرجع الحق إلى أهله ولا دلالة فيه على الاذن أو الرضا بخروجه فلا ينافي الأخبار الدالة على عدمهما (فالخارج من اليوم هنا إلى أي شيء يدعوكم إلى نفسه أو إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)) ولم يذكر الأول لفهمه بالأولوية لكون المعصية فيه أشد وأكمل وإن كان الفساد في الثاني أقوى وأشمل (فنحن نشهدكم أنا لا نرضى به) أي بذلك الخارج أو بخروج لكونه معصية ومع ذلك لا تترتب عليه فائدة بل يوجب مفسدة عظمية هي إثارة الأعداء على إهراق الدماء المحرمة (وهو يعصينا اليوم) بالخروج وبترك النهي عنه وعدم الإقرار بوحوب الطاعة لنا والحال (أنه ليس معه أحد) ينصره ويوجب قوته وسطوته (وهو) أي ذلك الخارج العاصي في حال وحدته (إذا كانت الرايات والألوية) ووجدت معه على تقدير الغلبة على الأعداء.

ص:399

(أجدر أن لا يسمع منا) ولا يقر بولايتنا لكون السلطنة مانعة عن ذلك كله إلا من اجتمعت بنو فاطمة معه في بعض النسخ إلا مع من والاستثناء على الأول من قوله «فالخارج منا اليوم لا نرضى به» وعلى التاني مما استفيد من الكلام السابق أي لا تخرجوا إلا مع من، وفي بعض النسخ «لا تخرج إلا مع من» ولو كان بدله لا تخرجوا لكان أنسب بالسابق واللاحق ولكنه لم يثبت (فوالله صاحبكم إلا من اجتمعوا عليه) قد مر أن بني فاطمة والعلويين يلتجأون إلى الصاحب (عليه السلام) ويجتمعون عليه عند ظهوره (إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله عز وجل) أي فأقبلوا إلينا مع اسم الله عز وجل أو متبركين به فعلى للمصاحبة كمع أو بمعنى الباء ولم يرد أن ظهوره (عليه السلام) في رجب بل أراد أن فيه بعض علامات ظهوره كخروج السفياني ونحوه من الأمور الغريبة الدالة على قرب ظهوره ومن ثم قيل «عش رجبا ترى عجبا» ويؤيده آخر الحديث وخبر سدير فلا ينافي ما رواه الصدوق في كمال الدين باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يخرج القائم يوم السبت، يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام).

* الأصل:

382 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي رفعه، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: والله لا يخرج واحد منا قبل خروج القائم (عليه السلام) إلا كان مثله مثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به.

* الأصل:

383 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن بكر بن محمد، عن سدير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من أحلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.

* الشرح:

قوله: (وكن حلسا من أحلاسه) الإحلاس جمع حلس: وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب شبهه به للزومه ودوامه.

* الأصل:

384 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن كامل بن محمد عن محمد بن إبراهيم الجعفي قال: حدثني أبي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ما

ص:400

لي أراك ساهم الوجه؟ فقلت: إن بي حمى الربع، فقال: ما] ذا [يمنعك من المبارك الطيب * إسحق السكر ثم امخضه بالماء واشربه على الريق وعند المساء قال: ففعلت فما عادت إلي.

* الشرح:

(مالي أراك ساهم الوجه) أي متغيره لعارض، يقال: سهم لونه يسهم إذا تغير عن حاله لعارض، وحمى الربع بالكسر: أن تأخذ يوما وتترك يومين ثم تجيء في اليوم الرابع، والسكر معرب شكر واحدته بالضم وشد الكاف بهاء والمخض التحريك الشديد.

* الأصل:

385 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن بعض أصحابنا قال:

شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) الوجع، فقال: إذا أويت إلى فراشك فكل سكرتين قال: ففعلت فبرأت وأخبرت به بعض المتطببين وكان أفره أهل بلادنا فقال: من أين عرف أبو عبد الله (عليه السلام) هذا، هذا من مخزون علمنا، أما إنه صاحب كتب ينبغي أن يكون أصابه في بعض كتبه.

* الشرح:

(فكل سكرتين) قيل: دوحب: نبات والفاره الحاذق من فره ككرم إذا حذق.

* الأصل:

386 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن يحيى الخزاعي، عن الحسين بن الحسن، عن عاصم بن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لرجل: بأي شيء تعاجلون محمومكم إذا حم؟ قال: أصلحك الله بهذه الأدوية المرة بسفايج والغافث وما أشبه، فقال: سبحان الله، الذي يقدر أن يبرئ بالمر يقدر أن يبرئ بالحلو، ثم قال: إذا حم أحدكم فليأخذ إناء نظيفا فيجعل فيه سكرة ونصفا، ثم يقرأ عليه ما حضر من القرآن ثم يضعها تحت النجوم ويجعل عليها حديدة فإذا كان في الغداة صب عليها الماء ومرسه بيده ثم شربه فإذا كانت الليلة الثانية زاده سكرة اخرى فصارت سكرتين ونصفا فإذا كانت الليلة الثالثة زاده سكرة اخرى فصارت ثلاث سكرات ونصفا.

* الشرح:

(بسفايج والعاقث) قيل في منهاج الأدوية البسفايج: عود لونه يميل إلى السواد القليل مع الحمرة القليلة وله طعم كطعم القرنفل ولما يكسر فلون وسطه أخضر كالفستق وبالفارسية «پسته»

ص:401

ولذا يسمى بسافيح الفستقي حار مسهل للسوداء والغافث نبت يشبه ورقة بورق حبة الخضراء يعني شاهد انج له قبوضه ومرارة كمرارة الصبر لونه يميل بالسواد يجاء به من نواحي الروم ومن جبال الفارس أيضا حار يابس وقيل معتدل لطيف (فتجعل فيه سكره ونصفا) ظاهره عدم اعتبار السحق مع احتمال اعتباره، والمرس: الدلك مر سته أمرسه من باب نصر دلكته فأذبته، والمريس: التمر الممروس وفي كنز اللغة «مرس بدست ماليدن ودر آب جنبانيدن چسزى را بچنگال» والظاهر أن الضمير في قوله «وزاده سكرة أخرى» في الموضعين راجع إلى الإناء وأنه يفعل بها مثل ما فعل بما مر (كتموا بسم الله الرحمن الرحيم) هو عند أهل البيت وأشياعهم جزء من القرآن وتكرارها في أوائل السور لا ينافيه كتكرار الآيتين في سورة الرحمن والمرسلات وكثير من العامة لم يجعلوه منه وقولهم مردود كما بين في موضعه.

* الأصل:

387 - أحمد بن محمد الكوفي، عن علي بن الحسن بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن هارون، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: كتموا بسم الله الرحمن الرحيم فنعم - والله - الأسماء كتموها، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويرفع بها صوته فتولي قريش فرارا فأنزل الله عز وجل في ذلك 0 وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا».

* الشرح:

قوله: («والله» في قوله (فنعم والله الأسماء كتموها) معترض بين فعل المدح وفاعله للتأكيد وكان اجتماعهم عليه لقصد الأذي والإضرار به ونفورهم عند سماع التسمية لكرهة استماعها أو لكونها رجما لهم كما أن الاستعارة رجم للشياطين وهي المراد بالقرآن في الآية المذكورة فيتم الاستشهاد بها على أنها قرآن.

* الأصل:

388 - عنه، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا ذكر رسول الله (عليه السلام) قال: بأبي وأمي وقومي وعشيرتي عجب للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله عز وجل يقول في كتابة: «وكنتم على شفا حفرة من النار

ص:402

فأنقذكم منها » فبرسول الله (صلى الله عليه وآله) أنقذوا.

* الشرح:

قوله: (بأبي وأمي وقومي وعشيرتي عجبا للعرب) الباء للتفدية أي نفديه بهؤلاء والغرض منها الإجلال والتعظيم وعجب في بعض النسخ بالنصب على حذف الناصب أي عجبت عجبا وفي بعضها بالرفع على الابتداء واللام بمعنى من أي لي عجب من العرب.

* الأصل:

389 - عنه، عن إبراهيم بن أبي بكر بن أبي سماك، عن داود بن فرقد، عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: 0 قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء» أليس قد آتى الله عز وجل بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب إليه إن الله عز وجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو اللذي أخذه.

* الشرح:

(أليس قد أتى الله بني أمية الملك قال ليس حيث تذهب. انتهى) غرض السائل تقرير المنفي لزعمه أنه حق كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) «ليس حيث تذهب إليه» فأجابه بتقرير النفي تنبيها له على أن المراد بالملك الخلافة الإلهية وبنزعها نقلها من الأول بقبضه إلى الآخر، وعلى أنه حق لهم (عليهم السلام) آتاهم الله تعالى إياه وأخذته منهم بنو أمية غصبا وعدوانا واقدارهم على أخذه لا يوجب الرضا به كما في إقدار العباد على المعاصي وفي بعض النسخ «التور» بدل الثوب وهو إناء بشرب فيه.

* الأصل:

390 - محمد بن أحمد بن الصلت، عن عبد الله بن الصلت، عن يونس، عن المفضل بن صالح، عن محمد الحلبي أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» قال: العدل بعد الجور.

* الشرح:

(قال: العدل بعد الجور) عند ظهور الصاحب (عليه السلام) وهو الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا والمقصود أنه الفرد الأكمل من أفراد الأحياء لا أنه منحصر فيه فلا ينافي ما ذهب إليه المفسرون.

ص:403

* الأصل:

391 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن محمد بن أشيم، عن صفوان ابن يحيى قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: نزل به جبرائيل (1) من السماء وكانت حلقته فضة.

قوله: (سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: نزل به جبرئيل (عليه السلام) من السماء. انتهى) سمي به لأنه كان فيه حفر صغار حسان وما ذكره أصحاب السير من أنه كان سيف منبه بن الحجاج أو عاص بن منبه أخذ يوم بدر اصطفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أعطاه عليا (عليه السلام) ليس له أصل والحلقة بسكون اللام، وقد تفتح وتكسر معروفة والجمع حلق بالتحريك وبكسر الحاء وفتح اللام وفي بعض النسخ حليته.

ص:404


1- (1) قوله: ذي الفقار» ذو الفقار بفتح الفاء سيف العاص بن منبه قتل يوم بدر فصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ثم صار إلى علي (عليه السلام) كذا في القاموس، واتفق على ذلك أصحاب السير والتواريخ. وأما هذا الخبر وأمثاله إن صح فيجب أن يحمل أن وصول السيف إلى علي (عليه السلام) بحكم الله وتقديره كما يقال فيمن وجد ما لا يحل له تملكه هذا رزق ساقه الله تعالى إليه وربما كان حمل عبارة الرواية على هذا المعنى تكلفا والعهدة في التعبير على الراوي حيث نقل كلام الإمام على ما فهمه (ش).

حديث نوح (عليه السلام) يوم القيامة

* الأصل:

392 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد، عن جميل ابن صالح، عن يوسف بن أبي سعيد قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ذات يوم فقال لي: إذا كان يوم القيامة وجمع الله تبارك وتعالى الخلائق كان نوح صلى الله عليه أول من يدعى به فيقال له:

هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال له: من يشهد لك فيقول: محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال: فيخرج نوح (عليه السلام) فيتخطا الناس حتى يجيىء إلى محمد (صلى الله عليه وآله) وهو على كثيب المسك ومعه علي (عليه السلام) وهو قول الله عز وجل: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) فيقول نوح لمحمد (صلى الله عليه وآله): يا محمد إن الله تبارك وتعالى سألني هل بلغت فقلت: نعم فقال: من يشهد ذلك فقلت: محمد (صلى الله عليه وآله): فيقول: يا جعفر يا حمزة اذهبا واشهدا له أنه قد بلغ. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فجعفر وحمزة هما الشاهدان للأنبياء (عليهم السلام) بما بلغوا، فقلت: جعلت فداك فعلي (عليه السلام) أين هو؟ فقال: هو أعظم منزلة من ذلك.

* الشرح:

(حديث نوح عليه السلام يوم القيامة) يطلب منه الشاهد على تبليغ الرسالة وكما يطلب منه يطلب من غيره أيضا كما دل عليه آخر الحديث ولعل الغرض منه إسكات أممهم وإكمال الحجة عليهم وإظهار شرف نبينا (صلى الله عليه وآله)، والتخطي: المجاوزة، وفلان تخطى الناس ركبهم وجاوزهم والكثيب: التل، والزلفة والزلفى: القرب.

* الأصل:

393 - حدثني محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عمر بن عبد العزيز، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه ينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية.

* الشرح:

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه) تقسيم اللحظات: أي النظرات بالعين من الآداب المرغوبة في المجالس لأنه يورث الأنس وجلب القلوب وعدم انكسارها وتحاسدها

ص:405

وتعاندها وفوائده كثيرة.

* الأصل:

394 - عنه، أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (1).

* الشرح:

(ما كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قط) أي بكنه ما بلغه عقله الشريف لأن عقولهم لا تبلغه كما لا تبلغ عقول الأطفال كنه ما بلغه عقول العلماء من الأسرار المعضلة والمسائل المشكلة فيكون التكلم به موجبا للحيرة والفتنة والضلالة وفيه تنبيه على كيفية التعليم ورعاية حال المخاطب في التفهيم والحكيم يعرف موارد الكلام فيأتي به على وفق المقام ويستثنى من العباد وصيه على بن أبي طالب (عليه السلام).

* الأصل:

395 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني رجل من بجيلة وأنا أدين الله عز وجل بأنكم موالي وقد يسألني بعض من لا يعرفني فيقول ممن الرجل؟ فأقول له: أنا رجل من العرب ثم من بجيلة. فعلي في هذا إثم حيث لم أقل: إني مولى لبني هاشم فقال: لا أليس قلبك

ص:406


1- 1 - «على قدر عقولهم» معاشر الأنبياء بعثوا على عامة البشر بخلاف الحكماء فإن مخاطبهم الخاصة من الناس وقد جربنا ذلك كثيرا فربما ينقل معنى واحد عن الأنبياء بعبارة وعن الحكماء بعبارة أخرى فيقبل الناس عبارة الأنبياء ولا يقبلون عبارة الحكماء مع أن المعنى واحد وتراه العامة متناقضا مثلا روي عن بعض الحكماء ان الله تعالى عالم بالجزئيات بوجه كلي، وعن الأنبياء أنه تعالى سميع بصير لا بمعنى أن له تعالى عينا وأذنا بل بمعنى أنه عالم بالمسموعات والمبصرات والمعنى واحد ولكن يشمئز العوام عن عبارة الحكماء ويرونها مخالفا لما رووه عن الأنبياء، وكذلك روي عن الحكماء أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وأن الصادر الأول هو العقل الأول، وروي عن المعصومين أن أول ما خلقه الله تعالى هو العقل أي موجود عاقل عقله مقتضى ذاته لايكتسب مما دونه، وعن الحكماء أن الموجودات صادرة عنه تعالى بواسطة العقل الأول وعن الأنبياء أن الملائكة مأمورون بأمور العالم وحوادثه فينكر العامة الأول ويؤمنون بالثاني، وروى عن الحكماء أن كل حادث مسبوق بماة واستعداد وينكره الناس أشد انكار ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن اختلاف الناس باختلاف مبادئ طينتهم وهذا عين ذاك ولا ينكره أحد إلى غير ذلك مما لا يحصى والسبب في ذلك ان الأنبياء كلموا الناس على قدر عقولهم فقبلوه والحكماء عبروا عن ذلك المعنى بعينه بأي عبارة اتفقت فقبله فهماؤهم وأنكره عوامهم. (ش)

وهواك منعقد ] أ [على أنك من موالينا فقلت: بلى والله، فقال: ليس عليك في أن تقول: أنا من العرب، إنما أنت من العرب في النسب والعطاء والعدد والحسب فأنت في الدين وما حوى الدين بما تدين الله عز وجل به من طاعتنا والأخذ به منا من موالينا ومنا وإلينا.

* الشرح:

(إني رجل من بجيلة) وهي كسفينة: حي باليمن من معد والنسبة بجلى محركة (وأنا أدين الله عز وجل) أي أطيعه (بأنكم موالي) المولى هنا الأمير والصاحب والسيد والمنعم والمعتق بالكسر لإنفاقهم علينا في الدنيا بالنعم الجسام واعتاقهم رقابنا من النار في دار المقام (فأقول له: أنا رجل من العرب ثم من بجيلة (فعلى في هذا القول) ثم حيث إني (لم أقل إني مولى لبنى هاشم) المولى هنا المحب والناصر والمعتق والمنعم بالفتح فيهما والمراد ببنى هاشم الأئمة (عليهم السلام) وكان وجه السؤال أن العرب وبجيلة كانوا مخالفين لأهل البيت عليهم السلام معاندين لهم فتوهم أن نسبته إليهم يوجب التحرب والإثم (فقال لا) أي لا اثم فيه إذا كان قلبك مقرا بالولاية مطمئنا بالإيمان وكان هذا القول لإظهار النسب كما أشار إليه بقوله (أليس هواك وقلبك منعقد (على أنك من موالينا) لو كان منعقدا على أنك منصوبا كان المعنى واضحا ولكنه مرفوع في النسخ التي رأيناها فلو جعل اسم ليس لزم خلوه من الخبر وتقديم الفاعل من حيث أنه فاعل، ويمكن أن يقال اسم ليس ضمير راجع إلى القول المذكور وهواك خبره وقلبك منعقد مبتدأ وخبر والواو للحال والمعنى أليس ذلك القول هواك ومحض إرادتك الإخبار بالنسب والحال أن قلبك منعقد على موالاتنا فقال السائل: بلى والله ذلك.

(فقال (عليه السلام): ليس عليك) أي بأس أو إثم (في أن تقول أنا من العرب) في النسب ثم أكد ذلك بقوله (إنما أنت من العرب في النسب والعطا) وداخل فيهم لو وقع النظر لهم أو الوقف عليهم مثلا (والعدد والحسب) إذا النسب وما عطف عليه لا ينقطع باختلاف المنسوب والمنسوب إليه في الدين (وأنت في الدين وما حوى الدين بما تدين الله عز وجل به من طاعتنا والأخذ به منا من موالينا ومنا وإلينا) أي من زمرتنا وملتنا أو من طينتنا وراجع إلينا في الدنيا والآخرة وأنت مبتدأ وفي الدين خبره والمراد به أصوله وبما حواه فروعه والباء في قوله بما للسببية وقوله «من موالينا» وما بعده أحوال عن فاعل العامل في الخبر أو أخبار آخر فليتأمل.

* الأصل:

396 - حدثنا ابن محبوب، عن أبي يحيى كوكب الدم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن حواري

ص:407

عيسى (عليه السلام) كانوا شيعته وإن شيعتنا حواريونا وما كان حواري عيسى بأطوع له من حوارينا لنا وإنما قال عيسى (عليه السلام) للحواريين: (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله) فلا والله ما نصروه من اليهود ولا قاتلوهم دونه وشيعتنا والله لم يزالوا منذ قبض الله عز ذكره رسوله (صلى الله عليه وآله) ينصرونا ويقاتلون دوننا ويحرقون ويعذبون ويشردون في البلدان، جزاهم الله عنا خيرا وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): والله لو ضربت خيشوم محبينا بالسيف ما أبغضونا، ووالله لو أدنيت] أدليت ظ [إلى مبغضينا وحثوت لهم من المال ما أحبونا.

* الشرح:

(إن حواري عيسى (عليه السلام) اه) حواري الرجل ناصره وخاصته ومن أخلص له محبته وصداقته، والتشريد والطرد والتفريق. والادناء التقريب، أدناه قربه والحشو الإعطاء حشوت له أعطيت.

(وكتب إلى ملك فارس كتابا) فارس كصاحب الفرس أو بلادهم ينصرف ولا ينصرف للعجمة وقد نقل أنه (صلى الله عليه وآله) أرسل في السنة السادسة من الهجرة كتبا إلى السلاطين والحكام يدعوهم إلى دينه فأرسل إلى پرويز خسرو سلطان فارس بيد عبد الله بن حذافة السهمي فلما قرأ كتابه مزقه فدعا عليه النبي (صلى الله عليه وآله) أن يمزق الله ملكه فعجل قتله ومزق ملكه كل ممزق فأرسل كتابا بيد دحية الكلبي إلى هرقل قيصر روم وكتابا بيد عمرو بن أمية الضمري إلى نجاشي ملك الحبشة وكتابا بيد حاطب بن أبي بلتعة إلى حاكم إسكندرية وكتابا بيد وهب الأسدي إلى الحارث الغساني وإلى الشام وكتابا بيد سليط بن مرة العامري إلى هودة صاحب اليمامة وكتابا بيد العلا الحضرمي إلى منذر بن ساوى ولم يؤمن من هؤلاء إلا النجاشي ومنذر (وكان المسلمون يهوون) أي يحبون يقال: هويه كرضيه إذا أحبه (وكانوا لنا حيثه أرجا منهم لملك فارس) أي كانوا لجانب ملك الروم أو ملكه ارجا للاسلام أو دخوله في تصرف أهله.

* الأصل:

397 - ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض) قال: فقال: يا أبا عبيدة إن لهذا تأويلا لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم من آل محمد صلوات الله عليهم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما هاجر إلى المدينة و] أ [ظهر الاسلام كتب إلى ملك الروم كتابا وبعث به مع رسول يدعوه إلى الاسلام وكتب إلى ملك فارس كتابا يدعوه إلى الاسلام وبعثه إليه مع رسوله فأما ملك الروم فعظم كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)

ص:408

وأكرم رسوله وأما ملك فارس فإنه استخف بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومزقه واستخف برسوله وكان ملك فارس يومئذ يقاتل ملك الروم وكان المسلمون يهوون أن يغلب ملك الروم ملك فارس وكانوا لناحيته أرجا منهم لملك فارس فلما غلب ملك فارس ملك الروم كره ذلك المسلمون واغتموا به فأنزل الله عز وجل بذك كتابا قرآنا (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض (يعني غلبتها فارس في أدنى الأرض وهي الشامات وما حولها) وهم (يعني وفارس) من بعد غلبهم (الروم) سيغلبون * (يعني يغلبهم المسلمون) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء» عز وجل فلما غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله عز وجل قال: قلت: أليس الله عز وجل يقول: (في بضع سنين) وقد مضى للمؤمنين سنون كثيرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي إمارة أبي بكر وإنما غلب المؤمنين فارس في إمارة عمر فقال: ألم أقل لكم إن لهذا تأويلا وتفسيرا والقرآن - يا أبا عبيدة - ناسخ ومنسوخ، أما تسمع لقول الله عز وجل: (لله الأمر من قبل ومن بعد) يعني إليه المشيئة في القول أن يؤخر ما قدم ويقدم ما أخر في القول إلى يوم يحتم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين فذلك قوله عز وجل (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله] ينصر من يشاء [) أي يوم يحتم القضاء بالنصر.

* الشرح:

(ألم غلبت الروم) جبل من ولد روم بن عيصو وهي الشامات وما حولها وهي أدنى الأرض من العرب (يعني وفارس من بعد غلبهم الروم سيغلبون) بناء هذا التأويل على أن غلبت بالضم وأن ضميرهم لفارس كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله يعني وإن غلبهم مصدر مضاف إلى الفاعل وأن سيغلبون بالضم (يعني يغلبهم المسلمون في بضع سنين وذهب أكثر المفسرين إلى أن ملك فارس غلب ملك الروم ثم عكس الأمر فغلب ملك الروم ملك فارس يوم الحديبية والضمير عندهم للروم والإضافة إلى المفعول وسيغلبون بالفتح وذهب بعضهم إلى أن الروم غلبوا على ريف الشام ثم المسلمون غلبوهم في السنة التاسعة من نزولها وفتحوا بعض بلادهم وبناؤه على قراءة غلبت بالفتح وسيغلبون بالضم والضمير بحاله والإضافة إلى الفاعل فكل وافقوه (عليه السلام) من وجه وخالفوه من وجه آخر ولما كان هذا التأويل ينافيه ظاهرا لفظ البضع.

(قال السائل: أليس الله عز وجل يقول في بضع سنين) سائلا عن وجه صحته وذلك لأن البضع في العدد بالكسر وقد يفتح ما بين الثلث إلى التسع وقال الأخفش: ما بين الواحد إلى العشرة وقال

ص:409

الفراء: ما دون العشرة، وبالجملة نهايته العشرة أو ما دونها لغة وقد كان فتح المسلمين بعد نزولها أكثر منها فنبه (عليه السلام) على أن السؤال غير متوجه بعد قبوله أولا أن لهذا تأويلا لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم (فقال: ألم أقل لك أن لهذا تأويلا وتفسيرا) والفرق بينهما ما ذكره بعض المحققين من أن التأويل صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى الأخفى منه والتفسير كشف معناه وإظهاره وبيان المراد منه ثم أشار إلى التأويل وتوضيحه على وجه يندفع عنه السؤال بقوله (والقرآن يا أبا عبيدة ناسخ ومنسوخ أما تسمع لقول الله عز وجل الله الأمر) أي الحكم (من قبل ومن بعد) أي قبلا وبعدا يعني أولا وآخرا يعني إليه المشيئة في القول إن شاء أخره وإن شاء قدمه بلا مانع ولا دافع فقوله أن «يوخر» بدل أو بيان للقول يعني إليه المشيئة في أن يؤخر ما قدم ويقدم ما أخر (1) إلى يوم تحتم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين) توضيحه أن وعد النصر في البضع منسوخ إلى الأزيد منه بدليل ما بعده ويمكن أيضا أن يراد به أن حقيقة البضع وهي قطعة معينة من العدد نسخت وأزيلت بإرادة المجاز منه وهو قطعة أريد منه وقعه القضاء والحتم فيها والقرينة عليه ما بعده وهذا بناء على ما ذهب إليه جميع المحققين من أن الكلام لا يصرف إلى الحقيقة ولا إلى المجاز ولا يستقر شيء منهما إلا بعد تمامه والفراغ من متعلقاته فإن ذكرت قرينة المجاز حمل عليه وإلا فعلى الحقيقة هذا من باب الاحتمال والله سبحانه يعلم حقيقة كلامه وكلام وليه.

* الأصل:

398 - ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إن العامة يزعمون أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع الناس كانت رضا لله جل ذكره وما كان الله ليفتن أمة محمد (صلى الله عليه وآله) من بعده فقال أبو جعفر (عليه السلام): أو ما يقرؤن كتاب الله؟ أوليس الله يقول: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) قال: فقلت له: إنهم يفسرون على وجه آخر، فقال: أوليس قد أخبر الله عز وجل عن الذين من قبلهم من الأمم أنهم قد اختلفوا من بعدما جاءتهم البينات حيث قال: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدنه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتل الذین من بعدهم من

ص:410


1- 1 - «يقدم ما أخر» مخالف صريح للآية الكريمة ودلالة العقول قال تعالى (وعد الله لا يخلف الله وعده) ولم يزل يحتج بهذه الآية على إعجاز القرآن بأخبار الغيب وليس النسخ إلا في الأحكام فلو جاز تقديم ما أخر وتأخير ما قدم فقد كذب القرآن وأخلف الله وعده ولم يكن هذا اخبارا بالغيب وطال لسان الملاحدة على المسلمين ولكن المعتمدين على هذه الأخبار التاركين لنص القرآن من أكثر الناس حيث قال بعد ذكر الروم (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون). (ش)

بعد ما جائتهم البینات و لکن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من کفر و لو شاء الله ما اقتتلوا و لکن الله یفعل ما یرید » وفی هذا ما یستدل به علی أن أصحاب محمد صلی الله علیه وآله و سلم قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن و منهم من کفر

* الشرح:

قوله: (ان العامة يزعمون أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع الناس كانت رضا لله عز وجل وما كان الله ليفتن أمة محمد (صلى الله عليه وآله) بعده) أي ما كان يوقعهم في الفتنة والضلالة يعني يحفظهم منها وهذا الزعم منهم مكابرة ومعاندة كيف لا وقد ورد أن إمامهم عمر بن الخطاب قال «أن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها» قال صاحب النهاية: أراد بالفلتة الفجأة ومثل هذه البيعة جدير بأن يكون هيجة للشر والفتنة فعصم الله من ذلك ووقى، والفلتة: كل شيء فعل من غير روية وإنما بودر بها خوف انتشار الأمر وقيل: أراد بالفلتة: الخلسة أي إن الإمامة يوم السقيفة مالت إلى توليها الأنفس ولذلك كثرت فيها التشاجر فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي واختلاسا وقيل: الفلتة آخر ليلة من الأشهر الحرم فيختلفون فيها أمن الحل هي أم من الحرم فيسارع الموتور إلى درك الثأر فيكثر الفساد وتسفك الدماء فشبه أيام النبي (صلى الله عليه وآله) بالأشهر الحرم ويوم موته بالفتنة من وقوع الشر من ارتداد العرب وتخلف الأنصار عن الطاعة ومنع الزكاة والجرى على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها انتهى.

وروى مسلم في صحيحه قال: «كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال احصوا بي كم يلفظ الإسلام قال: فقلنا: يا رسول الله أتخاف علينا وما نحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تنقلوا:

قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا» انتهى قال أبو عبد الله شارح هذا الصحيح:

احصوا: أي عدوا والإسلام منصوب على إسقاط الجار أي بالإسلام وكم استفهامية أي كم شخصا وقال القرطبي: شارحه هذا لم يقع في زمنه (صلى الله عليه وآله) ويحتمل أن يكون ذلك في فتنة عثمان، وقال المازري: شارحه ولعله من بعض الفتن الواقعة بعد موته فكان أحدهم يخفي نفسه ويصلي سرا مخافة الظهور والمشاركة في الحرب، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) «أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» قال القرطبي في شرحه المقصود الأخبار بأن الإسلام نشأ في أحاد وقلة وسيلحقه النقص حتى يصير في أحاد وقلة انتهى، وروى فيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ترد على امتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود

ص:411

الرجل إبل الرجل عن إبله قالوا: يا رسول الله تعرفنا قال: نعم لكم سيماء ليست لأحد من الأمم غيركم تردون علي غراء محجلين من آثار الوضوء ولتصدن عني طائفة منكم فلا تصلون فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول فهل تدري ما أحدثوا بعدك» وروي عنه أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث طويل أنه قال في آخره: «ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا» قال بعض فضلائهم: هم المرتدون بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) وقال بعض آخر منهم وفي الحديث من أعلام نبوته المتعلقة بالأخبار عن المغيبات أربعة: صفة أمته في الآخرة، وتبديلهم بعده، والثالث: مالهم في الآخرة وتقرير الحكم فيهم، والرابع: أن له حوضا في الآخرة وقال أبو عبد الله شارحه بعد نقل هذا القول روى عن مالك أنه ندم عن رواية هذا الحديث فقال: ليتني لم أروه وإنما قال ذلك لما فيه من تبديل أصحابه (عليه السلام) انتهى.

وفيه أيضا عن أبى حازم عن سهل يقول: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: «أنا فرطكم علي الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليردن على أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» وروي هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري وهو يزيد في آخره «فأقول: إنهم منى فيقال: إنك لا تدري ما فعلوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي» وفيه أيضا بطرق متعددة عن أبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ أناس دوني فأقول: يا رب مني ومن امتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم» وفيه أيضا مثله عن عائشة وفيه أيضا عن أم سلمة أنها قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لكم فرط على الحوض فإياي ليأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال فأقول فيم هذا؟ فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا» وفيه أيضا عن عقبة بن عامر «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لانظر إلى حوضي الان وانى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها» وفيه أيضا بطريق آخر عن عقبة بن عامر قريب منه مع زيادة في آخره «ولكني أخشى عليكم الدنيا فتتنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المنبر. وفيه أيضا عن عبد الله أنه قال رسول الله: «أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم

ص:412

فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1) وفيه أيضا في باب الآخرة والقيامة عنه (صلى الله عليه وآله) «ألا وإنه سيجاء من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي. فيقال:

إنك لا تدري ما أحدثوا فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء قدير - إلى قوله - فإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) «فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم».

(فقال أبو جعفر (عليه السلام): أوما يقرؤون كتاب الله) ليعلموا بطلان ما زعموه (أوليس الله يقول وما محمد إلا رسول) لا يتجاوز عن الرسالة إلى التنزه من الموت أو القتل (قد خلت من قبله الرسل) بالموت أو القتل فبخلوا كما خلوا (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) أنكر ارتدادهم عن الدين بموته أو قتله، قال القاضي: قيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلوه سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته خلوا الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاتهم (ومن ينقلب على عقبيه) بعد موته بالارتداد فلن يضر الله شيئا بل يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) على نعمة الإسلام والثبات عليه وفيه وعد ووعيد (قال فقلت له انهم يفسرون على وجه آخر) وهو أنه شرط أو نهى عن ارتدادهم وشئ منهما لا يستلزم وقوعه والجواب أنه إنكار لارتدادهم وتوبيخ لهم وهو تابع لوقوعه على أن النهي عن الشيء يستلزم إمكان وقوعه في نفس الأمر وهم يزعمون أن وقوعه ممتنع بالغير لأنه تعالى حفظهم عنه ولم يتعرض له (عليه السلام) أما لظهوره أو لأن الخصم مباهت مكابر وأشار إلى الأوضح منه (فقال أوليس قد أخبر الله عز وجل عن الذين من قبلهم من الأمم) كاليهود والنصارى وأضرابهما أنهم (قد اختلفوا) في الدين (من بعد ما جائتهم البينات) الواضحات الفارقة بين الحق والباطل (حيث قال وآتينا عيسى ابن مريم البينات) الواضحة والمعجزات الظاهرة (وأيدناه بروح القدس) وهو جبرئيل (عليه السلام) أو ملك آخر كان معه يسدده ويحدثه (ولو شاء الله) هداية الناس جبرا ومنعهم من الضلالة قهرا (ما اقتتل الذين من بعدهم) من بعد الرسل أي ما اختلفوا (من بعد ما جائتهم البينات) لكونهم حينئذ مجبورين على قبول الدين والثبات عليه غير قادرين على الاختلاف فيه والارتداد عنه (ولكن اختلفوا) لعدم المشيئة الحتمية والإرادة والارتداد الجبرية (فمنهم من آمن) بالنبي وثبت على الإيمان (ومنهم من كفر به) وارتد عن الدين (ولو شاء الله ما اقتتلوا) قال المفسرون: هذا تأكيد

ص:413


1- 1 - صحيح مسلم: ج 7 ص 65 - 67.

للسابق (ولكن الله يفعل ما يريد) أي لا يفعل ما ذكر من الجبر على الإيمان والثبات عليه ولكن يفعل ما يريد من اقدارهم عليه وعلى ضده تحقيقا لمعنى التكلف أو من إحسان من يشاء وتوفيقه فضلا وخذلان من يشاء وتعذيبه عدلا، وفي هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) قد اختلفوا إلى آخر، ولعل موضع الاستدلال قوله (ولو شاء الله ما اقتتلوا - اه) على أن يكون المراد بضمير الجمع هذه الأمة فإنه سبحانه لما بين وقوع الاختلاف في الأمم السابقة بعد نبيهم صرف الكلام عنهم إلى بيان وقوع الاختلاف في هذه الأمة أيضا، وهذا الكلام الشريف على هذا تأسيس وهو خير من التأكيد والله يعلم.

* الأصل:

399 - عنه، عن هشام بن سالم، عن عبد الحميد بن أبي العلاء، قال: دخلت المسجد الحرام، فرأيت مولى لأبي عبد الله (عليه السلام) فملت إليه لأسأله عن أبي عبد الله (عليه السلام) فإذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) ساجدا فانتظرته طويلا فطال سجوده علي، فقمت وصليت ركعات وانصرفت وهو بعد ساجدا فسألت مولاه متى سجد؟ فقال: من قبل أن تأتينا فلما سمع كلامي رفع رأسه، ثم قال: أبا محمد ادن مني فدنوت منه فسلمت عليه فسمع صوتا خلفه فقال: ما هذه الأصوات المرتفعة؟ فقلت:

هؤلاء قوم من المرجئة والقدرية والمعتزلة، فقال: إن القوم يريدوني فقم بنا فقمت معه فلما أن رأوه نهضوا نحوه فقال لهم: كفوا أنفسكم عني ولا تؤذوني وتعرضوني للسلطان فإني لست بمفت لكم ثم أخذ بيدي وتركهم ومضى فلما خرج من المسجد قال لي: يا أبا محمد والله لو أن إبليس سجد لله عز ذكره بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عز ذكره ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عز وجل أن يسجد له، وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيهم (صلى الله عليه وآله) لهم فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملا ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله عز وجل من حيث أمرهم ويتولوا الإمام الذي أمروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عز وجل ورسوله لهم، يا أبا محمد إن الله افترض على أمة محمد (صلى الله عليه وآله) خمس فرائض: الصلاة والزكاة والصيام والحج وولايتنا فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربعة ولم يرخص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا، لا والله ما فيها رخصة.

* الشرح:

(ولا تؤذوني وتعرضوني للسلطان) عرضته له من باب علم وضرب أظهرته له (فرخص لهم في

ص:414

أشياء من الفرائض الأربعة ولم يرخص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا إلا والله ما فيها رخصة) الرخصة بضم وبضمتين: ترخيص الله تعالى العبد فيما يخففه عليه والتسهيل ورخص له في كذا ترخيصا جوز له تركه تخفيفا، ولعل المراد بالرخصة فيها تجويز تركها عند الاعذار كفوات الطهارة والنصاب والقدرة والاستطاعة وأمثال ذلك مما هو شرط لوجوبها بخلاف الولاية فإنه لا يجوز تركها في حال من الأحوال ويمكن ان يكون كناية عن عدم العقوبة بتركها بالعفو والشفاعة ونحوهما بخلاف الولاية فإن تاركها معاقب أبدا، ويقرب منه قول من قال الرخصة عبارة عن عدم الحكم بكفر تاركها وعدمها عبارة عن الحكم بكفره.

* الأصل:

400 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي إسحاق الجرجاني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل جعل لمن جعل له سلطانا أجلا ومدة من ليال وأيام وسنين وشهور فإن عدلوا في الناس أمر الله عز وجل صاحب الفلك أن يبطىء بادارته فطالت أيامهم ولياليهم وسنيهم وشهورهم وإن جاروا في الناس ولم يعدلوا أمر الله تبارك وتعالى صاحب الفلك فأسرع بإدارته فقصرت لياليهم وأيامهم وسنيهم وشهورهم، وقد وفي لهم عز وجل بعدد الليالي والشهور.

* الشرح:

(فإن عدلوا في الناس أمر الله عز وجل صاحب الفلك أن يبطىء بإدارته - اه) (1) إسراع الفلك وابطاؤه على القدر المعتاد أمر ممكن بالنسبة إلى القدرة القاهرة وقد مر نظيره مع شرحه في حديث الناس يوم القيامة وقال بعض الأفاضل هذا: من قبيل الاستعارة والكناية والمراد أن العادل ينتفع بإمامته وسلطنته ويصلح أمر دنياه وآخرته فيها، وأن الجائر لا ينتفع بإمامته لغفلته وسكره فكأنما قصرت ولم نحمله على الحقيقة لا لما ذكره الطبعيون من عدم اختلاف في دور الفلك بل

ص:415


1- 1 - قوله «صاحب الفلك» يعني به الملك الموكل بإدارة الفلك ويعبر عنه الفلاسفة بالنفس الفلكية أو العقل المجرد الذي يتعلق الفلك ونفسه به إذ ثبت عندهم أن الحركات الدورية لا تكون طبيعية حتى يلزم أن يكون الطبع طالبا للوضع الذي إذا حصل عليه فر عنه وبين ذلك في ما سلف، وأما طول أيامهم إذا عدلوا وقصرها إذا ظلموا فلعلها أمر نفساني كقصر المدة للنائم إذا مضى عليه زمان كثير، واعلم أن أهل الحديث يأولون أمثال هذه الروايات على غير ظاهرها فهم معترفون بأن الحديث إذا كان ظاهره مخالفا للواقع يجب تأويله وانما يقفون عن التأويل إذا لم يعلموا مخالفته، وعلى فرض العلم بالمخالفة لا يتأبون من التأويل فليس خلافهم مع غيرهم في أصل التأويل بل في مخالفة المضمون للواقع. (ش)

لأنا نعلم أنه قد يكون في قطر من الأرض ذو سلطان عادل وفي قطر آخر ذو سلطان جائر انتهى، ولك أن تقول المراد بالسلطان العادل المعصوم إذ غيره لا يكون عادلا حقيقيا ويؤيده أن المطلق ينصرف إليه وما ذكره المحقق الطوسي من أن العدالة استقامة القوة العقلية والغضبية والشهوية وجميع القوى البدنية واستقرارها في الوسط وعدم انحرافها إلى طرفي الإفراط والتفريط أصلا والعدالة بهذا المعنى لا يتحقق إلا في المعصوم وأما العدالة المشهورة بين الناس فهي أمر إضافي لا تخلو من الجور قطعا فليتأمل.

* الأصل:

401 - أبو علي الأشعري، عن بعض أصحابه، عن محمد بن الفضيل، عن العرزمي قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا في الحجر تحت الميراب ورجل تخاصم رجلا وأحدهما يقول لصاحبه:

والله ما ندري من أين تهب الريح، فلما أكثر عليه قال أبو عبد الله (عليه السلام): فهل تدري أنت؟ قال: لا ولكني أسمع الناس يقولون، فقلت أنا لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك من أين تهب الريح؟ فقال:

إن الريح مسجونة تحت هذا الركن الشامي فإذا أراد الله عز وجل أن يخرج منها شيئا أخرجه أما جنوب فجنوب وأما شمال فشمال، وصبا فصبا، ودبور فدبور ثم قال من آية ذلك أنك لا تزال ترى هذا الركن متحركا أبدا في الشتاء والصيف والليل والنهار.

* الشرح:

(من أين تهب الريح فقال: إن الريح مسجونة تحت هذا الركن الشامي - اه) (1) مر نظيره مع

ص:416


1- 1 - قوله «هذا الركن الشامي» قال صاحب الوافي (الصفحة 127 من المجلد 13) في شرح قول أبي جعفر (عليه السلام): «فأما الرياح الأربع الشمال والجنوب والصبا والدبور فإنما هي أسماء الملائكة الموكلين بها» قال: وإنما أضاف الرياح الأربع إلى الملائكة لأن لكل شيء في هذا العالم ملكوتا في عالم أعلى منه به حياته وتسبيحه انتهى. وفي الحديث الذي رواه هناك عند ذكر الركن الشامي: «فإذا أحب الله أن يهب شمالا أمر الملك الذي اسمه الشمال فيهبط على البيت الحرام فقال على الركن الشامي فضرب بجناحه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد الله من البر والبحر وإذا أراد أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب فهبط على البيت الحرام فقام على الركن الشامي» وهكذا ذكر في الصبا والدبور فتبين من ذلك أنه ليس المراد من سجن الرياح تحت الركن الشامي أن مهب الرياح من هناك لأنهم (عليهم السلام) وأصحابهم وجدوا بالحس أن الرياح الأربع تدخل مكة من الجوانب وليس تخرج منها إلى الجوانب بل المراد بالسجن كما في هذا الحديث ان الرياح موقوفة على أمر الله تعالى والملك الموكل بخزائن الرياح وهذا الملك مستول على ركن من أركان بيت الله تعالى، وفي كتاب الفقيه الركن اليماني بدل الشامي فالأمر مردد بين كون سلطان الملك على الشمال أو الجنوب دون المشرق والمغرب أعني الركن العراقي والمغربي لأن الريح لاختلاف الهواء حرارة وبرودة والاختلاف انما هو بين الشمال والجنوب وأما المغرب والمشرق فكلاهما سيان في نسبة الحرارة والبرودة إليهما غالبا وليس الصبا والدبور من محض المغرب والمشرق بل الصبا من الشمال الشرقي لأنها تهب من نجد إلى الحجاز والدبور من الجنوب الغربي أي من جانب مراكز أفريقية والله العالم. (ش)

شرحه في حديث الرياح.

* الأصل:

402 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم] عن أبيه [جميعا، عن ابن محبوب، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس خلق أكثر من الملائكة إنه لينزل كل ليلة من السماء سبعون ألف ملك فيطوفون بالبيت الحرام ليلتهم وكذلك في كل يوم.

* الشرح:

(أنه لينزل كل ليلة سبعون ألف ملك فيطوفون البيت الحرام ليلتهم وكذلك في كل يوم) الظاهر أن نزولهم كذلك منذ خلقت الكعبة إلى آخر الدهر وأن الطائفين متغايرون فهم في الكثرة مالا يعلم عددهم إلا الله سبحانه.

* الأصل:

403 - حدثنا ابن محبوب، عن عبد الله بن طلحة رفعه قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) الملائكة على ثلاثة أجزاء: جزء له جناحان وجزء له ثلاثة أجنحة وجزء له أربعة أجنحة (1).

* الشرح:

(الملائكة على ثلاثة أجزاء - اه) أي على ثلاثة أصناف كما قال تعالى (جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) والظاهر حمله على الظاهر، قال القاضي، هم وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه وذو أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت مالهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها نحو ما وكلهم الله عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله لم يرد خصوصية الإعداد ونفى ما زاد عليها لما روى أنه (عليه السلام) أتاه جبرئيل ليلة المعراج وله ستمائة جناح انتهى. ويمكن أن يكون كناية عن القوة على الأمر والاجتهاد فيه وتفاوت مراتبهم فيها وأن يراد بالفرقة الأولى: المتصرفون في العالم الجسماني، وبالثانية: المتصرفون في النفوس المجردة بعد مفارقتها الأبدان وبالثالثة: الوالهون في عظمة الله تعالى، ولبعض الأفاضل تأويل آخر مذكور في

ص:417


1- 2 - كما في القرآن الكريم «أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء» فورد في بعضهم ستمائة ألف جناح. (ش).

شرح نهج البلاغة.

* الأصل:

404 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن ميسرة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن في الجنة نهرا يغتمس فيه جبرئيل (عليه السلام) كل غداة، ثم يخرج منه فينتفض فيخلق الله عز وجل من كل قطرة تقطر منه ملكا.

* الشرح:

(فينتفض) أي: يتحرك ليزيل ما عليه من الماء يقال نفض الثوب إذا حركه لينتفض (يخلق الله من كل قطرة يقطر منه ملكا) الظاهر أن هذا من خواص جبرئيل (عليه السلام) وأنه تعالى يخلق بعض الملائكة من شيء وبعضها لامن شيء يخلق الله ما يشاء كيف يشاء ويفعل ما يريد.

* الأصل:

405 - عنه، عن بعض أصحابه، عن زياد القندي، عن درست بن أبي منصور عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل ملكا ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه (1) مسيرة خمسمائة عام خفقان الطير.

* الشرح:

(ان لله عز وجل ملكا ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسير خمسمائة عام خفقان الطاير) الخفقان محركة: الاضطراب والتحرك وخفق الطاير والتفكير في آثار القدرة القاهرة يدفع التعجب والاستعباد منه وفيه دلالة على أن للملك جسم لطيف كما ذهب إليه جماعة من المحققين.

* الأصل:

406 - الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن محمد بن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله عز وجل ديكا رجلاه في الأرض السابعة (2) وعنقه مثبتة تحت العرش

ص:418


1- 1 - قوله «إلى عاتقه» لا يخفى أن العالم الجسماني لا يسع وجود هذا الملك ولو كان هو جسما شاغلا للفضاء زاحم السماوات والأرضين وسائر الأشياء وتداخل معهم والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل والمستفاد من جميع ما ورد في الملائكة (عليهم السلام) أنهم لا يزاحمون غيرهم في المكان فهم مجردون ذاتا من سنخ عالم الأرواح ولا ينافي ذلك تمثلهم للأنبياء والأولياء في صورة الإنسان بأعضائه (ش).
2- 1 - «رجلاه في الأرض السابعة» هذا الديك بهذه العظمة أيضا شاغل لجميع الأمكنة لا يترك مكانا لساير الملائكة فضلا عن السماوات ولو كانوا (عليهم السلام) اجساما لزم التزاحم والتداخل وهما محالان فالديك والملائكة بجملتهم من سنخ الأرواح المجردة، فإن قيل: إن الديوك تصبح وقت الصبح في جميع الأرض وما من لحظة إلا وهي مصادفة للصبح في صقع من الاصقاع فما من وقت إلا والديك تصيح فيلزم من ذلك إما أن يصيح الديك العرشي دائما فتصيح جميع ديوك جميع الأصقاع دائما وإما أن يصيح العرشى وقتا ما فتصيح جميع ديوك الأرض في وقت واحد بعينه وليس كذلك؟ قلنا: بل يصيح الديك العرشي في وقت معين وهو الفجر مثلا لكن تعينه تعين عقلي وانطباق الأوقات المختلفة في الأصقاع المختلفة أي الفجر في كل صقع على وقت صياح الديك العرشي نظير انطباق أفراد الإنسان من أول الدهر إلى آخره على مفهوم الإنسان العقلي كان الديك العرشي وهو المثال العالي لهذا النوع يأمر الديوك بأن يصيحوا كل ديك وقت فجر بلده فتصيح وهذا الديك عند الإشراقيين فرد من أفراد العقول العرضية. (ش)

وجناحاه في الهوى إذا كان في نصف الليل أو الثلث الثاني من آخر الليل ضرب بجناحيه وصاح:

«سبوح قدوس ربنا الله الملك الحق المبين فلا إله غيره رب الملائكة والروح» فتضرب الديكة بأجنحتها وتصيح.

* الشرح:

قوله: (إذا كان في نصف الليل أو الثلث الباقي من آخر الليل) الترديد من باب منع الخلو وكونه من الراوي بعيد (ضرب بجناحيه) أي حركهما (وقال: سبوح قدوس) قيل: في السين والقاف الضم والفتح نقل المازري عن ثعلب أن كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا فالضم فيهما أكثر، وقيل: قد يرويان بضم الحاء والسين وفتحهما بإضمار فعل أي اسبح سبوحا وأقدس قدوسا، والضم هو أكثر استعمالها على الخبر أي هو سبوح وقدوس وبناؤهما للمبالغة من التسبيح والتقديس والمعنى أنه تبارك وتعالى مطهر منزه عن صفات المخلوقين (ربنا الله الملك الحق المبين) قدم الخبر للحصر ووصف الجلالة بالأوصاف المذكورة للدلالة على أنه مالك الدنيا والآخرة وما فيهما وأنه الحق الثابت الذي لا يتغير بوجه وأنه موجود ظاهرا ومظهر الأشياء بحقايقها ولوازمها وساير ما يتعلق بها (فلا إله غيره) متفرع على الحصر المذكور أو على سبوح وقدوس لأن تنزهه عن جميع المعايب والنقايص يقتضي تفرده بالإلهية وتنزهه عن نقص الشركة (رب الملائكة والروح) قيل الروح جبرئيل (عليه السلام) وقيل: ملك عظيم غيره وقيل خلق لا تريهم الملائكة وقيل هو الروح الذي به الحياة (فتضرب الديكة بأجنحتها وتصيح) دل على جواز الاعتماد بهذه الصيحة في معرفة انتصاف الليل وقد روى مثل ذلك في معرفة الزوال والحق جوازه عند عدم إمكان المعرفة بأدلة أقوى منها خصوصا مع تجربة صدقها.

* الأصل:

407 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن

ص:419

عمار الساباطي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول من قبلكم في الحجامة؟ قلت: يزعمون أنها على الريق أفضل منها على الطعام، قال: لا، هي على الطعام أدر للعروق وأقوى للبدن.

* الشرح:

قوله: (لا هي على الطعام أدر للعروق وأقوى للبدن) أما أنها أقوى للبدن فظاهر لكونها مصونا من الضعف وأما أنها أدر للعروق فلأن جاذبة كل عضو لجذبها الغذاء إليه يميل الدم إلى ظاهر البدن فإذا ضم إليه جذب الحجام يخرج الدم بسهولة ولعل حكم الفصد حكم الحجامة في ذلك.

* الأصل:

408 - عنه، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اقرأ آية الكرسي واحتجم أي يوم شئت وتصدق واخرج أي يوم شئت.

* الشرح:

(اقرأ آية الكرسي واحتجم أي يوم شئت وتصدق واخرج أي يوم شئت) ثبت في عرف الشرع كراهة الاحتجام في بعض الأيام كيوم الثلاثاء وكراهة السفر في بعضها كالقمر في العقرب ويوم الاثنين، وفي عرف المنجمين في كثير منها وربما يختلج في بعض النفوس من ذلك شيء وتدفع كراهة ذلك بقراءة آية الكرسي والتصدق وحكاية رجل مع شريكه المنجم في خروجهما لتقسيم المشترك وفوزه بأفضل السهمين عند القرعة لتصدقه عند الخروج مع اختيار المنجم أشرف الساعات لنفسه وأخبثها له مشهورة، وفي بعض الروايات مذكورة.

* الأصل:

409 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن: عن معاوية بن حكيم قال: سمعت عثمان الأحول يقول: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ليس من دواء إلا وهو يهيج داء وليس شيء في البدن أنفع من إمساك اليد إلا عما يحتاج إليه.

* الشرح:

قوله: (ليس من دواء إلا وهو يهيج داء وليس شيء في البدن أنفع من امساك اليد إلا عما يحتاج إليه) الدواء بالمد والتثليث كالحاكم الجائر يدفع جور الغير عن الرعية ويجور عليهم وإمساك اليد كناية عن قلة الأكل وفيها منافع جمة منها حفظ البدن عن الأمراض فإن جميعها من كثرة الأكل ومنها تصفية القلب عن الأمراض المتعلقة به بالرياضة الكاملة فإن النفس إذا شبعت صدرت منها

ص:420

أنواع القبايح، ومنها اتصال النفس بعالم المجردات للمناسبة في التجرد فإذا زال المانع وهو الشواغل مالت إليها بمقتضى الطبع وينعكس إليها الصور الإدراكية القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام التي تحصل من طرق الحواس.

* الأصل:

410 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحمى تخرج في ثلاث: في العرق والبطن والقيء.

* الشرح:

(الحمى تخرج في ثلاث: في العرق والبطن والقيء) العرق بالتحريك معروف ونفعه للمحموم مجرب وقراءته بالكسر وهو الأجوف الذي يكون فيه الدم بإرادة القصد بعيدة، والمراد بالبطن إخراج ما فيه من الأخلاط بشرب مسهل والحقنة ونحوهما، وأما البطن محركة: فهو داء في الجوف مهلك غالبا وليس بمراد ههنا، والقيء نافد لدفع الصفراء والسوداء والبلغم والزائد من الطعام وله مدخل عظيم في حفظ الصحة ودفع المرض فإن خرج بسهولة وإلا فليربط العين بعد وضع القطن ونحوه عليها (الغبرة على من أثارها) الغبر محركة وبهاء الغبار كالغبرة والغبرة بالضم لونه وهذا مثل لمن تعرض أمرا يوجب ضرره وزجر للشيعة عن التعرض للمخالفين في دولتهم ثم رغب في المداناة والمماشاة معهم وترك العجلة والانكار عليهم.

* الأصل:

411 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن حفص بن عاصم، عن سيف التمار، عن أبي المرهف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغبرة على من أثارها، هلك المحاصير، قلت جعلت فداك وما المحاصير؟ قال: المستعجلون أما إنهم لن يريدوا إلا من يعرض لهم، ثم قال: يا أبا المرهف أما إنهم لن يروكم بمحجفه إلا عرض الله عز وجل لهم بشاغل. ثم نكت أبو جعفر (عليه السلام) في الأرض ثم قال: يا أبا المرهف قلت: لبيك قال: أترى قوما حسوا أنفسهم على الله عز ذكره لا يجعل الله لهم فرجا؟ بلى والله ليجعلن الله لهم فرجا.

* الشرح:

قوله: (هلك المحاصير قلت جعلت فداك ما المحاصير قال: المستعجلون) المحاصير بالصاد

ص:421

المهملة جمع محصور كالميامين والملاعين جمع ميمون وملعون، ومحصور: الضيق الصدر الذي لا يصبر على شيء، وفي بعض النسخ بالضاد المعجمة جمع محضار كمصابيح جمع مصباح وهو الفرس المسرع في العدو المرتفع فيه والمراد على التقديرين الاستعجال في الامر من غير تأني فيه وصبر عليه. ثم أكد التحذير عن ذلك بقوله (أما أنهم لن يريدوا إلا من تعرض لهم) بذمهم على الباطل أو بالطعن والسب لإمامهم أو بغير ذلك فعليكم تركه تحرزا من ضررهم، ثم أشار إلى أنه لولا وقاية الله تعالى لا ينجو منهم أحد من هذه الفرقة الناجية قوله «أما أنهم لن يريدوكم بمحجفة إلا عرض الله لهم بشاغل) يشتغلون به عنكم، والمجحفة بتقديم الجيم: الداهية والبلية، سميت بها لأنها تجتحف موردها أي تختطفه وتستلبه ثم حث على الصبر بذكر بعض لوازمه وهو أنه مفتاح للفرج فقال: (أترى قوما حبسوا أنفسهم على الله عز وجل) أي على سبيله طلبا لجزيل أجره (لا يجعل الله لهم فرجا) عن الضيق وضرر الأعداء والاستفهام للإنكار أو التقدير كما أشار إليه بقوله (بلى والله ليجعلن الله لهم فرجا) يرشدك إلى ذلك صبر النبي (صلى الله عليه وآله) وغيره من الأنبياء على تبليغ الدين وأذى المشركين حتى أتاهم النصر كما قال الله تعالى (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأذوا حتى أتاهم نصرنا).

* الأصل:

412 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن الفضل الكاتب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم فقال: ليس لكتابك جواب اخرج عنا، فجعلنا يسار بعضنا بعضا، فقال: أي شيء تساروه يا فضل إن الله عز ذكره لا يعجل لعجلة العباد، ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله، ثم قال: إن فلان بن فلان حتى بلغ السابع من ولد فلان، قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني فإذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا - يقولها ثلاثا وهو من المحتوم.

* الشرح:

(فأتاه كتاب أبي مسلم فقال ليس لكتابك جواب اخرج عنا) الخطاب في الموضعين للرسول وهو يطلب منه (عليه السلام) الخروج لطلب الخلافة بعد استيصال بني أمية وإنما لم يقبله (عليه السلام) لعلمه بأن هذا الأمر لا يتمشى وأن خلافة بني عباس بعد بني أمية أمر مقدر حتما وأن خروجه موجب لهلاكه وهلاك شيعته وقد نقل أنهم نصبوا السفاح قبل عود الرسول إليهم، واعلم أن أبا مسلم كان من أهل

ص:422

إصفهان ولما كان ابتداء خروجه على بني أمية من مرو نسب إليه وقيل له المروزي وكان معينا لإبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في أمر الخلافة فلما قتل إبراهيم في الشام فر أخواه سفاح وأبو جعفر المنصور إلى الكوفة وتوجه أبو مسلم عساكره إليها كتب إلى أبي عبد الله (عليه السلام) واستدعاء للخلافة فلم يقبله (عليه السلام). (فجعلنا يسار بعضنا بعضا) المسارة والسرار «باكسى راز كفتن» يقال: ساره في أذنه مسارة وسرارا وتساروا: إذا تناجوا وكان سبب المسارة حرصهم على ظهور دين الحق وإرادتهم تعجيله (فقال: أي شيء تسارون يا فضل؟) الاستفهام للإنكار والتوبيخ دون الحقيقة (إن الله عز وجل لا يعجل لعجلة العباد) فلا يقدم ما أخره حتما لإرادة العباد تقديمه (ولإزالة جبل عن موضعه) ونقله إلى موضع آخر (أيسر من زوال ملك) هو ملك بنى عباس (لم ينقض أجله) المقدر حتما وفيه مبالغة عرفا على عدم إمكان زواله لا إمكانه مع صعوبة والزوال هنا بمعنى الإزالة تقول أزلته وزولته وزلته بالكسر إذا أزلته فلا يردان الصحيح هو الإزالة خصوصا مع رعاية التقابل (ثم قال) تأكيدا لما ذكر وتوضيحا له (أن فلان بن فلان) وفلان بن فلان (حتى بلغ السابع من ولد فلان) يعني العباس والمقصود أنه عد الأول والثاني إلى السابع من خلفاء بني عباس بأسمائهم وأسماء آبائهم وإنما لم يذكر البواقي لأن المقصود بيان أن هذا الزمان ليس زمان ظهور الحق ورجوع الخلافة إلى أهلها وذكر هذا القدر كاف في بيانه ولو كان الابتداء في العد من الآخر وهو المستعصم إلى الأول وهو السفاح لورد أن الأول ليس هو السابع من ولد العباس بل هو الرابع منهم كما مر.

واعلم أن خبر أن محذوف تقديره يصيرون أو يملكون الخلافة أو نحوهما هذا ويبعد أن يراد بقوله (عليه السلام) «إن فلان بن فلان» الصاحب (عليه السلام) وبيان نسبه إلى نفسه المقدسة وأنه الذي يظهر دين الحق ويعود إليه الخلافة وإن كان هذا أنسب بقوله (فما العلامة فيما بيننا وبينك) يدل على خروج صاحب الأمر وتملكه للخلافة (قال: لا تبرح الأرض يا فضل) أي لا تزول بقيام الساعة (حتى يخرج السفياني) روى الصدوق في كتاب كمال الدين بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أمر السفياني من الأمر المحتوم وخروجه في رجب وفي حديث آخر «يخرج ابن آكلة الأكباد وهو رجل ضخم الهامة بوجهه أثر الجدري إذا رأيته حسبته أعور اسمه عثمان وأبوه عنبسة وهو من ولد أبي سفيان» و «في آخر أنك لو رأيت السفياني رأيت أخبث الناس أشقر أحمر أزرق، وفي آخر أنه يملك كور الشام الخمس دمشق وحمص وقسطنطين والأردن وقنسرين فتوقعوا عند ذلك الفرج».

* الأصل:

413 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج

ص:423

قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس أكان من الملائكة أم كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال، لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ولا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكره وقال: وكيف لا يكون من الملائكة والله عز وجل يقول: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس» فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له: جعلت فداك رأيت قوله عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا» في غير مكان من مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذا المنافقون! قال: نعم يدخل في هذا المنافقون، والضلال، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة.

* الشرح:

(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس) هو اسم أعجمي أو من إبليس إذا يئس وتحير، والبلس محركة من الأخير عنده أو عنده إبلاس وشر (أكان من الملائكة لم كان يلي شيئا من أمر السماء) بأن يكون من المدبرات فيها كسائر الملائكة أو يكون ممن يلي أمر الملائكة كما قالت العامة أنه كان يلي أمرهم يعظهم؟ فأجاب (عليه السلام) بأنه لم يكن شيئا منها (ولا كرامة): أي لا شرف ولا عزة ولا قدر ولا عظمة له عند الله تعالى (فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعة فأنكر) كأنه أنكر ثبوت الرواية لا قول المعصوم بعد ثبوته (وقال) على سبيل الإنكار أو الاستبعاد (كيف لا يكون من الملائكة والله عز وجل يقول: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) تمسك بتوجه اللوم إليه وبما هو الأصل في الاستثناء من الاتصال المقتضي لدخول المستثنى في المستثنى منه لولا الإخراج ومن ثم قيل: الاستثناء من علامات العموم وقد عقل عن قوله تعالى (وكان من الجن ففسق عن أمر ربه) فدخل عليه الطيار وسأله وأنا عنده، فقال له: جعلت فداك أرأيت، أي أخبرني عن (قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا) في غير مكان) أي في مواضع متعددة (فهي مخاطبة المؤمنين (أيدخل في هذا المنافقون) إنما سأله هكذا ولم يسأله عن مطلوبه صريحا لأنه قصد بذلك حصول المطلوب مع زوال شبهته (قال: نعم يدخل في هذا المنافقون والضلال) بالضم وشد اللام: جمع ضال (وكل من أقر بالدعوة الظاهرة) وهذا الوصف شامل لأهل الإسلام كلهم لأن المقر بالدعوة إلى الولاية مثلا إن أقر بها ظاهرا لا باطنا فهو منافق وإن أقر بها باطنا أيضا فإن بقي عليه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فهو مؤمن وإن لم يبق عليه فهو ضال لأنه خرج عن الطريق وضل عنه بعد الدخول فيه هذا وقع في البين فنرجع إلى ما نحن فيه ونقول: إذا جاز دخول المنافق والضال في خطاب المؤمنين إما باعتبار التغليب أو باعتبار الاختلاط وكونهما فيما بينهم أو باعتبار التجوز في الإيمان

ص:424

جاز دخول إبليس في خطاب الملائكة بتلك الاعتبارات فحصل المطلوب وهو أن إبليس ليس من الملائكة حقيقة وبطل شبهة السائل وتمسكه بالآية المذكورة.

* الأصل:

414 - عنه، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إني اصلي فأجعل بعض صلاتي لك، فقال: ذلك خير لك، فقال: يا رسول الله فأجعل نصف صلاتي لك، فقال: ذلك أفضل لك، فقال: يا رسول الله فاني أصلي فأجعل صلواتي لك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم يكلفه أحدا من خلقه: كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه إن لم يجد فئة تقاتل معه ولم يكلف هذا أحد من خلقه قبله ولا بعده ثم تلا هذه الآية (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ثم قال: وجعل الله أن يأخذ له ما أخذ لنفسه فقال عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعلت الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعشر حسنات.

* الشرح:

(فقال: يا رسول الله اني أصلي وأجعل بعض صلواتي لك - اه) نظير ما رواه المصنف في باب الصلاة على محمد وأهل بيته من كتاب الدعاء عن أبى علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن أبي اسامة زيد الشحام عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) «أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله اجعل لك ثلث صلاتي لا بل أجعل لك نصف صلاتي لا بل أجعلها كلها لك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا تكفى مؤونة الدنيا والآخرة» وتأويل هذا ما رواه المصنف أيضا في الباب المذكور بإسناده عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام): ما معنى أجعل صلاتي كلها لك فقال، يقدمه بين يدي كل حاجة فلا يسأل الله عز وجل شيئا حتى يبدأ بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيصلي عليه ثم يسأل حوائجه» أقول ومنه يظهر تأويل البعض والثلث والنصف ولولا هذا التأويل لأمكن أن تراد بالصلاة المندوبة وببعضها بعض من واحدة أو من متعددة وكذا النصف والكل والله أعلم.

415 - عنه، عن علي بن حديد، عن منصور بن روح، عن فضيل الصائغ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أنتم والله نور في ظلمات الأرض، والله إن أهل السماء لينظرون إليكم في ظلمات الأرض كما تنظرون أنتم إلى الكوكب الدري في السماء وإن بعضهم ليقول لبعض: يا فلان عجبا لفلان كيف أصاب هذا الأمر وهو قول أبي (عليه السلام) والله: ما أعجب ممن هلك كيف هلك؟ ولكن

ص:425

أعجب ممن نجا كيف نجا.

416 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن أسباط، عن إبراهيم بن محمد ابن حمران، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى.

* الأصل:

417 - عنه، عن ابن فضال، عن عبيس بن هشام، عن عبد الكريم بن عمرو، عن الحكم بن محمد بن القاسم أنه سمع عبد الله بن عطاء يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): قم فاسرج دابتين: حمارا وبغلا فأسرجت حمارا وبغلا فقدمت إليه البغل ورأيت أنه أحبهما إليه، فقال: من أمرك أن تقدم إلي هذا البغل؟ قلت: اخترته لك، قال وأمرتك أن تختار لي؟ ثم قال: إن أحب المطايا إلي الحمر، قال:

فقدمت إليه الحمار وأمسكت له بالركاب فركب فقال: الحمد لله الذي هدانا بالإسلام وعلمنا القرآن ومن علينا بمحمد (صلى الله عليه وآله) «الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون والحمد لله رب العالمين،» سار وسرت حتى إذا بلغنا موضعا قلت له: الصلاة جعلت فداك، فقال:

هذا وادي النمل لا يصلى فيه، حتى إذا بلغنا موضعا آخر، قلت له مثل ذلك، فقال: هذه الأرض مالحة لا يصلى فيها: قال: حتى نزل هو من قبل نفسه فقال لي: صليت أو تصلي سبحنك؟ قلت:

هذه صلاة تسميها أهل العراق الزوال، فقال: أما هؤلاء الذين يصلون هم شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي صلاة الأوابين فصلى وصليت ثم أمسكت له بالركاب ثم قال؟ مثل ما قال في بدايته، ثم قال: اللهم العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة، فقلت له ما ذكرك جعلت فداك المرجئة؟ فقال: خطروا على بالي.

* الشرح:

(اللهم العن المرجئة) المرجئة بالهمز والمرجية بالياء مخففة: طائفة يقدمون القول ويؤخرون العمل ويقولون إن من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه وفعل غير ذلك من الكبائر فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل كما مر في كتاب الحجة ولا يبعد أن يراد هنا كل من أخر عليا عن مرتبته.

* الأصل:

418 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبن أبي عمير، وعلي ابن إبراهيم،

ص:426

عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أرادت قريش قتل النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: كيف لنا بأبي لهب؟ فقالت أم جميل: أنا أكفيكموه أنا أقول له: إني احب أن تقعد اليوم في البيت نصطبح فلما أن كان من الغدو تهيأ المشركون للنبي (صلى الله عليه وآله) قعد أبو لهب وأمرته يشربان، فدعا أبو طالب عليا (عليه السلام) فقال له: يا بني اذهب إلى عمك أبي لهب فاستفتح عليه فإن فتح لك فادخل وإن لم يفتح لك فتحامل على الباب واكسره وادخل عليه، فإذا دخلت عليه فقل له:

يقول لك أبي: إن أمرءا عمه عينه في القوم فليس بذليل. قال: فذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) فوجد الباب مغلقا فاستفتح فلم يفتح له فتحامل على الباب وكسره ودخل فلما رآه أبو لهب قال له: مالك يا ابن أخي فقال له: إن أبي يقول لك إن امرءا عمه عينه في القوم ليس بذليل فقال له: صدق أبوك فما ذاك يا ابن أخي؟ فقال له: يقتل ابن أخيك وأنت تأكل وتشرب فوثب وأخذ سيفه فتعلقت به أم جميل فرفع يده ولطم وجهها لطمة ففقىء عينها، فماتت وهي عوراء، وخرج أبو لهب ومعه السيف فلما رأته قريش عرفت الغضب في وجهه، فقالت، مالك يا أبا لهب، فقال: أبايعكم على ابن أخي، ثم تريدون قتله واللات والعزى لقد هممت أن أسلم ثم تنظرون ما أصنع، فاعتذروا إليه ورجع.

* الشرح:

(فنصطبح) الاصطباح: أكل الصبوح وهو الغدا والاغتباق: أكل الغبوق وهو العشاء وأصلها في الشرب ثم استعملا في الأكل (إن أمرء أعمه عينه في القوم ليس بذليل) ليس خبر «إن» والجملة قبله صفة لاسمها، والعين: الحافظ وفي بعض النسخ فليس بذليل والجملة فيه خبر.

* الأصل:

419 - عنه، عن أبان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان إبليس يوم بدر يقلل المسلمين في أعين الكفار ويكثر الكفار في أعين المسلمين فشد عليه جبرئيل (عليه السلام) بالسيف فهرب منه وهو يقول:

يا جبرئيل إني مؤجل، إني مؤجل، حتى وقع في البحر قال زرارة: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): لأي شيء كان يخاف وهو مؤجل قال: يقطع بعض أطرافه.

* الشرح:

(يقلل المسلمين في أعين الكفار ويكثر الكفار في أعين المسلمين فشد عليه جبرئيل (عليه السلام) بالسيف) الشد بالفتح: الحملة في الحرب وهذا العمل أعني التقليل والتكثير نوع من السحر أو الشعبذة وغرض الخبيث عنه تقوية قلوب الكفار وتحريكهم على القتال وإلقاء الروع في قلوب المؤمنين ولهما مدخل عظيم في الغلبة والمغلوبية وفي آخر الحديث دلالة واضحة على أن

ص:427

الشيطان الرجيم جسم إلا أنه لطيف يتشكل بأشكال مختلفة كما ذهب إليه المتكلمون.

* الأصل:

420 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن هشام بن سالم، عن أبان ابن عثمان، عمن حدثه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قرة فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة! فلم يقم أحد ثم أعادها، فلم يقم أحد - فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بيده: وما أراد القوم؟ أرادوا أفضل من الجنة!؟ - ثم قال: من هذا؟ فقال: حذيفة، فقال:] أما [تسمع كلامي منذ الليلة ولا تكلم اقترب؟ فقام حذيفة وهو يقول: القر والضر جعلني الله فداك منعني أن أجيبك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): انطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم، فلما ذهب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده، وقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حذيفة لا تحدث شيئا حتى تأتيني فأخذ سيفه وقوسه وحجفته قال حذيفة فخرجت وما بي من ضر ولا قر، فمررت على باب الخندق وقد اعتراه المؤمنون والكفار، فلما توجه حذيفة قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونادى: يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي، فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك وقد أجابك وكفاك هول عدوك فجثا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ثم قال: شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد بعث الله عز وجل عليهم ريحا من السماء الدنيا فيها حصى وريحا من السماء الرابعة فيها جندل. قال حذيف: فخرجت فإذا أنا بنيران القوم وأقبل جند الله الأول ريح فيها حصى فما تركت لهم نارا إلا أذرتها ولا خبأ إلا طرحته ولا رمحا إلا ألقته حتى جعلوا يتترسون من الحصى فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين، فقال: أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شيء فانه ليس سنة مقام قد هلك الخف والحافر، فارجعوا ولينظر كل رجل منكم من جليسه؟ قال حذيفة: فنظرت عن يميني فضرب بيدي، فقلت:

من أنت فقال: معاوية فقلت للذي عن يساري: من أنت؟ فقال: سهيل بن عمرو، قال حذيفة وأقبل جند الله الأعظم فقال: فقام أبو سفيان إلى راحلته ثم صاح في قريش، النجاء النجاء وقال طلحة الأزدي: لقد زادكم محمد بشر، ثم قام إلى راحلته وصاح في بني أشجع: النجاء النجاء وفعل عيينة ابن حصن مثلها، ثم فعل الحارث بن عوف المزني مثلها، ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها، وذهب الأحزاب ورجع حذيفة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره الخبر. وقال أبو عبد الله (عليه السلام): إنه كان ليشبه يوم

ص:428

القيامة.

* الشرح:

(في غزوة الأحزاب في ليلة ظلماء قرة) القر بالضم: البرد، وبالفتح: البارد، في النهاية يوم قر بالفتح أي بارد وليلة قرة وإنما سميت هذه الغزوة بغزوة الأحزاب لأن الكفار كانوا طوايف متعددة وأحزاب متفرقة بيان ذلك أن رسول (صلى الله عليه وآله) أجلى بنى النضير من حوالي المدينة لنقض عهدهم وقصدهم قتله (عليه السلام) حين طلب منهم الجزية فخرجوا إلى خيبر ثم اجتمعت منهم ومن غيرهم من اليهود فخرج بعضهم إلى مكة لاستنفار القريش ومن يحذو حذوهم ودان بمقالتهم إلى حرب الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعضهم إلى غطفان وبعضهم إلى سليم وبعضهم إلى بني أسد وبعضهم إلى غير هؤلاء من قبايل العرب وحرضوهم على المحاربة واستنفروهم فأجمعت قريش السير إلى المدينة مع أربعة آلاف وأميرهم أبو سفيان بن حرب بن أمية ولحق بهم غطفان وأميرهم عيينة بن حصن الفزاري ومنهم بنو أشجع قبيلة بن غطفان وأميرهم طلحة الأزوي بنو فزارة وبنو أسد وبنو سليم وبنو عمرو وغيرهم وأميرهم عامر بن الطفيل إلى غير هؤلاء حتى بلغوا عشرة آلاف واتصل خبرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمر بحفر الخندق حول المدينة وكان أمرا لم تعهده العرب وإنما كان من عمل فارس والروم، وأشار به سلمان الفارسي رضى الله عنه فورد الأحزاب جميعا وحصرو المدينة في شوال سنة خمس وقيل سنة أربع، وبنو قريظة عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن لا يلحقه منهم ضرر فلما حاصروا دخلهم بنو النضير وحملوهم على نقض العهد فساءت الظنون ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يبشر ويعدهم بالنصر من عند الله تعالى والأحزاب يطلبون من الخندق مضيقا للمرور ولم يجدوه مع أن سلمة بن أسلم مع مائتي نفر وزيد بن حارثة مع ثلاثمائة نفر كانوا يحرسون الخندق وعند ذلك برز عمرو بن عبد ود وكان شجاعا معروفا في العرب ومعه عكرمة بن أبي جهل وطايفة أخرى فطلب عمرو مبارزا فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) فقتله وانهزم عكرمة وأصحابه وألقى الله الرعب في قلوب المشركين ويئسوا من الظفر، ثم أن الله سبحانه أرسل ريح الصبا فهدمت خيامهم وقطعت حبالهم وأكفأت قدورهم ولم يمكنهم معها قرار. وقد قيل إن الله تعالى بعث مع الرياح ملائكة تشددوها فخافوا حتى أزمعوا الرحلة بعد بضع وعشرين ليلة فانصرفوا خائبين وفي بعض السير أنهم قالوا: ما هذا الذي صنعوه ومن فعله والعرب لم يروا مثله يعني الخندق فقيل إنه من عمل رجل فارسي (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) بيده) أي أومأ بها والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على

ص:429

غير الكلام فتقول: قال برجله: أي مشى وقال برأسه: أي أومأ، وقال بالماء على يده: أي قلب، وكل ذلك على المجاز والاتساع كما صرح به في النهاية فقال: (أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تكلم اقترب) أمره بالاقتراب والدنو بعد توبيخه من التجاهل عن سماع كلامه ولا تكلم بحذف إحدى التائين ومنذ مبني على الضم وما بعده مجرور ومعناه ابتدأ الزمان أو بمعنى في الظرفية (يا حذيفة لا تحدث شيئا حتى تأتيني فأخذ سيفه وقوسه وحجفته) أمره بأن لا يذعرهم خوفا عليه لأنه إذا ذعرهم تجسسوا عليه فيقع في الهلكة، والحجفة بتقديم الحاء المهملة: الترس (وقد اعتراه المؤمنون والكفار): أي تدانوا وتقاربوا وفي الكنز، اعترا: «نزديك آمدن» والضمير للباب (يا صريخ المكروبين) الصريخ: بمعنى الصارخ وهو المغيث والمستغيث ضد، والمراد هنا الأول (وأرسل عينيه) أي ألقاهما إلى الأرض تخشعا أو بكى وأرسل دموعها (فإنه ليس سنة مقام) إنما قال إبليس ذلك لعلمه بأن ذلك من عذاب الله تعالى على الأحزاب لو أقاموا فخاف أن يهلكوا جميعا ويستولى النبي (صلى الله عليه وآله) على جميع البلاد بلا منازع ولا محارب فأمرهم بالارتحال طمعا لحياتهم ووقوع الكرة والاجتماع مرة أخرى (فقام أبو سفيان) ابن حرب بن عبد شمس بن عبد مناف وهو أموي وكان من صناديد قريش في الجاهلية وعداوته للنبي (صلى الله عليه وآله) ومحاربته معه يوم أحد مشهورة أسلم ظاهرا يوم الفتح قال القرطبي: قال أبو عمر واختلف هل حسن إسلامه أم لا فطائفة على الأول وشهد حنينا وطائفة على الثاني وقالوا: إنه كان كهفا للمنافقين منذ أسلم وكان إسلامه يوم الفتح كرها (ثم صاح في قريش النجاء النجاء) قال أبو عبد الله شارح مسلم: النجاء بالمد والقصر وهو مصدر بمعنى انج وحكى عن عياض أنه إن أفرده المعروف فيه المد، وعن أبي زيد فيه القصر أيضا فأما إذا كرروه وقالوا النجا النجا ففيه الوجهان وقال ابن الأثير في النهاية: معناه أنجوا بأنفسكم وهو مصدر منصوب بفعل مضمر أي انجو النجاء. وتكراره للتأكيد والنجاء: السرعة، يقال: نجا ينجو نجاء إذا أسرع (ثم فعل الحارث بن عون المري مثلها) مرة أبو قبيلة من قريش وهو مرة بن كعب والنسبة إليها مري وفي بعض النسخ عوف بالفاء (فمن غيره عن خطته) الخطة بالكسر: المكان المعلم عليه المختط لبناء دار وغيرها من العمارات.

* الأصل:

421 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام الخراساني عن المفضل بن عمر قال:

كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: ههنا صلب عمي زيد رحمه الله ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين فنزل وقال:

انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي خطه آدم (عليه السلام) وأنا أكره أن أدخله راكبا قال:

ص:430

قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال: أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح (عليه السلام) ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان، فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح (عليه السلام)؟ فقال لي: نعم يا مفضل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربى الكوفة قال:

وكان نوح (عليه السلام) رجلا نجارا فجعله الله عز وجل نبيا وانتجبه ونوح (عليه السلام) أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء.

قال: ولبث نوح (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا» فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها وعجل عملها، فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها، قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله (عليه السلام) عند زوال الشمس، فقام أبو عبد الله (عليه السلام) فصلى الظهر والعصر، ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين وهو موضع دار ابن حكيم وذاك فرات اليوم: فقال لي: يا مفضل] و [ههنا نصبت أصنام قوم نوح (عليه السلام) «يغوث ويعوق ونسرا» ثم مضى حتى ركب دابته. فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها؟ قال: في دورين، قلت: وكم الدورين، قال: ثمانين سنة.

قلت: وإن العامة يقولون: عملها في خمسمائة عام، فقال: كلا كيف والله يقول: (ووحينا) قال: قلت:

فأخبرني عن قول الله عز وجل: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) فأين كان موضعه؟ وكيف كان؟ فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد فقلت له: فان ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم ثم قلت له وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور فقال: نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضا وفاض الفرات فيضا، والعيون كلهن فيضا، فغرقهم الله عز ذكره وأنجى نوحا ومن معه في السفينة، فقلت له: كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها؟ فقال: لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها وطافت بالبيت أسبوعا ثم استوت على الجودي وهو فرات الكوفة فقلت له: إن مسجد الكوفة قديم فقال: نعم وهو مصلى الأنبياء (عليهم السلام) ولقد صلى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين اسري به إلى السماء فقال له جبرئيل (عليه السلام)، يا محمد هذا مسجد أبيك آدم (عليه السلام) ومصلى الأنبياء (عليهم السلام) فانزل فصل فيه، فنزل فصلى فية، ثم إن جبرئيل (عليه السلام) عرج به إلى السماء.

ص:431

* الشرح:

(ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان) هنا حكاية غريبة وهي ما رواه مسلم في باب من ادعى إلى غير أبيه فهو كافر حيث قال: حدثني عمر والناقد، قال: حدثنا هشين بن بشير، قال: حدثنا أبو خالد الجذاء عن أبى عثمان قال: لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت له ما هذا الذي صنعتم إني سمعت سعد بن أبى وقاص يقول: سمعت أذني من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: من أدعى أبا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام، فقال أبو بكرة: فأنا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتهى، قال أبو عبد الله شارحه: زياد أخو أبى بكرة لأمه ادعاه معاوية وألحقه بأبيه أبى سفيان وكان أبو بكرة أنكر ذلك وهجر زيادا وحلف أن لا يكلمه أبدا فلعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة أو بلغه وعنى ما هذا الذي صنع أخوك، وسبب الاستلحاق أن زيادا كان واليا في الفارس وذا مال كثير وحشر عظيم فخاف معاوية عصيانه فأرسل إليه المغيرة بن شعبة ودعاه إليه على أن يلحقه بأبيه فحضر وأحضر معاوية شاهدين على أن أبا سفيان كان يقول: زياد ابني وقال أبو مريم: إني كنت خمارا في الطائف فمر بي أبو سفيان في سفر فطعم وشرب، ثم سألني بغيا، فأتيته بسمية جارية بني عجلان وهي من أصحاب الرايات بالطائف فوقع بها فحملت بزياد، فقال زياد: مهلا يا أبا مريم لا تشتم، قال أبو مريم: قلت الحق، فقال يونس بن عبيد الثقفي: يا معاوية ليس لك أن تلحقه بأبيك لشهادة أبي مريم فأخرجه معاوية وألحقه بأبيه وإنما نسبه (عليه السلام) إلى أبي سفيان باعتبار أنه خلق من مائه أو لشهرة تلك النسبة فيما بينهم.

(ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) علم (عليه السلام) ذلك بالوحي كما سيجيء أو بتجربتهم ألف سنة إلا خمسين عاما، والداربين (1): العشارين من الدرب وهو الطريق (قال: كلا فكيف والله يقول: ووحينا) قال الله تعالى (فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا) أي بحفظنا له من الخطأ في صنعه أو من مفسد يفسده «ووحينا» أي بتعجيلنا لإتمامه من الوحا بالقصر وقد يمد وهو العجلة والإسراع يقال: وحا وتوحا إذا عجل وأسرع وفسره المفسرون بالأمر والتعليم (إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية) فإن خروج الماء من تنور معد للنار غير متوقع خروج الماء منه آية عظيمة من آيات القدرة ومعجزة بينة لصدق دعوى الرسالة (وطافت بالبيت أسبوعا) قيل: المراد منه فعل كل الأفعال حتى طواف النساء (ثم استوت على الجودي) قيل: هو جبل في نجف أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي القاموس هو جبل في الجزيرة وروي أنه تعالى أوحى إلى الجبال «أني واضع سفينة نوح عبدي

ص:432


1- 1 - كذا والصواب باليائين كان المتن يعني العطارين.

على جبل منكن فتطاولت وشمخت وتواضع الجودي فضربت السفينة بجؤجؤها الجبل».

* الأصل:

422 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبى نصر، عن أبان بن عثمان، عن أبى حمزة الثمالي، عن أبي رزين الأسدي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن نوحا صلى الله عليه لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار فقالت امرأته: إن التنور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج، ثم جاء إلى خاتمه فنزعه يقول الله عز وجل: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر) قال: وكان نجرها في وسط مسجدكم ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.

* الشرح:

(يقول الله عز وجل: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر): أي منصب، قال القاضي: وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها (وفجرنا الأرض عيونا): أي فجرنا عيون الأرض إلا أنه علق الفعل على الأرض للمبالغة حتى كأنها كلها صارت عيونا منفجرة (فالتقى الماء) ماء السماء وماء الأرض (على أمر قد قدر) أي على مقدار قدره الله في الأزل من غير زيادة ونقصان أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح (وحملناه على ذات ألواح ودسر) أراد بها السفينة بذكر أوصافها للدلالة على كمال قدرته والدسر بالضم وبضمتين: جمع الدسار وهو المسمار والخيط من ليف يشد بها ألواح السفينة (ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع) الظاهر أن الضمير المجرور وفاعل نقص راجعان إلى المسجد وأن المراد بالنقص النقص الأول بالطوفان فلا يستبعد نحر سفينة طولها ألف ومائتا ذراع فيوسطه.

423 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاءت امرأة نوح (عليه السلام) وهو يعمل السفينة فقالت: إن التنور قد خرج منه ماء فقام إليه مسرعا حتى جعل الطبق عليه وختمه بخاتمه فقام الماء فلما فرغ من السفينة جاء إلى الخاتم ففضه وكشف الطبق ففار الماء.

* الأصل:

424 - على بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن

ص:433

إسماعيل الجعفي، عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: كانت شريعة نوح (عليه السلام) أن يعبد الله بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد وهي الفطرة التي فطر الناس عليها وأخذ ميثاقه على نوح (عليه السلام) وعلى النبيين (عليهم السلام) أن يعبدوا الله تبارك وتعالى ولا يشركوا به شيئا، وأمر بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرض مواريث فهذه شريعة فلبث فيهم نوح ألف سنة الا خمسين عاما يدعوهم سرا وعلانية فلما أبوا وعتوا قال: (رب إني مغلوب فانتصر) فأوحى الله جل وعز إلى «أنه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن فلا تبتس بما كانوا يعملون فلذلك قال نوح (عليه السلام): (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) فأوحى الله عز وجل إليه (أن اصنع الفلك).

* الشرح:

(كانت شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الأنداد) التوحيد: الإقرار بأنه تعالى واحد لا شريك له في الوجود والوجوب الذاتيين ولا يتجزى ولا ينقسم، والإخلاص: تنزيه النية والعمل عن أن يكون لغيره تعالى فيها نصيب، والأنداد جمع الند - بالكسر -: وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده أي يخالفه (وهي الفطرة التي فطر الناس عليها) نبه به على أن الولادة تقع على ذلك حتى يقع التغيير من الأبوين أو من غيرهما وإلى هذا ميل بعض العامة وقال بعضهم: المراد بالفطرة كونه خلقا قابلا للهداية وإدراك الحق ومتهيأ لهما لا فطرة الإسلام والتوحيد وذلك الاستعداد موضوع في العقول وإنما يمنعها عنهما الأبوان أو غيرهما وقال بعضهم: المراد بها ما سبق في العلم الأزلي من سعادة أو شقاوة (أخذ الله ميثاقه على نوح وعلى النبيين اه) يعني أن هذه طريقة مستمرة في جميع الأمم والأديان وهذا وإن كان خبرا لكن معناه الأمر بالقيام عليها.

* الأصل:

425 - عنه، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا، عن الحسن بن علي، عن عمر ابن أبان، عن إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن نوحا (عليه السلام) لما غرس النوى مر عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد غراسا حتى إذا طال النخل وكان جبارا طوالا قطعه ثم نحته فقالوا: قد قعد نجارا، ثم ألفه فجعله سفينة فمروا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون: قد قعد ملاحا في فلاة من الأرض حتى فرغ منها.

* الشرح:

(حتى إذا طال النخل وكان جبارا طوالا) الجبار بالتشديد: العالي وهو من أبنية المبالغة وتسمى

ص:434

النخلة العالية جبارة لطولها وعظمتها التي تفو يد المتناول (ويقولون قد قعد ملاحا في فلاة من الأرض) الظاهر أنهم لم يعرفوا قبل ذلك ملاحا ولم يروا سفينة جرت على الماء فكأنهم علموا ذلك بإخبار نوح (عليه السلام) عنه حين أراد نجر السفينة.

* الأصل:

426 - علي، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن الحسن بن صالح الثوري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان طول سفينة نوح (عليه السلام) ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ثمانمائة ذراع وطولها في السماء ثمانين] ذراعا [وسعت بين الصفا والمروة بالبيت سبعة أشواط ثم استوت على الجودي.

* الشرح:

(وسعت بين الصفا والمروة وطافت بالبيت سبعة أشواط) الظاهر أن سبعة أشواط متعلق بالفعلين على سبيل التنازع والواو لا يدل على الترتيب فلا ينافي تأخر السعي عن طواف الزيارة ويمكن أن يراد بالطواف طواف النساء فإنه بعد السعي لطواف الزيارة.

* الأصل:

427 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل الجعفي، وعبد الكريم بن عمرو، وعبد الحميد بن أبى الديلم، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: حمل نوح (عليه السلام) في السفينة الأزواج الثمانية التي قال الله عز وجل: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) فكان من الضأن اثنين زوج داجنة يربيها الناس، والزوج الآخر الضأن التي تكون في الجبال الوحشية احل لهم صيدها، ومن المعز اثنين زوج داجنة يربيها الناس والزوج الآخر الظبي التي تكون في المفاوز، ومن الإبل اثنين البخاتي والعراب، ومن البقر اثنين زوج داجنة للناس والزوج الآخر البقر الوحشية وكل طير طيب وحشى] أ [وإنسى، ثم غرقت الأرض.

* الشرح:

(حمل نوح في السفينة الأزواج الثمانية - اه) يعني حمل فيها من كل صنف من الحيوان زوجا الذكر والأنثى لبقاء النسل، والداجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم وهي الأهلية (ارتفع الماء على كل جبل وعلى سهل خمسة عشر ذراعا) دل على تحقق هذا المقدار في الكل ولا ينافي الزيادة عليه في البعض فلا يلزم تفاوت سطح الماء في الارتفاع والانخفاض تفاوتا فاحشا

ص:435

مستبعدا طبعا وعادة مانعا من جري السفينة.

428 - محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن داود بن أبي يزيد، عن من ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ارتفع الماء على كل جبل وعلى كل سهل خمسة عشر ذراعا.

* الأصل:

429 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عاش نوح (عليه السلام) ألفي سنة وثلاثمائة سنة منها ثمانمائة وخمسين سنة قبل أن يبعث وألف سنة إلا خمسين عاما وهو في قومه يدعوهم وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء فمصر الأمصار وأسكن ولده البلدان ثم أن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك فرد عليه نوح (عليه السلام) قال ما جاء بك يا ملك الموت! قال جئتك لأقبض روحك. قال: دعني أدخل من الشمس إلى الظل فقال له: نعم، فتحول ثم قال: يا ملك الموت كل ما مر بي من الدنيا مثل تحويلي من الشمس إلى الظل فامض لما امرت به فقبض روحه (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (يا ملك الموت كل ما مر بي من الدنيا مثل تحويلي من الشمس إلى الظل) في القلة والنقصان وعدم الاعتداد به وهذا من باب المبالغة في التعبير عن التعلق بالزائل أو باعتبار أن الزيادة والنقصان في الماضي أمر وهمي اعتباري وفيه زجر لكل أحد عن التمسك بالدنيا وإن رجا طول العمر فكيف مع قصره.

* الأصل:

430 - محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، وعبد الكريم بن عمرو، وعبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال عاش نوح (عليه السلام) بعد الطوفان خمسمائة سنة، ثم أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا نوح إنه قد انقضت نبوتك واستكملت أيامك فانظر إلى الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة التي معك فادفعها إلى ابنك سام فإنى لا أترك الأرض إلا وفيها عالم تعرف به طاعتي وتعرف به هداي ويكون نجاة فيما بين مقبض النبي ومبعث النبي الآخر ولم أكن أترك الناس بغير حجة لي وداع إلي وهاد إلى سبيلي وعارف بأمري، فإني قد قضيت أن أجعل لكل قوم هاديا أهدي به السعداء ويكون حجة لي على الأشقياء قال: فدفع نوح (عليه السلام) الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة إلى سام وأما حام ويافث فلم يكن

ص:436

عندهما علم ينتفعان به، قال: وبشرهم نوح (عليه السلام) بهود (عليه السلام) وأمرهم أن باتباعه وأمرهم أن يفتحوا الوصية في كل عام وينظروا فيها ويكون عيدا لهم.

* الشرح:

(فانظر إلى الاسم الأكبر - اه قد مر هذه الأسماء وفيه تنبيه على أن النبوة والولاية والإمامة من قبل الله تعالى ولا مدخل لعقول البشر فيها كما مر (أن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم) أي يلومونهم أو يقطعونهم قطعة قطعة بنسبة القبايح إليهم بالهجو ونحوه من فرى فلانا كرضى إذا لامه أو من فرآه يفريه إذا شقة وقطعه على جهة الإفساد ومنه حديث حسان «لأفرينهم فري الأديم) لأقطعنهم بالهجاء كما يقطع الأديم وفي بعض النسخ ويعيرون من التعيير.

* الأصل:

431 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن الحسن بن عبد الرحمن، عن عاصم بن حميد، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم؟ فقال لي: الكف عنه أجمل، ثم قال: والله يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا، قلت: كيف لي بالمخرج من هذا فقال لي: يا أبا حمزة كتاب الله المنزل يدل عليه أن الله تبارك وتعالى جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفيئ ثم قال عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فنحن أصحاب الخمس والفيئ وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا والله يا أبا حمزة ما من أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شئ منه إلا كان حراما على من يصيبه فرجا كان أو مالا، ولو قد ظهر الحق لقد بيع الرجل الكريمة عليه نفسه فيمن لا يزيد حتى أن الرجل منهم ليفتدي بجميع ماله ويطلب النجاة لنفسه فلا يصل إلى شيء من ذلك وقد أخرجونا وشيعتنا من حقنا ذلك بلا عذر ولا حق ولا حجة.

قلت: قوله عز وجل: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) قال: إما موت في طاعة الله أو إدراك ظهور إمام ونحن نتربص بهم مع ما نحن فيه من الشدة «أن يصيبهم الله بعذاب من عنده» قال: هو المسخ «أو بأيدينا» وهو القتل. قال الله عز وجل لنبيه (صلى الله عليه وآله): (قل تربصوا فإنا معكم متربصون) والتربص: انتظار وقوع البلاء بأعدائهم.

ص:437

* الشرح:

(أن اصحابنا یفترون و یقذفون من خالفهم )أی یلومونهم أو یقطعونهم قطعة قطعة بنسبة القبائح إلیهم بالهجو و نحوه من فری فلانا کرضی إذا لامه أو فراه یفریه إذا شقة و قطعه علی جهة الإفساد و منه حدیث حسان «لأفرینهم فری الأدیم )لأقطعنهم کما یقطع الأدیم و فی بعض النسخ و یعیرون من التعییر .

(فقال لي: الكف عنهم أجمل) لأن فيه تحرزا عن المجازاة بالمثل أو أشد (ثم قال: يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا الشيعة - اه) تبيان ذلك على ما ذكر فيه وفي غيره من الروايات أن نصف الغنيمة وكل الأنفال والخراج بل كل ما في الدنيا للإمام (عليه السلام) يعطي من يشاء ويملكه ما يشاء فما تصرفوا فيه من الإماء وقيمها ومهور النساء فقد حرمه عليهم فهم لذلك أولاد بغايا وأما الشيعة فقد أحله لهم لطيب ولادتهم (ولا خمس يخمس) أي يؤخذ وفي القاموس خمستهم أخمسهم بالضم: أخذت خمس أموالهم (فيضرب على شيء منه): أي فيمسكه يقال ضرب على يده إذا أمسك والبواقي ظاهرة (ولو قد ظهر الحق وهو قيام القائم (عليه السلام) لقد بيع الرجل الكريمة علية نفسه أي العزيزة والتأنيث باعتبار الفاعل وهو النفس (فيمن لا يريد) شراؤه للإهانة به أو لكثرة هذا الصنف، ولا يزيد بالزاي المعجمة أي لا يزيد في ثمنه احتمال.

* الأصل:

432 - وبهذا الإسناد، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين) قال: هو أمير المؤمنين (عليه السلام) (ولتعلمن نبأه بعد حين) قال: عند خروج القائم (عليه السلام) وفي قوله عز وجل: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) قال: اختلفوا كما اختلف هذه الأمة في الكتاب وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به حتى ينكره ناس كثير فيقدمهم فيضرب أعناقهم.

وأما قوله عز وجل: (ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم) قال: لولا ما تقدم فيهم من الله عز وجل ما أبقى القائم (عليه السلام) منهم واحدا. وفي قوله عز وجل: (والذين يصدقون بيوم الدين) قال: بخروج القائم (عليه السلام) وقوله عز وجل: (والله ربنا ما كنا مشركين) قال: يعنون بولاية علي (عليه السلام). وفي قوله عز وجل: (وقل جاء الحق وزهق الباطل) قال: إذا قام القائم (عليه السلام) ذهبت دولة

ص:438

الباطل.

* الشرح:

(وما أنا من المتكلفين) المتكلف المتعرض لما لا يعنيه.

(والذين يصدقون بيوم الدين) قال: بخروج القائم (عليه السلام)) لا ينافيه التفسير بيوم القيامة أيضا لأن الآية الواحدة لها معان كثيرة.

* الأصل:

433 - عنه، عن علي بن الحسن، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قلت له: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)؟ فقال: يا أبا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه! قد سلط على أيوب (عليه السلام) فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلط على دينهم قلت: قوله تعالى: (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) قال:

الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.

* الشرح:

(فقال: يا أبا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه) وإن قال يقع التنافي من الآية الأولى والآية الثانية فإن الأولى يدل على أن لها سلطانا والثانية على أنه لا سلطان له.

* الأصل:

434 - عنه، عن علي بن الحسن، عن منصور، عن حريز بن عبد الله، عن الفضيل قال: دخلت مع أبي جعفر (عليه السلام) المسجد الحرام وهو متكئ علي فنظر إلى الناس ونحن على باب بني شيبة فقال: يا فضل هكذا كان يطوفون في الجاهلية لا يعرفون حقا ولا يدينون دينا، يا فضيل انظر إليهم مكبين على وجوههم لعنهم الله من خلق مسخوا بهم مكبين على وجوههم ثم تلا هذه الآية: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم) يعني والله عليا (عليه السلام) والأوصياء، ثم تلا هذه الآية: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) أمير المؤمنين (عليه السلام) يا فضيل لم يتسم بهذا الاسم غير علي (عليه السلام) إلا مفتر كذاب إلى يوم البأس هذا. أما والله

ص:439

يا فضيل مالله عز ذكره حاج غيركم ولا يغفر الذنوب إلا لكم ولا يتقبل إلا منكم وإنكم لأهل هذه الآية: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما).

يا فضيل أما ترضون أن تقيمو الصلاة وتؤتوا الزكاة وتكفوا ألسنتكم وتدخلوا الجنة، ثم قرأ (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أنتم والله أهل هذه الآية.

* الشرح:

(يا فضيل (1) انظر إليهم منكبين (2) على وجوههم لعنهم الله من خلق مسخوا) من لبيان الجنس أو للتبعيض، وانظر; إما على صيغة المتكلم أو الأمر، والانكباب محمول على الحقيقة لأنه (عليه السلام) رآهم على الصورة المبدلة المسخية وحمله على التشبيه محتمل.

* الأصل:

435 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن محمد بن سلمان الأزدي، عن أبي الجارود; عن أبي إسحاق، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل (بظلمه وسوء سيرته) والله لا يحب الفساد».

* الشرح:

(وإذا تولى سعى في الأرض - اه) فيه وفيما بعده من الأحاديث دلالة على وقوع التغير في الآيات المذكورة والله يعلم.

436 - سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبى جعفر (عليه السلام) (والذين كفروا أولياؤهم الطواغيت).

437 - علي بن إبراهيم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن محمد بن سنان عن أبى جرير القمي - وهو محمد بن عبيد الله وفي نسخة عبد الله - عن أبي الحسن (عليه السلام) (له ما في السماوات وما في الأرض (وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) 438 - محمد بن خالد، عن حمزة بن عبيد، عن إسماعيل بن عباد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وآخرها (وهو العلي العظيم) والحمد لله رب العالمين وآيتين

ص:440


1- 1 - كذا.
2- 2 - كذا.

بعدها.

439 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سيف، عن أخيه عن أبيه، عن أبي بكر بن محمد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقرأ (وزلزلوا (ثم زلزلوا) حتى يقول الرسول».

* الأصل:

440 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن أسباط، عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (واتبعوا ما تتلوا الشياطين (بولاية الشياطين) على ملك سليمان» ويقرأ أيضا: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة (فمنهم من آمن ومنهم من جحد ومنهم من أقر ومنهم من بدل) ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب).

* الشرح:

(واتبعوا ما تتلوا الشياطين بولاية الشياطين على ملك سليمان) الظاهر أنه تنزيل ويمكن أن يكون تأويلا وفيه إشارة إلى ما وقع في عهد نبينا (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

441 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن حماد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن الفيض قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يمرض منا المريض فيأمره المعالجون بالحمية فقال: لكنا أهل بيت لا نحتمي إلا من التمر، ونتداوى بالتفاح والماء البارد، قلت: ولم تحتمون من التمر؟ قال: لأن نبي الله حمى عليا (عليه السلام) منه في مرضه.

* الشرح:

(فيأمره المعالجون بالحمية - اه) حمى المريض ما يضره حمية منعه إياه فاحتمى وتحمى امتنع وبالفارسية حمية «پرهيز فرمودن» واحتماء «پرهيز كردن».

442 - عنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تنفع الحمية المريض بعد سبعة أيام.

443 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن أبى الحسن موسى (عليه السلام) قال: ليس الحمية أن تدع الشيء أصلا لا تأكله، ولكن الحمية أن تأكل من

ص:441

الشيء وتخفف.

* الأصل:

444 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبى يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن المشي للمريض نكس، إن أبي (عليه السلام) كان إذا اعتل جعل في ثوب فحمل لحاجته يعني الوضوء وذاك أنه كان يقول: إن المشي للمريض نكس.

* الشرح:

(إن المشي للمريض نكس) وهو بالضم عود المرض في النقاهة أو بعدها.

* الأصل:

445 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة أن رجلا دخل علي أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: رأيت كأن الشمس طالعة على رأسي دون جسدي فقال: تنال أمرا جسيما ونورا ساطعا ودينا شاملا فلو غطتك لانغمست فيه ولكنها غطت رأسك أما قرأت (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي...) فلما أفلت تبرأ منها إبراهيم (عليه السلام): قال: قلت جعلت فداك إنهم يقولون: إن الشمس خليفة أو ملك فقال: ما أراك تنال الخلافة ولم يكن في آبائك وأجدادك ملك وأي خلافة وملوكية أكبر من الدين والنور، ترجو به دخول الجنة، إنهم يغلطون قلت: صدقت جعلت فداك.

* الشرح:

(تنال أمرا جسيما ونورا ساطعا ودينا شاملا - اه) كأنه أراد بالأمر الجسيم أمرا من أمور الدنيا وإرشاد الخلق، وبالنور الساطع: العلم وبالدين الشامل العمل به وبزوغ الشمس وشروقها وابتداء طلوعها ولعل الاستشهاد بالآية لدلالة على أن طلوع الشمس وشروقها ثم أفولها كما صار دليلا للخليل (عليه السلام) على معرفة الحق حيث قال: «وجهت وجهي - الآية» كذلك يصير دليلا للرائي في المنام إليه فيدل على ما ذكر.

* الأصل:

446 - عنه، عن رجل رأى كان الشمس طالعة على قدميه دون جسده، قال ما يناله نبات من الأرض من بر أو تمر يطأه بقدميه ويتسع فيه وهو حلال إلا أنه يكد فيه كما كد آدم (عليه السلام).

ص:442

* الشرح:

وأما قوله: (قلت: جعلت فداك إنهم يقولون إن الشمس خليفة أو ملك) فكأنهم عبروا رؤياه بأنك تصير خليفة وذا ملك باعتبار أن الشمس خليفة على الكواكب يجري أثرها عليها واحتياجها في كسب الضوء إليها فأجاب (عليه السلام) بأن هذا التعبير ليس بصواب لما ذكرو فيه دلالة على أن الرائي لو كان من أهل بيت الخلافة والملوك لأمكن ذلك في حقه (إلا أنه يكد فيه) أي في تحصيله أو في ضبطه أو في كليهما أو لأمر يؤول إليه بسببه كما هو شأن الدنيا.

* الأصل:

447 - علي، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن أبي جعفر الصائغ، عن محمد بن مسلم، قال:

دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو حنيفة فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة! فقال لي:

يا ابن مسلم هاتها فإن العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، قال: قلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي فكسرت جوزا كثيرا ونثرته علي، فتعجبت من هذه الرؤيا فقال أبو حنيفة: أنت رجل تخاصم وتجادل لئاما في مواريث أهلك فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أصبت والله يا أبا حنيفة، قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت جعلت فداك إنى كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم لا يسوؤك الله، فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير كما عبره، قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟! قال: نعم حلفت عليه أنه أصاب الخطأ، قال: فقلت له: فما تأويلها قال:

يا ابن مسلم إنك تتمتع بامرأة فتعلم بها أهلك فتمزق عليك ثيابا جددا فان القشر كسوة اللب، قال ابن مسلم: فو الله ما كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا إلا صبيحة الجمعة فلما كان غداة الجمعة أنا جالس بالباب إذ مرت بي جارية فأعجبتني فأمرت غلامي فردها ثم أدخلها داري فتمتعت بها فأحست بي وبها أهلي فدخلت علينا البيت فبادرت الجارية نحو الباب وبقيت أنا فمزقت علي ثيابا جددا كنت ألبسها في الأعياد. وجاء موسى الزوار العطار إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا ابن رسول الله رأيت رؤيا هالتني، رأيت صهرا لي ميتا وقد عانقني وقد خفت أن يكون الأجل قد اقترب، فقال: يا موسى توقع الموت صباحا ومساء فإنه ملاقينا ومعانقة الأموات للأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صهرك؟ قال: حسين فقال: أما إن رؤياك تدل على بقائك وزيارتك أبا عبد الله (عليه السلام) فإن كل من عانق سمي الحسين (عليه السلام) يزوره إن شاء الله.

ص:443

* الشرح:

(يا ابن مسلم هاتها فإن العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة) قدمه وسماه عالما للتقية أو لاظهار جهله عند بعض الأصحاب ثم في هذا الخبر دلالة على أن الرؤيا ليست على ما يعبر بها أولا لأنه لم يقع تعبير أبى حنيفة ووقع تعبيره (عليه السلام) بعده، ولأنه لو كانت لأول عابر لما خطأه (عليه السلام) وهذا ينافي ظاهر ما سيجييء عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «الرؤيا على ما يعبر» وقال (عليه السلام): «امرأة رأت أن جذع بيتها انكسر فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقصت عليه الرؤيا فقال (عليه السلام) زوجك يقدم وهو صالح وقد كان غايبا فقدم كما قال، ثم رأت هذه الرؤيا ثانية فقصت على النبي (صلى الله عليه وآله) فعبرها بما مر، ثم رأتها ثالثة فقصت على رجل أعسر فقال يموت زوجك فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال ألا كان عبر لها خيرا» فإن فيها أيضا دلالة على أن الرؤيا على وفق ما يعبر والجواب المراد أن الرؤيا تجيىء على وفق ما يعبر في بعض الأحيان لأن التعبير قد يؤثر في النفس من باب التطير والتفأل لا دائما فلا منافاة.

(رأيت صهرا لي ميتا اه» الصهر بالكسر: القرابة وزوج بنت الرجل وزوج أخته وأبو امرأته.

* الأصل:

448 - إسماعيل بن عبد الله القرشي، قال: أتى إلى أبي عبد الله (عليه السلام) رجل فقال له: يا ابن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه وكان شبحا من خشب أو رجلا منحوتا من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه وأنا أشاهده، فزعا مرعوبا فقال له (عليه السلام): أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته، فاتق الله الذي خلقك ثم يميتك فقال الرجل: أشهد أنك قد أوتيت علما واستنبطه من معدنه اخبرك يا ابن رسول الله عما] قد [فسرت لي إن رجلا من جيراني جاءني وعرض علي ضيعته فهممت أن أملكها بوكس كثير لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وصاحبك يتولانا ويبرأ عدونا؟ فقال: نعم يا ابن رسول الله رجل جيد البصيرة مستحكم الدين وأنا تائب إلى الله عز وجل وإليك مما هممت به ونويته فأخبرني يا ابن رسول الله لو كان ناصبا حل لي اغتياله فقال: أد الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين (عليه السلام).

* الشرح:

(وكان شبحا من خشب أو رجلا منحوتا من خشب على فرس يلوح بسيفه وأنا أشاهده فزعا مرعوبا) لوح بسيفه وألاح به: لمع به (فقال (عليه السلام): أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشة اه) أي

ص:444

فيما يعيش به، يقال: اغتاله وغاله: أهلكه وأخذه من حيث لم يدر، والوكس كالوعد: النقصان والتنقيص لازم متعد والنصيحة طلب الخير للمنصوح وكأنه أول رؤياه بالإلهام والتعليم الرباني، ويحتمل أنه استنبط أن ذلك الرائي منافق يريد اغتيال غيره من قوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) وقد فسر بعض المعبرين الخشب: بالمنافق نظرا إلى هذه الآية فذلك الشبح الخشبي كان مثاله وذلك الفرس الخشبي كان نفاقه وكما أن المنافق في ترويج أمره راكب على فرس النفاق الذي لا يكون أمره رايجا ولا يوصل صاحبه إلى منزل كذلك الفرس الخشبي وسيف ذلك الشبح قصد الرائي إهلاك غيره وأما كون الاغتيال في أمر المعيشة فيحتمل أنه مستنبط من ركوبه على الفرس لأن الفرس قد يأول بالدنيا وسعة المعاش ولأنه سبب لازدياد الرزق والتوسعة في المعيشة وطلب الدنيا كما في بعض الروايات والله يعلم.

* الأصل:

449 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، عن عبد الملك بن أعين، قال: قمت من عند أبي جعفر (عليه السلام) فاعتمدت على يدي فبكيت، فقال: مالك؟ فقلت: كنت أرجو أن أدرك هذا الأمر وبي قوة فقال: أما ترضون أن عدوكم يقتل بعضهم بعضا وأنتم آمنون في بيوتكم: إنه لو قد كان ذلك اعطى الرجل منكم قوة أربعين رجلا وجعلت قلوبكم كزبر الحديد، لو قذف بها الجبال لقلعتها وكنتم قوام الأرض وخزانها

* الشرح:

(وجعلت قلوبكم كزبر الحديد - اه) الزبر والزبر جمع زبرة: وهي القطعة من الحديد (لو قذف بها الجبال لقلعتها) لقوتها وشدتها وصلابتها وكنتم (قوام الأرض وخزانها) في بعض النسخ «وجيرانها» جمع الجار، والمراد به الناصر المجير الذي يجير من أراد ويؤمنه من أن يظلم (وسمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) مرة بعد أخرى) وهو يقول.

* الأصل:

450 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سفيان الجريري، عن أبي مريم الأنصاري، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:

سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) مرة بعد مرة وهو يقول وشبك أصابعه بعضها في بعض ثم قال: تفرجي

ص:445

تضيقي وتضيقي تفرجي، ثم قال: هلكت المحاضير ونجا المقربون وثبت الحصى على أوتادهم، أقسم بالله قسما حقا إن بعد الغم فتحا عجبا.

* الشرح:

(وشبك) أي وقد شبك أصابعه (بعضها في بعض ثم قال: تفرجي تضيقي وتضيقي تفرجي) دلت الآية والرواية والتجربة على أن بعد كل ضيق وشدة فرجا ومن كلامه (عليه السلام) «أدنى ما يكون الفرج عن مضيق الأمر» والحمل للمبالغة في اتصال أحدهما بالآخر وتشبيك الأصابع تمثيل للإيضاح ولو جعل تفرجي وتضيقي خطابا للأصابع مع بعده كان فيه إشارة إلى ما ذكرنا (ثم قال: هلكت المحاصير: أي المستعجلون ظهور الصاحب (عليه السلام) الموقنون له وقد مرت هذه اللفظة وتصحيحها في ذيل حديث نوح (عليه السلام) (ونجا المقربون) الذين يسلمون ظهوره ويقرون به غير موقتين له، روى المصنف في باب كراهة التوقيت بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي تنتظره متى هو؟ فقال: يا مهزم كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون» (وثبت الحصى على أوتادهم) الضمير للمقربين وهذا كناية عن ثباتهم في مقام الصبر على أذى الأعداء وتحملهم مكاره الضيق وشدايد البلاء حتى لا يسقط خيام صبرهم بصرصر شبهات المعاندين ولا تتحرك أوتادها بحصيات مفتريات المخالفين، وهذه العبارة كالمثل في مقام الشدايد ثم أقسم بالقسم البار تأكيدا لمضمون ما سبق (فقال: أقسم بالله قسما حقا أن بعد الغم) الذي لحقنا ولحق شيعتنا بتسلط الأعداء ونزول الشدايد والبلاء (فتحا عجبا) وهو ظهور الصاحب (عليه السلام) واستيلاؤه على مشارق الأرض ومغاربها.

* الأصل:

451 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن ميسر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا ميسر! كم بينكم وبين قرقيسا؟ قلت هي قريب على شاطىء الفرات فقال: أما إنه سيكون بها وقعة لم يكن مثلها منذ خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض ولا يكون مثلها ما دامت السماوات والأرض مأدبة للطير تشبع منها سباع الأرض وطيور السماء، يهلك فيها قيس ولا يدعى لها داعية قال: وروى غير واحد وزاد فيه: وينادي مناد هلموا إلى لحوم الجبارين.

* الشرح:

(يا ميسر كم بينكم وبين قرقيسيا) في بعض النسخ قرقيسا بالكسر: بلد على الفرات

ص:446

سمي بقرقيسا بن طهمورث، والوقعة: المحاربة وكأنها ما وقع بين أبي مسلم ومروان الحمار وعساكره واستيصالهم أو ما وقع بين هلاكو والمستعصم واستيصاله بني عباس وقوله مأدبة صفة لوقعة أو خبر مبتدأ محذوف أي هي مأدبة للطير والسباع تأكل لحومهم والمشهور في المأدبة ضم الدال وقد تفتح وهي طعام يصنع لدعوة أو عرس (يهلك فيها قيس ولا يدعى لها داعية) الظاهر أن ضمير لها لقيس باعتبار القبيلة وأن الواو للحال وفي النهاية يدعى له أي ينسب إليه فيقال: فلان بن فلان وفي القاموس داعية اللبن: بقيته التي في الضرع بعد الحلب، يقال: دعا في الضرع داعية أبقاها فيه سميت بها لأنها تدعو ما وراه وتنزله، وفيه أيضا الداعية: صريخ الخيل في الحروب، والمعنى على الأول لا تنسب إليها نفس داعية تدعو الانتساب إليها، وعلى الثاني لا تبقى لها بقية، وعلى الثالث لا تطلب لها خيول صارخة ومن يقوم بطلب دمائهم لعدم وجوده، ويحتمل أن يكون الضمير للوقعة والواو للعطف والأنسب حينئذ هو المعنى الأخير والله أعلم.

(قال: وروى غير واحد وزاد فيه وينادي مناد هلموا إلى لحوم الجبارين) فاعل قال محمد ابن يحيى ويحتمل غيره، والمنادي إما ملك أو إنسان، وهلم بضم اللام بمعنى تعال مركب من هاء للتنبيه ومن لم أي ضم نفسك إلينا وفيه لغتان فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والجمع والاثنين والمذكر والمؤنث بلفظ واحد مبنى على الفتح، وبنو تميم تذكر وتؤنث وتثنى وتجمع فيقول هلم وهلما وهلموا وهلمي وهلمن، والظاهر أن وهلموا خطاب للطيور والسباع وضمير العقلاء باعتبار تشبيهها بأناس يدعون إلى مأدبة.

* الأصل:

452 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل.

* الشرح:

(كل راية ترفع قبل قيام القائم) (عليه السلام) وإن كان رافعها يدعو إلى الحق (فصاحبها طاغوت يعبدون من دون الله) الطاغوت: الشيطان والأصنام وكل ما يعبد من دون الله ويطلق على الواحد والجمع ويعبدون بالضم وصف له.

* الأصل:

ص:447

453 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن شهاب بن عبد ربه، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا شهاب يكثر القتل في أهل بيت من قريش حتى يدعى الرجل منهم إلى الخلافة فيأباها، ثم قال: يا شهاب ولا تقل: إني عنيت بني عمي هؤلاء، قال شهاب: أشهد أنه قد عناهم.

* الشرح:

(ولا تقل إني عنيت بني عمي هؤلاء) إشارة إلى بني عباس لا إلى بني الحسن فإنها احتمال بعيد.

* الأصل:

454 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن غير واحد، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن يدعو إلى نفسه إلا نظرا للناس وتخوفا عليهم أن يرتدوا عن الإسلام فيعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن جميع الإسلام وإنما هلك الذين ركبوا ما ركبوا، فأما من لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام ولذلك كتم علي (عليه السلام) أمره وبايع مكرها حيث لم يجد أعوانا.

* الشرح:

(فأما من لم يصنع ذلك ودخل فما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فإن ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام) قال الفاضل الأردبيلي: المخالف: الجاهل المحض الذي لم يعرف الحق بحيث لا يعد مقصرا لو وجد أو عد مقصرا في الجملة حيث دل عقله على التفتيش و ما فعل لتقصير أو لجهل يرجى له دخول الجنة في الجملة ووجدت قريبا إلى هذا المعنى في بعض الأخبار بل إنه كل من لم يبر أو ليس بعد ولنا يرجى له الجنة وليس ببعيد من كرم الله وكرمهم (عليهم السلام).

أقول: لعل مراده ببعض الأخبار هذا الخبر إلا أنه ضعيف بالإرسال مع أن الحسن واقفي وإن كان ثقة ثم قال وأما الذين يموتون على غير الإيمان فالكافر منهم مخلد في النار وعبادتهم غير مقبولة عند الله ويحتمل حصول عوض له بسبب بعض الأفعال الحسنة من الله أما في الدنيا أو في الآخرة

ص:448

بتخفيف عقاب ما كما قيل فيمن لم يستحق دخول الجنة والثواب فيها وكذا من كان معاندا أو مقلدا للآباء أو لمن تقدمه من العلماء مع معرفته للحق في الجملة كما حكى عن بعض الفضلاء منهم أن هذا حق ولكن العلماء المتقدمين هكذا كانوا وكذا من اطلع على الحق بالعقل والنقل متهاونا في الدين ومتغافلا عن الحق وعن التأمل فيه لقلة التقيد به وعدم اعتباره ذلك وذلك أيضا كثير ولهذا نجد نقل العلماء والعظماء منهم حكايات وأخبارا دالة على خلاف معتقدهم مثل ما يرون من الأخبار في الصحاح أن الأئمة اثني عشر وما نقلوا في آية التطهير من حصر أهلها في آل العبا وآية المباهلة وخبر «إني تارك فيكم الثقلين» وأنه لابد لكل زمان إماما فإنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وإن القياس في الأصول لا يجزي وأن الاجماع لا يكون حجة إلا إذا كان له سنده وأن القياس له شرايط وفيه الاختلافات الكثيرة والاعتراضات العظيمة وكذلك في الإجماع ومع ذلك يسندون أصلهم وهو خلافة الأول إلى إجماع ما كان إلا بعض من في المدينة في ذلك الزمان مسندا إلى قياس بصلاة خلفه برضى عنه (صلى الله عليه وآله)] وأنه أمر أخروي والإمامة أمر دنيوي [فيرضى له أيضا مع أنهم صرحوا في بابها بأنها رياسة عامة في الدين والدنيا مع تجويزهم الصلاة خلف كل فاسق وفاجر ويتركون ما نقلوه من النصوص بسبب ذلك مع نقلهم أن عليا (عليه السلام) ما بايع إلا بعد فوت فاطمة (عليها السلام) وبالجملة من تفكر فيما قالوا فقط من غير شيء آخر مذكور في طرقنا لجزم إما بجنونهم أو قلة مبالاتهم أو غفلتهم ومثل ما روي أن ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين، وهم يقولون قد يكون غيره أفضل منه بمعنى أكثر ثوابا ومثل ما قال شارح التجريد أن معنى قول عمر: بيعة أبى بكر فلتة من عاد إلى مثلها فاقتلوه، انه من عاد إلى خلاف كاد أن يظهر عندها فاقتلوه، وهل يمكن مثل هذا التقدير في الكلام مع أنه ينافي معنى الفلتة وهو ظاهر لا خلاف فيه، ومثل ما قال الشريف في إلهيات شرح المواقف: الاجتهاد وقد يكون صوابا وقد يكون خطأ وليس فيه عقاب وقصور مثل تخلف الأولى والثاني عن جيش أسامة حين أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالرواح معه وقالوا ليس مصلحة في أن نترك النبي (صلى الله عليه وآله) في تلك الحالة التي يمكن مفارقة الدنيا وتخلى المدينة ومثل ما قالوا في توجيه قول الثاني حين قال النبي (صلى الله عليه وآله): ايتوني بالدوات والقلم الحديث.

فقال الثاني: إن الرجل ليهذر، حسبنا كتاب الله، فقالوا: إن ذلك القول منه من باب الاجتهاد ولم يعلموا أن رد قول الرسول والعمل بخلافه كفر محض ومثل ما قال العضدي في توجيه إنكار الثاني العدول من الإفراد إلى التمتع حين أمر النبي (صلى الله عليه وآله) من لم يسق الهدي بذلك مع عدم سياقه وقال:نغتسل والنبي أغبر، فقال العضدي: إنه دليل على تقديم فعله على قوله عند التعارض وما علم أن لا تعارض هنا لأن فعله وعدم عدوله (عليه السلام) لأنه ساق الهدي وقوله وأمره بالعدول لمن لم يسقه فكان

ص:449

فرضه غير فرضهم، ومثل ما بالغ ابن أبي الحديد في كون الخطبة الشقشقية منه (عليه السلام) وقال: إن كونها منه مثل ضوء النهار وقد اطلع على النكاية التي فيها حتى قال فيشكل الأمر علينا لا على الشيعة ثم أجاب بأنه وقع لترك الأولى وهل يقول العاقل مثل هذه الأقاويل التي لا يعذر صاحبها أصلا فهؤلاء وأمثالهم مخلدون في النار، ويمكن حمل الأخبار الواردة في عدم قبول طاعاتهم وعباداتهم على هؤلاء.

* الأصل:

455 - حدثنا محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان، عن عبد الله بن مسكان، عن عبد الرحيم القصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال: يا عبد الرحيم ان الناس عادوا بعدما قبض رسول الله (عليه السلام) أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير، جعلوا يبايعون سعدا وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية، يا سعد أنت المرجى، وشعرك المرجل، وفحلك المرجم.

* الشرح:

(قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن الناس يفزعون إذا قلنا ان الناس ارتدوا - اه) لا وجه لفزعهم لأنهم نقلوا في صحاحهم ما يدل على أن ارتدادهم منه ما ذكر قبل ذلك بسبعة أوراق ومنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزل في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه مثل الوكت. ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمرد حرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال أن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أطرفه، ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا انتهى، قال محيى الدين شارح مسلم: الجذر بالجيم والذال المعجمة: الأصل من كل شيء ونزول الأمانة في جذر قلوب الرجال كناية عن خلقه تعالى في تلك القلوب قابلية الالتزام حفظها والقيام بها فلما نزل القرآن والسنة عمل بمقتضاهما من خلقت فيه تلك القابلية ثم رفعت

ص:450

وانتزعت عنهم إلا في أفراد من الناس، ومات حذيفة في خلافة عثمان، والوكت: الأثر اليسير، والمجل بفتح الميم وسكون الجيم أو فتحها، تنفط اليد من العمل بفأس ونحوه وفاعل نفط ضمير الرجل والتذكير باعتبار لفظ الرجل ومنتبر معناه مرتفع.

وقال المازري: والمعنى أنه شبه زوال نور الأمانة بعد استقرارها واعتقاب الظلمة إياها بجمر دحرج على رجل فاثر ثم زال الجمر وبقي الأثر الذي هو التنفط وبالجملة المقصود من الحديث، الأخبار عن تغير الحال برفع الأمانة من تلك القلوب التي جبلت على حفظها وعدم الخوف فيها حتى لا يبقى فيها إلا مثل الوكت، ثم مثل المجل، وقوله: أيكم بايعت، فسره الآبي شارح مسلم بالبيع أي لا يؤمن على البيع والشراء إلا القليل برفع الأمانة وحمله القرطبي شارح مسلم على بيعة الخلافة وفسر الساعي بالعامل. أقول إذا مات حذيفة في خلافة عثمان كما صرح به محيى الدين وأنه رأى رفع الأمانة عن الصحابة ورأى اتصافهم بالكفر كما دل عليه الحديث إلا في قليل منهم فقد دل ذلك على مدعانا وهو ارتدادهم بعد فوت النبي (صلى الله عليه وآله)، وتخصيص رفع الأمانة بالبيع والشراء كما فسره الآبي لاوجه له بل هو فرد من أفراده فما زادوا في ذلك إلا قسوة على قسوة، على أن لنا أن نقول إذا لم يكونوا أمينا في البيع والشراء فكيف صاروا أمينا في نصب الخليفة للأمة إلى يوم القيامة هذا والأمر الآخر الذي انتظر مجيئه حذيفة هو وقوع الفتن في الحديث الآتي كما صرح به الآبي ومنه ما رواه مسلم عن حذيفة، قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر الفتن؟ فقال قوم:

نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وماله وجاره؟ قالوا: أجل قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ولكن أيكم سمع النبي (صلى الله عليه وآله) يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا: قال: ايت لله أبوك قال حذيفة: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوذا عوذا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مر بدا كالكوز مخجيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، قال حذيفة: وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر قال عمرا أسر لا أبالك فلو أنه فتح لعله كان يعاد، قال لا بل يكسر، قال الأصمعي: سكت القوم صمتوا واسكتوا أطرقوا وعوذا بالذال المعجمة من الاستعاذة أي يعرض الفتن على القلوب يلصقها مثل لصوق الحصر، وتأثيرها بجنب النائم عليها عوذ بالله واشربها أي حلت منه محل الشراب وقوله: مثل الصفا في أنه لا يلصق به شيء من الفتن كما لا يلصق به شيء، ومربد: مثل محمر معنى لا صورة يسير بياض في سواد؟، والمخجى: المنكوس المائل الذي لا يقع فيه شيء وأن بينك وبينها بابا أي

ص:451

لا يخرج شيء منها في حياتك.

اكسرا أي يكسر كسرا استعظم الكسر لأنه إنما يكون عن غلبة وإكراه ولا يرجى إعادته بخلاف الفتح، لا أبا لك كلمة تستعمل للحث على الفعل أي جد في الفعل جد من لا أب له بعينه أقول هذا الحديث يدل على وقوع الفتنة وتخصيص حذيفة وقوعها بما بعد عمر لا يكون سندا لأنه لم ينقله من باب الرواية ولئن سلم فنقول ما وقع بعد عمر من الفتن هو فتنة طلحة وزبير وعايشة ومعاوية وأهل نهروان وأكثر أصحابهم فكيف يدعون أن الصحابة لم يرتدوا ولا يصح نسبة الارتداد إليهم، فإذا ثبت هذا ثبت أن نسبة الارتداد إليهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ليس مستبعدا لأجل أنهم كانوا من أصحابه ومنه ما رواه أيضا عن جابر قال: قال رسول الله: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبن عنها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من بين يدي» وفي رواية «أنا آخذ بحجزكم عن النار فتغلبوني وتقمحون في النار» وفي أخرى «أنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها» قال محيى الدين: الفراش: الذي يطير كالبعوض وقيل: هو الطير الذي يتساقط في النار، والحجزة: معقد الأزار والسراويل وإذا أخذ الرجل من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه، والتقحم: التقدم والوقوع في الاهوية وشبهها، فقد شبه (عليه السلام) دخول الصحابة وغيرهم ممن ارتد عن دينه في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا لجهله وعدم تمييزه وتخصيص الذم بما عدى الصحابة تخصيص بلا مخصص ومحض الحمية الجاهلية ومن العجايب أنهم مع ذلك يدعون أن كل واحد من الصحابة عدل وذلك قول من لم يشم رائحة صدق ودليل وأيضا روى مسلم في كتاب الأمارة أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر ذات يوم الفلول فعظمه وعظم أمره ثم قال لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبة بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك - الحديث» قال الآبي: هذا خطاب مواجهة وفيه دلالة على عدم عدالة الصحابة ثم قال: ولا بعد في ذلك (صلى الله عليه وآله) قد جلد في الخمر وقطع في السرقة.

(إن الأنصار اعتزلت) عن الدين أو عن المهاجرين أو عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (فلم تعزل بخير وجعلوا يبايعون سعدا) سعد بن عبادة من أشراف الأنصار (وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية) في القاموس الرجز بالتحريك: ضرب من البحر ووزنه مستفلن ست مرات سمي به لتقارب أجزائه وقلة حروفه وزعم الخليل أنه ليس بشعر وانما هو إنصاف أبيات وأثلاث والأرجوزة كالقصيدة منه والجمع أراجيز وقد رجز وارتجز ورجز به رجزة أنشد أرجوزة (يا سعد أنت المرجا وشعرك المرجل وفحلك المرجم) أي أنت الذي تأمل حصول المقاصد منه من الترجية وهي ضد اليأس، والمرجل: اسم مفعول من الترجيل وهو تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه كما يفعله المترفون

ص:452

والمتنعمون، والمرجم إما من جعل على قبره الرجمة بالضم: وهي الحجارة أو من رجم في المعارك ورمى فيها، أو من لا يوقف على حقيقة أمره لفخامته والفحل على الأول الخصم المدعى للغلبة أو المساواة، وعلى الأخيرين أبو المخاطب أو هو على سبيل الكناية كما في قولك مثلك لا يبخل.

* الأصل:

456 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن غير واحد من أصحابه عن أبان بن عثمان، عن أبي جعفر الأحول، والفضيل بن يسار، عن زكريا النقاض عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: الناس صاروا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنزلة من اتبع هارون (عليه السلام) ومن اتبع العجل وإن أبا بكر دعا فأبى علي (عليه السلام) إلا القرآن وإن عمر دعا فأبى علي (صلى الله عليه وآله) إلا القرآن وإن عثمان دعا فأبى علي (عليه السلام) إلا القرآن، وإنه ليس من أحد يدعو - إلى أن يخرج الدجال - إلا سيجد من يبايعه ومن رفع راية ضلال] ة [فصاحبها طاغوت.

* الشرح:

(وأنه ليس من أحد يدعو) أي إلى بدعة حذفت للتعميم ولقرينة المقام (إلى أن يخرج الدجال سيجد من يبايعه) أي إلى زمان خروجه والمراد به جميع زمانه المتصل آخره بزمان نزول عيسى وظهور الصاحب (عليهم السلام) فلا يرد أن إلى تفيد خروج ما بعدها عن الحكم المذكور وليس كذلك في السين في «سيجد» لمجرد التأكيد كما صرح به صاحب الكشاف في قوله تعالى (سنكتب ما قالوا) (ومن رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت) وهي كل راية رفعت قبل قيام القائم (عليه السلام) كما مر.

ص:453

حديث أبي ذر رضى الله عنه

* الأصل:

457 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن عبد الله بن محمد، عن سلمة اللؤلؤي، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ألا اخبركم كيف كان إسلام سلمان وأبي ذر فقال الرجل وأخطأ:

أما إسلام سلمان فقد عرفته فأخبرني بإسلام أبي ذر فقال: إن أبا ذر كان في بطن مر يرعى غنما له فأتى ذئب عن يمين غنمه فهش بعصاه على الذئب، فجاء الذئب عن شماله فهش عليه أبو ذر ثم قال له أبو ذر: ما رأيت ذئبا أخبث منك ولا شرا، فقال له الذئب: شر والله مني أهل مكة بعث الله عز وجل إليهم نبيا فكذبوه وشتموه فوقع في اذن أبي ذر، فقال لامرأته: هلمي مزودي وأدواتي وعصاي، ثم خرج على رجليه يريد مكة ليعلم خبر الذئب وما أتاه به، حتى بلغ مكة فدخلها في ساعة حارة وقد تعب ونصب فأتى زمزم وقد عطش، فاغترف دلوا فخرج لبن فقال في نفسه:

هذا والله يدلني على أن ما خبرني الذئب وما جئت له حق، فشرب وجاء إلى جانب من جوانب المسجد فإذا حلقة من قريش فجلس إليهم فرآهم يشتمون النبي (صلى الله عليه وآله) كما قال الذئب، فما زالوا في ذلك من ذكر النبي والشتم له حتى جاء أبو طالب من آخر النهار فلما رأوه قال بعضهم لبعض: كفوا فقد جا عمه، قال: فكفوا فما زال يحدثهم ويكلمهم حتى كان آخر النهار، ثم قام وقمت على أثره فالتفت إلي فقال: اذكر حاجتك! فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم، قال: وما تصنع به؟ قلت: اومن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلا أطعته فقال: وتفعل؟ فقلت: نعم قال: فتعال غدا في هذا الوقت إلي حتى أدفعك إليه قال: بت تلك الليلة في المسجد حتى إذا كان الغد جلست معهم فما زالوا في ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) وشتمه حتى إذا طلع أبو طالب فلما رأوه قال بعضهم لبعض: أمسكوا فقد جاء عمه، فأمسكوا فما زال يحدثهم حتى قام فتبعته فسلمت عليه فقال: اذكر حاجتك فقلت: النبي المبعوث فيكم، قال: وما تصنع به؟ فقلت: أومن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلا أطعته، قال: وتفعل قلت: نعم، فقال: قم معي، فتبعته فدفعني إلى بيت فيه حمزة (عليه السلام) فسلمت عليه وجلست فقال لي: ما حاجتك! فقلت هذا النبي المبعوث فيكم، فقال:

وما حاجتك إليه؟ قلت: أومن به واصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلا أطعته فقال:

تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: فشهدت قال: فدفعني حمزة إلى بيت فيه جعفر (عليه السلام) فسلمت عليه وجلست فقال لي جعفر (عليه السلام): ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث

ص:454

فيكم قال: وما حاجتك إليه! فقلت: أومن به وأصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء الا أطعته، فقال تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فقال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه علي (عليه السلام) فسلمت وجلست فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم قال: ما جتك إليه؟ قلت: أومن به واصدقه وأعرض عليه نفسي ولا يأمرني بشيء إلا أطعته، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فشهدت فدفعني إلى بيت فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسلمت وجلست، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما حاجتك؟ قلت: النبي المبعوث فيكم، قال:

وما حاجتك إليه؟ قلت: أومن به واصدقه ولا يأمرني بشيء إلا أطعته فقال: تشهد أن إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله):

يا أبا ذر انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عم لك قد مات وليس له وارث غيرك فخذ ماله وأقم عند أهلك حتى يظهر أمرنا، قال: فرجع أبو ذر فأخذ المال وأقام عند أهله حتى ظهر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا حديث أبي ذر وإسلامه رضي الله عنه وأما حديث سلمان فقد سمعته؟ فقال: جعلت فداك حدثني بحديث سلمان، فقال: قد سمعته، ولم يحدثه لسوء أدبه.

* الشرح:

(حديث أبي ذر رضي الله عنه) قال القرطبي: أبو ذر اسمه جندب بن جنادة، من كبار الصحابة، أسلم بعد أربعة، ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم عام الحديبية بعد أن مضت بدر وأحد والخندق وكان غلب عليه التعبد والتزهد ودخل بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) الشام فوقع بينه وبين معاوية نزاع فشكاه معاوية إلى عثمان فأقدمه عثمان المدينة ثم خرج إلى الربذة فأقام فيها في موضع منقطع إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين فصلى عليه ابن مسعود عن منصرفه من الكوفة في ركب ولم يوجد له ما يكفن فيه فكفنه رجل من أهل الركب في ثوب من غزل أمه وكان أوصى أن لا يكفنه أحد ولى شيئا من أعمال السلطان وخبره في ذلك معروف انتهى.

أقول: خروجه إلى الشام ثم إلى المدينة ثم من المدينة بعد ضرب عثمان إياه إلى الربذة كان بأمر عثمان لأنه كان ينقل دائما ذمائمهم وقد ذكرنا ذلك سابقا نقلا من كلام أصحابهم (فقال: إن أبا ذر كان في بطن مر يرعى غنما له فأتى ذئب عن يمين غنمه فهش بعصاه على الذئب) بطن مرو يقال له الظهر إن بفتح الميم وتشديد الراء موضع بقرب مكة على مرحلة، والهش: الخيط وهو الضرب

ص:455

الشديد وخرط الورق من الشجر ولعله ههنا كناية عن الطرد والفعل كدب ومل، والمزود كمنبر:

ما يجعل فيه الزاد، والإداوة: المطهرة هذا وأما سبب إسلام سلمان فقيل لما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بقبا وقال: لا أدخل المدينة حتى يلحق بي علي وكان سلمان كثير السؤال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان قد اشتراه بعض اليهود وكان يخدم نخلا لصاحبه فلما وافى (عليه السلام) قبا وكان سلمان عرف بعض أحواله من بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) وغيره فحمل طبقا من تمر وجاءهم به فقال: سمعنا أنكم غرباء وافيتم هذا الموضع فحملنا هذا إليكم من صدقتنا فكلوه، فقال رسول الله «ص): سموا وكلوا ولم يأكل هو منه شيئا وسلمان واقف ينظر فأخذ الطبق وانصرف وقال: هذه واحدة بالفارسية، ثم جعل في الطبق تمرا أخر فحمله فوضعه بين يديه (عليه السلام) فقال: رأيتك لم تأكل من تمر الصدقة فحملت هذا هدية فمد (عليه السلام) يده وقال لأصحابه: كلوا بسم الله فأخذ سلمان الطبق وهو يقول: هذا اثنان، ثم دار خلف رسول الله (عليه السلام) فعلم (عليه السلام) مراده منه فأرخى رداءه عن كتفه فرأى سلمان الشامة فوقع عليها وقبلها وقال: أشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله ثم قال: إني عبد ليهودي فما تأمرني؟ فقال:

فكاتبه على شيء تدفعه إليه فصار سلمان إلى اليهودي فقال له: إني أسلمت واتبعت هذا النبي على دينه ولا تنتفع بي وكاتبني على شيء أدفعه إليك وأملك نفسي، فقال اليهودي: أكاتبك على أن تغرس لي خمسمائة نخلة وتخدمها حتى تحمل ثم تسلمها إلي وعلى أربعة أوقية ذهبا جيدا فانصرف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بذلك فقال (عليه السلام) اذهب فكاتبه على ذلك فمضى سلمان وكاتبه على ذلك وقدر اليهودي أن هذا لا يكون إلا بعد سنين وانصرف سلمان بالكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال (عليه السلام) اذهب فأتني بخمسمائة نواة وفي رواية الحشوية بخمسمائة نبلة فجاءه سلمان بخمسمائة نواة فقال: سلمها إلى علي (عليه السلام) ثم قال لسلمان: اذهب بنا إلى الأرض التي طلب النخل فيها فذهبوا إليها وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يثقب الأرض بإصبعه ثم يقول لعلي (عليه السلام) ضع في الثقب نواة ثم يرد التراب عليها ويفتح رسول الله أصابعه فتفجر الماء من بينها فيسقى ذلك الموضع ثم يصير إلى موضع الثانية فإذا فرغ من الثانية تكون الأولى قد نبتت ثم يصير إلى موضع الثالثة فإذا فرغت تكون الأولى منها قد حملت ثم يصير إلى موضع الرابعة وقد نبتت الثالثة وحملت الثانية وهكذا حتى فرغ من غرس الخمسمائة وقد حمل كلها فنظر اليهودي وقال: صدقت قريش أن محمدا ساحر، وقال: قبضت منك النخل فأين الذهب فتناول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجرأ كان بين يديه فصار ذهبا أجود ما يكون فقال اليهودي: ما رأيت ذهبا قط مثله وقدره مثل تقدير عشر أواق فوضعه في الكف فرجح فزاد عشرا حتى صار أربعين أوقية لا يزيد ولا ينقص، قال سلمان فانصرف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلزمت خدمته وأنا حر.

ص:456

* الأصل:

458 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي (صلى الله عليه وآله) وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: اللهم أمكني من ثمامة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني مخيرك واحدة من ثلاث: أقتلك؟ قال: إذا تقتل عظيما، أو افاديك، قال: إذا تجدني غاليا، أو أمن عليك قال: إذا تجدني شاكرا، قال: فإني قد مننت عليك قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق.

* الأصل:

459 - عنه، عن أبيه، عن أحمد بن محمد، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله) جاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة والعاص بن هشام وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية وعتبة بن ربيعة فقال: أولد فيكم مولود الليلة؟ فقالوا: لا قال: فولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخز الأدكن ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه قد أخطأكم والله يا معشر قريش فتفرقوا وسألوا فأخبروا أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام فطلبوا الرجل فلقوه، فقالوا: إنه قد ولد فينا والله غلام قال: قبل أن أقول لكم أو بعد ما قلت لكم؟ قالوا: قبل أن تقول لنا، قال: فانطلقوا بنا إليه حتى ننظر إليه فانطلقوا حتى أتوا أمه فقال: أخرجي ابنك حتى ننظر إليه فقالت إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان لقد اتقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج منه نور حتى نظرت إلى قصور بصرى وسمعت هاتفا في الجو يقول: لقد ولدتيه سيد الأمة فإذا وضعتيه فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد وسميه محمدا، قال الرجل: فأخرجيه فأخرجته فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه فخر مغشيا عليه فأخذوا الغلام فأدخلوه إلى أمه وقالوا: بارك الله لك فيه، فلما خرجوا أفاق فقالوا له: مالك ويلك؟ قال: ذهبت نبوة بني إسرائيل إلى يوم القيامة هذا والله من يبيرهم ففرحت قريش بذلك فلما رآهم قد فرحوا قال:] قد [فرحتم أما والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب وكان أبو سفيان يقول: يسطو بمصره.

* الشرح:

(إن ثمامة بن أثال أسرته خيل النبي (صلى الله عليه وآله)) قيل في المغرب أثال بالضم: المال والمجد وبه سمي

ص:457

والد ثمامة و «أبال» تصحيف وأبو وجزة بن أبى عمرو بن أمية - اه) ضبط وجزة بالزاي المعجمة وعتبة بضم العين وسكون التاء، وفلسطين: كورة بالشام وقرية بالعراق، والشامة: علامة تخالف البدن التي هي فيه ويقال لها بالفارسية «خال»، والدكنة بالضم: لون إلى السواد دكن كفرح فهو أدكن.

* الشرح:

وقوله: (قد أحظاكم) إما بالحاء المهملة والظاء المعجمة من الحظوة بالضم أو الكسر: وهي المكانة والمنزلة أي جعلكم ذوي منزلة رفيعة بين للناس أو بالخاء المعجمة والطاء المهملة من الخطو وهو المشي والركوب والتجاوز، يقال تخطى الناس وأخطاهم إذا ركبهم وجاوزهم وقال بعض الأفاضل في توجيه علم الرجل بذلك وتوجيه قوله «فولد إذا بفلسطين» بعد قولهم «لا» مذكور في الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين (عليهم السلام) يولد في مكة رجل معصوم اسمه أحمد وكنيته أبو القاسم وكذلك في قرية من العراق أحدهما نبي والآخر إمام ومذكور الليلة التي يولد فيها أحد الأحمدين، والمراد باتقاء الأرض بيديه الحذر من ضررها عند السقوط بتقديمها، والقصور جمع القصر وهو بناء معروف «وبصرى» كحبلى: بلد بالشام وقرية قرب بغداد، والسطو «گرفتن» بعنف سطى عليه وبه سطوا وسطوة قهره وأذله وبطشه بشدة وقول أبى سفيان (يسطو بمصر - اه) استفهام إنكار واعلم أن هذه الشامة هي التي تسمى بخاتم النبوة وإنما سميت بذلك لأنها إحدى العلامات التي يعرف بها علماء الكتب السابقة وكذا لما حصل عند سلمان من علامات صدقه ما حصل كموضع مبعثه ومهاجره جد في طلبه فلما جعل يتأمل ظهره فعلم (عليه السلام) أنه يريد أن يقف على ما يعرف به من خاتم النبوة فأزال الرداء عن ظهره الكريم، فلما رأى سلمان الخاتم أكب عليه يقبله ويقول أشهد أنك رسول الله، قيل: وكذلك حين خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام ومروا بصومعة بحيرا الراهب نزل إليهم وكان قبلها لا يخرج لأحد فجعل يتخللهم فلما رآه أخذ بيده وقال: هذا سيد العالم هذا رسول رب العالمين فقالت له مشيخة من قريش: ما علمك به؟ قال: لما أشرفتم من العقبة لم يبق حجر وشجر إلا سجد له ولا يسجد إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة مثل التفاحة وفيه أن موضعه كان بين الكتفين ومن طريق العامة أنه كان عند ناغض كتفه اليسرى، قال بعضهم:

الناغض من الإنسان: أصل العنق حيث ينغض رأسه ونغض الكتف هو العظم الرقيق على طرفيهما وقيل للناغض فرع الكتف سمي ناغضا للحركة ومنه قيل للظليم ناغض لأنه يحرك رأسه إذا جرى، وقال المازري: ناغض الكتف ما رق منه وسمي بذلك لنغوضه أي لتحركه نغض رأسه أي حركه ومنه قوله تعالى (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي يحركونها استهزاء وأما مقداره فلم أجد تقديره في كلام الأصحاب وفي بعض أخبار العامة أنه كان مثل التفاحة وفي بعضها مثل بيضة الحمامة، وفي بعضها مثل بيضة الحجلة، وفي بعضها مثل الجمع، قال عياض: الجمع: الكف إذا جمع، يقال:

ص:458

ضربته بجمع كفي إذا جمع كفه فضربه بها وقال المازري: الجمع: الكف وصورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها ثم فيه دلالة على أنه (عليه السلام) ولد به وفي بعض روايات العامة دلالة واضحة على أنه لم يولد به وهو ما رووه من حديث شق الصدر فيه «فلما أزال الملكان حظ الشيطان وعلق الدم منه قال أحدهما للآخر: خطه فخطه ووضع الخاتم بين الكتفين» وقال السهيلي: وحكمة وضع الخاتم أنه لما شق صدره وأزيل مغمز الشيطان ملىء قلبه حكمة وإيمانا فختم عليه كما يختم على الإناء المملوء مسكا، وحكمة وضعه عند نغض الكت لأنه المحل الذي يوسوس منه الشيطان وقد ذكروا في كتبهم أن شق الصدر كان بعد ما كان (عليه السلام) قادرا على المشي مع الأطفال ونقل الوسناني في إكمال الإكمال أنه (عليه السلام) كان بين الأطفال فرأوا رجلين أخذاه وشقا صدره فنادوا قتل محمد.

* الأصل:

460 - حميد بن زياد، عن محمد بن أيوب، عن محمد بن زياد، عن أسباط بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان حيث طلقت آمنة بنت وهب وأخذها المخاض بالنبي (صلى الله عليه وآله) حضرتها فاطمة بنت أسد امرأة أبي طالب فلم تزل معها حتى وضعت فقالت إحداهما للأخرى: هل ترين ما أرى؟ فقالت: وماترين قالت: هذا النور الذي قد سطع ما بين المشرق والمغرب فبينما هما كذلك إذ دخل عليهما أبو طالب: فقال لهما: مالكما من أي شيء تعجبان؟ فأخبرته فاطمة بالنور الذي قد رأت فقال لها أبو طالب: ألا أبشرك؟ فقالت: بلى، فقال: أما إنك ستلدين غلاما يكون وصي هذا المولود.

* الشرح:

(حيث طلقت آمنة - اه) الطلق والمخاض بالفتح: وجع الولادة وقد طلقت المرأة تطلق على ما لم يسم فاعله أصابها الطلق وفيه دلالة على كمال أبي طالب وقيل: إنه كان من أوصياء عيسى (عليه السلام) وفي بعض الأخبار دلالة عليه.

* الأصل:

461 - محمد بن أحمد بن عبد الله بن الصلت، عن يونس، وعن عبد العزيز بن المهتدي، عن رجل، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) في قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) قال: صلة الإمام في دولة الفسقة.

* الشرح:

ص:459

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا - اه) القرض الحسن: ما أقصد منه وجه الله تعالى وما ذكره (عليه السلام) من أكمل أفراده ويندرج في صلة الإمام محبته وطاعته وإيصال المال إليه وغير ذلك من أنواع البر.

* الأصل:

462 - يونس، عن سنان بن طريف قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ينبغي للمؤمن أن يخاف الله تبارك وتعالى خوفا كأنه مشرف على النار ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة، ثم قال: إن الله عز وجل عند ظن عبده إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

* الشرح:

(ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه مشرف على النار ويرجو رجاء كأنه من أهل الجنة) دل على أنه ينبغي المساواة بين الخوف والرجاء، والنظر في الأول إلى جواز التقصير في الأعمال القلبية والبدنية مع ملاحظة عظمة الرب وقهره على جميع الممكنات بغنائه عنها، وفي الثاني إلى العجز والمسكنة مع بسط نعمته وسعة كرمه ورحمته وغنائه عن تعذيب العباد وعبادتهم وإنعامه عليهم في هذه الدار بلا سبق استحقاق فلا يبعد إجراء أعظم منها في دار القرار، فمن نظر إلى هذا تارة وإلى ذاك أخرى حصلت له ملكة الخوف وملكة الرجاء وهو متحير بين الحالتين ومتردد بين المنزلتين، ومن علاماته: الزهد في الدنيا، وترك مالا ينبغي، والرغبة في الآخرة، وطلب ما ينبغي كما روى «من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه» (ثم قال: إن الله تبارك وتعالى عند ظن عبده إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا) نظيره من طرق الخاصة كثير وفي كتب العامة موجود، روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي»، فإن قلت: هل فيه دلالة على ما ينافي صدر الحديث من أن الرجاء ينبغي أن يكون غالبا على الخوف؟ قلت لا، لوجوه: الأول: أن فيه ترغيبا في رجاء المغفرة وزجرا عن القنوط عند فعل المعصية فالخير هو الرجاء والشر هو القنوط والقنوط كفر وإليه أشار القابسي في حل حديث مسلم، الثاني: أنه تعالى عند ظن عبده في حسن عمله وسوء عمله لأن من حسن عمله حسن ظنه، ومن ساء عمله ساء ظنه وإليه أشار الخطابي في حله، الثالث: أن ظن الخير أن يرجو العبد رحمة الله من فضله ولا يتكل على عمله ولا يخاف إلا من ذنبه ولا من ذاته تعالى لأنه ليس بظلام للعبيد، وظن الشر المترتب عليه جزاء الشر أن يرجو من عمله ويخاف منه تعالى لا من ذنبه واستفدت هذا من كلام مولانا الصادق (عليه السلام) قال

ص:460

«حسن الظن بالله أن لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا من ذلك» الرابع: أن ظن الخير مركب من الرجاء والخوف المتساويين وظن الشر ما ليس كذلك وهو على أربعة أقسام، وهذا استفدته من قول إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال:

«العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه» معناه على قدر خوفه من عذاب ربه لأجل ذنبه، وقيل: ظن الخير أن يظن المغفرة إذا استغفر، وظن قبول التوبة إذا تاب، وظن قبول العمل الصالح إذا عمله. وظن الشر أن يأتي بهذه الأشياء ويظن أنها لا تقبل ولا تنفعه وذلك قنوط.

* الأصل:

463 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان، عن إسماعيل، بن جابر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمكة إذ جاءه رسول من المدينة فقال له: من صحبت؟ قال: ما صحبت أحدا، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): أما لو كنت تقدمت إليك لأحسنت أدبك؟ ثم قال: واحد شيطان واثنان شيطانان وثلاث صحب وأربعة رفقاء.

* الشرح:

(أما لو كنت تقدمت إليك لأحسنت أدبك) أي لو جئتك لأحسنت أدبك بالضرب وأما إذ جئتني فلا أضربك لقبح ضرب الضيف والزائر (ثم قال: واحد شيطان واثنان شيطانان وثلاثة صحب وأربعة رفقاء) أي قافلة ولعل المراد أن المتفرد في السفر والذاهب على الأرض وحده أو مع واحد شيطان أي متمرد عات بعيد عن الله تعالى لأنه يوقع نفسه في الضرر والوحشة والتهلكة، وأيضا إن مات لم يوجد من يجهزة ويدفنه ويوصل خبره إلى أهله فيشكل عليهم أمر التزويج والإرث، قال ابن الأثير: يريد أنه من الشيطان أو أنه شيء يحمله عليه الشيطان وهو حث على الاجتماع في السفر.

* الأصل:

464 - عنه، عن أحمد، عن الحسين بن سيف، عن أخيه علي، عن أبيه قال: حدثني محمد بن المثنى قال: حدثني رجل من بني نوفل بن عبد المطلب قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أحب الصحابة إلى الله أربعة وما زاد قوم على سبعة إلا كثر لغطهم.

* الشرح:

(وما زاد قوم على سبعة إلا كثر لغطهم) اللغطة بالغين المعجمة: صوت وضجة لا يفهم معناه

ص:461

والمقصود أن أكثر كلامهم لغو باطل منحرف عن الصواب والظاهر أن هذا غير مختص بالسفر.

* الأصل:

465 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه عمن ذكره، عن أبى الحسن موسى (عليه السلام)، عن أبيه، عن جده (عليهما السلام) فيوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): لا تخرج في سفر وحدك فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، يا علي إن الرجل إذا سافر وحده فهو غاو، والاثنان غاويان، الثلاثة نفر، قال: وروى بعضهم سفر.

* الشرح:

(فإن الشيطان مع الواحد - اه) يوسوسه ويفزعه في النوم واليقظة ويدعوه إلى أمر غير ملايم بالشرع. والغاوي: الضال، والنفر: جماعة الناس من ثلاثة إلى عشرة، والسفر: جمع سافر كصحب وصاحب.

* الأصل:

466 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، وعلي بن محمد القاساني، عن سليمان بن داود، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في وصية لقمان لابنه: يا بني سافر بسيفك وخفك وعمامتك وخبائك وسقائك وأبرتك وخيوطك ومخرزك وتزود معك من الأدوية ما تنتفع بها أنت ومن معك وكن لأصحابك موافقا إلا في معصية الله عز وجل.

* الشرح:

(يا بني سافر بسيفك وخفك وعمامتك - اه) أمر بأخذ هذه الأشياء لأن المسافر كثيرا ما يحتاج إليها ولا يمكن تحصيلها في القفار. والسقاء ككساء جلد يتخذ للماء، واللبن ونحوهما والمخرز بالكسر: ما يخرز به وهو بالفارسية «درفش» وموافقة الأصحاب في الأمور المباحة وهي المماشاة معهم مطلوبة في السفر لأنها توجب الفرح والابتهاج وحسن التودد.

* الأصل:

467 - علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من شرف الرجل أن يطيب زاده إذا خرج في سفره.

* الشرح:

(من شرف الرجل) أي مجده وإصالته ونجابته (أن يطيب زاده) كما وكيفا ولا يعد ذلك إسرافا

ص:462

مع القدرة بشرط أن لا يبلغ حد التكلف المشعر بالإدلال والتفاخر، وقال الصادق (عليه السلام) «إذا سافرتم فاتخذوا سفرة وتنوقوا فيها».

* الأصل:

468 - علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا سافر إلى الحج والعمرة تزود من أطيب الزاد من اللوز والسكر والسويق المحمض والمحلى.

* الشرح:

(كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا سافر إلى الحج والعمرة تزود من أطيب الزاد من اللوز والسكر والسويق المحمض والمحلى) اللوز: «بادام» والسويق: الدقيق المشوي، وقد تحمض تحميضا بالسماق ونحوه وقد يحلى بالسكر والعسل ونحوهما وقيل: إنه من أطيب أطعمة العرب.

* الأصل:

469 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: دخلت عليه يوما فألقى إلي ثيابا وقال: يا وليد ردها على مطاويها فقمت بين يديه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): رحم الله المعلى بن خنيس فظننت أنه شبه قيامي بين يديه بقيام المعلى بين يديه، ثم قال: اف للدنيا، اف للدنيا إنما الدنيا دار بلاء يسلط الله فيها عدوه على وليه، وإن بعدها دارا ليست هكذا، فقلت: جعلت فداك وأين تلك الدار؟ فقال: ههنا وأشار بيده إلى الأرض.

* الشرح:

(يا وليد ردها على مطاويها - اه) مطاوي الثوب: اطواؤها جمع المطوى وهو بالفارسية «درهم پيچيده شده». والمعلى بن خنيس قتله داود بن على وإلى المدينة وأخذ مال الصادق (عليه السلام) فقام (عليه السلام) راكعا وساجدا فلما كان في السحر دعا عليه وهو ساجد فسمعت الصيحة في داره قبل أن يرفع (عليه السلام) رأسه وأف: معناه الاستقذار لما شتم، وقيل: معناه الاحتقار والاستقذار وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر متكدر وفيها عشر لغات ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء منونة وغير منونة، وأف بكسر الهمزة وفتح الفاء، وأف بضم الهمزة وسكون الفاء، وأف بضم الهمزة والقصر، وافت بالتاء، وقال أبو البقاء: هي اسم لجملة خبرية أي كرهت وضجرت وقال أبو حيان:

وظاهر هذا أنها اسم فعل الماضي فموجب البناء فيها قائم وهو وقوعها موضع المبني، قال أبو

ص:463

البقاء: فمن بناها على الأصل ومن فتح طلب التخفيف ومن نون أراد التنكير ومن لم ينون أراد التعريف والإشارة إلى الأرض إشارة إلى القبر والبرزخ لأن الجنة في السماء السابعة كما نطقت به الأخبار وصرح بذلك أيضا بعض الأفاضل.

470 - محمد بن أحمد، عن عبد الله بن الصلت، عن يونس، عمن ذكره، عن أبى بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد إن لله عز وجل ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا، كما تسقط الريح الورق من الشجر في أوان سقوطه وذلك قوله عز وجل: (يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا) والله ما أراد بهذا غيركم.

* الأصل:

471 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة قال: حدثني أبو الخطاب في أحسن ما يكون حالا قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وإذ ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) فقال: وإذا ذكر الله وحده بطاعة من أمر الله بطاعته من آل محمد (اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين (لم يأمر الله بطاعتهم) إذا هم يستبشرون).

* الشرح:

(اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالله وبرسوله واليوم الآخر): أي انقبضت ونفرت ومنشأوه كراهة ذلك في سمعهم.

* الأصل:

472 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم صاحب الشعير، عن كثير بن كلثمة، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، وفي رواية اخرى في قوله عز وجل: (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: سأله بحق محمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة صلى الله عليهم.

ص:464

* الشرح:

(في قول الله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات - اه) أي استقبلها بالأخذ والقبول حين علمها بالوحي أو الإلهام والتنكير للتعظيم والظاهر أن الواو في قوله «وبحمدك» للحال أي وأنا متلبس بحمدك على التوفيق على التنزيه أو على إعطاء هذه الكلمات أو في جميع الأحوال وفيها اعتراف بالتقصير وطلب المغفرة لا يستلزم لأن العفو عن الذنوب لا يستلزم القرب وهذه الرواية لا ينافيها الأخرى لجواز تعدد السبب لشئ واحد على أن التوسل بهؤلاء الطاهرين سبب لاستجابة الدعاء المذكور كما روي أن الدعاء المقرون به لا يرد.

* الأصل:

473 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى; وعلي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما رأى إبراهيم (عليه السلام) ملكوت السماوات والأرض التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى الله عز ذكره إليه: يا إبراهيم إن دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم، إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبدا يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه، وعبدا يعبد غيري فلن يفوتني، وعبدا عبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني، ثم التفت فرأى جيفة على ساحل البحر نصفها في الماء ونصفها في البر، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء، ثم ترجع فيشد بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا وتجيء سباع البر فتأكل منها، فيشد بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا فعند ذلك تعجب إبراهيم (عليه السلام) مما رأى وقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى) قال: كيف تخرج ما تناسل التي أكل بعضها بعضا؟ (قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها؟ (قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزءا) فقطعهن واخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذا السباع التي أكل بعضها بعضا، فخلط ثم] ا [جعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا، فلما دعاهن أجبنه وكانت الجبال عشرة.

* الشرح:

(لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الملكوت: فعلوت من الملك والتاء للمبالغة والمراد برؤيتها رؤية تفاصيلها ومشاهدة عجايبها وبدايعها الدالة على كمال القدرة والربوبية (إني

ص:465

خلقت خلقي على ثلاثة أصناف عبدا يعبدني) عبدا بالنصب بدل عن خلقي وتقدير الناصب له بعيد (ثم التفت فرأى جيفة على ساحل البحر) هذا السبب للسؤال الآتي ذكره الحسن وقتادة وعطاء وابن جريج. وقال ابن جريج: وكانت الجيفة حمارا، وقال عطاء: رآها في ساحل بحيرة طبرية وقيل:

السبب أن نمرود لما قال: أنا أحيي وأميت، قتل واحدا وأطلق آخر، قال له إبراهيم (عليه السلام): إن إحياء الله تعالى يرد الروح إلى الأبدان بعد الموت، فقال نمرود: هل عاينته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم فانتقل إلى جواب آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه على الجواب إن سئل عنه مرة أخرى (قال: كيف تخرج ما تناسل التي أكل بعضها بعضا) نسل ولد كانسل وتناسلوا أنسل بعضهم بعضا.

والظاهر أن ما عبارة عن أجزاء تلك الجيفة التي انتقلت من صلب الحيوانات الآكلة إلى أولادها وإنما سأل عن كيفية إخراج تلك الأجزاء عن أولاد الأكلة لا عن الأكلة والمأكولة لأن التعجب فيه أكثر إذ كلما كان الامتزاج والاختلاط أكثر وأكمل كان التميز والتفريق أشد وأشكل (قال أولم تؤمن) بأني قادر على ذلك وإني على كل شيء قدير، قال ذلك مع علمه بأن إيمانه (عليه السلام) به في غاية الكمال ليجيب بما أجاب ويسمع السامعون غرضه وهو ان يشاهد المعلوم مشاهدة عيان (قال بلى) آمنت (ولكن) سألت (ليطمئن قلبي) بحصول المطلوب عيانا فإن القلب إذا طلب شيئا ولم يجده اضطرب فإذا وجده اطمأن وهذا أحسن مما قاله بعض المفسرين من أنه يطمأن قلبي بزيادة بصيرة بسبب مضامة العيان لأن بصيرته كانت في غاية الكمال ولم يكن فيها نقص أصلا حتى يكمل بمشاهدة العيان. وإلى ما ذكرنا أشار (عليه السلام) بقوله (يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها) حيث دل على أن مقصوده مجرد الرؤية كما في المشبه به وانطباق علمه بالمعلوم وأما علمه بالقدرة ففي الحالين على سواء وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (قال فخذ أربعة من الطير) قيل: طاووسا وديكا وغرابا وحمامة، وحكى عن ابن عباس نسرا بدل حمامة. قيل فيه إيماء إلى إحياء النفس بالحياة الطيبة الأبدية فإن قتل الطاووس إيماء إلى ترك الزينة، وقتل الديك: إلى ترك الصولة والشهوة، وقتل الغراب: إلى ترك الخسة وبعد الأمل، وقتل الحمامة: إلى ترك الترفع والمسارعة إلى الهوى فإن من أمات هذه الصفات عن نفسه فقد أحياها بحياة طيبة أبدية (فصرهن إليك) أمر من صاره يصوره إذا أماله يعنى أملهن وضمهن إليك لتعرفها بخصوصياتها كيلا تشتبه عليك بعد الأحياء (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) بينه وبين ما سبق جمل محذوفة بقرينة المقام والكلام ففيه إيجاز الحذف كما في قوله حكاية (فأرسلون * يوسف أيها الصديق) وقد أشار إليها (عليه السلام) بقوله (فقطعهن واخلطهن) بالدق ونحوه (كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضا) قال الفاضل: الأمين

ص:466

الأسترآبادي فيه إشارة إلى أن الخلط في الصورتين على نهج واحد وفيه تنبيه على أن الله تعالى قدر أن لا يصير الأجزاء الأصلية لحيوان جزءا لحيوان آخر وكأنه أراد أنه لا يجب إعادة الفواضل وفي بعض الروايات دلالة على إعادتها (فخلط ثم جعل على كل جبل منهن جزءا) وفي بعض النسخ (ثم اجعل) بصيغة الأمر ولكل وجه كما لا يخفى (ثم أدعهن) وقل لهن: تعالين بإذن الله تعالى (يأتينك سعيا) ساعيات مسرعات بالمشي أو الطيران (فلما دعاهن أجبنه) قيل: إنه (عليه السلام) أمسك رؤوسهن ثم ناداهن بعد فعل ما أمر به فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا، ثم أقبلن سعيا فانضممن إلى رؤوسهن فصرن كما كن (وكانت الجبال عشرة) قال القاضي: قيل: كانت أربعة، وقيل كانت سبعة.

* الأصل:

474 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محجوب، عن مالك بن عطية، عن سليمان بن خالد قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحر والبرد مما يكونان فقال لي: يا أبا أيوب إن المريخ كوكب حار (1) وزحل كوكب بارد فإذا بدأ المريخ في الارتفاع انحط زحل وذلك في الربيع فلا يزالان كذلك كلما ارتفع المريخ درجة انحط زحل درجة ثلاثة أشهر حتى ينتهي المريخ في الارتفاع وينتهي زحل في الهبوط فيجلو المريخ فلذلك يشتد الحر فإذا كان في آخر الصيف وأول الخريف بدأ زحل في الارتفاع وبدأ المريخ في الهبوط فلا يزالان كذلك كلما ارتفع زحل درجة انحط المريخ درجة حتى ينتهى المريخ في الهبوط وينتهى زحل في الارتفاع فيجلو زحل وذلك في أول الشتاء وآخر الخريف فلذلك يشتد البرد وكلما ارتفع هذا هبط هذا وكلما هبط هذا ارتفع هذا فإذا كان في الصيف يوم بارد فالفعل في ذلك للقمر وإذا كان في الشتاء يوم حار فالفعل في ذلك للشمس هذا تقدير العزيز العليم وأنا عبد رب العالمين.

* الشرح:

قول: (إن المريخ كوكب حار وزحل كوكب بارد) (2) وصفها بالحرارة والبرودة إما بالذات أو باعتبار التسخين والتبريد بالخاصية والتأثير (فإذا بدأ المريخ في الارتفاع) في التسخين (انحط زحل) عن التبريد وليس المراد بالارتفاع والانحطاط الميل إلى الشمال والجنوب ولا الطلوع والغروب (وذلك في الربيع) عند بلوغ الشمس أول الحمل وميلها إلى الشمال من معدل النهار إذ حينئذ ينضم تسخينه إلى تسخين الشمس وتتدرج يوما فيوما (فلا يزالان كذلك) يرتفع المريخ

ص:467


1- 1 - يأتي بيانه تحت رقم 507.
2- 2 - يأتي بيانه تحت رقم 507.

في التسخين ينحط زحل عن التبريد كما أشار إليه (كلما ارتفع المريخ درجة) من التسخين انحط زحل درجة من التبريد إلى (ثلاثة أشهر) وحينئذ تصل الشمس إلى الانقلاب الصيفي أول السرطان وهو غاية الميل عن معدل النهار ونهاية تسخين الشمس والمريخ كما أشار إليه بقوله (حتى ينتهي المريخ في الارتفاع) ويبلغ تسخينه حد الكمال (وينتهي زحل حينئذ في الهبوط) من التبريد ويبلغ غاية النقصان فيه (فيجلو المريخ) في التسخين لأنه حينئذ في حد الكمال منه (فلذلك يشتد الحر) لكمال سببه بلا معارض ولما فرغ عن بيان سبب الحر أشار إلى سبب البرد بقوله «فإذا كان في آخر الصيف وأول الخريف» عن بلوغ الشمس في أول الميزان وميلها إلى الجنوب وبعدها عن سمت رأس البلدان (بدأ زحل في الارتفاع) في التبريد (وبدأ المريخ في الهبوط) من التسخين (فلا يزالان كذلك كلما ارتفع زحل درجة) من التبريد (انحط المريخ درجة) من التسخين (حتى ينتهي المريخ في الهبوط) ويبلغ غاية النقصان في التسخين (وينتهي زحل في الارتفاع) في التبريد ويبلغ غاية الكمال فيه (فيجلو زحل) في التبريد لأنه حينئذ في حد الكمال منه (وذلك في أول الشتاء وآخر الخريف) عند بلوغ الشمس أول الجدي وغاية بعدها عن سمت الرأس (فلذلك يشتد البرد) لكما سببه بلا معارض (وكلما ارتفع هذا هبط هذا وكلما هبط هذا ارتفع هذا) هذا تأكيد لجميع ما تقدم والمراد بالارتفاع والهبوط، الارتفاع والهبوط في التأثير كما ذكرنا ولما كان ههنا سؤال أشار إلى جوابه بقوله (فإذا كان في الصيف يوم بارد فالفعل في ذلك للقمر) لأنه بارد كما مر لا للشمس والمريخ وهو ظاهر ولا لزحل لأنه حينئذ مغلوب فلا يصير غالبا (وذا كان في الشتاء يوم حار فالفعل في ذلك للشمس) لا لزحل وهو ظاهر ولا للمريخ لأنه مغلوب له وأما تأثير الشمس في ذلك اليوم دون غيره من الأيام فلجواز زوال المانع مع تأثيرها فيه ووجوده في غيره غير البعد المشترك في الجميع (هذا تقدير العزيز العليم) بأحوال العباد والبلاد ومصالحهم فقدر نظام العالم بذلك لتحقق الفصول، وفوائد الفصول كثيرة لا يسع المقام ذكرها (وأنا عبد رب العالمين) فيه إظهار العجز والمسكنة وغاية التذلل والانقياد هذا الذي ذكرناه من باب الاحتمال وإنما لم نحمله على ظاهره الدال على أن الحرارة والبرودة منهما فقط لا من الشمس بسبب القرب والبعد وعلى تساويهما في الحركة وتقابلهما في الوضع ودورهما في سنة لأن الكل مناف لما هو المقرر عند الرياضيين إذ حركة التدوير للأول في يوم سبعة وعشرون دقيقة وللثاني سبعة وخمسون دقيقة وحركة الحامل للأول إحدى وثلاثون دقيقة وللثاني دقيقتان فلا تساوي ولا تقابل ولا دورة في سنة فيهما لا باعتبار حركة التدوير ولا باعتبار حركة الحامل وزيادة تداوير أو خارج مركز لكل منهما مع اعتبار حركة للزائد على وجه توافق مجموع حركته وحركة المزيد عليه حركة خارج مركز الشمس

ص:468

وهي في كل يوم تسعة وخمسون دقيقة ليتحقق المساواة في الحركة وحركة المزيد عليه ويتم الدورة في سنة مناف للمحسوس والمرصود ومع ذلك لا يرفع الاختلاف بالكلية فليتأمل فإنه دقيق جدا.

475 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي من أحبك ثم مات فقد قضى نحبه ومن أحبك ولم يمت فهو ينتظر وما طلعت شمس ولا غربت إلا طلعت عليه برزق وإيمان - وفي نسخة نور.

476 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيأتي على أمتي زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا ولا يريدون به ما عند الله ربهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمهم الله منه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.

ص:469

حديث الفقهاء والعلماء

* الأصل:

477 - عنه، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

كانت الفقهاء والعلماء إذا كتب بعضهم إلى بعض كتبوا بثلاثة ليس معهن رابعة، من كانت همته آخرته كفاه الله همه من الدنيا ومن أصل سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله تبارك وتعالى فيما بينه وبين الناس.

* الشرح:

(حديث الفقهاء والعلماء) العالم أعم من الفقيه باعتبار أن الفقه يتعلق بالأحكام والعلم يتعلق بها وبغيرها، أو باعتبار أن الفقه في عرف المحدثين المتقدمين كما صرح به جماعة من المحققين بصيرة قلبية تامة في الدين تابعة للإدراك توجب الميل إلى الآخرة ورفض الدنيا ومقت أهلها في ذات الله تعالى والعلم أعم منها ومن الإدراك وإن أريد بالعلم أيضا في عرفهم تلك البصيرة كما صرح به بعض الأكابر كانت بينهما مساواة والعطف للتفسير، ثم المراد بهم إما فقهاء هذه الأمة وعلمائهم أو الأعم الشامل للأمم السابقة (من كانت همته آخرته كفاه الله همه من الدنيا) الهمة بالكسر وتفتح: ما هم به ليفعل، وفي بعض النسخ «من كان همه» وهو الحزن والقصد يعني من كان حزنه بأمر الآخرة وقصده إليه وجد في تحصيله كفاه الله همه ومؤونته من الدنيا، نعم من كان لله كان الله له ومن أقبل إلى ما يحب الله أقبل الله إلى ما يحبه (ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته) إصلاح السريرة: وهو تنزيه القلب عن الرذائل وتزيينه بالفضايل وربطه بالعقايد الحقة يوجب صلاح الظاهر لأن الظاهر تابع للباطن ولو صدر منه مالا ينبغي نادرا أو مال إليه أصلح الله له بالعفو والتفضل ووفقه للصرف عنه (ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله تبارك وتعالى فيما بينه وبين الناس) إصلاح الأول هو الامتثال بأوامره وزواجره وآدابه ومن داوم عليه أصلح الله تعالى بينه وبين الناس وصرف قلوبهم إليه بالمحبة له والإتيان بما فيه نظام حاله ألا ترى أن عبدك إذا كان في رعاية حقوقك وامتثال أمرك دائما تأمر سائر عبيدك بالمحبة له ورعاية حقوقه ولو صدرت منه بادرة بالنسبة إليهم تطلب منهم العفو عنه والرضا منه.

ص:470

واعلم أن هذه الكلمات الجزيلة مشتملة على جميع أنواع الفضيلة الدنيوية والأخروية والعقلية والعملية ولذلك داوم على مكاتبتها الفقهاء والعلماء وليس المقصود من نقل مكاتبتهم مجرد الأخبار بل الحث على الأسوة بهم في العلم والعمل.

* الأصل:

478 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن سعدان بن مسلم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رجل بالمدينة يدخل مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: اللهم آنس وحشتي وصل وحدتي وارزقني جليسا صالحا، فإذا هو برجل في أقصى المسجد فسلم عليه وقال له: من أنت يا عبد الله فقال: أنا أبو ذر، فقال الرجل: الله أكبر، الله أكبر، فقال أبو ذر:

ولم تكبر يا عبد الله؟ فقال إني دخلت المسجد فدعوت الله عز وجل أن يؤنس وحشتي وأن يصل وحدتي وأن يرزقني جليسا صالحا. فقال له أبو ذر: أنا أحق بالتكبير منك إذ كنت ذلك الجليس فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا وأنتم على ترعة يوم القيامة حتى يفرغ الناس من الحساب قم يا عبد الله فقد نهى السلطان عن مجالستي.

* الشرح:

(أنا وأنتم على ترعة يوم القيامة حتى يفرغ الله من الحساب) الترعة: كالقرعة في الأصل الروضة على المكان المرتفع خاصة فإذا كانت في المطمئن فهي روضة وفيه دلالة على أنه ليس على خواص الشيعة حساب وعليه روايات أخر مر ذكر بعضها.

* الأصل:

479 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه، يسمون به وهم أبعد الناس منه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود.

* الشرح:

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه - اه) ما أخبر به (صلى الله عليه وآله) من باب الإعجاز فإنه أخبر بما سيقع وقد وقع زمان موته (صلى الله عليه وآله) إلى الآن هو عين ذلك الزمان إذ أكثر الصحابة ومن بعدهم من المخالفين وفقهائهم إلى يومنا هذا موصوفون

ص:471

بالصفات المذكورة ومنهم خرجت الفتنة والضلالة والإضلال وإليه تعود ثمرتها بعد هذه الدار بل لا يبعد أن يدخل في الذم من كان في زماننا هذا من الشيعة وعلمائهم فإن كلهم راغبون عن أمر الآخرة ما يلون إلى الدنيا والفتنة، ساعون إلى الجبابرة والظلمة، ألا يعملون بما في القرآن ويظهرون الإسلام باللسان وقلوبهم مملوة من نفاق المؤمنين وصدورهم محشوة بعداوة المسلمين إلا من شذ وقليل ما هم والله هو المستعان.

* الأصل:

480 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن علي بن أسباط، عن محمد بن الحسين ابن يزيد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) بخراسان وهو يقول: إنا أهل بيت ورثنا العفو من آل يعقوب وورثنا الشكر من آل داود - وزعم أنه كان كلمة أخرى ونسيها محمد - فقلت له: لعله قال:

وورثنا الصبر من آل أيوب؟ فقال: ينبغي.

قال علي بن أسباط: وإنما قلت ذلك لأني سمعت يعقوب بن يقطين يحدث عن بعض رجاله قال:

لما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة قتل محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن التفت إلى عمه عيسى بن علي فقال له: يا أبا العباس إن أمير المؤمنين قد رأى أن يعضد شجر المدينة وأن يعور عيونها وأن يجعل أعلاها أسفلها، فقال له: يا أمير المؤمنين هذا ابن عمك جعفر بن محمد بالحضرة فابعث إليه فسله عن هذا الرأي، قال: فبعث إليه فأعلمه عيسى فأقبل عليه فقال له: يا أمير المؤمنين إن داود (عليه السلام) اعطي فشكر وإن أيوب (عليه السلام) ابتلي فصبر، وإن يوسف (عليه السلام) عفا بعد ما قدر، فاعف فإنك من نسل أولئك.

* الشرح:

قوله: (وأن يعور عيونها) في النهاية: هو من عورت الركية واعرتها وعرتها إذا طمستها وسددت أعينها التي ينبع منها الماء. وفي القاموس عاره يعوره ويعيره أتلفه وفي بعض النسخ يغور بالغين المعجمة من التغوير وهو إذهاب الماء عن وجه الأرض.

* الأصل:

481 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن زرعة بن محمد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) فقال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد (صلى الله عليه وآله) ما بين عير

ص:472

واحد فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يسمى حداد فقالوا: حداد واحد سواء فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه وقال لهم: أمر بكم ما بين عير واحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنا بهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال لهم: ذاك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله. وقالوا: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا. فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار واتخذنا الأموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم فاتخذوا بأرض المدينة الأموال فلما كثرت أموالهم بلغ تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم وكانوا يرقون لضعفاء أصحاب تبع فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير فبلغ ذلك تبع فرق لهم وآمنهم فنزلوا إليه فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم فقالوا له: إنه ليس ذاك لك، إنها مهاجر نبي وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: إني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين: الأوس والخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود وكانت اليهود تقول لهم: أما لو قد بعث محمد ليخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله عز وجل محمدا (صلى الله عليه وآله) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود وهو قول الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

* الشرح:

قوله: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - اه) الاستفتاح: الاستنصار ومهاجر بضم الميم وفتح الجيم موضع للهجرة ومكان لها، وعير بالفتح: اسم جبل بالمدينة، وتيماء: موضع قريب من المدينة، والبغية بالكسر: المطلوب، وتبع: ملك في الزمان الأول، قيل اسمه أسعد أبو كرب، والتبابعة: ملوك اليمن، قيل: كان لا يسمى تبعا حتى يملك حضرموت وسبأ وحمير، وأسرة الرجل:

رهطه الأدنون.

* الأصل:

482 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) قال: كان قوم فيما بين محمد وعيسى صلى الله عليهما وكانوا يتوعدون أهل الأصنام

ص:473

بالنبي (صلى الله عليه وآله) ويقولون: ليخرجن نبي فليكسرن أصنامكم وليفعلن بكم] وليفعلن [فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفروا به.

* الشرح:

قوله: (كان قوم فيما بين محمد وعيسى (صلى الله عليه وآله)) كأنهم المذكورون مع احتمال غيرهم لكثرة أهل الاستفتاح قبل البعثة.

* الأصل:

483 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني، فقلت جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا فلما كان من الغد تلوت هذه الآية (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) فقلت له: أهي الصيحة؟ فقال: أما لو كان خضعت أعناق أعداء الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (خمس علامات قبل قيام القايم (عليه السلام) - اه) العلامات كثيرة وقد مرت هذه الخمسة وعدة أخرى قبل ذلك ولعل المراد بالنفس الزكية الحسني المذكور سابقا والمنادي الأول ملك والثاني شيطان ويفرق بينهما من كان يؤمن بولاية الصاحب قبل ومن شاء الله أن يهديه كما مر.

484 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد بن علي الحلبي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اختلاف بني العباس من المحتوم والنداء من المحتوم وخروج القائم من المحتوم، قلت: وكيف النداء؟ قال: ينادي مناد من السماء أول النهار، ألا إن عليا وشيعته هم الفائزون، قال: وينادي مناد] في [آخر النهار، ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون.

* الأصل:

485 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان عن زيد الشحام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة فقال:

هكذا يزعمون فقال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم فقال له أبو

ص:474

جعفر (عليه السلام): بعلم تفسره أم بجهل؟ قال لا، بعلم. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك، قال قتادة: سل، قال: أخبرني عن قول الله عز وجل في سبأ (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتى يرجع إلى أهله، فقال أبو جعفر (عليه السلام): نشدتك الله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللهم نعم، فقال أبو جعفر (عليه السلام):

ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه كما قال الله عز وجل: (واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) ولم يعن البيت فيقول: إليه، فنحن والله دعوة إبراهيم (عليه السلام) التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة، قال قتادة: لا جرم والله لا فسرتها إلا هكذا، فقال أبو جعفر (عليه السلام) ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به.

* الشرح:

(فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت - اه) أي أنت المفسر الذي يجوز له التفسير والرجوع إليه والحاصل أنت كامل في العلم وفي هذا الخبر دلالة على أن متشابهات القرآن بل متشابهات الأحاديث أيضا وجب ردها إلى أهل الذكر (عليه السلام) ولا يجوز التفسير بما استحسنه الرأي واختلف مخالفونا فبعضهم قال: وجب الرد إلى الله سبحانه وذهب معظم المتكلمين إلى أنها تصرف عن ظاهرها المحال ثم تأول على ما يليق ويقتضيه الحال.

* الأصل:

486 - علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن مفضل بن صالح عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجمع الأولين والآخرين اتي بجهنم تقاد بألف زمام أخذ بكل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد ولها هده وتحطم وزفير وشهيق. وإنها لتزفر الزفرة فلولا أن الله عز وجل أخرها إلى الحساب لأهلكت الجميع، ثم يخرج منها عنق يحيط بالخلائق البر منهم والفاجر فما خلق الله عبدا من عباده ملك ولا

ص:475

نبي إلا وينادي يا رب نفسي نفسي، وأنت تقول: يا رب امتي امتي ثم يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه ثلاث قناطر: الاولى: عليها الأمانة والرحمة، والثانية: عليها الصلاة، والثالثة: عليها رب العالمين لا إله غيره فيكلفون الممر عليها فتحبسهم الرحمة والأمانة فإن نجوا منها حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى رب العالمين جل ذكره وهو قول الله تبارك وتعالى: (إن ربك لبالمرصاد) والناس على الصراط فمتعلق تزل قدمه وتثبت قدمه، والملائكة حولها ينادون يا كريم يا حليم اعف واصفح وعد بفضلك وسلم، والناس يتهافتون فيها كالفراش فإذا نجا ناج برحمة الله تبارك وتعالى نظر إليها فقال: الحمد لله الذي نجاني منك بعد يأس بفضله ومنه إن ربنا لغفور شكور.

* الشرح:

(أتى بجهنم تقاد بألف زمام أخذ بكل زمام مائة ألف ملك - اه) كما قال عز وجل (وبرزت الجحيم لمن يرى) وقال (وجئ يومئذ بجهنم) قال القاضي وفي الحديث يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام ألف ملك يجرونها، والزمام بالكسر: ما يزم به من زمه إذا شده، والهدة: صوت ما يقع من السماء مثل الرعد، والتحطم: التلظي والتلهب، والزفير: إخراج النفس بعد مدة، والشهيق:

رده، والعنق من الشئ: قطعة منه ونفسي منصوب بفعل مقدر أي احفظ أو أخلص أو أنج نفسي والتكرير للمبالغة، والصراط لغة: الطريق، وعرفا: جسر يضرب على ظهر جهنم يمر الناس عليه إلى الجنة فينجوا المؤمنون على كيفيات مختلفة وهيئات متفاوتة ويسقط المنافقون والكافرون واتفقوا على حمله على ظاهره بدون تأويل وظاهر قوله (ثم وضع) أنه يخلق الوقت الموعود وقيل: يحتمل أنه خلق مع جهنم والوضع كناية عن الإذن على المرور والرحمة والأمانة معروفتان، وقيل: الأولى: الرسالة، والثانية: الولاية لقوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقوله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات) وتخصيص الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها، أو لأن سائر الفرائض الضرورية مندرجة فيها، والمرصاد: الطريق والمكان الذي تترصد فيه عدوك، والتهافت: التساقط، والفراش بالفتح: ما يسقط على السراج.

* الأصل:

487 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن إسماعيل بن جابر، عن أبى خالد، عن أبى جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت

ص:476

بكم الله جميعا) قال: الخيرات الولاية وقوله تبارك وتعالى: (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يعنى أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، قال: وهم - والله - الأمة المعدودة قال: يجتمعون والله في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف.

* الشرح:

(وهم والله الأمة المعدودة) في قوله تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) جماعة قليلة (ليقولن ما يحبسه) أي ما يمنع وقوعه «ألا يوم يأتيهم» وهو يوم ظهور الصاحب (عليه السلام) «وليس مصروفا عنهم» أي ليس العذاب مدفوعا عنهم «وحاق بهم» أي أحاط العذاب بهم «ما كانوا به يستهزؤن» من وجوده وظهوره (عليه السلام) وقال بعض المفسرين: أريد به عذاب يوم بدر وتفسيره (عليه السلام) أولى بالاتباع على أنه لا منافاة بينهما لأن الآية الواحدة قد يتضمن وجوها كثيرة.

(قزع كقزع الخريف) القزع بالتحريك: السحاب المتقطع والواحدة بهاء، وخصه بالخريف لأنه أسرع فيه حركة واجتماعا.

* الأصل:

488 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منذر بن جيفر، عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سيروا البردين؟ قلت: إنا نتخوف من الهوام، فقال: إن أصابكم شيء فهو خير لكم مع أنكم مضمونون.

* الشرح:

(سيروا البردين - اه) البردان والأبردان: الغداة والعشي، وقيل: ظلاهما ويحتمل السحر والغداة، والهوام بالتشديد: الأسد وبالتخفيف: جمع هامة وهي كل ذات سم يقتل، ولما أظهر السائل الخوف من الهوام في البردين رغب (عليه السلام) في السير فيهما بأن المصاب مأجور والمسافر في ضمان الله تعالى وحمايته ولعل المراد بالخوف توهمه وإلا فالاجتناب واجب لدلالة الآية والرواية عليه.

* الأصل:

489 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم بالسفر بالليل فإن الأرض تطوى بالليل.

ص:477

* الشرح:

قوله: (فإن الأرض تطوى بالليل) أي في آخره كما سيجيء.

* الأصل:

490 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران عن سيف بن عميرة، عن بشير النبال، عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يقول الناس تطوى لنا الأرض بالليل كيف تطوى؟ قال: هكذا - ثم عطف ثوبه -

* الشرح:

(كيف تطوى؟ قال: هكذا ثم عطف ثوبه) ظاهره أن الطي محمول على الحقيقة ولا بعد فيه لأنه ممكن والله سبحانه قادر على الممكنات. ومن ثم ذهب جمع إلى تحقق القبض والبسط في المكان والزمان وأن ذلك تختلف باختلاف الأشخاص فقد يكون قبض بالنسبة إلى شخص وبسط بالنسبة إلى آخر في زمان واحد ومكان واحد ولابد أن يقع ذلك وإن استبعده الوهم لعدم المشاهدة فيما إذا دفن ميتان في قبر واحد في آن وحد يستحق أحدهما الضغطة دون الآخر والتأويل محتمل بعيد.

491 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

الأرض تطوى في آخر الليل.

* الأصل:

492 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى عن أبي أيوب الخزاز قال: أردنا أن نخرج فجئنا نسلم على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: كأنكم طلبتم بركة الاثنين؟ فقلنا: نعم، فقال: وأي يوم أعظم شوما من يوم الاثنين يوم فقدنا فيه نبينا وارتفع الوحي عنا، لا تخرجوا واخرجوا يوم الثلاثاء.

* الشرح:

(وأي يوم أعظم شوما من الاثنين - اه) دل على كراهة السفر وغيره من الأفعال المحدثة يوم الاثنين وإن كان لابد فليتصدق كما مر.

* الأصل:

493 - عنه، عن بكر بن صالح، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: الشوم

ص:478

للمسافر في طريقه خمسة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه والناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه يعوي ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، والظبي السانح من يمين إلى شمال، والبومة الصارخة والمرأة الشمطاء تلقاء فرجها، والأتان العضباء يعني الجدعاء فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: «اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي» قال:

فيعصم من ذلك.

* الشرح:

(الشوم للمسافر في طريقه خمسة أشياء) في التفصيل سبعة ويمكن عد الأولين واحدا وكذا الأخيرين، وعد هذه الأشياء شوما باعتبار أن العرب كانوا يتشأمون به لا أنها شوم ولها تأثير في نفس الأمر لما في بعض الروايات من إبطال حكم الطيرة ويدل عليه أيضا قوله «فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك» إشارة إلى أن هذه الأشياء م الايجاس ربما له تأثير في الجملة ويدل عليه أيضا بعض الروايات، والوجس:

فزعة القلب وأوجس في نفسه خيفة أي أضمر وأحس (الغراب الناعق عن يمينه) قيل: لما قدم كثير عزة من الحجاز لزيارة عزة بالشام أو بمصر فمر بغراب على شجرة ينعق وينتف ريشه فتطير بذلك فلما دخل وجد الناس منصرفين من جنازة عزة (والناشز لذنبه) عطف على الناعق فهو وصف آخر للغراب فهما في الحقيقة واحدة وفي الفقيه «والكلب الناشر لذنبه» (والذئب العاوي) العواء بالضم والمد: صوت السباع وكأنه بالذئب والكلب أخص، يقال: عوى يعوي عواء فهو عاو (والظبي السانح من يمين إلى شمال) في بعض النسخ السايح بالياء المثناء من تحت وفي بعضها بالنون فهو على الثاني من ساح إذا جرى وذهب وعلى الأول من سنح للظبي إذا برح من اليمين إلى الشمال (والبومة الصارخة) البوم والبومة بضمهما طائر كلاهما للذكر والأنثى فيشملهما هنا (والمرأة الشمطاء تلقاء فرجها) مواجهة بوجهها وفرجها وفي المغرب، الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده ولا يقال للمرأة شيباء ولكن شمطاء، وقيل: هو بياض شعر الرأس في مكان واحد والباقي أسود (والأتان العضباء يعنى الجدعاء) الأتان بالفتح: الحمار يقع على الذكر والأنثى والأتانة وإن كانت قليلة تقع على الأنثى خاصة، والجدع كالمنع بالجيم والدال المهملة: قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة جدعه فهو أجدع وهي جدعاء وهاتان واحدة من الخمسة ولذلك قال بعض العلماء: الواو في قوله والأتان بمعنى أن الشمطاء شوم إذا كانت مصاحبة مع الأثان.

ص:479

* الأصل:

494 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، عن عبد الله، عن محمد بن سنان عن عبد الله بن القاسم، عن عمرو بن أبي المقدام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) إن الله تبارك وتعالى زين شيعتنا بالحلم وغشاهم بالعلم لعلمه بهم قبل أن يخلق آدم (عليه السلام).

* الشرح:

(إن الله تبارك وتعالى زين شيعتنا بالحلم وغشاهم بالعلم - اه) لعل المراد أن الشيعة لما كانوا العلم الأزلي من خواصه تبارك وتعالى وأوليائه وكانت قلوبهم صافية بنور الله جعل الحلم والعلم زينة لهم كالحلي واللباس الفاخرة للصور الحسنة وعلى هذا لا يرد أن غير الشيعة أيضا قد يتصف بالحلم والعلم لأن ذلك ليس زينهم بل هو كتعليق الجواهر على أعناق الخنازير.

* الأصل:

495 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عمر بن أبان، عن الصباح بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الرجل ليحبكم وما يدري ما تقولون فيدخله الله عز وجل الجنة وإن الرجل ليبغضكم وما يدري ما تقولون فيدخله الله عز وجل النار. وإن الرجل منكم لتملأ صحيفته من غير عمل، قلت:

وكيف يكون ذلك؟ قال: يمر بالقوم ينالون منا فإذا رأوه قال بعضهم لبعض: كفوا فان هذا الرجل من شيعتهم فيمر بهم الرجل من شيعتنا فيهمزونه ويقولون فيه فيكتب الله له بذلك حسنات حتى يملأ صحيفته من غير عمل.

* الشرح:

(إن الرجل ليحبكم ولا يدري ما تقولون فيدخله الله عز وجل الجنة) كان المراد من يحب الشيعة للتشيع أولا من هذه الحيثية ولا يعرف الحق والولاية ولا ينكرهما وهو المراد بقوله ولا يدري ما يقولون يدخل الجنة، أما الأول فإنه داخل في المستضعفين من الشيعة وهم يدخلون الجنة، وأما الثاني فلأنه داخل في المستضعفين من أهل الإسلام وهم وإن كانوا في المشيئة إلا أنه بسبب هذه المحبة يدخلون الجنة وإن الرجل ليبغضكم (ولا يدري ما تقولون فيدخله الله عز وجل النار) أي يبغضكم من أجل التشيع أولا من أجله والأول ناصبي يدخل النار، والثاني مستضعف يدخلها بسبب البغض.

ص:480

* الأصل:

496 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن أبي الجهم عن أبي خديجة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كم بينك وبين البصرة قلت: في الماء خمس إذا طابت الريح وعلى الظهر ثمان ونحو ذلك; فقال: ما أقرب هذا؟ تزاوروا ويتعاهد بعضكم بعضا فانه لابد يوم القيامة من أن يأتي كل إنسان بشاهد يشهد له على دينه. وقال: إن المسلم إذا رأى أخاه كان حياة لدينه إذا ذكر الله عز وجل.

* الشرح:

قوله: (ما أقرب هذا تزاوروا ويتعاهد بعضكم بعضا - اه) حث على وقوع الملاقاة والزيارة والخلطة والتعاهد وتفقد الأحوال وذكر الله تعالى وذكر أوصاف الأئمة (عليهم السلام) بين المؤمنين وعلى أنه ينبغي أن لا يجعل بعد المقام والمنازل سببا لترك شيء من ذلك فيا عجبا من أهل عصر يأكل بعضهم لحم بعض في الحضور والغيبة.

* الأصل:

497 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن ربعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: والله يحبنا من العرب والعجم إلا أهل البيوتات والشرف والمعدن ولا يبغضنا من هؤلاء إلا كل دنس ملصق.

* الشرح:

(والله لا يحبنا من العرب والعجم إلا أهل البيوتات والشرف والمعدن - اه) في المغرب البيوتات جمع البيوت جمع البيت ويختص بالأشراف فعلى هذا عطف الشرف عليها للتفسير ويمكن أن يراد بأحدهما الشرف في النسب وبالآخر الشرف في الحسب، والمعدن كمجلس: في الأصل مركز كل شيء ومكانه الذي فيه أصله ومنبت الجواهر من عدن إذا أقام وثبت ولعل المراد به هنا الأصيل الثابت الأصل الذي لا كلام في أصله، والدنس بكسر النون: الذليل الذي لا قدر له، من الدنس بالتحريك وهو الوسخ، والملصق، هو الرجل المقيم في الحي وليس منهم بنسب ولعل المراد به من ليس له أب ويحتمل أن يكون الصاد بدلا من السين كما هو المقرر، والملسق كمعظم: الدعي كالغني وهو المتهم في نسبه.

* الأصل:

ص:481

498 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) قال: لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط مملكة، (قال إن الله اصطفاه عليكم) وقال: (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) فجاءت به الملائكة وتحمله وقال الله جل ذكره: (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف ومنهم من لم يشرب فلما برزوا قال الذين اغترفوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) وقال الذين لم يغترفوا: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).

* الشرح:

قول: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) قيل طالوت علم عبرى كداود وقيل أصله طولوت فعلوت من الطول سمي به لطول قامته وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبه واسمه بالعبرانية شاول بن قيس، ورد هذا القول بأن منعه من الصرف لتعريفه وعجمته يدفعه (قالوا أنى يكون له الملك علينا) أي من أين وهو استفهام أو استبعاد أو إنكار (ونحن أحق بالملك منه) وراثة ومالا ومكنة واقتدارا (قال: لم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة) لأنه كان من أسباط بنيامين بن يعقوب (عليه السلام) ولم يكن فيهم النبوة ولا الملك والسلطنة وإنما كانت النبوة في أسباط لاوى والملك في أسباط يهودا ومع ذلك قيل كان فقيرا راعيا أو سقاء يسقي على حمار له أو دباغا يدبغ الأديم على اختلاف الأقوال فيه، والملكة والمملكة مصدران، يقال: ملكه يملكه ملكا مثلثة وملكة محركة ومملكة بضم اللام أو تثلث احتواه قادرا على الاستبداد به، وفي الكنز مملكة وملكة «پادشاهي كردن وپادشاه شدن» (قال: إن الله اصطفاه عليكم) أي قال نبيهم إشمويل (عليه السلام) بعد ما استبعدوا أن يكون طالوت ملكا لهم لما ذكر أن الله الذي عالم بالمصالح الكلية والجزئية، اصطفاه واختاره عليكم لعلمه تعالى بأنه أقدر منكم على إجراء أمور السياسة (وقال نبيهم) حين طلبوا منه آية على أنه تعالى اصطفى طالوت عليهم (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) هو فعلوت من التوب: وهو الرجوع لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه كما قيل أو لأنه يرجع من نبي بعد انقضاء مدته إلى آخر،

ص:482

قيل: إنه كان صندوقا من عود الشمشاد ثلاثة أذرع في ذراعين أنزله الله تعالى إلى آدم (عليه السلام)، وكانت فيه صور الأنبياء وأسماؤهم وأعمارهم وأزمنتهم، ولما مات آدم صار إلى شيث ثم الأنبياء بعده يتوارثون إلى أن بلغ موسى (عليه السلام) وكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه ثم رفعه الله بعد موسى، وقيل: كان بعده في أنبياء بني إسرائيل حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه فوقع في أرض جالوت فابتلوا بالطاعون فتشأموا به فوضعوه على ثورين فساقتهم الملائكة إلى قوم طالوت (فيه سكينة من ربكم) أي في إتيانه سكون وطمأنينة لكم أو في التابوت ما تسكنون إليه وهو التوراة قيل كان موسى (عليه السلام) إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون وفيه أقوال أخر. (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) قال القاضي: هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون، وفي الحواشي القطبية لما رجع موسى من الطور مع الألواح التي فيها التوراة وجد قومه مشتغلين بعبادة العجل فغضب ورماها على الأرض فانكسر بعضها فجمعت تلك القطع وهي رضاض الألواح (فجاءت به الملائكة تحمله بعد رفعه أو بعد وقوعه في أرض الكفار، وفي الآية رمز إلى أن سبط النبي والملك أولى بالملك والخلافة إلا أن يختار الله تعالى غيره ويتحقق الآية فيه فكيف يجوز رد الملك والخلافة عن أسباط خاتم الأنبياء مع تحقق الاختيار والآية فيهم (وقال الله عز ذكره: إن الله مبتليكم بنهر) أي يعاملكم معاملة المختبر (فمن شرب منه فليس مني) إلا من اغترف غرفة بيده (ومن لم يطعمه) أي من لم يشرب منه أصلا أو شرب منه قليلا واقتصر على ما وقعت فيه الرخصة وهو الغرفة (فإنه مني) أي من أتباعي وأشياعي (فشربوا منه) بالإفراط والتجاوز عن قدر الرخصة فغلب عليهم عطشهم ولم يقدروا أن يمضوا ويعبروا النهر (إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا منهم من اغترف) غرفة بيده على القدر المجوز (ومنهم من لم يشرب) أصلا (فلما برزوا لجالوت وجنوده) أي أظهروا لهم ودنوا منهم قال الذين اغترفوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده لقلتنا وكثرتهم وضعفنا وقوتهم (وقال الذين لم يغترفوا كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) أي بحكمه ونصره وتيسيره وكم خبرية أو استفهامية (والله مع الصابرين) على الشدائد بالنصر والإعانة والإثابة وتفسيره (عليه السلام) بذلك رد على عامة المفسرين من المخالفين حيث قالوا في قوله تعالى (قالوا لا طاقة لنا اليوم) راجع إلى الكثير الشاربين زائدا على الرخصة المنخذلين المنقطعين عن طالوت، قالوا ذلك اعتذارا للتخلف وتخذيلا للقليل حين كان النهر بينهما.

499 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب عن يحيى الحلبي، عن عبد الله بن سليمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قرأ «إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة»؟ قال: كانت تحمله في

ص:483

صورة البقرة.

* الأصل:

500 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عمن أخبره، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة) قال: رضاض الألواح فيها العلم والحكمة.

* الشرح:

(رضاض الألواح فيها العلم والحكمة) الرضاض: مارق من الحصى ونحوه ولعل المراد به الرضاضة المذكورة، وبالعلم العلم بالشرايع والأخلاق والحكمة أعم منه وكون العطف للتفسير محتمل.

* الأصل:

501 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن ظريف عن عبد الصمد ابن بشير، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال] لي [أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: بأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا» عليهم بقول الله عز وجل في عيسى بن مريم (عليهما السلام): (ومن ذرية داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح (عليه السلام) قال فأي شيء قالوا لكم؟ قلت: قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب قال: بأي شيء احتججتم عليهم قلت: احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله): (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم). قال: فأي شيء قالوا؟ قلت: قالوا قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول: أبناؤنا. قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام):

يا أبا الجارود لأعطينكما من كتاب الله جل وتعالى أنهما من صلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يردها الا الكافر.

قلت: وأين ذلك جعلت فداك.

قال: من حيث قال الله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم - الآية) إلى أن انتهى إلى قوله تبارك وتعالى: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فسلهم يا ابا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم كذبوا وفجروا، وإن قالوا لا فهما ابناه لصلبه.

* الشرح:

قوله: (ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي أبناؤه حقيقة من صلبه إذ لا نزاع في

ص:484

إطلاق الابن والبنت والولد والذرية على ولد البنت وإنما النزاع في ان هذا الإطلاق من باب الحقيقة أو المجاز فذهب طائفة من أصحابنا منهم السيد المرتضى إلى الأول وذهب طائفة منهم ومنهم الشهيد الثاني وجمهور العامة إلى الثاني، وتظهر الفائدة في كثير من المواضع كإطلاق السيد وإجراء أحكام السيادة والنذر لأولاد الأولاد والوقف عليهم، والظاهر هو الأول للآيات والروايات وأصالة الحقيقة وضعف هذه الرواية بأبى الجارود الزيدي الذي ينسب إليه الفرقة الجارودية لا يضر لأن المستمسك هو الآية ودلالة الآيتين الأوليتين على المطلوب ظاهرة والثالثة صريحة واحتمال التجوز غير قادح لإجماع أهل الإسلام على أن ظاهر القرآن لا يترك إلا بدليل لا يجامعه بوجه وما روي عن الكاظم (عليه السلام) وهو مستند الشهيد على تقدير صحة سنده حمله على التقية ممكن واستناده باستعمال اللغة غير تام لأن اللغة لا تدل على مطلوبه، قال في القاموس: ولدك من دمى عقبيك أي من نفست به فهو ابنك فليتأمل. (لما انهزم الناس يوم أحد) هو الجبل المعروف بالمدينة، قال السهيلي: إنما سمي أحد لتوحده وانقطاعه عن جبال آخر، وكان من حديث غزوة أحد أنه لما قتل ببدر من أشراف قريش اجتمع ناس منهم ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة أن يعينوهم بذلك المال على حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلهم يدركوا ثارا ففعلوا فاجتمع قريش ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وأبو سفيان قائدهم حتى نزلوا مقابل المدينة في ثلاثة آلاف وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يكره الخروج لما رآه في المنام وأخبرهم بقتل أصحابه وقتل رجل من أهل بيته وقال: نقيم بالمدينة فإن أقاموا أقاموا بشر وإن دخلوا علينا قاتلناهم، واجتمع رأى الأصحاب على الخروج فخرج في ألف حتى إذا كان بين المدينة واحد رجع أهل النفاق مثل عبد الله بن أبي وأضرابه وهم قريب من ثلث الناس، ثم التهب القتال بينهم وأنزل الله نصره على المسلمين حتى كشفوا العدو عن وجوههم ونهكوهم قتالا وقلعوهم عن مقامهم فاشتغل المسلمون بالغنيمة ورجع الرماة الحافظون لخلفهم إليهم وقد عهد إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا يفارقوا موضعهم، فعند ذلك دخل خيل العدو على ظهورهم وصرح صارخ أن محمدا قد قتل فانهزم المسلمون، وقيل: كان الصارخ هو الشيطان وكان يوم بلاء وتمحيص للمسلمين وأكرم الله فيه بالشهادة من أكرم ودمى (صلى الله عليه وآله) بالحجارة حتى أصابه ما أصاب ثم نصره الله تعالى بعلي والملائكة (عليهم السلام) حتى هزم العدو وقتلوا مخذولين.

* الأصل:

502 - محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن الحسين أبي العلاء الخفاف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما انهزم الناس يوم احد عن النبي (صلى الله عليه وآله) انصرف إليهم

ص:485

بوجهه وهو يقول: أنا محمد أنا رسول الله لم اقتل ولم أمت، فالتفت إليه فلان وفلان فقالا: الآن يسخر بنا أيضا وقد هزمنا وبقي معه علي (عليه السلام) وسماك بن خرشة أبو دجانة رحمه الله فدعاه النبي (عليه السلام) فقال: يا أبا دجانة انصرف وأنت في حل من بيعتك، فأما علي فأنا هو وهو أنا فتحول وجلس بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وبكى وقال: لا والله ورفع رأسه إلى السماء وقال: لا والله لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك فإلى من أنصرف يا رسول الله؟ إلى زوجة تموت، أو ولد يموت، أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب؟ فرق له النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراحة وهو في وجه وعلي (عليه السلام) في وجه فلما أسقط احتمله علي (عليه السلام) فجاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فوضعه عنده، فقال: يا رسول الله أوفيت بيعتي؟ قال: نعم، وقال له النبي (صلى الله عليه وآله) خيرا وكان الناس يحملون على النبي (صلى الله عليه وآله) الميمنة فيكشفهم علي (عليه السلام) فإذا كشفهم أقبلت الميسرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يزل كذلك حتى تقطع سيفه بثلاث قطع، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فطرحه بين يديه وقال هذا سيفي قد تقطع فيومئذ أعطاه النبي (صلى الله عليه وآله) ذا الفقار ولما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) اختلاج ساقيه من كثرة القتال رفع رأسه إلى السماء وهو يبكي وقال: يا رب وعدتني أن تظهر دينك وإن شئت لم يعيك فأقبل علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يا رسول الله أسمع دويا شديدا وأسمع أقدم حيزوم وما أهم أضرب أحدا إلا سقط ميتا قبل أن أضربه فقال: هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في الملائكة.

ثم جاء جبرئيل (عليه السلام) فوقف إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد إن هذه لهي المواساة فقال: إن عليا مني وأنا منه فقال جبرئيل: وأنا منكما، ثم انهزم الناس فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي امض بسيفك حتى تعارضهم فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجنبون القلاص فإنهم يريدون المدينة، فأتاهم علي (عليه السلام) فكانوا على القلاص، فقال أبو سفيان لعلي (عليه السلام): يا علي ما تريد هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة؟ فانصرف إلى صاحبك، فأتبعهم جبرئيل (عليه السلام) فكلما سمعوا وقع حافر فرسه جدوا في السير وكان يتلوهم فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل فدخل أبو سفيان مكة فأخبرهم الخبر وجاء الرعاة والحطابون فدخلوا مكة فقالوا: رأينا عسكر محمد كلما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم، فأقبل أهل مكة على أبي سفيان يوبخونه ورحل النبي (صلى الله عليه وآله) والراية مع علي (عليه السلام) وهو بين يديه فلما أن أشرف بالراية من العقبة ورآه الناس نادى علي (عليه السلام): أيها الناس هذا محمد لم يمت ولم يقتل. فقال صاحب الكلام الذي قال: «الآن يسخر بنا وقد هزمنا»: هذا علي والراية بيده حتى هجم عليهم النبي (صلى الله عليه وآله) ونساء الأنصار في أفنيتهم على أبواب دورهم وخرج الرجال إليه يلوذون به ويثوبون إليه، والنساء نساء الأنصار قد خدشن الوجوه ونشرن الشعور

ص:486

وجززن النواصي وخرقن الجيوب وحزمن البطون على النبي (صلى الله عليه وآله) فلما رأينه قال لهن خيرا وأمرهن أن يستترن ويدخلن منازلهن وقال: إن الله عز وجل وعدني أن يظهر دينه على الأديان كلها. وأنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله): (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا - الآية).

* الشرح:

(وبقي معه علي (عليه السلام) وسماك بن خرشة) سماك بكسر السين وكنيته أبو دجانة بضم الدال وخرشه بالتحريك وفي القاموس خراشة بالألف بعد الراء وفي بعض التفاسير أن عليا (عليه السلام) قاتل ذلك اليوم قتالا خارجا عن طوق البشر، وأن ستة رجال من شجعان العرب وأبطالهم تعاهدوا على أن يحيطوا به دفعة فأحاطوا به فقتل (عليه السلام) بعضهم وهرب بعض ونقل في كيفية قتاله حكاية غريبة (وقال: لا والله لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك) بايعت مفاعلة من البيع وكانوا إذا بايعوا أحدا قبضوا على يده اليمنى توكيدا للأمر فاشبه ذلك فعل البايع والمشتري فجاءت المفاعلة في بايعت من ذلك وأما البيعة فهي عرفا معاهدته على تسليم النظر في كل الأمور إليه على وجه لا ينازع ولا ينصرف عنه ولو قتل (فلم يزل يقاتل حتى أثخنته الجراحة اه) أي أثقلته وأوهنته، يدل ظاهر هذا على أن أبا دجانة استشهد يوم أحد لكن صرح بعض العامة ببقائه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) قال القرطبي: أبو دجانة اسمه سماك بن خرشة الخزرجي وهو مشهور بكنيته وشهد بدرا وأحدا ودافع عن النبي (صلى الله عليه وآله) يومئذ هو ومصعب بن عمير وكثرت فيه الجراحات وقتل مصعب وكان أبو دجانة أحد الشجعان له المقامات المحمودة مع رسول الله في مغازيه، استشهد يوم اليمامة، قال أنس: رمى أبو دجانة بنفسه الحديقة التي كان فيها مسيلمة فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل، وقيل أنه شارك وحشيا في قتل مسيلمة، وقيل: إنه عاش حتى حضر صفين مع علي (فقال: يا رسول الله أسمع دويا شديدا وأسمع أقدم حيزوم) في النهاية، الدوى: صوت ليس بعال كصوت النحل ونحوه وفيها أيضا في حديث بدر أقدم حيزوم جاء في التفسير أنه اسم فرس جبرئيل (عليه السلام) أراد أقدم يا حيزوم فحذف حرف النداء والياء فيه زائدة هذا ولعل ركوب الملائكة (عليهم السلام) وقتالهم على الوجه المعتاد وإلا فأقل حركتهم كافية في إهلاكهم كما اتفق في إهلاك الأمم السابقة، لا يقال القتال على الوجه المعتاد يقتضى أن يروهم لأنا نقول ليس هنا ما يدل على أنهم لم يروهم فلعلهم رأوهم وظنوا أنهم من العساكر المنصورة، وقال بعض العامة: إن إظهارهم للمشركين عند أخر القتال

ص:487

واحتضار الموت كما قال تعالى (يوم يرون الملائكة لا بشرى - الآية) وقال بعضهم: يجوز أن يروهم وإنما لم يموتوا بلاغا للأعذار وزيادة إقامة الحجة عليهم (فقال: يا محمد أن هذه لهي المواساة) في النهاية المواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق وأصلها الهمز فقلبت واوا تخفيفا، ولعل المراد بها هنا مواساته بنفسه وماله من قولهم واساه بماله مواساة أناله منه (فقال (صلى الله عليه وآله):

إن عليا مني وأنا منه قال جبرئيل: وأنا منكما) قال في الفائق: يقال: هو مني أي هو بعضي والغرض الدلالة على شدة الاتصال وتمازج الأهواء واتحاد المذاهب ومثله قوله تعالى (فمن تبعني فإنه مني) وقال الصدوق في العلل: قول جبرئيل وأنا منكما تمنى منه لأن يكون منهما فلو كان أفضل منهما لم يقل ذلك ولم يتمن أن ينحط عن درجته إلى أن يكون ممن دونه وإنما قال: وأنا منكما ليصير من هو أفضل منه فيزداد محلا إلى محله وفضلا إلى فضله (يا علي أمض بسيفك حتى تعارضهم) أي حتى تأتيهم من عارضه إذا أتاه معرضا من بعض الطريق أو حتى تظهر لهم ويظهروا لك من أعرض الشيء يعرض إذا ظهر له أو حتى تقابلهم من عارضه إذا قاتله «فإن رأيتهم قد ركبوا القلاص وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة» في القاموس، القلوص من الإبل: الشابة أو الباقية على السير أو أول ما يركب من إناثها إلى أن تثني، ثم هي ناقة، والناقة: الطويلة القوايم خاص بالإناث والجمع قلاص وقلص وجمع الجمع قلاص، والجنيبة: فرس تقاد إلى جنب الراكب أو قدامه ليتحول إليها ويركبها إذا فتر مركوبه يقال جنبه جنبا محركة ومجنبا قاده إلى جنبه فهو جنيب ومجنوب (يقدمهم فارس على فرس أشقر) الأشقر من الدواب الأحمر في مغرة حمرة يحمر منه العرف والذنب والمغر محركة والمغرة بالضم لون ليس بناصع الحمرة أو شقرة بكدرة (وحر من البطون) أي منعن حقها وهو الطعام يقال حرمه الشيء كضربه وعلمه حرمانا بالكسر إذا منعه حقه وهو محروم وفي بعض النسخ حزمن بالزاي المعجمة أي شددنها، يقال حزمه يحزمه كضربه إذا شده وفي بعضها «حرضن البطون» يعني أفسدنها يقال حرض نفسه يحرضها من باب ضرب أي أفسدها.

* الأصل:

503 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، وغيره، عن معاوية ابن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة الحديبية خرج في ذي القعدة فلما انتهى إلى المكان الذي أحرم فيه أحرموا ولبسوا السلاح فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد ليرده قال: ابغوني رجلا يأخذني على غير هذا الطريق فأتي برجل من مزينة - أو من جهينة - فسأله فلم يوافقه فقال: ابغوني رجلا غيره، فأتي برجل آخر إما من مزينة وإما من جهينة: قال فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة، فقال: من يصعدها حط الله عنه كما حط الله عن بني إسرائيل. فقال

ص:488

لهم: (ادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم) قال: فابتدرها خيل الأنصار: الأوس والخزرج. قال:

وكانوا ألفا وثمانمائة، فلما هبطوا إلى الحديبية إذا امرأة معها ابنها على القليب فسعى ابنها هاربا فلما أثبتت أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) صرخت به: هؤلاء الصابئون ليس عليك منهم بأس فأتاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمرها فاستقت دلوا من ماء فأخذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشرب وغسل وجهه فأخذت فضلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة.

وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأرسل إليه المشركون أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه، ثم أرسلوا الحليس فرأى البدن وهي تأكل بعضها أو بار بعض فرجع ولم يأت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال لأبي سفيان:

يا أبا سفيان أما والله ما على هذا حالفناكم، على أن تردوا الهدي عن محله. فقال: اسكت فإنما أنت أعرابي، فقال: أما والله لتخلين عن محمد وما أراد أول أنفردن في الأحابيش. فقال: اسكت حتى نأخذ من محمد ولثا فأرسلوا إليه عروة بن مسعود وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة كان خرج معهم من الطائف وكانوا تجارا فقتلهم وجاء بأموالهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقبلها وقال: هذا غدر ولا حاجة لنا فيه، فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله هذا عروة بن مسعود قد أتاكم وهو يعظم البدن، قال: فأقيموها فأقاموها فقال: يا محمد مجيىء من جئت؟ قال: جئت أطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وانحر هذه الإبل واخلي عنكم وعن لحمانها قال: لا واللات والعزى فما رأيت مثلك رد عما جئت له، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وأن تقطع أرحامهم وأن تجري عليهم عدوهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أنا بفاعل حتى أدخلها قال: وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تناول لحيته والمغيرة قائم على رأسه فقال: من هذا يا محمد فقال هذا ابن أخيك المغيرة، فقال: يا غدر والله ما جئت إلا في غسل سلحتك، قال: فرجع إليهم فقال لأبي سفيان وأصحابه: لا والله ما رأيت مثل محمد رد عما جاء له فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأثيرت في وجوههم البدن، فقالا: مجيء من جئت؟ قال: جئت لأطوف بالبيت وأسعى بين الصفا والمروة وأنحر البدن وأخلي بينكم وبين لحمانها.

فقالا: إن قومك يناشدونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم وتقطع أرحامهم وتجرى عليهم عدوهم، قال: فأبى عليهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن يدخلها. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أن يبعث عمر، فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن عشيرتي قليل وإني فيهم على ما تعلم ولكني أدلك على

ص:489

عثمان بن عفان، فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: انطلق إلى قومك من المؤمنين فبشرهم بما وعدني ربى من فتح مكة فلما انطلق عثمان لقى أبان بن سعيد فتأخر عن السرج فحمل عثمان ببن يديه ودخل عثمان فأعلمهم وكانت المناوشة فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلس عثمان في عسكر المشركين وبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسلمين وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان وقال المسلمون: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كان ليفعل فلما جاء عثمان قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يطف به ثم ذكر القصة وما كان فيها فقال لعلي (عليه السلام): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن الرحيم إلا أني أظن هذا الذي باليمامة ولكن اكتب كما نكتب: بسمك اللهم قال: واكتب: هذا ما قاضى] عليه [رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل:

فعلى ما نقاتلك يا محمد؟ فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فقال الناس: أنت رسول الله، قال: اكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال الناس: أنت رسول الله وكان في القضية أن من كان منا أتى إليكم رددتموه إلينا ورسول الله غير مستكره عن دينه ومن جاء إلينا منكم لم نرده إليكم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا حاجة لنا فيهم، وعلى أن يعبد الله فيكم علانية غير سر. وإن كانوا ليتهادون السيور في المدينة إلى مكة وما كانت قضية أعظم بركة منها لقد كاد أن يستولي على أهل مكة الإسلام فضرب سهيل بن عمرو على أبي جندل ابنه فقال: أول ما قاضينا عليه. فقال رسول الله (عليه السلام): وهل قاضيت على شيء فقال: يا محمد ما كنت بغدار قال: فذهب بأبي جندل فقال:

يا رسول الله تدفعني إليه؟ قال: ولم أشترط لك، قال: وقال: اللهم اجعل لأبي جندل مخرجا.

* الشرح:

قوله: (لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة الحديبية) هي موضع على عشرة أميال من مكة سمي بها لبئر هناك تسمى الحديبية وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) محرما بعمرة قصده المشركون فصالحهم ورجع ولم يدخل مكة العام ودخلها العام المقبل، ونقل عن الكسائي أنه يشدد الياء وهي لغة أهل الحجاز، وعن الأصمعي أنه يخففها وهي لغة العراق، وانما سميت هذه الرحلة غزوة مع أنها كانت للعمرة لا للغزاء لأنها كانت في صورة العزوة أو لقصدها على تقدير منع المشركين (خرج في ذي القعدة) سنة ست من الهجرة معتمرا لا يريد حربا واستنهض من حوله من الأعراب وأبطأ عليه كثير منهم وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب وساق معه الهدي وأحرم

ص:490

بالعمرة من ذي الحليفة كما قيل ليأمن الناس من حربه وليعلموا أنه خرج زائرا (فقال: أبغوني رجلا) أي أطلبوه لي يقال: أبغاه الشيء طلبه له كبغاه إياه كرماه (وكانوا ألفا وثمانمائة) روايات العامة في عددهم ذلك اليوم مختلفة ففي بعضها ألف وأربعمائة وفي بعضها ألف وخمسمائة وفي بعضها ألف وثلاثمائة (إذا امرأة معها ابنها على القليب) في النهاية، القليب: البئر التي لم تطو يذكر ويؤنث وفي القاموس، القليب: البئر أو العادية القديمة منها ويؤنث (فلما أثبتت) أي عرفت حق المعرفة (صرخت به هؤلاء الصابئون) الصابي: الخارج من دين إلى دين، وفي النهاية صبأ فلان إذا خرج من دين إلى غيره من قولهم صبأ ناب البعير إذا طلع وصبأت النجوم إذا خرجت من مطالعها. وكانت العرب تسمي النبي (صلى الله عليه وآله) الصابي لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام ويسمون من يدخل في الإسلام مصبوا لأنهم كانوا لا يهمزون فأبدلوا من الهمزة واوا ويسمون المسلمين الصباة بغير همز كأنه جمع صابي غير مهموز كغاز وغزاة وقاض وقضاة (فأرسل المشركون إليه أبان بن سعيد في الخيل فكان بإزائه) يمنعه من الوصول إلى مكة (ثم أرسلوا الحبيش) هو الحبيش بن علقمة الكناني سيد الأحلس، وفي كتاب إكمال الإكمال حليش باللام، وفي بعض النسخ الحلش مكبرا، والغرض من إرساله إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلم حاله واستعداده ويعلم أنه لماذا جاء هل جاء محاربا أو جاء زائرا؟ فلما رأى البدن في عرض الوادي على هيئة الهدي علم أنه جاء زائرا فرجع قبل الوصول إليه إعظاما لما رأى فأخبر أبا سفيان بذلك (فرأى البدن) في البادية وهي بضمتين جمع البدنة محركة: وهي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة للذكر والأنثى (وهي يأكل بعضها أو بار بعض) كناية عن عض بعضها ظهر بعض والمقصود تجرها عن القتب والجهاز وهي علامة الهدى لأن إبل الهدى تساق كذلك (والله ما على هذا حالفناكم) يعنى حالفناكم على أن نرد عنكم عدوكم إن جاؤوا محاربين لا ما إذا جاؤوا زائرين للبيت قال ذلك لأن المشركين كانوا يعظمون البيت والزائرين لها، وكان الصد والمنع من بلوغ الهدي محله قبيحا عندهم (فقال: اسكت فإنما أنت أعرابي) لاعلم لك بالحيل وتدبير الحروب ودفع الجيوش، فقال:

(والله لتخلين عن محمد وما أراد) من دخول مكة وطوايف البيت ونحر الجزور في محله (أو لأ نفردن في الأحابيش) في القاموس حبشي بالضم: جبل بأسفل مكة ومنه أحابيش قريش لأنهم تحالفوا بالله على أنهم ليد على غيرهم ما سحاليل ووضح نهار وما رسا حبشي، وفي النهاية الأحابيش: أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا والتحبش: التجمع، وقيل:

حالفوا قريشا تحت جبل يسمى حبشي فسموا بذلك (فقال: اسكت حتى تأخذ من محمد ولثا) الولث بفتح الواو وسكون اللام والثاء المثلثة: العهد الغير المحكم والمؤكد من ولث السحاب ذا أتى بندى يسير كذا ذكره في

ص:491

الفائق وفسره الأصمعي وقيل: هو العهد المحكم وقيل: هو الشيء اليسير من العهد (وقد كان جاء إلى قريش) الغرض منه بيان سبب انضمام عروة بن مسعود إلى قريش وحاصله أن قوما من التجار فيهم عروة خرجوا من الطائف وخرج معهم المغيرة بن شعبة فقتلهم غيلة وهرب عروة إلى قريش وكان بينهم. وقوله (فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)) تكرار لتحقق الربط بعد وقوع البسط بالقصة المذكورة قال (فأقيموها فأقاموها) لعل الغرض من إقامتها أن يعلم عروة أنها هدي وأنه جاء زائرا لا محاربا فيخبر قومه إذا رجع إليهم (وأخلي عنكم وعن لحمانها) اللحمان كاللحوم: جمع اللحم (وأن تجرى عليهم عدوهم) أي أن تجعل عدوهم جريا عليهم، لأن الدخول عليهم بدون إذنهم سبب لجرأة سائر الأعداء عليهم من جرأته عليه تجريئا فاجترء، ويحتمل أن يكون تجرى بالياء من الإجراء وأن يراد بالعدو من كان معه (صلى الله عليه وآله) من أهل الإسلام (فقال: يا غدر) الغدر كصرد: الغادر من الغدر وهو ترك الوفاء غدره وبه كضرب ونصر وسمع غدرا (والله ما جئت إلا في غسل سلحتك) في بمعنى الباء، والسلحة: النجو وهذا كناية عن دفع عاره بتوسله بالنبي (صلى الله عليه وآله) ومن طريق العامة في حديث الحديبية والمغيرة «وهل غسلت سوءتك إلا أمس» قال في النهاية: السوءة في الأصل: الفرج ثم نقل إلى ما يستحي منه إذا ظهر من قول أو فعل وهذا القول إشارة إلى غدر كان المغيرة فعله مع قوم صحبوه في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم قال أبو عبد الله شارح صحيح مسلم: بعثوا عروة بن مسعود الثقفي إليه فلما جلس بين يديه قال: يا محمد أجمعت أوباش الناس وجئت إلى بيضتك لتفتضها بهم إن قريشا خرجت بالعود المطافيل ولبسوا جلود النمور ويعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وأيم الله لكأني بهؤلاء انكشفوا عنك، ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحديد فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول: كف يدك عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أن لا يصل إليك فقال عروة: من هذا ويحك ما أفظك وأغلظك؟ فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال عروة: من هذا يا محمد؟ فقال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة الثقفي، فقال: أي غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟، يريد أن المغيرة كان قتل ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فهاج رهط المقتولين ورهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاثة عشر دية فقام عروة بعد أداء الرسالة واستماع ما قال (صلى الله عليه وآله) وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إلا ابتدروا ذلك ولا يسقط من شعره شعرة إلا أخذوها فرجع إلى قريش وقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه (وإني فيهم على ما تعلم) من الفظاظة أو المذلة والحقارة، قال في النهاية: فيه يعني في الحديث كان عمر في الجاهلية مبرطشا: وهو الساعي بين

ص:492

البايع والمشتري شبه الدلال ويروى بالسين المهملة بمعناه وفي القاموس المبرطش: الذي يكتري الناس الإبل والحمير ويأخذ عليه جعلا (فتأخر عن السرج فحمل عثمان بين يديه) أي تأخر أبان عن سرج دابته وحمل عثمان بين يديه وصار رديفا له وفي كتاب إكمال الإكمال أنه نزل عن دابته وحمله عليها (وكانت المناوشة بين المسلمين والمشركين) النوش: التناول والأخذ ناشه ينوشه نوشا تناوله وأخذه، والمناوشة في القتال: تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا (وبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسلمين) هذه البيعة يسمونها بيعة الرضوان وبيعة تحت الشجرة وفي كتاب إكمال الإكمال سبب هذه البيعة أنه (صلى الله عليه وآله) قصد مكة ليعتمر فصده المشركون ولما نزل الحديبية وهي على عشرة أميال من مكة وظهر صد المشركين أرسل إليهم خداش الخزاعي يعرفهم أنه لا يريد الحرب وإنما جاء معتمرا فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش وهي اسم لأخلاط العشائر فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فأراد أن يبعث عمر فقال: يا رسول الله قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ولكن ابعث عثمان فبعثه فلقيه أبان بن عثمان بن العاص فنزل له عن دابته وحمله عليها وأجاره حتى أتى قريشا فأخبرهم فقالوا: يا عثمان إن أردت أن تطوف فطف وأما دخلوكم علينا فلا سبيل إليه، فقال: ما كنت لأطوف حتى يطوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصرخ صارخ في عسكر رسول الله قتل عثمان فقال المسلمون: إن يكن حقا فلا نبرح حتى نلقى القوم فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى البيع ونادى مناديه أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فما تخلف عن البيعة إلا ابن قيس الأنصاري المنافق حينئذ جعل رسول الله يده وقال: هذه يد عثمان وهي خير من يد عثمان فبايعوا على السمع والطاعة والصبر وعدم الفرار وعلى أن لا ينازعوا الأمر أهله انتهى كلامه، أقول: روى مسلم في باب طاعة الأمير عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده، قال: بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكروه وعلى أثره علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف لومة لائم، قال القرطبي شارح مسلم: قال جماعة: البيعة على عدم المنازعة ورد في الإمام العدل وقيل: إنه بايع الأنصار أن لا ينازعوا قريشا في الخلافة، أقول: إذا عرفت هذا فقد علمت أنه يمكن لنا أن نحمل البيعة على عدم منازعة الأمر أهله في بيعة الرضوان على أحد هذين الوجهين وإن تلك البيعة وقعت بأمر جبرئيل (صلى الله عليه وآله) فتدبر (فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن إلا أني أظن هذا الذي باليمامة) أهل اليمامة كانوا يقولون لمسيلمة الكذاب رحمن اليمامة وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة على ستة عشر مرحلة من البصرة وعن الكوفة نحوها (ولكن اكتب كما نكتبه بسمك اللهم) في كتاب إكمال الإكمال عن السهيلي أنه قال: بسمك اللهم كانت قريش تقولها وأول

ص:493

من قالها أمية بن أبى الصلت ومنه تعلموها وتعلمها هو من رجل من الجن في خبر طويل ذكره (قال: واكتب هذا ما قاضى رسول الله سهيل بن عمرو) قاضى مفاعله من القضاء وهو الفصل والحكم ومنه القاضي وهذا يدل على أنه يجوز في الصلح الاختصار بالاسم أو اللقب المختص خلافا لبعض العامة فإنه قال: لابد فيه من ذكر أربعة أسماء اسمه واسم أبيه واسم جده وكنيته (فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) قيل مساعدته (صلى الله عليه وآله) على ذلك هي رغبة في إتمام الصلح الذي علم أن عاقبته الغلبة والظهور وليس عدم كتب ما ذكر من الرسالة ضارا وإنما الضار كتب مالا يحل اعتقاده من ذكر آلهتهم وشركهم ونحوهما وسنذكر بعض فوائده (وكان في القصة) أي في قصة الصلح والقضاء وفي بعض النسخ في القضية بالضاد المعجمة والياء المثناة التحتانية (أن من كان منا أتى إليكم) أي من كان من المشركين أتى مسلما إليكم رددتموه إلينا أن طلبناه (ورسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مستكره عن دينه) أي عن قضائه وحكمه بالرد إلينا، والدين هنا: القضاء والحكم ومنه الديان من أسمائه تعالى لأنه القاضي والحاكم (ومن جاء إلينا منكم) مرتدا عن الإسلام أو غير مرتد (لم نرده إليكم) ان طلبتموه (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا حاجة لنا فيهم) أي فيمن جاء من أهل الاسلام إليكم حتى نطلبهم (وعلى أن يعبد الله فيكم علانية غير سر) أي يعبد الله المسلمون بينكم جهارا بلا مانع (وإن كانوا ليتهادون السيور في المدينة إلى مكة) التهادي: أن يهدى بعضهم إلى بعض، والسيور: حلة فيها خطوط من إبريسم من السير وهو القد، ويحتمل أن يراد بها:

الحصر المدنية أيضا لأنها كانت تنسج من السيور وهي ما يقدمن الجلد المدبوغ وهذا صريح في أن الصلح وقع على أن يرد المسلمون إلى الكفار من جاء من الكفار مسلما إليهم وأن لا يرد الكفار إلى المسلمين من ذهب من المسلمين إليهم ومثله ما نقل من طرق العامة عن ابن عباس، قال: لما وقع صلح الحديبية تضمن أن من جاء منهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرد عليهم ومن أتاهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يرد ولذلك رد أبو جندل وكأنه جاء بعد وقوع الصلح وقدمت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد ختم الكلام فقدم زوجها وهو كافر فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فإنك شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف، وكذلك جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وجاء وليها وطلب ردها لمكان الشرط فنزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار - الآية) فنسخ الشرط في النساء هذا بناء على أن الشرط كان شاملا صريحا

ص:494

لرد الرجال والنساء جميعا وقد صرح بشموله بعض العامة وقال بعضهم: الشرط إنما كان في رد الرجال دون النساء وعلى هذا فلا نسخ بل هو بيان للحكم وتأكيد، وقيل: كان الشرط مجملا من غير تفصيل وبه صرح بعض أصحابنا فإنه قال: وجب الوفاء بما تضمنه عقد الصلح من الشروط الصحيحة لا الفاسدة وصلح الحديبية وأن تضمن رد من أتانا منهم لكنه مطلق قابل للتقييد بعدم الاشتمال على المفسدة، ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرد من الرجال من له عشيرة يمنعونه من الفتنة عن دينه أما من ليس له عشيرة يمنعونه فلم يرده خوفا من الفتنة وكذا لم يرد المرأة مطلقا وإن كان لها عشيرة لأنهم لا يمنعونها من التزويج بالكافر وحينئذ لا تؤمن فتنتها من زوجها فإن المرأة تأخذ من دين بعلها، قال أفصح الدين والظاهر أنه من علماء العامة في شرحه على نهج البلاغة عند قوله (عليه السلام) «ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أني لم أرد على الله ولا على رسوله شيئا قط» قيل: وفيه إيماء إلى ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرع والاعتراض على الرسول (صلى الله عليه وآله) كما نقل عن عمر يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح أنه أنكر ذلك وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ألسنا على الحق! قال: بلى قال: أو ليسوا الكاذبين قال بلى، قال وكيف الدنية في ديننا؟ فقال (صلى الله عليه وآله) إنما أعمل بما أومر به، فقام عمر فقال لقوم من الصحابة: ألم يكن قد وعدنا بدخول مكة وها نحن قد صددنا عنها؟ ثم ينصرف بعد أن أعطينا الدنية في ديننا، والله لو وجدت أعوانا لم أعط الدنية أبدا، فقال بعضهم ويحك إلزم غرزه فوالله إنه لرسول الله وإن الله لا يضيعه، ثم قال له: أقال لك انه سيدخل مكة هذا العام؟ فقال:

لا، قال: سيدخلها، فلما فتح الله مكة أخذ مفاتيح الكعبة ودعاه فقال: هذا الذي وعدتم» هذا كلامه ومثله نقله الآبي في كتاب إكمال الإكمال وفيه دلالة على أنه لم يؤمن قلبه برسالته وإقراره إنما كان بلسانه.

(وما كانت قضية أعظم بركة منها لقد كاد أن يستولي على أهل مكة الإسلام) فيه أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان يظهر خلاف ذلك في بادئ الرأي لبعض الناس وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع مضرة كثيرة أو جلب مصلحة أعظم منها، ومن مصالح هذا الصلح فتح مكة وإسلام أهلها ودخول الناس في دين الله أفواجا لأنه لما وقع الصلح اختلط الناس بعضهم ببعض وجاؤوا إلى المدينة وذهبوا إلى مكة فسمعوا منهم أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله) مفصلة ووقفوا على معجزاته الظاهرة وأعلام نبوته وحسن سيرته وحميدة طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت نفوسهم إلى الإيمان، فآمنوا، فإن قلت: المنقول أنه (صلى الله عليه وآله) بعد الصلح ذبح الهدي وحلق ورجع فإذا وقع الصلح زال الصد فلم لم يدخل مكة ولم يتم الأفعال؟ قلت: شرط المشركون في الصلح أن لا يدخلها ذلك العام خوف أن يتحدث العرب أنه دخلها عنوة (فضرب سهيل بن عمرو

ص:495

على أبي جندل ابنه) ضرب عليه أي أمسكه (فقال: أول ما قضينا عليه) فوجب رده إلينا (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل قاضيت على شيء) الظاهر ان قاضيت على صيغة المتكلم: أي هل نقضي لك شيء من المال ليكون هو عندنا انه عبر عن المستقبل بالماضي للدلالة على ترقب وقوعه فلم يرض سهيل بن عمرو (فقال: يا محمد ما كنت بغدار) طالبا لرده، فرده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذهب بأبي جندل فقال:) أبو جندل من باب الإنكار أو الاستفهام (يا رسول الله تدفعني إليه؟ قال (صلى الله عليه وآله): لم أشترط لك) حين العقد ولم يقع الاستثناء لك (وقال: اللهم اجعل لأبي جندل مخرجا) من الضيق وأذى المشركين وقد استجاب الله تعالى دعاءه قال أبو عبد الله في شرحه لكتاب مسلم أبو جندل ولد سهيل بن عمرو الذي بعثته قريش ليعقد الصلح، وكان أبو جندل أسلم وحبسه المشركون بمكة فلما كان يوم عقد الصلح وكتب الكتاب جاء موثقا في قيوده وقد انفلت من المشركين إليه (صلى الله عليه وآله) فطلبه أبوه فدفعه وهو يصرخ يا معشر المسلمين أتردوني إلى المشركين فدخل المسلمين أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، ثم أن الرجال الذين أسلموا من قريش وغيرهم كرهوا أن يقدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمكان الهدنة اجتمعوا مع أبي بصير وهو من الذين آمنوا بعد الهدنة ومع أبى جندل وبلغوا نحو الثلاثمائة فخرجوا وقطعوا مارة قريش إلى الشام فبعث أبو سفيان وقومه إلى رسول الله يتضرعون أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ليقدموا عليه وقالوا من خرج منا إليكم فأمسكوه من غير حرج فإن هؤلاء فتحوا علينا بابا وضيقوا الأمر علينا، فعند ذلك علم الذين اغتموا بدفع أبي جندل إلى أبيه وأشاروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا يدفعه إلى أبيه إنما فعله (صلى الله عليه وآله) كان أحسن وأن ما خصه الله تعالى به من العلم أفضل وأتقن وليس لقريش في فعل أبي بصير وأبي جندل حجة على النبي (صلى الله عليه وآله) لأنهما ما عاهداهم وإنما عاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله) على أن لا يخرج معه بأحد منهم ولا يحبسه عنهم ولم يعاهدهم على أن لا يخرج عليهم من أسلم.

* الأصل:

504 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان عن الفضل أبي العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو تقاتلوا قومهم) قال: نزلت في بني مدلج لأنهم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك رسول الله فلسنا معك ولا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثم يدعوهم فإن أجابوا وإلا قاتلهم.

ص:496

* الشرح:

قوله: (أو جاؤوكم حصرت صدورهم) حصرت حال بتقدير قد والحصر الضيق والانقباض (أن يقاتلوكم) أي عن أن أو لأن يقاتلوكم (أو تقاتلوا قومهم) من المشركين (قال: نزلت في بني مدلج) بضم الميم: قبيلة من كنانة (وادعهم): أي صالحهم في القاموس توادعا تصالحا وفي بعض النسخ واعدهم.

* الأصل:

505 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن داود بن أبى يزيد وهو فرقد، عن أبي يزيد الحمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل (عليهم السلام) فمروا بإبراهيم (عليه السلام) وهم معتمون فسلموا عليه فلم يعرفهم ورأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء أحد إلا أنا بنفسي وكان صاحب أضياف فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه ثم قربه إليهم فلما وضعه بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، فلما رأى ذلك جبرئيل (عليه السلام) حسر العمامة عن وجهه وعن رأسه فعرفه إبراهيم (عليه السلام) فقال: أنت هو؟ فقال: نعم ومرت امرأته سارة فبشرها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقالت: ما قال الله عز وجل، فأجابوها بما في الكتاب العزيز فقال إبراهيم (عليه السلام) لهم: فيماذا جئتم؟ قالوا له: في إهلاك قوم لوط، فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين تهلكونهم؟ فقال جبرئيل (عليه السلام): لا، قال: فإن كانوا خمسين؟ قال: لا، قال فإن كانوا ثلاثين قال: لا، قال: فإن كانوا عشرين؟ قال لا، قال: فإن كانوا عشرة قال: لا، قال فإن كانوا خمسة قال: لا، قال: فإن كانوا واحدا قال: لا، قال: إن فيها لوطا قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

ثم مضوا. وقال الحسن العسكري أبو محمد: لا أعلم ذا القول إلا وهو يستبقيهم وهو قول الله عز وجل: (يجادلنا في قوم لوط) فأتوا لوطا وهو في زراعة له قرب المدينة فسلموا عليه وهم معتمون فلما رآهم رأى هيئة حسنة عليهم عمائم بيض وثياب بيض فقال لهم: المنزل، فقالوا: نعم فتقدمهم ومشوا خلفه فندم على عرضه عليهم المنزل وقال: أي شيء صنعت آتي بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فالتفت إليهم فقال: إنكم تأتون شرار خلق الله وقد قال جبرئيل (عليه السلام): لا نعجل عليهم حتى يشهد ثلاث شهادات، فقال جبرئيل (عليه السلام) هذه واحدة ثم مشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم تأتون شرار خلق الله، فقال جبرئيل (عليه السلام) هذه اثنتان، ثم مضى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال: إنكم تأتون شرار خلق الله، فقال جبرئيل (عليه السلام): هذه ثالثة ثم دخل ودخلوا معه، فلما رأتهم امرأته رأت هيئة

ص:497

حسنة فصعدت فوق السطح وصعقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا يهرعون إلى الباب فنزلت إليهم فقالت عنده قوم ما رأيت قط أحسن منهم هيئة، فجاؤوا إلى الباب ليدخلوها فلما رآهم لوط قام إليهم فقال: (يا قوم اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) فقال (عليهم السلام) (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) فدعاهم إلى الحلال فقالوا: (لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)، فقال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) فقال جبرئيل (عليه السلام) لو يعلم أي قوة له، فكاثروه حتى دخلوا البيت قال: فصاح به جبرئيل يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بأصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قوله: (فطمسنا أعينهم) ثم نادى جبرئيل فقال: (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل) وقال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل فقال: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)، قال: فأمره فتحمل ومن معه إلا امرأته قال: ثم اقتلعها جبرئيل بجناحيه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها وامطر عليها وعلى من حول المدينة حجارة من سجيل.

* الشرح:

قوله: (نكرهم وأوجس منهم خيفة) نكره وأنكره واستنكره بمعنى أي استنكر عليه السلام عدم مد أيديهم إلى العجل وترك تناولهم وأدرك في نفسه خوفا منهم وخاف أن يريدوا به مكروها لأنه كان من عادة العدو أن لا يأكل طعام من يريد إضراره (فبشرها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب) ليس هذا لفظ القرآن إذ فيه فبشرناها ويعقوب إما بالفتح عطف على إسحاق وفتحته للجر لأنه غير منصرف إلا أنه وقع الظرف بين المتعاطفين أو بالرفع على أنه مبتدء خبره محذوف، أي ويعقوب مولود من وراء إسحق كما صرح به صاحب الكشاف وغيره ويفهم البشارة به أيضا يجعل الجملة حالا، ولا يلزم منه كونه يعقوب مولودا حين البشارة لأن اللازم منه أن يكون مضمون الجملة مقارنا لها وهو أن يكون يعقوب من وراء إسحق فإن قل لا يفهم على التقديرين أن يعقوب من صلب إبراهيم أو من صلب إسحق (عليهما السلام) لأن الوراء يحتمل كليهما قلت الوراء ولد الولد كما صرح به في القاموس وبه فسره بعض المفسرين على أن المتبادر منه هو الثاني (فقالت ما قال الله عز وجل وأجابوها بما في الكتاب العزيز) (قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) الويلة قد

ص:498

يرد بمعنى التعجب كما صرح به في النهاية أي يا عجبا احضر فهذا وقتك وأوان حضورك وإنما تعجبت نظر إلى العادة لا إلى القدرة الإلهية لأنها كانت بنت تسعة وتسعين وبعلها ابن مائة وعشرين كما قيل، وحصول الولد لمن في هذا السن أمر عجيب بحسب العادة (فقال إبراهيم (عليه السلام) لهم فيماذا جئتم؟ قالوا له: في إهلاك قوم لوط) كما حكى في القرآن الكريم (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) هم قوم لوط (لنرسل عليهم حجارة من طين) أي من طين متحجر، مسومة: أي معلمة عند ربك للمسرفين المتجاوزين عن الحد من أسمت الخيل إذا أرسلتها أو معلمة من المسومة بالسمة وهي العلامة، وفي القاموس مسومة عليها أمثال الخواتيم أو معلمة ببياض وحمرة ليعلم أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل: معلمة بأسماء هؤلاء المسرفين (فقال: ان كان فيها مائة الف - إلى قوله - فإن فيها لوطا) وإنما لم يكتف (عليه السلام) أولا بذكر الواحد ليحتج عليهم بأن حرمة المؤمن الواحد كحرمة الكثير فإذا لم تهلكهم مع فرض وجود الكثير فيهم فكيف تهلكهم مع وجود الواحد؟ قال ذلك شفاعة وشفقه على عباد الله وتوهم أن إهلاكهم في معرض البداء فلذلك مدحه تعالى (وقال فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا) أي يجادل رسلنا في قوم لوط ومجادلته إياهم قوله (إن فيها لوطا إن إبراهيم لحليم) كثير الحلم غير عجول على الانتقام من المسئ إليه (أواه منيب) أي كثير التأوه من التقصير والتأسف على الناس وكثير الرجوع إلى الله تعالى ثم نبه جل شأنه بأن عذابهم أمر محتوم لا تدفعه الشفاعة ولا الجدال والدعاء بقوله (يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود). (فندم على عرضه عليهم المنزل) كما دل عليه قوله تعالى (وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) أي ضاق صدره لعلمه بأن عاجز عن دفع المكروه عنهم والعصيب الشديد (أقبلوا يهرعون إلى الباب) أي يسرعون من الهرع محركة: وهي مشي في اضطراب وسرعة وإنما بنى الفعل للمفعول للتنبيه على شدة اضطرابهم وسرعتهم حتى كأنهم يدفع بعضهم بعضا ويحثه على السرعة (فقال يا قوم اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) نسبهم أولا إلى ذاته المقدس فقال يا قوم طلبا للترحم والتعطف، وأمرهم ثانيا بتقوى الله وترك ما أرادوا من الفاحشة; ونهاهم ثالثا عن خزيه في شأن ضيفه لأن خزي الضيف خزي المضيف وخجالته خجالته، وعيرهم رابعا بعدم الرشد والرجوع إلى الحق ورفض القبيح (فقال) بعدما علم أنهم لم يقبلوا نصحه (هؤلاء

ص:499

بناتي هن أطهر لكم) الطهر: وهو النظافة والنزاهة في المفضل محقق وفي المفضل عليه مقدر موهوم أو محقق بزعمهم ويحتمل أن يكون اسم التفضيل لمجرد أصل الفعل (فدعاهم إلى الحلال بالتزويج) قال في الكشاف: وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزا، وقيل: المراد بالبنات نساؤهم لأن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية (فقالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق) أي من حاجة أو شهوة وإرادة وقيل هذا بناء على أنهم اتخذوا نكاح الإناث مذهبا باطلا وإتيان الذكران مذهبا حقا (وأنك لتعلم ما نريد) دل على أن عادتهم القبيحة كانت مشهورة، واعلم أنما ذكره (عليه السلام) على خلاف ترتيب هذا القرآن فكأنه نقله بالمعنى أو كان المنزل على هذا الترتيب والله يعلم (فقال لو أن لي بكم قوة) أي لو قويت عليكم بنفسي (أو آوى إلى ركن شديد) أي إلى قوي عزيز ذي قوة وشدة وبطش، شبهه بالركن من الجبل في شدته وصلابته، وجواب لو محذوف كما ذكره المفسرون، أي لدفعتكم وشددت عليكم والتمني محتمل، وقيل: أراد بالركن العشيرة جريا على سنة الناس في اعتصام الرجل منهم بعشيرته في دفع الأعداء، وقال بعض العامة: أنساه ضيق صدره من قومه اللجاء إلى الله تعالى الذي هو أشد الأركان، والحق أنه (عليه السلام) لم ينس اللجاء إلى الله تعالى في هذه القضية وإنما قال ذلك تطييبا لنفوس الأضياف وأبداء العذر لهم بحسب ما ألف في العادة من أن الدفع إنما يكون بقوة أو عشيرة وهذا محمدة عظيمة وكرم أخلاق يستحق صاحبها الحمد (فقال جبرئيل (عليه السلام) لو يعلم أي قوة له) جواب لو محذوف والتمني محتمل (فكاثروه) أي غالبوه في الكثرة فغلبوه (حتى دخلوا البيت) ومع ذل يمنعهم لوط (عليه السلام) بقدر الإمكان من أن يدخلوا البيت بيت الأضياف (فصاح به جبرئيل (عليه السلام)) بعد مشاهدة ما به من كرب (يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل (عليه السلام) بأصبعه نحوهم فذهبت أعينهم) وعموا جميعا وقيل كان لجبرئيل (عليه السلام) في ذلك اليوم وشاح من در منظوم وهو قوله (فطمسنا أعينهم) الطمس: المحو والاستيصال، تقول: طمست الشئ: أي محوته واستأصلت أثره ورجل طميس ومطموس ذاهب البصر ولما ذهبت أعينهم خرجوا وهم لا يعرفون الطريق ويصيحون ويقولون: النجا النجا إن في بيت لوط سحرة فخاف لوط من قومه على نفسه وعلى أضيافه (فقال) جبرئيل (عليه السلام) عند ذلك بشارة له (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) أي إلى إضرارك (فأسر بأهلك بقطع من الليل) (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) في القاموس، السري كالهدي: سير عامة الليل ويذكر، سرى يسري واسراره وبه وأسرى بعبده ليلا تأكيد ومعناه سيره، والقطع بالكسر:

ظلمة آخر الليل أو القطعة منه كالقطع كعنب أو من

ص:500

أوله إلى ثلثه (فقال يا جبرئيل عجل فقال: إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) قال في الكشاف: روي أنه قال لهم متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح، فقال أريد أسرع من ذلك، فقالوا: أليس الصبح بقريب وما ذكره (عليه السلام) أحسن منه لأنه يبعد من نبي الله إذا علم أن الله تعالى أراد هلاكهم وقت الصبح أن يريد وقوعه قبله (قال:

فأمره) بالخروج من القرية (فتحمل ومن معه إلا امرأته) تحمل واحتمل بمعنى انتقل وارتحل أو تحمل متاع والواو بمعنى مع فلا يلزم على الأول العطف على المرفوع المتصل بلا فصل أو تأكيد، ولا على الثاني العطف إلى المحذوف وفيه دلالة واضحة على أنه (عليه السلام) لم يخرج معه امرأته بل أخلفها مع قومها وهذا أحد القولين للمفسرين وقيل أخرجها وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلى الوراء فلما سمعت في الطريق هدة العذاب وصوت وقع الأرض التفتت إلى الخلف وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها، فقوله تعالى إلا امرأتك على الأول بالنصب استثناء من قوله (فأسر بأهلك) وعلى الثاني بالرفع استثناء من أحد (وامطر عليها وعلى من حول المدينة حجارة من سجيل) حجارة كالمدر معرب «سنك گل» أو طين طبخ بنار جهنم وكتب فيه أسماء القوم، أو من سجل أي مما كتب أنهم يعذبون بها أو أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما وهذه الوجوه ذكرها المفسرون وأرباب اللغة.

* الأصل:

506 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن أبي الصباح بن عبد الحميد، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: والله للذي صنعه الحسن بن علي (عليه السلام) كان خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والله لقد نزلت هذه الآية: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة) إنما هي طاعة الإمام، وطلبوا القتال فلما كتب عليهم القتال مع الحسين (عليه السلام) قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أرادوا تأخير ذلك إلى القائم (عليه السلام).

* الشرح:

قوله: (والله الذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السلام)) وهو الصلح مع معاوية مع عدم رضاء أصحابه حتى خاطبوه بالمنكر من القول (كانت خيرا لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس) إذ به كانت نجاتهم من القتل والاستيصال وبقاء دين الحق ونسل الهاشميين والعلويين والشيعة في الأعقاب، ثم أكد ذلك مع الإشارة إلى ذم الأمة بأن الإمام إذا أمر بترك القتال طلبوه وإذا أمر بالقتال كرهوه

ص:501

(بقوله: والله لقد نزلت هذه الآية ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) عن القتال مع الأعداء (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) اشتغلوا بهما وبغيرهما من الطاعات والظاهر أن جواب القسم محذوف أي نزلت هذه الآية في الحث على طاعة الإمام بقرينة السياق ولدلالة قوله: (إنما هي طاعة الإمام) (عليه السلام) والإمام وهو من يقتدى به، يشمل الرسول وأولي الأمر من بعده (وطلبوا القتال) مع الأمر بكفهم عنه (فلما كتب عليهم القتال مع الحسين (عليه السلام) قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) أرادوا تأخير ذلك إلى القائم (عليه السلام)) قالوا ذلك كراهة للموت وخوفا من الأعداء وحبا للبقاء إما باللسان أو في أنفسهم فلامهم الله تعالى بما نطقوا بلسانهم وأضمروا في جنانهم واعلم أن لآيات القرآن وجوها متكثرة ومعاني متعددة كلها مراد منها ولا يعلمها إلا أهل العصمة (عليهم السلام) وما ذكره (عليه السلام) من جملة ما يراد من هذه الآية الكريمة.

* الأصل:

507 - محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطاب، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا، عن علي بن حسان، عن علي بن عطية الزيات، عن معلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم أحق هي؟ فقال: نعم إن الله عز وجل بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل (1) فأخذ

ص:502


1- 1 - الحديث ضعيف يجب رد علمه على فرض صدوره إلى أهله هكذا قلنا في حاشية الوافي وذكرنا ما عندنا هناك لاشتمال باب النجوم فيه على جميع ما ورد في الكتب الأربعة في مواضع مختلفة، وحاصل ما نعتقده في ذلك أن الفقهاء بين إفراط وتفريط في ذلك فكثير منهم أكثر من تنقيص هذا العلم وذمه وتخطئة المعتقدين لتأثير النجوم وكفرهم مع عدم وجود أحد منهم في هذه الأزمنة ولا معنى لتكفيرهم في عصرنا كما لا معنى لتكفير بخت نصر وقوم فرعون، وهذا بحث مفروغ عنه راجع إلى قوم كانوا فهلكوا ولم يبق منهم أحد، وقوم اعتمدوا في زماننا على النجوم وصححوا أحكامها وتمسكوا بروايات تدل على ذلك وإن قل العالم بها منها هذه الرواية وتدل على تمهر أهل الهند، والرواية التي بعدها تدل على علم أهل الهند والعرب، وقد مضى في الحديث 473 ما يدل على صحة بعض أحكام النجوم وأن المريخ كوكب حار وزحل بارد وأن برد الهواء أو حره بتأثير ارتفاع الكوكبين أو هبوطهما وهذا موافق لما ذكره أهل الأحكام ولكن الراوي لم ينقل الرواية بغير تصرف في ألفاظها والقدر المسلم برد زحل وحر مريخ عندهم وأن تأثير كل كوكب في أحسن أحوالها أشد،والحق ما ذكره الحكيم أبو نصر الفارابي أنه لا دليل على هذه الأحكام وإنما العلم الصحيح ما هو المبتني على التسييرات وحساب الحركات، وقد ألف في ذلك رسالة واختاره من فقهاءنا السيد المرتضى والكراجكي وسديد الدين الحمصي وأكثر أهل التحقيق ومنهم الشارح - وحساب الكسوف والخسوف والأهلة والأبعاد والنسب بين الكواكب من الصحيح: وأما الأحكام والسعد والنحس فباطل لكن لا يوجب الفسق والتكفير كالاعتقاد بساير الأباطيل التي لا يلزم منه إنكار التوحيد والرسالة، وأما نزول المشترى في صورة رجل فمبني على اعتقاد البابليين بكون الكواكب ذات روحانية وأن روحانيتها تتمثل لمن أراد روح الكوكب هدايته كما يتمثل الملائكة عندنا (ش).

رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه قد بلغ ثم قال له: انظر أين المشتري، فقال ما أراه في الفلك وما أدري أين هو؟ قال: فنحاه وأخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ وقال:

انظر إلى المشترى أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري، قال: وشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناك.

* الشرح:

قوله: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم) (1) أي عن علم النجوم وأحكامها (أحق هي؟ فقال: نعم إن الله عز وجل بعث المشتري إلى الأرض - اه) الظاهر أن هذا محمول على ظاهره ولا باعث للعدول عنه لأن الذي يقدر أن يجعل العصا حية ويخرج الناقة الجسيمة مع حملها من الجبل يقدر أن ينزل المشتري لتعليم بعض العلوم الغريبة والآثار السماوية، ثم هذه الرواية والتي تليها دلت على حقيقة علم النجوم وحقيقة أهله وقد وقع في بعض الروايات ذمهما فوجه الجمع أن الله سبحانه جعل للأشياء أسبابا كما جعل الشمس سببا لإضاءة العالم وجعل اتصال الكواكب بعضها ببعض سببا لنزول المطر أو لغير ذلك من الأمور المعلومة في علم النجوم، فمن جعل هذه الأمور أسبابا وعلامات لما يترتب عليها لا بالاستقلال بل بفعل الله تعالى شأنه فهو ليس بمذموم، وأما من جعل هذه الأمور علة موجدة بالاستقلال سواء اعتقد ذلك أو لا لكن أتى بعبارة موهمة لذلك فهو مذموم بل كافر بالله تعالى وذلك كما كانت العرب ينسبون المطر إلى النجوم لأن ثمانية وعشرين كوكبا معروفة المطالع في السنة وهي المسماة بمنازل القمر الثمانية والعشرين يسقط منها في كل ليلة ثلاث عشرة كوكب عند طلوع الفجر ويظهر نظيره، فكانت العرب إذا حدث عند ذلك مطر نسبه بعضهم إلى الغارب وبعضهم إلى الطالع نسبة إيجاد وتأثير كما يقول بعض الفلاسفة إن الله سبحانه لم يخلق إلا واحدا هو العقل الأول ثم كان عن هذا العقل غيره إلى أن ينتهى ذلك إلى الأمطار والعناصر والمعادن والنباتات والحوادث اليومية فنهى الشرع عن القول بذلك لأن ذلك إن كان عن اعتقاد فهو كفر وإن كان بمجرد قول كما إذا قال المؤمن بأن الفاعل هو الله تعالى أمطرنا السحاب أو أبرد الهواء طلوع الكوكب الفلاني أو نحو ذلك فهو شبيه بالكفر فنهى الشارع عنه أيضا حسما لمادة الكفر ومنعا لترويجه وخوفا لأن يعتقد أحد بظاهر هذا القول، والحاصل أن العلم لا يذم من حيث أنه علم وإنما الذم متوجه عليه لأحد أسباب ثلاثة، أحدها: أن يكون مؤديا إلى ضرر إما بصاحبه أو بغيره كما يذم علم السحر والطلسمات إذ به يتوسلون إلى ما يفرقون به بين

ص:503


1- 1 - الحديث ضعيف يجب رد علمه على فرض صدوره إلى أهله هكذا قلنا في حاشية الوافي وذكرنا ما عندنا هناك الاشتمال باب النجوم فيه على جميع ما ورد في الكتب الأربعة في مواضع مختلفة وحاصل ما نعتقده في ذلك ان الفقهاء بين افراط وتفريط في ذلك فكثير منهم أكثر من تنقيص هذا العلم وذمه وتخطئة المعتقدين لتأثير النجوم وكفرهم مع عدم وجود أحد منهم في هذه الأزمنة ولا معنى لتكفيرهم في عصرنا كما لا معنى لتكفير بخت نصر وقوم فرعون وهذا بحث مفروغ عن ارجع إلى قوم كانوا فهلكوا ولم يبق منهم، أحد وقوم اعتمدوا في زماننا على النجوم وصححوا أحكامها وتمسكوا بروايات تدل على ذلك وان قل العالم بها منها هذه الرواية وتدل على تمهر أهل الهند والرواية التي بعدها تدل على علم أهل الهند والعرب، وقد مضى في الحديث 473 ما يدل على صحة بعض احكام النجوم وأن المريخ كوكب حار وزحل بارد وأن برد الهواء أو حرة بتأثير ارتفاع الكوكبين أو هبوطهما وهذا موافق لما ذكره أهل الاحكام ولكن الراوي لم ينقل الرواية بغير تصرف في ألفاظها والقدر المسلم برد زحل وحر مريخ عندهم وأن تأثير كل كوكب في أحسن أحوالها أشد، والحق ما ذكره الحكيم أو نصر الفارابي أنه لا دليل على هذه الاحكام وانما العلم الصحيح ما هو المبتنى على التسييرات وحساب الحركات وقد ألف في ذلك رسالة واختاره من فقهاءنا السيد المرتضى والكراجكي وسديد الدين الحمصي وأكثر التحقيق ومنهم الشارح - وحساب الكسوف والخسوف الأهلة والابعاد والنسب بين الكواكب من الصحيح،: واما الاحكام والسعد والنحس فباطل لكن لا يوجب الفسق والتكفيركالاعتقاد بساير الأباطيل التي لا يلزم منه انكار التوحيد والرسالة وأما نزول المشترى في صورة رجل فمبنى على اعتقاد البابليين بكون الكواكب ذات روحانية وان روحانيتها تتمثل لم أرد روح الكوكب هدايته كما يتمثل الملائكة عندنا (ش).

المرء وزوجه.

الثاني: غموض بعض العلوم ودقته فإن الخوض في علم لا يفهمه الخائض مذموم فيجب كف النفس عن الخوض فيه كعلم القدر لأنه سر من أسرار الله لا يعلمه إلا هو أو من أظهره الله عليه من خواصه، الثالث: أن يكون مؤديا إلى ضرر يعود إلى صاحبه غالبا كعلم النجوم فإنه في نفسه ليس بمذموم إذ هو قسمان: قسم يتعلق بالحساب والهيئة وقد نطق القرآن بأن مسير الكواكب محسوب إذ قال (والشمس والقمر بحسبان) وقال (والقمر قدرناه منازل - الآية) وقال (ولتعلموا عدد السنين والحساب) والقسم الثاني: الإحكام وحاصله يرجع إلى الاستدلال بالأسباب على الحوادث وقد نهى الشارع عنه لثلاثة أوجه: الأول: أنه مضر بأكثر الخلق فإنه إذا ألقى إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير هذه الكواكب والأنظار وقع في نفوسهم أن هذه الكواكب هي المؤثرات والآلهة المدبرات لأنها جواهر شريفة سماوية فيعظم وقعها في القلوب فتلتفت إليها وترى الخير والشر من جهتها ويمحو ذكر الله عن القلب فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط كالأطفال فإنهم يظنون أن الرازق آباؤهم وأمهاتم، والعالم الراسخ هو الذي يعلم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه. والثاني: أن أحكام النجوم تخمين محض ليس بعلم لا باليقين ولا بالظن فالحكم به حكم بجهل فيكون مذموما من حيث أنه جهل ووهم لا من حيث أنه علم وحق وقد قيل إنه كان من معجزة إدريس النبي (عليه السلام) وقد اندرس وانمحى ولا يعرفه إلا الخواص وما يتفق أحيانا من إصابة المنجم فهو اتفاق، والثالث: أنه لا فائدة فيه فإن كل ما قدر فهو كائن والاحتراز عنه غير ممكن فالخوض فيه خوض فيما لا يعني وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان بغير فائدة وهو الخسران المبين والأنبياء لكونهم أطباء القلوب يحملون الضعفاء على ما يوجب ترقيهم إلى جوار الله والوصول إلى دار كرامته وما لم يصل إليه عقلك ولم تعرف وجه الحكمة فيه فأعزل عقلك عن الفكرة فيه والزم على نفسك اتباعهم والتسليم لهم فإن فيه السلامة والله ولي التوفيق.

508 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن النجوم قال: ما يعلمها إلا أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند.

* الأصل:

509 - حميد بن زياد، عن أبي العباس عبيد الله بن أحمد الدهقان، عن علي ابن الحسن الطاطري، عن محمد بن زياد بياع السابري، عن أبان، عن صباح بن سيابة، عن المعلى بن خنيس

ص:504

قال: ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم وسدير وكتب غير واحد إلى أبي عبد الله (عليه السلام) حين ظهرت المسودة قبل أن يظهر ولد العباس بأنا قد قدرنا أن يؤول هذا الأمر إليك فما ترى؟ قال: فضرب بالكتب الأرض ثم قال: اف اف ما أنا لهؤلاء بإمام يعلمون أنه إنما يقتل السفياني.

* الشرح:

قوله: (حين ظهرت المسودة قبل أن يظهر ولد العباس - اه) المسودة بتشديد الواو وكسرها: من التسويد والمراد بهم أبو مسلم وعساكره سموا بها لأنهم كانوا يسودون لباسهم وليس المراد بهم ولد عباس وإن كانوا يسمون بها أيضا، قال في القاموس: المبيضة كمحدثة: فرقة من الثنوية لتبيضهم ثيابهم مخالفة المسودة من العباسيين، وقدرنا: إما من التقدير أي قدرنا ذلك في أنفسنا تقديرا أو من القدرة أي قدرنا على ذلك بكثرة الأعوان والأنصار.

* الأصل:

510 - أبان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (في بيوت أذن الله أن ترفع) قال: هو بيوت النبي (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع، قال: هي بيوت النبي (صلى الله عليه وآله)) الآية في سورة النور بعد قوله تعالى (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة) وقد مر في كتاب الحجة أن المشكاة والزجاجة فاطمة (عليها السلام) والمصباح الأول: الحسن، والثاني: الحسين (عليهما السلام)، والظرف وهو في بيوت متعلق بمشكاة أي مثل نوره كمشكاة في بيوت أذن الله أن ترفع أي بالثناء والتعظيم (ويذكر فيها اسمه) فالمقصود منها مدح أهل البيت (عليهم السلام) والحث على متابعتهم.

* الأصل:

511 - أبان، عن يحيى بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمتها وحلقتان من ورق في مؤخرها وقال: لبسها علي (عليه السلام) يوم الجمل.

* الشرح:

قوله: (درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات الفضول - اه) في النهاية اسم درعه (صلى الله عليه وآله) ذات الفضول، وقيل: ذو الفضول لفضلة كان فيها وسعة، والورق بكسر الراء: الفضة، وقد تسكن، وقد مر

ص:505

في كتاب الحجة أن سلاحه (صلى الله عليه وآله) كان عنده (عليه السلام) ثم بعده عند أولاده الطاهرين.

* الأصل:

512 - أبان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شد علي (عليه السلام) على بطنه يوم الجمل بعقال أبرق نزل به جبرئيل (عليه السلام) من السماء وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشد به على بطنه إذا لبس الدرع.

* الشرح:

(شد علي (عليه السلام) بطنه يوم الجمل بعقال أبرق) من ذكر الأبرق ووصفه في كتاب الحجة في باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الأصل:

513 - أبان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن عثمان قال للمقداد: أما والله لتنتهين أو لأردنك إلى ربك الأول، قال: فلما حضرت المقداد الوفاة قال لعمار: أبلغ عثمان عني أني قد رددت إلى ربي الأول.

* الشرح:

(إن عثمان قال للمقداد أما والله لتنتهين أو لاردنك إلى ربك الأول) أي لتنتهين عن القول في وفي ذمي في الملأ من الناس، قال أبو عبد الله شارح مسلم: لما ضرب عمر وجعل الخلافة شورى بين ستة وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وأمر أبا طلحة الأنصاري أن يختار سبعين رجلا من الشجعان وأن يكونوا مع هؤلاء حتى يختاروا واحدا منهم ويبايعوه، وقال: إذا بايعوا واحدا منهم فمن لم يرض به ولم يبايعه فاضربوا عنقه، اجتمع القوم وقال عبد الرحمن بن عوف: يا قوم أعطوني مواثقكم على أن تكونوا معي على من غير وبدل وأنا أختار لكم فأعطاه القوم مواثقهم، فقال عبد الرحمن: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أعطني موثقا أن لا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم فأعطاه مواثقه فلما امتد الزمان وكثر الكلام في أهل المسجد فقال سعد: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد وقال:

اللهم اسمع واشهد اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وازدحم الناس يبايعونه والشجعان في المسجد موكلين عليهم وبايعه علي رضي الله عنه وهو يقول: خدعة وأي خدعة ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فصبر جميل والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله

ص:506

كل يوم هو في شأن فخرج وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم وإني لأعجب من قريش تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم منه ولا أقضى منه بالعدل، فقال عبد الرحمن: وما أنت وذلك يا مقداد؟ قال: إني أحبهم لحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إياهم وأن الحق فيهم ومعهم يا عبد الرحمن وإني لأعجب من قريش فإنهم إنما تطاولوا على الناس بفضل أهل هذا البيت وقد أطبقوا على نزع سلطان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده من أيديهم، والله لو أجد على قريش أنصارا لقاتلتهم كقتال آبائهم فقال عبد الرحمن: اتق الله يا مقداد فإني أخشى عليك الفتنة،هذا كلامه وكان يقول مثل ذلك دائما.

قال الآبي أيضا في كتاب الإمامة من مسلم والناس تحاملوا في القول على عثمان فمن بعضهم قال:

دخلت المسجد فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كانت له الدنيا فسلبها وهو يقول:

واعجبا من قريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المسلمين إيمانا وابن عم نبيهم وأعلم الناس وأفقههم في دين الله وأعظمهم عناء في الإسلام وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد ردوها عن الهادي المهتدي الطاهر المتقي وما ازدادوا إصلاحا للأمة ولا صوابا في المذهب ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة فبعدا وسحقا للقوم الظالمين، فدنوت منه وقلت من أنت يرحمك الله ومن الرجل؟ فقال: أنا المقداد والرجل علي بن أبي طالب انتهى كلامه. أقول لما صدر منه (ره) أمثال ذلك مرارا وخاف عثمان على نفسه وامرأته هدده بالقتل مع عدم الانتهاء عنه، وأراد بالرب الأول: واجب الوجود جل شأنه أو النبي (صلى الله عليه وآله)، وبالثاني المستفاد من الأول: علي بن أبي طالب (عليه السلام) على سبيل التهكم وما فعل هذا بمقداد وحده بل سوء معاملته مع أبي ذر (ره) وإخراجه من المدينة إلى الشام ثم من الشام إلى المدينة ثم من المدينة إلى الربذة مشهور كل ذلك لأنه رحمه الله كان ينكر عليه في كل باب وفي كل موضع وكان يعيره دائما وقد ذكرنا هذا في موضعه.

* الأصل:

514 - أبان، عن فضيل وعبيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما حضر محمد بن أسامة الموت دخلت عليه بنو هاشم فقال لهم: قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعلي دين فأحب أن تضمنوه عني، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): أما والله ثلث دينك علي، ثم سكت وسكتوا، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): علي دينك كله، ثم قال علي بن الحسين (عليهما السلام): أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أولا إلا

ص:507

كراهية أن يقولوا:سبقنا.

* الشرح:

(قال علي بن الحسين (عليهما السلام): علي دينك كله) يدل على استحباب إجابة المؤمن وعلى صحة ضمان البريء وترك المبادرة إلى فعل كل الخير إذا أمكن أن يكون للجلساء فيه أيضا نصيب.

* الأصل:

515 - أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) القصواء إذا نزل عنها علق عليها زمامها، قال فتخرج فتأتي المسلمين قال: فينا ولها الرجل الشيء ويناوله هذا الشيء فلا تلبث أن تشبع قال: فأدخلت رأسها في خباء سمرة بن جندب فتناول عنزة فضرب بها على رأسها فشجها فخرجت إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فشكته.

* الشرح:

(كانت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) القصواء إذا نزل عنها علق عليها زمامها - اه) المقصود هو البعد،والقصية: الناقة الكريمة النجيبة المبعدة عن الاستعجال، والقصواء: لقب ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سميت بذلك لذلك، وفي النهاية، القصواء: لقب ناقة رسول الله، والقصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها وكل ما قطع من الأذن فهو جدع، فإذا بلغ الربع فهو قصع، فإذا جاوزه فهو عصب، فإذا استؤصلت فهو صلم، يقال: قصوته قصواء فهو مقصو، والناقة قصواء ولا يقال بعير أقصى. ولم تكن ناقة النبي (صلى الله عليه وآله) قصواء وإنما كان هذا لقبا لها، وقيل: كانت مقطوعة الأذن، وقد جاء في الحديث أنه كان له ناقة تسمى العضباء وناقة تسمى الجدعاء، وجندب: كقنفذ ودرهم، وقيل: سمرة كان منافقا وقد مر في كتاب التجارة (1) من هذا الكتاب في باب الضرار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان وكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه وأخبره الخبر فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخبره بقول الأنصاري وما شكى وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى بيعه

ص:508


1- 1 - هذا ينافي قول الأستاد الأكبر البهبهاني في رسالة الاجتهاد نقلا عن أبيه رحمهما الله أن المولى محمد صالح المازندراني بعد فراغه من شرح أصول الكافي أراد أن يشرح فروعه أيضا فقيل له يحتمل أن لا يكون لك رتبة الاجتهاد فترك لأجل ذلك شرح الفروع. انتهى، لأن ظاهر قول الشارح: «قد مر في كتاب التجارة من هذا الكتاب» دليل على شرحه فروع الكافي ولعله إشارة إلى الكافي.

فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى أن يقبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: اذهب فاقطعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار».

* الأصل:

516 - أبان، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن مريم (عليها السلام) حملت بعيسى (عليه السلام) تسع ساعات كل ساعة شهرا.

* الشرح:

قول: (إن مريم حملت بعيسى تسع تسع ساعات كل ساعة شهرا) الظاهر أن يكون شهر مرفوعا على الخبر أي كل ساعة لها شهر لغيرها ولكنه في النسخ التي رأيناها منصوب فكان ناصبه مقدر أي كل ساعة تعد أو تماثل شهرا أو بدل عن تسع ساعات أي حملت شهرا في كل ساعة، ثم الظاهر أن حمله على الظاهر وحمله على القبض والبسط في الزمان بأن يكون زمان حملها تسعة أشهر لغيرها وتسع ساعات لها على نحو ما مر سابقا في المكان بعيد جدا.

* الأصل:

517 - أبان، عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن المغيرية يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة: فقال كذبوا هذا اليوم لليلة الماضية إن أهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا: قد دخل الشهر الحرام.

* الشرح:

قوله: (إن المغيرة) المغيرة اسم فاعل من التغيير ولعل المراد أن الفرقة المغيرة لأحكام الله تعالى يعنى العامة (يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة) قيل: قال الصادق (عليه السلام): إنهم غيروا كل شيء من أحكام الدين إلا استقبال الكعبة في الصلاة وفي بعض النسخ «المغيرية»: وهم الفرقة المنسوبة إلى المغيرة بن سعيد الملقب بالأبتر، والبترية بالضم: من الزيدية تنسب إليه وكان بناء هذا الزعم على أن النهار مقدم على الليل (فقال: كذبوا هذا اليوم لليلة الماضية) يمكن التمسك به على تقدم الليل على النهار، ثم أشار إلى وضوح ذلك عند الناس بقوله: (إن أهل بطن نخلة) وهو موضع بين مكة والطائف (حيث رأوا الهلال قالوا: قد دخل الشهر الحرام) أشار به إلى ما ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه - الآية) من أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث سرية قبل بدر بشهرين وأمر عليهم ابن عمته عبد الله بن جحش الأسدي إلى عير قريش فيهم عمرو بن

ص:509

عبد الله الحضرمي وغيرهم فوجدوا العير في بطن نخلة في آخر يوم من جمادي الآخرة وقد طلبوا الهلال في الليلة الماضية فلم يروه فظنوه أنه من جمادى الآخرة فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وساقوا العير وأخذوا أموالهم فقالوا أهل بطن نخلة إنا قد رأينا الهلال وشنعوا على المسلمين بأنهم استحلوا القتال في الشهر الحرام وفي قبول هذه الغنيمة وردها اختلاف ففي معالم التنزيل أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذ تلك الغنيمة وأخرج منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السرية، ومثله روي عن ابن عباس وقيل ردها إلى أهلها والله أعلم.

* الأصل:

518 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن سلار أبى عمرة، عن أبي مر] يم [الثقفي، عن عمار بن ياسر قال: بينا أنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الشيعة الخاصة الخالصة منا أهل البيت، فقال عمر: يا رسول الله عرفناهم حتى نعرفهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما قلت لكم إلا وأنا أريد أن أخبركم ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا الدليل على الله عز وجل وعلي نصر الدين ومنارة أهل البيت وهم المصابيح الذين يستضاء بهم فقال عمر: يا رسول الله فمن لم يكن قلبه موافقا لهذا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما وضع القلب في ذلك الموضع إلا ليوافق أو ليخالف فمن كان قلبه موافقا لنا أهل البيت كان ناجيا ومن كان قلبه مخالفا لنا أهل البيت كان هالكا.

* الشرح:

قوله: (وعلي نصر الدين ومنارة أهل البيت وهم المصابيح الذين يستضاء بهم) النصر بمعنى الناصر أو الحمل من باب المبالغة لكونه كاملا في العلم بالدين وحدوده ودافعا لمن يدفعه بالسيف واللسان ومانعا له من الزيادة والنقصان، وهو (عليه السلام) منارة: أي علامة به يهتدون ومن متابعته يرشدون ومحل الأنوار العلوم الإلهية والأسرار الربوبية، والظاهر أن المراد بأهل البيت الشيعة المذكورة أو الأعم منهم، وشبههم بالمصابيح وأشار إلى وجه الشبه بقوله: الذين يستضاء بهم وفيه تصريح بأن الخلص من علماء الشيعة بمنزلة أهل البيت (عليهم السلام).

* الأصل:

519 - أحمد، عن علي بن الحكم، عن قتيبة الأعشى، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عاديتم فينا الآباء والأبناء والأزواج وثوابكم على الله عز وجل، أما إن أحوج ما تكون إذا بلغت

ص:510

الأنفس إلى هذه - وأومأ بيده إلى حلقه.

* الشرح:

قوله: (إن أحوج ما تكونون إذا بلغت الأنفس إلى هذه وأومأ بيده إلى حلقه) في القاموس، الحوج:

السلامة والاحتياج أي أسلم وقت تكونون فيه وقت بلوغ النفس إلى الحلق فإنكم ترون فيه من الروح والراحة مالا يخطر على قلب بشر أو أشد وقت تكونون محتاجين إلى ثواب الله وكرامته هو هذا الوقت فلذا آخره إليه والله أعلم.

* الأصل:

520 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن داود بن سليمان الحمار عن سعيد بن يسار قال: استأذنا على أبي عبد الله (عليه السلام) أنا والحارث بن المغيرة النصري ومنصور الصيقل فواعدنا دار طاهر مولاه فصلينا العصر ثم رحنا إليه فوجدناه متكئا على سرير قريب من الأرض فجلسنا حوله ثم استوى جالسا، ثم أرسل رجليه حتى وضع قدميه على الأرض، ثم قال: الحمد لله الذي ذهب الناس يمينا وشمالا فرقة مرجئة وفرقة خوارج وفرقة قدرية وسميتم أنتم الترابية، ثم قال بيمين منه: أما والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له ورسوله وآل رسوله (صلى الله عليه وآله) وشيعتهم كرم الله وجوههم وما كان سوى ذلك فلا، كان علي والله أولى الناس بالناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقولها ثلاثا.

* الشرح:

قوله: (أما والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له) هو راجع إلى الشيء الموصوف بحقيقة الشيئية أو إلى الموجود بالحقيقة بقرينة المقام.

521 - عنه، عن أحمد، عن علي بن المستورد النخعي، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن من الملائكة الذين في السماء الدنيا ليطلعون على الواحد والاثنين والثلاثة وهم يذكرون فضل آل محمد (عليهم السلام) فيقولون: أما ترون هؤلاء في قلتهم وكثرة عدوهم يصفون فضل آل محمد (عليهم السلام) فتقول الطائفة الاخرى من الملائكة: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

* الأصل:

522 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإن الناس لا يتحملون ما تحملون.

ص:511

* الشرح:

قوله: (يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإن الناس لا يتحملون ما تحملون) كان المراد بالناس والشيعة ضعفاء الشيعة فإنهم لا يقدرون أن يتحملوا ما يتحمله العلماء والأقوياء، وقد مر في كتاب الكفر والإيمان عن أبى جعفر (عليه السلام) «أن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ست ومنهم على سبع فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو، وعلى صاحب الثلاث أربعا لم يقو، وعلى صاحب الأربع خمسا لم يقو، وعلى صاحب الخمس ستا لم يقو، وعلى صاحب الستة سبعا لم يقو، وعلى هذه الدرجات، وفي حديث آخر طويل عن أبي عبد الله (عليه السلام) «وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه مالا يطيق فتكسره ومن كسر مؤمنا فعليه جبره».

* الأصل:

523 - محمد بن أحمد القمي، عن عمه عبد الله بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان، عن حسين الجمال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى (ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) قال: هما. ثم قال: وكان فلان شيطانا.

* الشرح:

قوله: (عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا) قيل: ندسهما انتقاما منهما، وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل (ليكونا من الأسفلين) ذلا أو مكانا (قال: هما، ثم قال: وكان فلانا شيطانا) الظاهر أنه عليه السلام فسر الانس بهما والجن بالثالث لأنه كان بمنزلة الشيطان يظهر الكفر ويأمر بالعصيان وتفسيرهما بشياطين النوعين قريب منه وهذا التفسير أولى من تفسيرهما بإبليس وقابيل باعتبار أنهما سنا الكفر والقتل وكما نزلت هذه الآية في اتباع الثلاثة نزلت ما يتلوها في اتباع علي (عليه السلام) وهو قوله تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا - أي بولاية علي (عليه السلام) - تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون).

* الأصل:

524 - يونس، عن سورة بن كليب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى (ربنا أرنا

ص:512

اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) قال: يا سورة! هما والله هما - ثلاثا - والله يا سورة إنا لخزان علم الله في السماء وإنا لخزان علم الله في الأرض.

* الشرح:

قوله: (والله يا سورة إنا لخزان علم الله في السماء، وإنا لخزان علم الله في الأرض) أي إنا خزان علم الله في أهل السماء وأهل الأرض أو في أمور السماء وأمور الأرض أو حال كوننا في السماء وفي الأرض يعني في عالم المثال وعالم الشهود. قوله:

* الأصل:

525 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيس، عن الحسين بن سعيد، عن سليمان الجعفري قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى: (إذ يبيتون مالا يرضى من القول) قال: يعني فلانا وفلانا وأبا عبيدة بن الجراح.

* الشرح:

(إذ يبيتون مالا يرضى من القول) أي يدبرونه ليلا لئلا يطلع عليه أحد (قال: يعني فلانا وفلانا وأبا عبيدة بن الجراح تعاهدوا على أن يخرجوا الخلافة من آل الرسول وشاركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة والمغيرة بن شعبة كما مر.

* الأصل:

526 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، وغيره، عن منصور بن يونس، عن ابن أذينة، عن عبد الله بن النجاشي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله عز وجل (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) يعني والله، فلانا وفلانا، (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) يعني: والله، النبي (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليه السلام) مما صنعوا أي لو جاؤوك بها يا علي فاستغفروا الله مما صنعوا واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو والله علي بعينه (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) على لسانك يا رسول الله يعني به من ولاية علي (ويسلموا تسليما) لعلي.

ص:513

* الشرح:

قوله: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله عز وجل أولئك الذين) إشارة إلى الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهم أهل النفاق بعلي (عليه السلام) المتعاهدون بسلب الخلافة عنه (يعلم الله ما في قلوبهم) من النفاق والإنكار له (عليه السلام) (فأعرض عنهم) أي عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعرفهم (وعظهم) موعظة حسنة لعلهم يرجعون (وقل لهم في أنفسهم) قيل في الخلوة بهم لأن النصح في السر أنفع (قولا بليغا) في الترغيب والترهيب لعله يؤثر في نفوسهم (يعني والله فلانا وفلانا) ومن وافقهما في رد الخلافة، وفيه إشارة إلى أنهم هم المنافقون المذكورون (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله) أي بسبب إذنه في طاعته أو بأمره بها وقد جاء في بعض الروايات تفسير الإذن بالأمر، قال القاضي: كأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه ولم يطعه كان كافرا لأنه لم يقبل رسالته (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) بالنفاق والتعاهد على رد الخلافة (جاؤوك) تايبين عن ذلك معتذرين (فاستغفروا الله) بالتوبة والرجوع إليه (واستغفر لهم الرسول) بالشفاعة وطلب التجاوز عن ذنوبهم (لوجدوا الله توابا رحيما) قال القاضي: لعلموه قابلا لتوبتهم وإن فسر (وجد) بصادف كان توابا حالا ورحيما بدلا منه أو حالا من ضمير فيه (يعني والله النبي (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليه السلام) مما صنعوا) يحتمل وجهين، أحدهما: أنه تفسير لقوله تعالى (إذ ظلموا أنفسهم) يعني: أنهم ظلموهما (عليهما السلام) مما صنعوا من رد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) وإنكار ولاية علي (عليه السلام) ولكن ثمرة الظلم لما كانت عائدة إليهم نسب الظلم إلى أنفسهم، وثانيهما: أنه تفسير للرسول والخطاب في جاؤوك وهذا أنسب بقوله: (أي لو جاؤوك يا علي فاستغفروا مما صنعوا واستغفر لهم الرسول) أي مما صنعوا حذف بقرينة السابق (لوجدوا الله توابا رحيما) (فلا وربك) لا زائدة لتأكيد القسم كما قيل (حتى يحكموك) أي يجعلونك حاكما تقول حكمته في مالي تحكيما إذا جعلت الحكم اليه (فيما شجر بينهم) أي فيما اختلف من الأمر بينهم وتنازعوا فيه (فقال أبو عبد الله (عليه السلام) هو والله على بعينه) أي هو المراد بالخطاب في يحكموك (ثم لا يجدوا في أنفسهم) بعد تحكيمهم إياه (حرجا) أي ضيقا وشبه إنكار (مما قضيت على لسانك يا رسول الله) أشار إلى أن الخطاب في «قضيت» له (عليه السلام) ولولا هذا التفسير لأمكن جعل الخطاب لعلي عليه السلام (يعني به) أي الموصول (ولاية علي عليه السلام) وعلى تقدير امكان ما ذكر يراد بالموصول قضاءه وحكمه (ويسلموا تسليما لعلي) (عليه السلام) في قضائه وحكمه فيما اختلفوا فيه وفي غيره، أو المراد بالتسليم الإخبات له وهو الخشوع والتواضع وقد فسره به الصادق (عليه السلام) في كتاب الحجة. واعلم أن كون الخطاب في هذه الآية لعلي (عليه السلام) مما ذكره المصنف في باب التسليم وفضل المسلمين

ص:514

من كتاب الحجة بإسناده عن زرارة أو بريد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: «لقد خاطب الله أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قوله: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك - الآية) ولا خفاء في أن هذا أولى من كون الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) إذ كان الأنسب حينئذ أن يقول: واستغفرت لهم.

* الأصل:

527 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: ربما رأيت الرؤيا فاعبرها والرؤيا على ما تعبر.

* الشرح:

قوله: (سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول ربما رأيت الرؤيا فأعبرها والرؤيا على ما تعبر) دل على أن الرؤيا ينبغي أن لا يعبرها إلا عالم وإنما تقع على ما عبرت به وعلى شرف العلم بها لما فيه من العلم بالغيب والأسرار الربوبية، وقد ورد أنها جزء من أجزاء النبوة ودل على شرفه أيضا حكاية يوسف (عليه السلام).

* الأصل:

528 - عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن الحسن بن جهم قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الرؤيا على ما تعبر، فقلت له: إن بعض أصحابنا روى أن رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن امرأة رأت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن جذع بيتها قد انكسر فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقصت عليه الرؤيا فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): يقدم زوجك ويأتي وهو صالح وقد كان زوجها غائبا فقدم كما قال النبي (صلى الله عليه وآله) ثم غاب عنها زوجها غيبة اخرى فرأت في المنام كأن جذع بيتها قد انكسر فأتت النبي (صلى الله عليه وآله) فقصت عليه الرؤيا فقال لها: يقدم زوجك ويأتي صالحا فقدم على ما قال: ثم غاب زوجها ثالثة فرأت في منامها أن جذع بيتها قد انكسر فلقيت رجلا أعسر فقصت عليه الرؤيا فقال لها الرجل السوء: يموت زوجك: قال: فبلغ] ذلك [النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ألا كان عبر لها خيرا.

* الشرح:

قوله (فقلت له) تصديقا لقوله (عليه السلام) «الرؤيا على ما تعبر» (أن بعض أصحابنا روى أن رؤيا الملك) أن ملك مصر (كانت أضغاث أحلام - اه) وهي التي لا يصح تأويلها لاختلاطها من الضغث بالكسر:

ص:515

وهو قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس وإنما فسرها يوسف (عليه السلام) فوقعت على نحو تفسيره والظاهر أن رؤياه كان مطابقة لما في الواقع إلا أن اختلاط بعض أجزائها ببعض أعجز المعبرين عن الانتقال منها إلى مدلولها، ويمكن أن يراد بالملك أي ملك كان لتشوش خواطر الملوك وتكثر خيالاتهم فتكون رؤياهم مختلطة غالبا والأول أنسب بالسابق وبكانت، والجذع بالكسر: ساق النخلة، والرجل الأعسر: الشديد أو الشوم، وفي هذا الخبر وما قبله دلالة واضحة على أن الرؤيا بالأول عابر وعلى نحو ما وقع به العبارة أولا إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا، وهذا ينافي ما مر من أن أبا حنيفة عبر رؤيا محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) على خلاف ما هو في الواقع ثم عبرها أبو عبد الله (عليه السلام) بعد خروج أبي حنيفة بما هو في الواقع وقد وقع ما عبره (عليه السلام) بعد أيام قلائل ولا يمكن الجمع بينهما بأن الرؤيا لأول عابر إذا أصاب وجه العبارة وإلا فهي لمن أصابها بعده، بل الجمع أن ذلك محمول على الإيجاب الجزئي إذ قد يؤثر التعبير في النفس قبضا أو انبساطا من باب التطير أو التفأل فيؤثر لأجل ذلك كما قال، نظير ذلك في المسحور من قال: السحر لا حقيقة له وقد ورد في بعض الروايات أن الطيرة لا أثر لها مع أنه ورد في بعضها كيفية الاستعاذة منها ليتخلص من شرها من يجد في نفسه منها شيئا وبالجملة لأمثال ذلك قد يكون تأثير في النفوس وقد لا يكون، لا يقال الرؤيا لا يغيرها عبارة عابر وكيف يغير لما جاءت نسخته من أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ قول أحد أو فعله لأنا نقول ذلك ممنوع إذ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وبالجملة تغيرها مثل تغير البلايا والأمراض ونحوها بالدعاء والصدقات، فإن قلت: قد سمعت هذه المرأة تعبير رؤياها من النبي (صلى الله عليه وآله) مرتين فلم قصت على رجل أعسر قلت بعثها على ذلك طلب الشعف والسرور لظنها أن ذلك الرجل يعبر لها كما عبر لها النبي (صلى الله عليه وآله) أو اعتقدت أن الرؤيا الواحدة قد يختلف تعبيرها بحسب الأوقات المختلفة أو كان قصدها مجرد الأخبار دون الاستعبار.

* الأصل:

529 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه،] جميعا [عن ابن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام) أن رسول الله كان يقول إن رؤيا المؤمن ترف بين السماء والأرض على رأس صاحبها حتى يعبرها لنفسه أو يعبرها له مثله فإذا عبرت لزمت الأرض فلا تقصوا رؤياكم إلا على من يعقل.

* الشرح:

(فلا تقصوا رؤياكم إلا على من يعقل) المراد بالعاقل: العالم بالتعبير القادر على

ص:516

الانتقال من الأصل إلى الفرع ومن الجلي إلى الخفي ومن الظاهر إلى الباطن أو الأعم من ذلك وذلك لئلا يعبرها له بما يحزنه وقد تخرج الرؤيا على نحو ما تعبر كما دل عليه الحديث السابق، وبالجملة الرؤيا تنقسم إلى ما هو حسن في الظاهر والباطن وإلى ما هو مكروه فيهما وإلى ما هو حسن في الظاهر ومكروه في الباطن وإلى العكس والمعبر لابد أن يكون عاقلا عالما بطرق التعبير إما بالتجربة أو بالإلهام أو بالسماع من أهل التجربة والإلهام، وقال علماء التعبير: طرق التعبير أربعة: الاشتقاق كاشتقاق العاقبة من رؤية العقبة والرفعة من رؤية الرافع، الثاني: ما يعبر بمثاله في الشكل أو في الصفة مثل أن يعبر الرطب بالدين لأنه حلو في القلوب ولأن الدين كمل بعد تدريج كما أن الرطب حلو كمل بعد تدريج من الطلع إلى أن صار حلوا، الثالث: تعبيره بالمعنى المقصودي من ذلك الشيء المرئي كدلالة فعل السفر على السفر وفعل السوق على المعيشة وفعل الدار على الزوجة والجارية. الرابع:

التعبير بما تقدم له ذكر في القرآن والسنة والشعر أو كلام العرب وأمثالها أو كلام الناس وأمثالهم أو خبر معروف أو كلمة حكمة وذلك كتعبير الخشبة بالمنافق لقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة)، وتعبير الفأرة بالفاسق لأنها تسمى في الحديث فويسقة، وتعبير الزجاجة بفم المرأة لتسمية بعض الشعراء إياه بذلك إلى غير ذلك من الاعتبارات والمناسبات التي لا يقدر على استنباطها الجاهل، فربما يكون الرؤيا مكروهة في الظاهر حسنا في الباطن والرائي محزون بمراعاة ظاهرها فإذا عبرها الجاهل نظرا إلى ظاهرها زاده غما على غم ومع ذلك قد يؤثر تأويله بصرفه إلى المكروه فيقع الرائي في مكروه بمقتضى تأويله.

* الأصل:

530 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الرؤيا لا تقص إلا على مؤمن خلا من الحسد والبغي.

* الشرح:

قوله: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الرؤيا لا تقص إلا على مؤمن خلا من الحسد والبغي) فإن الغالب في الموصوف بهما أنه يعبر الرؤيا بما يوجب ضرر الرائي وكراهته وتشوش نفسه عاجلا وآجلا أما عاجلا فظاهر لأن النفس معتادة بالانقباض عند سماع مالا يوافقها من المكاره وأما آجلا فلأنه ربما يقع ما عبر به إذ للتعبير مدخل عظيم في وقوعه كما مر ولو لم يقع فلا شبهة في أنه قد يبطىء وقوع

ص:517

خلافه وهو ما تقتضيه رؤياه في نفس الأمر فهو في تلك المدة مشوش مغموم لتجوزه ووقوع ذلك التعبير.

* الأصل:

531 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان ابن عثمان، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل يقال له: ذو النمرة وكان من أقبح الناس، وإنما سمي ذو النمرة من قبحه فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أخبرني ما فرض الله عز وجل علي؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): فرض الله عليك سبعة عشر ركعة في اليوم والليلة وصوم شهر رمضان إذا أدركته والحج إذا استطعت إليه سبيلا والزكاة وفسرها له، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا ما أزيد ربي على ما فرض علي شيئا؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ولم يا ذا النمرة؟! فقال كما خلقني قبيحا قال: فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تبلغ ذا النمرة عنه السلام وتقول له: يقول لك ربك تبارك وتعالى: أما ترضى أن أحشرك على جمال جبرئيل يوم القيامة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا ذا النمرة هذا جبرئيل يأمرني أن ابلغك السلام ويقول لك ربك: أما ترضى أن أحشرك على جمال جبرئيل؟ فقال: ذو النمرة فإني قد رضيت يا رب فوعزتك لأزيدنك حتى ترضى.

* الشرح:

قوله: (ويقال له: ذو النمرة) في القاموس، النمرة بالضم: النكتة من أي لون كان والأنمر ما فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء وهي نمراء وإنما أقسم أن لا يفعل الخيرات وقد صح النهي عنه لأن النهي لم يبلغه أو بلغه وعلم أن الحلف على ذلك غير منعقد لكنه لم يرد القسم حقيقة بل أتى بصورته ترويجا لمقصوده وهو عدم الإتيان بغير الفرائض.

ص:518

حديث الذي أحياه عيسى (عليه السلام)

* الأصل:

532 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي جميلة، عن أبان بن تغلب وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل: هل كان عيسى بن مريم أحيا أحدا بعد موته حتى كان له أكل ورزق ومدة وولد؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك وتعالى وكان عيسى (عليه السلام) يمر به وينزل عليه وإن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت إليه امه فسألها عنه، فقالت: مات يا رسول الله، فقال: أفتحبين أن تراه؟ قالت: نعم: فقال لها: فإذا كان غدا] ف [- آتيك حتى احييه لك بإذن الله تبارك وتعالى، فلما كان من الغد أتاها فقال لها: إنطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى (عليه السلام) ثم دعا الله عز وجل فانفرج القبر وخرج ابنها حيا فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى (عليه السلام) فقال له عيسى: أتحب أن تبقى مع امك الدنيا؟ فقال: يا نبي الله بأكل ورزق ومدة أم بغير أكل ولا رزق ولا مدة؟ فقال له عيسى (عليه السلام): بأكل ورزق ومدة وتعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك؟ قال: نعم إذا، قال: فدفعه عيسى إلى امه فعاش عشرين سنة وتزوج وولد له.

* الشرح:

قوله: (حديث الذي أحياه عيسى (عليه السلام)) فيه دلالة واضحة على استحباب زيارة الأحباء وتفقد أحوالهم وعلى صحة الرجعة وقد دل عليهما روايات اخر.

533 - ابن محبوب، عن أبي ولاد وغيره من أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) فقال: من عبد فيه غير الله عز وجل أو تولى فيه غير أولياء الله فهو ملحد بظلم وعلى الله تبارك وتعالى أن يذيقه من عذاب أليم.

* الأصل:

534 - ابن محبوب، عن أبى جعفر الأحول، عن سلام بن المتسنير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) قال: نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وحمزة وجعفر وجرت في الحسين (عليهما السلام) أجمعين.

ص:519

* الشرح:

قوله: (في قول الله تعالى الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) فيه مبالغة لمدحهم وتأكيد له ولكون إخراجهم بغير حق حيث علق اتصافهم بصفة ذم مقتضية لإخراجهم على هذه الصفة وهو قولهم «ربنا الله» على تقدير كونها صفة ذم وهذا التقدير محال لأن تلك الصفة عن أكمل الصفات الحسنة والمعلق على المحال محال فاتصافهم بصفة ذم مقتضية للإخراج محال، والاستثناء على هذا التقدير متصل ويمكن أن يكون منقطعا فإن إرادة الاستثناء بعد نفي جميع صفات الذم عنه، وهو المستفاد من قوله (بغير حق) يوهم استثناء شيء منها بناء على أن أصل الاستثناء هو الاتصال فلما لم يوجد شيء منها ذكر صفة مدح بعدها فصار الاستثناء منقطعا ووقع المدح على المدح.

* الأصل:

535 - ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن يزيد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا» قال: فقال: إن لهذا تأويلا يقول: بماذا اجبتم في أوصيائكم الذين خلفتموهم على اممكم؟ قال: فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

* الشرح:

قوله: (يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا - اه) دل على أنه كانت للرسل أوصياء فكيف يتخلف تلك عن خاتم الأنبياء وعلى أن الله تعالى يسأل عباده عن متابعتهم ومخالفتهم، ثم الظاهر أن الرسل يشمل رسولنا (صلى الله عليه وآله) فحينئذ قوله (فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا) ينافي الأخبار الدالة على عرض الأعمال عليه (صلى الله عليه وآله) والأخبار الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله) أخبر وصيه بما يفعلون به بعده، فلابد من تخصيص الرسل بغيره (صلى الله عليه وآله) أو تخصيص العلم المنفي بالعلم المخصوص وهو العلم بطريق المشاهدة والعيان أو القول بأن ذلك القول منهم تخشع وتذلل وإظهار العجز بمشاهدة جلال الله تعالى مع علمه الشامل لكل صغير وكبير فكان علمهم في جنبه ليس بعلم، وأما القول بأن العرض عليه عرض مجمل فيقال عملت أمتك كذا أو عرض من غير تعيين العامل فبعيد جدا يظهر ذلك لمن تأمل في الأخبار الدالة على العرض.

ص:520

حديث إسلام علي (عليه السلام)

* الأصل:

536 - ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (عليهما السلام): ابن كم كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم أسلم؟ فقال: أو كان كافرا قط؟! إنما كان لعلي (عليه السلام) حيث بعث الله عز وجل رسوله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين ولم يكن يومئذ كافرا ولقد آمن بالله تبارك وتعالى وبرسوله (صلى الله عليه وآله) وسبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله) وإلى الصلاة بثلاث سنين وكانت أول صلاة صلاها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الظهر ركعتين وكذلك فرضها الله تبارك وتعالى على من أسلم بمكة ركعتين ركعتين وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصليها بمكة ركعتين ويصليها علي (عليه السلام) معه بمكة ركعتين مدة عشر سنين حتى هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة وخلف عليا (عليه السلام) في امور لم يكن يقوم بها أحد غيره وكان خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة في أول يوم من ربيع الأول وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس فنزل بقبا فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، ثم لم يزل مقيما ينتظر عليا (عليه السلام) يصلي الخمس صلوات ركعتين ركعتين، وكان نازلا على عمرو بن عوف فأقام عندهم بضعة عشر يوما يقولون له: أتقيم عندنا فنتخذ لك منزلا ومسجدا؟ فيقول: لا، إني أنتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم علي وما أسرعه إن شاء الله، فقدم علي (عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله) في بيت عمرو بن عوف، فنزل معه، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قدم عليه علي (عليه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (عليه السلام) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخط لهم مسجدا ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين، وخطب خطبتين، ثم راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي (عليه السلام) معه لا يفارقه، يمشي بمشيه وليس يمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به ورسول الله (صلى الله عليه وآله) واضع لها زمامها حتى انتهت إلى الموضع الذي ترى - وأشار بيده إلى باب مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يصلي عنده بالجنائز - فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض فنزل رسول الله، وأقبل أبو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله ونزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) معه حتى بنى له مسجده بنيت له مساكنه ومنزل علي (عليه السلام) فتحولا إلى منازلهما.

ص:521

فقال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين (عليه السلام): جعلت فداك كان أبو بكر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أقبل إلى المدينة فأين فارقه؟ فقال: إن أبا بكر لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قبا فنزل بهم ينتظر قدوم علي (عليه السلام) فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فان القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم ههنا تنتظر عليا فما أظنه يقدم عليك إلى شهر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلا ما أسرعه ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل وأحب أهل بيتي إلي فقد وقاني بنفسه من المشركين: قال: فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي (عليه السلام) وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) وأول خلاف على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانطلق حتى دخل المدينة، وتخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقبا ينتظر عليا (عليه السلام).

قال: فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) فمتى زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة من علي (عليهما السلام) فقال: بالمدينة بعد الهجرة بسنة وكان لها يومئذ تسع سنين، قال: علي بن الحسين: ولم يولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من خديجة (عليها السلام) على فطرة الاسلام إلا فاطمة (عليها السلام) وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة بسنة ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئم المقام بمكة ودخله حزن شديد وأشفق على نفسه من كفار قريش فشكا إلى جبرئيل (عليه السلام) ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة فليس لك اليوم بمكة ناصر وأنصب للمشركين حربا.

فعند ذلك توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، فقلت له: فمتى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم عليه اليوم؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام وكتب الله عز وجل على المسلمين الجهاد] و [زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين وفي العصر ركعتين وفى المغرب ركعة وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقر الفجر على ما فرضت لتعجيل نزول ملائكة النهار من السماء ولتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء، وكان ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة الفجر فلذلك قال عز وجل: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) يشهده المسلمون ويشهده ملائكة النهار وملائكة الليل.

* الشرح:

قوله: (ابن كم كان على بن أبى طالب يوم أسلم فقال أو كان كافر قط - اه) أفاد (عليه السلام) أن إيمانه التكليفي كان متصلا بإيمانه الفطري ولم يكن مسبوقا بالكفر أصلا، واندفع به ما ذهب إليه بعض النواصب من أن إسلامه لم يكن معتبرا لكونه دون البلوغ وتوضيح الدفع أنه (عليه السلام) إن كان بالغا حين

ص:522

آمن وهو يمكن في عشر سنين سيما في البلاد الحارة فقد حصل الغرض واندفع ما ذكر وإن لم يكن بالغا فلا يتصور الكفر في حقه (عليه السلام) لكونه مولودا على الفطرة المستقيمة داخلا في طاعة الله وطاعة رسوله، مستمرا عليها على وجه الكمال فإيمانه التكليفي وارد على نفس قدسية غير متدنسة بأدناس الجاهلية وعبادة الأصنام والعقايد الباطلة ولا ريب في أن هذا الإيمان أكمل من إيمان من آمن عند البلوغ بلا سابقة خيرات فضلا عن إيمان من آمن بعد علو السن وعبادة الأصنام وشرب المسكرات ولا يقدم إلى إنكار ذلك إلا جاهل متعصب (وسبق الناس كلهم إلى الإيمان - اه) هذا هو المتفق عليه بين الخاصة والعامة وقد ذكرنا ما يدل عليه من أحاديثهم وأقوالهم في مواضع لغرض ما ولا بأس أن نذكر هنا شيئا منها فنقول: قال القرطبي شارح مسلم في شرح الأحاديث الدالة على فضائله (عليه السلام): هو أول من أسلم لحديث (أولكم واردا علي الحوض، أولكم إسلاما علي ابن أبي طالب» وعن علي رضي الله عنه قال: «عبدت الله تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بخمس سنين» وعنه «ما كان يصلي مع رسول الله غيري وغير خديجة» واختلف في سنه رضي الله عنه حين أسلم فقيل خمس سنين، وقيل ثمان، وقيل اثني عشر، وقيل ثمانية عشر، وشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) المشاهد كلها إلا تبوك فإن رسول الله خلفه مع أهله وقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى لكن لا نبي بعدي» وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة، وله من الشجاعة والعلم والحلم والزهد والورع وكرم الأخلاق ما لا يسعه كتاب، بويع بالخلافة في اليوم الذي قتل فيه عثمان انتهى. وقال الآمدي: لا يخفى أن عليا رضي الله عنه كان مستجمعا لخلال شريفة ومناقب منيفة بعضها كاف في استحقاق الإمامة، وقد اجتمع فيه من حميدة الصفات وأنواع الكمالات ما تفرق في غيره من الصحابة حتى قيل إنه من أشجع الصحابة، وأعلمهم، وأزهدهم، وأفصحهم وأسبقهم إيمانا وأكثرهم جهادا وأقربهم نسبا وصهرا منه كان معدودا في أول الجريدة وسابقا إلى كل فضيلة، وقد قال فيه رباني هذه الأمة ابن عباس وقدسا له معاوية عنه قال كان وكان فلم يبق محمدة من محامد الدين والدنيا إلا وصفه بها مع ما ورد من الآثار المنبهة على مناقبه، هذا صفاته وأما إثبات إمامته فبإجماع الأمة بعد مقتل عثمان عليها من غير منازع انتهى.

أقول: وقد صرحوا بأن الأسبق في الإسلام أفضل من غيره فيما رواه مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحرث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة» قال الهروي:

المراد بالدور هنا: القبائل وتفضيلهم هكذا إنما هو بحسب سبقهم إلى الإسلام وفيه جواز التفضيل وأنه ليس بغيبة، وقال عياض: تفضيلهم بحسب السبقية إلى الإسلام وأعمالهم فيه وهو

ص:523

خبر من الشارع عمالهم عند الله من المنزلة فلا يقدم من أخر ولا يؤخر من قدم، وقال الآبي: السبقية في الإسلام ملزومة لكثرة الأعمال الموجبة للتفضيل (ويصليها علي (عليه السلام) بمكة ركعتين معه مدة عشر سنين) يعني بعد ثلاث سنين التي سبق الناس فيها (وكان خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة في أول يوم من ربيع الأول وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث وقدم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس يفهم منه ومن تعيين الشهر أنه دخل يوم الاثنين عند زوال الشمس ويفهم من قوله فأقام عندهم بضعة عشر يوما مع قوله وتحول من قبا إلى بني سالم يوم الجمعة أنه أقام عندهم سبعة عشر يوما، وأنه دخل المدينة يوم التاسع والعشرين من الشهر المذكور، وروى مسلم عن أنس بن مالك «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدم المدينة فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. فلما ذكره ابن إسحاق في سيره أنه أقام فيهم أربعة أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم فيها ورحل عنهم يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فصلى بهم الجمعة ليس بشيء لأنه ليس موافقا لرواية العامة والخاصة (فخط لهم مسجدا ونصب قبلته فصلى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين) دل على أن علي الإمام وضع مسجد الجماعة تأسيا بالنبي (صلى الله عليه وآله) وكما يستحب له يستحب للجماعة أيضا لأن وضعه والاجتماع فيه من شعائر الإسلام ولا يدل قوله (فصلى بهم فيه الجمعة) على أن الجمعة مشروطة بوقوعها في المسجد خلافا لأكثر العامة حيث صرحوا بأن اتخاذ المسجد فرض على قوم استوطنوا موضعا لأن الجمعة فرض وشرطها الجامع والشرطية عندنا وعند بعضهم باطلة (ووضعت جرانها على الأرض) جران البعير بالكسر مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره (وهم يستريثون) أي يستبطئون من الريثة وهو الإبطاء (ولست أريم) رام يريم:

إذا برح وزال عن مكانه (فمتى زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة من علي (عليهما السلام) فقال بالمدينة بعد الهجرة بسنة) قال عياض: تزوج فاطمة رضي الله عنها عليا رضي الله عنه بعد أحد وبنائها بعد العقد بسبعة أشهر وكان سنها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف وسن علي رضى الله عنه يومئذ إحدى وعشرون سنة والأصح أنه كان لها يومئذ تسع سنين.

وقوله: (زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة سبع ركعات) هكذا ذكره الصدوق أيضا في الفقيه وفيه دلالة واضحة على أن ثالثة المغرب زيدت في المدينة وهذا ينافي ما رواه الصدوق أيضا في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما صلى المغرب بلغت مولد فاطمة (عليها السلام) فأضاف إليها ركعة شكرا لله عز وجل فإنه صريحة في أنها زيدت في مكة وتخصيص الزيادة في مكة به (صلى الله عليه وآله) وإيجاب الأمر بها في المدينة وإن كان ممكنا لكني لم أقف فيه على قول من الأصحاب (وأقر الفجر على ما

ص:524

فرضت لتعجيل نزول ملائكة النهار من السماء ولتعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء) ربما يتوهم أنه لا دخل لتعجيل النزول في عدم الزيادة في الفجر ويمكن دفع ذلك بأن تعجيل العروج لانقضاء النوبة بطلوع الفجر وتعجيل النزول متلازمان لئلا يبقى المكلف بلا حفظة ولو في آن وتعجيل العروج سبب لعدم الزيادة ومستلزم له فوقع التلازم بين الثلاثة، فكما يمكن أن يقال تعجيل العروج مستلزم لعدم الزيادة لاستحالة تخلف المعلول عن العلة كذلك يمكن أن يقال:

تعجيل النزول مستلزم لاستحالة تخلف أحد المتلازمين عن الآخر فليتأمل.

* الأصل:

538 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأبو على الأشعري عن محمد بن عبد الجبار جميعا، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج، عن زرارة قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فذكر بني أمية ودولتهم، فقال له بعض أصحابه: إنما نرجو أن تكون صاحبهم وأن يظهر الله عز وجل هذا الأمر على يديك، فقال: ما أنا بصاحبهم ولا يسرني أن أكون صاحبهم إن أصحابهم أولاد الزنا، إن الله تبارك وتعالى لم يخلق منذ خلق السماوات والأرض سنين ولا أياما أقصر من سنيهم وأيامهم إن الله عز وجل يأمر الملك الذي في يده الفلك فيطويه طيا.

* الشرح:

قوله: (إن أصحابهم أولاد الزنا - اه) لما مر مرارا أن إمائهم ومهور نسائهم مال الإمام (عليه السلام) وهم مهلكوه ظلما وقد مر وجه قصر أيامهم وسنيهم بطي الفلك وسرعة حركته سابقا فلا نعيده.

* الأصل:

539 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير: عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ولد المرداس من تقرب منهم أكفروه ومن تباعد منهم أفقروه ومن ناواهم قتلوه ومن تحصن منهم أنزلوه ومن هرب منهم أدركوه، حتى تنقضى دولتهم.

* الشرح:

قوله: (قال: ولد المرداس - اه) أريد بالمرداس: السفاح وهو أول خليفة من ولد العباس من ردس القوم رماهم بحجر: والمرداس: شيء صلب يدرك به الحائط والجبل ونحوهما وإطلاقه عليه من باب الاستعارة.

* الأصل:

ص:525

540 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وأحمد بن محمد الكوفي عن علي بن عمر، وابن أيمن جميعا، عن محسن بن أحمد بن معاذ، عن أبان بن عثمان، عن بشير النبال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالسا إذ جاءته امرأة فرحب بها وأخذ بيدها وأقعدها ثم قال ابنة نبي ضيعه قومه، خالد ابن سناد دعاهم فأبوا أن يؤمنوا وكانت نار يقال لها: نار الحدثان تأتيهم كل سنة فتأكل بعضهم وكانت تخرج في وقت معلوم فقال لهم: إن رددتها عنكم تؤمنون؟ قالوا: نعم، قال: فجاءت فاستقبلها بثوبه فردها ثم تبعها حتى دخلت كهفها ودخل معها وجلسوا على باب الكهف وهم يرون ألا يخرج أبدا فخرج وهو يقول: هذا هذا وكل هذا من ذا زعمت بنو عبس أني لا أخرج وجبيني يندي؟! ثم قال: تؤمنون بي؟ قالوا: لا، قال: فإني ميت يوم كذا وكذا فإذا أنا مت فادفنوني فإنها ستجيء عانة من حمر يقدمها عير أبتر حتى يقف على قبري فانبشوني وسلوني عما شئتم، فلما مات دفنوه وكان ذلك اليوم إذ جاءت العانة اجتمعوا وجاؤوا يريدون نبشه فقالوا: ما آمنتم به في حياته فكيف تؤمنون به بعد موته؟ ولئن نبشتموه ليكونن سبة عليكم فاتركوه فتركوه.

* الشرح:

قوله: (فرحب بها - اه) أي قال لها: مرحبا وهذه كلمة يقال للبر والتعظيم وفيه دلالة على جواز أن يقول الرجل للمرأة مرحبا وأخذ يدها إذا كان مأمونا صالحا وعلى جواز قعودها مع الرجال لم يكونوا من أهل ريبة وعلى استحباب تعظيم شخص لأجل شرافة الآباء والأجداد ففيه حث عظيم على تعظيم أولاد نبينا (صلى الله عليه وآله) (فخرج وهو يقول: هذا هذا) الظاهر أنهما مبتدأ وخبر، الأول إشارة إلى الرد، والثاني إلى الدخول، أي ردها الذي ضمنت لكم دخولها في الكهف ويحتمل أن يكون كل منهما مبتدأ خبره محذوف بقرينة المقام أي هذا صنعي أو شأني أو خروجي والتكرير للتأكيد ورفع الاستبعاد (وكل هذا موذ) إشارة إلى كل واحد من الجالسين على باب الكهف وحكم عليه بأنه موذ مثل هذه النار، وفي بعض النسخ من ذا بدل موذ أي كل واحد من مجيء النار وردها ودخولها في الكهف ودخولي فيه وخروجي منه من الله عز وجل (أزعمت بنو عبس أني لا أخرج - اه) الهمزة للتوبيخ وعبس بفتح العين وسكون الباء الموحدة: اسم لجدهم أو مخفف عبد قيس (وجبيني يندى) أي يعرق من ندي كرضي إذا ابتل، والظاهر أنه عطف على اسم أن فهو داخل تحت توبيخهم بما زعموا أن النار تحرقه أو توجب مشقته وتؤثر فيه ولو بعرق الجبين، والعانة: الأتان والقطيع من حمر الوحش; والعير بالفتح: الحمار وغلب على الوحشي، والأبتر: مقطوع الذنب، والسبة بالضم والتشديد: العار يقال صار هذا الأمر سبة عليه أي عارا نسب به.

ص:526

* الأصل:

541 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصنع الناس ما صنعوا وخاصم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح الأنصار فخصموهم بحجة علي (عليه السلام) قالوا: يا معشر الأنصار قريش أحق بالأمر منكم لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قريش والمهاجرين منهم إن الله تعالى بدأ بهم في كتابه وفضلهم وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الأئمة من قريش، قال سلمان رضي الله عنه: فأتيت عليا (عليه السلام) وهو يغسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بما صنع الناس وقلت: إن أبا بكر الساعة على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والله ما يرضى أن يبايعوه بيد واحدة إنهم ليبايعونه بيديه جميعا بيمينه وشماله فقال لي: يا سلمان هل تدري من أول من بايعه على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: لا أدري، إلا أني رأيت في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار وكان أول من بايعه بشير بن سعد وأبو عبيدة بن الجراح ثم عمر، ثم سالم قال: لست أسألك عن هذا ولكن تدري أول من بايعه حين صعد على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: لا ولكني رأيت شيخا كبيرا متوكئا على عصاه بين عينيه سجادة شديد التشمير صعد إليه أول من صعد وهو يبكي ويقول: الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى رأيتك هذا المكان ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، ثم نزل فخرج من المسجد فقال علي (عليه السلام): هل تدري من هو؟ قلت: لا ولقد ساءتني مقالته كأنه شامت بموت النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال ذاك إبليس لعنه الله أخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إياى للناس بغدير خم بأمر الله عز وجل فأخبرهم أني أولى بهم من أنفسهم وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب فأقبل إلى إبليس أبالسته ومردة أصحابه فقالوا: إن هذه أمة مرحومة ومعصومة ومالك ولا لنا عليهم سبيل قد أعلموا إمامهم ومفزعهم بعد نبيهم، فانطلق إبليس لعنه الله كئيبا حزينا، وأخبرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لو قبض أن الناس يبايعون أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد ما يختصمون، ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس لعنه الله في صورة رجل شيخ مشمر يقول كذا وكذا، ثم يخرج فيجمع شياطينه وأبالسته فينخر ويكسع ويقول: كلا زعمتم أن ليس لي عليهم سبيل فكيف رأيتم ما صنعت بهم حتى تركوا أمر الله عز وجل وطاعته وما أمرهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله: (لما قبض رسول الله وصنع الناس ما صنعوا) بيان ما صنعوا إجمالا ما ذكر صاحب كتاب

ص:527

إكمال الإكمال وهو من أعاظم علماء العامة، قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) انحاز الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة إلى سعد بن عبادة، واعتزل علي والزبير وطلحة في بيت، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر فأتى آت فقال: إن الأنصار انحازوا إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فإن كان لكم بأمر الناس فأدركوهم قبل أن يتم أمرهم ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيته لم يفرغ من شأنه قد أغلق أهله الباب دونه قال عمر فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى الأنصار حتى ننظر ما هم عليه فأتيناهم فإذا بين ظهرانيهم رجل مرسل فقلت من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: وجع فلما جلسنا قام خطيبهم ثم ذكر شيئا من فضائل الأنصار فلما سكت أردت أن أتكلم وقد أعددت في نفسي مقالة أعجبتني أن أقدمها، فقال لي أبو بكر: على رسلك يا عمر ستكفى الكلام فأقول ثم تقول بعدي ما بدا لك: فتكلم فوالله ما ترك كلمة أعجبتني إلا قالها أو مثلها أو أفضل منها، ثم قال: أما ما ذكرتم من خير فأنتم له أهل ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش أوسط العرب نسبا ودارا وقد بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق وكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته وذووا رحمه ونحن أهل النبوة والخلافة ونحن الأمراء وأنتم الوزراء وإخواننا وأحب الناس إلينا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم وأخذ بيد عمر وأبي عبيدة وكان بينهما فقال قائل من الأنصار:

منا أمير ومنكم أمير، وكثر اللغط وارتفعت الأصوات، قال عمر: حتى خفنا الاختلاف فقلت لأبي بكر: ابسط يدك فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ويردنا إلى سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، ثم نقل هذه القصة بطريق آخر قريب من المذكور إلا أنه قال: لما وضع أبو بكر يده على عمرو وأبي عبيدة وقال: أنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين قالا معا: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر فقال قائل من الأنصار: منا أمير ومنكم أمير وكثر اللغط حتى خيف أن تقع الفتنة وأوجد بعضهم بعضا فقام أسيد بن حضير وبشير بن سعد يستقبلان ليبايعوا أبا بكر فسبقهما عمر ثم بايعا معه ثم وثب الناس يبتدرون البيعة فما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فصعد المنبر فبايعه الناس وشغلوا الناس عن دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى كان آخر الليل من ليلة الثلاثاء وقد كان وفاته (صلى الله عليه وآله) نصف النهار من يوم الاثنين ثم أبو بكر لما حضرته الوفاة استخلف عمر وعمر لما حضرته الوفاة تركها شورى بين الستة وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف (فخصموهم بحجة علي (عليه السلام)) أي بحجة هي لعلي (عليه السلام) عليهم (في ظلة بني ساعدة) الظلة بالضم كهيئة: الصفة (بين عينيه سجاده) السجادة بالفتح: أثر السجود في الجبهة وفلان شديد التشمير شديد الاجتهاد للعبادة وهو يبكي، قال: بعض الأفاضل ولا يمتنع أن يكون بكاؤه حقيقة لأنه جسم

ص:528

ولعل بكاؤه لشدة سروره بموت النبي (صلى الله عليه وآله) وجلوس أبي بكر محله، وقال محيى الدين شارح مسلم: الشيطان جسم لطيف روحاني قد يتصور بصورة، وقال القرطبي: يجوز رؤيته وقوله تعالى (من حيث لا ترونهم) محمول على الغالب، ثم قال:

وقيل: إن رؤيته على صورته الأصلية ممتنعة على غير الأنبياء أو من خرقت له العادة وإنما يراه الناس في صورة غيرها كما جاء في الآثار، أقول: الآثار من طرق العامة والخاصة مستفيضة دالة على جواز رؤية الناس إياه في صورته الفرعية، وأما رؤيتهم إياه في صورته الأصلية كما دل (عليه السلام) كلام القرطبي وإن لم تكن ممتنعة عقلا لكنها لم يثبت لا عقلا ولا نقلا ولذلك قال المازري: هذه دعوى أن لم تكن لها مستند فهي مردودة نعم ثبوتها للأنبياء من باب خوارق العادة لاختصاصهم بالروح القدسية والقوة البصرية التي تدرك بها الأشياء التي هي محجوبة عن غيرهم وفي قوله (عليه السلام): أخبرني دليل على قوله ذاك إبليس وليس المقصود به رفع إنكار المخاطب لأن سلمان كان عالما بصدق مقالته في كل ما يقول بل المقصود به زيادة تقرير الحكم وتثبيته في ذهن المخاطب والمبالغة في حثه على التلقي بالقبول مع ما فيه من الإشعار بأنه (عليه السلام) كان عالما بهذا القضية ونقضهم العهد قبل الوقوع وبأن الشياطين لا يعلمون الأمور الكائنة قبل وقوعها وإلا لما حزنوا بأخذ الميثاق (فينخر) أي يمد الصوت في خياشيمه (ويكسع) أي يضرب دبره بيده أو رجله أو بكليهما، ويحتمل أن يكون هذا منه حقيقة لأنه جسم وأن يكون استعارة على سبيل التمثيل.

* الأصل:

542 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن سليمان، عن عبد الله بن محمد اليماني، عن مسمع بن الحجاج، عن صباح الحذاء، عن صباح المزني، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) يوم الغدير صرخ إبليس في جنوده صرخة فلم يبق منهم أحد في بر ولا بحر إلا أتاه فقالوا: يا سيدهم ومولاهم ماذا دهاك فما سمعنا لك صرخة أوحش من صرختك هذه؟ فقال لهم: فعل هذا النبي فعلا إن تم لم يعص الله أبدا فقالوا: يا سيدهم أنت كنت لآدم، فلما قال المنافقون: إنه ينطق عن الهوى وقال أحدهما لصاحبه: أما ترى عينيه تدوران في رأسه كأنه مجنون - يعنون رسول الله (صلى الله عليه وآله) - صرخ إبليس صرخة بطرب فجمع أولياءه فقال: أما علمتم أني كنت لادم من قبل؟ قالوا: نعم قال: آدم نقض العهد ولم يكفر بالرب وهؤلاء نقضوا العهد وكفروا بالرسول فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقام الناس غير علي (عليه السلام) لبس إبليس تاج الملك ونصب منبرا وقعد في الوثبة وجمع خيله ورجله ثم قال لهم: اطربوا لا يطاع الله حتى يقوم الإمام.

ص:529

وتلا أبو جعفر (عليه السلام): (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) قال أبو جعفر (عليه السلام):

كان تأويل هذه الآية لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والظن من إبليس حين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه ينطق عن الهوى فظن بهم إبليس ظنا فصدقوا ظنه.

* الشرح:

قوله: (فقالوا يا سيدهم ومولاهم) لم يضف إلى ضمير المتكلم مع أنه مراد لكراهة تلك الإضافة (ماذا دهاك) أي شيء أصابك بداهية وأمر عظيم أوجد فيك هذه الصرخة؟ فقالوا: تسلية له (يا سيدهم أنت كنت لادم) مع كمال علمه وفضله وقربه بالرب فإضلال هؤلاء الجهلة عندك أسهل (قال آدم نقض العهد ولم يفكر بالرب) لإقراره بربوبيته وطاعته وصحة أمره، وإنما فعل ما كان تركه أولى (وهؤلاء نقضوا العهد وكفروا بالرسول) لأنهم أنكروا رسالته وأمره ونسبو القول بالهوى والجنون اليه (صلى الله عليه وآله) وإنما لم يقل وكفروا بالرب مع أنه الأنسب بالسابق للإشعار بأن الكفر بالرسول كفر بالرب (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) بردهم الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) عن وصية فوجدوه صادقا فصدقوا ظنه وأذعنوه بفعل مظنونه.

* الأصل:

543 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما، كئيبا حزينا؟ فقال له علي (عليه السلام): مالي أراك يا رسول الله كئيبا حزينا؟ فقال: وكيف لا أكون كذلك وقد رأيت في ليلتي هذه أن بني تيم وبني عدى وبني أمية يصعدون منبري هذا، يردون الناس عن الإسلام القهقري، فقلت: يا رب في حياتي أو بعد موتي؟ فقال: بعد موتك.

* الشرح:

قوله: (وقد رأيت في ليلتي هذه أن بني تيم وبني عدي وبنى أمية - اه) الرؤيا التي يراها النبي (صلى الله عليه وآله) بعد النبوة نوع من أنواع الوحي وقد ذكرنا أنواعه في بعض المواضع فلا نعيد (يردون الناس عن الإسلام القهقري) أي رد القهقري وهو ضرب من الرجوع وهو أن يمشي إلى خلف من غير أن يعيدو جهة إلى جهة مشيه وفيه تنبيه على أن ارتدادهم عن الإسلام بنحو خاص وهو خروجهم منه مع ادعائهم له وعدم صرف وجههم عنه بالمرة.

* الأصل:

544 - جميل، عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لولا أني أكره أن

ص:530

يقال: إن محمد استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير.

* الشرح:

قوله: (لولا إني أكره أن يقال إن محمدا استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير) مثله في طرق العامة أيضا روى مسلم «أن رجلا من الأنصار نازع زبيرا على ماء فترافعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فحكم للزبير، فقال الرجل: ان كان ابن عمتك يعني أنك حكمت له لا أجل قرابتك فغضب النبي وتلوى وجهه» قال عياض: وإنما لم يقتله مع أن ما قاله كفر لأنه يستألف ولئلا يقال أن محمدا يقتل أصحابه وقد صبر للمنافقين ومن في قلبه مرض على أكثر من هذا وكان (صلى الله عليه وآله) يقول «يسروا ولا تعسرو» وروي أيضا «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر لرسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال دعه لا تتحدث الناس ان محمدا يقتل أصحابه» قال عياض: كسع: أي ضرب دبره أو عجيزته وفيه ترك التعسر خاف أن يؤدي إلى مفسدة أشد لأن العرب من الانفة وإبائه الضيم حيث كانوا وكان (صلى الله عليه وآله) يستألفهم بطلاقة الوجه ولين الكلمة وبذل المال والإغضاء حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم وليراهم غيرهم فيدخل في الإسلام ويتبعهم غيرهم من أتباعهم ولذا لم يقتل المنافقين ووكل أمرهم إلى ظواهرهم مع علمه ببواطن كثير منهم وكانوا في الظاهر معدودين في جملة أصحابه وأنصاره وقاتلوا معه حمية أو طلب غنيمة أو عصبية لمن معه من عشائرهم فلو قتلهم لارتاب في الدخول في الإسلام من يريد ئ الدخول ونفر واختلف هل بقي جواز ترك قتلهم والإغضاء عنهم أو نسخ بقوله (جاهد الكفار والمنافقين) ومال غير واحد من أئمتنا وغيرهم إلى أنه إنما يجوز العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم فإن أظهروه قتلوا، واحتج بقوله تعالى (لئن لم ينته المنافقون - الآية) وهو يدل على أن المنافقين في زمنه (صلى الله عليه وآله) كانوا يستحقون القتل لولا المنافع المذكورة ولما يتقى من قتلهم من غضب عشائرهم فتثور الفتنة ويمتنع من الدخول في الإسلام وهو خلاف المقصود.. وأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مستصحبا لذلك حتى توفاه الله سبحانه فذهب النفاق وحكمه وارتفع اسمه ومسماه، والحديث يرد على من يقول: إنما لم يقتلهم لأنه لم تقم بينة على نفاقهم لأنه نص في هذا الحديث على المانع وفيه القول بسد الذرايع وارتكاب أخف الضررين ومن قال من الأئمة: إنهم إذا أظهروا النفاق يقتلون، يرد عليه أنه في عهده (صلى الله عليه وآله) منهم من أظهر النفاق واشتهر به ومع ذلك لم يقتلهم هذا كلامه

ص:531

بعبارته نقلناه لأن لنا فيه فوايد في بعض المواضع.

* الأصل:

545 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عبيد الله الدهقان، عن عبد الله بن القاسم، عن ابن أبي نجران، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان المسيح (عليه السلام) يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطرارا فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا ولا تمنعوها أهلها فتأثموا وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه وإلا أمسك.

* الشرح:

قوله: (إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه) الشفاء: الدواء، شفاه يشفيه، برأه وطلب له الشفاء، كاشفاه، والجرح بالضم: الاسم من الجرح بالفتح جرحه كمنع جرحا كلمه وفيه حث على مداواة المجروح والمريض وتكفل أحوالهما والعمل بالطب بل وجوبه وتعليم الجاهل إن كان أهلا له وجواز كتمان العلم من غير أهله.

* الأصل:

546 - سهل، عن عبيد الله، عن أحمد بن عمر قال: دخلت على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنا وحسين بن ثوير بن أبي فاختة فقلت له: جعلت فداك إنا كنا في سعة من الرزق وغضارة من العيش فتغيرت الحال بعض التغيير فادع الله عز وجل أن يرد ذلك إلينا، فقال: أي شيء تريدون؟ تكونون ملوكا؟ أيسرك أن تكون مثل طاهر وهرثمة وأنك على خلاف ما أنت عليه؟ قلت: لا والله ما يسرني أن لي الدنيا بما فيها ذهبا وفضة وأني على خلاف ما أنا عليه، قال: فقال: فمن أيسر منكم فليشكر الله، إن الله عز وجل يقول: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقال سبحانه وتعالى: (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) وأحسنوا الظن بالله فإن أبا عبد الله (عليه السلام) كان يقول: من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه به، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل، ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته وتنعم أهله وبصره الله داء الدنيا ودواءها وأخرجه منها سالما إلى دار السلام.

قال: ثم قال: ما فعل ابن قياما؟ قال: قلت: والله إنه ليلقانه فيحسن اللقاء فقال: وأي شيء يمنعه

ص:532

من ذلك، ثم تلا هذه الآية (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) قال: ثم قال:

تدري لأي شيء تحير ابن قياما؟ قال: قلت: لا، قال: إنه تبع أبا الحسن (عليه السلام) فأتاه عن يمينه وعن شماله وهو يريد مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فالتفت إليه أبو الحسن (عليه السلام) فقال ما تريد حيرك الله قال: ثم قال:

أرأيت لو رجع إليهم موسى فقالوا: لو نصبته لنا فاتبعناه واتقصصنا أثره، أهم كانوا أصوب قولا أو من قال: (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى)؟ قال: قلت: لابل من قال: لو نصبته لنا فاتبعناه واقتصصنا أثره، قال: فقال: من ههنا اتى ابن قياما ومن قال بقوله.

قال: ثم ذكر ابن السراج فقال: إنه قد أقر بموت أبي الحسن (عليه السلام) وذلك أنه أوصى عند موته فقال: كل ما خلفت من شيء حتى قميصي هذا الذي في عنقي لورثة أبي الحسن (عليه السلام) ولم يقل: هو لأبي الحسن (عليه السلام) وهذا إقرار ولكن أي شيء ينفعه من ذلك ومما قال ثم أمسك.

* الشرح:

قوله: (أيسر أن تكون مثل طاهر وهر ثمة) هما من أمراء المأمون وفي غاية العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) (قال: فمن أيسر منكم)؟ اليسر: ليس بالمال والجاه فقط بل هو في الحقيقة بصحة المذهب وكمال الإيمان وبهما يتحقق غناء الأبد ويضدهما يتحقق فقره، ومن ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «الغناء والفقر يظهران بعد العرض» (إن الله عز وجل يقول: لئن شكرتم لأزيدنكم) تعليل للأمر بالشكر على نعمة الإيمان وغيرها من النعماء لأن الشكر يوجب الزيادة في كليهما بحكم الوعد الصادق (وقال سبحانه وتعالى اعملوا آل داود شكرا) أي يا داود، وهذا تعليل آخر (وقليل من عبادي الشكور) أي كثير الشكر لأن الشكر صرف العبد جميع جوارحه فيما خلقت لأجله دائما أو غالبا والشكور بهذا المعنى نادر (وأحسنوا الظن بالله) مر تفسير حسن الظن في هذا الكتاب إجمالا وفي كتاب الكفر والإيمان تفصيلا (ومن رضي بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل) هذا من حسن المعاملة بين الرب والعبد لأن الرزق حق العبد على الله تعالى والعمل حق الله على العبد فحسن المعاملة يقتضى قبول اليسير مع القليل (ومن رضي باليسير من الحلال خفت مؤونته - اه) لعل المراد باليسير من الحلال قدر الكفاف منه والرضاء به وترك الطلب للزائد سبب لخفة المؤونة والمشقة في الدنيا والآخرة ولتنعم أهله وترفههم لأن الكفاف كاف في التنعم وهو الترفه، والمراد بداء الدنيا كل ما يمنعه من السير إلى الله والميل إلى الآخرة والعمل لها كالغضب والحسد والبغي وغيرها من أنواع المعاصي، وبدواءها كل ما يدفع به تلك الأمراض من

ص:533

الكمالات النفسانية والعقايد الحقة القلبية والأعمال الصالحة البدنية (ثم قال: ما فعل ابن قياما) الحسين بن قياما واقفي وقف على موسى بن جعفر (عليهما السلام) وكأنه (عليه السلام) يسأل: عن كيفية ملاقاته مع الشيعة ومخالطته إياهم فقال: (أي شيء يمنعه من ذلك) الأمر والإقرار بالإمام بعد موسى بن جعفر (عليه السلام) (ثم تلا هذه الآية - اه) الريبة بالكسر: الشك والتهمة وهي خير لا يزال وتلاوة لآية إما لتشبيه حاله بحالهم أو لأنه مندرج فيها ومراد منها أيضا ودعا أبو الحسن الأول (عليه السلام) بالتحير لعلمه بمآل حاله (قال: ثم قال) لذم ابن قياما ومن تبعه ومدح من لم يتبعه من الشيعة (أرأيت) أي أخبرني (لو رجع إليهم موسى) الظاهر أن المراد به أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) (فقالوا): أي الذين لم يتبعوه (لو نصبته لنا فاتبعناه واقتصصنا أثره) ولكن لم تنصبه لنا فلم نتبعه والضماير لابن قياما (أهم كانوا أصوب قولا) أم من تبعه واقتفى أثره؟ (وقال: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، قال: قلت: لابل من قال: لو نصبته لنا فاتبعناه واقتصصنا أثره) أصوب قولا لظهور أن متابعة رجل بعد معصوم والاقتداء به لا يجوز إلا أن يكون منصوبا من قبله قال: (فقال: من ههنا أتى ابن قياما) ومن قال بقوله أي هلك هو ومن تبعه حيث لم ينصبه (عليه السلام) للاقتداء وتبليغ ما ذهب إليه وإنما قلنا: الظاهر ذلك لاحتمال أن يكون المراد بموسى كليم الله بتشبيه حال ابن قياما وأتباعه بحال السامري وأتباعه في عدم نصب المعصوم لهما لما ذهبا إليه فضمير قالوا حينئذ لمن يتبع السامري والضمائر الباقية للسامري بقرينة السياق والله أعلم (قال: ثم ذكر ابن السراج - اه) كأنه أحمد بن أبي بشر السراج الكوفي الواقفي الضال المضل، وقراره بموت أبي الحسن موسى (عليه السلام) عند موته لا ينفعه إما لأن توبة العالم بالشيء المنكر له في هذا الوقت لا ينفعه أو لأنه لم يقر بإمامة أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أو لأنه أضل كثيرا وتوبة المضل أن يعيد من أضله إلى الحق وهو أشد من خرط القتاد.

* الأصل:

547 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لقمان لابنه: إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتك إياهم في أمرك وامورهم وأكثر التبسم في وجوههم وكن كريما على زادك، وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم وأغلبهم بثلاث: بطول الصمت وكثرة الصلاة وسخاء النفس بما معك من دابة أو مال أو زاد وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم وأجهد رأيك لهم إذا استشاروك ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرك وحكمتك في مشورته فإن من لم يمحض النصيحة لمن استشاره سلبه الله تبارك وتعالى رأيه ونزع 534

عنه الأمانة، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم وإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم وإذا تصدقوا وأعطوا قرضا فأعط معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنا، وإذا أمروك بأمر وسألوك فقل:

نعم ولا تقل: لا، فان لا، عي ولؤم. وإذا تحيرتم في طريقكم فانزلوا وإذا شككتم في القصد فقفوا وتؤامروا وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب لعله أن يكون عينا للصوص أن يكون هو الشيطان الذي حيركم، واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى فإن العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه والشاهد يرى مالا يرى الغائب، يا بني وإذا جاء وقت صلاة فلا تؤخرها لشيء وصلها واسترح منها فإنها دين وصل في جماعة ولو على رأس زج ولا تنامن على دابتك فإن ذلك سريع في دبرها وليس ذلك من فعل الحكماء إلا أن تكون في محمل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل وإذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك وابدأ بعلفها قبل نفسك، وإذا أردت النزول فعليك من بقاع الأرض بأحسنها لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس وإذا أردت قضاء حاجة ف بعد المذهب في الأرض وإذا ارتحلت فصل ركعتين وودع الأرض التي حللت بها وسلم عليها وعلى أهلها فان لكل بقعة أهلا من الملائكة وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتى تبدأ فتتصدق منه فافعل وعليك بقراءة كتاب الله عز وجل ما دمت راكبا وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا وعليك بالدعاء ما دمت خاليا وإياك والسير من أول الليل وعليك بالتعريس والدلجة من لدن نصف الليل إلى آخره وإياك ورفع الصوت في مسيرك.

* الشرح:

قوله: (فإن من لم يمحض النصيحة لمن استشاره سلبه الله تبارك وتعالى رأيه ونزع عنه الأمانة) الإمحاض والتمحيض: الإخلاص يقال: أمحضه النصيحة ومحضها: إذا أخلصها وطهرها من الغش، والرأي: الاعتقاد والعقل وتدبير الأمور، والأمانة: الطاعة والعبادة والثقة والدين والولاية وضد الخيانة، والسلب قد يكون عند الموت وقد يكون قبله (واسمع لمن هو أكبر منك سنا) أي اسمع لقوله أو أجب ما يقول للتعظيم له أو لكونه أكثر تجربة (فتبرع لهم وقل: نعم) الأول ناظر إلى الأمر، والثاني إلى السؤال عن شيء (ولا تقل لا فإن لا، عي ولؤم) العي بالكسر: عدم الاهتداء إلى وجه المراد أو العجز منه وعدم القدرة على أحكامه، وقد كان أهل الفضل والمروءة إن قدروا بادروا وإن لم يقدروا قالوا: يكون إن شاء الله (فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب) أي مشكك من أرابه

ص:535

إذا شككه فالحزم والاحتياط في عدم المشاورة معه في تحقيق الطريق في شيء من الأحوال والأوقات إلا پوقت أن يعلموا أنه ليس من أهل الإرابة إما بمعرفة سابقة أو بمعرفة شيء من آثاره المفيدة للعلم (وصل جماعة ولو على رأس زج) مبالغة في أداء الصلاة مع الجماعة، والزج بالضم، الحديدة في أسفل الرمح ونصل السهم، ويمكن أن يكون كناية عن وقت المحاربة (وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا) أي داخلا في العمل مشغولا به بعد النزول كشد العقال ووضع الرحال ونحوهما من الأعمال (وعليك بالدعاء ما دمت خاليا أي خاليا من العمل أي فارغا منه أو واقعا في الخلوة، من خلا فلان إذا وقع في موضع عال لا يزاحم فيه (وعليك بالتعريس) في النهاية، التعريس: النزول في آخر الليل للنوم والاستراحة وفى كتاب إكمال الإكمال عن الخليل مثله وعن القرطبي أن التعريس:

النزول بالليل للراحة بعد السير، وعن أبي زيد: أنه نزول أي وقت كان من ليل أو نهار وفي حديثهم معرسين نحو الظهيرة (والدلجة من لدن نصف الليل إلى آخره) الدلجة: سير الليل وهو مكروه في أوله ومطلوب في آخره لما مر من أن لليل يطوى في آخره وفي حديث العامة «عليكم بالدلجة» قال في النهاية: الدلجة: هو سير الليل، يقال: أدلج بالتخفيف: إذا سار من أول الليل، وادلج بالتشديد: إذا سار من آخره والاسم منهما الدلجة بالضم والفتح ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كله وكأنه المراد في الحديث لأن عقيبه يقول «فإن الأرض تطوى في الليل» ولم يفرق بين أوله وآخره.

* الأصل:

548 - عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسين بن يزيد النوفلي عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد الله العلوي قال: وحدثني الاسيدي ومحمد بن مبشر أن عبد الله ابن نافع الأزرق كان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا يخصمني أن عليا قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه فقيل له: ولا ولده؟ فقال أفي ولده عالم فقيل له:

هذا أول جهلك وهم يخلون من عالم؟! قال فمن عالمهم اليوم؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة فاستأذن على أبي جعفر (عليه السلام) فقيل له: هذا عبد الله بن نافع، فقال: وما يصنع بي وهو يبرء مني ومن أبي طرفي النهار؟ فقال له أبو بصير الكوفي جعلت فداك إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحدا تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليا (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه، فقال أبو جعفر (عليه السلام): أتراه جاءني مناظرا؟ قال: نعم، قال: يا غلام اخرج فحط رحله وقل له: إذا كان الغد فأتنا، قال: فلما أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر (عليه السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين

ص:536

والأنصار فجمعهم ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر فقال: الحمد لله محيث الحيث ومكيف الكيف ومؤين الأين الحمد لله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض - إلى آخر الآية - وأشهد أن لا اله الا الله] وحده لا شريك له [وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبده ورسوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فليقم وليتحدث قال: فقام - الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد الله: أنا أروى لهذه المناقب من هؤلاء وانما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين، حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» فقال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في هذا الحديث؟ فقال: هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ثكلتك أمك أخبرني عن الله عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال ابن نافع أعد علي فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن الله جل ذكره أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال: إن قلت: لا، كفرت قال: فقال: قد علم، قال: فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟ فقال على أن يعمل بطاعته، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فقم مخصوما، فقام وهو يقول: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الله أعلم حيث يجعل رسالته.

* الشرح:

قوله: (عن علي بن داود اليعقوبي) يعقوبا قرية ببغداد قيل: سميت باسم بانيها أبي يعقوب على التخفيف (أن عبد الله بن نافع الأزرق) الأزارقة: طائفة من الخوارج نسبوا إلى نافع بن الأزرق (كان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحدا) أي بين ناحيتي الأرض يعني المشرق والمغرب والقطر بالضم الناحية (فقيل له: ولا ولده) كأنه عطف على أحد بحسب المعنى أي ما علمت بين قطريها أحدا ولا ولده (وهم يخلون من عالم) خبر بحسب اللفظ ونفى بحسب المعنى أي لا يخلون منه (فرحل إليه في صناديد أصحابه) الصناديد جمع صند كزبرج وهو السيد الشجاع والجواد والشريف (ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين) المغرة وتحرك: طين أحمر والممغر كمعظم:

المصبوغ بها الذي ليس بناصع الحمرة كان لونه حمرة مختلطة ببياض (وأقبل على الناس

ص:537

كأنه فلقة قمر) فلق الصبح بالتحريك ضوءه وإنارته، والفلق: الصبح نفسه، والفلق بالسكون: الشق، وفلقة الشيء بالكسر: قطعة منه، وقد شبه وجهه في النور والإضاءة بالقمر والتشبيه بالشيء إنما هو فيما اختص به بذلك الشيء واشتهر به فالتشبيه بالقمر إنما هو فيما ذكرنا وبالغزال إنما هو في الجيد وببقره الوحش إنما هو في العين وقد أخطأ من عاب تشبيه الوجه بالقمر وقال: لأن في القمر الكلف ومن عاب التشبيه بالغزال وقال: لأن للغزال أظلافا وقوائم ومن عاب التشبيه بالبقرة وقال: لأن للبقر قرونا وغفل أن وجه التشبيه ما ذكرناه (فقال الحمد لله محيث الحيث) فلا حيث له (ومكيف الكيف) فلا كيف له و (مؤين الأين) فلا أين له (فقام الناس فسردوا تلك المناقب) السرد: جودة سياق الحديث وفي تاج اللغة سرد «نيكو سخن راندن» (وإنما أحدث على الكفر بعد تحكيم الحكمين) لأن الحكم في الإمامة إنما هو لله تعالى فجعله للخلق كفر، والجواب أنه (عليه السلام) حرضهم على القتال ولم يرض بالتحكيم حتى رجعوا عنه وأجبروه على قبلوه فتقبله كرها بشرط أن لا يتجاوز من إليه الحكم عن كتاب الله وسنة رسوله (حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر لأعطين الراية غدا - اه) روى مسلم مثله عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الأمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب فأعطاه إياها، وقال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، قال: فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقهم وحسابهم» وعن سعد بن سعد «أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها، قال أين على بن أبي طالب: فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينه قال: فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عينيه ودعا له فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» وعن سلمة بن الأكوع قال: كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي (صلى الله عليه وآله) في خيبر وكان رمدا فقال: أتخلف عن رسول الله (كذا) فخرج علي فلحق بالنبي (صلى الله عليه وآله) فلما كان مساء الليلة التي فتح الله في صبيحتها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه وإذا نحن بعلي

ص:538

وما نرجوه فقالوا هذا علي فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) الراية ففتح الله عليه» ومثل هذه الروايات موجودة في بقية صحاحهم الستة وفي مسند أحمد بن حنبل من عدة طرق عن عبد الله بن يزيد قال سمعت أبي يقول حاصرنا خيبر وأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ثم أخذها عمر من الغد فرجع ولم يفتح له وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني دافع الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله له فبات الناس يتداولون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلهم يرجو أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: إنه أرمد العين، فأرسل إليه فأتي به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عينيه ودعا له فبرئ فأعطاه الراية، فمضى علي فلم يرجع حتى فتح الله على يديه» قال عياش: قوله: امش ولا تلتفت حض على التقدم وترك التأني والالتفات هنا: النظر يمنة ويسرة وقد يكون على وجه المبالغة في التقدم ويدل عليه قوله: فسار علي شيئا فوقف ولم يلتفت وقد يكون معنى لا تلتفت: لا تنصرف، يقال: التفت: أي انصرف ولفته انا صرفته ويدو كون: أي يخوضون يقال: هم في دوكة أي في اختلاط وخوض وفي قوله: لئن يهدي الله بك إلى آخره حض عظيم على تعليم العلم والوعظ والتذكير، والمراد بالنعم: الإبل، وحمرها: خيارها، والمقصود أن ثواب تعليم رجل واحد وإرشاده أفضل من ثواب الصدقة بهذه الإبل النقية لأن ثواب الصدقة ينقطع بموتها وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة لحديث «إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له وعلم ينتفع به بعد موته» وما دل هذا الحديث من المحبة وغيرها من أعظم فضائل علي وأكرم مناقبه وفيه من علامات النبوة علامتان قوليه وفعلية، فالقولية يفتح الله على يديه وكان كذلك، والفعلية بصقه (صلى الله عليه وآله) في عينيه وكان رمدا فبرئ من ساعته، وقال الآبي في كتاب اكمال الاكمال وفي الاكتفاء لأبي الربيع قال أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله): خرجت مع على رضي الله عنه حين أخذ الراية فلما دنى من الحصن خرج إليه مقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي رضي الله عنه بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ لقدر أيتنى في نفر مع سبعة أناس منهم نجهد أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه، وقال بعض أفاضل أصحابنا (ره): في الحديث دلالة قطعية على أن هذه الأوصاف ما كانت في أبي بكر وعمر ألا ترى أن السلطان إذا أرسل رسولا في بعض مهماته ولم يكف الرسول ذلك المهم على وفق رأي السلطان فيقول السلطان: لأرسلن في ذلك المهم رسولا كافيا عالما بالأمور، دل هذا القول من السلطان دلالة قطعية على أن هذه الصفات ما كانت في الرسول الأول وأن الرسول الثاني أفضل من الأول فكذا هنا وبالجملة، قد بان بقوله (صلى الله عليه وآله) ثبوت

ص:539

محبة الله ورسوله في علي (عليه السلام) ولولا اختصاص علي (عليه السلام) بغاية هذه المرتبة لاقتضى الكلام خروج الجماعة بأسرها عن هذه المرتبة على كل حال وذلك محال أو كان التخصيص بلا معنى فيلحق بالعبث ومنصب النبوة متعال عن ذلك فثبتت هذه المرتبة لعلي (عليه السلام) بدلالة قوله «كرار غير فرار» وهي منتفية عن أبي بكر وعمر لفرهما وعدم كرهما، وفي تلاقي أمير المؤمنين (عليه السلام) بخيبر ما فرط من غيره دليل على توحيده بزيادة الفضل ومزيته على من عداه ولا ريب أن غاية المدح والتعظيم المحبة من الله ورسوله لأنها النهاية ولا ملتمس بعدها ولا مزيد عليها وهي الغاية القصوى والدرجة العظمى والله ذو الفضل العظيم.

(قال ابن نافع: أعد علي: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن الله تعالى أحب عليا يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم) ليس هذا في بعض النسخ (فقال أبو جعفر (عليه السلام): فقم مخصوما) أي محجوجا مغلوبا، يقال: خصمه يخصمه إذا غلبه في الحجة ووجه كونه مخصوما أنه إذا سلم أنه تعالى أحبه وهو يعلم أنه (عليه السلام) يقتل أهل النهروان وسلم أن سبب محبته إنما هو أن يعمل بطاعته لزمه الإقرار بأن قتل أهل النهروان طاعة لا معصية وإلا لزم وجود المسبب بدون السبب وهو باطل لا يقال: إنه تعالى يحب عبده العاصي لأنا نقول: لا يرد هذا بعد الاعتراف بأن سبب المحبة هو العمل بالطاعة على أن لنا أن نقول: إنه يحب العاصي إذا تاب لا مطلقا لقوله تعالى (إن الله يحب التوابين) والتوبة طاعة فسبب المحبة هو الطاعة وغفران ذنوبه تفضلا لا يوجب المحبة، لا يقال: لو تم ما ذكر لزم أن يكون خلافة الأول حقا وطاعة لأنه تعالى رضي عنه حيث قال: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشحرة) وهو كان داخلا فيهم فحينئذ يقال: أخبرني عن الله عز وجل رضي عنه يوم رضي وهو يعلم أنه يدعي الخلافة ويحملها أم لم يعلم إلى آخر ما ذكر لأنا نقول: دخوله في المؤمنين ممنوع بل هو أول البحث ولو سلم فالرضا دائر مع الإيمان وجودا وعدما ومثله لا يجري في المحبة لأن قوله (عليه السلام) يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفيد استمرار المحبة وهو لا يتحقق إلا باستمرار سببه بخلاف رضي فليتأمل.

* الأصل:

549 - أحمد بن محمد، وعلي بن محمد جميعا، عن علي بن الحسن التيمي، عن محمد بن الخطاب الواسطي، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن حماد الأزدي، عن هشام الخفاف قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كيف بصرك بالنجوم؟ قال: قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني، فقال: كيف دوران الفلك عندكم؟ قال: فأخذت قلنسوتي عن رأسي فأدرته قال فقال: إن كان الأمر على ما تقول فما بال بنات النعش والجدي والفرقدين لا يرون يدورون يوما من

ص:540

الدهر في القبلة؟ قال: قلت هذا والله شيء لا أعرفه ولا سمعت أحدا من أهل الحساب يذكره، فقال لي: كم السكينة من الزهرة جزءا في ضوئها؟ قال: قلت: هذا والله نجم ما سمعت به ولا سمعت أحدا من الناس يذكره، فقال: سبحان الله فأسقطتم نجما بأسره فعلى ما تحسبون؟! ثم قال فكم الزهرة من القمر جزءا في ضوئه: قال: قلت: هذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، قال: فكم القمر جزءا من الشمس في ضوئها؟ قال: قلت: ما أعرف هذا، قال: صدقت. ثم قال: ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب وفي هذا حاسب فيحسب هذا لصاحبه بالظفر ويحسب لهذا لصاحبه بالظفر ثم يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر فأين كانت النحوس؟ قال: فقلت: لا والله ما أعلم ذلك، قال:

فقال، صدقت إن أصل الحساب حق ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق كلهم.

* الشرح:

قوله: (قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) كيف بصرك بالنجوم؟ قال: قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني، فقال: كيف دوران الفلك عندكم؟ قال: فأخذت قلنسوتي عن رأس فأدرتها قال: فقال:

إن كان الأمر على ما تقول فما بال بنات النعش والجدي والفرقدين لا ترون يدورون يوما من الدهر في القبلة؟) قيل: المراد بالأمر دور الفلك المبين بإدارة القلنسوة وكأنه أدارها دور عرض تسعين كما هو المتعارف في إدارة القلنسوة ولذا قال (عليه السلام): كما تقول ولم يقل كما يقولون إشارة إلى أنه غلط منه لامن جميع أهل النجوم فإن الفلك في آفاقنا يدور دور الوراب انتهى، وفيه أولا: أنه خلاف محسوس إذ كل ذي حس يعلم أن القطب في جميع العروض ليس في سمت الرأس، وثانيا: أنه في غاية البعد إذا المنجم ادعى أنه كامل في علم النجوم فكيف يدعى ذلك ويقع في هذا الغلط الفاحش والأصوب أن المراد بالأمر أمر المنجم وشأنه أي إن كان أمرك وشأنك على ما تقول من أنك أعرف أهل النجوم بالعراق فما بال الكواكب المذكورة مثلا لا يدورون في سمت القبلة قطر وهذا الاحتمال وإن كان أيضا بعيدا لأن سببه مذكور في علم النجوم يعرفه من له أدنى معرفة به لكن المنجم لم يكن عارفا به وكان دعواه كما المعرفة محض الإدلال، والمراد بالعلم بمواليد الخلق كلهم العلم بحقائقهم وكيفياتهم وآثارهم ونسبة بعضهم ببعض.

ص:541

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

550 - علي بن الحسن المؤدب، عن أحمد بن محمد بن خالد، وأحمد بن محمد، عن علي بن الحسن التيمي جميعا، عن إسماعيل بن مهران، قال: حدثني عبد الله بن الحارث، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس بصفين فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال:

أما بعد فقد جعل الله تعالى لي عليكم حقا بولاية أمركم ومنزلتي التي أنزلني الله عز ذكره بها منكم ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم والحق أجمل الأشياء في التواصف وأوسعها في التناصف لا يجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلا جرى له ولو كان لأحد أن يجري ذلك له ولا يجري عليه لكان ذلك الله عز وجل خالصا دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه ضروب قضائه ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل كفارتهم عليه بحسن الثواب تفضلا منه وتطولا بكرمه وتوسعا بما هو من المزيد له أهلا، ثم جعل من حقوقه حقوقا فرضها لبعض الناس على بعض جعلها تتكافى في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها إلا ببعض، فأعظم مما افترض الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله عز وجل لكل على كل، فجعلها نظام إلفتهم، وعزا لدينهم، وقواما لسنن الحق فيهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى إليها الوالي كذلك عز الحق بينهم فقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطاب به العيش وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليهم وعلا الوالي الرعية اختلفت هنالك الكلمة وظهرت مطامع الجور وكثر الإدغال في الدين وتركت معالم السنن فعمل بالهواء وعطلت الآثار وكثرت علل النفوس ولا يستوحش لجسيم حد عطل ولا لعظيم باطل اثل فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتخرب البلاد وتعظم تبعات الله عز وجل عند العباد.

فهلم أيها الناس إلى التعاون على طاعة الله عز وجل والقيام بعدله والوفاء بعهده والإنصاف له في جميع حقه، فانه ليس العباد إلى شيء أحوج منهم إلى التناصح في ذلك وحسن التعاون عليه وليس أحد وإن اشتد على رضى الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما أعطى الله من

ص:542

الحق أهله ولكن من واجب حقوق الله عز وجل على العباد النصيحة له بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق فيهم، ثم ليس امرء وإن عظمت في الحق منزلته وجسمت في الحق فضيلته بمستغن أن يعان على ما حمله الله عز وجل من حقه ولا لامرىء مع ذلك خسئت به الامور واقتحمته العيون بدون ما أن يعين على ذلك ويعان عليه، وأهل الفضيلة في الحال وأهل النعم العظام أكثر في ذلك حاجة وكل في الحاجة إلى الله عز وجل شرع سواء.

فأجابه رجل من عسكره لا يدرى من هو ويقال: إنه لم ير في عسكره قبل ذلك اليوم ولا بعده فقال:

وأحسن الثناء على الله عز وجل بما أبلاهم وأعطاهم من واجب حقه عليهم والإقرار بكل ما ذكر من تصرف الحالات به وبهم.

ثم قال: أنت أميرنا ونحن رعيتك بك أخرجنا الله عز وجل من الذل وبإعزازك أطلق عباده من الذل.

فاختر علينا وأمض اختيارك وائتمر فأمض ائتمارك فانك القائل المصدق والحاكم الموفق والملك المخول، لا نستحل في شيء معصيتك ولا نقيس علما بعلمك، يعظم عندنا في ذلك خطرك، ويجل عنه في أنفسنا فضلك.

فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه، وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا زاد حق الله عليه عظما وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي لما لا يصلح لي، فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة الحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن اخطىء ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.

فأجابه الرجل الذي أجابه من قبل فقال: أنت أهل ما قلت والله، والله فوق ما قلته فبلاؤه عندنا

ص:543

مالا يكفر وقد حملك الله تبارك وتعالى رعايتنا وولاك سياسة امورنا، فأصبحت علمنا الذي نهتدي به وإمامنا الذي نقتدي به وأمرك كله رشد وقولك كله أدب، قد قرت بك في الحياة أعيننا وامتلأت من سرور بك قلوبنا وتحيرت من صفة ما فيك من بارع الفضل عقولنا ولسنا نقول لك: أيها الإمام الصالح تزكية لك ولا نجاوز القصد في الثناء عليك ولن يكن في أنفسنا طعن على يقينك أو غش في دينك فنتخوف أن تكون أحدثت بنعمة الله تبارك وتعالى تجبرا أو دخلك كبر ولكنا نقول لك ما قلنا تقربا إلى الله عز وجل بتوقيرك وتوسعا بتفضيلك وشكرا بإعظام أمرك. فانظر لنفسك ولنا وآثر أمر الله على نفسك وعلينا، فنحن طوع فيما أمرتنا ننقاد من الامور مع ذلك فيما ينفعنا.

فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: وأنا أستشهدكم عند الله على نفسي لعلمكم فيما وليت به من اموركم وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه والسؤال عما كنا فيه، ثم يشهد بعضنا على بعض فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون غدا فان الله عز وجل لا يخفى عليه خافية ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الامور، فأجابه الرجل ويقال: لم ير الرجل بعد كلامه هذا لأمير المؤمنين (عليه السلام) فأجابه وقد عال الذي في صدره فقال والبكاء يقطع منطقه وغصص الشجا تكسر صوته إعظاما لخطر مرزئته ووحشة من كون فجيعته.

فحمد الله وأثنى عليه، ثم شكا إليه هول ما أشفى عليه من الخطر العظيم والذل الطويل في فساد زمانه وانقلاب حد وانقطاع ما كان من دولته، ثم نصب المسألة إلى الله عز وجل بالامتنان عليه والمدافعة عنه بالتفجع وحسن الثناء فقال: يا رباني العباد ويا سكن البلاد أين يقع قولنا من فضلك وأين يبلغ وصفنا من فعلك وأنى نبلغ حقيقة حسن ثنائك أو نحصي جميل بلائك فكيف وبك جرت نعم الله علينا وعلى يدك اتصلت أسباب الخير إلينا، ألم تكن لذل الذليل ملاذا، وللعصاة الكفار إخوانا؟ فبمن إلا بأهل بيتك، وبك أخرجنا الله عز وجل من فظاعة تلك الخطرات؟ أو بمن فرج عنا غمرات الكربات؟ وبمن؟ إلا بكم أظهر الله معالم ديننا واستصلح ما كان فسد من دنيانا حتى استبان بعد الجور ذكرنا وقرت من رخاء العيش أعيننا لما وليتنا بالإحسان جهدك ووفيت لنا بجميع وعدك وقمت لنا على جميع عهدك فكنت شاهد من غاب منا وخلف أهل البيت لنا وكنت عز ضعفائنا وثمال فقرائنا وعماد عظمائنا، يجمعنا في الامور عدلك ويتسع لنا في الحق تأنيك. فكنت لنا انسا إذا رأيناك وسكنا إذا ذكرناك، فأي الخيرات لم تفعل؟ وأي الصالحات لم تعمل؟ ولولا أن الأمر الذي نخاف عليك منه يبلغ تحريكه جهدنا وتقوي لمدافعته طاقتنا أو يجوز الفداء عنك منه بأنفسنا وبمن نفديه بالنفوس من أبنائنا لقدمنا أنفسنا وأبناءنا قبلك ولأخطرناها وقل خطرها دونك ولقمنا بجهدنا في محاولة من حاولك وفي مدافعة من ناواك ولكنه

ص:544

سلطان لا يحاول وعز لا يزاول ورب لا يغالب، فإن يمنن علينا بعافيتك ويترحم علينا ببقائك ويتحنن علينا بتفريج هذا من حالك إلى سلامة منك لنا وبقاء منك بين أظهرنا نحدث لله عز وجل بذلك شكرا نعظمه، وذكرا نديمه ونقسم أنصاف أموالنا صدقات وأنصاف رقيقنا عتقاء، ونحدث له تواضعا في أنفسنا ونخشع في جميع امورنا وإن يمض بك إلى الجنان ويجري عليك حتم سبيله فغير متهم فيك قضاؤه ولا مدفوع عنك بلاؤه ولا مختلفة مع ذلك قلوبنا بأن اختياره لك ما عنده على ما كنت فيه، ولكنا نبكي من غير إثم لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا وللدين والدنيا أكيلا فلا نرى له خلفا نشكو إليه ولا نظيرا نأمله ولا نقيمه.

* الشرح:

قوله: (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)) يذكر فيها بوجه كلي الحق الذي به يتحقق نظام الدين والدنيا وكمال النفس والنجاة في الآخرة (أما بعد فقد جعل الله تعالى عليكم حقا بولاية أمركم) قيل اسم لما توليته وقمت به مثل الإمارة فإذا أرادوا المصدر فتحوا (ومنزلتي التي أنزلني الله عز وجل بها منكم) وهي منزلة الإمارة والهداية والإرشاد إلى خير الدنيا والآخرة والباء بمعنى في (ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم) المراد المماثلة في جنس الحق وإن كان الحقان متغايرين في النوع لأن حقنا عليه الأمر والإرشاد وحقه علينا الإطاعة والانقياد مثلا، ثم رغب في القول بالحق والعمل به بقوله (والحق أجمل الأشياء في التواصف) أي في أن يصفه بعضهم لبعض ويذكر كل واحد للآخر نعته لينشر ويرغب فيه (وأوسعها في التناصف) أي في إنصاف بعضهم بعضا من نفسه والعمل به فإن فيه سعة العيش وحسن النظام وفي نهج البلاغة «أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف» معناه أنه إذا أخذ الناس في وصف الحق وبيانه كان لهم في ذلك مجال واسع لسهولته على ألسنتهم وإذا حضر التناصف بينهم فطلب منهم ضاق عليهم المجال لشدة العمل بالحق وصعوبة الإنصاف به لاستلزام ترك بعض المطالب المحبوبة لهم، ثم أكد ما سبق بأن سنة الله جارية على أن من له حقا على الغير كان لذلك الغير أيضا حق عليه فقال: (لا يجرى لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إن جرى له) أشار بالحصر الأول إلى أن كون الحق لأحد لا يفارق من كونه عليه، وبالحصر الثاني إلى عكس ذلك ليفيد التلازم بين الحقين تسكينا لنفوسهم بذكر الحق لهم وتوطينا لها على الوفاء به إذ هو لا يترك حقهم فيجب أن لا يتركوا حقه ثم أثبت الحصرين بقياس شرطي استثنى نقيض تاليه لينتج نقيض مقدمه وهو (لو كان لأحد أن يجري ذلك) أي الحق له.

ص:545

(ولا يجري عليه لكان ذلك الله عز وجل خالصا دون خلقه) إذ الخلق لعجزهم يحتاج كل واحد إلى الآخر فلا محالة إذا كان لأحدهم حق على الغير كان للغير أيضا حق عليه وتبين الملازمة بقوله (لقدرته على العباد) فيقدر على إبقائهم وإفنائهم وأخذ حقه والإنصاف منهم وليس لهم أن يقولوا لا نعطي حقك حتى تعطي حقنا، فيقال لهم أي حق لكم عليه وأنتم وكل مالكم من حقوقه عليكم (ولعدله في كل ما جرت عليه ضروب قضائه) مثل الفقر والمصيبة والمرض وأمثالها فإن القضاء بجميع ذلك مصلحة وحق عليهم وليس لهم في مقابله حق عليه وأيضا هو عادل يفعل ما ينبغي فلو أجرى أن له حقا عليهم لا عليه لكان عدلا، ثم أشار إلى استثناء نقيض التالي باستثناء ملزومه بقوله (ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل كفارتهم عليه بحسن الثواب) ضمير عليه راجع إلى الله تعالى أو إلى حقه على العباد والمراد بحسن الثواب الثواب الكامل أو المضاعف وبالكفارة جزاء الطاعة سماه كفارة لأنه يكفر أي يستر ويدفع عنهم ثقل الطاعة ومعناه لكنه جعل له على عباده حقا هو طاعتهم له ليثبت لهم بذلك حقا عليه وهو جزاء طاعتهم، فقد ثبت أن ذلك لم يخلص لله تعالى بل كما أوجب له على عباده حقا أوجب لهم على نفسه بذلك حقا فإذن لا يجري لأحد حقا إلا جرى عليه وهو نقيض المقدم، ثم نبه بأن ما جعله لهم من حسن الثواب ليس بحق وجب عليه بل تفضل منه بكرمه وتوسعه عليهم بما هو أهله من مزيد النعم ليقابلوا ذلك التفضل بمزيد الشكر وليتأدبوا بآداب الله في أداء ما وجب عليهم من حق الغير ولو لم يكن لذلك الغير حق عليهم (فقال تفضلا منه وتطولا بكرمه وتوسعا بما هو من المزيد له أهلا) هو مبتدأ راجع إلى «ما» وله خبر والضمير له تعالى أو بالعكس و «من» بيان لما، وأهلا في أكثر النسخ بالنصب على التميز أو الحال، وفي بعضها بالرفع على أنه خبر لهو، وله متعلق به وهو حينئذ راجع إلى الله وضمير له إلى «ما».

(ثم جعل من حقوقه حقوقا فرضها لبعض الناس على بعض) هذا كالمقدمة لما يريد أن يبينه من كون حقه عليهم وحقهم عليه واجبين إذ بين فيها على وجه كلي أن حقوق الخلق بعضهم على بعض هي من حقوق الله تعالى من حيث أن حقه على عباده هو الطاعة له وأداء تلك الحقوق طاعة له وإنما عدها من حقوقه تعالى لأنه أدعى لهم على أدائها وحفظها (فجعلها تكافئ وجوهها) أي جعل الحقوق التي فرضها لبعض الناس على بعض تتكافئ وتتساوى وجوهها بأن جعل كل وجه من تلك الحقوق مقابلا بمثله منه وهو العدل فيهم وحسن السيرة، كحق الوالي على الرعية وبالعكس، وحق المالك على المملوك وبالعكس، وحق الوالد على الولد وبالعكس، وحق الزوج على الزوجة وبالعكس، وقس على ذلك ثم أكد ذلك بقوله (ويوجب بعضها بعضا) كهداية الوالي

ص:546

وطاعة الرعية مثلا فإن الأولى توجب الثانية وبالعكس (ولا يستوجب بعضها ببعض) أي لا يتحقق ولا يستحق الوجوب بعض تلك الحقوق إلا بأن يتحقق الآخر المقابل له ويستحق الوجوب ثم أشار إلى ما هو المقصود بيانه أصالة بقوله: (فأعظم مما افترض الله تبارك وتعالى بعضها من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي) لأن هذين الحقين أمران كليان يدور عليهما سائر الحقوق وأكثر المصالح في النظام والمعاش والمعاد ثم بالغ في حفظهما بقوله (فريضة فرضها الله عز وجل) وبين وجوهها (لكل على كل) أي لكل واحد على كل واحد وقوله «فريضة» بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي كل واحد من الحقين فريضة، وبالنصب على المدح أو الحال، ثم رغب في حفظ تلك الفريضة ومراعاتها بقوله (فجعلها نظام إلفتهم) أي اجتماعهم لأنها سبب لانتظام اجتماعهم في أمر الدين وعدم تفرقهم فيه (وعزا لدينهم) لا تغلبه الأديان الباطلة، والعزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب واستعيرت للحق ووجه المشابهة ظاهر (وقواما لسير الحق) فيهم، إذ بتلك الفريضة تجري سائر الحقوق الإلهية فيهم ولو عطلت عطل جميع تلك الحقوق كما ترى فيما بين المنكرين لتلك الفريضة ويمكن قراءة سير بكسر السين وفتح الياء: جمع السيرة. وهي السنة والطريقة وفي بعض النسخ «لسنن الحق» بالنونين (فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة) أريد بصلاح الرعية كونهم على القوانين الشرعية، وبصلاح الولاة اقتدارهم على إجراء الأحكام بالموازين العدلية (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية) لأن اقتدار الولاة متوقف على استقامة الرعية وانقيادهم لهم بالضرورة (فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه) وهي الطاعة والانقياد والاتعاظ بمواعظه (وأدى إليها الوالي كذلك) حقهم هو الهداية والإرشاد إلى الخيرات.

(عز الحق فيهم) أي صار عزيزا قويا (وقامت مناهج الدين) أي طرقه وقوانينه لقوام الخلق عليها والعمل بها (واعتدلت معالم العدل) العدل ضد الجور: وهي حالة نفسانية تنشأ من اعتدال القوة العقلية والشهوية والغضبية وقيامها على أوساطها ومعالمه طرقه الموصلة وهي الشرايع النبوية أو حدوده المضروبة عليه، مثل معالم الحرم واعتدال تلك المعالم قيامها واستقرارها على سوقها، ومن البين أنه لو وقع الاختلال في أداء الحق لوقع الاختلال في جميع ذلك وشاع الجور ووقع الهرج والمرج (وجرت على إذلالها السنن) الإذلال بالذال المعجمة جمع ذل بالكسر وبضم وهو الطريق ومحجته وضمير التأنيث راجع إلى السنن لتقدمها معنى أي جرت سنة الله وسنة رسوله على مسالكها وطرقها، ومن هذا القبيل قولهم: أمور الله جارية على إذلالها. أي على مجاريها وطرقها (فصلح بذلك الزمان) لفقد الجور فيه وارتفاعه عنه (وطاب به العيش) لنزول البركة وسعة

ص:547

الرزق وتحقق الإلفة والاجتماع وحسن المعاملة والعدل فيها (وطمع في بقاء الدولة) لقوة الدين وأهله، والدولة بالضم: ما يتداول من المال فيكون لقوم دون قوم، وبالفتح: الغلبة في الحرب وقيل: هما سواء وقيل: بالضم في الآخرة وبالفتح في الدنيا (ويئست مطامع الأعداء) اليأس للأعداء إلا أنه نسب إلى مطامعهم مجازا للمبالغة في تحققه.

(وإذا غلبت الرعية على واليهم) بالمنازعة والمخالفة وترك الطاعة (وعلا الوالي الرعية) بالتجبر ورفض حقوقهم (اختلفت هنالك الكلمة) أي كلمات الناس وأقوالهم في طاعته (وظهرت مطامع الجور) أي معالمه وعلاماته وآثاره من كل جانب (وكثر الاذعار في الدين): أي في أهله، والإذعار مصدر: وهو التخويف، أو جمع ذعر بالتحريك: وهو الدهش كبطل وأبطال، أو جمع ذعر بالضم:

وهو الخوف كطهر وأطهار وفي بعض النسخ «الإدغال» جمع دغل بالتحريك: وهو المفسد، أو مصدر: وهي الخيانة أو إدخال الفساد يقال: أدغل به إذا خانه الأمر أدخل فيه ما يخالفه ويفسده، وكل ذلك لتبدد الأهواء وتفرقها عن رأى الإمام العادل وأخذ كل أحد فيما يشتهيه ما هو مفسد في الدين ومخالف له (وتركت معالم السنن) أي طرقها وقوانينها (فعمل بالهوى) أي بالظن والرأي والقياس في أحكام الله تعالى (وعطلت الآثار) أي آثار النبي وقوانينه الدالة على تلك الأحكام (وكثرت علل النفوس): أي أمراضها كالغل والحسد والعداوة والعجب والكبر ونحوها.

وقيل: عللها وجوه ارتكابها للمنكرات فتأتي في كل منكر بوجه وعلة ورأي فاسد (ولا يستوحش لجسيم حق عطل) أي لا يحزن لحق جسيم ترك وأهمل (ولا لعظيم باطل أثل) أي عظم أو جعل أصلا يرجع إليه ويعتمد عليه وإنما خص الجسيم والعظيم بالذكر للمبالغة في فساد الدين وللإشعار بأن الحقير أولى بما ذكر (فهنالك تذل الأبرار) لذلة الحق الذي عزهم بعزه (وتعز الأشرار) لعزة الباطل الذي هم عليه (وتخرب البلاد) لشيوع الجور فيها و (تعظم تبعات الله) عز وجل: أي عقوباته (عند العباد) لخروجهم عن طاعته (فهلم أيها الناس إلى التعاون على طاعة الله عز وجل) الفاء للتفريع: أي إذا عرفتم ما ذكر من فوايد أداء الحقوق ومفاسد عدمه فهلم، وهو في لغة الحجاز يطلق على الواحد والجمع والاثنين والمذكر والمؤنث بلفظ واحد مبني على الفتح، والطاعة كلها محتاجة إلى التعاون سواء كانت متعلقة بأمور الدين أو الدنيا وسواء كانت واجبة أم مندوبة وسواء كانت مختصة بواحد أم مشتركة بينهم لكل واحد على كل واحد، ومن ثم قيل الإنسان مدني بالطبع محتاج إلى التعاون في أمر المعاش والمعاد (والقيام بعدله) لينتظم أمر الاجتماع والتعاون وحسن المعاملة والقيام به إنما يتحقق بالقيام بالقوانين الشرعية (والوفاء بعهده) وهو الإيمان بالربوبية والرسالة والولاية وما جاء به الرسول قال الله تعالى: (أوفوا بعهدي

ص:548

أوف بعهدكم) وعهدنا ما جعله على نفسه من حسن الجزاء والإثابة.

(والإنصاف له في جميع حقه) بالتصديق به والعمل بما يطلب منه العمل بقدر الجهد والطاقة، ثم أشار إلى علة الأمر بالتعاون وما عطف عليه بقوله: (فإنه ليس العباد إلى شيء أحوج منهم إلى التناصح في ذلك) أي في التعاون (وحسن التعاون عليه) أي على التناصح وهو ان ينصح بعضهم بعضا نصحا خالصا بوجه الله تعالى، وفيه إيماء إلى أن التناصح أيضا من طاعة الله التي يجب التعاون عليها، ثم أشار إلى أن العبد وإن بذل جهده في الطاعة والتعاون والتناصح فهو بعد لم يبلغ ما الله سبحانه أهله من الطاعة تحذيرا له عن التقصير في بذل الجهد بقوله (وليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه) فاشتد سعيه فيما يوجب رضاه (وطال في العمل) الصالح (اجتهاده) ليلا ونهارا (ببالغ حقيقة ما أعطى الله من الحق أهله) أي ما أعطاه الله أهله من الحق فمن بيان لما والضميران له، ولعل المراد هو التنبيه على أن كل من صدر عنه الحق لا يقدر وإن اجتهد أن يبلغ حقيقته ويأتي بها كما ينبغي لأن الاتيان بها إنما يتحقق بأن يأتي بها وبلوازمها وآثارها، ولا ريب في أن ذلك الحق الصادر منه نعمة وعطية من الله تعالى ومن لوازمها الشكر وهو نعمة أخرى وهكذا إلى ما لا يحصى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وإذا لم يقدر على الإتيان بحقيقة حق واحد فكيف يقدر على الإتيان بحقايق حقوق متكثرة جدا والله أعلم، ثم أشار إلى أن الميسور يجب أن لا يترك بالمعسور بقوله (ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم) أي بنهاية طاقتهم (والتعاون على إقامة الحق فيهم) بقدر الإمكان وفي بعض النسخ بينهم وفي لفظة من وإدخال الواجب إشارة إلى أن حقوقه تعالى غير منحصرة في الواجب وأن حقه الواجب غير منحصرة في النصيحة، ثم أشار إلى أنه (عليه السلام) مع كمال منزلته في الحق يحتاج في إجراء الأحكام وإقامة الحدود وغيرها إلى إعانة الرعية بقوله (ثم ليس امرء وإن عظمت في الحق منزلته) بسبب رعايته كما ينبغي (وجسمت في الحق فضيلته) لإحاطة علمه بحقوق الله تعالى يعني: وإن كان كاملا في القوة العملية والنظرية (بمستغن عن أن يعان على ما حمله الله عز وجل من حقه) لضرورة أن إجراء حقوق الله تعالى في الخلق لا يمكن بدون القدرة والغلبة عليهم ولا يمكن الغلبة بدون ناصر ومعين (ولا لامرىء مع ذلك) أي مع عدم استغنائه عما ذكر.

(خسئت به الأمور) خسئت صفة لامرئ والظاهر أنه من الخساء بالخاء المعجمة والسين المهملة وهمز اللام: وهو الإبعاد والطرد والبعد والذل والكلال يعني العجز، والباء على الثلاثة الأخيرة للتعدية وعلى الأولين للتأكيد فيها، يعني أن الأمور لعدم جريانها على وفق مراده أبعدته عن أعين الناس وطردته عن نظرهم وأذلته في بصرهم وأعجزته عن نيل المقصود ويحتمل أن

ص:549

يكون ناقصا يائيا من الخسي وهو الفرد يعني أفردته الأمور ولو قرئ خشنت بالشين المعجمة بمعنى صعبت به الأمور واشتدت لكان أظهر ولكنه لم يثبت (وأقتحمته العيون) أقتحمه: احتقره وصغره (بدون ما أن يعين على ذلك ويعان عليه) الظاهر أن ما زائدة يعني أن المرء وإن اتصف بالصفات المذكورة ليس بدون أن يعين غيره على طاعة الله وأداء حقه ولو بأخذ الصدقات والحقوق المالية ونحوها (وأن يعان عليه) ولو بإعطاء ما يسد خلته ويرفع ضرورته وحاجته (وأهل الفضيلة في الحال وأهل النعم العظام أكثر في ذلك) أي في أن يعين ويعان (حاجة) لأن ما حمل عليهم أكثر كإعطاء الزكاة والخمس ويحتاجون في ذلك إلى معاون كالفقير القابل ومن يشهد على فقره وأمثال ذلك، وبالجملة الخلق إما وال أو رعية والرعية إما ضعيفة أو قوية والكل محتاج إلى أن يعين في أداء حقه تعالى ويعان وإن كان الاحتياج متفاوتا وكل واحد من الأصناف الثلاثة (في الحاجة إلى الله عز وجل شرع سواء) يقال: الناس في هذا شرع، ويحرك أي سواء، فسواء تأكيد والغرض منه هو الحث على رعاية حقوقه عز وجل والتعاون عليها (فأجابه رجل) كأنه كان الخضر (عليه السلام) (وأحسن الثناء على الله عز وجل بما أبلاهم وأعطاهم) الإبلاء: الاحسان والإنعام، ويحتمل أن يراد به الاختبار بالتكليف (والإقرار بكل ما ذكر) الظاهر أنه عطف على الثناء (من تصرف الحالات به وبهم) الظاهر أن ضمير به راجع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وعوده إلى الرجل بعيد وتلك الحالات ما ذكره (عليه السلام) من حال الولاة والرعية وإرادة الحالات التي وقعت في عساكره (عليه السلام) من التنازع والتخالف والتخاصم في التحكيم بعيدة إلا أن يكون الفعل في قوله بما ذكر مبينا للفاعل (بك أخرجنا الله من الذل) أي من ذل الجهل والكفر إلى العلم والإيمان (وباعزازك أطلق عباده من الغل) الغل بالضم الحديدة التي تجمع يد الأسير على عنقه والمراد به غل الذنوب وبالكسر الحسد والضغن (فاختر علينا) ما شئت (وامض اختيارك) علينا فلك الإمضاء وعلينا التسليم (وائتمر فامض ايتمارك) الايتمار: المشاورة، أي شاور نفسك في أمرنا فامض ما شاورته علينا لما فيه من المصلحة العامة والخاصة.

(فإنك العامل المصدق) في القول والعمل وفي بعض النسخ القائل المصدق (والحاكم الموفق) للخير كله والصواب في الحكم (والملك المخول) أي المملك يعنى أعطاك الله عز وجل الملك ورياسة الدارين من خوله الله الشيء تخويلا إذا أعطاه إياه (لا نستحل في شيء من معصيتك) بسبب مخالفة أمرك ونهيك وغيرهما ونستحل إما من الحلال يقال استحله أي اتخذه حلالا، أو من الحلول: وهو النزول، وهذا أنسب بلفظة في ومن ليست في بعض النسخ (ولا نقيس علما بعلمك) إذ لا نسبة بين القطرة والبحر ولا بين المتناهي وغير المتناهي (يعظم عندنا في ذلك

ص:550

خطرك) أي قدرك ومنزلتك في العلم فذلك إشارة إليه (ويجل عنه في أنفسنا فضلك) الجليل:

العظيم، جل فلان يجل بالكسر جلالة: عظم قدره وعن للتعليل كما قيل في قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة) والضمير راجع إلى العلم وعوده إلى الخطر بعيد أي يعظم من أجل علمك أو خطرك في أنفسنا فضلك وكمالك وشرفك على الخلق كلهم (فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام)) زجرا له عن مدحه وتنفيرا للمدوح عن حب المدح والسرور به ودخول العجب والفخر في قلبه (إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه) إذ يرى كل ما سواه محتاجا إليه خاضعا بين يديه وعظمة كل شيء مضمحلة في عظمته وذل العبودية والعجز موضوعا على رقبته وفي ذلك مراتب متفاوتة ودرجات متصاعدة كما يشعر به صدر الكلام (وإن أحق من كان كذلك) أي يصغر عنده لعظمته كل ما سواه (لمن عظمت نعمة الله عليه) دنيوية كانت أو أخروية (ولطف إحسانه إليه) أي بر وهو سبحانه لطيف بعباده أي بر بعباده محسن إليهم بإيصال المنافع برفق ولطف لأن ملاحظة عظمة الأثر تفضي إلى ملاحظة عظمة المؤثر (فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا زاد حق الله عليه عظما) ومن أعظم أفراد حقه حصر العظمة عليه ومشاهدة كل ما سواه صغيرا لديه (وإن من استخف حالات الولاة عن صالح العباد) أي أرداها وأقبحها ومنشؤها قلة العقل وسخافة الرأي ورقته (أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر) إذ هذه الخصلة مع إيجاب الشركة مع الواحد توجب البعد والتنفير وفشو الجور وعدم تمشي الأمور وجريان الأحكام عن القوانين العدلية، وإنما قال: عند صالح العباد إذ لا اعتداد بظن فاسقهم وفيه تنبيه على أكثر الملوك إذ هم على هذا السلوك فليدرؤوا عن أنفسهم الموت وغيره من النوائب إن كانوا صادقين (وقد كرهت أن يكون جال) أي دار من الجولان (في ظنكم أني أحب الإطراء) في المدح (واستماع الثناء) على كما يحبهما أكثر الناس فإنهما لا يليقان إلا بالله سبحانه وفي غيره يوجبان الكبر والفخر والعجب بالعمل والنفس وهي أمور مهلكة (ولست بحمد الله كذلك) أي لم يكن في قلبه المطهر سوى الله تعالى ومن كان كذلك كيف يحب الفخر والإطراء ويضع أمره على الكبر ويحب استماع الثناء مع علمه بأن شيئا من ذلك لا يليق إلا بجناب الكبرياء (ولو كنت أحب أن يقال ذلك) في باعتبار ما فيه من اللذة الموهومة التي يعبرها الناس (لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق من العظمة والكبرياء) أي لو فرض أنى أحب أن يقال ذلك في باعتبار أن فيه لذة لتركته باعتبار أمر آخر وهو الانحطاط والتصاغر عن تناول ما الله أحق به من العظمة والكبرياء ونبه بذلك على أن الإطراء يستلزم التكبر والتعظم فكان تركه وكراهته لكونه مستلزما لهما (وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء) أي وجدوه حلوا بعد

ص:551

الفعل الجميل لما فيه من اللذة، وهذا تمهيد عذر لمن أثنى عليه فكأنه يقول: أنت معذور إذ رأيتني أجاهد في سبيل الخيرات وأحث الناس عليها ومن عادة الناس أنهم يستحلون الثناء بعد البلاء وفعل الخيرات فظننت أني مثلهم ثم نهى عن الثناء عليه على وجه يشعر بعدم استحقاقه ويدفع ذلك العذر بقوله (فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من البقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها) الظاهر أن اللام في لإخراجي علة للثناء ومن تعليل للإخراج وفي حقوق متعلق ببقية والحقوق الباقية أعم من أن تكون لله تعالى وهي حقوق نعمه التي أنعمها عليه أو للناس وهي التي لهم عليه من النصيحة في الدين والإرشاد إلى الطريق الأقصد والتعليم لكيفية سلوكه ووصف الحق بعد الفراغ منه وبوجوب إمضائه تنبيه على عدم كماله بعد، ومحصل المعنى أن من وجب عليه أداء حق فأخرج نفسه إلى صاحبه ليؤديه لا يستحق الثناء عليه خصوصا إذا لم يفرغ من أدائه ولم يتم له إمضاؤه، وفي بعض النسخ التقية بالتاء ومن فيه متعلق بالإخراج أي لإخراج نفسي من التقية عن الخلق حقوق وجبت علي إذ كان (عليه السلام) إنما يعبد الله غير ملتفت في شيء من عبادته وأداء واجب حقه إلى أحد سواه خوفا منه أو رغبة إليه وكأنه قال تعظيما وتواضعا لله وكسر النفس والميل إليه لم أفعل شيئا مما وجب على فكيف أستحق الثناء لأجله ثم أرشدهم إلى سيرة حسنة ونهاهم عن أمور سيئة بقوله (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة) لأنه يوجب عجب النفس وكبرها ولأنه (عليه السلام) ليس بجبار وتكلمهم بما ذكر يستلزم وصفه بالجبروت (ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة) البادرة: الحدة وسرعة الغضب والكلام الذي يسبق في حال الغضب والطيش وذلك التحفظ كترك مسارته ومشاورته وحديثه والقيام بين يديه وإعلامه بعض الامور والانبساط معه وعرض الحال عليه إجلالا له وخوفا منه كما يتحفظ ذلك من الملوك، وإنما نهى عنه لما ذكر سابقا لأنه يفوت به كثير من المصالح الدنيوية والأخروية (ولا تخالطوني بالمصانعة) وهي: النفاق والغش والمداهنة وإظهار خلاف ما يضمر، ووجه النهي أنها توجب فساد الدين والدنيا «ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي» فإن طبعه (عليه السلام) كان مجبولا على سماع الحق وعدله كان مستلزما لقبوله والحق وإن كان مرا لكن مرارته عنده كانت حلوا.

(ولا التماس إعظام لنفسي) هذا هو الأمر الخامس: أي لا تظنوا بي طلب إعظام لنفسي فإني لا أطلب عظمة لنفسي أبدا لعلمي بأن أهلها هو الله تعالى، ثم علل قوله ولا تظنوا بقوله (فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه) هذا بمنزلة قياس استثنائي يستثنى منه نقيض اللازم لينتج نقيض المقدم وهو المطلوب تقريره كل من استثقل أن

ص:552

يقال له الحق ويعرض عليه العدل كان العمل بهما أثقل عليه بالضرورة ولكن العمل بهما ليس بثقيل علي فينتج أن كلا من قول الحق لي وعرض العدل على ليس بثقيل، ثم فرع على قوله ولا تظنوا قوله (فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل) فإن في الكف عنهما مفسدة غير محصورة (فإني لست في نفسي بفوق أن أخطأ) هذا تواضع لله باعث لهم على الانبساط معه بقول الحق مثل قول يوسف (عليه السلام) (وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني) أي أقوى مني على رفعه وكفايته من شرورها وهو إسناد عصمته إلى الله تعالى (فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا مالا نملك من أنفسنا) لظهور أنه تعالى يملك منا لأنفسنا وميولنا وخواطرنا ومؤننا واستعدادنا للخير إذ الكل منه ونواصينا بيده، وفيه ترغيب في التمسك بذيل ربوبيته للارتقاء من حضيض النقص إلى أوج الكمال (وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه) من الضلالة الجاهلية إلى شرف الهداية ببعثة الرسول وإنزال الكتاب وفيه تنبيه على ما كانت العرب عليه وإن لم يكن (عليه السلام) متصفا بصفاتهم وإنما أدخل نفسه المقدسة لأنه أدخل في قبول نصحه (فأبدلنا بعد الضلالة) عن سبيل الحق وانقطاع أثره في الجاهلية (بالهدى) بنور النبوة (وأعطانا البصيرة) القلبية التي بها يدرك الحق ويميز بينه وبين الباطل (من بعد العمى) أي عمى القلب عن إدراك الحق إذ الجهالة والضلالة وظلمة الكفر كانت محيطة بالربع المسكون قبل البعثة كما مر في كتاب العلم من الأصول، وفيه حث على أداء شكر تلك النعمة بمتابعة الدين وأهله (فأجابه الرجل الذي أجابه من قبل) تصديقا لما قاله (عليه السلام) وبدا بأن ثناءنا عليك لما أوجب الله عز وجل علينا من توقيرك وتعظيمك وأداء شكر نعمه الجليلة التي هي أنه جعلك إمامنا وهادينا ومالك سياسة أمورنا (فقال: أنت أهل ما قلت والله) من أنك لا تحب الفخر والكبر لنفسك تعظيما لربك ولا يثقل قول الحق وعرض العدل عليك إلى غير ذلك (والله فوق ما قلته) لأن صفاتك الجميلة وكمالاتك الجزيلة لا يبلغها الأوهام ولا تحيط بها الأفهام (فبلاؤه عندنا ما لا يكفر) أي إحسانه وإنعامه ونعمته تعالى عندنا بسبب فيضك الشامل وجودك الهاطل لا يجحد، يقال: كفر نعمة الله وبها كفورا وكفرانا إذا جحدها وسترها وهو كافر أي جاحد لأنعم الله تعالى.

(وقد حملك الله تبارك وتعالى رعايتنا) أي حفظنا عن سبيل الضلالة والوقوع في الجهالة والراعي كل من ولى أمر قوم وحفظهم عما يهلكهم أو يضرهم (وولاك سياسة أمورنا) أي أمرها ونهيها، تقول: سست الرعية سياسة إذا أمرتها ونهيتها (فأصبحت علمنا الذي نهتدي به) شبهه (عليه السلام) بالعلم وهو المنصوب في الطريق للاهتداء به (وأمرك رشد): أي صواب وهداية إلى سبيل الخير ص:553

وإرشاد للخلق إلى مصالحهم (وقولك كله أدب) أي حسن عدل لكونه جاريا على القوانين العدلية (قد قرت بك في الحياة أعيننا) القرة بالضم: البرودة وهي كناية عن السرور لأن دمعة السرور باردة ويمكن أن يكون قرت بمعنى استقرت أي استقرت وسكنت بوجودك وفيضك أعيننا بحيث لا نستشرف إلى غيرك ولا تنظر إلى الجوانب طلبا للمغيث لعدم الحاجة إليه (وتحيرت عن صفة) أي عن وصف (ما فيك من بارع الفضل عقولنا) أريد بالفضل البارع الفضل الفائق على فضل الخلائق كلهم أو الغالب على العقول المعجز لها عن إدراكه الموجب لتحيرها (ولسنا نقول) ما قلنا لك من المدح والثناء (أيها الإمام الصالح تزكية لك) لأنه ليست في نفسك المقدسة الطاهرة الزكية شائبة نقص حتى تحتاج إلى التزكية (ولا نجاوز القصد) أي العدل (في الثناء عليك) كما يجاوزه الغلاة فتمنعنا منه (ولن يكن في أنفسنا طعن في يقينك أو غش في دينك - آه) لن يكن مثال لن يعد من الوكن: وهو السير والجلوس ويمكن أن يقرأ بضم الياء وفتح الكاف وشد النون من كنه إذا ستره معناه أنه لن يخطر ببالنا أبدا أن في يقينك ضعفا وفي دينك غشا ونفاقا فنخاف بما قلنا من المدح والثناء أن يدخل في قلبك تجبر وتكبر كما يدخلان بهما في قلب ضعيف اليقين والناقص في الدين، ثم أشار إلى أن ثمرة ذلك القول ليست راجعة إليك حيث أنه لا يوجب رفعا لدرجتك بل هي راجعة إلينا لأنه يوجب قربنا إلى الله وإليك وتوسعنا في الثواب وأداء شكر لله تعالى بإعظامه أمرك بقوله (ولكنا نقول لك ما قلنا) من المدح والثناء.

(تقربا إلى الله تعالى بتوقيرك) وتبجيلك وتعظيمك حيث أنه من أعظم الطاعات الموجبة للقرب منه تعالى (وتوسعا) لنا بمزيد الثواب (بتفضيلك) على الأمة كلهم و (شكرا) لله تعالى (بإعظام أمرك) وهو نعمة جليلة من الله تعالى بها علينا ثم أشار إلى أنه في مقام التسليم له في جميع الأمور بقوله (فانظر) إلى ما ترى فيه صلاحا (لنفسك ولنا) من أمر الدين والدنيا (وأثر أمر الله على نفسك وعلينا فنحن طوع فيما أمرتنا) طوع بالضم وشد الواو المفتوحة: جمع طايع كركع وراكع والطايع:

السلس القياد الذي لا يكره ما يراد منه (ننقاد من الأمور مع ذلك فيما ينفعنا) أي ننقاد لك فيما ينفعنا من الأمور بالعمل به مع الطوع والرغبة وعدم الكراهة منه، ففي الفقرة الأولى إشارة إلى الانقياد قلبا وفي الثانية إلى الانقياد عملا، وكل ما أمر به (عليه السلام) فهو نافع فقوله فيما ينفعنا لبيان الواقع لا للتقييد (فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام)) طالبا منهم أن يكون ظاهرهم فيما قالوا موافقا لباطنهم وبالعكس (فقال: وأنا استشهدكم) أي جعلكم شهداء (عن الله على نفسي) بالشفقة والموعظة الحسنة والنصيحة الخالصة لكم في الأمور المطلوبة منكم (لعلمكم فيما وليت به من أموركم) علة لتخصيص الشهادة بالحاضرين ضرورة أن الشهادة بالشيء موقوفة على العلم بذلك

ص:554

الشيء ولفظه «في» للظرفية المجازية أو بمعنى الباء (وعما قليل يجمعني وإياكم الموقف بين يديه) «ما» زائدة غير كافة للجار عن العمل وإسناد الجمع إلى الموقف مجاز وفيه تنبيه على قرب القيامة وحث على تحصيل ما ينفع فيها (والسؤال عما كنا فيه) عطف على الموقف.

(ثم يشهد بعضنا على بعض) بما فعل في هذه الدنيا كما وقع ولما كانت الدنيا دار كمون قد يقع الشهادة فيها على خلاف الواقع لغرض من الأغراض الفاسدة بخلاف الآخرة قال: (فلا تشهدوا اليوم بخلاف ما أنتم شاهدون) عليه في (غدا) قوله «شاهدون» في موضع تشهدون عدل عنه تصويرا لما سيقع بصورة الواقع (فإن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية ولا يجوز عنده إلا مناصحة الصدور في جميع الأمور) المراد بمناصحة الصدور: خلوصها عن الغش بأن لا تظهر خلاف ما تضمر وهي معتبرة في جميع الأمور سواء كانت دنيوية أم أخروية وسواء كانت شهادة أم عبادة أم موعظة أم نصيحة أم غيرها، وهذه الفقرة تعليل لقوله (فلا تشهدوا - إلى آخره) تقريره أن شهادة الآخرة من صميم القلب قطعا وشهادة الدنيا إذا كانت بخلافه كانت بمجرد اللسان مع مخالفة القلب والله سبحانه عالم بما في القلوب لا يخفى عليه خافيه فلا يجوز عنده من الشهادة مالا يوافق القلب بل هي نفاق وشهادة زور يعذب به (فأجابه وقد عال الذي في صدره) أي اشتد حزنه من ضعف الدين وأهله وتشتت الأمر وتفرق الكلمة بين أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) (وغصص الشجا تكسر صوته) الغصة بالضم والشجا بالفتح والقصر: ما اعترض في الحلق ونشب فيه فالإضافة بيانية والشجا أيضا: الهم والغم والحزن والإضافة حينئذ لامية وتكسر إما من باب ضرب أو من باب التفعيل للمبالغة.

(إعظاما لخطر مرزئته) إعظاما مفعول له لعال أو لأجاب لا ليقطع لعدم إتحاد الفاعل فيهما والمرزئة بالهمزة بعد الراء: المصيبة (ووحشة من كون فجيعته) أي من وجود وثبوتها والفجيعة:

الرزية، سميت بها لأنها توجع من فجعه كمنعه إذا أوجعه وأولمه وكان تلك المرزئة والفجيعة ما رآه من رجوع أكثر أصحابه عنه (ثم شكا إليه) أي إلى الله (هول ما أشفى عليه) أي أشرف (عليه السلام) (من الخطر العظيم) وهو غلبة معاوية عليه (والذل الطويل) لقلة الأعوان له (في فساد زمانه) بما صنع أصحاب الجمل وحاكم الشام وعمرو بن العاص ومن قبلهم (وانقلاب حده) بالحاء المهملة المرتبة وبالجيم المفتوحة: البخت والحظ والعظمة (وانقطاع ما كان من دولته) كأنه علم ذلك بمشاهدة أحوال الناس ورجوعهم عن الحق (ثم نصب المسألة إلى الله عز وجل بالامتنان عليه) أي بالإحسان إليه والإنعام عليه (والمدافعة عنه) كيد الأعداء وضرر الأشقياء (بالتفجع وحسن الثناء عليه) (عليه السلام) أو على الله، والظرف حال عن فاعل نصب والتفجع توجع الإنسان للمصيبة وإظهار

ص:555

التألم بشيء يثقل عليه ويكرهه (فقال: يا رباني العباد) في الفايق: الرباني: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة، وهو العالم الراسخ في العلم والدين الذي أمر به الله أو الذي يطلب بعلمه وجه الله وقال بعضهم: العالم الرباني: العالم العامل المعلم (ويا سكن البلاد) السكن بالتحريك: ما يسكن وقد يسكن والرحمة والبركة.

(ألم تكن لذل الذليل ملاذا) فيه تقرير وتصديق بأنه (عليه السلام) كان ملاذا للأذلاء بالفقر أو الجهل والجور عليهم يدفع عنهم الذل بهذه المعاني (وللعصاة الكفار إخوانا) في بعض النسخ خوانا الخوان بالكسر وكغراب وكتاب: ما يوضع عليه الطعام عند الأكل والإخوان لغة فيه وكأنه شبهه (عليه السلام) به في أنهم يأخذون من مائدة علومه فيصيرون مؤمنين، وقيل: الإخوان: الأسد ولو ثبت فهو هو (من فظاعة تلك الخطرات) أي خطرات يوم القيامة لتبادرها وإن لم يسبق لها ذكر أو خطرات الذل والمعصية والكفر والجهل (أو بمن فرج عنا غمرات الكربات) الغمرة في الأصل: ما يغمرك من الماء ويغطيك ثم كثر استعمالها في الشدة، والكربة: حزن يأخذ النفس ويقلق الروح والظاهر أن فيه حذفا وهو الأبكم بقرينة السابق واللاحق والإضافة على إرادة الماء من قبيل لحين الماء، والوجه الإهلاك وعلى ادة الشدة (لامية وبمن الا بكم، أظهر الله معالم ديننا) أي مواضع علومه وهي القوانين النبوية (واستصلح ما كان فسد من دنيانا) بسب فساد الناس وشيوع الظلم والجور بينهم قبل الوحي وبعد انقطاعه (حتى استبان بعد الجور ذكرنا) بالخير والصلاح والشرف، وأريد بالجور جور هذه الأمة بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأعم منه ومن جور العرب وغيرهم قبل البعثة (وقرت من رخاء العيش أعيننا) الرخاء بالضم: مصدر وفعله ككرم ورضى، وبالفتح: سعة العيش وبهم (عليهم السلام) قامت القوانين العدلية في العيش وارتفع كل ما هو سبب لضيقه من الجور والظلم والبغي والقتل والنهب وغيرها مما يبطل النظام ويشوش أحوال الأنام (لما وليتنا بالإحسان جهدك) كأنه تعليل لقوله: وبك أخرجنا الله من فظاعة تلك الخطرات وما عطف عليه «وما» مصدرية والتولية الإعطاء كما قيل في قوله تعالى: (فلنولينك قبلة ترضيها)، والجهد: الطاقة أو الاجتهاد، والمراد به بقرينة المقام وحذف متعلقه الاجتهاد في جميع الأمور المتعلقة بصلاح الدين والدنيا ونظامهما.

(ووفيت لنا بجميع عهدك) العهد: الوصية والموثق والحرمة والمراد به جميع ما التزم (عليه السلام) تبليغه إلى الأمة (فكنت شاهد من غاب عنا) وهو النبي (صلى الله عليه وآله) أي تشهد له علينا بما جاء به لا يعزب عنك منه شيء ويمكن أن يراد بالشاهد الحاضر يعني أنك قائم مقامه (وخلف أهل البيت لنا) خلف بالتشديد من التخليف ماض معطوف على غاب وتخفيف اللام وعطف على شاهد وإرادة النبي وفاطمة (عليهم السلام) من أهل البيت بعيد (وكنت عز ضعفائنا) أي ضعيف الحال وقليل المال منا

ص:556

الذي لا يقدر على المدافعة عن نفسه وعرضه عزيز عندك تدفع عنه ما يوجب ذله وتجلب إليه ما يوجب عزه (وثمال فقرائنا) الثمال بالكسر: الملجأ والغياث، وقيل: هو المطعم في الشدة (وعماد عظمائنا) في الحال والشرف والمال لبقاء عظمتهم بك وبنصرك كبقاء البيوت والخيام بالعمود (يجمعنا من الأمور) عدلك في الرعية ولولا عدلك لانتشرت أمورنا وتفرق جمعنا، والمراد بالأمور: الخيرات كلها دنيوية كانت أم أخروية ومن بمعنى في كما قيل في قوله تعالى (أروني ماذا خلقوا من الأرض) وقوله (وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة).

(ويتسع لنا في الحق تأتيك) ومداراتك لأن الحاكم كان عجولا غضوبا يبطل نظامه ونظام الرعية وتذهب الحقوق جلها سيما حقوق كل منهما على الآخر (فكنت لنا أنسا إذا رأيناك) في القاموس، الانس بالضم وبالتحريك: ضد الوحشة، وفي النهاية المشهور في ضد الوحشة الانس بالضم وقد جاء فيه الكسر وأما التحريك وإن لم يكن معروفا في الرواية إلا أنه معروف اللغة لأنه مصدر أنست به أنسا وآنسته والحمل إما للمبالغة أو لأن أنسا بمعنى أنيس وسبب الأنس هو كونه (عليه السلام) في غاية الكمال في الكمالات (وسكنا إذا ذكرناك) قد مر تفسير السكن قبل ذلك (فأي الخيرات) لم تفعل (وأي الصالحات لم تعمل) أشار إلى أن كل ما يطلق عليه اسم الخير والعمل الصالح قد فعله (عليه السلام) والاستفهام للتعجب (ولو أن الأمر الذي نخاف عليك منه) وهو الموت أو القتل (يبلغ تحريكه) أي إزالته وفي بعض النسخ «تحويله» (جهدنا) أي طاقتنا أو اجتهادنا (وتقوى لمدافعه طاقتنا) أي قدرتنا أشار إلى أن الدفع من الطرفين إلا أن المقدر لكونه محتوما غالب (ولا خطرناها) أي جعلناها خطرا وألقيناها في الهلكة (وقل خطرها) وسهل هلاكها (دونك) وعند بقائك بأن اختياره لك ما عنده من المقامات العالية على ما كنت فيه من المشقة الشديدة والظاهر أنه علة لقوله ولا مختلفة (ولكنا نبكي من غير إثم) في البكاء إذا لم نقل ما فيه سخط الرب (لعز هذا السلطان أن يعود ذليلا) لجور هذه الأمة واختلافهم، واللام علة لنبكي، والمراد بالسلطان السلطنة والخلافة أو هو (عليه السلام) (وللدين والدنيا أكيلا) للفاسقين وهو عطف على قوله لعز، وأكيلا منصوب بفعل مقدر يدل عليه المذكور وقوله (ولا نقيمه) عطف على نأمله ولا زائدة ومعناه ولا نرى نظيرا نقيمه مقامك.

ص:557

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

551 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن علي جميعا، عن إسماعيل بن مهران، وأحمد بن محمد ابن أحمد، عن علي بن الحسن التيمي، وعلي بن الحسين، عن أحمد بن محمد بن خالد جميعا، عن إسماعيل بن مهران، عن المنذر بن جيفر، عن الحكم بن ظهير، عن عبد الله بن جرير العبدي، عن الأصبغ بن نباتة قال: أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله بن عمر وولد أبي بكر وسعد بن أبي وقاص يطلبون منه التفضيل لهم فصعد المنبر، ومال الناس إليه فقال:

الحمد لله ولي الحمد ومنتهى الكرم، لا تدركه الصفات، ولا يحد باللغات، ولا يعرف بالغايات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) نبي الهدى وموضع التقوى ورسول الرب الأعلى، جاء بالحق من عند الحق لينذر بالقرآن المنير والبرهان المستنير، فصدع بالكتاب المبين ومضى على ما مضت عليه الرسل الأولون أما بعد:

أيها الناس فلا يقولن رجال قد كانت الدنيا غمرتهم فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا أفره الدواب ولبسو ألين الثياب فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إن لم يغفر لهم الغفار إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون وصيرتهم إلى ما يستوجبون فيفقدون ذلك فيسألون ويقولون: ظلمنا ابن أبي طالب وحرمنا ومنعنا حقوقنا، فالله عليهم المستعان، من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبينا وشهد شهادتنا ودخل في ديننا أجرينا عليه حكم القرآن وحدود الاسلام، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، ألا وإن للمتقين عند الله تعالى أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب، لم يجعل الله تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثوابا وما عند الله خير للأبرار، انظروا أهل دين الله فيما أصبتم في كتاب الله وتركتم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاهدتهم به في ذات الله أبحسب أم بنسب أم بعمل أم بطاعة أم زهادة وفيما أصبحتم فيه راغبين فسارعوا إلى منازلكم - رحمكم الله - التي امرتم بعمارتها العامرة، التي لا تخرب، الباقية التي لا تنفد، التي دعاكم إليها وحضكم عليها ورغبكم فيها وجعل الثواب عنده عنها فاستتموا نعم الله عز ذكره بالتسليم لقضائه والشكر على نعمائه، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا وإن الحاكم يحكم بحكم الله ولا خشية عليه من ذلك اولئك هم المفلحون - وفي نسخة - ولا وحشة واولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وقال: وقد عاتبتكم بدرتي التي اعاتب بها أهلي فلم تبالوا وضربتكم بسوطي الذي اقيم به

ص:558

حدود ربي فلم ترعوا أتريدون أن أضربكم بسيفي أما إني أعلم الذي تريدون ويقيم أودكم ولكن لا أشتري صلاحكم بفساد نفسي بل يسلط الله عليكم قوما فينتقم لي منكم فلا دنيا استمتعتم بها ولا آخرة صرتم إليها فبعدا وسحقا لأصحاب السعير.

* الشرح:

قوله: (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)) شكا فيها إلى الله ممن رغب في الدنيا ولم يرض بحكمه وقضائه ورغبه في أمر الآخرة والتسليم والشكر على نعمائه (قال: أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله ابن عمرو وولد أبي بكر وسعد بن أبي وقاص يطلبون منه التفضيل لهم) على سائر الناس بالعطايا وغيرها (الحمد لله ولي الحمد) أي مستحق حقيقة الحمد أو جميع أفراده لأن المحامد كلها له أو منه (ومنتهى الكرم) إذ الشرف كله ينتهي إليه أما شرف الذات والصفات والوجود على الإطلاق فظاهر وأما الشرف بالإضافة فهو منه وإليه (لا تدركه الصفات) إذ لا صفة له وكل ماله من صفات كمال فهو راجع إلى سلب ضده عنه كما مر في كتاب التوحيد (ولا يحد باللغات) المختلفة والعبارات المتفاوتة المترقية في الكمال أو ليس له حد حقيقي ولا رسمي ويمكن أن يكون إشارة إلى أن أسماءه الحسنى غيره كما مر أيضا (ولا يعرف بالغايات) إذ لا غاية ولا نهاية ويمكن أن يكون الغرض سلب الإمكان الخاص عنه بناء على أن لوجود كل ممكن غاية مقصودة وهو بدونها ليس هو وليس لوجود الواجب غاية (نبي الهدى) بعث للهداية والإرشاد إلى الله تعالى (وموضع التقوى) لاتصافه بها ومنه تنفجر إلى غيره (ورسول الرب الأعلى) من أن تدرك ذاته عقول العارفين وينال صفاته أوهام الواصفين أو من حيث الرتبة والعلية والشرف (فلا يقولن رجال - آه) مقول القول محذوف بقرينة المقام والسياق، أي فلا يقولن رجال ابن أبي طالب حرمنا ومنع حقوقنا أو هو بمنزلة اللازم والمقصود النهي عن حقيقة القول إذا قال (عليه السلام) في وصفهم كيت وكيت وهو مع كونه عاما تعريض بمن ذكر ووصف الرجال بقوله (قد كانت الدنيا غمرتهم - آه) غمره الماء علاه وفيه مكنية وتخييلية بتشبيه الدنيا بالبحر في الإهلاك وإثبات الغمر لها (والعقار) بالفتح: الأرض والضياع والنخل والكرم ونحوها، والدابة الفارهة: هي النشيطة الحادة القوية، والعار: العيب، والشنار بالفتح: أقبح العيب والعار والأمر المشهور بالشنعة (إذا منعتهم ما كانوا فيه يخوضون من أمر الدنيا وصرف العمر في تحصيلها وطلب الزيادة في القسمة وهذا ظرف لقوله فلا يقولن رجال (وصيرتهم إلى ما يستوجبون) أي يستحقون من التأديب ورفض الدنيا وطلب الآخرة والتساوي

ص:559

في العطايا فالله عليهم المستعان فيما يقولون وما يفترون، ثم أشار من باب الاستيناف بقوله (من استقبل قبلتنا - إلى آخره) إلى أنه (عليه السلام) يجري عليهم أحكام القرآن وحدود الإيمان وقوانينه رضوا أم كرهوا ولا يخاف لومة لائم، ثم أشار إلى دفع ما توهموا من فضلهم على غيرهم بقوله (ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى) فالتقي وإن كان عبدا حبشيا أفضل من غيره وإن كان رجلا قرشيا، ثم حث على التقوى ورفض الرسوم الجاهلية من دعوى الفضل بالجاه والمال والنسب ونحوها من الأمور الاعتبارية المحضة التي لا حقيقة لها فقال: مصدرا بحرف التنبيه (ألا وإن للمتقين عند الله أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمآب) أي المرجع كما قال عز وجل (وإن للمتقين لحسن مآب * جنات عدن مفتحة لهم الأبواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هذا ما توعدون ليوم الحساب) ثم أشار إلى تسلية المتقين وتعريض الفاسقين بقوله (لم يجعل الله تبارك وتعالى الدنيا للمتقين ثوابا) لاحتقارها وقلتها وانقطاعها «وما عند الله من الأجر الجميل والثواب الجزيل والمقام الرفيع مع دوام ذلك (خير للأبرار) مما ركن إليه الأشرار من الزهرات الفانية الحاضرة والقنيات الزائلة الداثرة لقلتها وسرعة زوالها (انظروا أهل دين الله فيما أصبتم في كتاب الله وتركتم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجاهدتم به في ذات الله أم بحسب أم بنسب) أم بعمل أم بطاعة أم زهادة وفيما أصبحتم فيه راغبين كأنه أشار إلى أن أحوالكم في هذا اليوم على خلافها في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) حيث أن ما أصبتم في عهده من العطية وما لم تصيبوا منها وتركتموه عنده إنما كان باعتبار العمل لله والطاعة له ولرسوله لا باعتبار الحسب والنسب وكذا ما صرفتموه في الجهاد من أموالكم وأنفسكم كان لأجل زهادتكم في الدنيا واليوم صرفتم راغبين في طلب الزيادة والتفضيل باعتبار الحسب والنسب وعن صرف الأموال والأنفس في الجهاد باعتبار الميل إلى الدنيا وترك الزهد فيها فانظروا في الحالين واختاروا ما هو خير لكم وأبقى. هذا محض الاحتمال والله أعلم بحقيقة الحال، ثم رغب في الميل إلى الآخرة والزهد في الدنيا بقوله (فسارعوا إلى منازلكم رحمكم الله) السرعة إليها مستلزمة للسرعة إلى ما يحتاج فيها واللازم هو المراد الذي أمرتم في هذه الدنيا بعمارتها بالأعمال الصالحة وترك حطام الدنيا.

(العامرة التي لا تخرب) عمارتها فلا تحتاج إلى تعميرها وليست كعمارة الدنيا محتاجة إلى التعمير في كل آن (الباقية التي لا تنفد) لدوامها أبدا وليست كالدنيا منقطعة في وقت ما (فاستتموا) واستكملوا (نعم الله عز ذكره وهي ما أتاكم من الإقرار بالتوحيد والرسالة والولاية وغيرها من النعماء الجلية والخفية (بالتسليم لقضائه) والانقياد له بحيث لا يرى على النفس ثقيلا والشكر على نعمائه تفصيلا وإجمالا (فمن لم يرض بهذا) أي بقضائه وكفر بنعمائه فليس منا من

ص:560

ديننا وسنتنا في الدنيا ولا إلينا يرجع في الآخرة (فإن الحاكم منا يحكم بحكم الله) فمن لم يرض بحكمه ليس من حزب الحاكم فالفاء للتعليل (ولا خشية عليه من ذلك) أي لا خشية على الحاكم من عدم الرضا بحكمه إذ ضرره يعود إلى التارك لا إليه (أولئك هم المفلحون) إشارة إلى السارعين إلى الإجابة الراضين بقضائه أو إلى الحكام المفهوم من الحاكم (وفي نسخة ولا وحشة) إذ للحاكم أنس بالله العظيم لا يستوحش بمخالفة الرعية له (وقد عاتبتكم بدرتي - آه) الدرة بالكسر: ما يضرب به والرعو والرعوة ويثلثان: النزوع عن الجهل وحسن الرجوع عنه والأولاد والأود: العوج وما أخبر به (عليه السلام) من أن الله تعالى يسلط عليهم قوما جبارين وقع كما أخبر فإن بعده (عليه السلام) سلط الله عليهم بني أمية والحجاج الثقفي وغيرهم ففعلوا ما فعلوا.

* الأصل:

552 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار جميعا، عن علي بن حديد، عن جميل، عن زرارة: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سأله حمران قال: جعلني فداك لو حدثتنا متى يكون هذا الأمر فسررنا به؟ فقال: يا حمران إن لك أصدقاء وإخوانا ومعارف إن رجلا كان فيما مضى من العلماء وكان له ابن لم يكن يرغب في علم أبيه ولا يسأله عن شيء، وكان له جار يأتيه ويسأله ويأخذ عنه فحضر الرجل الموت فدعا ابنه فقال: يا بني إنك قد كنت تزهد فيما عندي وتقل رغبتك فيه ولم تكن تسألني عن شيء ولي جار قد كان يأتيني ويسألني ويأخذ مني ويحفظ عني فإن احتجت إلى شيء فأته، وعرفه جاره فهلك الرجل وبقي ابنه فرأى ملك ذلك الزمان رؤيا فسأل عن الرجل، فقيل له: قد هلك فقال الملك: هل ترك ولدا؟ فقيل له: نعم ترك ابنا، فقال: ائتوني به، فبعث إليه ليأتي الملك، فقال الغلام: والله ما أدري لما يدعوني الملك وما عندي علم ولئن سألني عن شيء لأفتضحن، فذكر ما كان أوصاه أبوه به فأتى الرجل الذي كان يأخذ العلم من أبيه فقال له: إن الملك قد بعث إلي ولست أدري فيم بعث إلي وقد كان أبي أمرني أن آتيك إن احتجت إلى شيء فقال الرجل: ولكني أدري فيما بعث إليك فإن أخبرتك فما أخرج الله لك من شيء فهو بيني وبينك فقال: نعم فاستحلفه واستوثق منه أن يفي له فأوثق له الغلام فقال إنه يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا؟ فقل له: هذا زمان الذئب فأتاه الغلام فقال له الملك: هل تدري لم أرسلت إليك؟ فقال: أرسلت إلي تريد أن تسألني عن رؤيا رأيتها أي زمان هذا، فقال له الملك: صدقت فأخبرني أي زمان هذا فقال له: زمان الذئب، فأمر له بجائزة فقبضها الغلام وانصرف إلى منزله وأبى أن يفي لصاحبه وقال: لعلي لا أنفد هذا المال ولا آكله حتى أهلك ولعلي لا أحتاج ولا اسال عن

ص:561

مثل هذا الذي سئلت عنه، فمكث ما شاء الله ثم إن الملك رأى رؤيا فبعث إليه يدعوه فندم على ما صنع وقال: والله ما عندي علم آتيه به وما أدري كيف أصنع بصاحبي وقد غدرت به ولم أف له، ثم قال:

لآتينه على كل حال ولأعتذرن إليه لأحلفن له فلعله يخبرني فأتاه فقال له: إنى قد صنعت الذي صنعت ولم أف لك بما كان بيني وبينك وتفرق ما كان في يدي وقد احتجت إليك فانشدك الله أن لا تخذلني وأنا اوثق لك أن لا يخرج لي شيء إلا كان بيني وبينك وقد بعث إلي الملك ولست أدري عما يسألني؟ فقال: إنه يريد أن يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا فقل له: إن هذا زمان الكبش، فأتى الملك فدخل عليه فقال: لما بعثت إليك؟ فقال: إنك رأيت رؤيا وإنك تريد أن تسألني أي زمان هذا، فقال له: صدقت فأخبرني أي زمان هذا؟ فقال: زمان الكبش فأمر له بصلة، فقبضها وانصرف إلى منزله وتدبر في رأيه في أن يفي لصاحبه أو لا يفي له فهم مرة أن يفعل ومرة أن لا يفعل ثم قال: لعلي أن لا أحتاج إليه بعد هذه المرة أبدا وأجمع رأيه على الغدر وترك الوفاء، فمكث ما شاء الله، ثم إن الملك رأى رؤيا فبعث إليه فندم على ما صنع فيما بينه وبين صاحبه وقال: بعد غدر مرتين كيف أصنع وليس عندي علم ثم أجمع رأيه على إتيان الرجل فأتاه فناشده الله تبارك وتعالى وسأله إن يعلمه وأخبره إن هذه المرة يفي منه وأوثق له وقال: لا تدعني على هذه الحال فإني لا أعود إلى الغدر وسأفي لك فاستوثق منه فقال: إنه يدعوك يسألك عن رؤيا رآها أي زمان هذا فإذا سألك فأخبره أنه زمان الميزان، قال: فأتى الملك فدخل عليه فقال له: لم بعثت إليك؟ فقال: إنك رأيت رؤيا وتريد أن تسألني أي زمان هذا، فقال: صدقت فأخبرني أي زمان هذا، فقال:

هذا زمان الميزان فأمر له بصلة فقبضها وانطلق بها إلى الرجل فوضعها بين يديه وقال: قد جئتك بما خرج لي فقاسمنيه، فقال له: العالم: إن الزمان الأول كان زمان الذئب وإنك كنت من الذئاب وإن الزمان الثاني كان زمان الكبش يهم ولا يفعل وكذلك كنت أنت تهم ولا تفي وكان هذا زمان الميزان وكنت فيه على الوفاء فاقبض مالك لا حاجة لي فيه ورده عليه.

* الشرح:

قوله: (سأله حمران فقال: جعلني فداك لو حدثتنا متى يكون هذا الأمر) أي ظهور الصاحب (عليه السلام) فسررنا به (فقال: يا حمران - آه) فيه فوايد، الأولى: أنه ينبغي إظهار السر وتعليم العلوم الغربية التي يحتاج إليها الخلق في بعض الأوقات لمن هو أهل لها، الثانية: أنه لا يجوز

ص:562

تعليمها لمن ليس بأهل لها وإن كان ولدا، الثالثة: أنه ينبغي ترغيب الجاهل في الرجوع إلى العالم عند الحاجة; الرابعة : أنه يحب الوفاء بالعهد لئلا يؤدى إلى الخجالة في وقت، الخامسة: أنه تعالى قد ينبه الرجل بما فيه صلاحه وصلاح الخلق كما نبه الملك المذكور الذي وقع الجور في رعيته ولم يكن عالما به فسئل في المنام أي زمان هذا؟ فعبر بأنه زمان الذئب فتنبه أنه وقع الجور وشاع بين الرعية فاشتغل بالإصلاح حتى ظن أنه قد رفع ولم يرتفع بالكلية فسأل ثانيا أي زمان هذا؟ فعبر بأنه زمان الكبش الذي قد يضرب وقد لا يضرب فتنبه أنه قد بقي الجور في الجملة فاشتغل بالإصلاح حتى رفع بالكلية فسأل أي زمان هذا؟ فعبر بأنه زمان الميزان أي زمان القسط والعدل فعلم وتيقن ارتفاع الجور بالمرة فاطمأن قلبه إذا عرفت هذا فنقول لعل الغرض منه أن هذا الزمان ليس زمان الميزان فأخاف أن لا تفي بعهد الكتمان ويعلم ذلك أصدقاءك وإخوانك وكأنه أشار بزمان الذئب إلى زمان سلطان بني أمية وبزمان الكبش إلى مدة سلطان بني عباس فإن بعضهم هم أن يدفع الأمر إلى صاحبه ثم غدر كالمأمون وبزمان الميزان زمان ظهور القائم (عليه السلام) فإنه زمان عدل يمكن إظهار السر فيه، وبالجملة أشار إلى اختلاف حالات الخلق فغالب أحوالهم الغدر وعدم الوفاء بالعهد وهذا يقتضى كتمان السر عليهم وإذا اعتدل الزمان واعتدلت أحوالهم ينبغي إظهاره، ويحتمل أن يكون المراد أن لك معارف وأصدقاء وإخوانا فهل ترى أحدا منهم يكتم السر فإذا رأيت منهم الطاعة والانقياد وكتمان السر فاعلم أن ذلك الزمان زمان ظهور هذا الأمر والله يعلم.

* الأصل:

553 - أحمد بن محمد بن أحمد الكوفي، عن علي بن الحسن التيمي، عن علي بن أسباط، عن علي ابن جعفر قال: حدثني معتب أو غيره قال: بعث عبد الله بن الحسن إلى أبي عبد الله (عليه السلام) يقول لك أبو محمد: أنا أشجع منك وأنا أسخى منك وأنا أعلم منك فقال لرسوله: أما الشجاعة فوالله ما كان لك موقف يعرف فيه جبنك من شجاعتك، وأما السخاء فهو الذي يأخذ الشيء من جهته فيضعه حقه، وأما العلم فقد أعتق أبوك علي بن أبي طالب (عليه السلام) ألف مملوك فسم لنا خمسة منهم وأنت عالم، فعاد إليه فأعلمه ثم عاد إليه فقال له: يقول لك: أنت رجل صحفي، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): قل له: إي والله صحف إبراهيم وموسى وعيسى ورثتها عن آبائي (عليه السلام)

* الشرح:

قوله: (يقول لك أنت رجل صحفي) يقال لمن يكثر النظر إلى الصحف صحفي بفتحتين

ص:563

منسوب إلى صحيفة أو إلى صحف بعد ردها إليها وبضمتين خطأ.

* الأصل:

554 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) فقال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم) أي بأن لهم (قدم صدق عند ربهم، قال: هو رسول الله) كان الضمير راجع إلى قدم وتذكيره باعتبار معناه المجازي إذ القدم قد يكون بمعنى السابق المتقدم باعتبار أن السبق والتقدم يكونان بالقدم، وإنما سمي به باعتبار أنه سابق إلى كل خير ومتقدم في كل كمال، وقيل: هو راجع إلى الذين آمنوا والجمع للتعظيم أو لشمول الأئمة (عليهم السلام) أيضا وفيه أن الخطاب بشر يأباه وعوده إلى المبشر المفهوم من بشر وتخصيص البشارة بوقت الاحتضار بعيد والظاهر أن عوده إلى الرب باعتبار أنه رباهم بالعلم والكمال لا يجوز إذ الرب إذا أطلق وأضيف إلى العباد لا يراد به إلا الله عز وجل والله يعلم.

* الأصل:

555 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) قال: لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه جبرئيل بالبراق فركبها فأتى بيت المقدس فلقي من لقي من إخوانه من الأنبياء (عليهم السلام)، ثم رجع فحدث أصحابه أني أتيت بيت المقدس ورجعت من الليلة وقد جاءني جبرئيل بالبراق فركبتها، وآية ذلك أني مررت بعير لأبي سفيان على ماء لبني فلان وقد أضلوا جملا لهم أحمر وقد هم القوم في طلبه، فقال بعضهم لبعض: إنما جاء الشام وهو راكب سريع ولكنكم قد أتيتم الشام وعرفتموها فسلوه عن أسواقها وأبوابها وتجارها، فقالوا: يا رسول الله كيف الشام وكيف أسواقها؟ - قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا سئل عن الشيء لا يعرفه شق عليه حتى يرى ذلك في وجهه - قال: فبينما هو كذلك إذ أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول الله هذه الشام قد رفعت لك. فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا هو بالشام بأبوابها وأسواقها وتجارها فقال: أين السائل عن الشام؟ فقالوا له: فلان وفلان. فأجابهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ما سألوه عنه فلم يؤمن منهم إلا

ص:564

قليل (1) وهو قول الله تبارك وتعالى: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): نعوذ بالله أن لا نؤمن بالله وبرسوله، آمنا بالله وبرسوله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، قال: لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاه جبرئيل

ص:565


1- 1 - مما لا يشك مسلم فيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسري به ليلا إلى المسجد الأقصى كما هو نص القرآن وأنه عرج به إلى السماء والواجب على المسلم أن يؤمن به ولا يستبعد شيئا من قدرة الله تعالى ولا يحوم حول الفضول ولا يتكلف لما لا سبيل له إليه فإن الله ورسوله (عليه السلام) وأوليائه (عليهم السلام) لا يتكلمون إلا بالحق وما فيه هداية الناس إلى الصواب والسعادة ولكن الصدر الأول اختلفوا في أن معراجه (صلى الله عليه وآله) كان رؤيا النبوة أو يقظة بجسمه أو روحه نقل اختلافهم ابن إسحاق في السيرة النبوية وتوقف هو وقال الله اعلم أي ذلك كان، وبعضهم فرق فقال : اسراؤه إلى المسجد الأقصى بجسمه وعروجه إلى السماء بروحه ولا ريب أن جميع ما حكاه (صلى الله عليه وآله) مما رآه في طريق المسجد أو في السماوات كان مما يتعلق بعالم الغيب من الجنة والنار ولقاء الله تعالى وملائكته وأرواح الأنبياء وغير ذلك فيسقط السؤال عما إذا اتفق وصول الإنسان إلى السماوات هل يرى ما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) هناك؟ فنقول: لا! كما لا يرى الناس عذاب في الدنيا وكان يراه النبي (صلى الله عليه وآله) وهنا سؤال حادث في عصرنا أشكل على الناس ويسألون عنها كثيرا وكان هو الباعث لتعرضنا له وهو أن المعراج مبني على الهيئة القديمة التي ثبت بطلانها في عصرنا إذ ليس عند هل عصرنا سماء بالمعنى الذي ورد في أحاديث المعراج وليس عندهم إلا فضاء خلاء غير متناه أو غير معلوم النهاية وأقول السماوات في حديث المعراج هي السماوات الواردة في القرآن مثل قوله تعالى (والذي خلق سبع سماوات طباقا)، (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) ولا يسع لمسلم أن ينكر السماوات السبع على ما ورد في القرآن والسماوات التي عرج إليها النبي (صلى الله عليه وآله) تلك السماوات السبع التي إثباتها من ضروريات الدين ووردت في القرآن العظيم وأما الهيئة الجديدة وإنكار السماوات فكأنه خلط بين أمر حقيقي ووهم اخترعه أذهان الجهال منهم لأن غير المتناهي باطل بالبرهان اليقيني الثابت لدينا من غير شك وإن كان لبعد غوره لا يناله الإفهام السذج وكذك الخلاء ولم أر في هؤلاء من يفهم دليل المسألتين فضلا عن أن يبطلهما، وأما السماوات فزعم هؤلاء أن السماء التي يعتقدها من يعتقدها جسم ثقيل صلب من العناصر الكثيفة ولم يعقلوا أن هذه السماوات بهذه الأبعاد كيف لا يمنع أبصار الكواكب مع أن البلور والماء بل الهواء بهذا الثخن يمنع الأبصار جدا ولم يكن يخفى هذا على الحكماء وغيرهم البتة فلابد أن يعتقدوا جسم الفلك في الشفافية لا يتميز عن الخلاء الذي يتصورونه، ولذلك كانوا يسمونه بالأثير والمنصفون من أهل هذا العصر أيضا لا يأبون عن إطلاق الأثير على هذا الفضاء لأنه ليس ثقيلا كأجسام العناصر ولا خلأ محضا ولكن يتموج ويتكيف بالنور والحرارة والقوى الأخر ولو كان ما يسمونه الخلأ عدما محضا لم يتكيف بهذه القوى، والحق أن الخلاف ليس في وجود السماوات بل في ماهيتها والعوام يتوهمون شيئا والحكماء يعتقدون شيئا آخر، ولا استحالة بعد ثبوت السماوات فيما ورد من حديث المعراج، وأما حديث الخرق والالتيام فاستحالوهما في محدد الجهات ولم يدع أحد من المسلمين عروجه إلى وراء المحدد إذ لامكان وراءه (ش).

بالبراق - آه) قيل: أسرى وسرى بمعنى واحد واتفق القراء على القراءة بأسرى لأن سرى قاصر وتعدية القاصر بالباء يقتضى شركة الفاعل مفعوله في الفعل، فإذا قلت: قعدت بزيد فالمعنى أنك قعدت معه وتعديته بالهمزة لا يقتضى ذلك، فإذا قلت أقعدت زيدا فالمعنى أنك جعلته يقعد بنفسه فلو وقعت القراءة بالثلاثي المتعدي بالباء أوهم شركة الله عبده في السرى والسري يستحيل على الله سبحانه ولا يعترض بقوله تعالى (ذهب الله بنورهم) لأنه مجاز والمعنى أذهب الله بنورهم وقيل: المفعول في الآية محذوف أي أسرى البراق بعبده أي جعله يسرى به وإنما حذف لأن المقصود ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) لا براق وهو دابة ركبها النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج ونقل عن ابن دريد أن اشتقاقه من البرق لسرعته ويحتمل أنه سمي بذلك لأن فيه لونين من قولهم شاة برقاء إذا كان في صوفها الأبيض طاقات سود وتوصف بأبيض لأن الشاة البرقاء معدودة من البيض، وقيل: سمي براقا إشارة إلى صفائه وبريقه، وقال المازري: من العامة نقلا عن مختصر العين أنه دابة كان الأنبياء يركبونها وما نقله من اشتراك الجميع في ركوبها يفتقر إلى نقل ولم يثبت عندنا. وقوله: فركبها الظاهر منه أن سير النبي (صلى الله عليه وآله) كان في حال يقظة بالجسم وهو قول علمائنا وقول أكثر العامة ويدل عليه قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) حيث لم يقل بروح عبده ولأن تحريك الجسم إلى مسافة بعيدة في مدة قليلة هو المستغرب الذي يحتاج إلى البيان دون تحريك الروح وقال بعض العامة: إنه كان بالروح، وقيل: إنه كان بالجسم إلى المسجد الأقصى وبالروح إلى السماء، لأن الآية خرجت مخرج الترفيع، فلو كان الجسم في حال اليقظة لقال: بعبده إلى السماء كما قال: إلى المسجد الأقصى لأنه أمدح، والجواب أن هذا لا يعارض إجماع الخاصة بل إجماع العامة لأن الخلاف بينهم منسوب إلى بعض السلف، واتفق المتأخرون من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما ذكرنا.

وقال بعضهم: إنه كان مرتين مرة بالروح ومرة بالجسم واختاره السهيلي جمعا بين الأقاويل وقوله:

فأتى بيت المقدس هو بفتح الميم وسكون القاف وبضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال لغتان مشهورتان فعلى التخفيف يحتمل أن يكون مصدرا كالمرجع ويحتمل أن يكون اسم مكان أي بيت المكان الذي فيه التقديس أي الطهارة إما من الأصنام أو من الذنوب، وقوله: ثم رجع دل بظاهره على أن الإسراء وقع إلى بيت المقدس فقط لا إلى السماء أيضا، ويمكن حمله على ظاهره ويكون الإسراء إلى السماء أيضا ويمكن مرة أخرى غير هذه المرة، ويمكن حمل الخبر على

ص:566

الاقتصار بذكر بعض أجزاء المسافة الذي تطرد عير أهل مكة إليه شهرا ذاهبة وشهرا راجعة لأن هذه المسافة كانت مأنوسة عندهم ومعلومة مدة السير فيها، وإذا علموا بأن سيره فيها ذهابا أو عودا وقع في بعض الليل وأقام الشاهد على ذلك كان ذلك أدفع لعذرهم وأوقع في قبول الحق بخلاف الأمور السماوية فإنهم لم يعاينوها ولم يشاهدوها (فقال بعضهم لبعض: إنما جاء الشام - آه) يحتمل أن يكون السائل بعض المؤمنين ويدل عليه قوله: فقالوا يا رسول الله ويؤيده ما قال بعض العامة من أنه ارتد بهذا الأخبار جمع من المؤمنين فقالوا: ما لهذا يدعي أنه خرج الليلة إلى الشام ورجع، ويحتمل أن يكون بعض الكفار وقولهم: يا رسول الله إما محمول على الاستهزاء كما في قول فرعون «إن رسولكم الذي أرسل إليكم مجنون» ويحتمل أن يكون على سبيل الموافقة والملاينة والقصد إلى تصديقه بعد التبين فلذلك آمن قليل منهم (إذ أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول هذه الشام قد رفعت لك) يحتمل أن يكون صورة الشام ومثالها ظهرت له (صلى الله عليه وآله) ويحتمل أن نفس هذه البلدة ظهرت له بإزالة الحائل بينه وبينها أو بنقلها من محلها إلى قريب منه.

* الأصل:

556 - أحمد بن محمد بن أحمد، عن علي بن الحسن التيمي، عن محمد بن عبد الله، عن زرارة، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا قال المؤمن لأخيه: أف خرج من ولايته وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما لأنه لا يقبل الله عزوجل من أحد عملا في تثريب على مؤمن نصيحة ولا يقبل من مؤمن عملا وهو يضمر في قلبه على المؤمن سوءا، لو كشف الغطاء عن الناس فنظروا إلى وصل ما بين الله عز وجل وبين المؤمن خضعت للمؤمنين رقابهم وتسهلت لهم أمورهم ولانت لهم طاعتهم ولو نظروا إلى مردود الأعمال من الله عزوجل لقالوا: ما يتقبل الله عز وجل من أحد عملا وسمعته يقول لرجل من الشيعة: أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات كل مؤمنة حوراء عيناء وكل مؤمن صديق.

قال: وسمعته يقول شيعتنا أقرب الخلق من عرش الله عز وجل يوم القيامة بعدنا وما من شيعتنا أحد يقوم إلى الصلاة إلا اكتنفته فيها عدد من خالفه من الملائكة يصلون عليه جماعة حتى يفرغ من صلاته وإن الصائم منكم ليرتع في رياض الجنة تدعو له الملائكة حتى يفطر. وسمعته يقول: أنتم أهل تحية الله بسلامه، وأهل اثرة الله برحمته، وأهل توفيق الله بعصمته، وأهل دعوة الله بطاعته، لا حساب عليكم ولا خوف ولا حزن، أنتم للجنة والجنة لكم، أسماؤكم عندنا الصالحون والمصلحون وأنتم أهل الرضا عن الله عز وجل برضاه عنكم والملائكة إخوانكم في الخير فإذا جهدتم ادعوا، وإذا غفلتم اجهدوا، وأنتم خير البرية، دياركم لكم جنة، وقبوركم لكم جنة، للجنة

ص:567

خلقتم وفي الجنة نعيمكم وإلى الجنة تصيرون.

* الشرح:

قوله: (إذا قال المؤمن لأخيه أف خرج من ولايته) التي أشار إليها جل شأنه بقوله (المؤمنون بعضهم أولياء بعض) أو من ولاية الله كما قال تعالى (الله ولي الذين آمنوا) وأف كلمة يقال عند التضجر للاحتقار والاستقذار والإنكار (وإذا قال: أنت عدوي كفر أحدهما) لأنه إن كذب كفر وإن صدق كفر المخاطب فأشار (عليه السلام) (إلى الأول بقوله لأنه لا يقبل الله عز وجل من أحد عملا في تثريب) أي في توبيخ واستقصاء في اللوم (على مؤمن نصيحة) هي بدل لعملا أو صفة له أو مفعول له لتثريب وإذا لم يقبل منه نصيحة في توبيخ ولوم فضلا عن غيرها فهو كافر وأشار إلى الثاني بقوله (ولا يقبل من مؤمن عملا وهو يضمر في قلبه على المؤمن سوء) وإذا لم يقبل منه عملا لتلك الحالة فهو كافر، وبالجملة ليس هو كافرا بالجحود المنافي لأصل الإيمان بل هو كافر بترك أمر الله تعالى ورعاية حقوق الأخوة وهو ناقص الإيمان، ثم حث على التواضع للمؤمن وأداء سائر حقوقه بقوله (ولو كشف الغطاء عن الناس فنظروا إلى وصل ما بين الله عز وجل وبين المؤمن) من القرب والإحسان والفيوضات التي لا تعد ولا تحصى (خضعت للمؤمنين رقابهم) كما خضعت له تعالى وللمقرب من أمراء الملوك وفي هذا المقام قد ترك الأوهام فيتوهم الاتحاد وقد ذكرنا توضيح ذلك في شرح الأصول (وتسهلت لهم) أي للناظرين أمورهم التي وراء أمور المؤمن لأنهم في واد وهم في واد آخر وإرجاع الضمير إلى المؤمنين خطأ كما لا يخفى (وكانت لهم طاعتهم) في الأمر والنهي كانوا كالمجبورين فيها فلذلك اقتضت الحكمة عدم كشف الغطاء تحقيقا لمعنى التكليف والثواب والعقاب ومن ثم قال الكفار للرسل (إن أنتم إلا بشر مثلنا) نظرا إلى الصورة الظاهرة وغفلة عن الصورة الباطنة (ولو نظروا إلى مردود الأعمال من الله عز وجل) وإن كانت صالحة بحسب الظاهر لأمور خفية لا يعلمها إلا هو ونظروا إلى ما ورد عليه من المقت والخزي والنكال وغنائه عز وجل عنه وعن عمله (لقالوا ما يتقبل الله من أحد عملا) وهذا الذي أوقع المؤمن وراء الغطاء بين الخوف والرجاء (وسمعته يقول لرجل من الشيعة أنتم الطيبون ونساؤكم الطيبات) لأنهم طيبون بحسب الذات والصفات ولو صدر منهم بعض الزلات يدركهم عفو الله ولو بالمصيبات كما يشعر به بعض الأخبار والآيات (كل مؤمنة حوراء عيناء) الحوراء بفتح الحاء: هي الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها والعيناء: واسع العين مع سوادها (وكل مؤمن صديق) هو

ص:568

فعيل للمبالغة في الصدق وهو من يصدق قوله بالعمل ويوافق ظاهره باطنه في جميع الأمور.

(قال: وسمعته يقول: شيعتنا أقرب الخلق) المؤمنين من لدن آدم (عليه السلام) إلى آخر الدهر (من عرش الله عز وجل يوم القيامة بعدنا) كان المراد بالعرش: الرحمة سميت به لاستقرار المؤمنين فيها ويحتمل الجسماني لما عرفت مرارا أن له عز وجل عرشا لا لاستقراره فيه لأنه محال بل هو معبد الملائكة المقربين ومطافهم (وما من شيعتنا أحد يقوم إلى الصلاة إلا اكتنفه فيها عدد من خالفه من الملائكة) يؤيده ما نقل أن المؤمن وحده جماعة، ولعل المراد من خالفه بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آخر الدهر وتخصيصه بالمخالف في عصره بعيد (وأن الصائم منكم ليرتع في رياض الجنة) أي ليتمتع ويتنعم فيها حيث يشاء وفي النهاية الرتع: الاتساع في الخصب والتنعم ويحتمل أن يراد برياض الجنة ذكر الله تعالى ويؤيده ما رواه العامة «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قال صاحب النهاية: أراد برياض الجنة ذكر الله تعالى وشبه الخوض فيه بالرتع في الخصب (وسمعته يقول:

أنتم أهل تحية الله بسلامه) في قوله عز وجل (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) والسلام:

السلامة عن المكاره والفتن والآفات ومنه قيل للجنة: دار السلام لسلامتها عما ذكر (وأهل أثرة الله برحمته) الأثرة بالضم: المكرمة المتوارثة (ولا خوف) من العقاب (ولا حزن) بفوات الثواب إذ العقاب مرتفع قطعا والثواب ثابت أبدا (وأنتم أهل الرضا عن الله عز وجل برضاه عنكم) قيل: رضا العبد عنه تعالى عبارة عن رفع الاختيار، وقيل: هو سكون النفس تحت مجارى القدر، وقيل: هو السرور بمر القضاء وإلا ولأن تعريف المبدء والأخير تعريف المنتهى، ورضاه تعالى عن العبد إفاضة الخيرات في الدنيا والآخرة ومنها تشريفهم بالقرب (دياركم لكم جنة) أي دياركم في الدنيا جنة لكم لإتباعكم فيها ما يوجب الجنة أو دياركم في الآخرة والأول أنسب.

* الأصل:

557 - أحمد بن محمد بن أحمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن محمد بن الوليد، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجعفر (عليه السلام) حين قدم من الحبشة: أي شيء أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت حبشية مرت وعلى رأسها مكتل فمر رجل فزحمها فطرحها ووقع المكتل عن رأسها فجلست ثم قالت: ويل لك من ديان يوم الدين إذا جلس على الكرسي وأخذ للمظلوم من الظالم. فتعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

* الشرح:

قوله: (وعلى رأسها مكتل - آه) المكتل كمنبر: شبه الزنبيل يسع خمسة، عشر

ص:569

صاعا، والزحام بالكسر: المضايقة زحمه كمنعه زحاما ضايقه، والديان في صفته تعالى، للمبالغة: من الدين بمعنى الجزاء والمكافاة وكان تعجبه (صلى الله عليه وآله) من صدور ذلك القول الذي هو أعظم الأقوال لتهديد الظالم من حبشية في بلاد الشرك.

* الأصل:

558 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي أيوب الخزاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن آزر أبا إبراهيم (عليه السلام) كان منجما لنمرود ولم يكن يصدر إلا عن أمره فنظر ليلة في النجوم فأصبح وهو يقول لنمرود: لقد رأيت عجبا قال: وما هو؟ قال: رأيت مولودا يولد في أرضنا يكون هلاكنا على يديه ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به، قال: فتعجب من ذلك وقال: هل حملت به النساء؟ قال: لا، قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يدع امرأة إلا جعلها في المدينة لا يخلص إليها ووقع آزر بأهله فعلقت بإبراهيم (عليه السلام) فظن أ نه صاحبه فأرسل إلى نساء من القوابل في ذلك الزمان لا يكون في الرحم شيء إلا علمن به فنظرن فألزم الله عز وجل ما في الرحم ] إلى [الظهر فقلن: ما نرى في بطنها شيئا وكان فيما اوتي من العلم أنه سيحرق بالنار ولم يؤت علم أن الله تعالى سينجيه، قال: فلما وضعت أم إبراهيم أراد آزر أن يذهب به إلى نمرود ليقتله، فقالت امرأته لا تذهب بإبنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله ولا تكون أنت الذي تقتل ابنك، فقال لها: فامضي به.

قال: فذهبت به إلى غار ثم أرضعته، ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه، قال: فجعل الله عز وجل رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشخب لبنها وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة، فمكث ما شاء الله أن يمكث. ثم أن امه قالت لأبيه: لو أذنت لي حتى أذهب إلى ذلك الصبي فعلت، قال: فافعلي فذهبت فإذا هي بإبراهيم (عليه السلام) وإذا عيناه تزهران كأنها سراجان قال: فأخذته فضمته إلى صدرها وأرضعته ثم انصرفت عنه، فسألها آزر عنه، فقالت: قد واريته في التراب فمكثت تفعل فتخرج في الحاجة وتذهب إلى إبراهيم (عليه السلام) فتضمه إليها وترضعه، ثم تنصرف فلما تحرك أتته كما كانت تأتيه فصنعت به كما كانت تصنع فلما أرادت الانصراف أخذ بثوبها فقالت له:

مالك؟ فقال لها: إذهبي بي معك، فقالت له: حتى أستأمر أباك، قال: فأتت أم إبراهيم آزر فأعلمته القصة، فقال لها: ايتيني به فأقعديه على الطريق فإذا مر به إخوته دخل معهم ولا يعرف.

قال: وكان إخوة إبراهيم (عليه السلام) يعملون الأصنام ويذهبون بها إلى الأسواق ويبيعونها قال: فذهبت إليه فجاءت به حتى أقعدته على الطريق ومر إخوته فدخل معهم فلما رآه أبوه وقعت عليه المحبة

ص:570

منه فمكث ما شاء الله قال: فبينما إخوته يعملون يوما من الأيام الأصنام إذا أخذ إبراهيم (عليه السلام) القدوم وأخذ خشبة فنجر منها صنما لم يروا قط مثله، فقال آزر لامه: إني لأرجو أن نصيب خيرا ببركة ابنك هذا، قال: فبينما هم كذلك إذ أخذ إبراهيم القدوم فكسر الصنم الذي عمله ففزع أبوه من ذلك فزعا شديدا، فقال له: أي شيء عملت؟ فقال له إبراهيم (عليه السلام): وما تصنعون به؟ فقال آزر: نعبده، فقال له إبراهيم (عليه السلام): (أتعبدون ما تنحتون)؟ فقال آزر] لامه [: هذا الذي يكون ذهاب ملكنا على يديه.

* الشرح:

قوله: (عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن آزر أبا إبراهيم كان منجما لنمرود) هو نمرود بن كنعان من أحفاد سام بن نوح وكان بينه وبين نوح سبعة آباء وكان ملك الشرق والغرب وادعى الألوهية وأمر بعمل الأصنام على صورته ونشرها على بلاده وأمرهم بعبادتها والسجود لها ولم يكن في عهده مؤمن ظاهرا حتى بعث الله تعالى خليل الرحمن (ولقد رأيت عجبا) العجب إنكار ما يرد عليك وقد يتعجب الإنسان من الشيء لعظم موقعه عنده لحسنه أو لقبحه مع خفاء سببه (لم يدع امرأة ألا في جعلها المدينة لا يخلص إليها) خلص فلان إلى فلان وصل إليه وفي معراج النبوة جعلهن في المدينة ومنع الرجال من الدخول فيها ووكل على أبواب المدينة أمناء منهم آزر فحضرت زوجته عنده فواقعها فحملت بإبراهيم (عليه السلام) (ووقع آزر بأهله فعلقت بإبراهيم) قال الفاضل الأمين الأسترآبادي: هذا الحديث صريح في أن آزر كان أبا إبراهيم (عليه السلام) وقد انعقد إجماع الفرقة المحقة على أن أجداد نبينا (صلى الله عليه وآله) كانوا مسلمين إلى آدم (عليه السلام) وقد تواترت عنهم (عليهم السلام) نحن من الأصلاب الطاهرات والأرحام المطهرات لم تدنسهم الجاهلية بأدناسها وفي كتب الشافعية كالقاموس وكشرح الهمزية لابن حجر المكي تصريح بأن آزر كان عم إبراهيم (عليه السلام) وكان أبوه تارخ ويمكن حمل هذا الحديث على التقية بأن يكون هذا مذهب أبي حنيفة انتهى. أقول تارخ غير آزر كما صرح به بعض العامة وعلى هذا لا يرد أن تارخ هو آزر وأكثرهم على الاتحاد (دعني أذهب به إلى بعض الغيران) الغيران: جمع الغار وهو كالكهف في الجبل (فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشخب لبنها) الشخب ويضم: ما خرج من لضرع من اللبن والسيلان وشخب اللبن كمنع ونصر، وفي معارج النبوة نقل عن قصص التنزيل أنه يشخب من إبهامه لبن وعسل صاف وعن التيسير أنه يشخب من إحدى أصابعه ماء ومن الأخرى لبن خالص ومن الأخرى عسل مصفى ومن الأخرى تمر ومن الأخرى سمن (وجعل يشب) يشب فلان بالكسر ويضم: يرتفع ويكبر (فلما أرادت

ص:571

الانصراف أخذ بثوبها) في معارج النبوة قال لامه هل غير هذه البقعة منزل آخر؟ قالت: نعم أوسع وأحسن وأزين وهذه البقعة ضيقة وانما أسكنتك فيها خوفا من العدو وتحرزا من قتلك، فالتمسها أن تخرجه معها فلما أخرجته ليلا رأى (عليه السلام) أرضا موضوعة مبسوطة وسماء مرفوعة مزينة بزينة الكواكب فقال ما حكاه عنه جل شأنه القرآن الكريم بقوله (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي) - الآية، والمراد بالكوكب الجنس أو الزهرة كما قيل (هذا ربي) أي على زعمكم، وقيل: تقديره أهذا ربي بحذف حرف الاستفهام قاله على سبيل الإنكار وقيل: إنه (عليه السلام) كان في مقام الاستدلال على وجود الصانع والمستدل قيل: إتمام الاستدلال لا يحصل له العلم بالمطلوب فلما تم استدلاله حصل له اليقين بالرب الحقيقي فقال (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) وهذا ليس بشيء لأنه كان له علم بالرب بحسب الفطرة وقيل غير ذلك (إذ أخذ إبراهيم (عليه السلام) القدوم - آه) في النهاية القدوم بالتخفيف والتشديد: قدوم النجار، وفي القاموس، القدوم: آلة للنجر مؤنثة وقال ابن السكيت: ولا تقل قدوم بالتشديد بل قدوم بالفتح والتخفيف.

* الأصل:

559 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حجر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خالف إبراهيم (عليه السلام) قومه وعاب آلهتهم حتى ادخل على نمرود فخاصمه فقال إبراهيم (عليه السلام): (ربي الذي يحيي ويميت قال: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) وقال أبو جعفر (عليه السلام): عاب آلهتهم (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) قال أبو جعفر (عليه السلام): والله ما كان سقيما وما كذب، فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم (عليه السلام) إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم ووضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا والله ما اجترأ عليها ولا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها ويبرأ منها، فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار، فجمع له الحطب واستجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود وجنوده وقد بنى له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار ووضع إبراهيم (عليه السلام) في منجنيق، وقالت الأرض: يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال الرب: إن دعاني كفيته. فذكر أبان، عن محمد بن مروان، عمن رواه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أن دعاء إبراهيم (عليه السلام) يومئذ كان «يا أحد] يا أحد، يا صمد [يا صمد، يامن لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» ثم قال: «توكلت على الله» فقال الرب تبارك وتعالى:

ص:572

كفيت فقال للنار: (كوني بردا) قال: فاضطربت أسنان إبراهيم (عليه السلام) من البرد حتى قال الله عزوجل (وسلاما على إبراهيم) وانحط جبرئيل (عليه السلام) وإذا هو جالس مع إبراهيم (عليه السلام) يحدثه في النار، قال نمرود; من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم، قال: فقال عظيم من عظمائهم: اني عزمت على النار أن لا تحرقه،] قال [فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه، قال: فآمن له لوط وخرج مهاجرا إلى الشام هو وسارة ولوط.

* الشرح:

قوله: (قال: خالف إبراهيم (عليه السلام) قومه وعاب آلهتهم) في معارج النبوة لامهم لوما شديدا لعبادة الأصنام وعاب آلهتهم فقد كان يقول (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) وقد كان يقول (أتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) وقد كان يقول (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) وقد كان يقول: إن إلهكم جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ولا يغني عنكم شيئا، وبالجملة كان دائما يذمهم ويذم أصنامهم وقد نقل أنهم كانوا ينحتون الأصنام ويبيعونها في الأسواق ويقولون من يشترى إلها وصفه كذا وكذا ويعدون من الأوصاف الشريفة، وأخذ إبراهيم (عليه السلام) يوما صنما وشد حبلا على رجله يجره على الأرض النجسة والطين في الأسواق وسكك المحلات ويقول من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه ويغبن ويخسر في شرائه وهكذا كان يعد جملة من معايبه (حتى أدخل على نمرود) إدخاله عليه كان بعد كسر الأصنام، وفي معارج النبوة أنه دخل عليه ولم يسجد وقد كان دأبهم السجود له عند الدخول عليه فغضب نمرود عليه وقال لم لم تسجد؟ فقال (عليه السلام): لا أسجد إلا لربي، فقال نمرود: من ربك؟ (فقال (عليه السلام): ربي الذي يحيى ويميت فقال أنا أحيى وأميت) وأحضر رجلين قتل أحدهما وأطلق الآخر زعم الأحمق أنه إحياء وإماتة ولم يعلم أن المراد بالإحياء إيجاد الحياة وربط الروح بالبدن بمجرد الإرادة وبالإمانة إزهاق الروح وإزالة الارتباط بلا علاج ولا آلة وإنما لم يجب (عليه السلام) بذلك وعدل إلى دليل آخر أظهر في إلزامه خوفا من التباس ذلك على أفهامهم القاصرة (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) في معارج النبوة أرسل الله تعالى جبرئيل (عليه السلام) يأتي بالشمس من المغرب لو سأل نمرود إبراهيم (عليه السلام) أن يأتيها ربه من المغرب ولما لم يسأل توقف ظهورها من المغرب إلى قيام الساعة وقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا تقوم

ص:573

الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب ليعلم الخلق أنى قادر على ذلك (فبهت الذي كفر) بهت الرجل بالكسر: إذا دهش وتحير، وبهت بالضم: مثله والضم أفصح (والله لا يهدي القوم الظالمين) الذين ظلموا أنفسهم بالامتناع من قبول الهداية التي حصلت بقوله (عليه السلام) فمعنى لا يهدي أنه لا يهديهم جبرا ولا يحملهم على قبول الحق قسرا وقال أبو جعفر (عليه السلام): عاب آلهتهم قد كان (عليه السلام) يذمهم ويعيب آلهتهم ويذكر نقصا ويحاجهم بدلايل التوحيد وبراهينه ويدعوهم إليه وهم أيضا كانوا يحاجونه بأقاويل باطلة وشبهات زايلة ويقولون إنك تركت ملة قومك ودين الملك ويذمونه على ذلك ويخوفونه من الملك والأصنام كما قال الله تعالى (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون إلا أن يشاء ربي شيئا)، وهكذا كانت المناظرة بينه وبينهم وكان يلزمهم دائما، وكان (عليه السلام) يترقب مناظرة الملك في ملأ من قومه ومجمع من الناس حتى حضر عيدا لهم وكان عادتهم إحضار أقسام من اللباس وأنواع من الشراب والطعام عند الأصنام في يوم العيد، وكانوا يأكلون ويشربون ويلبسون تلك الأثواب ويتبركون، فلما أرادوا الخروج إلى الصحراء تخلف (عليه السلام) عنهم بإظهار السقم كما قال تعالى (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) من باب التورية وأراد سقم قلبه بقتل الحسين (عليه السلام) كما دل عليه بعض الروايات أو لعبادتهم للأصنام ثم قال (عليه السلام) خفية (لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) وسمع ذلك بعض القوم ولم يلتفتوا إليه لكونه مستبعدا في نظرهمد (فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل (عليه السلام) على آلهتهم بقدوم) وقال على سبيل الاستهزاء ألا تأكلون مالكم لا تنطقون (فكسرها إلا كبيرا لهم) وقد كان من الذهب على سرير من الفضة مكللا بالجواهر واليواقيت وعلى يمينه ستة وثلاثون صنما وكذا على يساره ثم وضع القدوم في عنقه ليسند هذا الفعل إليه عند الحاجة وليس فيه كذب لما ذكرناه في كتاب الأصول فلما رجعوا ونظروا إلى ما صنع بآلهتهم قالوا من فعل هذا بآلهتنا، ثم قالوا كلهم (ما اجترأ عليها ولا كسرها إلا الفتى الذي كان) دايما (يعيبها) ويناظرنا عليها (ويبرأ منها) يقال له إبراهيم وشهد عليه من سمع قوله (لأكيدن أصنامكم) فأحضره عند الملك بأمره فوقع بينهما المناظرة على الوجه المذكور فبهت الذي كفر ثم اجتمع رأيهم على قتله (فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار) القتلة بالكسر: الهيئة ينال قتله قتلة سوء، والقتلة بالفتح: المرة (فجمع له الحطب واستجادوه) في معارج النبوة أن نمرود أمر الصغير والكبير والوضيع والشريف والرجال والنساء بجمع الحطب يوما واجتمع الحطب أربعة فراسخ في أربعة فراسخ طولا وعرضا وارتفاعه كارتفاع الجبل وكان في نواحي كوفه ورأى أهل الشام لسان النار وسمع صوتها من كان على مسافة يوم وليلة وهذا من حماقة نمرود إذ لم يعلم أن إحراق رجل واحد لا يحتاج إلى هذا المقدار من النار فوضع في منجنيق

ص:574

وهي التي ترمى بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية «من جه نيك» أي ما أجودني وهي مؤنثة وقد نقل أنهم لما أرادوا إلقاءه (عليه السلام) في النار لم يقدر أحد من الوصول إلى حواليها لشدة حرها فعجزوا فحضر إبليس في صورة رجل وعلمهم صنعة المنجنيق ووضع الحجر فيه بعد إتمامه وإلقاءه في النار فاستحسنه نمرود وقومه ثم وضعوا إبراهيم (عليه السلام) فيه وكان (عليه السلام) في تلك الحالة مستغرقا في بحر التوحيد متوجها بكله إلى حضرة الحق منقطعا عن جميع من سواه حتى عن نفسه (وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار) في معارج النبوة أن أهل السماوات والأرضين وسكان الجبال والبحار تضرعوا وقالوا: يا رب ليس في الأرض أحد يعبدك ويوحدك غيره فاحفظه وإن أذنتنا في نصرته نصرناه قال: آذنتكم إن قبل نصرتكم، فجاء ملك فقال: يا إبراهيم أنا موكل على الرياح فأرسل عليهم الريح العقيم وجاء آخر فقال: أنا موكل على الماء فأغرقهم به وجاء آخر فقال: أنا موكل على الأرض فأخسفهم فقال (عليه السلام) خلوا بيني وبين خليلي حتى يفعل بي ما يشاء إن حفظني فمن فضله واحسانه وان أهلكني فمن التقصير في عبوديته، ثم توسل بنور ذاته واستغرق في تجليات صفاته وقال: توكلت على الله فلما رمي به تقرب منه جبرئيل (عليه السلام) في الهواء فقال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال لم لا تطلب حاجتك منه وليست صعوبة أشد من هذه فقال علمه بحالي حسبي من سؤالي ولما خرج (عليه السلام) عن طبعية الإنسانية الطالبة للأسباب بالكلية أخرج الله تعالى النار عن طبيعتها المقتضية للإحراق (عن أبي جعفر (عليه السلام) ان دعاء إبراهيم (عليه السلام) يومئذ - آه) كل مكروب توسل إلى الله تعالى بهذا الدعاء خالصا لله متوكلا عليه يكشف عنه الكرب كما كشف عن خليله (فقال للنار كوني بردا، قال: فاضطربت أسنان إبراهيم (عليه السلام)) إشارة إلى سرعة الإجابة حتى بلغت البرودة من أول الخطاب إلى الغاية ثم رجعت من آخره إلى الاعتدال وفي معارج النبوة أن النار في حوالي إبراهيم (عليه السلام) صارت معتدلة بين الحرارة والبرودة في أربعين ذراعا أو في ثمانين على اختلاف الروايتين وصارت بستانا فيه أنواع من الأزهار وأنحاء من الأشجار والأثمار وجيئت له من الجنة قبة وسرير وطعام وشراب وأثواب، وحيل بين بستانه والنار ثلج لئلا تصل حرارة النار وجعلت للثلج طبيعة لا تذوب بالنار وجاء جبرئيل وميكائيل وجلسا على يمينه وشماله وهو على السرير وجاء ملك آخر يصورته يخدمه وإسرافيل (عليه السلام) يجيء بطعامه وشرابه من الجنة في الغداة والعشي ورأى نمرود في المنام أنه (عليه السلام) خرج من النار سالما غانما وكان تلك الرؤيا بعد ثلاثة أيام أو سبعة على اختلاف الروايتين فعلا منظرا عاليا ليرى حاله فرآه في منزل مبارك مزين لم ير مثله قط ورأى رجلا ماثلا بين يديه فتحير ونادى بصوت عال يا إبراهيم كيف نجوت من النار الشديدة

ص:575

ومن هو معك؟ قال: نجوت من فضل ربي وهذا ملك أرسله ربي ليؤنسني ويخدمني، فقال نمرود: لقد اخترت ربا عظيما له هذه القدرة فهل تقدر أن تخرج من النار فقام (عليه السلام) ومشى على النار إلى نمرود فقام نمرود تعظيما له لما شاهد منه من الكرامة فقال: يا إبراهيم إني أريد أن أتقرب من ربك بقربان فقال (عليه السلام): إن ربي لا يقبل منك حتى تؤمن به وتقر بوحدانيته، فقال: إني لا أومن بذلك ولكن أتقرب بقربان فقتل أربعة آلاف بقر وأربع آلاف أغنام وأباعير، وقيل: إنه أراد أن يؤمن فمنعه وزيره هارون عمه (عليه السلام) وقال له: إيمانك برب السماء بعد أن كنت رب أهل الأرض وتنزلك من الربوبية إلى العبودية مذلة لك فأخذته العزة ورجع عن إرادته ومنعه الله سبحانه عن صحبة نمرود بعد ذلك وقد آمن به خلق كثير منهم لوط وسارة.

* الأصل:

560 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مولده بكوثى ربا وكان أبوه من أهلها وكانت أم إبراهيم وأم لوط سارة وورقة - وفي نسخة رقية - أختين وهما ابنتان للاحج وكان اللاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا وكان إبراهيم (عليه السلام) في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة وكانت قد ملكت إبراهيم (عليه السلام) جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثى ربا رجل أحسن حالا منه، وإن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق وعمل له حيرا وجمع له فيه الحطب والهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم (عليه السلام) في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتى خمدت النار، ثم أشرفوا على الحير فإذاهم بإبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام) من بلاده وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله، فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عنذ ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم واختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم (عليه السلام) أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام) ما ذهب من عمره في بلادهم فاخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وما له وأن يخرجوه وقال إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطا معه صلى الله عليهما من بلادهم إلى الشام فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة وقال لهم: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) يعني بيت المقدس.

ص:576

فتحمل إبراهيم (عليه السلام) بماشيته وماله وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود وصار إلى سلطان رجل من القبط يقال له: عرارة فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت، قال العاشر لإبراهيم (عليه السلام): افتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشرة ولا نفتحه، قال، فأبى العاشر إلا فتحه، قال: وغضب إبراهيم (عليه السلام) على فتحه فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال، قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم (عليه السلام): هي حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): الغيرة عليها أن يراها أحد، فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى اعلم الملك حالها وحالك، قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست أفارق التابوت حتى تفارق روحي جسدي، فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه، فحملوا إبراهيم (عليه السلام) والتابوت وجميع ما كان معه حتى ادخل على الملك فقال له الملك، افتح التابوت فقال إبراهيم (عليه السلام): أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي قال: فغصب الملك إبراهيم (عليه السلام) على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) بوجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه، فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام فقال له الملك: فادع إلهك يرد علي يدي فإن أجابك فلم أعرض لها، فقال إبراهيم (عليه السلام) إلهي رد عليه يده ليكف عن حرمتي، قال: فرد الله عز وجل عليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم أعاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) عنه بوجهه غيرة منه وقال: اللهم احبس يده عنها، قال: فيبست يده ولم تصل إليها، فقال الملك لإبراهيم (عليه السلام): إن إلهك لغيور وإنك لغيور فادع إلهك يرد علي يدي فانه إن فعل لم أعد، فقال له إبراهيم (عليه السلام): أسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال الملك: نعم، فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد عليه يده، فرجعت إليه يده فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى ورأى الآية في يده عظم إبراهيم (عليه السلام) وهابه وأكرمه واتقاه وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشيء مما معك فانطلق حيث شئت ولكن لي إليك حاجة، فقال إبراهيم (عليه السلام): ما هي؟ فقال له: احب أن تأذن لي أن اخدمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما، قال: فأذن له إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة وهي هاجر أم إسماعيل (عليه السلام)، فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما

ص:577

لإبراهيم (عليه السلام) وهيبة له فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشي هو خلفك ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولابد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة فوقف إبراهيم (عليه السلام) وقال للملك: امض فان إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك وأهابك وأن اقدمك أمامي وأمشي خلفك أجلالا لك، فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال له إبراهيم (عليه السلام) نعم، فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم وأنك ترغبني في دينك، قال: وودعه الملك فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى نزل بأعلى الشامات وخلف لوطا (عليه السلام) في أدنى الشامات، ثم ان إبراهيم (عليه السلام) لما أبطأ عليه الولد قال لساره: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع إبراهيم (عليه السلام) هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيل (عليه السلام).

* الشرح:

قوله (يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مولده بكوثى ربا) كوثى بالثاء المثلثة كطوبى وربا بالراء المضمومة كهدى وفي قصص الأنبياء كوثى ربا من أرض العراق وهي أرض ذات أشجار وأنهار وفي النهاية وفي حديث علي رضى الله عنه قال له رجل أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش فقال نحن من كوثى» أراد كوثى العراق وهي سرة السواد وبها ولد إبراهيم الخليل (عليه السلام) (وهما ابنتان للاحج) بتقديم الحاء المهملة على الجيم (وكان إبراهيم في شبيبته على الفطرة) الشبيبة كفعيلة والشباب الفتاء وأول الشئ أي كان (عليه السلام) في أول العمر والشباب على فطرة الاسلام التي فطر الله عز وجل الخلق عليها لم يتدنس بشئ من الأرجاس بوسوسة الشيطان والناس حتى بلغ وبعث فكانت نفسه قدسية طاهرة من أول العمر إلى آخره (وانه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته لاخفاء بالنظر إلى السابق ان ابنة لاحج خالته لا ابنة خالته ففيه حذف أي ابنة ابنة لاحج أو أريد بالابنة ابنة الابنة حقيقة أو مجازا على اختلاف القولين (أمر به نمرود فأوثق وجعل له حيرا) الحير بالفتح شبه الحظيرة وفي معارج النبوة أن نمرود بعد المناظرة وعجزه عن الجواب أمر بحبسه في السجن وبقى فيه أربعين يوما، وقيل: سبع سنين ثم أخرجه منه بعد ليحرقه بعد اتمام الحير وجمع الحطب فيه وبناء عال مشرف عليه لنفسه الخبيثة حتى ينظر إلى إبراهيم (عليه السلام) في النار (وقال انه ان بقي أفسد دينكم وأضر بآلهتكم) أشار بذلك إلى سبب اخراجه وفي معارج النبوة ان إبراهيم لما خرج من النار سالما آمن به خلق كثير وصار الناس يدخلون في دينه يوما فيوما فخاف نمرود من فساد دينه وزوال ملكه فأمر باخراجه من مملكته وهي بابل فخرج إلى الشام، وقيل: إنه

ص:578

شاور اتباعه في أمره (عليه السلام)، فقيل ينبغي أن يقتل، وقيل: أن قتله غير ممكن كما لم تحرقه النار بل ينبغي اخراجه فاجتمع الرأي عليه فأخرجوه (وقال لهم اني ذاهب إلى ربي) إلى بيت ربي (سيهدين) بهداياته الخاصة التي لاحبائه وهي غير محصورة (وعمل تأبوتا) أي (صندوقا وجعل فيه سارة) انما فعل ذلك غيرة لئلا يراها أحد وقد كانت في غاية الحسن والجمال وقال في معارج النبوة في بعض الروايات ان حسن يوسف (عليه السلام) كان سهمان من ستة أسهم من حسنها وكانت كصورة حوراء واعلم أن نظير هذا الحديث مذكور في طرق العامة رواه مسلم في كتاب المناقب مع تغييرات يسيرة من جملة التغيرات أنه لم يكن يذكر أنها كانت في التابوت ومنها انه رآها بعض أهل الجبار فأتاه وأخبرني ولم يذكر أنه كان عاشرا ومنها ان إبراهيم لم يحضر مجلس الجبار حين أحضرها ومنها أنه قال لها إبراهيم (عليه السلام) إن سألك فأخبريه بأنك أختي في الاسلام ومنها أنه قبضت يد الجبار ثلاث مرات ومنها انه لم يذكر مشي الملك معه (عليه السلام) مشايعة له وقال صاحب معارج النبوة من علمائهم ان إبراهيم (عليه السلام) اشترى حمارا بعشرين درهما وحمل عليها سارة حتى بلغ حوالي مصر وكان فيه ملك جبار مشعوف بالنسوان وكانت عادته ان كل امرأة كانت له حسن وجمال كانت عماله بأمره يحضرونها عنده فإن قبلها أخذها والاردها إلى أهلها وقد بالغ في ذلك حتى أرسل أرقاما إلى جميع مملكته وعماله فلما سمع (عليه السلام) جعل سارة حينئذ في صندوق فلما بلغ إلى العاشر قصد فتح الصندوق فقال (عليه السلام) اعتبر ما فيه حريرا أو ديباجا وخذ عشره فأبى فقال اعتبره ذهبا وفضة فأبى فقال اعتبره جواهر ولئالى فأبى إلا أن يفتح ففتحه ورآها فتعجب وتحير من حسنها وأرسل الواقعة إلى الملك فأمر الملك بالاحضار فلما رآها الملك تحير ولم ير مثلها قط فقال لإبراهيم ما منزلتها منك؟ قال: أختي، يعنى في الدين ولم يقل زوجتي خوف أن يقصد قتله أو يأمره بالطلاق وعند ذلك مد يده إليها فدعت سادة فشلت يده ولم تتحرك، وقيل: عميت عيناه أيضا فقال من أنت وما حالك فقالت أنا زوجة إبراهيم نبي الله قال ادعى لي ولن افعل مثل ذلك بعد فدعت له فلما رجعت يده إلى حالتها الأصلية رجع إلى ما كان بصدده أولا حتى صدر منه ذلك ثلاث مرات فأخرج الخاطر السوء عن خاطره بالكلية وعظمها وأعطاها جارية جميلة وقال هاجر دعائك ومنه سميت هاجر، وقيل: أعطاها أغناما ومواشي أيضا وروى انها حين أدخلت في القصر أمر بخروج إبراهيم عنه فخرج (عليه السلام) مضطربا وتوسل إلى الله تعالى فرفع الله تعالى الحجاب تسليا له (عليه السلام) حتى رأى جميع ما وقع فيه فلما خرجت من القصر أخبرها بجميع ما مضى (وهي هاجر أم إسماعيل) قال عياض هاجر أم إسماعيل (عليه السلام) أبي العرب من أهل مصر، وقال القرطبي: هاجر كانت من الغرما قرية من قرى مصر وسميت الغرما باسم بانيها وهو الغرما بن قيس والغرما أخو الإسكندر بن فلبيس

ص:579

باني الإسكندرية اليوناني.

* الأصل:

561 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن حسين بن أحمد المنقري، عن يونس بن ظبيان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ألا تنهى هذين الرجلين عن هذا الرجل؟ فقال: من هذا الرجل ومن هذين الرجلين؟ قلت: ألا تنهى حجر بن زائدة وعامر بن جذاعة عن المفضل بن عمر فقال: يا يونس قد سألتهما أن يكفا عنه فلم يفعلا فدعوتهما وسألتهما وكتبت اليهما وجعلته حاجتي إليهما فلم يكفا عنه فلا غفر الله لهما فو الله لكثير عزة أصدق في مودته منهما فيما ينتحلان من مودتي حيث يقول:

ألا زعمت بالغيب ألا احبها * إذا أنا لم يكرم علي كريمها أما والله لو أحباني لأحبا من احب.

* الشرح:

قوله (فلا غفر الله لهما فوالله لكثير عزة أصدق في مودته منهما) كثير بضم الكاف وفتح الثاء المثلثة وكسر الياء المشددة اسم شاعر وكان شيعيا وعزة بفتح العين المهملة والزاي المشددة محبوبته والإضافة للاختصاص، وقيل: إنما صغر لأنه كان شديد القصر واسمه عبد الرحمن أحد عشاق العرب وهو صاحب عزة بنت جميل وأكثر شعره فيها وكان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب وتوفى في سنة خمسين ومائة:

ألا زعمت بالغيب إلا أحبها * إذا أنا لم يكرم على كريمها «لا» حرف التنبيه وضمير زعمت لعزة و «إذا» جواب وجزاء تأويلها ان كان الامر كما زعمت وأصلها «اذن» بالنون أبدلت النون بالألف للوقف وهذا دليل على فساد زعمها يعني إن صح زعمها لم يكن كريمها من حيث هو كريمها وحبيبها كريما عندي ولكنه كريم عندي فلم يصح زعمها واعلم أن الرواية ضعيفة بالحسين بن أحمد ويونس بن ظبيان وكذا ما رواه الكشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في دعائه عليهما بعدم المغفرة فإنه مرسل ونقل عن النجاشي ان حجر بن زائدة ثقة صحيح المذهب صالح من هذه الطائفة وأما عامر بن جذاعة فالأصحاب وان لم يصرحوا بتوثيقه إلا أنه نقل عن الكشي أنه وحجر بن زائدة من الحواريين للباقر والصادق (عليهما السلام)، وبالجملة سند

ص:580

الجرح مجروح ومن ثم قال العلامة والتعديل أرجح وقال بعض الأصحاب بضعف الجرح ومن ثم قال العلامة:

والتعديل أرجح لشموله حجر بن زائدة مع كونه مقبولا عند الأصحاب موثوقا به.

* الأصل:

562 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن القاسم شريك المفضل وكان رجل صدق قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حلق في المسجد يشهرونا ويشهرون أنفسهم أولئك ليسوا منا ولا نحن منهم، انطلق فأوار وأستر فيهتكون ستري هتك الله ستورهم، يقولون: امام، أما والله ما أنا بامام الا لمن أطاعني فأما من عصاني فلست له بامام، لم يتعلقون باسمي، ألا يكفون اسمي أفواهم، فو الله لا يجمعني الله وإياهم في دار.

* الشرح:

قوله (ليسوا منا ولا نحن منهم) أي ليسوا من حزبنا ولا نحن من حزبهم إذ بطل الارتباط بيننا وبينهم في الدين وهو صريح في أن أذاعة سرهم موبقة وأن المذيع بمنزلة الساعي على مؤمن معتمدا وأنه خارج بذلك من دين الله قوله (لم يتعلقون باسمي - آه) تحريص على ترك تشهيره بذكر اسمه خصوصا بلفظ الإمام أو تنبيه على انه ليس لهم من التشيع إلا القول ولا ينفعهم ذلك.

* الأصل:

563 - محمد بن يحيى. عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن ذريح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما خرجت قريش إلى بدر وأخرجوا بني عبد المطلب معهم خرج طالب بن أبي طالب فنزل رجازهم وهم يرتجزون ونزل طالب بن أبي طالب يرتجز ويقول:

يا رب اما تعززن بطالب * في مقنب من هذه المقانب في مقنب المغالب المحارب * بجعله المسلوب غير السالب وجعله المغلوب غير الغالب فقالت قريش: ان هذا ليغلبنا فردوه. وفي رواية اخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان أسلم.

* الشرح:

قوله (فنزل رجازهم) الرجاز جمع الراجز من الرجز وهو الكلام المغفو كما صرح به ابن إسحاق في السيرة واختلف العروضيون في أن الرجز شعر أم لا واحتج المانع بأنه (ص) ارتجز كما وقع في بعض روايات العامة والشعر عليه حرام قال الله تعالى (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) وفيه نظر

ص:581

لأنه لو سلم ارتجازه فنقول قد صرح المازري بأنهم اتفقوا على أنه ليس الشعر إلا ما قصد وزنه فإن جرى على اللسان من غير قصد وزنه فليس بشعر وعليه يتخرج ما جاء من ذلك عنه (صلى الله عليه وآله).

يا رب اما تعززن بطالب * في مقنب من هذه المقانب في مقنب المغالب المحارب * بجعله المسلوب غير السالب عزيعز صار عزيزا وعزيعزه جعله عزيزا والباء في بطالب زائدة أو تأكيد للتعدية والمقنب بالكسر جماعة الخيل والفرسان، وقيل: هو دون المائة، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين والفقرة الثانية صفة الطالب وهذه إشارة إلى مقانب قريش و «في» في الفقرة الثالثة ظرف لتعززن وأراد بالمقنب فيها مقنب المسلمين والباء في قوله «بجعله» للسببية متعلقة بتعززن والضمير راجع إلى طالب والإضافة إلى الفاعل، والمسلوب المختلس بفتح اللام وما يأخذه أحد القرنين من الاخر في الحرب عند الغلبة والسالب المختلس بكسر اللام وهما مفعولان وكلامه ذو وجهين، لأنه يحتمل أن يراد بالمسلوب والمغلوب أهل الاسلام وأن يراد بهما أهل الشرك وهو المراد بدليل قوله (عليه السلام) في رواية انه كان أسلم فطلب من الله تعالى العزة والغلبة بأن يجعل من اختلسه الشيطان غير سالب ومختلس لأهل الاسلام ويجعل المغلوب بالهوى غير غالب على أهل الايمان ولما كان المشركون من أهل اللسان فهموا مقصوده وان كان مفادا بالتورية فلذلك أمروا برده لئلا يفسد عليهم كما أشار إليه (عليه السلام) بقوله (فقال قريش إن هذا ليغلبنا فردوه) خوفا من أن يلحق بأهل الاسلام ويوقع التفرقة بين المشركين هذا الذي ذكرنا من باب الاحتمال والله يعلم حقيقة الحال.

* الأصل:

564 - حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد الكندي، عن أحمد بن الحسن الميثمي عن أبان بن عثمان، عن محمد بن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى سارية في المسجد وهي تقول وتخاطب النبي (صلى الله عليه وآله):

قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

* الشرح:

قوله (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى سارية في المسجد) السارية الأسطوانة وهذا بعينه رواية العامة قال ابن الأثير في النهاية «في حديث فاطمة رضى الله عنها قالت

ص:582

بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) «قد كان بعدك انباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب. انا فقدناك فقد الأرض وابلها * فاختل قومك فاشهدهم ولا تغب» الهنبثة واحدة الهنابث وهي الأمور الشدائد المختلفة والهنبثة الاختلاط في القول والنون زائدة انتهى، أقول سلهم أهي (عليها السلام) صادقة في هذا القول أم كاذبة فإن قالوا: كاذبة، فقد كفروا وان قالوا صادقة فسلهم ما سبب تلك الهنبثة ثم قل: (من أضله الله) فلا هادي له وفي كشف الغمة «واختل قومك لما غبت وانقلبوا».

* الأصل:

565 - أبان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المسجد إذ خفض له كل رفيع (1) ورفع له كل خفيض حتى نظر إلى جعفر (عليه السلام) يقاتل الكفار قال: فقتل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قتل جعفر وأخذه المغص في بطنه.

ص:583


1- 1 - «قوله إذا خفض له كل رفيع» المانع من الرؤية قد يكون حاجبا جسمانيا كالجبل والجدران، وقد يكون البعد المفرط والغرض من العبارة رفع كل مانع كأنه قال وقرب له كل بعيد وهذا الحديث وان كان من اخبار الآحاد وضعيف الاسناد إلا أنه مؤيد بنقل متواتر وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنى مسجد المدينة وجعل محرابه مواجها للكعبة من غير وسائل هندسية أو نجومية ونظيره ما روى أنه أخبر أهل مكة بما سألوه عن أسواق الشام وخصوصياتها بعد ما قرأ عليهم سبحان الذي اسرى وادعى اسرائه إلى بيت المقدس كما مر في حديث المعراج قريبا وهو وان لم يكن متواترا كحديث قبلة المسجد إلا أن القرينة تؤيده لأن أهل مكة مع شدة عنادهم وانكارهم وحرصهم على تكذيبه وابطاله لابد أن يسألوه عن ذلك وأن يجيبهم حتى يتم عليهم الحجة وعلى كل حال فيرد على الماديين الغافلين عن الروح والمجردات إذا تصدوا لتوجيه أمثال هذه الروايات بكن كل جبل في الطريق زال عن مكانه وكل منخفض من الأرض علا وارتفع والمرئى البعيد قلع من مكانه ونقل إلى مكان قريب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكل ذلك كان جسمانيا لزم أن يكون غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضا يرى جعفرا قتل في موته ومحراب المسجد مواجها للقبلة والشام قبال وجههم في مكة لأن ارتفاع الموانع جسمانيا يوجب رؤية الجميع ولما لم يكن كذلك علمنا ان هذا كان بإحاطة روح رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المرتفع والمنخفض والقريب والبعيد والغيب والشهادة دون أرواح غيره من حاضري مجلسه ويشير إلى ذلك قوله تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات) لأن هذا كان فضلا اختص به إبراهيم بإحاطة روحه على غيب السماوات لا بان السماوات زالت عن مكانها جسمانيا حتى رأى ما ورائها ولو كانت كذلك لزم أن يرى كل أحد من الناس في ذلك الوقت جميع ما رآه كما ما مر في حديث (473) ومما رأى هناك جيفة على ساحل البحر نصفها في الماء ونصفها في البر يجيء سباع البحر فتاكل ما في الماء ثم ترجع فيشد بعضهم على بعض فيأكل بعضها بعضا إلى آخره وهذا أصل شبهة الاكل والمأكول وحيث رأى إبراهيم تلك الجيفة لم يره أحد غيره حين أراه الله تعالى ملكوت السماوات ثم أرى الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) احياء أربعة من الطير بالعيان ليرتفع به الشبهة عن أذهان اتباعه (عليه السلام) فأخرج أجزاء كل طير وميزها بعد الاختلاط والبس كل طير تشخصه وصورته على ما فصل في محله (ش).

* الشرح:

قوله (قال فقتل) أي قال أبو عبد الله (عليه السلام) فقتل جعفر (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) قتل جعفر وأخذه المغص في بطنه) المغص ويحرك وجع في البطن مغص بضم الميم وكسر الغين فهو مغموص قال القرطبي جعفر كان أكبر من على بعشر سنين وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى الحبشة وقدم منها بعد فتح خيبر فعانقه رسول الله وقال ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر وكان قدومه منها في السنة السابعة من الهجرة ثم غزى غزوة مؤتة بعد سنة قال فقتل فيها بعد أن قاتل حتى قطعت يداه معا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء فمن ثم قيل له ذو الجناحين وقتل أيضا في تلك الغزوة عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة الذي تبناه النبي (صلى الله عليه وآله) وكان زيد أميرا قال الزهري وأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الغزاة وقال: إن مات زيد فجعفر وان قتل جعفر فعبد الله بن رواحة فقتل الثلاثة ولما اتى النبي (صلى الله عليه وآله) موت جعفر وزيد بكى وقال أخواي ومونساي ومحدثاي ومؤتة بالهمزة قرية من أرض البلقاء بالشام وأما بلا همز فضرب من الجنون.

* الأصل:

566 - حميد بن زياد، عن عبيد الله بن أحمد الدهقان، عن علي بن الحسن الطاطري، عن محمد بن زياد بياع السابري، عن عجلان أبي صالح قال: سمعت أبا عبد الله (صلى الله عليه وآله) يقول: قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده يوم حنين أربعين.

* الشرح:

قوله (قتل على بن أبي طالب (عليه السلام) بيده يوم حنين أربعين) قيل: كان يقال لغزوة حنين غزوة أوطاس تسمية لها بالموضع الذي كانت فيه الوقعة.

* الأصل:

567 - أبان، عن عبد الله بن عطاء، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى جبرئيل (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالبراق أصغر من البغل وأكبر من الحمار، مضطرب الأذنين، عينيه في حافره وخطاه مد بصره وإذا انتهى إلى جبل قصرت يداه وطالت رجلاه فإذا هبط طالت يداه وقصرت رجلاه، أهدب العرف الأيمن، له جناحان من خلفه.

* الشرح:

قوله (وخطامه مد بصره) الخطام بالكسر الزمام وفي بعض النسخ «خطاه» (أهدب

ص:584

العرف الأيمن) أي طويل العرف وكان عرفه مرسلا في الجانب الأيمن.

* الأصل:

568 - علي بن إبراهيم، عن صالح بن سندي عن جعفر بن بشير، عن فيض بن المختار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كيف تقرأ «وعلى الثلاثة الذين خلفوا»؟ قال: لو كان خلفوا لكانوا في حال طاعة ولكنهم «خالفوا» عثمان وصاحباه أما والله ما سمعوا صوت حافر ولا قعقعة حجر إلا قالوا: اتينا فسلط الله عليهم الخوف حتى أصبحوا.

* الشرح:

قوله (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) وكيف تقرء وعلى الثلاثة الذين خلفوا) كيف سؤال ويحتمل الانكار وهم قالوا الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع خلفوا عن غزوة تبوك فخطأهم (عليه السلام) وقال لو كان خلفوا لكانوا في حال الطاعة إذ التخليف يشعر بأنه (صلى الله عليه وآله) خلفهم فكانوا في طاعته فلا يتوجه إليهم اللوم والطعن (ولكنهم) أي الثلاثة في الآية خالفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دعوى الولاية وانتحال الخلافة وهم (عثمان وصاحباه) ولما كان لقايل منهم أن يقول: إن هذا التفسير ينافي في ظاهر قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) أي برحبها وسعتها (وضاقت عليهم أنفسهم) أي من فرط الوحشة والغم «وظنوا ان لا ملجأ من الله إلا إليه فتاب الله عليهم ليتوبوا ان الله هو التواب الرحيم» لمن تاب وعاد وأجاب (عليه السلام) عنه بأنه حصل لهم بسبب تلك المخالفة خوف عظيم ورعب شديد (فقال أما والله ما سمعوا صوت حافر ولا قعقعة حجر) وهي حكاية حركة الشئ حتى يسمع له صوت وحكاية صوت السلاح (ألا قالوا اتينا) أتى فلان على صيغة المجهول أشرف عليه العدو.

(فسلط الله عليهم الخوف) في كل ليلة خصوصا في ليلة القدر حتى أصبحوا لأن كل خائن خائف وقد مر في باب انا أنزلناه من كتاب الحجة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل أنه ليس من يوم ولا ليلة إلا وجميع الجن والشياطين يزور أئمة الضلالة ويزور أئمة الهدى عددهم من الملائكة حتى إذا أتت ليلة القدر فهبط فيها من الملائكة إلى ولى الامر عدد خلق الله أو قال قيض الله تعالى من الشياطين بعددهم ثم زاروا ولى الضلالة فأتوه بالافك والكذب حتى لعله يصبح وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل أيضا قال فإن كانا أي الأولان ليعرفان تلك الليلة تلك أي ليلة القدر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شدة ما تداخلهما من الرعب ولا دلالة صريحا في تعلق على الثلاثة يتاب الله

ص:585

على الرجوع عن ذنوبهم ومغفرتها لجواز أن يراد به الرجوع عن عقوبتهم في الدنيا وكذا لا دلالة عليه في قوله تعالى (فتاب الله عليهم ليتوبوا) لجواز أن يراد أنه أنزل قبول توبتهم لكي يتوبوا وهم لم يتوبوا ويؤيد ما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى بعد ذمهم حث المؤمنين على التقوى والكون مع الصادقين فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) في ايمانهم وعهودهم ونياتهم وأقوالهم في جميع أحوالهم ولا ريب في أن الموصوفين بهذه الصفات هم أهل العصمة (عليه السلام).

* الأصل:

569 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تلوت «التائبون العابدون» فقال: لا، اقرأ التائبين العابدين - إلى آخرها -» فسئل عن العلة في ذلك، فقال: اشترى من المؤمنين التائبين العابدين.

* الشرح:

قوله (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) في الكشاف والبيضاوي التائبون رفع على المدح وهم التائبون والمراد بهم المؤمنون أو على الابتداء وخبره محذوف أي التائبون من أهل الجنة وان لم يجاهدوا أو خيره ما بعده أي التائبون هم العابدون إلى آخره والسائحون الصايمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من الشهوات، وقيل: هم السايحون للجهاد أو لطلب العلم (فقال لا أقرأ التائبين العابدين إلى آخرها، فسئل عن العلة في ذلك فقال اشترى من المؤمنين) التايبين أشار إلى أنه بالجر صفة للمؤمنين فيدل على جواز الفصل بين الموصوف والصفة بالأجنبي وقد قرأه كذلك بعض القراء قال: في الكشاف قراء عبد الله وأبي التائبين بالياء إلى والحافظين نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين انتهى.

* الأصل:

570 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (صلى الله عليه وآله) قال: هكذا أنزل الله تبارك وتعالى (لقد جاءنا رسول من أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم).

* الشرح:

قوله (قال هكذا أنزل الله عز وجل لقد جائنا رسول من أنفسنا) أي من جنسنا في

ص:586

كونه بشرا مثلنا (عزيز عليه ما عنتنا) أي شاق شديد على ذلك الرسول عنتنا أي اثمنا وهلاكنا ودخول المشقة علينا ولقاؤنا الشدة والوهي والانكسار لكمال شفقته علينا (حريص علينا بالمؤمنين) حريص على أيماننا واصلاح أمرنا وعدم تجاوز أحد منا عن دينه الحق (رؤوف رحيم) قيل: الرأفة شدة الرحمة فهي أبلغ من الرحمة وانما قدمت لرعاية الفواصل، أقول ويمكن أن يقال الرحمة رقة القلب وهي سبب للرأفة وكان المراد أنه تعالى أنزله ليقرأ بعد قراءة قوله تعالى تصديقا له (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

* الأصل:

571 - محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن الرضا (عليه السلام) (فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنوده لم تروها) قلت: هكذا؟ قال: هكذا نقرؤها وهكذا تنزيلها.

* الشرح:

قوله (وأيده بجنود لم تروها) دل على أن هذا سقط من الآية والظاهر أنا مأمورون بقراءة ما في هذا القرآن ولا يجوز لنا الزيادة على ما فيه.

* الأصل:

572 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن عمار بن سويد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في هذه الآية: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا انزل عليه كنز أو جاء معه ملك) فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نزل قديد قال لعلي (عليه السلام): يا علي إني سألت ربي أن يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يواخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربي أن يجعلك وصيي ففعل، فقال رجلان من قريش، والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلينا مما سأل محمد ربه فهلا سأل ربه ملكا يعضده على عدوه أو كنزا يستغني به عن فاقته والله ما دعاه إلى حق ولا باطل إلا أجابه إليه فأنزل الله سبحانه وتعالى (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك - إلى آخر الآية -).

* الشرح:

قوله (يقول في هذه الآية) أي في تفسيرها (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك - اه) هو ما لا يوافق طبع المنافقين والمشركين خوفا من ردهم واستهزائهم وتوقع الترك لو جود الداعي لا يستلزم

ص:587

تحققه لأن عصمة الرسول كانت مانعة من ترك ما أمر بتبليغه (وضايق به) أي بذلك البعض وتبليغه (صدرك) مخافة (أن يقولوا) أولان يقولوا، وقيل: ضمير به مبهم يفسره أن يقولوا، وقديد كزبير موضع بين مكة والمدينة (والشن) القربة الصغيرة (والله ما دعاه إلى حق ولا باطل إلا أجابه إليه) كلام للرجلين وفيه دلالة على أنهما كانا منافقين غير مؤمنين به (صلى الله عليه وآله) ولا بعصمته وان ما دعاه لعلى (عليه السلام) كان باطلا عندهما.

* الأصل:

573 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك) فقال: كانوا امة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة.

* الشرح:

قوله (ولو شاء ربك) مشيئة حتمية وإرادة جبرية (لجعل الناس أمة واحدة) مؤمنين كلهم وبذلك بطل ما ذهب إليه الأشاعرة في تفسير هذه الآية من أن فيه دلالة على أنه تعالى لم يرد ايمان كل أحد وان ما أراد يجب وقوعه لأنهم ان أرادوا بالإرادة الإرادة التخييرية فنمنع كلا القولين وان أرادوا بهما الإرادة الحتمية فالله سبحانه لم يرد بهذا المعنى ايمان أحد من الناس (ولا يزالون مختلفين في الباطل إلا من رحم ربك) وهداهم إلى دينه الحق وهم المؤمنون بعد كل نبي والشيعة التابعون لأهل البيت كما نطق به بعض الروايات (فقال كانوا أمة واحدة) في الباطل كما قبل نوح وقبل إبراهيم (عليهما السلام) مثلا (فبعث الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة) فمن تبعهم وتبع أوصياءهم فهم المرحومون.

* الأصل:

574 - علي بن محمد، عن علي بن العباس، عن علي بن حماد، عن عمرو بن شمر عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) قال: من تولى الأوصياء من آل محمد واتبع آثارهم فذاك يزيده ولاية من مضى من النبيين والمؤمنين الأولين حتى تصل ولايتهم إلى آدم (عليه السلام) وهو قول الله عز وجل: (من جاء بالحسنة فله خير منها) يدخله الجنة وهو قول الله عز وجل: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) يقول: أجر المودة الذي لم أسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون من عذاب يوم القيامة وقال لأعداء الله أولياء الشيطان أهل

ص:588

التكذيب والانكار: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) يقول متكلفا أن أسألكم ما لستم بأهله فقال المنافقون عند ذلك بعضهم لبعض أما يكفي محمدا أن يكون قهرنا عشرين سنة حتى يريد أن يحمل أهل بيته على رقابنا فقالوا: ما أنزل الله هذا وما هو إلا شيء يقوله يريد أن يرفع أهل بيته على رقابنا ولئن قتل محمد أو مات لننزعنها من أهل بيته ثم لا نعيدها فيهم أبدا وأراد الله عز وجل أن يعلم نبيه (صلى الله عليه وآله) الذي أخفوا في صدورهم وأسروا به فقال في كتابه عز وجل (أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك) يقول: لو شئت حبست عنك الوحي فلم تكلم بفضل أهل بيتك ولا بمودتهم وقد قال الله عز وجل: (ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته (يقول: الحق لأهل بيتك الولاية) إنه عليم بذات الصدور) ويقول: بما ألقوه في صدورهم من العداوة لأهل بيتك والظلم بعدك وهو قول الله عز وجل: (وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) وفي قوله عز وجل (والنجم إذا هوى) قال: اقسم بقبض محمد إذا قبض (ما ضل صاحبكم) (بتفضيله أهل بيته وما غوى * وما ينطق عن الهوى) يقول: ما يتكلم بفضل أهل بيته بهواه وهو قول الله عز وجل: (إن هو إلا وحي يوحى) وقال الله عز وجل لمحمد (صلى الله عليه وآله): (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني وبينكم) قال: لو أني امرت أن اعلمكم الذي أخفيتم في صدوركم من استعجالكم بموتي لتظلموا أهل بيتي من بعدي، فكان مثلكم كما قال الله عز وجل: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) يقول: أضاءت الأرض بنور محمد كما تضيئ الشمس فضرب الله مثل محمد (صلى الله عليه وآله) الشمس ومثل الوصي القمر وهو قوله عز وجل: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا) وقوله: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) وقوله عز وجل: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) يعني قبض محمد (صلى الله عليه وآله) وظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته وهو قوله عز وجل: (وإن تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع العلم الذي كان عنده عند الوصي وهو قول الله عز وجل: (الله نور السماوات والأرض) يقول: أنا هادي السماوات والأرض مثل العلم الذي اعطيته وهو نور] ي [الذي يهتدى به مثل المشكاة فيها المصباح، فالمشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله) والمصباح النور الذي فيه العلم وقوله: (المصباح في زجاجة) يقول: إني أريد أن اقبضك فاجعل الذي عندك عند الوصي كما

ص:589

يجعل المصباح في الزجاجة. (كأنها كوكب دري) فأعلمهم فضل الوصي، (توقد من شجرة مباركة) فأصل الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام) وهو قول الله عز وجل: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) وهو قول الله عز وجل: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، لا شرقية ولا غربية «يقول: لستم بيهود فتصلوا قبل المغرب ولا نصارى فتصلوا قبل المشرق وأنتم على ملة إبراهيم (عليه السلام) وقد قال الله عز وجل: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) قوله عز وجل: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) يقول: مثل أولادكم الذين يولدون منكم كمثل الزيت الذي يعصر من الزيتون (يكاد زيتها يضيىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) يقول: يكادون أن يتكلموا بالنبوة ولو لم ينزل عليهم ملك.

* الشرح:

قوله: (من تولى الأوصياء من آل محمد (عليهم السلام) - اه) هذا تفسير من نقل من أن من عرف الاخر عرف الأول ومن أنكر الاخر أنكر الأول وهو قول الله ومن يقترف حسنة فله خير منها فالحسنة الأوصياء من آل الرسول وهو مع ولاية جميع الأنبياء والأوصياء خير منه لاشتمال هذا المجموع عليه وعلى غيره من الولايات الواجبة وقوله (يدخله الجنة) إشارة إلى ثمرة هذه الحسنة وكونه بيانا لخير منها بعيد كما لا يخفى وهو قول الله عز وجل (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) الظاهر أن هو راجع إلى تولى الأوصياء (يقول أجر المودة الذي لم أسألكم غيره) بأمر الله تعالى في قوله (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (فهو لكم تهتدون به) أي بالاجر الذي هو مودة الأوصياء (وتنجون من عذاب يوم القيامة) مطلقا أو من عذابه أبدا والأول أنسب باطلاق العبارة بل عمومها وعليه ظاهر بعض الروايات (قل ما أسألكم عليه من أجر) مطلقا حتى أجر المودة لعدم قبولكم إياه وهذا من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته (وما أنا من المتكلفين) الذين يتصنعون وينتحلون ما ليس لهم (يقول ما أنا متكلفا ان أسألكم ما لستم بأهله من أجر المودة وإذا لم يكونوا من أهله لم يكن (صلى الله عليه وآله) من أهل سؤاله عنهم لانتفاء فائدته (فقالوا وما هو إلا شيء يتقوله) في القاموس تقول قولا ابتدعه عذبا (أم يقولون افترى على الله كذبا) أي يقول المنكرون للولاية افترى محمد بقوله

ص:590

الولاية من الوحي على الله كذبا (فإن يشأ الله يختم على قلبك يقول لو شئت حبست عنك الوحي فلم تكلم بفضل أهل بيتك ولا بمودتهم) انكار لكون ما أوجب عليهم من الاقرار بفضل أهل بيته ومودتهم افتراء على الله واشعار بأن ذلك بالوحي حيث انه لو حبس الوحي عنه (صلى الله عليه وآله) لم يتكلم بشئ منهما.

(وقد قال الله عز وجل يمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته) يحتمل وجوها الأول أنه لو كان ما قاله (صلى الله عليه وآله) افتراء لمحاه ومحقه إذ من عادته تعالى محق الباطل واثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده هذا ما ذكره بعض المفسرين، الثاني محق الباطل وهو الافتراء عن قلبه المطهر واثبات الحق وهو الولاية فيه يوحيه، الثالث محو الباطل وهو ما قدره المنافقون من رد ولاية أهل البيت واثبات الحق وهو ولا يتم كما قال عز وجل (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم والله متم نوره ولو كره المشركون) وقوله (يقول الحق لأهل بيتك الولاية) ينطبق على الوجوه المذكورة والولاية اما خبر للحق أو بدل عنه (وأسروا النجوى) تعلق الاسرار بالنجوى دل على المبالغة فيها لئلا يفطن به أحد (الذين ظلموا) بدل عن واو الجمع أو فاعل لأسروا والواو لعلامة الجمع أو مبتداه والمتقدم خبره أو منصوب على الذم والى هذه أشار جماعة من المفسرين (هل هذا إلا بشر مثلكم افتأتون السحر وأنتم تبصرون) بدل من النجوى أو مفعول لقول مقدر وأرادوا بالحصر نفى الرسالة عنه لزعمهم أن البشرية تنافيها وقصدوا به أن كل ما جاء به من الولاية وغيرها كذب وأن ما جعله دليلا على صدقه لكونه معجزا كالقرآن سحر، وان البصير العارف لا ينبغي أن يحضر السحر ويتبعه (والنجم إذا هوى) اطلاق النجم على محمد (صلى الله عليه وآله) من باب الاستعارة والتشبيه في الاهتداء به (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم) أي لاهلكتكم وضربت أعناقكم (قال لو إني أمرت أن أعلمكم) تأويل للشرط وحده والجزاء هو الجزاء المذكور و «لو» هنا اما على قاعدة اللغة أو على قاعدة المعقول فعلى الأولى يستثنى نقيض المقدم ليعلم أنه سبب لانتفاء التالي في الخارج لا للعلم بانتفائه وعلى الثانية يستثنى نقيض التالي ليحصل العلم بانتفاء المقدم (فكان مثلكم) الخطاب للمنافقين والفاء للتفريع (كما قال الله عز وجل كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الايضاح ولما كان المشبه به أمرا محسوسا ظاهرا لا حاجة فيه إلى توضيحه أشار إلى توضيح المشبه بقوله (يقول أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله) - آه) حاصله أضاءت

ص:591

الأرض أو أريد بها قلوب أهل الاسلام مجازا بنور محمد (صلى الله عليه وآله) فلما قبض ظهرت ظلمة الجهل والكفر فوقع المنافقون فيها فهم لا يبصرون كما يظهر ذلك بمشاهدة حال المستوقد، ثم شبه محمدا (صلى الله عليه وآله) بالشمس ونوره بنورها في الإضاءة وشبه وصيه بالقمر ونوره بنوره في كونه مستفادا من نور النبي (صلى الله عليه وآله) ووقوعه في ظلمة جهالات المنافقين وشبهات المعاندين فقال (كما تضئ الشمس فضرب مثل محمد (صلى الله عليه وآله) الشمس) في الإضاءة (ومثل الوصي القمر) فيما ذكر (وهو قوله عز وجل (وجعل الشمس ضياء والقمر نورا) ظاهر وباطنه ما مر وقوله (وآية لهم الليل نسلخ منها النهار فإذا هم مظلمون) فيه استعارة تبعية له وجه ظاهر وتأويل اما الظاهر فتشبيه إزالة النهار عن ظلمة الليل بناء على ان الظلمة أصل والنهار طار عليها ساتر لها بكشط الجلد وازالته عن الشاة ولوجه هو ترتب أمر على أمر كترتب ظهور الليل على إزالة النهار وترتب ظهور اللحم على كشط الجلد، وأما التأويل وهو المراد هنا فتشبيه قبض محمد (صلى الله عليه وآله) وإزالة نوره عن ظلمة جهل المنافقين وعداوتهم ونفاقهم بالكشط المذكور والوجه ظهور تلك الظلمة وبروزها بعده.

(وقوله عز وجل ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) له أيضا ظاهر وتأويل مثل ما مر وأشار إلى التأويل بقوله (يعني قبض محمد (صلى الله عليه وآله) وظهرت الظلمة) ظلمة الجهل والكفر والنفاق (فلم يبصروا فضل أهل بيته) لإحاطة الظلمة بهم (وهو قوله عز وجل وان تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا دعائكم) الولاية داخلة في الهدى لأنها أعظم افراده ونفي السماع والابصار عنهم لأنهم لم يعملوا بمقتضاها فهم كالصورة المنقوشة في الجدار (يقول أنا هادي السماوات والأرض) أي أهلهما واطلاق النور على الهادي من باب الاستعارة والوجه ظاهر وحذف المفعول للدلالة على التعميم ولئلا يتوهم التخصيص بالبعض (مثل العلم الذي أعطيته - اه) تفسير لقوله مثل نوره كمشكاة وهي ما توضع فيه المصباح وهو السراج وإشارة إلى ان النور هنا مستعار للعلم وقوله (مثل المشكاة) إشارة إلى ان المثل مقدر لاحتياج التشبيه إلى تقديره والمصباح النور الذي فيه العلم، العلم بدل عن النور واطلاق المصباح على العلم استعارة إذ العلم سبب لظهور المعلومات كما أن المصباح سبب لظهور المحسوسات وقوله (المصباح في زجاجة - آه) أي في قنديل من الزجاج شبه الوصي بالزجاج في شفافيته وزهرته وبيضه وانارته وضبطه لأنوار العلوم وقوله، (كما يجعل المصباح في الزجاجة) إشارة إلى أن تلك الاستعارة تمثيلية مبتنية على تشبيه المعقول بالمحسوس لقصد الايضاح (كأنها كوكب درى) أي مضىء لامع منسوب إلى الدر في الضياء

ص:592

والصفاء ودري بكسر الدال وشد الياء من الدر وهو الدفع بقلب الهمزة ياء لأنه يدفع الظلام أو يدفع بعض ضوئه بعضا من كثرة لمعانه وفيه تشبيه معقول بمحسوس لزيادة الايضاح وان كان الوجه في المشبه أشد وأقوى (فأعلمهم فضل الوصي) بجعل علم النبي فيه ووصفه بما ذكر (توقد من شجرة مباركة) قرىء توقد بالتاء الفوقانية وبالياء التحتانية والبناء للمفعول فيهما واسناده على الأول إلى الزجاجة وعلى الثاني إلى المصباح وتنكير الشجرة ووصفها بالمباركة الدالة على كثرة النفع وتولد الأنبياء والأوصياء منها للتعظيم (وهو قول الله عز وجل) هو إشارة إلى كون إبراهيم (عليه السلام) شجرة مباركة أو كون سيد الأوصياء من تلك الشجرة (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد) أي محمود في كل فعاله مجيد بالاحسان وإفاضة الخيرات إلى عباده وقد وقع هذا الخطاب الشريف عند البشارة بإسحاق وقد تولد من إسحاق أنبياء وأوصياء منهم خاتم الأنبياء وأفضل الأوصياء ولا بركة أعظم منه (وهو قول الله ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) لما أوجب الله تعالى قبل هذا القول متصلا به طاعته وطاعة رسوله وبين أنها جالبة لمحبته تعالى حيث قال (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) أشار بهذا القول الشريف إلى وجوب طاعة من اصطفاه وخصه بالكمالات الجسمانية والملكات الروحانية وبين مواضعه دون ما اختاره الخلق وآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما ودخل فيهم نبينا وأولاده الطاهرون (عليهم السلام) وآل عمران موسى وهارون وينتهى نسبهما إلى لاوى بن يعقوب أو عيسى ومريم بنت عمران ومن أجدادهما داود وسليمان وينتهى نسبهما إلى يهودا بن يعقوب قيل: كان بين العمرانين الف وثمانمائة سنة (ذرية بعضها من بعض) قال القاضي هذا حال أو بدل عن الأولين أو منهما ومن نوح بمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض، وقيل: بعضها من بعض في الدين (والله سميع عليم) سميع بأقوالهم عليم بأعمالهم فيصطفى من كان مستقيم القول والعمل كذا ذكره القاضي وغيره.

أقول: إذا كانت الرسالة والخلافة والولاية من لدن آدم (عليه السلام) إلى خاتم الأنبياء باصطفائه تعالى فكيف يجوز تخلف ذلك بعده وصيرورتها باختيار الخلق والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل (لا شرقية ولا غربية) يقول لستم بيهود فتضلوا قبل المغرب ولا نصارى فتضلوا قبل المشرق) الفاء الموضعين تفريع على المنفي والظاهر أن هذه الجملة صفة لشجرة لأن اتصاف تلك الشجرة بهذا السلب مستلزم لاتصافهم به كما أشار إليه بقوله (وأنتم على ملة إبراهيم (عليه السلام)) وهو لم يكن يهوديا ولا نصرانيا كيف (وقد قال الله عز وجل ما كان إبراهيم يهوديا ولا

ص:593

نصرانيا) وهذا الكلام تحقيق وتقرير للسلب المذكور (ولكن كان حنيفا) مائلا عن الباطل إلى الحق (مسلما) منقادا لله تعالى في جميع الأمور (وما كان من المشركين) كاليهود والنصارى حيث أشركوا بالله تعالى باتخاذ عزير وعيسى الهين قال القاضي: تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم وزعم كل فريق أنه منهم فنزلت قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) وزعم كل فريق انه منهم فنزلت قوله تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) والمعنى ان اليهودية والنصرانية حدثت بنزول التورية والإنجيل على موسى وعيسى وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة وقبل عيسى بألفين فكيف يكون عليهما ثم قال عز وجل تصريحا (ما كان إبراهيم يهوديا) (يقول مثل أولادكم الذين يولدون منكم - اه) هذه استعارة تمثيلية ولا يخفى لطفها على المتدرب في البيان.

* الأصل:

575 - أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن الحسن بن علي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله قال: سألته عن قول الله عز وجل: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) قال: يريهم في أنفسهم المسخ ويريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم فيرون قدرة الله عز وجل في أنفسهم وفي الآفاق، قلت له: (حتى يتبين لهم أنه الحق) قال:

خروج القائم هو الحق من عند الله عز وجل يراه الخلق لابد منه.

* الشرح:

قوله (قال يريهم في أنفسهم المسخ ويريهم في الآفاق انتقاص الآفاق عليهم) لعل المسخ إشارة إلى ما روي عنهم (عليهم السلام) «أن كل من مات من بني أمية مسخ وزغا عند موته» وشاهد ذلك من حضره وقد مر، وانتقاص الآفاق إشارة إلى غلبة أبي مسلم وبني عباس عليهم أو إلى غلبة الصاحب (عليه السلام) عليهم والتجائهم إلى حاكم الروم وهو نصراني ورده إياهم بعد تنصرهم إلى الصاحب (عليه السلام) فيقتلهم جميعا وقد مر أيضا.

* الأصل:

576 - محمد بن يحيى، والحسين بن محمد جميعا، عن جعفر بن محمد، عن عباد بن يعقوب، عن أحمد بن إسماعيل، عن عمرو بن كيسان، عن أبي عبد الله الجعفي قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): كم الرباط عندكم؟ قلت: أربعون، قال: لكن رباطنا رباط الدهر ومن ارتبط فينا

ص:594

دابة كان له وزنها ووزن ما كانت عنده، ومن ارتبط فينا سلاحا كان له وزنه ما كان عنده، لا تجزعوا من مرة ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع فإنما مثلنا ومثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إليه أن ادع قومك للقتال فاني سأنصرك فجمعهم من رؤوس الجبال ومن غير ذلك ثم توجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا، ثم أوحى الله إليه أن ادع قومك إلى القتال فاني سأنصرك فدعاهم فقالوا: وعدتنا النصر فما نصرنا فأوحى الله تعالى إليه اما أن يختاروا القتال أو النار، فقال: يا رب القتال أحب الي من النار فدعاهم فأجابه منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدة أهل بدر فتوجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى فتح الله عزوجل لهم

* الشرح:

قوله (كم الرباط عندكم قلت أربعون - آه) الرباط والمرابطة في الأصل الإقامة على جهاد العدو وارتباط الخيل واعدادها وقال بعض الأصحاب هو الارصاد في أطراف بلاد الاسلام للاعلام بأحوال المشركين على تقدير هجومهم وهو مستحب كفائي وأقله ثلاثة أيام ولا يستحق ثوابه دونها وأكثره أربعون يوما فإن زاد كان له ثواب المجاهدين وفيه تحريك على اتخاذ الفرس والسلاح واستعمالها ومزاولتها المعتبرة لتحصل ملكة واستعداد للقتال مع الأعداء عند ظهور القائم (عليه السلام) ثم رغب في الصبر وترك القنوط بعدم نزول النصر في بعض الأزمان فإنه لابد من نزوله في وقت وفي المثل المشهور الأمور مرهونة بأوقاتها فقال (لا تجزعوا من مرة) في القتال وعدم نزول النصر (ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع) كأن المرة ناظرة إلى زمان علي (عليه السلام) والثانية إلى زمان الحسن (عليه السلام) والثالثة إلى زمان الحسين (عليه السلام) والرابعة إلى زمان زيد، لأنه لو غلب لرد الحق إلى أهله كما روى أو إلى زمان الرضا (عليه السلام) على احتمال بعيد أو ذكرها من باب الاستطراد المعروف في الكلام.

* الأصل:

577 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بكر بن صالح، والنوفلي، وغيرهما يرفعونه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتداوى من الزكام ويقول: ما من أحد الا وبه عرق من الجذام فإذا أصابه الزكام قمعه.

* الشرح:

قوله (لا يتداوى من الزكام) في القاموس الزكام بالضم فضول رطبة تجلب من بطني الدماغ المقدمين إلى المنخرين.

ص:595

578 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الزكام جند من جنود الله عز وجل يبعثه الله عز وجل على الداء فيزيله.

579 - محمد بن يحيى، عن موسى بن الحسن، عن محمد بن عبد الحميد باسناده رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما من أحد من ولد آدم الا وفيه عرقان: عرق في رأسه يهيج الجذام وعرق في بدنه يهيج البرص فإذا هاج العرق الذي في الرأس سلط الله عز وجل عليه الزكام حتى يسيل ما فيه من الداء وإذا هاج العرق الذي في الجسد سلط الله عليه الدماميل حتى يسيل ما فيه من الداء، فإذا رأى أحدكم به زكاما ودماميل فليحمد الله عز وجل على العافية وقال: الزكام فضول في الرأس.

* الأصل:

580 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن رجل قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يشتكي عينيه فقال له: أين أنت عن هذه الأجزاء الثلاثة: الصبر والكافور والمر؟ ففعل الرجل ذلك فذهبت عنه.

* الشرح:

قوله (فقال أين أنت من هذه الاجزاء الثلاثة الصبر والكافور والمر) الصبر ككتف عصارة شجرة مر والكافور صمغ شجرة وما كان منه حلال وهو الكبار التي لم يقع في التراب لا حاجة له إلى النار وهو الكافور الخام المستعمل في الحنوط وما كان منه صفار ووقع في التراب يلقى في قدر فيه ما يغلي لتميز من التراب كما ذكره بعض الأصحاب وهو في اللغة أيضا نبت طيب له نور كنور الأقحوان وغلاف الكرم قبل ظهور نوره وطلع النخل أو وعاؤه وطيب معروف يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين خشبة أبيض ويوجد في أجوافه الكافور وهو أنواع ولونها أحمر انما تبيض بالتصعيد فليتأمل في تعيين المراد منه، والمر بالضم دواء معروف نافع للسعال وللسع العقارب ولديدان الأمعاء.

* الأصل:

581 - عنه، عن أحمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لنا فتاة كانت ترى الكوكب مثل الجرة، قال: نعم وتراه مثل الحب، قلت: إن بصرها ضعف، فقال:

ص:596

أكحلها بالصبر والمر والكافور أجزاء سواء فكحلناها به فنفعها.

* الشرح:

قوله (كان لنا فتاة) أي جارية شابة (ترى الكوكب مثل الجرة) وهي بالفتح الاناء المعروف من الخزف والتشبيه باعتبار الحجم أو الشكل (قال نعم وتراه) الآن (مثل الحب) وهو بالضم الخابية فارسي معرب.

* الأصل:

582 - عنه، عن أحمد، عن داود بن محمد، عن محمد بن الفيض، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

كنت عند أبي جعفر يعني أبا الدوانيق فجاءته خريطة فحلها ونظر فيها فأخرج منها شيئا فقال: يا أبا عبد الله أتدري ما هذا؟ قلت: ما هو؟ قال: هذا شيء يؤتى به من خلف إفريقية من طنجة أو طبنة - شك محمد - قلت: ما هو؟ قال جبل هناك يقطر منه في السنة قطرات فتجمد وهو جيد للبياض بكون في العين يكتحل بهذا فيذهب باذن الله عزوجل قلت: نعم أعرفه وإن شئت أخبرتك باسمه وحاله؟ قال: فلم يسألني عن اسمه، قال: وما حاله؟ فقلت: هذا جبل كان عليه نبي من أنبياء بني إسرائيل هاربا من قومه يعبد الله عليه فعلم به قومه فقتلوه فهو يبكي على ذلك النبي (عليه السلام) وهذه القطرات من بكائه وله من الجانب الاخر عين تنبع من ذلك الماء بالليل والنهار ولا يوصل إلى تلك العين.

* الشرح:

قوله (قال هذا شيء يؤتى به من خلف إفريقية من طنجة أو طينة) إفريقية بالياء بعد الراء بلاد واسعة قبالة الأندلس وطنجة بلد بشاطى ساحل المغرب وطينة بالنون بعد الياء بلد قرب دمياط.

قوله (جزء كافور رياحى) في القاموس الرياحي جنس من الكافور وقول الجوهري الرباح دويبة يجلب منها الكافور «خلف وأصلح في بعض النسخ وكتب بلد بدل دويبة وكلاهما غلط لأن الكافور

ص:597

صمغ شجر يكون داخل الخشب وبتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج أقول بيان غلطه مذكور في كتاب حياة الحيوان أيضا وفيه تأمل فتأمل (وجزء صبر اصقو طري) في القاموس سقطرى بضم السين والقاف ممدودة ومقصورة واسقطرى جزيرة ببلد الهند على يسار الجائي من بلاد الزنج والعامة تقول سقوطرة يجلب منها الصبر ودم الأخوين.

583 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سليم مولى علي بن يقطين أنه كان يلقى من رمد عينيه أذى قال: فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام) ابتداء من عنده: ما يمنعك من كحل أبي جعفر (عليه السلام) جزء كافور رباحي وجزء صبر اصقوطري يدقان جميعا وينخلان بحريرة يكتحل منه مثل ما يكتحل من الإثمد الكحلة في الشهر تحدر كل داء في الرأس وتخرجه من البدن، قال: فكان يكتحل به فما اشتكى عينيه حتى مات.

ص:598

حديث العابد

* الأصل:

584 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن محمد بن سنان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئا فنخر إبليس نخرة فاجتمع إليه جنوده فقال: من لي بفلان؟ فقال بعضم: أنا له، فقال: من أين تأتيه؟ فقال:

من ناحية النساء، قال: لست له لم يجرب النساء، فقال له آخر: فأنا له، فقال له: من أين تأتيه؟ قال:

من ناحية الشراب واللذات قال: لست له ليس هذا بهذا، قال آخر: فأنا له، قال: من أين تأتيه؟ قال من ناحية البر قال: انطلق فأنت صاحبه، فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاه يصلى قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحول إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله، فقال: يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة؟ فلم يجبه، ثم أعاد عليه فلم يجبه ثم أعاد عليه فقال: يا عبد الله إني أذنبت ذنبا وأنا تائب منه فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة قال: فأخبرني بذنبك حتى أعمله وأتوب فإذا فعلته قويت على الصلاة؟ قال: اخل المدينة فسل عن فلانة البغية فأعطها درهمين ونل منها، قال: ومن أين لي درهمين ما أدري ما الدرهمين؟ فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله إياهما فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية فأرشده الناس وظنوا أنه جاء يعظها فأرشدوه فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين وقال:

قومي فقامت فدخلت منزلها وقالت: ادخل وقالت: إنك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها فأخبرني بخبرك فأخبرها فقالت له: يا عبد الله إن ترك الذنب أهون من طلب التوبة وليس كل من طلب التوبة وجدها وإنما ينبغي أن يكون هذا شيطانا مثل لك فانصرف فانك لا ترى شيئا فانصرف وماتت من ليلتها فأصبحت فإذا على بابها مكتوب: احضروا فلانة فانها من أهل الجنة فارتاب الناس فمكثوا ثلاثا لم يدفنوها ارتيابا في أمرها فأوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء لا أعلمه إلا موسى بن عمران (عليه السلام) أن ائت فلانة فصل عليها ومر الناس أن يصلوا عليها فاني قد غفرت لها وأوجبت لها الجنة بتثبطها عبدي فلانا عن معصيتي.

* الشرح:

قوله (حديث العابد - اه) دل على أن للشياطين تصرفات غريبة فلا ينبغي الغفلة عن مكرهم وان ترك الذنب أهون وأسهل من طلب التوبة لأن النفس قبل الذنب أشد صفاء منها

ص:599

بعده ولا ريب في أن العبادة مع صفائها أسهل من العبادة مع ظلمتها مع أن للتوبة أسبابا وشرائط قد لا يتحصل فليس كل من طلب التوبة وجدها وان من هدى مؤمنا ونجاه عن الضلالة فهو من أهل الجنة وان كان فاسقا آكلا أموال الناس حراما والتثبيط من الشئ التعويق عنه والمنع منه.

* الأصل:

585 - أحمد بن محمد بن] أحمد [عن علي بن الحسن، عن محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان في بني إسرائيل رجل عابد وكان محارفا لا يتوجه في شيء فيصيب فيه شيئا، فأنفقت عليه امرأته حتى لم يبق عندها شيء فجاعوا يوما من الأيام فدفعت إليه نصلا من غزل وقالت له ما عندي غيره انطلق فبعه واشتر لنا شيئا نأكله، فانطلق بالنصل الغزل ليبيعه فوجد السوق قد غلقت ووجد المشترين قد قاموا وانصرفوا، فقال: لو أتيت هذا الماء فتوضأت منه وصببت علي منه وانصرفت فجاء إلى البحر وإذا هو بصياد قد ألقى شبكته فأخرجها وليس فيها إلا سمكة ردية قد مكثت عنده حتى صارت رخوة منتنة فقال له: بعني هذه السمكة وأعطيك هذا الغزل تنتفع به في شبكتك، قال: نعم، فأخذ السمكة ودفع إليه الغزل وانصرف بالسمكة إلى منزله فأخبر زوجته الخبر فأخذت السمكة لتصلحها فلما شقتها بدت من جوفها لؤلؤة فدعت زوجها فأرته إياها فأخذها فانطلق بها إلى السوق فباعها بعشرين ألف درهم وانصرف إلى منزله بالمال فوضعه فإذا سائل يدق الباب ويقول: يا أهل الدار تصدقوا رحمكم الله على المسكين فقال له الرجل: ادخل فدخل فقال له: خذا إحدى الكيسين فأخذ إحديها وانطلق فقالت له امرأته: سبحان الله بينما نحن مياسير إذ ذهبت بنصف يسارنا فلم يكن ذلك بأسرع من أن دق السائل الباب فقال له الرجل: ادخل فدخل فوضع الكيس في مكانه ثم قال: كل هنيئا مريئا، إنما أنا ملك من ملائكة ربك إنما أراد ربك أن يبلوك فوجدك شاكرا، ثم ذهب.

* الشرح:

قوله (كان في بني إسرائيل رجل عابد وكان محارفا - اه) المحارف بفتح الراء المحروم الذي إذا طلب الرزق لم يجده والنصل الغزل وقد خرج من المغزل وفي الحديث فوائد الأولى أن الصبر على الفقر يوجب الفرج الثانية أن ما وجد في جوف السمكة من اللؤلؤ ونحوه فهو لواجده لا للبايع، الثالثة أنه لا ينبغي رد السائل عن النعمة المتجددة إذ ربما يكون اختبارا من الله تعالى، الرابعة أن اعطاء السائل شكر لها ثم الظاهر أنه لا دلالة في اظهار الملك أنه ملك على كون ذلك الرجل نبيا أو رسولا كما وقع مثل ذلك بالنسبة إلى سارة ومريم (عليهما السلام) والله يعلم.

ص:600

خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

* الأصل:

586 - أحمد بن محمد، عن سعد بن المنذر بن محمد، عن أبيه عن جده، عن محمد بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن أبيه قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) - ورواها غيره بغير هذا الاسناد وذكر أنه خطب بذي قار - فحمد الله وأثنى عليه: ثم قال: أما بعد فان الله تبارك وتعالى بعث محمد (صلى الله عليه وآله) بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، عودا وبدءا وعذرا ونذرا، بحكم قد فصله وتفصيل قد أحكمه وفرقان قد فرقه وقرآن قد بينه ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه وليقروا به إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه، فأراهم حلمه كيف حلم وأراهم عفوه كيف عفا، وأراهم قدرته كيف قدر، وخوفهم من سطوته، وكيف خلق ما خلق من الآيات وكيف محق من محق من العصاة بالمثلات واحتصد من احتصد بالنقمات وكيف رزق وهدى وأعطا وأراهم حكمه كيف حكم وصبر حتى يسمع ما يسمع ويرى.

فبعث الله عزوجل محمد (صلى الله عليه وآله) بذلك ثم إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه وليس في العباد ولا في البلاد شيء هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر، وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى من الهدى عند الضلال في ذلك الزمان فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته حتى تمالت بهم الأهواء وتوارثوا ذلك من الاباء وعملوا بتحريف الكتاب كذبا وتكذيبا فباعوه بالبخس وكانوا فيه من الزاهدين، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يأويهما مؤو، فحبذا ذانك الصاحبان واها لهما ولما يعملان له، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم وذلك لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا، وقد اجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة قد ولوا أمرهم وأمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر والرشاء والقتل كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ولم يعرفوا من الكتاب

ص:601

إلا خطه وزبره، يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ينتقل من دين ملك إلى دين ملك، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك، ومن عهود ملك إلى عهود ملك، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون وإن كيده متين بالأمل والرجاء، حتى توالدوا في المعصية، ودانوا بالجور والكتاب لم يضرب عن شيء منه صفحا، ضلالا تائهين، قد دانوا بغير دين الله عز وجل وأدانوا لغير الله.

مساجدهم في ذل الزمان عامرة من الضلالة، خربة من الهدى] قد بدل فيها من الهدى [فقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليفته، ومن عندهم جرت الضلالة وإليهم تعود، فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم الا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خربة من الهدى عامرة من الضلالة قد بدلت سنة الله وتعديت حدوده ولا يدعون إلى الهدى ولا يقسمون الفيء ولا يوفون بذمة، يدعون القتيل منهم على ذلك شهيدا قد أتو الله بالافتراء والجحود واستغنوا بالجهل عن العلم ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة وسموا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة وقد بعث الله عز وجل إليكم رسولا من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (صلى الله عليه وآله) وأنزل عليه كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قرآنا عربيا غير ذي عوج لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فلا يلهينكم الأمل ولا يطولن عليكم الأجل، فانما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم وتغطية الآجال عنهم حتى نزل بهم الموعود الذي تردت عنه المعذرة وترفع عنه التوبة وتحل معه القارعة والنقمة وقد أبلغ الله عز وجل إليكم بالوعد وفصل لكم القول وعلمكم السنة وشرح لكم المناهج ليزيح العلة وحث على الذكر ودل على النجاة وإنه من انتصح الله واتخذ قوله دليلا هداه للتي هي أقوم ووفقه للرشاد وسدده ويسره للحسنى، فان جار الله آمن محفوظ وعدوه خائف مغرور فاحترسوا من الله عز وجل بكثرة الذكر واخشوا منه بالتقى وتقربوا إليه بالطاعة فانه قريب مجيب قال الله عز وجل: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) فاستجيبوا لله وآمنوا به وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله ان يتعظم فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله أن يتواضعوا له وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من

ص:602

الأجرب والبارىء من ذي السقم.

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى.

فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى، فلا يجهلنكم الذين لا يعلمون، إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله وبصر به عماه وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات وحيى به بعد إذ مات وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات ومحابه السيئات وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة فانهم خاصة نور يستضاء به وأئمة يقتدي بهم وهم عيش العلم وموت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق، فهم من شأنهم شهداء بالحق، ومخبر صادق لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، قد خلت لهم من الله السابقة ومضى فيهم من الله عزوجل حكم صادق، وفي ذلك ذكرى للذاكرين، فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية فان رواة الكتاب كثير ورعاته قليل والله المستعان.

* الشرح:

قوله (خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)) فيها نصيحة بالغة للانقطاع عن الخلق والى الله تعالى وبيان لفساد الزمان وأهله بعده (عليه السلام) وحث على كثرة الذكر والدعاء لدفع ضرر الأعداء وعلى التمسك بدين الحق والرجوع على أهل العلم (خطب بذي قار) هو موضع بين كوفة وواسط (ثم قال أما بعد الحمد لله والثناء عليه فإن الله تبارك وتعالى بعث محمد (صلى الله عليه وآله) بالحق) وهو كل ما أوحى إليه وجاء به أو القرآن أو هداية الخلق وارشادهم (ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته) فإن الخلق كلهم عند بعثته كانوا مشركين يعبدون غيره تعالى كعزير وعيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر والزهرة وغيرهم كما مر في كتاب العلم من الأصول» ومن عهود عباده إلى عهوده) العهد الوصية والأمان والذمة والحفاظ ورعاية الحرمة ولعل المراد بعهود العباد ما قرروه بينهم وتعاهدوا عليه مما فيه سخط الله تعالى وبعهود الله تعالى كل ما قرره عليهم وفيه رضاه (ومن طاعة عباده إلى طاعته) المراد بطاعة العباد الانقياد لهم فيما لا يجوز عقلا ونقلا وطاعته تعالى الانقياد والتسليم له

ص:603

في كل ما أراد منهم (ومن ولاية عباده إلى ولايته) المراد بولاية العباد ولاية الكافر والمنافق والفاسق من حيث أنه فاسق وبولايته تعالى ولايته وولاية الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) والشرع نفى بعض الولايات وأثبت بعضها (بشيرا) بالثواب والكرامة وما يوجب الوصول اليهما (ونذيرا) من العقاب والشقاوة وما يوجب الدخول فيهما وهما حالان عن محمد (صلى الله عليه وآله) (وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا) لكونه نورا في الذات والصفات وبانارته ظهر الحق وارتفع الجهالات (عودا وبدءا) أي هو بهذين الوصفين في حال عوده إلى الله وابتداء وجوده من الله فبنوره اهتدى من اهتدى في الدنيا ونجى من نجى في الآخرة (عذرا أو نذرا) علتان للبعث ومصدران لعذرت عذرا إذا محوت الإساءة وطمستها وأنذرت انذارا ونذرا إذا علمته وحذرته وخوفته يعني بعثه لأجل محو إساءة المطيعين، لأنه رحمة للمؤمنين وانذار المخالفين وتخويفهم على مخالفتهم ويحتمل أن يراد بالأول أنه بعثه لأجل أن يكون له عذر في عقوبتهم وتعذيبهم كما قال (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ونظيره ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) من طريق العامة «من يعذرني عن رجل قد بلغني عنه كذا وكذا» أي من يقوم بعذري ان كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني والله اعلم (بحكم قد فصله) تفصيلا رافعا للاشتباه والحكم هنا شامل للاحكام الشرعية والاحكام الوضعية والجار متعلق ببعث (وتفصيل قد أحكمه) أي أتقنه على وجه لا يجوز تبديله ولا أن يقال خلافه أحسن منه ولعل التفصيل إشارة إلى أنواع الفقه مثل الطهارات والعبادات والايقاعات والعقودات وغيره (وفرقان قد فرقه) الفرقان من أسماء القرآن سمي به لأنه فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام وقد يطلق على كل ما يفرق به بينهما و «فرقه» بالتخفيف أحكمه وبالتشديد أنزله في أيام متفرقة ليسهل على القلب واللسان والسمع تحملها (وقرآن قد بينه) أي بين ظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ومجمله ومفصله وكل ما فيه (ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه) في ذكر الرب توبيخ لهم على الغفلة إذ جهل المربوب بربه دليل واضح على غاية حماقته.

(وليقروا به إذ جحدوه وليثبتوه بعد إذ أنكروه) الظاهر أن المراد بالعلم العلم التصوري وبالاقرار التصديق بوجوده وبالاثبات الاقرار بوجوده لسانا ففيه اشعار بأن العباد قبل البعثة لكونهم واغلين في الجهالة لم يدخل في قلوبهم تصور الصانع فضلا عن الأخيرين، ويحتمل أن يراد بالعلم العلم بصفاته وبالاقرار التصديق بوجود ذاته وبالاثبات اثباتهما على نحو ما نطقت به السنة الشرع إذ بمجرد معرفة الذات والصفات بدون معرفة وجه الارتباط بينهما لا يتحقق معرفة الصانع والتوحيد المطلق وقد بينا ذلك مفصلا في شرح التوحيد (فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه) التجلي الانكشاف والظهور وسبحانه مصدر منصوب بفعل مقدر ومن ابتدائية كما في

ص:604

قوله (انه من سليمان) وقوله تعالى (من المسجد الحرام) وهي مع مدخولها قرينة لصرف التجلي عن ظاهره إلى خلافه ومعناه انكشف وظهر لهم في كتابه عن الحجب المظلمة الطبيعية من غير أن يكونوا رأوه بالرؤية العينية لأنها عليه محال كما مر في كتاب التوحيد بل ظهر فيه بسبب اظهار عظمته المطلقة وقدرته الكاملة وحكمته البالغة بذكر ايجاد الكائنات من الأرضين والسماوات والنجوم الثوابت والسيارات وخلق الإنسان ومراتبه وخلق الجبال والبحار وأنواع الحيوانات على غير ذلك مما لا تبلغه عقول العقلاء ولا تدركه فحول العلماء مع عبارات شريفة ومعاني لطيفة متصفة بالايجاز والاعجاز وينبغي ان يعلم أن تجليه تعالى أمر يمكن ادراكه ولا يمكن وصفه وبيانه وأن مراتبه متفاوتة غير محصورة وأنه يخلف بالنسبة إلى واحد في بعض الأحوال والأوقاف (فأراهم حلمه كيف حلم) كيف هنا للتعجب وحلمه تعالى يعني تأنيه وتثبته عن عقوبة العبد مع استحقاقه اما لعلمه بأنه سيرجع أو بأنه سيولد منه ولد صالح اولاستدراجه.

(وأراهم عفوه كيف عفى) عن السيئات بالتوبة والشفاعة أو الدعاء والاستغفار أو بدونها تفضلا لمن هو أهل له في الجملة (وأراهم قدرته كيف قدر) على الممكنات وايجادها وابقائها وافنائها بمجرد ارادته من غير روية ولا آلة (وخوفهم من سطوته) وبطشه كما قال «ان بطش ربك لشديد» (وكيف خلق ما خلق من الآيات) الدالة على وجوده وعظمته وقدرته وتدبيره وحكمته (ومحق من محق من العصاة بالمثلات) كقوم نوح وموسى وهود وصالح وثمود ولوط وأضرابهم المذكورة في القرآن الكريم، والمثلات جمع المثلة بضم التاء وسكونها وهي العقوبة الشديدة (واحتصد من احتصد بالنقمات) الاحتصاد قطع الزرع والمراد هنا القتل على سبيل التشبيه والنقمات جمع النقمة بالفتح وبالكسر وكفرحة وهي المكافاة بالعقوبة (وكيف رزق وهدى) إلى طريق الحق وسبيل الرزق.

(وأعطى) كل شيء خلقه وكماله وما يرفع به حاجته ويناسب حاله والتفكر في تفاصيله خارج عن طوق البشر وموجب للتولة والتحير (وأراهم حكمه كيف حكم) إذ أراهم بما ركز فيهم من البصيرة العقلية أن حكمه في كل شيء نافذ بلا مانع بمجرد الإرادة والقضاء فلا يشكل عليه شيء من حيث الايجاد والافناء والأمانة والاحياء (وصبر حتى يسمع ما يسمع ويرى) من الأقوال الكريهة في الذات والصفات والتوحيد وغيرها والاعمال القبيحة الدالة على ضعف اليقين وعدم الاهتمام بالدين والصبر ليس للعجز عن الاخذ بل لما ذكر سابقا (فبعث الله عز وجل محمد (صلى الله عليه وآله) بذلك) دل مع السابق على أن سنة الله جرت على اكمال الحجة على العباد باعطاء العقل وارسال الرسول (ثم انه سيأتي عليكم من بعدى زمان - آه) إشارة إلى زمان خلفاء بني أمية وبني عباس

ص:605

وأمرائهم الميشومة واضرابهم إلى يومنا هذا (والسلعة) بالكسر المتاع وما يتجر به (والبور) والبوار الهلاك وكساد السوق والمراد بحق تلاوة الكتاب رعاية لفظه ومعناه جميعا (ونفاق البيع) بفتح النون رواجه والتحريف التغيير وصرف الشئ عن وجهه إلى وجه باطل كتحريف آيات الاحكام والولاية عن مواضعها (وانكى) مثل أحرى من النكاية بفتح النون وهو القبح والجراح والقتل والعقوبة أو مثل املاء من النكاء بهمز اللام وهو قشر القرحة قبل أن تبرأ والمراد على التقديرين أن الهدى أشد مولم في ذلك الزمان (والضلال) بتخفيف اللام أو بتشديده على احتمال جمع ضال (فقد نبذ الكتاب حملته وتناساه حفظته) كان المراد بالكتاب معانيه ومقاصده وأحكامه وبضميره ألفاظه وعباراته وكلماته على سبيل الاستخدام وكون المراد من الجملة والحفظة علماء الكتاب ونبذهم إياه باعتبار كساد سوقه وعدم رواجه بعيد وفي ترك التنابذ أولا وذكر التناسي ثانيا فائدة لطيفة هي الايماء إلى أن الكتاب يطلبهم فالنبذ من طرقهم ثم بعد النبذ هو ينساهم كما أنهم نسوه ومن المشهورات ان لم تردني لم أردك (حتى تمالت بهم الأهواء) كان تمالت أصله تمايلت بالنقل كما في شاكي السلاح ثم بالقلب والحذف أو تعالوت بالقلب والحذف من الملو وهو السير الشديد والباء للتعدية أي سيرتهم الأهواء وبالعكس في طريق الباطل أو تمالات بتخفيف الهمزة بمعنى تعاونت وتساعدت أو تمالت بالثاء المثلثة لو ثبتت روايته بمعنى تداهن وتلاعب وفي بعض النسخ عال بالعين المهملة بمعنى مال (وتوارثوا ذلك من الاباء) أشار إلى أن ذلك المذكور من الخصال القبيحة شنشنة اتخذها الأبناء من الاباء والى استمرارها وطول مدتها وقد ذمهم الله عز وجل عليها في مواضع عديدة من القرآن الكريم.

(وعملوا بتحريف الكتاب كذبا) على الله وعلى رسوله وتكذيبا لحملته وحفظته ومن تبعهم (فباعوه بالبخس) وهو الزيف أو النقص فإنهم استبدلوه بالدنيا والدنيا كلها بخس فكيف ما وجدوه منها بسبب التحريف في أعمارهم القصيرة، وفيه ايماء إلى ان ذلك صدر منهم عن قصد (وكانوا فيه من الزاهدين) الراغبين عنه لجهلهم بقدره ومنزلته فحالهم كحال من له جوهرة نفيسة لا يعرف قدرها ولا قيمتها فيبيعها بثمن يسير لا قدر له ويظن أنه ربح فيه وفيه اما متعلق بالزاهدين ان جعل اللام للتعريف، أو بمحذوف يبينه الزاهدين ان جعل بمعنى الذي لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول (فالكتاب وأهل الكتاب) الحامل له العالم العامل به وهم أهل العصمة (عليهم السلام) ومن تبعهم (في ذلك الزمان طريدان منفيان) تأيد أو الأول الطرد والابعاد عن المعاشرة والثاني النفي عن البلد (وصاحبان مصطحبان في طريق واحد) وهو طريق الحق وفيه أيضا تأكيدا والأول من الصحبة بمعنى المعاشرة والثاني من الصحبة بمعنى الحفظ وكل منهما يحفظ الاخر عن الضياع (لا يؤويهما

ص:606

مؤو) أي لا ينزلهما أحد في منزله، وفي المهذب الايواء جا دادن أولايرق لهما ذورقة (فحبذا ذانك الصاحبان واها لهما ولما يعملان له) من قرب الحق ودخول الجنة والسعادة الأبدية روت العامة من ابتلى فصبر واها واها في القاموس واها ويترك تنوينه كلمة التعجب من طيب شيء وكلمة تلهف وفى النهاية قيل: معنى هذه الكلمة التلهف وقد توضع موضع الاعجاب بشئ يقال واها له وقد ترد بمعنى التوجع، وقيل: التوجع يقال في آها ومنه ان يكن خيرا فواها واها وان يكن شرا فآها آها (فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس) من حيث الوجود والتحيز واللوازم الجسمانية (وليسوا فيهم) من حيث العمل والاتصاف بالكمالات الروحانية (ومعهم) من حيث الخلطة والمعاشرة الظاهرة (وليسوا معهم) من حيث الألفة بينهم والكراهة الباطنة فالاثبات من جهة والسلب جهة أخرى ولما كان الاثبات في الموضعين ظاهرا لا يحتاج إلى دليل أشار إلى دليل السلب فيهما بقوله وذلك (لان الضلالة لا توافق الهدى وان اجتمعا) على الوجه المذكور لان الضدين لا يجتمعان في محل واحد وكذا المتصف بهما وسر ذلك أن الإنسان مركب من جوهرين جوهر جسماني وجوهر روحاني والأخير مفقود فيهم فالاجتماع باعتبار الأول وعدمه باعتبار الثاني، وقد أوضحنا ذلك في شرح الأصول ثم أشار إلى بعض أوصافهم الذميمة بقوله (وقد اجتمع القوم على الفرقة) من الحق وأهله (وافترقوا عن الجماعة) فصارت طائفة مشبهة وطايفة مجسمة وطائفة معتزلية وطائفة أشعرية وطائفة حنبلية إلى غير ذلك من الملل الباطلة الحادثة في الاسلام، وبالجملة لم يكتفوا بالفرقة عن أهل الحق بل افترقوا في أنفسهم بفرق كثيرة وجماعات متعددة وللعبارة احتمال آخر فتأمل (قد ولوا أمرهم وأمر دينهم) الظاهر أن ضميرهم راجع إلى القوم وهم الفرق الضالة وأن المراد بالامر الامر المطلوب منهم والنافع لهم في الدنيا والآخرة واحتمال عوده إلى أهل الكتاب وهم الفرقة المحقة بعيد (من يعمل فيهم المكر والمنكر والرشا) بكسر الراء وضمها جمع الرشوة مثلثة وهي الجعل ورشا اعطاء إياها، ارتشى أخذها واسترشى طلبها (والقتل كأنهم أئمة الكتاب) المراد بأئمة الكتاب من يعلم ظاهره وباطنه ويكون الكتاب امامه ومقتداه في الأمور كلها (وليس الكتاب امامهم) لأنهم تركوا ما في الكتاب ولم يقتدوا به (ولم يبق عندهم من الحق إلا اسمه) إذ تركوا مدلوله واطلقوا هذا الاسم على ما هو باطل.

(ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره) الزبر بالفتح والسكون مصدر بمعنى الكتاب وبالكسر والسكون الكتاب كذا في الفايق (يدخل الداخل) في الدين (لما يسمع من حكم القرآن) الداعي إلى الدخول فيه (فلا يطمئن جالسا) ولا يتم جلوسه (حتى يخرج من الدين) فيكون دخوله مقارنا لخروجه لكونه منكرا لأعظم أصوله بالبدع التي أسسها المتقدمون ثم أشار إلى المثل المشهور وهو

ص:607

أن الناس على دين ملوكهم بقوله (ينتقل من دين ملك إلى دين ملك - آه) تنبيها على انهم بأهوائهم الفاسدة وتخيلاتهم الكاسدة يتبعون خلفاء بني أمية وبني مروان وبني عباس وحكامهم ويفعلون ما يؤمرون، ثم أشار إلى أن ذلك استدراج من الله عليهم بقوله (فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون) فكلما جددوا خطيئة جدد الله تعالى لهم نعمة وزاد لهم قوة ليغتروا وينسوا الرجوع والاستغفار فيأخذهم بالآخرة اخذا شديدا وهذا من كيده تعالى (وان كيده متين) أي قوى شديد ولما كانوا من أهل الكيد عد جزاء كيدهم كيدا لوقوعه في صحبته تقديرا كما يعد جزاء سيئة سيئة من باب المشاكلة بالامل والرجاء لمتاع الدنيا وما عند الملوك وهو متعلق باستدراجهم (حتى توالدوا في المعصية) كالكفر فإن المتولد من الكافر كافر غالبا كما ترى في اليهود والنصارى وغيرهم (ودانوا بالجور) أي اعتادوا أو قضوا أو حكموا بالجور أو قهروا أو غلبوا واستعلوا على أهل الحق به (والكتاب لم يضرب عن شيء منه صفحا) أي الكتاب لم يصرفهم عن شئ من أفراد الجور صرفا لتماديهم في الضلالة وتقديم الكتاب لتقوية الحكم والمصدر لتأكيد النفي (ضلالا تائهين) ضلال جمع ضال ككتاب جمع كاتب والتايه المتحير في طريق الضلالة (قد دانوا بغير دين الله) أي اتخذوا غير دين الله دينا لهم (وادانوا لغير الله) أي عبدوا لغير الله واصل الإدانة اعطاء الدين فمن عمل لله فهو دين عليه يؤديه وقت الحاجة ومن عمل لغيره وكله على ذلك الغير (مساجدهم في ذلك الزمان عامرة من الضلالة خربة من الهدى) لكونها مملوة من الضلالة وأربابها وخالية من الهداية وأصحابها (فقراؤها وعمارها اخائب خلق الله وخليقته) لعل المراد بالقراء العلماء وبالعمار العباد فهو أعم وبالخلق الناس وبالخليقة البهائم أوهما بمعنى واحد ويراد بهما جميع الخلائق (من عندهم جرت الضلالة واليهم تعود) كعود الفروع إلى الأصول وعود وزر كل بدعة إلى مبدعها من غير أن ينقص شيء من أوزار التابعين (فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم) لأنه معصيته مؤدية إلى معصية كثيرة موبقة والباء صلة للكفر وكونه للقسم بعيد (الا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم) لابد في تصحيح الاستثناء من تجوز في المستثنى منه أو تقدير في المستثنى (فصارت مساجدهم في فعالهم على ذلك النحو) المذكور (خربة من الهدى) وأهله (عامرة من الضلالة) وأهلها (قد بدلت سنة الله) بالسنة المستندة إلى آرائهم.

(وتعديت حدوده) إلى الحدود المستنبطة من أهوائهم (ولا يدعون إلى الهدى) لانكارهم إياه واتصافهم بضده (ولا يقسمون الفىء) على الوجه المعلوم من القرآن والسنة (ولا يوفون بذمة) لله

ص:608

ولرسوله وللمؤمنين (يدعون القتيل منهم على ذلك) المذكور من العقائد الباطلة والاعمال الفاسدة (شهيدا) يستحق ثواب الشهداء ودرجة الأولياء (قد أتوا الله بالافتراء) عليه وعلى رسوله والجحود للحق وأهله (واستغنوا بالجهل) البسيط والمركب (عن العلم) بالدين وأخذه من أهله (ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة) «ما» زائدة كما قيل في قوله تعالى حكاية (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) والمثلة بالضم التنكيل وهو قطع الانف والمراد هنا التعذيب والايذاء والاستخفاف والاستحقار يقال مثل به يمثل مثلا ومثلة إذا نكل به ومثله تمثيلا للمبالغة، وكأنه إشارة إلى ما فعلوا به (عليه السلام) وبأبي ذر وسلمان والمقداد وعمار وأضرابهم من الصالحين بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) (وسموا صدقهم على الله فرية) حيث سموا افتراء أنفسهم صدقا فسموا كل ما يخالفه وهو صدق الصالحين افتراء (وجعلوا في الحسنة) من العقايد والاعمال (العقوبة السيئة) وهو ظاهر لمن نظر فيما فعلوا بالفرقة الناجية من التنكيل والتعذيب والقتل والنهب وغير ذلك من أنواع الاستخفاف (وقد بعث الله عز وجل إليكم - آه) مر تفسيره قبل ذلك ولعل الخطاب للمؤمنين لترغيبهم في المتابعة والأعم محتمل (وأنزل عليه كتابا عزيزا كثير النفع عدم النظير (لا يأتيه الباطل من بين يديه) من الأمور الماضية.

(ولا من خلفه) من الأمور الآتية أولا يأتيه ما يبطله في جهة من الجهات وانما خص هاتين الجهتين بالذكر لان الآتي يأتي غالبا فيهما (تنزيل من حكيم) يعلم الأشياء كما هي ويضع كل شئ في موضعه (حميد) يحمده جميع المخلوقات أو يحمد هو ذاته بذاته كما هو أهله (قرآنا غير ذي عوج) لا اختلاف فيه بوجه (لينذر من كان حيا) قابلا للانذار مستعدا لقبوله (ويحق القول) وهو كلمة العذاب (على الكافرين) قيل: دلت المقابلة على انهم أموات وان سبب موتهم هو الكفر وفي ذكر الكتاب ووصفه بما ذكر ترغيب في الاقتداء به وعدم المخالفة له والغفلة عن امر الآخرة بالامل في الدنيا وتوقع طول الامل فلذلك فرع عليه وقال (فلا يلهينكم الامل) في الدنيا وحطامها (ولا يطولن عليكم الاجل) وهو محركة غاية الوقت في الموت ومدة العمر والأمل وتوقع طول الاجل تابعان لحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة وموجبان للغفلة عن الآخرة ومهلكان هلاكا أبديا فلذلك قال (فإنما أهلك من كان قبلكم) من هذه الأمة والأمم السابقة (أمد أملهم) أمد الشئ محركة غايته ومنتهاه وأوله أيضا والأول أظهر والثاني أبلغ (وتغطية الآجال عنهم) وهي كناية عن الغفلة عنها ثم أشار إلى عاقبة ذلك للتنبيه على شدتهما بقوله (حتى نزل بهم الموعود) الذي ترد عنه المعذرة وترفع عنه التوبة (وتحل) معه القارعة والنقمة والموعود الموت وحضور آثاره، والقارعة الداهية العظيمة والبلية الشديدة والقيامة والنقمة والعقوبة والضمائر للموصول على الظاهر، وعن

ص:609

للمجاوزة أو التعليل أو بمعنى الباء (وقد أبلغ الله عز وجل إليكم) بالوعيد الابلاغ الايصال، والباء للتبعيض كما في قوله تعالى (عينا يشرب بها عباد الله) أو زائدة للتأكيد والوعيد التشديد وفي بعض النسخ بالوعد (وفصل لكم القول) في المبدء والمعاد والحلال والحرام وغيرها (وعلمكم السنة) وهي الطريقة الشرعية والسيرة النبوية الداعية إلى كل خير والزاجرة عن كل شر (وشرع لكم المناهج) أي سنها وأظهرها وبينها لكم والمنهج السبيل الواضح والطريق المستقيم ولا يبعد أن يراد بها أهل الولاية (عليهم السلام) (ليزيح العلة) تعليل للأفعال المذكورة والإزاحة الإزالة، والمراد بالعلة هنا حجة العباد على الله تعالى وعذرهم في المخالفة (وحث على الذكر) بالقلب واللسان في جميع الأحوال خصوصا في موارد الامر والنهى والذكر طاعة تنشأ منها طاعات كثيرة وحالات غريبة لا يعرفها الا الذاكرون (ودل على النجاة) من أهوال الآخرة وعقوباتها ببيان ما يوجب التخلص منها (وأنه من انتصح الله) انه بفتح الهمزة عطف على النجاة وبكسرها ابتداء كلام والضمير للشأن والانتصاح قبول النصيحة والله منصوب بنزع الخافض يعني من قبل النصيحة من الله ونصيحة الله عبارة عن ازادة الخير للعباد وطلبه منهم وقبوله هو القيام بوظايف الخيرات واتخذ قوله (دليلا) على المطالب الدنيوية والأخروية متجاوزا عن الآراء والأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية (هداه للتي أقوم) أي هداه بالهدايات الخاصة التي لأوليائه إلى الطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقوم الطرق والحالات والملل ويدخل في تلك الطريقة الولاية للأوصياء (عليهم السلام) كما نطق به بعض الروايات (ووفقه للرشاد) أي السيرة النبوية والطريقة الإلهية والسعادة الأبدية وحذف المفعول للتعميم (وسدده) أي قومه ووفقه للسداد وهو الصواب في القول والعمل والقصد في الامر والعدل فيه (ويسره للحسنى) أي يهيئه للمثوبات الحسنى أو الكلمات الدالة على الحق أو الخصلة الحسن كلها وفيه دلالة واضحة على ان قبول نصيحة الله تعالى والاخذ بقوله يوجبان ترقيات عظيمة والتجربة أيضا شاهدة صدق عليه (فإن جار الله آمن محفوظ) تعليل لما قبله وجار الله من لجاء إليه وتضرع بين يديه واعتمد في كل الأمور عليه ومن كان كذلك فهو آمن من الضلالة والمكروهات محفوظ من الغواية والعقوبات (وعدوه خائف) مغرور عدوه من عدل عن صراطه المستقيم وتمسك برأيه السقيم وهو خائف دايما من كشف سريرته وحاله ونزول عقوبته ونكاله مغرور بالدنيا وزهراتها بجهالة النفس ومخترعاتها والغرة بالكسر الخدعة.

(فاحترسوا من الله عز وجل بكثرة الذكر) الاحتراس التحفظ أي تحفظوا من خذلانه ونكاله واستدراجه بكثرة الذكر والدعاء كما قال عز وجل (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) (واخشوا منه بالتقى) من سخطته وعقوبته بالتحرز عن مخالفته ومعصيته وفيه تنبيه على ان الخشية بدون

ص:610

التقوى غير نافعة لأن الخشية من عقوبة الله تعالى مع القيام بموجباتها حمق وسخافة.

(وتقربوا إليه بالطاعة) له ولرسوله ولأولى الامر وقد أشار إلى أمرين لابد منهما أحدهما التقوى للنجاة من العقوبة والاخر الطاعة للدخول في الرحمة والجنة (فإنه قريب مجيب) تعليل لما سبق وحث على القيام به فإن علم العبد بأنه تعالى قريب يرى ويسمع وانه مجيب يقابل الدعاء والسؤال والطاعة بالقبول والعطاء والثواب يبعثه على التقوى والطاعة والذكر والدعاء واستشهد لذلك مع ظهوره بالآية فقال قال الله عز وجل (وإذا سألك عبادي عني) قريب أنا أم بعيد وفي إذا كما في بعض الرواية دلالة على تحقق السؤال (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) قال المفسرون: هو تمثيل لحال علمه بأقوالهم وأعمالهم واطلاعه بأحوالهم بحال من قرب منهم تمثيل معقول بمحسوس لقصد الايضاح وان كان قربه تعالى أكمل كما قال (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (فليستجيبوا لي) الاستجابة من الجواب في القاموس استجابه واستجاب له وتجاوبوا جاوب بعضهم بعضا، وفي الكنز استجابة جواب گفتن وقبول كردن يعني فليبادروا إلى الجواب والقبول إذا دعوتهم إلى شيء كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم (وليؤمنوا بي) إذا دعوتهم إلى الايمان أو وليثبتوا على الايمان بي أو وليؤمنوا بي على النحو المذكور وهو انى قريب مجيب (لعلهم يرشدون) في محل النصب على الحال أي راجين الرشاد وإصابة الحق والوصول إلى مقام القرب والمرجو هنا متحقق الوقوع قطعا (فاستجيبوا لله وآمنوا به) كما أمركم به (وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله ان يتعظم) تعرف عظمته بمعرفة عظمة خلقه من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما وما في الآفاق والأنفس مع معرفة ذل الخلائق بين يديه وبسط أيدي الحاجة إليه ومن حصلت له تلك المعرفة ينبغي أن يثبت طاعته ويفر عن معصيته ولا يتعظم ولا يستكبر عن عبادته بترك أوامره ونواهيه (ان الذين يستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنم داخرين) ثم أشار إلى ما يحصل به تعظيمه وما يترتب عليه من الفوايد الجليلة التي يطلبها العقلاء بقوله (فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله أن يتواضعوا له) الرفعة بالكسر الشرف وعلو القدر والتواضع لله تعالى شامل للتواضع للرسول والأوصياء والمؤمنين والحمل للمبالغة في السببية.

(وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له) العزة القوة والكرامة خلاف للذلة والجلال والعظمة متقاربان، ولعل الثاني باعتبار الذات والأول باعتبار الصفات والذلة له بالعبودية واظهار العجز والمسكنة والاعتقاد لديه (وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله أن يستسلموا له) أي سلامتهم من

ص:611

الآفات والمكاره في الدنيا والآخرة الاذعان والانقياد له في جميع الأمور لعلمهم بأن قدرته قاهرة غالبة لا راد لها في التعذيب والإثابة (فلا ينكرون أنفسهم) ولا يجهلونها بعد حد المعرفة المذكورة فإنهم بعد معرفة عظمة الله وجلاله وقدرته يعلمون ان اللايق بحالهم التواضع والتذلل والاستسلام له (ولا تضلون بعد الهدى) أي لا يضلون عن سبيل ما يليق به تعالى وما يليق بهم بعد هدايتهم إليه (فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب) خوفا من السراية والنفار بالكسر الفرار والتباعد (والبارىء من ذي السقم) البارىء من نقه من مرضه أي صح وفيه ضعف من البرء بالضم يقال برء ككرم وفرح برء نقه وأبرأه الله فهو بارىء وبرىء والسقم كجبل وقفل المرض ولما كانت هناك أمور مطلوبة لا يتحقق ولا يستقر إلا بأمور مطلوبة أخرى وبالمجموع يتم كمال الدين ونظام الدنيا أشار إليها وحث عليها بقوله (واعلموا انكم لن تعرفوا الرشد) أي الصواب والحق (حتى تعرفوا الذي تركه) لا يقال معرفة تارك الرشد تتوقف على معرفة الرشد فلو انعكس لزم الدور لأنا نقول المراد أن هاتين المعرفتين ينبغي ان تكونا معا إذ انتفاء الثانية يؤدى إلى متابعة تارك الرشد غالبا وذلك يوجب انتفاء الأولى أيضا أو نقول معرفة الرشد كناية عن الثبات والاستمرار عليه وهو متوقف على معرفة تارك الرشد للتحرز عن متابعته وهذه المعرفة تتوقف على معرفة الرشد لا على الثبات عليه فلا دور وقس عليه البواقي (ولن تأخذوا بميثاق الكتاب) الذي من جملته الولاية والطاعة لأهلها (حتى تعرفوا الذي نقضه) ونشر ضده (ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه) وراء ظهوره والاخذ به والضمائر راجعة إلى الكتاب أو الميثاق (ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته) برعاية المباني المنزلة والمعاني المقصودة (حتى تعرفوا الذي حرفه) أي غيره أو صرفه عن الحق إلى الباطل.

(ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى) لأن الضلالة وهي التحير والخروج عن الصراط المستقيم لا تعرف بدون معرفة الهدى وهو الصراط المستقيم ضرورة ان الخروج عن الشئ لا يعرف بدون معرفة ذلك الشئ وانما غير الأسلوب للاشعار بان عكس الفقرات السابقة واللاحقة أيضا صحيح وثمرة الاشعار إفادة التلازم بين المعرفتين (ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى) لأن عدم معرفة المتعدى عن حدود الله يؤدى إلى الاقتداء به وهو ينافي معرفة التقوى والثبات عليها (فإذا عرفتم ذلك) المذكور وهو من ترك الرشد ومن نقض الميثاق وأضرابهما (عرفتم البدع) بمعرفة تارك الرشد لأنه أخذ بضده وهو المبدع (وعرفتم التكلف) بمعرفة ناقض

ص:612

الميثاق لأنه يتكلف الوفاء بالميثاق ويتصنع به فإذا عرفته عرفت تكلفه وتصنعه (ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله) بمعرفة من نبذ الكتاب لأنه من أهل الفرية عليهما (ورأيتم التحريف) لكنا به بمعرفة من حرفه لأن معرفته بمعرفة تحريفه (ورأيتم كيف هدى الله من هدى) أي من هداه وأرشده إلى مالا بدله في نظامه وبقائه ودوام استقامته وبصره وعرفه طريق معرفته وشريعته حتى آمن برسالة رسوله وولاية وليه وأذعن بربوبيته (فلا يجهلنكم الذين لا يعلمون) نهى والخبر بعيد والتجهيل هو النسبة إلى الجهل أي لا ينسبنكم الذين، لا يعلمون ما في الكتاب والسنة أوليست لهم حقيقة العلم، إلى جهلهم وضلالتهم (فإن علم القرآن) والسنة ولم يذكرها لأن علمها علم القرآن وهي مفسرة له في الحقيقة (ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه) فعرف حقيقته وكيفيته وأنواعه كما تعرف المذوقات وكيفياتها وأنواعها بالذوق وفيه استعارة تمثيلية أو مكنية وتخييلية (فعلم بالعلم جهله) بالشئ قبل العلم به أو مجهوله أو باطله وهو الضد الحق المعلوم (وبصره عماه) في القاموس عمى كرضى عمى ذهب بصره كله وفي الكنز: عمى نادان شدن وكور شدن وپوشيده شدن والمراد به الضلالة والجهالة وبالابصار الادراك القلبي (وسمع به صممه) في القاموس الصمم محركة انسداد الاذن وثقل السامع ولسمع حس الاذن يعني أحس وأدرك بالعلم الحاصل له من جهة السماع صممه قبل حصول ذلك العلم (وأدرك به علم ما فات) جهلا به فتداركه (وحى به بعد إذ مات) أي مات قلبه بالجهل أو مات موتا معروفا فإن العلم سبب للحياة الأبدية بعد الموت وفي بعض النسخ «حيى» بفك الادغام (وأثبت عند الله عز ذكره به الحسنات) دل على أن الحسنات وهي ما يوجب القرب منه تعالى والثواب عليه انما هي حسنات إذا صدرت مع العلم بها لا ما وقع اتفاقا ولا ما عده الجاهل حسنة (ومحى به السيئات) لأن العلم بأنها سيئات وموجبة للمقت سبب لمحوها وتركها وان أريد بالمحو إزالة الأثر واسقاط الثابت فالعلم بها سبب للتوبة الماحية لها على أن العلم سبب للحسنات والحسنات سبب لمحو السيئات (ان الحسنات يذهبن السيئات) فالعلم سبب لمحو السيئات (وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى) الرضوان بالكسر وبضم مصدر رضى الله عنه وعليه ضد سخط وفي الكنز رضوان خشنود شدن والعلم سبب له بلا واسطة وبها ولما حث على الاخذ بعلم القرآن ونهى عن اخذه من الجاهلين المتكلفين امر باخذه عن أهله وهم أهل العصمة (عليهم السلام) فقال (فاطلبوا ذلك) أي علم القرآن (عند أهله خاصة) لا عند غيرهم من هؤلاء المتصفين فإنهم خاصة دون غيرهم (نور يستضاء به) أي بذلك النور

ص:613

واطلاق النور عليهم أما من باب الحقيقة لأنهم في الحقيقة أنوار الهيون وان وقع التشابه بينهم وبين غيرهم في الصورة الظاهرة أو من باب الاستعارة والتشبيه في ظهوره في نفسه والاظهار لغيره وإزالة الحجاب الحسى والعقلي وهما الظلمة والجهل (وأئمة يهتدى بهم) إلى المطالب الدنيوية والأخروية وأحوال المبدء والمعاد (وهم عيش العلم وموت الجهل) الجهل للمبالغة إذ بهم حياة العلم وبقاؤه وزوال الجهل وفناؤ (هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم) الخطاب للعلماء لأنهم يعلمون ان حكمهم لكونه متينا لا يمكن دفعه في مقام المناظرة وبذلك بعلمون اجمالا أن علمهم في غاية الكمال لا يبلغها عقول غيرهم وذلك كما يعلم الفصحاء اعجاز القرآن ولا يقدرون على العلم بتفاصيله والاتيان به.

(وصمتهم عن منطقهم) أي يخبرهم سكوتهم عن اللغو عن نطقهم وادراكهم للحق كما روى أن الصمت من علامات الفقه وأنه باب من أبواب الحكمة» وذلك لأن الفقه والحكمة لا يحصلان إلا بالتفكر والتفكر لا يتم إلا بالصمت، ويحتمل أن يراد بالنطق التكلم بالحق والاخبار باعتبار ان الصامت عن اللغو محترز عن طرف الافراط طلبا للتوسط وهو التكلم بالحق أو عما لا ينفع ويلزمه عادة التعرض لما ينفع أو باعتبار أنه مشتغل بالتفكر والتفكر دليل على الحكمة وهي سبب للتكلم بالحق (وظاهرهم عن باطنهم) إذ استقامة الباطن وتخلقه بالأخلاق الفاضلة والعقايد الصالحة سبب لاستقامة الظاهر فاستقامة الظاهر دليل على استقامة الباطن دلالة الأثر على المؤثر (لا يخالفون الدين) في شيء من الأقوال والاعمال والاحكام بل قولهم وفعلهم وحكمهم موافق لما أنزل الله عز وجل (ولا يختلفون فيه) أي لا يخالفون بعضهم بعضا في شيء من أموره فقول الأول مثلا قول الاخر وبالعكس (فهو بينهم شاهد صادق) هو راجع إلى الدين وعوده إلى القرآن محتمل وهو كل شاهد لله عز وجل بما أنزله على رسوله صادق في تلك الشهادة والحاكم أهل العلم (عليهم السلام) (وصامت ناطق) صامت بالنسبة إلى من لم يعرفوه حيث ان النطق معهم عبث، ناطق بالنسبة إلى من عرفوه وهم أهل الذكر (عليهم السلام) وقد روي عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل أنه قال بعد وصف القرآن بما وصف ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم أخبركم عنه وفيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكموه (فهم من شأنهم شهداء بالحق) من التعليل والسببية والشأن الخطب والامر والحال أي هم سبب شأنهم الرفيع شهداء لله تعالى على عباده بالحق الذي أنزله إليهم واراده منهم (ومخبر صادق) عطف على الحق والمراد به الرسول أو الله عز وجل وفيه ايماء إلى أن من خالفهم فهو منكر للرسالة والألوهية ويعضده روايات اخر.

ص:614

(يخالفون الحق ولا يختلفون فيه) هذا كالسابق فهو تأكيد له أو هذا في الشهادة والسابق في الاخبار، أو التفاوت باعتبار اختلاف المشهود به ولو بحسب الاعتبار، أو هذا باعتبار العمل والسابق باعتبار الحكم (قد خلت) في العلم والتقدير أزلا (لهم من الله) نعمة (سابقة) هي العصمة والحكمة والهداية والخلافة ولوازمها (ومضى فيهم من الله عز وجل حكم صادق) مطابق للخارج لوقوع المقدر على نحو التقدير (وفى ذلك ذكرى للذاكرين) أي تذكرة وعبرة لهم في القاموس ذكرى للمؤمنين وذكرى لأولي الألباب عبرة لهم (فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية) أي حفظ بالاعتقاد والاذعان به ان كان اعتقاديا أو بالعمل ان كان عمليا (ولا تعقلوه عقل رواية) فقط إذ الرواية بدون الرعاية غير نافعة بل هي موجبة لزيادة التحسر والندامة والعقوبة يوم القيامة (فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل) كأنه تعليل للامر والنهي وتنبيه، على أن ترك الرواية لا يضر كثيرا لكثرة أهلها الحافظين لعباراته وكلماته وقراءته وآياته، وإنما الأصل والأهم هو الرعاية لئلا يندرس ما هو المقصود لقلة أه لها (والله المستعان) في جميع الأمور وفيه تفويض لأموره (عليه السلام) وأمور من تبعه إليه عز وجل وطلب للعون والنصرة منه.

* الأصل:

587 - عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عمر بن علي، عن عمه محمد بن عمر، عن ابن اذينة قال: سمعت عمر بن يزيد يقول: حدثني معروف بن خربوذ، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه كان يقول: ويلمه فاسقا من لا يزال مماريا، ويلمه فاجرا من لا يزال مخاصما، ويلمه آثما من كثر كلامه في غير ذات الله عزوجل.

* الشرح:

قوله (كان يقول ويلمه فاسقا من لا يزال مماريا) لابطال الحق وترويج الباطل والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب والنداء طلب لاحضاره لينظروا إلى شدته ويعجبوا من فظاعته فكأنه قال يا ويل أمه احضر فهذا وقت حضورك وانما اضافه إلى الام للمتعارف وللاشعار بأنها سبب له ومصدر للخطا وضمير أمه مبهم يفسره من، وفاسقا نصبه للتميز أو الذم أو الحال عن فاعل لا يزال والمراء الجدال والتمارى والممارات المجادلة على مذهب الشك والريبة ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع ليريبه ويشككه والمجادلة مذمومة إلا ما هو لاثبات الحق ورد الباطل (ويلمه فاجرا من لا يزال

ص:615

مخاصما) معاديا لأهل الحق مظهرا لعداوته وخصومته، والفاجر المنبعث في فعل المعاصي والفاسق المنبعث في ترك الأوامر وقد يطلق كل واحد منهما على الاخر (ويلمه آثما) من الاثم بالكسر وهو الذنب (من كسر كلامه في غير ذات الله عز وجل) أي غير خالص لذاته تعالى وإن تعلق بالعبادة لأنه أشد قبحا من اللغو.

588 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعلي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن الحسن بن عمارة، عن نعيم القضاعي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أصبح إبراهيم (عليه السلام) فرأى في لحيته شعرة بيضاء فقال: الحمد لله رب العالمين الذي بلغني هذا المبلغ لم أعص الله طرفة عين.

* الأصل:

589 - أبان بن عثمان، عن محمد بن مروان، عمن رواه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما اتخذ الله عز وجل إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلة فجاءه ملك الموت في صورة شاب أبيض عليه ثوبان أبيضان يقطر رأسه ماء ودهنا فدخل إبراهيم (عليه السلام) الدار فاستقبله خارجا من الدار وكان إبراهيم (عليه السلام) رجلا غيورا وكان إذا خرج في حاجة أغلق بابه وأخذ مفتاحه معه ثم رجع ففتح فإذا هو برجل قائم أحسن ما يكون من الرجال فأخذه بيده وقال: يا عبد الله من أدخلك داري؟ فقال: ربها أدخلنيها فقال: ربها أحق بها مني فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت ففزع إبراهيم (عليه السلام) فقال: جئتني لتسلبني روحي؟ قال: لا ولكن اتخذ الله عبدا خليلا فجئت لبشارته قال: فمن هو لعلي أخدمه حتى أموت؟ قال: أنت هو: فدخل على سارة (عليها السلام) فقال لها: إن الله تبارك وتعالى اتخذني خليلا.

* الشرح:

قوله (لما اتخذ الله إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلة) قيل: الخليل من الخلة بمعنى الحاجة وسمي (عليه السلام) خليلا لأنه قصر حاجته إلى الله عز وجل، وقيل: الخلة المحبة وقيل: صفاؤها الذي يتخلل موضع السر. وقال صاحب اكمال الاكمال الخليل مشترك بين المحب والمحبوب وكلاهما محتمل في خليل الرحمن، وقيل: سمي خليلا لتخلقه بأخلاق اختصت به، وقيل: الخليل من لا يسع قلبه غير من فيه وسمي (عليه السلام) خليلا لأن حب الله سبحانه لم يبق في قلبه موضعا لغيره وفيه أقوال اخر.

590 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير: عن سليم الفراء، عمن ذكره، عن أبي

ص:616

عبد الله (عليه السلام) مثله الا أنه قال في حديثه: إن الملك لما قال: أدخلنيها ربها عرف إبراهيم (عليه السلام) أنه ملك الموت (عليه السلام) فقال له: ما أهبطك قال: جئت ابشر رجلا ان الله تبارك وتعالى اتخذه خليلا. فقال له إبراهيم (عليه السلام): فمن هذا الرجل؟ فقال له الملك: وما تريد منه؟ فقال له إبراهيم (عليه السلام): أخدمه أيام حياتي، فقال له الملك: فأنت هو.

* الأصل:

591 - علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) أن إبراهيم (عليه السلام) خرج ذات يوم يسير ببعير فمر بفلاة من الأرض فإذا هو برجل قائم يصلي قد قطع الأرض إلى السماء طوله ولباسه شعر، قال: فوقف عليه إبراهيم (عليه السلام) وعجب منه وجلس ينتظر فراغه فلما طال عليه حركه بيده فقال له: إن لي حاجة فخفف، قال: فخفف الرجل وجلس إبراهيم (عليه السلام)، فقال له إبراهيم (عليه السلام): لمن تصلي؟ فقال: لإله إبراهيم فقال له: ومن إله إبراهيم؟ فقال: الذي خلقك وخلقني، فقال له إبراهيم (عليه السلام): قد أعجبني نحوك وأنا أحب أن اواخيك في الله، أين منزلك إذا أردت زيارتك ولقاءك؟ فقال له الرجل: منزلي خلف هذه النطفة - وأشار بيده إلى البحر - وأما مصلاي فهذا الموضع تصيبني فيه إذا أردتني إن شاء الله.

قال: ثم قال الرجل لإبراهيم (عليه السلام): ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: نعم، فقال له: وما هي؟ قال: تدعو الله واؤمن على دعائك وأدعو أنا فتؤمن على دعائي. فقال الرجل: فبم ندعو الله؟ فقال إبراهيم (عليه السلام) للمذنبين من المؤمنين، فقال الرجل: لا، فقال إبراهيم (عليه السلام): ولم؟ فقال: لأني قد دعوت الله عزوجل منذ ثلاث سنين بدعوة لم أر إجابتها حتى الساعة وأنا أستحيي من الله تعالى أن أدعوه حتى أعلم أنه قد أجابني. فقال إبراهيم (عليه السلام): فبم دعوته؟ فقال له الرجل: إني في مصلاي هذا ذات يوم إذ مر بي غلام أروع، النور يطلع من جبهته له ذؤابة من خلفه ومعه بقر يسوقها كأنما دهنت دهنا وغنم يسوقها كأنما دخست دخسا فأعجبني ما رأيت منه فقلت له: يا غلام لمن هذا البقر والغنم؟ فقال لي: لإبراهيم (عليه السلام)، فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، فدعوت الله عزوجل وسألته أن يريني خليله فقال له إبراهيم (عليه السلام): فأنا إبراهيم خليل الرحمن وذلك الغلام ابني، فقال له الرجل عند ذلك: الحمد لله الذي أجاب دعوتي، ثم قبل الرجل صفحتي إبراهيم (عليه السلام) وعانقه: ثم قال: أما الآن فقم فادع حتى اؤمن على دعائك، فدعا إبراهيم (عليه السلام) للمؤمنين والمؤمنات والمذنبين من يومه ذلك بالمغفرة والرضا عنهم، قال: وأمن الرجل على دعائه. قال أبو

ص:617

جعفر (عليه السلام) فدعوة إبراهيم (عليه السلام) بالغة للمؤمنين المذنبين من شيعتنا إلى يوم القيامة.

* الشرح:

قوله (منزلي خلف هذه النطفة) النطفة البحر ويقال للماء القليل والكثير نطفة وهي بالقليل أخص (إذ مر بي غلام أروع) الأروع من يعجبك بحسنه ونضرة منظرة أو بشجاعته (ومعه بقر يسوقها كأنما دهنت دهنا) دهنه دهنا ودهنة بله والاسم الدهن بالضم وهو كناية عن سمنها وطراوة جسدها ولفظة ما كافة (وغنم يسوقها كأنما دخست دخسا) أي ملئت جلدها باللحم والشحم وكل شئ ملأته فقد خسته وكل ذي سمن دخيس وما في الموضعين كافة وفي بعض النسخ «كأنها» في الموضعين واعلم أن هذه الحكاية نقلها صاحب معارج النبوة بوجه آخر قال أمر الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) أن يسافر إلى جبل لبنان ويلاقي عبدا من عباده فرأى (عليه السلام) رجلا طويل القامة كان طوله خمسمائة ذراع فسلم عليه فقال: من أنت؟ قال: عبد الله هوذى بن بزى بن سام بن نوح (عليه السلام)، ومن أنت؟ فقال: إبراهيم (عليه السلام) عبد من عباد الله جئت لأزورك قال هوذى الحمد لله جاء ضيفي يوم افطاري قال إبراهيم: في كم يوم تفطر؟ قال أفطر في كل تسعين يوما ثم قال هوذى اللهم أنزل لي مائدة من السماء لاكرم بها ضيفي فانزل خوان من زبرجد وكان شرفه لولؤ أبيض وقائمته ياقوتة حمراء وفي طرفه أربعة أرغفة وفي طرفه الاخر سخلة مشوية وفي طرفه الاخر ظروف من الذهب والفضة وفيها أنواع من أثمار الجنة وفي طرفه الاخر أقداح صغيرة من أحدها عسل ممزوج بزنجبيل وفي ثانيها خل فاكلا منها ما شاء ثم قال له إبراهيم (عليه السلام) أين منزلك قال خلف هذا البحر قال (عليه السلام) أريد أن أعرف منزلك وانظر إليه، قال: هوذى طريق منزلي وجه البحر وسطحه والبحر عميق حتى أن الثقيل لا يصل إلى قعره الف عام قال (عليه السلام) أمر عليه ان شاء الله برفاقتك قال هوذى في هذا الجبل غار وفيه أسد مع ليوثه وهو عظيم الجثة حتى أن من عنقه إلى ذنبه خمسمائة ذراع وفخذه إلى فخذه مائتا ذراع ومن الأرض إلى بطنه عند قيامه ثلاثمائة ذراع وأسنانه كالأسطوانة وله صوت شديد مهيب إذا رأيته وما خفت منه علمت انك تقدر أن تمر من سطح البحر إلى منزلي، فلما رآه صوت الأسد صوتا شديدا كأنه تحرك منه البر والبحر والجبل فقال (عليه السلام) اسكت والا قتلتك بعصاي هذه فقال الأسد أنت أعظم من أن يصل إليك مني الضرر وتواضع وتخشع له ووضع وجهه على قدمه فقال هوذى: الآن عرفت أنك تقدر على المرور من هذا البحر العميق فذهب معه إلى منزله فرأى فيه

ص:618

قدحا والبوريا والعصا فقال (عليه السلام) هذا أثاث منزلك قال نعم قال ما تفعل بالقدح قال أتوضأ منه واشرب منه واغسل بدني منه وأنام على البوريا وأصلي عليه وأما العصا فمنها طعامي إذا غرستها في الأرض فقال (عليه السلام) أنا أعرف حقيقة ذلك فضرب على الحجر فدخل تحتها فيه واخضرت في الحال وظهرت منها أربعة أغصان فظهر من واحد الرطب ومن الثاني العنب ومن الثالث التين، ومن الرابع الرمان فأكلا منها ما شاء، فأخرج عصاه من الحجر فعادت إلى الهيئة الأولى ثم قال (عليه السلام) إليك حاجة فقال هوذي: ما حاجتك.

قال: تدعو لي قال: هوذي لا تظن ان دعائي مستجاب وانى سألت الله من مدة حاجة ولم يستجب لي بعد فقال (عليه السلام): ما كان حاجتك قال: سألته أن يشرفني برؤية نبيه إبراهيم (عليه السلام) قال (عليه السلام) وأين عرفت إبراهيم حتى طلبت لقاءه قال: كنت رأيت غلاما حسن الهيئة وله ذؤابة طويلة وهو يدعو ويقول يا رب شرفني برؤية وجه أبي إبراهيم فقلت له من أنت يا غلام قال أنا إسماعيل بن إبراهيم وأنا إلى الآن كنت أطلب من الله لقاء إبراهيم فقال: يا هوذى فأنا إبراهيم خليل الرحمن فقد استجاب الله دعاءك فعند ذلك عانقه هوذى وأظهر كمال الاشتياق والمحبة وبكى وهذا أول الاعتناق ولم يكن قبل ذلك وقال (عليه السلام) يا هوذى أنا أريد لقاء إسماعيل فادع لي حتى يتيسر بسهولة عن قريب فدعا له فاستجاب الله حتى تحقق ملاقاتهما في ذلك المجلس واعتنقا فيه وبكى.

* الأصل:

592 - علي بن محمد، عن بعض أصحابه رفعه قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا قرأ هذه الآية: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله إيمانا، علما منه أنه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك فان شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته وكيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له ولا كيف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

* الشرح:

قوله (قال سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها) نزهة أولا عن جميع النقايص للتنبيه على ان عدم الجعل ليس للنقص في احسانه بل لقصور البشر عن

ص:619

ادراك غير المحصور والإحاطة به والظاهر أن الحكم شامل للأنبياء أيضا وأن المراد بنعمه العموم والشمول لوقوع النكرة في سياق النفي والإضافة وأن المراد بمعرفة نعمه المعرفة التفصيلية إذ المعرفة الاجمالية غير متعذرة وأن التقصير عن معرفتها لا يدل لغة، على أن معرفتها ممكنة لجواز خروجها عن القدرة البشرية وان كانت في غاية الكمال كما يدل عليه التشبيه في قوله (كما لم يجعل في أحد من معرفة ادراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه) أي لا يدرك حقيقة ذاته وصفاته لأن ادراكها ممتنع فكذا في المشبه وقد ذكرنا طريق معرفته في كتاب التوحيد من الأصول. ثم أشار إلى ما يتفرع على المشبه بقوله (فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره) الاعتراف بهذا التقصير لازم للاعتراف بالتقصير عن معرفة نعمه (فجعل معرفتهم بالتقصير) عنهما (شكرا وجزاهم جزاء الشاكرين وأشار إلى ما يترتب على المشتبه به بقوله (كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله ايمانا) وجزاهم جزاء المؤمنين (علما منه أنه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذل) علما علة لقوله، فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا، وجعل علم العالمين بأنهم لا يدركونه» ايمانا والقد بالكسر والشد القدر وضمير يتجاوز راجع إلى الوسع وذلك إشارة إلى اعتراف العارفين بالتقصير وعلم العالمين انهم لا يدركونه وارجاع الضمير إليه سبحانه وإشارة ذلك إلى الجعلين احتمال بعيد (فإن شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته) أي غاية عبادته اللايقة به وقد اعترف خاتم الأنبياء وسيد الأوصياء بالتقصير وروى عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) أنه قال لبعض ولده «يا بنى عليك بالجد لا تخرجن نفسك عن حد التقصير عبادة الله عز وجل وطاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته» (وكيف يبلغ مدى عبادة من ليس له مدى ولا كيف) لأن اللايق بمن ليس له مدى وكيف عبادة خلت عنهما إذ كل ما هما له ممكن ناقص لا يليق بالله المتعالي عنهما علوا كبيرا، ولا ريب ان العبد لا يقدر ان يبلغ مدى هذه العبادة إذ له مدى ولا مدى لها وانما يقدر على عبادة متصفة بهما وهي لا يليق به.

* الأصل:

593 - محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن عنبسة بن بجاد العابد، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنا عنده وذكروا سلطان بني امية فقال أبو جعفر (عليه السلام):

لا يخرج على هشام أحد إلا قتله، قال: وذكر ملكه عشرين سنة قال: فجزعنا، فقال: مالكم; إذا أراد الله عزوجل أن يهلك سلطان قوم أمر الملك فأسرع بسير الفلك (1) فقدر على ما يريد؟ قال: فقلنا

ص:620


1- 1 - «قوله امر الملك فاسرع» هذه مسألة اتفق فيها ما ورد في الشرع على ما اعتقده أكثر الفلاسفة من أن الحركة الدورية لا تكون إلا إرادية ولابد أن ينسب حركة الكواكب إلى محرك مريد وقد ذكرنا ذلك وبيناه سابقا ولا ريب أن كل من رأى رحى متحركا من غير سبب ظاهر ينسبه إلى ملك أو جن وسمى الفلاسفة محرك الفلك عقلا وسماه الشرع ملكا وكذلك ينبغي أن يكون طريقة المسلم التابع للأنبياء ولا يتعبد بقول غير المعصومين إذ ليس قول الحكيم بنفسه حجة إلا إذا طابق قول المعصوم أو لم يخالفه وقام الدليل عليه وليست الفلسفة مذهبا واحدا فكل ما يخالف الشرع مردود وكل ما يوافقه مقبول وأما سرعة سير الفلك فربما يخطر ببال غير المتأمل أن الامر في دولة الجبابرة بعكس ما في الخبر لأن المعروف أن الزمان يمضى سريعا في السرور والراحة وبطيئا في المشقات والآلام واشتهر ذلك بين الناس وذكره الشعراء في العربية والفارسية وأن ليل الوصال قصير وليل الفراق طويل وقيل: ويوم كظل الرمح قصر طوله * دم الزق عنا واصطكاك المزاهر ونقول وان كان ملك الظالم يطول على الناس لكثرة بلائهم ومصيباتهم في دولته لكن الناس ليأسهم من النجاة وعدم وجود طريق التخلص يظنون أن زوال دولته محال وان مظالمه باقية إلى الأبد، وهكذا يعتقد الظالم نفسه واتباعه الا ترى أن بنى أمية كانوا يعتقدون بقاءهم واستمرار ما ابتدعوه من لعن أمير المؤمنين (عليه السلام) وتنفير الناس من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتغيير أحكام الشرع وهكذا كان اتباعهم يختلقون روايات تملقا فيما كانوا يريدون ترويجه من الأباطيل زاعمين أن سنتهم باقية إلى الأبد وهكذا جميع الظلمة بعدهم إلى آخر الزمان هكذا يظنون والمبتلون بهم لا يتوقعون النجاة فإذا مضى عشرون سنة كما في الحديث على ملك هشام استقصروه بالنسبة إلى ما كانوا عليه من اليأس إلى الأبد. كما قيل: ربما تكره النفوس من الامر له فرجة كحل العقال فثبت صحة سرعة سير الفلك في دولة الجبابرة ولا يجوز للعاقل المتأمل أن يتسرع إلى رد كل ما سمعه لعدم نيل وجه صحته فهذا دأب الجاهلين خصوصا فيما روى عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وان كان ضعيفا أو مرويا بطريق الآحاد فإن ذلك يوجب الترديد والترديد لا يوجب التكذيب فربما كان صادرا منهم حقيقة وان كان في اسناده ضعف وليس كل مشكوك كاذبا. والحمد لله على توفيقه لاتمام هذا الشرح وتنقيحه وتوضيحه والتعليق عليه وهو أكمل ما وجدناه من الشروح من جهة المعنى واللفظ فقد اقتبس في كل باب ما أورده من أهله وبينه بلفظ قريب من أذهان أكثر الناس وتبع في شرح مباحث التوحيد والحجة طريقة الحكيم المتأله خريت هذا الفن صدر الدين الشيرازي (قده) على ما أشرنا إلى أنموذج منه في موضعه وربما نقل عبارته بعينه أو مع حذف أو تغيير يسير لكلمات لا يفهمه الناس وما أراد بذلك إلا النصح والخير، ونقل في مباحث الإمامة من أوثق شراح الصحاح الستة والكتب المعتبرة لأهل السنة ولم يذكر ما يتداوله الناس من النسبة إليهم بغير مدرك وثيق أو بالاستظهار من القصص والحكايات الضعيفة لئلا يشوه صورة احتجاجاته وهكذا في كل باب ونسب ما ذكره في تفسير الأحاديث إلى الاحتمال كما يفعل أهل الورع وبالله التوفيق وله الشكر ومنه استزادة النعمة وعليه التكلان وصلى الله على رسوله والأئمة من آله. حرره الأحقر أبو الحسن المدعو بالشعراني عفى عنه.

لزيد (عليه السلام) هذه المقالة، فقال: إني شهدت هشاما ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يسب عنده فلم ينكر ذلك ولم يغيره فوالله لو لم يكن إلا أنا وابني لخرجت عليه.

* الشرح:

قوله (إذا أراد الله أن يهلك سلطان قوم أمر الملك فاسرع بالسير الفلك - اه) قد مر

ص:621

مرارا وشرحناه تفصيلا فلا نعيده.

* الأصل:

594 - وبهذا الاسناد، عن عنبسة، عن معلى بن خنيس قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ أقبل محمد بن عبد الله فسلم ثم ذهب فرق له أبو عبد الله (عليه السلام) ودمعت عيناه فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع؟ فقال: رققت له لأنه ينسب إلى أمر ليس له، لم أحده في كتاب علي (عليه السلام) من خلفاء هذه الامة ولا من ملوكها.

* الأصل:

595 - علي بن إبراهيم رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل: ما الفتى عندكم؟ فقال له: الشاب.

فقال: لا، الفتى: المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسماهم الله عزوجل فتيه بايمانهم.

* الشرح:

قوله (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لرجل ما الفتى عندكم فقال له الشاب، فقل لا الفتى المؤمن - اه).

كأنه عليه السلام سأل عن كل من يستحق هذا الاسم أو عمن هو أولى به، وقوله: لا، حينئذ ظاهر إذ الفتى كما يطلق على الشاب يطلق على الكريم والسخي والمؤمن ببذل نفسه وماله في سبيل الله فهو أحق وأولى بهذا الاسم.

* الأصل:

596 - محمد، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن سدير قال: سأل رجل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا فظلموا أنفسهم) فقال: هؤلاء قوم كان لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية، وأموال ظاهرة. فكفروا بأنعم الله وغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عزوجل عليهم سيل العرم فغرق قراهم وأخرب ديارهم وأذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي اكل خمط وأثل وشىء من سدر قليل» ثم قال الله عزوجل: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).

* الشرح:

قوله (فقال ربنا باعد بين أسفارنا) كان سفرهم إلى الشام وكانت بينه وبين مساكنهم قرى كثيرة بحيث كان ارتحالهم من قرية ونزولهم في قرية فطلب الأغنياء بعد المنازل في السفر وجعل المسافة مفاوز ليتفاخروا على الضعفاء ويتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل

ص:622

الأزواد (فظلموا أنفسهم) بكفران النعمة وطلب البعد ومعصية الرب (فقال هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية) في منازلهم وبساتينهم (وأموال ظاهرة) من الانعام وغيرها والقوم كانوا أولاد سباء بن يشجب بن يعرب بن قحطان وكانت مساكنهم بين جبلين طولها ثمانية عشر فرسخا كما قيل، وكانت لهم جنات كثيرة عن يمينها وشمالها وكانت من حيث الاتصال بمنزلة جنتين وكان لهم من أعلى الوادي سد عملته بلقيس يخرج منه الماء بقدر حاجتهم (فكفروا بأنعم الله) بطلب البعد وترك الشكر عليها وعدم الاعتداد بها (وغيروا ما بأنفسهم، من طاعة ربهم ومتابعة نبيهم (فأرسل الله عز وجل) في الليل (سيل العرم) أي سيل الوادي أو السيل الشديد أو الليل المختلط سواده بضوء القمر أو السد أو الجرذ لأنه ثقب السد فطغى الماء وكسره (فغرق قراهم وأخرب ديارهم) وأهلك كثيرا من الرجال والنساء.

(وأذهب بأموالهم) أذهبه وبه ازاله (وأبدلهم) ليتذكروا ما فاتهم من النعماء السابغة ويتحسروا له ولاستحالة بقاء أحد بلا رزق (مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط) الاكل بالضم وبضمتين الثمرة والخمط المر البشع، وقيل: هو ضرب من الادراك له حمل يؤكل (وأثل وشىء من سدر قليل) قال الرازي والقاضي هما معطوفان على اكل لا على خمط فإن الأثل وهو الطرفاء لا ثمر له وفي النهاية الأثل شجر شبيه بالطرفاء إلا انه أعظم منه وفي القاموس الطرفاء شجر وهي أربعة أصناف منها الأثل، والسدر شجر النبق (ذلك جزيناهم بما كفروا) أي بسبب كفرهم بالنبي وكفرانهم النعمة بطلب البعد (وهل نجازي) بذلك الجزاء أو مطلقا (الا الكفور) المنهمك في الكفر والكفران وربما يفهم من ظاهر هذا الخبر ان تخريب قراهم بسبب كفرهم وكفرانهم وصرح بعض المفسرين بأن بلادهم خربت أولا بسبب كفرهم ثم بعد ذلك خربت القرى المتوسطة بينهم وبين الشام بسبب كفرانهم وطلب البعد والله أعلم.

* الأصل:

597 - الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن أبي بصير عن أحمد ابن عمر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) وأتاه رجل فقال له: إنكم أهل بيت رحمة اختصكم الله تبارك وتعالى بها. فقال له: كذلك نحن، والحمد لله لا ندخل أحدا في ضلالة ولا نخرجه من هدى إن الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله عزوجل رجلا منا أهل البيت يعمل بكتاب الله لا يرى فيكم منكرا إلا أنكره.

ص:623

* الشرح:

قوله (انكم أهل بيت رحمة) المراد بالرحمة المعنى المعروف وهو الرقة على عباد الله والتعطف بهم والهداية لهم أو النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه رحمة للعالمين (لا ندخل أحدا في ضلالة ولا نخرجه من هدى) تثبيت للرحمة وتحريك على الاقتداء بهم ونفى الرذيلتين إشارة إلى أنهم قائمون على الهداية دائما من باب الكناية وهي أبلغ من التصريح وتعريض على الثلاثة وأضرابهم (إن الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله عز وجل رجلا منا أهل البيت) وهو المهدى المنتظر الموجود عندنا وبوجوده قامت الدنيا وهم يقولون انه سيوجد في آخر الزمان، تم كتاب الروضة من الكافي وهو آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

قد قابلت قسم الروضة من هذا الشرح الكبير على ثلاث نسخ.

1 - نسخة نفيسة غير مؤرخة متوسطة في الصحة تفضل بها العالم الجليل السيد محمد مشكاة (مد ظله) أستاذ «جامعة تهران» المحروسة من الحدثان.

2 - نسخة ثمينة لمكتبة العالم البارع الأستاذ السيد جلال الدين الأرموي المشتهر ب «المحدث» أيده الله وسدده كاتبها غلام بن محمد بن عطاء الله الدهخوارقاني تاريخها 1127 الهجري القمري.

3 - نسخة مصححة ناقصة من أولها وآخرها تفضل بارسالها: الآية الحجة «السيد مصطفى الخوانساري» نزيل قم المشرفة.

وأنا الأقل خادم العلم والدين - على أكبر الغفاري 1379 هجري تم كتاب الروضة من الكافي (1) وهو آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص:624


1- (1) وبه ينتهي الكتاب والحمد لله أولا وأخرا.

فهرس الآیات

كذبت عاد فكيف كان عذابي و نذر و إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرة في يوم نحس مستمر)...2

(ریح فيها عذاب أليم) ...2

(فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) ...2

(فكيف كان عذایی و نذر) ...3

(إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا)...3

(في يوم نحس مستمر)...3

(وأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) ...3

(و ارسلنا الرياح لواقع فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه)...3

(بريح صرصر عاتية) ...3

(یرسل الرياح مبشرات)...3

وهو الذي يرسل الرياح بشرة بين يدي رحمته)...4

ومن آياته أن يرسل الرياح ) ...4

وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر) ...4

فيرسل عليكم قاصفة من الريح) ...4

(جاء تها ريح عاصف) ...4

إن الله يحب التوابين) ...4

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ...4

(والسابقون السابقون أولئك المقربون) ...4

(وهم في غفلة معرضون) ...4

إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) ...4

(سخط الله عليهم) ...4

فقطع دابر القوم الذين ظلموا ...4

(قل لا اسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربی) ... 8

سبحان ربك رب العزة عما يصفون) ...9

والسماء بناها * رفع سمكها فسويها * واغطش ليلها وأخرج ضحيها)...10

ص:625

والأرض بعد ذلك دحيها) ...10

أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) ...10

أن والقلم وما يسطرون) ...11

سبحان ربك رب العزة عما يصفون) ...11

الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) ...14

ثم استوى إلى السماء وهي دخان) ...14

(والسماء بناها و رفع سمکها) ...15

والأرض بعد ذلك دخیها) ...15

(أولم ير الذين كفروا ان السماوات كانتا رتقا)...15

ولله جنود السماوات والأرض) ...17

وأيده بجنود لم تروها) ...17

(وإن جندنا لهم الغالبون) ...17

(يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ... 18

وسقاهم ربهم شرابا طهورا ... 18

غرف من فوقها غرف مبنية)...18

و فرش مرفوعة) ...19

يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير) ...19

وإذا رايت ثم رايت نعيماوملكا كبيرا...20

تجري من تحتهم الأنهار)...20

(ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) ...20

(دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) ...21

وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين) ...21

أولئك لهم رزق معلوم) ...21

(فواکه وهم مكرمون) ...21

إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا ...23

بعضها فوق بعض) ...23

(يحلون فيها من أساور من ذهب)...23

متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب) ...23

ص:626

(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) ...24

(ودانية عليهم ظلالها) ...24

وذللت قطوفها تذليلا ...24

لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا)...24

جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) ...25

(وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) ...26

رایطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم) ...26

وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوی) ...26

(بل فعله کبیرهم هذا) ...27

أيتها العير إنكم لسارقون) ...27

فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) ...28

(فارجس في نفسه خيفة موسی) ...28

فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) ...28

من فعل هذا بآلهتنا) ...28

اسمعنا فتئ يذكرهم يقال له إبراهيم) ...28

(تالله لأكیدن اصنامكم بعد أن تولوا مدبرین) ...28

وأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم) ... 28

(ثم نكسوا على رؤوسهم) ...28

ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ...30

ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ...30

(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ...30

فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) ...31

ولا يشفعون إلا لمن ارتضی) ...31

فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ...31

وما للظالمين من حميم) ...31

یأتكم المفتون)...34

فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)...34

و

ص:627

فستبصر ويبصرون و بایكم المفتون) ... 34

فهل عسيتم أن تولیتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) ...35

الذين بذلوا نعمة الله كفرا) ...35

(بدلوا نعمة الله كفرة راحلوا قومهم دار البوار جهنم)...36

فتول عنهم فما أنت بملوم) ...36

وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) ... 36

(مهطعين إلى الداع) ...37

يقول الكافر هذا يوم عسر) ...37

يقول الكافر هذا يوم عسر) ،...41

على الكافرين غير یسير) ...41

فيقول أنا الله لا إله إلا أنا ...41

إني أريد أن تبوا بإثمي وإثمك) ...43

(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا ياتون الصلاة إلا و هم کسالی ولا ينفقون إلا وهم کارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعد بهم بها في الحياة الأنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ... 44

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدة ه يصلح لكم أعمالكم) ...46

(سبح اسم ربك) ...53

ولقد عهدنا إلى آدم ومن قبل فنسي ولم نجد له عزما...59

واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق إذ قریا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر..) ...59

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه..) ...60

(و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك)...60

اكذبت قبلهم قوم نوح المرسلین) ...61

وإن ربك لهو العزيز الرحيم) ...61

والی عاد أخاهم هودا) ...61

كذبت عاد المرسلین به إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) ...61

ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) ...61

(وما قوم لوط منكم ببعيد) ...61

فآمن له لوط وقال إن مهاجر إلى ربی) ...61

و ابراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) ...61

ص:628

كلما جاء أنة رسولهم كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم احادیث)...61

ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ...62

إن الله اصطفی آدم ونوح و آل إبراهيم وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) ... 62

ولقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما... 62

في بيوت أذن الله أن ترفع)...63

و نوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين - رزکریا ويحبی وعیسی و إلياس كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وك؟ فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقیم - أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها نوم ليسوا بها بكافرين)...63

ومن بعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) ...64

إلا من اتبعك من الغاوین) ... 64

إنما يتقبل الله من المتقين)...66

(ولقد ارسلنا نوحا إلى قومه)...68

سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين ه وما نحن بمعذبین) ... 69

يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ...69

ربنا وابعث فیهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) ... 69

ووهبنا له إسحاق و یعقوب کلا هدينا) ...69

وياقوم لا يجرمنكم شقاني أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) 69

(ثم أرسلنا رسلنا تتری) ...70

ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ...73

أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم)...73

و آتيناهم ملكا عظيما) ...74

في بيوت أذن الله أن ترفع) ...74

إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ...76

(قل لا اسالكم عليه اجرة إلا المودة في القربی) ...76

إنما ولیکم الله ورسوله والذين آمنوا..) ...76

أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم)...76

ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم.)...76

ص:629

وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)... 77

سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) ... 77

اولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)...77

یوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) ...77

تحيتهم فيها سلام..) ...78

إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ...91

ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) ...91

ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) ...91

بل كذبوا بما لم يحبطوا بعلمه ولما پاتهم تأويله) ...92

(والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة) ...96

(قل إن کنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ...97

ولئن شكرتم لأزيدنكم) ...99

الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده)... 100

وحسن أولئك رفيقا ... 107

وله ميراث السماوات والأرض) ...116

كل إلينا راجعون) ...116

وجعلني مبارك، أينما كنت) ...118

(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ...118

واجعل لي لسان صدق في الآخرين) ...120

إن زلزلة الساعة شيء عظيم) ...121

ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) ...125

يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)...125

ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر)...127

ودوا لو تدهن فيدهنون) ...129

ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) ...130

(أوفوا بعدي أوف بعهدكم) ...130

ارامش على الأرض هونا ...131

ويمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) ...131

ص:630

وكفى بالله شهيدا) ...136

(والله عزيز ذو انتقام) ...136

وفوق كل ذي علم عليم) ...137

وقل رب زدني علما...137

رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ...137

أقم الصلاة لذكري)...137

فتمثل لها بشرة سوية ، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا . قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكية) ...138

رب ان يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامراتي عاقر )...139

وإذا مروا باللغوا مروا كرامة ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ...143

(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) ...144

اور مبشرا برسولي ياتي من بعدي اسمه أحمد) ...145

وارسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) ...149

(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) ...149

الم تقولون ما لا تفعلون و كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)...149

مالنا لانرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار و أتخذناهم سخرية أم زاغت عنهم الأبصار) ... 155

إن ذلك لحث تخاصم أهل النار) ...155

إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله ...156

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون) ...158

أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ...159

(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبة جنيا ...160

إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ...161

فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) ... 162

ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) ... 162

(خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة ايام) ...165

الأقعدت لهم صراطك المستقيم و ثم لأتيتهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاکرین) ...166

ولا تحسبن الذين تلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم یرزقون فرحين) ... 167

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم) ...170

ص:631

إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) ...171

أنا الله لا اله إلا أنا) ...175

وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) ...177

خلق الموت والحياة) ...177

خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن)...186

اله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وماتحت الثری) ...186

وينزل من السماء من جبال فيها من برد) ...186

اوسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) ...187

الرحمن على العرش استوى) ...187

خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن) ...187

(قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربی)...192

وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ...206

(فاعتدوا بمثل ما اعتدي عليكم) ...212

(فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) ...220

ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ...221

ثم جعلناه في قرار مکین) ...229

تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)...235

اليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنی) ...237

وإذا رىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ...237

(قالوا من يحيي العظام وهي رميم) ...241

أو تلك الأمثال نضربها للناس ومايعقلها إلا العالمون) ... 242

(يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ...243

الا إلى الله تصير الأمور) ...243

فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)...245

(والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا)...252

هل أتاك حديث الغاشية ) ...253

الا يسمن ولا يغني من جوع) ...253

(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) ...254

ص:632

ایریدون ليطفئوا نور الله بافواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) ...254

وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن قامت فأصلحوا بينهما بالعدل) ...255

إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ... 258

كذبت ثمود بالنذر) ...266

( قالوا أبشرة منا واحدا ...266

(قل لمن في ايديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا)...292

والله لا يهدي القوم الظالمين) ...294

الايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) ...294

اقل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) ...294

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا ...296

( عاملة ناصبة و تصلى نار حامية) ...307

(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار)... 308

(والذين اتبعوهم باحسان) ...308

اليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه) ...310

الله يتوفى الأنفس حین موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليه الموت فيرسل الأخرى إلى أجل مسني إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ...310

فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) ...405

من أنصار إلى الله قال الحواریون نحن أنصار الله) ...408

المه غليت الثوم في أدنى الأرض) ...408

الله الأمر من قبل ومن بعد)...409

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ...409

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن بضر الله شيئا وسيجزي الله الشاکرین)...410

و آتينا عيسى ابن مريم البينات و ایدنه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) ...411

وكنت عليهم شهید ما دمت فيهم فلما توفیتنی کنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء قدير - الى قوله - فإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ...413

ص:633

ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا) ...422

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) ...424

وكان من الجن ففسق عن امر ربه) ...424

فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ...425

حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ...431

فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا)...432

ثم استوت على الجودي) ...432

ففتحنا أبواب السماء بماء منهمره وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدره وحملناه على ذات ألواح ودسر) ... 433

وفجرنا الأرض عيونا ...433

وحملناه على ذات ألواح ودسر) ...433

(رب إني مغلوب فانتصر) ...434

ولا يلدوا إلا فاجرأ كفارا)...434

ثمانية أزواج من الان اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) ...435

واعلموا أنما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ... 437

هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ...437

(قل تربصوا فإنا معكم من المتربصين) ...437

قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين) ...438

ولتعلمن تباه بعد حين) ...438

ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) ...438

ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم) (والذين يصدقون بيوم الدين ...438

والله ربنا ما كنا مشرکین) ...438

(وقل جاء الحق وزهق الباطل) ...438

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ... 439

دائما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) ...439

أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقیم) ... 439

فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) ...439

ص:434

إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما)...440

ألم تر إلى الذين قيل لهم كقوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) ...440

والذين كفروا أوليائهم الطواغیت) ...440

اله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم) ...440

من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ...440

اولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ...440

فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربی...) ...442

ركانهم خشب مسندة) ... 445

سنكتب ما قالوا ...453

فسيتغضون إليك رؤوسهم) ...458

من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فیضاعفه له وله أجر کریم) ..459

يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا) ...464

وإذ ذكر الله وحده اشمازت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) ...464

(فتلقى آدم من ربه كلمات) ...464

درب أرني كيف تحيي الموتى)(قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي)...465

(فارسلون * يوسف أيها الصديق) ...466

نخلط ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ...467

وكانوا من قبل بستفتحون على الذين كفروا) ...472

وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين)...475

إنا عرضنا الأمانة على السموات) ... 476

(فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا بأت بكم الله جميعا)...476

إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا اتی يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه)...482

(قالوا أن يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) ...482

إن أية ملكه أن ياتيكم التابوت) ...482

ومن ذريته داود وسليمان واتوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنينه وزکریا و یحیی وعیسی ... 484

(قل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونسایکم وانفسنا وانفسكم) ...484

حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم - ) ...484

او حلائل ابنائكم الذين من أصلابكم) ...484

ص:635

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ...487

ادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطايا كم) ...489

(يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) ...494

(يا قوم اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منکم رجل رشید) ...498

هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ... 498

القد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد)... 498

رانا رسل ريك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك يقطع من الليل) ...498

إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقریب) ...498

قالت يا ويلتي ، ألد و أنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حمید مجید) ...498

ألم تر إلى الذين قيل لهم كقوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتو الزکوة) ... 501

الا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) ...533

الن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) ...533

وقليل من عبادي الشكور) ...533

إن الله يحب التوابين) ...540

القد رضي الله عن المؤمنین اذ يبايعونك تحت الشجرة) ...540

وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ...549

(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة) ...551

اوما ابری، نفسى إن النفس لأمارة بالسوء) ...553

وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ...564

(وما تغنى الآيات والتذر عن قوم لا يؤمنون) ...564

وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ...545

أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) ...573

قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب) ... 573

حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) ...585

آفتاب الله عليهم ليتوبوا) ...586

ص:636

یا ایها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقین) ... 586

التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) ...586

لقد جاءنا رسول من أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا حريص علينا بالمؤمنین رؤف رحيم) ... 586

(فانزل الله سكينته على رسوله و ایده بجنوده لم تروها) ...587

قلقلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ار جاء معه ملك) ... 587

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفينه إلا من رحم ربك) ...588

ولا يزالون مختلفين في الباطل إلا من رحم ربك) ... 588

(فبعث الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة) ...588

(ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) ...588

من جاء بالحسنة فله خير منها) ...588

قل ما سالتكم من أجر فهو لكم) ...588

قل ما اسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) ...589

أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك) ...589

وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وانتم تبصرون)

(والنجم إذا هو ما ضل صاحبكم وما غويه وما ينطق عن الهوى)...589

(قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) ...589

(کمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) ...589

جعل الشمس ضياء والقمر نورا...589

(و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) ...589

ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) ...589

اران تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ...589

الله نور السموات والأرض) ...589

ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانیا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) ...590

يكاد زيتها يضي، ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) ...590

قل ما سالتكم من أجر فهو لكم) ...590

(قل لا اسالكم عليه اجرا إلا المودة في القربی) ...590

لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الأمر بيني وبينكم) ... 591

ص:637

( يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما انزلت التوراة والانجيل إلا من بعده) ...594

ما كان إبراهيم يهوديا) ...594

استريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ...594

وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ... 602

(وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا) ...604

(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ...604

(وان كبدي متين)608

(ومن قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة)...609

او من قبل ما فرطتم في يوسف)...609

(لا يأتيه الباطل من بين يديه)...609

(قرآنا غير ذي عوج) ...609

الينذر من كان حيا ...609

ويحق القول على الكافرين) ...609

(واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) ...610

(واذا سالك عبادي عني)...611

ان الذين يستكبرون عن عبادته سيدخلون جهنم داخرين) ...611

فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا فظلموا أنفسهم) ...622

ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) ...622

(فظلموا أنفسهم) (فقال هؤلاء قوم كانت لهم ...623

فكفروا بأنعم الله)...623

ص:638

فهرس المطالب

حدیث الرياح ...1

حديث أهل الشام ...9

حديث الجنان والنوق ...18

حديث أبي بصير مع المرأة ...30

في حب الأئمة ...44

حدیث آدم عليه السلام مع الشجرة ...59

حديث نصراني الشام مع الباقر عليه السلام ... 80

حديث أبي الحسن موسى عليه السلام ...83

حدیث نادر...94

حدیث رسول الله ...103

حدیث عیسی ابن مریم و ...109

حديث إبليس...156

حديث محاسبة النفس ...158

حديث من ولد في الاسلام ...173

حدیث زينب العطارة ...189

حديث الذي أضاف رسول الله 9 بالطائف...190

حديث الناس يوم القيامة ...199

خطبة لأمير المؤمنين *...226

خطبة لأمير المؤمنين...236

حدیث قوم صالح ...265

حديث الصبحة ...304

حديث يأجوج ومأجوج...319

حدیث القباب...339

حدیث نوح علیه السلام یو م القیامة...405

ص:639

حديث أبي ذر رضي الله عنه ... 454

حديث الفقهاء والعلماء... 470

حديث الذي أحياه عيسى علیه السلام... 519

حديث إسلام على علیه السلام... 521

خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام...542

خطبة الأمير المؤمنين علیه السلام ...558

حديث العابد ...599

خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام...601

فهرس الآيات ...625

ص:640

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.